إن علمت) تتحدث عن نفسها (أي ليلة هي ليلة القدر ماذا أقول فيها؟) فالشرع لا يمكن أن يُعلم إلا عن طريق الوحي والنبي - صلى الله عليه وسلم - خُتم الوحي به فهذه أم المؤمنين تتخذ طريقاً ناجعاً في أن تفهم ماذا تقول وقد منّ الله عليها بأن تكون زوجة لخير الأنبياء فهي لا حاجة لها في أن تسأل عمراً أو زيداً أو أن تتكلف هي جواباً وإنما تفزع هي بسؤالها الشرعي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر ماذا أقول فيها؟) تلتمس جواباً ثم تنقل لنا ذلك الجواب المحمدي النبوي فيقول - صلى الله عليه وسلم - :(قولي ..(6/6)
) وهو أعلم الناس بالشرع وأنصح الناس بالخلق جملة فما بالك بنصحه - صلى الله عليه وسلم - لزوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قال:(قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) هي دعوات معدودة الكلمات لكنها تنبئ عن حقيقة قوله - صلى الله عليه وسلم - :(أوتيت جوامع الكلم) عفو الله جل وعلا إذا حلّ بعبد كفاه كل ما أهمه ؛ لأن من لوازم عفو الله جل وعلا أن المرء يدخل الجنة ومن لوازم عفو الله جل وعلا أن المرء يزحزح عن النار ، وقد ذكر الله جل وعلا في كلامه العظيم أن الإنسان والمرء إذا زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد حقق الفوز الأعظم والمبتغى الأجل قال ربنا:{فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} فالفوز العظيم المرتقب المؤمل الذي يطلبه العبد من ربه أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة ويتحقق هذا بعفو الله جل وعلا عنك ؛ لأنه لن يرد ساحة الحساب أحد إلا وقد حمل من الذنوب اللهم إلا الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ، لكن غيرهم من سائر الخلق مهما بلغت تقواهم ومهما ارتفع شأوهم ومهما كان لهم من الطاعات لابد أن يكون لهم تبعات ولو كان لمما ، فعندما يرد الإنسان ذلك العرض وقد عفا الله جل وعلا عنه فإن أمره إلى فضل وسعة ورحمة ولهذا أوصى - صلى الله عليه وسلم - أم المؤمنين أن تقول:(اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) فإذا تحقق للمرء عفو الله جل وعلا لم يبق شيء يحمل همه ولا يخافه ولا يخشاه لأن الله جل وعلا وهو أرحم الراحمين تكفل بالعفو عنه ، فإذا عدنا إلى التأصيل في التماس تلك الليلة فنقول: إن الإنسان ينبغي عليه أن يستصحب أن أكثر جماهير أهل العلم على أنها في العشر الأواخر فالفريقان القائلين بأنه تتنقل ، والقائلين بأنها ثابتة جل أقوالهم تنصب على أنها في العشر الأواخر قبل ذلك نقول: قال بعض أهل العلم: إنها في غير العشر الأواخر وأشهر الآراء في ذلك ما ينسب إلى زيد بن أرقم رضي الله(6/7)
عنه وأرضاه وإلى عبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم - في أنها ليلة سبع عشر وهذا بيناه في مقدمة كلامنا وهي ليلة بدر وقد كانت مساء خميس ليلة جمعة ؛ لأن يوم بدر كان صبيحة الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، نقول كلا الفريقين القائلين بالتنقل ، والقائلين بأنها ثابتة كلهم يقول أو جلهم يقول إنها في العشر الأواخر ، والمرء يستصحب فضل الله جل وعلا ويترقب فضله جل وعلا في تلك الليالي العشر فمن قام تلك الليالي العشر كلها فغالب الظن أنه أصاب ليلة القدر و لا يلزم من ذلك أن يرى علامةً أو أن يعرف أنه قد قامها فهذا أمر مدّخر لكن قد يقع لبعض أولياء الله و من أراد الله به خيراً أو أراد الله به فتنة أن يخبره الله جل وعلا بآية منه أنه رآها كرؤية منامية أو ما أشبه ذلك يتحقق له من خلالها أنه وُفق لقيام ليلة القدر
ختاماً نقول: [اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا] نسأل الله أن يبلغنا وإياكم هذه الليلة ويعيننا على قيامها ويتقبله منها وصلى الله على محمد وعلى آله
والحمد لله رب العالمين,,,.(6/8)
لطائف المعارف [موسى والخضر عليهما السلام]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً أتم الله به الرسالة وختم الله به النبوات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ،،،،، وبعد
فهذا لقاء متجدد من برنامجكم [لطائف المعارف] ولقاء اليوم يحمل العنوان التالي: (موسى والخضر عليهما السلام) الله تبارك وتعالى في كتابه أخبر عن أنبيائه ورسله وقص علينا بعض أخبارهم حتى يكون في ذلك لنا موعظة وذكرى وهداية ، وموسى عليه الصلاة والسلام غني عن القول أنه - عليه السلام - كليم الله وصفيه قال له ربه:{يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} وهو أحد رسل وأنبياء بني إسرائيل العظام وهو أحد أولي العزم من الرسل كذلك عليهم الصلاة والسلام جميعاً ، هذا النبي الكريم وقف ذات يوم يخطب في بني إسرائيل ويعظهم ومواعظ الأنبياء تصل إلى القلوب ؛ لصدق نيتهم وسلامة معتقدهم وقوة بلاغتهم فأثر في الناس فبكوا ، فلما نزل تبعه رجل من بني إسرائيل فقال: يا موسى هل هناك أحد أعلم منك قال موسى: لا.(6/1)
ولم يرد العلم إلى الله فعاتبه ربه وأخبره أن لي عبداً هو اعلم منك فقال: يا رب كيف لي به؟ فأوحى الله إليه أن يأخذ حوتاً في مكتل فحيثما فقد الحوت فثمّ ، أي: إذا فقدت الحوت فتلك أمارة على وجود ذلك العبد ، فأخذ موسى عليه الصلاة والسلام الحوت في مكتل وأخذ معه غلامه (يوشع بن نون) عليه السلام الذي أصبح فيما بعد نبياً لبني إسرائيل ، خرج موسى عليه الصلاة والسلام ومعه يوشع بن نون ومعه المكتل الذي فيه الحوت سافر سفراً بعيداً حتى وصل إلى مجمع البحرين غلبته غفوة وإذا بالحوت يخرج من المكتل ويسقط في البحر ويضرب عليه البحر مثل الطاق وقد بيّت يوشع أن يخبر موسى بما حدث إذا أفاق من غفوته ، استيقظ موسى نسي الفتى أن يخبره فمضى يواصلان سيرهما لمَ يواصلان سيرهما؟ لأن العلامة بالنسبة لموسى لم تقع فلما تعب موسى وشعر بالنصب قال لفتاه:{آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} هنا تذكر الفتى مسألة الحوت ، فالحوت لم يكن غداءً وإنما لما طلب موسى الغداء ذكّر موسى الفتى بفقد الحوت قال:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} من حولك يخدمك يعتريه النسيان كلنا يقع منا الخطأ والسهو ، فموسى عليه الصلاة والسلام في المنزلة العليا من الخلق لم يثرّب على غلامه ولم يعنّف ماذا فعل؟ قال الله:{فَارْتَدَّا} أي: رجعا –الألف للتثنية- {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} العاقل يبتعد عن التكلف فهذا نبي لله ومعه فتاه والله يقول:{فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} أي: يقصان الطريق الذي قدما منه لماذا؟ حتى لا يخطئا وهذا يدل على أن الأرض التي كانوا عليها رملية تقريباً لأن هذا الذي يثبت فيه خطوات المشي وأثر القدم ، قال الله:{فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً ** فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا} هو الخضر {(6/2)
آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} وهذه تزكية من الله لهذا العبد الصالح وقد جاء في الحديث الصحيح حديث ابن عباس عند البخاري أنه كان مغطى –أي الخضر- فوقف موسى على رأسه فقال: السلام عليك. فتعجب الخضر قال: وأنى بأرضك السلام. أي أنها تحية غير معهودة قال:أنا موسى.(6/3)
فسأله الخضر: موسى بني إسرائيل؟ قال:نعم ثم أخبره بما جاء من أجله فتعجب الخضر وقال:إن الله رزقك التوراة لكن موسى أصر على أن يصحبه فاشترط عليه الخضر ألا يسأله عن شيء حتى يُحدث له منه ذكرى ، وإن الإنسان جُبل على أنه لا يستطيع أن يصبر على شيء لا يعرف مداه ولا نهايته قال:{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} لكن موسى بقي مصراً فتراضيا على السير واشترط ذلك العبد الصالح ألا يسأله حتى يخبره هو ابتداءً بالأمر ، وقفا على شاطئ البحر مرت سفينة عرفوا الخضر حملوهما من غير نول، من غير نول أي: من غير أجرة ركبا في السفينة فجاء طائر ونقر في البحر ، لما نقر الطائر في البحر قال الخضر لموسى: "ما بلغ علمي وعلمك من علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر من البحر" فتأمل أيها المبارك سعة علم الله - جل جلاله - والله يعلم ما قد كان وما يكون وما هو كائن بل إنه تبارك اسمه وجل ثناؤه يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون فسبحان من وسع علمه مرحمته كل شيء ، بعد قليل وهما يمضيان إذا بالخضر يخرق السفينة يعمد إلى قدّوم يخرقها ويضع مكان الخرق لوحا ؛ اشتاط موسى غضبا نسي الشرط الذي بينهما {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} ذكّره الخضر بالشرط:{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} فأخبره موسى أنه نسيان:{قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} قال ربنا:{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} كل قرية في القرآن بمعنى: مدينة عندما مروا على تلك القرية إذا بالخضر يعمد إلى صبي إلى غلام يلعب مع الصبيان فقتله ؛ اشتاط موسى غضباً كرة أخرى لأن موسى رجل قيادي لا يتحمل أن يرى هذه المنكرات:{قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} ذكّره الخضر بالموعد بالشرط:{قَالَ أَلَمْ أَقُل(6/4)
لَّكَ} هذه زيادة {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً} ، كأن موسى أراد أن يُلزم نفسه أو أراد أن ينحل من هذا الأمر {قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً} قال ربنا:{فَانطَلَقَا} مضيا {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} أي الخضر {قَالَ لَوْ شِئْتَ} موسى يعاتب الخضر ؛ لأن هؤلاء قوم لئام لا يستحقون أن تبني لهم الجدار {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} أي: ما كان ينبغي لك أن تبني حتى تشترط أجراً نطعم من خلاله ، ماذا قال الخضر؟ {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} ومن هنا تعلم أيها المبارك أن المسلمين على شروطهم فالخضر على علو كعبه ومقامه وصدقه لم يستحيي أن يمضي الشرط فالمسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً ، ثم قال:{سَأُنَبِّئُكَ} السين: للمستقبل القريب {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع} لاحظ أن الفعل هنا ثقيل بالحروف{تَسْتَطِع} لماذا ثقيل؟ ليناسب المبنى المعنى والعرب تقول:(الزيادة في المبنى زيادة في المعنى) هكذا يقول البلاغيون ، والمعنى أن موسى - عليه السلام - حالته النفسية آن ذاك تسأل عن هذا الأمر الذي يحدث والغرائب التي تكون أمام عينيه والعجب الذي يراه لما بعد لم تحل عقد ما يراه فأتى الخضر بلفظ الفعل ثقيلاً {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً}ثم بدأ يفك طلاسم ما قد كان قال:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} فسماهم مساكين رغم أن السفينة لهم ولهم عمل وعلى هذا يجوز دفع الزكاة لمن كان دخله أقل من مصروفه ولو كان جارك أو أخوك أو أحد الفقراء الذين تعرفه لديه عمل لديه وظيفة لكن ما دامت(6/5)
تلك الوظيفة لا تدر عليه ما يكفي لمثله جاز أن يُعطى من الزكاة بمقدار ما يتساوى مع غيره فيصبح كفافاً لا له ولا عليه ، قال الله جل وعلا:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ} {أَرَدتُّ} نسبها الخضر إلى نفسه تأدباً مع الله {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} لمَ فعلت ذلك؟ {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} وهنا العاقل يعرف أن الدنيا مصالح ومفاسد ، والعاقل قبل أن يضع قدمه اليمنى لابد أن يجد موطئاً لليسرى ولا يمكن لشيء أن يكون كله مصالح كما لا يمكن أن يكون شيء كله مفاسد ولذلك التريث والروية والسكينة –وهذه ننبه عليها بين الحين والآخر- أمر محمود جداً يرتديه العقلاء ،، يقول أهل التاريخ: "إن (رجاء بن حيوة) وهذا رجاء كان في منزلة عظيمة في دولة بني أمية وزر لعبد الملك ولبنيه من بعده ، وكان سليمان بن عبد الملك رجلاً شديداً ذا قوة وبطش وهو خليفة أموي معروف ابن عبد الملك بن مروان ، ذات يوم جلس رجاء ومعه بعض خواصه يتذاكرون النعم فقال بعضهم لبعض: (إن نعم الله لا يستطيع أحد أن يكافئها) –وهذا حق- وإذا برجل عليه برد واقف على رؤوسهم يقول: (ولا أمير المؤمنين) وهذه كلمة مقحمة لا دخل لها فقالوا: (ولا أمير المؤمنين) ، ثم مضى الرجل فقال رجاء لخواص أصحابه: (أوتيتم من قبل صاحب البرد), أي أن هذا الرجل سيخبر أمير المؤمنين فإذا استحلفكم أمير المؤمنين فأنكروا يعني إذا سألكم فأنكروا وإذا استحلفكم فاحلفوا أن هذا لم يقع خوفاً من بطش سليمان ، سليمان بُلِّغ الخبر أقدم رجاء بين يديه قال: (يا رجاء يُقدح في أمير المؤمنين وأنت تسمع) قال: (أبداً ما كان ذاك يا أمير المؤمنين) فأخبره سليمان بالخبر قال: (ما كان ذاك). فاستحلفه: قال:(آلله يا رجاء). قال: (والله يا أمير المؤمنين).(6/6)
لما اقتنع سليمان أن هذا لم يقع لأن استحلف رجاء فحلف عاد إلى الرجل الذي نقل إليه الخبر وهو يعتقد أنه كاذب فجلده ونزل الدم من ظهره ، فمر رجاء بن حيوة على الرجل وقد جُلد والدم ينزف من ظهره ، فالرجل يعلم أن الأمر قد وقع وهو يشتاط غضباً فأخذ يقول لرجاء: (ويقولون رجاء بن حيوة). يعني أنا في ريبة من مدح الناس لك علام يعظمونك وأنت تكذب ماذا قال رجاء ذلك العبد الصالح:(نعم يا ابن أخي ، ويقولون رجاء بن حيوة ثمانية أسواط في ظهرك ولا ضرب رقاب المسلمين) يعني تنتهي المسألة إلى أنك أنت تجلد ثم تقوم خير من أن هذا الخليفة يبطش بنا جميعاً ويقتلنا من أجل قضية لم يفهم معناها ولم يدرك مغزاها" والمقصود: أن الإنسان العاقل يعرف كيف يتصرف في الأحداث والنوازل التي تلم به ،، هنا قال الله جل وعلا:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} فلأن تكون السفينة خرقاء وتبقى لهؤلاء المساكين خيراً لهم من يفقدوها وهي صالحة ، {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} أي: أن الله جل وعلا أخبره وأوحى إليه أن لو عُمّر هذا الغلام سيكفر فيكون فتنة لوالديه ؛ ولئن يخسر الأبوان هذا الغلام فيفقدان شيئاً من زينة الدنيا خير لهما من أن يفقدا دينهما ، بقي الجدار {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ} نسب الخير إلى الله لم يقل كما قال في لأول {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} لم يقل فأردت أن أهدمه لم يقل فأردن أن يبلغ الغلامان قال:{ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ(6/7)
أَمْرِي} ثم ماذا قال؟ قال:{ذَلِكَ} الآن انحلت العقد ذلك الثقل لا حاجة لنا به خفف قال: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع} أتى بالتخفيف {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} وهنا تنجم فوائد: أنه قد يوجد في المفضول ما ليس عند الفاضل ؛ فالخضر - عليه السلام - قطعاً ليس أفضل من موسى لكن لديه علم ليس عند موسى ، وكذلك الله جل وعلا قسم الأمور بين عباده ولنبينا - صلى الله عليه وسلم - القدح المعلى والذروة العليا في كل خير وعلم ، لكن يجب أن يُعلم أن الإنسان أحياناً قد يتعلم الأستاذ من طالبه و يتعلم الشيخ من تلميذه ويتعلم الوالد من ولده هذا كله قد يقع وقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر وعلى هذا الإنسان يكون حريصاً على التعلم ؛ لأنه إذا رُزق كبراً أو أعطي كبراً أو تلبس بالكبر –بتعبير أوضح أو أصح- تلبس بالكبر حال بين نفسه وبين تهذيبها وتعليمها والأمر كما قال الله:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ، موسى والخضر خبر عجيب ونبأ غريب أخبر الله جل وعلا عنه ينجم عنه الكثير من المعاني والعطايا التي كل من تدبرها وجد فيها ما لا ينفد من العطايا إلا قليلا ، وهذا من دلائل عظمة هذا الكتاب الذي هو من عند الله
جعلني الله وإياكم من أهل الله وخاصته ،، وهذا ما تيسر إعداده وتهيأ إيراده حول نبأ (موسى والخضر) وصلى الله على محمد وعلى آله
والحمد لله رب العالمين(6/8)
لطائف المعارف [هارون وبنوه]
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد ورسوله ،، أيها المباركون هذا لقاء متجدد من برنامجكم [لطائف المعارف] وعنوان حلقة هذا اليوم (هارون وبنوه) فمن هارون؟ ومن بنوه؟(6/1)
لا حاجة لأن نقول إنه قد وقع في قلبك أيها المشاهد الكريم أنه (هارون الرشيد) لأنه علم لا ينصرف اسم (هارون) إلى غيره على الأقل في زماننا الله جل وعلا يقول:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ** تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} دولة بني العباس قامت على أنقاض دولة بني أمية ، ممن منّ الله عليهم بالخلافة وآتاهم من ملكه (هارون الرشيد) ، و(هارون الرشيد) ابن لـ(المهدي) احد خلفاء بني العباس وأخ للهادي الخليفة الذي قبله ، له أبناء عديدون وهو قد عُرف عنه شجاعته وبسالته وهو صاحب الكلمة المشهورة أو الكلمة الشهيرة ((من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم)) وهذه التي يتمسك بها كثير من أهل الحماس في زماننا لو كان هناك تريث وتعقّل في حفظها ونقلها لكان أولى ، الذي يعنينا (هارون) هذا أحب أن يترك الخلافة من بعده موثقة لأبنائه وأنا أريد أن أبين لك هنا في المقام الأول أن تعلم أنه لن يقع إلا ما أراده الله أنت تريد وهذا يريد والله يفعل ما يريد ، حرص (هارون) على أن يقسم الدولة الإسلامية على رقعتها الكبيرة آن ذاك بين أبنائه الثلاثة (الأمين) ، و(المأمون) ، وأحد أبنائه واسمه (القاسم) أو قريباً من هذا الاسم ، الذي يعنينا حرص (هارون) على أن ينال كل من أبنائه حظاً هؤلاء الثلاثة الكبار من أبنائه وله أبناء آخرون ، الآن لاحظ معي كان له ابن يقال له (المعتصم) وهو ثامن أبناء (هارون الرشيد) لكن (هارون) غلب على ظنه أن هذا(المعتصم) لن يصل إليه أمر الخلافة لن تصل إليه عقدة الملك يعني لن تُعقد له ولاية(6/2)
لبعده ، عقد لـ(الأمين) رغم أنه أصغر من (المأمون) ، لكن (المأمون) كان ابن جارية يقال لها (مراجل) ماتت في نفاسها أي أنها ماتت وهي تضع ابنها (المأمون) واسمه (عبد الله) أما الأمين فأمه هاشمية (زبيدة) تسمعون بـ(عين زبيدة) كانت قد بقيت حية فهي تؤثر في قرارات زوجها فقدم (هارون) (الأمين) على (المأمون) لكنه أخذ البيعة لـ(الأمين) و(المأمون) والابن الثالث وكتبها وعلقها على الكعبة بعد أن أشهد الناس عليها ، كل هذا ظناً منه أنه سيصل الأمر إلى هؤلاء الثلاثة وهذا ما أراده (هارون) لكن ما أراده الله شيء آخر ، ورث (الأمين) الخلافة عن أبيه وأصبح أمير المؤمنين ، لكنه لم يكن رجلاً مهيأً للملك أصلا فكان مشغولاً بالصيد من حوله لا يعنون بأمر الخلافة والإنسان عندما يتحمل أمراً عظيما إما أن يقوم به أو أن يتركه ، حتى قيل إنه كان مع غلامه في الأيام التي كان أخوه (المأمون) يحاصر بغداد ، فتصور أن أخاه ينازعه في الملك ويحاصر بغداد أين كان (الأمين) حينها؟ كان على شط النهر يصيد ، وما أصابه من غم لم يكن بسبب أن أخاه يحاصره لكن كان لأن الغلام صاد أكثر من سمكة وهو لم يصد شيئاً ، ومثل هذه الأنفس نحن لا نتكلم في أمر آخرتها وأين مآلها هذا شيء لا نعلمه لكن نتكلم في أنها لا تصلح أن تكون حاكمة لا يصلح أن تكون ذات ولاية ، والمقصود أن الإنسان إذا رغب أن يكمل دراسته العليا مثلاً يأخذ هذا الأمر بالجد أو يتركه ، إذا رغب أن يكون تاجراً عظيماً فإن لهذا طرائق وأسباب إما أن يستمسك بها مع التوكل على الله أو أن يتركها ، وكذلك في كل مجال فإن المجد لا يُبنى بالكسل
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا(6/3)
الذي يعنينا أن (الأمين) نازعه أخوه (المأمون) في الخلافة لفجوة حدثت بينهما ، وصل الأمر إلى (المأمون) (المأمون) كان ذكياً فطناً محب للثقافة لكنه أسرف على نفسه في أنه تبنى رأي المعتزلة في القول بخلق القرآن ، المهم أن (المأمون) كان على يده قتل (الأمين) على يد قائد خزاعي عنده فورث (المأمون) الخلافة وأسلم الناس له الأمر وعُقدت له البيعة ، قلنا أن (المأمون) كان شغوفاً بالثقافة ولذلك أذن وهيأ للناس وللعلماء خاصة قضايا العلم والترجمة في زمنه عن اليونانيين انتشرت وذاعت وعلا شأنها واستفادت بعض العلوم العربية كثيراً من الترجمة عن اليونانية خاصة في ما لا يتعلق بأمور الشرائع وكان هناك بعض السلبيات لا ريب لكن النفع كان أكبر ، الذي يعنينا أن (المأمون) وهو (عبد الله) كان حكيماً ومما يُروى عنه أنه كان يقول بعد أن ذات يوم أراد الخادم فقال: يا فلان –ينادي خادمه- يا غلام ،، يا غلام،، يا غلام فقام الخادم ضجراً ويقول: يا غلام يا غلام أليس للغلام وقت راحة؟!! أليس للغلام ساعة ينام فيها..(6/4)
يعاتب أمير المؤمنين الأمة كلها تحته وهو غلام له فماذا قال المأمون؟ قال كلمة بليغة لا يُوفق لها كل أحد قال:(( إذا حسنت أخلاق الرجل ساءت أخلاق أهله ،، وإذا ساءت أخلاق الرجل حسنت أخلاق أهله)) الآن دعنا من المثاليات والنظريات وكتب التاريخ والأدب وحبك الصنعة الأدبية فلنعش واقعنا: إن الأب في البيت إذا كان فظاً غليظاً سيء الخلق تجد أن زوجته وأبنائه وبناته ومن حوله يخشونه فتحسن أخلاقهم خوفاً من غضبه من عنفه من ردة فعله ، وإذا كان الأب سمحاً يتغافل عما يرى لا يحاسب من حوله عن كل صغيرة وكبيرة فهذا تسوء أخلاق أهله ليست تسوء أخلاق أهله بأنهم يرتكبون المحارم -معاذ الله- لكن يصبحون غير بالين في أمور معينة لأنهم يأمنون ردة فعل القيم على البيت هذا الذي أراد (المأمون) أن يقوله وهو قول بليغ يمثل رؤية رجل واقعي يعرف الناس يعرف أحوالهم يعلم خفايا كثير مما يقع حوله وقد كان (المأمون) فيما نُقل عنه رجل يحب [العفو] حتى قيل أنه كان يقول:((أخاف ألا يثيبني الله على العفو على أنني أفعله عادة لا عبادة)) أي: من كثرة حبي له أخشى ألا أُثاب عليه..
الثالث من أبناء هارون مات ، و(الأمين) أين ذهب؟ قُتل على يد الخزاعي قائد (المأمون) وبقية الأربعة الذين بين( المعتصم) الثاني والثالث ماتوا في حياة (المأمون) فآلت الخلافة إلى (المعتصم) ولم يكن يظن (هارون) وعنوان حلقتنا [هارون وبنوه] لم يكن يظن (هارون) قط أن الخلافة ستصل إلى (المعتصم) فسبحان من يؤتي ملكه من يشاء!!
((6/5)
المعتصم) من غرائب ما يمكن أن يقال عنه أنه يسمى [المثمَّن] أو [المثمِّن] وإن شئت جعلتها سم فاعل وإن شئت جعلتها اسم مفعول فكل يؤدي إلى المعنى الذي نريد إيصاله إليك ،( المعتصم) ثامن خلفاء بني العباس ، حكم ثمانية سنين ثمانية أشهر ثمانية أيام ، خلّف ثمانية ذكور وثمانية إناث ، ولد في برج العقرب وهو البرج الثامن في البروج المعروفة .. هذا كله جعل الناس يقولون إنه [المثمِّن] وهو قطعاً أو وهو ثابت أنه ثامن خلفاء بني العباس ، كانت بينه وبين (دعبل الخزاعي) أحد شعراء آل البيت المشاهير ليس من آل البيت لكنه كان يحبهم ويمدحهم ويتشيع لهم ، فكان بينه وبين (المعتصم) أنفة وفجوة ونفرة بتعبير أوضح ، قد تقول كيف يكون (دعبل) شاعراً لآل البيت و(المعتصم) من آل البيت؟! لكن أقصد أنه كان شاعراً للعلويين خاصة من آل البيت ،، (دعبل) يقول في حق (المعتصم):
ملوك بني العباس في الكتب سبعة *** ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة *** خيار إذا عدوا وثامنهم كلب
وهو بيت ظاهر الهجاء والسخرية من (المعتصم) الخليفة العباسي المعروف ، لكن أهل الصناعة الجهادية يحمدون ومعهم المسلمون جميعا لـ(المعتصم) ما صنعه في وقعة [عمورية] يوم أن نادته تلك المرأة ((وامعتصماه)) فأجابها وأغاثها ورفع الله به لواء الإسلام آن ذاك ، وهو ما خلده (أبو تمام) في بائيته المشهورة::
السيف أصدق إنباءً من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في *** متونهن جلاء الشك والريب
وهي قصيدة قالها (أبو تمام) الشاعر العباسي المعروف يمدح فيها (المعتصم) ويخلد وقعة [عمورية] ، وقد وصل الأمر في عصرنا هذا إلى أن حاول (عمر أبو ريشة) وهو شاعر سوري معاصر له أبيات في هذا شهيرة تتكلم عن وضع المسلمين الحالي مقارنة بـ (المعتصم) وهو القائل:
رب (وامعتصماه) انطلقت *** ملء أفواه البنات اليُتّم(6/6)
لامست أسماعهم لكنها *** لم تلامس نخوة (المعتصم)
وفي بعض أبيات (أبي ريشة) نوع من المجازفة أوالغلو لأن التاريخ لا يحسن تطبيق أحداثه بمجرد نداء فالأحوال تختلف والمصالح تتباين والقوة من حال إلى حال تتغير ولا يمكن أن نطالب كل أحد معاصر بما خطه الأولون لأن العبرة بالمصالح العامة ليست العبرة بالحماسة فقط والنظرة إلى ما سبق ، لكن كما قلنا في دروس مضت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - من رأى خطواته في نصرة دين الله يرى أنه جلياً أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقدم مصلحة الإسلام العليا فهو عليه الصلاة والسلام يخرج إلى عير قريش يوم بدر -مائة وأربعين كيلاً عن المدينة- مسافة بعيدة ، ونراه يوم أحد قرابة ست أو سبع كيلو عن المسجد النبوي ، ونراه في الخندق بعدها يدنو قليلاً من المسجد فجبل [سلع] الذي وقعت عنده غزوة الأحزاب دون أحد بكثير ، ثم نراه - صلى الله عليه وسلم - يأتي إلى مؤتة إلى أطراف الشام ، ثم نراه - صلى الله عليه وسلم - يأتي إلى خيبر ، ثم نراه بعد ذلك عليه الصلاة والسلام يفتح مكة ..إذن القرارات كانت تختلف من حالة إلى حالة والعاقل يحكم العقل وينظر أبن المصالح ، وفي قليل أمره وكثيره يفيء إلى صحيح النقل إلى صرييح الكاتب إلى صحيح السنة إلى الأيام النضرة والسيرة العطرة من سيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيقتبس من سناها ويسير على منوالها..(6/7)
الذي يعنينا في هذا الأمر كله أن نعلم خبر هارون وأبنائه الثلاثة ،، بقيت رواية تاريخية تقول:إن (المأمون) ذات يوم رأته (زبيدة) أم ( الأمين) بعد مقتل أخيه (الأمين) الذي هو من أبناء (زبيدة) فلما رأته تمتمت بكلمات غير مفهومة فأصر عليها أن تخبره بما كانت تقول ، لكنها أبت فألح عليها إلحاحاً شديداً فقالت: كنت أقول: ((قاتل الله الملاحَّة)) فتعجب لماذا تقول هذه الكلمة وألح عليها مرة أخرى أن تخبره بالسبب ، فسبحان الله! ماذا قالت؟ قالت: إنني كنت مع أبيك - أي (هارون)- فغلبني -في لعبة بينهما- زوج وزوجته- فحكم عليّ بأمور –أي كلفها بتكليف- ، ثم إنني بعد ذلك غلبته وأصررت عليه وألححت عليه أن يطأ أمك (مراجل) فكان من وطئه لـ(مراجل) تلك الجارية أن حملت أمك بك وولدتك ، وكان على يديك قتل ابني فتأمل ماذا قال (المأمون) قال:((قاتل الله الملاحّة)) لأنه لما ألح عليها سمع منها هذا الخبر غير الحميد عن نفسه وعن أمه ، وعلى هذا العاقل لا يصر على الوصول إلى الأشياء التي يخفيها الله عنه ، فأحياناً أمور إذا ظهرت وكشفت كان بودنا أننا لم نسمعها ..
أسمعني الله وإياكم كل خير في الدنيا والآخرة ،، هذا ما تهيأ إيراده وأعان الله على قوله حول (هارون الرشد وأبنائه) والله الموفق وصلى الله على محمد وعلى آله
والحمد لله رب العالمين،،،(6/8)
لطائف المعارف [[ويسألونك عن الروح]]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين ...
أما بعد... أيها الإخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته(6/1)
وهذا لقاء متجدد معكم ضمن برنامجكم [[لطائف المعارف]] وقد تبين مما سبق وسلف أن كل حلقة تحمل عنوانا نأخذ من خلاله بنظرة موسوعية ما يمكن أن نلتقطه من هنا وهناك من وقفات إيمانية أو تاريخية أو معرفية أو غير ذلك مما يتسنى و يفتح الله في الحديث عنه ،، لقاؤنا اليوم يحمل عنوان قول الله جل وعلا : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} هذه الآية ذكر أهل العلم من المفسرين أن سبب نزولها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما حكا عبدالله بن مسعود - رضي الله عنهم - مر صلوات الله وسلامه عليه على نفر من يهود ، فقال بعضهم لبعض: سلوه ،،لا تسألوه ،، سلوه فأجمعوا أمرهم أن يسألوه فقالوا: يا أبا القاسم وهم لا ينادونه بلفظ النبوة لأنهم –أبعدهم الله- لا يقرون بنبوته قالوا:يا أبا القاسم ما الروح؟ فاتكأ - صلى الله عليه وسلم - على عسيب نحل قال ابن مسعود فعلمت أنه يوحى إليه ثم تلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} قبل أن أشرع في هذا أبين أن قول الله جل وعلا : { مِنْ أَمْرِ رَبِّي } كل شيء بأمر الله وخلقه لكن { مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي من العلم الذي اختص الله جل وعلا به لنفسه ولم يكل إن هذا الأمر لم يعطه لأحد لا ملكاً مقربا ولا نبياً مرسلا هذا معنى قول الله:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ما الروح؟ الروح مخلوق من مخلوقات الله أودعها الله جل وعلا أجسادا فبالروح مع الجسد تدب الحياة ، والروح ثبت علمياً وشرعياً على النقل والعقل والاستقراء أن لها أطواراً مع الجسد ، الطور الأول: أن الأرواح خُلقت قبل الأجساد ، أبونا آدم - عليه السلام - خُلق جسداً قبل أن يُخلق روحاً وقد خُلق آدم عبر مراحل ثلاث بيناها في لقاءات سبقت :[الترابية – والطينية – والفخارية] ثم نفخ الله جل وعلا فيه من روحه وإضافة الروح هنا إلى رب العزة(6/2)
والجلال إنما هي إضافة تشريف ، أما بني آدم فقد كان خلق أرواحهم مقدماً على خلق أجسادها ؛ ولهذا مسح الله جل وعلا على ظهر أبينا آدم وأخرج من ظهره كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة قال الله جل وعلا :{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ** أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} فهذا عالم الذر عالم الأرواح الأول والذي جاء فيه في الحديث عند الترمذي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله لما مسح على ظهر آدم أخرج من ظهره كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة ، فرأى في عيني أحدهم وبيصاً من نور قال: يارب من هذا؟ فقال الله جل وعلا له: هذا رجل من ذريتك يكون في آخر الزمان يُقال له داود ....(6/3)
إلى آخر الحديث) الذي يعنينا أن هذا هو الطور الأول في خلق الأرواح ثم إن الله جل وعلا خلقنا أجسادا من نطفة من ماء مهين كذلك كتب الله جل وعلا أن يُخلق بنو آدم ثم يكون ذلك الملك الذي يوكل إليه نفخ الروح في الجسد ، فإذا التأم الروح مع الجسد دبت الحياة فتشعر الأم وهي حامل بجنينها بأن الحياة تدب في جنينها الذي في بطنها في حملها فيتحرك وهذا لا يكون إلا بعد أربعة أشهر من الحمل كما ثبت في ذلك الحديث الصحيح وكما هو ثابت طبياً ، وسواء ثبت طبياً أم لم يثبت بذلك أخبر المعصوم صلوات الله وسلامه عليه ، وتأمل أيها المبارك عناية الله جل وعلا بالروح فالروح ملك ينفخ في الأجساد بتلك الروح وكذلك ملك بعد ذلك إذا كتب الله الموت وحان الأجل يأتي ويقبض الروح ، المقصود أن هذا طور من أطوار علاقة الروح بالجسد والمرء يوم ذاك جنين في بطن أمه ثم إذا كتب الله لذلك الجنين أن يبقى خرج بعد فترة حمل غالبها تسعة أشهر فإذا خرج نجم ذلك التوافق بين الروح والجسد طور ثالث خلاف الطور الذي كان وهو جنين في بطن أمه في تلك الحالة لا يعقل لا يدري لكن بعد ذلك يمضي معه الطور حتى يصل إلى مرحلة البلوغ فإذا وصل مرحلة البلوغ ذكراً كان أو أنثى جرى عليه قلم التكليف هذه الروح إذا دبت في الجسد وهي داخل الجسد الأفضل أن يُطلق عليها [نفس] قال ربنا جل وعلا: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} وقد أخبر الله جل وعلا أن هذه النفس تطالب يوم القيامة بإظهار الحجج وتجادل عن نفسها كما قال الله :{ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} فأخبر الله جل وعلا أن النفوس تجادل عن نفسها هذه النفس ما دام الإنسان حياً ومتصلة بالجسد تسمى نفس فإذا فارقت النفس الجسد لا تسمى نفساً تسمى [روحاً] ومن الأدلة على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما توفي عثمان بن مظعون - رضي الله عنهم - وهو من باب الفائدة أول من(6/4)
دُفن من المهاجرين في البقيع أغمض النبي - صلى الله عليه وسلم - عيني عثمان وقال: (إن الروح إذا صعد تبعه البصر) فسماها روحاً لأنها خرجت من الجسد ، وما الموت؟ الموت أن تفارق الروح الجسد فإذا فارقت الروح الجسد ذهبت إلى طور آخر غير الطور الذي كانت فيه اتصال فتدب فيه الحياة...فيكون هناك طور آخر هو المعروف بحياة البرزخ قال الله تبارك وتعالى :{ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} والبرزخ دائماً أيها المبارك يكون فاصلاً بين شيئين قال الله جل وعلا:{ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ} أي فاصل بينهما وتعلمون يُذكر لكم وادي (مُحسِّر) وادي محسر واد ما بين مزدلفة ومنى فهو برزخ بين منى ومزدلفة المقصود من هذا أن حياة البرزخ تكون علاقة الروح بالجسد علاقة شبه كلية لكننا لا نعرف كنهها لأننا لم نصل إليها ، والأموات الذين سبقونا إلى ربنا وصلوا إليها لم يعودوا حتى يخبرونا ما بين أيدينا من النقل الصحيح وهو المعتمد الوحيد في هذا الباب يُعلمنا أن الله جل وعلا يقول: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ**وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ **وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} إلى أن قال ربنا: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} فأهل القبور يعيشون حياة حق ويطلعون على أمور حق أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ببعض ما يكون في حياة البرزخ كإخباره - صلى الله عليه وسلم - عمن يكذبون وعمن تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة وعمن يأكلون الربا وغيرهم ممن ذكرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إما رآهم في رؤيا أو مر عليهم في رحلة الإسراء والمعراج والمقصود من هذا كله أن هناك طوراً من أطوار حياة الروح يتعلق بفترة البرزخ ، ثم بعد ذلك يأمر الله ملكاً يقال(6/5)
له إسرافيل أن ينفخ النفخة الأخرى أي الثانية بعد الأولى هنا تعود الأرواح تخرج الأرواح من مستقرها أين مستقرها؟ جملة أرواح المؤمنين في عليين قال ربنا:{ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ** وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ**كِتَابٌ مَّرْقُومٌ**يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}وقال قبلها أخبر أن كتاب الفجار في سجين فأرواح الكفار في سجين وأرواح المؤمنين في عليين تخرج الأرواح كافرة ومؤمنة من مستقرها، ثم تعود إلى ماذا؟تعود إلى الأجساد فإذا اتصلت الروح بالجسد دبت في الجسد الحياة فإذا دبت في الجسد الحياة مسح أهل القبور عن أعينهم الموت كما يمسح أهل الدنيا اليوم عن أعينهم النوم قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ** قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ** إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } الغاية من هذا أن الناس يخرجون إلى أرض المحشر على أرض بيضاء نقية لم يُعص الله جل وعلا فيها طرفة عين ثم يكون الحساب يسر الله حسابي وحسابكم ، فإذا انصرف أهل الموقف فريقين كما قال الله جل وعلا : { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} فإذا دخل أهل الجنة الجنة ودخل أهل النار النار عياذاً بالله من النار يؤتى بالموت على صورة كبش أملح كبداية الخلود فهذا الاتصال بين الروح والجسد والناس في الدار الآخرة سواء أهل الجنة أو أهل النار هو الاتصال الكامل للروح مع الجسد فيؤتى بالموت على صورة كبش أملح ، ثم يُنادى يا أهل الجنة فيطّلعون يطّلعون فزعين لأنهم ذاقوا نعيمها فيخشون أن يُقال لهم أخرجوا منها فإذا أبصروا ونظروا قيل لهم أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم هذا الموت ثم يُقال يا أهل النار فيطّلعون فرحين لعلهم(6/6)
يخرجون منها فيُقال لهم : أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت فينادي مناد أن يا أهل الجنة خلود بلا موت وأن يا أهل النار خلود بلا موت فلو أن أحداً مات حسرة لمات أهل النار حسرة ولو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة فرحاً قال الله جل وعلا في محكم تنزيله: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ** إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} هذه الروح شغلت الناس قديماً وحديثاً في البحث عن كنهها رغم أن الله جل وعلا قد قال من قبل: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} و(ابن سينا) الطبيب المسلم الفيلسوف المعروف وله بعض الشطحات لكن ليس هذا مجال الحكم على الناس ابن سينا يقول يتكلم عن الروح في نظرة فلسفية يقول:
هبطت إليك من المحل الأرفع *** ورقاء ذات تعزز وتمنع
هبطت على كره إليك وربما *** كرهت فراقك وهي ذات توجع
أي أنها أتتك أولاً وأنت لم تختارها فالأجساد لا تختار الأرواح هذا بقدر الله ، وسيأتي عليها يوم تفارقك ومعلوم أن الروح لا تختص بجزء في البدن ليست في الأظافر ولا في القلب ولا في القدمين ولا في غيرهما بل هي منتشرة في الجسد كله كما حرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإذا أُخرجت كأنها تُخرج من الجسد كله ولهذا قال ابن سينا
وربما *** كرهت فراقك وهو ذات توجع(6/7)
أي تحاول ألا تخرج والله جل وعلا أبلغ من هذا كله في تصويره لقضية خروج الروح قال الله جل وعلا في خواتيم سورة الواقعة :{ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} ما التي بلغت الحلقوم؟ الروح {وَأَنتُمْ} من انتم؟ من حول الميت {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} أي تنظرون إلى الميت {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} هذا قرب الله لملائكته {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} أي إلى الميت {وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ} لا تبصرون الملائكة وهي تقبض روح الميت {وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ} يقول ربنا: {فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ}تزعمون أنه لا جزاء ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب {فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} أي كماتقولون {تَرْجِعُونَهَا } أي ارجعوا الروح هذا أيسر من نفي الحساب {تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ولم يأت بعد الآية تعقيب لأنهم غير صادقين ولا يمكن لهم أن يرجعوا الروح ، هذا ما حرره ابن سينا وقد عقبنا بالآية لنبين أن كلام الله جل وعلا هو الفيصل في كل أمر.
أحمد شوقي رحمة الله تعالى عليه اشتهر بالمعارضات عارض شوقي العينية هذه القصيدة التي قالها ابن سينا قال شوقي:
ضمي قناعك يا سعاد أو ارفعي *** هذي المحاسن ما خلقن لبرقع(6/8)
هذه المقصود منها يتكلم عن الروح ثم أغرق في نظرة فلسفية لكنها تفيء إلى متّكئ إسلامي أكثر مما كان يتّكئ عليه ابن سينا في نظرته ، الذي يعنينا أن الروح والجسد شغلا الناس لكنهما متصلان مع بعضهما البعض وقد بينا الأطوار التي تمر بها حالة الروح مع حالة الجسد . الله جل وعلا أخبر أن هناك ملائكة يقبضون الأرواح ونبينا - صلى الله عليه وسلم - أخبر كما مر معنا في أول اللقاء أن ملكاً ينفخ الروح في الجسد ويؤمر بأربع كلمات : بكتابة الرزق والأجل والعمل وهل هو شقي أو سعيد هذا الملك هذه مهمته والله يقول على لسان ملائكته : {وَمَا مِنَّا إِلَّا و لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} فكل ملك له وظيفة معينة ، هناك ملائكة تقبض الأرواح كما أن ملكاً أودعها ملكاً يقبضها والله ذكره مفرداً قال :{ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ} وذكره مع أعوانه قال جل وعلا :{ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} ختم الله لي ولكم بخير ورزقني الله وإياكم الخاتمة الحسنة والحياة الطيبة قبل ذلك والعمر المديد والعمل الصالح ..
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله وصلى الله على محمد وعلى آله ..
والحمد لله رب العالمين.....(6/9)
لطائف المعارف (يسألونك عن الجبال)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وأحكم كل شيء صنعه وأشهد ألا إله إلا الله لا رب غيره ولا شريك معه ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين،،، أما بعد
أيها الإخوة المؤمنون السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وهذا لقاء من برنامجكم (لطائف المعارف) عنوان حلقة هذا اليوم حول قول الله جل وعلا:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} بداية أيها المبارك نقول استقر في أذهان العقلاء والفضلاء أن الجبال ترمز إلى الأشياء العظيمة الثابتة التي يصعب تغييرها فلهذا قلما أراد أحد أن يتحدث عن مجد أو أن يذكر أمراً سامقاً شامخاً يفخر به إلا وشبهه قريباً من الجبال ومنه قول حسان - رضي الله عنهم - وهو في جاهليته يتكلم عن مجد قومه الخزرج:
شماريخ رضوى عزة وتكرما
و(رضوى) جبل يقع إلى الشمال الغربي من المدينة ، فالجبال استقر في الأذهان كما بينا أنها رمز للأمر المصحوب بالأنفة ومنه قول جرير يخاطب الفرزدق:
فادفع بكفك إن أردت بناءنا *** سهلان ذا الهضبات هل يتحلحل(6/1)
فسهلان جبل وقصد جرير بهذا أن يبين أن المجد الذي بناه قومه لا يمكن أن يُزحزح فشبهه بذلك الجبل ، الله جل وعلا يقول في هذه الآية المباركة من سورة طه:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} لما استقر في الأذهان كما قلت أن الجبال رمز عظيم كان بدهياً أن أولئك المنكرين للبعث الناسين للنشور الذين يرتابون في قيام الساعة يتساءلون عن أمور كثيرة حولهم فانصرفت أذهانهم أبصارهم إلى هذه الجبال التي يشاهدونها قائمة ففزعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من باب المكابرة يسألونه عنها فحكا الله جل وعلا ذلك السؤال بقوله:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} فكان الجواب القرآني و الرد الإلهي:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} فما استقر في أذهانكم من ذلك العلو يصبح إلى أن تكون هباءً منثورا لكن ذلك النسف إنما هو مرحلة وإلا قد ذكر الله جل وعلا مراحل أخر تسبق أن تنسف تلك الجبال كقوله تبارك وتعالى:{ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} وقوله جل وعلا:{ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} فهذه مرحلة أخرى حتى تصل إلى مرحلة الانفكاك الكلي ، هذه الجبال جاء ذكر بعض منها في القرآن أي أن هناك جبالاً صرح الله باسمها في القرآن ومن أشهر الجبال التي صرح الله باسمها في القرآن جبلان [جبل الطور و جبل الجودي] أما جبل الطور: فإنه يقع في أرض مباركة هي شبه جزيرة سيناء وفي شبه جزيرة سيناء وهي أرض مباركة وبقعة مباركة وادٍ يُقال له وادي [طوى] نعته الله بأنه الوادي المقدس في ذلك الوادي الذي هو قطعة من شبه جزيرة سيناء يقع جبل يُقال له الطور ، والطور في اللغة: كل جبل نبت فيه الشجر ، لكن الطور إذا أُطلق ينصرف إلى ذلك الجبل المبارك الذي كلم الله جل وعلا عنده نبيه موسى عليه الصلاة(6/2)
والسلام ، ومعلوم أن موسى أحد أعظم أنبياء بني إسرائيل وقد سمى الله جل وعلا سورة في القرآن مكية كاملة باسم ذلك الجبل قال الله جل وعلا:{ وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} وينصرف الألف واللام في قول الله جل وعلا:{وَالطُّورِ} إلى المعهود الذهني وهو ذلك الجبل الذي كلم الله جل وعلا عنده موسى عليه الصلاة والسلام ، الجبل الآخر المذكور في القرآن [جبل الجودي] وجبل الجودي هو الجبل قطعاً الذي رست عنده السفينة التي كانت تحمل نبي الله نوحاً عليه الصلاة والسلام ، لكن الخلاف في تحديده فقد قال الله جل وعلا:{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} ما التي استوت على الجودي؟ السفينة ، لكن أين الجودي؟ بعض العلماء يقول إنه في [تركيا] وبعض العلماء يقول إنه في العراق وأكثر أهل الصناعة التفسيرية يقولون إنه في العراق ، لكن أصحاب الصناعة التاريخية الذين تأخروا في زماننا هذا الذين لديهم بعض النظر المتأخر الذي نجم عنه المعرفة الجغرافية من أنه وقعت هناك آثار وتقدم علم الآثار ووقع الناس على آثار لتلك السفينة يذهبون إلى أن جبل الجودي في تركيا ، بعض أهل الصناعة اللغوية تغيب عنهم أمور لا تغيب على أمثالهم لكن الله جل وعلا ينبئنا ضعفنا فالراغب الأصفهاني مثلاً وبعض أهل التفسير يقولون أن الجودي كلمة عربية مأخوذة من الجود وهو العطاء وكثرة المول وهذا خلاف الصحيح ؛ لأنه معلوم أن نوحاً عليه الصلاة والسلام لم يكن في زمنه أحد يتكلم العربية ، والله جل وعلا يخبر أن السفينة استقرت ورست في زمن نوح ولم يكن يعرب الذي تكلم العربية الذي تكلم العربية الذي يُنسب إليه العرب قد وُلد بعد ، فإن الله جل وعلا قد قال في حق نوح:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ} فما يعرب إلا من ذرية نوح عليه الصلاة والسلام أو فلنقل من ذرية الناجين من قوم نوح ،(6/3)
فعلى هذا لا سبيل إلى القول أن الجودي سمي بالجودي نسبة عربية ، و إنما هي كلمة أعجمية غير عربية ، لكن كيف غاب هذا عن الأكابر؟ هذا لا يجعلنا نشمت فهذه ليست صناعة أهل الفضل أنما نعرف من ذلك ضعف وثق أيها المبارك أننا نحن وإن كنا نستدرك اليوم على غيرنا سيأتي بعدنا من يستدرك علينا ،
فإنا لم نوفى النقص حتى *** نطالب بالكمال الآخرين
وهذه سنة الله جل وعلا في خلقه أن يعلم الإنسان ضعفه وعجزه وكيف يغيب عنك ما يراه غيرك واضحاً جلياً..(6/4)
نعود للمقصود.. فنقول إن الطور والجودي جبلان ذكرهما الله جل وعلا نصاً في كتابه ، ثم هناك جبال لم تُذكر في القرآن ذُكرت في السنة ومنها جبل أحد وهذا الجبل يقع في شمال المدينة وقيل إنه سمي أحد لتفرده عن الجبال وقد خصصنا لقاءً تاماً عنه ، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتقى ذلك الجبل صعد عليه وكان معه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف الجبل فرحاً بهم فقال - صلى الله عليه وسلم - : (اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) وهذا من الغيب الذي أطلع الله جل وعلا نبيه - صلى الله عليه وسلم - عليه فقد مات عمر وعثمان كما اخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - شهيدين ، فأحد جبل ذكر في السنة ولم يُذكر في القرآن ، كذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (المدينة حرم من عير إلى ثور) فحدد - صلى الله عليه وسلم - حرم المدينة شمالاً وجنوباً بجبلين هما [جبل عير وجبل ثور] أما جبل عير فسمي بهذا الاسم لاستواء قمته فأشبه بظهر الحمار ، أما جبل ثور فاختلف الناس فيه وبعض الناس لمجرد أنه لم يعلم بهذا الجبل نفاه وقال إنه لا يُعرف إلا في مكة وهذا بعيد عن الصواب فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هنا لا يحدد مكة وإنما يضع حدود ومعالم حدود حرم المدينة فحدودها الشرقية والغربية مقطوع به لوجود الحرتين وقد ورد في الحديث (مابين لابتيها) فبقي الشمال والجنوب فحدده - صلى الله عليه وسلم - بعير وثور فعير في الجنوب ولا خلاف في تحديده ، لكن الخلاف في تحديد ثور إلى يومنا هذا ، فبعض العلماء يرى ما يسمى الآن في المدينة بـ [جبل الخزان] لأنه قد بُني عليه خزان وآخرون يقولون إنه من جهة أحد من الشمال وآخرون قولون إنه في طريق ما يسمى بـ[طريق الخليل] اليوم في الزاهد إلى سد الغابة يأتي على اليمين قالوا هذا الجبل وأكثر من أدركت من المعاصرين –رحمهم الله- ممن لهم دُربة وصناعة جغرافية أكثر من غيرهم وقد أدركوا أقواماً يُظن بهم معرفة هذا الجبل يذهبون إلى(6/5)
أنه الجبل الواقع على يمين الزاهد اليوم إلى سد الغابة المعروف بـ[طريق الخليل] الذي يعنينا جبل أحد ورد ذكره في السنة كذلك جبل ثور وجبل عير ، وأما [رضوى] فهو جبل يقع في شمال غرب المدينة وقد مر معنا أن حسان قال:
شماريخ رضوى عزة وتكرما
في باب العقائد يمر عليك جبل رضوى ، ذلك أن فرقة من الفرق الباطنية يُقال لهم [الكيسانية] يذهبون إلى أن المهدي المنتظر عندهم إنما هو (محمد بن الحنيفية) أي ابن علي بن أبي طالب من زوجته التي هي من بني حنيفة ويقول أحدهم وهو (كُثَيِّر):
ألا إن الأئمة من قريش *** حماة الدين أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه *** هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبطٌ سبط إيمان وبر *** وسبط غيّبته كربلاء
ثم قال:
وسبط لا يذوق الموت حتى *** يقود الخير يقدمها اللواء
تغيّب لا يُرى فيهم زماناً *** بـ(رضوى) عنده عسل وماء(6/6)
موضع الشاهد من هذه الأبيات قوله: (بـ(رضوى)) أي أنه يزعم أن هذا المهدي المنتظر موجود الآن في جبل رضوى شمال غرب المدينة وأنه لديه عسل وماء يقتات بهما حتى يأذن الله جل وعلا بخروجه ، وهذا ما تمجه عقول الصبيان فضلاً عن عقول أهل الفضل والعقل والحكمة والرأي والإنصاف ، وهكذا أكثر من ينتمي إلى المذاهب الباطنية يحتاج –عياذاً بالله- إلى أن يتخلى عن عقله وإدراكه حتى يؤمن بمثل هذه الأمور التي لم يأت بها نقل ولا يقبلها عقل .. نعود فنقول إن جبل (رضوى) جبل شامخ كذلك هناك جبلا (طي) الواردة في السنة وهما (أجا وسلمى) "فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه عروة بن مبرِّص وهو من سكان حائل اليوم فقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن قد سكن المدينة بعد فكان يغيب عنه العلم ؛ لأن السنة مهدها المدينة في الأصل فلما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في المزدلفة فقال يا نبي الله:(إني قد أتيتك من جبلي طي)وهذا موضع شاهدنا إني قد أتيتك من جبلي طي أجهدت نفسي وأكللت راحلتي ولم أترك جبلاً إلا وقفت عليه.. فقال - صلى الله عليه وسلم - :( من أدرك معنا صلاتنا هذه -يقصد صلاة الفجر في مزدلفة- وكان قد وقف بعرفة ساعةً من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه)" الذي يعنينا هنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنبأ عروة بن مبرِّص بأركان الحج ليس بالحج كله وهو عرفة ، أما هو فقد قال:(أتيتك من جبلي طي) فنحن نتكلم عن الجبال المذكورة في القرآن والمذكورة في السنة ، فجبلا طي جاءا عرضاً لا على لسان نبينا - صلى الله عليه وسلم - إنما على لسان عروة بن مبرِّص - رضي الله عنهم - ، هذه بعض من الجبال الوارد ذكرها في الكتاب والوارد ذكرها في السنة ، وقد قلت في أول اللقاء: إنّ الجبال تلفت النظر إلى كل مبصر ؛ ولهذا سأل القرشيون النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حالها يوم القيامة .(6/7)
بقي أن نقول –أيها المبارك- أنه ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خلق الأرض جعلت تميد فخلق الله جل وعلا فيها الجبال فتعجبت الملائكة منها فقالت:(أي رب هل في خلقك خلق أعظم من الجبال؟) فقال الله جل وعلا:(نعم..الحديد) فما زالت الملائكة تسأل:(الحديد؟) فأجاب الرب:(النار) ثم قال جل وعلا:(الماء) لأنه يطفئ النار ثم ذكر الله جل وعلا الريح لأنها تحمل الماء تحمل السحاب ثم قال الله جل وعلا في جوابه لملائكته:(ابن آدم يتصدق بصدقة فيخفيها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) وهذا يبين لك أيها المبارك أن العمل الصالح إذا كان مصحوباً بالإخلاص لا يعدله شيء ،، رزقني الله وإياك الإيمان والعمل الصالح ...
وهذا ما تيسر إيراده ،، وتهيأ إعداده ،، وأعان الله على قوله ،، وصلى الله على محمد وعلى آله،،،،
والحمد لله رب العالمين....(6/8)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله ، بلغ عن الله رسالاته ، ونصح له في برياته ، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبينا عن أمته ، صلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه ، كما وحد الله وعرف به ودعا إليه ، اللهم وعلى آله وأصحابه ، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد ..
أيها المباركون في اللقاء الماضي كان الضرب في الدرس يجنح إلى الصناعة الفقهية ، وقلنا لأن الناس الحاضرين تختلف رغباتهم في الحضور،فتارة نقف على الفقه وحده ، وتارة ننوع ، واليوم مجال التنويع لأن اللقاء الماضي كان لقاءا فقهيا صرفا لكن لا يمكن أن نحجب طلاب العلم عن ما أرادوه فيمكن أن نعرج في آخر اللقاء إلى مسائل علمية محضة ، لكننا في لقائنا الأول سنتكلم عن خواتيم سورتين نعرج عليهما إيمانياً وتاريخياً ولغوياً على ما يكتبه الله جل وعلا من التوفيق .(7/1)
قال ربنا جل وعلا في خاتمة الزمر : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) إلى آخر الآيات سبق هذه الآيات الحديث عن أهل النار ، والناس اليوم أيها المبارك إذا أراد اثنان منهما أن يتواعدا لابد أن يتفقا أولا على مَعْلَم يلتقيان عنده ، يعرفه الأول ويعرفه الآخر ، أما يوم القيامة فإن الناس يحشرون على أرض بيضاء نقية لم يُعصى الله جل وعلا فيها طرفة عين ، وليس على تلك الأرض معلم لأحد ، لا يوجد معلم يمكن أن يتفق اثنان أن يلتقيا عنده ، ثم يجيء الجبار جل جلاله ليفصل بين عباده قال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه : (وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) وقال تباركت أسماؤه : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً) وقال : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ) المقصود أنه يحكم ويفصل بين أهل الجنة وأهل النار ، يحكم بين العباد فينصرف في آخر الأمر إلى فريقين ، الله هنا يقول في الزمر :( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) فالجامع لهم جميعا تقوى الله ، على أنهم في تقوى الله درجات .
لكنهم زمر تحتمل احتمالات عدة :
? تحتمل زمر بحسب مراتبهم ، وأولوياتهم في دخول الجنة ، فهنالك مقربون ، وهناك أصحاب يمين ، والمقربون
أنفسهم أقسام ، وأصحاب اليمين كذلك أقسام هذا تأويل تحتمله الآية .(7/2)
? وتحتمل تأويلاً آخر وهو أنه كل فئة من أهل التقوى غلبت عليهم عبادة معينة يكون بعضهم مع بعض ، فمن
غلب عليه حب الصلاة الإكثار من النوافل يكونون سويا ، ومن غلب عليهم باب الصدقة يكونون سويا ، ومن غلب عليهم حب الجهاد والقيام به يكونون سويا، وهكذا، فيصبح معنى قول الله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) أي بحسب ما غلب عليهم ، ثم قال أصدق القائلين : (حَتَّى) وهي عند النحويين لابتداء ولانتهاء الغاية وقد قال بعض النحاة فيها : "أموت وفي نفسي شيء من حتى" ، لأن الاسم بعدها يقبل الرفع النصب والجر ، على ما ورد في لغة العرب ، هنا لانتهاء الغاية .
قال الله جل وعلا : (حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا) أي جاؤوا الجنة .(7/3)
ثم قال ربنا : (وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) وهذا يدل قطعا على أن أبواب الجنة تكون يومئذ مغلقة ، ولهذا جيء بالواو لوجود شيء يقع ، قال بعض العلماء إن هذه الواو تسمى واو الثمانية ، لكن هذا لا دليل لغوي يسنده ، والصواب أنها واو الحال وأن شيئا يقع ، هذا الذي يقع أنها لا تفتح مباشرة، والناس جبلة إذ ازدحموا على شيء ونزل بهم كرب فزعوا إلى كبيرهم ، والله نسبنا إلى أبينا آدم قال الله : (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ)، وقال : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) فيفزعون إلى أبيهم آدم يقولون : يا أبنا استفتح لنا باب الجنة ، فيقول عليه السلام : وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم ، فيأتون نبينا صلى الله عليه وسلم ، وهذا تواضع منه عليه السلام ، وإلا آدم فأبونا نبي مكلم اجتباه ربه وتاب عليه وهداه ، فيقول صلى الله عليه وسلم فيقول فيقرع باب الجنة ،فيقول له الخازن ، من أنت ؟ والخازن يعلم في ظاهر الأمر من قبل أنه لن يقرع باب الجنة أحد قبله صلى الله عليه وسلم ، لكن هذا فيه تأديب للناس ، أن الإنسان إذا أميط به عمل أن يقوم به على الوجه الأكمل ، والنحو الأتم، ولهذا سأل الخازن نبينا عليه السلام من أنت ؟، فيقول : أنا محمد ، فقال الخازن : أمرت ( لأنه مأمور والقرآن يُفهم بعضه من بعض يقول الله عنهم في الصافات : (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ) أي لا يتعداه ، فهذا الخازن لا يتعدى ما أمر به ، يقول : أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك ، فيفتحها فيدخلها صلى الله عليه وسلم ، ثم يدخلها المؤمنون معه ، قال الله: (حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ) أي قال الخزنة للمؤمنين (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا) أي تقول خزنة الجنة للمؤمنين: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) ونحن في الدنيا نحيا في بعض مواطن من حياتنا بسلام ، لكن السلام التامة لن يناله المؤمن حتى يدخل الجنة ، فلا راحة(7/4)
للمؤمن دون لقاء الله ، فلا راحة حق كاملة دون لقاء الله ،وإلا لو أن الإنسان وجد الراحة الكاملة التي لا يشوبها أي كبد أي ضرر أي أذى في الدنيا لما أصبح هناك معنى لقول الملائكة: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) ثم يقولون لهم : (طِبْتُمْ ) أي كنتم أهلاً لأن تدخلوا الجنة ، طابت قلوبكم وطابت أعمالكم ، وطابت أنفسكم ، وفي الدنيا لا ينغص على أهل الدنيا شيء مثل الموت ، فالموت كما قال عنه عليه السلام :هاد لكل لذة ، فالناس مهما بلغوا من النعيم وحصل من حصل منهم على ملك أو جلس منهم من جلس على كرسي أو عاش من عاش منهم في قصور فإنهم هالكون لا محالة :
وما الناس إلا هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لذيذ تكشفت له ... عن عدو في ثياب صديقِ
المقصود الموت نغص على أهل الدنيا حياتهم ، فلهذا الملائكة أول ما تطمئن أول من يدخل الجنة بأن لا موت فيها ، حتى ذلك الخوف من التنغيص ينتهي ، تقول لهم الملائكة : (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) هنا قال الله بعد أن ذكر قول الملائكة ذكر قول أهل الجنة قال الله جل وعلا : (وَقَالُوا) أي أهل الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ)
وظاهر القرآن- والعلم عند الله- أن أهل الجنة جعلني الله وإياكم منهم ، يحمدون الله جل وعلا في ثلاثة مواطن :
1. يحمدونه عندما يقال لهم : (أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) وهذا ظاهر الأمر عند باب الجنة ، قال الله جل وعلا : (وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ).
2. ثم الحمد الثاني يقع إذا دخلوا الجنة وهذا الذي دلت عليه آية الزمر : (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ) .(7/5)
3: والحمد الثالث يقع بعد أن يلهموا التسبيح كما يلهمون النفس قال الله : (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فهذه ثلاثة مواطن والعلم عند الله يحمد فيها أهل الجنة خاصة ربهم لأن الحمد العام يقع في غير ذلك .
هنا قال الله جل وعلا : (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ) هذا الوعد كان في الدنيا فإنك قبل أن تأتي هذه اللحظات إلى هذا المسجد قد كلفتك نفسك أن تبقى وكيف تترك فراشك و لتوك استرحت ، وما الذي سيزدلف بك إلى قباء ، ثم بعد أن أنهيت الصلاة أتاك وسواسك أن تغادر المسجد وتخرج ، فغلبته بأنه مجلس ذكر كله هذا تصنعه أنت والمؤمنون الذين معك لأنك تعلم يقينا أن هناك جنة ، وأنك إن دخلتها – أدخلكم الله إياها - نسيت كل شيء فهو وعد ولهذا قال الله : (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ) فهم يفرحون يوم القيامة بأن الله صدقهم وعده ، قال الله جل وعلا عنهم أنهم كانوا يدعون ربهم في الدنيا (وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ) أي على ألسنة رسلك (وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ).
وهنا الله يقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ)أي أرض ؟؟ الجنة بدليل ما بعدها ، (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء) قال الله : (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) وهذا أسلوب مدح بالاتفاق في لغة العرب .(7/6)
قال الله جل وعلا بعدها : (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ* وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) وقد مر معنا في لقاء مضى أن الناس كانوا يصلون حول البيت الحرام من جهة المقام فقط ، حتى كانت ولاية خالد ابن عبد الله القسري على مكة ، فأمر الناس أن يصلوا من الجهات كلها ، فلما سئل عطاء ابن أبي رباح عن هذا قال : "أجد له تأويلا و مساغاً في كلام الله ثم تلا : ( وترى الملائكة )" .
هنا يقول أصدق القائلين جل جلاله :(وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) والعرش : سقف المخلوقات وأعظمها طهرها ، ولهذا استحق أن يستوي الله عليه استواء يليق بجلاله وعظمته ، مع علمنا ويقيننا أن الله غني كل الغنى عن العرش ، وعن حملة العرش، هذا العرش ثمة ملائكة يحملونه وملائكة حوله ، وقد قال بعض أهل العلم :"أن من حول العرش يسمون الأروبيون "، والله جل وعلا قرن بين الحملة وبين من حول العرش في غافرقال ربنا : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) هذه طائفة (وَمَنْ حَوْلَهُ) هذه طائفة أخرى .(7/7)
هنا الله يقول : (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) حتى تزداد القلوب إعظامًا وإجلالاً لربها تبارك وتعالى ، فإن رأيت من ترى في الدنيا عبر القنوات أو من خلال سفرك من الكفرة والفجرة و الفسقة الذين يعرضون عن الله وعن دينه وعن كتابه ولا يعظمون ربهم ولا يسجدون له ، ولا يبتغون رضوانه، ولا تخطى أقدامهم إلى مساجد يذكر فيها ، فاعلم يقينا أن الله غني كل الغنى عنهم وأن الله جل وعلا له ملائكة يحملون عرشه ويطوفون حوله ويعظمون ربهم ويجلونه كما عز الله نبيه بقوله : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) أي بعض أهل الأرض (إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) فهنا حتى تمتلأ القلوب إعظاماً لربها وتعرف شيء من عظمة خالقها قال أصدق القائلين يثني على ذاته العلية : (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) ماذا يصنعون ؟( يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ، والتسبيح بحمد الله من أشرف وأجل العبادات ، قال صلى الله عليه وسلم وهو المبلغ الصادق عن ربه قال : "كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمان سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم " وقد ختم الإمام البخاري – رحمه الله – صحيحه المبارك بهذا الحديث وجعل هذا الحديث آخر حديث دونه الإمام البخاري رحمة الله تعالى عليه في كتابه الجليل الجامع الصحيح .(7/8)
المقصود قال ربنا تبارك وتعالى : (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ ) من الذي قضى وحكم وفصل؟؟ رب العباد (وَقُضِيَ بَيْنَهُم) بين من ؟ بين العباد ، (وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ) ولم يقل جل ذكره بالعدل لأن العدل مندرج في الحق ، والحق أعم ، لأنه لو قال ولا ملزم على الله وقضي بينهم بالعدل فكم ممن يدخل الجنة لا يستحق الجنة ، لكنه فضل من الله ورحمة ، أما من دخل النار فإن الله يكرم أهل الجنة بفضله ويعذب أهل النار بعدله ، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله ، كما لا يعترض عليه ذو عقل بعقله.
قال ربنا :( وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ) ولم يذكر القائل ، لكن أهل العلم يقولون:"أن كل أحد من الخلائق يومئذ يقول الحمد رب العالمين " لكنها إذا قالها أهل الكفر على القول أنهم مندرجون فيمن يقولها فإنها لا تنفعهم لأن القيامة واليوم الآخر ليست دار تكليف إنما هي دار بعث و جزاء. ... ...
***********************************************
الآيات الثانية : التي سنعرض الحديث عنها خواتيم التحريم : قال الله تعالى :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) هذه الياء حرف نداء بالاتفاق ، وقول ربنا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هذا أيها المبارك نداء كرامة لا نداء علامة .
((7/9)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً) التوبة النصوح كلمة أهل العلم فيها مختلفة لكنها تفيء إلى معناي واحدة ،أحاول قد الإمكان أن أقربها لكم، الأزمنة كم ؟ ثلاثة : 1. زمن مضى ، 2. وزمن أنت فيه ، 3. وزمن مستقبل لم يأت بعد.
كم الأزمنة ؟ ثلاثة : 1. زمن قد مضى ، 2.وزمن حاضر أنت فيه . 3. وزمن لم يأت بعد .
? ما قد فات تندم على أنك قد عصيت الله فيه ، فالمعصية تندم على أنها وقعت وكانت منك حتى تكون التوبة توبة نصوحا.
? في زمنك التي أنت فيه تقلع عن المعصية .
? وفي زمن المستقبل تعزم أن لا تعود إلى المعصية .
هذا ما يتعلق بالأزمنة ، أما أنت: فأنت 1. جنان أي قلب ،2. ولسان ، 3. وجوارح .
فالجوارح ونبدأ بها حتى تكون التوبة نصوحا تعمل عملا صالح .
واللسان يكون مكثراً من الاستغفار فتعمل بجوارحك وإن كان اللسان من الجوارح ، تعمل بجوارحك أعمالا صالحة وتستغفر الله بلسانك.
وفي قلبك تخلص لربك وتؤوب وتندم على ما كان منك ويقع في قلبك إقبال على الله ، فإذا كان في القلب إقبال على الله ورغبة فيما عنده ورهبة من عذابه مع استغفار في اللسان ، مع عمل بالجوارح، مع تحقيق للأزمنة الثلاثة: من ندم على ما قد فات ، وإقلاع عن الذنب في الحاضر ، وعزم على أن لا أوب في المستقبل ، والتحرر من ظلم العباد إذا كانت المعصية تتعلق بحقوق العباد هذا كله يسمى توبة نصوحة .(7/10)
قال ربنا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً) وإما الاستغفار فقد جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في البخاري من حديث شداد ابن أوس: أن سيد الاستغفار ، أن يقول العبد :" اللهم أنت رب لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك علي ، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " من قالها وهو موقن بها صباحا ثم مات قبل أن يمسي دخل الجنة ، ومن قالها وقد أمسى وهو موقن بها ثم مات قبل أن يصبح دخل الجنة ، هكذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم والحديث كما قلت في البخاري .
معنى سيد الاستغفار: أي هذا أفضل أدعية الاستغفار، لكن تبقى مسألة علمية لماذا سمي هذا الحديث بسيد الاستغفار ؟ أظهر الأجوبة والعلم عند الله أن هذا الحديث ، وهذا الدعاء أضحى سيد الاستغفار لسبب هو أن فيه ذكر الرب بأكمل الأوصاف، وذكر العبد نفسه بأنقص الحالات ، وبمثل هذا يتقرب إلى رحمن الدنيا والآخر ورحيمهما جل جلاله .
قال ربنا : (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) ندرك جميعا أن وجود الماء يعني وجدود حياة هذا يعرفه كل أحد من البشر غالبا ، قال ربنا : (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) فإذا وجد ماء وجد حياة ولهذا ذكر الأنهار هنا يشعر المؤمنين بأن الجنة دار حياة أبدية يخلدون فيها .(7/11)
قال الله تعالى بعدها : (يوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) وإنما الخزي كما قال الله الخزي والسوء على من ؟ على الكافرين (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) هذا النور جلبته لهم رحمة الله ، لأنه قد كان لهم في غابر أزمانهم وسالف أيامهم يوم كانوا أحياء في الدنيا كان لهم عمل صالح فأورثهم ذلك العمل الصالح برحمة الله نور ينفعهم أعظم نفع يوم القيامة قال الله جل وعلا : (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ) من الذي يقول ؟ أهل الإيمان.(7/12)
متى يقولون؟ يقولونها إذا علو الصراط ، فإذا علو الصراط يرون المنافقين بعدهم فيطفأ النور الذي بيد المنافقين ، ويضرب بينهم بسور له باب كما قال الله (بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) عندها يخشى المؤمنون من النور الذي بين أيديهم وليس لهم إلا ربهم فيفزعون إليه جل جلاله(يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا)، كان بالإمكان أن يقال " أتمم نورنا " وفائدة وجود "لنا " بأن الإنسان أيها المبارك قد يكون له شيء يملكه ولا ينتفع منه ، فقد يوجد رجل يبني قصورا شاقة أو مثلا يأتي إلى مصيف مرتفع كأبها فيبني فيها قصرا أو دارا وفيرا بماله وهي مسجلة في المحاكم باسمه ماله وداره وعقاره فيأتي الأطباء فينهونه لربو في صدره أن يدخل الأماكن المرتفعة فهو ماله وداره وعقاره يذهب إليها أهله وقرابته وأصدقائه وبنوه ويسكنونها وهو يملكها ولا يستطيع أن يدخلها، فحتى يتم النفع لهم قالوا كما قال الله : (أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) فقد يكن لهم نور فيستضيء به غيرهم كمن يحطب في حبل غيره ، لكن الله جل وعلا قال هنا عنهم أنهم يقولون : (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وقولهم : (إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) في ذلك المحفل تأدب مع خالق الخلق وباسط الرزق ورب العباد من له الأمر جل ذكره من قبل ومن بعد (إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(7/13)
ثم قال الله :( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ومجاهدة أهل الكفر وأهل النفاق دين وملة وقربة ولكنها تختلف طرائقها من حال إلى حال ، والأصل أن الجهاد بالسيف ، وفي القرآن آية اسمها "آية السيف " هي الآية الخامسة من آية التوبة ، لكن إذا غلب على رأي الإمام المسلم أن الجهاد أحيانا يكون أحيانا بغير ذلك فلا حرج فيه والمهم حفظ بيضة المسلمين، وحفظ دينهم وتوسيع رقعتهم ما أمكن إلى ذلك سبيلا.
ثم قال الله :(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) هذا مثل ضربه الله جل وعلا على أن هناك من العباد عياذا بالله من لا ينتفع أبدا لا ببقعه ولا بجسد ، لا ببقعة يسكنها ولا بمؤمن تقي يصحبه ، فأتى بمثالين :
امرأة لوط ونوح وهاتان المرأتين ما زنيتا قط فالله أكرم أنبياؤه من أن يجعلهم يخالطون على فراشهم امرأة تشتغل بالزنا ولكنهما خانتا نبيي الله بأنهما أظهرتا الإيمان وأبطنتا الكفر والخيانة هنا خيانة في الدين ليست خيانة على الفراش .
ونوح أول رسل الله إلى الأرض ، ولوط ابن أخ لمن ؟ أبن أخ لإبراهيم عليه السلام سكن قرية سدوم ، وأُهلك قومها وأهلها كما تعلمون لارتكابهم الفاحشة .(7/14)
من المسائل اللغوية هنا المجلس مجلس علم : الناس يسمون الفاحشة المعروفة بإتيان الذكران باللواط ، لكن لا علاقة أبدا بين اسم نبي الله ، وبين اسم هذه الفاحشة ، فلوط أيها المبارك أصلا نبي غير عربي ،والأعلام يقينا لا تترجم ، فلوط اسم غير عربي ، لا علاقة له بكلمة لواط المعروف ، وإنما كلمة لواط مأخوذة من " لاط" بمعنى التصق ، والعرب إذا بنت بئرها تلصق الطين بعضه ببعض فسمون ويقولون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فلان يلوط بئره " يعني يبنيها يلصق حجارتها وطيناه بعضها ببعض ، فمن الإلصاق من الفعل "لاط "أخذ هذا الاسم ،لا علاقة له بني الله جل وعلا لوط عليه السلام وإلا لا يعقل أن ينسد إلى اسم نبي كريم مثل لوط مثل هذا الأمر، حتى يفهم ،فلا علاقة بين اسم لوط وبين القول في الصياغة اللغوية عن الفاحشة بذلك الاسم .(7/15)
قال الله جل وعلا : (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا) فلما كفرتا انتفا أن يصل إليهما نفع قال الله : (فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) أي لا نوح أغنى عن امرأته ولا لوط أغنى عن امرأته (وَقِيلَ) أي لهما للمرأتين ( ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) كان المفترض ولا ملزم على الله أن يقال ( ادخلا النار مع الداخلات ) ، لكن الآية جاءت قالت : (وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ ) كان المفترض ولا ملزم على الله أن يقال ادخلا النار مع الداخلات لكن الآية جاءت (وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) وأحسن ما قيل في تخريج العلة هنا علميا :أن الأصل أن المرأة أيها المبارك تبع لمن ؟ تبع لزوجها حتى في عُرفنا العادي في الأوراق الرسمية المرأة تتبع زوجها لا تتبع أباها إذا تزوجت، فالأصل أن المرأة محكومة بالزوجها ، فهذه المرأة سواء كانت امرأة نوح أو امرأة لوط تمردت على زوجها ، وأبت دينا غير دين زوجها فكأنها أصبحت رجل منفردا مستقلا ولم تعد أنثى ، بصنيعها بعملها ، فعاملها الله جل وعلا في السياق والصفة التي تلبست بها، فقال الله لها: (وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) مع الدخلين من الرجال لأنك انفردت عن التبعية لزوجك والله يقول:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) .(7/16)
ثم قال أصدق القائلين جل جلاله :( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ) على نقيض الأولى فكما أن امرأة لوط وامرأة نوح لم تنتفعا أي منهما لم تنتفع أي منهما بصلاح زوجها، كذلك لم تتضرر آسيا بنت مزاحم ،هذه المرأة جعلها الله جل وعلا قدوة وأسوة في التقوى ، وهي إحدى أربع نساء حكم النبي صلى الله عليه وسم لهن بأنهن كملن قال عيه الصلاة والسلام :" كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء" وعد أربعا منهن آسيا بنت مزاحم ، هذه المرأة كانت زوجة لفرعون أكفر الكفرة ، ومع ذلك لم يصل إلى قلبها من الكفر مثقال ذرة ، وما تراه من تعظيم الناس لفرعون ومبالغتهم فيه وعبادتهم إياه لم تعبأ به ، ترى عساكره ، جحافله جيوشه وزراه خدمه حجابه لكن كان في قلبها تعظيم الله ، فلم تعبأ لفرعون ولا لجنوده ،فجعلها الله جل وعلا نبراس ونورا وقدوة قال أصدق القائلين :
((7/17)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) فانظر امرأة تعيش في قصور فارهة، لكن لما كانت تلك القصور لا يعبد الله فيها لم تلتفت إليها بشيء وقالت : (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) وقدمت الجار على الدار ، ولم تقل : ربي ابني لي بيتا عندك ،قالت (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ ) المهم جوارك (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) أي كفره ، (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)فاستجاب الله لها فماتت وقد ختم لها بخير على الدين، وعلى الصراط المستقيم، وأثني عليها في أجل كتاب هو القرآن ، وجعلها الله جل وعلا مثالا للصالحات المؤمنات الطاهرات فقال وهو أصدق القائلين: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) .(7/18)
ثم قال الله (وَمَرْيَمَ) لما ذكر الثيب وهي من ؟ آسيا ، ذكر العذراء أصلا التي لا زوج لها قال :( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ ) هنا عكس الأول ، قال الله (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) ولم يقل الله وكانت من القانتات، ذلك أنها عليها السلام انفردت بالعبادة ، وتحملت أعباءها وعبدت الله كما يعبد الله أكامل الرجال ، وكلنا يدرك أن المرأة يأتيها من العوارض ما يمنعها من بعض العبادات ، فالمرأة حال حيضها أو نفاسها لا تصلي ولا تصوم ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " ما رأيت أذهب للب الرجل العاقل الحازم من إحداكن " وأخبر أنهن ناقصات عقل ودين ، مع ذلك هذه المرأة كان لها من العبادات في غير أيام حيضها ما يجعلها ترقى في عبادتها إلى الكمل من الرجال حتى لما عد الله شرفها وذكرها قال : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) فجعلها الله جل وعلا في عداد القانتين لأنها كادت بل بلغت في عباداتها وطاعاتها ملا يقدر عليه إلا الكُمل من الرجال ، وذلك فضل الله أيها المبارك يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
إلى هنا انتهى درس التفسير ، ندخل في درس النحو اكتبوا البيت ثم أشرحه ، قال ابن مالك – رحمه الله -:
بِالجَرِّ والتنوين والنداء وألْ ** ومُسْنَدٍ للاسْمِ تَمْيِزٌ حَصَلْ
طبعا لطلاب العلم حق وهم يقولون يريدون أشياء في النحو ، نبدأ فنقول:
الأصل الكلمة تنقسم عند النحاة إلى ثلاثة أقسام:1. اسم، 2. وفعل ، 3. وحرف ، هذه ظاهرة لذلك أعرضنا عن البيت الذي يعنيه هذا المعنى ، ثم قال ابن مالك في ألفيته الشهيرة :
بِالجَرِّ والتنوين والنداء وألْ** ومُسْنَدٍ بالاسْمِ تَمْيِزٌ حَصَلْ(7/19)
يذكر علامات الاسم ، سنشرحها كالتالي :
الاسم أحد أنواع الكُلِم الثلاثة ، وقد ذكر ابن مالك هنا خمس خصائص تميز الاسم :
قال : 1."بالجر " نفهم من هذا أن الفعل والحروف لا تجر ، فالجر من خصائص الاسماء ، فإن وجدنا كلمة مجرورة وفق سياق النحوي نجزم بأنها اسم ، هذا معنى قوله " بالجر " .
ثم قال رحمه الله : " بِالجَرِّ والتنوين"
التنوين معناه هو: "نون ساكنة تلحق آخر بعض الأسماء لفظا لا خطا ولا وقفا."
ما معنى لفظا لا خطا ولا وقفا ؟ ملفوظة باللسان مثل " محمدٌ" ، ما معنى لا خطا؟ غير مكتوبة لا تكتب نون .
ولا وقفا ؟ لا يوقف عليها الله مثلا يقول : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً) لو أردت أن تصل تقول :( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً* حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً) مفازا هذه منونة هذا اللفظ تنوين نون ساكنة تلحق أخر بعض الأسماء لفظا لا خطا أي لا تكتب نون، ولا وقفا أي إذا وقفنا لا نلفظها ،لكن التنوين له أنواع سيأتي ، وللتنوين أنواع عدة .
قال ابن مالك :" بِالجَرِّ والتنوين والنداء" النداء كذلك من خصائص الأسماء فلا ينادى إلا الاسم .
والنداء له أحرف منها :(الياء وهو أشهرها، و أي ، وهيا )وسيأتي إن شاء الله في باب النداء ، المهم أنه لا ينادى إلا الأسماء نأخذ فائدة دينية :يقول بعض النحاة :" هناك أحرف هي أكثر الأحرف ذكرا لله".
ما هي أكثر الأحرف ذكرا لله؟ حروف القسم بيض الله وجهك ، لماذا ؟ لأنه لا يقسم إلا بالله وفق اصطلاح النحويين واللغويين أكثر الأحرف ذكرا لله وهذه من نفائس لفوائد لأنه لا يقسم إلا بالله ، في النداء ينادى غير الله تقول يا محمد ، يا زيد .
" بِالجَرِّ والتنوين والنداء وألْ " أل هذه دخولها على الكلمة دلالة على أن هذه الكلمة ماذا ؟ دلالة على أن هذه الكلمة اسم ، فالأفعال والحروف لا تقبل دخول أل .
" بِالجَرِّ والتنوين والنداء وألْ** ومُسْنَدٍ " قصد "بمسند" أي الإسناد ، ما الإسناد ؟(7/20)
الإسناد : "إثبات شيء لشيء أو نفيه عنه أو طلبه منه ". ولا يقع الإسناد إلا للأسماء . مثلا تقول: محمد يصلي في المسجد ، من المسند إليه؟ محمد ، وما المسند؟ الصلاة.فأسندنا الصلاة إلى محمد، هذا حال الإثبات .
سألك أحد الناس اذهب إلى المسجد شوف محمد يصلي وإلا ما يصلي ؟ محمد جالس ، قلت : محمد لا يصلي، في الأول كان إثبات هنا نفي، لكنه كله يسمى إسناد .
الحالة الثالثة : أو طلبه منه . تقول : يا محمد قم صلي. فهذا طلب، يسند إلى من ؟ إلى محمد الذي هو اسم .
إذا ما الإسناد ؟ إثبات شيء لشيء أو نفيه عنه ، أو طلبه منه . وهو في كال أحواله الثلاثة لا قع إلا مع الأسماء . فأصبحت علامات الاسم كم ؟ خمسة ، جمعها الإمام مالك صاحب الألفية رحمه الله في بيت هو:
بِالجَرِّ والتنوين والنداء وألْ** ومُسْنَدٍ بالاسْمِ تَمْيِزٌ حَصَلْ .
كل درس نأخذ بيتا من بيوت ، أبيات أم بيوت ؟ من أبيات يصح، لكن أبيات أفضل في الشعر ، من أبيات الإمام مالك – رحمه الله - .
اكتب ملحوظات:
ينبغي أن يعلم :
1. أن علامات الاسم ليست محصورة في هذه الخمس ، فللاسم علامات أخر لم يذكرها ابن مالك – رحمه الله –
من أشهرها :التصغير، فلا يصغر إلا الأسماء، الأفعال والحروف لا تصغر، هذه واحدة .
2. لا يشترط في الاسم أن يقبل هذه العلامات الخمس جميعا ، فيكفي أن يقبل واحدة حتى يحكم له بأنه اسم ، فمثلا
التنوين لا يلحق الأسماء المبنية ، فكلمة " هذا" مثلا اسم إشارة بالاتفاق لكنها لا تنون لأنها اسم مبني والمبني لا ينون ، لكن كلمة " هذا " تقبل الجر( سلمت على هذا ) ، وتقبل النداء (يا هذا أقبل ) ، وتقبل الإسناد ،لكنها لا تقبل التنوين ولا تقبل دخول "أل" .
آخر النحويات نأخذ جملة فنعربها حتى تفقهوا :
الله يقول :( اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً) .اعربوا(7/21)
اتخذ : فعل ماض مبني ، لماذا فعل ؟ ليس اسما ولا حرفا ، لماذا ماضي ؟ في الزمن الماضي ، لماذا مبني ؟ لأن جميع الأفعال الماضية مبنية .مبني على ماذا ؟ على الضم لاتصاله بواو الجماعة .
أي فعل في الدنيا ، ما هو في الدنيا أي فعل يحتاج إلى فاعل إلا أن يدخل عليه شيء يكفه عن أن يحتاج إلى فاعل إما أن يكون ناقص وإما أن يدخل عليه "ما" مثل قلما وطالما، هذه كفته لكن الأظهر الأشهر الأصل أن الفعل يحتاج إلى فاعل.
أين فاعل اتخذ؟ واو الجماعة ،هذه الواو واو الجماعة اسم أو فعل أو حرف؟ اسم ، تقبل الإسناد، بدليل أننا أسندنا إليها هنا ماذا ؟ الاتخاذ ، فواو الجماعة ضمير لأنه من أنواع الضمائر ، منفصل أو متصل ؟ متصل(اتخذوا) .
مبني أو معرب ؟ مبني لأن الضمائر كلها مبنية .
على ماذا ؟ على السكون ، أي مد يا بني يسمى سكون ،في محل رفع فاعل .لأن الفاعل مرفوع .
نعيد إعراب الفعل والفاعل :اتخذ : فعل ماضي مبني على الواو لاتصاله بواو الجماعة . واو الجماعة : ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، " اتخذوا " عائدة على المنافقين .
(أَيْمَانَهُمْ) – شوف النحو كدا وأنا أبوك ، تروح الجزار تشتري أربع كيلوا لحم أول شيء يفعله الجزار بعد أن قطع اللحم ماذا يفعل ؟ ما ترحون الجزارين تجيكم النعمة لحدكم، وزنه يأتي على خشبة عالية يضع اللحم ، ثم يبدأ يسألك لثلاجة ولا صدقة ، ولا تبغاها كبار ويبدأ يقطعه ، صح ، كيف النحو ؟ النحو تأخذ الكلمة وضعها أمام عقلك ، وقسمها وغير كذا ما في نحو ، ما هو النحو أنك تحفظ قال البصريون قال الكوفيون قال غيرهم ، النحو شيء عملي.
((7/22)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ) خذ أيمانهم هذه الكلمة واقسمها قسمين ، ما هما ؟ أيمان وهم ، طيب اتخذوا الآن وجدنا فاعلها تحتاج إلى مفعول شيء وقع عليه الفعل ، وين اللي وقع عليه الفعل ؟ أيمان ، لما وقع عليه فعل الفعل ، سميناها مفعول به ، لكن "اتخذ" من الأفعال التي تنصب مفعولين ، فنقول في أيمان : مفعول به أول ، ما حالته منصوب ؟ ما قلنا مبني لأنه اسم معرب ، ما هو مبني ، فنقول : مفعول به أول منصوب ، وعلامة نصبه الفتحة ، وين الفتحة ؟ ظاهرة على آخره ، أين آخره ؟ النون ، أيمانَ ، هذه أيمان اسم التصقت باسم ثاني يسمى في التركيب النحوي تركيب إضافي ،التركيب المزجي مثل : سيبويه و نفطويه وأمثالها ، أما هذا يسمى تركيب إضافي، كيف إضافي نقول : أيمان مفعل به منصوب وعلامة نصبه الفتحة ، ونعود ونقول وهو مضاف ، مادام قلنا هو مضاف لابد من مضاف إليه ،" هم " هذا ضمير للغيبة نقول و" هم" : ضمير متصل مبني على السكون في محل جر بالإضافة، أي مضاف إليه فهو مجرور ، لكن المضاف بحسب حاله ، ولكن المضاف إليه دائما مجرور .
(اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً) الآن أنا وجدت المفعول الأول أبحث عن ماذا ؟ عن المفعول الثاني " جنة " بمعنى وقاية: مفعول به ثاني ومنصوب وعلامة نصبه الفتحة ، إذن جملة (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً) جملة فعلية لأنها مبدؤه بالفعل .
هذا يكفي.. والحمد لله رب العالمين .
الإجابة على الأسئلة .
س: يقول كيف تكون مجاهدة المنافقين ؟
الإجابة : هذه الآية تتكلم عن المنافقين الذين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، هذا غير موجود في عصرنا ، إلا ما ندر جداً جداً ، لأن النفاق العملي غير النفاق الاعتقادي.(7/23)
س: يقول : يقول الله تعالى :( وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَ ةًنُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ ) وقال : (وإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا) .
الإجابة : هذا جمع والإسناد إلى الجمع يجوز فيه الإفراد ويجوز فيه الجمع ، يجوز فيه التذكير ويجوز فيه التأنيث ولهذا جاءت الآية في كلا الحالتين .
س: يقول ما معنى قول النبي صلى اله عليه وسلم : " أنزل القرآن على سبعة أحرف ".وإذا كان هناك خلاف فما الصحيح ؟
الإجابة : هناك خلاف نعم ، ولابد أن يكون للحديث معنى لكني لا أعرفه ، وقد قال شيخنا الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى : أموت ولم أفهم هذا الحديث " أنزل القرآن على سبعة أحرف" وقبله كثير ،وقد أدركت بعض مشايخي قال لا أفهم معنى الحديث ، والحديث فيه خلاف طويل في معناه ، وهؤلاء الذين أدركتهم لم يجدوا جوابا شافيا في معنى للحديث ، وأنا إلى الآن لا أفقه معنى الحديث .من راجع للزرقاني في مناهل العرفان يجد فيه أقوال عدة لكن لا تصل فيها إلى رأي مقنع إلى أبعد درجة وقد قلت أن الشيخ الأمين وقبله الله وبعده الشيخ عبد القادر رحمه الله قالوا : لا أفهم معناه أو لم يتحرر لي معناه بجلاء ، وأنا إلى اليوم لم يتحرر لي معنى الحديث بجلاء والعلم عند الله .
س: يقول عندما يذكر الخطيب اسم النبي صلى الله عليه وسلم هل نصلي عليه ؟
الإجابة : نعم يصلى عليه صلوات الله وسلامه عليه إذا ذكر الخطيب اسمه .
س: اشتريت ذهبا لجدتي وتوفت رحمها الله هل يحق لي أخذ هذا الذهب ؟ أم كون ورث ؟
الإجابة : ما يحق لك أن تأخذه هذا من مالها ويصبح ورث يقسم وفق تقسيم الشرع .
س: يقول التكرار في القرآن لم يوجد إلا لمقصد عظيم بعض الآيات في القرآن تكون متكررة هل من حكمة في ذلك؟
الإجابة : هذا يختلف:
? فإن كان التكرار في القصص هذا لتثبيت قلبه عليه الصلاة والسلام .(7/24)
? وإن كان في غير ذلك فإنه يوجد في كل آية مقصود من تكرارها ، وقد مر معنى أن العرب وكما مر معنى في ذكر الحارث ابن عباد أنه كان يقول :
قربا مربط النعامة مني ... قالها مرارا ، كذلك مهلهل ابن ربيعة كرر كثيرا في بيته ولهذا جاء القرآن في سورة الرحمن قريبا من هذا .
س: يقول: أختي تزوجت مسيحي ونطق الشهادتين ولكن لم يعمل بهما ، وإن ذكرت له الإسلام يتذمر ويتضايق .
الإجابة : إذا تزوجته على أنه مسلم ونطق الشهادتين ودخل في الإسلام فالزواج في أصله صحيح ، فإذا ثبت لها بعد ذلك أنه خدعها وأنه لا يريد الإسلام وأنه يتذمر ويتضايق فتعتبر في حل منه ، تفارقه ولا يجوز لها أن تبقى معه لحظة واحدة (لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) .
س: يقول : (قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي) هل ذكر في القرآن أن موسى أخو هارون من أمه وأبيه ، وهل ذكر عن والد موسى شيء ؟
الإجابة : هذا المشهور المتفق عليه عند العلماء أن هارون أخو لموسى من أمه وأبيه ، ولم يذكر خبر ولا نبأ عن والد موسى في القرآن .
س: لماذا لا يقرأ الإمام البسملة في الصلاة مع أنهم يقولون أنها من الفاتحة ؟
الإجابة : هو يقرؤها ، لكن السؤال لما لم يجهر بها ؟ هذه مسألة خلافية ، وبعض العلماء يرى الجهر بها وبعضهم لا يرى الجهر بها ، ولكل دليله والمسألة انظر بسط القرطبي رحمه الله تعالى عليه في أول كتابه " الجامع لأحكام القرآن " .
س: ما معنى (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ) .
الإجابة : هذا مما ذكره الله عن السحرة من الذين آمنوا أنهم قالوا لفرعون ، لن نقدمك على ما أفائه الله علينا من العلم وما دلنا عليه من صراطه المستقيم .
س: سمعنا أحكاما كثيرا عن المسعى الجديد فها تفضلت ، بتعليمنا ما عندك ؟(7/25)
الإجابة : شغل الناس هذا المسعى ، يا إخوة المسعى شهد سبعة ممن حجوا قديما أن المسعى كان يمتد جبل الصفا وجبل المروة شرقا وأن التوسعة الحالية التي أمر بها الملك وفقه الله هي توسعة شرعية لأن الساعي الآن بين الصفا والمروة ، وهؤلاء السبعة دونت شهادتهم في صك ، والصك موجود عندي في البيت نسخة منه ، وقد أخرجته في مجلسي في الأسبوع الماضي، ثم إنه الآن بصدد تدوين شهادة ثلاثين غير هؤلاء السبعة يشهدون أن جبلي الصفا والمروة ، كانا يمتدان شرقا ، ومن هؤلاء الثلاثين الشيخ العلامة عبد الله ابن جبرين حفظه الله وقد حج عام تسعة وستين هجري ، وقال إنه أدرك الصفا والمروة يمتدان شرقا ، وأنا كنت قبل قليل ، قبل أن آتيكم جاي من البادية من الديرة ناقشوا مسألة المسعى فالذي كنت عنده رجل كبير ، قال أنا مستعد أشهد أنا حججت قبل كذا سنين قديمة وكان الجبل ممتد شرقا سواء جبل الصفا أو جبل المروة ، ثم جيء بخبراء جيلوجين ، فأثبتوا أن الجبل ممتد شرقا ، والذي أعرفه أن كل هيئة كبار العلماء راجعوا ممن كان يفتي بعدم السعي أجازوه ، باقي اثنين واحد متوقف لكن الحجة التي ذكروها ليست عندنا بصحيحة ، يقولون كان هناك إجماع أيام الشيخ محمد ابن إبراهيم لا يسمى إجماعا لأنه لا يسمى هيئة في أي بلد في العالم الإسلامي إذا اتفقت على رأي أن هذا إجماع لأن العلماء في الأمة كثير ثم إن هؤلاء شهود يشدون أن المسعى كان ممتدا شرقا ، على هذا يقال إن المسعى الحالي جزء لا يتجزأ من المسعى الذي تعبدنا بالسعي فيه بين الصفا والمروة ، وقد اعتمرت قبل أسبوعين أو ثلاث فيه ، هذا الذي عندي من العلم في مسألة المسعى الجديد ،.(7/26)
ثم في نقطة مهمة جداً أن هؤلاء الذين شهدوا السبعة شهدوا بتاريخ 16/12/1427 للشركة التي بصدد توسعت المسعى ما سلم لها المسعى على أن تهدم القديم وتوسعه إلا بعد الشهود 16/12/ 1427 بعدها بدأ استلم المقاول المسعى ، وبدءوا في قضية المسعى ، يعني لا يفهم أن الحكومة وسعت المسعى ثم دبرت سند ولاء والسند عرض والصك عرض على خام الحرمين فقال : يكفي في الشرع اثنان ، قال وهؤلاء سبعة ، ثم كما قلت الآن بصدد ثلاثين سيوثقون شهاداتهم أنهم أدركوا المسعى جبلا يمتد شرقا إلى أكثر من أربعين مترا ، عن التوسعة كم متر ؟ عشرين مترا أو واحد وعشرين متر ضيق حاليا والمسعى القديم الذي سيصبح الملك أمر أن يكون 12دور حتى يسع المسلمين في مقتبل أزمانهم وسيبنى منه أربعة أدوار حاليا ، وتبقى الأسس مبنية على أنه يؤسس لاثني عشر دورا ، لأنه يتوقع أن المسلمين في عام 1450إن أحيانا الله وأحياكم يكون عدد الحجاج قرابة عشرة ملاين حاج وهؤلاء يحتاجون وهذا عمل عظيم وجليل والحمد لله أنه فتح الآن لو مات هؤلاء مين يشهد بعدين لكن حمدا لله وجود هؤلاء الشهود ، ومثلا واحد منهم مولود عام 1349 هذا أول الشهود يعني كم عمره ؟ ثمانين سنة ، 49وناقص 29كم عمره ؟ ثمانون عاما ، هذا أهل للشهادة والإدراك والفهم والعلم عند الله .
س: يقول من قالها موقن بها كيف يكون اليقين ؟
الإجابة : هذه مسألة قلبية رزقنا الله وإياكم العلم
هذا ما تيسر وأعانني الله وإياكم على طاعته ، وصلى الله على محمد .(7/27)
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد أيها المباركون :
كنا قد نبهنا في الدروس التي خلت أننا حيناً نعظ أي نأخذ آيات نفسرها وعظياً وإيمانياً وأحياناً ندرس تدريساً علمياً محضاً ، ولقاء اليوم يندرج في التدريس العلمي المحض ، وكنا قد بينا آيات الأحكام فانتهينا إلى قول الله تبارك وتعالى في سورة البقرة {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ{180} فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{181} فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{182} ثم ندرج في آيات الصيام ، ثم ننتقل إلى فن آخر وهو علم النحو ثم نطبق عملياً على بعض القواعد النحوية هذا إجمالاً لما سيكون عليه درس اليوم بإذن الله جل وعلا .
قال ربنا تبارك وتعالى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ } بادئ ذي بدء نحن هنا نستنبط الفقه من القرآن لا من متون الفقهاء وشتان في الطرائق ما بين شرح متن فقهي وما بين استنباط الفقه والأحكام من كلام الله هذا أمر لابد أن يستصحبه طالب العلم ، هذه الثلاثة المتتابعات من سورة البقرة التي تلوناها قبل قليل تتحدث عن الوصية .(7/1)
فيقول ربنا { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } يخاطب المؤمنين و{ كُتِبَ } هنا بمعنى: فرض على القول بوجوبها لكن الأظهر أن يقال أن هذا شيء مكتوب في اللوح المحفوظ { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } معلوم أن الموت إذا حضر ونزل لا يمكن لأحد أن يتحدث فالتوبة أصلاً لا تقبل فضلاً على أن الإنسان يستطيع أن يوصي ، ولكن المقصود إذا حضرت أسباب الموت لأن الوصية عقلاً لابد أن يكون الموصي يملك من الرشد والعقل ما يستطيع أن يملي به وصيته وإلا لما صحت الوصيته { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي مقدمات أسباب الموت { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ } الوصية : هي القول المبيّن لما يعمل به ، وهي هنا ـ أي في الآية ـ لما يعمل به بعد الموت، وإلا تصح الوصية في غير ما بعد الموت لكن المراد بالآية هنا الوصية هنا التي يمكن أن تقع بعد الموت ، فأنت مثلاً تريد أن تسافر تريد أن تفارق أحداً تقول له أوصني فيوصيك ،هذا لا علاقة له في شيء بعد الموت لكن الوصية هنا المقصود بها الوصية التي تقع بعد الموت { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } يأتي هنا ـ حتى تفهم القضية إشكال ـ ثمة آيات في القرآن اسمها آيات المواريث ، آيات المواريث أعطت كل ذي حق حقه وهنا قال الله جل وعلا { لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ } مع أن الوالدين في المقام الأول دخلا فيمن ورثهم الله وكذلك جملة من المقربين وقال - صلى الله عليه وسلم - :" لا وصية لوارث " فازدحم عند العلماء نصان ظاهرهما التعارض، ولما يزدحم نصان شرعيان لذلك تختلف طرائق أهل العلم في فهم النصين ، واختلاف طرائق أهل العلم في فهم النصين هو المضمار الذي تجري فيه أقدام العلماء فيميز عالم عن(7/2)
عالم فمثلاً ثمة نصوص ـ يا بني ـ قطعية الله جل وعلا يقول { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } هذا نص قطعي فلا يوجد دليل على رجحان علم زيد على علم عمرو لأن المسألة لا تحتاج إلى بحث هذا نص قطعي .لكن مثل هذه النصوص هي التي تعمل فيها الأفهام وأحياناً تزل فيها أقدام وهي المضمار الحق الذي يميز العلماء وهي التي يتلذذ أهل العلم في فهم كلام الله من خلال أضرابها وأمثالها في القرآن وهذا مهم جداً و على هذا نقول : سلك العلماء رحمهم الله في فهم هذه الآية مقارنة مع ما سلف.
1/منهم من قال: إن آية المواريث نسخت آية الوصية، فما جاء في آية المواريث نسخ قول الله جل وعلا: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ } فهم يرون أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث وبقرينة إضافية عظيمة وهي قوله عليه الصلاة والسلام :" لا وصية لوارث " والوالدان من الورثة قطعاً من حيث الأصل .
2/ فريق آخر قال : لا نجنح إلى النسخ ولكن نجنح إلى التخصيص: فنقول إن جريان آيات المواريث جارية على ما هي عليه ، وآية الوصية تعتبر مخصصة أو أنك تجعل آية المواريث مخصصة لقول الله جل وعلا.(7/3)
فيصبح المعنى كالتالي : لما فرض الله جل وعلا في آية المواريث للوالدين حقاً خرجا من آية الوصية وبقي الوالدان اللذان ليس لهما إرث ، ومتى يكون ليس للوالدين إرث؟ إذا كان كلاهما أو أحدهما كافراً فإنه لا إرث له لأن الكافر لا يرث المسلم ، فقالوا : "نعمل آية المواريث على الوالدين المؤمنين ونعمل آية الوصية على الوالدين الكافرين" ـ يعني لو أن رجلاً من أوروبا اليوم أسلم وبقي والداه على الكفر وترك مالاً كثيراً فقطعاً لو مات وفق شرعنا الحق المطهر لا يرث الوالدان منه شيئاً لأن اختلاف الدين يمنع الميراث هنا قالوا تجري عليه آية الوصية فلو أوصى لوالديه أو أحديهما صحة الوصية ـ وبقيت الآية كما هي محكمة غير منسوخة ، لأن ما معنى منسوخ ؟ أي لا يعمل بالحكم البتة ، فقالوا نقول بالتخصيص ولا نقول بالنسخ .(7/4)
3/ رأي ثالث قاله جمال الدين القاسمي رحمه الله مفسر الشام المعروف، لكن جمال الدين القاسمي صاحب كتاب التفسير المشهور اسمه " محاسن التأويل " هذا القول لم يذكره في تفسيره وإنما ذكره بعد أن أنهى التأليف ذكره في مذكرات عنده في مذكرة كان اسمها " السوانح " كان يكتب فيها وقف عليها الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي رحمة الله على الجميع ثم أخرجها للناس قال في هذا أي جمال الدين القاسمي يقول : إن آية المواريث على بابها وآية الوصية على بابها وإن المعنى ليست الوصية في قول الله جل وعلا { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ } يقول ليس المعنى إن الإنسان يقول : أوصيت كذا وكذا كما فهم العلماء ، يقول" ليس هذا المقصود وإنما المقصود أن هذه الآية تبين أنه لا يجوز للمؤمن أن يغير آية المواريث ". قد يكون فهم كلامه صعب لكن أعيد شرح ـ هو يقول: إن الله فرض للوالدين فرض للأقربين ثم قال: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ } أي أنه لا يأتي الرجل فيغير الميراث الذي شرعه الله للقرابة بأي طريقة كانت حتى يحرمهم بطرائق ملتوية وإنما يتذكر أن الله جل وعلا فرض للوالدين وبعض الأقربين إرثاً فيجب إمراره كما كتبه الله جل وعلا واتخذه لهم ، ثم قال رحمه الله قال : " ولم أقف على أحد قال بهذا القول من قبل " ،من القائل ؟ جمال الدين القاسمي، وأقول : أنا ولم أقف على أحد قال بقول جمال الدين القاسمي لا قبله ولا بعده وهو رأي معتبر لكن جمهور العلماء على فريقين فريق جعل الآية منسوخة وفريق جعل الآية مخصصة بآية المواريث هذا معنى قول الله جل وعلا :{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } .(7/5)
قوله جل ذكره { حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } قرينة على أن الوصية ليست واجبه لأنه قال { حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } لمن يرتفع في أمره ولو كانت واجبة لما قال { حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } تصبح حقاً على جميع المؤمنين وإن كان القائلون بالوجوب يحتجون بحديث مسلم حديث ابن عمر :" ما من امرئ مسلم يمسي ..." إلى أخر الحديث فيه وجوب الوصية .
قول ربنا جل وعلا { إِن تَرَكَ خَيْراً } كلمة { خَيْراً } فيه إشعار بأمرين : أولاً معناها : ترك مالاً لكن ليس شرطاً أن يكون المال معدود ، العقار يسمى مال، فقوله الله جل وعلا { خَيْراً }جاء في القرآن تسمية المال بالخير أين ؟ في العاديات الآية { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } أي لحب المال، قلنا لفظ كلمة { خَيْراً } لغوياً يشعر بأمرين:
1. يشعر بالكثرة .
2. وفي نفس الوقت يشعر بأنه ذالكم المال المكتسب من طرائق مباحة .
{ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ{180} فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}هنا في قول ربنا :{ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ } يخاطب به كم ؟ يخاطب به ثلاثة أصناف ، أنت تصور الموقف رجل يوصي لشخص يجعله قيماً على الوصية ، وشهود يحضرون الوصية فأصبح المخاطب كم ؟ ثلاثة واحد ما ذكرته سيأتي عقلا.
المخاطب الأول : الشهود، فكيف يكون تبديلهم إذا بدلوا ؟ يكون التبديل بكتمان الشهادة أو تغيرها وحذرهم الله من التبديل والمخاطب الشهود لعدم كتمان الشهادة .
الثاني : الموصى إليه القيم على الوصية الذي سينفذها فيكون تبديله بماذا ؟ بتغير الوصية أو تحويرها فنهاه الله جل وعلا عن تغير الوصية أو تحويرها ، إلى الآن كم صنف مضى ؟ صنفان الشهود، والموصى إليه أي القيم، بقي الثالث .(7/6)
الثالث : الورثة ، كيف يكون الخطاب للورثة ؟ لئلا يسعى الورثة في تغيير الوصية ـ رجل مثلا يملك عشرة ملايين وأوصى بِخمسها ( مليونان ) ،هذان المليونان شق على الورثة أن تصرف لغيرهما فيأتيان إما للموصى أو للشهود فيرشونهم على أن الميت لم يوصي بشيء فيكون صنيع الورثة تبديل للوصية ، فقول أصدق القائلين { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ } يخاطب به كم ؟ ثلاثة : 1.الشهود . 2. والموصى إليه . 3. والورثة ، وكلٌ له نوع من الخطاب { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } فلو فرضنا أن الميت أوصى بقضاء دينه فجاء الموصى إليه أو الورثة أو الشهود وكتموا هذا ومات الرجل ولم يقضى الدين ، يأثم الميت أو لا يأثم ؟ لا يأثم لأن الله يقول في آية محكمة { لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ، ويقول هنا { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .(7/7)
ثم قال أصدق القائلين: { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } تصور الحالة رجل شعر بدنو أجله وعنده مال كثير حصره فأتى بالورثة أو لم يأتي ببعضهم وأراد أن يوصي فاستدعى مثلاً إمام مسجد أو رجلاً كبير في السن أحد الناس المعروفين ليملي عليه الوصية وأنت حاضر فوجدت أن هذا الموصي وكس وشطط في وصيته ، نأتي بمثال جيد واضح هو لم يترك إلا مئة ألف ، و مئة ألف في زماننا هذا قليلة وترك ست بنات وست أبناء وترك زوجتين أو وترك عدد كثير ممن يرثه ، ولم يترك إلا مئة ألف أو خمسين ألف ثم جاء فقال الثلث في الصدقة لا شك أن الثلث من المائة لا يبقي منها إلا ستون ألف أو خمسة وستين ألف تبقى من المائة وتذهب ثلاثون وفي هذا ضرر على الورثة لأنهم كثيرون زوجتان وست أولاد وست بنات ماذا سيصيبهم من الستين ألف ؟ فأنت وأنت حاضر قلت له ممكن أن تدخر لنفسك شيء في الآخرة لكن الثلث هنا غير محبب فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال لسعد ومال سعد كان كثيراً قال له :" الثلث والثلث كثير " حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما " وددت أن الناس نزلوا عن الثلث " وأبو بكر ترك مالاً لما أراد أن يوصي أوصى بالخمس وقال " اخترت ما اختار الله لنفسه { فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ } فوصى بالخمس فأنت تأتي من مئة ألف تقول الثلث ، فكلامك هذا نوع من الإصلاح فالله جل وعلا يقول:
{ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً } ما الجنف ؟ الجنف : عدول عن الاستواء ،( الميل).
والفرق بين الجنف والإثم : أن الجنف يكون بغير عمد ـ يجور الإنسان بغير عمد ـ أما الإثم فهو الجور بعمد.أما إن كان خطأ وجهلا يسمى جنفا .(7/8)
قال ربنا { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً } لأن بعض الناس عياذاً بالله يحب الفخر وهو قد يترك مليون ويعلم أن في الورثة فقراء ، شباب من أبنائه ما تزوجوا وبعض أبنائه فيه عاهات يحتاج إلى علاج ، وبعض بناته تحتاج إلى مال حتى يرغب فيها الخطاب ، لكنه يقرأ في الصحف مدح الناس فيقول أوصيت بالثلث لبناء مسجد ، أو الثلث لدار أيتام ، أو الثلث للجمعية الخيرية اللي في آخر الدنيا ، وهذا بلا شك ضرر بالورثة وأحياناً يكون من ورائه حب الفخر حب المدح من الناس طبعاً نحن لا ندخل في النوايا نحن نتكلم عما أراد الشرع منعه لأن الجاهليين كانوا كذلك ، فقال ربنا: { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً } على ما يغلب على ظنك وأنت حاضر {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ }بين الميت وبين الورثة { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
هنا يرد إشكال لازم تقرأ القرآن بعقل بتدبر ، الآن عندما يأتي إنسان ويحضر مجلساً ويرى من الوصي من الميت الذي يريد أن يوصي يرى منه ميلاً إلى الإثم فيعدل القضية ويصلح ويجعل الأمر يتسق على مساره الشرعي الصحيح هذا العمل ذنب أو عمل صالح؟ عمل صالح لكن قالوا إن الله قال { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ }ثم ذيلت الآية بقوله تبارك اسمه { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قالوا كيف يستقيم { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } مع عمل صالح؟ فلابد أن توَجه الآية ، وقلنا إن توجيه الآيات هو المضمار الذي تجري فيه أقدام العلماء.
توجيه الآية على الأظهر كالتالي يصبح المعنى " إن الله غفور للموصي إذا ذكر وتذكر رجع عما كان عليه ، ورحيم بالمصلح الذي أرشد ودل الموصي على الصواب " هذه هي آية الوصية في كلام الله .(7/9)
* ثم قال الله جل وعلا في آية أحكام أخرى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{183} أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } إلى آخر الآيات ، قلنا سنشرحها وفق منهج المفسرين ليس وفق طرائق الفقهاء وأخيراً سنصل إلى جواب واحد.
قول ربنا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } قلنا هذا نداء كرامة ليس نداء علامة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ } كتب هنا بمعنى فرض { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } الصيام معروف في اللغة : الإمساك ، وفي الشرع واضح ، من العلم أن لا تشرح شيء يعرفه الناس كلهم ،كل الناس تعرف ما هو الصيام .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } الذين من قبلنا اليهود والنصارى لكن السؤال في الكاف تحتمل كم معنى ؟ ثلاث معاني :
تحتمل كما كتب في الزمان والوصف والمقدار .
فإذا كان المقصود بالمقدار: يصبح يصومون ثلاثين كما نصوم كانوا يصومون ثلاثين كما فرض علينا ثلاثون هذا إذا قلنا في المقدار .
وإذا قلنا في الزمان: أي أنهم كانوا يصومون رمضان كما نصوم رمضان .
وإذا كان في الوصف :يكون يصومون عن الطعام كما نصوم عن الطعام لأنه قد يكون أنه فرض عليهم الصيام عن الطعام والصيام عن الكلام ، وقد فرض علينا عن الصيام عن الكلام لكن أي كلام ؟ الزور " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " إذاً كم حالة؟ ثلاث ، أيها هو المقصود ؟(7/10)
أنا أعطيك فائدة يا بني ليست ملزماً بسؤال السائل اعمل عقلك، فعندما قلت أنا أيها المقصود لا يلزم أن نعرف ما هو المقصود لأننا حتى نعرف هل هو بالزمان أو بالمقدار أو بالوصف لابد من دليل ونحن لا نعلم دليلاً لأن الله لم يقل لنا إنها في الزمان ولم يقل لنا إنها في المقدار ولم يقل لنا إنها بالوصف ،لكن قلت في أول الكلام تحتمل كم معنى ؟ ثلاثة لكن هل تحتملها كلها هل اثنين منها هل واحدة علمها عند ربي .
{(7/11)
كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{183} أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } ثم قال جل شأنه { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } هنا قبل أن نفصل في شيء مهم من أجل أن تفهمونه فهم الناس ما هي الأيام المعدودات ؟ جمهور المفسرين على أنها رمضان لأن الله قال: { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وهذا عندنا مرجوح معنى الآية حتى تفهم سأقولها إجمالاً ثم أفصل " الصواب الذي نراه أن الصيام فرض قبل أن يفرض رمضان يعني فرض صيام لكنه ما قرن برمضان ، رمضان جاء متأخراً ، فرض أيام لكن ما هي الأيام هل هي ثلاثة أيام من كل شهر هل هو يوم عاشوراء وما قبله وما بعده ؟ يحتمل هذا ،هذا الصيام في الأول كان أياماً معدودات لكنه كان واجباً على التخيير لا على التعيين ، ما معنى واجب على التخير لا على التعين ؟ يعني أن الناس كانوا مخيرون ما بين الصيام أو الفدية في صيام الأيام التي قلنا ممكن أن تكون ثلاثة أيام من كل شهر أو أن تكون عاشوراء" فيصبح قول الله جل وعلا : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قال الله :{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } يطيقون ماذا ؟ صيام أي أيام ؟الأيام المعدودات { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}فأخبر جل وعلا بالفدية فأصبح إما أن تصوم وإما أن تفدي { َمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } أي جمع ما بين الفدية والصيام ، ثم قال جل وعلا: { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } خير لكم من ماذا ؟ من الفدية{ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } كل هذا تمهيداً لئن يأتي صيام رمضان ، فأيام معدودات ليس كما فهمها جمهور العلماء على أنها تعود على رمضان محال لأننا نعلم في اللغة بعيد جداً أن يقال لشهر كامل أنه أيام معدودات ، فيصبح أن الصيام ليس رمضان أن الصيام فرض أياما(7/12)
معدودات وهذا كان الصيام فيها واجب على التخيير لا على التعيين والإنسان مخير ما بين الفدية وما بين الصيام ولكن الله قال :{ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ثم جاء فرض رمضان بتمهيد فضل رمضان قبل فرضه فقال أصدق القائلين { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } إلى الآن لا يوجد فرض ، أين الفرض ؟ { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } يعني قول ربنا :{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } هذا إخبار بفضل الشهر ، أين وجوب الصوم ؟ في قوله جل ذكره { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } .
الآن انتهينا من الأيام المعدودات فأصبح هذه الآيات ناسخة للآيات التي قبلها قال جل وعلا :{ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ } التقدير فأفطر { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}منها فهم العلماء ومن أضرابها من الآيات قاعدة أصولية " أن المشقة تجلب التيسير " قال الله :{ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }.
قد أسس الفقه على نفي الضرر** وأن ما يشق يجلب الوطر
ما معنى الوطر؟ السعة والتخفيف { وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ } خطاب لمن ؟ لمن أفطر { وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } خطاب لمن ؟ لمن أدرك الشهر حتى أدرك ليلة العيد { وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.
قال الله في الآيات { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } للعلماء في معنى الآية قولان :(7/13)
1/ قول ينسب ويروى عن حبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى الآية أن القرآن أنزل كاملاً في رمضان إلى بيت العزة في السماء الدنيا فيصبح معنى قول الله جل وعلا : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } أي أنه أنزل كاملاً إلى بيت العزة في شهر رمضان .
2/القول الثاني وهو الذي نرجحه : وهو أن معنى الآية أن أول ابتداء نزول القرآن في شهر رمضان وأنه أول ما أنزل أُنزل في ليلة القدر وليلة القدر قطعاً إنها من رمضان لأن الله قال :{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } وقال: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } فالليلة المباركة هي ليلة القدر ، نأخذ قليلاً في ليلة القدر وفق القرآن .
* قال بعض العلماء : "إن ليلة القدر هي ليلة السابع عشر من رمضان" وهذا القول قول ابن مسعود وقول أحد الصحابة ،قال به بعض المتأخرين ، ما الدليل ؟ لأن الله قال :{ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } فيوم الفرقان بالاتفاق هو يوم بدر ويوم بدر بالاتفاق هو يوم السابع عر من شهر رمضان ، هذا قول من قال أنها يوم السابع عشر .
*وجمهور أهل العلم وجمهور أهل العلم على أنها في العشر الأواخر، ثم اختلفوا في تحديد العشر الأواخر.
* نقل عن عكرمة تلميذ ابن عباس رضي الله عنهم أن ليلة القدر هي ليلة النصف من شعبان ،هذا قول عكرمة لكن هذا القول وإن قال به إمام جليل مثل عكرمة إلا أنه يرد لمخالفته النص لأن النص القرآني يقول :{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } وليلة النصف من شعبان قطعاً ليست من رمضان .
هذه أقوال العلماء في قول الله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } بقي إشكال في الآية ، الله يقول :
{(7/14)
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى } فكرر الهدى كم مرة ؟ مرتين فأما المقصود بالهدى الأول فهو الهدى الشائع الذائع الذي يعرفه كل أحد قرأ القرآن وأما المقصود بالهدى في الثاني فهو : الهدى الذي لا يوفق إليه ولا يستنبطه إلا العلماء ولهذا قال :{ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } قبل أن نختم ، الاستنباط من القرآن ثم تحرير المعنى منزلة عالية في العلم ، والإمام الذهبي رحمه الله العالم المشهور له كلمة عبارة فقيهه ووعظ في آن واحد وقلما يجمع إنسان بين الفقه والوعظ لكن الذهبي قال وهذه عبارة يحسن تدوينها قال " وعند المسلمين مقرر أن من أفطر يوماً من رمضان من غير عذر فهو شر من الزاني ومن مدمن الخمر ويظنون به الزندقة والانحلال " أعاذنا الله وإياكم، هذا لأن الله جل وعلا قال :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } و قال: { شَهْرُ رَمَضَانَ } و{ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول :" بني الإسلام على خمس ..وصوم رمضان " ثم يأتي إنسان فيفطر من غير عذر ! فكلام الذهبي رحمه الله كلام إمام عالم جليل يستنبط من الكتاب والسنة.
انتهى درس التفسير نتحول إلى درس النحو .
نتحول إلى درس النحو، كنا أخذنا في اللقاء الماضي علامات الاسم ، وقلنا أنني لست ملزم بشرح الألفية كاملة لكن أقربها لك ،قدر الإمكان.
البيت كما يلي :
بِتَا فَعَلْتَ وَأَتَتْ- وَيَا افْعَلِيْ ** وَنُونَ َأقْبٍلَنَّ – فَعَلُ يَنْجَلْيْ
البيت السابق كان يتكلم عن علامات الاسم ، هنا عن علامات الفعل .
أولا نشرح البيت إجمالا : البيت معناه كالتالي : ينجلي الفعل ويعرف بطرائق أربع :(7/15)
إجمالها في أنه يقبل تاء الفاعل ، وتاء التأنيث الساكنة ، وياء الفاعلة ، ونون التوكيد بشقيها الخفيفة والثقيلة .
واضحة ؟؟ ليست واضحة لأننا ما شحنا شيء .
نعود إلى شرح البيت : قال الإمام ابن مالك – رحمه الله تعالى :
بِتَا فَعَلْتَ وَأَتَتْ- وَيَا افْعَلِيْ ** وَنُونَ َأقْبٍلَنَّ – فَعَلُ يَنْجَلْيْ
هو تكلم عن علامات الفعل ، معنى علامات الفعل أي أن هذه العلامات لا يصح أن تحلق الأسماء ولا أن تلحق الحروف ، لأن الكلمة إما اسم أو فعل أو حرف ، فقال رحمه الله :
(بِتَا فَعَلْتَ) قصد بتاء فعلت "تاء الفاعل" .وتأتي كالتالي :
? وتأتي مبنية على الضم في المتكلم ، أكثر الناس خرجوا لا يحبون النحو ، ولكن لا يمكن الوصول للعلم بدون
نحو ، نعود مبنية على الضم مثل : قرأتُ الكتاب ، فالتاء هذه تاء الفاعل مبنية على الضم .
? وتأتي مبنية على الفتح في المخاطب ، تقول : أنت سافرتَ إلى جدة ، أين التاء هنا ؟ سافرتَ، ويأتي مثال الآن نقول بيت شعر
? و تأتي مبنية على الكسر في المخاطبة ، تقول: أنتِ كتبتِ الدرس .
شوف يا بني : التاء في (قرأتَ، والتاء في سافرتُ والتاء في كتبتِ ) كلها تبنى على الضم في الأول وعلى الفتح في الثاني على الكسر في الثالث لكنها في كلا الأحوال هي ماذا ؟ هي فاعل ضمير متصل مبني في محل رفع فاعل ، هذا أول خصائص الفعل وهو أنه يقبل تاء الفاعل وهو معنى قول ابن مالك : ( بتا فعلت) .
الخصيصة الثانية : عبر عنها ابن مالك بقوله : " وأتت " ويقصد تاء التأنيث الساكنة ، التي تلحق آخر الفعل الماضي لتدل أن الفاعل مؤنث أو أنه يأخذ حكم المؤنث ، مثل: سافرتْ سعاد إلى جدة ، أين فاعل سافر؟
سعاد، لكن التاء تاء تأنيث لأن الفاعل مؤنث ،والتاء هذه ساكنة .(7/16)
قلت قبل قليل: " لتدل أن الفاعل مؤنث أو يأخذ حكم المؤنث" الفاعل مؤنث هذه ظهرت لكن " يأخذ كحم المؤنث" مثل ماذا ؟ (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا) فالفاعل إذا كان جمع تكسير يمكن معاملته معاملة المؤنث ، وكمان هذا استطراد
انتهينا الآن من كم علامة ؟ من علامتين ، قال ابن مالك :
بِتَا فَعَلْتَ وَأَتَتْ- وَيَا افْعَلِيْ
ويا افعلي : قصد ابن مالك ياء المخاطبة ، التي تأتي فاعلا ، وقال رحمه الله :" يا افعلي " احترازا من ياء الضمير ، لأن ياء الضمير تلحق الأفعال و الأسماء ، مثال على " يا افعلي " : اكتبي الدرس . هذا في الأمر ، كما أنها تلحق المضارع ، تقول : أنتِ تكتبين الدرس .
آخر العلامات نون التوكيد ، وعبر عنها الإمام مالك بـ" نون أقبلن" .
1. نون توكيد خفيفة ... 2. ونو توكيد ثقيلة
وهي تلحق الفعل ، جاءت في القرآن نون التوكيد الثقيلة في قوله جل ذكره : (لنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ) ، وجاء الخفيف لكنها رسمت ألفا منونة ولم ترسم نونا ، لكن الأصل أنها نون، ما الموضعان ؟
1.( لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) ، 2.( وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ) في يوسف .
ليست هذه العلامات وحدها مما يختص به الفعل فله علامات أخر منها :
دخول قد ، والسين وسوف كما هو محرر في كتب المفصلات .
ننهي الدرس النحوي :
بقي من أقسام الكلمة "الحرف"، وما علامة الحرف ؟؟
لا يقبل علامات الأسماء ولا يقبل علامات الأفعال، فما لا يقبل علامات الأسماء ولا يقبل علامات الأفعال فهو قطعا حرف.
1.حروف مختصة . 2. وحروف غير مختصة .
1. الحروف المختصة : تنقسم إلى قسمين ، هي بالعقل أقسام الكلمة ثلاثة ونتكلم عن الحروف ما باقي إلا الاسم والفعل ، فينقسم إلى قسيمين :
أ قسم يختص بالأسماء: مثل حروف الجر ، لأن عقلا الأفعال لا تجر .
ب وقسم يختص بالأفعال : مثل حروف الجزم .(7/17)
2.وأما غير المختصة : وهي ما يقبل الدخول على الاسم والفعل، مثل: هل ، تقول : هل محمد سافر؟ وهل سافر محمد ؟ . انتهينا نأخذ التطبيق، اكتبوا بيتا نعربه كاملا حتى تتعلمون ، والعلم يأتي مع الأيام .
قال الطُغُرَاِئي - رحمه الله -:
إن العلا حدثتني وهي صادقة ** ، أنتم طلبت علم لا بد نأتي بأبيات تناسبكم .
إن العلا حدثتني وهي صادقة ** فيما تحدث أن العز في النقل ، هذا مفروض يحفظ ، وليد أنت تطبقه و وليد آتي من مكة .
إن العلا حدثتني وهي صادقة ** فيما تحدث أن العز في النقل
هذه لامية الطغرائي يجب حفظها أكثر أبياتها ، بعدها غير مقرر
لو أن بها بلوغ شرف ... لم تبرح الشمس دارة الحمل
فإن أرادت نجاحا أو بلوغ منى ... فاكتم أمورك عن حاف ومنتعل
وإنما رجل الدنيا و واحدها ... من لا يعول في الدنيا على رجل
نعود للبيت ، معنى البيت أن من أعظم أسباب العلا السفر والتنقل ، والإنسان يترك الأرض التي هو فيها إذا ضيم ويذهب إلى أرض يرفع فيها قدره ، وأفضل الرحلات والتنقل في طلب العلا ، وهو يقول رحمه الله : "إن العلا " معالي الأمور، حدثتني وهي صادقة فيما تحدث ، أن العز في النقل، الآن الناس يريدون أن يكرمون ضيف يأتون له بعود ( بخور) ، هذا العود في مكانه نوع من الحطب ، لكن لما انتقل أصبح مفخرة ، وكذلك كل شيء متحرك متنقل يبحث عن مجد يصل ،أما الماكث الساكن لا يصل إلى شيء، وتعلمون كانت الرحلة في طلب العلم ، مالك رحمه الله كان يدرس في المدينة ومات وعمره تقريبا ست وثمانون رحمه الله ، وممن انتقل إليه أسد ابن الفرات رحمه الله جاءه من المغرب ، فمكث عن مالك سنين يأخذ عنه العلم، ثم أراد مسائل تفصيلية فلما أراد مسائل تفصيلية قال له الإمام مالك رحمه الله : اذهب إلى محمد ابن الحسن، محمد ابن الحسن أين ؟ في العراق تلميذ أبو حنيفة ، صاحب أبو حنيفة المشهور، اذهب إلى محمد ابن الحسن ، قبل أن يخرج أسد ابن الفرات قال لمالك: أوصيني .(7/18)
قال : أوصيك بـ :
1.بتقوى الله العظيم . 2. وبالقرآن . 3. و مناصحة هذه الأمة .
بكم وصية ؟ ثلاث ، ومالك مالك قال ماذا ؟ أوصيك بتقوى الله العظيم ، والقرآن و مناصحة هذه الأمة .
خرج أسد ابن الفرات بعد أن أخذ كثيرا من علم الأثر كالموطاء من مالك وتوجه إلى العراق ، فأخذ مسائل من محمد ابن الحسن( المفرع) ، ثم أراد أن يقيس علم محمد بن الحسن إلى علم مالك ، فكان مالك قد مات فذهب إلى عبد الرحمن ابن القاسم رجل لازم مالك عشرين سنة فعرض عليه مسائل يريد أن يرى رأي مالك مقابل رأي من ؟ محمد ابن الحسن ،
فعبد الرحمن ابن القاسم أملى على أسد ابن الفرات المسائل على أربعة أوجه :
1. مسائل بالرواية عن مالك ، يقول قال مالك أخبرنا مالك حدثنا مالك بالنص .
2. ومسائل يقولها بالرجحان لا باليقين ، يقول أظنه قال كذا ، أخاله قال كذا ، أحسبه قال كذا .الآن كم فرع ؟ فرعان
3. ومسائل يقول لا أذكر لمالك قول ، لكن سؤال عن مثلها فقال كذا .
4. الفرع الرابع قال : لا أعلم لمالك فيها قولا ولا نظير ، لكني أجيبك على أصول مذهب مالك .(7/19)
فدونها أسد ابن الفرات عنده فأصبحت المدونة في أول أمرها على كم قسم ؟ على أربعة أقسام ، ثم إن أسد ابن الفرات أملى هذه المدونة على سحنون رحمه الله أحد كبار علماء المالكية ، فأخذ سحنون مدونة أسد ابن الفرات ، ثم بدى له أن يراجعها على من على ؟ على ابن القاسم ، الذي أخذها منه أسد ابن الفرات ، فارتحل بالمدونة وقال له إن أسد أملى علي وأنا هذا وأنا أريد أن أراجعه عليك فلما راجعه عليه غير ابن القاسم من طريقته ، فألغى كلمة أخال وأحسب أظن ، حذفها من المدونة وأجاب إما بأقوال ثابتة عن مالك وإما بأقوال مبنية على أصول مذهب مالك ثم كتب ابن القاسم إلى أسد ابن الفرات أن طابق المدونة التي عندك على مدونة سحنون ، فوافق في أول الأمر ثم رفض ، فانصرف الناس عن مدونة أسد ابن الفرات إلى مدونة سحنون ، فالمدونة الآن في الفقه المالكي هي مدونة سحنون وهي رواية معتبرة في مذهب مالك . هذا خروج عن الدرس لكن أبين لك كيفية طلب العلم .
نبدأ نعرب :
إن : حرف ناسخ يفيد التوكيد ، مبني لماذا مبني ؟ لأن الحروف كلها مبنية .
العلا : اسم إن منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة منع من ظهروها التعذر ، لأن العلا مختومة بألف .
قلت أنا في اللقاء الماضي من أراد أن تعلم النحو فليذهب إلى الجزار ، قلنا إن الجزار يضع اللحم على شيء مرتفع ، ثم يقطعها يسألك تريده للضيوف أم لثلاجة ؟ ثم يقطع بعد أن يفقه كذلك النحو ، الآن خذوا" حدثتني " هذه ضعوها على شيء عالي ؟
حدث : فعل، في أي زمن ؟ ماضي والأفعال الماضي كلها مبنية ،خلصنا .
حدث : فعل ماض . حدثت : التاء تاء تأنيث ، أين الفاعل ؟ ضمير مستتر تقديره هي ، يعود على من ؟ يعود على العلا .(7/20)
حدثتني: الياء ما إعرابها ؟ ضمير متصل مبني في محل نصب مفعول به ، لأنه وقع الحديث عليه . في حرف تركته أنا ما هو ؟ النون ، ما معنى نون الوقاية ؟ تأتي قبل ياء المتكلم ، أنت أحيانا لا أحد يزعل تروح لناس مترفين شوي ، فإذا جابوا شاهي جابوا تحته إناء، ليش يضعون صحن صغير تحت الفنجان؟ عشان الفراش ما يصير فيه بقعة ولا ينكب ولا ينسكب ، فيضعونه ليقوا الفراش زين ، الآن حدثتني : حدث هذا فعل ، والياء ياء المخاطب ، ياء المخاطب تقول : أنا ما أحد يتصل بي إلا يكسر حرفه الأخير .
تقول : كتابِي ،غلامي ، سيارتي ، لا بد يكسر، والفعل يقول : أنا لا يمكن أنكسر.خبل وخبل ما يمكن يصلح بينهم إلا واحد عاقل ، فجاؤا بالنون نون الوقاية ووضعوها بين الاثنين وقالوا : هذه نون الوقاية تقي الفعل الكسرة ويصبح مكسورا إذا اتصلت بياء من ؟ بياء المتكلم ، حتى العلوم كلها ، تشبه بعض الآن تبغى تصلح شيء تجيب كهربائي شيء يسموه توصيلة ، هذه توصيلة بس النحاة سموها نون الوقاية حرف لا محل له من الإعراب .
إن العلا حدثتني وهي صادقة **
الواو واو الحال ، فالجملة التي بعدها جملة حالية .
وهي : ما إعراب "هي "؟ ضمير منفصل مبني في محل رفع ( اسم جاء في أول الكلام ما إعرابه ؟) مبتدأ .
صادقة : خبر ، وهي مبتدأ ، شكلت جملة إسمية ، والواو واو الحال إذا ما نوع الحال هنا ؟ جملة اسمية ، فيقال والجملة الاسمية في محل نصب حال .
وهي صادقة فيما تحدث:في : حرف جر ، وما :موصولة بمعنى الذي ، في محل جر .
فيما تحدث : تحدث فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة ، لماذا مرفوع ؟ لم يأتي قبله ناصب ولا جازم .
فاعل تحدث " هي " .
أن العز في النُقل : أن :حرف ناسخ ، والعز : إسم أن ، وفي : حرف جر ، والنقل :اسم مجرور .
أين خبر أن ؟ شبه الجملة .
أن وما دخلت عليه في محل نصب مفعول تحدث .(7/21)
فيما تحدث أن العز في النقل " كل الجملة جملة ماذا ؟ صلة ما لا محل لها من الإعراب ، بعد هذا تقول الجملة كلها بفاعلها ومفعولها ، صلة الموصول لا محل لها من الإعراب . انتهى الدرس .
س: يقول : قال تعالى : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً) كيف نعمل الآية مع الثلاثة التي ذكرت عنها مع قوله تعالى .
الجواب : لا يوجد علاقة ، هنا الصيام صيام عن ماذا ؟ صيام عن الكلام ، ما في علاقة بين هذا وهذا .
س: يقول هل علي شيء إذا أفطرت وأنا صائم للقضاء ؟مثل نويت أصوم الخميس وأفطرت .
الجواب : أسأت كثيرا ، واقضي هذا اليوم يعني يوم واحد .
س: يقول أرجوا أن تعيد طرائق الفعل الأربع .
الجواب : يقبل تاء الفاعل ، و تاء التأنيث الساكنة ، وياء الفاعلة ، ونو التوكيد بقسميه .
س: يقول : هل المسافر من جدة إلى المدينة تسقط عنه النوافل والسنن الراتبة ؟
الجواب : تسقط عنه السنن الراتبة إلا ركعتي الفجر ، أما النوافل فليصل ما شاء الله له أن يصلي .
س: يقول : إذا كان الشخص قبل النوم يتوضأ ويقرأ ما تيسر من القرآن ، ولكنه يرى في النوم أشخاصا لا يعرفهم يعتدون عليه .
الجواب : هذه رأيا لا علاقة لها بما قبل ، هو مأجور على خير عظيم بصنيعه أنه ينام على وضوء ، أما هذه رؤيا إذا قام يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، ويتفل عن يساره ثم ينقلب عن جنبه الذي هو فيه .(7/22)
... ... ...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ،ومن يضلل فلن تجد له ولي مرشدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا نبينا محمد عبده ورسوله ، بلغ عن الله رسالاته ، ونصح له في برياته ، فجزاه الله بأفضل ما جزى نبيا عن أمته ، صلى الله و ملائكته والصالحون من خلقه عليه ، كما وحد الله وعرف به ودعا إليه ، اللهم وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يم الدين ، أما بعد
بلغنا الله وإياكم طاعته ، نحن في لقاء هذا اليوم سنتحدث إن شاء الله تعالى عن سورة ق ، وهي سورة مكية جاء في صحيح مسلم من حديث أم هشام بنت حارثة ابن النعمان : أنها قالت : " ما حفظت سورة ق إلا من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكثرة ما يقرؤها على المنبر يوم الجمعة " ، وقال العلماء كما ذكر الِبَقاعِيُ رحمه الله في نظم الدرر، ونظم الدرر: كتاب تفسير للبِقَاعِي رحمه الله ، وهو من أمتع كتب التفسير خاصة ما يتعلق بتناسب الآيات والسور كما هو عنوانه ، فمن كان يهيئ نفسه لطلب علم التفسير يحسن أن يكون هذا الكتاب في مكتبته يُراجع فيه بين الفينة والفينة ، لكن لا تطمع أبدا أن تبحث عن كتاب أو تقرأ في كتاب لا زلل فيه فهذا محال (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) فسائر الكتب التي يصنعها الناس لا بد أن يكون فيها شيء من القصور وإن كان القصور درجات منها ما هو مقبول ومنه ما يمكن أن يوجد له مساغ ومنها ما يرد بالكلية .
المقصود ذكر البقاعي في نظم الدرر – رحمه الله - : أن سورة الحجرات وهي السورة التي قبل سورة ق وفق ترتيب المصحف عَنيت بجانب علم الله ، وأما سورة ق فتبين كمال قدرته جل وعلا ، كما أن فيها الكثير مما يبين عظيم علمه جل جلاله.(7/1)
قال الله تبارك وتعالى في هذه السورة المباركة : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ{1} بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ{2} أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) إلى آخرالآيات ،وقلنا الدرس غالبا هو محك إيماني لأننا نحن لقاء إيماني ولقاء علمي ، فنقول والله المستعان :(ق) من فواتيح السور، والعلماء اختلفوا كثيرا في بيانها، والأرجح عندي والعلم عند الله : أنها أشبه بالأحرف التي تُعنى بفواتح الكلم في لغة العرب ، أشبه بالأحرف التي تُعنى بفواتح الكلم والجمل في كلام العرب ، وهذا قول قاله المراغي – رحمه الله – وهو من المفسرين المتأخرين وهو عندي أقرب الأقوال إلى الصواب .(7/2)
قال الله جل وعلا : (ق * وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ* بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ ٌ) الواو: للقسم بالاتفاق ، وأقسم الله جل وعلا بالقرآن المتلبس بالشرف في ذروته وأعلاه و كماله ، ولا ريب أنه لا مجد للكِلم يعلوا مجد القرآن لأنه كلام الله ، وقد مر معنا في لقاءات مضت ودروس خلت أن الله قال الله قال في الواقعة :(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ) فجاء قول الله جل وعلا : (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) أهل التفسير الذين يعنون بجانب بالإعجاز العلمي أخذوا يتحدثون أن مواقع النجوم مساقطها ، وأنها خفية لا يكاد يعلمها أحد وأن العلم المعاصر دل عليها ، ولهذا قالوا لأجل هذا قال الله جل وعلا : (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) قال الله بعدها ( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) فقالوا من أجل هذا قال الله هنا (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)وهذا لم يرد ، في آيات أخر أقسم الله بها ، ولكن الصواب إن شاء الله أن المعنى ليس ما ذهب إليه هؤلاء الأفاضل بأن المقصود مواقع النجوم أمر خفي ، ولكن على القول بأن مواقع النجوم هنا أي مواطن تنزل القرآن، لأن القرآن نزل منجما ، فيصبح قول الله جل وعلا : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) المسوغ لوجود هذا هو أن الله أقسم بالقرآن على القرآن .فيصبح قول الله جل وعلا : (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) قسم بالقرآن .
وجواب القسم يُعني بالقرآن نفسه .
((7/3)
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) جملة اعتراضية ليست جواب قسم اتفاقا ، لكن جواب القسم قول الله جل وعلا :(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)أي لا يبلى ولا تمل منه النفوس، على كثرة ما تسمعه وتتلوه وتقرؤه وتتدبره ، فإن القرآن يتلى في المحاريب منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، وإلى اليوم من فَطر الله قلبه على الإيمان نفسه على التقوى لا يمكن أن يمل أبدا أو يسأم من سماعه القرآن، بل إن المعيار الأعظم لمعرفة العبد مدى إيمانه كيف يكون حاله قلبه إذا تلي كلام الله جل وعلا عليه ، ولمثل ذلك قال الله: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) وأما كلام الناس فأي كلام للناس لو مكث أربعة عشرة قرنا يسمعه الناس ويرددونه ويحفظونه لمل الناس منه وسئموا وقالوا لقائله ابحث لنا عن جديد،أما كلام الله ، فكما أن الله خالق وما سواه ، فإن كلام البشر مخلوق مخلوق، وكلام الله منزل غير مخلوق منزل نزل به خير الملائكة جبريل على قلب سيد الرسل محمد صلوات الله وسلامه عليه .
نعود فنقول قال الله جل وعلا : (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) ولم يأتي جواب القسم والأصل تقديره : إنك لمنذر ومبشر ، فالقسم مؤتى به لبيان صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .(7/4)
ثم قال الله جل وعلا يحكي صنيع الكفار، قال : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ{1} بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) وما تعجبوا من حالهم أنهم يتعجبون ، وهو الذي ينبغي أن يتعجب منه، فكون رب العالمين جل جلاله يبعث إليهم رسولا من أنفسهم يعرفونهم ويعرفونه، بشر مثلهم علموا صدقه وأمانته ، وسيرته قبل أن يأتي بالقرآن والرسالة هذا ليس فيه عجيب ، لكن العجب أن يتعجبوا هم من أن يكون الرسول منهم، قال الله جل وعلا : (بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) ثم تعجبوا من أمر البعث ، قالوا: (أَئِذَا مِتْنَا) انفصلت أجسادنا عن أرواحنا ، (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً) ضللنا في الأرض ، اضمحللنا فيها وأجسادنا أصبحت ترابا كتراب الأرض، ويأخذون الحفنة من التراب يقول بعضهم لبعض : " من يميز هذا عن هذا، من يميز تراب من كان ميتا من تراب الأرض الأصلي؟؟" .
قالوا :(أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي بأن يقول قائل أو يأتي رسول فيزعم أن هذا الجسد الذي حال إلى تراب سيؤوب مرة أخرى و يجتمع مرة أخرى بعد أن تفرق يصبح قواما قائما ويعود صاحبه إلى حالته الأولى هذا قول لا تقبله العقول ، ولا يمكن أن تسلم له القلوب ، ولهذا قالوا بحسب زعمهم (ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) ومر معكم أنهم ينسبون إلى العاص ابن وائل أو الوليد ابن المغيرة أحد كفار قريش أخذ حفنة من تراب ، فأتى إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ، وفيها عظام قد أرمت ثم نفخ فيها وقال : يا محمد أتزعم أن ربك يحي هذه بعد موتها ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : "نعم ،و يدخلك النار" .(7/5)
وأنزل الله جل وعلا قوله : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ* الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ* أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ* إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .
فالله جل وعلا هنا يقول عنهم قالوا : (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) فقال الله جل وعلا يخبر عن أمرين عظيمين :
? كمال علمه.
? وكمال قدرته.
يخبر عن كمال علمه وكمال قدرته قال :( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) والله جل وعلا لا يحتاج إلى كتاب ، (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) لكن جرت سننهم في حفظ الأشياء أنهم يكتبون فعاملناهم بسننهم ، فقال الله : (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ) كتب الملكان أو لم يكتبوا، دون هذا أو لم يدون، شهد عليه الشهود أو لم يشهدوا ، جاؤوا شهدا أو لم يأتوا .
ثم قال الله جل وعلا على سننهم : (وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) فعليل بمعنى فاعل ، أي عندنا كتاب يحفظ كل ذلك ، وهو ما عند الله جل وعلا في الملأ الأعلى.
(قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) لكن الله يقول : "بل" وهذه لمن يكتب معنى للإضراب ، ( بل) هنا للإضراب .
((7/6)
بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ{2} أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ{3} قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ{4} بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ) "لما "هنا بمعنى حين ، يصبح المعنى: إن أعجب من هذا الذي يدعون أنه عجب ، العجب الحق أنهم كذبوا بهذا الرسول من حين أتاهم دون أن يكن هناك روية أو تأمل أو فكر أو نظرة أو تمحيص للمسألة .
((7/7)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ) والحق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم كل الشواهد العقلية و النقلية تدل على صدق رسالته صلوات الله وسلامه عليه (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ* بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) فكلهم يعرفونه صلى الله عليه وسلم وأنه لم يكن يعرف يقرأ ولم يكن يكتب ولم يكن يخالط معلما ولا مربيا ولم يكن أبوه حيا ولا جده ولم يأخذ من أحد ثم أتاهم بهذا النور المبين هذا لا يعقل أبدا أن يأتي من جهد بشري محض محال ، فإن من تربى عند الملوك والسلاطين والمربين والعلماء وأنتم المخاطبون الأوائل أي قريش أفصح الناس وأبلغ الناس ولكم مجامع وأسواق وأندية تتسابقون فيها ،وتخطبون فيها وتبينون قدراتكم فصاحتكم، عجزتم أن تأتوا بآية فكيف تقولون إن محمدا جاء بهذا القرآن من عنده وأنتم تعلمون أن محمد لم يكن يوما ما تحت مربي ولا تحت ملقن ولم يكن يوما يدرس ولا يقرأ ولا يكتب هذه حجة عليكم ، ليست حجة لكم كما قال الله : (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ* * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) هنا يقول الله جل وعلا : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ) هم أي قريش ، (فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ) مضطرب تارة يقولون ساحر وتارة يقولون كاذب ، وتارة يقولون شاعر ، كل يدلي بدلوه(فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ) والباطل دائما متفرق ومتشبع ، والحق يبقى على منوال واحد، سلك الله بي وبكم طريق أهل الحق .
((7/8)
فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ) ثم أقام الله جل وعلا الشواهد والدلائل على كمال ألوهيته قال: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا) بعين بصيرتهم حتى يستدل بعين بصائرهم ، حتى يستدلوا بعد ذلك ببصيرتهم ، (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء) قال جل وعلا : (فَوْقَهُمْ) ليبين أنها لا تحتاج إلى شد رحل، ولا إلى نقل مطي فهو أمر لا يكلف شيء أن ينظروا إلى أعلى ، (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ) وقد مر معنا الحديث عن السماء.
ثم ذكر الله جل وعلا آية أرضية قال : (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ) وهي الجبال بالاتفاق ،( وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ{7} تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) ، قول الله جل وعلا: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) ،حكم القرآن في أكثر من آية " أن من كانت لها جارحة ثم لم ينتفع بها فكأنما عُدِم تلك الجارحة" .
ولهذا قال الله جل وعلا: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) ، وإلا فالسماء والأرض لكل يراها ،لكن من لم ينتفع بسمعه ولا ببصره ولا بقلبه فكأنه لا سمع له و لا بصر له ولا قلب له ، لأن سمعه وبصره وقلبه لم يدلوه على رب العالمين جل جلاله .
قال الله جل وعلا : (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً) فالله حكم وقضى وأخبر أن المطر الذي ينزل من السماء مطر مبارك ، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يسارع إليه يحسر ثوبه عن ذراعه حتى يصيبه المطر، ويقول : " إنه حديث عهد بربي " .
ومن ما وصفه الله جل وعلا مباركا مواطن كثيرة في القرآن :
? وصف الله جل وعلا أرض فلسطين بأنها مباركة (إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) .
? وصف الله جل وعلا ماء السماء كما في الآية بأنه مبارك .(7/9)
? وصف الله بيته العتيق بأنه مبارك (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ).
? وجاء في السنة وصف لبعض الأمكنة بأنها مباركة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن
وادي العقيق الوادي المعروف في المدينة بأنه وادي مبارك وقال :( أتاني آت من ربي فأمرني أن أصلي ركعتين في هذا الوادي المبارك) فهو مبارك بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه.
قال ربنا : (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) هذه جنات من عيون فإن الزهر والورود وما يسمى بالياسمين وأمثاله هذا لا يأكل لكن تتلذذ به الأعين إذا رأته وتفرح،خالقهم رب العالمين.
(وَحَبَّ الْحَصِيدِ) القمح والبر هذا الذي يحصد ويطعم ، ولهذا قيده الله لأنه أنفع، قال (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) أي ما يجنيه الناس وينفعونه ، وكلا الشجرتين خالقهما رب واحد .
والإنسان مما يزده إيمانا بالله أن يرى الأشياء المتضادة فإن رؤية الضدين يزيدك يقينا برب المشرقين ورب المغربين جل جلاله ، وقد كان هناك رجل في أيام أمير المؤمنين عمر لا يحسن الكلام ، يعني لم يأته الله قدره على البيان وكان عمرو ابن العاص رضي الله عنه يضرب به المثل في الفصاحة وأحيانا يأتي هذا الرجل عند عمر فيعجز أن يبين مراده، ثم يأتي عمرو ابن العاص فيتكلم لغايته لحاجته فيفصح ، فكان أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يقول : "سبحان الله خالق الاثنين واحد" ، خالق هذا وخالق عمرو ابن العاص واحد .
والمقصود من هذا أن التأمل في الضدين يزيد المرء يقينا وإيمان برب المشرقين والمغربين .
قال جل وعلا : (جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) ثم خص النخل، وهذا ذكر خاص بعد عام .
((7/10)
وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ{10} رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً) جاء القرآن هنا بالشاهد (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) ، هؤلاء الذين لا يقرون أن هناك بعثا ونشورا عليهم أن يتأملوا كيف أن الأرض تكون ميتة ثم إن البذر فيها ... ، ثم ينزل عليه القطر من السماء بأمر الله ثم يكون هذا النبت والإحياء وكذلك الله تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة من الأرض، أما سائر بنيه فإنهم خلقوا من مني الرجال ، يخرج من أصلاب الرجال إلى أرحام النساء ثم يأتي الملك فينفخ فيه الروح ، وكذلك الموتى تكون الأرض مليئة بالموتى ، ثم هذه الأجساد عجب الذنب هذا الذي يبقى هذا أشبه بالبذر، فكل أحد يموت يبلى جسده إلا عجب الذنب ، فيبقى كالبذرة في الأرض ، لا يمكن أن يُعدم ، وقد مر معنا أن الذي لا يعدم ثمانية : وذكرنا منها عجب الذنب .
هذا يحتاج إلى ماء فإذا أذن الله ببعث الخلاق كرة أخرى تمطر السماء مطرا كمني الرجال فينزل هذا الماء على عجب الذنب في الأرض فيعود من جدد كل أحد إلى كمال خلقته التي خلقه الله جل وعلا عليه .
فالله يقول هنا : (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ{10} رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا) أي بالمطر (وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) كذلك تخرجون من قبوركم كذلك تحيون من موتكم(كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) .
ثم ذكر الله أمم قد سلفت ، وأزمنة قد مضت ، وقرون قد غبرت ، (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ{12} وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ{13} وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) نوح مر معنا كثيرا أول رسل الله إلى أهل الأرض ، عمر طويلا .(7/11)
والله جل وعلا ذكره في العنكبوت ، وذكره في العنكبوت مع خليل الله إبراهيم مسألة راقية في تدبر القرآن ، منزلة عالية لمن يفقه ذلك أن الله جل وعلا ذكر إبراهيم بعد أن ذكر نوح لأمر عظيم وهو أنه يوجد نار ويوجد ماء فالناس تتخلص من حر النار وشررها بماذا ؟ بإلقاء الماء عليها ، فالأصل أن النار مهلكة والماء منجي ، هذا الأصل فذكر الله جل وعلا خبر نوح وإبراهيم في العنكبوت (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) في سورة العنكبوت أخبر الله أنه أهلك قوم نوح بالماء ، وإبراهيم سلطت عليه النار فجعل الله النار بردا وسلاما على إبراهيم .
فلا النار أحرقت ولا الماء نجى ،لأن خالق النار وخالق الماء أمر النار أن لا تحرق و أمر الماء أن يهلك (فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) كما أخبر ربنا تبارك وتعالى.
هنا قال الله جل وعلا : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ) هذا نوح .
أصحاب الرس : الصواب عندنا لم يتبين لنا مما ذكره أهل العلم من قبلنا رحمهم الله أين مكانهم؟؟ وأما مدينة الرس المعروف فلا أظن لها علاقة .
و الرس في اللغة : البئر إذا طوي ، لكن أي الأمم هم؟ الله علم .
(وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ) أما ثمود قبيلة عربية معروفة هي في عرف أهل التاريخ من العرب البائدة كانت تسكن شمال الجزيرة ، ومساكنهم إلى اليوم باقية ، الله يقول: (وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ) أي أصحاب الحجر إمام : يعني طريق باقية .
الأمم التي قبلنا دل القرآن على أنهم فنيوا جميعا ، أما أمكنتهم دورهم فقد دل القرآن على أنها تنقسم إلى قسمين :
? ديار غير موجودة لا يمكن لأحد أن يظهر معالمها .
? وديار موجودة لا يمكن لأحد أن يطمس معالمها (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ(7/12)
وَحَصِيدٌ) منها قائم كأصحاب الحجر ، و حصيد :مما هو في شتى أقطار الأرض ممن لا يعرف لهم مكان.
فقال الله جل وعلا : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ{12} وَعَادٌ) وهؤلاء قبل قوم ثمود أرسل إليهم هود ، (وَفِرْعَوْنُ) وذكر لوحده لأن طريقة إهلاكه كان منفكة عن طريقة إهلاك غيره ، فأفرد بالعذاب ، وأفرد هنا بالذكر .
والمقام مقام عزة : يعني يظهر الله جل وعلا فيه عظيم عزته فلم يقل و فرعون ذو الأوتاد، ولم يمدحه بأي كلمة لأن السياق القرآن هنا سياق إظهار العزة لله ، فلا يمدح أحد ، فقال الله : (وَفِرْعَوْنُ) مجردة ، وإنما أفرد بالذكر دون أمته لأن قومه أهلكوا لكنهم لم تنجوا أبدانهم أما فرعون فقد نجى ببدنه قال الله جل وعلا : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) .
قال الله جل وعلا : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ{12} وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ) إخوان لوط : أي قومه الذي بعث فيهم ، وهذا من أكثر الأدلة في اللغة على أن كلمة أخ واسعة المعنى لأن قطعا لوط عليه السلام لم يكن لهم أخ في العقيد وليس أخ لهم في النسب،بالاتفاق ليس لهم أخ في النسب فإنه ابن أخ إبراهيم عليه السلام ،وهاجر إليهم من أرض العراق فهو ليس منهم، لكن أخوهم باعتبار المجاورة باعتبار السكن باعتبار على القول بأنه تزوج منهم وهذا من أعظم الأدلة على أن كلمة أخ واسعة المعنى (وَإِخْوَانُ لُوطٍ).
قال الله جل وعلا : (وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ) هم قوم شعيب .
وشعيب هو أحد أربعة أنبياء من العرب :
1. هود .
2. وصالح .
3. وشعيب .
4. ونبينا صلى الله عليه وسلم .
واشتهر عند كثير من أهل السير أنه خطيب الأنبياء عليه الصلاة والسلام ، والقرآن يدل على هذا ، هؤلاء أصحاب الأيكة .
((7/13)
وَقَوْمُ تُبَّعٍ) يطلق في كل من حكم اليمن في مرحلة زمنية غابرة بأنه تبع ، ثم أصبح يقولون ذوعين ذو القرنين ، فتُبع :أحد حكام اليمن ، لكن المشهور أنه كان رجل صالح ، وينسب إليه أنه أول من كسى الكعبة والعلم عند الله .
( كُلٌّ)أي كل هؤلاء الأقوام (كَذَّبَ الرُّسُلَ)، هذا تعزية لنبينا صلى الله عليه وسلم لأن المصيبة إذا عمت هانت .
ثم قال الله جل وعلا : (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ) هذا استفهام استنكاري ، ينسبون إلى الله العجز تعالى الله عما يقولون علو كبيرا .
(أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ) لم يعجزنا الخلق الأول من باب أولى قياسا على اعتباراتكم أن لا يعجنا الخلق الآخر.
(أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي في شك ، (مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ).
ثم بين الله جل وعلا كمال علمه ،وكمال قدرته و جلال عظمته ، وإحكام صنعته قال :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) حبل الوريد : حبل متصل بالقلب إذا قُطِع انفصلت الروح عن الجسد ، والقرب هنا قرب الله جل وعلا بعلمه وملائكته، واختاره ابن سعدي وهو الصحيح، قرب الله جل وعلا هنا بعلمه وملائكته ، وقال ابن القيم – رحمه الله كلاما جيدا هنا قال : "إن أعضاء القلب وأجزائه يحجب بعضها فوق بعض -متراكمة بعضها فوق بعض- ، وعلم الله لا يحجبه شيء " .وصدق رحمه الله فيما قال .
قال الله تعالى :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ ) المتلقيان :أي الملكان الموكول إليهما كتابة الأقوال والأعمال عن اليمين وعن الشمال ، وهذا ظاهر ومشهور .
((7/14)
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) من حيث اللغة الشِِمال بالكسر: ضد اليمين . والشَمال بالفتح : ضد الجنوب.
(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) نسأل الله العافية ، لا يملك المرء مع آية كهذه إلا أن يقول : نسأل الله العافية ، نسأل الله الستر .
الله يقول : (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) وكفى بهذه الآية مخوفة ، ولا أحد يزكي نفسه لكن نقول نسأل الله العفو والعافية والستر .
قال الله حل وعلا : (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )وهكذا تمضي الحياة بقدر ما كتب لك .
ثم قال الله : (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) سكرت الموت : آلامه شدته غمراته، والنبي صلى الله عليه وسلم وضع يديه الطاهرتين الشريفتين في إناء حال موته ، ومسح بهما وجهه وقال : "اللهم إن للموت سكرا ت فأعني على سكرات الموت " والناس في تلك الحالة يختلفون، اختلافا شديدا ، لكن ينبغي أن تعلم أيها المؤمن : أنه ليس شرطا ولا وجوبا ولا لزاما أن يطلعك الله على شيء من حال أخيك، قد يكون الملائكة تخاطبه وهو مكرم في منزلة عالية في وضع عظيم ، في إكرام وحفي من الله وأنت لا تدري وتراه أمرا عاديا ، فليس شرطا أن ترى ، وقد يريك الله أمارات علامة احتفاء الملائكة بأخيك ، فلا نقطع لأحد ولا نذم أحد ونكل هذه الأمور إلى الواحد الأحد ، ولا نكفل ما لا نطيق ، ولا نجيب عن أسئلة لا نعلمها ، لكن نسأل الله لنا ولخواننا المسلمين حسن لخاتمة .(7/15)
وأظنه أبو قدامه المقدسي صاحب الدرة المضيئة في السيرة رحمه الله جاء في خبر موته أنه كان مريضا جدا فجاءه الناس يعودونه ، فتصيبه غفلة عن الناس مع شدة المرض كأنه يبتعد عن حال من معه ، فهؤلاء الذين معه أخذوا يتذاكرون يتكلمون في أمر الدنيا ، وهو في مرضه كل بعد قليل يقول اسكتوا ، اذكروا لا إله إلا الله ، قولوا لا إله إلا الله هذا وهو الميت ،يعني بدل أن يأتوا هم يذكروه بالشهادة ، هو أصبح أعظم منزلة منهم ، يقول اسكتوا اذكروا الله ، قولوا : لا إله إلا الله ، فيقولون: لا إله إلا الله بعد قليل مات هو ، فهذه منازل عالية يأتيها الله من يشاء .
وأنا أعرف رجل في المدينة مات قديما رحمة الله تعالى عليه هذا الرجل كان أيام الديار عندنا في البادية والناس حالهم قليل ،لا يوجد مستشفيات ولا يوجد في آنذاك أمور تعينهم على الإحسان للميت ، يعني إذا يسمعون برجل مريض ، يفز يقوم اثنين ثلاثة فيهم نخوة ويذهبون إليه ويكون معهم كفن ، حتى يقومون بالواجب يغسلونه و يكفنونه ، وهو في مرض مخوف آن ذاك ، على اعتبار شواهده عند الناس ، المهم جاءه جماعة غفر الله لهم جميعا ماتوا ، أربعة أو خمسة أنا الرجل وأعرف من حضر ، الموضوع وقفوا عنده أخذته غيبوبة يعني ثم أفاق في غيبوبته هذه رأى قوم رجال عليهم عمائم خضر يظهر والله أعلم أنهم ملائكة فقالوا : يا فلان ابشر فإنك لن تموت بمرضك هذا ، وهؤلاء الذين واقفون على رأسه أربعة أو خمسة رجال ،أنا أعرف ثلاثة منهم ، جابيين معهم كفن ، يعني يريدون أن يحسنوا، فإنك لن تموت بمرضك هذا لكن نوصيك بثلاثة وصايا ، فأوصوه أحفظ منها الآن اثنان :
? أن لا ينام على غير وضوء .
? وأن لا يترك صلاة والوتر .(7/16)
والثالثة والله لا أذكرها ، ثم أفاق ، لما أفاق مرت الأيام جميع هؤلاء الخمسة الذين كانوا عنده ، والله ماتوا قبله ، يعني أدركهم عُمِّر حتى مات هذا ثم تلت سنين وثم الثالث مات بسنين، الخمسة الذين كانوا واقفون بكفنهم يريدون أجر يريدون أنه يموت ويحسنون و يكفنونه ويصلون عليه ، ماتوا قبله ، طبعا بأزمنة متفرقة ، وهو عُمِّر حتى إنه اعتكف في الحرم النبوي عشرين سنة ، متوالية ثم مات غفر الله له ورحمه وعفى عنا وعنه .
موضوع الشاهد : أن الإنسان هذه أمور لا أحد يعلم عنها ولا أحد يدري عنها ، فلا تقطع لزيد ولا لعمرو علمها عند ربي في كتاب .
نعود للآيات قال الله جل وعلا : (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) ما هنا صلة ، بمعنى الذي أي ذلك الذي كنت منه تحيد، تحاول المفر لكن لا مفر من الموت .
(ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ *) ثم قال الله جل وعلا : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) نفخ في الصور مرت معنا كثيرا .
((7/17)
وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ{21} لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ{22}) وهذه مر معكم تفسيرها كثيرا وهي ظاهرة المعنى أن الإنسان يحشر مع شهيد من الملائكة مع قرينه الذي وكل به من الشياطين عياذا بالله ، فيقول في أرض المحشر وقال الله – ولا نطيل عند هذا - : (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) يريد أن يتبرأ منه ، كما يقول إبليس (َلمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم) يحصل أخذ ورد كل منهم يتبرأ من الآخر ، يقول رب العزة والجلال حينها : (قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ* مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) هذه ظاهرة المعنى ( وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) يخطئ من يظن نتكلم صناعة نحوية، أن ظَلَّام هنا على زن فَعَّال بمعنى صيغة مبالغة ، ليست ظلام هنا صيغة مبالغة قطعا ، لأننا لو قلنا أن ظلام هنا صيغة مبالغة فتصبح نسبت إلى الله ظلم من غير أن تشعر ، لأن نفي الكثرة لا يعني نفي القلة ، فلو كانت صيغة مبالغة يصبح المعنى ليس الله بكثير ظلم ، وهذا محال لأن الله يظلم أبدا ، فليست ظلام صيغة مبالغة ، طبعا عندما نفينا أن تكون صيغة مبالغة لا بد من حل ، أما تعلقها كدا ما يقبل الناس ، فلا بد لها من حل ، ظلام هنا مصدر صناعي ، بمعنى ليس الله بذي ظلم ، فيكون النفي هنا نفي الظلم عن الله بالكلية .(7/18)
هذه يا بني بحثتها قبل 23 سنة عام 1406والله كدت أشيب أبحث لها عن حل ، ولم أجدها في كتب المفسرين فوجدتها في كتاب" النحو الوافي" لعباس حسن ، أين ؟ "النحو الوافي" لعباس حسن أربع جلدات ، لكن النحو الوافي لا يقرؤه في الأصل إلا إنسان قرأ في النحو كثيرا ، لأنه لا أعلم مرجعا في النحو أعظم من كتاب النحو الوافي لعباس حسن ، لا أظنه يوجد في المكتبة العربية كتاب يمكن أن يرجع له في هذا العصر كمرجع آخر أفضل من كتاب النحو الوافي لعباس حسن ، وهذا استطراد لكن للفائدة .
نعود للآيات قال الله جل وعلا : (قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ{28} مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ{29} يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ)
هنا أنا أعطيك فائدة الآن نمسك فوائد:
دل القرآن على أمر معجز في جهنم، هذه والله من نفائس نفائس العلم .
دل القرآن على أمر معجز في جهنم : جهنم ضيقة وكبيرة في آن واحد ، أعاذنا الله وإياكم منها.
لو كانت ضيقة وغير كبيرة يصبح تعذب ، لأن الضيق مكان عذاب لكنها لا تسع للناس للكفرة .
لو كانت كبيرة فقط غير ضيقة تصبح متسعة للكفرة لكنها لا تصبح دار عذاب ، فجعل الله جهنم تتميز بميزتين عياذا بالله نكالا بعصاته :
1.ضيقة . ... 2. وكبيرة في آن واحد .
فالدلالة على أنها كبيرة أن الله يقول : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ) يعني ما زال في متسع أن أحمل ، وهذا يدل على أنها كبيرة .
وأما الدلالة على أنها ضيقة فإن الله يقول : (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً) وهذا يزيدك خشية من الله وفرار من ناره حرم الله بشرتي وبشرتكم على النار .
((7/19)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ{30} وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ{31} هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ{32}) هذه ظاهرة المعنى أزلفت : قُربت ، قال العلماء : "يحتمل زمانا ويحتمل مكانا "، وهي إلى المكان أقرب .
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ{31} هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ{32}) ومر معنا قرائن لها ، ولكن سنقف عند فائدة أخرى مثل جنهم وهذا من والله من نفائس العلم :
قال الله بعدها : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ) ما سنقوله الآن المفترض لو كنت طالبا لكتبته بماء عيني ، انظر عظمت القرآن قبل أن تكتب ، الله يقول : (مَنْ خَشِيَ ) المفترض في اللغة أن يقال : من خشي الجبار ، ومن خشي المنتقم ، من خشي العزيز ، من خشي المقتدر لأن هذا الذي يتناسب من الفعل " خشي " لكن الله قال : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن ) لماذا قال الله من خشي الرحمن ؟ لأن هؤلاء الصالحين إذا ذكروا رحمة الله خشوه ، فكيف إذا ذكروا جبروته وسطوته؟! ، يعني هم يخشون الله إذا ذكروا رحمته ، فكيف سيصيبهم من الخشية إذا ذكروا جبروته وعزته وانتقامه وإهلاكه لمن عصاه ، سيصبحون أشد خشية ، وهذه منازل عاليةٌ عالية بلغنا الله وإياكم إياها .
هذا معنى قول الله : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ).
قال الله بعدها :( ادْخُلُوهَا) أي الجنة ( بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ{34} لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا) لهم ما يشاؤون فيها مالاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) فسرت الزيادة: برؤية وجه الله تبارك وتعالى ، ولا نعيم أفضل من رؤية وجه الله بلغني الله وإياكم لذة النظر إلى وجهه والشق إلى لقائه في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة .(7/20)
نقف عند هذا ونكمل في درس ما بعد القادم سورة ق ، والدرس القادم نخصصه فقهيا ونحويا وبلاغيا إن شاء الله .
لكن نقف عند هذا النعيم العظيم نسأل الله أن يرثنا وإياكم إياه إلا وهو لذة النظر إلى وجهه العظيم .
نكمل درس النحو إن شاء الله.
كنا قد تكلمنا في الأسبوع الماضي عن الأسماء الستة ، ونتكلم اليوم في النحو تعذرنا الصحة ما تساعد بإيجاز ، وقلنا إن الأسماء الستة ترفع بالواو وتنصب بالألف وتجر بالياء ، وتلحقها لغتان :
1. لغة النقص .
2. ولفة القصر .
أما لغة النقص فمعناها أنه جاء عن العرب وإن كان قليل أنه يحذفون الواو في حالة الرفع ويحذفون الألف في حالة النصب ، ويحذفون الياء في حالة الجر ، ويعربون الاسم بالحركات الظاهرة ، أي بالضمة والفتحة والكسرة .
هذا كله في لغة النقص الداخلة على الأسماء الستة، ويضربون شواهدهم على صحة هذا ، لا أن يأتي بدليل ، قول رؤبة ابن العجاج :
في مدح عدي ابن حاتم رضي الله عنه :
بأبِه اقتدى عدي بالكرم **ومن يشابه أبه فما ظلم
قلنا البيت لرؤبة ابن العجاج أحد شعراء الرجز في عصر بني أمية، وعدي ابن حاتم صحابي جليل أسلم في السنة الثامنة ، وأبوه من ؟ حاتم الطائي جواد العرب المشهور تضرب به العرب المثل في الكرم ، وهو صاحب الأبيات الشهيرة :
أماوي إن المال غادِ ورائح ٌ ** ويبقى من المال الأحاديث والذكر
أماوي إني لا أقول لسائل إذا جاء يوما ** حل بمالي أن يزروا
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى** إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
وقصصه مشهورة لا تحتاج إلى زيادة ، وسبحان الذي خلد ذكره إلى اليوم ، المقصود أن عدي ابنه اسلم وهذا يمدحه فقال :
بأبه اقتدى عدي في الكرم ** ومن يشابه أبه فما ظلم
الباء : حرف جر .
أبه ( هي موضع الشاهد ) : اسم من الأسماء الخمسة مجرور ، مجرور بماذا ؟ بسبب الباء العامل الباء ، وعلامة جره الكسرة الظاهرة ،وهو مضاف والهاء : ضمير متصل في محل جر بالإضافة .(7/21)
هذا عادي ونلحظ أن العلامة هنا خلاف ماذا ؟ خلاف القاعدة ، كان المفروض أن يقول : ( بأبيه ) تجر بالياء هذا هو الذي يسمى النقص ، فنلحظ أن الياء حذفت ، وأعرب الاسم بالكسرة ، وهذا ما يسمى لغة النقص في الأسماء الخمسة أو الستة .
بأبه اقتدى عدي في الكرم ** ومن يشابه أبه فما ظلم
من : أداة شرط وهي هنا مبتدأ .
يشابه : فعل الشرط ، الذي يعنينا هنا من ؟ أبه .
أبه : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة على لغة النقص في الأسماء الخمسة . لأن المفروض أن يقول ماذا ؟ أباه ، ومن يشابه أباه فما ظلم .
ما معنى من يشابه أبه فما ظلم ؟
هو عدي هذا حاتم الطائي كريم ، صح معروف أنه كريم ، فابنه عدي أصبح كريم مثله ، فرؤبة يقول :
بأبه - يعني بأبيه – اقتدى عدي في الكرم **
يعني هذا الكرم جايبه من أبوه ، هذه واضحة ،ثم قال بيت قال :
ومن يشابه أبه فما ظلم **
يعني من يشابه أباه ما ظلم أمه ، هذا بيت في إثبات النسب ، المعنى أن الرجل عندما يأتي لأبيه حتى لو في الشر ، واحد أباه مجرم محترف طلع الابن مجرم محترف ما أحد يستغرب أذا الأم بريئة ما لها شغل هذا ولدك ، لو جاء عاقل هنا المشكلة كيف جاء عاقل وأبوه مجرم ، حيتهموا الناس أمه ،يقولون هذا ما هو من أبوه ، فهمتم ؟؟
فمن يشابه أبه فما ظلم : المفعول به محذوف ،تقديره : من يشابه أباه فما ظلم أمه. لأن لو جاء لأبيه إذا الأم بريئة ما .. تروج من برة ، واضحة الفكرة ؟
هذا أوضح وشهر معاني البيت .
ومن يشابه أبه فما ظلم ** هذه براءة لأم عدي ، هذا منك واضح .(7/22)
لذلك يا بني دائما يا بني لا بد من استخدام العقل ، في نقل النقل حاكم على العقل ، لكن لابد من عقل تفهم به النقل ،مثلا النبي صلى الله عليه وسلم كمل الناس خَلقا وخُلقا عندما نبحث عن الذين يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم بالعقل لابد في الغالب يكون من مَن؟ من آل البيت لأنك تتكلم عن شبه جسدي في الشكل ، لابد الذي يشبهه يكون قريب يجمعهم جد يجمعهم خال ، يجمعهم عم ،ما تأتي لواحد من بني جمح أو بني عدي أو واحد من الأنصار وتقل يشبه النبي صلى الله عليه وسلم ، بعيد الإنسان يشبهه ابنه أبن أخيه ابن عمه ، تقول دم فلان ودم فلان واحد من قبيلة الفلانية ، جعفر ابن أبي طالب النبي صلى الله عليه وسلم يقول له : "أشبهت خلقي وخٌلقي " لأن جعفر ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم جدهم واحد ، جعفر ابن أبي طالب ابن عبد المطلب ، وهذا محمد ابن عبد الله ابن عبد المطلب ، كلهم يرجعون إلى عبد المطلب .
ففي أشياء إعمال العقل فيها مهم .
نعود لدرس .. عرفتم الآن النقص .
اللغة الثانية لغة القصر : وهو تأتي هذه الأسماء ممدودة بالألف فتعرب إعرابا مقدرا في الأحوال الثلاثة ، ومنه قولهم :
إن أباها وأبى أباها **قد بلغا في المجدِ غايتاها
هذه لغة عند العرب ، المفترض يقول ماذا ؟
إن أباها وأبي ( الفروض ) تصبح وأبا أبيها مجرورة بالياء ، لكنه استخدم لغة القصر ، فقال :
إن أباها وأبا أباها ** قد بلغا في المجد غايتاها
هذه لغة القصر ، قبل أن نختم الوقت راح عليكم .
في لغات أخر داخلة في الأسماء الخمسة ، لغة من ينتظر ولغة من لا ينتظر .
لا يمكن أن تصبح إماما في الدين وأنت لا تعرف النحو ، محال ، مستحيل لا تأمل أن تصبح إماما في العلم الشرعي وأنت لا تعرف النحو مستحيل ، ولا تعتقد أن النحو صعب ، سهل جدا بس أوله كدا يخوف .
قال عنترة ، من عنترة ؟ شداد من بني عبس ، شجاع العرب المعروف ، قال :
يدعون عنتر والرماح كأنها ** أشطان بئر في لبان الأدهم(7/23)
والقصيدة طويلة لكن عشان الوقت ، فكلمة عنتر : منادى والتقدير : يدعون يا عنترة إلى الآن لم ندخل في لغة من ينتظر ومن لا ينتظر.
عنتر : هذا المنادى منادى مفرد ، والمنادى المفرد حاله البناء فيبنى على ما يرفع به ، طبعا مفرد هنا مو معناها مثنى ولا جمع لا ، مفرد هنا لا مضاف ولا شبيه بالمضاف ، لأن الأحوال المنادى غير الأحوال العادية ، منادى مفرد مبني على ما يرفع به .
عنترة : يرفع بالضم فأصبح عنتر مبنية على ماذا ؟ على الضم ، المفترض أن عنترة تكون مبنية على الضم .
عنترة هذا اسمه " عنترةُ " حذفنا التاء ، هو قال :" يدعون يا عنترة "انتهت المشكلة ، يدعون يا عنترة انتهت القضية ، لكن عنترة قال :
يدعون "عنتر" حذف التاء ، فلما حذف التاء الآن نقول : منادى مبني على ماذا ؟ نتوقف ،كيف نتوقف ؟ نقول إذا كنا ننتظر رجوع التاء فيصبح منادى مبني على الضم على التاء المقدرة المحذوفة ، وتبقى الراء مفتوحة كما هي : يدعون عنترَة ُ، لكن التاء ما هي في لكن نتوقع رجوعها فيصبح عنتر: منادى مبني على الضم المقدر على التاء المحذوفة في لغة من ؟ في لغة من ينتظر ، ينتظر إيش ؟ ينتظر عودة التاء واضح مبني على الضم الموجود على التاء المحذوفة في لغة من ينتظر .
الحالة الثانية : واحد قاطع يأس ، ما عنده أمل أن التاء ترجع ، هذا نسميه لغة "من لا ينتظر" ، ما دام من لا ينتظر نأخذ الضمة ، أين نضعها ؟ على الراء ، فتصبح نقرأ البيت :
يدعون عنترُ والرماح كأنها ** أشطان بئر في لبان الأدهم
فنقول في عنتر : منادى مبني على الضم الذي هو على الراء في لغة من ؟ في لغة من لا ينتظر .
نسأل الله التوفيق ، آنا لا استطيع أن انتظر أكثر من هذا ، شكر الله لكم و جزاكم عنا خير.
وصلى الله على محمد وعلى آله .
البلاغة اليوم ما في الصحة والله ما تسمح نأخذها في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.
السؤال: كيف الجمع بين الصيام وطلب العلم ؟(7/24)
الجواب :إذا كنت تستطيع أن تفعل ففعل ، وإن لم تستطع تجعل الصوم في الاثنين واجتهد في طلب العلم .
السؤال :كيف نرد على من قال : كل كلام معرض للنقد حتى القرآن ؟
الجواب : من قال بهذا فقد كفر ، من قال أن القرآن معرض للنقد فقد كفر ، كفر أكبر مخرج من الملة بعمله هذا ، لكن كفره عينينا يقاضى شرعا في المحكمة . نسأل الله العافية .
انتهى بحمد الله وتوفيقه اللقاء السادس(7/25)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبياً عن أمته صلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه كما وحد الله وعرف به و دعى إليه ، اللهم على آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهاجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
هذا اللقاء خاص بدراسة بعض آيات الأحكام على ما هو منهجنا في دروسنا في هذا المسجد المبارك ، والسورة التي نحن بصدد الحديث عنها سورة البقرة ما زلنا فيها ، والآيات اليوم سنختصر قليلاً.
قال الله جل وعلا : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{217} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{218} } نقول مستعينين بالله جل وعلا هذه إحدى آيات السؤال في القرآن ، وآيات السؤال في القرآن عديدة :
? منها ما سأله أهل الإشراك المعاندون مثل قول الله جل وعلا: { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ }(7/1)
وقوله جل وعلا : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ } وقوله تبارك وتعالى :{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } فإن السائل في هذه المواطن الثلاث غير مؤمن .
? ومن الأسئلة ما يكون أسئلة المؤمنين كقول الله جل وعلا :{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ }
وقول الله جل وعلا: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ }.
? ومن الأسئلة ما يمكن أن يقال سؤال من أهل الإيمان ومن أهل الكفر في آن واحد لأن المقام(7/2)
يقتضيه ولا أعلم له في كلام الله إلا هذه الآية : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } و حتى تتضح الصورة وتظهر المسألة كنا قد بينا أنه من طرائق التفسير أن يستصحب الإنسان السيرة لأن القرآن أنزل على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - والنبي عليه الصلاة والسلام كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها :" كان خلقه القرآن " وجملة ما دلت عليه الروايات مما ذكره كثير من أهل السير ورواة الأخبار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بدر بشهرين تقريباً اختار بعثاً من أصحابه ثم أمر عليهم في أول الأمر ( عبيدة بن الحارث رضي الله عنه ) لكن عبيدة لما هم بالسفر لهذا البعث بهذه السرية بكى شوقاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يستطع أن يفارق المدينة فأبقاه عليه الصلاة والسلام وجعل بدلاً منه أميراً على البعث ـ على السرية ـ ( عبد الله بن جحش رضي الله عنه وأرضاه ) وأعطاه كتاباً وأمره أن لا يفتح الكتاب إلا بعد أن يسير من المدينة قرابة يومين حتى إذا فتح الكتاب لم يكن أحد عنده فلا ينتشر الخبر الذي في الكتاب ولا يشيع ولا يذيع، فذهب (عبد الله بن جحش ومعه الكتاب ومعه بعض الصحابة) حتى وصلوا إلى مكان بعد المدينة بيومين ففتح الكتاب فإذا في الكتاب الذي خطه - صلى الله عليه وسلم - له يأمره أن يأتي ( نخلة ) بين مكة والطائف ويترصد أخبار قريش فقال عبد الله سمعاً وطاعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستشار من معه أنه مخير إن شاء مضى معه وإن شاء بقي فكلهم مضوا معه ـ رضوان الله عليهم ـ فلما أتى (وادي نخلة ) مرت قافلة لقريش فيها بعض المئونة من الزبيب وغيره فاختلف المسلمون تشاوروا أول الأمر هم لم يؤمروا بقتال وفي نفس الوقت لم يقل لهم لا تقاتلوا وكان هذا على الأظهر آخر يوم من جماد الآخرة الذي بعدها رجب الشهر الحرام ، بعد أخذ وعطاء عزموا على أن يغاروا على هذه القافلة فقتل المسلمون من المشركين(7/3)
القرشيين رجلاً يقال له ( عبد الله بن عمرو الحضرمي ) فقتلوه وأسروا اثنين وأخذوا قافلة وفر أحدهم أي فر أحد القرشيين إلى مكة نجا ، ثم إن قريشاً لما بلغها الخبر وافق ذلك أن كان أول يوم من رجب الذي ظنه المسلمون ( عبد الله بن جحش ومن معه ) أنه آخر يوم من جماد الآخرة فتعجبت قريشاً كيف أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - يستحل القتال في الشهر الحرام والعرب على جاهليتها كانت تعظم الشهر الحرام أيما تعظيم حتى إن رجب كان يسمى عندهم الشهر " الأصم" أي لا تسمع فيه قعقعة السلاح والله يقول { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } فهذه الأربعة الحرم ثلاثة سرد وواحد فرد ، فالسرد ذو القعدة وذو الحجة ومحرم هذه يتبع بعضها بعضا، وواحد ليس قبله شهر حرام ولا بعده شهر حرام وهو رجب فكان هذا في رجب وهو يسمى الشهر " الأصم " فكانت قريش تقول " كيف استحل محمد القتال في الشهر الحرام " وعظم هذا على المسلمين حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - توقف في شأن الأسيرين ولم يأخذ الغنائم فشق هذا على الصحابة الذين قاتلوا ( عبد الله بن جحش ومن معه ) فأنزل الله جل وعلا قوله إجابة للكل { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } وهذا وفق قواعد النحو على مذهب البصريين وهو الأرجح يسمى " بدل اشتمال " والأصل معنى الآية: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام ، على أن كلمة قتال في الآية تعرب بدل اشتمال ، وذهب الكسائي وبعض الكوفيين إلى أنها مجرورة بسؤال آخر أي : ويسألونك عن القتال في الشهر الحرام ، لكن الأول أرجح ـ والعلم عند الله ـ هذا مناسبة الآية { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } أي يسألونك عن القتال في الشهر الحرام ، القرآن كتاب حق نزل من عند الإله الحق بواسطة(7/4)
ملك حق على قلب نبي حق متضمن الحق { وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ } ولأنه كتاب حق لا يرد الحق أياً كان مصدره ، فقول قريش إن القتال في الشهر الحرام أمرٌ عظيم مستعظم حق ولهذا لم يرده الله قال الله جل وعلا { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } قال الله { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } أي القتال في الشهر الحرام أمر عظيم ـ مستعظم ـ وإن قالته قريش لأن هذا حق { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } ثم بين الله جل وعلا حرمات عدة استهان بها المشركون فهم وإن عظموا القتال في الشهر الحرام وهذا حق إلا أنهم استخفوا بحقوق وحرمات أخر قال الله جل وعلا :{ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ } فالقتال في الشهر الحرام أمرٌ مستعظم لكن صدكم عن الدين ، فتنتكم الناس أن يدخلوا في الدين ، إخراجكم المؤمنين من المسجد الحرام كل ذلك أمرٌ مستعظم كما هو مستعظم القتال في الشهر الحرام ، فقال ربنا { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ }أي فتنة الناس عن دينهم ،{ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ }.(7/5)
ثم أخبر الله جل وعلا في أهل الإشراك فقال جل وعلا { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ } من الفوائد خارج النص أن الفعل زال يأتي مسبوق بنفي إما مسبوقاً بـ(ما ) أو مسبوقاً بـ (لا ) فإذا كان مسبوقاً باللام فإنه يستخدم في الكلام عن الأمور التي لا تحسن ، وإذا أردنا أن نتكلم عن الأمور التي تحسن نسبقه بـ(ما) النافية لا بـ ( لا ) النافية ، فقول الله هنا { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ } لأنه يتكلم عن أمر غير مستحسن وهو مقاتلة أهل الكفر لأهل الإسلام والله يقول { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ } ولم يقل:" وما تزال " لكن ( ما ) تستخدم على الخير على الغالب ،يقول الله : { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ } قبل أن ندخل في الردة نعود إلى القتال في الشهر الحرام،
اختلف العلماء رحمهم الله ـ هذه من مسائل الباب فقهياً ـ هل هذه الآية محكمة أو منسوخة ؟
* فإن قلنا إنها منسوخة لابد أن نأتي بآية ناسخة ، جمهور أهل العلم ـ رحمهم الله ـ على أنها منسوخة وأن التي نسختها آية السيف { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } هذا مذهب الجمهور .
*وذهب بعض العلماء إلى أنها محكمة غير منسوخة وأنه لا يجوز البدء بقتال أحد في الشهر الحرام ولا في البلد الحرام إلا قتال مدافعة ، قلت وعلى قول جمهور العلماء الآية منسوخة وكان الشيخ الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله ـ يرى أن آية البقرة هذه منسوخة بآية السيف إلا أنه رحمه الله في آخر عرضة له على المصحف في المسجد النبوي تراجع عن قوله إنها آية منسوخة قال: "والأظهر إنها محكمة".(7/6)
وهذا عندنا هو الحق أنها آية محكمة قال ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ شيخ المفسرين قال : "قال لي عطاء ـ من عطاء مر معنا ؟ ابن أبي رباح ، تلميذ ؟ ابن عباس ـ قال لي عطاء : والله ـ حلف عطاء ـ" والله إنه لم يحل الغزو ولا القتل في البلد الحرام ولا في الشهر الحرام إلا دفاعاً" وبقول عطاء هذا هو الذي تميل إليه الناس والعلم عند الله وإن كان جمهور العلماء رحمهم الله أحياءاً وأمواتاً على خلاف ، هذا ما يتعلق بنسخ الآية أو كونها محكمة ، ومن أدلة من قال بنسخها ، حتى تستحضر المسألة قالوا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل ثقيفاً في ذي القعدة وذو القعدة بالاتفاق من الأشهر الحرم والنبي - صلى الله عليه وسلم - بايع أصحابه تحت شجرة بما يسمى بيعة الرضوان المثبتة في القرآن بايعهم - صلى الله عليه وسلم - على الموت وكان في الاتفاق في شهر ذي القعدة وشهر ذو القعدة من الأشهر الحرم هذه حجة الجمهور ، لكن يرد على هذين القولين بما يلي :
أما الرد الأول على قول الجمهور رحمهم الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل ثقيفاً في ذي القعدة هذا صحيح لكن الجواب عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبدأ في قتالهم في ذي القعدة وإنما بدأ في قتالهم في شهر شوال ثم استمر الحصار إلى ذي القعدة ، ومعلوم عند الفقهاء من القواعد أنه يغتفر في الشيء في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء لأنه هنا يأخذ حكم التابع لا حكم الأصل ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ قتال ثقيف في شوال ثم إن الحرب استمرت الحصار امتد إلى ذي القعدة فأصبح الأمر ليس مقصوداً بذاته هذا الجواب لمن قال إن من الأدلة على نسخ آية البقرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل ثقيف في ذي القعدة .(7/7)
أما قولهم رحمهم الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بايع أصحابه على الموت تحت شجرة الرضوان في البيعة المشهورة المخلدة في القرآن { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } فإن الجواب عن هذا ظاهر وهو مدافعة ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج لقتالهم وإنما لما أشيع خبر مقتل عثمان بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة على الموت بعد أن أشيع عنده أن عثمان قد قتل بدليل أنه لما ثبت أن عثمان لم يقتل لم يقاتل - صلى الله عليه وسلم - ونحن قلنا في الأول أنه لا يجوز القتال في الأشهر الحرم ولا في البلد الحرام إلا في المدافعة ، فالمدافعة مستثناة لا يعقل يأتي كفار يدخلون ديار المسلمين ويقتلون ويقول قائل لا نقاتل في الشهر الحرام هذا قتال مدافعة يقاتلون لكن نتكلم عن بدأ الحرب في الأشهر الحرم نبقي على آية البقرة كما هي محكمة على قول كثير من العلماء لأن الله قال :{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } فقال : { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وهذا ليس أمراً هيناً يمكن تجاوزه بل هو حكم من الله و العلم عند الله، هذا ما يتعلق بقول الله جل وعلا:{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } .
فلما نزلت هذه الآية قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - الغنائم وقبل فداء قريش للأسيرين فأنزل الله جل وعلا قبل أن نأتي للردة لأن عبد الله بن جحش رضي الله عنه كان مؤمناً مهاجراً مجاهداً فأنزل الله :{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ } قال العلامة ابن سعدي رحمه الله كلاماً معناه أن أسباب الفلاح في الدنيا والآخرة في هذه الثلاث :
الإيمان ، والهجرة ، والجهاد(7/8)
قال ربنا وهو أصدق القائلين : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ }
نأتي لقول الله جل وعلا: { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الردة عياذاَ بالله : ترك الدين والرجوع عنه بعد الإيمان به نسأل الله العافية ، هذه الآية فيها قيد يجب أن تفقه : "أن من ارتد ومات كافراً أي لم يعد يتب فهذا بإجماع المسلمين خالد مخلد في النار لأن هذه الآية ظاهرة فالله يقول: { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } فلم يقل أحد من أهل العلم ولا يمكن أن يقول هذا عالم إن الإنسان إذا كان مؤمناً ثم ارتد ثم مات على كفره يكتب له عمل صالح ، لأن هذه نص محكمة لا تقبل النزاع ولا تقبل التأويل ، ولهذا لم يقل أحداً من المسلمين إن الشخص إذا مات على الكفر مرتداً يكتب له شيء من أعماله أيام الإسلام ، لكن أين الإشكال ؟ الإشكال: لو أن إنسان عياذاً بالله كان مؤمناً فصلى وصام رمضان وحج الفريضة ثم بعد ذلك ارتد نفرض أنه تنصر فمكث في النصرانية ما مكث يوم سنتين عشر، ثم عاد إلى الإسلام تبين له أن النصرانية مذهب باطل ، ولم يكن أحد يقيم الحدود فلم يقتل وقت أن كان نصرانياً فر إلى دول الغرب إلى أوروبا إلى أمريكا إلى أي مكان، ثم إنه أسلم عاد مرة أخرى إلى الإسلام، ثم مات على الإسلام هذا موضع الإشكال ، أين الإشكال ؟ الإشكال هل حجة الفريضة في الأول تجزئ أو لا تجزئ ؟ بمعنى هل إن العمل(7/9)
الذي صنعه أيام إسلامه يحبط أو لا يحبط ؟
*فمن قال من العلماء: أنه يحبط أخذ من آيتين تضمنت العموم دون تقييد وهي قول الله جل وعلا:
{ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } فهذا نص في أن الإنسان إذا أشرك حبط عمله { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } وقوله جل وعلا: { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } فهاتين آيتين غير مقيدتين ، لم يقيدها الله بالموت على الكفر ، وعلى هذا ذهب فريق من العلماء إلى :
* أنه لا حج له في الأول لا عمل يعتد به كله حبط وأنه يلزمه إعادة الحج .
*وقال آخرون إن الله جاء بالآية مقيدة والتقييد في آية البقرة هنا حاكم على الإطلاق في آية الزمر وآية المائدة فالله قال :{ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } فقالوا : قول الله جل وعلا : { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } قيد في أن الله أشترط أن العمل لا يحبط حتى يموت الإنسان على الكفر والمسألة فيها نزاع شهير بين العلماء والترجيح والعلم عند الله لم يستبن لي فيها شيء قوي لكن نعوذ بالله جل وعلا من الردة كلها ، هذا خلاف العلماء في المسألة ، لا ريب أن الرجل إذا كان قادراً على أن يحج فهذا أحوط في دين الله لكن قال فريق من العلماء إن ما سلف لا يحبط لأن الله قرن ومقيد بقوله: { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } وأما إذا مات على الكفر فقد بينا أنه لا خلاف فإن الله يقول :{ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } نسأل الله العافية .(7/10)
على هذا مما ينبغي أن يعنى به المرء أن يقتدي بسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن المحافظة على السنة من أعظم ما يقي الإنسان نفسه عن الوقوع في الشرك أن يحيى الإنسان على سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - من أعظم ما يجعل المرء يختم له بخير ويبقى على دينه ، ولقد كان بعض صالح الأسلاف يقولون :" اللهم أحينا على الإسلام والسنة " لأنه لا هدي أكمل من هديه صلوات الله وسلامه عليه ولا سنة إلا سنته ، ولا طريق موصل إلى الله إلا طريقه أي شرعه الذي جاء به محمد عن - صلى الله عليه وسلم - عن ربه كما أن العاقل ـ وهذا قلناه في دروس كثيرة ـ ينبغي أن لا يحاول أن يتقرب إلى أحد من الخلق في دينه ، أما دنياك فتنازل عما شئت فإنك كلما تنازلت للناس عن دنياك تركوا لك أمر دينك، لكن لا تتنازل عن دينك لأحد ولا تحاول أن تتقرب إلى عظيم من أحد من الدنيا فاسقاً كان أو صالحاً في دينك خاصة فيما فيه استصغار لكلام الله أو لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أو لأصحابه وقد قلت لكم مرة إنه في مصر لما بُعث بعض طلاب المسلمين في الجامعات يدرسون في الخارج ، وعاد أظنه طه حسين وكان كفيفاً أعمى ففي ذات يوم قابله من كان يحكم مصر آنذاك ، فلما جاء طه حسين قام هذا الزعيم فأقبل عليه وهش له ورحب به وأجلسه وقام خطيب الجمعة ـ عليه من الله ما يستحق ـ قام يريد أن يتقرب لهذا الزعيم فقال :" ما عبس ولا تولى لما جاءه الأعمى " وفي هذا استنقاص لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي جاءه الأعمى فما عبس ولا تولى والله يقول عن نبيه: { عَبَسَ وَتَوَلَّى{1} أَن جَاءهُ الْأَعْمَى } وأكمل الخطبة ثم صلى بالناس فقام العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله وكان حاضراً في المسجد ثم لما فرغ الناس قال :" أيها الناس أعيدوا صلاتكم فإن صلاتكم باطلة "، ما يجوز الصلاة خلف هذا ، ثم صلى بالناس صلاة الجمعة رحمه الله تعالى ثم إنه تغيرت الأحوال وهذا شأن السياسة فذهب ذلك الزعيم(7/11)
وذهب ذلك الخطيب فقال أحمد محمد شاكر رحمه الله قال :" فأنا رأيت ذلك الخطيب ـ الذي كان يوسم بخطيب السلطان ـ رأيته بعيني على باب المسجد يأخذ نعل المصلين ويرفعها عنده ويعطونه عليها دراهم ولا يصلي " وهذا عياذ بالله أن الله رده .
فالمقصود من هذا : أن الإنسان إذا عظم الله وعظم سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وكان على وجل من الله في سره وعلانيته ولو عصى الله لكنه يكره معصيته فإن هذا أقرب ، والقلوب بيد الله إلى أن يثبت على الدين وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول :" يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " نسأل الله أن يثبت قلوبنا وقلوبكم على دينه .
هذا ما تيسر في الدرس الأول من التفسير
بقي درسان في النحو والأدب ، لكنها لن تكون قضايا ، ستكون قضايا تاريخية معرفية ، حتى تحيط علماً عموماً بما يسمى بعلم النحو وبما يسمى بعلم الأدب.(7/12)
الله يقول : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } وقال { قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } مما ينبغي أن تعلمه وأنت تتطلب العلم إنه على أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن قبله من العرب ومن عاصره لم يكن يعرفون هذه المصطلحات التي نقولها ، فاعل ومفعول به واسم معرب واسم مبني كانوا لا يعرفونها أي لم يكن مشاعاً هذا العلم بحجمه هذا ، لكن أصل المسألة أنهم كانوا يتكلمون سليقةً فلا يلحنون ثم يقولون: أن "أبا الأسود الدؤلي" واسمه "ظالم بن عمرو" ولكل مسمى من اسمه نصيب، دخل المدينة في اليوم الذي دفن فيه الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرى رسول الله لا حياً ولا ميتاً ـ إنا لله وإنا إليه راجعون ـ طبعاً هذا قدر الله لكن اسمه ظالم بن عمرو ، هذا الرجل يقولون : "إنه كان عند ابنته في البيت فنظرت ابنته إلى السماء فقالت :" يا أبت ما أجملُ السماء " قال: نجومها ـ يجيبها ـ قالت يا أبتي لا أسألك ، وإنما أردت أن أتعجب من جمال السماء ، قال : قولي " ما أجملَ السماء " ثم يحكون أنه ذهب إلى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فقص عليه الخبر فقال : انحو للناس نحواً ، هذه هي اللبنة الأولى في علم النحو ، جملة علم النحو أن العرب القدامى العلماء القدامى أتوا بكلام العرب فجمعوه أخذوه من أفواه الأعراب وجاءوا بالقرآن ثم بالاستقراء استخرجوا هذه النصوص والقواعد التي نسميها الآن " قواعد نحوية" ، ولم يقبلوا أن يأخذوا من الحديث لماذا ؟ لأنهم يقولون إن الحديث أذن فيه أن يروى بالمعنى ، ونحن لا ندري أهو كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قاله رواة من تصرفهم بالمعنى ، والحجة في قوله لا بقول الرواة ، فأخذوا عن أفواه الأعراب وأخذوا بالقرآن .(7/13)
وأول ما نشأ النحو في البصرة ومن أكبر أئمته الخليل بن أحمد الفراهيدي رحمه الله، ويونس وغيرهم هناك بدأ يبدأ علم النحو صغيراً صغيراً يكتب حتى جاء سيبويه ، وسيبويه فارسي والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول :" لو كان هناك علم معلق بين السماء والأرض لناله رجل من أهل فارس" فهم أهل ذكاء ، فجلس سيبويه عند شيخ له في الحديث فأصبح يقرأ عليه فأراد سيبويه أن يقرأ فقرأ "كل أصحابه كذا وكذا ليس أبا الدرداء" فقرأها سيبويه هنا على أنها ليس هنا أخت كان فقال " ليس أبو الدرداء " بالرفع على أن اسم ليس مرفوع فقال له شيخه أخطأت يا سيبويه هذا استثناء ليس أبا الدرداء " فأطبق الكتاب وقال :" لأطلبن علماً لا ينازعني فيه أحد" ، فترك شيخه وانصرف عن علم الحديث وأقبل على الخليل بن أحمد وأخذ عنه ثم رحل في البوادي يأخذ عن الأعراب وذهب إلى أئمة أهل زمانه وألف كتابه المشهور بـ ( الكتاب ) ومات قبل أن يظهره للناس وهذا أول نشوء مدرسة البصرة .(7/14)
ثم نشأة مدرسة الكوفة ، وخصائص كل مدرسة هذا كلام يطول لكن المهم أن تفقه كيف نشأ علم النحو الإغراق فيه إغراقاً زائداً لا ينفع ، لكن محال أن يطمع أحد أن ينال إمامة في الدين عظيمة وهو يجهل علم النحو لأنه لا سبيل إلى معرفة معنى كلام الله ومعنى كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلا بإدرك شيء كثير من علم النحو ، هذا أصل في مدرسة ظهور النحويين قلنا ظهرت المدرسة الكوفية و المدرسة البصرية ثم جاء في بغداد مدرسة جمعت ما بين خصائص المدرستين ، من أراد أن يكون طالب علم ويتأمل هذا جملة كتاريخ فليقرأ كتاب " تاريخ النحاة " إذا طالب علم واجب أن يقرأه ـ واجب صالحي ليس واجب شرعي ـ " تاريخ النحاة " هذا منه تفهم كيف العرب قَعَدَت القواعد ثم نشأة فيهم علم النحو وهذا يزيد فيه وهذا ينقص فيه وظهرت مدارس وظهر نحويون كبار عبر التاريخ كابن مالك ،والزجاج ، والأخفش الصغير وغيرهم من أئمة النحو ستقرئهم في الكتاب وتفقههم لكن لا بد أن يكون هناك اطلاع على ذلك .
الآن نأخذ الآية التي بين أيدينا نعربها قبل أن ننتقل لأدب يقول ربنا : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ }
يَسْأَلُونَكَ : جملة ماذا فيها ؟ من فعل وفاعل ومفعول به
يسأل الفعل ، الفاعل : واو الجماعة ، والمفعول به: الكاف ، والنون علامة رفع لأنها حرف يصبح الكلام :
يسأل : فعل مضارع مرفوع ـ لأنه لم يسبق لا بناصب ولا بجازم ـ علامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة .
ما الأفعال الخمسة ؟لماذا قالوا الخمسة ؟ لأنها تأتي على خمس صور ، ما هي ؟ ( يفعلان وتفعلان ويفعلون وتفعلون وتفعلين ) لا يمكن أن تأتي إلا على هذه الصور ، (يذهبان تذهبان يذهبون تذهبون تذهبين ، يأكلان تأكلان يأكلون تأكلون تأكلين ) أي فعل ، هذه الأفعال الخمسة .
واوا الجماعة : ضمير متصل مبني ـ لأن الضمائر دائماً مبنية ـ في محل رفع فاعل .(7/15)
الكاف : ضمير متصل مبني في محل نصب مفعول به .
عن : حرف جر .
الشهرِ : اسم مجرور ، ما الذي جره ؟ عن .
الحرامِ : صفة للشهر ، والصفة إحدى التوابع ، والتوابع هي : البدل والصفة والتوكيد والعطف ، تأخذ حكم إعراب الاسم الذي قبلها .
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ } قلنا هذا ما إعرابه ؟بدل اشتمال، والبدل يقع على كم صورة ؟على ثلاث صور وهي : 1.بدل كل. 2. وبدل بعض. 3. وبدل اشتمال .
آيتي بكل واحدة بمثال ..
النحو صعبٌ وطويل ٌ سُلَمُه إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمُه
زلت به نحو الحضيض قدمُه يريد أن يعربهُ فيعجمهُ
يقولون بابه من حديد ، وبداخله كله خشب ، لا تخاف من أول النص .
مثال بدل كل : قرأت عن أمير المؤمنين عمر ، من عمر ؟ أمير المؤمنين ، من أمير المؤمنين ؟ عمر ، هذا بدل كل من كل .
بدل بعض : الشيء الذي يمكن تجزئته ، دائماً النحاة يقولون مثل مشهور : مُطِرَت المدينة شمالها ، لو قلت شمالاً ظرف مكان ، لكن قلت شمالها ، بدل بعض أو أكلت الرغيفَ نصفَه ، الله يقول :
{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } قال في الأول :{ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ{1} قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً{2} نِصْفَهُ } نصفه بدل بعض من الليل هذا بدل بعض .
بدل اشتمال : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } يسألونك عن أمور كثيرة لكن هم يريدون اشتمال القتال في الشهر الحرام ، قلنا قتال بدل اشتمال مجرور.
{قِتَالٍ فِيهِ}: في :حرف جر ، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة.
انتهينا من النحو ..
باقي الأدب ..(7/16)
كذلك يجب أنا أخاطب طلبة العلم يعذرني من ليس له من حضر يبحث عن الأجر ، لا بد أن يكون الإنسان ملماً بسيرة الأدب العربي جملة حتى يفقه كلام الله ، وقد قلت مراراً في دروس سلفت إن الشيخ الأمين رحمه الله مر على السودان البلد الشقيق المسلم المعروف فأكرمه أهلها فقال له أحد الحاضرين يا شيخ : ما آخر كتاب قرأته ؟ فأجاب الشيخ : آخر كتاب قرأته "ديوان عمر بن ربيعة " فضجوا لأن عمر بن أبي ربيعة هذا شاعر غزل مسلم لكنه شاعر غزل كل شعره في النساء ، يقولون ولد في اليوم الذي مات فيه عمر رضي الله عنه فقالوا: "أيُ حق رفع وأي باطل وضع" طبعاً بعد ذلك قالوها وإلا يوم ولد ما يدرون عنه ، هذا عمر بن أبي ربيعة كان شاعر غزل مشهور :
وذو الشوق القديم وإن تعزى شوق حين يلقى العاشقين
فالإخوة تعجبوا كيف تقرأ لعمر بن أبي ربيعة ؟ فقال :"استعين بفهم كلامه على فهم كلام ربي " لأن عمر فصيح ،هو يقول شعر في النساء ـ خليه يقول شعر فيه ملكان يكتبان ، وفيه رب يحاسب ـ خليني أنا في شعره في قوة لغته في استشهاداته حتى أفقه كيف أعرف القرآن المقصود أن يكون الإنسان ملماً بأدب العرب .
كلام العرب ينقسم إلى قسمين :
الشعر و النثر
وقد كان لهم في الجاهلية أسواق ، والشعراء الجاهليون أشهرهم أصحاب المعلقات لكنهم ليس محصوراً فيهم ويجب أن تقرأ للجميع ، وأصحاب المعلقات واحد منهم أدرك الإسلام فأسلم وهو " لبيد بن ربيعة العامري " قال
الحمد لله أنه لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
وأحدهم أدرك الإسلام فأسلم ثم ارتد هو "الأعشى" ـ نسأل الله العافية ـ الأعشى أدرك الإسلام وارتد وكان يسمى "صناجة العرب" أما البقية لم يدركوا فيما أعلم الإسلام هؤلاء الشعراء الجاهليون يجعل لهم أسواق ، وأشهر أسواق العرب ثلاثة :
عكاظ ، ذي المجاز ، المجنة
قال حسان :
سأنشر ما حييت لهم كلاماً يُنشّر في المجنة مع عكاظ(7/17)
وكانوا يضربون لبعض شعرائهم القبب ( قبة) ويأتونهم الشعراء ، ويقولون ممن كانت تنصب له قباب "النابغة الذبياني" فجاءه "حسان" فأنشده قصيدة لكن النابغة فضل غير حسان على حسان فغضب ـ طبعاً في القديم أشبه بالحارات كل شيء بالقوة كل واحد يأخذ حقه كل واحد لسانه يقول ما يشاء لأنه لا يوجد دين ولا يوجد ملك ما فيه حاكم يحكمهم كل يفعل ما يشاء ـ
وأحياناً بكر على أخينا إذا لم نجد إلا أخانا
ورجل عنده جماعته ضعاف لا يعملون شيء قال:
كأن ربك لم يخلق لخشيته سواهم من جميع الناس إنسانا
يعني كأن الله خالقهم فقط لخشيته فكانوا يحبون الاقتتال والسيف والدماء هذا شيء منشور عندهم ) المشهور أن حسان يقول للنابغة : بل أنا اشعر من أبيك ومن جدك ، فقال له النابغة ـ نقد أدبي أسس في تلك الأسواق ـ قال له يا ابن أخي لقد قلت :
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دمَ
هذا كلام حسان :
لنا حاضر بادي وماضي كأنه شماريخ رضوى عزة وتكرما
ولدن بني العنقاء وابني محرق فأكرم بنا خال وأكرم ابن بنما
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
قال النابغة هذا خطأ قلت ( الجفنات ) والجفنات جمع قلة ولو قلت الجفان كان أفضل لأن الجفان جمع كثرة ، وقلت ( يلمعن بالضحى ) يا ابن أخي كل شيء يلمع بالضحى لو قلت يلمعن بالدجى كان أفضل لأن الضيف في الليل أحوج منه من الطعام في النهار وقلت ( أسيافنا يقطرن من نجدة دما )القطر قلة القتل إن كان المفروض تقول ( أسيافنا يجرين من نجدة دما ) فانظر كيف استدرك عليه في بيت واحد مما يدل على أن النابغة كان عظيم مع أن حسان كان شاعراً بلا شك شاعراً بمعنى الكلمة لكن كان العرب يستغلون الأشهر الحرم فما يكون فيها قتال فيحصل بينهم مثل هذه الأمور وإلا شعرهم قائم على الوصف وعلى القتال وعلى الحرب يقول عمرو بن كلوم :
ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطينا(7/18)
إذا بلغ الخطام لنا رضيع تخر له الجبابير ساجدين
ملئنا البر حتى ضاق عنا وماء البحر نملئه سفينا
هم والله كلهم أربعين نفر! لكن كلام شعراء
ويقول بن الربيعة :
ولولا الريح اسمعن من بحجر الخيل تقرع بالذكور
يقول الحرب في نجد والناس تسمعها في الشمال في تبوك هذا شيء غير معقول لكن هو الشعر كله قائم على الكذب وعلى المبالغات ، المهم بالنسبة لنا أن يعرف الإنسان العالم أسلوب العرب في كلامهم لأن القرآن نزل بأسلوب العرب في كلامهم ، يقول امرؤ القيس ( زرق كأنياب أغوال ) معروف إنه ما فيه شيء اسمه غول هذا شيء تتخوف به الأعراب نزل به القرآن الله يقول { طلعها كأنه رؤوس الشياطين } ما فيه أحد رأى الشيطان لكن الله خوفهم بشيء مبهم في عقولهم مثل ما قال امرؤ القيس :( زرق كأنياب أغوال ) مع أن العرب تخوف نفسها بالغول ولا يوجد شيء اسمه غول على الحقيقة .
على العموم لا بد من طالب العلم أن يحفظ الكثير من شعرهم حتى يكتسب قوة في فهم كلام العرب الجاهلين ثم الفترة التي كان فيها شعراء أدركوا آخر الجاهلية والإسلام هؤلاء الشعراء يسمون" شعراء مخضرمين" من أشهرهم "حسان ، و الحطيئة ، وكعب بن زهير" وأمثالهم ممن أدرك الجاهلية والإسلام وكانوا ذوي باع كبير ، حسان رضي الله عنه عاش ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام فضل الله يؤتيه من يشاء مدح الغساسنة :
لله در عصابة نادمتهم يوماً بجلق في الزمان الأول
يسقون من ورد المريص عليهم بردا يصفق بالرحيق السلسلِ
يغشون حتى ما تخر كلابهم يوما يسألون عن السواد المقبلِ
بيض الوجوه كريمة أحسابهم شم الأنوف من الطراز الأولِ
أولاد جفنة حول قبر أبيهم قبر ابن مارية الكريم المفضلِ(7/19)
قصيدة طويلة ثم لما جاء الإسلام أكرمه الله بأن دخل فيه فأصبح شاعر الرسول صلوات الله وسلامه على نبينا ، ورضي الله عن حسان وهو خزرجي ، "الحطيئة " كان بذيئاً نسأل الله العافية واشترى منه عمر أعراض المسلمين وسجنه في بئر، فقال يستعطف عمر :
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاظفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الأمين الذي من بعد صاحبه ألقت إليه مقاليد نهى البشر
عمر رضي الله عن عمر وهو عمر لما قال له الحطيئة ( ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ) بكى، فقال عمرو بن العاص : "ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء رجلٌ أعظم من ابن حَنْتَمَة " من ابن حنتمة ؟ عمر لأنه قال هذا الذي دوخ كسرى وقيصر يبكي على تركة الحطيئة فعمر العظيم من يجمع ما بين القوة واللين أما الذي يأتي فقط قوي ما في قلبه لين هذا جبار والذي كله لين ما فيه قوة هذا ضعيف ما يقلد أمر لكن من يجمع مابين القوة واللين كل في موطنه هذا العظيم ولا ريب أن عمر من أجل عظماء التاريخ هذا الحطيئة وهو القائل :
لما بدا لي منكم غيب أنفسكم ولم أجد لجراحي منكم آسِ
أزمعت يأساً مبيناً من نوالكم ولن ترى طارداً للحر كاليأسِ
شوف يا بني لابد أن تفقه شعرهم هذا تتمثله لأنه لا يمكن أن تعبر عن أحوال الناس الآن إلا بشعرهم ، الحوادث هي الحوادث وقد قالوا فيها شعر ما عاد تقدر تقول شعر جديد لكن تمثل بما قالوه ( ولن ترى طارداً للحر كاليأسِ ) وهناك بني الأمويون والعباسيون وهذا سيأتي إن شاء الله في حينه .
تنبيه :
هذا آخر درس في الخميس ، الخميس القادم عندي درس في أبها ، الخميس الذي بعده عندي درس في الرياض ، وبعده الظاهر اختبارات ، وإن تغير شيء وأقمنا دورة إن شاء الله تعالى هنا أو في غير هذا المسجد المبارك سنعلن عنها في حينها .
هذا ما تيسر
الآن نجيب على الأسئلة(7/20)
س/ يقول قال - صلى الله عليه وسلم - :" ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله .." هل الفصل الدراسي أو المخيمات تأخذ حكم المساجد في الفضل ؟
لا تأخذ حكم المساجد بالكلية أبداً لكنها تأخذ خيراً عظيماً .
س/ هل إذا توضأت في وقت نهي أصلي مع العلم أنها عادة ؟
على مذهب الشافعي يجوز وعلى مذهب الجمهور لا يجوز ، لأنها عند الشافعي صلاة سبب .
س /وهل إذا رجعت من سفر في وقت نهي كذلك أصلي ؟
نفس الجواب الأول .
س/ شخص أتى من الرياض يريد عمرة وليس محرماً وسألني في المدينة .
يحرم من المدينة .
س/ يقول هلا ذكرت لنا سلماً نتدرج فيه في علم النحو في علم البلاغة ثم في علم الأدب ؟
بالنسبة لعلم النحو اقرءوا كتاب " جامع الدروس العربية " لمصطفى الغلايين رحمه الله.
بالنسبة للأدب اقرءوا كتاب " المنتخب من عصور الأدب " هذا للمبتدئين .
وفي البلاغة اقرءوا "البلاغة فنونها و أفنانها " لفضل عباس أظنه أردني ، جيد في بابه.
هذا ما تيسر
شكر الله لكم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
- - - - -(7/21)
تفريغ سورة طه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدًا كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد أن لاإله إلاّ الله وحده لاشريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد ....
ففي هذا اللقاء المبارك نستفتح سورة ( طه ) ، وسورة ( طه ) من العِتاق الأوَل مثل قرينتها سورة ( الكهف ) التي قد انتهينا منها في اللقاء الماضي ، على أن سورة ( طه) أُنزلت بعد سورة ( مريم ) وهي كذلك في ترتيب المصحف بعد ( مريم ) ، ولكن الذي جعلنا نبدأ بسورة ( طه ) أن لنا تفسير لسورة ( مريم ) موجود بين الناس متداول ، فأحببنا أن نبدأ بما لم نشرع به ، فلنا وقفات مع سورة ( مريم ) لذلك بدأنا بسورة ( طه ) وسنعود ـ إن شاء الله ـ إلى سورة ( مريم ) لكن ننبه أنه من حيث النزول أن ( طه ) بعد ( مريم ) وكِلاهما سورة مكيِّة إلاّ آيتين من سورة ( طه ) اختلف فيهما وهما الآيتين (130) و(131) ....
نبدأ مستعينين بالله ـ جلّ وعلا ـ سورة ( طه ) استفتحها العلي الكبير بقوله : { طه ، ماأنزلنا عليك القرآن لتشقى } ومن أكثر أحرف القرآن المتقطعة في أوائل المصحف إشكالاً هذان الحرفان ( طه ) ذلك أن العلماء من حيث الجملة انقسموا إلى قسمين في فهم هذا الأمر :
*منهم من قال : إن ( طه ) هي من جنس الحروف المتقطعة ، ومما يعينهم على هذا الفهم أن الحرفين ( الطاء ، والهاء ) من نفس الأحرف التي جاء بها افتتاح القرآن (طسم ،كهيعص ....) فـ ( الهاء ، والطاء ) وجدتا من قبل في فواتح القرآن .. فهذا منحى ، وهو يجري عليه أحكام رأيِّنا في قضيّة فواتح القرآن ـ الأحرف المتقطِّعة ـ وهذا فصّلنا فيه في افتتاح سورة ( ن) ولاحاجة لإعادته ...(8/1)
* الحالة الثانية أن بعضهم قال : أن طه ليست من الأحرف المتقطِّعة ، وهؤلآء اختلفوا فيما بينهم في ما لمقصود بكلمة ( طه ) :
* بعضهم قال إنها فعل أمر ( طأ ) بمعنى( ضع ) من ( وطِأ ) ، وهؤلاء يقولون أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا قام الليل يقوم على قدمٍ ويرفع أُخرى فجاء القرآن تسلية وتعزية له ...
* والفريق الآخر قال : أن ( طه) كلمة معناها ( يارجل) وحرف النداء محذوف ...
* وقال فريق من العلماء : إنها اسم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكنت إلى عامين أو عامٍ تقريباً أذهب إلى أنها من الحروف المتقطِّعة ، لكن الذي يبدو أن القول بأنها اسم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقوى .. ووجه القوة مما يأتي : تدبُّر القرآن ـ لولا آية الشورى لجزمت ، لكن آية الشورى هي التي أوقفتني ـ تدبُّر القرآن ـ وهذه طريقة في فهم القرآن ـ .. فالله تعالى يقول { الم ، ذلك الكتاب .....} { الم ، الله لاإله إلاّ هو الحي القيّوم } { طسم ، تلك آيات الكتاب المبين }.... إلى غير ذلك من آيات القرآن ، فلا يكون بعد الحروف المتقطِّعة مخاطبة مباشرة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اللهم إلاّ في الشورى { حم ، عسق ، كذلك يوحي إليك وإلى اللذين من قبلك ...} وهذه هي التي أوقفتني ، وأمّا هنا فهناك مايشعر أن ( طه) اسم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ الخطاب يقول : { طه ، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } ...(8/2)
أمّا من قال من الأفاضل من العلماء أن معناها ( يارجل ) فنعم ورد في شعر العرب في شعر متمم وغيره أن ( طه ) بمعنى ( رجل ) لكننا نستبعدها لأن ليس لها نظائر والمعنى بأننا نقول : إذا اتفقت الأمّة على أن الله ـ جلّ وعلا ـ إكراماً لنبيه لم يخاطبه باسمه فلم يقل له في القرآن ( يا محمد ) فكيف يعقل بأن يناديه ( يارجل ) ؟! هذا بعيد ، فكل الذي في القرآن ( ياأيها النبي ...) و (ياأيها الرسول ...) فلا يمكن أن ينتقل من هذه الفوقية حتى ينادى ( يارجل ) وهذا بعيد وإن كانت اللغة تحتمله ، لكننا نقول إن القول إن ( طه ) كاسم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير بعيد نميل إليه ميلاً كثيراً ، وهذا مستخدم حتى في الشعر العربي ، والذي ينبغي عليك أن تعقد عليه أن تعلم أنه لو قُدِّر أنّك ارتأيت ـ كما ذهب بعض مشائخنا ـ إلى أن ( طه ) من الحروف المتقطِّعة لكن لايُنكر على من ذهب أن ( طه ) اسم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد مر معكم ـ فيما يبدو لي أن سماحة الوالد الشيخ ابن باز، والشيخ العلاّمة ابن عثيمين ـ رحمة الله تعالى عليهما ـ أنشد بين أيديهما قصيدة للتويجري كان مطلعها :
دم المصلين في المحراب ينهمر ..... وفي القصيدة كان مذكورا مانصّه :
إذا تطاول بالإهرام منهزم
فإن أهرامنا سلمان أو عمر
أهرامنا شادها طه دعائمها
وحي من الله لاطين ولاحجر
فالشيخان كبَّرا حينما سمعا هذين البيتين ، ولم ينكرا كلمة ( طه ) مع أن الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ كان يرى أن ( طه) ليست اسماً للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لكن الآية كما قلنا قابلة للأخذ والعطاء ، وليست مجال إنكار ، والبيتان اللذان ذكرناهما من جميل الشعر الإسلامي المعاصر ... نعود فنقول إننا نختار أن ( طه) اسم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ...
{(8/3)
ماأنزلنا عليك القرآن لتشقى } ( ما ) نافية قطعاً ، و ( أنزلنا ) أخبر الله أن القرآن منزل من عنده ـ وهذا مرّ معنا وفصّلنا القول فيه وأنواع التنزيل ـ ونذكِّر بأن الله لايقول أن شيئاً أُنزل من عنده إلاّ القرآن ، وإلاّ يُبهم أو يسنده إلى غيره .. { فأنزلنا على اللذين ظلموا رجزاً من السماء } ولم ينسبه إلى نفسه ،{ وأنزلنا من السماء ماء طهوراً } ولم يقل من عنده ، وأما الذي ينسبه الله إلى ذاته العليّة لايكون إلاّ في القرآن { تنزيل العزيز الرحيم } .. إلى غيرها من الآيات الشهيرة ، نعود فنقول: الله يقول لنبيه : { ماأنزلنا عليك القرآن لتشقى } أولاً: مالشقاء ؟ الشقاء العناء والتعب ، وإنّما مقصود الآية أن هذا القرآن أنزلناه رحمةً بك وبه ترحم الناس ، وليس المقصود من إنزاله أن يصيبك شقاء وعناء وتعب من كثرت محاورتك لقومك ، وكثرت تأسُفك على حالهم فإنّك لست مكلَّفاً بأكثر من أن تدعوهم إلى الدين , وهذا المعنى يؤيده القرآن كله { لست عليهم بمسيطر } { فلعلَّك باخع نفسك على آثارهم }{ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } فكل القرآن يؤيد هذا المعنى في أن الله ماأنزل هذا القرآن على نبيه حتى يصيبه من الكبد والعناء والشقاء بسبب جحود قومه له ...
{ إلاّ } استثناء منقطع { تذكرة لمن يخشى } فالقرآن تذكرة ، لكن هذه التذكرة لايفرح بها ولاينالها كل أحدٍ ، وإنّما ينالها أهل من ؟ أهل الخشية ، ومن يخشى يدخل فيها جميع من خشي الله وفي مقدمتهم ، بل في ذروتهم نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
{ تنزيلاً } أي هذا القرآن ، مفعول به مطلق لفعل محذوف أي : نزلناه تنزيلاً
{ تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلى } الله ـ جلّ جلاله ـ ، وقدّم الأرض هنا على السموات لأنها ألصق بحياة الناس ، وهي أولى الآيات المحسوسة بالنسبة لهم ..
وخلق السموات والأرض من أعظم الآيات الدالة على عظمة الله قررته أكثر من آية في كلام الله ..
{(8/4)
الرحمن على العرش استوى } أي : من خلق الأرض والسموات العلى هو الرحمن ، وهي خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هو الرحمن على العرش استوى ، والرحمن : اسم من أسماء الله الحسنى ، بل من أعظم أسمائه الحسنى ، فالرحيم يجوز تنكيرها وينادى بها غير الله .. يقال : فلان رحيم لغيره , لكن لايقال : فلان رحمن لغيره , فهذا من الاسماء المختصّة بالله ـ جلّ وعلا ـ ..
{ العرش } سرير ذو قوائم تحمله الملائكة ، الدليل على أنّه ذو قوائم : قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : { فأكون أوَّل من تنشق عنه الأرض ، فإذا بموسى آخذٌ بقوائم العرش } فهذا نص صريح على أن العرش له قوائم .. ، أمّا في حمل الملائكة للعرش فآية الحاقة قال الله ـ جلّ وعلا ـ:{ ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } وقال الله في غافر : { الذين يحملون العرش ومن حوله } فأثبت الله أن هناك ملائكة تحمل العرش .. { استوى } استواءً يليق بجلاله وعظمته، وهذه أحد ست آيات أخبر الله ـ جلّ وعلا ـ فيها أنّه مستوٍ على عرشه ، ولاينبغي العدول أبداً عن قول أهل السنة ( أن الاستواء معلوم والكيف مجهول ) لأن ذكر الله للاستواء في أكثر من موضع يصل إلى ست ولايتغيّر اللفظ دليل على أن اللفظ مقصود لايقوم مقامه غيره كما ذهب بعضهم أنه بمعنى استولى ـ وهذا باطل ـ وإنما أخبر الله ـ سبحانه ـ أنه مستوٍ على
عرشه ، ونحن نقول : نؤمن بكلام الله على مراد الله ، ونؤمن بكلام رسول الله على مراد رسول الله ـ وكان الشافعي يردد هذا كثيراً ـ آمنت بالله وماجاء عن الله على مراد الله ، وآمنت برسول الله و ماجاء عن رسول الله على مراد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ...
{(8/5)
له } ملك ،{ مافي السماوات ومافي الأرض ومابينهما وماتحت الثرى } كم أملاك؟ أربعة : السماوات ، والأرض ، وما بينهما ، وما تحت الثرى .. واختلف في معنى وما تحت الثرى .. ولعله يدخل فيها من حيث الاستئناس المعادن التي في الأرض ، وكنوز الأرض المدفونة الغير ظاهرة ..، ومابين السماء والأرض الأشياء الظاهرة , وينبغي أن تعلم أن الله ملك الأملاك , ورب الأفلاك , وأنه ـ جلّ وعلا ـ متصرف في هذه الأربعة تصرفاً تاماً , فهو الذي أوجدها ، وهو الذي يملكها , وهو الذي يفنيها , وهو الذي يحيي من شاء منها , وهذا كله ملك تام لانقص فيه من أي وجه من الوجوه ... {و ما تحت الثرى } ( ما) هنا موصولة والمعنى والذي تحت الثرى , وليست نافية ...... ـ ومن باب الفوائد ـ ( ما ) الموصولة لايجوز الابتداء بها فمن أخطاء القُرَّاء مثلاً آية { قولوا آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أُوتي النبيون من ربهم لانفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } لايجوز أن تقرأها ثم تقول : { وما أُوتي موسى وعيسى وما أُوتي النبيون من ربهم } فلا تبدأ بـ { وما أُوتي موسى وعيسى ...} لماذا ؟ لأنه يصبح المعنى ( ما ) ماذا ؟ نافية , فما الموصولة لايُبدأ بها .. , إنما تعود فتقول { إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب .....} ....
*فهنا لو أن إنساناً إنقطع نفَسَهُ فلايقول لوحدها { وما تحت الثرى } كأنه ينفي , لأنها موصولة فلا يبدأ بها , لأن واو العطف لاتعتبر شيء , وهذا يحترزه من كان منكم إماماً ..(8/6)
نعود فنقول : ثم قال الله : { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى } يقول بعض المفسرين : إن المعنى أن الله يقول لنبيه لاحاجة للجهر فإن الله يعلم السر وأخفى ـ وأظنه بعيد ـ على جلالة من قاله ، وإنما المعنى إخبار النبي بعظيم علم الله , أو أن يقال أن الخطاب لقارىء القرآن وليس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقصوداً به إلاّ في المقام الأول باعتبار أن القرآن أُنزل عليه , ومعنى { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى } أن القول ينقسم إلى ثلاثة أقسام : * جهر * وهو ماتعلنه, تقوله علانية فيسمعه من ترغب ومن لا ترغب .. , * السر * ماتعلنه لكن تسمعه من ترغب , فلو أني استدعيت أحدكم وأجلسته بجواري فأسمعته فأنا أجهرت له بالقول حتى يسمعه لكن لايسمى جهر يسمى سر لأنني أردت به شخصاً بعينه .. , مالذي أخفى من السر ؟ الشيء الذي في قلبك وفي نفسك ولم تخبر به أحداً , فهذا الذي قصده الله بقوله
{ وأخفى } أي ماهو أخفى من السر مالم تخص به أحداً بعينه , وهذه مراتب القول والمقصود منها عظيم علم الرب ـ جلّ وعلا ـ ...
{ وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى } من هذا الذي يعلم السر وأخفى ؟
{ الله لاإله إلاّهو له الأسماء الحسنى } وقد مر معنا أن لفظ الجلالة ( الله ) لم يتسمى به أحد وهو معنى قوله ـ جلّ وعلا ـ : { هل تعلم له سمياً } .. { له الأسماء الحسنى } فالله ـ جلّ وعلا ـ له أسماء حسنى وصفات عُليا ، وجملة مايمكن أن تفقهه أيها الأخ المبارك أن تعلم أن الله ـ جلّ وعلا ـ وجهه أكرم الوجوه , وأسمائه أحسن الأسماء , وعطيته أحسن العطايا فتوسَّل إلى ربك بهذه الثلاث قل : ( اللهم ياذ الوجه الأكرم ، والاسم الأعظم ، والعطية الجزلاء ..... ثم سل الله ماشئت )
{(8/7)
له الأسماء الحسنى } هذه الاسماء ذكر منها تسعة وتسعون على اختلاف العلماء في تحديدها , وبعض أهل التحقيق من أهل العلم يقول إنها أكثر من تسعة وتسعين , وحجَّتهم ماجاء في الخبر الصحيح ( كل اسم سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ... ) فقالوا إن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب غير التسعة والتسعين التي أظهرها وبسطها لخلقه ...(8/8)
•وهذا كل ماسلف بيان لعظمة الجبّار ـ جلّ وعلا ـ وإظهار لبعض صفاته , وأن له كمال الأسماء وأجمل الصفات , وأنه أحق من عبد , وأجلّ من شُكر وأرأف من ملك , وأوسع من أعطى ..., ثم بعد أن قرر الله ـ جلّ وعلا ـ هذا لنبيه ذكر له قصة الكليم (موسى بن عمران) ـ عليه الصلاة والسلام ـ , و( موسى بن عمران ) من أُلي العزم من الرسل الذين تكررت قصصهم في القرآن في مواطن شتى ـ سيأتي تفصيلها ـ .. لكننا هنا سنقف عند مانحن معنيِّون به .. , قال الله ـ جلّ وعلا ـ لنبيه : { وهل أتاك حديث موسى } و( هل ) حرف استفهام المقصود به هنا التشويق , حتى تكون أُذن السامع متلهفة لإرعاء السمع , و( موسى ) هو موسى بن عمران .. { إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى } هذا متى ؟ هذا بعد عودة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ من أرض مدين , فموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ خرج إلى أرض مدين ـ التي هي البدع الآن شمال الجزيرة العربية شمال المملكة ـ بعد أن فرَّ بسبب قتله للرجل القبطي , مكث في أرض مدين ـ كما سيأتي تفصيله في مواضع ـ عشر سنين , بعد أن جلس في مدين عشر سنين أخبر العبد الصالح ـ صهره ( أبو زوجته ) ـ أنَّه يريد أن يرجع ، فأذن له بعد أن أتم له موسى الأجل , خرج من البدع وأصبح خليج العقبة على يمينه ، ثم رجع حتى أصبح خليج العقبة على يساره ، وكان موازياً للبحر ، ثمّ دخل على صحراء سيناء وكان هناك جبل الطور في مكان مانُبِّأ , وبعد أن نُبِّأ دخل بعد ذلك واستمر حتى قطع خليج السويس ودخل أرض مصر ..(8/9)
, سنتكلم نحن عن هذه المنطقة وعن الأحداث العظام التي نُبِّأ فيها موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأُرسل في هذا الموطن , فنقول الله ـ جلّ وعلا ـ يقول لنبيه : { وهل أتاك حديث موسى } أي خبر موسى , { إذ رأى ناراً } متى رأى النار ؟ رآها في ليلة باردة مظلمة ومعه زوجته وغنمه { فقال لأهله امكثوا إنّي آنست ناراً } ولم يقل إني رأيت ، لأنه كان يشعر بوحشة وخوف , فلمّا رآها شعر بشيءٍ من الأنس { إنّي آنست ناراً } , واحترازاً من الكذب قال ـ عليه الصلاة والسلام { لعلي آتيكم } ماقال سآتيكم منها , وهذا كله احترازه من الكذب قبل أن يُنبّأ , حتى تعلم أن الله أعلم حيث يجعل رسالته .. { بقبس } ما لقبس ؟ الجذوة من النار يعني القطيع من النار , القطعة من النار تسمّى جذوة ، والقطعة من الليل تسمّى هزيع , وكل شيءٍ منه قطعة له اسمه في اللغة ... إذا كانت الجذوة من النار هي القطعة من النار إذا كانت ملتصقة بعود ـ لم تكن جمرة لوحدها ـ تسمَّى قبس , إذا أخذنا عود ( حطب ) من النار فيه النار باقية مشتعلة تسمَّى قبس , وفي نفس الوقت تسمَّى جذوة لأنه قطعة من النار , فإذا أخذناه على هيئة جمر ليس فيه عود كامل يسمَّى جمرة , ولايسمَّى قبس ... قال الله في سورة أُخرى { شهابٍ قبس } يعني نار مشتعلة , وهذه أُمنية موسى الآن , وخوفاً على أهله قال { امكثوا } والعاقل كما تقول العاميِّة : ( لايوضع البيض في سلَّة واحدة ) فلو كان فيه مهلكة يهلك هو وينجوا أهله { لعلي } احترازا من الكذب , { أو أجد على النار هدى } أي من يهديني ويدلَّني على الطريق الذي أضعته ... , أتى موضع النار فرأى ناراً تضطرم في شجرة (عوسج ) على الأظهر , فرأى النار تزداد وقوداً والشجر يزداد خضرة وهو مايتنافى في الأصل , لأن النار إذا كانت حارقة لن تُبقي للخضرة , وإذا كانت الخضرة ريِّانة لن تُبقي على النار لاتجتمعان , لكنه يرى النار تزداد نوراً ويرى الشجر يزداد خضرة .........(8/10)
وجملة نقول أن النار ثلاثة أقسام : * نار لانور فيها وهي حرقة ( وهي نار جهنَّم ) ـ أعاذنا الله وإيكم منها ـ , * ونار فيها نور وليست بحارقة ( وهي النار التي رآها موسى ـ عليه السلام ـ ) , * ونار فيها نور وهي حارقة ( وهي نار الدنيا ) فأي نار تشعلها لها نور تضيء ماحولها , وفي نفس الوقت تحرق من يضع يده فيها ...
{ فلمَّا أتاها نودي } من الذي ناداه ؟ رب العزة ـ جلّ جلاله ـ وهذا معقل منيف , ومنزل شريف , وعطية قلَّما تعدلها عطية إلاّ أن يرَ العبد ربه , { فلمَّا أتاها نودي ياموسى } وكان في خوف فطمئنه الله ولم يطالبه بالتكليف .., فقال له : { إنِّي أنا ربك } ليشعره بالاطمئنان , ووالله إن الإنسان ليسمع رجلاً أقوى منه ـ مديره أو أبوه أو مسؤوله أوأميره أو زعيمه ـ يطمئنه أنه معه فيغشاه شيءٌ من السكينة , فكيف إذا سمع عبد مخلوق في ليلة شاتية مظلمة رب العزة والجلال يناديه { إنِّي أنا ربك } من غير واسطة ؟!
{(8/11)
فاخلع نعليك } والمقصود من خلع النعلين أمران : * الأول : أن تمس موسى كله بركة الوادي , فلا يصبح هناك فاصل مابين بركة هذا الوادي المقدَّس ومابين جسد موسى . , * والأمر الثاني : أن يشعر موسى بالتواضع , وعظمة الوقوف بين يدي رب العزة والجلال ـ جلّ جلاله ـ في مقام التكليم .. { فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى } وانظر كيف يؤدب الله نبيه ويرعاه يخبره بكل شيء , فأخبره بأنه ربه , أخبره أنه في واد مقدس اسمه طوى , والإنسان إذا كان يجهل الأشياء التي حوله يصيبه الرعب , فأول ماأعطى الله نبيه موسى التعريف التعريف بالأشياء التي حوله { ياموسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى } وهذه شهادة من رب العباد لهذا الوادي بأنه وادٍ مقدس , وقطعاً لو لم يكن وادياً مقدسا لما اختار الله تلك البقعة التي سمَّاها في سورة أُخرى بقعة مباركة ليكلم فيها عبده وكليمه وصفيه موسى بن عمران ... { طوى } بدل من { الوادي المقدس } يعني أن اسم الوادي ( طوى ) ....
{ وأنا اخترتك } ولايمكن أن نأتي بألفاظ تساعد أكثر من ألفاظ القرآن في بيان هذا الأمر العظيم في أن الله ينادي عبداً من عباده لامنَّة له على الله ولا فضل , ولا يدري هو لأي شيءٍ غادٍ , كان همُّه جذوة من النار فعاد وهو كليم الواحد القهار يقول له رب العزة في موقف عطاء وبذل كريم : { وأنا اخترتك } اخترتك لعظائم الأمور , للنبوة , للرسالة , لجلائل الطاعات , ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالته إذ جعلها في هذا الكليم ـ عليه السلام ـ { وأنا اخترتك } إذ أصبح موسى مرهف السمع لربه , فقال له ربه { فاستمع لما يوحى } موصولة .. أي للذي يوحى , ولكن الله لم يعطه الأوامر والتكاليف إلاّ بعد أن أشعره بالأمان , ورفعه إلى أعلى المنازل , وآواه أيما إيواء , وغرس في قلبه التلقي من رب العزة والجلال , وهي إحدى طرائق الوحي الثلاثة , بل إنها أرفع طرائق الوحي الدنيوية .
{(8/12)
إنني أنا الله } قلت مراراً هذه الآية من أعظم الأدلة على أن اسم الله الأعظم هو لفظ الجلالة ( الله ) , ووجه الدلالة أن الله ـ جلّ وعلا ـ لما أراد أن يعرف نفسه لعبده موسى قال له { إنني أنا الله } فاختار الرب ـ جلّ وعلا ـ هذا الاسم دون غيره من الاسماء الدالة عليه ـ جلّ وعلا ـ ليعرِّف به نفسه لكليمه موسى , ولايلزم أن نجزم لكن نقول إشارة قوية وأمر فيه تلميح قوي إلى أن لفظ الجلالة ( الله ) من أعظم أسماء الله الحسنى إن لم يكن هو اسم الله الأعظم ...
{ لاإله إلاّ أنا } ومادام قد تحقق لديك ياعبدنا أنه لاإله إلاّ أنا فيجب أن تصرف العبادة لي دون سواي , ولهذا قال الله له : { فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } طبعاً لايمكن أن يدعوا موسى الناس لعبادة الله حتى يحقق العبودية في نفسه , فالرسول الذي يحمل هم أمر لابد وأن يكون مقتنعاً به أولاً , ولايمكن للإنسان أن يحقق هدفا هو غير مقتنع به , وعظائم الأمور , وجلائل الهبات لاتُنال إلاّ إذا انطلق الإنسان من خاصة نفسه , يتصرف في السر كما يتصرف في العلانية , ويؤمن بقضيته أمام الملأ وفي الخلاء , أما إن كانت القضايا بالنسبة له يجلب من ورائها ديناراً أو درهماً فسيكون سيره في تلك القضية ضعيف إن لم تنكشف عورته وتظهر سوأته مابين يوم وآخر , لكن الله وطَّن في قلوب أنبيائه محبته وإجلاله ـ جلّ وعلا ـ وعظمته وحبهم وعبادتهم لربهم
{ إنني أنا الله لاإله إلاّ أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } وفي هذا دلالة ظاهرة على أن الصلاة من أرفع العبادات , اختلفوا في قوله ـ جلّ شأنه ـ : { لذكري } هل هو للتعليل أي لأقامة ذكري ؟ , أو على ذكري ؟ بمعنى في الوقت الذي أمرتك أن تذكرني فيه ؟ وهذا يؤيده حديث صحيح : ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لاكفارة لها إلاّ ذلك ) ثم تلا { وأقم الصلاة لذكري } ...
{(8/13)
إن الساعة آتية أكاد أُخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى } أخذ الله ـ جلّ وعلا ـ يبين لموسى قضية الساعة , والساعة هي الأذن بفناء الدنيا { إن الساعة آتية } أي قادمة لامحالة { أكاد أُخفيها } اختلف العلماء في ( أكاد) هذه , لكن الأظهر أن يقال أنها على بابها فعل من أفعال المقاربة ـ نحوياً ـ أخ لـ (كان) , والفرق بينها وبين( كان) , تسمعون( كان وأخواتها) , فما دام ( كاد) و( أوشك) و(عسى) و ( اخلولق ) تعمل عمل (كان) لماذا لم يقولوا بأن هذه الأربع تدخل مع (كان وأخواتها) وينتهي النزاع ؟ والسبب أن ( كان وأخواتها) خبرها يأتي مفرداً, ويأتي جملة اسمية, ويأتي جملة فعلية , أما ( كاد وأوشك وعسى ) شرط في خبرها أن يكون جملة فعلية , فانفكت عن ( كان ) في العمل من هذا الباب ... { أكاد } بمعنى قارب وهي على بابها , فيصبح معنى الآية أن الله لم يخفِ الساعة بالكلية , وإنما أظهر أشراطها وعلاماتها , وفي نفس الوقت لايعلم عينها ـ تحديداً ـ إلاّ الله ...
{ لتجزى } أي بعد أتيانها { كل نفس بما تسعى } ( كل ) من ألفاظ العموم
{ فلا يصدنَّك عنها } والخطاب لمن ؟ لموسى الآن ,{ فلا يصدنَّك عنها }عن أي شيء ؟ قيل إن ( عنها ) عائد على الصلاة , وقيل أن ( عنها ) أي عن الإيمان بالساعة ..., والصواب أن يُقال : أن{لا يصدنَّك عنها }أي عن الإيمان بالساعة وما يتعلق بالاستعداد لها ...
{ من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى } فذكر الله صفتين للصادين عن سبيله وهما عدم الإيمان بالله , واتباع الهوى .., { فتردى } بمعنى فتهلك , وأتوقف هنا حتى يستقم التفسير الذي بعده .., والمقصود بالهلاك هنا ماذا ؟ دخول النار وعدم مقاربة الجنة وهو أعظم الهلاك .. هذا ماسنكتفي فيه في سورة ( طه ) , لكننا سنعرِّج على فوائد عامة عما مضى من الآيات , سنتكلم إجمالاً كيف نستعين به في فهم القرآن :(8/14)
* عبَّر الله عن الزوجة هنا في قضية موسى بكلمة ( الأهل ) وهو أفضل مايعبَّر به عن الزوجة في قضايا الائتلاف , في المحاكم والقضاء وشؤون الحقوق يقال ( زوج وزوجة ) , بعض الصحابة والصحابيات لمّا سألهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن عائشة في حادثة الإفك ماذا قالوا ؟ قالوا يارسول الله أهلك ولانعلم إلاّ خيراً .. ماقالوا زوجتك , وأنا أعرف بعض من حولنا إذا أراد أن يكتب رمزاً لهاتف جوال زوجته في الجوال يكتب ( الأهل ) اتباعاً للقرآن , لا يكتب أم فلان ولاعبارات مبالغ فيها , أنا أريد أن أذهب إلى أهلي , سأوصل أهلي , اتصل بي أهلي , فالقضية ليست قضية حساسية مفرطة ممن حولنا , بل القضية في المقام الأول أن مما يفتح به الله عليك في فهم القرآن أنك تحاول استخدام أسلوب القرآن { فقال لأهله امكثوا إنّي آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس } قالنا أن العلماء يقولون : أن موسى ـ عليه السلام ـ قال:
{ لعلي } من باب الاحتراز , وهذه أصلاً قضية عامة .. يقولون : أن أهل العقل لايضعون أقدامهم اليُمنى حتى يجدون موطأً لليسرى , ويفكرون في طريق الرجوع قبل أن يفكروا في طريق الذهاب , والعاقل لايقطع الحبال كلها عن نفسه , وإنما يجعل له طريق عودة , وهذا الذي قصده موسى { لعلي آتيكم منها بقبس } , و( لعل ) في القرآن على بابها إلاّ في موضع واحد ، فـ ( لعل) عند النحويين حرف يفيد الترجِّي ـ للرجاء ـ ويستخدم في الغالب فيما يُرجى وقوعه , ويقولون في ( ليت ) إنها حرف للتمني وهي قرينتها في العمل إلاّ أن ( ليت ) فيما لايرجى في الغالب وقوعه ومنه قول الشاعر : ألا ليت الشباب يعود يوماً
فأخبره بما فعل المشيب(8/15)
والشباب لايعود فعبّر بـ ( ليت ) , أمّا ( لعل ) للترجِِّي , وهي على بابها إلاّ في موضع واحد في سورة الشعراء قال الله ـ جلّ وعلا ـ : { وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون } فهنا ليست للترجِّي , وإنما بمعنى ( كأنكم تخلدون أو كأنما تخلدون ) لأن الموت اتفق الناس على أنه لايدفعه شيء , حتى أهل الكفر مؤمنون بالموت , ولذلك لايوجد موطن سكن إلاّ وجواره مقبرة , وهذا في كل مكان في الدنيا , فلم يقل أحد أن تشييد البناء والمبالغة فيه يدفع الموت , لكن بعض الناس يشيد بناءه كأنه لا يموت كأنه مخلد , وهو يعلم أنه غير مخلد وهذا هو معنى الآية : { وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون } ...
* مما يستفاد من القضية هذه أن اللذين حولك أحوج ما يكونون إلى الأمن , والإنسان إذا أُعطي الأمن يعطي القدرة على العطاء , أما إذا شعر الإنسان بالخوف فإنه يكون غالباً غير قادر على العطاء قال الله ـ تعالى ـ في حق أهل الكفر : { فأجره } أي أشعره بالأمن { حتى يسمع كلام الله } لأنه لن يستطيع أن يسمع كلام الله ويفقهه عنك وهو خائف وجِل , والسيف إذا وضع على رقبة أي إنسان يجعله لا يعقل و وأحد الأمراء ـ دون ذكر أسماء ـ من الخلفاء السابقين في عهد بني أُمية أتى برجلٍ صالح ومعه زمرة من أصحابه , وكانوا قوماً صالحين , وهذا الزعيم فيهم كان مشهوراً بثبات جأشه وفصاحة لسانه(8/16)
فقال له الناس في ذلك الموضع تكلم قل , قال : ماذا أقول ؟! سيف مشهور , وكفن منشور , وقبر محفور ... من أين يأتي الكلام ؟ وهو محق أن الخوف والوضع الذي أنا فيه لا يساعد على أن أتكلم , ولهذا أراد الله لهذا العبد الصالح موسى لما أراد الله أن يفيء عليه بعظيم العطايا وجزيل المواهب , ومقام التكليم كما قلت مقام لا يمكن تخيله والله كلم موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ مرتين كلمه في هذا الموضع , وكلمه عندما ناداه عند جبل الطور في نفس الموضع , وهذا الجبل ـ جبل الطور ـ كان الجبل عن غرب موسى , وفي نفس الوقت الجانب الأيمن منه قال الله تعالى : { وناديناه من جانب الطور اليمن وقربناه نجيِّاً } ..., وموضع الشاهد : أن الله ـ جلّ وعلا ـ طمأن موسى حتى يعطيه , لكن يقول الناس عموماً ـ كفوائد تأريخية ـ أنه قد يوجد في الناس ـ لكن هذه حالة أفراد شاذة ـ من يكون رابط الجأش حتى عند رؤية السيف , فيقولون أن المعتصم أراد أن يقتل رجلاً يقال له جميل , كان له أطفال وصبية صغار , ثم إنه أُحضر النطع والجلاّد والسيف والناس ينظرون , ولم يكن ثمَّة شك في أن أمير المؤمنين قرر قتله , فأراد المعتصم أن يختبره ليرى أين لسانه عن جنانه فقال له ماتقول ياجميل ؟ ـ هذا والسيف مشهور , والكفن منشور , والقبر شبه محفور ـ قال :
أرى الموت بين السيف والنطع كامنا
يلاحظني من حيث ما أتلفَّت
وأكبر ظنِّي أنك اليوم قاتلي
وأي امرءٍ مما قضى الله يفلت
يعز على الأوس بن تغلب موقف
يسل علي السيف فيه وأسكت
وما جزعي من أن أموت وإنني
لأعلم أن الموت شيء مؤقت
ولكن خلفي صبية قد تركتهم
وأكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين أنعى إليهم
وقد خمَّشوا تلك الوجوه وصوِّتوا
فإن عشت عاشوا سالمين لغبطة
أذود الردى عنهم وإن مت موِّتوا(8/17)
فتعجّب المعتصم من رباطة جأشه مع الحال التي هو فيها , وقال تركتك لله ثم لصبيتك وعفى عنه , لكن هذا المقام الذي أقامه جميل بين يدي المعتصم قام مقام فردي يعني قلَّما يعطاه أحد , لكن في باب الدعوة وفي باب التربية التأسي بالقرآن هو الأصل , ولما أراد الله أن يُربي هذا النبي المكلم ـ عليه السلام ـ خاطبه بقوله { إنني أنا ربك فاخلع نعليك } وعرَّفه بالمقام { إنك بالوادي المقدس طوى } , ولهذا أحيانا تتلقى مكالمة مجهولة المصدر , فلا يحسن أن تتعامل معها بانفعال ولا بعجلة , وإنما من حقك على من اتصل بك أن تعرف من هو قبل أن تعرف مقامك , وليس من الأدب مايشيع عند بعض الناس أنه إذا اتصل من غير عمد سوء يقول : ماعرفتني , فيضعك للإحراج في أن تصبح يذهب همك في البحث عن شخصيته , وإنما الإنسان إذا اتصل أو طرق باباً وغلب على ظنه أن من أمامه لايسمعه أو لايعلمه أن يُعرِّفه بنفسه , نختم على هذه القضية بشاهد عظيم من السنة ,( فالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وجبريل أرفع الخلق , فلما استفتحا باب السماء .. جبريل يطرق يقول له الخازن من أنت ؟ يقول أنا جبريل , أومعك أحد ؟ يقول نعم معي محمد ) , قال العلماء : فاستئذان جبريل مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رغم أنهما أرفع مقاماً من صاحب المحل ـ خزنة السماء ـ يدل على أن الإنسان يجب عليه أن يستأذن ويُعرِّف بنفسه ولو كان داخلاً على من هو أقل منه , وهذه قضية مهمة جداً في فهم كلام الله ـ جلّ وعلا ـ .. في اللقاء القادم ـ إن شاء الله ـ سنتحدث إلى قول الله ـ جلّ وعلا ـ : { قد أوتيت سؤلك ياموسى } ونتكلم عن قضية العصا , وقضية إدخال اليد في الجيب وماحولهما من آيات , نفعنا الله وإياكم بهدي كتابه , وجعلنا الله ممن يستمع القول فيتبع أحسنه ..(8/18)
الحمد لله وإن كان يقل مع حق جلاله حمد الحامدين ، و أشهد أن لا إله إلاالله إله الأولين وإله الآخرين ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد ..
نستأنف في هذا اللقاء المبارك ماكنا قد بدأناه من التأملات في سورة ( طه) ، ولقد مضى القول في فاتحة هذه السورة ، ثم انتقلنا إلى ماقرره الله ـ جل وعلا ـ في أمور العقيدة العظام وإخباره ـ جلّ وعلا ـ عن ذاته العلية بأن له مافي السماوات ومافي الأرض وماتحت الثرى ، وأنه ـ جلّ وعلا ـ يعلم الجهر والسر وأخفى ، وأنه ـ سبحانه ـ {الله الذي لاإله إلاّ هو له الأسماء الحسنى} ، ثم ذكر الله ـ جلّ وعلا ـ فيها نتفاً من خبر كليمه وصفيه ( موسى بن عمران) ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ صدَّر الله ذلك بقوله { وهل أتاك حديث موسى } ، ومضى بنا القول أن الله ـ جلّ وعلا ـ ربى كليمه وصفيه أعظم تربية وطمأنه وآمنه من الخوف ، ثم أعطاه مقام التكليف أي / مقام الرسالة بعد مقام النبوة ، وانتهى بنا الأمر إلى أن الله ـ جلّ وعلا ـ نهى عبده وصفيه ( موسى ) من إتباع من كتب الله عليهم أنهم يصدون عن ذكره ، وأن في اتباعهم سبب الهلاك وأودية الردى ، وانتهينا إلى قوله ـ جلّ وعلا ـ : { وما تلك بيمينك يا موسى } وهي الآية الأولى في هذا اللقاء ، ثم نختم بقول الله ـ جلّ وعلا ـ { واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي } .... فنقول والله المستعان وعليه البلاغ ...(8/19)
مازال الأمر مستأنفاً في مقام التكليم ، والمقام ( جبل الطور ) ، والمُكلِّم هو ( الرب ) ـ جلّ وعلا ـ ، والمخاطب هو ( موسى ) ، وقد أنكر بعض الناس هذا وقالوا : إن الله ـ جلّ وعلا ـ لم يكلم موسى تكليما ، وأوَّلوا وحرَّفوا في الآيات الناصة على ذلك .. قال الله ـ جلّ وعلا ـ :{ وكلَّم الله موسى تكليما } فأجابوا عن هذا أن حقها أن تُقرأ { وكلم اللهَ موسى تكليما } فجعلوا لفظ الجلالة مفعولاً به مقدم ، و( موسى) فاعلاً به مؤخراً عن مفعوله ، والرد على هؤلاء أن يُقال : إن هذا وإن يجوز في اللغة أن يقدم المفعول على الفاعل , إلاَّ أن المعنى يذهب تماماً هنا ، لأنه إن كان القضية قضية أن موسى يناجي ربه فهذا ليس من خصائص موسى وحده , فكل المؤمنين والصالحين يناجون ربهم ويدعونه ويخاطبونه , ويسألونه ويستغفرونه فأي فخر أو فضل ينص الله عليه حتى يقول الله : { وكلَّم الله موسى تكليماً }... , ثم أين هم عن قول الله له : { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } ... إلى غير ذلك من الأدلة ؟!. نقول : مازلنا في مقام التكليم قال الله لهذا الكليم : { وماتلك بيمينك يا موسى } وهذه ( ما ) استفهامية من غير نزاع , إلاَّ أن الاستفهام الأصل فيه أن يعرف المستفهم خبر المستفهم عنه , لكن هذا غير وارد هنا لأن الله ـ جلّ وعلا ـ يعلم مالذي بيمين موسى , بل يعلم كل شيء ولايغيب عنه مثقال ذرة ـ جلّ جلاله ـ , ولكن المقصود تربية موسى على طريق الأسئلة , وهنا تعهد رباني وعناية إلهية بعبد تغلب عنه السُمرة , فيه حبسة في لسانه لايظهر كلامه جيداً , يجد عناء وهو يتكلَّم , وفي ليلة شاتية , أهله غير بعيدين عنه , فهذه الأجواء بالنسبة لشخص موسى , لكن هذه مواطن الضعف كلها ذهبت عندما وجدت عناية ربانية إلهية بهذا العبد , كلها زالت وكل مواطن الضعف أضحت قوة , لأن المتعهد به والقائم بأمره هو رب العزة ـ جلَّ جلاله ـ ...(8/20)
قال الله له : { وما تلك بيمينك يا موسى } فأجاب ـ كما قال الله ـ : { قال هي عصاي } وهذا يكفي في الإجابة , لكنه أراد أن يستمر الخطاب تلذذاً منه بمناجاة الملك الغلاب فقال ـ عليه السلام ـ :{هي عصاي أتوكأ عليها } ولم يكن السؤال ماذا تعمل بالعصا ! وإنما السؤال مالذي في اليمين ؟ وكان يكفي أن يقال { عصاي } , لكنه كما قلنا فرحاً بمناجاة ربه فزاد { أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي } ومعلوم أن موسى لايضرب الغنم بعصاه , وإنما { أهش } بمعنى أهش على الشجر , فيتساقط ورقه على الغنم فتأكله .... ومازال مردفاً فأحياناً يغلب عليه الأدب فلا يريد أن يستمر , وأحياناً تغلب عليه المناجاة , فاتخذ طريقاً بينهما فقال :{ هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي } وكأنه شعر أنه أطال في اللفظ فقال : { ولي فيها مآرب أُخرى } ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ .. , أراد الله بهذا أن يبيِّن أن هناك آية ستنجم عن هذه العصا , ولم يرد الله أن تكون الآية في شيء غير العصا , فلعل موسى يقع في ذهنه أنها شيطان أو ماأشبه ذلك , لكن موسى أعلم الناس بعصاه فهو يعرفها , وهي ملازمة له سنين عديدة , ويعرف من أين اقتطعها , وهو يتكأ عليها ـ كما يقول ـ , ويهش بها على غنمه فلا تكاد تفارقه , ولهذا أراد الله أن تكون الآية في نفس الشيء الذي يعرفه موسى جيداً , فخاطبه رب العزة قال { ألقها يا موسى } ( ألقها ) فعل أمر جُزم بحذف حرف العلة , لذلك لا يوجد( ياء ) , وإنَّما ( الهاء) بعد ( القاف) مباشرة .. , استجاب الكليم لأمر ربه فألقى العصا .. قال الله : { فإذا } فُجائية , وسيُبيَّن نحوياً غرابة ( إذا ) هذه في موطنها بعد أن نترك قصة موسى ... { فإذا هي } أي العصا { حية تسعى } فُجأةً إذا بهذه العصا التي يعرفها جيداً تنقلب إلى حية , وجاء في بعض الآيات ( ثعبان ) وفي بعض الآيات ( جآن ) ..(8/21)
, والجمع بينها أنها (حية) في ضخامتها , و (ثعبان) في تلونها , و ( جآن ) في خفتها , فهي تتنقل وتسبح في الأرض وتجول , وبجبلته التي فطره الله عليها كأي بشر ولَّى هاربا .. قال الله ـ جل وعلا ـ : { ألقها يا موسى فألقاها } أي عصاه { فإذا هي } أي العصا { حية } ليست ثابتة واقفة جامدة ميتة { تسعى } تتحرك , { قال خذها ولا تخف } بمعنى أنه نجم عنه الخوف وضِّح في سور أُخرى أنه ولَّى هارباً , فطمأنه ربه { أقبل ولاتخف } , ثم أمره ربه أن يأخذها وهي حية لم تعد بعد عصا , فأخذها امتثالاً لأمر الله , وطمأنه الله { سنعيدها } أي الحية { سيرتها الأولى } أي تعود إلى عصا , وسيكون لهذه العصا شأن عظيم مع نبأ موسى في دعوته مع فرعون ـ كما سيأتي ـ , قال الله : { سنعيدها سيرتها الأولى } وكلمة ( سيرة ) تُطلق على حال الإنسان إن كانت حسنة أو قبيحة , يقال فلان سيرته حسنة , ويقال فلان سيرته قبيحة,{ سنعيدها سيرتها الأولى } فعادت الحية عصاً وهي في يد موسى ـ وسأرجيء الكلام في الفوائد إلى آخر القصة ـ فأخذها وأعادها الله , ثم أتاه أمر آخر قال الله له { واضمم يدك إلى جناحك } ( الجناح ) الأصل أنه للطائر , واستعير هنا لبني آدم , وهو ماتحت العضد كما أن جناح الطائر في هذا الموطن , وفي آية أُخرى قال الله:{وأدخل يدك في جيبك } و ( الجيب) فتحة الثوب من الصدر , والمعنى أن موسى أدخل يده من فتحة ثوبه حتى دخلت تحت عضده , منها أنه شعر بالاطمئنان ، وهذا إلى الآن الناس تفعله جبِلَّة يضع يده على قلبه إذا خاف , ويقولون في التعبير ( يدي على قلبي ) كناية عن الخوف , { وأدخل يدك في جيبك } مالذي يحدث ؟ { تخرج } جاءت مجزومة أي / عليها سكون , لأنها واقعة في جواب الأمر الذي هو { أدخل } , فأخرجها يقول الله له { تخرج } أي يدك
{(8/22)
بيضاء } من غير تنوين لأنها ممنوعة من الصرف , وعليها فتحة لأنها حال , أي كيف تخرج ؟ تخرج بيضاء , وموسى كان يميل إلى السمرة
جاء في الحديث ( كأنه رجل من أسد شنُؤة ) يميلون إلى السمرة , فأخذت تبرق نوراً , وجاء هنا احتراز عظيم { من غير سوء } فليس هذا من مرض أو ماشابهه , وإنما من غير سوء ... لماذا يارب؟ قال له :{ آية أُخرى } ولم يقل (أخيرة) , { أخرى } أي غير الأولى , فالأولى عصا انقلبت إلى حية , والثانية اليد تدخل فتخرج بيضاء { أُخرى } أي فيه شيء قادم , تقول رجل آخر فلا يمنع أن يأتي بعده أحد آخر , لكن أخير أي انتهيت , فأي شيء تريد أن تختمه فصفه بأنه أخير أي لاشيء بعده ...
قال الله ـ جلّ وعلا ـ :{ آية أُخرى } ولم ينهها , لأن ثمة آيات ستأتي لهذا النبي الكليم سيخاطب بها من بُعث إليه في الأصل وهو ( فرعون ) ...(8/23)
قال الله : { لنريك من آياتنا الكبرى } { من آياتنا } إفهام وإشعار لكليم الله أن آيات أُخر ستأتي كُبرى عظام , وقد أتت وهن في مجملها تسع ( العصا واليد ) ثم أتبعها الله ـ جلّ وعلا ـ بقوله : { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات } وهذه اثنان مع اثنين أربعة , وبقيت خمس قال الله : { فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدم آيات مفصلات } أي يتبع بعضها بعضاً وليست في آنٍ واحد , والمقصود هذه تسع { لنريك من آياتنا الكبرى } لأي شيء كل هذا الإعداد ؟! { إذهب إلى فرعون إنه طغى } ( إنه طغى ) جملة في التعريف بحال فرعون , وليس في وصفه لأن قواعد النحو تقول : أن الجمل بعد المعارف ( أحوال ) وبعد النكرات ( صفات ) , وفرعون معرفة فالجملة التي بعده حال تبين وضع فرعون , لكن قول الله ـ جلّ وعلا ـ { إذهب إلى فرعون } هذا تكليف بالرسالة , وليس موسى أول الرسل إلى فرعون , والدليل أن الله قال حكاية عن مؤمن آل فرعون : { ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً } فيوسف أُرسل إلى فرعون الذي عاصره , وموسى أُرسل إلى فرعون الذي عاصره وكِلاهما من أنبياء بني إسرائيل , إذ أن موسى من ذرية يعقوب , ويوسف ابن يعقوب وكلهم بنوا إسرائيل وقد دخلوا مصر محدودي العدد , وخرجوا وهم أكثر من ستمائة ألف ـ كما سيأتي في موضعه ـ ... المقصود قال الله تعالى : { اذهب إلى فرعون إنه طغى } قَبل التكليف , وسأل الله الإعانة , وقدَّم أربع رجاءات إلى ربه : { قال رب اشرح لي صدري } ( رب ) مكتوبة من غير ياء , وحتى تستريح من عناء أشياء كفاك الله همَّ البحث عنها لا يوجد ( رب ) بصيغة دعاء موصولة بياء , فكلها مكونة من حرفين ( الراء , والباء المشددة ) ....
{(8/24)
قال رب اشرح لي صدري } فأول ماسأله الله ـ جل وعلا ـ أن يشرح صدره لهذا التكليف , { ويسر لي أمري } وأن ييسر له الأمر , ولاييسر العسير إلاَّ الله , ثمّ قال : { واحلل عقدة من لساني , يفقهوا قولي } هذه الأخيرة تحتاج إلى بيان , موسى عليه الصلاة والسلام معلوم أنه نشأ في قصر فرعون , فلما نشأ كان فرعون على وجلٍ منه , لأنه قد سبقته رؤيا أن غلاما من بني إسرائيل سيكون على يديه هلاك ملكه فكان يتحرز , فلما نشأ موسى رضيعا نشأ فصيحاً فخاف منه , فأرادت زوجته آسية أن تمنعه من ذلك , فبعد أخذ وعطاء بينهما اتفقا على أن موسى يُختبر فقُدم له جمر ولؤلؤ , وقيل جمر وتمر , أو تمر في إناء فيه ياقوت وجمر من نار ليختار بينهما , فذهبت يده إلى التمر أو إلى الياقوت ...(8/25)
المهم أنها بعُدت عن الجمر , قيل أن جبريل جاء ووضع يده على الجمر حتى يكون ذلك سببا في بقاءه ــ والله ـ جلَّ وعلا ـ يجعل للأشياء أسباباً , وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه ــ فوضع الجمرة في فيه فلذعته , فلما لذعته أصابته هذه الحبسة التي في لسانه والبطىء في كلامه , وهذه عيِّره بها فرعون قال كما في آية الزخرف : { أنا خير أم هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين } أي لا يكاد يظهر كلامه ولا يفصح ولا يُفقه ماذا يقول , ومع ذلك هنا قال موسى ــ لأن مقام الدعوة يحتاج إلى شيء من البيان مع العلم وأمور كثيرة ــ : { واحلل عقدة من لساني ، يفقهوا قولي } هنا الله قال ( عقدة ) على لسان موسى أنه طلب حلّ عقدة واحدة قال العلماء في هذا : إن موسى كان يطلب الأمور على قصده , ولا يريد أن يكون فصيحاً يشار إليه بالبنان , ويذكره بنوا جنسه , وإنما أراد ما يكتفي به أن يبلغ دعوة ربه , وقد فهم منها العلماء على أن الإنسان يقتصد في أمور الدنيا إذا كان مصدرا للإمامة في الدين بالقدر الذي يقيم به حاله ولا يتجاوز الحد وأخذوه من هذه الآية , ثمِّ أن الله ـ جلّ وعلا ـ ختم هذه السؤلات بقوله : { قد أُتيت سؤلك يا موسى } وسيأتي بيانه في موضعه , نعود للقضية كلها ونستطرد في الحديث عن هذه الآيات التي سلفت فنقول في أولها : إن التربية الإلهية لا يعدلها تربية , والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( أدبني ربي فأحسن تأديبي ) وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه , من أعظم ما يجعلك أن تقف على الحق وتثبت عليه علمك اليقيني به , لكن عليك أن تعلم أنك بشر ضعيف تحتاج إلى من يقوّيك , والله ـ جلّ وعلا ـ قادر على أن يثبت موسى بين يدي فرعون من غير تجربة , لكن موسى لما وقف ذلك الموقف , وانقلبت العصا حية وهو يرى , واليد أُدخِلت وخرجت وهي بيضاء وهو يرى انتهى من مقام التجربة فآمن هو بقضيَّته , واقتنع بقدرته كان يسيراً عليه أن يقف واثقاً من نفسه متمكِّناً(8/26)
من قوله مظهراً لدليله أمام فرعون , ولهذا قال الله عنه في الشعراء : { قال أولو جئتك بشيء مبين } فذلك الخوف الذي كان موجوداً انتهى { قال فأت به إن كنت من الصادقين } قال الله { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين , ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين } لما ألقى موسى عصاه أمام فرعون لم يفرَّ هارباً رغم أنها انقلبت إلى حية مثل الأول , لأنه كان يعلم أنها ستنقلب حية , لأجل هذا ربى الله رسله , فالله يقول في حق خليله إبراهيم : { وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } فكان إبراهيم عارفاً بملكوت السماوات كما علَّمه الله حتى يثبت أمام الشدائد التي ستأتيه , ونبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ غُسل قلبه , ومليء إيماناً وحكمة , وتجاوز السبع الطباق وعُرج به ورأى من آيات الله الكُبرى حتى بعد ذلك إذا حدّث عن الجنة والنار يحدِّث عن شيء هو مؤمن به كل الإيمان يعرفه حق المعرفة , فمن دعا إلى الله ولم يتسلَّح بالعلم القلبي والإدراكي لا يكون قادراً على الثبات كغيره , ولو سمع شبهة تشكك في الجنة أو في النار , أو تخبر بعدم قيام البعث , أو كلمة يلقيها من يلقيها على عواهنها فتقع منه موقعاً يجعله يحجم عن الدعوة , فحتى الذين منَّ الله عليهم بالهداية من خلال موقف إيماني كالذي يرى مصرعاً لأحد , أو يمر على جنازة , أو يرى قبراً هذا محمود يكون سبباً في الهداية لكنه لا يكفي , فلابد أن يُسقى ذلك بعلم بالله ـ جلّ وعلا ـ حتى يكون ثبات على الدين , لأن أثر ذلك الموقف العارض لا يلبث أن ينجلي إن لم يُسقى برحيق العلم والمعرفة والتفكُّر في مخلوقات الله , وإذا أراد الله بعبد خيراً ومُضيٍ في الطريق قلَّبه ـ جلّ وعلا ـ في أمور الدنيا والأهوال والنوازل والابتلاءات...(8/27)
وغيرها يراها حتى يشتد عوده , ويثبت جنانه , ويصبح على بيِّنة من ربه وهو يدعوا إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ , وهذه العطية هي التي منحها الله ووهبها لأوليائه ورسله وخاصةً منهم أولو العزم , ومنهم كليم الله موسى بن عمران ....
*الأمر الثاني ـ كفوائد ـ : أن الإنسان ضعيف لولا إعانة الله ـ جلّ وعلا ـ له , وقد ورد في الحديث القدسي أن الله ـ جلّ وعلا ـ قال لموسى : ( يا موسى سلني ملح عجينتك , سلني علف دابتك , سلني شسع نعلك .. ) فأي أحدٍ فقير إلى الله من كل وجه , والعطايا الألهية إليك بقدر عظيم إظهار فقرك إلى الله ـ جلّ وعلا ـ , فلا تدخلن مقاما , ولاتجلسن على كرسي , ولاتتصدرن في موضع وأنت تظن أنك وصلت إليه بحولك وقوتك , فإذا كان الكليم يقول : { رب اشرح لي صدري , ويسر لي أمري } ويسأل الله الإعانة تلو الإعانة , والأمر تلو الأمر .. , لكن المهم أن لا تسأله غير الله ـ جلّ وعلا ـ , وأن تلجأ إلى الله ـ جلّ وعلا ـ في حاجتك , فقد مرّ معنا في دروس عدة مقولة نُقلت عن (العزِّ بن عبد السلام ) قالها في كتابه ( فوائد الأحكام ) قال : ( والله لن يصلوا إلى شيءٍ بغير الله , فكيف يوصل إلى الله بغير الله ) وهذا من نفائس الكَلم , ولا يوفق لقوله أي أحد , لكن ( العز بن عبد السلام) كان ـ فيما نحسبه ـ عارفاً بربه عالماً بالشرع متدبراً بالأمر مستعيناً برب العزة والجلال , فوفق لأن تخرج منه هذه الكلمات , وهذا مادلت عليه جملة سؤالات الأنبياء , وخاصة فيما نحن فيه من سؤال كليم الله موسى بن عمران لربه ـ جلّ وعلا ـ ...(8/28)
* مما دلت عليه الآية أن الخوف جبلِّي في الإنسان , وأن الإنسان لا يُعيّر بالخوف , وقد قال الله ـ جلّ وعلا ـ عن موسى في آية أُخرى : { قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون} , { إني أخاف أن يكذبون } ومع هذا طمأنه الله , فثمّة أمور جبِّلية تنشأ في بني آدم لا تضر , لكن العبرة بما استقر عليه القلب , والسكينة أمر محمود , والأمنة من الله شيء عظيم وهبة منه , والله له جند ينصر ـ جلّ وعلا ـ حتى بالنوم والنعاس نصر المؤمنين في بدر { إذ يغشِّكم النعاس أمنة منه } فالله ـ جل وعلا ـ له جند يعلمهم ولا نعلمهم ,
والمقصود: من أراد الله الاحتفاء به وإكرامه سيسخِّر الله له من الجند مايعلم ومالا يعلمه ذلك المؤيد المنصور ....
* دلت الآيات كذلك على أن أسلوب الأخذ والعطاء في إقناع الغير أمر محمود خاصة في التربية , فمن دونك من الطلاب أو الابناء , ومن تريد إقناعه الوصول إلى الغايات الذي تريد إيصالها إليه عن طريق الحوار والأخذ والعطاء والتساؤلات والبدء من الأشياء المتفق عليها إلى الأشياء المختلف عليها أمر محمود في الطريقة , ثم إن إشعار من أمامك بمحبتك له وإجلالك له , والانطلاق من أشياء تتفقون عليها من أعظم أسباب قبول ذلك الطرف أو الغير أو المحب الذي تريد أن توصله إلى برِّ الأمان , فمن أعظم أسباب الوصول إلى قلبه إتباع مثل هذه الطرائق ...(8/29)
قلنا إننا سنرجيء الحديث عن ( إذا ) الفُجائية .... , من المعلوم أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ عندما ألقى العصا كان يعلم أنها عصا , ولم يَدُر في خلده أنها ستنقلب حية , فيقول النحويون إن هذه ( إذا ) الفُجائية ومابعدها حقه عند جماهيرهم أنه يُرفع ولهذا قال الله : { فإذا هي بيضاءُ } خبر { للناظرين} , وقال هنا : { فإذا هي حية ٌ} بالضم { تسعى} , فالقرآن يدل على المذهب النحوي القائل : إن الأصل فيما يأتي بعد ( إذا) الفُجائية أن يكون مرفوعاً , وهذه مسألة ـ مرّت ربما معنا ـ تُسمَّى مسألة ( الزنبورية ) , وذلك أن سيبويه إمام النحاة خرج من البصرة يؤمِّل مجداً في بغداد , فدخل على يحيى بن خالد البرمكي ـ وزير هارون الرشيد ـ , وكانت بغداد آنذاك حاضرة الإسلام , والخلافة فيها موطن الناس , فجاء يؤمِّل فيها مجداً عظيماً وكان إمام البصرة غير منازع , والكسائي إمام أهل الكوفة ، فالتقيا الكسائي وسيبويه في مجلس خالد بن يحيى البرمكي وعنده ابنه جعفر , فقال الكسائي لسيبويه : تسألني أم أسألك ؟ قال : سلني , فذكر الكسائي هذه المسألة ـ مايقع بعد ( إذا) وأنه يجوز فيها الوجهان ( الرفع والنصب) ـ فمنع سيبويه أن العرب تقولها بالنصب , وأنه ليس لها إلاّ وجهاً واحداً هو ( الرفع ) والقرآن يؤيده , لكن الكسائي أصر , فقال يحيى بن خالد : اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن يحكم بينكما ؟! , فقال له الكسائي : هذه وجوه الأعراب في الباب فاسألهم ....(8/30)
, فقيل أن المسألة كانت سياسية أصلاً قبل أن تكون علمية للتنازع مابين الكوفة والبصرة , والتنازع مابين الكسائي كشخص مقرب من الوالي وبين سيبويه الذي لم يظهر له بعد قُربة عند السلطان ,فوجوه الأعراب مالت إلى الكسائي عمداً تريد أن تنصره على خصمه سيبويه , فأشاروا بأن الصواب مع الكسائي فبُهت سيبويه , فزاده حنقاً أن الكسائي أخذ يظهر عطفه عليه ويقول ليحيى : إنه جاء يؤمِّل منك عطايا فاجبر كسره وارحمه ... , فالآن جعله ضعيفاً بعد أن كان يعلم أن سيبويه أعظم منه في النحو , فلما قال له ذلك خرج سيبويه من عنده كسيراً من سوء مالحق به , واستحيا أن يعود إلى البصرة وقد خرج منها إماماً فلحق بفارس , ثم مات مُغتمَّاً في ريعان شبابه ولم يكن قد جاوز الرابعة والثلاثين من عمره , ثم قيّض الله للكسائي تلميذاً من تلاميذ سيبويه يقال له أحمد أبو محمد اليزيدي , هذا اليزيدي دخل مع الكسائي في مناظرة أُخرى , مع أن الأولى قلنا أن الحق مع سيبويه لكن السياسة لعبت دورها , وللعلماء في تخريج قول الكسائي خمسة أوجه , وكلها باطله بيّنها أهل النحو ولاحاجة للتفصيل فيها الآن , لكن جاء اليزيدي ببيتين من الشعر قالهما في نفس المجلس وأمام الكسائي وقال : هل تجيز هذا ؟ وقبل أن نقول البيتين وحتى تفهمهما لئلا تقع فيما وقع فيه الكسائي .... العرب معلوم أنها ترفع اسم ( كان ) وتنصب خبره وهذا شبه متفق عليه , فقال اليزيدي للكسائي ماذا تقول في قول العرب :
ما رأينا خرباً ينقرعنه البيضَ صقرُ
لايكون العير مهراً لايكون المهر مهرُ
نلاحظ أن ( لا يكون ) تكررت مرتين وهي التي أرادها يقع فيها الكسائي مزلقاً , فوقع فيها ... , فلقد فهمها الكسائي بأن اليزيدي يقول :(8/31)
لايكون العير مهراً لايكون المهر مهراً وهذا هو أصلها النصب , لكن اليزيدي نطقها بالرفع ( لايكون المهر مهرُ ) , فاليزيدي قصد ( لايكون العير) أي الحمار ( مهراً) وهنا انتهى الكلام , ( المهرُ مهرُ ) مبتدأ وخبر كِلاهما مرفوع , لكن الكسائي قرأها ( لا يكون العير مهراً لا يكون المهرُ مهراً ) فوجدها منصوبة , فردَّ البيتين وقال أنهما خطأ , فلا يقع الرفع وإنما حقها النصب , ولاتجوز إلاّ لضرورة الشعر وعبَّر عنها باصطلاح يسمى ( الاسراف) عند البعض( والإقواء) عند البعض , ففرح اليزيدي فرحاً أن المزلق وقع فيه الكسائي , فصار يعيده عليه ويقول له انظر والكسائي مُصرٌّ , مع أن البيت واضح لا يغيب عن رجل مثل الكسائي , لكن إذا أراد الله شيئاً يقع , فكررها مرتين وثلاثاً هنا وقع اليزيدي في الخطأ , فلما أصرَّ الكسائي على رأيه وعلم اليزيدي أنه أوقع الكسائي فيما يريد خلع عمامته وضرب بها الأرض فرحا , وضرب بيده على صدره وقال : أنا أبو محمد ــ يعني انتصرت ــ , فقال له يحيى بن خالد : والله لخطأ الكسائي مع حسن أدبه أحب إلينا من صوابك مع سوء أدبك , أتتكنى بحضرة أمير المؤمنين وتنزع قنسوتك من رأسك ! ـ يعني هذا سوء أدب لايُفعل أمام أمير المؤمنين ـ , فانقلب الأمر عليه وإن كان منتصراً في الأصل ... *هذا مادوَّنه المؤرخون *(8/32)
أقول ـ عفا الله عني ـ : نصر الله الكسائي بالقرآن , يظهر لي أن الدور العظيم الذي لعبه الكسائي في حفظ القرآن هو الذي نصره في هذين الموضعين , فنصره الله في الأولى على سيبويه مع أن الحق مع سيبويه من جميع الأوجه , وهذه المرة حتى عندما وقع , وقع اليزيدي في سوء الأدب , وبقي هو على حشمته ووقاره فكانت سببا في نصرته ....(8/33)
, والذي نريد أن تفهمه من هذا الاستطراد أمور من أهمها : * لا تبدأ أحد بالأسئلة , دع خصمك هو الذي يبدأ , فإذا غُلبت في الرد على خصمك , يقولون حوِّل الجواب إلى سؤال , فينشغل خصمك بالإجابة وتسلم أنت , هذا إذا تريد موارد أهل الدنيا , أما إذا تريد موارد أهل الآخرة فلا تدخلن مجلساً إلاّ وأنت تريد أن تصل فيه إلى الحق , وقد كان الشافعي ـ رحمه الله ـ يقول : ماجادلت أحداً إلاّ تمنيت أن يخرج الله الحق على لسانه , وحب الشافعي للحق هو الذي أوصله هذه المنزلة العالية من حب المسلمين ــ وهذا في الأخذ والعطاء ــ , لكن يحصل بين الأنداد عموماً التنازع , ولذلك لا يحبذ أن يجتمع أكثر من طالب علم في مجلس صدارة في مكان واحد , حتى لايقع بينهما التنازع , فمالك ـ رحمه الله ـ على جلالة قدره كان في المدينة مجاوراً لمحمد بن إسحاق صاحب السيرة , وكل منهما جليل القدر في فنه , عظيم الأثر في علم الأمة , وإن كان مالك نحى إلى علم الحديث فهو أشرف من هذا الوجه , فيقولون إن مالك كان يقول عن محمد بن إسحاق: أنه دجال من الدجاجلة ـ على الروايات التي يقولها أهل التأريخ ـ , ومحمد بن إسحاق يقول : إتوني بالموطأ فأنا بيطاره ـ يعني طبيبه ـ , والمعنى/ أُبيّن لكم أخطاء مالك في الموطأ ـ وطبعاً لايُقبل قول كل واحد منهما في الآخر , لكن يوجد من أهل العلم من منَّ الله عليه ببغية الحق أينما كان حتى في تعامله مع أنداده وقرنائه يتقي الله ـ جلّ وعلا ـ فيهم , ولا يمنعنَّه كونهم أنداداً له ومعاصرين أن يترفّع عليهم أو أن يقول فيهم بغير وجه حق , لكن هذه منزلة عالية ليس الكل يؤتاها ...... هذا استطراد في قول الله ـ جل وعلا ـ : {فإذا هي حية تسعى } ...
والمقصود: من أراد الله الاحتفاء به وإكرامه سيسخِّر الله له من الجند مايعلم ومالا يعلمه ذلك المؤيد المنصور ....(8/34)
* دلت الآيات كذلك على أن أسلوب الأخذ والعطاء في إقناع الغير أمر محمود خاصة في التربية , فمن دونك من الطلاب أو الابناء , ومن تريد إقناعه الوصول إلى الغايات الذي تريد إيصالها إليه عن طريق الحوار والأخذ والعطاء والتساؤلات والبدء من الأشياء المتفق عليها إلى الأشياء المختلف عليها أمر محمود في الطريقة , ثم إن إشعار من أمامك بمحبتك له وإجلالك له , والانطلاق من أشياء تتفقون عليها من أعظم أسباب قبول ذلك الطرف أو الغير أو المحب الذي تريد أن توصله إلى برِّ الأمان , فمن أعظم أسباب الوصول إلى قلبه إتباع مثل هذه الطرائق ...(8/35)
قلنا إننا سنرجيء الحديث عن ( إذا ) الفُجائية .... , من المعلوم أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ عندما ألقى العصا كان يعلم أنها عصا , ولم يَدُر في خلده أنها ستنقلب حية , فيقول النحويون إن هذه ( إذا ) الفُجائية ومابعدها حقه عند جماهيرهم أنه يُرفع ولهذا قال الله : { فإذا هي بيضاءُ } خبر { للناظرين} , وقال هنا : { فإذا هي حية ٌ} بالضم { تسعى} , فالقرآن يدل على المذهب النحوي القائل : إن الأصل فيما يأتي بعد ( إذا) الفُجائية أن يكون مرفوعاً , وهذه مسألة ـ مرّت ربما معنا ـ تُسمَّى مسألة ( الزنبورية ) , وذلك أن سيبويه إمام النحاة خرج من البصرة يؤمِّل مجداً في بغداد , فدخل على يحيى بن خالد البرمكي ـ وزير هارون الرشيد ـ , وكانت بغداد آنذاك حاضرة الإسلام , والخلافة فيها موطن الناس , فجاء يؤمِّل فيها مجداً عظيماً وكان إمام البصرة غير منازع , والكسائي إمام أهل الكوفة ، فالتقيا الكسائي وسيبويه في مجلس خالد بن يحيى البرمكي وعنده ابنه جعفر , فقال الكسائي لسيبويه : تسألني أم أسألك ؟ قال : سلني , فذكر الكسائي هذه المسألة ـ مايقع بعد ( إذا) وأنه يجوز فيها الوجهان ( الرفع والنصب) ـ فمنع سيبويه أن العرب تقولها بالنصب , وأنه ليس لها إلاّ وجهاً واحداً هو ( الرفع ) والقرآن يؤيده , لكن الكسائي أصر , فقال يحيى بن خالد : اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن يحكم بينكما ؟! , فقال له الكسائي : هذه وجوه الأعراب في الباب فاسألهم ....(8/36)
, فقيل أن المسألة كانت سياسية أصلاً قبل أن تكون علمية للتنازع مابين الكوفة والبصرة , والتنازع مابين الكسائي كشخص مقرب من الوالي وبين سيبويه الذي لم يظهر له بعد قُربة عند السلطان ,فوجوه الأعراب مالت إلى الكسائي عمداً تريد أن تنصره على خصمه سيبويه , فأشاروا بأن الصواب مع الكسائي فبُهت سيبويه , فزاده حنقاً أن الكسائي أخذ يظهر عطفه عليه ويقول ليحيى : إنه جاء يؤمِّل منك عطايا فاجبر كسره وارحمه ... , فالآن جعله ضعيفاً بعد أن كان يعلم أن سيبويه أعظم منه في النحو , فلما قال له ذلك خرج سيبويه من عنده كسيراً من سوء مالحق به , واستحيا أن يعود إلى البصرة وقد خرج منها إماماً فلحق بفارس , ثم مات مُغتمَّاً في ريعان شبابه ولم يكن قد جاوز الرابعة والثلاثين من عمره , ثم قيّض الله للكسائي تلميذاً من تلاميذ سيبويه يقال له أحمد أبو محمد اليزيدي , هذا اليزيدي دخل مع الكسائي في مناظرة أُخرى , مع أن الأولى قلنا أن الحق مع سيبويه لكن السياسة لعبت دورها , وللعلماء في تخريج قول الكسائي خمسة أوجه , وكلها باطله بيّنها أهل النحو ولاحاجة للتفصيل فيها الآن , لكن جاء اليزيدي ببيتين من الشعر قالهما في نفس المجلس وأمام الكسائي وقال : هل تجيز هذا ؟ وقبل أن نقول البيتين وحتى تفهمهما لئلا تقع فيما وقع فيه الكسائي .... العرب معلوم أنها ترفع اسم ( كان ) وتنصب خبره وهذا شبه متفق عليه , فقال اليزيدي للكسائي ماذا تقول في قول العرب :
ما رأينا خرباً ينقرعنه البيضَ صقرُ
لايكون العير مهراً لايكون المهر مهرُ
نلاحظ أن ( لا يكون ) تكررت مرتين وهي التي أرادها يقع فيها الكسائي مزلقاً , فوقع فيها ... , فلقد فهمها الكسائي بأن اليزيدي يقول :(8/37)
لايكون العير مهراً لايكون المهر مهراً وهذا هو أصلها النصب , لكن اليزيدي نطقها بالرفع ( لايكون المهر مهرُ ) , فاليزيدي قصد ( لايكون العير) أي الحمار ( مهراً) وهنا انتهى الكلام , ( المهرُ مهرُ ) مبتدأ وخبر كِلاهما مرفوع , لكن الكسائي قرأها ( لا يكون العير مهراً لا يكون المهرُ مهراً ) فوجدها منصوبة , فردَّ البيتين وقال أنهما خطأ , فلا يقع الرفع وإنما حقها النصب , ولاتجوز إلاّ لضرورة الشعر وعبَّر عنها باصطلاح يسمى ( الاسراف) عند البعض( والإقواء) عند البعض , ففرح اليزيدي فرحاً أن المزلق وقع فيه الكسائي , فصار يعيده عليه ويقول له انظر والكسائي مُصرٌّ , مع أن البيت واضح لا يغيب عن رجل مثل الكسائي , لكن إذا أراد الله شيئاً يقع , فكررها مرتين وثلاثاً هنا وقع اليزيدي في الخطأ , فلما أصرَّ الكسائي على رأيه وعلم اليزيدي أنه أوقع الكسائي فيما يريد خلع عمامته وضرب بها الأرض فرحا , وضرب بيده على صدره وقال : أنا أبو محمد ــ يعني انتصرت ــ , فقال له يحيى بن خالد : والله لخطأ الكسائي مع حسن أدبه أحب إلينا من صوابك مع سوء أدبك , أتتكنى بحضرة أمير المؤمنين وتنزع قنسوتك من رأسك ! ـ يعني هذا سوء أدب لايُفعل أمام أمير المؤمنين ـ , فانقلب الأمر عليه وإن كان منتصراً في الأصل ...*هذا مادوَّنه المؤرخون *(8/38)
أقول ـ عفا الله عني ـ : نصر الله الكسائي بالقرآن , يظهر لي أن الدور العظيم الذي لعبه الكسائي في حفظ القرآن هو الذي نصره في هذين الموضعين , فنصره الله في الأولى على سيبويه مع أن الحق مع سيبويه من جميع الأوجه , وهذه المرة حتى عندما وقع , وقع اليزيدي في سوء الأدب , وبقي هو على حشمته ووقاره فكانت سببا في نصرته ....(8/39)
, والذي نريد أن تفهمه من هذا الاستطراد أمور من أهمها : * لا تبدأ أحد بالأسئلة , دع خصمك هو الذي يبدأ , فإذا غُلبت في الرد على خصمك , يقولون حوِّل الجواب إلى سؤال , فينشغل خصمك بالإجابة وتسلم أنت , هذا إذا تريد موارد أهل الدنيا , أما إذا تريد موارد أهل الآخرة فلا تدخلن مجلساً إلاّ وأنت تريد أن تصل فيه إلى الحق , وقد كان الشافعي ـ رحمه الله ـ يقول : ماجادلت أحداً إلاّ تمنيت أن يخرج الله الحق على لسانه , وحب الشافعي للحق هو الذي أوصله هذه المنزلة العالية من حب المسلمين ــ وهذا في الأخذ والعطاء ــ , لكن يحصل بين الأنداد عموماً التنازع , ولذلك لا يحبذ أن يجتمع أكثر من طالب علم في مجلس صدارة في مكان واحد , حتى لايقع بينهما التنازع , فمالك ـ رحمه الله ـ على جلالة قدره كان في المدينة مجاوراً لمحمد بن إسحاق صاحب السيرة , وكل منهما جليل القدر في فنه , عظيم الأثر في علم الأمة , وإن كان مالك نحى إلى علم الحديث فهو أشرف من هذا الوجه , فيقولون إن مالك كان يقول عن محمد بن إسحاق: أنه دجال من الدجاجلة ـ على الروايات التي يقولها أهل التأريخ ـ , ومحمد بن إسحاق يقول : إتوني بالموطأ فأنا بيطاره ـ يعني طبيبه ـ , والمعنى/ أُبيّن لكم أخطاء مالك في الموطأ ـ وطبعاً لايُقبل قول كل واحد منهما في الآخر , لكن يوجد من أهل العلم من منَّ الله عليه ببغية الحق أينما كان حتى في تعامله مع أنداده وقرنائه يتقي الله ـ جلّ وعلا ـ فيهم , ولا يمنعنَّه كونهم أنداداً له ومعاصرين أن يترفّع عليهم أو أن يقول فيهم بغير وجه حق , لكن هذه منزلة عالية ليس الكل يؤتاها ...... هذا استطراد في قول الله ـ جل وعلا ـ : {فإذا هي حية تسعى } ...(8/40)
? من فوائد هذه القصة كذلك أن الله ـ جلّ وعلا ـ قال لنبيه : { خذها ولاتخف سنعيدها سيرتها الأولى } فقول الله ـ جلّ وعلا ـ { ولاتخف } هذا نوع من الاطمئنان أعطاه الله ـ جلّ وعلا ـ موسى قبل أن يأخذ العصا , وهذا يأتي في التربية حتى الذين تريد أن تربيهم على الحق لاتقطع أملهم في المكافأت , أو لاتظهر تخليك عنهم تماماً وتقول : لا أنا أريد أن أربيهم , أو أريد أن يصل للحق بنفسه ... يحسن أن يكون هناك ثمة شيء يسير من الإعانة كما أعان الله كليمه موسى بقوله { خذها ولاتخف } , ولو قال له ( خذها ) من غير أن يقول له ( ولاتخف ) لأخذها موسى , لأن موسى أتقى لله من أن يرد قوله , ولكن الله قال له ( ولاتخف ) نوع من الاطمئنان , نوع من الإعانة , نوع من التيسير في التكليف , ولهذا جاء في دعاء الصالحين : { ولاتحملنا مالا طاقة لنا به }
{قال خذها ولاتخف سنعيدها سيرتها الأولى } ثم إن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما سيأتي هذا تفصيلاً في أمر آخر ـ طلب أن تكون الوزارة في أخيه هارون , لأن قلنا أن في موسى حُبسه , وهارون كان فصيحاً , فكان الناس في حاجة إلى صرامة موسى وحسن سياسته مع قدرة هارون على التعبير وإيضاح الرأي , وقد ختم الله ـ جلّ وعلا ـ هذا المقطع الذي سنبدأ به لقاءً قادماً ـ إن شاء الله ـ قوله : { قد أُتيت سؤلك يا موسى } وهذه الكلمة الإلهية لهذا العبد الصالح من أعظم مايُفرح به أن يجيب الله ـ جلّ وعلا ـ دعائك , وإجابة الدعاء من أعظم العطايا , ولهذا قال الله لنبيه مقروناً بحرف التحقيق :
{(8/41)
قد أُتيت سؤلك يا موسى } ثم أخبره أن هذه ليست أول منّة له , المراد من هذا يقال : إن الدعاء من أعظم ما ينتصر به الإنسان , لكن من المهم أن يكون هذا الدعاء مقروناً بحسن نية , فوالله لن يوجد أحد لديه حسن نية في بُغية شيء إلاّ وأعطاه الله ـ جلّ وعلا ـ إياه , إذا كان يريد ذلك الشيء الذي يبتغيه النصح لله ورسوله , وليس له فيه ولا لغيره حظ ولا نصيب , فالله يقول: { يهدي الله لنوره من يشاء }, ومن جملة مشيئة الله في الهداية إلى النور ـ سواء النور العام الذي هو الإسلام أو نور الوصول إلى بعض المعارف والحقائق والغايات ـ يكون مرتبطاً بحسن المقصد , ويكون الإنسان همُّه وبغيته أن يصل إلى هذا الأمر الذي يبتغيه إلى رضوان الله , وقد يُمكَّن من يبتغي غير الأمر الذي ينشده غير الله ـ يعني يبتغي بالأمر غير الله ـ , لكن مثل هذا لايُعد إماماً في الدين , لأن الله ـ جلّ وعلا ـ منع الإمامة في الدين للظالمين , ولاريب أنه ظالم لنفسه من أراد للدنيا غير وجه الله , ومن أراد بالعمل الصالح والخيِّر غير وجه الله , والله قال لعبد ـ وأي عبد ـ وهو خليله إبراهيم قال : { إني جاعلك للناس إماماً }فقال متلهفاً من أجل ذريته : { قال ومن ذريتي } فحكم الحكم العدل فقال لإبراهيم : {لا ينال عهدي الظالمون } أي هذه العطية والعهد والميثاق التي أعطيتك إياها لا ينالها ولا يصيبها ولا يفرح بها ظالم , فلا يسمى إماماً في الدين من ابتغى بعلم أو بأي أمر آخر أحداً غير الله , لكن الإمام في الدين الحق من ابتغى بعلمه الله ـ جلّ وعلا ـ وحده , ولم يستشرف ولم يشرأب عنقه لغير عطايا الرب تبارك وتعالى , فما أتاه من الدنيا يتحرز منه , وقد ينقل له رؤى ومنامات تُحكى عنه ويُمدح ويقول الناس فيه ما يقول , وأن الله كتب لك القبول ....(8/42)
وأمثال ذلك , فليأخذها على حذر خوفاً أن يكون استدراجاً , فإن العبد لا يدري بما يُختم له , هذا التكليم الذي حدث في سورة (طه) جعل بعض العلماء كتسمية اجتهادية لسورة (طه) يسمونها سورة ( الكليم ) , لكن هذا وقع عند بعض المفسرين , أما الاسم التوقيفي لها سورة ( طه ) .....
هذا مايسر الله ـ جلّ وعلا ـ قوله حول هذا الخبر المبارك عن نبي الله موسى , وجملة نقول : أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أثر الله من ذكر قصصه في عدة مواطن , السبب في ذلك أنه عالج بني إسرائيل أشد المعالجة , وهذه المعالجة انقلبت نُصحاً في حديث الإسراء والمعراج فإنه قال لنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إنني قد بلوت الناس قبلك , وإن أمتك لن يطيقوا ذلك ) وهذا النبي الكريم واجه أمرين : أمر عتو من أُرسل إليه وهو ( فرعون ) , وأمر في أن من حوله من بني إسرائيل لم يكونوا يعينوه على دعوة ربه , فما أن نجّاه الله من فرعون حتى وجد العناء والعنت من قومه { قالوا إنا لن ندخلها أبدا ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } ومع ذلك صبر على طغيان فرعون , وصبر على عنت قومه وشقائهم وعتوهم معه حتى ختم الله ـ جلّ وعلا ـ ومات في أرض التيه , وبقي عبداً صلحاً حتى وهو في قبره , يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( مررت ليلة أُعرج بي وإذا بموسى قائماً يصلي في قبره ) وهذه حياة برزخية الله أعلم بها , لكنها تُبيّن لك أي مقام كريم لهذا النبي الكليم ـ صلوات الله عليه وعلى نبينا صلى الله عليه وسلم ـ , نعود فنختم جملة ما يقال ....(8/43)
هذا ما تيسر قوله من سورة ( طه ) بدأنا من قول الله ـ جلّ وعلا ـ : { طه } إلى قوله ـ جلّ وعلا ـ : { واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي } وقلنا : أن في هذه الستة عشر آية تقريباً أو أكثر من المنافع مابيناه إجمالاً وتفصيلاً , وسنشرع ـ إن شاء الله ـ في اللقاء القادم في الحديث عن الرجاء الأخير لموسى عند ربه وهو أن يجعل له وزيراً من أهله , ثم كيف أن الله ـ جلّ وعلا ـ ذكّره بالمنن السابقة والعطايا التي سبقت مقام التكليم بقوله ـ جلّ وعلا ـ : {ولقد مننا عليك مرة أُخرى , إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى } ثم سيأتي بإذنه ـ جلّ وعلا ـ تفصيلاً خروج موسى وهارون إلى فرعون , والمنازعة التي حصلت بين الرسول ـ عليه السلام ـ وبين فرعون , والقضايا التي أُثيرت , ثم ما حصل بينهما من تواعد في السحر , ثم نصرة الله لموسى على السحرة , وإيمان السحرة وتوعِّد فرعون لهم , ثم خروج موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقومه من أرض مصر إلى الأرض المقدّسة , ثم وفاة موسى في أرض التيه بعد غرق فرعون بسنين عديدة , ثم سيأتي الكلام عن يوشع بن نون , والحديث عن بني إسرائيل مفصلاً في حينه ......
هذا ما تيسر إيراده , وتهيأ قوله , وأعان الله ـ جلّ وعلا ـ على ذكره , والله المستعان وعليه البلاغ , وصلى الله على محمد وعلى آله , والحمد لله رب العالمين ......
الحمدُ لله حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيه وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك لهُ خلق فسوى وقدّر فهدى وأخرج المرعى فجعلهُ غُثاءً أحوى وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمدً عبدهُ ورسُولهُ صلى الله علية وعلى آلهِ وأصحابهِ وعلى سائر من اقتفى أثرهُ وأتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين ........
أما بعد
فهذا استئنافٌ للقاءٍ ماضي حول قول اللهِ جل وعلا
( ولقد أريناهُ ءاياتنا كُلها فكذّب وأبى )
والمخاطبُ فيها فرعون بالاتفاق وقد مضى معنا ما أظهرهُ موسى لفرعون من الآيات .(8/44)
وينبغي أن تعلم قبل أن نقُصّ عليك ما في هذهِ الآيات من عبرٍ وعظات ودلائل وآيات:
أن هذهِ الأمور لم تتمّ في بُرهة وأنهُ ليس بمُجرّد أن دخل موسى على فرعون تمّت القضيةُ كُلها ولكنّها مرّت عبر سنين فموسى علية الصلاةُ والسلام أستوطن أرض مِصر فترةً طويلة قبل أن يخرُج منها .
وما ذكرهُ الله جل وعلا من خبرِ قارون ( وخسفنا بهِ وبدارهِ الأرض ) إنما هذا كان قبل خروجِ موسى من أرض فرعون أُهلك قارون .
وجزت لهُ صراعات منها أن الله جل وعلا أمرهم أن يتخذُوا بيوتهُم قبلة وأن الله جل وعلا أمرهُم بأمورٍ كُثر ومرّت الآيات كالطوفان والجراد والقُمّل والضفادع هذا كُلهُ حصل على مراحل زمنية طويلة وأن الله جل وعلا أرحم من أن يُعذّب من غير أن يُعطي مساحة زمنية لمن أراد أن يُعذّبهُم وإنما لا يهلكُ على الله إلا هالك والشقيُ من لم تتداركهُ رحمةُ الرب تبارك وتعالى .
وفرعون إنّما أهلكهُ شقاؤه وعنادهُ ومُكابرتهُ سنين طويلة ..
هنا يقولًُ الله جل ( ولقد أريناهُ ءاياتنا كُلها فكذّب وأبى )
نحوياً آياتنا جاءت بالكسر لأنها جمعُ مؤنثٍ سالم وإذا نُصب يُنصب بالكسرة نيابةً عن الفتحة أُكّد بتوكيد معنوي هو كلمة كُن ولهذا كلمة كُن جاءت منصوبة لأنها أكّدت المحل لا اللفظ ( ولقد أريناهُ ءاياتنا كُلها) والمقصود بكلمة كُل هُنا كُلُ الآيات التي كتب اللهُ أن يُعطيها موسى حُجةً على فرعون وكلمة كُل لا تُفيدُ عددا لكنّ العدد جاء مُبيناً في سورةٍ أُخرى قال الله ( في تسع ءايات إلى فرعون و ملائهِ ) وهذا التسع مرّت معنا كثيرا ولا بأس من ذكرها :
اليد والعصا من قبل هذهِ اثنتان .
وقال الله ( ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقصٍ من الثمرات ) هذهِ اثنتان مع الأولين أصبحت أربعا .(8/45)
وقال جل وعلا ( فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقُمّل والضفادع والدم ) هذهِ خمس آياتٌ مُفصّلات مع الأربع الأُول أضحت تسع هي المقصودة يقول الله جل وعلا ( ولقد أريناهُ ءاياتنا كُلها) .
ومع تلك الآيات المُتتابعة المُفصّلة قال الله ( فكذّب وأبى ) وقد قُلنا في الدرس الماضي إن قول الله جل وعلا ( إنهُ قد أُحي إلينا أن العذاب على من كذّب وتولى ) قُلنا إن أعظم فائدة أنهُ لا يُخلّد في النار إلا من كذّب وتولى .
فقولُ الله هنا ( فكذّب وأبى ) هي عينُ قول الله ( كذّب وتولى ) وهي عينُ قول اللهِ ( لا يصلها إلا الأشقى الذي كذّب وتولى ) فالتولي والإِباء والإعراض بمعنىً بمعنىً واحد .
وهذهِ كُلُ من يُريدُ أن يتخذ منهجاً لمعرفةٍ عقائد الناس يجبُ عليهِ أن يستصحب هذا الأصل قبل أن يُجازف في تكفير الناس .
نقول الله يقول ( ولقد أريناهُ ءاياتنا كُلها فكذّب وأبى )
( قال أجئتنا ) هذا فرعون يقول لموسى ( أجئتنا لتُخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى )فجعل تلك الآيات اسماها سحرا وخصّ منها بالذات اليد والعصا والعصا على وجه الخصوص لأنها انقلبت على هيئة حيةٍ وثُعبان.
( أجئتنا لتُخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ) وهذا القولُ أراد بهِ فرعونُ إثارة العامة والغوغاء أن المقصود الأسمى من رسالةِ موسى وهارون في زعمهِ ليس توحيدُ الله وإنّما إخراجِ أهل مصر من مصر وقد كانت القوى السياسية العامة في أرض مصر يجعلُها فرعون مُقسّمة ثلاثة أقسام جعلها فرعون مُقسّمة ثلاث أقسام :
القوة الإدارية السياسية جعلها فرعون بيد هامان ( يا هامان أبن لي صرحا) وكان وزيراً لفرعون.
والقوة المالية الاقتصادية كانت بيد قارون .
والقوة الإعلامية كانت بيد السحرة كانت بيد من ؟ بيد السحرة .
فقال فرعونُ هنا ( أجئتنا لتُخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى * فلنأتينّك بسحرٍ مثلهِ )حتى يُؤكد أن ما جاء بهِ موسى سحر .(8/46)
والسحرُ لهُ حقيقة بلا شك وإن كان يخفى على أكثر الخلق لكنّ لهُ حقيقة كما هو مذهبُ أهلُ السُنة والله جل وعلا ذكرهُ في مواطن مُتعددة في كتابهِ ونصّ على أن تعلّمهُ كُفر قال الله جل وعلا ( وما يُعلّمانِ من أحدٍ حتى يقولا إنّما نحنُ فتنةٌ فلا تكفُر ) وليس هذا مقامُ البسط فيهِ لأننا نبقى أوفياء للآيات لا نخرُجُ عنها بأكثر مما هو لازم .
نقول ( فلنأتينك بسحرٍ مثلهِ فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نُخلفهُ نحنُ ولا أنت )
هل هو موعد زماني أو موعد مكاني ؟
ظاهرُ كلامِ فرعون أنهُ موعد مكاني لكنّ جواب موسى جعلهُ زمانياً (موعداً لا نُخلفهُ نحنُ ولا أنت مكاناً سُوى ) وكأنهُ يضمن أن ينتصر .
قال بعضُ العُلماء في تفسير ( مكانٍ سُوى) أي مكان وسط ليس ببعيدٍ عنا ولا ببعيدٍ عنك و أظنّهُ بعيد وإنّما المعنى (مكان سُوى) أي مكان ظاهر لا خُفيةً فيهِ فحّورها موسى زمانياً
( قال موعدكُم يوم الزينة وأنّ يُحشرُ الناسُ ضُحى )
فأثبت موسى من قبل أن يبدأ العراك معهُ ثقتهُ بنصر اللهِ فقال ( وأن يُحشرُ الناسُ ضُحى )
وأعظمُ ما يُمكنُ أن يُستنّبط في هذا المقام أن دعوة الأنبياء دعوة واضحة لا تُحاك في الخفايا فليست الدعوةُ أحزاباً سياسية ولا جماعات غير مرضية ولا غير ذالك ، وليس في دين اللهِ رؤوس وغيرُ ذالك وأُمور وبرتوكولات خفية وبرتوكولات يعلمُها العامة وغير ذالك إنما دينُ الله جليٌ واضح تعبّد الله بهِ الجميع ولهذا لم يكُن عند موسى علية السلام شيءٌ يُخفيهِ في الدعوة إلى ربهِ ( قال موعدكُم يوم الزينة وأن يُحشر الناسُ ضُحى )(8/47)
ويوم الزينة هو اليوم الذي يجدُ الناس فيهِ في ذالك الوقت في ذالك الزمان أهلُ ذالك العصر كان يوم عيدٍ لهُم لا عمل شاق لهُم فيهِ فهُم في خلوة من أعمارهم أو في فُسحةٍ من أعمارهم بتعبيرٍ أوضح فلمّا يكونون الناس في فُسحة من أعمارهم يكونون أقدر على أن يصلوا إلى المطلوب ويأتوا إلى هذا الأمر الذي سيشهدون فيهِ الصراع .
وبعضُ أهل العلم يقولون إن الأعياد المنصوصة عليها شرعاً كذكر يوم الزينة كان لفرعون وآلهِ ، والعيدُ الذي ذكرهُ اللهُ جل وعلا عن قوم إبراهيم لمّا رفض إبراهيم أن يذهب معهُم ، والعيد الفطر والأضحى التي جاءت في السُنة التي جاءت بدلاً من يوم بُعاث الذي كان عيداً للأنصار أوسً وخزرجاً في الجاهلية .
والمقصود ( قال موعدكُم يوم الزينة وأن يُحشر الناسُ ضُحى) وكُلمّا كثُر حشرُ الناس والإتيان في رابعة النهار ضُحى والكُلُ سيُشاهدُ ويرى كان ذالك أدمغ لحُجة فرعون وأظهر وأبين لحُجة موسى وأنكى لأعداء الله وخُصومة .
( قال موعدكُم يوم الزينة وأن يُحشر الناسُ ضُحى) قال الله ( فتولّى فرعون فجمع كيدهُ ثُمّ أتى )
ولا ريب أن مابين هذا اليوم الذي تواعدا فيهِ وما بين اليوم الموعدِ نفسهِ هُناك فترة زمنية وهذهِ الفترة الزمنية تسمح لناس بأن يخوضوا وللخبر أن ينتشر ويُصبح لا همّ لناس وليس هُناك خبرٌ يسلي مثل هذا الخبر فيُصبح الجميع مُهيأ لأن يصل ويُريدُ أن يعرف أين الحق لكنّ الناس حتى في معرفتهم للحق يتفاوتون قال الله جل وعلا ( قال موعدكُم يوم الزينة وأن يُحشر الناسُ ضُحى فتولّى فرعون فجمع كيدهُ )
كيف جمع كيدهِ ؟(8/48)
بيّنهُ الله في آيةٍ أُخرى ( فأرسل فرعونُ في المدائنِ حاشرين ) وبعث بعد ذالك يأتي بالسحرة من كُل مكان هذهِ الفترة الزمنية علا فيها قدرُ السحرة لأنهُم غلب على ظنّهم أن أمر فرعون أصبح بيدهم الآن القوة السياسية التي كانت بيد هامان تنحّت قليلا والقوة المالية التي بيد قارون تنحّت قليلاً وجاء دورُ من ؟ دورُ قوة الإعلام الذي كان مُتمثلاً في السحرة فأراد السحرة لأنفُسهم منازل فأرادُ أن يشترطُ على فرعون شُروطا تجعلهُم أرفعُ منزلة بعد الغلبة .
قال الله في آيةٍ أُخرى ( ءإن لنا لأجر إن كُنا نحنُ الغالبين قال نعم وإنّكُم إذاً لمن المُقربين ) فأعطاهُم فرعونُ وعُوده فأغراهُم بالمال وعلّو المنازل فجاء السحرة وهم مدفوعون دفعاً دُنيوياً عظيماً وجاء الناس لكنّ الناس كان الذي دفعهُم إلى أن يروا انتصار السحرة .
قال الله جل وعلا عن الناس ( لعلّنا نتبعُ السحرة إن كانوا هُم الغالبين ) ولم يأتوا ليعرفوا أين موطنُ الحق وأين مكمنُهُ وإنّما جاءوا لينظروا كيف تغلبوا السحرةُ موسى عليه السلام وأخاه .
قال جل وعلا ( فتولّى فرعون فجمع كيدهُ ثُمّ أتى )
ومع ذالك أنبياءُ الله يبقون رفيقين بالخلق قال الله جل وعلا
( قال لهُم موسى ويلكُم لا تفترُوا على الله كذباً ) أي بصنيعكُم وبردكُم لرسالة ( فيُسحتكُم بعذاب )
فخوفاً من نزول العذاب عليهم حذّرهم لأنهُ لا مصلحة لنبي بهلاكِ قومهِ والأنبياء أرحمُ الخلق بالخلق وأنصحُ العباد للعباد لكن إذا أبى وأستكبر ذالك المدعو وأعرض عن الله وجعل كلام اللهِ وراءهُ ظهرياً وحقّت عليهِ كلمةُ العذاب فإن كلمة العذابُ لا تحقُ إلا على هالك فإذا هلك من هلك بعذاب اللهِ لا ينبغي لمؤمنٍ أن يأسف علية ولا يحزن لأنك لست أرحم بالخلق من ربهم .(8/49)
قال الله عن أنبياءهِ أنهم يقولون عن أُممهم بعد الهلاك ( فكيف آسى على قومٍ كافرين ) فلا يصيبهُم آسى على قومهم بعد هلاكهم ولكن الرحمة تبقى ما زال هُناك أمل في أن يهتدوا .
( فيُسحتكُم بعذابٍ وقد خاب من أفترى )
ولا افتراء أعظم من الافتراء على لا الله جل وعلا وأعظمهُ قولُ فرعون ( ما علمتُ لكُم من إلهٍ غيري ) وتصديقُ هؤلاء الناس لفرعون واتخاذهُم إياه إلهٍ من دون الله .( وقد خاب من أفترى )
قال الله
( فتنازعوا أمرهُم بينهُم وأسرّوا النجوى )
أي عقدوا مجلسً خاصاً بهم يتشاورون في أمر موسى وأخيهِ في هذهِ الداهمة التي طغت عليهم
( قالوا إن هذان لساحران يُريدانِ أن يُخرجاكُم من أرضِكُم بسحرِهِما ويذهبا بطرقتكُم المُثلى )
لا يُؤثرُ في الناس شيء أكثر من خوفهم على مراكزهم أن تتبدّل وهذا معنى ( ويذهبا بطريقتكُم المُثلى) وأنتهز فرعون هذهِ المسألة فأخبرهُم أن ما جاء موسى وهارون إلا ليُغيروا الوضع الاجتماعي القائم وهذا حصل حتى في عهد النبوة فإنّ أبا جهل وأبا سُفيان كانوا يقولون لناس إن مُحمدً يُريدُ من الفئة المُستعبدة كبلالٍ وعمّار أن تسود وأن ترقى وأن يتغير الوضعُ الاجتماعي حتى يصدوا الناس عن دين الله ولا أحد مُنتفعٌ من وضعٍ يُريدُ لذالك الوضع أن يتغير إلا أن يكون رجُلاً ربانياً لله و إلا الأصل كُلُ صاحبُ وضعٍ اجتماعي لا يُريدُ ذالك الوضع الاجتماعي أن يتغير ،، وكُلُ مُضطهدٍ في وضع اجتماعي يتمنى من ذالك الوضع أن يتغير حتى يعلو مكانة .
وذالك الخارجون على أي دولة الخارجون من حيث الأنظمة السياسية المحضة في أي عصرٍ ومكان إنمّا يأتون للمغلوبين على أمرهم حتى يُغيروا مكانتهُم والدولةُ الأموية
كمثال يعني :.(8/50)
الدولة الأموية في عصرها أُضطهد آل البيت وأُضطهد الموالي أُضطهد من ؟ أُضطهد آل البيت وأُضطهد الموالي الموالي الذين دخلوا في دين اللهِ من غير العرب فلمّا قامت دولةُ بني العباس قامت على ماذا ؟ قامت على هذا الخطأ الذي وقع فيهِ بنو أُمية فأكثرُ نُصراء العباسيين كانوا من من؟ كانوا من الموالي فقامت دولةُ بني العباس على أكتاف الموالي وصاحبُ الفضل الكبير في قيام دولة بني العباس أبو مُسلم الخرساني ولم يكُن عربياً وإنّما كان ممنّ أستضعفهُم بنو أُمية واستعبدوُهُم ولم يكُن لغير العرب سُلطان ولا شوكة في بني في عهد دولتهم حتى مسلَمة ابن عبد الملك هذا أحدُ أبناء عبد الملك كان قُرّة عين أبناء عبد الملك لكنهُ لم يُعطى الخلافة لماذا ؟
لأن أُمة لم تكّن عربية فكان الموالي مُضطهدين في عهد بني أُمية كان ذالك سبباً يُريدون للمُجتمع أن يتغير فتغير وجاء بنو العباس فلما جاء بنو العباس الآن بيدهم من ؟ آلُ البيت والموالي ولابُد أن يختاروا أحدُهُما ففرّطوا في العلويين وأبقوا بني العباس وبقي العلويين مُضطهدين حتى في دولة بني العباس وبقينا في الطرف الآخر من ؟ الموالي والموالي كُثر فالأعراق التي جاء منها الموالي لا تتعدد و لابُد من اختيار فئة واحده فاختار العباسيون في أول دولتهم الفُرس فقُدّم الفُرس ورُفع شأنهُم حتى وصل البرامكة إلى ما وصلوا إليهِ ثُمّ لمّا جاء المُعتصم كانت أُمهُ تُركية قلب الموازيين أبقى على الموالي لكن أيُ موالي الأتراك لأنهُم أخولهُ وأضاع الفُرس فساد الأتراك ثُمّ كُل ما جاء خليفة قرّب مواليهِ .
ولأن أخطأ الأمويون في إبعادهم للموالي واضطهادهم فإنّ خطأ بني العباس أكبر في أنّهُم اصطفوا الموالي حتى أصبح هؤلاء يُغيرون من شاء ويضعون من شاء من الخُلفاء .
والمقصودُ عموماً خرجنا كثيراً لكن القرآن يُقرأ ليُفهم أوضاعُ الناس من خلالهِ .
فكان فرعون يتخذ هذهِ المسألة أمام الناس
((8/51)
قالوا إن هذان لساحرِانِ يُريدانِ أن يُخرجاكُم من أرضِكُم بسحرِهِما ويذهبا بطرقتكُم المُثلى )
قبل أن أُكمل أقف نحوياً عند هذهِ الآية التي أشكلت على العُلماء وضربوا فيها مضارب شتى لن أقول فيها شيءً جديداً لكن الاتفاق على أن إنّ تنصب وأن اسم الإشارة الأصل أنهُ مبني وأنهُ إذا ثُني يأتي منصوباً بالياء يخرُج من كونهِ مبني إلى كونهِ مُعرب فأشكل على العُلماء أن هذان جاءت بالألف :
فبعضَُ العُلماء قال :
أن إن هُنا مُخفّفة لا تعمل مادامت لا تعمل فأصبحت هذان مُبتدأ ولساحران خبر وينتهي الموضوع .
قال آخرون :
لا أن إن هنا وهذا وقلُ بعضُ الكوفيين إنها نافية واللام التي في لساحران ليست اللام المُزحلقة وإنّما أداة استثناء .
والمعنى عندهم ما هذانِ إلا ساحران [ واضح] .
و قال آخرون غيرُ ذالك وتكلّم فيها شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمةُ الله تعالى عليهِ رغم أن الأصل أنهُ غير نحوي لكن لهُ فيها كلامٌ نحويٌ جيد .
ومال المُبرد رحمهُ الله تعالى إلى أن إنّ هنا ( إن هذان لساحران ) بمعنى نعم إن بمعنى نعم وهذا الحقُ أن اللغة تؤيدهُ وبتعبير أصح الاستعمال العربي يُؤيدُهُ قال عبدُ الله ابن قيس الرُقيات هذا الرُقيات ليس نسبُهُ لكنّه تغزّل بأكثر من امرأة اسمُها ؟ أجيبوا ــ رُقية . تغزّل بأكثر من امرأة اسمُها رُقية فعُرف بعبد الله ابنُ قيس الرُقيات يعني نساء كثيرات اسمهُنّ رُقية كُلُ واحده منها اسمهنّ رقيه المُهم هذا الرجُل ممّن يُستشهد بشعرهِ من حيثُ اللُغة قال في بيت شعرٍ لهُ :
بكر العواذلُ في الصبوح يلمّنني و ألُومهنّه
ويقُلنّ شيبٌ قد علاك فقلتُ إنّه
إن هنا بمعنى نعم بمعنى ماذا ؟ بمعنى نعم
فقال المُبرّد وهو الأصلُ أنهُ ليس المُبرّد لبعض تلاميذهِ لكن لما أجازهُ المُبرّد نُسب إليهِ ولا يعنينا من هو القائل المُهم أنهم قالوا إنّ إن هنا بمعنى نعم فيُصبح لا خلاف في الآية نحوياً نعم هذان لساحران .(8/52)
لكن رُدّ عليهِ أن نعم حرفُ جواب وليس هناك سائلٌ هنا ، من ردّ على هذا القول قالوا أن نعم حرف جواب وليس هناك سؤال وردّ الآخرون بأكثرِ من ذالك لكن أردتُ أن أُدخلك في التصوّر النحوي العام لقضية إعراب هذهِ اللفظة .
(إن هذان لساحرِانِ يُريدانِ أن يُخرجاكُم من أرضِكُم بسحرِهِما ويذهبا بطرقتكُم المُثلى * فأجمعوا كيدكُم )حتى يكون ذالك أقوى علة قهرِ عدوّكُم
( ثُمّ أتوا صفّاً وقد أفلح اليوم من استعلى )
وبالطبع ثمّة مطامع بين أعيُنهُم مطامع تنقسم إلى قسمين :الإبقاء على الوضع الاجتماعي القائم ،، وأمل الزيادة فيهِ الإبقاء على الوضع الاجتماعي القادم الباقي والحاضر والطمع في الزيادة فيهِ لأن فرعون قال ( وإنّكُم إذاً لمن المُقربين ) فأعطاهُم وعوداً وإن كُنا نجزم أنهُ لو تحقق لهُم ما أرادوا ولم يتحقق ولن يتحقق لكن فرعون لن يفعل لكن على العموم هذا وعدٌ لهُم .
قال الله جل وعلا (فأجمعوا كيدكُم ثُمّ أتوا صفّاً وقد أفلح اليوم من استعلى * قالوا يا موسى )
من القائل ؟
السحرة أجتمع الناسُ الآن جاء يومُ الزينة وحضر الناسُ من كُل مكان لا بُغية لناس إلا أن يروا الانتصار وفرعونُ على الأظهر في مكانهِ مُبجلاً وموسى وأخوه معهُما ربُ العالمين وقد قال لهُما جل وعلا من قبل ( أنّني معكُما أسمعُ وأرى ) وموسى هو موسى الذي رُبّي من قبل أين رُبّي ؟ رُبّي في جبل الطور بماذا رُبّي ؟ ( وما تلك بيمينك يا موسى * قال هي عصاي ) الآن هو نفسهُ واقف وفي يمينهِ ماذا وفي يمينهِ العصا التي أخبرهُ الله جل وعلا أنها آية والله جل وعلا أخبرهُ ولا راد لحُكمهِ ولا مُعقّب على مشيئتهِ فوقف موسى كما وقف قبلُ بين يدي ربهِ والعصا في يمينهِ وأقبل هؤلاء قد أجمعوا أمرهُم صفاً وقد أفلح اليوم من استعلى.
هنا أُنيخ المطايا...
لا أحد أكرم من الله
تعلّم مما يأتي كيف تتعاملُ مع الله ؟(8/53)
الله جل وعلا أرحمُ الراحمين ومعنى أرحمُ الراحمين هنا لا يُمكنُ أن يضيعُ عند الله من المعروف ولو مثقال ذرة وإذا أراد الله جل وعلا شيئاً هيأ أسبابة وهذا والله ليس من فرائد العلم باعتبار أنهُ غريب ستجدُه لكنّهُ من فرائد العلم إذا طبّقتهُ.
الحسنة التي دخلت هنا أن هؤلاء السحرة رغم المُغريات التي بين أيديهم أستحيُوا من موسى
( قالوا يا موسى إمّا أن تُلقي وإمّا أن نكُون أول من ألقى )
هذهِ العبارة في التلطُف مع موسى وعدم جبرهِ على الإلقاء أولاً أو عدم جبرهِ على الإلقاء أخرا جعلها الله جل وعلا سبباً في هداية القوم بهذهِ النية الطيبة التي خرجت على شكل ألفاظ قد لا يشعُرُ بها أحد لكنّها أرادها الله تمهيداً لعطاءٍ ربانيً لهُم بعد ذالك كما سيأتي .
( قالوا يا موسى إمّا أن تُلقي وإمّا أن نكُون أول من ألقى) وفي آية أُخرى ( وإمّا أن نكون نحنُ المُلقين)
( قال بل ألقوا ) لماذا بل ألقوا ؟
أنت تذهبُ إلى المتجر لن تستطيع أن تحكُم على أحسن وأجود ما تريدُ شراءهُ إلا إذا مررت على السوقِ كُلهِ فإذا مررت على السوقِ كُلهِ واخترت العينة التي تُريدُها وجاء أخوك يلومُك تقول ثق أن هذا أفضل ما هو معروض .
وإذا أراد اللهُ بعبدٍ خيراً أخّر ظهورهُ بين أقرانهِ حتى ييأس الناس من كُل أحد ويُخرجُ أقرانهُ كُلهُم ما لديهم فإذا أراد الله بعبدٍ من دونهِم فضلاً زائداً عليهم نثر كلٌ منهُم ما في كنانتهِ وأظهر ما عندهُ ولم يبق شيئاً لم يُقدّمُه ثُمّ أخرج الله جل وعلا وليهُ الذي يُريد أن يُقدمهُ على غيرهِ فهذا حصل عيناً في قضية موسى قال لهم موسى بل ألقوا فما من حبلٍ ولا عصا إلا وألقوها وليس الأمرُ بالهين .
قال الله ( فإذا حبالهُم وعِصيهُم يُخيلُ إليهِ )
إلى من ؟ إلى موسى
( أنها تسعى ) وقولُ الله جل وعلا ( يُخيل ) يدلُ صراحةً على أنها لم تكُن تسعى وهذا سحرُ تخييل وهو أحدُ أنوع السحر المذكورة في القرآن .
//(8/54)
وقد ذكر الله في القرآن سحر التخييل وصورتهُ أنك ترى الشيء على غير حقيقتهِ بما يُريدهُ الساحر أن تراه و إلا الأصل أن حقيقتهُ غير موجودة يعني حقيقة الأمر الذي تراه أنت غير موجود فهي حبال وعصي لكنّ موسى يُخيل إليهِ أنها تسعى .
وبالقطع يا بُني ما دامت تُخيل إلى موسى وأخيهِ فكيف بالعامة والدهماء الذين يحيطون بحلبة الصراع سيرون أمورً عجيبة.
وقد ذهب بعضُ المشايخ من الجامعة الإسلامية إلى أحد البُلدان الأفريقية فوجدُ رجُلاً معهُ جمل والناس يلتفون حوله ثُمّ أنهُم الرجُل هذا يدخلُ أكرمكُم الله من دُبر الجمل ويخرُجُ من فمهِ والناس ينظرون مفتونون فأحدُ هؤلاء المشايخ مع زُملائهِ رجع قليلاً بعدُ عن نفس الموقف ثُمّ قرأ آية الكُرسي وهو يُتمّمُها وقف لينظُر فوجد الرجُل يدخُل بسُرعة من تحت أرجُل الجمل هو قبل قليل رآه كأنهُ يدخُل من الدُبر ويخرُج من الفم فقال لمن معهُ من زُملائهِ الذاهبين في الدعوة ما الخبر فذهبوا قرأُ آية الكُرسي فرجعوا فرأوا هذا المسكين يمشي بين يدي الجمل ورجليهِ ولا يدخُلُ فيهِ أصلاً.
أصلاً عقلاً مُستحيل يكون دخل مُستحيل لكنهُ سحر أعيُن الناس هذا سحرُ التخييل حُجب عن هؤلاء الفُضلاء بالآية العظيمة آية الكُرسي وقد ورد في فضلها ما لا يخفى عليكُم ولا على من يسمعُ حديثي هذا والمقصود هذا سحرُ التخييل .
//
السحرُ الآخر قال الله عنهُ في البقرة ( فيتعلّمون منهُما ) أي من الملكين ( ما يُفرّقون بهِ بين المرء وزوجهِ ) فذكر الله جل وعلا سحر التفريق بين المرء وزوجهِ وأن هذا يقع لكنّ الله قال أنهُ مُقيدٌ بإذن الله تبارك وتعالى ولا يُمكنُ أن يقع شيء لا قدرياً ولا شرعياً إلا بإذنٍ من الرب تبارك وتعالى ( وما هُم بضارّين بهِ من أحدٍ إلا بإذن الله ) وكُلُ السحر ضرر والله يقول (و يتعلمون ما يضرهُم ولا ينفعهُم )(8/55)
غايةُ الأمر أنني أجمع شتات الآيات شتات معاني الآيات فالآيات لا يُقال لها شتات في أن السحر في القرآن جاء على صورتين :
سحرُ تخييل
وسحرُ تفريق
ولا أذكرُ هناك نوعاً ثالثاً موجوداً هنا وقد ذكر بعضُ الفُضلاء أنواع أُخر لكن لا أعلمُ لها دليلاً من الكتاب .
الذي يعنينا الله جل وعلا يقول ( فإذا حبالهُم وعصيُّهم يُخيلُ إليهِ ) أي إلى من ؟ إلى موسى ( أنها تسعى ) تتحرك .
قال الله ( فأوجس في نفسهِ خيفةٍ موسى )
دخل الخوفُ إليهِ رغم أنهُ يعلم أنهُ سحر وهذا باعتبار بشريتهِ لكنّ هذا يا أُخي ليس مُستقراً في قلبهِ وإنما أمرٌ عارض وعليهِ تُحمل كثير من الآيات المُشابهة ليس مُستقراً في قلبهِ عليهِ السلام وإنما باعتبار الجبلّة هو أمرٌ عارض ، هذا الأمر والخوف الحاصل في هذا المجمع لا يُمكنُ أن يُنزع ويُثبّت إلا بوحيً عظيمٍ من ربٍ كريم فأوحى الله جل وعلا إليهِ
( قُلنا يا موسى لا تخف إنّك أنت الأعلى )
أعلى منهُم لأن ما قدّمُوه تلفيقٌ وتمويه وما ستُقدّمهُ تأييدٌ من العلي الكبير وشتان ما بين ؟ ما بين الأمرين شتان ما بين الأمرين .
هذا تلفيق تمويه يخدعون به الناس أما أنت ما ستفعلهُ أمرٌ إلهيٌ مُعجزة إلهية من لدُنّ ربك .
( إنك أنت الأعلى * وألقِ ) ماذا ؟ ( ألقِ ما في يمينك )
قال العُلماء ذكر الله اليمين هنا من باب البركة ( ألقِ ما في يمينك ) ذكر الله اليمين من باب البركة واليمينُ معروفٌ فضلها بالشرع ومن دلائل فضلها أن من طرائق القرآن أن الله إذا أفرد وجعل مُقابل الإفرادِ جمع دلّ ذالك على فضيلة المُفرد قال الله ( عن اليمينِ والشمائل سُجداً للهِ ) الظُلمات والنور فأفرد النور وجمع الظُلمات وأفرد اليمين وجمع الشمائل ليُبين فضل النور وفضل اليمين مُقابل الظُلمات ومُقابل الشمائل .
قال الله ( ألقِ ما في يمينك )
هذا تذكير بالشيء القديم يوم كان بين يدي اللهِ ألقى الكليمُ ما أمرهُ بهِ البرُ الرحيم فألقى عصاه .(8/56)
قال الله
( ألقِ ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنّما صنعوا كيدٌُ ساحر ولا يفلحُ الساحرُ حيثُ أتى )
وقول الله جل وعلا ( حيثُ أتى ) نفيٌ قاطع كُلي لا استثناء فيهِ أن الساحر لا يُمكن أن يُفلح أبداً وأكبرُ الدلالة على أن السحرة لا يُفلحون أنهم أفقرُ الخلق أكبرُ الدلائل على أن السحرة لا يُفلحون أنهُم أفقرُ الخلق لا يستطيعون أن يحموا أنفُسهم من دورية ورجال هيئة وهم بشرٌ مثلهُم لا يملكون من الأعوان أحدٍ مثلهُم ممّا يدلُ على ضعفهم وعجزهم وحتى لو تظاهروا مرة أو مرتين أو ثلاث لا يلبثوا أن يقعُ (ولا يفلحُ الساحرُ حيثُ أتى )
ما الذي حصل ؟
قال الله في آية أُخرى ( فإذا هي تلقف ما يأفكون ) الكذب الذي جاءوا بهِ انقلبت هذهِ العصا إلى حية حقيقية وليست شيئاً في أعيُن الناس مُخيلاً انقلبت إلى حية حقيقية هذهِ الحية الحقيقية لديها القُدرة أن تأكُل الحبال والعُصي وهي تراها على أنها حبال وعُصي لا تراها على أنها حييا فأخذت تأكُلُهم ولا يعرفُ الشيء مثلُ صانعهِ وهؤلاء السحرة ينظرون وينظرون لها على أنها حية ويرون حبالهُم و عِصيهم على أنها حبال وعصي هم لا يسحرون أنفُسهم .
لكن تبّين لهم قطعاً أن ما جاء بهِ موسى ليس بسحر وأنّهُ مؤيدٌ بربهِ الآن ما الذي نفعهُم بعد الله تلك الكلمة الطيبة يوم أن قدّموا أنهُم أنصفوا موسى بقولهِم ( إمّا أن تُلقي وإمّا أن نكون أول من ألقى ) وفرعون يسمع لكن لشيءٍ أرادهُ الله حتى يُتمّ الله عليهم النعمة وإذا أراد الله جل وعلا شيءً هيأ هيأ أسبابه .
أُنظر إلى هاجر أين كانت هاجر ؟(8/57)
خادمة عن ملكٍ كافر وسارة من أجمل نساء العالمين أقربُ الناس شبهاً بأُمنا حواء فجاء الفاجر ليفعل بها ونُحّي إبراهيم فجلس إبراهيمُ يدعو وجلست سارة تدعو في حديثٍ صحيح تقول { اللهم إن كُنت قد آمنتُ بك وبرسولك وأحصنتُ فرجي إلا على زوجي فاحفظني } فحفظها الله فلمّا حفظها الله شُلّ ذالك الفاجر أُعيق فقال لها أُدعُ لي ولا أضُرك فدعت لهُ فلمّا عاد واطمئن عاد مرةً أُخرى فرجعت إلى دُعائها فردّهُ اللهُ عنها فدعت مرةً أُخرى فقال لمن أتى بها إنك لن تُدخلني على امرأة إنما أدخلتني على شيطان ثُمّ فُتن بجمالها وجاء في نفسهِ أن هذا الجمال مُحال أن يخدم نفسهُ بنفسهِ قال أعطوها هاجر ، من هاجر؟
جارية عند كافر ظالم فأُعطيت هدية لمن ؟ لسارة فخرجت هديةً جاريةً لسارة تخدمُها ثُمّ يقع في سارة يُؤخّر حملُها مولا تحمل حملت جابت إسحاق لكن يُؤخّر حملُها حتى يُصبح في قلب سارة حزن على زوجها إبراهيم أن ليس لهُ ولد فتطلُب منهُ أن يدخُل على جاريتها هاجر بعد أن وهبتُها إياها فيدخلُ إبراهيم على هاجر فيُولد من هذهِ الجارية التي هي بالأمس خادمة عند ملكٍ كافر يخرُجُ من هذا الرحم أبٌ لسيد الخلق صلى الله علية وسلم مُحمد ابنُ عبد اللهِ وهو إسماعيل جدُ العرب جد نبينا صلى الله علية وسلم .
فأنظُر إذا أراد الله بعبدٍ فضل كيف تجري الأقدار لو كان قدّر الله أن سارة حملت بإسحاق لما طلبت سارةُ من إبراهيم أن يدخُل على هاجر لكن أُخر حملُ سارة من إبراهيم حتى يدخُلُ إبراهيمُ على هاجر فيكونُ من هاجر إسماعيل ويكونُ من إسماعيل مُحمد صلى الله علية وسلم .
والمقصود هؤلاء رُزقوا خطابً حسناً وحتى رزق الخطاب هذا ممّن ؟ هذا فضلٌ من الله لكن حتى تعلم أن الأمور لها أسباب تجري على نسقٍ واللهُ يقول ُ في هذا حقً وفي أمثالهِ ( وما يعقلُها إلا العالمون ).(8/58)
وهذهِ نفائسُ العلم التي تُبنى عليها أحداثُ الزمن ومرور الأيام وكيفية اجتثاث العبر والدراية بأحوال الخلق وأن هناك ربٌ لا رب غيرهُ ولا إله سواه يحكُمُ في خلقهِ ما يشاء ويفعلُ ما يُريد .
نقول بعد هذا كُلهِ ماذا حصل ؟
قال الله ( فأُلقي السحرةُ سُجّداً قالوا ءامنّا برب هارون وموسى )
طبعاً السحرة ما كانوا واحد أو اثنين كانوا كثيرين منهُم من قال ( ءامنا برب العالمين ) ومنهُم من قال ( ءامنا برب موسى وهارون ) ومنهُم من قال ( ءامنا برب هارون وموسى )
لم يُعقل لم يعتقدوا أبداً أنهُم سيُؤمنوا حتى نقول اتفقوا على كلمة واحدة فأختلف التعبير وبكُل تعبيرٍ ورد القرآن وبكُل تعبيرٍ ورد القرآن ذكر الله جل وعلا المواطن كُلها أو الطرائق التي عبّر عنها السحرة .
قال ابنُ عباس رضي الله تعالى عنهما فيما نُقل عنه كانوا أول النهار كفرةً سحرة وأصبحوا أخر النهار شُهداء بررة .
ولهذا لا ييأسُ أحدً من هداية أحد ولا يدري أحدٌ أين الخواتيم
يخرجون من دُرهم من بيُوتهم يُمنّون أنفُسهم بالعطايا الدنيوية ويُريدون أن يُحاربوا الله ورسوله ثُمّ لا يلبثوا أن يُؤمنوا ويخرّوا ساجدين هذا السجود كما سيأتي في اللقاء القادم أورثهُم عزةً ومنعه لماذا؟
مرّ معنا أن الإنسان لا يُمكنُ أن يكون في وضع ٍ هو ذليلٌ فيهِ أعظم من ذلة السجود وكُلّما ذللت نفسك بين يدي الله كُنت منهُ قريباً فلمّا ذلّوا أنفُسهم وسجدوا أورثهُم الله بذالك السجود الذي سجدوهُ لهٌُ عزة وإباء ومنعة فلمّا هدّدهم فرعون لم يكُن مُبالون بتهديدهِ ( فأقضِ ما أنت قاضِ إنّما تقضِ هذهِ الحياة الدُنيا ) أربعون عاماً وفرعون يُرسّخ فيهم انهُ رب وأنهُ إلهِ وأنهُ يقتُل ويبطُش كُلهُ مُحي بسجدة وربُما لم تتجاوز دقائق معدودات لأن الموروث الذي أخذوه من فرعون هباء منثور وإن كان لهُ حقيقة .(8/59)
أما ما أخذوه من عطاءٍ إيماني ونورٍ قلبيٍ من الله هذا يثبُت يقول الله جل وعلا ( يهدي الله لنورهِ من يشاء ) ولهذا قال صلى الله علية وسلم { أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربهِ وهو ساجد وقال أما وأني نُهيتُ أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجدا أما الركوع فعظّموا فيهِ الرب وأما السجود فأكثروا فيهِ من الدُعاء فقمنٌ ــ أي جديرٌ وحقيقٌ ــ أن يُستجاب لكُم }
وهذا نختمُ بهِ هذا اللقاء لأن ما بعدهُ مُتواصلُ الأحداث يحسنُ أن نقف عند حكاية الله جل وعلا عند إيمان السحرة ( قالوا ءامنا بربِ هارون وموسى )
هذا اليوم كان يوم الزينة فأبدلهُم الله جل وعلا بأن نجّاهُم في يوم في يوم عاشورا الذي صامهُ موسى و بنو إسرائيل من بعدهِ ثُم صامهُ نبيُنا صلى الله علية وسلم .
أيُها الأخُ المُبارك جُملة ما قُلناه أيُها الابنُ الصالح جُملة ما قُلناه
أن الله جل وعلا أخبر في هذهِ الآيات التي بين أيدينا أنهُ أظهر الآيات وأقام الحُجج والبراهين على فرعون لكن فرعون أستكبر آية بعد آية وهو يرُدُها ثُمّ وقع منهُ حفاظاً على الوضع الاجتماعي القائم عنده أن يُخوّف الناس وتواعد مع موسى على يوم هو الذي عرضهُ فأجابهُ موسى ثُمّ كان ما كان من عرض الأمرين وقُلنا إن من الخير لك أن لا تبدأ أحد بنقاش حتى لا تشعُر بالغلبة وإنّما أطلُب من غيرك أن يعرض ما عنده حتى لا يكون ما عندك القصدُ بهِ العلو على الناس .
فنصر الله جل وعلا كليمهُ وأخاه فأثر ذالك في من يعرفُ الحق وهم السحرة ولا يُعلم أن أحداً من القبطيين الذين شهدوا ذالك النزاع آمن لأنهم خرجوا من عند بيوتهم وليس في نيتهم الإيمان ولم يقع في قلبهم البحثُ عن الحق ( قالوا لعلّنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ) فكانت منّة الله على السحرة دون غيرهم من الناس وقد قدّمنا أن ابن عباسٍ قال " كانوا في أول النهار كفرة سحرة وفي أخر النهار شُهداءُ بررة"(8/60)
وقُلنا إن في هذا بيانٌ لفضل الله ورحمتهِ بالخلق وأنه لا يُدرى أين الخواتيم
ختم الله لنا ولكم بخير
هذهِ جُملة ما تحدث عنه الآيات في سورة طه
نسألُ الله لنا ولكم التوفيق والمزيد من العون والرعاية وسنُكملُ إن شاء الله في لقاءٍ قادم خبر هذا النبي الكريم مع فرعون نسألُ الله التوفيق وأن يُعلّمنا ما ينفعُنا وأن ينفعنا بما علّمنا
هذا ما تهيأ إيرادُهُ ويسر الله جل وعلا على قولهِ سُبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المُرسلين والحمدُ لله رب العالمين وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آلهِ والحمدُ للهِ رب العالمين كرةً أُخرى .........
بسم الله الرحمن الرحيم
أن الحمد لله نحمدهُ و نستعينهُ ونستغفرهُ ونعوذُ بالله من شرور أنُفسنا وسيئات أعمالنا من يهدهِ الله فلا مُضل له ومن يُضلل فلن تجد لهُ ولياً مُرشدا ،
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له أراد ما العبادُ فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه ولو شاء أن يُطيعوهُ جميعاً لأطاعوهُ ،
وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمدً عبدهُ ورسولهُ صلى الله علية وعلى آلهِ وأصحابهِ وعلى سائر من أقتفى أثرهُ وأتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين ....
أما بعد
فهذا لقاءٌ مُباركٌ مُتجدد نتفيأُ فيهِ معكم دوحة القُرآن وكُنا قد انتهينا إلى قول الله جل وعلا على لسان السحرة ( قأُلقي السحرةُ ساجدين) قال الله جل وعلا أخبر فيها أن السحرة آمنوا ( قالوا آمنا بربِ هارون وموسى ).
وحدث هذا التلعثُم في القول الآن لأن قضية السحرة والإيمان وردت في عدة صيغ بإيمان السحرة فردُ السحرة بالإيمان جاء في القرآن
( آمنا بربِ العالمين ربِ موسى وهارون )
وجاء ( بربِ هارون وموسى )
وجاء ( برب موسى وهارون )(8/61)
وينبغي أن يُعلم قبل أن أنتقل لما بعدهُ لأن هذا كُنا قد وقفنا عليهِ في اللقاء الماضي أن السحرة كثيرون فطبعيٌ جداً أن يختلف بعضُهم مع بعض في قضية ماذا يقولون فهُم جميعاً آمنوا بإلهٍ واحد هو ربُ العزة والجلال لكن التعبير عن هذا الإيمان اختلف لتعدُدهم فبعضُهم قالوا ( آمنا برب موسى وهارون ) وبعضُهم قال ( آمنا بربِ هارون وموسى ) قدّم هارون باعتبارهِ الأكبر ومنهم من قال ( آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ) .
لكن الذي يجمعُ هؤلاء السحرة أنهم جميعاً آمنوا بالرب تبارك وتعالى .
هذا الأمر وقع على ملأً من الناس وكان قد مرّ معنا أن موسى علية الصلاةُ والسلام لا يُخفي شيئاً عن الناس في دعوتهِ وقُلنا إن من سماتِ الأنبياء وأتباعهم أنهم يدعون جهارا ولا يخشون أحدً بمعنى أنه ليس هُناك شيء يُبيتونهُ لأنفُسهم حتى يضعون دينهم في الخفاء ولهذا قال ( موعدكُم يوم الزينةُ وأن يُحشروا الناسُ ضُحى )
فكانت دعوتهُ جهاراً بينا حصل الموقف ألقى السحرة ألقى موسى عصاه كما أخبر الله ( فإذا هي تلقفُ ما يأفكون )
انتهينا إلى قول الله جل وعلا
( قالوا آمنا بربِ هارون وموسى )
لما آمنوا انقلبوا من كونهم في أول النهار كفرةً أشرار إلى كونهم أتقياء أبرار وهذا يدلُ على أن الهداية بيد الله .
هذا ما انتهينا إليهِ ........
نبدأُ اليوم بقول الله جل وعلا على لسانِ فرعون ( قال ءامنتُم لهُ قبل أن ءاذن لكُم إنّهُ لكبيرُكُم الذي علّمكُمُ السحر فلأُقطعنّ أيديكُم وأرجُلكم من خلاف ولأُصلّبنكُم في جذوع النخل ولتعلمُنّ أيُنا أشدُ عذابً وأبقى )
هذا القول ردة الفعل الفرعونية إلى اليوم والناس في حياتهم الاجتماعية إذا رأوا رجُلاً مُتغطرساً يقولون فرعوني وهذا مأخوذة من دأب فرعون قول فرعون من سياستهِ لناس .
فرعونُ ما كفاه أن يدّعيَ أنهُ إله ( ما علمتُ لكُم من إلهٍ غيري )(8/62)
وقد جاء في الأثر أن جبريل قال لنبي صلى الله علية وسلم "" ما أبغضتُ أحدً بُغضي لفرعون يوم سمعتهُ يقول ( ما علمتُ لكُم من إلهٍ غيري ) ""
فرعون لما آمن السحرة من كذب على الله هينٌ عليهِ أن يكذب على الخلق ولهذا قال ( ءامنتُم لهُ ) همزة من أصل الفعل وهمزة استفهامية ( قبل أن آذن لكُم ) حتى الإيمانُ بالله في ظنّهِ يحتاجُ إلى أن يستأذنوه ومعلومٌ أن فرعون حتى لو استأذنوه لن يأذن وهم غيرُ مُلزمين شرعاً لأن يستأذنوه لكن حتى لو استأذنوه فإنهُ لن يأذن لهم .
( قال ءامنتُم لهُ قبل أن آذن لكُم ) وهذا يدلُ على علوهِ وتكبُرهِ ( إنهُ لكبيركُم الذي علّمكُم السحر ) فانظُر كيف قلب الأمر جعل موسى مُعلماً لهم ويعَلمُ فرعون أن موسى ما كان ساحراً طرفة عين وأنهُ هو الذي بعث في المدائن حاشرين يأتوه بكُل سحّارٍ عليم لكنّهُ كما قُلنا من تجرأ في الكذب على الله بدهيٌ أن يكذب على غيرهِ ولهذا قال هرقل لأبي سُفيان في قضية مُحاورتهما في أرضِ هرقل قال لهُ عن النبي صلى الله علية وسلم أجربتم عليهِ كذبا ؟ قال: لا ، قال هرقلُ بعقلهِ لا بنقلهِ قال ما كلن ليتُرك الكذب على الناس ويكذبُ ويكذبُ على الله وجعل ذالك أمارةً على صدقِ نبوة نبينا صلى الله علية وسلم .
( إنهُ لكبيركُم الذي علّمكُم السحر )
هذا وصفٌ من فرعون لهُ ثُم أجرى مجرى التهديد الفعلي بعد أن ذكر التهديد القولي قال ( لأُقطعنّ أيديكُم وأرجُلكُم ) وجاءت أيديَ بالنصبِ لأنها مفعولٌ بهِ وظهرت العلامةُ على الياء ( فلأُقطعن أيديكُم وأرجُلكُم من خلاف ) وهذا نوعٌ من التهديد 0( ولأُصلبنّكُم ) والصلبُ الرفع والحمل ويكونُ غالباً على ألواحٍ وخشب ( لأُصلبنّكُم في جذوع النخل ) ومعلومٌ قطعا أن الصلبُ هُنا إنما كان على جذوع النخل .(8/63)
قال بعضُ العلماء كأبي حيان في البحر المُحيط قال : إن فرعون نقر لهم في النخل وأدخلهُم فيهِ وهذا القولُ منهُ ليفرّ من قول الله جل وعلا على ( جذوع النخل ) لكن هذا القول أكثرُ أهل العلم على خلافهِ وإنما كان ينبغي أن يُعلم أن حروف الجرِ في اللُغة ينوبُ بعضُها عن بعض هذا واحد .
الأمر الثاني :
قال بعضُ من يُعنى باللُغة في القرآن قال (لأُصلبنّكُم في جذوع النخل ) ليُبين يُسر الأمر عليهِ ليُبين يُسر الأمر عليهِ يعني أراد فرعونُ أن يقول إن كوني أنني قادرٌ على أن أُصلبنّكُم في جذوع النخل أمرٌ هينٌ علي لأن كلمة على تعني الفوقية تعني الاستعلاء كأنهُ يحتاجُ إلى من يُعينهُ إلى أن يرتفع فحاد عنها فرعون طبعاً حاد عن مثيلها هي ليس عندهُ في عُرفهِ في لُغتُهُ لكن حاد عن مثيلها في لُغتهِ وإنما عبّر بالحرف الجر في ليُبين سهولة الأمر عليهِ (لأُصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمُنّ أيُنا ) يعني أنا وأنتُم ( أشدُ عذاباً وأبقى )
وهذهِ زفرات يُطلقُها ذالك الذي لعنهُ الله كردةِ فعلٍ يائسة لما رأى من إيمان السحرة (ولتعلمُنّ أيُنا أشدُ عذابً وأبقى )
مرّ معنا في تفسير سورة القلم أن السجود من أعظم ما ينالُ به العبدُ عظيم اليقين وهذهِ الأحداثُ شاهدةٌ على ذالك قال الله جل وعلا على لسان السحرة لما هددهم فرعون وهذا كُلهُ في أرض الموقف في أرض المُجادلة قالوا له بعد أن قال ( ولتعلمُنّ أيُنا أشدُ عذاباُ وأبقى ) قالوا ( لن نؤثرك على ما جاءنا من البيّنات والذي فطرنا ) فألقى الله جل وعلا في قلوبهم الإيمان واليقين ووجدوا حلاوتهُ رغم أنهم ليس لهم أيامٌ ولا شهور ولا أعوام من بابٍ أولى في الطاعة والإيمان والعمل الصالح لكن تلك الحضوة الإلهية نالوها ببركة سجودهم حتى يُعلم أثر العمل الصالح على قلب العبد حتى يُعلم أثر العمل الصالح على قلب العبد .
((8/64)
قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ) ثُم ردوا عليهِ بطرقته كما كان يُطلق الأفعال على صيغة الأمر قالوا لهُ ( فأقضِ ) أي فأنهي ( ما أنت قاضٍ ) ثُم بينوا لهُ ضعفه ( إنما تقضِِ هذهِ الحياة الدُنيا ) قد يكونُ أن الله أعطاك سُلطان على الدُنيا لكن ليس لك سُلطانٌ على حياتنا في الآخرة والدُنيا قضيت علينا أم لو لم تقضي علينا فمردُنا أصلاً إلى الموت فلا نُخوفُ بشيء لكن العبرة بالحياة الأُخروية (فأقضِ ما أنت قاضٍ إنما تقضِ هذهِ الحياة الدُنيا )
وجاءت الحياةَ بالنصب لأنها بدلاٌ من اسم الإشارة هذهِ وهذهِ قاعدة نحوية تأتي معك دائماً كلُ اسم مُعرفُ بال بعد اسم الإشارة يُعربُ بدلاً عنه كلُ اسم مُعرفُ بال بعد اسم الإشارة يُعربُ بدلاً عنه فما يُقالُ في إعراب اسم الإشارة الذي قبله يُقالُ في إعراب الاسم الذي بعده وهذا نظيرهُ (إنما تقضِ هذهِ الحياة الدُنيا ) أي بهِ ( الحياةَ ) نيابة عن هذهِ بدلاٌ عنها (إنما تقضِ هذهِ الحياة الدُنيا )
ثُم قالوا
( إنا ءامنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليهِ من السحر )
وعبارة الإكراه هُنا مأخوذة من أن فرعون سوّل لهم هذا الأمر بأن مناهم ووعدهم وقال ( إنكمُ إذاً لمن المُقربين ) فاعتُبر هذا شرعاً نوعاً من الإكراه .
قال الله جل وعلا ( وما أكرهتنا عليهِ من السحر ) ثُم قارنوا بينهُ وبين فرعون بين ربهم وبين فرعون قالوا ( والله خيرٌ وأبقى ) ولا ريب أن الله خيرٌ وأبقى .
وهذهِ منهاج للمؤمن في كُل ما يأتيهِ ما يكونُ فيهِ شيء يتعلق بالله وما فيهِ يتعلّق بالمخلوقين فثق أن ما عند الله جل وعلا خيرٌ لك وأبقى وهذهِ من الطرائق التي ربى الله جل وعلا بها رُسُلهُ عليهم الصلاةُ والسلام وهذّبهم بها وثبت قلُوبهم جل وعلا بها أنهُ أعلمهم أن الآخرة هي الباقية هي التي يعملُ الخلقُ لها.(8/65)
قال صلى الله علية وسلم لما رأى الأنصار والمُهاجرين يبنون مسجده { اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمُهاجرة }
وهذا أمرٌ يستحضرهُ المؤمن وقد مرّ معكُم رُبما قُلتُ لكم من قبل أن العلامة الألباني رحمهُ الله لمّا بُشّر بفوزه بجائزة الملك فيصل العالمية أراد بعضُ الصحفيين أن ينال حضوةً عندهُ بأن يُجري لهُ مُقابلة صحفية ومعلومٌ أن جائزة الملك فيصل جائزةٌ عالمية يرقبُها كُل عالمٌ في خدمة الإسلام أو في غيرهِ فلمّا بُشّر بها قال الشيخُ وهو يبكي هاتفياً ( والله خيرٌ وأبقى ) ثُم قال ( وللآخرةُ خيرٌ لك من الأُولى ) .
فمهما أُعطي الإنسانُ من الدُنيا ينبغي عليهِ أن يستحضر هذا الأمر العظيم وأن ما عند الله خيرٌ وأبقى حتى لا يُفتن بما أعطاهُ الله جل وعلا في الدُنيا ( والله خيرٌ وأبقى )
( إنهُ من يأتي ربهُ مُجرماً ) هذهِ مُمكن أن تكون من كلام السحرة المؤمنين ومُمكن أن تكون تذييل من كلام الله جل وعلا تحتملُ الأمرين ( إنهُ من يأتي ربهُ مُجرماً )
أي كافرً ( فإن لهُ جهنم لا يموتُ فيها ولا يحيَ ) وهذا أحدُ كُنى عذابُ جهنم أن القضية فيها أن الإنسان لا ينتهي وفي نفس الوقت لا يبقى حياً حياةً مُنعمة .
ثُم الأمر الثاني ذكرهُ الله في سورةٍ أُخرى ( قالوا سواءٌ علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص )
متى ينفع الصبر ؟
إذا كان يُعينك على تجاوز الأذى لكن إذا كان الصبرُ لا ينفع يُصبح في ذاتهِ عذاب وهذا والعياذُ بالله حالُ أهل النار قال الله جل وعلا (إنهُ من يأتي ربهُ مُجرماً فإن لهُ جهنم لا يموت فيها ولا يحيَ )(8/66)
وكما في سياق القرآن في أكثرِ من موضع إذا ذكر الله أهل النار يذكرُ أهل الجنة وإذا ذكر أهل الجنة غالباً يذكرُ أهل النار فبعد أن ذكر الله مصير المُجرمين قال ( إنهُ من يأتي ربهُ مُجرماً فإن لهُ جهنم لا يموت فيها ولا يحيَ ) وهذهِ نحوياً جُملة شرطية بدأت بمن وهي أسمُ شرط لذالك يأتي بعدها حُذفت ياؤها
لماذا حُذفت الياء ؟
لأنها واقعة فعلُ شرطٍ جُزم وعلامةُ جزمهِ حذفُ حرف العلة
وقولهُ سُبحانهُ ( فإن لهُ جهنم ) هذهِ يا بُني الفاء واقعة في جواب الشرط واقعة في جواب الشرط وسوّغ الإتيان بالفاء أن جواب الشرط جُملةٌ أسمية سوّغ أن يبتدأ جوابُ الشرط بالفاء أن جواب الشرط جُملةٌ أسمية .
( إنهُ من يأتي ربهُ مُجرماً فإن لهُ جهنم لا يموت فيها ولا يحيَ * ومن يأتهِ مؤمناً )
أي حال كونهِ مؤمناً ( قد عمل الصالحات فأُولئك لهم الدرجاتُ العُلى )
الجنة والنار كلاهُما يُقال في حق أهلها درجات لكن تنفرد النار أن يُقال في حقها دركات فيُقال لأهل النار درجات نصّ عليهِ القرآن في الأنعام لكن لا يُقالُ لأهل الجنةِ دركات وإنما دركات وقفٌ على أهل ؟ على أهل النار .
( ومن يأتهِ مؤمناً قد عمل الصالحات فأُولئك لهم الدرجاتُ العُلى جناتٌ عدنٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها وذالك جزاءُ من تزكى )
ومرّ علينا معنى التزكية بالتفصيل في قول الله جل وعلا ( قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دسّاها )
(فأُولئك لهم الدرجاتُ العُلى جناتٌ عدنٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها وذالك جزاءُ من تزكى )
ثُم قال الله جل وعلا أخبر عن نبيهِ موسى قال
( ولقد أوحينا إلى موسى أن أسرِ بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخافُ دركاً ولا تخشى )(8/67)
ذكر الله جل وعلا هنا خروج موسى من أرض مصر وجاء الخروج في " طه " موجز وفُصّل في الأعراف وفي يونس وفي غيرهما والقُرآن سمّاهُ اللهُ جل وعلا مثاني بمعنى أن الأخبار والقصص فيهِ غالبً فيهِ تكرر فما يوجزهُ الله في سورة يُبسطهُ الله في سورةٍ أُخرى وأحياناً يكتفي الله جل وعلا بالبسط في سورةٍ واحده ولا يُثنيها كما في قصة نبي الله يوسف فإنها لم تكرر في القرآن بخلافِ قصة موسى فإنها مرت في أكثر من موضع في كُل موضعٍ تُساق حسب السياق العام لسورة .
قال الله جل وعلا ( ولقد أوحينا إلى موسى أن أسرِ بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً)
(أن أسرِ) دلّ على أنهم خرجوا ليلاً لأن السُراء لا يكونُ إلا في الليل (فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً) والضرب هنا حقيقة وهو أن موسى علية الصلاة والسلام ضرب البحر بعصاه (فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً) البحر بالاتفاق بحر القلزم المسمى اليوم بالبحر الأحمر (فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخافُ دركاً ولا تخشى )
ومعنى الآية
(لا تخافُ دركاً ) أي لا تخافُ أن يُدركك فرعون ( ولا تخشى ) أي لا تخشى غرقاً من البحر فلا فرعونُ يُقدّر لهُ أن يُدركك هو وجُندُهُ ولا البحرُ قادرٌ على أن تكون غريقاً فيهِ وإنما سيُنجيك ربُك من إدراكِ فرعون ومن موج البحرِ وما يكونُ فيهِ من الغرق والهلاك ( لا تخافُ دركاً ولا تخشى )
هذا جاء مُفصلاً ولعلهُ يأتي.(8/68)
لكن جُملةً نقول :إن موسى أخذ قومهُ لما وصل إلى شط البحر قال أصحابُ موسى ( إنا لمُدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين ) فأمرهُ الله بأن يضرب البحر وضربهُ قائلاً أنفلق يا أبا خالد وهي كُنيةٌ تقولها العرب للبحر وورد والعلمُ عند الله انهُ قال" بسم الله ولا حول ولا قوةً إلا بالله اللهم لك الحمد وإليك المُشتكى وأنت المُستعان " فانقلب البحرُ يبساً كما أخبر وأنشق اثني عشر طريقاً على قدرِ أسباطِ بني إسرائيل فعبر موسى والمؤمنون الذين معه حتى انتهوا إلى الضفة الأُخرى .
جاء فرعون تردد في العبُور وقد مرّ هذا معنا تردد في العُبور لكنهُ بقي ينتظر خوفاً من أن يعود البحرُ بحرا فلما وصل موسى والمؤمنون الذين معهُ إلى الضفةُ الأُخرى وأطمئن موسى أنهُ قد سلم وأن فرعون يُحاولُ أن يُدركهُ أراد أن يضرب البحر كرةً أُخرى ليعود بحرا فيقطع الطريق على فرعون فأوحى إليهِ ربُ العزة ( واترُك البحر رهوا) هذا في الدُخان أي سكاناً فبقي البحرُ سكاناً فامتنع موسى عن ضربهِ بأمر الله تشجع فرعون ليُهلكهُ الله جل وعلا على أن ظنّ أن البحر سيبقى أبدياً على هذهِ الحال عبر هو وجنُودُه فلما أكتمل بقائهم في البحر أمر الله البحر أن يعودُ بحرا فأُغرق فرعون فقال ( أمنتُ أنهُ لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ) ولم يقُل آمنتُ بالله وإن كان إيمانهُ صحيحاً فالله جل وعلا قال أهلُ العلم اثبت الإيمان لفرعون لكنه لم يقبلهُ منه قال الله ( ألآن وقد) ذكر أنهُ قبل لم يكُن على هذهِ الحال (ألآن وقد عصيت قبلُ وكنت من المُفسدين )
وقد جاء في الآثار أن جبريل علية السلام كان يضعُ الطين في فم فرعون مخافة أن يقول فرعون كلمة يستدرّوا بها رحمة الله.(8/69)
وقد مرّ معنا كثيراً في دروسنا أن رحمة الله جل وعلا لا تُستجلبُ بشيء بعد الإيمان والعمل الصالح بأكثر من دعوة أو أكثر من مدحٍ أو ثناءٍ على الله يستدرُ بها العبدُ ما عند الله جل وعلا فإن الرب تبارك وتعالى لا أحد أحبُ إليهِ المدحُ من نفسهِ ولذالك مدح ذاتهُ العلية وهذا أمرٌ مُشاهدٌ في الكتاب والسُنة فإنهُ كم من عبدٍ صالحٌ ذكر الله جل وعلا دعوتهُ كدعوة ذي النون .
وكقولهِ صلى الله عليهِ وسلم لما سمع عبدً يقولُ في دُعائهِ " اللهم لك الحمدُ حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيهِ " أخبر علية الصلاةُ والسلام أن هذهِ الكلمات أعجزت الملكين .
والمقصودُ من هذا أن الله جل وعلا تُستدرُ رحمتهُ وتُستجلبُ ما عندهُ من الفضل والإحسان بكثرة الثناء عليهِ و انكسارِ البعدِ بين يديهِ وهذا الأمر كان مظنة أن يأتي فرعون و إلا لو تقرر عند جبريل أن الله لن يرحم فرعون قطعاً مهما قال ما كان هناك حاجة لأن يضع جبريُلُ الطين في فم فرعون .
وهذا يدلُ على أن رحمة الله جل وعلا واسعة وانهُ لا يهلكُ على الله جل وعلا إلا هالك وإن العاجز حقاً من لم يجد ألفاظً ولا كلمات يُعبرُ بها عن مسكنتهِ وانكسارهِ بين يدي الرب تبارك وتعالى وتعظيمُك لله جل وعلا لابُد أن يُلازمهُ عدم مُبالغتك في الخلق ولهذا تخرُجُ منا أحياناً من غير شُعور كلمات نقُولها لمن نُحب فيها التعظيم دون أن نشعُر فيسمعُ البعض إذا ألقى كلمة في محفل أو أمام أميرٍ أو ذي سُلطان يقول إن الكلمات تقصُر وأن العبارات تعجز وهذا خطاٌ محضٌ بل خطاٌ عظيم لأن الكلمات العربية إذا وسعت كلام الله من باب أولى أن تسع غيرهُ إذا وسعت ألفاظ العربية مدح الرب جل وعلا فمن باب أولى وأحرى تسع مدح غيرهِ.(8/70)
لكن الناس إذا وصلوا إلى من بيدهِ العطايا أومن يُخشى منه نسو شيءً من جانبً نسو أمراً من جانب الله لكن الإنسان يكونُ متوازن يعرفُ لأهل القدرِ قدرهم ولأهل الفضلِ فضلهم لكنهُ يبقى مُعظماً التعظيم المُطلق لرب تبارك وتعالى .
يقول حافظ عن اللُغة العربية :
وسعتُ كتاب الله لفظاً وغايةً *** وما ضقتُ عن آيً بهِ وعظاتِ
فكيف أضيقُ اليوم عن وصف آلةٍ *** وتنسيق أسماءٍ لمُخترعاتِ
والمقصود أن الله جل وعلا جعل قُرآنهُ بلسانٍ عربي الذي فيهِ الثناء على ذاتهِ العطرة على ذاتهِ جل وعلا فكيف بالثناء على المخلوقين من باب أولى أن تتسع اللُغة ويوجد من العبارات والألفاظ ما نمدحُ بهِ من نُحب أو نُجلّ أو نُعظّم أو نخشى .
المقصودُ من هذا كُلهِ أن نبي الله موسى عليهِ الصلاةُ السلام عبَر بقومهِ بعد أن عبر بهم البحر أصبحوا أين ؟
في أرض سيناء أصبحوا في أرض سيناء .
قال الله جل وعلا : ( ولقد أوحينا إلى موسى أن أسرِ بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخافُ دركاً ولا تخشى )
ما فصّلناه قالهُ الله 0 (فاتبعهُم فرعون بجنودهِ فغشيهم) غشي بمعنى غطى غطى من ؟
غطى فرعون وأهله
(فغشيهم من اليم ما غشيهم )
وإذا جاءتك هذهِ الفعل ثُم بعدهُ ما هذهِ مُرتبطة بالفعل الذي بعدها لتُسمى ما المصدرية أو ما الموصولة أحياناً وهذا خلافٌ بين النُحاة فأعلم أن المقصود التعظيم ومنهُ قولُ الله جل وعلا ( إذ يغشى السدرة ما يغشى ) هذا أسلوب تعظيم أسلوب تفخيم أسلوب تهويل
فالله يقول هنا ( فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعونُ قومهُ وما هدى )
منّ الله على بني إسرائيل بعد ذالك يقولهِ:
( يا بني إسرائيل قد أنجيناكُم من عدوكم وواعدناكُم جانب الطور الأيمنَ ونزلّنا عليكُم المنّ والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكُم ولا تطغوا فيهِ فيحلّ عليكُم غضبي ومن يحلل عليهِ غضبي فقد هوى )(8/71)
يا بني إسرائيل إسرائيل يعقوب ابنُ إسحاق ابنُ إبراهيم وهذهِ مُلاطفة من العلي الكبير في خطابِ أُولئك القوم فنسبهم إلى جدهم الأكبر الذي يُنسبون إليهِ وهو نبيُ الله ابنُ نبي اللهِ ابنُ خليل الله عليهم جميعاً أفضل الصلاةُ والسلام .
والربُ تبارك وتعالى يُنادي عباده إما أن يُنسبهم إلى أب عام كآدم أو أبٍ خاص كيا بني إسرائيل أو يُناديهم نداء كرامة وهذا أكثرُ الآيات المدنية عليه كقول الله جل وعلا ( يا أيُها الذين آمنوا ) فهذا يُسمّى نداء كرامة أو نداءً عاماً لا يُنسبون فيهِ إلى أبٍ ولا يُذكرون فيهِ بكرامة وإنما نداء عام ومنهُ قول الله جل وعلا ( يا أيُها الناسُ اتقوا ربكُم إن زلزلة الساعة شيءٌ عظيم ) فقول الله جل وعلا ( يا أيُها الناس ) هذا نداء عام يدخُلُ فيهِ البر والفاجر والمؤمن والكافر ولا يُمكنُ أن نصطلح على أنهُ نداءُ كرامة بل هو نداءٌ عام وقُلنا ( يا أيُها الذين آمنوا ) هو نداء كرامة ،
قُلنا مُلاطفة ( يا بني إسرائيل قد أنجيناكُم) يمّنُ الله جل وعلا على بني إسرائيل بما كان من نجاتهم من فرعون (قد أنجيناكُم من عدوكم) الذي هو فرعون (وواعدناكُم جانب الطور الأيمنَ ونزلّنا عليكُم المنّ والسلوى) الطور كم طور فيهِ ؟
واحد كم جبل طور ؟ واحد
الأيمنَ جاءت منصوبة والطور جاءت مجرورة لأنها مُضاف إليهِ هذهِ تأملها جيداً
(جانب الطورِ الأيمنَ ) فالأيمن ليست صفة لماذا ؟ لطور وإنما صفة لماذا للجانب ، الأيمن صفة للجانب ليست صفة لطور لأنها لو كانت الأيمن صفة لطور معناه هُناك طور أيمن وطور أيسر وطور في الوسط وطور هناك وطور ... ولا يوجدُ إلا جبلُ طورٍ واحد لكن هذا الجبل جبل الطور المُبارك لهُ عدة جوانب وأصلً كلمة أيمن ليست جهة ثابتة لأن الثبات في اليمين واليسار غير ثابت غير وارد .(8/72)
مثلاً :أنا أجلسُ الآن على هذا الكُرسي هذا الجهة هذهِ على يميني لكنني لو قابلت هذا الكُرسي فتُصبح هذهِ الجهة على يساري الأيمن غير وارد لكن الله جل وعلا يُخبر عن الجهة التي جاء منها موسى عليهِ الصلاةُ والسلام هذهِ واحده .
قُلنا الأيمن صفة لجانب وجانب نكرة والأيمن معرفة لكن ما الذي سوّغ هنا أن جانب جاءت مُعرّفه بالإضافة جاءت مُعرّ بالإضافة أُضيفت إلى كلمة الطور فاكتسبت التعريف أُضيفت كلمة جانب إلى كلمة الطور فاكتسبت التعريف فلما أضحت معرفةً حُق لها أن توصف بكلمة الأيمن .
وهنا قبل أن نتجاوزها إلى غيرها نبه بعضُ العلماء وذكرهُ الدكتور صالح العايد في كتاب نظرات لُغوية نقلاً عن صاحب البُرهان كلّما أنسى وهي قضية استنبطها العُلماء دقيقة جداً في قضية جانب الطور الأيمن .
الله جل وعلا ذكر هنا أنهُ واعد موسى جانب الطور الأيمن لكن لمّا تكلم عن نبيهِ صلى الله علية وسلم قال ( وما كُنت بجانب الطور ) ما قال الأيمن ( وما كُنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر )
لماذا لم يذكُر اللهِ الأيمن هُنا ؟
لأن هنا في نفي وكلمة الأيمن فيها تشريف لكن كلمة الغربي لا تعني شرفاً بذاتهِ [واضح ]
الأيمن جهة اليمين جهة شرف لكن الغربي والشرقي والشمال والجنوب ليس فيها في ذاتها شرف فلما أراد الله النفي عن نبيهِ مُلاطفةً لنبيهِ لم يصفها بالأيمن لأنهُ إذا وصفها بالأيمن فيُصبح نفى اليُمنى عن نبيهِ والله لا يُريدُ هذا فقال جل وعلا ( وما كُنت بجانب) إجلالاً وإكراماً ومُلاطفة لرسولهِ صلى الله علية وسلم .(8/73)
وقبل أن أُكمل هذا أقولُ لك ولمن يُشاهدنا من الأخوة والأخوات علمُ التفسير عُموماً مواهب يُعطيها الله من يشاء والناسُ قُدرات ويظهرُ أثرُ كُل ذي قُدرة في تفسيرهِ . فمن كان ذا قُدرة في الإستباطات اللغوية سيظهرُ هذا جليً في كلامهِ ،، ومن كان قويً في الفقهِ مثلاً سيظهرُ هذا في كلامهِ فكُن أنت قبل أن تبحث عن تفسيرِ الآية ابحث عن ما تُريدهُ من الآية ابحث عن ما تُريدهُ من الآية فإذا بحثت عن ما تُريدهُ من الآية سيسهُلُ عليك أن تبحث في كُتب التفسير لكن هذا لابُد أن يسبقهُ أن تكون مُلماً بكُتب التفسير بعضُها يظهرُ من عنوانها فالكتاب الذي ذكرنا اسمهُ [نظرات لُغوية] فواضح أنهُ يبحث في اللُغة ، [ أحكام القرآن لأبن العربي ] واضح أنهُ يتكلم في الفقهيات فأحياناً من العنوان يظهر وأحياناً لا من كثرة المُطالعة والدُربة لك تستطيعُ أن تعرف مناحي المُفسرين فيسهلُ عليك بعد ذالك أن تصل إلى مُرادك .
نقول قال الله جل وعلا :
(وواعدناكُم جانب الطور الأيمنَ ونزلّنا عليكُم المنّ والسلوى)(8/74)
أهلُ العلم رحمهم الله يكادون يُجمعون على أن المقصود بالمنّ ما ينزلُ من السماء شيءٌ أنزلهُ الله من السماء عليهم كالطل يجدونهُ على رؤوس الأشجار أشبه بالعسل الأبيض يتجمع كالصُمغ ثُم يأخذُنهُ وهو نوعٌ من الحلوى رزقهُ الله جل وعلا بني إسرائيل وقالوا في السلوى أنها طيرُ السُمّان المعروف هذا ما ذكرُوه لكن جاء في الحديث أن الكمأة من المنّ والذي يظهر والعلمُ عند الله ما قالهُ الأفاضل الأكابر في هذا قويٌ جداً لتظافُرهم عليهِ ومن الصعب أن يُخطأ الإنسانُ جمعاً لكن فيما يبدو أن المنّ هو الكمأة التي تظهر الآن من غير ما زرع تكونُ مقرونةً بوقت المطر فهذهِ فيها منّة لأن ليس فيها جُهدٌ لأحد ليس فيها جهدٌ لأحد لأجل ذالك من الغالب يعني غالبُ الظن أنها مقصودة إن لم تكُن هي كُلها فتكون من في الحديث بيانية أو على الأقل نوعٌ مما أخرجهُ الله جل وعلا لبني إسرائيل.
والمقصودُ أن بني إسرائيل عندما خرجوا مكثوا في الصحراء فاحتفى العليُ الكبيرُ بهم إكراماً لأنبيائهم ولما أرادهُ الله جل وعلا من الابتلاءِ لهم ( ولقد اخترناهم على علمٍ على العالمين ) فأنزل عليهم المنّ والسلوى .
قال اللهُ جل وعلا
( وأنزلنا عليكُم المنّ والسلوى كلوا ) وهذا أمرٌ للإباحة ( كلوا من طيبات ما رزقناكُم ولا تطغوا فيهِ ) في تجاوز الحد ( فيحلّ عليكُم غضبي )
ثُمّ قال الله تذييلاً لهذا الأمر( ومن يحلل عليهِ غضبي فقد هوى ) والهوى هُنا المقصودُ بها السُقوط المُريع والمقصودُ بها الهلاك الفضيع لكُل من حل عليهِ غضبُ الله تبارك وتعالى.
( ومن يحلل عليهِ غضبي فقد هوى )وهنا أتوقف قليلاً لأقول أن هوى في القرآن وردت بمعنى السقوط قال الله جل وعلا ( أو تهوي بهِ الريح في مكانٍ سحيق ) وهُنا نستبعد تفسير بعضُ العُلماء لقول الله جل وعلا ( والنجمِ إذا هوى ) بأن المقصود بهِ نزول القرآن.(8/75)
بعضُ أهل العلم يقول ( والنجم إذا هوى ) يقصد أن القرآن نزل مُنجماً فيجعل هوى هنا بمعنى نزل لكن ألفاظُ كلمة هوى استخدام اللفظ هوى في القرآن لا يُساعدُ على هذا ومنهُ هذهِ الآية ( ومن يحللِ عليهِ غضبي فقد هوى )
ثُم قال البرُ الرحيم كما يذكرُ غضبهُ يذكُر رحمته
( وإني لغفارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالح ثم أهتدى )
هذا القولُ الرباني من الله جل وعلا جاء بعد قولهِ تبارك وتعالى
( ومن يحلل عليهِ غضبي فقد هوى * وإني لغفارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالحٍ ثُم أهتدى )
وقد يظنُ الناس ممن لا يؤتى بضاعة في التفسير قوية أن الأمر مُرتباً ترتيباً حرفياً وإنما المقصودُ أن الإنسان إذا وقر في قلبهِ الإيمان والأسفُ على ما كان منهُ من عصيان ولزم الصراط المُستقيم هذا الذي أهلٌ لأن يغفر الله جل وعلا له لكن الآية لا تعني الحصر فإن الرب جل وعلا قد يغفرُ من غير ما سببٍ من العبد قد يغفرُ من غير ما سببٍ من العبد .
وبعضُ أهل العلم كما في شرح العقيدة الطحاوية أجمل أسباب المغفرة إلى ثلاثةَ عشر سببً ، أجمل أسباب المغفرة إلى ثلاثةَ عشر سببً وجعل خاتمتها وأخرها وأكملها غُفران الله تبارك وتعالى من غير سببٍ من العبد لكن هنا الله جل وعلا يذكرُ أعظم أسباب غفران الذنوب
( وإني لغفّارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالحٍ ثُم أهتدى)
على هذا الإنسانُ وهو يعملُ العمل الصالح لا بُد أن يجعل في نفسهِ مُستصحباً أنهُ يُريدُ بالعمل الصالح غُفران الذنوب كما قال الله قبل قليل على لسان السحرة ( إنّا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا )
ونقولُ مرارا : أن المرء لا يحملُ فوق كاهلهِ شيءً أشد عليهِ من ذنبهِ ولهذا علّق الله جل وعلا جوائز فضائل الأعمال بغُفران الذنوب.(8/76)
فلمّا ذكر النبيُ صلى الله عليه وسلم الحج وأخبر ما يجدهُ العبدُ من عناءٍ فيهِ وأنهُ عباده يجتمعُ فيها البدنُ والمالُ والقلب قال صلى الله علية وسلم { رجع كيوم ولدتهُ أُمهُ } فعلّقها بمغفرة بمغفرة الذنوب لأن الصالحين لا يخشون لا يؤرقهم شيء أعظم من أنهم يسألون الله جل وعلا غُفران ذنُبهم .
إن تغفر اللهم تغفر جما **** وأيُ عبدٍ لك ما ألما
ولما أراد الله أن يُخبر ببعض كرامتهِ إلى نبيهِ صلى الله علية وسلم قال لهُ ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) وهو عليهِ الصلاةُ والسلام يُعلّمُ الصديق فيقول أن يقول في دُعائهِ
{ اللهم إنني ظلمتُ نفسي ظُلماً كثيرا وإنهُ لا يغفرُ الذنوب إلا أنت فاغفر لي } أو كلمةً نحوها .
والمقصود أن غُفران الذنوب من أعظم ما يطلبهُ العبد ُ من ربهِ.
إلى هنا ينتهي وضعٌ عام في حياة بني إسرائيل ذكرهُ الله جل وعلا ثُمّ يذكُر اللهُ تبارك وتعالى مُسارعة موسى كما سيأتي تفصيلاً في اللقاء القادم إلى ربهِ.
لكن نقف هنا لنقول في جُملة هذهِ الآيات تنحصرُ هذهِ الآيات في الحديث عن ما كان من إيمان السحرة وهو أولُ نقلة نوعية في دعوة موسى إلى استقرارهم في أرض سيناء وهذهِ المرحلة التاريخية من انتصارِ موسى إلى استقرارهم في أرض سيناء مرّت بأحداث لم تذكُرُها الآيةُ هنا .
من تلك الأحداث والقرآنُ يُفسرُ بعضهُ بعضا :
// أن موسى قبل أن يرتحل من أرض مصر أمر قومهُ أن يجعلُ بيوتهم قبلة .
واختلف العُلماء في معنى ( واجعلوا بيوتكُم قبلة ) بعضُهم قال أنهُ أراد الصلاة وعندي هذا بعيد لأن الله قال بعدها ( وأقيموا الصلاة ) لكن الذي أفهمهُ والعلمُ عند الله أن المعنى اجعلوا بيوُتكُم مُتقاربة مُميزة في ناحية البلدة حتى تستطيعوا أن تذهبوا إلى البحر وقت ما يأذن الله برحيلكُم من أرض مصر من أرض مصر.
والمقصود أن موسى استقر في أرض مصر طويلاً قبل أن يرحل ويترُكها إلى أرض التيهِ .(8/77)
// من هذهِ الأحداث وقعت ما وقع من الآيات ( فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقُمّل والضفادع والدم ) هذا وقع ما بين إيمان السحرة وما بين خُرُجِ موسى من أرض مصر .
// ذكرت السُنة الصحيحة أن موسى أخذ معهُ جسد يوسف وهذا لم يأتي في القرآن لكن جاء في نقلٍ عن النبي صلى الله علية وسلم حسّنهُ أو صححهُ بعضُ أهل العلم .
// كذالك من الأحداث التي وقعت في هذهِ الحقبة التاريخية من إيمان السحرة إلى خُرُجِ موسى قضية قارون وما كان منه فإن قارون والخسف بهِ وهلاكهُ إنما وقع في أرض ؟ في أرض مصر ولم يقع بعد ذالك .
فهذهِ أحداث تاريخية أجملها القرآن جاءت مُفرّقة :.
قصة قارون ذُكرت في القصص ، وذُكرت ( واجعلوا بيُوتكُم قبلة ) ذُكرت في يونس ، وبعضُها ذُكر في سورٍ أُخر وبعضُها ثُنّي وكُرر وبعضُها لم يُذكر إلا مرةً واحدة .
والمقصودُ أن تفهم أن هذا السياق يُسمّى إيجاز حذف يُسمّى إيجاز حذف ذكر الله جل وعلا فيهِ منّتهُ جل وعلا على بني إسرائيل وهذا الاحتفاءُ الإلهي ببني إسرائيل مبنيٌ على أن الله جل وعلا جرت سُنتهُ في خلقهِ أنهُ لابُد لناس من أئمة ذوي روح والمقصود أئمة روحيين بمعنى أئمة في العلم والهداية والله جل وعلا ينقُل هذا العلم من أُمة إلى أُمة وليس بين الله وبين أحدٍ من خلقهِ نسب ولكن كُلّما استمسكت الأُمة بهدي السماء كانت حقيقة بأن تقود العالم والله جل وعلا قال عن بني إسرائيل ( ولقد اخترناهُم على علمٍ على العالمين )
فبعضُ الألفاظ تحصُلُ منّا غير مُفرّقة ما بين من أصاب وما بين من أخطأ كقول البعضِ ممّن يغلبُ عليهِ الوعظ أو السهو أحياناً غير المقصود " يا أحفاد القردة والخنازير " فهي من حيث الحقيقة الخلقية لم يجعل اللهِ لمن مسخهُم حفدة فهو أمرٌ منتفي.(8/78)
والأمر الثاني :أن بني إسرائيل يُنسبون إلى نبي عظيم كريم والله جل وعلا قال عنهُم ( ولقد اخترناهُم على علمٍ على العالمين ) لكن ظهر فيهم قتلُ الأنبياء وتبديلُ كلام اللهِ وقولهم قلوبُنا غُلف واتهامهم لمريم ومُحاربتهُم لعيسى ومُحاولة قتلهِ هذا الذي أضاعهُم وأذهبهُم .
فالإنسانُ إذا تكلم يتكلمُ بهديً من القرآن لا بعاطفةٍ تؤججهُ فالله تبارك وتعالى يقول ( ليسُ سواءَ من أهل الكتاب أُمةٌ قائمة) إلى غير ذالك مما يُبينُ الله جل وعلا فيهِ الإنصاف عند الخطاب .
هذا ما يُمكنُ أن يُقال في هذا الجزءُ التاريخي من حياة بني إسرائيل في هذا الموضع .
قال الله جل وعلا بعدها مُبيناً ما حصل لموسى بعد ذالك قُلنا أن موسى أستقرّ في أرض ؟ في أرض الطور أمرهُ الله جل وعلا و أعطاهُ موعداً قال الله جل وعلا ( وما أعلجلك عن قومك يا موسى )
هذا يُفهم منه أن موسى أستبق قومهُ إلى جبل الطور ليتحقق الوعد المكاني والزماني ضرب الله لهُ ميقاتً زمانياً مكانياً ميقاتً زمانياً أربعين يوماً أربعين ليلة والميقات المكاني جبل الطور فسبق موسى قومهُ وجعل أخاهُ هارون يخلفهُ فيهم فسألهُ ربُهُ ( وما أعجلك عن قومك يا موسى )
وما هذهِ استفهامية .
(قال هُم أُولاءِ على أثري ) قال بعضُ العُلماء أن هذا الجواب غير مُطابقٍ لسؤال كان ينبغي أن يقول أعجلني كذا وكذا ولا يقول إن قومي قريبُ عهدٍ بي على هيئة مكان .
لكن قالوا لماذا أحتار موسى في الجواب قالوا لأنهُ هاب مُعاتبة الله جل وعلا فلم يجد جواباً يُخاطبُ بهِ ربُهُ .
والمقصود أن مُعاتبة الله جل وعلا لبني إسرائيل وسُؤالهُم إياه أوقع في موسى الرهبة والخوف فكان جوابهُ غير مُطابقٍ لسؤال .(8/79)
إذا صح هذا التأويل الذي أختارهُ بعضُ أهل العلم فحريٌ بنا أن يُقال إذا كان هذا النبيُ الكريمُ الذي لم يقترف ذنباً أصابهُ ما أصابهُ من الذهول لمّا عاتبهُ ربُهُ فكيف بمن يلقى الله جل وعلا وقد عصاه وتجاوزا حدودهُ وأنتهك حُرُماته نسأل الله لنا ولكُم العافية .
( وما أعجلك عن قومك يا موسى * قال هُم أُولاءِ على أثري ) أي غيرُ بعيدٍ عني (وعجلتُ إليك رب لترضى ) هذهِ تصلُح جواباً (وعجلتُ إليك رب لترضى )
وقد قال العُلماء بناءً على هذهِ :
إن العجلة مذمومة إلا إذا كانت مُسارعةً في الخيرات إن العجلة مذمومة إلا إذا كانت مُسارعةً في الخيرات (وعجلتُ إليك رب لترضى )
طلبُ رضوان الله جل وعلا من أعظم المقاصد وأجلّ المطالب ولا توجدُ عطية أصلاً بعد رضوان اللهِ قال الربُ تبارك وتعالى ( ورضوانٌ من الله أكبر ) وكُلّما كانت بُغية المرء أن ينال رضوان الله جل وعلا كان من أعظم الساعين في أسباب التوفيق و والله إنك لن تخرُج من دارك تطلُبُ أمرً أعظم من رضوان الله فكُلّما غلب على ظنّك في عمل فيهِ رضوان الله فلا تترد في السعي إليهِ عاجلاً أم آجلاً ( وعجلتُ إليك ربي لترضى ) .
قال اللهُ لهُ ( فإنّا قد فتنّا قومك من بعدك وأضلهُم السامري )
السامري من مُبهمات القرآن كعلم ولم يُذكر إلا في سورة "طه" وشخصيتهُ جاءت في القرآن من حيث الجُملة شخصية مُبهمة سواءً في أول أمرها أو في خاتمة مطافها ولا أظنُّ أن ما بقي من الوقت يُعين على أن أتكلم عنها سأُرجأُ الحديث عنهُ في اللقاء القادم لكني أقول مُستدركاً بعض ما بقي من الوقت : أن الله جل وعلا قال
( فإنّا قد فتنّا قومك من بعدك وأضلهُم السامري )(8/80)
نسب اللهُ الفتنة هُنا إليهِ ونسب الضلال إلى السامري ويجبُ أن يُحرّر أن الهداية والضلال بيد الله وما السامريُ هُنا إلا سبب جعلهُ الله جل وعلا كما جعل الملكينِ فتنةً لبني إسرائيل بعد موسى ( إنما نحنُ فتنة فلا تكفُر ) فالشيطانُ مثلاً جعلهُ الله جل وعلا من أسباب الغواية ،، والمال جعلهُ الله جل وعلا فتنة ،، والنساء جعلهُنّ الله جل وعلا في حق الرجال فتنة في حق بعض الرجال فتنة .
والمقصودُ من هذا أن الهداية بيد اللهِ أما هذا السامريُ فهو كان سبباً في غواية بني إسرائيل كما سيأتي تفصيلهُ في موضعهِ لكنّ الذي يعنينا هُنا أن الله جل وعلا قال ( فإنّ قد فتنّا قومك من بعدك ) والخطاب لموسى ( وأضلّهُم السامري ) ( فأخرج لهُم عجلاً جسداً لهُ خوار فقالوا هذا إلهكُم وإله موسى فنسى) أي أنهُ صنع لهُم عجلاً لهُ خوار والعجلُ ولد البقر و(لهُ خوار) هذا صوتُ العجل ( فقالوا هذا إلهكُم وإله موسى فنسىَ ) طبعاً إذا أستمرّيت في القراءة تقول ( فنسيَ ) فعل ماضي مبنيٌ على الفتح .
والمعنى
من الذي نسي ؟
الفاعل غير مذكور فيُصبح المعنى يحتمل عدة تأويلات :
منها أنهُم قالوا فنسي موسى أن يُخبركُم أن هذا إلهكُم هذا مُراد أرادهُ السامري .
ومُرادٌ آخر فنسي موسى أي نسي أن هذا الإله وذهب يطلبُهُ في مكانٍ آخر .
هذا أقوى الاحتمالات الاثنان وذُكر احتمالات أُخر لكن هذهِ أقواها .
وقُلت لا أُريدُ أن أزدلف إلى القصة كاملة لأن تحريرُها يحتاجُ إلى روية ويحتاجُ إلى مُتسعٍ من الوقت لكن الذي يعنينا أن الله جل وعلا أبتلى بني إسرائيل في الفترة التي تأخّروا فيها عن إدراك موسى بأن عبدوا العجل وعبادتهُم للعجل هي مُرادهُم من قولهم في سورة البقرة ( لن تمسّنا النارُ إلا أياماً معدودة ) فهم يقولون أنهُ محكُومٌ لنا بالجنة وأن النار لا تمسّنا إلا أياماً معدودة هي الفترة التي عبدنا فيها العجل .(8/81)
ولأن عبادة العجل كانت مهلكةً عظيمةً لهُم اشترط الله عليهم في التوبة أن يقتلوا أنفُسهم كما أخبر الله جل وعلا في سورة البقرة.
وهذا كما قُلت أنا أُقاربهُ مُقاربة الآن في آخر المطاف لكن جُملةً هي فتنةٌ حصلت لبني إسرائيل سيأتي تفصيلُها بإذن الله تعالى في اللقاء القادم .
وقُلتُ إن السامريُ مُبهمٌ من مُبهمات القرآن شخصيةٌ يكتنفُها الغموض ذكرها الله جل وعلا فقط في سورة طه سيأتي تحريرُ الخطاب عنها في اللقاء القادم .
هذا ما تيسر إيرادُهُ وتهيأ إعدادُهُ والله المُستعان وعليهِ البلاغ وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آلهِ والحمدُ للهِ رب العالمين ...........
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ الذي بنعمتهِ تتمُّ الصالحات وأشهدُ أن لا إله إلا الله ربُ الأرضِ والسماوات وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمدٌ عبدهُ ورسولهُ أتمّ الله بهِ النبوة وختم الله بهِ الرسالات وصلى الله وسلم وأنعم وبارك عليهِ وعلى آلهِ وأصحابهِ وعلى سائرِ من اقتفى أثرهُ واتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين ...
فمازلنا معشر الأحبة في قول الله جل وعلا في سورة "طه"
( فرجع موسى إلى قومهِ غضبان أسفا )
وهذا الخبرُ مُفرعٌ على ما قبلهِ وهو أن موسى عليهِ الصلاةُ والسلام أخبرهُ الله جل وعلا وهو عند جبل الطور بأن قومهُ قد فُتنُوا من بعدهِ وأنهُم عبدوا العجل بناءً على أمرٍ أو إشارةٍ أو دلالةً من السامري .
وحتى يكون المنهجُ لديكُم واضحاً بعضُ الآيات في القرآن يحسُنُ ذكرُ إجمالها والإنسانُ إذا فقه مُجمل القضية يقدرُ بعد ذالك على أن يفُك ألفاظ القرآن .
وعلى هذا قال اللهُ جل وعلا ( فرجع موسى إلى قومهِ غضبان أسفا ) إلى قولهِ تبارك و تعالى ( إنما إلهكُم اللهُ الذي لا إله إلا هو وسع كُل شيءٍ علما ) إنما هو حدثٌ تاريخي جملتهُ عبادة بني إسرائيل للعجل .(8/82)
وتمُرّ معك ( يبنؤم أُم لا تأخُذ بليحتي ولا برأسي ) على لسان هارون وقول السامري ( بصرتُ بما لم يُبصروا بهِ ) وقولهُ غير ذالك .
لذالك إذا كان الإنسانُ لم يفقه القضية أصلاً والقصة جُملةً لن يستطيع أن يفهمها كحروف حتى يستوعب القضية أين كانت لذالك سأسردُ أنا القصة مُستغنياً بها عن قضية فك الآيات آية واحدة .
ِإنما على إيحاء القرآن من لقُرآن نفسهِ نأخُذ القصة ونحاول أن نستعين ببعض المُعطيات التاريخية قدر الإمكان مع التحرُز على أن الغيب لا يُدرك بالعقل الغيب لا يُدرك بالعقل فما سكت اللهُ عنهُ غيباًُ لا نستطيع أن نقتحمهُ نحنُ بتأويلاتنا العقلية هذا أمرٌ يجب التحرُز منه .
نقول الله جل وعلا أخبر موسى أن السامري أضلّ قومهُ فعبدوا العجل وهذا الخبرُ جاء من الله فرجع موسى إلى قومهِ وصف الله حالتهُ بأمرين ( غضبا أسفا ) والغضب حدّة تكون في النفس غير مقرونةٍ بخوف إذا رأى الإنسان شيئاً يسوؤه فلمّا رجع موسى علية السلام بهذهِ الحالة هذا معنى غضب وأسف بمعنى أن هذهِ الحدّة كما أنها مقرونة بما حصل لقومهِ مقرونة بالحزن لما وصلوا إليهِ و لهذا عبّر القرآن بكلتا الحالتين غضبان في ذات اللهِ وأسفاً على قومهِ فهو مُغضب في نفس الوقت حزينٌ جداً لطريق التي سلكهُ قومُهُ .
موسى علية الصلاة والسلام جعل أخاهُ هارون بعدهُ في بني إسرائيل وذهب لمُلاقاة الله وقد مرّ معنا في اللقاء الماضي أنهُ سألهُ ربُهُ ( وما أعجلك عن قومك يا موسى ) في هذهِ الفترة جاء السامري .
من السامري؟(8/83)
قُلنا انهُ من مُبهمات القرآن ونعني أنهُ لم يأتي تفصيلاً دقيقاً عن سيرتهِ وظاهرُ الأمرِ أنهُ رجُلٌ من بني إسرائيل ، هذا السامري أبصر جبريل على الأظهر ( فبصرتُ بما لم يُبصروا بهِ قبضةً من أثر الرسول ) فُسّرت الرسول بجبريل رأى جبريل وهو على فرسٍ يُقال لهُ حيزون ،، يُقال إن جبريل عندما كان يجري على هذهِ الفرس كان لا يطأُ على مكان إلا يحيَ ينبُت ففطن السامريُ لهذا الأمر الذي أعطاهُ الله جل وعلا لفرس جبريل فقبض قبضة ولا تُسمى قبضة إلا إذا كانت ملأ اليد يعني مقبوض عليها وأحتفظ بها لنفسهِ ثُم كأنهُ وضعها في مكانٍ آمن حتى انتهز فُرصة غياب موسى في جبل الطور ووضع أخاهُ هارون خليفةً عليهِ في هذهِ الفترة جاء السامريُ لبني إسرائيل ودخل عليهم من باب الخطيئة كما يُريُدهُ الناس عندما يأتون إلى شخصٍ يُريدون أن يُضفوهُ فيما يُريدون يأتون إليهِ من باب الخطيئة من باب الخطأ فأخبرهم أنهُم حملوا أوزارً آثام سببُها أنّهم لم يردّوا زينة القوم من القوم ؟ الأقباط سُكان مصر الأصليين هؤلاء بني إسرائيل كانوا يعيشون على مقربة من الأقباط في مصر كانوا خدم لهم وجيران ويحدُث من والخدم والجيران نوعٌ من العلاقات فبعضُ بني ِإسرائيل كان يُعطي بعضُ القبط كان يُعطي ذهبهُ وزينتهُ لبني إسرائيل إمّا يحتفظ بها أو بعثهُ في مُهمّة أو كان خادمً عندهُ المُهمّ تحصّل بني إسرائيل على مجموعة من الحُلي التي ليست لهُم مُلكاً في الأصل فلمّا تجاوزوا البحر أتاهُم السامريُ من هذا الباب إن هذهِ الزينة التي تملكونها وتحملونها إثمٌ ولهذا قالوا ( حُمّلنا أوزارً من زينة القوم ) والأوزار تُطلق على الذنوب والمعاصي فلا بُد أن تتخلصوا منها فسألوه كيف نتخلص فأتى لهُم بقاع بأرض وأمرهُم أن يُلقوا ما جمعوه من حُلي فيها فتكون من هذهِ الحُلي ذهبٌ كثير فجاء السامريُ بالقبضة التي قبضها لتدُب فيها نوع من الحياة نسبياً مع هذا الذهب مع قُدرتهِ على(8/84)
صناعة التماثيل فأخرج لهُم العجل والعجلُ صغارُ البقر كما هو معلوم وصوتهُ يُسمّى خوار.
لكن قال بعضُ أهل العلم أفراد منهُم :
قالوا إنّ هذا العجل كان فيهِ روح وهذا بعيد جداً لأنهُ لا خالق إلا الله ، ومن قواعد العلِم وهذا مرّ معنا كثيراً أن الإنسان يأخُذ الأمر اليقيني ثُمّ يصدُمُ بهِ الشيء المُتشابه فالمُتشابهة لا يقدر أن يقف أمام الشيء اليقيني المُتشابه لا يقف أمام المُحكم فمّما نستصحبهُ هنا مُحكماً أن الله جل وعلا لا خالق غيرهُ ومُحال بأن يقدر السامريُ بأي قُدرة على أن يخلُق شيئاً ، حتى قول الله جل وعلا على لسان عيسى ( أني أخلُقُ لكُم كهيئة الطير فأنفُخ فيهِ فيكونُ طيراً بإذن الله ) قالوا أنهُ ما مُجرد أن يطير إلا يقع حتى يُميز خلقُ الله عن خلقُ الناس عن خلق عيسى .
فالمقصود أن السامري بما أعطاهُ الله من قُدرة في صناعة التماثيل والذهب معدنٌ أصيلٌ كما هو معلوم مع تلك القبضة مزج بعضها في بعض ولا ندري كيفية العجل على هيئتهِ العامة على هيئتهِ التفصيلية لكن نعلم نقول كما قال الله ( جسداً ) تدلُ على أنهُ لا روح فيهِ .
لأنهُ مرّ معنا أن أُسلوب القرآن إذا تكلم عن اللحم والدم والشيء المُجسم إذا كان مقروناً بالروح يُعبّر عنهُ بأنهُ جسم قالوا عن طالوت ( بسطة في العلمِ والجسم ) قال الله عن المُنافقين ( تُعجبُك أجسامهُم ) .
وإذا عبّر القرآن بالجسد فإنهُ يتكلم عن ما لا روح فيهِ والمقصُودُ أن هذا العجل أخرجهُ لهُم السامري فلمّا أخرجهُ لهُم كما قال الله جل وعلا( فقالوا هذا إلهُكُم وإله موسى فنسىِ ) وفي اللقاء الماضي أنا نطقتُها فقالَ طبعاً هذا خطأ سبقُ لسان لكن ( فقالوا هذا إلهُكُم وإله موسى فنسىِ ) فبيّن لهُم أن موسى علية السلام هذا بزعم السامري لي يعرف ربهُ نسي ربهُ فذهب يبحث عنهُ في مكانٍ آخر أو قال لهُم إن موسى نسي أن يُخبركُم أن هذا إلهكُم وكلا الأمرين كُفر .(8/85)
فُتن بنوا إسرائيل بالعجل فأخذوا يطوفون حولهُ ويتراقصون ومن هُنا أخذ بعض عُلمائنا لسُنة أن ما يصنعهُ بعض المتصوفة من التطواف والرقص لا أصل لهُ بل إنهُ مأخوذٌ عن العبادة الكُفرية لبني إسرائيل ولم يُنقل فيهِ أثرٌ صحيحٌ صريح عن نبينا صلى الله علية وسلم وكفى بعبادة النبي علية الصلاة والسلام وأصحابهِ عبادة .
موضع الشاهد :
هذا الأمرُ حدث على مرأىً من عيني هارون وموسى إلى الآن يا بُني غيرُ موجود فلمّا رآهُم هارون ازدحمت في ذهن هارون قضيتان :
القضية الأولى :
أنهُ كان بإمّكانهِ علية السلام أن يُنكرِ عليهم إنكاراً ينجمُ عنهُ أن يأخُذ المجموعة التي لم تؤمن الفرقة التي لم تؤمن فيذهب ويتبع موسى وهذا غلب على ظنّ هارون أنهُ لو فعل هذا لتشتت بنوا إسرائيل الباقون وتفرّقوا فإذا عاد موسى لا يجدُ طريقةً لجمعهِم حتى يرُدهُم إلى الحق هذهِ .
والأمر الثاني :
أن يُبقي الأمر على ما هو عليهِ و يُنكر بقوة عليهم ويُحاولُ أن يأخُذ ويُعطي معهُم حتى يأتي من ؟ حتى يأتي موسى فيُبيّن لهُم لأن السامري اتكأ على ماذا ؟
اتكأ على ثياب على ثياب موسى فإذا جاء موسى لم يبقى لسامريّ حُجة [ واضح ]
هذا الذي أذهلهُ هارون فيما أفهمهُ أنا من القرآن [ واضح ] وإن لم يُصرّح بهِ أحد لكنّهُ لما حصل هذا أنكر عليهم موسى وقد أنكر عليهم هارون وقد برّأ اللهُ جل وعلا بنصّ كتابهِ ساحة هارون قال اللهُ جل وعلا ( ولقد قال لهُم هارونُ من قبلُ يا قومُ إنّما فُتنتُم بهِ وإنّ ربكُم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري )
فبدأ بالتخلية وهو إن (فُتنتُم بهِ) ودعا إلى التوحيد ( ربُكُم الرحمن ) ودعا إلى الرسالة ( فاتبعوني ) ودعا إلى الشريعة .
كُلها أجملها عليهِ الصلاةُ والسلام(8/86)
لمّا جاء موسى في هذهِ الفترة لم يرتدع بنوا إسرائيل فرجع موسى بعد أن أخبرهُ الله لمّا رجع موسى علية الصلاة والسلام بعد أن أخبرهُ الله وكفى بتعليم اللهِ علما لكن كما قال نبيُنا صلى الله علية وسلم فيما روي عنهُ في المُسندِ وغيرهِ { ليس الخبرُ كالمُعاينة } فلمّا رآهُم على هذهِ الحال يعبدون العجل غضباً للهِ ولأنهُ رسولٌ مُلأ قلبهُ توحيداً لا يُتصور أن يرى أحدً يعبدُ غير الله ألقى الألواح ولم يُلقي الألواح زُهداً في الألواح أو استخفافاً بكلام اللهِ مُحال أن يفعل هذا آحادُ الناس من الصالحين فكيف يُنسب إلى أولياء اللهِ ورُسلهِ لكنهُ فعلها ممّا أصابهُ من الحنق والغضب أن يرى أحدً يعبدُ غير الله أن يرى أحدً يعبدُ غير الله فألقى الألواح توجّه مُباشرةً إلى أخيهِ .
صوّر الله هذا الموقف والحدة في موسى أنهُ كان يأخُذُ برأس أخيهِ ويجّرهُ إليهِ كان الموقف صعباً على هارون لكنّ هارون كان حليماً والعربُ تقول
" إذا عزّ أخوك فهُن "
وحياتك مع أصدقائِك ورُفقائك ومن تُحبهم ويُحبّونك إذا غلب عليك الظنّ أنهم شدوا ـ بالعامية ـ أرخي أنت يقولُ مُعاوية " لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت إذا أرخوها شددتوها وإذا شدوها أرخيتُها ــ وفي روايةٍ أنهُ قال ـ أعيشُ نعهُم كالحمام إذا وقعوا طرت وإذا طاروا وقّعت "
المقصود لجأ هارون لا إلى مُناكفة أخيهِ وصدّهِ لجأ إلى استلطافهِ وأخذ يبحثُ عن ألفاظ تُحرك العاطفة في قبل أخيهِ وهارون وموسى أخوان شقيقان لكنّهُ قال لهُ (يبنؤُمّ) وقولهُ يا ابن أُمّ أثرُها في النفس أكثر من قولهِ يا أخي وإنّما ذكّرهُ بالرحم العظيم الجامعِ بينهُما وهي الأُم ( يبنؤُمّ لا تأخُذ بلحيتي ولا برأسي إنّي خشيت ) قال العُذر الذي قُلناهُ من قبل ( إنّي خشيتُ أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقُب قولي )أي لم تسمع قولي ولم تُطعني في أمري .(8/87)
ينبغي أن تعلم كذالك أنّ موسى لم يشُكّ لحظة أبداً في أخيهِ أنهُ عبد العجل لكنّهُ كان يتكلم عن سياسة أخيهِ في الموضوع فقولُ موسى كما قال الله لأخيهِ ( أفعصيت أمري ) لا يقصدُ منهُ عصيت أمري في العبادة مُحال لأن هارون نبيٌ مثلُ من؟ مثلُ موسى لكن ( عصيت أمري ) عندما قُلتُ لك ( وأصلح ولا تتبع سبيل المُفسدين ) اُخلفني في قومي أصبح زعيماً لهُم قائداً لهُم ريثما أعود هذا الذي خشي موسى أن يكون هارون قد فرّط فيهِ .
وهذا أرجوا أن تنّتبهُوا لهُ جيداً لماذا؟
قال بعضُ أهلِ الفضل وصرّح بهِ الطاهر بن عاشور رحمهُ الله في التحرير والتنوير قال " إنّ الحفاظ على العقيدة أفضلُ من الحفاظ على جماعة المُسلمين لأن مصلحة العقيدة لا ترقى إليها شيء وإنّ هارون جانبهُ الصواب في الصنيع الذي فعلهُ " .
ونحنُ نقول :
إنّ قول طاهر بن عاشور رحمهُ الله " إنّ مصلحة العقيدة لا يرقى إليها شيء " هذا مُتفقون عليهِ فلا توجد مصلحة أعظم من مصلحة العقيدة ولا توجدُ مفسدة أعظم من مفسدة الشرك لكن مُحال أن يُقال إن هارونَ جانبهُ الصواب لأمرين :
**
لأننا نقول إنّ الله أمر جُملةً نبدأ بالأدلة العامة بإتباع هدي الأنبياء فقال ( أُولئك الذين هدى الله فبُهُداهم أقتدهِ ) فيدخُلُ ضنهُم هارون لزاماً ولم يستثني اللهِ حالةً لهارون في حين أن الله أستثنى حالةً لمن ؟ حالةً ليونس قال جل وعلا ( ولا تكُن كصاحب الحوت إذا نادى وهو مكظوم ) فهذهِ الحالة استثناها الله ليونس وبقي يونس في الجُملة يُهتدى بهِ إلا في حالة خُرُجهِ مُغاضبا أمّا هارون فلم يستثني اللهُ جل وعلا من هديهِ شيء ، هذا واحد .
**
ثاني شيء نقول لا يُعقل في أمر الدين أن يرى أحدٌ من الناسِ في أمرِ شرعي يهتدي برأيً لم يهتدي إليهِ رسول لا يُعقل أن يُقبل أن يهتدي من آحاد الناس عالمٌ أو غيرهُ إلى أمرِ لم يهتدي إليهِ رسول.(8/88)
ونقولُ إن هارون كان يعلمُ أن مصلحة العقيدةِ لا يرقى إليها شيء لكنهُ لم يُفرط في جانب العقيدة وإنّما الآلية التي يُحافظُ بها على جانب العقيدة مسألة سياسية وهي أنهُ أبقى على قومهِ مُجتمعين ريثما يعودُ موسى كما بيّنا في الأول لعلمهِ عليهِ السلام أن السامري اتكأ على حُجة أن موسى غائب فأخذ يقولُ ويُشيعُ في بني إسرائيل أن موسى نسي فإذا جاء موسى سيُبطل هذهِ الحُجة التي قالها السامري وهذا عينُ ما وقع بعد رجعةً من؟ بعد رجعة موسى هذا عينُ ما وقع بعد رجعةً موسى.
فنقول إن تدارُك هارون للقضية كان صائباً ولهذا لم يذكُر اللهِ تعنيفاً لمن ؟ تعنيفاً لهارون بل إنّ الله ذكر تراجُع موسى بقولهِ " ربِ أغفر لي ولأخي " أستغفر لهُ ولأخيهِ ممّا يدلُ على أن موسى تراجع عن الحدّة التي أصابتهُ في التعامُل مع أخيهِ هارون علية السلام .
هذا مُجمل القضية ...
بعد أن تأكد موسى أن الأمر ما زال في قبضتهِ وأن بني إسرائيل لم تتفرق لجأ إلى السامريُ يُحاكمه قال ( ما خطبُك يا سامري ) يسالُهُ فقال السامريُ ما ذكرناهُ لكُم من أنهُ قبض قبضة وأنهُ جمع وما إلى ذالك .
موسى معروفٌ بحدّتهِ مرّ معك كثيراً وأنت تدرُس القرآن والسُنّة حدّة موسى في ذات اللهِ ومنها ما حصل معهُ مع الخضر ومنها الموقف الذي بين أيدينا من مُجازاتهِ لأخيهِ لكنّهُ قال لسامري (فاذهب فإنّ لك في الحياة أنت تقول لا مساس )
قالوا أي أهلُ العلم جُملة في معناها :
أن الله جل وعلا حكم على هذا الرجُل الضال بأن لا يكونُ فيهِ أُنسٌ مع الغير فيستوحش من الناس ولا يكونُ مُخالط لهُم وأنهُ يبقى ما بقي من حياتهِ يعيشُ طريداً شريداً لا يأنسُ بالخلق هذا جُملة ما قالهُ .(8/89)
وبعضُ الناس من المُتأخرين ممّن لهُم دراية بالتاريخ يقولون والوجهُ الذي اتكأوا عليهِ صحيح لكن لا يلزم من الوجه الذي اتكأُ عليهِ أن يكون إذا كان صحيحاً أن يكون النتيجة صحيحة لأنّني أقول دائماً أن قضية الغيب تبقى غيباً قالوا :
إنّ الله جل وعلا أراد أن يُبقي على حياة السامري ولهذا لم يُعنّفهُ موسى (فاذهب فإنّ لك في الحياة أنت تقول لا مساس وإنّ لك موعداً لنّ تُخلفه )طبعاً السابقون كانوا يقولون إن الموعد يوم القيامة لكنّ هذا فيهِ نظر لأن هذا الموعد لا يختصُ بالسامري وحده لا يختصُ بالسامري وحدة فقالوا أن القضية قضية الدجال وأن السامري هو الدجّال وأن الله أذن لهُ أن يبقى ويعيش ولم يُسلّط عليهِ عبدهُ موسى حتى تبقى حياتُهُ فإذا بقيت حياتُهُ الموعد الذي لنّ يُخلفه هو وقتُ خروجهِ لناس ثُمّ وقتُ هلاكهِ على يد عيس ابن مريم .
أقولُ مُعقباً والعلم عند الله ..
هذا القولُ فيهِ وجهٌ حظٌ كبيرٌ من النظر لكنّ من الصعب تبنيهِ والجزم بهِ لعدم وجود ما يدعمهُ من الأثر فيهِ حظٌ كبيرٌ من النظر لكنّ من الصعب الجزم ـ اسم لكنّ ـ وتبنيهُ لعدم وجودِ ما يدعمهُ من الأثر لكنّ أقول إن العقلية التي تنتبهُ لمثل هذا عقليةٌ مُؤهلة أن تنظُر في كلام اللهِ مثلُ هذهِ العقلية العقليات عقليات مؤهلة أن تنظُر في كلام الله وهذا من العلم الذي تجري فيهِ أقدامُ العُلماء هذا واحد .
والأمرُ الثاني : يُسمّى من مليح القولِ لا من متين العلم يُسمّى مليح القولِ لا متين العلم هذهِ جُملة ما ذكرهُ الله جل وعلا عن السامري .
قبل أن أتجاوزها ثمّة فوائد يجبُ استنباطُها من هذا الحدث التاريخي الذي مرّ ببني إسرائيل أولُها وأعظمُها :(8/90)
أن الله إذا أراد ضلالة أحد غشي على أبصارهِ وحرمهُ من استعمال عقلهِ و إلا يا أُخي ترى من المُحال أن يُقال أن قوماً يُنجيهُم الله ويرون البحر يبس وتمشي أقامهُم عليهِ ثُمّ بعد هذا كُلهِ يأتون إلى عجلٍ لهُ خوار يعبدونهُ من دون اللهِ هذا من أعظم الدلائل على أن المسألة لا ترجعُ إلى العقل وإنّما هي هداية من الله ونور يضعهُ الله جل وعلا في قلب من في قلب من يشاء .
الأمرُ الثاني : أن الناس الذين ينصُرُ الله بهم دينهُ تختلف مشاربُهم ، تختلفُ قُدراتُهم فموسى فيهِ الغضب والحدّة وقد نفع الدين نفعاً عظيماً وهارون علية السلام كان فيهِ شيء من اللين والرفق وقد نفعت الدين نفعاً عظيماً كما كان في الفاروق والصديق رضي الله تعالى عنهُما فإن الصديق كان فيهِ لين والفاروقُ كان فيهِ شدة ولمّا كان الصديقُ رضي الله تعالى عنهُ يستشيرُ الناس في أمر الفاروق يخشون من شدّتهِ فكان يقولُ لهُم إن الذي دفعهُ إلى هذا أنهُ يجدُ فيّ ليناً في ذات الله .
والمقصود عندما تُحاكمُ شخصين فلا تنظُر من هذهِ الزاوية الضيّقة فتقول إن فُلاناً قويٌ في ذات اللهِ جبّار وتتّهمُ الآخر بالضعف لكن الدين يُنصر بالشخص الضعيف كما يُنصر بالشخص القوي وأحياناً نحتاجُ إلى الحدة والغضب وأحياناً نحتاجُ إلى الحلم واللين وأحياناً نحتاجُ إلى دُعاء ذالك الرجُل العاجز وأحياناً نحتاجُ إلى حلم الحليم وأحياناً نحتاجُ إلى استنباط الفقيهِ فالدينُ من حيث الجُملة ينصرهُ الله جل وعلا بهؤلاء كُلهم كما نصر الله دينهُ بنبييهِ موسى وهارون رغم اختلاف شخصيتهما اختلافاً كثيراً .
الأمرُ الرابع وهذا مرّ معنا عرضاً :(8/91)
أن الإنسان لا يُحاولُ أن يُصادم أصحاب الرئاسة وأن المركب الواحد لا يحتملُ أكثر من قائد ولا بُد للعاقل أن يتغاضى عن أمور إذا أراد للمركب أن تسير لكن الإلحاح على المطالب والإصرار على الزعامة والتنافُس في الدُنيا هذا الذي يُذهب المركب الإسلامي ويجعلهُ عُرضةً لغرضهِ .
لكن من جعل الله جل وعلا بُغيتهِ ورضُوان الله جل وعلا غايتهُ هان عليهِ كُلُ ذالك في سبيل إعلاء دين الرب تبارك وتعالى لكنّهُ كذالك ينبغي أن يُعلم أن دين الله جل وعلا أجلُ وأعظم من أن يُتخذَ غرضاً لدُنيا .
الذنوبُ والخطايا التي تكونُ للعبدِ ولابُد منها يجبُ أن تُوظف توظيفاً صحيحاً فلا يأتينّك أحد ينتهزُ فيك ماضيك وبعضَ خطاياك فيُوظفُك إلى ما يشاء وما يبتغي وما يُريد من باب أن ذالك كفّارةً لما قدّ عملّت وإنما الإنسانُ يعلم أن الذنوبَ والمعاصي ليس لها إلا التوبة وقد مرّ معنا في اللقاء الماضي في سورة طه نفسها ( وإنّي لغفارٌ لمن تاب و ءامن وعمل صالحاً ثُم أهتدى )
هذا جُملة ما يُمكن أن يُقال عن قصةِ موسى مع السامري ...
عبادة العجل من أعظم ما أقترفهُ بني إسرائيل ولهذا أمرهُم اللهُ جل وعلا بالتوبة وجعل توبتهُم أن أقتلوا أنفُسكُم .
ثُمّ قال الله تبارك وتعالى ، اُختلف هل هذا من كلامِ موسى أم من كلام اللهِ تذييلا
( إنّما إلهكُم اللهُ الذي لا إله إلا هو وسع كُل شيءً علما ) وشتّان ما بين الخالق وبين سائر المخلوقين ( إنّما إلهكُم اللهُ الذي لا إله إلا هو وسع كُل شيءً علما )
ثُمّ قال الله لنبيهِ
( كذالك ) أسلوبٌ عربيٌ في الربط بين الجُمل ( نقُصُ عليك من أنباء ما قد سبق ) فما خبرُ موسى إلا جُملة أخبار قصصناها عليك أيُها النبيُ الكريم ( كذالك نقُصُ عليك من أنباء ما قد سبق وقد أتيناك ) وقد لتحقيق ( من لدُنّا ذكرا ) وهو القرآن وسائرُ ما أوحى الله جل وعلا إلى نبيهِ ( وقد ءاتيناك من لدُنّا ذكرا )(8/92)
وهذا الذكرُ إمّا أن يُقبل وإمّا أن يُعرض عنه فذكر اللهُ أولاً:.
من أعرض عنه ( من أعرض عنهُ ) أي هذا الذكر ( فإنّ يحمل يوم القيامة وزرا وساء لهُم يوم القيامةِ حملا ) قُلنا الوزر أصلاً تحمُّل الثقل وقُلنا أن كلمة وزير مأخوذة من أن الوزير يحملُ الثقل عن الأمير فالله جل وعلا يُخبر أنهُ ساء حملاً من أتى بذنوبهِ وإعراضهِ عن اللهِ جل وعلا (وساء لهُم يوم القيامةِ حملا )
أين يكونُ يوم القيامة ؟( يوم يُنفخُ في الصور )
هذهِ مرّت كثيراً وهي ظاهرةُ الألفاظ والنافخُ في الصور اسرافيل
( يوم يُنفخُ في الصورِ ونحشُرُ المُجرمين يوم إذٍ زُرقا )
المجرمون هُنا الكُفّار ، (زُرقاً) قال العُلماء أي زُرق العيون وقيل زُرق الأجساد عموماً لكنّ الأول أظهر (ونحشُرُ المُجرمين يوم إذٍ زُرقا يتخافتون بينهُم إن لبثتُم إلا عشرا نحنُ أعلمُ بما يقولون إذ يقولُ أمثلهُم طريقةً إن لبثتُم إلا يوما )
هذا ما يكونُ يوم القيامة من تخاصُم الناس وتساؤلهم عن ما مضى وإخبارُ الله جل وعلا عن ما يُقال في ذالك اليوم ما بين أهلُ الكُفرِ وغيرهم .
ثُمّ قال الله جل وعلا ( ويسألونك عن الجبال فقُل ينسفُها ربي نسفا فيذرُها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا)
هذهِ إحدى آياتُ السؤال في كلامِ ربنا الكبير المُتعال وآياتُ السؤال مُتعدّدة في القرآن جاءت في القرآن المكي والقرآن المدني وقد أفرد لها الشيخ عطية محمد سالم كتاباً خاصاً أسماهُ "آياتُ السؤالِ والجواب في آيات الكتاب" فمنها ما كان يتعلقُ بالتشريع كالسؤال عن المحيض ، والسؤالِ عن أموال اليتامى ، والسؤالِ عن الأهلّة ، والسؤالِ عن الخمر .
ومنها ما يتعلّقُ بالأمور الغيبية وما سيقع كهذهِ الآية ( ويسألونك عن الجبال ) أو قولهِ جل وعلا ( ويسألونك عن الساعة ) وبكُلٍ أجاب الله .
نقول ( ويسألونك عن الجبال فقُل ينسفُها ربي نسفا )
ما الجبال؟(8/93)
الجبال خلقٌ من خلق اللهِ عظيمُ الهيئة ولأنهُ عظيم لفت الله الأنظار إليهِ ( وإلى الجبالِ كيف نُسفت ) والله تبارك وتعالى إذا استقرّ في الأذهان عظمة شيء يربطهُ بعظمتهِ إذا استقرّ في الأذهان عظمة شيء يربطهُ بعظمتهِ فأين ربط الله عظمة الجبال بعظمتهِ ؟
ربطها لمّا تكلم عن قضية نسبة الولد ( وقالوا اتخذ الرحمنُ ولدا * لقد جئتُم شيئاً إدّا * تكادُ السماواتُ يتفطّرن منه وتنشقُ الأرضُ وتخرّوا الجبالُ هدّا أن دعوا لرحمن ولدا ) فهي على عظمتها تخرّ إذا بلغها أن أحدً من الخلقِ زعم أن للهِ صاحبةً أو ولد فربطها جل وعلا بعظمتهِ هذا واحد .
ثُمّ لعظيم خلقتها بيّن اللهُ جل وعلا أنّها من جُملة من يعبدُهُ ( وإن من شيءٍ إلا يُسبحُ بحمدهِ ) وهذا عموم ثُم ذكر لها خصوصاً ( إنّا سخّرنا الجبال معهُ يُسبحن ) ذكر جل وعلا تسخيرها لمن ؟ لدواد عليهِ السلام أنها تُسبحُ معهُ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ .
هذا من جُملة كيف يربطُها الله جل وعلا بذاتهِ العلية
كذالك استقرّ في الأذهان أن الجبال شيءٌ عظيمٌ حتى في اللُغة من أراد أن يمدح أحدً شبههُ بالجبل .
يقولُ الفرزدق في ردّهِ على جرير:
فادفع بكفّك إن أردت بنائنا ** ثهلان ذا الهضبات هل يتحلحلُ
يقول لهُ إذا أردت أن تهدم ما بناهُ أجدادي فإن صنيعك كمن يأتي إلى ثهلان جبلٌ عظيم كبير في الحجاز فاهدمه حرّكهُ بيدك ولن تستطيع فمقامُ أجدادي وما دونُهُ مثلُ هذا الجبل .
ويقولُ آخر :
كُنا جبالاً في الجبال وربُما ** سرنا على موجِ البحار بحارا
فكُنا جبالاً في الجبال الثانية الجبال المعروفة وكُنا جبال أي ثابتين راسخين .
ويقول حسّان :
شماريخُ رضوا عزّةًً وتكرُما
ورضوا جبال ما بين المدينة و العيص بعد ما تنتهي من ينبُع النخل تأتيك على شمالك إن لم أنسى وقد رأيتُها عالية شاهقة جداً وهي كالشماريخ تماماً كأن حسّان يرسمُها رسماً لا يصفُها وصفاً .(8/94)
والمقصودُ أن الجبل استقرّ في الأذهان علو هيئتهِ ولهذا لمّا ربطهُ الله بعظمتهِ وفُتن الناسُ فيهِ قُلنا جرت سُنةُ الله في خلقهِ يقول علية الصلاةُ والسلام في ذالك القعود الذي سبق ناقتهُ {حقٌ على الله } أن أي شيء يرتفع يخفضهُ الله .
العامة يقولون كُل شيء لهُ سبع كُل شيء لهُ سبع يعني لهُ آفة تُذهبُ هيبتهُ فبعض طلبة العلم مثلاً تُفتن بعالم فيُريك الله ضعفهُ في جانب مُعين والبُخاريُ يقول رحمةُ الله تعالى عليهِ لمّا ذكر أظنّهُ ذكر احد عُلماء الحديث قال" ما استصغرتُ نفسي إلا بين يديهِ" وهذا الذي استصغر البُخاريُ نفسهُ بين يديهِ يقيناً أنهُ استصغر نفسهُ مع غيرهِ فالله لا يجعلُ لأحدٍ كمالاً مُطلق فالعامة يقولون إن لكُل شيءٍ سبع يعني آفة ويقولون إن سبع الجبال ما هو ؟ الليل لماذا ؟ لأن الجبل على عظمتهِ وارتفاعهِ لا يُرى في الليل فكأنهُ غير موجود فيجعلون الليل آفة أو سبعً على الجبال في كلامهُم العادي هذا كلام العامة .
يقول ربُ العالمين
( ويسألونك عن الجبال )
وبدهيٌ أن يسأل القُرشيون نبيهُم عن هذهِ الجبال العظيمة ( فقُل ينسفُها ربي نسفا ) وهذا إخبارٌ بالنهاية لا إخبارٌ بالبداية لأن الجبال مرّ ذكرُها في القرآن مراحل عديدة :
* الله يقول ( وإذا الجبالُ سُيّرت )
* وقال ( فكانت هباءً مُنبثا )
* وقال ( وترى الجبال تحسبُها جامدة وهي تمرُّ مرّ السحاب )(8/95)
فذكر لها أحولاً وأطواراً لكن هنا حتى يُنهي الأمر معهم فذالك الشيءُ الشامخ لا يذهبُ إلا بالنسف (ويسألونك عن الجبال فقُل ينسفُها ربي نسفا فيذرُها ) أي الجبال ( قاعً صفصفا ) والقاع بُقعة من الوادي معروفة ( صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ) عوجاً أي ميلاً يعني هذهِ البُقعة ( ولا أمتا ) الأمت على الصحيح النتوء الشيء الظاهر الذي ينتأ في الجسد فهذهِ الجبال من شدّة أنها نُسفت حتى حجارة منها ملساء اجتمعت بعضُها على بعض فتكون شيءً ناتأً في الأرض لا يوجد لا يبقى شيء (لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا ) متى هذا يا ربُنا وهذا هو القرآن وعظمتهُ يتبعُ بعضُهُ بعضا متى هذا يا ربُنا ؟
( لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا يومئذٍ يتبعون الداعي ) الله يتكلم عن شخصية تدعُ الداعي اسرافيل ماذا يقول ؟
أيتُها العظامُ البالية أيتُها الأوصالُ المُتقطعة إنّ الله يدعوكنّ لفصل القضاء ( يومئذٍ يتبعون الداعي لا عوج لهُ )
لماذا لا عوج لهُ ؟
لأن أهل الموقف هذهِ أول مرة يُحشرون لا يُوجد أحد مُميز بعلم يدري أين أرض الموقف فكُلهُم أستوُ في عدم علمهُم بالموقف فلابُد لهُم جميعاً أن يستوُ في إتباعهم لداعي (يومئذٍ يتبعون الداعي لا عوج لهُ وخشعت الأصواتُ لرحمن فلا تسمعُ إلا همسا )
يقولون أن طه حُسين يقول عن بعضِ شعرِ شوقي " إنّني لا أستطيعُ أن أشرحهُ ــ على أنهُ كان يُوصف بأنهُ عميد العرب الأدب العربي فيقول إذا شرحتهُ فككتُ طلامسهُ وألفاظهُ ذهب رونقهُ وأنت تفهمهُ كشعر أكثر مما تفهمهُ كشرح ــ إذا قيل هذا في كلام مخلوق فكيف يُقال بمن علّم شوقي البيان بمن أنزل القرآن بكلام الله جل جلالهُ .(8/96)
فهذهِ ( وخشعت الأصواتُ لرحمن فلا تسمعُ إلا همسا ) والله لا أجدُ شيءً أُبينُ فيهِ مُراد الله وإنما هيبتُها في قراءتها ( فلا تسمعُ إلا همسا ) هذهِ تكفيك وقدّ فُسر الهمس بأنهُ وقع أقدامهُم ولا يُقالُ وقعُ نعالهم لأنهُم يخرجون ماذا ؟ حُفاة لكن وقعُ أقدامهم فُسّر بما فُسّر لكن الهيبة التي تقع في النفس لا يعلمُها إلا الله جل وعلا هذا موقف غيبي قادم ( فلا تسمعُ إلا همسا )
(يومئذٍ يتبعون الداعي لا عوج لهُ وخشعت الأصواتُ لرحمن فلا تسمعُ إلا همسا يعلمُ ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بهِ علما )
بيان علم الله وقدّ مرّ معنا كثيرا ( يومئذٍ لا تنفعُ الشفاعة )
لماذا تكلم عن الشفاعة هُنا ؟
لأن الإنسان جُبلُ أنهُم في حال الضيق يفزعون إلى غيرهم وهذا أمرٌ بدهيٌ مجبولٌ عليهٍِ النفس فإنّ المرء منّا اليوم يدخلُ دائرةً حكومية فإذا استعصى عليهِ مُنالهُ بدأ يبحثُ عن زيدٍ أو عمرٍ ليُحقّق لهُ مقصودة ، وليس هُناك كرب أعظم من كرب يوم القيامة ولا انقطاع أعظم من الانقطاع الذي يكون يوم القيامة فقال الله جل وعلا ( يومئذٍ لا تنفعُ الشفاعة ) يقطعُ السبيل على من يُفكّر في الشفاعة
ثُم يستثني رحمةً وقدرا ( إلا من أذن لهُ الرحمنُ ورضي لهُ قولا ) فذكر جل وعلا شرطي الشفاعة.
( إلا من أذن لهُ الرحمن ورضي لهُ قولاً * يعلمُ مابين أيديهِم وما خلفهُم ولا يُحيطون بهِ علما ) أنا قدّمت وأخرت في الآيات عُّذراً.
ثُمّ قال الله : ( وعنت الوجُوه )
وجوهُ من ؟
وجوهُ الخلائق كُلها ( وعنت الوجوهُ للحي القيوم ) وقد قال بعضُ أهلِ العلم إنّ الحي القيوم أسمانِ مُتلازمان هُما أسمُ الله الأعظم قال بهذا طائفة وقد ورد هذا الاسمُ الكريمُ المُتلازم في القرآن ثلاث مرات :
* ورد في صدر آية الكُرسي ( اللهُ لا إله إلا هو الحي القيوم )
* وورد في فاتحة آل عمران ( الم * اللهُ لا إلهِ إلا هو الحيُ القيوم )(8/97)
* وورد في هذهِ الآية الكريمة التي بين أيدينا ( وعنت الوجوهُ للحي القيوم )
وقد قال جمعٌ غير قليلٍ من أئمة الدين بأنهُ اسمُ الله الأعظم والعلمُ عند الله .
( وعنت الوجوهُ للحي القيوم وقد خاب من حمل ظُلما )
الظُلم إذا قالهُ الناسُ اليوم ينصرف على الجبروت ينصرف إلى سلب أموال الناس وهذا حق لكن إياك أن تصرفهُ في هذا الموقف صرفاً أولياً لتعلّقُ مع الناس لماذا؟
لأن هذا يُنافي أصلاً فهمُك للقرآن لأن الله جل وعلا مُحال أن يذكُر الله جل وعلا هذهِ المُقدّمة في العظمة كُلها وخشعت الأصواتُ لرحمن ولا شفاعة إلا لمن أذن لهُ الرحمن ، وعنت الوجوهُ للحي القيوم ثُمّ يتكلمُ عن قضية أن عبداً ظلم عبداً لكن لا يُوجدُ ظلم أظم من أن تجعل للهِ نداً وقد خلقك فأوّل ما يُصرف ( وقد خاب من حمل ظُلماً ) إلى من ؟
إلى أهل الإشراك إلى أهل الإشراك ( وقد خاب من حمل ظُلماً )
ثُمّ قال الله :
( ومن يعمل) شرطية ( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن )
فالإيمان مُتلازم مع العمل الصالح وقد يعملُ الإنسانُ عملاً صالحاً من حيثُ الجُملة لكنهُ غيرُ مؤمن كما يصنعُ بعضُ الغربيين بعضُ الكفرة من الرفق بالحيوان أو من قضية إغاثة الملهوف فهذا لا ينفعُ يوم القيامة .
( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخافُ ظُلماً ولا هضما )
لا يخافُ ظُلماً لأن الله جل وعلا نزّه نفسهُ عن الظُلم لأن الله تبارك وتعالى نزّه نفسهُ عن الظُلم .
وقد جاء في الخبر الصحيح أن النبي صلى الله عليهِ وسلم ضحك كما في حديث علي رضي الله عنه قال قُلنا يا رسول الله ممّا تضحك ؟ قال أضحكُ من مُجادلة العبد ربهُ فإنهُ يقولُ يوم القيامة لا أقبلُ إلا شاهدً من نفسي فيُختمُ على جوارحهِ على لسانه فتشهدُ عليهِ جوارحهُ فإذا شهدت عليهِ جوارحهُ خُلّي بينهُ مبين الكلام فيقولُ سُحقن لكُنّ وبُعدا فعنكُنّ كُنت أُناضل } يعني عنكُنّ كُنت أُدافع .(8/98)
قال بعضُ أهلُ العلم حتى جوارحهُ التي كانت لهُ في الدُنيا عوناً لهُ على المعصية لما رأت يوم القيامة كانت شاهداً عليهِ عند من ؟ عند ربهِ فجوارحهُ قدّمت عظمة الله على علاقتها بصاحبها .
ولهذا قال الله جل وعلا ( اليوم نختمُ على أفواههِم وتُكلّمُنا أيديهم وتشهدُ أرجُلهُم بما كانوا يكسبون )
وقد اختلف العُلماء في السبب الذي من أجلهِ يُختمُ على الأفواه فقال بعضُ أهل الفضل ويُنسب هذا إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن السبب أنهم ينطقون بكلمة الكذب أنهم ينطقون بكلمة الكذب قال الله جل وعلا عنهُم أنهُم قالوا ( واللهِ ربِنا ما كُنا مُشركين ) فإذا قالوها يُختم على أفواههم .
وقيل أسبابٌ أُخر في سبب أن الله جل وعلا يختمُ على أفواههم فقيل : إن شهادة غير الناطق من الجوارح أعظمُ من شهادة الناطق يقصدون بها الجوارح أن شهادة غير الناطق يعني الجوارح أعظم من شهادة الناطق أي من شهادة جارحة اللسان .
نعودُ إلى الآية قال الله جل وعلا ( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمنُ فلا يخافُ ظلماً ولا هضما )
فلا يُزادُ عليهِ ما لم يعملهِ ولا يُتقص منهُ ما قد عملهِ فالظلمُ هُنا يُفسّر بالزيادة وقد فسّرناهُ بالزيادة ليُقابل كلمة هظم وهو النقص (فلا يخافُ ظلماً ولا هضما )
( وكذالك أنزلناه قُرآناً عربياً )
بلسانٍ عربيٍ مُبين كما هو معلوم
( وصرّفنا فيهِ من الوعيد )(8/99)
والوعيدُ مُقابلها الوعد والوعدُ يكونُ في الخير ويكونُ في الشر والوعيدُ لا ينصرفُ إلا في الشر وقولُ الله جل وعلا (وصرّفنا فيهِ من الوعيد ) أي أن تخويف الله جل وعلا لعبادهِ لم يأخُذ منهجاً واحداً وإنما أخذ عدةً طرائق فتارةً يذكُرُ الله أفرادً أهلكهُم كالنمرود وقارون ، وتارةً يذكُرُ أُممً أبادها كقوم ثمود وقوم عاد ، وتارةً يذكُرُ الله جل وعلا إخبارهُ بما أعد لأهلِ معصيتهِ وغير ذالك ممّا صرّف الله جل وعلا فيهِ من الوعيد كُلُ ذالك تذكرةً للعباد و تبصرةً للحاضرِ والباد .
قال سُبحانهُ
(وصرّفنا فيهِ من الوعيد لعلّهُم يتقون أو يُحدثُ لهم ذكرا )
لعلّ هذا التصريف يكونُ سبباً في أوبتهِم إلى ربهم جل وعلا .
ولمّا كانت الأمور لا يُمكن أن تقوم إلا بمشيئة الواحد القهّار قال جل وعلا بعدها
( لعلّهم يتقون أو يُحدث لهُم ذكرا * فتعالى اللهُ الملك الحق )
وهذهِ من أعظم آيات القرآن ثناءً على الله قالها اللهُ هاهُنا ،، وقالها جل وعلا في آخرِ سورة المؤمنون ،، وقالها في غير ما موضع فتعالى اللهُ الملك الحق عمّا يصفهُ الواصفون ممّن انتقصُ ربهُم جل وعلا لكن يُستثنى من هذا ما وصف الله بهِ عبادهُ الصالحون فوصفُ العباد الصالحين لربهِم غيرُ داخلين في الاستثناء (فتعالى اللهُ الملك الحق)
ثُمّ قال اللهُ لنبيهِ
( ولا تعجل بالقُرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيُهُ )وقد كان جبريل يُملي على نبينا صلى اللهُ علية وسلم القرآن فكان لهذا القرآن حلوةً في قلب هذا النبي الكريم يخافُ أن يتفلّت فيُسرع في الاستجابة لجبريل فأخبرهُ الله جل وعلا هُنا وأخبرهُ في القيامة ( إن علينا جمعهُ ) أي في صدرك ( وقرآنهُ ) أي في قراءتهِ عليك ( ثُمّ إن علينا بيانه) أي تأويلهُ سيأتيك ظاهراً بيناً في الدُنيا والآخرة .
قال الله ( و لا تعجل بالقُرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيُهُ وقُل ربِ زدني علما )(8/100)
ومرّ معنا أن كلمة رب إذا جاءت في صيغة دُعاء لا تكونُ مُلازمةً للياء لكن زدني جاءت بالياء هذهِ ياء المُخاطب والنون التي أصلُ الفعل "زد" والضمير الياء هذهِ العرب تُسمّيها نون الوقاية تُسمّيها نون الوقاية .
ويقولون إن الفعل لا يقبلُ الكسر النُحاة يقولون الفعل لا يقبلُ الكسر وياء المُخاطبة لا بُد لمن ألتحق بها أن يكونَ مُكسوراً فلو تكلّمت عن هذهِ الكُتب التي بين أيديكُم ونسبتها إلى نفسك تقول هذا كتابي فالباء لحقها الكسرُ لإتصالها بالياء سواءً كانت محل جر أو لم تكُن في محل جر فالياء قوية لا تقبلُ من يلتصق بها إلا أن يكونَ مكسورا ، والكسرُ من خصائص الأسماء لكنّهُ ليس من خصائص الأفعال فلمّا ألتصق الفعل بالياء احتاروا لا الياء ترضى أن يقبل معها أحدٌ غيرُ مكسور ولا الفعلُ يرضى بأن كون مكسوراً فجاءوا بهذهِ النون فجعلوها بين الاثنين ــ هذهِ فائدة نحوية ــ جعلوها بين الاثنين وسمّوها نون الوقاية ويقصدون بتسميتها نون الوقاية أنها وقت الفعل الكسر "زدني" .
هذا توضيحٌ لأنهُ يمرّ معك كثيراً في القرآن ومن حقك حتى تفهم القرآن أن تفهم طريقة العرب في كلامهِم .
ــ حتى تثبُت المعلومة ــ
هذا كوب ليس بينهُ وبين هذهِ المائدة إن صحت التعبيرُ حاجز فلو أردنا أن نقي هذهِ المائدة ما يعلقُ بها من الكوب نأتي بشيء منديل أو ما شابههُ نضعهًُ ثُمّ نضعُ الكوب عليهِ فهذا ما وُضع وقى المائدة ما يتعلّقُ بها من أثر الكوب ــ حتى تثبُت المعلومة ــ فلهذا تُسمّى نون الوقاية هذا العلاقة النحوية .
أما العلاقة العامة فإن الله يقولُ لخيرِ خلقهِ
( وقُل ربِ زدني علما )
العلم نور وفضلٌ من الله جل وعلا محض ولهُ شروط شروط تتعلّق بالآخرة هذا ليس مجالُ الكلام فيهِ لأن هذا كُلُ امرئٍ حسيبُ نفسهِ من أراد بالعلم وجه الله أو لم يُرد وجه الله .
لكن العلم حتى يملكهُ الإنسان لابُد فيهِ من أمور:.(8/101)
1\ عدم التفريط في علوم الآلة هذا أهم مُقتضياتهِ أهمُ مُقتضياتهِ عدم التفريط في علوم الآلة لأن من فقد علم الآلة لن يصل إلى مُبتغاة عدمُ التفريط في علوم الآلة مع وهذا مُهم عدم الإغراق في علوم الآلة لأنها وسيلة وليست غاية عدم الإغراق في علوم الآلة هذا مُهم جداً .
2\ الأمرُ الثاني :
عدم احتقار أيُ شخصٍ أن تأخُذ عنهُ علماً من حيث المعلومة نفسها من حيث المعلومة نفسهِا فإجلالُك لغيرك يُبنى على أمورٍ عدة أما قبًُولُك للمعلومة ليس لهُ علاقة بذات الشخص ليس لهُ علاقة بذات الشخص قال صلى الله عليهِ وسلم لأبي هُريرة { صدقك وهو كذوب } فأقرّهُ على المعلومة التي منحها إياهُ الجني أن من قرأ آية الكُرسي لا يزالُ عليهِ من الله عارض مع أن القائل جنيٌ سرّاق لكن لا علاقةً لنا بالقائل العلاقةُ لنا مُهمّة جداً بقضية المعلومة .
3\ من شروط تحصيلهِ :أن العلم يُجمع بمعنى أنهُ لا بُد من مراحل حتى يصل الإنسانُ إلى كثيرٍ من بُغيتهِ لا إلى كُل بُغيتهِ إلى كثيرٍ من بُغيتهِ .
قال الشافعيُ :
وصُحبة أُستاذٍ وطول زماني
فلا يُمكن أن يطير أحدٌ قبل أن يُريّش فيأخُذهُ الإنسان على تأوده على مهل .
4\ لابُد في العلمِ وأنا أتكلم من غير ترتيب لا بُد في العلم من المُراجعة لأن علم الأنبياء وحي لا يحتاجون فيهِ إلى مُراجعة أما نحنُ معشر المُتعلمين فلابُد فيهِ من المُراجعة والمُدارسة والمُذاكرة والعرض حتى يثبُت في القلب والعقل حتى يثبُت في القلب والعقل .
ــ هنا فائدة ــ
يقولون إنّ المأمون سابع خُلفاء بني العباس قال لأبي عليُ المنقري يا أبا علي فيك ثلاثةُ عيوب قال وما هي ؟
قال إنك تلحنُ في كلامك وتكسرُ الشعر ولا تُقيمهُ هذهِ اثنتان
ولا تُجيدُ الكتابة .
فقال يا أمير المؤمنين أما اللحنُ فرُبما سبق لساني منهُ شيء ، وأما الكتابةُ والشعر فلا حاجة لي بهما فإني رأيتُ الله نزّه نبيهُ عن الكتابة ونزّه نبيهُ عن الشعر .(8/102)
فقال المأمون : يا أبا علي كُنتُ أظنُ أن فيك ثلاثة عيوب فإذا هي أربعة :. الثلاثة التي ذكرت وجهلُك ، ثُم قال لهُ يا جاهل إن عدم فهم الشعر وعدم القراءة والكتابة في حق النبي صلى الله علية وسلم فضيلة حتى لا يشُكنّ احدٌ في وحيهِ الذي أعطاهُ اللهُ إياه ، أما في غيرهِ فهي منقصة عدمُ فهمهِ لشعر أو عدمُ إجادتهِ للقراءة و الكتابة فهي في حقهِ منقصة لأن الإنسان إذا كان لا يفقهُ الشعر ولا يُجيدُ القراءة والكتابة أنى لهُ أن يتعلّم لابُد أن يكون هذا مهونٌ في الأمر فهي في حق غيرهِ منقصة وفي حقهِ صلوات الله وسلامهُ فضيلةِ ( وما كُنت تتلوا من قبلهِ من كتابٍ ولا تخطُهُُ بيمينك ) .
استطراد آخر من التكلُف قال بعضُ الناس عياذاً بالله الرسول كان يعرف يكتُب قيل لهُ والله يقول (وما كُنت تتلوا من قبلهِ من كتابٍ ولا تخطُهُُ بيمينك ) قال ما هي مُشكلة كان الرسول يكتُب بشماله فهذا نوعٌ من العنت حتى يخرُج منها لكن الله أراد نفيُ الكتابة بالجُملة .
والمقصود أن العلم كما ذكرنا يحتاجُ إلى مُراجعة ويحتاجُ إلى أخذٍ وعطاء.
5\ كذالك يحتاجُ العلم وهذهِ يعني مُهمّة جداً في القضية إذا تبنيت رأيً لا تجلب على خصمك فيهِ بخيلك ورجلك فرُبما تراجعت عن هذا القول ذات يوم فاترُك لنفسك في الحياة كُلها خط رجعة تؤبُ إليهِ إلا في مسائل العقائد فالعقائد مبنية على اليقينيات لكن في المسائل الفقهية والأخذ والعطاء اجعل لنفسك خط رجعة فرُبما مع المُدارسة والأخذ والعطاء يتبينُ لك خلاف الذي توصّلت إليهِ .
الكلامُ في العلم أمرهُ طويل لكن النبي صلى الله علية وسلم يقولُ { إن الملائكة لتضعُ أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع } فإذا كانت ملائكةُ الرحمن ترضى عن من خرج قصداً في طلب العلم فهذا دلالةٌ على فضلهِ وسموهِ كقصدٍ في ذاتهِ.(8/103)
لكن إذا جئنا في الأشياء الروحانية الإيمانية فإنّ ما أجمل العلم أن يدُلَ على الله وإنما العلمُ الخشية كما قال الحسنُ البصريُ رحمهُ الله وهو مأخوذٌ من قول الله ( إنما يخشى اللهُ من عبادهِ العُلماء )
زادني اللهِ وإياكُم تبصرةً بما نقولُ ونسمع وفقنا الله وإياكُم لما يُحبُ ويرضى وألبسني اللهِ وإياكُم لباسي العافية والتقوى وصلى اللهُ على مُحمدٍ وعلى آلهِ والحمدُ لله رب العالمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي بنعمهِ تتمُّ الصالحات وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك لهُ خلق فسوى وقدّر فهدى وأخرج المرعى فجعلهُ غُثاءً أحوى وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمدً عبدهُ ورسُولهُ صلى الله علية وعلى آلهِ وأصحابهِ وعلى سائر من اقتفى أثرهُ وأتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين ........
لعل هذا هو اللقاء الأخير بالنسبةِ لسورةِ طه فأرجوا الله جل وعلا أن يوفقنا الله اليوم في إنهاءِ ما تبقى من هذهِ السورة الكريمة ...
قال الله جل وعلا فيما وقفنا إليهِ
(ولقد عهدنا إلى ءادم من قبل فنسي ولم نجد لهُ عزما )هذهِ المقطعُ من السورة يتكلمُ عن عهد اللهِ جل وعلا لأبينا آدم وأدم قبلُ أن أتكلم عن قصتهِ هنا يجبُ أن نستصحبَ ما منّ الله جل وعلا بهِ عليهِ وفائدةُ هذا الاستصحاب أن الإنسان أحياناً إذا رأى كلام اللهِ عن أحدٍ أنهُ وقعت منهُ وقع منهُ خلاف الأولى أو وقع منهُ المعصية يقع في نفسهِ شيء من غير أن لا يشُعُر في النفس من ذالك المذكور فسداً لهذا الباب واتبعاً لسُنّة .
النبي صلى الله عليهِ وسلم يقول { لا يقُلُ أحدٌ أنا خيرٌ من يونس ابنُ متّى } من هذا الباب .
نقول إن آدم عليهِ السلام فضلهُ الله بأمور لم يُعطيها أحدً من الخلق لا نبينا صلى الله عليهِ وسلم ولا غيره هذهِ الأمور منها:
**
أن الله جل وعلا خلقهُ بيدهِ وهذهِ خصيصة لهُ من دونِ سائرِ بني آدم .
ونفخ فيهِ من روحهِ
وأسجد لهُ ملائكتهُ(8/104)
وعلّمهُ الأسماء كُلها
وهي أربعُ خصالٍ لم تُعطى لأحدٍ غيرهِ علية الصلاةُ والسلام هذهِ واحده .
**
الأمر الثاني :أن وجههُ وهذا مرّ معنا وجه آدم مُنتهى الكمال البشري وقُلنا إن يُوسُف أُعطي شطر الحُسن أي شطر الحُسن من من ؟ من آدم عليهِ السلام شطر حُسن آدم .
هذا آدمُ عليهِ السلام قال الله ( ولقد عهدنا ) كلمة عهدنا عهد لفظ يُستخدم في التعظيم والتفخيم ولا أُحبُ أن يقولهُ الفردُ من الناس عهدتُ إلى فُلان أن يفعل كذا وإن كان مُستخدماً في اصطلاحات المؤرخين لكن أرى أن لا يُستخدم وأنهُ يتعلّق بذات الله لكني لا أجزمُ أنهُ لا يجوز .
والله يقول ( ولقد عهدنا إلى ءادم من قبلُ ) أي من قبل موسى من قبل خبرهِ من قبل هذا كُلهِ الذي قصصناهُ عليك ( فنسيَ ولم نجد لهُ عزما )
= عبّر الله هنا بماذا ؟
بالنسيان وقال بعد آيات ( فعصى) وهذا أشكل على العُلماء .
= هل تُنسب المعصية لآدم أو لا تُنسب مع أن الله صرّح بها ؟
لكنني أقول في كلام لابن العربي في أحكام القرآن جيدٌ عظيم فحواهُ أراد أن يقول ذالك العالم الجليل " أن كلام الله عن آدم غيرُ كلامنا نحنُ عن آدم
فكلامُ الله جل وعلا عتابٌ فيهِ شيءُ من التثريب لكن خطابُ ربٍ لعبدهِ
أما نحنُ أبناء لآدم فنتكلمُ عن أبينا النبي آدم "
ونبوةُ آدم ثابتة قيل يا رسول الله أكان آدمُ نبيا قال نعم نبيٌ مُكلّم .. " الحديثُ صحيح " ..
الله هنا يقول ( ولقد عهدنا إلى ءادم من قبلُ فنسيَ ولم نجد لهٌ عزما )
= ما العهدُ الذي عهدهُ الله لآدم ؟
بالاتفاق أن لا يأكُل من ؟ من الشجرة .
( وإذ قُلنا للملائكةِ اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس أبى )
أمتنع أمتنع كبراً والخطايا يا بُني وقد مرّ معك اُصولها ثلاث أصول كُلُ خطيئة ثلاث :
الكبر
والحسد
والحرص(8/105)
فوالله ما عصى الله أحد إلا من باب هذهِ الثلاث من واحده من هذهِ الثلاث الكبر، أو الحسد ، أو الحرص .فالحرص بابٌ لشهوات والحسد بابٌ للبغي والكبر بابٌ للبغي والشهوات وبابٌ لردّ ما جاء الله جل وعلا بهِ ولا يُعصى إلا بإحدى هذهِ الثلاث .
كلُ المعاصي تندرج في هذا الباب .
يقولُ ربُنا :
( وإذ قُلنا للملائكةِ اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس أبى * فقُلنا يا ءادم إنّ هذا ) أي إبليس ( عدوٌّ لك ولزوجك )
ولم يقُل ولزوجتك والأفصح أن يُقال في المرأة زوج زوجه لا يُقال زوجتهُ يُقال زوجه ( إنّ هذا عدوٌّ لك ولزوجك فلا يُخرجنّكُما ) آدم وحواء ( من الجنةِ فتشقى) وقول الله من الجنة إحدى الأدلة على أن المقصودُ بها جنةُ عدن لأنهُ لا يستقرُّ في الذهنِ هُنا إلا جنةُ عدن ( فلا يُخرجنّكُما من الجنةِ فتشقى ) وجاءت فتشقى بلفظ الإفراد وهذا يدلُ على أن المرأة تبعٌ لزوج وأن الإنسان الرجُل هو المُكلّف بالشقي .
ومعنى الآية :.
أن الجنة يا آدم كُفيت أن تعمل فيها وتكُد على أهلك فخُرُجك منها سيدفعُك إلى الكد والسعي في طلب الرزق وقوتِ أبناءك وأهلك فلا يُخرجنّك الشيطانُ منها فتشقى ويُصبح تبحث كما يُقال عرق الجبين وتذهبُ وتكُد .
والنبي صلى الله علية وسلم يقول في حق جُليبيب { اللهم لا تجعل عيشهُما كدا وصُبّ عليهم الخير صبا }
والمقصود لم يقول الله فتشقيا لأن الرجُل هو الأصلُ في الكد ( فلا يُخرجنّكُما من الجنةِ فتشقى ) .
قال الله :
( فوسوس إليهِ الشيطانُ قال يا ءادم هل أدُلّك على شجرة الخُلد ومُلكٍ لا يبلى )شجرة الخُلد هذا باب الحرص هذا باب الحرص .
قبلها قال الله جل وعلا يُرغبُ آدم في الجنة ( إن لك ألاّ تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى ) [ واضح ] ( إن لك ألاّ تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى ) .قال الله بعدها ( فوسوس إليهِ الشيطانُ)
نقف عند هذهِ
((8/106)
ألاّ تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى )
نفُك المُفردات
الجوع معروف عدم الأكل الأصل ماذا يُقابل الجوع الأصل ماذا ؟ لا ماذا يُقابلهُ يعني قرين لهُ العطش يُقال فلانٌ جائع وفُلان عطشان ( إن لك ألاّ تجوع فيها ولا تعرى) لم يقُل اللهِ ولا عدمُ الظمأ أتى بالعُري يُقال (وأنك لا تظمؤا فيها) تعطش ولا تضحى ضحي الإنسان بمعنى برز لشمس ولهذا يُقال لوقت ظهور الشمس واشتدادها ضُحىً .
هذا عند البلاغيين يا أُخي يُسمّى تطابُق تضاد يُسمّى تطابُق تضاد والمعنى أنهم يقولون :
إن الله عدل عن قول أن لا تجوع فيها ولا تظمأ ما قال لا تجوع فيها ولا تظمأ ولم يقُل تعرى مُقابل الظهور في الشمس قالوا لأن العُري جوعُ الظاهر وعدمُ الأكل جوع الباطن وعدمُ الشُرب حرُّ الداخل والظهور لشمس حرُّ ماذا ؟ حرُّ الظاهر [ واضح]
الجوع عدمُ الأكل في الباطن جوع الباطن عدمُ الأكل جوع الباطن ، والعُري جوع الظاهر ، وعدمُ الماء الذي هو الظمأ حرُّ الداخل والظهُرُ لشمس حرُّ الظاهر فهذا يُسمّى تطابُق تضاد وأهلُ اللُغةِ إذا ذكروا هذا في القرآن يُعرّجون على بيتين للمُتنبي المُتنبي شاعرٌ عباسي كان مشهوراً بالإغراق في الغرور والكبر عياذاً بالله وهو القائلُ عن نفسهِ :
أيُ عظيمٍ أتقي وأيُ مكانٍ أرتقي *** وكُلُ ما خلق الله وما لم يخلقِ ِ
مُحتقرٌ في همتي *** كشعرةٍ في مفرقِ ِ
ومن دوّن لهُ سيرة ولا أتحمّلُ وزر نقل يقول إنهُ لم يسجُد لله قط لا يُعرف لهُ أنهُ كان يُصلي .
هذا الرجُل كانت فيهِ أنفة عجيبة فكان يُنشد شعرُه بيني يدي سيف الدولة الحمداني وهو جالس وودّعهُ بقصيدة بعد أن أشتد عليهِ خُصومهُ
واحرّ قلباه ممّن قلبهُ شبمُ ــ شبم بمعنى بارد ــ ومن بجسمي وحالي عندهُ سقمُ
مالي أُكتّم حُباً قد برى جسدي ** وتدهي حُب سيف الدولةِ الأُممُ
إن كان يجمعُنا حُبٌ لغُرّتهِ *** فليت أن بقدرِ الحبُ نقتسمُ(8/107)
الآن هذا يتكلم بين يدي أمير فبدلاً أن يصرف الكلام إلى مدح الأمير صرفهُ إلى نفسهِ :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ** وأسمعت كلماتي من بهِ صممُ
أنام ملأ جفوني عن شواردها ** ويسهر الخلقُ جرّها ويختصمُ
الخيل والليل والبيداء تعرفُني ** والسيفُ والرمحُ والقرطاس والقلمُ
ما أبعد العيب و النُقصان عن شرفي ** أنا الثُريا و ذان الشيبُ والهرمُ
هذهِ جُملة أبيات قالها بين يدي الأمير ترك حلب ديار بني حمدان وأتجه إلى مصر أيام حُكُم كافور الإخشيدي كان كافور فطناً سياسياً هذهِ الفطنة جعلت كافور يُقرّب المُتنبي بالقدر الذي يستفيد منه وكان المُتنبي يُلحّ عليهِ يطلبُ الولاية فلا يُعطيهِ فلمّا سأل بعضُ خواص كافور عن سبب منعهِ الولاية للمُتنبي قال هذا أنظُرُ ماذا يراه في نفسهِ وهو شاعر هذا كيف لو أُعطي ولاية ماذا سيفعل ؟ سيطغى.
والمُتنبي أصلاً قال:
ومن يجعل الضرغام بازاً لصيدهِ ** تصيدهُ الضرغامُ فيما تصيدُ
والعاقلُ لا يستخدمُ من هو أعظم منهِ ، العاقلُ لا يستخدمُ من هو أعظم منهِ
لأنهُ قد ينقلبُ عليك فيأخُذ ،،
نعود للقضية ما دخلُ المُتنبي بالآيات قُلنا هذا التضاد في التطابقُ وقف المُتنبي ذات يومٍ في حربٍ تُسمّى الحدثُ الحمراء لسيف الدولة الحمداني أنتصر بها فقال قصيدهُ الشهيرة التي مطلعُها :
على قدرِ أهلِ العزم تأتي العزائمُ ** وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
وتعظمُ في عينالصغير صغارُها ** وتصغر في عين العظيم العظائمُ
حتى وصل إلى بيت يمدح ممدوحهُ قال:
وقفت وما في الموتِ شكٌ لواقفٍ ** كأنك في جفن الردى وهو نائمُ
تمرُّ بك الأبطال كُلم هزيمةً ** ووجهك وضاحٌ وثغرُك باسمٌ(8/108)
فقالوا إن الحمداني استدرك على المُتنبي هذا البيت فأفهمُ المُتنبي بمُرادهِ الذي هو بين أيدينا الآن بما يُسمّى تطابُق ماذا ؟ تطابُق التضاد فجعل كُل مصرعي بيتٍ بما يُلائمُهُ وهذا مأخُوذٌ من نسق القرآن حتى يُعلم أن القرآن في المرتبة الأعلى من الفصاحة وما جاء أحدٌ بأسلوبٍ ولن يأتي كما قال الله يرقى على أسلوبِ ماذا؟ على أسلوب القرآن فكُلّهم أصلاً مُغترفٌ من أسلوب القرآن أنكر ذالك أو أعترف ..
نعود إلى ما نحنُ فيهِ
( إنّ لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى * و لا تظمأُ فيها ولا تضحى * فوسوس إليهِ الشيطانُ قال هل أدُلك على شجرة الخُلد )ه
ذا حرص لأن كُل ثمار الجنة أباحها الله جل وعلا لأدم بقيت ماذا؟ بقيت شجرة فدخل إبليس على أبينا آدم من باب الحرص (هل أدُلك على شجرة الخُلد ومُلكٍ لا يبلى ) طبعاً وافق لأن ما بعدها يدُلّ عليها قال الله ( فأكلا) ألف التثنية آدم وحواء ( فأكلا منها ) أي من الشجرة ( فبدت لهُما سوءاتُهُما ) وتُسمى السوءة سوءة تُسمّى العورة سوءة لأنهُ يسوءُ المرءَ إظهارها الإنسان لا يرضى العاقل بظهُورها ( فبدت لهُما سوءاتُهُما وطفقا يخصفانِ عليهما ) طفقا أي بمعنى بداء من أفعال الشروع عند النحويين تعملُ عمل كان إلا أنهُ يُشترطُ في خبرها أن يكون جُملةً فعليهِ ( يخصفانِ عليهما من ورق الجنة )
قال الله ( وعصى ءادمُ ربهُ فغوى )هذا نص قال بعضُهم خلاف الأولى خرّجهُ بغضُهم قبل أن يُنبه قال بعضُهم صغائر تقع من الأنبياء الصغائر بكُلٍ قال العُلماء وأنا أُجنّب نفسي .
لكن أقول :
إذا تكلّمنا عن الأنبياء نتكلم بنفس طريقة القرآن ولا نُقحمُ أنفُسنا فقي الكلام عن أنبياء الله جل وعلا إلا بما حكاهُ الله جل وعلا عنهم تأدُباً مع أبينا آدم علية الصلاة والسلام ومع غيرهِ من إخوانهِ وأبناءهِ من الأنبياء .(8/109)
نعود فنقول قال الله ( وعصى ءادمُ ربهُ فغوى ) ثُمّ قال الله ( ثُمّ أجتباهُ ربُهُ فتاب عليهِ وهدى * قال اهبطا منها جميعاً بعضُكم لبعضٍ عدوّ)
هنا لا تفهم أن الأمر بالهبوط عاقبة لتوبة وإنّما قدّم الله التوبة حتى يُبين لك لا تسترسل فيما بعد ترى هذا النبي تاب الله عليهِ [ واضح]
فقال ( اهبطا منها جميعاً ) ليست مُفرّعة على التوبة مُفرّعة على ماذا؟ على المعصية لكنّ جعل الله التوبة قبلها والاجتباء والهداية حتى يُريحُك في تلقي الخبر وأنّ هذا النبي الصالح تاب الله عليهِ .
كمن تُريدُ أن تُخبرهُ بأن قريباً لهُ أصابهُ مكروه فقبل أن تُخبرهُ أن ابنهُ دهمتهُ سيارة مثلاً قُل لهُ ترى الابن بخير وعافية ولله الحمد الآن ثُمّ ممكن أن تقُصّ عليهِ كيق دهمتهُ السيارة لكن لا تبدأ بالأول فإن هذا يجعلهًُ في رُعب ينتظرُ النتيجة .
فأسلوبُ القرآن قدّم النتيجة الله يقول لنبيهِ ( عفا الله عنك ) ثُمّ أعطاهُ العتاب( لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين )
لكن لا تخشى من هذا العتاب فقد قدّمنا ( عفا الله عنك) .
هنا ( ثُمّ أجتباهُ ربُهُ فتاب عليهِ وهدى)فرفع الله مقامة وغفر الله خطيئتهُ وقبل الله توبته .
لكن قال بعدها : ..
( قال اهبطا منها جميعاً بعضُكم لبعضٍ عدوّ فإمّا يأتينكُم منّي هدى فمن اتبع هُداي فر يضلُّ لا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن لهُ معيشةً ضنكا )
ضيقاً في العيش يكونُ في القبر يكونُ في الحياة الدُنيا لا يشعرُ بلذة ما هو فيهِ ولو كثرُة أمولهُ وأولادُهُ (ومن أعرض عن ذكري فإن لهُ معيشةً ضنكا ونحشرهُ يوم القيامة أعمى * قال ربِ لما حشرتني أعمى وقد كُنت بصيرا)
وقد قال الله أنهم يُحشرون عُمياً وصُماً وبُكما
((8/110)
قال كذالك أتتك ءاياتُنا فنسيتها ) بتركها ( وكذالك اليوم تُنسى ) بأن تُترك و إلا النسيان لا يجوزُ على الله لكن هذا يُسمّى عند البلاغيين مُشاكله يُسمّى مُشاكله (وكذالك اليوم تُنسى * وكذالك نجزي من أسرف ولم يُؤمن بآيات ربهِ ولعذابُ الآخرةُ أشدُ وأبقى )
وهذهِ ظاهرةُ المعنى مرّت معنا كثيرا ...
ثُمّ أمر الله بالتدبُر فيما سبق:..
( أفلم يهدِ لهُم كم أهلكنا قبلهُم من القرون )
الخطابُ في المقام الأول لكُفّار قُريش
(أفلم يهدِ لهُم كم أهلكنا قبلهُم من القرونِ يمشون في مساكنهِم )
يقول الله عن قوم لوطٍ وحجر صالح ( وإنّهُما لبإمامٍ مُبين ) واضحة وقال ( وإنّها لبسبيلٍ مُقيم ) ما زالت أثار باقية تدلُ على أصحابها حتى يتعظ الخلق وحتى يتنبّه من كتب الله جل وعلا لهُ النجاة (أفلم يهدِ لهُم كم أهلكنا قبلهُم من القرونِ يمشون في مساكنهِم إنّ في ذالك لاءياتٍ لأُولي النُهى )وقد مرّ معنا قبل لقاءين أو أكثر أن كلمة ( أُولي النُهى ) لم ترد في القرآن إلا مرتين كلاهُما في سورةِ طه هذا موضع والموضعُ الذي قبله منها خلقناكم وفيها نُعيدكم ومنا نُخرجكم تارةٍ أُخرى حولها الآية ذكر الله (إنّ في ذالك لأياتٍ لأُولي النُهى ) ذكر الله جل وعلا إنزال السماء والمطر وأخبر أن في ذالك آيات لأُولي النُهى وهنا تكرّر نفس المعنى وأُولي النُهى أهل العقول وهذا يدلُ على أن الإسلام عني كثيراً بالعقل البشري .
ومن أعظم الدلائل على عناية الإسلام بالعقل أن الله جل وعلا ذكر العقل مُغيباً ، ومؤقتاً ، ومُغيباً تغييباً جُزئياً .فالمُغيب كامل يُسمّى مجنون
والمُغيب عارض يُسمّى نائم
والمُغيب مؤقت الصغير لم يصل عقلهُ إلى النُضج ،
مُغيب كامل هذا المجنون ،، ومُغيب بعارض هذا النائم ،، ومُغيب عقلهُ مؤقتاً هذا الصغير وفي كلا الثلاث الأحوال رفع الله قلم ؟ قلم التكليف رفع الله قلم التكليف إذاً ما مناطُ التكليف ؟ العقل ما مناطُ التكليف العقل.(8/111)
والعقلُ أصلاً يدلُ على وجود الله لكن لا تقوم الحُجة بالعقل وحده لكن لا تقوم الحُجة بالعقل وحده.
(إنّ في ذالك لاءياتٍ لأُولي النُهى )
ثُمّ قال الله جل وعلا
( فاصبر على ما يقولون وسبّح بحمد ربك قبل طلوعِ الشمس وقبل غُرُبها ومن ءاناى الليل فسبّح وأطراف النهارِ لعلّك ترضى )التسبيح هنا الأظهر أنهُ بمعنى الصلاة لقد ذكر اللهُ في هذهِ الآية المواقيت الخمس :
(فاصبر على ما يقولون) الصبر قرين الصلاة في كلام الله ( واستعينوا بالصبرِ والصلاة ) { أرحنا بها يا بلال} عند المصائب (فاصبر على ما يقولون) من تكذيبك ورد رسالتك وقدحهِم في إلهك وزعمهِم أن الأصنام تنفع وتضُر جُلة ما قالوهُ .
( وسبّح بحمد ربك) الصلاة متى ؟ ( قبل طلوع الشمس ) وهي صلاة الفجر ( وقبل غُرُبها ) صلاة العصر ( ومن ءاناى الليل ) صلاةُ العشاء ( وأطراف النهار ) لنهار طرفان بعد زوال الشمس عندما تتوسط في كبد السماء وعندما تجب وتسقُط وقت الغروب والأُولى يتعلّقُ بها وقت صلاة الظُهر ووقت سُقُوطها يتعلقُ بهِ صلاة المغرب .
فإن قال قائل كيف عبّر الله بأطراف ولم يُعبّر بطرفي ؟
قُلنا إن هذا أسلوبٌ عربيٌُ معروف وإنّ العرب إذا أمنت اللبس تُعبّرُ بالجماعة عن الإفراد وإنّ العرب إذا أمنت اللبس تُعبّرُ بالجمعِ عن الإفراد أو عن التثنية إذا أُمن اللبس كما في هذهِ الآية ونظيرهُ قول الله جل وعلا ( إن تتوبا ) بالتثنية ( إلى اللهِ فقد صغت قُلُوبكما ) جمعها (فقد صغت قُلُوبكما ) فجمع قلوب وليس لعائشة وحفصة إلا كلاهما لها قلب لهما قلبان لكنّ هذا أسلوبٌ عربي .
ولهذا نقول إن من أهم الطرائق إلى معرفة كلام الله معرفة أساليب العرب في كلامها ..
قال الله جل وعلا
(وسبّح بحمد ربك قبل طلوعِ الشمس وقبل غُرُبها ومن ءاناى الليل فسبّح وأطراف النهارِ لعلّك ترضى ) ..(8/112)
هذهِ ( لعلّك ترضى ) يحسنُ الوقوف عندها والمعنى أن هذهِ الصلوات سببٌ في رضوان الله عنك فإذا رضي الله عنك أرضاك الصلوات سببٌ في رضوان الله عنك فإذا رضي الله عنك أرضاك .
ولهذا قال بعضُ أهل الفضل ليس الشأن في أن نُحب ربُنا فهذا حقٌ له ولكنّ الغاية والمطلب أن يُحبّنا ربُنا جل جلالهُ بلغنا الله وإياكُم ذالك
( لعلّك ترضى )
ثُمّ أدب الله
( ولا تمُدنّ عينيك إلى ما متعنا بهِ أزواجاً منهم زهرة الحياة الدُنيا لنفتنهُم فيهِ ورزقُ ربك خيرٌ وأبقى )(8/113)
هذهِ الآية تُبينُ أن من أعظم ما يحولُ بين العبدِ وبين ربهِ النظر في ملذّات الدُنيا وهذهِ الدُنيا من حقارتها على الله أنهُ لم يأذن بالمعصية إلا فيها من حقارتها على الله أنهُ لم يأذن بالمعصية إلا فيها ولو كانت تزنُ عند الله جل وعلا جناح بعوضةٍ لما سقى منها كافراً شربة ماء وهي على اسمها دُنيا أي نازلة والتعلّقُ بها تعلّقاً كاملاً وجعلها في القلب من أعظم ما يحول ما بين العبد وما بين ما يُريدهُ عند الله من الشرف العظيم والجنة والمآل الكريم وقد حمى الله جل وعلا أنبياءهُ ورُسُله منها فمن أعطاهُ اللهُ منها كسُليمان وداود عليهما السلام جعلها لهُما عوناً على طاعتهِ كأصحاب المال والثراء من أصحاب نبينا صلى الله علية وسلم لكنّها في الجُملة لا ينبغي أن يستقرّ محبتُها في القلب ونبيُنا عليهِ الصلاة والسلام خُيّر ما بين أن يكون نبياً ملكا أو أن يكون نبياً عبدا فاختار الثانية واختيارهُ لثانية يعني أنهُ سيُبتلى فيلتزم بها فلمّا كانت تأتيهِ الغنائم لم يكُن لهُ منها حظٌ ولا نصيب صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ إلا بقدرِ ما يقوتُ بهِ أهلُهُ وإذا جلس يقول { اجلس كما يجلس العبد } ويأكل يأخُذُ الذراع فينهسُها نهساً فعل من هو مُتشوقٌ إليها لا من هو متعودٌ عليها ، ويدخُلُ عليهِ عُمر وقد أثر الحصير فيهِ فيحزنُ شفقةً عليهِ فيذكرُ كسرى وقيصر وما هُما فيهِ فيقولُ { أفي شكٍ أنت يا ابن الخطاب أُولئك أقوامٌ عُجّلت لهُم طيّباتهُم في الحياة الدُنيا } .
والتعلّقُ بالدُنيا يحولُ بين المرء وبين حتى معالي الأمور لأن من يرومُ مجداً لا ينبغي لهُ أن يتعلّقُ بالدُنيا لأن التعلّقُ بالدُنيا يُرث أمرين :
يُورث الجُبن ،، ويُرث الحرص وهو الطمع
ومن كان حريصاً أو جباناً لا يُمكن أن يسود
لولا المشقةُ ساد الناس كلهُمُ ** الجود يفقر والإقدام قتّالُ(8/114)
لكن من طلب معالي الأمور لابُد أن ينزع الدُنيا من نفسهِ يجعلُها مطية لما يُريد لا يجعلُها في ذاتها غاية وأنظُر لمن عبد الدينار والدرهم وتعلّق بهما كيف أحولهُما وانخفاض سوق الأسهُم في المال في الزمن القريب من لقاءنا هذا أكبر دليلاً على تعلّقُ فئامٍ كثيرٍ من الدُنيا صحيحٌ أن الإنسان لا يتحملُ الخسارة إذا وقعت لا يُلام الناس يعني لوماً وعتباُ قاسيا لكن لا ينبغي للعاقل أن يتعلّق بها تعلُّق من والعياذُ بالله يصلُ في مراحل حياتهِ إلى أن الرزق لهُ طريقٌ واحد والله يُعلّم عبادهُ ويُأدبهُم ويقول ( أمّن هذا الذي يرزُقكُم إن أمسك رزقه بل لجّو في عتوٍ ونفور )
ومن عرف الله جل وعلا حق المعرفة علم أن أسباب الرزق والعطاء ليست أبداً محصورةً في طريقٍ في طريقٍ واحد لكنّها من رازقٍ واحدٍ هو الله فاللهُ يقول لنبيهِ ( ولا تمُدنّ عينيك ) وهذا يلزمُ من خلالهِ أن لا يُقلّب الإنسان طرفهُ كثيراً في متاعِ أهل الحياة الدُنيا قدر الإمكان ( ولا تمُدنّ عينيك إلى ما متعنا بهِ أزواجاً منهم زهرة الحياة الدُنيا )
ولماذا قال اللهُ زهرة ؟
لأن الزهرة يراها السامعون التالون للقرآن فيرون أنها ما تلب أن تظهر حتى قليلاً ثُمّ تذبُل وتنتهي .
وقد قال بعضُ الصالحين : " إنما الدُنيا زهرةٌ حائلةٌ ونعمةٌ زائلة " إنما الدُنيا زهرةٌ حائلة يعني تحولُ إلى ذوبان وذبول ونعمةٌ زائلة وهذا أمرٌ مُشاهدٌ مهزوز .
( ولا تمُدنّ عينيك إلى ما متعنا بهِ أزواجاً منهم زهرة الحياة الدُنيا لنفتنهُم فيهِ ورزقُ ربك خيرٌ وأبقى )
ولا ريب أن الرزق كُلهُ من الله لكنّ الإضافة هُنا إضافة تشريف والمقصودُ برزق ربك أن الرزق قسمان :
*/ رزقٌ لأهل الكُفر وهو من الله لكن لا يُضافُ إلى الله إضافة تشريف لماذا؟ لأنهُم يشوبونهُ بطرائق مُحرّمة أهلُ الكُفر والفجورِ والمعاصي يشوبون رزقهُم بطرائق مُحرّمة فلا يُنسب إلى ماذا؟ فلا يُنسبُ إلى الله .(8/115)
*/ وأهلُ الصلاح وفي مُقدّمتهم نبيُنا صلى الله عليهِ وسلم إنّما رزقهُ مُباحاً حلالاً طيبا فلذالك أُضَيف إضافة تشريفٍ إلى الله (ورزقُ ربك خيرٌ وأبقى )
فبعد أن طمأن الله جل وعلا نبيهُ على الرزق وأن ما كان لك سيأتيك على ضعفك وما لم يكُن لك لن تنالهُ بقوتك قال لهُ ( وأمُر أهلك بالصلاةِ وأصطبر عليها )
والاصطبار حبسُ النفس على شيءٍ مُعين .
ومن أعظم ما يُمكن أن تراهُ عيناك شخصٌ قد أحدودب ظهرُهُ وظهر الشيب في مفرقهِ يتكأُ على عصاه يطوفُ في حيهِ وفي مقّر سكنهِ يأمُر أهلهُ بالصلاة هذا المنظر إذا رأيتهُ يفيءُ إلى ذهنك قول الله جل وعلا عن نبي الله إسماعيل ( وكان يأمُر أهلهُ بالصلاة والزكاة )
وقد كان هذا المنظرُ تراهُ كثيراً في الأحياء القديمة وفي المشايخ الكبار سنّاً ولو يكُن شيخ سناً ليس شيخ علم تراه يُذكّر من حولهُ بالصلاة في غدوهِ ورواحهِ وهذا فيهِ دلالة وأمارة على القُرب من الرب تبارك وتعالى .
( وأمُر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ) وقولهُ جل وعلا (واصطبر عليها ) أن الصلاة تحتاجُ إلى نوعٍ من المُصابرة ولهذا قال الله ( وإنّها لكبيرةٌ إلا على الخاشعين )
نقول ( واصطبر عليها لا نسألُك رزقاً ) نحنُ نسألُك العبادة كلّفناك بأن تعبُدنا ووعدناك بأن نرزُقك فلا تنشغل بما وعدناك فيهِ عمّا طلبنا منك .
أُعيد
الله جل وعلا وعد عبادهُ الرزق وطلب منهُم العبادة فلا ينشغلوا بما وعدهم عمّا طلبهُم وإنّما أنشغل بما يُعينك على أخرتك وهي العبادة عمّا تكفّل الله جل وعلا لك بهِ .
ولا يعني هذا أن الإنسان قعيداً في بيتهِ لكن إذا يسعى يسعى بقدر وإذا أُعطي من الدُنيا لا ينبغي أن تقع في قلبهِ موقعاً مُتأصلاً جداً يُخرجهُ عن طاعة الله جل وعلا .
قال الله جل وعلا :..
((8/116)
واصطبر عليها لا نسألُك رزقاً نحنُ نرزُقك والعاقبةُ لتقوى )عاقبةُ كُل شيءٍ مآلُه لكنّها تُذكر في كلام الله في الغالب في الخير ومعنى والعاقبةُ لتقوى أي أن التقوى سبيلٌ للعاقبة الحسنة ومعنى قول الله ( والعاقبة لتقوى ) أي أن التقوى سبيلٌ وطريقٌ للعاقبة الحسنة .
ثُمّ قال الله جل وعلا :
( وقالوا لولا يأتينا بآيةٍ من ربهِ )لولا هنا بمعنى الحظ وليست امتناعٌ بوجود معنى لولا هلاّ وهذا قالهُ الكُفّار عياذاً بالله كأنهُ لم يكفيهم القرآن ولهذا قال الله ( أولم يكفيهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب ) والمقصود أنهم يقولون نُريدُ بيّنة فالله جل وعلا يقول ( وقالوا لولا نُزّل عليهِ آيةٌ من ربهِ أولم تأتهم بينةُ ما في الصُحف الأولى )
ما هو الذي فيهِ بينة ما في الصُحف الأولى ؟
القرآن
فالله جل وعلا جعل القرآن مُهيمناً على الكُتب التي سبقت فكُلها أخبرت بنزولهِ والقرآن حوى مُجملها وما دلّت عليهِ وما أرشدت إليهِ وهو المُهيمنُ عليها فإذا لم يكفيهِم القرآن لن يكفيهم شيئاً أبداً وإنما يقولون هذا عنتا بل القرآنُ هو خاتمُ الكُتب السماوية المُنزّلة وهو المُهيمنُ عليها نعتهُ اللهُ جل وعلا بقولهِ ( أولم تأتهم بينةُ ما في الصُحف الأولى )
الصُحف الأولى ما سبق من التوراة و الإنجيل والزبور وبينتُها والحجة المُهيمن عليها هو القرآن .
ثُمّ قال الله
((8/117)
ولو أنّا أهلكناهُم بعذابٍ من قبلهم لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع ءاياتك من قبل أن نذلّ ونخزى )هذهِ الآية تُبين أن الحُجة في بعث الرُسُل وأنهُ لولا أن الله أرسل الرُسُل وأنزل الكُتب لكان لناس حُجة على من ؟ على ربهم ولهذا قطع الله المعاذير وألقم الله جل وعلا الحُجج ما ألقمها بإرسالهِ لرُسُل وإنزالهِ للكُتب (لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع ءاياتك ) ذكر الرُسُل قال الله جل وعلا (من قبل أن نذلّ ونخزى ) فطالبوا بالرُسُل قبل أن يقع عليهم الذل والخزي وقد أرسل الله الرُسُل فلم يبقى لهؤلاء القوم أيُ حُجة .
ثُمّ قال الله على لسان نبيهِ يختمُ هذهِ السورة المٌباركة ( قُل كلٌ مُتربصٌ فتربصوا )والآية من أعظم دلائل التوحيد
لماذا من أعظم دلائل التوحيد؟
فالنبيُ عليهِ الصلاةُ والسلام جعل نفسهُ ومن ءامن معهُ مثل هؤلاء في الانتظار مثل هؤلاء في الانتظار ( قُل كلٌ مُتربصٌ فتربصوا ) أنا وأنتُم ننتظر ، أنا وأنتُم مُتحفزٌ لنهاية ، أنا وأنتُم مُترقبٌ لما سيكون ولا يترقبُ لما سيكون ويتحفزُ لما سيقع إلا من كان لا يملُك من الأمرِ شيئاً و إلا لو كان يملكُ من الأمر شيئاً لقضاهُ وانتهى لقضاهُ وانتهى .
تدخُلُ داراً أنت ورفقتُك وليس مع أحدٍ منكُم مفتاح فكُلكُم مُشتركون تنتظرون صاحب المفتاح يُدخلكُم ولو كان مع أحدكُم مفتاحا لفتح الباب وانتهى الأمر.
فهذا النبيُ يقول أنا عبدٌ مثلكُم أنا بشرٌ مثلكُم أنا أنتظر كما تنتظرون ( قُل كلٌ مُتربصٌ ) حتى يبقى الكمال المُطلق لرب جل جلالهُ (قُل كلٌ مُتربصٌ فتربصوا) فإذا انتظرتم وانتظرنا ( فستعلمون) يقيناً ( من أصحاب الصراط السوي ومن أهتدى )
لا يُفهم أن أصحاب الصراط السوي مُغاير لمن أهتدى الله لا يتكلّم عن فريقين يتكلّمُ عن طريقٍ وسالكيهِ
أُعيد(8/118)
قول الله جل وعلا ( فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن أهتدى) لا يتكلّمُ الله جل وعلا عن فريقين إنّما يتكلمُ عن طريقٍ وسالكين لذالك الطريق.
والمعنى :.. أحياناً يُوجد طريق سالك يوجد طريقٌ سالكٌ صحيحٌ مُستقيم ولا يوجد سالكون ولا يوجد سالكون لهُ فالله جل وعلا يقولُ لهؤلاء الكُفّار على لسان نبيهِ ستعلمون الطريق السوي الحقيقي الذي هو طريقُ الإيمان والسالكين لهذا الطريق الحقيقي الذين هم أهلُ الإيمان فمن يُعبّر بها للعاقل وإنّما كُسرت هُنا لالتقاء الساكنين كُسرت هُنا لالتقاء الساكنين .
( ومن اهتدى ) كُسرت لالتقاء الساكنين لأن الهمزة التي بعدُها همزة وصل لا تُنطق والهاء ساكنة .
فنعود فنقول الله جل وعلا لا يتحدثُ عن فريقين وإنما يتحدثُ عن طريقٍ ومن سلكهُ .
قد يأتي في الأنفُس وهذا من ربط سور القرآن بعضُها ببعض قد يأتي في النفس الذين يقرأون القرآن متى ينتهي هذا التربُص ، إلى متى هذا الانتظار ، متى سيكون أسئلة ترد ( فستعلمون ) متى نعلم ، ما لسورة التي بعد طه ؟ ــ أجيبواـ الأنبياء .
ما فاتحةُ الأنبياء ؟
( اقترب لناسِ حسابهُم ) جواب للأخير هنا ليس ببعيد هذا التربُص ليس ببعيد هذا التحفُّز ولهذا قال الله بعدها في الأنبياء ( اقترب لناسِ حسابهُم وهم في غفلةٍ مُعرضون ) وهذا من التناسُب مابين ما بين سور القرآن الكريم تناسُب ما بين سور القرآن الكريم .
هذا جُملة ما يُمكن أن يُقال إجمالاً عن هذهِ السورة المُباركة
جُملة الفوائدِ فيها : .
//**
أن يُعلم أن القرآن مُعجزٌ في ذاتهِ وهذا الإعجاز ذكرهُ الله جل وعلا هنا تشويقاً في ثلاث مراحل :
ذكرهُ في أول السورة ( طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى )
وذكرهُ قبل النهايات ( وكذالك أنزلناهُ قرآناً عربياً )
وذكرهُ هنا ( أولم تأتهم بينةُ ما في الصُحف الأولى )(8/119)
في الثلاث المواضع ذكر الله جل وعلا القرآن ليُبين رفيع قدرهِ وعظيم شرفهِ وقد قال في نصّ شرف القرآن ( وإنّهُ لذكرٌ لك ولقومك ) أي لشرفٌ لك ولقومك وسوف تُسألون عنه ِ هذهِ واحدة .
//**
ذكر الله جل وعلا في هذهِ السورة إجمالاً خبر كليمهُ موسى ونبيهُ ءادم عليهما الصلاةُ والسلام ولم يذكُر الله في هذهِ السورة قصّة أحدٍ من الأنبياء غيرِ موسى وغيرِ ءادم والعجيب أنهُ ليس في القرآن سورة اسمُها سورة موسى رغم أن موسى عليهِ السلام ذُكر في أكثر من موضع وهذا إن صحّ التعبير يدخُل في ما قُلناه سابقاً إن الله جل وعلا لا يُعطي أحدٍ كُل شيء إنما ذكر يونس لأنهُ عاتبهُ عتاباً شديداً فسُمّيت سورة باسم يونس [ واضح] ،،
ذُكر موسى كثيراً في القرآن لكن لم تُسمّى سورة باسمهِ عليهِ السلام ،، سُمّي نبيُنا صلى الله علية وسلم سميت سورة باسمه سورة مُحمد تُسمّى أحياناً سورة القتال لكن هذا يجعلك إذا قُلنا تسمية القرآن طبعاً هل تسمية توقيفية مبنية على فعل النبي صلى الله علية وسلم فهي مبنيةُ يعني على أمر اللهِ من حيث الجُملة لكن عموماً ثمّة ملحوظات يقعُ عليها المرء تُبين كيف أن الله جل وعلا يُوازن بين عبادهِ والله يقول ( ولو بسط الله لعبادهِ في الرزق لبغوا في الأرض)
والمقصود أن حتى الناس لو تأملتهُم تجد من أُعطي عافية ومال يُحرم من أشياء أُخر قد لا تظهرُ لك ، ومن أُعطي قلّة قد يُعطى أولاد وقد يوجد أحدٌ عندهُ أموال يتمنى الولد ن وقد يُوجد مُبتلىً لكنّهُ يُعطى أُمور أُخر غير التي فيها بلاءُهُ وقلّما ترى عبد إلا وفيهِ أثر نعمة وأثر ابتلاء لا نقول نقمة يبتليهِ اللهِ جل وعلا بها فإن لم يُحسنِ التعامُل مع ذالك الابتلاء انقلب نقمة وإن أحسن التعامُل انقلب إلى عافية ورفع درجات .
لكن من العبد الخالص الذي أرادهُ الله الذي يستحق أن يفوز بجائزة ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) هو من كان قلبُهُ بصرف النظر عن مالهِ وولدهِ(8/120)
ومسكنهِ وجاههِ وعلّمهِ من كان قلبهُ مُعظّماً للهِ من كان قلبهُ مُعلّقاً باللهِ لا يوجد احدٌ حي ما يملك قلب يتفاوت الناس في المال في الولد في العلم في الطول في القصر لكن لا يوجد حد حي لا يملكُ قلباً .
نُريدُ من كُل من يُشاهدُنا ويسمعُنا ويقراُ دُروسنا ونحنُ في المقام الأول يعني نتعظ في أن الغاية من خلقنا أن تعترف قلوبنا بخالقها وتذعن لهُ وتعبدهُ وحدُه { ألا وإنّ في الجسد مُضغة إذا صلُحت صلُح الجسدُ كُله }
( يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم )
فلا يوجدُ أحدٌ ساد وعندهُ ما ليس عندك عندهُ قلب وعنك قلب وهو مقام التحاكُم وموطنُ العبادةِ وإليهِ يعني هو موضع محبةُ الله وبُغضُهُ عند أهل الكُفر وطاعتهُ ومعصيتهُ عند العُصاة فكلُ الأمور مُعلّقة بمدى اتصال الخلق بالخالق وما الجوارح إلا شواهد ودلائل وقرائن على مدى اتصال القلب بالخالق .
علّمنا الله وإياكُم ما ينفعُنا ونفعنا الله وإياكُم بما علّمنا وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آلهِ وأرجوا أن يكون فيما قُلناه في سورة طه نفعاً لمن سمعنا وشاهدنا أسأل الله لنا ولكُم التوفيق وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آلهِ والحمدُ للهِ رب العالمين ..............(8/121)
تفريغ سورة البقرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيه كما يُحبُ ربُنا ويرضى ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك لهُ شعار ودثار ولواء أهل التقوى ، وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمدً عبدهُ ورسولهُ عبدٌ مُجتبى وحبيبٌ مُصطفى ورسولٌ مُرتضى صلى الله علية وعلى آله و أصحابة ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ...
أما بعد
فكُنا قد بينا وحرّرنا في اللقاء الماضي ونحنُ نشرع في تفسير سورة الفاتحة أن البرنامج سيأخُذُ طوراً جديداً ألا وهو البدءُ في القرآن حسب ترتيبهِ الذي بين دفّتي المُصحف بعد أن كُنا قد تكلمنا إجمالاً عن أوائل ما أُنزل من السور وعرّجنا على كثيرٍ من القرآن المكي ثُمّ أخذنا من القرآن المدني سورة النور .
والآن نبدأُ في القرآن كُلهِ من أولهِ فانتهينا في اللقاء الماضي المبارك إلى سورة الفاتحة ونحنُ نشرعُ بعون الله تعالى إلى تفسير سورة البقرة حريٌ بنا قبل أن نشرع في تفسيرها أن نُبين أمورً لا يُمكنُ لمن أراد أن يُفسر سورة البقرة أن يتجاوزها هذهِ السورة هي أطولُ سور القُرآن وهي مدنيةٌ بإجماع وهي من أوائلِ ما أُنزل في المدينة وقد قُلتُ في اللقاء الماضي كلمةً ينبغي أن يستصحبها طالب العلم وهو يُفسر ألا وهو الارتباط الوثيق اللازم ما بين القرآن والسيرةِ النبوية وقد مرّ معكُم
يقيناً في سيرتهِ العطرة عليهِ الصلاة والسلام أنهُ في يوم حُنينِ أمر المُنادي أن يُنادي لما أنجفل الناس نداءات عدة منها يا أصحاب سورة البقرة .
هذا النداء موجه للأنصار لأن سورة البقرة من أوائل ما أُنزل في المدينة فكانت تاجً على رؤوسهم وفخراً يفتخرون بهِ أن أطول سور القرآن المُتضمنة لأعظم آيةٍ في القرآن وهي آيةُ الكرسي المختومة بنورٍ أُنزل من تحت العرش وهي خواتيم سورة البقرة ( آمن الرسول بما أُنزل إليهِ من ربهِ ) المُتضمنة لأطولِ آيةٍ في كتاب الله آية الدين .(8/1)
يقولُ بعضُ العُلماء عن سورة البقرة أنها فُسطاط القرآن والفُسطاط الخيمة الضرب الواسع لأنها حوت أمورً عديدة عقدية وفقهية وقصصية .
فهي فُسطاط القرآن بحق وأطولُ سور القرآن والنبيُ علية الصلاةُ والسلام قال " اقرأُ الزهراوين : البقرة وآل عمران " وأخبر أن القرآن يأتي شفيعاً يوم القيامة تتقدمهُ البقرةُ وآل عمران .
هذا الاستحضار والاستصحاب أمرٌ مُهم وسُميت هذهِ السورة بسورة البقرة لورود ذكر اسم البقرةِ فيها في قصة بني إسرائيل ( إن الله يأمرُكم أن تذبحوا بقرة ) .
وقد مرّ معنا وهذا من باب التذكير أن غلب سور القرآن إنما تُسمّى باللفظ المُفردة التي لا تتكررُ في غيرها .
فالبقرة لم يرد ذكرُها إلا في سورة البقرة ، والأعراف لم يرد ذكرهُ إلا في سورة الأعراف ، والفيل لم يرد ذكرهُ إلا في سورة الفيل ، والعنكبوت لم ترد إلا في سورة العنكبوت وهكذا غالبُ سور القرآن هذا سببُ تسميتها اللهم إلا بعضُها خرج عن هذا مثلُ هود ويوسف .
المقصود من هذا كُلهِ هذهِ سورة البقرة بإجمال من أعظم سور القرآن بعد الفاتحة باتفاق العُلماء وقد قُلنا ما ورد فيها من أحاديث هذا مُشتهر والوقتُ لا يسمح بذكر الأحاديث والإطناب فيها لأن هذا معلومٌ عند الناس وقد بينا قول عليه الصلاةُ والسلام " اقرأُ الزهراوين : البقرة وآل عمران " .
نشرعُ الآن مُستعينين بالعلي الكبير في بيان تفسيرها
قال ربُنا وهو أصدقُ القائلين : بسم الله الرحمن الرحيم
( ألم * ذالك الكتاب لا ريب فيهِ هُدىً للمُتقين )
الأحرُف المُتقطعة مرّت معنا من قبل حرّرنا القول فيها في دروسٍ سابقة في قول الله تعالى ( ن * والقلم وما يسطرون ).(8/2)
الآن نعود للآية الثانية وهي ( ذالك الكتابُ لا ريب فيهِ هُدىً للمُتقين ) المقصودُ بالكتاب هنا القرآن وهذا القرآن وإنما جيء بلام البُعد ذالك لبيان التفخيم والتعظيم ( ذالك الكتابُ لا ريب فيهِ هُدىً للمُتقين ) في الوقوف على ريب وما بعده وجهان :
// أن يُقال (ذالك الكتابُ لا ريب ) ثُم نقرأ ( فيهِ هُدىً للمُتقين )
// أو نقول ( ذالك الكتابُ لا ريب فيهِ ) ( هُدىً للمُتقين ) أو نصلها
والوقفُ على ( ذالك الكتابُ لا ريب ) جائز لكنهُ الأفضلُ عدمُ فعلهِ لأنهُ يحصرُ ما بعدهُ تُصبح( فيهِ هدىً للمُتقين ) والأصلُ أنهُ جميعهُ هُدىً للمُتقين [ واضح ]
أنهُ لو قُلنا ( فيهِ هُدىً للمُتقين ) يفهم منها البعضُ قد يكون في بعضهِ دون كُلهِ لكن عندما نقول ( ذالك الكتابُ لا ريب فيهِ) تُصبح (هُدىً للمُتقين ) شاملة للقرآن كُلهِ . هذا أمرٌ يجبُ تحريرهُ
الأمر الثاني :
الريب الشك وهذا خبرٌ أُريد بهِ الإنشاء والمعنى ذالك الكتابُ أيُها المؤمنون هذا هو القرآن لا ترتابُ فيه هذا المعنى لا ترتابُ فيه فيُصبح خبرٌ أُريد بهِ الإنشاء الطلب .
( هُدىً للمُتقين )
من الناحية اللغوية النحوية (هُدىً ) هنا منوّنه وقُلنا منوّنه بمعنى أنها مُنصرفة هذهِ هُدى إذا جاءت مصدر أُريد بها البيان والإرشاد كما هو في الآية تنصرف تنوّن ( هُدىً للمُتقين)
وأما إذا أُطلقت علماً على أُنثى تُسمي بها امرأة فلا تنصرف للعلمية والتأنيث فلو أن لك قريبة أُخت اسمُها هُدى تقول قابلتُ هُدى ، رأيتُ هُدى ، جاءت هُدى من غير تنوين لكنها إذا اُستعملت استعمال المصدر فهي تنوّن . هذا ينبغي التنبُه لهُ من الناحية النحوية .
أما من الناحية المقصود منها القرآن الأسمى ( هُدىً للمُتقين ) المُتقون اسمُ فاعل من اتقى وذُكرت فيها أمور عديدة مرّت معنا من أشهرها أن تعمل بطاعة الله على نورٍ من الله ترجوا ثواب الله وأن تترُك معصية الله على نورٍ من الله تخشى عقاب الله(8/3)
خلّ ِ الذنوب صغيرها و كبيرها فهو التُقى ** لا تحقرنّ صغيرةً إن الجبال من الحصى
وما مرّ معنا من قبلُ وأكثرنا القول فيهِ لا حاجة لإعادتهِ .
القرآن هُدىً وإرشاد وبيان هذا أمرٌ لا نزاع فيهِ لأنهُ من عند الله فمن أنزل القرآن هو الذي خلق البعاد وهو أدرى بمصالحهم ومنافعهم جل جلاله ثُمّ جاء القرآن ليُبين من هُم المُتقون وقبل أن أُبين من هُم المُتقون أقول مُستصحباً السيرة السورة اتفقنا على أنها ماذا ؟ مدنية ،
النبيُ علية الصلاةُ والسلام ــ لأن هذا الكلام الذي سيأتي مُرتبط بما سأأُصلهُ الآن ـ النبيُ علية الصلاةُ والسلام هاجر من مكة إلى المدينة كُل من هاجر هاجر اختيارً لم يُهاجر اضطرارً معنى هاجر اختيارً يعني رغبةً في الدين لا يوجد مُهاجر مُكره على الدين لا يُعقل لا يُتصور أن يأتي مُهاجر مُكره على الدين ، استوطن النبي صلى الله علية وسلم المدينة كان فيها الأوس والخزرج العصبة الكُبرى وثلاث قبائل من اليهود بنو قينُقاع و بنو النظير و بنو قُريظة هذهِ القبائل الثلاث أحلاف للأوس والخزرج الذين هُم عرب
الديانات التي كانت موجودة الأوس والخزرج يعبدون الأصنام على ما جرت عليهِ عادةُ مُشركِ العرب آنذاك ، وقبائل اليهود الثلاث على دينهُم المُحرّف على الملّة اليهودية المُحرّفة على سالفِ ما عليهِ أهلُ الكتاب من قبل
[ واضح ](8/4)
قدم النبي صلى الله علية وسلم المدينة كانت لهُ فيها سابقة كان قبلهُ من الصحابة قد وصلوا إليها وآمنوا ونشروا الإسلام فآمن عددٌ غير قليلٍ من الأوس والخزرج آخى النبيُ بينهم أسماهُم الأنصار إلى الآن ـ هذا مُهم ـ ليست لنبي شوكة متى يحصُل الخوف ؟ عندما تكون عند خصمك شوكة فمن لم يُؤمن من العرب الأنصار من الأوس والخزرج من لم يُؤمن من الأوس والخزرج لا حاجةً أبدً لأن يُظهر الإيمان ويُبطن الكُفر ما في شيء يدعوهُ إلى هذا لأنهُ لا يخافُ أحد واستمرّ الحالُ على هذا الأمر حتى كانت وقعتُ بدر فلمّا كانت وقعةُ بدر وأنكسر سيفُ الشرك وأنتصر المسلمون أضحى للمُسلمين شوكة ولنبي دولة وقوة بالمعنى الحق هذهِ الشوكة هي التي جعلت من كان يُظهر الكُفر أصبح يُبطنهُ ويُظهر الإيمان وهؤلاء هُم ماذا ؟ هُم المُنافقون [ واضح ] هؤلاء هُم المنافقون في الأول كانوا كم قسم ؟ قسمان : ملّة الشرك وملّة اليهود
لما قدم النبي صلى الله علية وسلم أصبحوا ثلاثة : اليهوديين والمُسلمين والمُشركين لما جاءت موقعة بدر هؤلاء المُشركين قلّوا لأن أكثرهُم دخل في الإسلام لكنهُم أصبح بعضً منهُم ماذا ؟ أصبح بعضٌ منهُم مُنافقً يُظهر الإيمان ويُبطن الكُفر .
ما الذي دفعهُم إلى هذا ؟
أنهُ أضحى لنبي عليهِ الصلاةُ والسلام وأصاحبهِ شوكة هذا الذي سبب النفاق لأنهُ إذا كان الأمور مُتساوية ما في داعي كلٌ يُظهرُ ما يشاء لكن هذهِ الشوكة جعلت عبد الله ابن أُبي سلول وغيرهُ من أتبعاهِ يفعلون هذا [ واضح الآن ]
أنزل الله جل وعلا فواتح البقرة ذكر فيها الطوائف الثلاث ذكر فيها أهل الإيمان وأهل الكُفر .
ذكر أهلُ الكُفر ربُنا في آيتين ( إن الذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذابٌ عظيم )(8/5)
أما المُنافقين أطنب في ذكرهم لأن حالهم كان مُلتبساً على الناس فحرّر جل وعلا القول فيهم حتى يكشف عوارهم ويهتك أسرارهم ويُبين وهذا من أوائل ما أُنزل في حقهم ثُم تتابع الأمرُ وانتهى بهِ المطاف في سورة التوبة
[واضح الفكرة العامة الآن]
هذا مهم جداً في مفتاح القضية خاصةً في أوائل معرفتنا بسورة البقرة .
الآن نبدأ بالمؤمنين قال ربُنا
( ذالك الكتاب لا ريب فيهِ هُدىً للمُتقين ) جعل أول أوصافهم ( الذين يؤمنون بالغيبِ ويُقيمون الصلاة ومما رزقناهم يُنفقون ) حصر بعضُ المُفسرين الغيب بالجنة والنار وهذا خطأ بلا شك الله جل وعلا أعظم الغيبيات فإننا نؤمنُ بالله ولم نره ونسأل الله بمنّهِ وكرمهِ أن يمُنّ علينا يرؤيتهِ في الجنة فأعظمُ صفات المُتقين الإيمانُ بالله وبما أخبر الله عنه فنحنُ نؤمن بالجنة والنار لأن ربنا العزيز الغفار أخبر عنها فالإيمان بالغيب أعظم صفات المُتقين
( ويقيمون الصلاة ) الصلاة المعروفة ( ومّما رزقناهم يُنفقون ) وهم بعضُ أهل العلم فحصرها في الزكاة والآيةُ أشمل من ذالك (مّما رزقناهم يُنفقون ) الزكاة والصدقات وما كُلّفوا به شرعاً من الإنفاق على من يعولوا كُل هذا داخلٌ في قولهِ تعالى (مّما رزقناهم يُنفقون ) الزكاة وهي فرض بشروطها ، والصدقات هؤلاء المُتقون يؤمنون بالغيب تصدر بهم القرآن لا يُمكن أن يتركوا الإنفاق العام الصدقات كما يدخُلُ فيها ما كُلّفوا بهِ من القرابة من حقوق القرابة ممن يعولون كإنفاق الرجُل على أولادهِ على زوجتهِ على والديهِ إن كان مُعسرين وأمثالُ ذالك .
( وممّا رزقناهم يُنفقون * والذين يؤمنون بما أُنزلِ إليك وما أُنزل من قبلك و بالآخرة هُم يوقنون )
الآن هنا يا أُخي أنخ المطايا قليلاً هل هذا ذكرٌ لقومٍ آخرين أو هو وصفٌ ثانٍ للأولين
أُعيد
هل هذا ذكرٌ لقومٍ آخرين أو هو وصفٌ آخر لقومٍ أولين ؟(8/6)
فإذا قُلنا وصف آخر يُصبح هؤلاء المُتقون يؤمنون بالغيب ، يُقيمون الصلاة مما رزقناهم ينفقون ، يؤمنون بما أُنزل من قبل ، يؤمنون بما أُنزل إليهم وبالآخرة هم يوقنون هذا أصبحت صفات لكم موصوف واحد .
الحالة الثانية أن يُقال وهذا اختيارُ ابن جرير أن يكون هؤلاء قومٌ آخرون والمعنى يُصبح عندهُم عند من قال بهذا الرأي أن المؤمنين قسمان :
مؤمن العرب وهم من ذُكر في الأول .
ومؤمن أهل الكتاب وهم من ذُكر في الثاني ودلّ عليه ( والذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك)
طبعاً مُمكن أن يُجاب عنها أن المؤمنون الآن يؤمنون بما أُنزل من قبل لكن قصد أنهُ قبل أن تُكلّف بهِ قبل أن ينزل عليك الإيمانُ بهِ هذا تحرير المسألة [ واضح المقصود ]
هذا اختيارُ ابن جرير أنها ليس أوصافً لموصوفٍ واحد وإنما هُم قومان واستدل عقلياً منطقياً على صحةٍ قولهِ أين الاستدلال العقلي المنطقي ؟
قال ما بعدها يدلُ عليها .
كيف يا أُخي ما بعدها يدلُ عليها ؟
ذكر الله بعدها أهل الكُفر وقسّمهم فريقين : كافر أصلي ومُنافق فقال كما قسم الله أهل الكُفر إلى قسمين : أهل الكُفر ( إن الذين كفروا ) ومُنافق ( ومن الناس من يؤمنُ بالله واليوم الآخر وما هم بالمؤمنين ) كذالك هنا قسم المؤمنين إلى قسمين : مؤمنُ من العرب ومؤمنُ من أهل الكتاب من قبل والحقُ أن هذا الرأي لهُ وجهٌ كبيرٌ من الصحة وقويٌ من جهة الاستدلال النقلي والعقلي ولا تعارُض معهُ مع الأول .
(والذين يؤمنون بما أُنزل إليك ) وهو القرآن ( وما أُنزل من قبلك ) أي الكُتب ولو قُلنا أن المقصود بهِ أهلُ الكتاب لا يُعفينا هذا من أن نؤمن نحنُ بما أُنزل من قبل [ واضح ] هذهِ مُهمة جداً .(8/7)
والله جل وعلا قال ( آمن الرسول بما أُنزل إليهِ من ربهِ والمؤمنون كُلٌ آمن بالله وملائكتهِ وكُتبهِ ورُسُلهِ ) فنحنُ نؤمن بالكُتب كُلها التي أنزلها الله ما سمّى منها وما لم يُسمّي ونؤمنُ بالرُسُل كُلهم ما أخبر الله عنهم ومن لم يُخبر .
(والذين يؤمنون بما أُنزلِ إليك وما أُنزل من قبلك و بالآخرة هُم يوقنون * أُولئك ) سواء قُلنا الموصوفان أو الموصوف الواحد (أُولئك على هُدىً من ربهم وأُولئك هم المفلحون )
وكيف لا يكونون مُفلحين وهم على هُدىً من الله ، وكيف لا يكونون على هُدىً من الله وهم قد آمنوا به وما أنزل من كتاب فهي أُمورٌ يستلزمُ بعضها بعضا وطرائق يسوقُ بعضها بعضاً إلى الخير .
إذا أعظم صفات المُتقين حرّرها الله في الخمس الآيات الأُول من سورة البقرة .
ثُم قال ربُنا جل شأنُه وهو أصدقُ القائلين
( إن الذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرهم لا يؤمنون * ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذابٌ عظيم )
المعنى ظاهرٌ هنا لا يحتاجُ إلى مزيد بيان وقد قُلنا تكلم الله عن المؤمنين وهنا يتكلمُ عن ماذا ؟ عن الكُفار
قال ربُنا ( إن الذين كفروا) معنى إن الذين كفروا هنا أي من كتب الله عليهم الكُفر من قبل (سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرهم) يقول ربُنا ( لا يؤمنون ) لماذا لا يؤمنون ؟
لأن الله جل وعلا كتب عليهم الكُفر من قبل ومن كتب الله عليهِ الشقاوةً أزلا لا يُمكن لهُ أن يسعد ثُم قال (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) الختم الكتم الغطاء الطبع كُلها بمعنىً واحد ويكونُ على القلب والسمع أما الغطاءُ الذي على البصر فيُسمى غشاء ولها قال الله بعدها (وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذابٌ عظيم ).(8/8)
ذهب الزمخشريُ في الكشافة ـ في الكشافة يعني في تفسير الكشاف للزمخشري ـ الزمخشريُ أحد أئمة المُعتزلة إلى أن نسبة الختم إلى الله هنا إنما هي لأغراضٍ بلاغية لأن عندهم أن هذا من فعل القبيح والله مُنزهٌ عن القبيح وأهل السُنة سلك الله بنا وبكم سبيلهم يقولون إن الله وحدهُ هو خالق الخير وخالق الشر لكنّه لا يأمرُ إلا بالخير فحكّم عقلهُ مُقابل النقل فحكّم عقلهُ ولوا النصوص مُقابل ما استقر في عقله وهنا أين مكمن الخطأ حتى من الناحية العلمية ؟
أنه استقر في عقلهِ شيء توصل إليهِ عقلاً ثُم جعل المُستقر في الذهن حاكماً على النص والصوابُ أن يستقرّ في الذهنِ أولاً نصوص ثُم هذهِ النصوص على هُدىً من الله تحكُم سواها وليس العقل وغاب عنهُ قول النبي صلى الله علية وسلم " يا مُقلّب القلوب " ( فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) إلى غيرها من الآيات الظاهرة البينة الواضحة في هذا الشأن التي لا يُمكنُ ردُها بحال .
بعد أن ذكر الله جل وعلا أهل الكُفر ولأن كُفرهم واضح فقد ذكرهم الله جل وعلا في آيتين كما حررت ثُم أنتقل ربُنا جل شأنهُ في الحديثِ عن أهل النفاق فقال وهو أصدقُ القائلين :
( ومن الناس من يقولوا آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يُخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفُسهم وما يشعرون في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضا ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون )
من بيانية أو بعضية تأتي على البيانية أقوى ( ومن الناس من يقولُ آمنا بالله وباليوم الآخر ) يعني بلسانه والنفاق قسمان :
// نفاق اعتقادي ومن مات عليهِ فهو خالدٌ في النار .
// ونفاق عملي وهو من أكبر الكبائر " إذا وعد أخلف ، إذا أُتمن خان وإذا حدّث كذب وإذا خاصم فجر " وهذهِ من أكبر الكبائر .
( ومن الناس من يقولُ آمنا بالله وباليوم الآخر ) وقُلنا هذا كُلهُ بعد بدر (وما هم بمؤمنين يُخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفُسهم )(8/9)
معنى (يُخادعون الله والذين آمنوا ) هم يتصورون أن هذا النفاق الذي يظنون أنهُ راجع على النبي صلى الله عليهِ وسلم وأصحابهِ فعُصمت بهِ دمائُهم وتمّ لهم التنافر والتوارُث أنهُ يوم القيامة يروجُ على من ؟ على الله وهذا نبّه الله جل وعلى إليهِ في آياتٍ أُخر قال الله جل وعلا ( يوم يبعثُهم الله جميعاً فيحلفون لهُ كما يحلفون لكُم ) يعنى يعتقدون أنهم هذهِ الأيمان التي أعطوكم إياها في الدُنيا فنالوا بها العصمة في الدماء صدقّتمُوهم أوكلتموهم إلى ظاهرهم أنها ليس هناك من شيء بعيد أكثر من أنهم يُعيدوها يوم القيامة فيظنون في قرارة أنفُسهم أنهم خدعوا أهل الأرض وسيخدعون ربهم يوم القيامة قال الله جل وعلا ( يُخادعون الله والذين آمنوا ) بصنيعهم هذا في اعتقادهم ( وما يخدعون إلا أنفُسهم ) لأنهُ لم يتحقق شيءً من مطلوبهم ( وما يشعرون ) لماذا ما يشعرون ؟
لأن الشعور يكونُ بالحواس وهؤلاء يا أُخي حواسهم مُعطلة لماذا مُعطلة ؟ لأن الله جل وعلا لم يجعلهم ينتفعوا لا بسمعٍ ولا ببصرٍ ولا بقلب ولهذا قال الله في الأول ( إن الذين كفروا سواءً عليهم ) قال ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم ) قال بعضُ أهل العلم طرائق العلم ثلاث :
القلب
والسمع
والبصر
فالقلبُ محل العلم القلبُ محلُ ماذا محلُ العلم يستقر فيهِ العلم ،والرؤيةُ والسمع وسيلتانِ للحصولِ على العلم .
فإذا كان القلبُ مختومٌ عليهِ وكذالك السمعُ والبصرُ عليهِ غشاوة فلا سبيل إلى العلم والهُدى أبداً ولهذا قال الله جل وعلا عن هؤلاء كذالك قال ( يُخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفُسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهُم الله مرضا ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون )
ثُمّ قال جل شأنهُ
( وإذا قيل لهُم لا تُفسدوا في الأرض قالوا إنما نحنُ مُصلحون )(8/10)
كأنهُم حصروا الإصلاح في أنفُسهم في جوابهم وهم أصلاً لا يصنعون إلا الفساد وهذا قد مرّ معنا من قبلُ ومن أعظم الأدلة أنه لا عبرة بالقول إذا كان يُخاف ! يُخالف العمل فقولهم ( إنما نحنُ مُصلحون ) ليس بشفيعٍ لهم لأن أفعالهُم تُخالف ما ؟ ما زعمُه ( وإذا قبل لهم لا تُفسدوا في الأرض قالوا إنما نحنُ مُصلحون ) فحكم الله عليهم بالفساد رغم دعواهم قال جل شأنهُ
( ألا إنهم هم المُفسدون ولكن لا يشعرون )
( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ) المقصود بالناس هنا عامٌ أُريد بهِ الخاص كلمة الناس عامة لكن أُريد بهِ الخاص يعني أصحاب مُحمد صلى الله عليهِ وسلم ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمنُ كما آمن السُفهاء)
السُفهاءُ جمعُ سفيه والسفهُ سذاجةٌ في الرأي وخِفةٌ في العقل ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمنُ كما آمن السُفهاء * ألا إنهم هم السُفهاءُ لكن لا يعلمون )
هنا يتحرّرُ مسألة ::
نحنُ أسميناهم مُنافقٌ وقُلنا إنهم يُظهرون خلاف الذي يعتقدون فكيف يُجاب عن قولهم صراحة ( أنؤمنُ كما آمن السُفهاء ) [ واضح الإشكال ؟]
لأن قولهم ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) ماذا أجابوا ؟
(قالوا أنؤمنُ كما آمن السُفهاء) [ واضح الجواب ]
هم صرّحوا هنا بالكُفر رفضوا الإيمان فكيف يُسمون مُنافقون وقد صرّحوا بالكُفر والمُنافق لا يُصرّح بالكُفر [ واضح الإشكال ؟]
يعني الله يقول ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمنُ كما آمن السُفهاء * ألا إنهم هم السُفهاءُ لكن لا يعلمون ) هم يقولون بنص القرآن كيف نؤمن كما آمن هؤلاء السُفهاء وأنت تقول ـ أيُها المُفسر ـ أن هؤلاء المنافقون ـ خبر فكيف تُجيب عن هذا ؟
الجواب عن هذا لهُ عدة طرائق لكن من أهمها ما يلي :(8/11)
** دائماً إذا أردت أن تُقنع غيرك بشيء أُخرج بهِ عن زحمة ما أنت فيهِ وأظهر لهُ الصورة بجلاء في مكان أخر فإذا ظهرت الصورة بجلاء أخر كُل الذي يصنعهُ ينقُل نفس الطريقة إلى المكان الذي نحنُ فيهِ [ واضح ]
قال ربُنا عن أهل الطاعة0(إنّ الأبرار يشربون من كأس ٍ كان مزاجُها كافورا * عيناً يشربُ بها عباد الله يُفجرونها تفجيرا * يُفون بالنذر ويخافون يوماً كان شرهُ مُستطيرا * ويُطعمون الطعام على حُبهِ مسكيناً ويتيماً وأسيرا * إنما نُطعمكم لوجهِ الله لا نُريدُ منكُم جزاءً ولا شكورا ) الآن هل وجدت مُسلم يُطعمُ سائلاً أو يُنفق مال ويقول لناس إنما أُطعمك لوجه الله ما أُريد منك لا جزاء ولا شكورا هل كان الصحابة كذا يفعلون ؟ أجيبوا
ما كانوا يفعلون كذا [ واضح ] ما كانوا يفعلون هذا إنما شيءً أخفوه فأظهر اللهُ حالهم إكراماً لهم شيءً أخفوه فأظهر اللهُ سرائرهم وحالهم إكراماً لهم [ واضح ] هذا المنُافقون هذا الكلام لا يقولونه بألسنتهم يقولونهُ أين ؟ في قلوبهم فأظهرهُ الله ذُلاً لهم [ واضح ] وهتكاً لأسرارهم كما عامل أهل القلوب الصالحة بأن أظهر ما انطوت عليهِ قلوبهم من صلاح عامل أهل القلوب المُنافقة الفاسدة البغيضة بما انطوت عليه قلوبهم .
قال البغوي في معالم التنزيل :
إن هذا بين بعضهم بعض لكن ظاهرُ القرآن لا يدُلُ عليهِ
وقال بعضُ العلماء :
إنما كانوا يقولونه للمؤمنين لكن بطرائق ملتوية لا تُثبت عليهم النفاق وما قُلناهُ في التحرير الأول إن شاء الله فيهِ خير .
نقول ( كما آمن السُفهاء ألا إنهم هم السُفهاءُ ولكن لا يعلمون * وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) هذهِ صح صحيحة ظاهرة إنها بينة وبين أصحابهِ (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكُم إنما نحنُ مُستهزؤن )(8/12)
مُستهزؤن بمن ؟ بأهل الطاعة قال الله يردُ عليهم ( الله يستهزأ بهم ) أي يخذُلهم ويترُكهم على حالهم دون نصير وهذا قمّة الاستهزاء لأنهم يجعلهم يتمادون معنى ( يعمهون ) يعني يترددون ويتمادون في طُغيانهم ويمدّهُم في طُغيانهم يعمهون حتى ينتهي بهم الأمرُ متى ؟
الله يقول ( كلُ أمرٍ مُستقرّ ) متى ينتهي بهم الأمر ينتهي بهم الأمر أيُها المُبارك في جسرِ جهنم عندما يتساقطون ويقولُ بعضهم لبعض ( انظرونا نقتبس من نوركم ) يُنادُونهم وقتها كما الآيات الأخيرة يوضحون يُكشف الأمرُ كُلهُ ويُرفع الحجاب حقيقة ويعلمون أياً كان
مستهزأً بهم ( الله يستهزأ بهم ويمُدهم في طُغيانهم يعمهون * أُولئك الذين اشتروا الضلالة بالهُدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مُهتدين *)
طبعاُ اشتروا الضلالة الكُفر والنفاق والطُغيان والترددُ بالهُدى بدين الله فأيُ تجارةٍ رابحة إن كان الإنسان يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ثُم ذكر الله أمثالهم قال :
( مثلهم كمثل الذي استوقد نارً فلما أضاءت ما حولهُ ذهب الله بنورهم وتركهم في ظُلماتٍ لا يُبصرون صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون * أو كصيبٍ من السماء فيهِ ظلُماتٌ ورعدٌ وبرق )
هذهِ طويلة لكن سأُلخصها لك قدر الإمكان هذا مثل مثل مُركب تحريرهُ كما يلي :
المطر بهِ حياةُ الأجساد كما أن القرآن بهِ حياة الأرواح
الله يقول هنا هؤلاء المُنافقون حالهم كالتالي : ينزل القرآن من السماء يُحيَ لأنهُ مثل المطر ينتفع بهِ المؤمنون في الدُنيا والآخرة أما هؤلاء المُنافقين ينتفعون ببعضهِ ولا ينتفعون ببعضهِ [ واضح ] ينتفعون ببعضهِ ولا ينتفعون ببعضهِ .(8/13)
للعُلماء فيها أوجه عديدة لكن لا أُحب أن أُطنب فيها لأني أُعطيك الإجمال العام هذا المطر فيهِ برق فيهِ رعد، رعد القرآن زواجرُه ، برق القرآن نوروه في نفس الوقت الظُلمات التي في المطر الحقيقي هي الشكوك التي تنتابهم من قراءة القرآن لأنهم مُعرضون غير مؤمنين بالقرآن فالشك الناجم عنهم مثالهُ في المطر مثال الظُلمات و الزواجر التي في القرآن والتي تُخوفهم مثالهُ في المطر مثال الرعد أما النور الذي في المطر فبالنسبةِ لهم ما نالهم من عصمة الدماء وأنهم يُناكحوا مُسلمين وأنهم يتوارثون فهذا انتفعوا بهِ ماداموا قد أظهروا الإيمان وأبطنوا الكُفر وإن كانوا كافرين لكن كانت تجري عليهم أحكامُ أهل الإسلام فهذا النور الذي انتفعوا بهِ .
هذا تخريج عام وللعُلماء في ذالك بيانات تفصيلية يطولُ الحديث فيها لكن منها :
منهم من قال (كصيبٍ من السماء فيهِ ظُلماتٌ ورعدٌ وبرق ) وقال ( وذهب الله بنورهم ) قال مثل شخص أوقد نارً ثُم كشفت ما حولهُ فرأى الحيّات رأى العقارب رأى ما قرُب منهُ ودنى وتبين لهُ مكانهُ فلما شعر بالاطمئنان ذهب ذالك النور انطفأ تلك النار فهو يقول هؤلاء المُنافقون انتفعوا بالإسلام ظاهرياً عرفوا من حولهم استطاعوا أن يعصموا دمائهم فإذا جاء يوم القيامة لم ينفعهم ذالك النور كما قُلت في الأول على الصراط يُسلب منهم فإذا سلب منهم هذا معنى قولهُ جل وعلا ( ذهب الله بنورهم فتركهم في ظُلماتٍ لا يُبصرون ) حملوها على يوم القيامة .
وللعُلماء كما قُلت أقولاً مُشابهه حول هذا لكن الذي يعنينا جُملةً أن هذا مثال مُركب ذكرهُ الله جل وعلا في أحوا ل أُولئك المُنافقين .(8/14)
بعضُ العُلماء يقول إن المقصود منهُ ( كُلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ) قالوا إنهم يقولون إذا انتفعوا من الدين بشيء هذا الدينُ دينُ خير وإذا أصابتهم بلايا قالوا هذا الدين دين شُئم فيقول هذا معنى ( كُلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ) هذا إن حرّرهُ الأكابر لكنه غير صحيح لماذا ؟
لأن المُنافقين أصلاً لم يكونوا على سندٍ واحد والآية تتكلم عن المُنافقين المُستوطنين في المدينة عن الأشداء منهم لا تتكلمُ عن الأعراب الذين يأتون من خارج المدينة المنافقون الأعراب الذين يأتون من خارج المدينة تنطبق عليهم آيةُ الحج ( ومن الناس من يعبُد الله على حرفٍ فإن أصابهُ خيرٌ اطمئن بهِ ) هؤلاء الذين إذا دخلوا في هذا الدين ينتُج عنهم أن يقولون أحياناً شُئم وأحياناً يقول إنه خير ، أما المنافقون المستوطنون في المدينة الذين كان لهم في الأصل غلبة وكانت لهم وما زالت علاقات قوية من رحمٍ وصهرٍ وتحالُف مع أقويا المؤمنين هؤلاء هم المقصودون هنا وهم لم يكونوا يقولون دين شُئم حيناً ودين خير حيناً لأن قولهم دين خير أحياناً فيهِ بعضُ إيمان هذا ينطبق على مُنافقي الأعراب آية الحج أما التي بين أيدينا على المُنافقين الأولين وسورة البقرة من أوائل ما أُنزل في المدينة قبل أن يدبّ النفاقُ في البوادي وفي الأعراب الذين يُحيطون بالمدينة زمن النبي صلى الله علية وسلم .
ثُمّ! قال الله جل وعلا ـ ولا أدري إن كان بقي وقت ـ
( يا أيُها الناس أعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلّكم تتقون )
ذكر الله جل وعلا في هذهِ الآية المُباركة دلائل على البعث والنشور ذكر ثلاثة أدلة :
الدليل الأول :
( يا أيُها الناس أعبدوا ربكم ) خلقُ الناس ومن قدر على الخلق قادرٌ على الإعادة قال الله جل وعلا ( وهو الذي يُبدأُ الخلق ثُم يُعيدهُ ) .
الدليل الثاني :
((8/15)
اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلّكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء ) أن خلق السماء أكبر من خلق الأرض .
( وأنزل من السماء ماءً فأخرج بهِ من الثمرات رزقاً لكم ) هذا قياس ( إن الذي أحياها لمُحييَ الموتى ).
فهذهِ الثلاث جمعها الله في آيتين وهي الأدلة الصريحة في القرآن أن تُفرّق بعد ذالك في قضيةً إثبات مسألة البعث والنشور .
وأُعيد تحريرُها
(يا أيُها الناس أعبدوا ربكم الذي خلقكم ) أن من بدأ الخلق قادرٌ على الإعادة ( كما بدأنا أول خلقٍ نُعيده ).
الإشارة إلى خلق السماء ومن خلق الأعظم قادرٌ على خلق الأدنى وإن كان الكُل عند الله سواء .
والأمر الثالث : ( وأنزل من السماء ماءً فأحيَ بهِ الأرض بعد موتها ) القياس ( إن ذالك لمُحييَ الموتى ) كما قال الله جل وعلا في أكثرِ من آية هذا إجمال .
ثم نُحرّر المعنى عموماً ( يا أيُها الناس ) هذا نداء عام ( اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلّكم تتقون) والعبودية مرّ معنا أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
1/ عبودية الشرع وهي الفرق بين الحُرٍِ والعبد وهذهِ لا علاقة لها بالآيات .
2/ وعبودية ذلٍ وانقياد وهذهِ يشتركُ فيها الخلاق كُلهم برّهم و فاجرهم قال الله ( إن كُل من في السماوات والأرض إلا أتي الرحمن عبدا ) هذهِ مرت معنا لذالك أقولها على عجل .
3/ وعبوديةُ طاعة وهي المقصودة هنا (يا أيُها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلّكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء ) والسماء في اللغة كل ما على وأرتفع .
( وأنزل من السماء ماءً فأخرج بهِ من الثمراتِ رزقاُ لكم فلا تجعلوا لله أندادً وأنتم تعلمون ) أين مفعول تعلمون محذوف بدلالة المعنى عليهِ أي وأنتم تعلمون أن ليس لهُ أنداد والدعوى أن يجعل العبدُ لله ندا هذا من أعظم الشرك وأجلهِ قال صلى الله عليهِ وسلم " سُئل أيُ الذنب أعظم ؟ قال أن تجعل لله نداً وقد خلقك "(8/16)
ثم ذكر الله جل وعلا آية التحدي المشهورة التي هي واحدةٌ من خمس آيات تحدى الله جل وعلا بها كُفار قُريش والعرب عُموماً ( وإن كُنتم في ريبٍ مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ من مثلهِ وادعوا شُهدائكم من دون اللهِ إن كُنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ) وهذهِ لا يقدرُ على قولها إلا الله ( ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أُعدت للكافرين) .
هذا ما انتهى إليهِ لقاءُ اليوم لأن ما بعدها مُتصلٌ بها وهذا يحتاجُ إلى تحريرِ خطابٍ مُستقل وإن شاء الله تعالى في اللقاء القادم نبدأُ بآية التحدي في قولهِ تعالى (وإن كُنتم في ريبٍ مما نزلنا على عبدنا) نمرُّ عليها الآن هنا إجمالا في اللقاء القادم نشرعُ إن شاء الله تعالى في تفصيلها .
هذا ما تيسر إيرادهُ وتهيأ قولهُ والله المُستعان ولا حول ولا قوة إلا بهِ والصلاةُ والسلام على رسول الله والحمدُ لله رب العلمين ..
أمابعد:
فهذا اللقاء الثاني الخاص بسورة البقرة, وقد سبق أن تكلمنا عن فضلها وعظيم شأنها, وانتهينا إلى ذكر الآية الدالة على البعث والنشور وهي قول الله تعالى: ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم ), وتكلمنا إجمالا عن آية التحدي: ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ), وذلك الحديث كان في آخر اللقاء الماضي فكان مجملا, وفي هذا اللقاء بإذن الله تعالى سنفصل مبتدئين بقول الرب تبارك وتعالى: ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم ) هذا من أعظم المطالب الشرعية في القرآن, لأن عبادة الله جل وعلا هي الغاية من خلق الثقلين, والرب جل وعلا ينادي عباده أجمعين هنا: ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم ), ثم استدل بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية؛ فلما أراد الله أن يثبت أنه وحده المستحق للعبادة؛ ذكر جل وعلا أولا أنه وحده هو الخالق, وهذا من أعظم الأدلة على توحيد الألوهية؛ أنه لا خالق غيره.(8/17)
وقد مر معنا في أمور كثيرة أن الله جل وعلا حكم بين خلقه, وقرر بين عباده أن من - خلق - الخلق هو الذي يستحق العبادة, ولقد استقر... أن الله جل وعلا وحده هو الخالق, فقال سبحانه: ( أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ), وقال تبارك وتعالى: ( واتخذوا من دون الله ءالهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ) ,إلى وقال: ( هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه).
فجعل الله جل وعلا إيمانهم بتوحيد الربوبية ينبغي أن يكون طريقا إلى توحيد الألوهية, وأن الإيمان بتوحيد الربوبية وحده دون أن يُستدل به على توحيد الألوهية وتطبيقه وإفراد الله جل وعلا بالعبادة لا يقدم ولا يؤخر شيئا ولا ينفع صاحبه البتة فقال الله :( يا أيها الناس اعبدوا ربكم ), والرب؛ مر معنا أن لفظ الألوهية يطلق إذا أريد به الإخبار عن حق الله على عبده, ولفظ الربوبية يطلق إذا أريد به حق العبد على ربه, وهذا مر معنا في تفسير سورة طه؛ وقلنا إن الله جل وعلا لما أراد ن يأوي موسى ويُذهب عنه الهم والجزن والخوف قال له: ( إني أنا ربك فاخلع نعليك ), فلما أراد أن يكلفه قال له: ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ), فلما أراد الله أن يبين ما أفاءه على خلقه قال: ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم ), فذكر جل وعلا هنا فضله ونعمه ومنته على خلقه: ( الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) فذكّرهم جل وعلا بأنه وحده هو خالقهم وخالق آبائهم من قبل.
ثم قال: ( الذي جعل لكم الأرض فراشا): تطؤنها وتسيرون فيها, تغدون وتروحون في فجاجها,(والسماء بناءا).
ثم قال: ( وأنزل من السماء ): والمطر لا ينزل من السماء, ينزل من السحاب, لكن باعتبار أن السحاب قريب من السماء في العلو, والسماء في اللغة كلما علا وارتفع نسبه إليه.
((8/18)
وأنزل من السماء ماءا فأخرج به من الثمرات ) لماذا؟ ( رزقا لكم ), وهذا من تعاهد الله جل وعلا لخلقه؛ فلما أثبت الرب جل وعلا أنه وحده الخالق, ووحده الرازق, كان حريا بهم أن يفقهوا أنه ينبغي أن يكون وحده هو المعبود فقال جل وعلا بعد ذلك ناهيا عباده أن يشركوا به قال: ( فلا جعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) لأن الند لابد أن يكون فيه وصف لماذا؟ للمندود, كما أنه قد تقرر عقلا ونقلا أنه لا خالق إلا هو, ولا رازق إلا هو, ولا محيي ولا مميت إلا هو فكيف يكون له ندّ؟! فلهذا قال: ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ).
وكما قلنا في اللقاء الماضي: إن مفعول ( تعلمون ) محذوف لدلالة المعنى عليه, والمعنى: وأنتم تعلمون أنه لا ند له سبحانه وتعالى: ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ).
وقلنا إن هاتين الآيتين تضمنتا الأدلة الثلاثة مجملة: أدلة البعث والنشور.
لماذا أدلة البعث والنشور؟ لأن كفار قريش ما أنكروا شيئا؛ مشركو العرب جملة ما أنكروا شيئا إنكارهم للبعث والنشور, ( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا ), ولهذا قامت الأدلة في القرآن على إثبات البعث والنشور, وهي مجملة في ثلاث:
• الخلق الأول.
وعبر هنا بقوله ( الذي خلقكم والذين من قبلكم ) وشرحه وأظهره وفصله في سور أخرى: ( كما بدأنا أول خلق نعيده ), ( أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ).
• الأمر الثاني: الخلق خلق ما هو أكبر منه.
وأشار إليه هنا بالسماء, وفصله في غافر: ( لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ).
• الأمر الثالث وهو: النظر في المتشابهات.
قال هنا: ( فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ), وهذا إحياء الأرض الميتة, وفصله في سور أخرى: ( إن الذي أحياها لمحيي الموتى ), وهذا كله من أجل إقامة الحجة, وإظهار المحجة حتى لا يكون للناس عذر, ويكون المهتدي على بينة من أمره, ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ).(8/19)
ثم قال: ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ): شاكون مرتابون أن هذا القرآن الذي جاء به محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ليس من عند الله فإن كان من عند غير الله كما تزعمون فهو واحد من أمرين:
- إما أن يكون النبي هو الذي قاله من عند نفسه.
- أو أخذه من أحد مثله, من أحد مثله:يعني بشر آخر غير محمد صلى الله عليه وسلم.
فإما ابتدعه هو, أو أخذه من أحد غيره على حسب زعمكم.
هذا استلال بالمنطق؛ يعني لا يخرج قولكم عن أحد الأمرين.
فإن كان هذا القرآن من عند غير الله كما تزعمون فمعنى ذلك أنكم قادرون على أن تأتوا بمثله, لأن الذي أتى به وفق زعمكم مثلكم, فقال ربنا : ( وإن كنتم في شك مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ), وفي آيات أخر: آية واحدة, وفي آيات أخر : عشر.
وهذه أول آيات التحدي في ترتيب المصحف. أول آيات التحدي في ترتيب المصحف.
والذين يُتحدون هنا, الذين تحداهم الله ليسوا قوما عييِّين, وإنما قوم أرباب فصاحة وأئمة بلاغة عُرفوا بذلك, ومع ذلك قال الله: ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ).
فالعرب كان لا يقوم لهم سوق يفتخرون به كسوق البلاغة والفصاحة, ومع ذلك تحداهم الله في الشيء الذي يتقنونه ويحسنونه ويجيدونه, لكنهم أنى لهم أن يأتوا بمثله لأن الأمر هين في النظرة إليه, أنى لمخلوق أن يأتي بكتاب يماثل كتابا أنزله الخالق. مُحال. أنى لمخلوق أن يأتي بقول أو كتاب يماثل قول أو كتاب الخالق تبارك وتعالى.
( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ) وعبدنا المقصود: النبي صلى الله عليه وسلم, ( فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ).
ثم قال ربنا: ( فإن لم تفعلوا ).
يعني الترتيب المنطقي.
جاءت جملة اعتراضية ( ولن تفعلوا ) فاصل.
الشرط: فإن لم تفعلوا فاتقوا النار , هذا الأصل.
( ولن تفعلوا ) عند البلاغيين يسمى إطناب.(8/20)
وقد مر معنا تحرير المقام البلاغي؛ أن الكلام فيه إيجاز, وفيه مساواة, وفيه إطناب.
والقرآن جاء بالإيجاز والمساواة والإطناب.
لكن إذا كانت هناك مصلحة في الإيجاز كان إيجاز, وإن كانت هناك مصلحة في المساواة كانت مساواة, وإن كانت المصلحة في الإطناب جاء الإطناب.
كقول الله مثلا تبارك وتعالى: ( ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ) فـ( سبحانه ) هذه زائدة, اعتراضية, لكن جيء بها إطنابا لتنزيه الله جل وعلا عما نسبه إليه الغير.
هنا جيء بـ( ولن تفعلوا ) إطنابا حتى يكون إمعانا في التحدي, وبيانا لعجزهم, وقد قلنا من قبل إن هذا الأمر أو هذا القول أو هذا الحكم لا يمكن أن يقوله أحد غير الله.
قرينه في القرآن: ( تبت يدا أبي لهب وتب ) حررنا الكلام عنها في موضعها.
( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ) فالله جل وعلا خلق نارا أرادها نكالا ووبالا لمن عصاه, سيأتي الحديث عنها في موضعه في الآيات المختصة بتفصيل النار, ومر معنا بعضها.
لما ذكر الله مآل أهل الكفر, ذكر مآل أهل الإيمان.
وغالب القرآن أنه يختم بمآل الصالح, كما في قوله تعالى: ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ) ختم بقوله: ( ففي رحمة الله هم فيها خالدون ).
قال: ( وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات ).
فالمبشر.الآمر بالبشارة: الله.
والمكلف بالتبشير: محمد صلى الله عليه وسلم.
والمُبَشَّر: المؤمنون.
والمُبَشَّر به: ( جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل).
سنأتيك من آخر المطاف.
معنى: ( رزقنا من قبل وأُتوا به متشابها ) قطاف الجنة دانية.يرون الثمرة,فيقطفونها.ويأكلونها.فتنبت غيرها, فإذا نبتت غيرها نظروا إليها؛هذه التي نبتت تماما في هيئتها مثل التي قطعت لكنها غيرها في الطعم.
{واضح؟}
هذا أصوب ماقيل في هذه المسألة.(8/21)
وقيل أنها مقارنة بين ثمار الدنيا وثمار الآخرة, وقيل غير ذلك, لكن أظهر ما قيل ما حررناه: يرون الثمرة, يقطفونها, يأكلونها, تنبت غيرها فإذا نبت مكانها غيرها يكون شبيها بالأولى, فإذا استطعموها مرة أخرى وجدوها مخالفة لما غيرها, وهذا معنى قول الله: ( وأُتوا به متشابها ) ولم يقل: متماثلا.
لكن الفرق أن خيار الدنيا حسن وأحسن, أما خيرا الجنة لا رذل فيه, خيار الجنة لا رذل فيه, هذه عبارة ( خيار الجنة لا رذل فيه ) منسوبة إلى قتادة.
ومن قتادة!
قتادة بن دعامة السَّدوسي, أحد المفسرين المشاهير, كان أكمه أعمى, رحمه الله ورحمة واسعة.
( كلما ) لغويا تفيد الاستمرار.
الأخطاء الشائعة في الاستعمال؛ أن الناس يكررونها؛ يقولون: كلما ذهبت إلى زيد كلما وجدت عمروا عنده.
هذا خطأ.
إنما تذكر في الأول فقط ولا تكرر, كما قال ربنا: ( كلما رزقوا ) أي المؤمنون ( منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ), وضُمَّت اللام في ( قبل ) بُنيت على الضم لانقطاعها عن الإضافة . لانقطاعها عن الإضافة.
فإذا أضيفت أصبحت اسما معربا, تجري عليه الأحكام, مر معنا ( من قبل صلاة الفجر ), و ( ومن بعد صلاة العشاء ) فـ( قبل, وبعد ) هنا جُرّت وعوملت معاملة الاسم المعرب, لأنها أضيفت, فإذا انقطعت عن الإضافة انتقلت من كونها اسما مبنيا إلى كونها اسما معربا تجري عليه الحركات. ( قالت أم المقدام : لعل كلمة:( انقطعت عن الإضافة ) في الجملة السابقة سبق لسان ).
قال الله تعالى: ( قالوا ) أي المؤمنون ( هذا الذي رزقنا من قبل وأُتوا به متشابها ولهم) أي المؤمنون ( فيها أزواج مطهرة ) مطهرة من كل سوء, خذها بعمومها أفضل, ( وهم فيها خالدون ) لأنه لا ينغص في الدنيا إلا الموت, ولهذا يُنادى أهل الجنة: أن حياة بلا موت.(8/22)
ثم قال ربنا وهو أصدق القائلين: ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ): مر معنا أن ضرب الأمثال تريد به العرب ثلاثة أمور:
* إيجاز اللفظ.
* ودقة التشبيه.
* وإصابة المعنى.
هذا مر معنا في شرحنا لقول الله تعالى: ( الله نور السموات والأرض مثل نوره ).
هنا يخبر الله جل وعلا أن الرب تبارك وتعالى في بيان الحق للناس الغاية من ضرب الأمثال إظهار الحق, وإقامة الحجج.
والأمثال كما مر معنا لابد أن تكون قريبة من الناس, واضحة, فمن استنكر أن الله قال: ( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ) فعبر بالذباب لأن الذباب أمر لا يختلف الناس فيه؛ معروف, كذلك البعوض, والمقصود إقامة الحجة وإيضاح المحجة وهذا لا يكون إلا بالشيء المتعارف عليه.
والناس أصلا في تلقيهم لخطاب القرآن فريقان:
- فريق يؤمنون كما قال الله في العظماء من أهل الإيمان: ( والراسخون في العلم يقولون ءامنوا به كل من عند ربنا ).
- وأما غيرهم فيصيبهم الشك ( فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ) فيأتي الجواب؛ قال الله تعالى: ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين )..إذا نزلت الأمثال القرآنية والحجج الإلهية اختلف الناس فيها فأهل الفسق يضلون عنها.
ثم ذكر الله جل وعلا جملة من صفاتهم: ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) وأعظم ما أمر الله به أن يوصل: الرحم ( ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون ).
ثم جاء استفهام استنكاري توبيخي
طبعا مرت معنا آيات سبق الحديث عن مثيلاتها فلا حاجة للتكرار.(8/23)
قال: ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون ), كيف: استفهامية اتفاقا؛ والاستفهام هنا يراد به الاستنكار والتوبيخ ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا ) أي في العدم ( فأحياكم) الحياة التي تعيشونها ( ثم يميتكم ) انفصال الروح عن الجسد ( ثم يحييكم ) أي البعث والنشور ( ثم إليه ترجعون )؛ هذا أصوب ما قيل فيها.
********
( هو الذي خلق لكم مافي الأرض جميعا ):
هذه قاعدة أصولية: أن الأصل في الأشياء الإباحة.
( هو الذي خلق لكم مافي الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء ): خلق الله الأرض قبل السماء, فاستوى إلى السماء يعني: انصرف إلى خلقها,. وقد مر معنا أن الفعل ( استوى ) يأتي متعديا بحرف الجر ( على ) ومتعديا بحرف الجر ( إلى ), ويأتي من غير تعد بحرف جر.
فإذا جاء من غير تعد بحرف الجر فيعني الكمال والتمام ( ولما بلغ أشده واستوى ) كمل ونضج.
وإذا تعدى بحرف الجر ( إلى ) وهنا يعني القصد من شيءٍ إلى آخر ) ثم استوى إلى السماء (
.
وإذا تعدى بحرف الجر ( على ) فيعني العلو والارتفاع, ( تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ). وعلى هذا أصبحت ظاهر قول الله جل وعلا: ( الرحمن على العرش استوى ).
( ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ) أقربها إلينا تسمى: السماء الدنيا, لأنها دانية إلينا, وأعلاها: السماء السابعة, وهي معمورة بالملائكة, ( وهو بكل شيء عليم ).
ثم قال جل وعلا: ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون ):
هذه يمكن تناولها من عدة وجوه:(8/24)
* هذا الأمر كان قبل أن يخلق الله جل وعلا آدم, أخبر الملائكة أنه سيجعل في الأرض خليفة, قال بعض العلماء: إن آدم خليفة بمعنى خليفة الله في الأرض في إعمارها, وهذا لا يستقيم شرعا, ولا أرى أنه ينبغي أن يقال به, لأن الخليفة عن الشيء يكون من جنسه, وآدم مخلوق والله خالق؛ هذه واحدة. فنستبعدها أن يكون المقصود بخليفة أي خليفة عن من؟ عن الله.
{واضح الآن}.
ننتقل إلى مسألة أخرى:
* هل خليفة هنا بمعنى خليفة عمن سبق؛ فيكون المعنى: آدم عن غيره؟ أو خليفة اسم جنس أفرد أُريد به الجمع فيصبح الخطاب ليس عن آدم, عن ذريته التي بعده؟ {واضحة الفكرة}.
على الأول: خليفة عمن كان يعمر الأرض؛ على ما ذكره المؤرخون أن الجن كانت تعمر الأرض, وهذا يستقيم نوعا ما باعتبار أن الجن وآدم كلاهما مخلوق. كلاهما مخلوق, وهو عندي بعيد على هذا القول وإن كان يعني قول قال به كثير من العلماء.
ثم تأتي خليفة هنا على أنها اسم أفرد يراد به الجمع, كقوله تعالى: ( خلائف في الأرض ), وقال: ( خلفاء الأرض ) يعني سأجعل من آدم له ذرية يخلف بعضهم بعضا, هذا يصبح معنى كلام الله لملائكته.
فأين الدليل على أن اسم الجنس المفرد في اللغة أو في القرآن من بابٍ أولى يأتي المقصود به الجمع؟
قال الله تعالى في خاتمة سورة القمر: ( إن المتقين في جنات ونهر ) فأَفرد نهر وقصد ماذا؟
أنهار. لأن جنات جمع وأنهار جمع, لكنه أفردها لأنها اسم جنس, وأين الدليل على أنها أنهار؟
أنه قال في آيات أخر فيها أنهار من كذا وكذا وكذا, فالجنة فيها أنهار, وقال: ( تجري من تحتهم الأنهار ), ( من تحتها الأنهار ) قبل قليل مرت معنا, لكنه اسم جنس مفرد أريد به الجمع, وهذا القول اختاره ابن كثير رحمه الله تعالى: أن خليفة هنا اسم جنس أريد به الجمع والمقصود به ذرية آدم. {واضح الآن}. هذا تفصيل معنى خليفة.(8/25)
قال القرطبي رحمه الله :وغيره من العلماء.إن هذه الآية.وهذا مهم في الوقت الحاضر: إن هذه الآية أصل في أن يتخذ الناس إماما وخليفة.
إن هذه الآية أصل في أن يتخذ الناس إماما وخليفة.
يتحرر عن هذا مسألة: هل اتخاذ الخليفة واجب بالشرع, أو واجب بالشرع والعقل, أو واجب بالعقل ؟
قالت الإمامية. من الإمامية؟
فرقة من فرق الشيعة.
الإمامية الاثني عشرية قالوا: إنها واجبة بالعقل.
وقال بعض العلماء إنها واجبة بالشرع .
والصواب أنها واجبة بالشرع والعقل.
واجبة بالشرع والعقل.
هذه المسألة الأولى.
المسألة الثانية:ما هي طرائق تنصيب الإمام شرعا؟
ما هي طرائق أو صور تنصيب الإمام والخليفة شرعا؟
لها عدة صور:
الصورة الأولى :إجماع أهل الحل والعقد.أو اتفاق أكثرهم عليه.
مثاله خلافة من ؟
الصِّدِّيق .
فإن الصحابة رضي الله عنهم من أمراء المهاجرين والأنصار أجمعوا على خلافة أبي بكر.
هذا على القول أن أبا بكر لم ينصبه النبي صلى الله عليه وسلم, أنا ما أريد أن ندخل مسألة الخلاف هذه .نبدأ بما هو ظاهر
الحالة الأولى : ماذا؟
إجماع أهل الحل والعقد عليه.
الحالة الثانية في تنصيب الخليفة المسلم .
أن يوصي له من قبله.
أن يوصي له من قبله.
مثاله: عمر .فقد أوصى له من؟
أبو بكر, وصى بعمر خليفة من بعده. كما وصى عمر للستة من بعده
قلنا ماهي الطريقة الأولى:
إجماع أهل الحل والعقد, أو اتفاق أكثرهم مثلنا له بخلافة الصديق.
الحالة الثانية: الإمام الذي قبله يوصي له به, لأنا إذا اتفقنا أنه موجود إمام له بيعة شرعية وأوصى لواحد من بعده أنت مطالب بماذا؟ بما قاله الإمام؛ الأول لأن الأمام الأول له بيعة, فقوله نافذ, فإذا وصى لمن بعده لا حاجة لأن تأتي بأهل الحل والعقد على الثاني. {واضح}.(8/26)
فلما وصى أبوبكر لعمر لم يجتمع الناس ليقرروا يوافقون على عمر أولا يوافقون, لأن الأول كان له بيعة شرعية. {واضحة الفكرة}. فبدهي جداً أن يكون مما أمرنا الله بطاعته فيه اختياره عن لمن بعده ,هذه الحالة الثانية.
الحالة الثالثة:
أن يتغلب على الناس بسيفه وقوته.
أن يأتي إنسان يُمكن له في الأرض بسيفه وقوته, ومثلوا لها بخلافة عبد الملك بن مروان؛ فإن عبد الملك بن مروان لم يوصِ له من قبله, ولم يجتمع عليه أهل الحل والعقد, وإنما غلب الناس بيد الحجاج؛ لما قَتَل الحجاج عبد الله بن الزبير دانت الأرض لمن؟ الأرض الإسلامية لمن؟ لعبد الملك بن مروان. {ظاهرة هذه}.
هذه الحالات الثلاث التي يكون بها تنصيب الوالي أو الإمام المسلم, وقلنا إن الآية أصل في قضية الخلافة.
( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون )
,,,,,,,,,,
( وعلم آدم الأسماء كلها ):
هذه واحدة من أربع شرف الله بها آدم. وهي: بقيت ثلاث:
الأولى منها: المذكوة في الآية: علمه أسماء كل شيء.
* خلقه بيده.
* نفخ فيه من روحه.
* و أمر الملائكة بالسجود له.
هذه لم تجتمع لأحد.
خلقه بيده, نفخ فيه من روحه, و أمر الملائكة بالسجود له. {طيب}.
من آدم؟
علمٌ عظيم.
آدم أبو البشر عليه السلام, نبي مكلم صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, خلقه الله جل وعلا بيده بنص القرآن, ونفخ فيه من روحه, وأمر الملائكة بالسجود له.(8/27)
قال الله تعالى: ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم ) أي الأسماء ( على الملائكة فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء ) قال الشنقيطي رحمه الله في التفسير: المقصود المسميات ( إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك ) وهذا من أدب الملائكة عند ربها ( سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ) فالإنسان إذا سُئل عما لا يعلم لا يضره أن يقول: لا أعلم, فقد قالت الملائكة بين يدي ربها ( سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ).
( قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ):
هذا حوار كان في الملأ الأعلى بين الرب جل جلاله وبين ملائكته يظهر فيه علم الله جل وعلا الذي يحيط بكل شيء, وعجز علم المخلوقين ولو كانوا ملائكة مقربين.
ثم, هذه أشياء ظاهرة لا تحتاج إلى تعليق أكثر من هذا.
ثم قال الله جل وعلا – وهذه نختم بها - : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ).
الله جل وعلا يمن على من يشاء بفضله.
أمر ملكا من الملائكة أن يقبض قبضة من الأرض؛ من هذه القبضة مزجت بطين, ثم إن هذه شُكل منها يعني خلق منها آدم, ثم نفخ الله جل وعلا في آدم فدبت فيه الروح, ثم أمر الله جل و علا الملائكة بالسجود له.
الأمر بالسجود أمر رباني.
من سجد من الملائكة, وهم كلهم سجدوا, سجدوا طاعة لمن؟
لله.
سجود تحية لمن؟
لآدم.
وليس سجود عبادة أن الملائكة سجدت عبادة لمن لآدم.
فنحن مثلا في الصلاة نسجد تجاه القبلة, فنحن لا نعبد الكعبة, وإنما نتعبد الله بالسجود إلى جهة الكعبة.
نرفع يدينا إلى أعلى إلى السماء, فنحن لا نعبد السماء, لكن نتعبد الله برفع أيدينا إلى السماء لأن ربنا في السماء.{واضح؟}
فسجدت الملائكة إجلالا لله وإكراما لمن؟
لآدم.(8/28)
كان إبليس وقتها يغدو ويروح مع الملائكة, هذا الذي يدل عليه ظاهر القرآن, ولم يكن من الملائكة ؛ يعني لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين, وقد بينا في سورة الكهف القرائن والأدلة أنه ليس من الملائكة:
- أنه عصى, والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم.
- وأنه مخلوق من نار, والله جل وعلا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مخلوقون من نور.
- وأن الله قال في نص القرآن: ( إلا إبليس كان من الجن ), وذكرنا أشياء أخر.
لما أمر الله الملائكة بالسجود امتنع إبليس؛ والسبب في منعه: القياس. قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين, فجعل إبليس أن كونه مخلوقا من عنصر النار أفضل من عنصر الطين, فأدخل القياس مقابل النص, وهذا أخذ منه الأصوليون أن القياس إذا عارض النص يسمى: قياس فاسد الاعتبار. يسمى : قياس فاسد الاعتبار.
لو سلمنا جدليا أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين فلا سبيل بهذا القياس إلى أن نرد نصا وهو قوله: ( اسجدوا ). وهو قوله: ( اسجدوا ).
والخلف في النص والإجماع دعا *** فاسد الاعتبار كلُّ من وعى
يعني كل من وعى من العلماء ( دعا ) يعني: سمى مخالفة النص والإجماع أنها قياس فاسد الاعتبار, وأول من اتخذه طريقا: إبليس.
( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ):
أبى: أي امتنع.
واستكبر: دخله الكبر.
والكبر مر معنا في دروس عدة أنه أول ذنب عُصي الله جل وعلا به.
تلبس به إبليس فاستكبر,كما تلبس آدم بالحرص فأكل من الشجرة, وكما تلبس قابيل بالحسد فقتل أخاه؛ مع الفوارق في الذنوب, فكل ذنب عُصي الله به مرده إلى أحد هذه الثلاثة:
إما كبر, وإما الحرص, وإما الحسد.
قال ابن القيم رحمه الله: أصول الخطايا ثلاثة:
الكبر.
والحرص.
والحسد.
الكبر, والحرص, والحسد.
( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين).
. , . , . , . , . , .
((8/29)
وقلنا يا ءادم اسكن أنت وزجك الجنة ): بعد أن خلق الله جل وعلا آدم خلق منه زوجه حواء, واختلف العلماء: هل كان خلق حواء بعد دخول آدم الجنة؟ أو قبل دخولها؟ وهذا حررناه في سورة طه.
( وقلنا يا ءادم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا ) بألف التثنية, خطاب الاثنين ( منها ) أي من الجنة ( رغدا حيث شئتما ) ثم جاء الابتلاء القرآني ( ولا تقربا هذه الشجرة ) والله لم يذكر ما هي الشجرة ( فتكونا من الظالمين )بأكلكما لها, ظالمين لمن؟ لأنفسكما, ( فأزلهما الشيطان ) وهذا عام بينه الله أنه وسوس لهما وأنه قاسمهما إني لكما لمن الناصحين, وهذه كلها مرت معنا.
( فأخرجهما مما كانا فيه ) أي من نعيم الجنة ( وقلنا اهبطوا ) بواو الجمع.
وحررنا مسألة: هل هي الجنة في السماء السابعة؟ أو الجنة في السماء الدنيا؟ أو الجنة في الأرض؟ هذا كله مر معنا.
( وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ): قال بعض العلماء: إن مما أُهبط الحية, واحتجوا بأن الله قال: ( بعضكم لبعض عدو ) بقرينة أن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر الحيات قال:( ما سالمناهن منذ حاربناهن ), فأبليس عدو بالاتفاق, والحيات دلت عليها السنة, فلا يُستبعد أن تكون الحية أُهبطت معهم, فإن المشهور عند المؤرخين: أن إبليس دخل الجنة عندما وسوس لآدم في خياشيم الحية. وهذا من مليح القول لا من متين العلم, ولا يتعلق به أمر ولا نهي, ولا ثواب ولا عقاب, فلا تُعنِّف إذ لم تقبله, ولا حرج عليك إن قبلته.
( ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ) أي ما كتبه الله جل وعلا للناس أن يبقوه.(8/30)
ثم قال الله جل وعلا - وهذا من أعظم الأدلة على رحمة الله بعباده أن فتح لهم باب التوبة - قال : ( فتلقى آدم من ربه كلمات ) فآدم عليه السلام لما فاء إلى ربه وندم على ما كان منه, الذي علمه كيف يعود هو الرب المعبود جل جلاله, وهذه الكلمات لم تتضح في سورة البقر, لكنها ظهرت في سورة الأعراف: ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ), وقد جاء العلماء يقولون في الحياء؛ إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض من حيائه من ربه لم يرفع بصره إلى السماء.
( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ) أي ربه ( إنه هو التواب الرحيم ).
وقد جعل الله جل وعلا باب التوبة مفتوحا حتى لا يأخذ أحد صورة كاملة عن نفسه قبل أن يموت. { واضح } يعني لا يوجد نهاية لك تصل إليها, فالإنسان معرض للطاعة ومعرض للمعصية ( إنه هو التواب الرحيم ).
ثم كرر الأمر ( قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ):
هذه لها نظائر كثيرة في القرآن, مجملها يدل على أن الله جل وعلا أنزل آدم فلما اجتالت الناس الشياطين بعد عشرة قرون من نزوله أرسل الله الرسل بدءا بنوح, وختاما بمحمد صلى الله عليه وسلم, وأنزل مع هؤلاء الرسل الهدى والنور والبيان, ثم أخبر عباده من قبل ولاحقا أنه من آمن منهم واتبع ذلك الهدى الذي أنزله فلا خوف يعتريه عند الموت, ولا حزن ينتابه بعده, وأما من غلبت عليه شقوته وكذب ما أنزله الله, واتبع هواه, وأفرط على نفسه؛ فأولئك أصحاب النار مستقر لهم ومتاع هم فيها خالدون, مثيلهم مثل أهل الجنة الذين قال فيهم: ( وأزواج مطهرة وهم فيها خالدون ).
والله جل وعلا حكم عدل ورب ذو فضل, وهذه أمور أخبر الله جل وعلا بها لتقوم بها الحجة على عباده.(8/31)
ثم قال جل وعلا: ( يابني اسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ): والحديث عن بني اسرائيل سيأتي إن شاء الله مستفيضا في اللقاءات القادمة, لكن قبل أن أنهي؛ أبين أن الله جل وعلا في سورة البقرة لما ذكر الطوائف الثلاث التي حررناها, وهم : المؤمنون الخلَّص, والمنافقون, والكافرون, كان يبين أحوال معاصرة يعيشها المجتمع المدني, وحتى يكون للناس سَير؛ لابد أن يتعظوا بما سبق, فبعد أن بين الله جل وعلا حال المخاطبين, ذكر لهم حال السابقين حتى يتعظوا فيهم, فما أفلحوا فيه ونجوا بسببه أخذوا به, وما كان سببا في هلاكهم وبعدهم عن الله كان عليهم أن يتوخوه, والله جل وعلا الراية في قيادة البشرية جعلها راية روحية, فكل أمة حملت الدين: صدرها الله جل وعلا, فصدر الله بني إسرائيل في حقبة من الدهر: ( ولقد اخترناهم على علم على العالمين ), فلما زاغوا وقتلوا الأنبياء, وأعرضوا عن طريق الله جل وعلا سلب الله منهم هذه الراية, وقيادة الناس, وزمام البشرية, وأعطاه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم, فحتى تكون هذه الأمة على بينة في أمرها في سيرها إلى طريق الله؛ أكثر الله جل وعلا في القرآن من خبر بني إسرائيل, وقول الله جل وعلا هنا: ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ) أول آية وفق ترتيب المصحف الذي بين يدينا يتحدث عن بني إسرائيل, وسيأتي بعد ذلك أمور كثيرة في أحوالهم, وأخبارهم, وأحوالهم مع أنبيائهم على وجه الخصوص حتى تعرف هذه الأمة أمة محمد التي أعطاها الله قيادة البشر فيما أخطأ السابقون فيجتنبوه, وبما ساد السابقون فيأخذوا بزمامه, وهذا كله من دلائل قول الله في أول السورة: ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ), فمن هداه ما ضرب الله فيه من أمثال, وما أخبر الله فيه من أخبار, وما قص الله فيه من قصص, وما بين الله به من شرائع يتعظ بها الحاضر والباد إلى يوم يقوم فيه الأشهاد, ويحشر فيه العباد.(8/32)
جعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
وجعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بهذا القرآن, ويعمل به, سائلين الله لنا ولكم التوفيق والسداد.
نقول كما نقول دوما:
هذا ما تهيأ إيراده, وأعان الله على قوله, وهو وحده الموفق والمسدد..
وصلى الله على محمد وعلى آله..
والحمد لله رب العالمين,.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, أحمده سبحانه وتعالى على آلائه ونعمه, وأسأله جل وعلا المزيد من فضله وكرمه, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, لا رب غيره, ولا إله سواه, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد:
فيتجدد في هذا اللقاء التعليق والتأويل لسورة البقرة؛ فسطاط القرآن.
وقد مضى القول أن هذه السورة المباركة؛ سورة شَمَلت الكثير من الأحكام والمعارف, وشتى ما يمكن أن يتعلق بحياة المسلمين في مجتمعهم المدني, ذلك أنها من أوائل السور التي أنزلت في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد مر معنا أن النبي عليه الصلاة والسلام لما خاطب الأنصار يوم حنين أمر مناديا أن ينادي: ( يا أهل سورة البقرة ), لأن الأنصار أهل المدينة الأولين كانوا لا يفخرون بشيء بعد إيمانهم أكثر من فخرهم بنزول هذه السورة بين ظهرانيهم في مدينتهم , فنسبت إليهم.
وقد مر معنا كما قلت في أول الحديث أنها فسطاط القرآن.
وانتهينا في اللقاءات الماضية إلى قول الله جل وعلا: ( فتلقى ءادم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ) إن فتح باب التوبة من أعظم الدلائل وأجل القرائن على إرادة الله بعباده الرحمة, لأن الله لو لم يرد بعباده الرحمة لأقفل عليهم باب التوبة.(8/33)
لكن! وقعت المعصية من آدم عندما استزله الشيطان, فكان سماع آدم للشيطان وخضوعه لقوله في جزئية ما؛ هي الأكل من الشجرة سببا في خروجه منها, لكن الرحمن الرحيم تداركه برحمته, قال الله جل وعلا: ( فتلقى ءادم من ربه ) وفي هذا إشعار أن الله أراد أن يرحم هذا العبد الصالح, وقد قال الله جل وعلا وقد مر معنا في سورة طه: أن الله اجتباه, وهداه, وغفر له.
ولذلك حررنا فيما سلف أنه لا يقال في حق آدم أنه عاصٍ على إطلاق, إنما إذا أريد أحد أن يتحدث عن آدم عليه السلام يتحدث عنه باللفظ والمقدار الذي ذكره القرآن.
الأدب معه من جهتين:
- من جهة أنه أب لنا, نسبنا إليه: ( يابني ءادم ).
- والأعظم من ذلك أنه نبي, بل ونبي مكلم كما صح بذلك الخبر عن رسولنا صلى الله عليه وسلم.
الله هنا لم يذكر ما هي الكلمات.
لكن! قلنا في نهاية الدرس الماضي: أن العلماء قالوا: إن الكلمات هن اللواتي ذكرهن الله جل وعلا في سورة الأعراف: ( ربنا ظلمنا أنفسنا ).
لكن قول الله جل وعلا هنا: ( فتلقى ءادم من ربه ) ليس فيه طرد لحواء, بل هي مندرجة معه, لكن قال أهل العلم – ونعم ما قالوا – قالوا:
إن المرأة مستورة, لا تذكر إلا لحاجة.
فهنا لم يذكر الله جل وعلا توبة حواء لأنها تبع لآدم, كما ذكر الله في المعصية, قال: ( وعصى ءادم ربه فغوى ) ولم يذكر معصية حواء, وإن كانت القرائن تدل على أن آدم إنما أكل من الشجرة بمشورة من حواء, لكن المقصود: أن المرأة مستورة, ( حرمة مستورة ) وفق تعبير القرطبي رحمه الله, فعلى هذا لم يذكرها الله.
لكن كون عدم ذكرها لفظا لا يعني أبدا أن الله لم يقبل منها شيء, تدل عليه آية الأعراف: ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ).
نقول قال الله بعد ذلك – وهنا يبدأ لقاؤنا الذي نحن فيه - : ( قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ):(8/34)
أول ما يشكل على طالب العلم هنا عندما يريد أن يتأمل هذه الآية هو: أن الهبوط تكرر مرتين!
تكرر قبل قليل: ( وقلنا اهبطوا منها بعضكم لبعض عدو ), وتكرر بعد آية: ( فتلقى ءادم من ربه كلمات ), أي أن آية: ( فتلقى ءادم من ربه كلمات ) جاءت فاصلا مابين ذكر الهبوط الأول والهبوط الثاني.
على هذا اختلف العلماء:
هل الهبوط الأول هو عين الهبوط الثاني, وإنما اللفظ تكرر؟
أو أن الهبوط الأول غير الهبوط الثاني؟
توضيح المسألة:
من العلماء من يقول إن الهبوط الأول إنما هو هبوط من الجنة إلى السماء الدنيا, لآدم.
هبوط من الجنة إلى السماء الدنيا, ثم جاءت آية: ( فتلقى ءادم من ربه ), ثم جاء قول الله جل وعلا: ( قلنا اهبطوا منها جميعا ) فقالوا هذا الهبوط غير الهبوط الأول, وإنما هبوط من السماء الدنيا إلى الأرض.
لكنني أقول: أن هذا بعيد, لأن اللفظ:
جاء على هيئة جمع ( اهبطوا ), هذا واحد.
والأمر الثاني: ذكرت الأرض في الأول ولم تذكر في الثاني, لو ذكرت في الثاني لكان لقولهم مسوّغ, لكن القول الأول بعيد؛ لأن الأرض ذكرت في الهبوط الأول ولم تذكر في الهبوط الثاني.
فحسن حمل الثاني على الأول.
لكن صعب حمل الأول على الثاني.
فنعود فنقول: الذي يظهر والعلم عند الله: أن المسألة مسألة بيان لفظي, وبلاغي.
والمعنى:
لما ذكر الله الهبوط, فصل عن ذكر ما حصل لآدم بعد ذلك, وما كلف الله جل وعلا به بنيه بعد ذلك فصله بذكر التوبة على آدم.
فلما ذكر ربنا التوبة على آدم؛ عاد وكرر الهبوط حتى يبدأ السياق من جديد ويؤخذ بخطاب لفظي بعد أن تُرك. {يظهر هذا؟}.
قال الله تعالى: ( قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى ) هنا لم يذكر العداوة, وذكرها في الأول: ( اهبطوا منها بعضكم لبعض عدو ).(8/35)
والمشهور - والعلم عند الله - وقد قلت فيما سلف : أننا نذكر أحيانا شيئا من متين العلم يتعلق به جنة ونار, ويتعلق به حكم شرعي, ونذكر أحيانا نتفا من مليح القول يغلب على الظن أنها مقبولة, لكن لا يُبنى عليها أمر عملي, لكنها تفتق الذهن, وتوسع المدارك, وتجعل مجالات المعرفة واسعة بين يديك, فتقيس أنت بعد ذلك الأشباه والنظائر, وسيتكرر هذا كثيرا.
هبوط آدم مر معنا ذكر العلماء فيه.
الهبوط هنا ظاهر الأمر أنه تم لأربعة:
لآدم.
وحواء.
وإبليس.
والحية.
لآدم, وحواء.
و إبليس, والحية.
أما آدم وحواء وإبليس؛ فلا أظن أحدا ينازع فيها, لكن القضية قضية الحية, لابد من قرائن تدل على هذا.
المشهور عند أهل العلم أن إبليس دخل الجنة عندما أراد أن يوسوس لآدم عند طريق, عن طريق الحية. هذا واحد.
الأمر الثاني: النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق الحيايا: ( ما سالمناهن منذ أن حاربناهن ), و في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في منى, في غار, - والقرآن مرّ معك: منه مدني, ومنه مكي, ومنه ليلي, ومنه نهاري, ومنه سمائي, ومنه أرضي, ومنه في الكهوف, والمعنى باعتبار النزول – فكان النبي صلى الله عليه وسلم في غار ومعه أصحابه, ويتلو عليهم : ( والمرسلات عرفًا ), لتوّها نزلت, يقول ابن مسعود: لتوّها نأخذها رطبة من فيه عليه الصلاة والسلام؛ فإذا بحية, فقال صلى الله عليه وسلم: ( اقتلوها ), قال فابتدرناها لنقتلها فآوت, يعني: رجعت إلى جحرها, فقال عليه الصلاة والسلام: ( سلمت من شركم, وسلمتم من شرها ), شركم: يعني القتل, وشرها: أذاها.
هذه القرائن تدل على أن الحيايا عدو, فتؤكد أن الحية هي رابع من نزل من السماء مع آدم وحواء وإبليس.
يتعلق بالحديث هذا نقطة مهمة جدا:
وهو أن الورع شيء قلبي.(8/36)
ليس شيئا مصطنع يُصنع ليراه الناس, وإنما الورع ينبثق من ذات الإنسان, فإذا جاء عند المرء ما يغلب على الظن أنه ليس بورع تركه, ولو ظن الناس أن في تركه ترك للورع.
أين هذا من القصة؟
هذا نبي الأمة, رأس الملة, يتلو قرآن, وحوله أصحابه, فتخرج حية, فيقطع الوحي, ويقول: ( اقتلوها ), الصحابة يتركون النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن, توقف, ويذهبون إلى حية يقتلونها.
لو حدث هذا في زماننا لشنَّع الناس على فاعليه, لأن المدارك تختلف.
شتان ما بين همه رضوان الناس, كيف يصل إليهم؟
وبين من همه الحقائق, كيف تطبق على الوقائع؟
يختلف الصنفان اختلافا جذريا.
العدو عدو, لا يمكن أن يتغير ولو لان مرة,أو اتفقت مصالحك مع مصالحه مرة يبقى عدوا لايؤمن.
ولا يوجد عاقل له مسكة من عقل يأمن عدوه قط.
إذا أمن عدوه فقد أسلم نفسه لعدوه يسوقه كيف يشاء.
قيل لمعاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه: ما بلغ من عقلك؟
قال: لن أأمن أحدا قط.
طبعا؛ درجات الناس.
فإذا كان هذا مع الخلان والأصحاب, والخلطاء, والقرباء, فكيف بالأعداء!
وإذا كان إبليس قد أقسم لأبوينا أن ينفعهما فأهلكهما بالذنوب, فكيف وقد أقسم لله أن يهلكنا! ماذا سيفعل بنا!!
فأعظم الأعداء إبليس, ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ), على هذا سواء في عداوتنا مع إبليس فرارا منه طلبا للآخرة, أو مع غيره ممن حولنا, العدو عدو, والإنسان العاقل يكون واضحا في تعامله, ثمّت أمور يمكن إرجاؤها, وثمّت أمور لا تقبل الإرجاء ولا التأخير أبدا, كقتل الحية هاهنا.
( قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ):
الإنسان أعظم ما يعتريه: أن يخاف مما هو قادم عليه, أو أن يحزن من شيء قد فات.
هذا أعظم ما يعتري العبد.(8/37)
فلما كان كل بلاء ينضوي تحت هذين؛ أمَّن الله جل وعلا أهل طاعته منه, فتكرر في القرآن كثيرا: ( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ).
ولكن الناس كلما بعد فقههم عن ألفاظ القرآن ومعانيه, جعلوها ألفاظا دارجة على ألسنتهم.
فيكثر على ألسنة العامة؛ يذكرون سياقا من القول ثم يقولون: ولا هم يحزنون, ويرونها كلمة هينة يتمون بها كلامهم لبعد الناس عن المعنى الحقيقي لمراد لله جل وعلا.
الإنسان إذا جابه الموت؛ يخشى مما بعده.
يخشى من القبر.
يخشى من الصراط.
لا يدري أين مآله؟
ويحزن على ما كان لديه من قرابة, وأهل, ومنصب, وجاه, ومال, وأولاد, وضعفاء, وزوجة, وغير ذلك, فتؤمنه الملائكة مما هو قادم, وتطمئنه ألا يحزن على ما قد فات.
ومن وفق لهذين فقد سلم, وهو السلام الذي أراده الله بقوله في حق الحبيبين النبيين: يحيى وعيسى: والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا. ( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ).
ثم قال الله جل وعلا: ( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ):
الآن كن طالب علم؛ ائت بها بالعكس؛ ( هم فيها خالدون ) قُدم فيها الجار والمجرور على الخلود, فأفاد ماذا؟
أفاد الحصر.
أفاد الحصر. أي أنهم خالدون فيها أبدا. هذا معنى: ( هم فيها خالدون ), قلنا سنبدأ بالعكس.
نأتي لصدارة الآية:
( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا ):
هذه القرينة: ( هم فيها خالدون ) أُتي به لتذهب عنك اللبس. لماذا قال الله: ( وكذبوا بآياتنا )؟
معلوم أن الكفار مكذبون بالآيات, لكن الله قالها حتى لا ينصرف الكفر الأول إلى كفر النعمة.
لو قال: والذين كفروا بآياتنا قد ينصرف إلى كفر النعمة, وكفر النعمة لا يوجب الخلود على إطلاقه, لكن هنا قال: ( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النارهم فيها خالدون ), فقول الله جل وعلا: ( هم فيها خالدون ) دلالة على أنه يقصد الكفار الحقيقيين.(8/38)
وقد دل على أنه يقصد الكفار المنكرين للبعث واليوم الآخر طريقان:
الطريق الأول: قوله بعدها: ( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا ).
والطريق الثانية: الحصر في قوله جل وعلا: ( هم فيها خالدون ) أي: النار.
هذا كله مما سلف كان يتكلم عن أحوال أهل الكفر, وتقريعهم وبيان الحق لهم.
ثم انصرفت السورة إلى ذكر اليهود.
وناداهم ربهم جل وعلا بقوله: ( يا بني إسرائيل ).
اليهود كانوا يسكنون المدينة كما مر معنا في التأصيل الأول في سورة البقرة, وهؤلاء كانوا في الأصل على ملة موسى ثم إنهم بدلوا كما هو معلوم.
كان في هؤلاء اليهود حملة كتاب يقرؤن كتابهم, مطلعون على أسراره, والقرآن – وهذا مهم استصحابه قبل الحديث – جاء معجزا بلفظه للعرب, وجاء معجزا بعلمه لأهل الكتاب.
أُعيد:
- هذا من نفائس العلم, تُدوَن –
القرآن جاء معجزا بلفظه للعرب, وجاء معجزا بعلمه لأهل الكتاب.
جاء معجزا بعلمه لأهل الكتاب.
أما تحرير ذلك, تحرير ذلك وبيانه على الوجه التالي:
العرب كانوا أمة بليغة, فلما نزل عليهم القرآن على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم إنما أذهلهم ذلك الرقي في البيان الذين هم أهل صنعته ولم يقدروا على أن يحاكوه, فلهذا نسبوه إلى كل شيء: ( إن هذا إلا سحر يؤثر ).
أما اليهود العبرانيون فلم ينزل القرآن بلغتهم؛ نزل بلغة العرب, لكنهم كانوا أهل علم, فكشف الله بالقرآن أجمّا من العلم الذي كان مكنونا في صدورعلمائهم, فكان الإعجاز بالنسبة للقرآن إليهم أن ما لم يُطلِعوا عليه أتباعهم, أطلع الله الأتباع عليه, وأخرج الله جل وعلا ما هو مكنون في صدور أولئك العلماء للناس.(8/39)
فكما كان القرآن معجزا بلفظه للعرب, كان معجزا بعلمه لأهل ماذا؟ لأهل الكتاب, وهذا الذي سيأتي بعض هذه الأخبار التي ذكرها الله عن بني إسرائيل لا يعرفها إلا قلة من أهل الكتاب, بل إن منها من لم يعرفه أهل الكتاب أصلا, وهذا كله حتى يستبين لهم أن هذا النبي هو النبي الموعود الذي بشر الله جل وعلا به, والأنبياء من قبله. {ظاهر؟}
() . () . () . () . () . ()
قال الله تعالى: ( يا بني إسرائيل ), المقصود من القرآن: كسب الناس, ووعظهم.
فلاطفهم ربهم هؤلاء اليهود حتى تقوم الحجة وتتضح المحجة ناداهم الله جل وعلا نداءا كريما: ( يا بني إسرائيل ), وإسرائيل قطعا هو من؟ يعقوب عليه السلام ابن إسحاق ابن خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
من ذريته نشأ بنو إسرائيل.
فنادهم الله تعالى باسم عبد صالح هو إسرائيل.
وبعض العلماء كالجوهري في الصحاح يقول: إن الأنبياء الذين لهم اسمان, يعقوب: إسرائيل, ويعقوب. يعني له اسمان.
ومحمد, وأحمد. جاءت في القرآن.
وذكر ذو الكفل و اليسع أو إلياس أنهم شخص واحد, لكن الحق أن الجوهري رحمة الله تعالى عليه صاحب الصحاح وإن كان إماما في اللغة لكنه ليس معدودا في علماء التاريخ, فقوله هذا لا يقبل, أما يعقوب وإسرائيل فنعم, وأما محمد وأحمد فنعم, أما أن إلياس هو نفسه ذو الكفل لا, فرق القرآن بينهما. {هذا واضح؟}, ثم ذكر المسيح, المسيح اختلف هل هو اسم أو لقب, والمقصود أن إطلاقه في كتابه على هذا غير ظاهر الدلالة.
نعود للآية:
قلنا إن الله نادى هؤلاء اليهود نداء كرامة, فنسبهم إلى عبد صالح استعطافا لهم.
( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون ):
لله جل وعلا على كل خلقه نعم, لكن على بني إسرائيل نعم مخصوصة.
الآن ذكر الله الإجمال وسيأتي التفصيل بعد ذلك.
لكن من أعظم النعم؛ نجاتهم من فرعون والمن والسلوى في الصحراء, وكلها ستأتي تباعا.
((8/40)
وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ):
اختلف العلماء في المقصود بالعهد, وضربوا فيه مضارب شتى, وأجمعها عندي أن يقال: ( أوفوا بعهدي ) أي بامتثال أوامري, وهذه عبارة البغوي رحمه الله في التنزيل.
( أوفوا بعهدي ) أي: بامتثال أوامري.
( أوف بعهدكم ) أي: بالقبول والثواب.
( أوف بعهدكم ) أي: بالقبول والثواب.
( وإياي فارهبون ).
( وءامِنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ):
( ءامِنوا ): أمر واضح.
( بما أنزلت مصدقا لما معكم ): هو القرآن.
وما الذي معهم؟
التوراة.
الذي معهم ماذا؟ التوراة.
( ولا تكونوا أول كافر به ): من المعلوم أن القرآن أول ما نزل نزل بمكة, فأول من كفر بالقرآن مشركو قريش, فلا يقولن قائل إن في القرآن تعارض, لكن فهم السياق يساعد على الوصول إلى الحقائق.
الحقيقة تقول: إن هذه الآيات مخاطب بها في المقام الأول علماء اليهود, أحبارهم, كعب بن الأشرف وأمثاله, وهؤلاء كانوا يسوسون الناس, وفي كل ملة: الناس تبع لعلمائهم.
لهذا قيل:
معشر القراء يا ملح البلد ** من يصلح الناس إذا الملح فسد
بالملح نصلح ما نخشى تغيره ** فكيف بالملح إن حلت به الغِيَر
هؤلاء كعب الأشراف وأمثاله من أحبار يهود آنذاك كانوا رؤوسا, ولم يكن هناك يهود في مكة, فلما أنزل الله القرآن على نبيه في المدينة كما أنزله عليه في مكة, خاطبهم الله جل وعلا لأن أصل الصدارة لهم: ( يا بني إسرائيل ) فيخاطب الله العلماء: ( ولا تكونوا أول كافر به ) من أهل الكتاب فيتبعكم الناس على ذلك على ذلك الكفر. {واضح؟}
( ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ) مناسبة قول الله جل وعلا: ( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ):
بعض الملل – كما هو بعض المذاهب المعاصرة – تقوم على أن يدفع الأتباع للرؤساء, تقوم على أن يتبع الأتباع لماذا؟ للرؤساء.(8/41)
فيجد الرؤساء المتصدرون الآخذون بزمام العلم كسبا من سفلة الناس وعامتهم, ودهمائهم, فإذا بينوا الحقائق للناس؛ الحقائق التي أنزلها الله, لا الحقائق التي أضاعوا الناس بها, يحصل من هذا أن العامة يتركونهم, فإذا تركوهم خسروا ذلك المتاع الذي يجنونه من ورائهم, فالله جل وعلا يقول: لا يمنعنكم أيها الأحبار ذلك الكسب الدنيوي الذي تحصلون عليه من الأتباع أن تتقوا الله جل وعلا في هذا النبي فتخبروا أتباعكم بأن هذا النبي حق من عند من عند الله.
أما قول الله جل وعلا: ( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ) فكل ثمن مقابل القرآن فهو فهو قليل.
كل ثمن مقابل القرآن فهو قليل.
ولو أن أحدا أعطي الدنيا على أن يتكسب بالقرآن لأجل مسألة دنيوية محضة فهي تعد قليلا, بل لا يوجد قياس أبدا ما بين أي كسب دنيوي بالقرآن وبين القرآن, لكن هذا لا يعني عدم أخذ الأجرة على تعليم القرآن هذه مسألة أخرى اختلف العلماء فيها, وأكثر العلماء اليوم على الجواز محتجين بحديث: ( إن أعظم ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ).
نعود للآية:
قال الله جل وعلا: ( ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ):
مسألة نحوية تتكرر أحيانا, ( ولا تكونوا أول كافر به ), ( كافر ): مجرورة لأنه صفة لموصوف محذوف.
صفة لموصوف محذوف.
و التقدير: ولا تكونوا أول فريق كافر به.
ولا تكونوا أول فريق كافر به.
وإنما أُجبرنا على هذا القول؛ لأن العرب في اسم التفضيل لابد أن يوافق ما بعده ما قبله, ( ولا تكونوا ) فيها واو جماعة, التي قبل اسم التفضيل ( أول ), فلا بد أن يكون ما بعدها مجموع, وكلمة: ( كافر ) مفرد, فلا تناسب واو الجماعة في: ( ولا تكونوا ), فيصبح التقدير: ولا تكونوا أول فريق, أول قوم كافر به.
( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ).
( ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ):(8/42)
و الحق الذي كتمه أحبار اليهود: هو التعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ثم دعاهم الله جل وعلا للإيمان والدخول في سلك الرحمن, قال جل وعلا: ( وأقيموا الصلاة و ءاتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين )
^ ^ ^ ^ ^ ^ ^ ^ ^
ثم قال: ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ):
يقال في تحقيق هذه الآية – والعلم عند الله - : أن بعض علماء يهود كان إذا جاءهم عامة اليهود وأخذوا عليهم عهودا ومواثيق أن يبينوا لهم الحق بينوه, لكنهم لا يتبعونه – أي الأحبار - فعاتبهم الله جل وعلا بقوله: ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) وهذه الآيات قال العلماء كابن سعدي وغيره: وإن جاءت في سياق اليهود وذكر ما يوعظون به ويزجرون, إلا أن هذه الأمة مخاطبة بها, فالمؤمن الحق الذي يريد أن يكون رأسا في الدين؛ يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويلتزم جماعة المسلمين, وإذا أَمر بشيء بدأ به بنفسه.
لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله ** عار عليك إذا فعلت عظيم
ابدأ بنفسك وانهها عن غيها ** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
والأبيات تنسب لأبي الأسود الدُّؤَلي – رحمه الله تعالى -, واسمه: ظالم بن عمرو, وله من اسمه نصيب, فإنه دخل المدينة في اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولما دخلها كان الصحابة لتوِّهم قد فرغوا من دفنه عليه الصلاة والسلام, فلم ير أبو الأسود رسولنا صلى الله عليه وسلم, فلا يعد صحابيا, يعد تابعيا لأنه رأى الصحابة.
وكان رجلا إماما في النحو إماما في القراءة, إماما في العلم, إماما في الأخبار, في شتى شؤون الحياة, و قد مرت معنا بعض أخباره, لكنه كان مبتلى بالبخل, ويقولون إنه شذ عن القاعدة؛ العرب تقول: لا يسود بخيل, وإنما ساد اثنين من البخلاء: عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه كان فيه نوع من الشح, وظالم بن عمرو الذي هو أبو الأسود الدؤلي, هذان سادا رغم شحهما وبخلهما.(8/43)
والنبي عليه الصلاة والسلام لما قال للأنصار: ( من سيدكم؟ ), قالوا: الجد بن قيس على بخل فيه, قال: ( وأي داء أدوأ من البخل؟!, ليس بسيدكم ), لأن طالب المال لا يمكن أن يسود.
بالعلم والمال يبني الناس ملكهم ** لم يُبن ملك على جهل وإقلال
وقال المتنبي:
الجود يفقر والإقدام قَتَّال.
هذا الذي منع الناس من الوصول إلى معالي الأمور, الإنفاق, الشح إما بالمال أو بالنفس.
وطلاب المجد لا يشحون لا بأنفسهم ولا بمالهم.
نحن خرجنا عن المقصود, لكن لما تكلمنا عن بيت أبي الأسود الدؤلي: لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله , و ( تأتيَ ) هنا جاءت منصوبة, لا تنطقها: وتأتيْ, ( وتأتيَ ), لأن الواو هذه جاءت بعد نهي فتضمر بعدها ( أن ) وجوبا, ويصبح الفعل منصوبا بـ( أن ) وجوبا, دل عليه أن الفعل مسبوق بطلب, وهو هنا: النهي.
قال الله جل وعلا: ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون * واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ):
الصبر في اللغة: الحبس.
الصبر في اللغة: الحبس.
ولذلك يمر معك وأنت تقرأ كتب التاريخ: قُتِل فلان, ماذا؟
صبرا.
معنى صبرا: يعني حبسا.
يعني قُتِل وهو ينظر إلى الموت, ليس في ساحة المعركة, وإنما حُبِس حتى ينتظر الموت, هذا معنى قتل فلان صبرا.
لكن بعض العلماء يقول: ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) يقولون: إن الصبر المقصود به هنا: الصوم.
ويستدلون على ذلك بدليلين:
أحدهما: أثر, والأخر: - ما ضد الأثر؟ -
النظر.
أحدهما من الأثر, والآخر من النظر.
أما دليلهم من الأثر فيقولون: إن رمضان يسمى شهر: الصبر.
وأما من النظر فإنهم يقولون: إن الصلاة ترغب في الآخرة, والصوم يزهِّد في الدنيا.
أُعيد:
الصلاة ترغب في الآخرة, والصوم يزهِّد في الدنيا, وهذان من أعظم أسباب النجاة.
لكن الحق الذي ندين الله به, أن الصبر هنا بمعناه العام, ولا يمكن تخصيصه بالصوم, يَبْعُد تخصيصه بالصوم.
((8/44)
واستعينوا بالصبر والصلاة ): الله جل وعلا أمرنا أن تستعين بالصبر والصلاة, لكن نستعين بهما على أي شيء؟
هذا مهم فهمه.
إنما نستعين بهما: على أن نذكر الآخرة, وندفع بلاء الدنيا.
نستعين بهما: على أن نذكر الآخرة, وندفع بلاء الدنيا.
( واستعينوا بالصبر والصلاة ).
ثم قال ربنا: ( وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ):
أكثر أهل العلم يرى أ ن الإفراد هنا ليس مقصودا, وإنما لكبيرة عائدة عل الاثنين, عائدة على الصبر, وعلى الصلاة.
ويحتجون بأنه جرت سنن العرب في كلامها أنهم يطلقون المفرد يريدون به المثنى, أو يثنون ويريدون به المفرد, أما قولهم هذا فحق, لكني أقول إن قول الله: ( وإنها لكبيرة ) مقصود به: الصلاة فقط.
( إلا على الخاشعين ).
( الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ):
مر معنا أن الإنسان كلما تيقن أنه سيلقى الله, هذا أعظم البواعث على الطاعة.
كلما تيقن المرء أنه سيلقى الله, كان أعظم باعثا في نفسه على الطاعة.
وإنما تأتي المعاصي و الإسراف في الذنوب واقتحام الكبائر, والسفر إليها وعدم المبالاة فيها, من قلب رجل ليس متيقنا بملاقاة الله.
هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما, أو يأكلون الميراث, ويمنعون أصحاب الحقوق, هؤلاء غالب الظن أن اليقين في قلوبهم بملاقاة الله بعيد, لذلك يتجرؤون على المعاصي تجرءا غير محمود, لكن الله جل وعلا قال: ( وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ), ولهذا السياق القرآني دائما يتكلم عن هذ القضية: ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ), ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ), ( إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ), ( والذين ءامنوا مشفقون ), هذا أسلوب القرآن في تغيير قلوب العباد.
-_-_-_-_-_-_-_-_-
ثم قال الله جل وعلا: ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ):(8/45)
من أعظم أخطاء أصحاب الملل: أنهم يظنون أن المقاييس الأخروية كالمقاييس الدنيوية, فإن الإنسان قد يقع منه الخطأ والتثريب في أمر الدنيا, لكنه قد ينجو بعوامل أخرى تساعده؛ كالشفاعة, أو كالفدية, أو كالنصرة, لكن هذه الثلاث كلهن ممنوعات في الآخرة, غير موجودة, قال الله: ( واتقوا يوما ) هو اليوم الآخر, ( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) لا يستطيع أحد أن يتحمل وزر, وزر الآخر, ( ولا يقبل منها شفاعة ) المقصود الشفاعة الماذا ؟
المنفية.
لأن المعتزلة ينفون الشفاعات على إطلاقها.
وأهل السنة يبينون أن منها ما هو منفي, ومنها ما هو مثبت, وقد حررنا ذلك في موضعه.
( ولا يؤخذ منها عدل ):
هناك يا بُنيّ: عَدل, وعِدل.
عَدلٌ بالفتح, وعِدلٌ, بماذا؟ بالكسر.
إذا كان الفداء من جنس المفدي فهو عِدل.
أُعيد:
إذا كان الفداء من جنس المفدي فهو عِدل.بالكسر.
وإذ كان من غير جنسه فهو: عَدل.
ذكر الله مايقع من البعض من الصيد في الإحرام, حال الإحرام وهو حرام, فقال جل وعلا بعد ذلك: ( أوْ عَدل ذلك صياما ) فجاء بها بالفتح, لأن الصيام غير ماذا؟
غير الصيد. {واضح؟}, الصيام غير الصيد.
لكن إذا كان الفداء من الجنس يسمى: عِدل.
كما جاءت في ألفاظ مُهَلْهِل ربيعة وهي طويلة: ليس عِدلا, وهو يتكلم على أنه قَتَل من بني بكر كثيرا, وأنه يقول مهما قتلت منكم لا يكون مكافئا ولا فداءا لكُليب أخي, لأنه معلوم أن مهلهل قاتل أبناء عمومته من أجل ماذا؟
من أجل قَتْل أخيه كُليب, وكُليب قتله جساس, فأسرف مُهلهِل في القتل, وأئمة اللغة والمفسرون يستشهدون بهذه الأبيات كثيرا لأنها فصيحة عربية, وينسبونها إلى مهلهل هذا إلى أنه أول من قال, أول من قال الشعر.
لكن: ليس عِدلا من كليب, هكذا أبيات قد لا أذكرها الساعة, لكن المقصود منها: أنني لو قتلت منكم من قتلت لا يكون كفؤا لمن؟
لكليب أخي.
والشاهد كسر العين, لأن كلهم من جنس واحد بشر,(8/46)
لكن لما ذكر الصيام وهو غير الصيد, قال جل وعلا: ( أوْ عَدل ذلك صياما ).
( ولا يؤخذ منها عدل ولا هم يُنصرون ).
ثم قال: ( وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبِّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم * وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ):
هذه الآيات مر معنا نظائر كثيرة منها في سورة طه, لكن أحب أن أبين حاجة:
وهي قضية أن الله جل وعلا مليك مقتدر, وما كتبه الله جل وعلا في اللوح سيكون, وفرعون أصل قصته عنده:
أنه رأى رؤيا, أن نارا تخرج فأحرقت أهل مصر كلها ولم تُصب بني إسرائيل بشيء, وكان بنو إسرائيل يوم ذاك مستضعفون في أرض مصر بعد أن دخلوها, دخلها يعقوب أيام ولاية ابنه يوسف, فقرر فرعون أن يقتل كل مولود كما هو معلوم, أراد فرعون بذلك أن يمنع وجود موسى, فمن أجل أن يمنع فرعون وجود موسى قتل اثني عشر ألف صبي.
وأين موسى كان؟
في قصره!
يأكل من طعامه ويشرب من شرابه.
قال بعض أهل العلم: فشمَّر فرعون عن ساق الاجتهاد, وحَسَر عن ذراع العناد, يريد أن يسبق القضاء ظهورُه, ويأبى الله إلا أن يَتم نورُه.
أُعيد:
فشمَّر فرعون عن ساق الاجتهاد, وحَسَر عن ذراع العناد, يريد أن يسبق القضاء ظهورُه, ويأبى الله إلا أن يَتم نورُه. _ بناء للمعلوم_
فلا يمكن أن يغلب أحد مراد الله.
الله يقول: ( والله غالب على أمره ).
وإنما هي سنون تُطوى وأيام تنقضي, ثم ينجلي مراد الله.
فبنو إسرائيل الله جل وعلا يمُنّ عليهم بهذا الأمر: ( وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ), ما هو سوء العذاب؟
( يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ) يستحيونهم يعني: يُبقونهم أحياء حتى يكونوا للخدمة ولأشياء أخر لا تُذكر, ( ويستحيون نساءكم ).
( وفي ذلكم ): هذه إشارة, ( بلاء من ربكم عظيم ).(8/47)
عجيبٌ من المفسرين أن يجنحوا إلى أن البلاء هنا بمعنى النعمة, ويقولون: إن المقصود النجاة, امتن الله بها على بني إسرائيل.
والحق أنه يجب صرف البلاء هنا على النقمة, والمقصود أن الله جل وعلا يبين لبني إسرائيل ما كانوا فيه من بلاء عظيم, فيصبح المنة من أين جاءت؟
جاءت أنكم كنتم في بلاء عظيم فأنجاكم الله منه. {واضح؟}.
كقول الله جل وعلا في حق الخليل إبراهيم: ( إن هذا لهو البلاء المبين ), فجعل الله جل وعلا ما ابتُلي به إبراهيم بلاء عظيما, حتى يكون لفداء إسماعيل بالكبش له نوع من القبول, له نوع من الموافقة والسياق والاتزان مع عظيم البلاء, فهذه عندي هي مثلها, ولا حاجة لأن يقال: إن البلاء يأتي في اللغة بمعنى النعمة ويستشهدون بقول الله جل وعلا: ( و نبلوكم بالشر والخير فتنة ) هذا صحيح, لكنه ينبغي أن يُعرف القرآن من سياقه الذي أُُنزِل فيه. ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ).
( وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ):
هذه هي الآية الخمسون من سورة البقرة, نقف عندها.
قال الله جل وعلا: ( وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ):
مر هذا معنا مفصلا في سورة طه.
هنا يمتنّ الله جل وعلا على بني إسرائيل بما كان من إنجائه إياهم, وهلاك عدوهم, ولا ريب أن النجاة من العدو والسلامة منه من أعظم المنن التي يمتن الله بها على بعض خلقه, لكن الله قال: ( وأنتم تنظرون ) فهذه نعمة مشهودة للآباء, وليست للأبناء, والمخاطب في الآية من؟
الأبناء.(8/48)
بدليل قول الله تعالى: ( يا بني إسرائيل ) والقرآن لا يخاطب أقواما قد ماتوا, لا تقوم عليهم حجة, وإنما الأصل أن الإنسان تبع لمن قبله إن لم يعلن تبرُّؤه منه, فهؤلاء بنو إسرائيل أمة واحدة في تسلسل النسب, والله جل وعلا هنا يخاطب الأبناء ممتنا عليهم بنعمه على الآباء, حتى يقيم الحجة عليهم, ويبين لهم أن الرب الذي امتن على آبائكم يطالبكم أن تتبعوا هذا النبي الأمي الذي ظهر بين أظهركم, ولهذا قلنا – مر معنا - أن حسان لما قال مفتخرا بمن ولد لامته العرب, وقالت له افتخر بمن ولدك.
هو قال رضي الله عنه:
ولدنا بني العنقاء وابني محرِّق ** فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابن ما
فقالت له الخنساء, أو قال له النابغة الذبياني: قال له: يا ابن أخي! افتخرت بمن ولدت, ولم تفتخر بمن ولدك.
والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( أنت ومالك ) لمن؟
( لأبيك ) فنسبها إلى الأعلى, ولا يقول للأب: أنت ومالك لابنك, هذا محال.
فالمقصود: هنا يمتن الله جل وعلا على الأبناء بما أنعم به على الآباء, حتى تقوم الحجة وتتضح المحجة على أولئك الأبناء.
ومن أعظم ما من الله به على بني إسرائيل في الزمن السابق والدهر الفائت
أنه منَّ عليهم بالنجاة من كيد فرعون بعد أن انقلبت الحالة؛ كان فرعون يسومهم سوء العذاب؛ يذبِّح الأبناء ويستحيي النساء فأغرقه الله جل وعلا وهم ينظرون إليه ولم يعمل بنو إسرائيل لهذا ولا رمحا واحدا, وإنما أغرقه الله جل وعلا بقدرته, وأنجاهم بفضله ورحمته, حتى تقوم الحجة عليهم وقد أُقيمت, ثم أخبرهم بذلك كله.
وقلنا: بعض هذا العلم كما سيأتي لم يكن يعرفه حتى الأحبار, فذكره الله جل وعلا على لسان الرسول المختار حتى تقوم الحجة, وحتى كما قلنا في الأول إن القرآن حجة علمية على بني إسرائيل كما هو حجة لفظية على العرب, وهو حجة في كل شيء على كل أحد.
حجة في كل شيء على كل أحد.(8/49)
ثم قال الله جل وعلا: ( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ):
هذا إن شاء الله سنشرع به في اللقاء القادم بإذن الله.
هذا ما تيسر إيراده, وتهيّأ إعداده, والله المستعان, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وصلى الله على محمد وعلى آله.
والحمد لله رب العالمين,,
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيهِ وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له خالقُ الكونُ بما فيهِ وجامعُ الناس ليومٍ لا ريب فيهِ وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمدً عبدهُ ورسولهُ صلى الله علية وعلى آلهِ وأصحابهِ وأتباعهِ ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين بإحسانٍ
أما بعد .......
فقد كُنا قد انهينا إلى قول الله جل وعلا في الآية الخمسين من سورة البقرة
( وإذ فرقنا بكُم البحر فأنجيناكُم وأغرقنا آل فرعون وأنتُم تنظرون )
وسبق القولُ أن هذهِ الآيات جاءت تبعاً لنداء الله جل وعلا لبني إسرائيل في قولهِ سُبحانهُ ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمتُ عليكُم ) ثُم ذكر الله جل وعلا بعضً من أخبارِ بني إسرائيل مُمتناً على الأبناء بما فضل الله جل وعلا بهِ الأنباء فأقام الحُجة عليهم وأظهر لهم المحجّة .
ثُم قال الله جل وعلا ( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثُم اتخذتمُ العجل من بعدهِ وأنتُم ظالمون )
نستصحبُ هنا أنهُ قد مرّ معنا ذكرُ الكثير من هذهِ الأخبار في شرحنا لسورة طه فلا معنى لتّكرار لكننا سنعلّقُ قدر الإمكان ما يستوجبهُ المقام فنقول ( وإذ واعدنا ) هذهِ فيها مُفاعلة فكان الأمرُ من الله والقبولُ من ماذا؟ من موسى ولهذا قال الله (وإذا واعدنا موسى ) لأن كلمة واعدَ تتطلب اثنان ولهذا قال الله ( وإذ واعدنا ) فكان الأمر من الله والقبول من موسى .(8/50)
بعضُ العُلماء يقول كان الوعدُ من الله والوفاءُ من موسى ، واعد الله جل وعلا موسى عند جبل الطور في الفترة التي في المُدة التي كان فيها موسى عند ربهِ يُخاطبُهُ عند جبل الطور عند الميقات الزماني والمكاني اتخذ بنو إسرائيل العجل أتخذ فعلٌ يتعدى إلى مفعُولين والآن تأمل :
اللُغة مفتاح لفهم القرآن فأحياناً تجد أمور لا تنتهي لغوياً لك تكتمل الآية تُحدث عندك إشكال وجود الإشكال هو أولُ طرائق العلم لأن ما هو العلم ؟
حل الإشكالات الموجودة هذا العلم [ واضح ]
فنقول : تقول مثلاً :. اتخذ يزيدُ التدريسَ مهنةً
فلو قُلت اتخذ يزيدُ التدريس احتاجت المسألةُ إلى اكتمال إما أن يُفهم من السياق أو أن تقولهُ أنت لفظاً [ واضح ]
هذا العجل معروف دآبة من البقر صغار البقر لو جاء إنسانٌ واتخذ العجل طعاماً لضيفهِ فلا يُمكن أن يُحرّج عليهِ فيهِ بل هذا هديُ الأنبياء فإن إبراهيم ذبح العجل قُرباناً لضيفهِ [ واضح ]
الله جل وعلا هُنا يقول ( ثُمّ اتخذتُم العجل من بعد هِ وأنتُم ظالمون )
اتخذتُم فعل وفاعل والعجل مفعول بهِ أول لكن أين المفعول بهِ الثاني ؟
لم يذكُرهُ الله لكن معلومٌ لكُل أحد من سياق الآيات في البقرةِ وطه وغيرهما أنهم اتخذوا العجل ماذا ؟ إلهً يُعبد من دون الله .
من طرائق القرآن في التشنيع عدمُ ذكر الشيء لعظمتهِ وشناعتهِ إذ لا يُتصوّرُ عقلاً حتى يقع لفظاً. فالله لم يذكُر في القرآن واتخذتُم العجل إلهً إذ لا يُتصورُ أن أحدً يعبُدُ العجل بعد أن عرف الله [ واضح] .ولهذا لم يأتي المفعول الثاني لأتخذ هنا ظاهراً وإنما أُضمر لبيان الشناعة في اتخاذهِ ظاهرٌ الأمر الآن .
قال الله جل وعلا ( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ً )
في فترة الغياب هذهِ اتخذ بنو إسرائيل العجل إلهٍ ( ثُم اتخذتُم العجل من بعدهِ وأنتُم ظالمون * ثُمّ عفونا عنكُم من بعد ذالك )(8/51)
أي من بعد اتخاذكُم العجل إلهٍ ( لعلكُم تشكرون ) لعلهُ يكونُ سبباً في شُكركُم .
( وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفُرقان لعلكُم تهتدون )
هنا نقول في كُل ما مضى الآية التي مبدوءة ( وإذ ) مبدوءة بإذ هذهِ الشرطية تتعلّق بقضية الزمان معناها واذكروا إذ ، معناها ماذا ؟ واذكروا إذ ءاتينا موسى ، واذكروا إذ جعلكُم ، واذكروا إذ فرقنا [ واضح ] هذا المعنى .
قال الله تعالى ( وإذ ءاتينا موسى الكتاب الفُرقان لعلكُم تهتدون)
من المعلوم أن الواو التي بين الكتاب والفرقان هي واو عطف والأصلُ في العطفُ أنهُ يقتضي المُغايرة فهل الفُرقانُ هنا غير الكتاب ؟
بعضُ المُفسرين يقولون ــ طبعاً الكتاب المعروف أنهُ التوراة لأن الكتاب الذي أُنزل على موسى هو ماذا ؟ التوراة ــ يقولون إن الكتابَ هو الفرقان التوراة هي ماذا هي الفرقان ويحتجون بسورة المؤمنون ويقولون في العطف هنا إن هذا عطفٌ في الصفات لا في الذوات ويُنزّل التغايُر في الصفات منزلة التغايُر في في الذوات وهذا مرّ معنا تحريرهُ فيما سبق بمعنى أن التوراة التي أنزلها الله على موسى وصفت بأنها كتاب ووصفت بأنها فرقان وممن رجّح هذا العلاّمة الشنقيطي رحمة الله تعالى عليهِ في أضواء البيان واحتجّ بقول الله جل وعلا (سبّح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوّى * والذي قدّرَ فهدى ) فجاء بالعطف والكلامُ كُلهُ عن إلهٍ واحد هو الله جل جلالهُ لكن هذا تغايُر في ماذا ؟ في الصفات ليس تغايرً في الذات [ واضح ] واضح جلي هذا .
هذا ما اختاروه والحقُ يصعبُ علي قبولهُ هنا ــ الحقُ هذهِ تمهيد ليس يصعبُ علي قبول الحق الحق يجبُ قبوله ــ أقول بالنسبة لنا نرى أن الفرقان غير الكتاب لماذا؟
لأن الكتاب ليس صفة إنما هو الاسمُ الأول لتوراة ، الكتاب ليس صفة إنما هو الاسم الأول الجامع لتوراة وإنما الفرقان أو كونهُ ضياء أو كونهُ ..هذهِ صفات.(8/52)
فلو قال وإذ ءاتينا موسى الفرقان والضياء لقُلنا أنها صفات لكن هذهِ تُنزّلُ عندي على قول الله جل وعلا ( واذكُرن ما يُتلى في بيوتكُن من آيات الله والحكمة ) فآيات الله القرآن والحكمة ما أعطاهُ الله نبيهُ غير ماذا؟ غير القرآن وقطعاً مثل ما أُتي نبيُنا صلى الله علية وسلم نورً وفُرقانً غير القرآن يحكُم بهِ ويهتدي بهِ أُعطي أنبياء الله من قبل كموسى وهارون مع التوراة شيءً خاصاً بهم غير الكتاب الذي يُتلى على ماذا ؟ على قومهم [ واضح ]
هذا الذي يترجح والعلمُ عند الله .
( وإذ ءاتينا موسى الكتابَ والفُرقانَ لعلّكُم تهتدون * وإذ قال موسى لقومهِ )
أي واذكروا إذ قال موسى لقومهِ ( يا قومِ إنكُم ظلمتُم أنفُسكُم باتخاذكُمُ العجل فتُوبُوا إلى بارئكُم )
الآن لم يأتي معنا كلمة إله لكن وضحت الآن باتخاذُكُم العجل ماذا ؟ إلهٍ (فتُوبُوا إلى بارئكُم فاقتُلُوا أنفُسكُم ذالكُم خيرٌ لكُم عند بارئكُم )
هنا أمرهم الله جل وعلا بقتل أنُفُسهم والعُلماء يقولون أُمر أن يقُتل كلٌ منهم أخاه ويحتجون بآية ( ظنّ المؤمنون والمؤمناتُ بأنفُسهم خيرا ) تعبير النفس هُنا على الشخص الآخر والذي يبدو لي أنهُ ينصرف القرآن إلى أولهِ أن كُل إنسان أُمر بقتلِ بقتل ِ نفسهِ (فاقتُلُوا أنفُسكُم ذالكُم خيرٌ لكُم عند بارئكُم إنهُ هو التواب الرحيم * وإذ قُلتُم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكُم الصاعقةُ وأنتُم تنظُرُون )
كُلُ هذهِ الأحداث التي نسمعُها الآن والتي ذكرها الله في كتابهِ كانت وقت أن كان بنو إسرائيل في أرض التيهِ وقت أن كان بنو إسرائيل أين ؟ في أرض التيهِ بعد نجاتهم هذا ترتيب منطقي قال الله ( وإذ نجّيناكُم ) (فرقنا بكُم البحر فأنجيناكُم وأغرقنا آل فرعون وأنتُم تنظُرُون ) .
متى طلبوا أن يروا الله جهرة ؟(8/53)
لمّا عبدُ العجل ذهب سبعون منهم مع من ؟ مع موسى ( واختار موسى قومهُ سبعين رجُلاً لميقاتنا ) هؤلاء الذين حضروا مع موسى طلبوا من موسى أن يروا الله جهرة وهُنا قال موسى كما جاء في آية الأعراف ( ربِ لو شئت أهلكتهُم من قبلُ وإياي ) والمقصود على تجرؤهم في المعاصي والله قال لنبيهِ ( فقد سألوا موسى أكبر من ذالك فقالوا أرنا الله جهرة ) فالتعداد هُنا لما حصل منهُم ولنعم اللهِ جل وعلا عليهم .
ثُم قال الله جل وعلا ( ثُمّ بعثناكُم من بعد موتِكُم لعلّكُم تشكرون )وهذا بعثٌ حقيقيٌ بعد موتٍ حقيقي .
قال الشنقيطي :
"ولا يجوزُ صرف القرآن عن ظاهرهِ إلا بدليل"
ُمّ قال جل وعلا
( وظلّلنا عليكُم الغمام وأنزلنا عليكُمُ المنّ والسلوى )
هذا كُلهُ مرّ معنا في سورة " طه" ( كُلُوا من طيباتِ ما رزقناكُم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفُسهم يظلمون * وإذ قُلنا ادخلوا هذهِ القرية فكلوا منها حيثُ شئتُم رغداً وادخُلُوا الباب سُجّداً وقُولُوا حِطةٌ نغفر لكُم خطاياكُم وسنزيدُ المُحسنين * فبدّل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهُم فأنزلنا على الذين ظلمُوا رجزاً من السماء بما كانُوا يفسقون )
هذهِ تُنيخ مطاياك التاريخ مُهم جداً في تفسير القرآن مرّ معنا كثيراً أن بني إسرائيل لم يدخُلوا الأرض المُقدسة في عهد من ؟ في عهد موسى ودخلوها في عهد يوشع ابن نون بعد موتِ نبي اللهِ هارون ثُم بعد موتِ نبي اللهِ موسى [ واضح ]
طيب عندما تُفسّر في أمور مُتفق عليها فلا يأتي عاقل يُزحزح المُتفق ليُقيم مقامهُ شيئاً مُختلف فيهِ هذا ليس بعلم فمن المُتفق عليهِ بين المُفسرين وأهل السير أنهُم لم يدخلوا الأرض المُقدسة مع اختلافهم في القرية هُنا هل هي أريحا أو هي القُدس بيت المقدس هل هي أريحا أو بيت المقدس هذا لا يكونُ هناك كبير فائدة في العلم بأيٍ منهُما [ واضح]
لكن السؤال كيف يدخلوا القرية وأنت تقول أنهم لم يدخلوها إلا في عهدِ يوشع ابن نون ؟(8/54)
الجواب هؤلاء الذين أُمروا أن يدخلوا القرية لم يكُن معهم موسى إنما بُعثُوا من قبل موسى أشبه بالنُظّار بالعيون بالجواسيس حتى يكتشفوا الأمر قبل أن يبدأ موسى الجهاد معهم [ واضح ] بعثهُم موسى .
هؤلاءِ الذين بعثهم موسى كأنهم شعروا أن فيهم شيء من المزية أمرهُم الله أن يقولوا قبل دخولها أي تلك القرية سواءً أن كانت أريحا أو بيت المقدس أن يقولُ مسألتُنا طلبُنا رغبتُنا حِطة بمعنى أن تحُط عنا ذنوبنا يعني غايةُ أمرنا منك يا ربنا المغفرة فإظهارهُم التذلُّل عند دخول الأرض المُقدسة وأنت تجأروا إلى الله أن يمحوا ذنوبكُم سينجمُ عنهُ علمٌ تنفعون بهِ قومكُم إذا عُدتُم إليهم
[ واضح المسألة الآن ]
لكن أُولئك القوم عندما ذهبوا بدّلوا قول الله غيرُ في اللفظ لأنهُم كانوا يستخفون بهِ ولم يروهُ ذا بال وهذا والعياذُ بالله ظنُ من المرءِ أن ما عندهُ حصل عليهِ بجهدهِ وعلمهِ ولو كان الإنسانُ عبداً حقيقاً يُسلم للهِ أمره وقد مرّ معك وأنت لبيبٌ في السيرة أن النبي لما علّم ذالك الصحابي دُعاء النوم فقال الصحابيُ والرسولُ يُعلّمهُ { اللهم أسملتُ نفسي إليك ووجهتُ وجهي إليك وفوضتُ أمري إليك وألجأتُ ظهري إليك رغبةً ورهبةً إليك آمنتُ بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت الصحابيُ قال ورسولك الذي أرسلت فأعادها النبيُ قال لا تقُل قُل ونبيك الذي أرسلت } مع أنهُ لا يكونُ رسول حتى يكونُ نبياً لكن المُراد أن بعض الألفاظ مقصودة لذاتها إما تعبُداً أو لحكمة خفية فلا يجوزُ لأحدٍ أن يُقدّم رأيهُ بين يدي اللهِ ورسولهِ [ واضح].
فالمطلوب منهم كان أن يقولُ غُفران الذنوب مسألتُنا حملُ هذا الذي على كاهلنا لكنهُم غيّروا في اللفظ ودخلوا على غيرِ ما أمرهُم الله من صورةٍ أن يدخلوا عليها بها.
قال الله ( فبدّل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهُم فأنزلنا على الذين ظلمُوا رجزاً من السماء بما كانُوا يفسقون )(8/55)
لأن الفسق هو خروجٌ عن الطاعة وتبديلهُم اللفظ نوعٌ من الفسق..
هذهِ خبرُ بني إسرائيل في القرية .
ثُمّ قال الله جل وعلا ( وإذ استسقى موسى لقومهِ فقُلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منهُ اثنتا عشرةَ عيناً )
هُم في صحراء التيهِ بدهيٌ أن يعطشوا والدُنيا تتقلبُ بأهلها ما بين جدبٍ وما بين إمطار في لحظات جدبٍ طلبوا من الله عن طريق موسى المطر الغيث فاستسقى موسى لقومهِ فأمرهُ اللهُ أن يضرب بعصاهُ الحجر قال الله ( فانفجرت منهُ ) تقدير الآية فضرب فانفجرت لأن الانفجار ما كان بالأمر، الأمر كان لمن ؟ لموسى فنفذ موسى أمر الله فانفجر لكن الخلاف بين العُلماء هنا أو يذكُر المُفسرون لا نقول خلاف الخلاف أحسن يُقال في المسائل الفقهية .
يقولون أيُ حجرٍ هذا لأن الألف واللام إما أنت تكون للجنس تشمل أيُ حجر أو للعهد والعهدُ ينقسم إلى قسمين :
1/ عهد لفظي
2/ وعهد ذهني
وقطعاً لا يوجد عهد لفظي لأن لم يُذكر الحجر من قبل فما بقي حملهُ إذا قُلنا بالعهد إلا على العهد الذهني فقال بعضُ العُلماء إنهُ حجر كان الله جل وعلا قد أتاهُ موسى ونُقل عن سعيد ابنُ جُبير أنهُ الحجر الذي هرب بلباس موسى عندما أراد أن يستحم ويغتسل لكنّ الحق الذي يبدو لي والله أعلم أنهُ حجرٌ غيرُ مُعين لأنهُ لم يرد لفظياً ولا يوجدُ شيءٌ واحد من الحجارة يُمكنُ حمل الأمر الذهني عليهِ فلم يرد في القرآن أن هناك حجر أختص بهِ موسى والمرجِعُ في كلام الله إلى كلامهِ .
فنعود فنقول ( فقُلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منهُ ) أي ذالك الحجر ( اثنتا عشرةَ عينا ) وكانت أسباطُ بني إسرائيل اثني عشر سبطاً ( قد علم كُلُ أُناسٍ مشربهُم ) فلا يختلطون كُلُ قبيلة كُلُ شِعب يشربُ من تلك العين ( كلوا واشربوا من رزق الله ) كلوا من المنّ والسلوى واشربوا من الماء ( ولا تعثوا في الأرض مُفسدين ) الإعثاء في الأرض الفساد هو أشد أنواع الإفساد .
((8/56)
وإذ قُلتُم يا موسى لن نّصبر على طعامٍ واحد )
هنا ذكر المُفرد وأراد بهِ المُثنى ما الطعامُ الواحد ؟ المنّ والسلوى ـــ أحسنتُم ـــ المنّ والسلوى ( فادعُ لنا ربك يُخرجُ لنا ممّا تُنبتُ الأرض من بقلها وقثّائها و فُومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإنّ لكُم ما سألتُم )
مصراً جاءت ماذا؟ مُنوّنة والمقصودُ بهِ أيُ ماذا ؟ أيُ مصر ليس مصر المعروفة وردت في القرآن مصر المعروفة لكنها ليست مقصودة هنا ، هُنا قبل أن أتجاوزُ الألفاظ وأتكلمُ في الباء البدلية في نُقطة مُهمّة جداً هذا الجواب غير مُتوقع (فادعُ لنا ربك يُخرجُ لنا ممّا تُنبتُ الأرض من بقلها وقثّائها و فُومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإنّ لكُم ما سألتُم )
المقصُودُ منهُ إثارة الحياة في الناس ورفعُ الذُلّ عنهم فهم تاهوا في الأرض بسبب معصيتهم ( قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخُلها أبداً حتى يخرجُ منها ) فتقاعسوا عن الجهاد ( اذهب أنت وربُك فقاتلا إنّا هاهُنا قاعدون ) فهم لا يُريدون أن يعملوا ويُريدون رزقا فكان الجواب القرآني ( اهبطوا مصراً فإن لكُم ما سألتُم )
أي إن كُنتم تُريدون البقاء والحياة فلابُدّ بالأخذ بأسبابها والسعي لا تنتظروا أن يُنزّل الأمرُ عليكُم والرزقُ لديكُم فأمرهم الله جل وعلا بالسعي فلأمرٍ ما منع الله منهُم تلك المطعُومات حتى يُحيَ في قلوبهم ما يرفعون بهِ الذلِة عن أنفُسهم ( اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتُم ) .
نعود إلى قولهِ جل وعلا ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير )
الآن الباء هُنا لحقت بالمُبدل منه لا بالبدل بالمُبدل منه لا بماذا ؟ لا بالبدل وقد شاع في أقوالِ الناسِ حتى عند بعضِ أرباب الفصاحة إلحاقُها بالبدل .
قال شوقي رحمهُ الله :
أنا من بدّل بالكُتب الصحابَ *** لم أجد وافياً إلا الكتابَ(8/57)
هو أراد أن يقول أنني تركتُ الأصحابَ وأقبلتُ على الكتاب لكنّهُ جعل الباء في البدل وحُقُها أن تكون أين ؟ في المُبدل منه [ واضح ] وحُقُها أن تكون في المُبدل منه قال الله ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) فما المُبدل منهُ هُنا ( الذي هو خير ) وما البدل ( الذي هو أدنى ) [ واضح ] .
قال الله جل وعلا ( يُخرجُ لنا ممّا تُنبتُ الأرض من بقلها وقثّائها و فُومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإنّ لكُم ما سألتُم )
والدليلُ على أن ما فهمناه في الأول أن الله أراد أن يُحيَ بهذا الجواب رفعهُم الذلِ عن أنفُسهم أنهُ قال بعدها ( وضُربت عليهم الذلةُ والمسكنة ) الضرب في القرآن في اللُغة أصلاً يأتي في قضايا الإلصاق في قضايا الإلصاق واللزوم ( فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا )
ضربت عليك العنكبوت بنسجها ** وقضى عليك بها الكتابُ المُنزلُ فرزدق يقول
فالضرب في اللُغة يُرادُ بهِ الإلصاق والإلزام والله يقول هنا ( وضُربت عليهُم الذلّةُ والمسكنة و باءُو بغضبٍ من الله )كلمة باءُو لا تأتي إلا في الغضب لا تأتي في الأمر الحميد وهذا أمرٌ باقٍ في بني إسرائيل إلى اليوم فبرغمِ ما أعطاهُم الله وأورثهُم من أموال وسُلطان ظاهر قاهر على اقتصاد العالم وإعلامهِ إلا أنهُم أخفياء لا تكاد تعرفُ منهُم أحد غيرُ المشاهير أذلّة في كُل مكان رغم أيُ سُلطانٍ يُؤتونهُ عليهم التعب ولغيرهم أن يجني فلا يوجد يعني هُم مُتسلطون جداً على قرار اختيار الرئيس الأمريكي .
مثال في عصرنا لكن لا يوجد رئيس أمريكي يهودي فهم يسعون وغيرهم يجني فهُم حتى في تسلّطُهم قلّما أن يحصدوا هُم الثمرة العُليا يحصدون ما دونها .(8/58)
وهذا معنى قول الله (وضُربت عليهُم الذلّةُ والمسكنة و باءُو بغضبٍ من الله ذالك ) أي بسبب أنهُم كانوا يكفرون بآيات اللهِ ويقتلون النبيين بغير الحق ومن أشهرِ من قتلوه من ؟ زكريا عليهِ السلام ( ذالك بما عصوا وكانوا يهتدون )
ثُمّ قال الله جل وعلا بعد أن ذكر نُتفاً من أخبارِ بني إسرائيل
( إنّ الذين ءامنوا والذين هادوا والنّصارى والصّابئين من ءامن باللهِ واليومِ الأخرِ وعمل صالحاً فلهُم أجرهُم عند ربهمِ ولا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون )
هذهِ الآية مُشكلة فكثيراً ما يحصُلُ السؤال عنها حتى قال بعضُ الناس المُعاصرين يقول: " الله أساغ الأديان كُلها ولم يحصُرها في الإسلام ،الله يقول ( إنّ الذين ءامنوا والذين هادوا والنّصارى والصّابئين من ءامن باللهِ واليومِ الأخرِ) من أين أتيتم من أن الله لا يقبلُ إلا ديناً واحداً ويردون آية آل عمران وقُلنا دائماً في نقض شيءٍ لابُدّ من إقامةِ الحق مكانة .
هناك فِرق وقت تنزّلُ القرآن وقت نزول سورة البقرة وقت نزول هذهِ الآية: مؤمنون محمد صلى الله علية وسلم وأصحابُه ، اليهود ، والنصارى ، وعبدة النار الذين هُم الصابئة وهم نفس عبدة النار وقيل أن الصابئة عبدةً الكواكب وقيل إن الصابئة أُختلف في تحديدهم أياً كان الأمر كانت هُناك فرق ملل ونحل
العبرة عند الله ــ هذا مفتاح القضية ـ العبرة عند الله بالموافاة أي بماذا تلقى الله فلو فرضنا أن إنسانً دخل في الدين الإسلام ومكث إلى قبل خاتمتهِ ثُم أعلن براءتهُ من الإسلام فمات على غير الإسلام فهذا لا ينطبق عليهِ الوعدُ الرباني ( لا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون ) .
ولو أن رجُلاً يهودياً قبل أن يوافي الله تاب وتنصّل من يهوديتهِ و ءامن بالله واليوم الأخر فينطبق عليهِ قول الله جل وعلا ( لا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون ) [ واضح ].
فالله جل وعلا ذكر أهل الإيمان هنا مرتين مُتغايرين :.
الأول : باعتبار دعواهُم .(8/59)
والثاني : باعتبار موافاتهُم .
أُعيد
ذكر الإيمان كم مرة ؟ مرتين :.
الأولى : باعتبار دعواهُم.
والثانية : باعتبار موافاتهم بالإيمان والبقاء والثبات عليهِ [واضح].الله يقول إن الأمر والشأن بيني وبينكُم أن تلقوني وانتُم مؤمنون بالله واليوم الآخر سواءً قُلتُم أنكُم مؤمنون أو نصارى أو يهود أو صابئة إذا تنصّلتُم ممّا أنتُم فيهِ وبقيتُم على الإيمان بالله واليوم الآخر انطبق عليكُم وعدُنا ( لا خوفٌ عليكُم ولا أنتُم تحزنون ) أو ما عبّر الله عنهِ هُنا بضمير الغائب .
ثُمّ عاد القرآن ليذكُر أخبار بني إسرائيل ( وإذ أخذنا مِيثاقكُم ورفعنا فوقكُم الطور خُذُوا ما ءاتيناكُم بقوة واذكروا ما فيهِ لعلّكُم تتقون )
رفعُ الطور كان وعيد حصل لموسى مع السبعين رُفع حتى ظللّهُم كأنهُ يُراد أن يُلقى عليهم فتابوا لمّا رأوه .
قال الله ( ثُمّ توليتُم من بعد ذالك فلولا فضلُ الله عليكُم ورحمتهُ لكُنتُم من الخاسرين ) وهذهِ ظاهرة ثُمّ خاطب الله عُلماء بني إسرائيل المُعاصرين لنبي صلى الله علية وسلم بقولهِ ( ولقد علمتُم الذي اعتدوا في السبت فقُلنا لهُم كونوا قردةً خاسئين * فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظةً للمُتقين )
أهلُ السبت أخبر اللهُ عنهُم في المائدة وعبّر عن تلك القرية بأنها حاضرة البحر وهي مُفردة جميلة جداً حسنٌ بطالب العلم أن يستخدمها بدل أن يقول مدينة ساحلية يقول مدينة حاضرة البحر هؤلاء القوم أُريد نصل إلى حقيقة في قضيتهم وهي أن المُحرّم أحياناً يكون تحريم طريقة وأحياناً يكون تحريم عين فلابُد أن ينتبه الإنسان ما هو المُحرّم حتى يجتنبهُ فلا يكون فيهِ خلط كما هو حاصلٌ الآن.
وهذا قد يدخُل في الأصول لكننا نأتي بمثالٍ مُعين :(8/60)
مثلاً بيع التورُق المُعاصر يراهُ بعضُ أهل الفضلِ أنهُ نوعٌ من الربا ويقولون لم يتغير في الأمر شيء أنت وصلت إلى مقصودك لكنك غيرت الطريقة فإذا ناقشتهُ تكلّم عن آية المائدة ( تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شُرّعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذالك نبلوهُم بما كانوا يعملون ) ... إلى أخر الآيات ووضعُ الأمر في نصابهِ مُهمّ جداً المُحرّم في التورُق الطريقة المُحرّم في التورُق قبل وقوعهِ لأن التورُق لا حرج فيهِ قبل وقوعهِ الطريقة ليس عين المال فكون الإنسان يُريدُ أن يحصُلَ على مالاً هذا ليس بمُحرّم لكن إنّ حصل عليهِ عن طريق الربا فهو مُحرّم وإنّ حاد عن الربا ولجأ إلى طريقٍ غير ربوية فلا حرج فيهِ [ واضح ] فلا تنطبق عليهم الآية وإنما حُرّم عليهم أُولئك القوم لم يُحرّم عليهم الحوت وإنما حُرّم عليهم الصيد يوم يوم السبت [ واضح ] لم يُحرّم عليهم الحوت وإنما حُرّم عليهم الصيد يوم السبت فهُم احتالوا على أن يصيدوا يوم السبت [ واضح ] فلأنهُم صادوا يوم السبت باحتيال جعلهُم الله جل وعلا قردة كانوا خاسئين.
[ واضح الفكرة وهذا مُهمٌّ جداً في تلقي العلم وفهمهِ وعدم العجلة في الحُكمِ على الأشياء وإن كان قد قال بالتورُق عُلماء أجلاء لا يُقدحُ لهُم في شيء .
نقول قال الله جل وعلا ( ولقد علمتُم الذي اعتدوا في السبت فقُلنا لهُم كونوا قردةً خاسئين * فجعلناها) أي هذا العذاب والنكال (نكالاً لما بين يديها) أي لذنوبِ الحاضرة ( وما خلفها ) أي من ذنوبٍ سلفت ( وموعظةً للمُتقين ) أي ليتعظ المُتقين وغيرهم .
( وإذ قال موسى لقومهِ إنّ الله يأمرُكُم أن تذبحوا بقرة )
هذهِ قصتُها على الوجه التالي :
....... الله جل وعلا لهُ حكم ولهُ قُدرة ......(8/61)
أصلُ المسألة أن رجُلاً من بني إسرائيل قتل رجُلا فاختلف الناسُ في القاتل فحتى يستدلُ على القاتل أمرهُم الله أن يذبحوا بقرة لكن الله لم يذكُر قضية القتل في الأول وإنما قدّم قصة البقرة في الأول قال العُلماء حتى يُبين الله جل وعلا لعبادة الحكمة قبل أن يُبين لهُم الحدث .
أمرهُم اللهُ جل وعلا أن يذبحوا بقرةً ثُم يضربوا ببعض تلك البقرة بأيُ جُزءٍ منها ذالك الميت فإن ذالك الميت سيبعثُهُ الله وسينطق ويُخبر بمن قتلهُ هذا أصل المسألة فأخبر موسى بني إسرائيل ( وإذ قُلتُم يا موسى ) أي واذكروا إذ قُلتُم يا موسى ( إذ قال موسى لقومهِ إن الله يأمرُكُم أن تذبحوا بقرة )
وقد جاءت نكرة والبقر حيوانٌ معروف أحدُ بهيمة الأنعام الثلاث : الإبل والبقر والماشية .
أمرهم الله أن يذبحوا بقرة فشدّدوا على أنفُسهِم ( قالوا أتتّخذُنا هزواً قال أعوذُ بالله أن أكون من الجاهلين )وأنيُ جهلٍ أن يُخبر الإنسان عن اللهِ ما لم يقُلهِ ( قالوا أُدعُ لنا ربُك يُبين لنا ما هي قال إنهُ يقول ) هنا ( ما هي ) المقصودُ عن سنّها بدليل الجواب ( قال إنهُ يقول إنها بقرةٌ لا فارضٌ ولا بكر ) ليست مُفرطة في السنّ ولا صغيرة ( عوانٌ بين ذالك ) أي نصف بين هذين السنين ( فافعلُوا ما تُؤمرون * قالوا أُدعُ لنا ربُك يُبين لنا ما لونها قال إنهُ يقول إنها بقرةٌ صفراءُ فاقعٌ لونُها )
نخرُج لغوياً يُقال في الأصفر أصفرٌ فاقع وفي الأسود أسودٌ حالِك وفي الأحمر أحمرٌ قانىء وفي الأبيض أبيضٌ بقق ــ أُعيد ــ وفي الأخضر أخضرٌ ناضر .
أُعيد هذهِ تحتاجُ إلى تحرير وإن كُنا أصبحنا مثل بني إسرائيل تركنا قضية البقرة الآن .(8/62)
نعود للألوان الله قال ( إنها بقرةٌ صفراءُ فاقعٌ لونها ) العربُ تقول أصفرُ فاقع لدلالة على توهجِ صُفرتهِ ، وأسودُ حالك وأبيضُ بقق بقق باء ثُم قافٌ ثُم قاف ، وأخضرُ ناضر ، وأحمرُ قانىء بالهمز قانىء وأيً كان هذهِ مُفردات لغوية تُثري ما أنت فيهِ .
هُنا الآن بعد أن سألوا عن سنّها سألوا لونها ( قالوا أُدعُ لنا ربُك يُبين لنا ما لونها قال إنهُ يقولُ إنها بقرةٌ صفراءُ فاقعٌ لونها تسرّوا الناظرين * قالوا أُدعُ لنا ربُك يُبين لنا ما هي )
من الجواب تعرف عن ماذا سألوا .
قال ( إنّ البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمُهتدون * قال إنهُ يقولُ إنها بقرةٌ لا ذلُولٌ تُثيرُ الأرض ولا تسقي الحرث )
يعني سألوا أسائمةٌ هي أم عاملة يعني هذهِ البقرة علمنا أن سنّها نَصَف وعلمنا أن لونها أصفر لكن هل هي سائمة ترعى أم هي عاملةٌ في حرث عاملةٌ عند أحد فجاء الجواب قبلها قال الله جل وعلا ( إنّ البقر تشابه علينا ) والبقرُ مؤنث ولم يقُل الله تشابهت وهذا مُعاملة للفظ وتركٌ للمعنى .
ما معنى مُعاملة للفظ وتركٌ للمعنى ؟
أحياناً يكونُ اللفظُ يدلُ على مؤنث لكن ليس فيهِ من علامات التأنيث الظاهرة شيء وأحياناً يدلُ على مُذكر وفيهِ من علامات التأنيث ما يدلُ عليهِ [واضح ] .مثل حمزة اسمٌ لماذا ؟ لمُذكر مع أنهُ ملحُوق بهِ تاء التأنيث معاوية اسمٌ لمُذكر لكنّهُ ملحوق بهِ تاء التأنيث .
كلمة نخل مؤنث لكن نخل ليست مُلحق بها أيُ لفظٍ من ألفاظ التأنيث ولهذا قال الله ( أعجازُ نخلٍ مُنّقعر ) لم يقُل مُنقعرة عاملها باللفظ لا بال؟ لا بالمعنى مثلُها هُنا عامل الله كلمة بقر باللفظ لا بالمعنى عامل الله لفظ بقر مُذكر لا بالمعنى وهو مؤنث.
((8/63)
إن البقر تشابه علينا وإنّا إن شاء الله لمُهتدون * قال إنهُ يقولُ إنها بقرةٌ لا ذلُول تُثيرُ الأرض ) لكنّها في نفس الوقت ماذا ؟ ( لا تسقي الحرث ) نصف في كُل شيء في سنّها في كونها أنها تُثيرُ الأرض حيناً لكنّها لا تُسقي الحرث يعني تعملُ شيءً وتتركُ أشياء .
( تُثيرُ الأرض ولا تسقي الحرث مُسلّمةٌ لا شية فيها )
مُسلّمةٌ لا شية فيها أي ليس هناك عيبٌ فيها هذا قول وقول ليس هُناك لونٌ يُداخل الصفار الذي فيها.
( مُسلّمةٌ لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحُوها وما كادوا يفعلون )
اختلف العُلماء في هذهِ ( وما كادوا يفعلون ) هل هي عائدة على أنهُم تعبوا ووجدوا مشقة في الحصول عليها ؟ هذا بعيد وإن قال بهِ بعضُ أهلُ الفضل ونحنُ نقول ( ما كادوا يفعلون ) أي أنّهُم كأنما أُكرهُ على هذا الأمرِ إكراهَ بدليل كثرة سؤلاتهم واعتراضهم على نبيهم .
بعد أن تمّ الأمر قال الله جل وعلا :
( وإذ قتلتُم نفساً فادّارءتُم فيها )
وهذا أصل من أُصلُ القصة ( فقُلنا اضربوه ببعضها ) أي ببعض ماذا ؟ البقرة ( كذالك يُحيَ الله الموتى ويُريكُم آياتهِ لعلّكُم تعقلون ) أراد الله من هذا الأمر بيان قُدرتهِ جل وعلا على إحياء الموتى طبعاً هذا في زمنِ ِ بني إسرائيل لكن لو حصل هذا في زماننا لماذا يُلجأ ؟
يُلجأ للقسامة يُلجأ للقسامة بابٌ معروف في القصاص في الفقهِ سيأتي إن شاء الله الحديثُ عنهُ عند قول الله جل وعلا ( ولكُم في القصاصِ حياة) لكننا عرّجنا عليها تعريجاً هُنا عاماً .
قال الله جل وعلا (فقُلنا اضربوه ببعضها كذالك يُحيَ الله الموتى ويُريكُم آياتهِ لعلّكُم تعقلون * ثُم قست قُلُوبكُم من بعد ذالك فهي كالحجارة أو أشدُ قسوة )(8/64)
بعد أن بين اللهُ لهم هذهِ الآيات الدالةُ على وحدانيتهِ وعلى قُدرتهِ وعلى أنهُ يجبُ أن يُعبد دون سواه وأن يُخضعُ لهُ بالقولِ والفعل أخبر الله جل وعلا أن طول الأمد كان سبباً في قسوة قُلُوبهِم فعبّر الله عن قسوة القلوب بالحجارة ولم يُعبّر عن قسوة القلوبِ بالحديد مع أنهُ قال سُبحانهُ ( وأنزلنا الحديد فيهِ بأسٌ شديد ) لكنك تُلاحظُ أن الله ألان الحديد لمن ؟ لداود ولم يُلن الحجارة لأحد إلا لخشيتهِ لم يُلن الحجارة إلا لخشيتهِ فالنارُ أعاذنا الله وإياكُم منها قادرة على الحديد لكنها غيرُ قادرة على الحجر فالحجر لا يُذيبُ الحديد فلمّا أراد الله أن يُشبهِ قسوة قلوب بني إسرائيل جعل مثلاً لها الحجارة قال ( ثُمّ قست قُلُوبكُم من بعد ذالك فهي كالحجارةِ أو أشدُ قسوة ) ثُمّ قال ( وإنّ من الحجارةِ لما يتفجّر منهُ الأنهار وإنّ منها لما يشّقّقُ فيخُرجُ منهُ الماء ) وهذهِ منافع دنيوية ثُمّ قال مرتبةً أعلى ( وإنّ منها لما يهبطُ من خشية الله ِ ) وهذا نعي ٌ على أصحاب القلوب القاسية فإذا كانت الحجارةُ التي هي المثلُ الأعلى في القساوة يحصلُ منها أن تهبط من خشية الله فأيُ نعيً لقلب بني آدم الذي لا يلينُ من أجل ذكر الله [ واضح ] .
فأيُ نعيً لقلبٍ من قلوب بني آدم الذي يلينُ من أجل ذكر اللهِ والله يقول ( ألا بذكر اللهِ تطمئنُ القلوب ) والقلوبُ الحقة التي على الفطرة لا تلينُ بشيءٍ كما تلينُ بذكر الله جل وعلا تبارك وتعالى .
قال الله :
( وإنّ منا لما يتفجرُ منهُ الأنهار وإنّ منها لما يشّقّقُ فيخرُجُ منهُ الماء وإنّ منها لما يهبطُ من خشية اللهِ وما الله بغافلٍ عمّا تعملون )
نعود إلى الحجارة الحجارة ذُكرت في التاريخ الإسلامي في مُسودة التاريخ الإسلامي بطرائق شتى من أشهرها :(8/65)
// الحجر الأسود قد جاء في الأثر أنهُ نزل أشد بياضاً من اللبن سودتهُ خطايا بني آدم وهو حجرٌ أعطاهُ الله جل وعلا لإبراهيم أن يجعلهُ في رُكن البيت ومنهُ يبدأ الطواف.
// جاء الحجر في أن الله جل وعلا جعل حجرً من حجار مكة يُسلّم على النبي صلى الله علية وسلم { إني لأعلمُ حجر بمكة كان يُسلّمُ عليَ بالنبوة } .
// وجعل النبي صلى الله عليهِ وسلم في سُننهِ في حجة الوداع أن الحجر يُرمى بهِ الجمار.
// والذي يُرمى الشاخص نفسهُ ماذا ؟ حجر .
هذا يقودك لشيء عظيم نبّه إليهِ بعضُ الفُضلاء أظنّهُ الشعراوي رحمهُ الله هناك حجر يُرمى بأمرٍ من الله ويُرمى بماذا ؟ بحجرٍ مثلهِ بحصاة وهناك حجر يُقبّل ويُستلم و يُبداُ منهُ الطواف وهو الحجر الأسود فالعبرة في الثلاثة أحوال ليست في ماذا؟ ليست في ذات الحجر وإنما العبرة بأن نعبُد ربُنا جل وعلا كما شرع [ واضح ] .
فنحنُ نشخُصُ بوجوهنا إلى القبلة في أي مكان نُصلي فيهِ فنحنُ لا نعبُدُ الكعبة لكننا نعبُدُ رب الكعبة وهذهِ الحقائق التنبيهُ عليها جلي في بعض الدول يُعلمون أبنائهم أن من عجائب الدُنيا الكعبة ويُريدون بذالك أمرً خفيً وهم يقولون أن هذهِ الكعبة من عجائب الدُنيا السبع مثل : حدائق بابل المُعلّقة و أهرامات مصر ومنارة الإسكندرية وبُرج بيزا المائل وأمثالُها يقولون إن الكعبة لأنها من عجاب الدُنيا السبع فالعربُ تُعظّمُها فأرادُ أن يُلِحقوا ما يحصل من الطواف بتعظيم وثني ناجم عن افتتان العرب بهذا البناء الذي لم يتغير على مرّ الدهور [ واضح ].لكنّ العرب المُسلمين إنما يعبدون رب الكعبة بطوافهم حول الكعبة فهُم يُعظّمون شعائر الله وهذا يقودُك إلى قول الله تعالى ( ذالك ومن يُعظّم شعائر الله ).(8/66)
بعضُ الناس هدانا الله وإياهُم يقول كيف لا يُعظّم النبي صلى الله علية وسلم الله يقول ( والبُدنَ جعلناها لكُم من شعائر الله ) فيقول في خطابهِ ناقة وهي ناقة امرنا الله أن نُعظّمها فكيف لا يُعظّم النبي صلى الله علية وسلم .
فنقولُ جواباً إننا لا نعترضُ أبداً على تعظيم النبي صلى الله علية وسلم لكن ينبغي أن يكون هذا التعظيمُ مصحوباً بالعلم ومعنى مصحوباً بالعلم أن شعائر الله كُلها تُعظم لكن طرائق تعظيمها تختلف مبنية على الشرع .
فمن طرائق تعظيم الهدي نحرُهُ فإراقةُ دمهِ وإزهاق روحهِ هذا نوعٌ من تعظيمة قُربة إلى الله.
وتعظيمُ الكعبة بالطواف حولها .
وتعظيمُ الحجر باستلامهِ وتقبيلهِ.
وتعظيم الرُكن اليماني باستلامهِ وتقبيلهِ يفرق عن الحجر أنهُ لا يُشار إليهِ ويُشار إلى ماذا ؟ ويُشارُ إلى الحجر لكن لا يُشارُ إلى الرُكن اليماني [ واضح ] .
والقلائدِ تقليدها والهدي أحياناً بإشعاره حتى تظهر فيهِ علامة تُبين أنهُ هدي .
المقصود من هذا كُلهِ يُنظر في النبي صلى الله علية وسلم لا ريب أنهُ من أعظم شعائر الله لكن يُعظّم صلى الله علية وسلم بالطريقة الشرعية التي أمرنا الله بها إلى أن نُعظّمهِ فنحنُ نُحبهُ ونُجلّهُ ولا نرى أن قول أحدٍ من البشر يُضاهي قوله وأنهُ صلى الله علية وسلم أحبُ إلينا بعد الله من كُل شيء وأن لهُ الحق علينا الذي لا يغلبهُ حق بشر أحبُ إلينا من آبائنا وأُمهاتنا لكن نُعظّمهُ بطرائق شرعية مُصطحبة وهذا معنى قول الله ( فاعلم أنهُ لا إله إلا الله واستغفر لذنبك ) والعاقلُ اللبيب يسير في الأمور دون أن تكون الأمور بين يديهِ مُجتزئه يخلطُ بعضُها ببعض وهذهِ هي الفائدة العلمية للعلم وهي الفائدة العلمية لقضية جمع الأشياء بعضُها إلى بعض وإلحاق الأشباه بالنظائر حتى يسير الإنسان في طريقهِ إلى ربهِ على منهجٍ سليمٍ في الطريق إلى الله .
قال الله جل وعلا ( وما الله بغافلٍ عما تعملون )(8/67)
هذا نوعٌ من التهديد والوعيد لبني إسرائيل وغيرهم .
ما مضى أيُها المُباركون ردّ اللهُ إلينا كتابهُ كرّةً أُخرى .
نقول إن ما ذكرهُ اللهُ جل وعلا من أخبار بني إسرائيل وإن كان يُخاطبُ بهِ أتباعهُم وأبنائهُم الذين عاصرهُم النبي صلى الله علية وسلم إلا أن الخطاب للأُمة كُلها أن تتقي الله ربّها وأن تعرف ما أحل بالأُمم السابقة فتجتنبهُ وما كان سبباً في رفعتها فتلحقُ بهِ وتأخُذ بهِ لهذا ضرب الله الأمثال وأخبر الله جل وعلا عن السابقين وأنباء الغابرين حتى تتضح المحجةُ لكُل أحد في طريق سيرهِ إلى الرب تبارك وتعالى ...
هذا ما تيسر إيرادُهُ وتهيأ إعدادهُ واللهُ المُستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله وصلى الله على مُحمدٌ وعلى آلهِ والحمدُ لله رب العالمين .........
إن الحمد لله نحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, أراد ما العباد فاعلوه, ولو عصمهم لما خالفوه, ولو شاء أن يطيعوه جميعا لأطاعوه, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وعلى سائر من اقتفى أثره, واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد:
فما زلنا وإياكم نتفيأ ظلال القرآن في سورة البقرة التي أخبرنا - قبل مرار - أنها فسطاط القرآن, وقد انتهينا إلى قول الله تبارك وتعالى: ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ).(8/68)
وذكرنا أن الله جل وعلا شبَّه القلوب القاسية بالحجارة, بل جعلها أشد قسوة من الحجارة, وبيَنا في لقاء سابق أن الله جل وعلى عدل عن الحديد - تشبيه القلوب القاسية – عن الحديد بأن الحديد له ما يلينه, قال الله جل وعلا عن نبيه داوود: ( وألنَّا له الحديد ), والحديد يُلان بالنار, ولا يعرف أن الحجارة تُلان بشيء آخر, على ذلك بيّن الله جل وعلا أن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار, وأن منها وهو الأعظم؛ ما يهبط من خشية الله..
ثم لازال السياق في الحديث عن بني إسرائيل, وقلنا إن سورة البقرة تحدثت كثيرا خاصة في أولها عن بني إسرائيل, وناداهم الله جل وعلا منتسبين إلى نبي الله يعقوب ابن إسحاق ابن خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
قال الله جل وعلا يخاطب المؤمنين: ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ):
مما استقر عقلا ونقلا وطبعا وشرعا؛ أن الطباع تتوارث.
الله جل وعلا يُخاطب المؤمنين الذين لديهم طمع في إيمان اليهود المعاصرين لهم القانطين في المدينة آنذاك, واليهود القانطون في المدينة آنذاك مر معنا أنهم ثلاثة قبائل:
قينُقاع.
والنضير.
وبنو قريظة.
وهؤلاء الثلاثة لابد من إدراكهم علما لطالب العلم, لأن كثيرا من القضايا في القرآن والسنة, والسيرة على وجه الخصوص لا يُحل إشكالها إلا بالاطلاع التاريخي كما سيأتي في تفسير الآيات سنستصحب التاريخ مرة أخرى في الآيات القادمة.
نقول:(8/69)
لاحِظ أن الله جل وعلا قال: ( أفتطمعون ) ولم ينه عباده عن الدعوة, وفرقٌ بين الأمرين كبير, والمعنى أن هؤلاء الأبناء - من يهود المعاصرين - هم على سَنن أبائهم الذين كانوا مع موسى عليه السلام, وموسى عليه السلام هو من أنبياء بني إسرائيل العظام, وليس أول نبي, لأن يوسف كان نبيا لبني إسرائيل, فإن مؤمن آل فرعون قال: ( ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا ).
نعود فنقول - طبعا استطرادا - ( موسى ) مكونة من كلمتين:
مو : بمعنى ماء في العبرانية.
وشي : - بالشا - هذي معناها الشجر.
ولأنه وُجد بين ماء وشجر في نهر النيل سُمي بهذا الاسم.
فبالعربية قُلِبت الشا ماذا؟
سينا؛ فأصبحت: موسى.
والعبرانيون ينطقونها بالإمالة قليلا ( نطق الشيخ بالإمالة وهي لفظ يُسمع لا يمكن كتابتها ), وهو اسم شائع عندهم إلى اليوم؛ موشي ديّان كان وزير الحرب الإسرائيلي في حرب 76 , والآن موشي كاستاف اللي هو رئيس دولة إسرائيل, ليس رئيس الوزراء, رئيس الدولة, اسمه: موشي كاستاف, هذا كله تسمِّي بنبيهم السابق عليه الصلاة والسلام, فانظر حال القدوة, وحال الأتباع, ولهذا نقم الله عليهم تغير حالهم.
أعود فأقول:
الله جل وعلا لم ينكر – وليس في الآية إنكار أصلا - لكن هذا عتاب - إن صح أنه عتاب - رقيق للمؤمنين.
والمعنى: أنت مكلف بأن تدعو كل أحد, ولا تحتجّ بأنه لم يؤمن, لكن لست مكلفا أو لست مطالبا بأن تطمع في إيمان كل أحد. { واضح الفرق؟ }
أنت مكلف بأن تدعو كل أحد.
ولهذا دعا موسى وهارون عليهما السلام دعَوَا فرعون, دعوا فرعون مع علم الله تعالى الأزلي أن فرعون لن يؤمن.
والنبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا جهل بتكليف من الله, مع علم الله الأزلي أن أبا جهل لن يؤمن.
فالدعوة شيء, والطمع في الإجابة شيء آخر.(8/70)
فما كان في بعض نفوس المؤمنين من طمع دخول اليهود جملة في الدين؛ هذا أبعده الله جل وعلا, وهذا على وجه مخاطبة الأمم - على وجه الإجمال, لا على وجه الإفراد, لا على وجه الإفراد, وهذا قيد يجب أن يُتحرز.
نعود فنقول:
ذكر الله بعد ذلك - أيها الأخ المبارك - علتين سببا في عدم وجود ذلك الطمع؛ علة أظهرها, وعلة أخفاها.
* فالعلة التي أظهرها جل وعلا: قوله جل وعلا: ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ), هذه كلها علة واحد.
والمعنى أنهم: سمعوا كلام الله, وعقلوه, ثم حرفوه وهم يعلمون أنهم محرفون له: أي مصرون على التحريف.
فإذا اجتمعت هذه الأربعة؛ انتفى الطمع في إيمانهم.
والخطاب هنا عن علماء اليهود وأحبارهم.
عن ماذا؟
علماء اليهود وأحبارهم.
هذه العلة التي أظهرها الله, وهي علة مشاهدة للناس – للمؤمنين, يجب أن يستصحبوها حتى لا يقع في قلوبهم طمع في إجابة أولئك القوم.
* أما العلة التي أخفاها الله: فهي علمه الأزلي أن هؤلاء لن يؤمنوا, إذ لوكان في علم الله أنهم سيؤمنوا لم يخاطب المؤمنين بألا يطمعوا في إيمانهم. { واضح؟ }.
إذ لو كان في علم الله الأزلي أنهم سيؤمنوا لما عاتب الله المؤمنين في الطمع لأنه سيتحقق مراد الله القدري.
لكن الله جل وعلا علِم قدرا, وأراد ذلك ألا يقع منهم إيمان.
فكانت هذه السبب – العلة الثانية في نفي الطمع عن قلوب المؤمنين.
لكنه تعبدهم بالثانية فأظهرها, ولم يتعبدهم بالأولى فأخفاها.
لم يتعبدهم بالأولى فماذا؟
فأخفاها.
( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ).
ثم قال عنهم:
( وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ):
اختلف الناس في معنى الآية.(8/71)
_ فذهب فريق من العلماء وهو قول الحسن البصري, وبعض السلف إلى أن المقصود: منافقو اليهود. منافقو اليهود.
_ وقال آخرون إن هذه الآية تنضم إلى ضميمتها في آل عمران: ( آمِنوا بالذي أُنزل على الذين ءامنو وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ).
والذي يُرى - والعلم عند الله - الذي نختاره: أن هذا القول من أحبار يهود لمن لهم به عَلاقة من الصحابة, يقولون لهم آمنا بهذا النبي كما في كتبنا, لكنهم يستدركون قائلين: إنه للعرب خاصة, ولسنا مكلفين بأن نؤمن به. { واضح؟ }.
فإذا عاد أولئك القوم الذين قالوا هذا القول للصحابة, وخرجوا منها يعاتبهم غيرهم: كيف تُقرِّون لهم بأنه موجود في كتبكم ( أتحاجونهم بما فتح الله عليكم ). { واضح؟ }.
( فتح الله عليكم ): يعني أخبركم في التوراة عن وصف النبي صلى الله عليه وسلم, فإذا أخبرتموهم أي العرب المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار والمهاجرين, والأنصار على وجه الخصوص لأنهم أكثر صلة وعلاقة باليهود كان ذلك إقامة للحجة عليكم.
ثم قال ربنا: ( أفلا تعقلون ):
اختلف العلماء في قول الله تعالى: ( أفلا تعقلون ):
# هل هو خطاب من الرب للمؤمنين فيكون أشبه بالعتاب؟
# أو هو خطاب من الأحبار بعضهم لبعض؟ { واضح }.
أو هو خطاب من الأحبار بعضهم لبعض.
وأميل إلى الثاني.
أن اليهود يلوم بعضهم بعضا على ما وقع منهم. { واضح القول؟ }.
ثم قال الله جل وعلا معنفا إياهم, ومخبرا بأنه يعلم السر والنجوى: ( أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ):
أي لا يفزع إلى هذا الطريق, ولا يميل إلى هذه الجادة, ولا يقول بهذا القول من يعلم أن الله جل وعلا مطلع عليه, يعلم سره وعلانيته.
وهذا أمر يجب أن يستصحبه المسلم.
فالله جل وعلا أجلّ من أن يُخادَع.
( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ).
((8/72)
يا بُنيَّ إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير ).
( الله يعلم سرهم ونجواهم ).
( أحصاه الله ونسوه ).
إلى غيرها من الآيات الدالة على عظيم علمه جل وعلا, وأنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة, فاستصحاب هذا الشأن العظيم من صفات الرب تبارك وتعالى يعين العبد على أن يصل بنفسه إلى طريق النجاة.
الآن؛ ماسلف يا بنيّ كان الكلام فيه عن الأحبار, والعلماء, فانتقل الحديث إلى الدهماء والعامة, ومجمل ما أراده الله أن يقوله للمؤمنين:
أمة – أي اليهود - أمة هذا حال أحبارهم وعلمائهم, فكيف يكون حال عامتهم ودهمائهم؟!! { واضح؟ }.
أراد الله أن يقول للمؤمنين: أمة – أي اليهود - أمة هذا حال أحبارهم وعلمائهم, فكيف يكون حال دهمائهم وعامتهم؟!
قال الله: ( ومنهم ) أي غير العلماء, ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون), ( أميون ) متفقون على أنهم لا يجيدون القراءة ولا الكتابة, عامة, ولهذا قال الله: ( منهم ) ليسوا كلهم, لأن اليهود يقرؤن ويكتبون, لكن من يقرأ ويكتب منهم هذا معدود في العلماء والأحبار, والحديث هنا عن العامة والدهماء.
( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ ):
نأتي عند ( أماني ) ننيخ المطايا.
( أماني ): تحتمل معنيين:
- إما أنها تكون مأخوذة من الأكاذيب و الأغاليط والأحاديث, وهذا وارد في كلام العرب.
قال كعب بن زهير:
فلا يغرنْك ما منَّت وما وعدت ــــــــــ إن الأماني ّ والأحلام تضليل
فالعرب تجعل الأماني مرادفة للكذب, الأشياء المتوهمة التي ليست لها حقائق, ولا تثبت على حال.
فلا يغرنْك ما منَّت وما وعدت ــــــــــ إن الأماني ّ والأحلام تضليل
والبيت من قصيدة لكعب بن زهير مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول.(8/73)
وقد مرت معنا إلا أنني أُذَكَِر أن كلمة ( بانت ) هنا بمعنى: بَعُدَت, ليست بمعنى ظهرت, وأكثر من يردد البيت ربما يغلب على ظنه وعلمه أن المقصود ببانت بمعنى ظهرت, ولو ظهرت لما قال ما قال في وصف قلبه, لكن البَوْن والبعد ونأْي الديار وبعدها عن نظره, هو الذي أورثه قلبا مكلولا, وهما, وحزنا.
نعود فنقول: هذا الأول.
- كما أنها تأتي بمعنى الكذب والأحاديث؛ تأتي بمعنى: التلاوة.
تأتي بمعنى: التلاوة.
قال الله تعالى: ( أَلْقى الشيطان في اُمْنِيَّتِه ) أي في تلاوته.
قالت العرب على لسان حسان:
تمنَّى كتاب الله أول ليلةٍ ______ وآخره لاقى حِمام المقادر
تمنَّى كتاب الله أول ليلةٍ - أو أول ليلِه ___ وآخره لاقى حِمام المقادر
معلوم أن عثمان رضي الله عنه مات مقتولا, وكان قد قُتل والمصحف بين يديه, وقد اُشتُهِر عن عثمان رضي الله عنه وأرضاه أنه كان كثير قيام الليل.
يُقَطَِع الليل تسبيحا وقرآنا.
فكان يقرأ الليل.
فحسان أراد أن يقول: أنه استفتح عثمان نهاره بقراءة القرآن.
( تمنَى كتاب الله ) مو معناه أنه كان بعيدا عنه وطلبه, و إنما كان يتلوه, لكنه آخر الأمر لاقى ماذا؟
حِمام المقادر: يعني الموت.
وحسان – هذا الستطراد – كان من أكبر المناصرين لمن؟
لعثمان.
قال في نونيته بعد مقتل عثمان:
لتَسْمَعُنَّ وشيكا في دياركم: ----- الله أكبر يا ثارات عثمانا
إني لمنهم وإن غابوا وإن شهِدوا ----- مادمت حيا وما سُميِّتُ حسانا
إني لمنهم وإن غابوا وإن شهِدوا ----- مادمت حيا وما سُميِّتُ حسانا
قبله:
لتَسْمَعُنَّ وشيكا في دياركم: ----- الله أكبر يا ثارات عثمانا
وينسبون إليه - وفي نفسي شيء من ذلك البيت -, وهو قوله:
ياليت شعري وليت الطير تخبرني --- ما كان بين علي وابن عفانا
لكني أظن هذا البيت قد زِيد في مرحلة تاريخية ما.(8/74)
التاريخ الإسلامي – لا ريب , قطعا – زِيد فيه زيادات في كل مرحلة, وسُلِبت منه حقائق في كل مرحلة, بحسب مصالح أصحاب تلك المرحلة وأهل النفوذ فيها, السياسية أو الدينية.
السياسية أو الدينية.
ولهذا أحيانا يصل بالإنسان إلى أن يكتُم, لأنه لو أظهر لأبطل سُلطان أقوام, وإبطال سلطان أقوام يجعلهم يتسلطون عليه.
ولهذا قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن بعض علمه لو أظهره لقُتل؛ وهو أراد بذلك بعض ما كان يُسلَِّط عليه بعض ولاة أولئك العصر, فيخسر الناس علمه بالجملة, وهذه من فقه أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه, لا كما فهمه المشغِّبون على أهل الحديث فجعلوا هذا الكلم مثلبةً في حق أبي هريرة.
لكن الإنسان إذا نظر إلى الأشياء نظرة باحث عن الحقيقة يوفَّق.
وإن كان أراد أن يبحث ليوافق ما يريد أن يطلبه الحقَّ والواقع؛ لن يجد شيئا, فيضطر إلى ليِّ النصوص وإلى إعمال أشياء كثيرة فيها حتى تتفق مع مراده, لا نريد أن نستطرد كثيرا.
نعود للآية فنقول:
الاختلاف اللفظي في معنى أماني جعل العلماء يختلفون في معنى الآية.
قال الله تعالى: ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ):
والمعنى: أن من هؤلاء اليهود طائفة لا تفقه شيئا فهي إذا كانت التوراة -أو قرئ عليها الكتاب لا تفهمه إلا كما تفهم الأقاصيص والأحاديث و الأغاليط, لا تكون منها على بينة.
وقد قلنا: إن هذا حال الدهماء.
وقد مر معنا حال العلماء.
ثم قال الله جل وعلا: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ):
كلمة ( ويل ) يراد به إيقاع الشر والهلاك.
كلمة يراد بها إيقاع الشر والهلاك.
ولم يُسمع من العرب فعل لها من لفظها.
ولم يُسمع من العرب فعل لها من لفظها.
لماذا قُلنا: لم يُسمع من العرب؟
الأصل في اللغة السماع أو القياس؟
السماع.
الأصل في اللغة: السماع.(8/75)
فمن جاء بشيء قالته العرب, سُمِع عن العرب فقد أثبت الحجة.
الله هنا جل وعلا يتوعد قوما من اليهود, كانوا يكتبون.
قبل قليل قلت: إن التاريخ الإسلامي زِيد ونقِّص منه؛ كذلك حال اليهود.
في كل مرحلة زمنية؛ الأحبار الذين كُلِّفوا بحفظ التوراة يزيدون فيها ويضيفون وينقصون بحسب الحال التي هم فيها.
فمثلا؛ عندما لم يزعم العرب أن نبيا بعث منها – بالعقل – لم يلجأ اليهود إلى محو صفات النبي صلى الله عليه وسلم, لأن لا حاجة تقتضي محوه. { واضح؟ }فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم في العرب ولم يظهر فيهم؛ اضطروا إلى أن يُغيروا, ويكتبوا كتابا آخر يُضيفوه للتوراة يبدلوا فيه الوصف الإلهي لنبينا صلى الله عليه وسلم حتى لا يغتر الأتباع به, فيُقحمون أنفسهم في التوراة, كل ذلك يُريدون أن يُبقوا على سُلطتهم الدينية والتشريعية والتنفيذية فيتحكموا في أموال الناس؛ وهذا هو معنى الثمن القليل الذي قاله الله جل وعلا عنهم: ( ليشتروا به ثمنا قليلا ), وقد حررناه, حررنا ذلك الأمر في لقاء سابق.
فالله جل وعلا هنا يقول: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ):
فارتكبوا ثلاثة أمور:
- حرفوا ماسبق.
- وأضافوا من عندهم.
- واشتروا بما أضافوه ثمنا قليلا بعدما زعموا أنه من عند الله جل وعلا, وهذا من أعظم الفرية على الله تبارك وتعالى.
على هذا:
من تأمل هذا لا يتعجب من صنيع اليهود اليوم.
لأنه إذا كان هذا حال آبائهم فحري بهم أن يكون هذا حال أبنائهم وأتباعهم, و ذراريهم.
قال الله جل وعلا بعد ذلك عنهم: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ):
اُختُلف في: الأيام المعدودة؛ ماذا أراد اليهود بها؟(8/76)
الآن الآية واضحة في أن اليهود تعترف بوجود الجنة والنار, وكذلك النصارى, قال الله جل وعلا عنهما: ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم ), وقال الله جل وعلى عنهم: ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ).
الذي يعنينا أن الله جل وعلا ذكر عنهم أنهم قالوا: أن النار لن تمسنا إلا أياما معدودة.
أشهر أقوال أهل العلم عندنا في هذه القضية أنهم قصدوا بها:
الأيام الأربعين التي عبدوا فيه العجل.
قصدوا بها أنهم يُعذَّبون بعبادتهم العجل.
يُعذبون في النار أياما معدودة هن أربعون لعبادتهم العجل.
وقال بعض العلماء أقوالا أخر لكني لا أعلم مستندا لها لا من النظر ولا من الأثر, فضربنا الذكر عنها صفحا.
نعود فنقول: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يُخلف الله عهده أم تقولون على الله مالا تعلمون):
هذا ترتيب منطقي؛
يعني زعمكم هذا مبني على أحد أمرين:
" إما أن يكون لديكم عهد من الله.
" وإما أن يكون قول تخلَّقتموه, افتريتموه على الله.
فإذا ثبت أنه ليس لكم عند الله عهد, فلم يبق إلا أن يكون قولكم فرية. { واضح؟ }
( قل أتخذتم عند الله عهدا )وليس لهم عند الله عهد,( فلن يُخلف الله عهده ) كما تزعمون ( أم تقولون على الله مالا تعلمون ) قد يقول بعض العلماء إن ( أن )هنا للإضراب الانتقالي, يعني: بل تقولون على الله ما لاتعلمون, لكن الأفضل جعلها على الترتيب المنطقي الذي بيناه آنفا.
قال الله جل وعلا مجيبا لهم: ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ):
( مَن ) هذه – أيها المبارك – من ألفاظ العموم.
من ألفاظ العموم فالقرآن أعظم من أن يُنَزَّل بقضية واحدة.
والله جل وعلا ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب.
فهاتان الآيتان فاصلتان.
قال الله ( بلى من كسب سيئة )
وقال بعدها (والذين ءامنوا و عملوا الصالحات )(8/77)
والمعنى :
ليس بين الله وبين لأحدٍ من خلقهِ نسب كُل أحدٍ في كُل مصرٍ أو في كُل عصر إذا أكتسب سيئة وأحاطت بهِ خطيئتهُ أي مات على الكُفر فهذا مُخلدٌ في النار كائنً من كان ولو كان والد نبي كإبراهيم ، أو ابن نبي ككنعان ابن نوح ، أو عم نبي كأبي لهبٍ وأبي طالب [ واضح ].
ومن كان مؤمناً ْامن وعمل الصالحات ومات على الإيمان وافى الله بالإيمان كما حرّرنا بالأمس فهذا كتب الله جل وعلا لهُ الجنة لأن الله أشترط قال ( أُوفوا بعهدي أُوفِ بعهدِكُم ) وبيّنا ( أوفوا بعهديِ ) يعني امتثال أوامري ( أُوفِ بعهدِكُم ) أي بالقبول والثواب فهذا مآلهُ الجنة أياً كان والدة و أياً كانت أُمة.
فعُمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان أبوهُ كافر ولا ندخُل في عُمر لأن عُمر أباهُ لم يُدرك النبوة قد يكون فيها قول للعُلماء .
لكن نأخُذ مثلاً عمرُ بن العاص فالعاص ابن وائل السهمي من أعظم الكُفّار وابنهُ عمر صحابي وخالدٌ سيفُ الله وأبوهُ الوليد ابن المُغيرة نزل ما نزل فيهِ من القرآن.
فلا يوجد بين الله وبيت خلقهِ تلك المعايير الموجودة في الدُنيا ليس بين الله وبين أحدٍ من خلقهِ إلا الإيمان والعمل الصالح وهذا ينبغي أن يستحضرهُ المؤمن في كُل آيةً يتلوها في كتاب الله .
عاد الحديثُ الآن إلى الكلامِ عن بني إسرائيل الحاليين والسابقين على شكل ربط .
قال الله ( وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله )وهذا مرّ معنا كثيراً أن الدعوة إلى عبادة الله وحدهُ هي أُسُّ دعوة الرُسُل وكُلُ الرسُلُ جميعاً دعوا إليها ( وبالوالدينٍِ إحسانا ) هذهِ أولُ آية في القرآن ذكر الله جل وعلا فيها حسب ترتيب المُصحف برّ الوالدين وقد مرّ معنا كثيراً .
( وذي القُربى واليتامى والمساكين وقُولوا لناسِ حُسنا )(8/78)
القرآن يُربي في الناس فقه الأولويات فمن لم يُعطي حق الله لن يُؤتي حق الخلق ، ومن منع الوالدين لن يُعطي القريب ، من منع القريبَ لن يُعطي اليتيم ، ولذالك من الفقه الخاطىء أن يوجد في الرجُل صفة تدلُ على كذب الأول لأن من ضيع حق الله وحق والديهِ والله لن يُؤتي حق الناس .
فإن صنع ورأيتهُ بعينك بحيث لا يُمكن لك أن تُنكرهُ فأعلم أنما فعلهُ لغرضٍ دُنيويً محض لا لهديٍ هو يقومُ عليهِ.
فرتب ربُنا حقهُ ثُمّ حق الوالدين ثُمّ حق ذوي القُربى والعرب كانت تأنف من ذالك الرجُل الذي يكونُ شرهُ على قرابتهِ .
قال طرفه :
وظُلمُ ذوي القُربى أشدو مضاضةً ** على النفس من وقع الحُسام المُهندِ
والله لمّا خاطب نبيهُ ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ونوحٌ علية الصلاة والسلام لمّا دعا قال (ربِ أغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات)
ثُمّ قال الله تعالى :
( واليتامى )
واليتامى جمعُ يتيم وقد مرّ معنا الحديثُ عنه والمساكين جمعُ مسكين من أذلهُ الله بالفقر وأعجزهُ فأصبح ساكنً ( وقُولوا لناسِ حُسنا ) الناس عامة المؤمنين والكُفّار وهذا من تأديب اللهِ للأُمم السابقة واللاحقة أن الإنسان يكون قولهُ هين لين يُقبل منه .
وقد قالت العرب :
أبُني إن البرّ شيءٌ هينٌ *** وجهٌ طليقٌ ولسانُ لينٌ
وأعجزُ الناس من عجز على أن يحوي الناس بلسانه
لا خيل عندك تُهديها ولا مالُ ** فليُسعد النُطق إن لم تُسعد الحالُ
وهذا بيتٌ للمُتنبي فالإنسان العاقل يحتوي الناس بكلامه حتى عندما يقولُ لك لا . يقولها بأسلوبٍ مقبول لا أجدُ شيئاً ، النبي صلى الله علية وسلم عندما أتاهُ ضُعفاءُ المُهاجرين والأنصار في غزوة جيشِ ذو العُسرة ( قُلت لا أجدُ ما أحملكُم عليهِ ) فالتعبير النبوي في الرد هُنا تعبيرٌ لطيف وهذا مُندرجٌ تحت قول الله تعالى ( وقُولوا لناسِ حُسنا ) .(8/79)
وقد كانت العرب تضربُ الأمثال برجالٍ معدودين يُحسنون الخطاب وبعضُهم كان إذا أتاهُ سائل يقول لهُ الآن لا أجد لكن أُعطيك ورقة أن لك علي كذا فإذا أصابتني حالة يُسر عُدت فأخذتها بمُقتضى هذهِ الورقة .
يقولون إن رجُلاً أظنّهُ خالد ابنُ سعيد ابنُ العاص هذا معدودٌ في أكثر العرب كرماً أصابتهُ فاقة وعُزل من منصبهِ من المدينة فذهب إلى قصرهِ في وادي العقيق في عُروة هم بعض حُماة المدينة يعني جهة الغرب كان هذا الوادي يسيل وعليهِ قُصور أكثر الناس من أهل الثراء كقصرِ من ؟ مشهور تاريخياً سعد ابن أبي وقاص وهو ورد فيهِ الحديث { إن الله يُحبُ العبد التقي الغني الخفي } كان يقصد نفسه لمّا جاءوا غُلامهُ على أن الناس يقتسمون الخلافة وهو في قصرهِ وقد حُمل سعد ابن أبي وقاص من قصرهِ عندنا في المدينة في غرب المدينة إلى الحرم حملاً على أعناق الرجال .
الذي يعنينا خالدٌ هذا عُزل فلمّا عُزل كانت دار الإمارة بجوار المسجد النبوي فرجع ولك أن تتصور أميرٌ يُعزل من سيرجع معهُ لن يرجع معهُ أحد . فلمّا رجع الناس كانوا مُلتفون حولهُ لأمرتهِ والآن لا مال ولا إمرة لكن في بعض الناس لا يفقدون شيء يعني يعود إليهم لجاههم لا يقدرُ السلاطين على مُناكفتهِم بالكُلية فهو راجعٌ سار معهُ شاب و أظنّهُ شاب فطن حتى وصل معهُ إلى باب القصر فلمّا وصل معهُ إلى باب القصر قال يا ابن أخي سلني حاجتك فإنّك مُنذُ اليوم تُرافقني، قال : واللهِ لا أُريدُ شيئاً ، قال ولماذا سرت معي ؟ قال : رأيتُك مقصوص الجناح فأحببتُ أن أعضُدك رأيتُك مقصوص الجناح فأحببتُ أن أعضُدك فوقعت هذهِ الكلمة في قلب خالدٍ موقع عظيم فقال لهُ أخرج ورقة فأخرج ورقة فكتب لهُ أن لهُ عليهِ عشرون ألف دينار دينا, و نادى غلاما له ليشهد, ثم ختمها وأعطاها الغلام ، فذهب الغلام فمات خالد بعدها بقليل.
وكان رجلا من وجهاء بني أمية في عهد معاوية.(8/80)
فأشار على ابنه قبل أن يموت: أن اذهب إلى معاوية فإنه سيتكفل بديني, وأخبره أنت بنبأ وفاتي.
فلمّا مات خالد ذهب ابنه إلى الشام, وأخبره بموت أبيه, ومعاوية وخالد قرابة – من بني أمية, فلما أخبره قال له: ما أوصاك؟
قال: أوصاني أن أآتيك وأخبرك.
فقال: خيراً فعل. أو حسناً دلك عليهِ فأعطاهُ ألاف الدنانير ليقضي بها دين أبيهِ خالد فعاد الغُلام الشاب ابن خالد إلى المدينة وأعلن في الناس بطريقة الإعلانِ آنذاك نادى مُنادي أن يأتي يأخُذون ديونهُم فجاء التُجّار الذين حصل بينهُم مُعاملات ثُم جاء هذا الشاب ومعهُ هذهِ الورقة فيها عشرون ألف دينار مبلغ آنذاك كبيرٌ جداً فلمّا أخذهُ الابن قال ما أظنُّ أبي يكتُبُ هذا أنت لست بتاجر إنما أنت صعلوكٌ من صعاليك المدينة كيف استحققت أن تأخُذ على أبي هذا المبلغ فجاء الغُلام الشاهد قال أنا أشهدُ أنهُ صحب خالدً إلى قصرهِ فسألهُ خالدٌ لما صحبتني قال رأيتُك مقصوص الجُناح فأحببتُ أن أعضُدك فكتب لهُ هذهِ الورقة فأعطاهُ العشرين ألف دينار .
موضع الشاهد :
هذهِ الآية المُجملة هُنا وهذهِ القصة التي أخبرناك بها نصّ اللهُ عليها في آيةً مكية لأن البقرة مدنية والقصة مُتأخرة هذي قصة في عهد بني أمية, قال الله جل وعلا: ( وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم ) أي المساكين ( قولا ميسورا )
الآن لاحظ أول الآية : ( ابتغاء رحمة من ربك ترجوها ) شيء تؤمله من الله, ولا يوجد مؤمن عاقل يقطع الأمل من الله هذا المقطوع الأمل من الله ما يعرفُ الله الذي يعرفُ الله على حال استعداد أن تأتيهُ نعمةُ الله [ واضح]
((8/81)
وإمّا تُعرضنّ عنهُم ) أي المساكين ( ابتغاء رحمةً من ربك ترجوها فقُل لهُم قولاً ميسورا ) أي أجلهُم إلى حين قُل لهُم أُتوني بعد غدٍ أتوني أخر الشهر لعلّك تأتيني آخر السنة هكذا لعلّك تأتيني في رمضان أشبه ما يكونُ لهذهِ الكلمات التي تندرجُ في كلام الله ( وقولُ لناسِ حُسنا ) .
قال الله جل وعلا
( وأقيموا الصلاةَ وأتوا الزكاة ثُمّ توليتُم إلا قيلٌ منكُم وأنتُم معرضون )
وهذهِ ظاهرةٌ مرّ معنا كثيراً مثلُها .
قال الله تعالى بعدها
( وإذ أخذنا ميثاقكُم لا تسفكُون دماءكُم ولا تُخرجون أنفُسكُم من دياركُم ثُمّ أقررتُم وأنتُ تشهدون * ثُمّ أنتُم هؤلاء)
(هؤلاء)
تُبين لك أن المُخاطب اليهود المُعاصرون لنبي صلى الله عليهِ وسلم
( ثُمّ أنتُم هؤلاء تقتلون أنفُسكُم وتُخرجون فريقاً مّنكُم مّن ديارهِم تظاهرُون عليهم بالإثمِ والعُدوان وإن يأتُوكُم أُسارى تُفادُهُم وهو مُحرّمٌ عليكُم إخراجهُمُ أفتؤمنُون ببعضِ الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاءُ من يفعلُ ذالك منكُم إلاّ خزيٌ في الحياةِ الدُنيا ويوم القيامةِ يُردّون إلى أشد العذاب وما اللهُ بغافلٍ عمّا تعملون )
الآن هذهِ الآيتان اضطررتُ إلى أن أقراء هُما سوياً لأنهُما لا تُفسّرا إلا سوياً والآن قُلت سنستجدي التاريخ :
المدينة الطوائف الثلاثة اليهود الذين كانوا موجودين آنذاك كانت الحرب قبل الإسلام مُشتعلة ما بين الأوس والخزرج فكانت اليهود تمسك باب الحياد >(8/82)
وتنبّه جيداً لما سيأتي لأن لن تُفسّر الآية إلا إذا عرفت التاريخ كانت قبائل اليهود الثلاثة تلتزم ماذا ؟ ـ حاول أن تُشاركني ــ تلتزم الحياد ، والحرب بين الأوس والخزرج كانت الغلبة للخزرج كثيراً الآن ضع نفسك مكان الأوس أنت مغلوب تضطر تُشرك الذين في الحياد تجُرّهُم إلى المعركة جر فذهبت الأوس تستنصر باليهود فرفضت اليهود طلبوا الحياد لمّا علم الخزرجُ أن الأوس ستستنصر باليهود ذهبوا إلى اليهود ذهبوا إلى قُريضة والنظير قالوا نخشى أن تكونُوا مع أبناء عُمومتنا فأعطوهم المواثيق أنهُم لن يكونوا وأنهُم سيبقون على الحياد ما أطمأن اليهودُ, ما اطمأنت الخزرج, طلبوا رهائن, فأعطت اليهود للخزرج أربعين غلاما حتى يضمنوا أنهم لن يشتركوا في الحرب, وفعلا لم تشترك اليهود في الحرب, وبقي الأربعون غلاما مع من؟
مع الخزرج.
الله يقول: ( كلا إن الإنسان ليطغى * أن رءاهُ استغنى ) لما شعر الخزرج أنهم أربعون من اليهود تحت أيديهم, وغلبوا إخوانهم من الأوس, أرادوا أن يتحولوا إلى مواطن سكن بني قريظة وبني النضير, وكانت أخصب أرضا, وأكثر نخلا, جاءوا الخزرج جاءوا لليهود قالوا: زيلوا عنا قليلا نُريدُ أن نسكُن دياركُم فهنّ على يهود تشاوروا رجعوا إلى رجُلٍ ذو عقل الخزرج هدّدوا قالوا إن لم تقبلوا قتلنا من ؟ قتلنا الأربعين فقال هذا الرجُل اسمهُ كعب قال يا بني قومي أبقوا على دياركُم ونخلكُم وأموالكُم ولا تبرحوها .
أما الغلمان فلا يلبثُ رجلٌ منكُم أن يأتي أهلهُ فيُولد لهُ غلامٌ مثلهُ يعني تنّحل لكن في أشياء لا تُحلّ .
أحد من العرب كان مُسافر تارك وراه زوجة وولد وأبو وأخو وجيران جاء كيف حال الأب ؟ قالوا مات قال ملكتُ أمري أولا أبوي فيه استحى منه ، قال أين الزوجة ؟ قالوا ماتت قال تجدد فراشي ، أين أبني ؟ قالوا مات قال آتي أهلي الجُدد ويأتيني اللهُ بغيرهِ ، قال أين أخي ؟ قالوا مات قال قُصم ظهري .(8/83)
يعني وين أدور أخو؟ [ واضح ] هذهِ بالعامية " وين أدور أخو ؟ لكن جاءت في السياق .
الذي يعنينا الآن لمّا قيل لهُم قال هذا العاقل قال الغلمان يُؤتى بغيرهم تلد الأزواج لكن الأرضُ والديار والنخل من الذي يُعوضُها فلمّا دخلوا اضطرت الخزرج بعد أن قتلت الأربعين أن تدخُلَ في حلف بني قينُقاع فاضطرّت بنوا النظير و قُريظة أن يدخلوا مع من ؟ مع الأوس فصارت مقتله بمُقتضى هاذين الحلفين أصبح اليهود يُقاتل بعضُهم بعضا بأن بني النظير وبنوا قُريضة في كفة و قينُقاع في ماذا ؟ في كفة أُخرى خلاص .
الحرب أي حرب لابُد أن تترتفع والله عبّر عنها بماذا ؟ ( تضع الحربُ أوزارها ) ولا يُعرف هذا التعبير قبل القرآن وضعت الحرب أوزارها لجأ اليهودُ إلى أن يفدوا أسراهُم ففدوا أسراهُم .
ما علاقةُ هذا كُلهِ بالآيات ؟
في التوراة أوجب الله عليهم فدية الأسرى وحرّم الله عليهم أن يقتُل بعضُهم بعض أن يهودي يُقاتل يهودي مُحرّم فهم بصنيعهم هذا قاتلوا بعضهُم فعلوا ما نُهوا عنه وقاموا بما وجب عليهم وهو فداء الأسرى [ واضح ]
فعاتبهُم الله تبارك وتعالى فقال
(وإن يأتُوكُم أُسارى تُفادُهُم وهو مُحرّمٌ عليكُم إخراجهُمُ أفتؤمنُون ببعضِ الكتاب وتكفرون ببعض)
فأصبحوا فعلوا شيئاً وتركوا شيءً فما كان ينبغي عليهم أن يُقاتل بمُقتضى التوراة التي بين أيديهم أن يُقاتل بعضُهم بعضَ.
فقولُ اللهِ تبارك وتعالى أنهُ حرّم عليهم لا يُخرجون أنفُسهُم هذا المعنى المقصود الملة الواحدة والله جل وعلا جعل كُل ملة كالنفس الواحدة قال علية الصلاةُ والسلام { مثلُ المؤمنين في توادُهم وتراحمهُم كمثل الجسد الواحد إذا أشتكى منهُ عضو ...} إلى آخر الحديث [ واضح القضية الآن ]
قولُ الله جل وعلا
( ثُمّ أنتُم هؤلاء تقتلون أنفُسكُم وتُخرجون فريقاً منكُم من ديارهِم تظاهرون عليهم بالإثم والعُدوان )(8/84)
من الناحية الصناعة النحوية تظاهرون أصلُها تتظاهرون كم تاء اثنتان فحُذفت أحداهُما ولا ريب أن هُناك تاء زائدة وتاء أصلية .
لكن أختلف النُحاةُ البصريون الكُوفيون في أيهِما التي حُذفت هل هي الأصلية أو الزائدة ؟
فقال البصريون وإليهِم نميلُ في الغالب قالوا إن المحذوف الأصلية لماذا؟
قالوا لأن الزائدة دخلت لمعنى التاء الزائدة دخلت لماذا ؟ لمعنى فلا معنىً لحذفها كيف أنا أُدخلُها لسبب ثُم أُخرجُها وأما الأصلية فلا معنى لها لأنها من الأصل باقية .
وقال الكُوفيون إن المحذوف هو التاء الزائدة لأنها أضعف والأصلية هي الأقوى فلا معنى لحذف الأقوى وبقاء الأضعف [ واضح ]
وهذا كثير في القرآن :
قال تعالى ( تنزّلُ الملائكةُ والروحُ فيها ) والأصلُ تتنزّل .
هذا تعريجٌ نحوي على قول الله تعالى ( تظاهرون عليهم بالإثم والعُدوان وإن يأتُوكُم أُسارى تُفادُهُم وهو مُحرّمٌ عليكُم إخراجهُمُ أفتؤمنُون ببعضِ الكتاب وتكفرون ببعض )
ثُمّ بيّن جل وعلا قال :
( فما جزاءُ من يفعلُ ذالك منكُم إلا خزيٌ في الحياة الدُنيا ويوم القيامة يُردون إلى أشد العذاب وما اللهُ بغافلٍ عما تعملون )
( ما جزاءُ من يفعل ذالك منكُم ) أُختلف في ما هذهِ هل هي استفهامية أو نافية ؟
والحقُ أنها تحتملُ الاثنين ولا أستطيعُ أن أجزمَ بإحداهُما تحتمل أن تكون نافية وتحتمل أن تكون استفهامية .
( فما جزاءُ من يفعلُ ذالك منكُم إلا خزيٌ في الحياة الدُنيا) هذهِ فيها قرينة ودلالة وشاهد على أن من الذنوب من يُعجّل الله جل وعلا بهِ العقوبة أين ؟ في الدُنيا من الذنوب ما يُعجّل الله جل وعلا بهِ العقوبة في الدُنيا لكن في نُقطة قد توافق مع أحداث العصر وإن كُنتُ لا أدري الحلقة تُذاع مع أحداث العصر أو لا .
أولاً في قضية أساسية ما كان سبباً في الذنب لا يُمكن أن يكون سبباً في الرفع [ واضح](8/85)
ما كان ذنباً سبباً في الابتلاء الذنب الذي هو سبب في الابتلاء أو أحد أسباب الابتلاء لا يُمكن أن يكون هو نفسهُ هو سببٌ في ؟ في الرفع كلام مُعمّم لكن الإنسان لابُد أن يفهمهُ فهماً جيداً .
نأتي بمثال واضح حتى تنجلي الصورة :.
مثلاً عندما تحصُل حرب أو يحصُل أذى للمُسلمين في أي قُطر [ واضح]
أي أذى لأي مُسلمين في أي قُطر في أي مكان في أي زمن من الذي يحصُل من الذي يعني يُشاهد يأتي مجموعة مثلاً من أهل الفن من دُعاة الفجور العلني فيُقيمون مُظاهرات أو يقُولون سنفعل ونفعل هذا بشرع الله لا يستقيم لأن وجود هذهِ الأعمال التي يتبناها أُولئك الأقوام هي من أسباب تسلُط العدو فلا يُمكن أن يُرفع بسببهم هُم [ واضح ]
إنما هؤلاء ما الذي يُمكن أن يُقدّموه ؟ التوبة الذي يُمكن أن يُقدّموه التوبة أنتُم تخلّصوا من ذنُوبكُم سيرفعُ اللهُ عنا البلاء.
لكن لا يُعقل أن تكونون أنتُم مُقدّمين في قضية رفع البلاء عن الأُمة مُحال لأن يعني من هذهِ أي عذاب أي ابتلاء تسلُط عدو أو غيرهِ أو جدب ديار أو غيرُهُ هذا من الذنوب وليست لا يلزمُ أن تكون محصورةً في ذنبٍ واحد لكن ليس من المعقول أن يكون همُ السبب في نزول البلاء ويكونون هُم أنفُسهُم سبباً في رفعهِ إلا أن يتوبوا [ واضح ]
وهذهِ نُقطة يجبُ أن يتنبّه لها الإنسان ولا يغترّوا بكثرة النفير الظاهري في الفضائيات والقنوات .........
علّمنا الله وإياكُم ما ينفعُنا ونفعنا وإياكُم بما علّمنا
هذا ما تيسر إيرادُهُ وأعان العلي الكبيرُ على قولهِ في هذا اللقاء المُبارك والتأمُلات في قول اللهِ تبارك وتعالى ( أفتطمعون أن يُؤمنوا لكُم ) إلى قولهِ سُبحانه ( أُولئك الذين اشتروا الحياة الدُنيا بالآخرة فلا يُخفف عنهُم العذاب ولا هُم يُنصرون )
((8/86)
فلا يُخفف عنهُم العذاب) الأفضلُ حملُها على عذابُ الدُنيا لأن عذاب الآخرة مُستقيم ( ولا هُم يُنصرون ) هذهِ يجبُ حملُها على عذاب الآخرة لأن النُصرة قد تقع في الدُنيا وقد يُسلّط أهل الكُفرُ حيناً على أهل الإيمان .
أُكرر الخاتمة عوداً على بدء
هذا ما تيسر إيرادُهُ وأعان الله على قولهِ وصلى الله على مُحمدٌ وعلى آلهِ والحمدُ لله رب العالمين ...........
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره ,و اتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين ..
أما بعد:
ففي هذا اللقاء المبارك نُتبع ما كنا قد تكلمنا عنه من تفسيرنا لسورة البقرة, وقد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول
الله جل وعلا {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمائكم} والآتين التين بعدهما ،وهما في الحديث عن بني إسرائيل.
وقد مر معنا أن الله جل وعلا ذكر بعضا من شنائع اليهود السابقين
ثم أردفها ببعض أخبار اليهود المعاصرين
لنبينا صلى الله عليه وسلم, ومنها أن اليهود انقسموا إلى طائفتين في حرب بُعاث بين الأوس والخزرج فكل طائفة منهم مالئت أخرى إما مع الأوس إما مع الخزرج ,فنشأ عن هذا ضرورة اقتتال اليهود, اقتتال طائفتي اليهود, لأن كل فرقة منهم تبعت طائفة،ثم إن اليهود بعد أن وضعت الحرب أوزارها فدت أسراها , وقلنا في الدرس واللقاء الماضي(8/87)
أن اليهود حُرٍم عليهم أن يقاتل بعضهم بعضا, كما أنهم مأمورون بشريعتهم أن يفدوا أسراهم, فاليهود بصنيعهم هذا خالفوا تعاليمهم بأنهم قتلوا بعضهم, واتبعوا شرعهم بأنهم فدوا أسراهم, وهذا هو الذي نقمه الله جل وعلا عليه بقوله تبارك وتعالى {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}هذا المعنى للآية .
وقلنا أن استصحاب التاريخ والأحداث معين جم لفهم القرآن بل إن بعض آيات القرآن محال فهمها إلا بمعرفة سبب النزول وذكر الخبر, وإلا لا سبيل إلى فهمها، لأن فهمها لا يتوقف على حل المفردات اللغوية, لكن لابد من خبر يوضح سبب النزول , وسيأتي لهذا أمثلة, لكن هذا ما انتهينا إليه في اللقاء الماضي.
ثم قال الله جل وعلا بعد ذلك ,أي بعد هذه الآيات {ولقد ءاتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل}
معلوم أنه قد مضى الحديث عن موسى, لكن جاء ذكرموسى هنا تمهيدا لا تأكيدا , فقال الله جل وعلا {ولقد ءاتينا موسى الكتاب} وقطعا المراد بالكتاب هنا : التوراة.
ثم قال جل وعلا { وقفينا من بعده }أي من بعد موسى {بالرسل}
{وءاتينا عيسى بن مريم البنات} وهذه الآية جبرا تُحدث عند طالب العلم نوع إشكال.
أين نوع الإشكال؟!
أنه معلوم أن أكثر أهل العلم على أن الرسول من أوتي بشرع جديد ،بخلاف النبي الذي يسوس أمته على شرع غيره
أين الإشكال؟!
الإشكال أن الله قال {وقفينا من بعده } أي من بعد موسى {بالرسل}فقالوا إن الإشكال : كيف يُطلق على أنبياء بني إسرائيل أنهم رُسل ولم يأتوا بشرع جديد , لأنه لا كتاب مشهور لدينا بعد التوراة إلا (من؟) الإنجيل, والإنجيل أفرده الله جل وعلا بالقول {وءاتينا عيسى بن مريم البينات}
وفي آيات أُخر (أن الله آتاه الإنجيل)
هذا هو الإشكال
فبعض العلماء يقول : يرفع مقامات (يا بني إسرائيل ) لأنها تفريع عن التوراة إلى مقام الرسل.
وهذا جواب غير علمي.(8/88)
وأرى أن الجواب العلمي أن يُقال : ليس الأمر حصر الرسل في بني إسرائيل وإنما المقصود عن الحقبة الزمنية التي مابين موسى وعيسى عليهم السلام بعث الله رسلا ليسوا إلى (ماذا؟)
ليسو إلى بني إسرائيل, ولكن إلى من جاورهم من أهل البلدان الأُخر كإلياس وذو الكفل , وذي الكفل مجرورة، معطوفة على مجرور ,وغيرهم فيكون الإخبار هنا { وقفينا من بعده بالرسل} زمنا لا أمة , زمنا لا أمة , أي جاءت رسل مابين موسى وعيسى لكنها ليست أمة أي ليسوا مبعوثين إلى بني إسرائيل فلو كانوا مبعوثين إلى بني إسرائيل ويسوسون بني إسرائيل بالتوراة لا يُطلق عليهم رسل بهذا فيما نعلم يُحل الإشكال.
قال الله بعدها {وءاتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس }
عيسى بن مريم نبي من أنبياء بني إسرائيل , وهو آخر الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم, وسينزل في آخر الزمان كما حررنا ذلك في مواضع كثيرة , واسمه بالعبرانية : [يشوع, أو يسوع] ثم نُقل إلى العربية
[يسوع أو يشوع ] أين العين؟؟
في الأخير
عيسى بالعربية أين العين ؟؟
في الأول
وهذا ما يسمى قلب مكاني, والمعنى أن العرب لما نقلت اسمه إلى العربية أجرت عليه قلبا مكانيا, وسبب ذلك أن [يشوع] عندهم أي عند العرب كلفظة , ومفردة لا كنبي لأن العرب لم يكونوا مؤمنين وجودها ثقيلة من بابين:
· ثقل العجمى فليس لها معنى عندهم.
· ثقل التركيب.
ثقل ماذا؟
العجمى , لأن عيسى اسم أعجمي غير عربي ,وثقل التركيب, فأرادوا التخفيف فأجروا قلبا مكانيا إذ لا سبيل لهم إلى العجمى, فالسبيل في التركيب الحرفي فبدلوا في التقديم والتأخير حتى يُصبح مستساغا في نُطقهم
فجعلوا الحرف الأخير في الأول ,فقالوا(عيسى)
اجتمع عنهم حرفا علة (الياء والواو) فتخلصوا من أحدها بالقلب ,فقلبوا الواو ماذا؟ ياءً ,وأبقوا الثاني كما هو (عيسى )
هذا بعض الإجراءات التي أجراها العرب كلفظ على الاسم ,أما معناه عند العبرانين فهو السيد المبارك.(8/89)
وهذا النبي اختصه الله بخصيصة لم تعط لغيره , وهو أنه لم ينتقل في أصلاب الرجال.
لم ينتقل في أصلاب الرجال, بل كان محفوظا في مقام لدنّي عند الله حتى بعث الله روحه مع جبريل لينفخ بها في جيب مريم بنت عمران أمه عليهما الصلاة و السلام.
واضح الآن قضية عيسى كاسم؟!
عيسى بن مريم طبيي لم ينسب لأبيه ,لتونا حررنا أنه ليس له أب, ولم يتقلب في أصلاب الرجال وهي خصيصة له دون سواه ،إذا استثنينا من ذلك آدم وحواء.
فنقول (مريم) كذلك اسم أعجمي, وهو في العبرانية بهذا اللفظ (مريم ) لماذا لم يُجرِي عليه العرب عند نقله إلى العربية تغيّرا كما أجروه على عيسى؟!
قلنا : العجمى لا سبيل للخلاص منها , و
إنما السبيل يكون إذا كان الاسم ثقيلا, ولم يروا في اسم مريم ثُقلا فأبقوه على ما هو عليه .
هذا من باب الصناعة اللغوية.
مريم, معناها : المرأة المتباعدة عن الرجال ,والعاكفة على خدمة الرب ،ولذا فهي أول امرأة خدمت بيت المقدس.
ومعلوم مستفيض مشهور أمها لما حملت بها كانت ترغب أن تكون ذكرا حتى يخدم في بيت المقدس , ولهذا قالت معتذرة إلى ربها كما سيأتي تحريره في سورة آل عمران قالت : {{رب إني وضعتها أنثى والله اعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم }} فانظر!
يعني من حرصها على الخير لما فاتها الذي تقدر عليه وهي كونه أن يكون ذكرا هذا لا سبيل لأم مريم عليه , فلما فاتها الذي لا تقدر عليه تمسكت بما تقدر عليه, فتقربت إلى الله أقل شيء بالاسم , تسميها اسما يكون من معانية أنها تخدم الرب
واضح؟؟
المرأة المتباعدة عن الرجال تُسمى : مريم
ضده في الرجال في العربية : الرجل المتقارب من النساء، الرجل إذا كان متقاربا في مجامع النساء يسمى في العربية : زير .
ومر معكم مهلهل بن ربيعة يُسمى الزير سالم .
يقول روبا بن الحجاج أحد أشهر العرب في باب الرجز
الرجز : أحد بحور الشعر يغلب عليه التخفيف ، يقوله كثير من الشعراء .(8/90)
يقول روبا لأبي جعفر المنصور في قصيدة رجز طويل :
فقلت لزير لم تزره مريم
أي قلت لرجل له رغبة في محادثة النساء ، والعكوف لديهن لكن زوجته على النقيض منه ، ولهذا اسماها
ماذا؟؟؟؟
سماها مريم ، لأنها متباعدة عن الرجال .
إذا استطردنا من يبني المجد لنفسه إن كان رجل لابد أن يأنف من الخوض أو الرغبة أو المحبة لمحادثة مجامع النساء ، واضح ؟
من ألف مجامع النساء من الرجال في الغالب يكون أبعد عن ذُرى المجد, ولذلك من ألفها بَعُد.
جميل بثثينه كان يحب مجامع النساء,ولذلك الناس لا ينسبونه الى مجد أكثر من ما ينسبونه الى امرأة
يقولون:
جاهد جميل بغزوة ............................. وأي جهاد غيرهن أريد
لكل حديث بينهن بشاشة............................ وكل قتيل عندهن شهيد
وهذا من داليته المشهورة, لكن المقصود من هذا: أن ذرى المجد؛هناك تعبير يقوله العلماء في هذا غير لائق نشره في هذه القضية لكني أقول:إن الميل الى مجامع النساء, والميل الى محادثاتهن يُبعد الرجل غالبا عن ذُرى المجد , هذا خلاف قضية مسالة الاستشارة أحيانا, أو الحث على طلب العلم, هذا خارج عن تقييدنا.
قال الله جل وعلا {وءاتينا عيسى ابن مريم البينات }
هذا صفة لموصوف محذوف, أي:الآيات والمعجزات البينات, ومن أشهرها:إ حياء الموتى, وإبراء ألاكمه ولأبرص
{و أيدناه } عليه السلام {بروح القدس} وأختلف العلماء في المقصود بروح القدس على أقوال:
منهم من قال:
إن روح القدس هو جبريل, وهذا هو قول الجمهور, وكثير من الآثار تشهد له
قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان: "اهجهم وروح القدس معك" كما في الصحيحين
في رده على عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه, وقول حسان نفسه :
فجبريل أمين الله فينا ......................... وروح القدس ليس له كفاء.
هذا القول عليه الجمهور , واختاره ابن كثير.(8/91)
وبعض العلماء قال: أن روح القدس معناها : الاسم الأعظم , الذي كان ينادي به عيسى عند إحياء الموتى, نوع من الدعاء, أو نوع من الاسماء كان عيسى يُنادي به عند إحياء الموتى وهذا, يُنقل عن ابن عباس ,لكني لا اعلم سندا صحيحا في رفعه الى ابن عباس , وأظن هذا القول بعيد.
وقيل : روح القدس, وهذا قول يشهد له القرآن , المقصود به الإنجيل .
كيف يشهد له القرآن ؟؟
قالوا : إن الله سمى القرآن روحا {{و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا}}
فقالوا : كما سمى الله القرآن روحا فإن الإنجيل يسمى روحا باعتبار الجمع بين القرآن والإنجيل ,أن كلا هما كتابان سماويان أنزلهما الله جل وعلا على نبيين رسولين , من أنبيائه ورسله.
أيا كانت هذه المعاني التي جاءت حول روح القدس ,أما معنى القدس: فالمطهر المنزه, يسمى القدس.
{وأيدناه بروح القدس} ثم قال الله بعد ذلك؛ أنا قلت في الأول أنه تمهيد يُخاطب هؤلاء اليهود{ أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون}
هوى : بمعنى رَغِب, وأحب ,ومال, يُستخدم في الشر أكثر مما يُستخدم في الخير, إلا أنه لا يعني ذلك, أنه لا يُستخدم في الخير, ومما يدل أنه يُستخدم في الخير قول عائشة _رضي الله عنها_ للنبي صلى الله عليه وسلم : "ما أرى ربك إلا يُسارع في هواك" أي : فيما ترغب من الخير.
عنَّف الله جل وعلا على اليهود زعمهم أنهم متمسكون بأصل الإيمان , بأن هذا الإيمان الذي يدّعونه كانوا فيما مضى يقتلون أنبياء الله كزكريا, ويستكبرون على غيرهم ككثير من الأنبياء كموسى.
{وقالوا} أي اليهود {قلوبنا غلف} جمع أَغلَف, من على قلبه غطاء, وغشاوة, أي : زعموا أن الذين يمنعنا من إتباعك ما على قلوبنا من الغطاء, والغشاوة
قال الله {بل لعنهم الله بكفرهم فقليل ما يؤمنون } أعظم ما تدل عليه هذه الآية أن تعلم أن من الجزاء ما يكون أعظم من الذنب.(8/92)
تحرير المعنى : هؤلاء اليهود اجترؤ على الله وعلى رسله فعاقبهم الله على هذا الاجتراء بأن جعل قلوبهم لا تقبل الإيمان ، ولا ريب أن الله جل وعلا إذا طبع على قلب أحد ولم يجعله يقبل الإيمان ، هذا والعياذ بالله عقوبة وجزاء ظاهر القسوة، وعلى هذا صُرف اليهود عن إتباع الحق لما اجترءوا على المعاصي فعاقبهم الله جل وعلا بقوله {بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون} أي الذي جعلهم حقيقة لا يقبلون الحق ما أقامه الله جل وعلا عليهم من اللعنة حتى أصبحوا مطرودين من رحمة الله .
ولهذا اللعن، نقرأ في كتب التعريفات أنه الطرد والإبعاد من رحمة الله.
والحق أن التعبير هذا على إطلاقه في النفس منه شيء، لا يستقيم شرعا وإن قال به أكثر أهل العلم لأنه ينبغي تقيّده, فيُنظر مَن الملعون؟
ثم يُقال:
إن المسألة مسألة نسبية, فقد يكون اللعن طردا بالكلية،
وقد يكون اللعن منعا من دخول الجنة,
وقد يكون اللعن حكما على أحد بالنار,
وقد يكون اللعن تخفيضيهم ,إنزال من درجة وهذا أكثره يرد في حق أهل الإيمان, وعليه تُحمل الأحاديث في عُصاة المؤمنين ,خاصة بعض الأعمال غير المدرجة في ظاهرها من الكبائر
وإن كان الآخرون يقولون: إن وجود اللعن دليلة على الكبيرة , لكن أحيانا بعض الأحاديث تدل على أن الأمر ليس بالكبيرة, ومع ذلك دخل فيه اللعن, فيكون اللعن هنا محمول على إنزال من درجة معينة, من درجة المقربين الأبرار أو من درجة أهل الفضائل, أو ما أشبه ذلك من أصحاب اليمين,لكن لا يكون طردا كُيا كما هو حق لعنة الله على الكافرين.
قال الله جل وعلا بعدها: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}
{لما جاءهم كتاب من عند الله} المقصود قطعا بالكتاب هنا القرآن
{مصدق لما معهم} أي التوراة
{(8/93)
وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} الاستفتاح في اللغة يُطلق على معنيين:
·أما في أصله الأول فهو طلب النصرة
·أما الأمر الثاني : الاستدراك على القارئ ، فلما يقرأ الإمام في الصلاة ويقع منه سهو في آية تستفتح عليه, ماذا تستفتح عليه؟؟
تُذكره بما نسي ,تُعيد القراءة حتى ينتبه من سهوه, هذا المعنى الثاني.
والمعنى الأصلي لها الأول: طلب ,طلب النصرة.
يُصح معنى الآية على الأول ,أن العرب ,بعض العرب كالغطفانيين عندما كانوا يُحاربوا اليهود, كانوا اليهود يستنصرون الله عليهم, فمن جملة ما يستنصر اليهود ربهم , أنهم يقولون:
أننا هاجرنا, ويتوسلون إليه بأنهم هاجروا من أجل النبي الذي سيخرج في آخر الزمان ,وهذا يُصبح معنى قول الله جل وعلا: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا } واضح؟!
هذا على طلب النصرة, أي يتوسلون إلى الله بأنهم خرجوا من أجل ذلك النبي الذي سيظهر في آخر الزمان.
أما على المعنى الثاني : أي أن هؤلاء اليهود كانوا يقرءون من كتبهم على غيرهم أن نبيا سيكون في آخر الزمان دون طلب نصرة في الحرب, فالله جل وعلا يقول: ذلك النبي, والكتاب الذي كنتم تقرءون على الناس خبره جاءكم, ثم قال ما ع{ فلما جاءهم ما عرفوا} بدليل أنهم كانوا يقرءون به على الناس
{كفروا به} ولم يُبين لنا الله إلى الآن سبب الكفر, لكن سيأتي {فلعنة الله على الكافرين}
ثم قال ربنا {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله} البغي : تجاوز الحد ويكون بسبب الظلم, والظلم من أعظم أسبابه الحسد, ولكن إلى الآن لم يُصرح الله بالحسد, وإنما ذكر لازمه وهو البغي .
{بئسما اشتروا به أنفسهم} بئس : فعل يُفيد الذم ,مر معنا كثيرا.
{على من يشاء من عباده فباؤا بغضب على غضب} غضب على غضب : لابد أن تكون هناك معصيتان:
* المعصية الأولى : عدم التزامهم بالتوراة.
* والمعصية الثانية : رد هم القرآن.(8/94)
ثم قال الله { وللكافرين عذاب مهين}
..
{ وإذا قيل لهم امنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا }
{آمنوا بما أنزل الله } أي القرآن
{نؤمن بما أنزل علينا} أي التوراة
{ويكفرون بما وراءه} أي بما سواه
{وهو الحق مصدقا لما معهم} الحق هنا , الألف واللام ( ال) هنا فعلا للجنس, لكن ينبغي أن يُفهم أنها تحمل هنا معنى الاشتهار , وأحيانا يا بُني الألف و اللام تتضمن معنى الاشتهار والعرف, حتى يصبح كأنه معنى من معاني الحصر.
قال حسان :
وإن سنام المجد من آل هاشم........................... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
أُعيد, قال حسان يهجو رجلا:
وإن سنام المجد من آل هاشم..............................بنو( خبر إن)بنت مخزوم ووالدك العبد.
لم يقصد أن العبودية محصورة في والده, في والد المذموم, لكن المقصود: أن والدك اشتهر إذا أطلق لفظ العبد على من ؟!على والدك
اشتهر لفظ العبد إذا أطلق على والدك ينصرف إليه صورة أولية
فالله أراد أن يقول هنا {وهو الحق} أي أن الحق إذا أطلق اشتهر به الدين, والقرآن الذي جاء به
محمد لا حصر الحق فيه . واضح؟
لأن الله جل وعلا حق ، فقال الله جل وعلافي هذه الآية {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه} أي بما سواه
{وهو الحق مصدقا} حال
ويصح أن تكون في غير القرآن مضمومة، تُصبح ماذا؟؟ خبر
لكنها هنا حال مؤكدة على مذهب سيبويه، لأن الحال يا بُني تقع مؤكدة وتقع مؤسسة.
{وهو الحق مصدقا لما معهم} أراد الله أن يُجيب عليهم قال : {قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} معنى الآية : من حيث الإجمال قالوا: أليس محمد يقول: إن التوراة حق؟؟
قلنا بلى .
قالوا : إذا بما أن التوراة حق يكفينا أن نكون مؤمنين أن نكتفي بالإيمان بماذا؟ بالتوراة،(8/95)
مادمنا آمنا بالتوراة كفى،وأنتم تقولون أن التوراة حق منزلة من عند الله فلا حاجة لنا بن نزيد لأننا دخلنا في أصل الإيمان
هذا
صنيعهم ودعواهم ، قال الله جل وعلى لهم : إن التوراة طبعا لا يمكن أن تأمركم بقتل نبي فإن كنتم تعتقدون أنه يكفيكم ألإيمان بالتوراة .
قال الله بعدها { قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين } أي إن إيمانكم بالتوراة ليس إيمانا حقيقيا ولهذا قال الله بعدها يذكرهم ببعض معايبهم { ولقد جاءكم موسى بالبينات} لاحظ أنه ما قال: واتخذتم العجل قال { ثم اتخذتم العجل } أي جاءتكم البينات تدبرتموها ومكثت في أيديكم زمانا ، وفي أذهانكم أزمانا ، وفي قلوبكم شهورا وأياما وأعواما ، ثم بعد استقرارها قلبا وعقلا ويدا وقراءة وتأملا ، ماذا فعلتم ؟!. اتخذتم العجل ، وقلنا في اللقاء الماضي : أن العرب تقول مثلا : اتخذ الرجل التدريس مهنه ، فقلنا إن مهنه مفعول ثاني . لماذا ؟ لاتخذ .واضح ؟
قلنا هذا ، لكن الله هنا لم يقل { ثم اتخذتم العجل } إله ، حذف المفعول الثاني ، وليس في القرآن كله كما حررته من قبل ذِكر أن الله ذَكر أن اليهود اتخذوا العجل إلها ،كلمة إله لا تأتي ، لماذا؟! قلنا : إن السبب أن عدم ذكر المفعول هنا: من التشنيع على من اتخذوه ، أي أمر لا يتصور عقلا ولا نقلا أن أحدا يترك عبادة الله ويعبد عجلا ، فلما كان أمرا لا يُتصور عقلا ولا نقلا أعرض القران عن ذكره ، إلا تلميحا يذكر أوله ويترك آخره لشناعته ، واضح ؟
قال الله { ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون }
{وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة} هذه بعض الآيات والآلاء والمواثيق والعهود التي أخذها الله عليهم .وقد مرت معنا تفصيلا
{(8/96)
ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا } ماذا قالوا ؟ قالوا :{ سمعنا وعصينا واشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين } هذه استعاره ، شبه الله جل وعلا تأّصل حب العجل في قلوبهم مع عبادته له كالمشروب الذي إذا استساغه العبد سرى في شتى أعضاءه ، وقد قال العلماء : إن هذا لا يكون للطعام كما يكون للمشروبات ، ولهذا عبّر الله عنه بقوله { واشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } وأنا لا أريد أن أُنيخ المطايا كثيرا عند مثل هذه الآيات ، لأن نظائرها مرّ كثيرا معنا .
قال الله جل وعلا {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خاصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } هذا رد على مزاعم، اليهود تقول أن الجنة يدخلها اليهود ، وأن النار لن تمسهم إلا أيام معدودة فمن كان على ثقة وبرهان عندهم أنه سيدخل الجنة لا محالة بَدَهي أن يتمنى الموت ، لأنه لا يحول بين من كتب الله له الجنة وبين دخولها إلا أن يموت ، فالله يقول لهم { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } واليهود تعلم ، وهذا من الآيات التي تضمها إلى أخرى ، مر معنا قضية أبي لهب ، وقلنا أن أبا لهب عجز أن يقول آمنت بمحمد ، هذه أختها، كيف أختها ؟! اليهود علماء ، بل وغير العلماء من الناس يعلم قطعا أن الأجل لا تقدمه أمنيه ولا يؤخره خوف منه .
أعيد . تنبه لهذا : الأجل لا يقع بالتمني ولا يرده الخوف منه ، الأجل محدود ، محتوم ، مكتوب . فسواء تمنيت الموت أو لم تتمناه ، دافعت به عن نفسك أو فررت ، الموت حاصل حاصل في وقته ، هذا أمر متفق عليه بين العقلاء .
واضح ؟
أين الضميمة هنا في الآية ؟ الله يقول لهم تمنوا الموت إن كنتم صادقين ، واليهود يعلمون أنهم لو تمنوه لم يقع إلا في وقته ولو لم يتمنوه لن يقع إلا في وقته ، فالتمني وعدم التمني بالنسبة لوقوع الموت ، ماذا ؟! واحد .(8/97)
ومع ذلك ماذا حصل ؟!لم يستطيعوا أن يتمنوا الموت ، وإلا ردوا على الرسول صلى الله عليه وسلم .
فالله يقول { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } سنثبت لكم أننا صادقون : اللهم ارزقنا الموت ، يقولون هكذا ، لكنهم لم يتمنوه . فالله جل وعلا عَلِمَ ما في قلوبهم وقَدُرَوا على ألسنتهم .
أعيد : علم ما في قلوبهم وقدُر على ألسنتهم . ولهذا ، هذه الآيات تُنبيك أن هذا القآان من عند الله ، مثل هذه الآيات يقطع كل طريق ووسوسة وشُبه أن القرآن من عند غير الله ، كل وسوسه أو شُبه تأتيك أن القران من عند غير الله ، يُقطع بمثل هذه الآيات .
هؤلاء أمة حسدوا النبي وبغضوه وقاتلوه ، والله يقول لهم في آية يسمعونها وتُقرا عليهم { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } عجزوا أن يقولوا نتمنى الموت مع يقينهم أن تمنيهم للموت لم يُعجّل به وعدم تمنيهم لن يؤخره ، هذا يعلمه كل أحد كما حررته مديداً ، ومع هذا عجزوا أن يقولوا ، حتى تكون رسالة واضحة لكل أحد أن القرآن من عند الله ..
قال الله { ولن } هذه نفي
{ يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين } لأنه علموا أن مصيرهم الهلاك بالآخرة بسبب أعمالهم لن يتمنوه . الناس وبادئ الرأي في التفسير يذهبون إلى معنى ، وهذا عليه الجمهور { ولن يتمنوه أبد بما قدمت أيديهم }
المعنى الأول للآية : لن يتمنوا الموت بسبب خوفهم ، ماذا ؟ من الآخرة ، لأن الباء هنا سببيه ، واضح ؟
فلا يتمنون الموت لأنهم يعلمون أنهم كاذبون في دعواهم أنهم سيدخلون الجنة ، وأن مصيرهم إلى النار، هذا ظاهر ؟!
هذا جدا ظاهر ، لكني أقول ليس هذا المعنى للآية وإنما المعنى : لن يقع منهم التمني حبسا من الله لهم بسبب ماذا ؟(8/98)
بسبب معاصيهم . واضح ؟ يعني المعنى أن الله جل وعلى منعهم أن تنطق ألسنتهم بالتمني الذي يردون به على النبي ، لأنهم لهم معاصي اجترءوا بها على الله فخذلهم الله جل وعلا ونكّس بهم حتى إنهم لا يقدروا أن يقاوموا نبيهم صلى الله عليه وسلم ويجادلوه ، ظاهر هذا ؟ أرجوا أن يكون واضحا .
قال الله جل وعلا { ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين }
هنا نقف وقفة :مرت معنا (لن الزمخشرية) وقلنا إن الزمخشري جارَ الله بدل من الزمخشري وهي منصوبة يقول في قول الله{{لن تراني }} إن رؤية الله جل وعلا مستحيلة شرعا وقدرا في الآخرة،وسمى (لن )هذه لن تأبيد،{{لن تراني}}هذه الآية مر معنا هذا، و أقوله تذكيرا: أنها تبين خطأ ما ذهب إليه الزمخشري،كيف تبينه ؟ أن الله أثبت هنا أن اليهود لا يتمنون الموت،قالوا {ولن يتمنونه أبدا} وقال في سورة أخرى ، وفي آيات أخر أن أهل النار يتمنون الموت{ {وقالوا يا مالك ليقضي علينا ربك }} ومع ذلك معلوم قطعا أن اليهود من جملة أهل النار فبذلك كون أنهم يتمنون الموت واقع لا محالة في الآخرة .، ومع ذلك نفاه الله هنا ، فالنفي نفي في الحياة الدنيا ولا يستمر ولا يتصل في الآخرة لأنه يقع منهم تمني الموت في النار ، فعلى هذا تبطل حجة الزمخشري بقوله أن (لن ) تعني النفي التأبيدي في الدنيا والآخرة، ولو لم يكن ذلك أصلا قائما بالحجة اللغوية التي حررناها فإنه محجوج بالنصوص والآثار القاطعة برؤية أهل النعيم لربهم تبارك وتعالى والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم .
ثم قال الله جل وعلا { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يُعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يُعمَّر والله بصير بما يعملون } نسأل الله العافية .
اللام : موطئه
هم : واقعة في جواب القسم
والمعنى : والله لتجدنهم ، والنون نون التوكيد الثقيلة { أحرص الناس على حياة } نكّرت حياة لإرادة التنويع ، والمعنى أي حياة.
{(8/99)
ومن الذين أشركوا } الآن أنا سأعطيك النهاية ، الوقت لا يسمح بالغوص لكن سأعطيك الثمرة ، الآن دع القلم .
تأمل معنا الآية : أهل لإشراك يختلفون عن اليهود في شيء ظاهر ، اليهود يؤمنون بوجود الآخرة {{ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى}}
واضح ؟
أهل الإشراك لا يؤمنون بوجود الآخرة {{من يحيي العظام وهي رميم }} بالعقل يا بُني إذا كان اليهود يؤمنون بوجود الآخرة و أهل الإشراك لا يؤمنون بوجود الآخرة ،أيهما ينبغي أن يكون احرص على أن يعيش؟ أهل الإشراك ،لماذا ؟ لأنهم يعتقدون أنهم إذا مات انتهى بالكلية لا بعث و لا نشور بخلاف من يؤمن بالآخرة يعلم أن هناك بعث ونشور سواء كان في الجنة أو في النار لكن أهل الإشراك لا يؤمنون ببعث ولا نشور، فعلى هذا بالعقل والنقل ينبغي أن يكون أهل الإشراك أكثر أهل الأرض تمسكا بالحياة لأنهم يعتقدون في قلوبهم ضلالة أنه لا حياة بعدها ، واضح ؟
مع ذلك يقول الله :هؤلاء اليهود أحرص من الذين أشركوا، الذين لو أنهم كانوا حريصين على الحياة لكان أمرا مستساغا مع عقيدتهم لأنهم لا يؤمنون أن هناك بعثا ولا نشورا، ومع ذلك هؤلاء اليهود الذين يؤمنون بالبعث والنشور من جهة، ويعتقدون أو يقولون أنهم أهل جنة أحرص من أهل الإشراك على الحياة، وهذا يدل على تشبث اليهود بالحياة.
لكن ينبغي أن يُعلم أن الحرص على الحياة من حيث الأصل موجود في كل أحد، تقول عائشة: ((كلنا يكره الموت)) لكن المقصود من هذا القول، من هذا الحرص هنا: الحرص الذي لا طمع فيه مع رحمة الله،(8/100)
ذلك التشبث المبالغ فيه في الحياة الدنيا، وإلا كل إنسان عند نزعة الروح يُحب أن يبقى، ولذلك لو قُدّر لكم أن تكشفوا أوراق تحقيق في مسائل الانتحارات، خاصة الذين ينتحرون شنقا، تجد آثار تدل على أنه حاول أن يُثني نفسه عن الانتحار بعد أن شعر بمنازعة الروح، يعني مثلا إذا وضع نفسه معلقا ، إذا كان في وسط الغرفة ما يظهر، لكن إذا كان بجنب جدار يظهر نوع من ضربات أقدامه، أو ظهره في الجدار،التي تدل على أنه يُحاول قدر الإمكان أن يترك ما عزم عليه.
متى يصل إلى هذه المرحلة؟!
إذا شعر بمفارقة الروح، الذي يسمونها إخواننا المصريون حلاوة الروح، وهنا عندها الإنسان يتشبث بالدنيا أكثر، هذا من حيث الفطرة، عموما جُبل الناس عليها.
هذا الله جل وعل هنا يقول : أنه لو كان هناك أحد يتشبث بالدنيا أكثر مما هو فطري لكان أهل الإشراك،لأنهم لا يؤمنون ببعث ولا نشور، لكن هؤلاء اليهود يُقسم الرب أنهم أشد حرصا، ونحن نؤمن بكلام الله ولو لم يكن مصحوبا بقسم، لكن المسألة سيقت للتأكيد.
{ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يُعمَّر ألف سنة وما هم بمزحزحه من العذاب أن يٌعمر والله بصير بما يعملون}
هنا نتوقف عند ( لو ) من حيث الصناعة النحوية ، لأهل العلم في معنى ( لو ) هنا ثلاثة أقوال:
1-من أخذ طريقة سيبويه وجدها أن معناها حرف امتناع لامتناع، فإذا قلنا أنها حرف امتناع لامتناع لابد لها من جواب، والجواب غير مذكور هنا فلابد أن يُقدر.
أُعيد: مذهب سيبويه ومن وافقه من نُحاة البصرة وغيرهم ، أن معنى ( لو ) هنا :حرف امتناع لامتناع، وقُدر جوابها هنا ، وتقدير الجواب : يود أحدهم لو يعمر ألف سنة،
يصبح المعنى: لو أن أحدهم عُمِّر ألف سنة لسُر بذلك ، يعني يُصبح المعنى: يود أحدهم التعمير.
{لو يعمر ألف سنة} لسُر بذلك، فيصبح مفعول( يود ) محذوف، وجواب ( لو ) كذلك محذوف ، وقالوا إن سبب الحذف: الدلالة عليه، هذا مذهب من؟(8/101)
سيبويه _ رحمه الله _ وأنا في غالب اختياراتي النحوية اختار قوله إلا هُنا.
هذا قول سيبويه.
- قال نُحاة الكوفة كأبي علي الفارسي، وأبو البقاء، وغيرهم ممن تبعهم سواء كانوا كوفيين أصلا أم لا ،قالوا: عن ( لو ) هنا بمعنى :أن المصدرية ، فيُصبح المعنى عندهم :يود أحدهم تعمير ألف سنة، لأن المصدر المؤول يُعوّض به عن المصدر ماذا؟ الصريح، تقول : أحب أن أنجح ما معناها؟ أحب ماذا؟ النجاح
فالنجاح مصدر عوضا عنه أن المصدرية فهم يقولون أن (لو) هنا قامت مقام أن المصدرية ، فيُصبح المعنى : يود أحدهم أن يُعمًر ألف سنة، وهي بهذا المعنى لا تحتاج إلى جواب ومن قرائنهم، قالوا: إن يود في القرآن جاءت مقرونة بأن فجعلوا ( لو ) مقام (أن) ، لأن (أن) في القرآن كثر ارتباطها في الفعل (يود)، {{ أيود أحدكم أن تكون له جنة}} هذا مذهب من؟ نحاة الكوفة.
3- مال الزمخشري هنا إلى أنها بمعنى : التمني، وهو القول الثالث، مال الزمخشري إلى أنها هنا بمعنى : التمني، وهذا والعلم عند الله من حيث الصناعة النحوية أقرب إلى الإجابة لأن تقدير الجواب الذي قال به سيبويه يُحدث زلزلة في المعنى لا تستقيم، رحمة الله سيبويه.
{وما هو بمزحزحه من العذاب أن يُعمَّر }فطول العمر أو نقصانه لا يُغيّر من الأمر شيئا، وإنما يُغيّر من الأمر العمل الصالح، وهذه مسألة إيمانية طرقناها في وقتها
{والله بصير بما يعملون}الآية ظاهرة المعنى، فإن الله يعلم الخفيات، ويٌدرك ما تحويه كل نفس، تبارك اسمه، وجل سلطانه،وعلا قدره،لا رب غيره، ولا إله سواه.(8/102)
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده حول هذه الآيات المباركات ،و يُلاحظ من يسمعنا أو يشاهدنا أننا لم نقف كثيرا عند مسائل إيمانية فنحن نجمع أحيانا ما بين الطَرق الوعظي، والطَرق العلمي بحسب ما تقتضيه الحال،وإنما يُعرف الطَرق جملة إذا ضُمت الأشباه والنظائر إلى بعضها على بعض، ونحن لا نتكلم بطريقة جزئية منفكة عن غيرها،ونؤسس لدرس منفرد، وإنما هذه الدروس المباركة يُجمع أولها مع آخرها، وبينهما وسطها، ويتحرر من ذلك معاني جليلة، أفاء الله جل وعلا بقولها.
هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد:
لقد كنا انتهينا في اللقاء الماضي إلى الآية السادسة والتسعين من سورة البقرة ,ونشرع اليوم مستفتحين بقول الله جلا وعلا {قُل مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلبِكَ بِإِذنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَينَ يَدَيهِ وَهُدىً وَبُشرَى لِلمُؤمِنِينَ } هذا الكلام مازال في سياق الحديث عن اليهود, واليهود أئمة ضلال ، مبني ضلالهم
على ردهم في الأشياء الواضحات , والآيات الظاهرات ,هذا قوام ما هم عليه اليوم، ليس قوام دينهم الذي جاء به كليم الله موسى.
وقد ذكر المفسرون -رحمهم الله- في تفسير هذه الآية أن فئة من اليهود المستوطنين في المدينة قدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،وكانوا كثيرا ما يقدمون عليه، وينادونه إما باسمه يا محمد، أو بكنيته يا أبا القاسم
فجاءوه مرة على اعتبار أنهم ينشدون الهدى فسألوه أسئلة،
فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم –تبليغا للشرع وإقامة للحجة عليهم ,فلمّا فرغوا من أسئلتهم ,وفرغ النبي من إجابته،قالوا: بقية واحدة(8/103)
قالوا:من وليك من الملائكة ؟
قال:ولي من الملائكة جبريل .
قالوا هذا الذي ينزل بالحرب والقتال، لو كان وليك من الملائكة ميكال الذي ينزل بالقطر والماء لاتبعناك .
فلما قالوا ذلك فرّقوا بهذا القول بين ملائكة الله جلاّ وعلا، وردوا على الله جلا وعلا أمره، واعترضوا على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
فأنزل العلي الكبير قوله{قل} والخطاب للنبي{ قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك}وأَحلُ الإشكال في الربط ما بين قول الله جلا علا (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك } أن إنزال القرآن بواسطة حبريل على قلب محمد_ صلى الله عليه وسلم _ يستوجب موالاته لا يستوجب معاداته، يستوجب موالاته لا معاداته -عليه السلام –
فهم عاملوها بالنقيض ،فجعلوا هذا الخير الذي أعطاه الله لجبريل جعلوه موجبا للعداوة، ولم يجعلوه موجبا للموالاة، وهو الحق
فأنكر الله عليهم صنيعهم هذا قائلا{فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين }
مصدقا لما بين يديه من الكتب السماوية، ولما سيكون فيه من خلص الأخبار التي لا لبس فيها، وهدى للمؤمنين يبين لهم معالم الحق، وفي نفس الوقت يحمل في طياته البشارة ،وأعظمها وقوع وعد الله تبارك وتعالى .
ثم قال الله{مَن كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ} وهذا تحرير وزيادة تفصيل {من كان عدوا لله وملائكته ورسله} وهذا قول الملائكة عام ،ثم أتى بذكر الخاص فقال:{ وَجِبرِيلَ وَ مِيكَالَ}مما دل به على شرف جبريل و ميكال – عليهما السلام – {فَإِنَّ اللَّه عَدُوُّ } والسياق اللغوي يعني يستوجب أن يكون هناك إضمار، لكن الله أظهر مبالغة في الشناعة على أولئك القوم قال الله: {فَإِنَّ اللَّه عَدُوُّ لِلكَافِرينَ } ولم يقل فإن الله عدو لهم .(8/104)
ثم قال الله جل وعلا {وَلَقد أَنزَلنَا إِلَيكَ آيَاتِ بَيِنَاتٍ وَمَا يَكفُرُ بِهَا إِلا الفَاسِقُونَ } ما جئت به أيها النبي الخاتم من آيات واضح جدا ,ولهذا يبنات: صفة لآيات {ولقد أنزلنا إليك آيات بينات } يعرف علماء اليهود قبل عامتهم أنها صائبة حق من الرب تبارك وتعالى،فكفرهم بها ليس لنقص في تلك الآيات ،لكن لما يحملونه في طياتهم من الفسق والخروج عن الطاعة.
ثم قال الله { أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنهُم بَل أَكثَرُهُم لا يُؤمِنُونَ} والتحرز في الخطاب القرآني وارد في أكثر الآيات يقول الله : {{ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة }} وهنا يقول الله { نبذه فريق منهم } فكلمة فريق لا تعني الكلية،فاليهود كانوا طوائف أربعة،من أشهرهم:
• من كان مؤمنا بالله واليوم الآخر قائما بالكتاب على أكمل وجه
وهذا سيأتي في قول الله تعالى { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به}• وعلماء يعلمون أن فيه الحق ولكنهم أَبَو حسدا .
• وجهله يتبعون علماؤهم
• وآخرهم ورابعهم ، فسقة متمردون حتى على شريعة،على شريعة موسى.
قال الله {أو كلما عاهدوا عهدا } الهمزة هنا للاستفهام
والواو عاطفة هذا مذهب سبويه -رحمة الله تعالى عليه – وقد تكرر هذا القول أو النظير في القرآن كثيرا.
{أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم } النبذ: في الأصل لا يكون إلاّ بعد استلام وقبول، و هم قبلوا التوراة ثم بعد ذلك نبذوها وتركوها فيكون النبذ إلقاء لشيء تحمله،قال الله لأم موسى {فنبذناه في اليم } ذكر الله جل وعلا الإلقاء في اليم ,وذكر فرعون بأن الله نبذه في اليم بعد تَمكن الله تبارك وتعالى منه , والمقصود{نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون } وكلمة بل: هنا للإضراب أي للانتقال أي أن الحق في صنيعهم أنهم لا يؤمنون .
ثم قال الله {وَلَمَّا جَاءَهُم رَسُولٌ مِن عِندِ اللَّه}
{(8/105)
كِتَابَ اللَّهِ} المقصود القرآن {وَرَآءَ ظُهُورِهِم كََأنَّهم لا يَعَلمُونَ } مع أنهم أهل علم لكن(كأن)تفيد التشبيه ,فشبههم الله لما لم يعملوا بعلمهم شبههم بمن لا علم له أصلا ,لما لم يعملوا بعلمهم شبههم الرب تبارك وتعالى بمن لا علم له أصلا .
ثم لما ذكر الله جل وعلا نبذهم للكتاب ذكر ما الذي تحلو به
وبالعقل والنقل أي إنسان يترك شيئا لابد أن يملأ يديه بشيء آخر
فمن ترك السنة سيمتلأ بالبدعة
ومن ترك التوحيد سيمتلأ بالشرك وهكذا
فلما ترك هؤلاء الهديين هدي التوراة من قبل،وهدي القرآن في العصر الذي هم فيه ذكر الله جل وعلى عنهم أنه قال {واتبعوا } على حال هم فيها تاركين الحق,تاركين التوراة {وَاتَّبَعُوا مَا تَتلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلِكِ سُلَيمَانَ} وتتلوا هنا بمعنى: تقرأ وتُملي لكنها تعدت بحرف الجر(على)
والعرب إذا عدت القول بحرف الجر( على ) يغلب على سَنن كلامها أنها تقصد به:التكذيب تقول: تقّول علي فلان ما لم أقله، تقوّل علي فلان ما لم أقله، تقصد التكذيب فعديته بحرف الجر (على) .(8/106)
قال الله {وَاتَّبَعُوا مَا تَتلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلكِ سُلَيمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيمَانُ وَلَكِنَ الشََّيَاطِينَ كَفَرُوا } سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام أحد أعظم أنبياء بني إسرائيل , وبنو إسرائيل بُعث فيهم :يوسف عليه السلام ,ثم بُعث فيهم موسى عليه السلام ، وهو الذي خرج بهم من أرض مصر ثم مكثوا أربعين سنة في التيه، خلال الأربعين سنة التي في التيه مات هارون، ثم مات موسى ،ثم دخل بهم يوشع بن نون عليه السلام الأرض المقدسة، ثم وجد فيهم أنبياء لم يصرح الله باسمهم ،لكنه ذكر أحدهم دون اسمه رفيقا لطالوت قال الله جل وعلا {{ وقال لهم نبيهم إن آية ملكه}} أي ملك من؟ طالوت، هذا النبي في عهده ظهر داود , في عهد هذا النبي وعهد الملك طالوت ظهر داود عليه السلام قال الله {{وقتل داود جالوت }} فآل الأمر إلى داود عليه الصلاة والسلام ،ثم آل الأمر بعد داود إلى سليمان.(8/107)
الله جل وعلا يُمايز بين عباده ،ويجعلهم مختلفين، ولا نقول تفاوت لأن الله يقول{{ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت }} لكن الله نسب الاختلاف لنفسه قال {{ وله اختلاف الليل والنهار }} فالاختلاف لا يعني بالضرورة الذم،ويعطي الله كل أحد بعضا من المناقب والصفات والخصائص، فأعطي داود حظا كبيرا من العبادة، حظ الصلاة إلى الله ،حظ الصوم إلى الله , وأعطي سليمان حظا كبيرا من الملك ,وفي كل خير، ولكل أحد منهما مصلحة في زمانه فربما كان الناس في زمن داود أحوج لملك عابد ونبي عابد يتأسون به , وفي زمن سليمان فتحت الممالك فكانوا أحوج إلى نبي قوي مسخر له وملك حازم فكان سليمان عليه الصلاة والسلام ,سليمان مما أعطيه أن الله سخر له الجن، الله يقول {{يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب}} قطعا حَملت الجن وشياطينهم غير المؤمنة يالذات منهم في قلوبهم ما حملوا على سليمان، فلما مات سليمان قامت الشياطين وأخرجت طلاسم كانت قد أخفتها وزعمت بعد موت سليمان أن سليمان كان يحكمكم بهذه الطلاسم،فأخذوا يقرؤونه على الناس تلك الطلاسم مؤملين إياهم أن يسودوا كما ساد سليمان، والترغيب في أن يسود الناس كما ساد سليمان هو المعبر و الممر الذي من أجله قال الشياطين على سليمان ما تقّولوه ، فيكون طمع الإنسان في السيادة,هذه الثغرة فيهم جعلوها معبرا للقدح في سليمان عليه الصلاة والسلام والشياطين لم يصرحوا بأن سليمان كان كافرا، وإنما صرحوا بأن سليمان كان ساحراً ,والسحر قرين الكفر ولهذا قال الله {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} (ما ) في قوله تعالى {وما كفر سليمان } نافية، يريد الله بها تنزيه نبيه سليمان أن يكون قد تلّبس بحال أهل السحر ، أو حال أهل الكفر.(8/108)
قال الله {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} كفروا بإتباعهم السحر{ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحرَ وَمَا أُنزِلَ} وهذه (ما) موصولة ولا يصح أن يُبدأ بها وقد حررنا هذا من قبل في دروس قد خلت ومضت، أن (ما) الموصولة لا يُبتدأ بها ، إذا ابتدأ بها تعني النفي ،لا يُفهم منها إلا النفي ، لأن الرسم الإملائي واللفظي واحد ، فنقول عندما نقرأ {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَينِ بِباَبِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} فيصبح المعنى : يعلمون الناس السحر والذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت.
والذي أُنزل سحر، لكنه سحر معنيّ فقط على ظاهر القرآن - ولا أجزم به – سحر تفريق ، أما السحر الأول: فهو سحر موروث من قديم سحر مروث من قديم، لماذا ؟ لأن السحر كان منذ زمن مَن؟ منذ زمن موسى , والسحر المذكور في زمن موسى لم يذكر الله أنه سحر تفريق، و إنما سحر استرهاب وتخيل , فهؤلاء من الشياطين يعلمون الناس السحر الموروث القديم والسحر الذي جاء به هاروت وماروت .
قال الله{يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } أي أن هذين الملكين لا يعلمان أحداً طرائق السحر حتى يبينا له جادة الصواب، وأنهما بعثا فتنة للناس، والله جل وعلا مليك مقتدر والخلق خلقه والأمر أمره والعباد عبيده ،ومن حقه جل وعلا و لا ملزم له أن يبتلي عباده وهو أعلم بمنافعهم ومصالحهم.
{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِن أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحنُ فِتنَةٌ فَلا تَكفُر} فهذا(8/109)
دليل ظاهر على أن السحر كفر. (فيتعلمون ) يعني من يرغب منهم ( منهما) أي من الملكين (ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) أي الذي يفرقون به بين المرء وزوجه , وهذا نص قلت قبل قليل أن ظاهر السحر الذي جاء به هاروت وماروت كان سحر تفريق , قول الله جل وعلى {و َمَا يُفَرِّقُونَ بِهِِ}
(ما) موصولة , ويدخل في طياتها كما سمعته من أهل التجربة أربعة ، أقصد بأهل التجربة: أي القائمون على فك السحر من الناس يعني الذين يقرؤون من أخواننا القراء المتقنين وإن كان هذا الباب فتح فتحا واسعا عياذا بالله، نعود فنقول أن ما تحتمل أربعة :
1. تحتمل سحر التفريق بغض الرجل لامرأته .
2. بغض المرأة لزوجها .
3. والثالث عدم القدرة على الجماع .
4. والرابع ، وهذا الرابع في النفس من إثباته شيء عجز المرأة عن الحمل ,عجز المرأة عن الحمل.
لكنني أقول إن (ما) في اللغة تحتمل هذا وأكثر، فلو ثبت شيء آخر غير الذي حررناه يدخل لأن( ما) في اللغة تعني العموم .
{فَيَتَعلَّمُونَ مِنهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَينَ المَرءِ وَزَوجِهِ } وما كان الرب جل وعلا خالق الأسباب والمسببات ما كان لها أن تمضي إلا بإذنه.
قال الله{وَمَا هُم} أي هؤلاء السحرة {بِضَارِينَ بِهِ}أي بسحر {مِن أَحَدٍ} أي من الناس و(من) إذا جاءت بعدها نكره والجلة مسبوقة فهذا من أعظم صيغ العموم {مَا هم بضارين به من أحد} أيُّ أحد{ إلا بِإِذنِ اللَّهِ} لا يمكن أن يقع شيء قدرا إلا بإذن الله
{وَيَتَعلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُم وَلا يَنفَعُهُم } فَهِم منها أكثر العلماء على أن السحر ضرره محض لا نفع فيه، والقرينة ظاهره أن الله قال{ويتعلمون ما يضرهم }لو سكت جل وعلا لفُهم أنه قد يكون في السحر بعض المنفعة لكن قول الله{ولا ينفعهم}
هذا نفي للمنفعة فدلت على أن السحر شر وضرر محض خالص، وممن صرح بهذا العلامة ابن سعدي رحمة الله تعالى عليه في تفسيره.(8/110)
ثم قال الله {وَلَقد عَلِمُوا لَمَنِ اشتَرَاهُ مَالَه فِي الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ } أي لاحظ له ولا نصيب، وقد قلت قبل قليل إن الاسم النكرة إذا جاء مسبوقا بحرف الجر(من ) والجملة منفية أنها تعني النفي المطلق،من أعظم صيغ العموم في النفي، وهنا قال الله { ولقد علموا لمن اشتراه ما} هذا نفي ماله له في الآخرة (من)هذا حرف الجر و(خلاق) اسم نكرة , فلما قال الله {ماله في الآخرة من خلاق}
هذا نفي لأي حظ أو نصيب له في الآخرة، ولا يقع النفي المطلق للحظ و نصيب له في الآخرة إلا لمن ؟
إلا للكافر،وعلى هذا لا يُتردد في كفر الساحر .
ثم قال الله {وَ لَبِئسَ مَا شَرَوا بِهِ أَنفُسَهُم لَو كَانُوا يَعلَمُونَ } هذا سياق ذم لأن بئس من أفعال الذم ,وهنا نفى الله العلم، قال{لو كانوا يعلمون } وقبل قليل قال{ ويتعلمون }لكن لما كان هذا العلم لا ينفع جعله الله جل وعلا في منزلة لاشيء من العلوم.
واضح ؟!
ثم قال الله {وَلَو أَنَّهُم آمَنُوا وَاتَّقَوا لَمَثُوبَةٌ مِن عِندِ الَّله خَيرٌ}مثوبة هذه يا أُخي تحتمل معنيين :
1. إما مثوبة بمعنى جزاء، فيصبح المعنى لو أنهم أمنوا واتقوا كان لهم جزاء الله لهم خير.
2. وتحتمل بمعنى العودة والأوبة والرجعة إلى الله، أي أنهم لو أمنوا واتقوا ورجعوا إلى ربهم لكان خيرا لهم.
{لَّو كَانُوا يَعلَمُونَ} هنا قبل أن أطوي صفحة الحديث عن السحر، يتكلم الناس كثيرا وهذا موجود في بطون الكتب، ولولا أنه كان موجودا في بطون الكتب لما عرجت عليه ،من قضية أن هاروت وماروت عصيا الله جل وعلا، وبعض أهل الفضل على جلالة قدرهم قبلوا تلك المرويات فيشيعونها، وأنا في الدرس هنا على أحد أمرين :
إن ضربت عنها الذكر صفحاً ولم أقلها لربما شاهدنا مشاهد كريم فقال لأخيه أو جاره ممن يرى معه : إن هاروت وماروت أصلا ملكين عصيا الله(8/111)
فإن قال له الذي بجواره : إن الشيخ لم يقل هذا ظن أن المسألة إما جهل، أو إقرار ،وهنا كشف الأمر يكون أفضل في هذا السياق .
فنقول المرويات تنص على ما يأتي : تقول إن الناس في زمن إدريس قل عملهم فلم يُرفع كثير عمل صالح ، ولهذا ورد أن إدريس كان يرفع له بمقدار أهل زمانه كلهم, فالملائكة في الملأ الأعلى قالت : تعاتب بني آدم على هذا
فعاتبهم الرب جل وعلا أن بني آدم طبعوا على الخير والشر ، ليسوا مثلكم أيها الملائكة غيروا مطبوعين على الشر، وأنكم لو طبعتم على طبعهم لعصيتم ، فاختارت الملائكة ملكين حسب الرواية الآن، هما هاروت و ماروت
فرّكب فيهما التركيب البشري واُهبطا إلى الأرض، فلما اهبطا إلى الأرض تعلقا بامرأة يقال لها بالعربية زهرة، وبالفارسية مِذخَيت فلما تعلقا بها بتركيبهم البشري طلبت منهما الزنا والشرب والقتل ففعلا هاروت وماروت، ثم ندما فلما ندما علماها كيف تصعد إلى السماء، وكيف تنزل،فلما علماها – وفق الرواية – صعدت إلى السماء ثم نسيت كيف تنزل ، يعني الذكر الذي أعطاها إياه الملكان نسيته فمُسخت في السماء كوكب الزهرة المعروف ,ولهذا حتى كان لبعض الأمم كالإغريق يجعلون الزهرة إله الحب رمز للحب.
على هذا بقيت الزُهرة الآن المرأة التي فتن بها الملكين ممسوخة في السماء على هيئة كوكب الزُهرة، أما الملكان ندما وتابا إلى الله ,وتَشّفع بإدريس كان حيا أن يدعو لهما فقبل الله دعاء إدريس لهما على أنهما يعذبان في الدنيا عذابا موقوتا، لا يعذبان في الآخرة ، فوافقا وقبلا فهما الآن – وفق الرواية- في بئر في بابل تشد شعورهما إلى يوم القيامة .
هذي مجمل الرواية . قلت موجودة في بطون الكتب وأنا أعرف بعض أهل الفضل من الأحياء متع الله به يقبل هذه الروايات ، أو يقول ليس هذا ببعيد ,ونقل عن بعض سلف الأمة ذكرها لا نقول قبولها ,وأنا الآن أحررها كما نقلت من عشرات المصادر,لكن نقول التالي :(8/112)
1. القصة لم تثبت بسند صحيح أبد ،لم تثبت بسند صحيح أبد .
ومع ذلك نحن من منهجنا أنه لا يشترط السند الصحيح في غير الإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم .
لكن القصة كذلك يردها العقل ،يردها العقل في أن الرب تبارك وتعالى نزّه الملائكة عن مثل هذه الأعمال .هذا واحد .
2. الإشارة القرآنية في القرآن عن ذكرهما عليهما السلام تدل على أن هذا شيئا من ذلك لم يقع ، وأقول لو كان وقع منهما ما وقع ما يعبر عنهما بأنهما ملكان ، فيقال وما أنزل على هاروت وماروت ثم يمكن لناس بعد ذلك أن يخوضوا فيقولوا أن هاروت وماروت أصلهما ملكان لكن لما قال الله {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } فالمستقر في أذهاننا وفق القرآن ، أن الملائكة لا تعصي الله ما أمرها وتفعل ما تؤمر به والله وصفهما بأنهما ملكان ومادام الله قد وصفهما بأنهما ملكان فنحن نجري عليهما أحكام الملائكة حتى يأتينا دليل نُذهب به هذا اليقين، ولا خبر ولا دليل ولا حجة يُدفع بها هذا اليقين.
واضح؟!
وإنما حررته دفعا للبس والاتهام .
قال الله تعالى{ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون } هنا نقف على قضية الندامة ، لأن الله ذكر أنهم لو فعلوا كذا لكان خيرا لهم .
الندامة، العرب تقول: هذا من الفوائد الاستطرادية تقع على أربعة أحوال :
1.ندامة ساعة
2.وندامة يوم
3.وندامة سنة
4.وندامة عمر .
أعيدها عكسية .
3.ندامة عمر
2.ندامة سنة
1.وندامة يوم
أنا قلت ساعة هذي ساعة أظنها من عندي .
ندامة يوم وندامة سنة وندامة عمر وندامة للأبد .نعم
ندامة يوم وندامة سنة وندامة للأبد جاءت الرابعة .
أما ندامة يوم، يقولون: رجل خرج ولم يتغذى ، خرج من بيته ولم يتغدى فلا يدري يجد أحد يغذيه أو لا ؟
وندامة سنة: رجل ترك الزرع في وقته ترك الزرع في وقته، فليس له حل إلا العام ماذا ؟ إلا العام القادم، لأن الزراعة موقوتة .(8/113)
وندامة يوم قلنا خرج ولم يتغدى فكان العرب يأخذون وجبة واحدة فإذا خرج ولم يتغدى قد يندم إذا لم يجد أحد يعطيه غداءه .هذا ندامة يوم .
وندامة سنة رجل ترك الزرع في حينه وفوته وضيعه فليس له إلا أن يصبر إلى العام القادم
وندامة عمر: شخص تزوج امرأة لا توافقه -هذي فيها حل - شخص تزوج امرأة لاتوافقه .
وندامة أبد: من ترك أمر الله جل وعلا نسأل الله العافية .
ندامة يوم، ندامة عمر، ندامة سنة قبلها، ندامة إلى الأبد
وقاني الله وإياكم الأربعة كلها، وإن كانت الأولى أخفها .
نعود فنقول قال الله بعدها{يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرنا واسَمعُوا ولِلكَافِرينَ عَذَابٌ أَلِيمُ } ما السحر ؟ تمويه ،تلاعب ، يقصد به خداع، التماس الضرر بهم
وله حقيقة كما عليه جمهور أهل السنة _ سلك الله بنا وبكم سبيلهم _
ناسب الله أن يذكر بعد السحر المحرم سحرا آخر يشمل نوعا من التمويه، لا نقول سحرا بمعناه الحقيقي . قال الله{يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا }العلماء رحمهم الله في هذه الآية على طريقين :
1.طريق يقول تجنبوا مسألة سبب النزول، وإنما نظروا إلى اللفظة وناقشوها مع قرائنها من السنة ، ورد معكم في السنة أن النبي قال:((لا تسمو العنب كَرم وأسموه الجَبَلة)) ، وقال:(( لا يقل أحدكم عبدي وليقل فتاي )). فقالوا هذا من جنسه ، النهي عن كلمة {راعنا} من جنس النهي عن تسمية العنب كَرما، وعن قول السيد لعبده يا عبدي, وجعلوا كلمة راعنا إنما مجرد كلمة كرهها الله كان يقولها المؤمنون فكرهها الله وأبدلهم غيرها وهي انظرنا ,وهذا المسلك اختاره إمام المفسرين ابن جرير الطبري _رحمة الله تعالى عليه _(8/114)
2.الآخرون من العلماء نظروا للآية مع سبب نزولها وفق ما ثبت عندهم فقالوا : إن كلمة راعنا بمعنى: تأن بنا، أعطنا سمعك، أِشفق علينا ،وهي توافق بالعبرية في لفظها كلمة سيئة عند اليهود، فلما رأت اليهود أن الصحابة يخاطبون النبي بهذا اللفظ، صاروا يخاطبون به إياه وهم يقصدون بها معناه في العبرية , وقال بعضهم لبعض كنا نسب محمد سرا واليوم نقدر أن نسبه جهرا ,فلما أراد الله أن يقطع دابرهم، ويسد الذريعة عليهم ، قال الله جل وعلا للمؤمنين في مخاطبة نبيه {لا تقولوا راعنا }دفعا لتوهم يهود{وقولوا انظرنا } والمعنى في إجماله واحد ,نقول للقائم بمصالح الوقف ناظر ,والناظر القائم بتدبير مصالح الناس ,وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قائم بشؤون أمته وشؤون أصحابه في المقام الأول، فاللفظ قريب من معنى راعنا بل أفضل منه ، فقالوا بهذا قطع الله جل وعلا الطريق على اليهود وما يريدونه من تلك اللفظة
هذا الذي يترجح عندي لسبب خارج عن النص، والمرجح إن كان من خارج النص يكون أقوى، وهو أن من غير الألفاظ أن السياق يقتضيه، فالآية تتكلم عن اليهود التي قبلها والتي بعدها كذلك تتكلم عن اليهود {مَا يَوَدُّ الذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ }وهذه الآية بين هاتين الآيتين يُرجح أن المسألة تتعلق باستعمال اليهود لتلك اللفظة .
ظاهر هذا؟ّ
{لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا} ولم يحدد الله المفعول ،قال العلماء : حتى يُعلم أن المؤمن مطالب أن يسمع كلام الله جل وعلا و يمتثله أيا كان .
{(8/115)
وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثم قال الله {مَا يَوَدُّ الذِين كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ وَلا الُمشرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيكُم مِن خَيرٍ مِن رَبِكُم } يخبر الله عما في بطونهم ، وفي سرائرهم ،وما أخفوه من بغض وحقد للمؤمنين، وأن النبوة والرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم والإتباع للمؤمنين فضل عظيم من الله حسدتهم يهود عليه، كما سيأتي تفصيله .ثم قال الله {وَالَّله يَختَصُ بِرَحمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّه ذُو الفَضلِ العَظِيمِ} فالله جل وعلا اختصك أيها النبي بالنبوة والرسالة وختم الأنبياء، واختص هؤلاء المؤمنين بإتباعك، وذلك فضل الله جل وعلا يعطيه من يشاء فكون اليهود أو كفرة أهل الكتاب جملة وكفرة أهل الشرك لا يبتغونه هذا لا يمنع فضل الله جل وعلا عليه
هنا أتوقف في مسالة مهمة جدا :من حق نفسك عليك أن ترقى إلى سلم المعالي ، و لك في أن ترقى في سلم المعالي طرائق من أعظمها : ثقتك برحمة الله ، وهذا ظاهر تكلمنا عن كثيرا ، بقي جانب آخر ، الجانب الآخر أن تكون رفيقا بنفسك
كيف تكون رفيقا بنفسك ؟
لا تكن محبطا لها ،مني نفسك، عِدها ،فإن وعدك لنفسك بتحقيق المأمول من أعظم ما يساعد على تحقيقه الحساد و الشمات الذين يكونون حولك أخف عليهم سقطاتك وإخفاقاتك وفشلك حتى لا يزيدوك غما على غم ،مصائب الدهر التي تسمع بها لا تجعلها بين عينيك بكثرة، فإنها ستكون سبب في سقوطك . يقول أبو القاسم الشابي :
ركبت المنى وتركت الحذر .
لا تحاول أن تموت قبل أوانك، فالإكثار من الخوف من الموت هو موت قبل حلول الموت الحقيقي .
وإذا هممت فنازي نفسك بالمنى
وعدا فخيرات الجنان عدات
واجعل رجاءك دون يأسيك جُنة
حتى تزول بهمك الأوقات
واستر عيوبك عن جلساءك فإنما
جلساؤك الحساد والشمات(8/116)
إلى آخر الأبيات كلهن تدعو إلى أن الإنسان يكون عاقلا لبيبا في طريقه للحياة، في طريقه للوصول إلى مجده،ولا يكثر من ذكر طرق الحوادث والإخفاقات حتى لا تصيبه بالإحباط ،فالجنة وهي الجنة أعظم مقصود وأجل مطلوب هي وعد من الله ، ومع ذلك اجعل تلك الأمور التي تنشدها وعد في أن تتبوأ مكانا مرموقا في أمتك تريد به وجه الله والدار الآخرة ينفع الله بك جل وعلا أقواما ويضر بك آخرين من أهل الشرك والعصيان، وأنت في طريقك هذا عالم أن الله جل وعلا وحده من يملك الرحمة وأن كره الحساد والشمات لرحمة الله عليك لا يمنع من وصولها إليك .قال الله :{{ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها إلا هو}} ولهذا قال الله في آخر هذه الآيات {والله ذو الفضل العظيم } ولا ريب أن علمك بعظيم فضل الرب تبارك وتعالى يعينك على أن تمشي خطواتك إلى الأمام حتى تصل برحمة الله جل علا إلى مقصودك
وهذه الصفة في عدم حب الخير للغير ، صفة مشتركة لكنها بنسب،ما بين أهل الكفر ومابين أهل الفسق والبغضاء من المؤمنين، وإن كان لا يستوي مؤمن وكافر، لكنها أصل متحتم عند اليهود وكفرة أهل الكتاب جملة وعند المشركين، وقد يتلبس بها بعض المؤمنين في حسدهم لإخوانهم إذا رأوا فضل الله جل وعلا علينا، لكنني وأنت في المقام الأول لست مطالبا بأن تدفع حسد الناس عنك ،لكنك لا تجعل من شماتة الأعداء وحسد الحساد ما يعيقك عن طريق المجد الذي ترومه
ولكل هدف آلة فخذ بالآلة وتوكل على الرب تبارك وتعالى وسر
ولن يخلو ذو نعمة من حسد، و ما أضر بالناس إلا حسد الحاسدين
نعم قد يقع شنئان حاسدك عليك من مكره بقدر الله، لكن ادفعه بقول :حسبنا الله ونعم الوكيل(8/117)
وكانوا يقولون إن ملكا كان عنده وزيرا مقرب - وأظن هذا من التكرار – كان عنده وزير مقرّب يصغي إليه وكان الوزير من أدبه إذا اقترب من الملك يدنو قليلا ويخاطبه، فحسده بعض الوزراء، فقدم أحد هؤلاء الوزراء إلى الملك ،وقال : إن الوزير أبا فلان يقول عنك: إنك أبخر ، أي ذو رائحة كريهة في الفم ، قال: وما دليل ذلك ؟
قال :اطلب منه أن يدنو منك ،فإنك إن طلبة منه أن يدنو منك أيها الملك سيضع يده على فيه وأنفه تقززا منك ، فأضمرها الملك في نفسه ، فلما كان من الغد ، وقبل أن يشرع الوزير في الدخول على الملك استدعاه الوزير الأول صاحب الوشاية، وأطعمه طعاما كله ثوم ،فلما دخل الوزير على الملك أراد الملك أن يختبره، فأدناه منه يقول له: اقرب اقترب ادنوا مني فلما شعر أنه لا محالة له من الدنو إلى الملك وضع يده على فيه ورداءه حتى لا تخرج منه رائحة الثوم، فتحقق الملك من قول الواشي، فغضب وجرت سُنة الملك آن ذاك أنه إذا أراد أن يعطي عطية يكتبها في قرطاس ، وإن كان يريد أن يعقب يتلفظ به ,لكنه في تلك المرة أخطأ فطلب قرطاسا وكتب فيه إلى أحد عماله، ولاته ، إذا أتاك فلان فاقتله وابعث لي بجسده، فأعطاه الخطاب وخرج به قابله الوزير الواشي وهو يتلهف ما الذي حصل فلما رأى الخطاب في يده مختوما
قال: ما هذا ؟
قال هذا كتاب أعطاني إياه الملك إلى عامله بني فلان .
فظن أنه عطية ,فأخذ يتوسل إليه أن يهبها له فوافق ، فأعطاه إياها فمضى بها إلى العامل الوالي ، فلما مضى بها إلى العامل، الوالي ، وفك ختمه وقرأه قال: إن الملك يأمرنني أن أقتلك، ولابد من فعل أمر الملك فأخذ يتوسل إلى العامل إلى الوالي أن الخطاب ليس لي ، لكن العامل الوالي نفذ رأيه وقتله .
في اليوم التالي دخل الوزير كعادته إلى الملك ،فلما رآه تعجب الملك لأنه ظن قد قُتل !!!
قال ما لذي عاد بك ؟!!(8/118)
قال أنا لم أذهب أصلا وأخبره القصة ,كيف أن الخطاب أخذه فلان ,قال غريب أن تؤتيه إياه وقد قال عنك ما قال ؟!!.
قال : قد كذب .
قال : فلم فعلت ذاك ؟!.
قال :أيها الملك كنت قد أكلت ثوما عنده .
فنجى الله جل وعلا –هذا مجمل القصة – نجّى الله هذا الوزير المقرب من حسد أقرانه بما انطوت عليه سريرته من حب الخير للغير .
ومع ذلك نقول حتى لو كنت حسنا بارا تقيا قد لا تسلم كما لم يسلم يوسف من حسد إخوته
لكن العبرة بكمال النهايات ، والله يقول:
{والعاقبة للمتقين} جعلني الله وإياكم من أهل التقوى ،
وأنا لا أحمل ساعة في يدي اليوم، وأرجو أن يكون الوقت مناسبا نسأل الله التوفيق لنا ولكم
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيه كما يُحبُ ربُنا ويرضى .. وأشهدُ أن لا إله إلا الله
وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنت سيدنا ونبينا مُحمداً عبدهُ ورسُولهُ صلى الله علية وعلى آلهِ
وأصحابهِ وعلى سائر من اقتفى أثرهُ وأتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين .......
أما بعد
قال اللهُ جل وعلا وهو أصدق القائلين
( ما ننسخ من آيةٍ أو نُنسها نأتي بخيرٍ منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كُل شيءٍ قدير * ألم تعلم أن الله لهُ مُلك السماوات والأرض وما لكُم من دون اللهِ من وليٍ ولا نصير ) .
هذهِ الآية تتكلمُ عن النسخ والأصلُ في إقرارها هاهُنا أو وضعُها في هذا الموضع أو الكلام عن مُناسبتها لما قبلها أن الكلام عن ما قبلها كان يتكلمُ عن اليهود واعتراضهم على رسول الله صلى الله علية وسلم ولمّا كانت اليهوُدُ لا تُجيزُ النسخ أصلاً وتمنعهُ في الشرع بالكُلّية ذكرهُ اللهُ جل وعلا ها هُنا رداً على مزاعم اليهود وبياناً للأُمة .
قال الله :( ما ننسخ من آية )
الجُملة شرطية والنسخُ يا أُخي في اللُغة : النقل(8/119)
قال اللهُ جل وعلا في الجاثية : ( إنّا كُنّا نستنسخُ ما كُنتُم تعملون ) أي نكتبُ وننقُل .
ويأتي النقل بمعنى الإزالة في نوع من التقارُب بينهُما لكن المقصود هُنا أن الرب تبارك وتعالى الأمرُ أمرُهُ و الشرعُ شرعُهُ وهو جل وعلا وحدهُ دون سواه أعلمُ بمصالح عبادهِ فلمّا كان تبارك وتعالى أعلم بمصالح عبادهِ وهو المالكُ أصلاً حُق لهُ جل وعلا أن ينسخ ما يشاء فهذا من تسليمنا بكمال ربوبيتهِ وألوهيته وكمال أسمائهِ وصفاتهِ لا بُد أن يُقرّ بالنسخ .
ولهذا النسخ بين الشرائع لم يُعارض فيه أحدٌ من أهل الإسلام ، لأن شريعة النبي صلى اللهُ علية وسلم ناسخة لما قبلها من الشرائع ومُهيمناً عليهِ لكنّ النسخ في القرآن جائزٌ عقلاً واقعٌ
سمعاً جائزٌ عقلاً واقعٌ سمعاً بهذهِ الآية وبقول اللهِ جل وعلا : ( وإذا بدّلنا آية مكان آيةٍ واللهُ أعلمُ بما يُنزّل )
هذا كُلهُ من دلائل وقوعهِ مع ما جاء في الأحاديث وليس هذا موضوع سردُ أدلة .
لم يُخالف فيما يُعلم من عُلماء المُسلمين إلا عالمٌ واحد هو أبو مُسلم الأصفهاني رحمةُ الله خالف في مسألة النسخ في القرآن لكنّا إذا استثنيناه فالإجماعُ مُنعقد على أن النسخ واقعٌ في القرآن .
ويُقسمُ أهل القُرآن رحمهُم الله وقوع النسِخ في القرآن على ثلاثة أقسام :
1/ منسوخ التلاوة والحُكم .
2/ و منسوخ التلاوة دون الحُكم .
3/ ومنسُوخ الحُكمِ دون التلاوة .
وهذا أكثرُهُ ومنسوُخُ الحُكمِ دون التلاوة وهذا أكثرُهُ .
أُعيد التحرير
منسوخ التلاوة والحُكم ،،
و منسوخ التلاوة دون الحُكم وهذا يُمثلون لهُ بما ورد في البُخاري عن عُمر رضي اللهُ عنهُ أنهُ قال " أنهُ كان فيما كان قد أُنزل الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا فارجموُهما البتة نكالاً من الله واللهُ عزيزٌ حكيم " ، قال عُمر : لولا أن يقول الناسُ زاد عُمر في كلام اللهِ أو في كتاب اللهِ لكتبتُها بيدي " فالرجمُ باتفاق واقع رغم أن الآية منسوخٌ تلاوة ،،(8/120)
أما الثالث وهو منسوُخُ الحُكم مع بقاء التلاوة هذا هو المقصود بالنسخ إذا أُطلق حتى يعرف الإنسان لما يُقال أن فُلانٌ يعرفُ ناسخ القُرآن من منسوخة إنّما ينصرف أول ما ينصرف إلى هذا النوع الثالث ،،
وقد أجاب العُلماء عن سؤالٍ يقع :.
// إذا نسخ اللهُ الحُكمَ كما في أكثر الآيات المنسوخة لماذا أبقى اللهُ جل وعلا التلاوة ؟
وقد أجاب الزركشي رحمهُ الله في البُرهان عن هذا التساؤل بإجابتين :
الإجابة الأُولى :
قال فيها ـ ما معناه ـ أن القُرآن كما أُنزل ليُعمل بهِ أُنزل لماذا ليُتلى لأنهُ كلام ُ الله كما أُنزل ليُعمل بهِ أُنزل ليُتلى ويُتقرّب إلى الله جل وعلا بتلاوتهِ لأنهُ كلامُ الله فحتى الآيات المنسوخة حُكماً هي أصلاً من كلام ؟ من كلامِ اللهِ هذا الأمر الإجابة الأُولى رحمةُ اللهِ تعالى علية .
الإجابة الثانية :
قال إن غالب النسخ يكونُ تخفيفاً غالبُ النسخ يكونُ تخفيفاً فإذا تلاهى الإنسانُ الآية المنسوخة التي في التقييد يرى رحمة الله في هذهِ الأُمة كم رفع عنها من المشقة كم رفع عنها من الـ من المشقة .
وقد يكون هُناك أجوبة غير التي حرّرها صاحبُ البُرهان رحمهُ الله مما يخفى علينا لكنّ المقصود أننا نتعبدُ الله جل وعلا بكُلِ أمرٍ أمرنا بهِ تبارك وتعالى .
قال الله : ( أو نُنسها)
قُرأت بالهمز مع الفتح ننسأ وها فيُصبح المعنى التأخير والتأجيل ، وقُرأت كما هو بين أيديكُم (ما ننسخ من آيةٍ أو نُنسها ) فالنسيانُ هُنا ضد ضد الذكر أي أن الله يُنسيها من قلوب المؤمنين يُنسي المؤمنين إياها ـ بتعبيرٍ أصح ـ وهذا يدلُ عليهِ قولُ اللهُ جل وعلا : ( سنُقرِئُك فلا تنسى * إلا ما شاء الله ) يُؤيد هذا القول قول اللهُ جل وعلا : ( سنُقرِئُك فلا تنسى * إلا ما شاء الله ) .(8/121)
نحنُ مُتفقون أي معشر المُسلمين على أن القُرآن كُلهُ كلام كلامُ الله وبما أنهُ كُلهُ كلامُ الله فلا تفاوت فيهِ من حيثُ نظمةِ لأنهُ جميعاً كلامُ الرب فقولُ اللهِ جل وعلا : ( نأتي بخيرٍ منها )
ليس المقصود أن آيةً أحكمُ من آيةٍ لفظاً ونظما لا وإنّما المقصود خيراً منها بالنسبةٍ للعبد فيما ينفعهُ لأن الله جل وعلا أعلمُ بمصالحِ عبادهِ أعلم بمصالح عبادهِ في العاجل والآجل فإذا رأينا النسخ نقل الأُمة من الأمر الثقيلِ إلى الأمر الخفيف قُلنا هذا عاجل لهُم في الدُنيا قُلنا هذا لهُم عاجل خير ومنفعة في الدُنيا ،
وإذا رأينا الآية نقلت من خفيفٍ إلى أثقل مثل نقل الناس من صوم يوم عاشوراء إلى صيام رمضان فهذا إلى أثقل لكنّنا عرفنا أن فيهِ خيراً أين ؟ في الآجل عرفنا أن فيهِ خيراً أين ؟ في الآجل .
هذا النظرة العامة لقضايا النسخ
بعد ذالك تتفرّع أمور كثيرة ليس هذا مجالُ سردها لأنّنا لا نُريد أن يطغى فنٌ على فنّ التفسير وفنّ التفسير هو أن يفهم القارىءُ مُراد الرب تبارك وتعالى هذا الغايةُ منه . فإذا تحقق للعالم أو للمُتكلم أن يُفهم الغير مُراد الله تحقّقت المقصودُ من علم التفسير .
(( ما ننسخ من آيةٍ أو نُنسها نأتي بخيرٍ منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كُل شيءٍ قدير))
طبعاً إذا تمّت زيادة على ما قُلناه يعني بعضُ العُلماء العُلماء جميعاً مُتفقون على أن القُرآن يُنسخ بالقُرآن لكنّ الخلاف هل تنسخ السُنّة القرآن ؟
قال بهِ الجمهور ، وبعضُهم قال بهِ لكن يقول لا يُوجدُ دليلٌ واضحٌ علية ومنعهُ الشافعيُ رحمهُ الله ُ تعالى ، قال بهِ الجمهور ومنعهُ من ؟ الشافعيُ رحمهُ الله .
والقائلون بالوقوع اختلفوا القائلون بأن السُنّة تنسخُ القرآن اختلفوا في أمثلتهم فبعضهُم يقول لا يوجد مثالٌ واضحٌ صريحٌ ظاهر ، وبعضهُم يقولُ بهِ .(8/122)
فمثلاً : ( كُتب عليكُم إذا حضر أحدكُم الموت الوصيةُ للوالدين و الأقربين بالمعروف ) وجاء الحديث " لا وصية لوارث " فهل هذا نسخٌ للآية أو تخصيصٌ لها :
فمن رأى أنهُ تخصيص لم يرى أن الحديث ناسخٌ للقُرآن ،، ومن رأى أنهُ نسخ جعل هذا الحديث مثالاً لنسخ القُرآن بالسُنة لنسخ القُرآن بالسُنة والعلمُ عند الله .
( ألم تعلم أن الله على كُلِ شيءٍ قدير )
وهذا خطابٌ لنبي والمقصودُ بهِ أُمتهُ ولهذا جاء بعدها (( ألم تعلم أن الله لهُ مُلكُ السماواتُ والأرضِ وما لكُم من دون اللهِ من وليٍ ولا نصير ))
الوليُ والنصير بينهُما أيُها الأخُ المُبارك خصوصٌ وعُموم .فالوليُ هو القريب لكنّهُ قد يكونُ عاجزاً على أن ينصُرك بمعنى يُحب أن ينصُرك لكنّهُ عاجز ، وأما النصير فهو الذي قادر على نُصرتك ولا يلزم أن يكونَ قريباً قد يكونُ أجنبياُ عنك .
الولي هو القريب الذي يُحب أن ينصُرك لكنّهُ قد يكونُ عاجزاً عن ؟ عن نُصرتك . والنصيرُ هو الذي ينصُرك ولا يلزمُ أن يكون قريبا قد يكونُ أجنبياً عنك .
(( أم تُريدون أن تسألوا رسُولكُم كما سُئل موسى من قبلُ ومن يتبدل الكُفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السبيل ))
السؤال أيُها المُبارك يقع على قسمين :
سؤال استرشاد وتعلُّم وهذا نحنُ مأمورون بهِ شرعا قال الله ماذا قال ؟
( فاسألوا أهل الذكرِ )
وسُؤالٌ المقصودُ بهِ الاعتراض والتعنُّت فهذا نحنُ منهيّون عنهُ شرعا قال اللهُ جل وعلا ( لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكُم تسُؤكُم ) وقال (أم تُريدون أن تسألوا رسُولكُم كما سُئل موسى من قبلُ )
فما الأسئلة التي طرحها بنوا إسرائيل على موسى والتي أرادها اللهُ هُنا كقولهم ( أرنا الله جهرة )
((ومن يتبدل الكُفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السبيل ))هذهِ ظاهرة مرت معنا .
(( ودّ كثيراً من أهل الكتابِ لو يردُونكم بعد إيمانكُم كُفّاراً حسداً من عندِ أنفُسهِم ))(8/123)
هذه سبقت في اللقاء الماضي حول قول الله جل وعلا ( ما يودُ الذين كفروا ) لكنّهُ صرّح هُنا بماذا ؟
بالحسد والحسدُ يقعُ مُحققاً ويقعُ مُقدرا
فالحسدُ المُقدّر هو حسدُك من لم تصبهُ النعمة بعد وهو أشنع .
والحسدُ المُحقق هو حسدُك لمن أصابتهُ النعمة أن تزول عنه .
ثُمّ قال جل وعلا (( فاعفوا واصفحوا ))
ما أقربها ممّا قبلها هذهِ من الآيات المنسوخة ( فاعفوا واصفحوا ) هذهِ منسوخةٌ بأية السيف منسوخة بآية السيف في قول الله تعالى ( واقتلوهم حيثُ وجدتموهم ) وفي قولهِ تبارك وتعالى في حقِ أهل الكتاب ( قاتلوا الذين لا يُؤمنون بالله واليوم الآخر ) .. حتى قال ( حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهُم صاغرون )
(( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي اللهُ بأمرهِ ))
وهذا يدلُ على أنها منسوخة فقد أتى اللهُ بأمرهِ في سورة ماذا ؟ في سورة التوبة
(( إنّ الله على كُل شيءٍ قدير ))
ثُمّ أمر اللهُ وهذا من تربية القرآن للمُسلمين عندما يُعطيهم الأحكام يُنبّههُم أن لا ينشغلوا عن الأعمال الصالحة فأردف قائلاً بعد أن بيّن لهم طرائق أهل الكتاب وأن القُرآن من عند اللهِ وأن الرب تبارك وتعالى ينسخ ما يشاء ويُثبت ما يشاء .
قال جل وعلا : (( وأقيمُوا الصلاة وءاتُوا الزكاة وما تُقدّموا لأنفُسكُم من خيرٍ تجدُوهُ عند الله إنّ الله بما تعملون بصيرٌ ))
أي أنّ معاقد الفلاح أيُها العبادُ الصالحُون محصورةٌ في القيام بالأعمال الصالحة .
قال اللهُ بعدها : (( وقالوا )) أي أهلُ الكتاب (( لنّ يدخُل الجنة إلا من كان هُوداً أو نصارى تِلك أمانِيّهم قُل هاتُوا بُرهانكُم إنّ كُنتُم صادقين ))
كُلُ صاحب دعوى يُطالب بماذا ؟ بدليلٍ وبُرهان و إلا لا عبرةَ بدعواه واليهودُ تزعم أن الجنة لا يدخُلها إلا يهود والنصارى تزعم أن الجنة لا يدخُلها إلا النصارى فردّ اللهُ قولهُم وطالبهُم بالبُرهان ولا بُرهان فأضحوا كاذبين واللهُ إذا دفع باطلا أقام الحق مقامه .(8/124)
قال اللهُ بعدها : (( بلى من أسلم وجههُ للهِ وهو مُحسنٌ ))
فجمع اللهُ في هذهِ الآية المُباركة شرطي العبادة ( أسلم وجههُ للهِ ) المقصودُ بهِ الإخلاص ،، ( وهو مُحسن ) أي المُتابعة لشريعة أي عبد الله بما شرع .
(( فلهُ أجرهُ عند ربهِ ولا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنُون ))
ثُمّ قال الله : (( وقالتِ اليهُودُ ليستِ النصارى على شيءٍ وقالتِ النصارى ليستِ اليهُودُ على شيءٍ وهُم يتلون الكتاب ))
لماذا قال الله ( وهُم يتلون الكتاب ) ؟
لأن التوراةَ تُخبر أن الإنجيل حق والإنجيلُ يُخبر أن التوراةَ حق فكلٌ منهُم كاذبٌ في دعواه فكلٌ منهُم كاذبٌ في دعواه كلٌ منهُم لم يمتثل بالأمرِ الذي شرعهُ الله .
قال الله (( كذالِك قال الذِين لا يعلمُون مِثلِ قوِلِهِم ))
من المُراد بالذين ( لا يعلمون ) ؟
اختلفت أقوالُ أهل العلم فيِهِم قال ابنُ جريرٌ الطبريُ رحمهُ الله هي عامةٌ في كُل أحد ممّن قبل اليهودُ والنصارى وممّن بعدهُم ممّن كان بينهُم كمُشركي العرب هي عامةٌ في كُل أحد ممّن قبل اليهودُ والنصارى وممّن قال ذالك بعد ذالك من مُشركي العرب .
(( فاللهُ يحكُمُ بينهُم يوم القيامةِ فيما كانوا فيهِ يختلفوُن * ومن أظلمُ ممّن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمُهُ وسعى في خرابها أُولئك ما كان لهُم أن يدخلُوها إلا خائفين لهُم في الدُنيا خزيٌ ولهُم في الآخرةِ عذابٌ عظيم ))
معنى الآية
لا أحد أظلمُ ممّن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمُهُ هذا يا أُخي استفهام استنكاري استفهام استنكاري . لكن من المقصودُ بهِ ؟(8/125)
الأولى جعلهُ عام الأولى جعلهُ عام و إن كان البعضُ قاسهُ على بُختنصّر وما صنعهُ في اليهود ، وبعضهُم يقولون ما صنعتهُ اليهودُ في النصارى أيامُ حُكمهم لبيت المقدس ، وبعضهُم يقول ما صنعهُ أبرهة في ما أرادهُ أُبرهة من الكعبة ، وبعضهُم يقول ما صنعتهُ قريشٌ يوم يوم الحُديبية من ردها لنبي صلى الله علية وسلم والأضبطُ في هذا كُلهِ أن تُقال في حقِ كُلِ أحد سعى في خرابِ مساجد اللهِ والخرابُ في مساجد اللهِ قال ابن سعدي رحمهُ الله يقعُ على ضربين :
إمّا إفساد معنوي
وإمّا إفساد حسي
فالإفسادُ الحسي بهدمها ونسفها لا مكّن الله أحدً من ذالك
والأمرُ الثاني المعنوي بمنع عباد اللهِ من إقامة الصلوات فيها وهذا صرّح اللهُ بهِ (ومن أظلمُ ممّن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمُهُ وسعى في خرابها أُولئك ما كان لهُم أن يدخلُوها إلا خائفين ) فجعل اللهُ ثوابهمُ جزائهُم أنّهُم لا يدخُلُوها إلا خائفين ولهذا لا يُقبل دُخُولُ غير المُسلم إلى المسجد إلا في حالة أسر أو في حالة مرسول رسول من عند ملك علية الذلّة ويُعطى أمان مُؤقت وأشباه ذالك .
(لهُم في الدُنيا خزيٌ و لهُم في الآخرةِ عذابٌ عظيم ).
ثُمّ قال الله (( وللهِ المشرقُ والمغرب ُ ))
وخصّ اللهُ جل وعلا هاتينِ الجهتينِ لأنهُما يتعلّقُ بهما ما يسطعُ من أنوار الشمس والقمر وهي إظهار لكمال قُدرة اللهِ جدل وعلا وأنهُ ربٌ للأشياء كُلها .
(( فأينما تُولُّوا فثمّ وجهُ الله ))
هذهِ الآية نقول أولاً وهذا مُهم قبل أن أشرع في البيان(8/126)
نُثبتُ أن لرب تبارك وتعالى وجهاً على الصفة التي تليقُ بجلاله وعظمته صرّح بهذا القُرآن من غير نفي ببُرهانٍ واضح قال الله ( كُلُ من عليها فان ويبقى وجهُ ربك ذُوا الجلالِ والإكرام ) وقال ( ولا تدعوا مع الله إلهً آخر كُلُ شيءٍ هالكٌ إلا وجههُ ) هذا تأصيلٌ لا بُد منه لكنّ هل المقصود بقول اللهِ جل وعلا ( فثمَّ وجهُ الله ) هو الوجه هذا الذي نتكلمُ عنه وجهُ الله الأكرم أو المقصود الجهة ؟
ــ تقول فُلان ذهب من هذا الوجة من هذهِ الجهة ــ
بعضُ العلماء يقول أن المقصود هُنا وجهُ الله اتفقنا أن للهِ وجهاً يليقُ بجلاله وعظمتهِ ، وبعضُ العُلماء يقولُ لا إنّ القرائن في الآية لا تدلُ على أن المُراد وجهُ الله مع إثباتنا لصفة الوجهة لمنّ؟ لرب تبارك وتعالى لكن نقول في هذا السياق المقصود بلفظة وجهة هُنا الجهة ويحتجّون بأن الله ذكر قبلها ( ولله المشرقُ والمغرب ) فذكر الجهات قبلها .
مال إلى هذا أقوام ومال إلى هذا أقوام لكن كلا الفريقين من أهل السُنة الذين قال بأحد هذين القولين كلاهُما مُتفق على أن للهِ جل وعلا وجهاً هو أكرم الوجوه وللهِ الاسمُ الأعظم والوجهُ الأكرم والعطية ُ الجزلى ـ واضحٌ هذا ــ
(( فأينما تُولّوا فثمَّ وجهُ الله إنّ الله واسعٌ عليم ))
ثُمّ قال الله حكاية تشنيعاً على بعضِ أهلِ الكُفر (( وقالوا اتخذ الله ولدا )) وهذا حرّرناهُ من قبل اليهود قالت عُزيرُ ابنُ الله والنصارى قالت المسيحُ ابنُ الله ومُشركُ العرب قالوا الملائكة بناتُ الله .
(( سُبحانهُ ))
تنزيهٌ مرّ معنا كثيرا .
(( بل لهُ ما في السماواتِ والأرض ))
لام المُلك المُطلق .
(( كُلٌ لهٌ قانتوُن ))
القنُوت يقع على ضربين :
قُنوت خضوع و ذلِّة وهذا يشتركُ الخلقُ جميعاً فيهِ قُنوت خضوع و ذلّة وهذا يشتركُ الخلقُ جميعاً فيهِ وهو المُرادُ بالآية .(8/127)
أمّا الضربُ الثاني .. فقنُوت عباده وطاعة وهذا من خصائص عباد اللهِ الصالحين قال اللهُ ( وقُوموا للهِ قانتين ) .
قال اللهُ بعدها (( بديعُ السماوات والأرض ) )
أي خلقهُما على غير مثالٍ سبق ( بديعُ السماوات والأرض ) أي مُنشئهُما وخالقُهُما على غير مثالٍ سبق .
(( وإذا قضى أمراً فإنما يقولُ لهُ كُنّ فيكون * وقال الذين لا يعلمون ))
أي من جهلة أهل الكتاب والمُشركين والمُنافقين ومن سار على دربهم .
(( لولا يُكلّمُنا الله أو تأتينا آية ))
هذا يدُل على الكبر من جهتين :
الجهة الأولى يقولون [نحنُ لا حاجة إلى أن يبعث اللهُ إلينا رسولاً ] المُفترض ــ معنى قولهم ــ أن الله يُكلّمُنا مُشافهه أنك رسول فلمّا عجزوا عن هذهِ لجأوا إلى الثانية قالوا أقل القليل أن نكون نحنُ وأنت سواء كما تأتيك الآيات تأتينا نحنُ الآيات يعني إن اعترضت على أن يُكلّمنا الله فلا أقلّ من أن نكون ندّاً لك .( أو تأتينا آية ).
قال الله (( كذالك قال الذِين من قبلِهِم مِثل قولِهِم ))
من الأُمم السابقة .
(( تشابهت قُلُوبُهُم ))
لأن التشابه فيما يصدُر من اللسان يدلُ على التشابهُ فيما تُكنّهُ القلوب عياذاً باللهِ .
(( قد بيّنّا الأيات لقومٍ يُقنون * إنّا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيرا ولا تُسئلُ عن أصحاب الجحيم ))هذهِ ظاهرة أن النبي جاء بالدين الحق مُبشراً بالجنان مُحذراً من النيران (لا تُسئلُ عن أصحاب الجحيم ) أي ليس عليك عُهدت عدم إيمانِهِم وإنّما أنت مُبلّغ كما قال الله ( لست عليهِم بمُسيطر ).
قال الله بعدها (( ولن ترضى عنك اليهُودُ ولا النصارى حتّى تتبع مِلّتهُم ))
هذا قطعٌ بكُل علائق أحد أن ترضى عنهُ اليهُودُ أو النصارى ( حتّى تتبع ملّتهُم ) حتى تكون يهُودياً مع اليهود ونصرانياً مع النصارى ومن صنع ذالك خرج من رقة الإسلام .
(((8/128)
قُل إنّ هُدى اللهِ هُو الهُدى ولئن اتبعت أهواءهُم بعد الذي جاءك من العلِم مالك من اللهِ من وليٍ ولا نصير ))
هذا ضربُ مثالٍ فقط و إلا اللهُ جل وعلا يعلمُ أن نبيهُ لنّ يصنع هذا فالله يقول ( اللهُ أعلمُ حيثُ يجعلُ رسالتهَ ) لكنّ المقصود منها بيان أنهُ لا علاقة بين الله وبين أحدٍ من خلقه إلا بالإيمانِ والعمل الصالح .
(( الذِين ءاتيناهُمُ الكتاب يتلُونهُ حق تلاوتهِ ))
لمّا مررنا على قول اللهِ جل وعلا ( نبذ فريقٌ منهم ) قسّمنا أهل الكتاب إلى أربعة وقُلنا أهل الصدارةِ منهُم المُؤمنون بهِ وهُم المقصودون هُنا (( الذِين ءاتيناهُمُ الكتاب يتلُونهُ حق تلاوتهِ أُولئك يُؤمنون بهِ ومن يكفُر بهِ فأُولئك هُم الخاسرُون ))
أي الذِين يستحقون أن يُطلق عليهم أصلاً أنهُم مُؤمنون بالكتاب هُم العاملون بهِ التالون لهُ (ومن يكفُر بهِ فأُولئك هُم الخاسرُون ).
ثُمّ ذكر الله آيتين هُما السابعة والأربعين والثامنة والأربعين مرّت من قبل نظائر لهُما تكلّمنا عنها.
ثُم قال الله جل وعلا عن خليلهِ إبراهيم :
(( وإذ ابتلى إبراهيم ربُهُ بكلماتٍ فأتمّهُنّ قال إنّي جاعلُك للناس إماماً قال ومن ذُرّيّتي قال لا ينالُ عهدِي الظالمين ))
الآن نُحاول أن نفقه شيئاً من تعامُل هذا العبد الصالح مع ربهِ ابتلاهُ الله بكلمات لم تُحدّد لكنّها بلا شك أعمال عِظام ومهام جِسام قام بها على الوجه الأكمل وقُدّم هُنا المفعول على الفاعل وإنّ كان حقهُ الترتيب لأمورٍ نحوية وأمُورٍ بلاغية ،(8/129)
أُمور نحوية للقضية الضمير وعودتهِ ، وأُمور بلاغية للتشويق ( وإذ ابتلى إبراهيم ربُهُ بكلماتٍ فأتمّهُنّ ) أي قام بهنّ على الوجه الأكمل كافأهُ الله (قال إنّي) الأمور بيدي أنا خالقُ الخلق أنا باسطُ الرزق أنا الرب وأنتُم عبيد (جاعلُك ) يا إبراهيم ( للناس ) ماذا ؟ ( إماماً ) قال أهلُ العلم هذهِ أعلى المقامات وأجلّ العطايا من سيأتي بعدك أنت الإمام لهُ في السير إلينا حتى قال اللهُ لنبيهِ علية السلام ( ثُمّ أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا)
(إنّي جاعلُك للناس إماماً ) الآن لا بُد أن تُنيخ ذهنك أدركتهُ عاطفة الأبوة قال ( ومن ذُرّيّتي ) نسي هُنا أجابهُ الله ( لا ينالُ عهِدِي الظالمين ) لا تشمل هذهِ العطية من ظلم من ذُرّيّتك لماذا ؟
لأن الإمام لابُد أن يكون مُتحلٍ بحلية الإمامة وهي الصبر واليقين ومن كان ظالما لم يكُن صابراً ولا تقياً فلا يستحقُ أن يكون قُدوةً في الخير (لا ينالُ عهدِي الظالمين ) لكن الآن هذا الرد الرباني الآن سترى أثرهُ بعد قليل .
قال اللهُ بعدها : (( وإذا جعلنا البيتَ )) أي الكعبة
(( مثابةً للناسِ وأمناً ))
(مثابة ) لا يقضون منهُ وطرا يحنّوُن إليهِ ( وأمناً ) شرعاً وقدرا الوحوش الجمادات الشجر كُلهُ أمنٌ في مكة .
إنّي وإنّ نظر الأنامُ لمُهجتي
كضباء مكة صيدهُنّ حرامُ
يُحسبن من لين الكلام فواحشَ
ويصدُهُن عن الخنا الإسلامُ
موضع الشاهد [ كضباء مكة صيدهُنّ حرامُ ]
المقصُود (وإذا جعلنا البيتَ مثابةً للناسِ وأمناً ) حتى قُريش على كُفرها كانت الموتور منهُم يرى واترهُ في الحرم فلا يقربُهُ .
(( واتخذوا من مقام إبراهيم مُصلى ))(8/130)
الآن ما زلنا عاقدين اليد على قضية إبراهيم سنعود إليها ( واتخذوا من مقام إبراهيم مُصلى ) مقام إبراهيم الصخرة التي ارتقى عليها إبراهيم حتى يبني البيت لمّا على ارتفاعهُ فغُرست أو ظهرت مواضعُ قدميهِ على الصخرة وقد قُلنا في دُرُوسً لنا سلفت إن إبراهيم لمّا ألان للهِ قلبهُ ألان اللهُ الصخر تحت قدميهِ إن إبراهيم لمّا ألان للهِ قلبهُ ألان اللهُ الصخر تحت قدميهِ وجعل الله هذا المقام آية عظيمة وذكرهُ في كتابهِ ( فيهِ ءاياتٌ بيناتٌ مقامُ إبراهيم ) أي أولُهُا مقامُ إبراهيم ،
هُنا قال الله (واتخذوا من مقام إبراهيم مُصلى ) النبي علية الصلاة والسلام كما في زيادةٍ صحيحة عند أبي نعُيمٍ في الحُلية على ما في الصحيح في صحيح البُخاري أن عُمر أخبر أنهُ وافق ربهُ في أمور منها هذهِ الآية ـ الزيادة التي عند أبي نُعيم في الحُلية ـ أن النبي قبلها أخذ بيدهِ ــ بيد عُمر ــ وقال يا عُمر هذا مقامُ إبراهيم فقال عُمر لو جعلتهُ مُصلى فأنزل الله (واتخذوا من مقام إبراهيم مُصلى ) وهذا فيهِ تشريفٌ عظيم لهذا النبي الكريم صلوات الله وسلامهُ علية .
واختلف الناس في موقع المقام الآن على أربعة أقوال قد لا يكون هذا بسطُها لكنّ قال أقوام إن هذا المقام موضعهُ الآن هو موضعهُ في عهد النبي صلى الله علية وسلم وإنما في إحدى السنين جاء السيل فحرّكهُ من مكانهِ بعيداً ثُمّ رُدّ إلى موضعهِ ،،
وقال آخرون إنهُ كان مُلتصقاً بالكعبة وأخّرهُ عُمر إلى موضعهِ الحال ،،
وقال آخرون أنهُ أُخّر في عهد بعض السلاطين ،، قالوا أشياء كُثُر لكنّ ما علية الناس اليوم أمرٌُ مُتفقٌ علية أنهُ مقامُ إبراهيم .(8/131)
هذا المقام جعلهُ الله جل وعلا مكاناً للصلاة حتى النبي علية الصلاة والسلام لمّا طاف أتى عند المقام وتلا الآية (واتخذوا من مقام إبراهيم مُصلى ) وصلّى خلف المقام وقرأ في ركعتيهِ اللتين ركعهُما بعد الطواف بقُل يا أيُها الكافرون ، وقُل هو الله أحد كما في حديث جابرٍ في صحيحِ مُسلم .
الذي أُوريد أن نصل إلية قضية حسّاسة جداً ليس لها علاقة بما أرجأناه :.
العرب كانت تُعظم الأصنام لها هُبل اللات العُزّى مناة وغيرُها كثير ثلاث مئة وستين صنم أُنظر كيف صرفهُم الله ما عبدوا الصخرة التي عليها مقامُ إبراهيم ولا عبدُوا الحجر الأسود لعلم اللهِ الأزلي أن هاذين سيُعظّمانِ في الإسلام فلو عظّمتهُما قُريشٌ في الجاهلية وعبدتهُما لقال الناس أبقى مُحمدٌ علية السلام من الوثنيةِ شيء يسير ــ واضح ـــ فسدّ اللهُ الطريق هذا صرف قُريشاً مئات الأعوام مع ولعِها وشغفهِا بالحجارة أن تعبُد المُقام وهو موجودٌ بينها .
يقولُ أبو طالب :
وموضع إبراهيم في الصخر رطبةً
يعني موضع قدميهِ في لاميتهِ المشهورة طبعاً موضع هُنا جاءت قسم عشان كذا جُرّت الموضوع والشاهد فلم يُنقل أبداً أن قُريشاً عظّمت الحجر عبادةً أو عبدت مقام إبراهيم وهي التي أتت بهُبل واللات و العُزّى و مناة وغيرها حتى إذا جاء الإسلام وهو يعلم ما كان وما سيكون وما هو كائن وأمر بتعظيمها تعظيماً شرعياً مُقيداً بأن يُصلّى عند واحد ويُقبّل الآخر لم يستطع أحدٌ أن يقول إنّ هذا من بقايا الجاهلية (واتخذوا من مقام إبراهيم مُصلى ).
ثُمّ قال الله : (( وعهدنا ))
وهذا تشريفٌ لهُما (( إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا )) لم يقُل البيت قال (( بيتيَ )) حتى تزيد الرغبة لدى إبراهيم وإسماعيل في السعي في كمال تطهير البيت لأن الله أضافهُ لذاتهِ العلية إضافة تشريف .
(( أن طهّرا بيتي للطائفين ))(8/132)
بدأ اللهُ بالطائفين لأنهُم أولى الناس بالبيت إذا لا مكان يُطاف حولهُ إلا ماذا ؟ إلا البيت الحرام أم الاعتكاف والرُكع السجود الذين هُم المُصلّون فإن الاعتكاف يقع في مساجد شتى كما يقع الركوع والسجود في كُل مكان .
ثُمّ قال الله الآن أعود لما أرجأت (( وإذا قال إبراهيمُ ربِ اجعل هذا بلداً أمناً وارزُق أهلهُ من الثمرات من آمن منهُم بالله واليوم الآخر ))استفاد خليلُ الله من تعقيب اللهِ الأول عليه لمّا قال ( ومن ذُرّيّتي ) ماذا قال لهُ ربُهُ ( لا ينالُ عهدي الظالمين ) الآن عندما جاء يدعوا لرزق هو نفسهُ قيّد استفاد من الأول قال ( ربِ اجعل هذا بلداً أمناً وأرزُق أهلهُ من الثمراتِ من ءامن منهُم باللهِ واليوم الآخر ) أخذها من العتاب الأول لكنّني لا أستطيع أن أجزم بهِ هذا استنباط لا يُوجدُ فيهِ خبر لا يُوجدُ فيه حُجة لا يُوجدُ فيهِ دليل فلا نستطيع أن تقولّ على أنبياء اللهِ ما لم يثبُت أنهُم قالوهُ لكنّ نقول ربُما استفاد إبراهيم من العتاب الأول .
هُنا تغيّرت الصورة قال الله (( ومن كفر ))
فمن كان مؤمن يتمتّع ومصيرهُ إلى جنات النعيم ، ومن كان كافر يتمتّع إلى حين قال الله ( ومن كفر ) أي سأرزُقُهُ (( فأُمتّعهُ قليلاًَ ثُمّ أضطرّهُ إلى عذاب النار و بئس المصير)) فبيّن اللهُ جل وعلا أن الرزق العام يدخُل فيهِ المؤمن والكافر والبرّ والفاجر من آمن بي ومن لم يُؤمن بي خلاف الأول الذي هو الإمامة والقُدوة والإتباع في الدين فإنّ العطايا الدينية يُعُطيها اللهُ لمن يُحب فقط والعطايا الدنيوية لا يُعطيها اللهُ جل وعلا إلا لمن الدُنيوية لمن يُحبُ ومن لا يُحب .
قال الله بعدها :
(( وإذ يرفعُ إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبّل منّا إنك أنت السميعُ العليم ))
أناط اللهُ بهذا الخليل أن يبني للهِ بيتا لكنّ الخلاف هل بناهُ أحدٌ قبل إبراهيم أو لم يبنهِ ؟(8/133)
وأنا أُرجّح والعلمُ عند الله أن البيت بنتهُ الملائكة قبل نزولِ ءادم تمهيداً لنزولهِ ودفعنا إلى هذا :: لو كان أحدٌ من الخلق بنى البيت قبل إبراهيم من غير الملائكة ءادم أو غيرهُ من الأنبياء لأخبر اللهُ جلّ وعلا بهِ لأنّ الله لا يظلمُ الناس مثقال ذرة وبناءٌ بيتٍ للهِ تشريف ويُؤيدهُ أن إبراهيم علية السلام لقيهُ النبي علية الصلاة والسلام في رحلة الإسراء والمعراج قد أسند ظهرهُ إلى البيت المعمور وهذا فهم منهُ العُلماء أنهُ مُكافأة لهُ على أنهُ بنى للهِ الكعبة فلو كان أحداً من الأنبياء غيرهُ بنى البيت لكُفأ بها قبل إبراهيم لأن الله حكمٌ عدل لكن لما بنتهُ الملائكة والملائكة أصلاً جُبلّة طاعتهُم لذالك لا يتعلّق بعملهِم ثواباً وعقاب لم يذكُر اللهِ جلّ وعلا إياهُم .
وإذ قُلنا إن إبراهيم أول من بنى البيت قد يأتي قائل لماذا تقول الملائكة لماذا لا تقول إنّ إبراهيم هو أول من بنى البيت ؟
فنقول هذا يعني أن الناس لم يعرفوا الحج إلا بعد إبراهيم معناه أن إدريس ونوحاً وصالح وغيرهُم لم يحجوا وهذا في ظنّنا بعيد بل أظنّهُ في نصوص ولستُ أجزم تدلُ على حجُ أُولئك الأخيار .
نقول قال الله جل وعلا : (( وإذ يرفعُ إبراهيم القواعد من البيت))
قال العُلماء فيما يرونهُ تاريخياً أنهُ جاءت سحابة أضلّت مكان البيت فعرف إبراهيمُ القواعد ،، وقال آخرون جاءت ريح فكنست جُزءً من الأرض والخبرُ الصحيح أن إبراهيم أشار إلى إسماعيل إلى ربوة قال إنّ الله أمرني أن أبني هاهُنا بيتا قال يا أبتِ أجب أمر ربّك قال أوتُعينُني قال نعم يا أبتاه فبنيا البيت .
قال الله : (( وإذ يرفعُ إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبّل منّا إنك أنت السميعُ العليم * ربنا واجعلنا مُسلمين لك ))
فحرصا أعظمَ ما حرصا علية ألا يتغير قُلُوبهما عن أحدٍ غير اللهِ أن لا تلجأ قُلُوبُهما إلى أحدٍ غير اللهِ .
(( وأرنا مناسكنا ))(8/134)
وهذا استجداءٌ بالرحمن الرحيم فالإنسانُ لا يُعلّم إلا ما علّمهُ الله .
(( وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم ))
هذا اعترافٌ بالتقصير وحاجتهُما إلى التوبة ومحوا الذنُوب وستر العيُوب فلجأ وتوسلا إلى الرب باسمينِ حُسنيين من أسمائهِ ( إنك أنت التوابُ الرحيم ) .
(( ربنا وابعث فيهِم ))
أي أُمة العرب
(( سولاً منهُم ))
وقد وقع
(( يتلوا عليهِم ءاياتك ويُعلّمهُم الكتاب والحكمة ))
الآن توقف قد تُسألون عن حق ما الآيات ؟ الكتاب والحكمة .
قال الله بعدها (( ويُعلّمهُم الكتاب والحكمة )) والقُرآن مًنزّه كلامُ الله عن التكرار الذي لا معنى لهُ فيُصبح ما معنى الآية ؟؟ تكون الثلاثة كالآتي :
(يتلوا عليهم ءاياتك ويُعلّمهُم الكتاب والحكمة ويُزكيهِم )
( يتلوا عليهِم ءاياتك) أي تلاوةً وحفظا تلاوةً وحفظا وتشملُ القرآن والسُنّة ،،
( ويُعلّمهُم الكتاب والحكمة ) يُعلّمهُم إياها معنىً . ما تلاهُ عليهم يُعلّمهمُ ماذا؟ يُعلّمهم معناه .
مثلاً (و أقيموا الصلاة ) علّمهُم معناه بأن لها أوقات وأنها تُركع هكذا وتُسجد هكذا ( وءاتوا الزكاة ) علّمهُم معناه بأنهُ ذكر الأنصبة وخلافها وهكذا في كُل الآيات ،،
( ويُزكّيهِم ) أي يُربيهِم بالأعمال الصالحة .
فاجتمعت الثلاثة فإذا جاء وجد رجُل وُجد عبد منّ الله علية بتلاوة القُرآن وحفظهِ واللفظ بهِ والتلفُظ بهِ ثُمّ علم معناهُ كذالك صنع بالسُنة ثُمّ زكى نفسهُ بالأعمال الصالحة فهذا الذي سار على هدي الأنبياء المُقربين وسنن المُرسلين .
قال الله :
(( ربنا وابعث فيِهِم رسُولاً من عندك يتلوا ءاياتك ويُعلّمهُم الكتاب والحكمة ويُزكّيهِم إنّك أنت العزيزُ الحكيم ))
ثُمّ ختم الله هذا المقطع بقولهِ :
(( ومن يرغبُ عنّ ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناهُ في الدُنيا وأنهُ في الآخرةِ لمن الصالحين ))(8/135)
تكلّمنا كثيراً عن الفعل يرغب وأنهُ إذا قُصد به الطمعُ في الشيء يتعدى بحرف الجرّ في " يرغبُ في " ،، وإذا قُصد بهِ الإعراض وعدم الرغبة في الشيء يتعدى بحرف الجرّ عن وهُنا تعدى بحرف الجرّ عن قال الله ( ومن يرغبُ عنّ ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه )
السفه نوعٌ من السذاجة والتصرُف غير المحمود ينجُم عن نُقصان العقل نوعٌ من السذاجة والتصرُف غير المحمود ينجُم عن نُقصان العقل ولهذا سمّى الله الصبيةَ سُفهاء .
( ومن يرغبُ عنّ ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناهُ وأنهُ في الآخرةِ لمن الصالحين )
نقول والعلمُ عند الله إنّ قول الله (وأنهُ في الآخرةِ لمن الصالحين ) بيانٌ على أن تلك العطايا العظام التي أعطاها اللهُ جل وعلا خليلهُ إبراهيم صلواتُ الله وسلامهُ علية لم تُتقص قدرهُ أين ؟ في الآخرة لأن جرت العادة أن الإنسان إذا مُتّع كثيراً في الدُنيا غالبُ الأمر يكون على حسابهِ في الآخرة ( أذهبتم طيباتكُم في حياتكُم الدُنيا ) لكنّ الله أراد أن يُبين أن تلك العظايم من العطايا التي أعطاها إبراهيم حتى جعلهُ للناس إماماً ليست مُنقصةٍ لهُ من الأجرِ شيئاً في الآخرة بل إنّ النصوص أثبتت أنهُ أولُ من يُكسى يوم القيامة علية الصلاةُ والسلام واللهُ جل وعلا اصطفاه واجتباه على كثيرٍ من خلقهِ وهو عند كثيرٍ من العُلماء من أهل السُنة أفضلُ الخلقِ بعد نبينا صلى الله علية وسلم .
(( إذا قال لهُ ربُهُ أسلم قال أسلمتُ لرب العالمين )) قال كثيرٌ من أهل العلم إنّ من أعظم خصال إبراهيم المُسارعة في الخيرات وعدم التردُد في تنفيذ أمر اللهِ جل وعلا وهذا هديٌ عظيمٌ من هديهِم قال الله جل وعلا عن كليمهِ موسى ( وعجلتُ إليك ربي لترضى )
نقف عند هذهِ الآية ثُمّ نقولُ إجمالاً ...(8/136)
إن الرب تبارك وتعالى ذو فضلٍ واسع ورحمةٍ جليلة أختصّ بها بعض عبادهِ وممّن نال هذا الفضل الإلهي والعطايا الربانية خليلُ اللهِ جل وعلا إبراهيم وذكرُ القُرآن إبراهيم في مواطن مدحٍ محمودةٍ جليلةٍ عظيمة ( إنّ إبراهيم لحليمٌ أواهٌ مُنيب ) تجعل القلوب تهفوا لتعلُّق بهذا النبي الكريم بأن نتبعهُ ( ثُمّ أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) وكان النبي صلى الله علية وسلم يُجلّهُ ويُعظّمهُ ولمّا تكلّم عن الأنبياء قال علية الصلاة والسلام كما في حديث يوم الفتح قاتلهُم الله ما لشيخنا وللأزلام "
قال العُلماء لم يُسمّي اللهِ جل وعلا أحدٌ من الأنبياء أنهُ شيخهُ إلا إبراهيم ولمّا لقيهُ في رحلة المعراج قال إبراهيمُ لنبينا صلى الله علية وسلم مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح " ولم يقُل لهُ هذهِ العبارة إلا ءادم أما غيرهُما من الأنبياء والمُرسلين فكان يقول مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح .
غايةُ الأمر أن نفهم أن هذا خليلُ الله أجتباهُ اللهُ جل وعلا ننظُر في هدية في سمتهِ فيما أخبر اللهُ عنه فنقتفي أثرهُ لأن الله جل وعلا أمرنا بهدي الأنبياء جُملة وبهدي إبراهيم على وجه الخصوص وهذا الذي سنُهُ نبيُنا صلى الله وسلم عليهِ ....
هذا ما تحرّر وتهيأ إعدادُهُ وأعان اللهُ جل وعلا على قولهِ واللهُ المُستعان وعلية البلاغ وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آلهِ والحمدُ للهِ رب العالمين ..............
إن الحمد لله نحمده, ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, أراد ما العباد فاعلوه, ولو عصمهم لما خالفوه, ولو شاء أن يطيعوه جميعا لأطاعوه, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وعلى سائر من اقتفى أثره, واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد:(8/137)
فما زلنا نتفيأ معكم ظلال كتاب ربنا جل وعلا وقد انتهينا في اللقاء الذي سبق إلى قول الله جل وعلا عن خليله وصفيه وحبيبه إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال الله ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين )إلى هنا انتهينا في اللقاء الماضي وبينا المقام العظيم الذي من الله به على هذا الخليل المبارك صلوات الله وسلامه عليه ..
اليوم نفتتح اللقاء ، يقول الله جل وعلا {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } حصر الله النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته وإبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول المؤرخون أنه لم يرزق إناث وإنما رزق ذكران زمن أولاده الذكور الذي نص الله عليهم في كتابه إسماعيل هو الأكبر و إسحاق ومن إسحاق جاء يعقوب عليه الصلاة والسلام وله أبناء آخرون غير هذين لكن هذين الذَين نبئا بنص القرآن قال الله عن إسماعيل (إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً) وقال الله جل وعلا عن إسحاق (وباركنا عليه وعلى إسحاق) وقال (وبشرناه بإسحاق نبيا ً) فهذه دلالة قرآنية على أنهما كانا نبيين صلوات الله وسلامه عليهم ..(8/138)
الإنسان إذا حضرته والوفاة تحضر مقدماتها وأسبابها ودواعيها أما الموت إذا حل ذاتا ً لا يمكن وقتها لأحد أن يتكلم فإذا ظهرت دواعي الموت وأسبابه ومقدماته وشعر المرء أنه مفارق لا محالة يكون فقه الأولويات هناك في أوجه لأن الإنسان في تلك اللحظات يصعب عليه أن يخادع نفسه فيخرج ما في قلبه أكثر مما يخرج ما كان يردده بلسانه والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما حملوا طيلة أيام حياتهم شيئا ً أعظم من الدعوة إلى توحيد الله جل وعلا فلما كانت الدعوة إلى توحيد الله جل و علا أعظم ما حملوه وهم أحياء كانت أعظم ما تركوه عند موتهم قال الله عن خليله ( وجعلها كلمة باقية في عقبه ) في عقبه أي في ذريته فعندما حضرته الوفاة وصى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنيه إسماعيل وإسحاق وغيرهما دل عليه الجمع في قوله تبارك وتعالى {يَا بَنِيَّ } هؤلاء الأخيار أولاد هذا النبي المبارك لما التفوا حوله وصاهم قال الله {وَوَصَّى بِهَا} والهاء تعود على ماذا ؟ إما إن تعود على الملة عموما ً وهو الأظهر أو تعود على الكلمة المسبوق الحديث عنها وهي قول الله جل وعلا عنه ( قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ) ولا ريب أن الإنسان يظهر كمال عقله عند موته ويظهر ذلك الشيء الذي كان يحمله في سرائره على لسانه عندما يقرب من الآخرة .. أبو بكر رضي الله عنه لما وصي بالخلافة لعمر قال في ساعة يؤمن فيها الكافر ويتقي فيها الفاجر لأن الإنسان لا يبلغ به الحال أن يخدع نفسه في تلك المرحلة إنما يخرج معتقده .. والوصية .. هناك وصية مالية ليس لها هذا الحديث عنها سيأتي الحديث عنها في آية الدين لكن الوصية هنا الثبات على المبدأ وعلى العقيدة ولا عقيدة أعظم من توحيد الرب تبارك وتعالى ، ولعظم شأنها نص الله عليها {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} والواو عاطفة اتفاقا ً لكنها معطوفة يعقوب على بنيه ؟ أو معطوفة على إبراهيم ؟
لكل قرئ :(8/139)
والذي بين أيديكم أنها معطوفة على إبراهيم لأنها جاءت مرفوعة مضمومة فيصبح المعنى : ووصى بها إبراهيم بنيه كما وصى بها يعقوب بنيه وإن قلنا ووصى بها إبراهيم بنيه نصبناها يصبح ووصى بها إبراهيم بنيه وحفيده الذي هو يعقوب وهذا ينجم عنه سؤال آخر هل إبراهيم عليه الصلاة والسلام أو بتعبير أوضح هل أدرك إبراهيم أو لا ؟ ظاهر القرآن أنه أدركه لأن الإنسان لا يخلو من أحفاد فلما يقول الله جل وعلا (ومن وراء إسحاق يعقوب) دلالة على أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام سيدرك يعقوب سيراه ، فعلى القول الأول على أنها مرفوعة يصبح ما صنعه إبراهيم مع بنيه انتفع يعقوب منه فصنعه مع بنيه ، وعلى قراءة النصب يصبح أن إبراهيم أوصى بنيه عليه الصلاة والسلام ومن جملة من حضر حفيده يعقوب .
قال الله تعالى :{ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ } اجتباكم وأختاركم ونعمة عظيمة أن يختاركم الله لهذا الدين ثم قال في كلمة ذات إيجاز {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } والمؤمن وأي أحد يدرك أنه لا يعلم متى ساعة موته فحتى يتمسك بشيء يجهل متى يموت عليه يلزم من هذا الثبات والدوام على الدين .. يصبح ..نحرر المعنى
أراد خليل الله إبراهيم من قوله { فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} الثبات والدوام والبقاء على الدين ثم قال الله جل وعلا يخاطب أولئك ..من أهل الكتاب الذين زعموا أ، أولئك الأخيار كانوا هودا أو نصارى ..(8/140)
قال الله {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } وقلنا حضرت مقدماته وأسبابه {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ } وهذا نص صريح على أن المتكلم يعقوب والمستمع أبناؤه { مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } نقع هنا في إشكال و قلنا أول خطوات العلم إيجاد الإشكال ثم حل ذلك الإشكال قال الله جل وعلا { إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ } من القائل ؟ القائل يعقوب ويعقوب نبي
مرسل معظم لله وهذا أمر لابد أن تسطصحبه وأنت تقرأ سؤاله ثم قال { مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي }وما بالاتفاق لغير العاقل فكيف يظن أن نبياً يسأل عن الله بأداة لغير العاقل أجاب العلماء عن هذا بأن مصر عندما دخلها يعقوب كان يكثر فيها عبادة الأوثان فذكر هذا السؤال من باب الاختبار لأبنائه هل أنتم متعلقون بما ترونه من الأوثان والأصنام والأحجار وما يعبد من دون الله أم لا؟!
وعندي أن هذا بعيد وإنما السؤال ليس عمن تعبدون حتى يكون الجواب الله .... أي نعبد الله....... إنما السؤال ما الطريقة؟ ما العبادة؟ ما المسلك؟ ما الملة؟ التي ستختطونها وتسيرون عليها بعد موتي فسأل عنها بغير ماذا؟ بأداة لغير العاقل . [واضح]
ما تعبدون من بعدي؟ لكن أولئك الأبناء لعظيم صلاحهم أجابوا إجابة تطمئن والدهم أكثر مما يريده من الإجابة فقالوا{ قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } ...(8/141)
هذه الآية فهم منها العلماء أن الجد بمنزلة الأب لأن الله تعالى قال { وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ } وفيها دلالة على أن العم بمنزلة الأب بهذه الآية أخذ الصديق رضي الله عنه في المسألة الفرضية المشهورة وهي قضية هل يحجب الأخوة بالجد أو لا يحجبون ؟ فليس هذا مقام تحرير النزاع ستأتي آيات المواريث في سورة النساء لكن هذا من أدلة الصديق رضي الله عنه أنه كان يرى أن الإخوة يحجبون بالجد فجعل الجد بمنزلة الأب والآية صريحة{ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ } بدأ الله بإسماعيل لأنه أكبر{ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } ثم قال الله{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }الخطاب هنا لليهود .. لأهل الكتاب عامة وللمسلمين
إنما توجيه الخطاب فيكون على التالي:-
فيكون الجواب لأحفادهم وأسباطهم من بني إسرائيل أن قرابتكم لأولئك الأخيار لا تنفعكم إن لم يصحبها عمل.(8/142)
وتوجيه الخطاب إليهم وإلى غيرهم يكون إذا كان الله جل وعلا في حق أولئك الأخبار العظيمّي الشأن أجرى عليهم ما كسبوا وأجرى عليهم ما اكتسبوا فمن باب أولى من كان غيرهم يكتب له ما كسب ويكتب عليه ما أكتسب قال الله { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وأن من آفة العلم والسير في أي طريق أن ينشغل الإنسان في أمر أمره بالنقد والانشغال بالنقد في أول طلب العلم أعظم آفاته في زمن العلامة الألباني رحمة الله تعالى عليه ظهر بعض علماء الحديث فتيه تتلمذوا على بيد شيخ وكلهم أخيار ، لكن أولئك الفتية أول ما بدؤوا يطلبون علم الحديث لجأوا إلى ما صنفه الألباني وحكم عليه بالصحة فأخذوا يجربون قضية نقده فكشفوا عن عوار شديد لأنهم لم يصلوا إلى مرحلة الشيخ واختطوا طريقا واعتلوا هرما لم يرتقوا درجاته فمن جملة ما كتبه الشيخ رحمه الله تعالى آن ذاك أنه عاتبهم على هذا الصنيع وعاتب شيخهم وقال لو أشغلوا أنفسهم في تحرير مسائل علمية تنفع الناس خير لهم من أن يبدؤوا الطريق بقضية أن الإنسان يبدأ حياته بالنقد وتفصيل المسألة حتى ينتفع من يسمع قد تكون في أول الطلب فتسمع من شيخ رأي أنت قد سمعت من شيخ لك رأيا ً مخالفا ً فلا يلبث أحدنا أن يصنع إذا غلب عليه حماسه دون عقله وعلمه أن يذهب ويحرر في الرد عليه ولا يمكن أن يرد الإنسان وينتقد إلا إذا بلغ مرحلتين:-
أن يعرف أدلة الفريقين تماماً ثم يملك آلة علمية في الترجيح بينهما فإذا عرف أدلة الفريقين ثم ملك آلة الترجيح حق له بعد ذلك أن يخاطب ويراسل ويكتب وغالب من يكون في أول الطريق يجهل ذلك كله(8/143)
قد مر معنا كثيراً أن الإنسان إذا تصدر لشيء لا يحسنه إنما يكشف عن عورته ثم إن قول الله جل وعلا { وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } هذه تربية ربانية لأن الإنسان إذا أنشغل بما لن يسأل عنه معنى ذلك التفريط عما يسأل عنه وقد كان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله تعالى عليه عندنا في المدينة وذات يوم في الحرم وهو يدرس وافقت تلك الأيام موت زعيم عربي مشهور لكنه أي ذلك الزعيم غير محمود السيرة شخصية جدلية الناس فيها ما بين مادح و ذام ، فعنه ما كان الشيخ في طيات الحديث يقول ما ينفع الناس قام أحد الحاضرين في الحلقة وقال يا شيخ مات فلان ما تعليقكم ؟!! فسكت الشيخ عله أن يكون في ذلك تأديباً للسائل واستمر في حديثه فأعاد الطالب أو الحاضر السؤال فسكت الشيخ فرددها ظناً منه أن الشيخ لم يسمع!! فأشار الشيخ بيده هكذا (أن اسكت) طبعا ًالشيخ لا يبصر في الجهة التي حصل منها الصوت ثم قال { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ثم أكمل حديثه.
وهذه منزلة في التربية والعلم لأن الإنسان إذا بلغ مرحلة متقدمة في العلم فتصبح رقاب الناس في ذمته لا رقبته في ذمة الناس هو الموكل بأن يقودهم إلى الخير لا أن يقودوه ممن حوله من حضروا أصلا ً لينتفعوا منه أن يقودوه هم إلى حيث شاؤوا فإذا قادك من هو أدنى منك لن يقودك إلا إلى السوء وعلى أهل العلم أن يتصدروا لينفعوا الناس لأنه إن لم يتصدر أهل العلم ويقودوا الناس بطريقة ربانية وصبغة إلهية إلى ما ينفعهم تصدر من لا يحسن شيئاً فهلك الناس.
وقد قيل :
إذا كان الغراب دليل قوم
دلهم على جيف الكلاب(8/144)
نعود على ما نحن فيه من كلام ربنا جل وعلا قال الله جل وعلا { وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } يقول اليهود كونوا هوداً ويقول النصارى كونوا نصارىً وإلا لا تقول النصارى كونوا هوداً ولا تقول اليهود كونوا نصارى لكن أحرر كلمة هوداً قبل الشروع في القضية :
يمر معك في ذكر اليهود ثلاث ألفاظ سواء في الكتاب أو في السنة: يهود – اليهود - وهودا
أعيد
يمر معك في الكتاب والسنة: يهود - اليهود بالتعريف وهودَ كالتي بين أيدينا، فما معنى كل واحدة منها ؟ إذا فقهت الأصل يسهل عليك فهم القرآن بعد ذلك والله هنا يقول { وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ } الأصل في المسائل أن هؤلاء من ذرية يهوذا ابن يعقوب فعربت الذال فأصبحت دالاً [واضح]؟!
فيهود تطلق على معنيين تطلق على النسب وعلى الصلة....... فإذا قلنا يهود أي اليهود فتحتمل الأمرين تحتمل أن تكون مطلقة على الصفة التي هي الدين والملة أو على النسب أي إلى الجد الذي ينسب إليه(8/145)
أعيد .. إذا قلنا يهود أو اليهود فتحتمل معنيين إما على الصفة أي الملة والدين وإما على النسب.. وإذا قلنا هوداً كما في هذه الآية وهو التفريع الثالث فلا تطلق إلا على الملة والصفة ولا يراد بها النسب إذا قلنا هوداً فلا يراد بها النسب وفقهك لهذا الأمر يعينك بعد توفيق الله على فهم الكثير من الأمور التي جاء فيها ذكر اليهود وسنبسط الآن القول حتى تتضح الصورة والإنسان لا يمكن يا بُني أن يطالب بتغير نسبه لا سبيل له إلى ذلك النسب لا يتغير فالنبي عليه الصلاة والسلام مثلاً هاشمي لا يمكن أن نطلب منه أن يكون خزرجياً ، حسان أبن ثابت خزرجي لا يمكن أن يطلب الله أو رسوله من حسان أن يكون هاشمياً أو أن يكون قرشياً أو أن يكون خزاعي أو غير ذلك- فالأنساب لا سبيل إلى تكليف الناس بها لأن النسب لا يختاره الإنسان هو يولد على نسب معين يقول حسان :
ولدنا بني العنقاء وأبنيّ محرق
فأكرم بنا خالاً و أكرم بنا إبنما
إلى غيرها من الطرائق التي حررناها في موضعها
إذا ً قول الله جلا وعلا {وَقَالُواْ} أي اليهود {كُونُواْ هُودًا } لا يقصدون كونوا يهود نسبا وإنما كونوا هوداً أي ملة صفة على الصفة التي أرادها اليهود
إذا تحرر هذا فاليهود كانوا يجاورن النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وأول خطواته معهم تاريخيا الموادعة الصحيفة التي حررها بينه وبينهم كما ذكرها أهل السير وانتهى المطاف في غزوة خيبر من محرم من سنة سبع وغزوة خيبر مرت بأحداث شهيرة عظيمة من أشهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج بعدها من صفية بنت حُيي ابن الأخطب(8/146)
هذه صفية الآن نطبق القاعدة .. حصل بينها وبين إحدى أمهات المؤمنين ما يحصل بين الضرائر لأنهن يتنافسن على شرف عظيم هو النبي صلى الله عليه وسلم فقالت لها أحدى أمهات المؤمنين تعيرها .. قالت: يا ماذا ؟! يا يهودية وهذه أم المؤمنين قطعاً لا تقصد يهودية معناها ملة أو دين محال لأن هذه مسلمة لكم قصدت بها ماذا؟! النسب .. [واضح الفرق الآن]
لأنه بعيد جداً ومحال أو لا يقع لا يتصور أن تأتي أم المؤمنين فتقول.. أظنها "حفصة"".. فتقول لصفية يا يهودية على اعتبار أنها يهودية كافرة هذا محال لكن يهودية هنا بمعنى نسب، نأخذ تخريج آخر حديث آخر حتى نستفيد من القاعدة قال عليه الصلاة والسلام ممكن هذا مروي عند أهل السير ذكره البيهقي في الدلانل وابن عساكر في التاريخ الدمشقي وابن سعد في الطبقات قال المخيريق خير يهود ، لا يقصد خير يهود ديناً نسبة إلى اليهود الدين والملة لأنه أسلم لكنه خير يهود خير القوم ينتسبون إلى من ؟! إلى يهود فهذا خرج في يوم سبت واليهود تعظم يوم السبت تجعله إجازة وقال: معشر يهود تعلمون أن نصرتكم لنبيكم حق فأبوا واحتجوا بأنه يوم سبت و هم حتى لو لم يكن السبت لن يخرجوا ولكن يريدون أن يكفوا عن أنفسهم جداله فخرج في يوم أحد كان يوم السبت قتل فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قتله قال مخيريق خير يهود.... الذي يعنيننا كلمة خير يهود يعني خيرهم يهود هنا إضافة نسب .. إضافة نسب لكن الآية لا تحتمل النسب { وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى } إذا عدنا إلى خبير فيها قال النبي صلى الله عليه وسلم لأُعطين الراية غدا ً رجلا ً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله فأعطاها (علي) وهو القائل يومئذ :
أنا الذي سمتني أمي حيدرة
أضرب بالسيف رؤوس الكفرة
وأكيلهم بالصاع كيل السندرة
السندرة شجرة عظمية يقطع منه مكاييل كبار عظام
و حيدرة أسم من أسماء "علي" واختلف من أين جيء له بهذا الاسم وقيل أنه اسم من أسماء الأسد(8/147)
ترون أنتم الشيعة في يوم عاشوراء يضربون صدورهم ويحرقون أيديهم ويقولون حيدر.. حيدر ، يفرون من التأنيث مع أن "علي" ارتضاه لنفسه لأن التاء في التأنيث ليست عيبا ً إذا أطلقت على مذكر! حمزة ، طلحة ، معاوية فيقولون حيدر .. حيدر ويضربون أيديهم وأرجلهم فينطبق عليهم مثل عند العامة شهير تقول العامة "من خف عقله تعبت قدماه"
الذي يعنيننا أنت ترى أحيانا ً الأشياء أمام عينيك من تاريخنا المعاصر حسن ربطها بالقرآن حسن تنمية ثقافتك حسن إطلاعك إطلاع شامل هذا يجعلك أهدأ بالاً وأمكن في العلم وأكثر ثقة في قيادة الناس....
قال الله{وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ } طبعاً لم نتكلم عن النصارى ليس جهلاً لكن النصارى لم يكونوا محيطين بالنبي صلى الله عليه وسلم كإحاطة اليهود به فالمدينة لم يكونوا يسكنها احد من قبائل النصارى قد يكون فيها أفراد لا يمكن أن نعرج إلى أحداث مرت بهم أما اليهود كانت قبائل قينقاع - قريظة - النضير- منى زُريق- غيرهم كانوا مستوطنين المدينة فتجري أحداث عندما تكلمنا عن اليهود ليس لزيادة علم فيهم ونقص في النصارى أو لبغضنا فيهم أقل من النصارى لكن المسألة مسألة أحداث تاريخية كانت موجودة آن ذاك.
{(8/148)
وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ } واقعة في جواب ، في جواب الأمر ، كونوا هذا أمر تهتدوا هذا رأيهم فرد الله عليهم { قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ومر معنا أن الحنف في اللغة الميل وهنا المقصود به أن الميل عن المعوج اعتدال أعيد الميل عن المعوج اعتدال وهذا حررناه كثيرا { قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } تلحظ أيها المبارك أن ملة إبراهيم كلمة عامة جاء تفصيلها {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} من حيث الحياة العملية كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهذا الآية وآية آل عمران ( قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم ...(8/149)
) في آية البقرة ذكر الله "إلى" ابتداء الغاية وفي آية آل عمران ذكر انتهاء الغاية فعبر بماذا؟ بـ "على" في آية البقرة قال" إلى " {إِلَى إِبْرَاهِيمَ }فذكر ابتداء الغاية وفي سورة آل عمران ذكر " على " أي ذكر انتهاء الغاية { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ } هذا رأس الدين ولذلك أُفرد وجمع ما بعده {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ } وقلت مراراً لا تقف على قول الله تعالى{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا } ثم تقول{وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ } فتصبح " ما " نافية وهي هنا موصولة و" ما " إذا كانت موصولة لا يبدأ بها لأنها تنتقل في المعنى إلى كونها نافية {وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ } واختلف فيمنهم الأسباط والمشهور أنهم أبناء يعقوب لكن هذا كونهم أبناء يعقوب هذا إذا قصد بها أبناء يعقوب لصلبه أي أخوة يوسف فهذه في النفس منها حاجة !! أن يكونوا أنبياء نبئوا وأُنزل عليهم بعد الذي وقع منهم لكن هذا الذي عليه أكثر الناس.
{(8/150)
وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى } طبعاً {وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ} خص موسى وعيسى بالذكر لارتباطهما الوثيق بحياة بني إسرائيل {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فالمنهج الذي تسيرون عليه في التفريق بين الأنبياء الله ورسله ليس هو المنهج الرباني ولهذا قال الله {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } ثم قال ربنا {فَإِنْ آمَنُواْ } المخاطبون بهذه الآيات من اليهود والنصارى {بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ } ليس المقصود حرفية الإيمان بالله لأن الله ليس كمثله شيء {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ } إي بمثل الطريقة التي تؤمنون بها بمثل المنهج والهدى والملة والطريقة التي تؤمنون بها{فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ } أعرضوا {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } والشق من الشيء جانب والمقصود هنا مجادلون مخالفون لا يريدون لأنفسهم ولا لغيرهم خيراً{فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } والمشاق لك المؤذي فقال الله {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وقد قيل أن هذه الآية كان يقرأها عثمان رضي الله عنه وأرضاه حال قتله فسقطت قطرة من دمه على هذه الآية وقال بعض المتأخرين ممن دونوا التاريخ أنهم وجدوا هذا المصحف الذي كان بين يدي عثمان وقد تجمد دم عثمان على هذه الآية ذكره القرطبي وغيره عن بعض من أدرك هذا المصحف العثماني أيا ً كان الأمر هذا قد !! من حيث العقل مقبول من حيث النقل لا أظن هناك سند صحيح نلزم به {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وهذا تطمين من الله لنبيه وهذا أمر متكرر في القرآن(وكفى بربك هاديا ونصيرا) ثم قال الله {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } اليهود جاء في شرعهم المحرف أن الكاهن إذا أراد أن(8/151)
يتوب يغتسل قبل أن يقدم القربان عن خطاياه وعن خطايا عائلته وعند النصارى شيء يسمي التعميد وأصله أنهم كانوا يقولون إن يحي ابن زكريا أمرهم أن يغتسلوا من نهر الأردن وإلى اليوم التعميد موجود يضعونه في ماء يظنونه ماء مقدس فيغتسلون ويعمدون الصبي حتى ينتفع بدعوة عيسى له فلا يخلد في النار فعامل الله لغة ً هؤلاء القوم بصنيعهم هذا المشتهر بينهم فأختار الله هذا اللفظ ليكون مناسباً للحال التي يصنعها اليهود ويصنعها النصارى فانتم تعمدون إلى الاغتسال وهؤلاء يعمدون إلى التعميد وكلا كما على باطل أين الصواب {صِبْغَةَ اللّهِ } فطرته ملته ما ارتضاه جل وعلا لعباده فالمؤمنون من هذه الأمة على فطرة الله ليست فطرة متكلفه كالتي صنعها اليهود أو صنعتها النصارى(8/152)
ولهذا كلمة صبغة هذه التاء للتأنيث وأصلها يا بُني صبغ على وزن فعل مثلها مثل قشر ذبح ، فذبح بمعنى مذبوح وقشر بمعنى مقشور لماذا زيدت التاء زيدت التاء لبيان الوحدة.. لبيان الوحدة فصيغة الله واحدة تدل على دين واحد {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً } أي لا أحد أحسن من الله صبغة {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } ثم قال ربنا {قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } الآن أنخ المطايا قليلاً فيما يا بُني تكن المحاجاة ؟ في الشيء المختلف فيه، شيء غير واضح لي و لك " فنتحاج " .. كل منا يدلي بحجته لأن الأمر غير بيّن هنا هذه الآية مصوغة...(8/153)
مصوغة الإنكار وهؤلاء اليهود والنصارى تزعم كل طائفة منهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وان الله اجتباهم واصطفاهم دون غيرهم وأنكم أيها الأميون لا مقام لكم فيقول الله جل وعلا لأتباع نبيه قولوا لهؤلاء{أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أي كيف يستسيغ عقلا ً ونقلا ً أن تحاجوننا في شيء واضح جلي بيّن وهو أننا نعلم أن الله ربنا كما هو ربكم فليس مسألة أن الله ربنا و أن الله ربكم مسألة خلافية تحتاج إلى محاجاة فالله رب كل ماذا ؟ رب كل شيء {قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ }هذا زعم باطل لأنه محاجاة فيما لا خلاف عليه أن الله جل وعلا رب لنا ورب لكم ، فما دام رب لنا ورب لكم فلا يوجد سبب يجعله يفضلكم علينا وهو ربنا جميعا ًإلا بما شرع و لهذا قال {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } ثم إننا نزيد رتبة عليكم بأننا قال الله {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } أي لا نشرك به كما أشركتم أنتم فأينا أحق بالنعيم هو رب لنا رب للجميع ولنا أعمال ولكم أعمال لكن أعمالنا تختلف عن أعمالكم فنحن لم نشرك بربنا احد ورزقنا الإخلاص وأنتم اليهود قالت عزيز أبن الله والنصارى قالت المسيح أبن الله، فأينا أحق بالفضل والعطاء من رب العالمين لا ريب أنهم أهل الإسلام ثم قال الله {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ } إن كسرت جبراً همزة إن لأنها جاءت بعد فعل قول {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } الآن يوجد أشكال عظيم في الآية الناس يقرونها دون أن يلحظوا الإشكال وعدم ملاحظة الإشكال تدل يقينا ًأنهم لم يعرفوا حله أين الإشكال الله يقول { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن(8/154)
كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ } والمعنى أن هؤلاء عندهم علم حق من الله لكنهم ماذا فعلوا؟ كتموه ، لكن يوجد علم واضح بيّن لكن ما الحاصل منه أنهم كتموه قال قبلها جل شأنه قال{قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ } أي أنكم كاذبون فيما تقولون وهذا لا يستقيم مع قوله أنه عنده علم من ماذا؟ من الله .. [واضح]
الله جل وعلا عاتبهم وقال {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء }أي لم تكونوا شهداء عندما حضر يعقوب الموت حتى تزعمون أن يعقوب وأبناؤه كانوا يهوداً أو كانوا نصارى فنفى الله جل وعلا علمهم ثم جل وعلا {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ } فأثبت الله لهم العلم قال قبلها {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ } وهذا لا يستقيم إلا إذا فهم وهو مستقيم حقاً لا ريب لكن لا يستقيم بادي الرأي والجواب عن هذا أن قوله جل تسأله {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ }خطاب لعامتهم وهم الجهلة وقوله جل وعلا {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ } خطاب لخاصتهم وهو العلماء [واضح]
.
أعيد تحرير المسألة ..(8/155)
اليهود والنصارى فريقان علماء وعامة العلماء الخاصة هؤلاء عندهم علم من الله أن يعقوب والأسباط لم يكونوا يهوداً ولا نصارى وأن هذه الملل محرفة ولكنهم كتموها وأما الدهماء العامة فهم لا يعلمون عن هذا شيئاً في ظنهم أن من ذكرهم الله {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ }كانوا ماذا{كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى } فرد الله جل وعلا على الجهلة والدهماء والعامة يقوله {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ } ورد الله على علمائهم يقوله {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } وهذا يتحرر لك حتى العامة وإن كان يجمعهم الجهل إلا أنهم كذلك يختلفون فيما بينهم اختلافا ً كثيراً فبعض الناس يتبنى شيئا لمجرد انسجامه مع شخصيته ما هو مركب عليه يميل إلى هذا الشيء فيصنعه لأنه يجد فيه لذة يجد فيه شيئا موافقاً لطبعه ولا يصنعه ليرجو جنة أو يخاف نار بل ولا يصنعه لأنه شيء يعتقده من أمثال ذلك يقولون أيام الخلاف ما بين مصعب بن الزبير و عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير الصراع السياسي في ذلك العهد رحمة الله على الجميع العرب لا يحكمهم حاكم كان هناك أناس يدينون بالملك لمصعب .. في العراق يدينون لمصعب ، في الحجاز يدينون لعبد الله ابن الزبير وفي الشام يدينون لمن؟ لعبد الملك بن مروان نجم عن هذا الصراع أن عبد الملك رجل منفق يطلب مال يعني يدفع المال والعرب تقول :
بالعلم والمال يبني الناس ملكهم
لم يبنى ملك على جهل وإقلال(8/156)
فكان يتخذ يُسمون في زماننا مرتزقة لكن ذلك الزمان تاريخاً يسمون فُتاك .. فتاك يعنى يفتك فاتخذها فتاك العرب وبعث به لقتال مصعب بن الزبير هذا الرجل فاتك جبار فقتل مصعب ابن الزبير ثم اخذ رأسه قربان لمن؟ لعبد الملك ليس قربان تعبدي قربان مالي ، أخد رأس مصعب إلى عبد الملك بن مروان أنا أريد أن اصل للشاهد أنه ثمة أناس يصنعون شيئاً هم لا يحملون همه لكنه يوافق طبعه هذا طبعه الفتك فيحب أن يفتك فلما قدم رأس مصعب ٍ (مضاف إليه) إلى عبد الملك طبعا أنت ضع نفسك مكان عبد الملك بشرت بقتل غريمك فخر ساجداً فلما خر تهيأ لمن؟ للفاتك فأراد هذا الفاتك وهو فالأصل مقرب له أن يضربه بالسيف ثم لما كتب الله من الحياة لعبد الملك تردد قليلاً ثم أعرض فقال وعبد الملك ساجد يذكر أني هممت أن أضربه
فألقيتها في النار بكر ابن وائل
وألحقت من قد خر شكرا ً بصاحبه(8/157)
يعنى بصاحبه يعني غريمه فيقول كنت أردت أن اقتل هذا الذي قد خر شكر فألحقه بصاحبه ثم قال في مجلس له بعد الحادثة والله وددت لو أني فعلتها فأكون قد قتلت ملكيّ العرب في يوم واحد هذا يبحث عن صيت يرتزق مدحاً يوافق طبعه موضع الشاهد من هذا كله أن الإنسان حتى في أصفيائه حتى في جلساته حتى في خلطاته حتى في طلبه العلم الذين يصطفيهم لا بد أن يكون هناك أسس في اصطفاء الناس والتعامل معهم ولا تقبل بأي أحد يكون همه هوى وتبع مجرد تكثير سواد مراد يوم لك ويوم عليك هذا لا يصلح أن يكون أحداً شخصاً تستأمنه على سر و تفيء إليه في أحدوثة أو تُأمل عليه يوماً أو تعتمد عليه بعد الله في شيء المقصود من هذا أن العامة هم الذين خاطبهم الله جل وعلا يقول{أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ }وخاصتهم هم الذين خاطبهم الله جل وعلا {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ }وقول الله {وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم ، وكتمان الشهادة سيأتي (إن الذين يكتمون ما أنزلن من البينات) سيأتي الحديث عنه تفصيلاً في لقاء قادم بإذن الله في موضعه ثم قال الله {وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ثم كرر الله ما ختم به الموضع الأول من السورة بقوله {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قال القرطبي وغيره من علماء الأمة والمفسرين قالوا أن الله كررها لتكون ابلغ في الردع والحزر حتى يعلم كل أحد أنه إذا كان أنبياء الله جل وعلا يحاسبون فما با لك بم دونهم وأن الإنسان إذا أبطئ به عمله لمن يسرع به نسبه كما جاء في الأثر أن الإنسان أيا ً كانت قرابته من أحد ذو صلاح فليست بنافعة إلا أن يشاء الله إذا قصر في عمل لكن هذا لا يعني انتفاء الشفاعات يوم القيامة هذا له مكانه وله موضعه وله مقامة المعروف قال الله {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا(8/158)
كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }ننتهي بهذا إلى نهاية الجزء الأول من تفسير سورة البقرة وسنشرع إن شاء الله تعالى في اللقاء القادم عند قول الله تعالى (سيقول السفهاء من الناس ...) وهي أول آية في الجزء الثاني من القرآن ومعلوم لديكم أن القرآن ثلاثون جزء وهذا من توفيق الله جل وعلا أن مّن علينا بتفسير الجزء الأول من هذه السورة المباركة المسماة بفسطاط القرآن لعظيم ما فيها من آيات و دلائل وعظات ..
جملة ما مر معنا أن الله جل وعلا عظم بيته في هذا الربع وعظم بانية وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم بيّن ضلال اليهود والنصارى وهذا مهم هذا التأسيس سأبدأ به في اللقاء القادم لماذا عظم الله نبيه؟ لماذا عظم الله بانيه؟ لماذا سفه الله آراء المشركين؟ لماذا بيّن الله ضلال اليهود والنصارى؟ كل ذلك تمهيد وتوطئة لأمر عظيم سيكون بعد ذلك هو قول الله جل وعلا (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعان العلى الكبير على قوله وصلى الله على محمد وآله والحمد الله رب العالمين .
بسم الله الرحمن الرحيم
أن الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيهِ كما يُحبُ ربُنا ويرضى وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك لهُ كلمةٌ قامت عليها السماوات والأرض ولأجلها كان الحسابُ والعرض هي عمادُ الإسلام ومفتاحُ دار السلام ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وعلى سائر من اقتفى أثره, واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد ..
في هذا اللقاءُ المُبارك نستفتحُ الحديث عن أول آيات الجُزء الثاني من كلام ربنا جل وعلا من كتابهِ العظيم قال الله وهو أصدق القائلين :
((8/159)
سيقُولُ السُفهاءُ من الناس ما ولاّهُم عن قبلتهُم التي كانوا عليها قُل للهِ المشرقُ والمغربُ يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيم )
الذي ينبغي أن تستصحبهُ وأنت تقرأُ هذهِ الآية أنّ هذهِ الآية مُقدّمة على النسخ بمعنى أنهُ إلى الآن لم يحصُل نسخ ولم يحصُل أمرٌ بالتولية عن بيت المقدس إلى الكعبة وإنّما هذهِ الآية صُدّرت في الأول قال أهلُ العلم كما نصّ عليهِ ابن سعدي رحمةُ الله عليهِ في تفسيرهِ وإنّما هذا تسلية ومُعجزة لهُ صلواتُ اللهِ وسلامهُ علية تسلية ومُعجزة لهُ صلواتُ اللهِ وسلامهُ علية ، أمّا كوُنُها مُعجزة فظاهر فإنّ الله أخبرهُ بأمرٍ لم يقع بعد ، وأمّا كوُنُها تسلية فإنّ الإنسان إذا أُخبر بما سيتعرض لهُ من أذى قبل أن يتعرض فهذا يجعلهُ أكثر تمكُناً من تحمُل ذالك الأذى وهذا قد يقع إمّا بالرؤى أو بوصُل خبر لهُ بطريقٍ ما وهذا في حق البشر أما في حق الأنبياء فيكونُ ذالك عن طريق الوحي .
قُلنا في الدرس الماضي ونحنُ نختم لابُد أن نستصحب أن الله قال أثنى على إبراهيم وأثنى على البيت ( وإذ جعلنا البيت مثابةً لناس وأمنا ) وبيّن ضلال اليهود والنصارى وقبل ذالك كُلهِ قال ( ما ننسخ من آيةٍ أو نُنسها نأتي بخيرٍ منها أو مثلها )
كُل ذالك الذكرُ النسخ ومدحُ البيت وتعظيمُ إبراهيم وبيانُ ضلال اليهود والنصارى توطئة لما سيقع وينبغي أن تعلم أن نسخ القبلة هو أولُ نسخٍ في القرآن نسخ القبلة هو أولُ نسخٍ في القرآن ، النسخُ كان في العهد المدني وسورةُ البقرة من حيثُ الجُملة من أوائل ما أُنزل في العهد المدني ولهذا مرّ معنا أن النبي قال يوم حُنين " يا أهل سورة البقرة " لأن الأنصار كانوا فرحين بها لأنها أول ما نزل في المدينة وطبعاً آيتُها كثيرة أنا أتكلمُ عنها من حيثُ الجُملة .(8/160)
فاللهُ جل وعلا يُخبرُ نبيهُ أن أمراً سيقع بنسخِ توجُهك إلى بيت المقدس إلى الكعبة ثُمّ أنظُر كيف وطّن اللهُ لهذا في نبيهِ وعند الناس حتى تنقطع الحُجج إلا الحُجج الداحضة ، فالله جل وعلا أثنى على البيت وأثنى على بانيهِ حتى بعد ذالك إذا أمر الناس بالتوجُه إليهِ كان هُناك ما يُمهّدُ لذالك الأمر الرباني نبيُكُم صلى الله علية وسلم كان يُصلي إلى بيت المقدس ثُمّ هاجر ومكث في المدينة ستةً عشر شهر تقريباً كما في حديث البراء ابن عازب ثُمّ كان يُكثرُ النظر إلى السماء أدباً مع ربهِ لا يُصرّح ولا يُخفي أملاً في أن الله يُوجّههُ إلى الكعبة فأنزل الله ( سيقُولُ السُفهاء ) والسين للاستقبال ، والسُفُهاء لا يحسُنُ تخصيصُها يدخُل فيها المشركون واليهود والمنافقون وكُل من أعترض على تحويل القبلة .
( سيقُولُ السُفهاءُ من الناس ما ولاّهُم عن قبلتهُم )
لماذا قال الله من الناس ؟
لأن السفه يكون حتى في غير بني آدم فنقلهُ اللهُ جل وعلا من مجازةِ المُتسع إلى حقيقتهِ المُختصرة
أُعيد
السفه يكون حتى في الدواب يكون حتى في الطير لكنّ الله جل وعلا عندما قال ( من الناس ) نقلهُ من مفهُومهِ الواسع الذي يُمكن أن يُصطلح عليهِ أنهُ توسّع الناسُ فيها مجازاً إلى حقيقتهِ المُختصرة فالمُخاطبُ بها هُم كُلُ من أتعترض على تحويل القبلة .
( سيقُولُ السُفهاءُ من الناس ما ولاّهُم عن قبلتهُم ) وإلى الآن لم يحدُث التحول ( التي كانوا عليها ) فأجابهُم الله ( قُل للهِ المشرقُ والمغرب ) معنى أنّنا نحنُ مُتعبدون بأن نعبُد الله جل وعلا كما أمر فالله جل وعلا لهُ مُلك المشرق ولهُ مُلك المغرب وليس للمشرق والمغرب تفاضلٌ في ذاتها إنّما نحنُ عبيدٌ للهِ نأتمرُ بأمرهِ .
ثُمّ قال الله : ( يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيم )
فالهداية لا تُطلبُ إلا منه .
ثُمّ قال ربُنا : ( وكذالك جعلناكُم أُمةً وسطًا )(8/161)
الكاف لتشبيهِ هذا قول ، وقال آخرون أنها مُقحمة زائدة والذي جعلهُم يقولون أنّها مُقحمة زائدة أنهُ لم يُذكر شيء قبلها حتى يكُون هُناك تشبيهِ لكنّ لُغة العرب تُظهرُ جواز هذا .
قال أبو تمّام :
كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمرُ
فليس لعينً لم يغض ماؤها عُذرُ
وهذا أول بيت في ماذا ؟ في القصيدة ليس قبلها شيء وإنّما على الشيء المعهود .
أي أراد ( كذالك جعلناكُم أُمةً وسطاً ) أي كما أن للهِ المشرق والمغرب هذا المُلك التام لهُ جل وعلا بذالك المُلك التّام لهُ جعلكُم جل وعلا ماذا ؟ " أُمةً وسطا " وسطاً أي خياراً عدُولا ولابُد من الجمع بين هاتين الصفتين [ خياراً عدولا ]
العرب ــ قبل العرب ــ الناس في زماننا أول ما ينطبع و ينقدح في أذهانهِم في الوسط الطور وهذا مكمنُ الخطأ في القضية أمّا الوسط الذي ينقدح عند العرب فالشيء الذي يكُونُ في العُمق الشيء الذي يكونُ في الوسط في المُدن لا ينالهُ الأعداء إلا بعد جُهد لا يصلون إليهِ إلا بعد مرحلة لابُد أن ينتهوا من أطراف البلدة فهو مُمتنع والوسط في الوادي كمرعى لا يصلُ إليهِ الرُعاة ولا الدواب إلا بعد الأطراف فالوسطُ دائماً مُمتنع عزيز منيع هذا معنى الوسط هذا معنى قول اللهِ جل وعلا (وكذالك جعلناكُم أُمةً وسطًا ) أي خياراً عُدولا لكنّ الناس الآن ينقدح في بالهم الطور فلا يجدون معنىً حقيقياً يتلذذون بهِ في خطاب كلمة وسط .
(وكذالك جعلناكُم أُمةً وسطًا لِّتكُونُوا شُهداء على الناس ويكُونَ الرسُولُ عليكُم شهيداً )(8/162)
قال الشنقيطي رحمةُ الله عليهِ في أضواء البيان وطريقتهُ طريقة تفسير القُرآن بالقُرآن قال { لم يُبين هُنا متى تكونُ هذهِ الشهادة وبيّنها في النساء ( فكيف إذا جئنا من كُل أُمةٍ بشهيد و جئنا بك على هؤلاءِ شهيدا يومئذٍ يودُ الذين كفروا ) .. إلى آخر الآيات } فمعنى أنّ هذهِ الشهادة متى تكون ؟ تكونُ يوم القيامة تشهدُ هذهِ الأُمة لأنبياء اللهِ كما جاء الخبرُ الصحيح بالشهادة لنوح ويشهدُ النبيُ صلى الله علية وسلم على من ؟ على أُمتهِ بنصّ القُرآن .
(لِّتكُونُوا شُهداء على الناس ويكُونَ الرسُولُ عليكُم شهيداً ) .
ثُمّ قال الله :
( وما جعلنا القبلة التي كُنت عليها إلاّ لنعلم من يتبعُ الرسُول ممّن ينقلبُ على عقبيهِ وإنّ كانت لكبيرةً إلاّ على الذين هدى اللهُ )
هذهِ توطئة للحدث يُقال انقلب فلانٌ انقلب بمعنى عاد إلى المكان الذي كان فيهِ انقلب بمعنى عاد إلى أصلهِ فالناس قبل رسول اللهِ صلى الله علية وسلم كانوا كُفّار ولهذا قال الله (إلاّ لنعلم من يتبعُ الرسُول ممّن ينقلبُ على عقبيهِ ) أي يعود إلى مرحلة إلى سابق الكُفُر .
ثُمّ قال الله (وإنّ كانت لكبيرةً إلاّ على الذين هدى اللهُ )
هُنا كبيرة ليست ما بعد الصغيرة أبداً الله لا يتكلّم عن آثام إنّما يتكلّم عن هذا الأمر والتشريع فيهِ شِدّة ومشقة على ماذا ؟ على النفوس أي لا تقبلهُ كُلُ نفس يعظُم ويشتد وإنّ كانت لكبيرةً في وقعها إلا على الذين هدى الله ونظيرهُ في القُرآن ( وإن كان كبُرَ عليك إعراضهُم ) أي عظُم وأشتد وليست كبيرة المُجاورة لصغيرة أو المُجاورة للّمم الله لا يتكلمُ عن ذنوب وإنّما يتكلمُ عن أمرٍ ربانيٍ عظيم مشقتهُ على النفوس لولا هدايةُ الله .
قال الله (وإنّ كانت لكبيرةً إلاّ على الذين هدى اللهُ وما كان اللهُ ليُضيعَ إيمانكُم )(8/163)
هذا جواب لأي شيء لتساؤلٍ وقع قبل أقوام ما بالُ من مات وقد صلّى إلى بيت المقدس فأجاب الله (وما كان اللهُ ليُضيعَ إيمانكُم ) فالإيمان هُنا المقصود بهِ الصلاة وهو حُجة واضحة لأهلِ السُنة أنهُ لا إنفكاك بين الإيمان أن الإيمان قولٌ وعمل لأن الله سمّى العمل هُنا إيماناً وعبّر بهِ عن الصلاة فقال جل شأنهُ (وما كان اللهُ ليُضيعَ إيمانكُم إنّ الله بالناسٍ لرءوفٌ رحيم )
ثُمّ قال الله ــ أتت أيةُ النسخ ــ : ( قد نرى ) أي رُبّما يأتي لكنّها لتكثير كذا قال الزمخشري وهذا صحيح قد هُنا بمعنى رُبّما لكنّها لتكثير ( قد نرى تقلُب وجهِك في السماء )وهذا من أدب نبينا صلى اللهُ علية وسلم مع ربهِ .
( فلنُولينّك ) أي فلنُيسّرنّ لك ونُشرّع لك ( قِبلةً ترضاها فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام)
فانتقلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة .
(فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام) يُراد بها الكعبة وقد قال بعضُ العُلماء
ــ وإنّ كانت هذهِ القضية لا أُحبُ أن أبحثها في هذهِ المرحلة لكنيّ سأقولها إجمالاً ــ
المسجد الحرام في القُرآن يُطلق ويُراد بهِ أربعة أشياء ، المسجد الحرام أُطلق في القرآن وفي السُنة ويُرادُ بهِ أربع أشياء لكنّي لن أتكلّم على لوازم هذا القول :
يُرادُ بهِ الكعبة يُرادُ بهِ عين الكعبة .
ويُرادُ بهِ المسجد المُحيط بالكعبة .
ويُرادُ بهِ الحرم حرم ماذا؟ الحرم المكي يعني حُدود الحرم .
ويُراد بهِ الحرم وما حولهُ أي مكة ممّا يشملهُ اسم مكة ــ واضح ــ
هذهِ الأخيرة أنا أشرحها يسيراً بس(8/164)
الله يقول ( ذالك لمن لم يكُن أهلهُ حاضري المسجد الحرام ) التكليف الفقهي الصحيح في ظنّنا أنهُ لا يُمكن أن نقول إنّ الشرائع مثلاً في مكة معلوم رأيتموها عياناً بعضُها في الحل وبعضُها في الحرم لا يُمكن أن يُقال من حيث الواقع العقلي وقد يقول قائل بأن بعضُ الفُضلاء من العُلماء والأئمة لكنّا نتكلّم بناءً على هذا التأصيل لا يُمكن أن يُقال أن من كان في الحرم ليس عليهِ طواف وداع للمُتمتع ونقول لمن لا يقع منهُ تمتُع قضية ما ذكرهُ الله جل وعلا من الهدي ونُلزم بهِ من في الشرائع ممّن هو في الحل لأن الفريق يُطلق عليهم جميعاً من أهل مكة ــ واضح ــ فكلمة ( لم يكُن أهلهُ حاضري المسجد الحرام ) معناها من أهل مكة ، لكن ( إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهِم هذا ) يُطلق على حُدود الحرم ــ واضح ــ وإن تبقى مسألة أُخرى فيها إشكال لكن نتجنّبها الآن حتى حين ــ
نعود قال اللهُ تبارك وتعالى : (فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثُ ما كُنتُم فولّوا وُجُوهكُم شطرهُ )
لمن الخطاب في ( فولّوا ) ؟(8/165)
للأُمة ، ( فولِّ ) لنبي صلى الله علية وسلم وهذهِ على غير عادة القُرآن لأن عادة القُرآن إمّا أن يُخاطب النبي وتكونُ الأُمة تبع وإمّا أن تُخاطب الأُمة ويكونُ النبيُ رأساً لكنّ لا يأتي خبر في الغالب يُذكر أمر مرة لنبي ويُذكر مرةً لكنّ الله جل وعلا قال قبلها تمهيداً ( وإن كانت لكبيرةً ) فلمّا كان أمراً ذا مشقة أكّدهُ اللهُ جل وعلا بهذهِ الطريقة وصاغهُ وساقهُ بهذا الأسلوب ــ واضح ــ ولهذا خُوطب بهِ النبيُ وخُوطبت بهِ الأُمة لأنهُم واجهُ عنتاً شديداً في قضية قبولهِ فالمُشركون يقولون حنّ مُحمدٌ إلى مولدهِ ، والمنافقون يقولون حنّ مُحمدٌ إلى مولدهِ ولمّا أنزل اللهُ جل وعلا الثناء على البيت وتمجيدهِ وتعظيمهِ قالوا إذا كان مُحمدٌ يُمجّدُ هذا البيت كُل التمجيد فعلاما يتوجه إلى بيت المقدس ولهذا قال الله ( سيقُولُ السُفهاءُ من الناس ) فهُنا خاطب الله نبيه وخاطب أُمتهُ صلواتُ الله وسلامهُ علية .
قال الله :
( فولّوا وُجُوهكُم شطرهُ وإنّ الذين أُتوا الكتاب ليعلمون أنهُ الحقُ من ربهِم وما اللهُ بغافلٍ عمّا يعملون )والمعنى أنّ أهل الكتاب يعلمون فيما أُنزل عليهم أن الله جل وعلا سيطلبُ من نبيهِ أن يتحول إلى ماذا ؟ إلى الكعبة اليهودُ والنصارى أهلُ الكتاب يعلمون أنّ الله جل وعلا سيطلبُ من نبيهِ التحولُ إلى الكعبة وأنّ أخر الأمر ستكون التوجُهُ لكُل من آمن باللهِ إلى الكعبة .
روى البغويُ رحمهُ الله تعالى في شرح السُنة عن ابن عباس رضي اللهُ تعالى عنهُ أنهُ قال [ الكعبةُ قبلةُ من في المسجد الحرام ، والمسجدُ الحرام قبلةٌ لأهل الحرم ، والحرمُ قبلةٌ لأهل المشرق والمغرب ]
أُعيد(8/166)
ذكر البغويُ في شرح السُنّة ـ شرح السُنة كتب حديث ـ عن ابن عباس رضي اللهُ تعالى عنهُما أنهُ قال [ الكعبةٌ قبلةُ لمن كان في المسجد ، والمسجدُ الحرام قبلةٌ لأهل الحرم ، والحرمُ قبلةٌ لأهل المشرق والمغرب ] وقد أتفق المسلمُون على أنهُ التوجهُ للكعبة للقبلة شرطٌ من شرُوط صحة الصلاة وإذا أخرجنا حالات الاضطرار كالمرض الذي لا يستطيعُ أن يتوجه يُستثنى من هذا حالتان ــ قُلت حالتان بالرفع لأنها نائب فاعل من يستطع ــ :
الحالة الأُولى :
حال القتال فما قبلةُ المُقاتل من جهة العموم ؟ـ سآتي بالثانية حتى تصل أنت ومن يسمعُوني ويُشاهدُني إلى الأُولى ــالحالة الثانية :
حالة من يتنفّل على ظهر دآبة ، فمن يتنفّل على ظهر الدابة أين قبلتهُ ؟ حيثُ ما توجّهت بهِ دابتُهُ قبلة من يتنفّل في سفر عن الجمهور عند ابن حزمٍ حتى في داخل المُدن لكنّ قول الجمهور هو الصحيح ، من يتنفّل على دابتهِ في سفر فقبلتهُ أين حيثُ ما توجّهت بهِ دابتهُ .
ــ أعود الآن ــ المُقاتل المُسايف بالتحديد قبلتهُ حيثُ جهةُ ماذا ؟ جهةُ أمنهِ أي وجهِ يغلبُ عليهِ انهُ يأمن بها أصبحت هي جهةُ قبلتهِ كما أن الدابة حيثُ ما توجّهت هي قبلةُ من يُصلي عليها مُتنفّلاً . ــ واضح أظُنّهُ ظاهر إنّ شاء الله .
قال الله ( وحيثُ ما كُنتم فولّوا وُجُوهكُم شطرهُ وإنّ الذين أُتوا الكتاب ليعلمون أنهُ الحقُ من ربهِم وما اللهُ بغافلٍ عمّا يعملون ).
ثُمّ قال
( ولئن أتيت الذين أُتوا الكتاب بكُل أية ما تبعُ قبلتك )
فلا تطمع في أن يتبعُوها لأنهُم لو أتبعُوها تركوا دينهُم وهم ما أصبحُوا يهوداً ولا نصارى
( وما أنت بتابعٍ قبلتهُم )
والمعنى إذا كان هؤلاء الذين على الباطل يأنفون أن يتبعُوك فأنت وأنت على الحق أشدُ أنفةً من أن تتبعهُم
( وما بعضهُم بتابع قبلة بعض )(8/167)
لأن الخلاف بينهُم خلافٌ عقدي وهم قد تتشابك مصالحهُم وتلتقي خطوط رضوانهُم لكنّهُم في المسائل العقدية مُختلفون خبر لكنّ ، لكن المقصُود قال اللهُ :
( وقالت اليهُودُ ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهُودُ على شيءٍ وهُم يتلون الكتاب ولئن اتبعت أهوائهُم من بعد ما جاءك من العلم إنّك إذاً لمن الظالمين )
هذا ليس المقصُود النبي صلى الله علية وسلم ظاهراً إنّما علم اللهُ أزلاً أنّ نبيهُ لن يقع منهُ هذا الشيء أبدا لكنها أسلوب تخويف وترهيب لكُل من استبان لهُ شيء من الحق ثُمّ أعرض عنه .
قال الله جل وعلا بعدها : ( الذين أتيناهُم الكتاب )
هذهِ واضحة .
( يعرفُونهُ )
أي النبي صلى الله علية وسلم .
( كما يعرفون أبناءهُم )
وقولُهُ جل وعلا أبناءهُم قرينة على أن المقصُود معرفة من ؟ معرفة النبي صلى اللهُ علية وسلم لما شاع من ذكرهِ عليهِ الصلاةُ والسلام في الكُتب المُتقدّمة .
( وإنّ فريقاً منهُم )
أي من أهل الكتاب
( ليكتمُون الحق وهُم يعلمون الحقُ من ربّك )
ظاهرُ الأمر عندي أن الحقُ هُنا المقصُودُ بهِ أن القبلة التي أمرّناك بإتباعها هي ماذا ؟
هي الحق الدليلُ عليها أن الله قال ( الحقُ من ربّك فلا تكوُننّ من المُمترين ) لأن النبي صلى الله علية وسلم لا يشُكُ في نفسهِ وإنّما الخطابُ هُنا خطاب زيادة في التأكيد لأن الموضوع كما قُلت كان كبيراً جداً كما بيّنهُ الله .
ثُمّ قال الله ( ولكُلٍ وجهةٌ )
وهذهِ الوجهة من حيث الصناعة النحّوية على غير القياس أصلُها جهة كما تقولُ في وعدٍ عدة وفي وصلٍ صلة أمّا وجهة فهي مأخوذة من وجه فالأصلُ أن تكون جهة تُحذف الواو قياساً لكنّها أُبقيت قيل لتأكيد الأمر والعلمُ عند الله .
( ولكُلٍ وجهةٌ هو موليها )
على ماذا يعود الضمير هو ؟
لا يعودُ على لفظُ الجلاله يعود على لفظ كُل والمعنى لكُل أحدٍ وجهة هو موليها نفسُهُ .
أُعيد(8/168)
والمعنى لكُل أحدٍ وجهة هو موليها نفسُهُ يعني أختارها على بيّنةٍ من نفسهِ اليهُود توجهُ إلى هذا الأمر على قناعاتٍ عندهُم ، والنصارى توجّهُ إلى المشرق على قناعاتٍ عندهُم وهكذا غيرهُم .
ثُمّ أمر اللهُ نبيهُ وسائر المؤمنين أن ينصرفُ من هذا الخلاف إلى العمل فقال :
( فاستبقُوا الخيرات )
أي سارعوا في الطاعات ونافسُوا فيها .
ثُمّ ذكّرهُم بيوم الوعيد :
( أينما تكُونُوا يأتِ بكُم اللهُ جميعاً إنّ الله على كُل شيءٍ قدير ) .
ثُمّ عاد وكرّر مسألة أهمية موضوع القبلة قال ( ومن حيثُ خرجتَ فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وإنّهُ للحقُ من ربك وما اللهُ بغافلٍ عمّا تعملون )
( ومن حيثُ خرجتَ فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام)
قال صلى اللهُ علية وسلم فيهِ أي في المسجد الحرام أن ذكر الكبائر قال والبيت يعني الفساد في البيت الحرام قبلتِكُم أحياءً وأمواتا فجعل اللهُ هذا البيت قبلة لناس أحياءً وأمواتا .
( وحيثُ ما كُنتُم فولُّوا وجوهكُم شطرهُ لئلا يكون لناسِ عليكُم حُجةٌ إلا الذين ظلموا منهُم فلا تخشُوهُم وأخشونِ ولأُتمّ نعمتي عليكُم ولعلّكُم تهتدون )
أكثر ما يبحثُ العُلماء هُنا الاستثناء في قول اللهِ جل وعلا (لئلا يكون لناسِ عليكُم حُجةٌ إلا الذين ظلموا منهُم)
هل هو استثناء مُنقطع أو هو استثناء مُتصل ؟
والمعنى من حيثُ الجُملة واحد أي أن منّ لم يملك حقاً فلا سبيل إلى إرضاءهِ ، من لا يبحثُ عن الحق لا سبيل إلى إقناعة وإرضاءه لكن رجّح شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمهُ الله أن الاستثناء هُنا استثناءٌ مُتصل
ـ تفصيلُ ذالك يا بُني أن تعلم التالي :
الحُجة في القُرآن وردت بمعنيين :
الحُجة بمعنى الحق وهي الحُجة الصحيحة الواضحة البيّنة وهذهِ منها قولُ الله ( وتلك حُجتُنا أتيناها إبراهيم على قومهِ ) ويُحملُ عليها قولُ اللهِ أيضا ( قُل فللهِ الحُجةُ البالغة ) الحُجة البالغة أي الواضحة الصحيحة التي لا ريب فيها .(8/169)
المعنى الثاني :
الحُجة بمعنى الجدال سواءً كان بالحق أو بالباطل ومنهُ قولُ اللهِ جل وعلا : في الجاثية مثلاً ( وإذا تُتلا عليهِم ءاياتنا بيّناتٍ ما كان حُجّتهُم إلا أن قالُوا أُتوا بأبئنا إن كُنتُم صادقين ) فالمقصودُ بها أنها حُجة باطلة وإن ذُكرت على أنها حُجّة .
قال اللهُ جل وعلا :
( ومن حيثُ خرجتَ فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثُ ما كُنتُم فولُّوا وجوهكُم شطرهُ لئلا يكون لناسِ عليكُم حُجةٌ إلا الذين ظلموا )
وكونُهُم ظالمين قد يُخشى أذاهُم فلمّا يُخشى أذاهُم علّق اللهُ أولياءهُ بهِ فقال جل وعلا (فلا تخشُوهُم وأخشونِى ولأُتمّ نعمتي عليكُم ولعلّكُم تهتدون * كما أرسلنا فيكُم رسولا )الكاف لتشبيه لكن اختلف العُلماء في مُتعلّق الكاف هُنا فبعضهُم جعلها فيما قبل وبعضهُم جعلها فيما بعد .
فالذين قالوا فيما بعد أصبح المعنى عندهُم فاذكرُوني كما أرسلنا فيكُم رسولا ، فاذكروني الآية التي بعدها كما أرسلنا فيكُم رسولا وهذا أبعد .
والراجح أنها مُتعلّقة بما قبلها لأُتمّ نعمتي عليكُم كما أرسلنا كما أرسلنا فيكُم رسولا يُصبح ما المعنى ؟
المعنى قد يتضح لك الآن :. في نعم أصلية ، ونعم مُتمّة لنعم الأصلية . نعم ماذا ؟ نعم أصلية ، ونعم مُتمّة لنعم الأصلية .
فالنعمة الأصلية أن بعث فيكُم رسول يهديكُم إلى دين الحق والنعمة المُتمّة لنعمة الأصلية أن هديتكُم إلى أن تتوجهُ إلى ماذا ؟ إلى الكعبة فاللهُ يقول إتمام النعمة هذهِ التي هي التحولُ والتوجُهُ إلى الكعبة ليست ببدع من الإنعام والإحسانِ مني إليكُم فقد سبق مني إحسانٌ قبلُ وهو ماذا ؟ إرسال الرسُول ــ واضح ــ فتُصبح ( ولأُتمّ نعمتي عليكُم ولعلّكُم تهتدون كما أرسلنا فيكُم رسولا ).(8/170)
وبعضُ العُلماء كما ذكرهُ ابنُ الأنبال وهؤلاءِ ممّن يغلبُ عليهم الصنعة النحوية قالوا حتى تصحّ أن تكون صفةً من مصدرٍ محذُوف والمعنى لعلّكُم تهتدون اهتداءً كما أرسلنا فيكُم رسولا وهذا من حيثُ الصناعة النحوية كما قُلت مُمّكن لكنّهُ من حيثُ المعنى والعلمُ عند الله بعيد .
( يتلوا عليكُم ءاياتنا ويُزكيكُم ويُعلّمكُم الكتاب والحكمة ويُلّمكُم ما لم تكونُ تعلمُون فاذكروني أذكُركُم واشكُروا لي ولا تكفرُون )
الذكرُ رأس الشُكر فيكونُ ذكرهُ هُنا وعطفُ الشُكرِ عليهِ من باب عطف العام على الخاص وقولُ الله جل وعلا ( ولا تكفُرُون ) قرينة على أن المقصُود كُفر النعم لأنه ذكر الشُكر قبلها .
ثُمّ قال ربُنا : ( يا أيُها الذين ءامنوا استعينُوا بالصبر والصلاة إنّ الله مع الصابرين )مرّ معنا كثيراً أنّ الصبر والصلاةَ قرينان في كلام اللهِ .
الصبرُ من أنواعهِ ماذا يا بُني ؟
الصبرُ على الطاعات ومن أعظم الطاعات التي تحتاجُ إلى مشقة ماذا ؟ الجهاد من أعظم الطاعات التي تحتاجُ إلى مشقة الجهاد فلمّا ذكر اللهُ جل وعلا ( إنّ الله مع الصابرين ) ذكر مشقةً تحتاجُ إلى صبر وهي القتالُ في سبيلِ اللهِ فقال : ( ولا تقُولوا لمن يُقتلُ في سبيل اللهِ أموات بل أحياءٌ ولكن لا تشعرُون )
الآن أنخ المطايا(8/171)
الإنسان العاقل لا يُفرّط في محبوب إلا إذا وُجد شيء أعظم منه والحياة محبوبة لكُل أحد فأنت لماذا تكُد في العيش ، لماذا تشربُ الدواء ، لماذا تبني شيء يكُنّك عن البرد والحر ، كُلهُ لتُبقي على حياتك ، لماذا تأكُل حتى تبقى حياً أنت لا تحيى لتأكُل إنما تأكُل لتحيى ومع ذالك يُطلب منك شرعاً أن تهب نفسك للهِ فتُفرّط في ذالك المحبوب الذي هو حُبُ الحياة والذي أنت تكُدُ من أجل بقاءك وتمنعُ عن نفسك ما يُؤذيك لكنّ تفريطك في هذا المحبوب الذي هو الحياة لم تصنعهُ إنّ كُنت مُؤمناً إلا لمحبوبٍ أعظم وثوابٍ أجزل وهو ما عند الله الذي أثبتهُ اللهُ بقوله : (ولا تقُولوا لمن يُقتلُ في سبيل اللهِ أموات بل أحياءٌ ولكن لا تشعرُون ) فهُم يفيئون إلى قناديل مُعلّقة في ظل العرش يشربون من أنهار الجنة وسيأتي الحديث عن الشُهداء تفصيلاً في سورة آل عمران التي حوت ذكراً كثيراً للقتال .
هذا أمرٌ نستصحبهُ لماذا ذكر اللهُ الجهاد بعد قولهِ (إنّ الله مع الصابرين ) .
ثُمّ قال الله :
( وليبلُونّكُم بشيءٍ من الخوف والجوعِ ونقصٍ من الأموالِ والأنفُسِ والثمرات وبشّر الصابرين )(8/172)
هذا الابتلاء يكُونُ للأفراد ويكُونُ للأُمم ويكُونُ للمُجتمعات واللهُ جل وعلا مضت سُنّتهُ واقتضت حكمتهُ ومضت كلمتُهُ أن الناس يُبتلون تمحيصاً ليُميز الصابر من الجازع والمُؤمن من الكافر أمّا أنواعُ البلاء تختلف وقد وقع الابتلاء حتى في خير القرُون فالنبيُ علية الصلاةُ والسلام حُصر وزًُلزلوا زلزالاً شديداً ، وفي عهد عُمر كان زمنُ الرمادة وغيرُ ذالك من الابتلاءات التي تمرُّ بالمُسلمين على مستوى الأُمم وعلى مستوى الأفراد يُبتلى الإنسان بفقد مالهِ ، بفقد أهلهِ ، بفقد ذويهِ، بفقد قرابتهِ ، وهذا أمرٌ مُستفيض لا يحتاجُ إلى بيان ثُمّ عند تلقى البلاء تعبّد اللهُ عبادهُ الصالحين بأن يقولوا ( إنّا للهِ ) مُلكٌ لهُ عبيد لا حول لنا فننتصر ولسنا بُراء فنعتذر ولا قوة لنا إلا باللهِ وهو ربُنا يفعلُ بنا ما يشاء ( وإنّا إليهِ راجعُون ) أي مُنقلبُنا إليهِ فيثيبُنا إنّ صبرنا ويُعاقبُنا إنّ جزعنا إلا أن يرحمنا هذا المعنى الحرفي ( إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعُون ) فيهِ مُنتهى التسليم لرب البريات جل جلالهُ هذهِ الكلمة يُقال أن الأنبياء من قبل لم يكُونُوا يعلموها لو كانت شائعة بينهُم لقال يعقوُب إنّا للهِ وإنّا غليهِ راجعُون ولم يقُل واأسفا على يُوسُف وقد وردت ألفاظ ليس فيها ما نعلمهُ صحيحٌ سندا لكنّ العقل لا يمنعُها وهي أنها كلمة أختص اللهُ بها هذهِ الأُمة .
ثُمّ قال اللهُ : ( أُولئك عليهِم صلواتٌ من ربهِم ورحمة وأُولئك هُم المُهتدون )
الصلواتُ هُنا أي رفعُ الدرجات ، والرحمة أي غُفران الذنُوب (وأُولئك هُم المُهتدون ) أي عرفوا الطريق الحق فلزموه ، وما كانوا ليهتدوا لولا أن هداهم الله ، وهذا كله يبين أن الإنسان في طريقه إلى الله تمر به النوازل والابتلاءات ، فينبغي أن يوطن المرء نفسه على التعلق بالله ، وكلما عظم في القلب اليقين بأن العبد عبد لله(8/173)
واللهُ ربهُ يحكُم فيهِ ما يشاءُ ويفعلُ فيهِ ما يُريد سهُل عليهِ بعد ذالك أن يتقبّل ذالك البلاء .
قال الله :
( إنّ الصفا والمروة من شعائر اللهِ فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليهِ أن يطوّف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكرٌ عليم )
إيضاحات يسيرة حولها
الجُناح في اللُغة يا بُني الميل لكنّهُ أُصطلح على أن يُقال في الميل إلى الإثم ، الجُناح في اللُغة الميل ( وإنّ جنحوا لسلم فاجنح لها ) أي مل إليها .
لكنّهُ أُصطُلح على أن يُقال غالباً في ماذا ؟ في الميلِ إلى الإثم .(8/174)
الصفا والمروة جبلان يجمعان الصفا على صفي والمروة على مرُ بينهُما سعت هاجر أُمُ إسماعيل ثُمّ تعبد اللهُ الناس بهما . لكن قبل الإسلام كثُر وضعُ الأصنام عندها فكان أكثر ما تُعبد الأصنام عند الصفا والمروة فلمّا منّ اللهُ على المُسلمين بالإيمان تحرّجُ أن يأتوا إلى مكانينِ عُرفا بماذا بأنهُما مظنّة وجود أصنام فرفع اللهُ ذالك الحرج بقوله ( فمن حجّ البيت أو اعتمرَ فلا جُناح عليهِ أن يطوّف بهما ) ورفعُ الحرج هُنا لا يتعلّقُ بهِ حُكمٌ شرعي بمعنى لا يُفهم من هذهِ الآية هل السعي واجب أو رُكُن أو سُنة لا يُفهم من هذهِ الآية إنّما الآية إنّما جيئت في دفعِ ذالك الحرج الذي كان يخافهُ الناس من المُسلمين أن يُعيدُوا شيءٍ قد سبق في خلدهِم وذكراهُم أنهُ مظنّة عبادة أصنام لكنّ قول اللهِ جل وعلا : (فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليهِ أن يطوّف بهما ) قرينة ظاهرة أنّ السعي عبادة لا تُؤدى بمُفردها لا تُؤدى بمُفردها نافلةً فكما يُوجد طواف نافلة بمُفردة مُنفكاً عن الحجِ والعُمرة لا يقعُ السعيُ مُنفكاً عن الحج والعُمرة لأن النبي صلى الله علية وسلم لم يسعى حالة إنفراد مُنفكة عن حجٍ أو عُمرة وطاف صلى اللهُ علية وسلم طوافاً مُنفكاً عن حجِ وعُمرة والآية واضحة (فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليهِ أن يطوّف بهما ومن تطوع ) أي زاد ( خيراً ) أي من حجٍ أو عُمرة (فإن الله شاكرٌ عليم )
ومن طرائقِ معرفةِ شُكر اللهِ جل وعلا واللهُ من أسمائهِ الشاكر والشكور أنهُ جل وعلا يُثيبُ على العمل اليسير بالجزاء العظيم من تقرّب غليهِ شبراً تقرّب غليهِ ذراعا ، من ترك شيئاً للهِ عوضهُ اللهُ خيراً منه هذا معنى (فإن الله شاكرٌ عليم ) من معانيها .
دلّت الآيةُ كذالك ( إنّ الصفا والمروة من شعائر اللهِ )(8/175)
أي من أعلام دين اللهِ أُِشعر الشيء يعني أُعلم ، والصفا والمروة من أعلام الدين وتعظيمُ شعائر اللهِ قُوت للقلُوب قال اللهُ جل وعلا ( ذالك ومن يُعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلُوب )
هذا ما يُمكن أن يُقال حول قول اللهِ جل وعلا ( إنّ الصفا والمروة من شعائر اللهِ فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليهِ أن يطوّف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكرٌ عليم )
وهذان مكانانِ من الحرم تعبّدنا اللهُ بأن نسعى بينهُما على أنهُ يتعلّق بهذا فائدة أُخرى نُنهي بها الدرس وهي أن البدعة من أقسامها أنها بدعة نوعان بدعةٌ ذاتُ نوعين :
بدعة ليس لها أصلٌ شرعا بدعة ليس لها أصل شرعي
وبدعةٌ لها أصلٌ شرعي عبادة لها أصل شرعي فجيء بها على وجهٍ غير الذي جيء بهِ الشرع فتُسمّى كذالك بدعة هذا تقسيم عام سنأتي بمثال لكلا الحالتين :
لو جاء إنسان فصام مثلاً قال أنا أصوم من مُنتصف النهار إلى مُنتصف الليل فنقول هذهِ العبادة ليس لها أصلٌ في ماذا ؟ ليس لها اصلٌ في الشرع .
أمّا الحالة الثانية فمثلاً لو جاء إنسان الآن أنا هُنا مثلاً أهلُ الرياض يتنزّهُون في الثمامة كمثال ويُوجد في كُلُ بلدٍ مُتنزّه لأهلهِ فلو جاء إنسان وقال نقف في الثمامة يوم كذا نتعبدُ الله جل وعلا فيهِ فجئت أنت نهيتهُم قُلت هذا بدعة فقالُ لا تثريب سنقف في هذا اليوم لكن في عرفه في غير اليوم التاسع ماذا نقول ؟(8/176)
نقول إنّ الوقوف في عرفة لهُ أصل في الشرع لكنّهُ جاء في الشرع على وجهٍ مخصُوص وهو اليوم التاسع ففعلُك إياه في غير اليوم التاسع يُسمّى بدعة لماذا قُلنا هذهِ الأمثلة وقسّمنا البدعة لأنّ الله قال ( فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليهِ أن يطوّف بهما ) فجعل اللهُ السعي لهُ وجه مخصُوص وهو إمّا أن يكون مُلتصقاً بحجٍ أو مُلتصقاً بعُمرة فالإتيانُ بالسعي وإنّ كان لهُ أصلٌ في الشرع فالسعي لهُ أصلُ في الشرع لكنّه إنّ لم يكُن مُلتصقاً بحجٍ أو عُمرة فيُعدُ هذا العملُ بدعة غير مقبولة .
اختلف العُلماء في السعي بين الصفا والمروة ما حُكمُهُ والآية لا تدلُ لقول أحد لأن قُلنا أُريد بها دفع الحرج ورفعُهُ
قال بعضُ العُلماء إنهُ رُكُن وهذا مذهبُ الشافعي وحُجّتهُ أن النبي صلى اللهُ علية وسلم قال { إنّ الله كتب عليكُم السعي فاسعوا }
وقال آخرون بسُنيّتهِ ، وقال آخرون بوجوبهِ وتفصيلُ ذالك في كُتب الفُقهاء وهذا درسُ تفسير والمُستفتي على دين مُفتيهِ ..
هذا ما تيسر إيرادُهُ وأعان اللهُ جل وعلا على قولهِ في هذا اللقاء المُبارك وانتهينا فيهِ إلى أول الرُبع الثاني من الجُزء الثاني وهو قولُ اللهِ جل وعلا (إنّ الصفا والمروة من شعائر اللهِ )
بارك اللهُ لنا ولكُم في ما نقولُ ونسمع ونفعنا اللهُ وإياكُم بما علّمنا وعلّمنا ما ينفعُنا
وصلى اللهُ على مُحمدٍ وعلى آله والحمدُ للهِ رب العالمين ...
والسلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيه كما يُحبُ ربُنا ويرضى وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له خالقُ الكون بما فيهِ وجامعُ الناس ليومٍ لا ريب فيهِ وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمدً عبدهُ ورسولهُ صلى الله علية وعلى آلهِ وأصحابهِ وعلى سائرِ من اقتفى أثرهُ واتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يومِ الدين .
أما بعد ...........(8/177)
فهذا لقاءٌ مُبارك نستكملُ ونستأنفُ فيه ما كُنّا قد تكلّمنا عنه في سورة البقرة وانتهينا في اللقاء الماضي إلى قول اللهِ جل وعلا
( إنّ الصفا والمروةَ من شعائر اللهِ فمن حج البيتَ أو أعّتمر فلا جُناح عليهِ أن يطوّف بهِما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكرٌ عليم )
أما اليوم فسنبدأُ بقول اللهِ جل وعلا :
( إنّ الذين يكتمُون ما أنزلنا من البينات والهُدى من بعد ما بينّاهُ لناس في الكتاب أُولئك يلعنهُم الله ويلعنهُم ألاّعنُون )
قال أهلُ العلمُ رحمهُم الله في بيان هذا أن أصل سبب نزول هذهِ الآية :
أنّ نفراً من الصحابة ذهبوا إلى أحبار اليهود ويسألونهُم عن وصف رسول الله صلى الله علية وسلم وما جاء عنهُ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ في التوراة وكان أُولئك الأحبار يعلمون ذالك جيداً .
وقد مرّ معنا قول الله جل وعلا ( الذين ءاتيناهُم الكتاب يعرفُونهُ كما يعرفون أبنائهُم ) وقُلنا أن هذا عائد على النبي صلى اللهُ علية وسلم إلا أنّ أُولئك الأحبار كتموا ذالك العلم الذي علّمهُم اللهُ جل وعلا إياها وأبانهُ لهُم جل وعلا في التوراة فأنزل قوله : ( إنّ الذين يكتمُون ما أنزلنا من البينات والهُدى من بعد ما بينّاهُ لناس في الكتاب ) ولهذا ذهب بعضُُ العُلماء أنّ المقصود بالكتاب هُنا التوراة والصوابُ أن يُقال إنّ أولها عن التوراة وأخرُها في القُرآن وليستُ الآيةُ محصورةً في فرقةٍ بعينها فكُلُ من كتم علماً دخل في الوعيد الذي تظمّنهُ الآية والأصلُ في ذالك أنّ الله جل وعلا أحيا الناس و أحيا قُلُوبهُم بالعلم الشرعي فإذا أُعطيَ أحد وأُتيَ علماً شرعياً فبخل بهِ على الناس وكتمهُ فإنّما تسبب في موات الناس وإفسادهِم وهذا مُستحقٌ للّعنة .
والعربُ أصلاً في سنن كلامها اللّعن هو الذنب والطرد والإبعاد لكنّهُ في عُرف الشرع : الإبعادُ عن رحمة اللهِ(8/178)
أنما كُلُ شيءٍ يدعوا إلى وصفهِ بالقبيح كانت العربُ تُسميهِ لعناً فكانوا يُخاطبون مُلوكهُم ووجهائهُم بقولهِم [ أبيت اللّعن ] أي لا تفعلُ فعلاً تستحقُ عليهِ اللّعن وإنّما أنت تفرُّ عنه تفرُّ عن كُل سببٍ موجب لذمّك وقدحك وشينك على هذا خاطب اللهُ جل وعلا هؤلاء الناس لكنّ الفرق ما بين لعنةِ اللهِ غيرُ لعنةُ الخلق وما بين ما يُعيّرُ بهِ الناس من باب العُرف والتقاليد ليس كما يُعيّرون بهِ من باب الشرع وما أخبر اللهُ جل وعلا بهِ وكتمانُ العلم من أعظم الإفساد في الأرض ولهذا أبو هُريرة رضي اللهُ تعالى عنه وهو راويةُ الإسلام الأول لمّا كان يُكثر في نقلِ الأحاديث عن النبي صلى الله علية وسلم ونشأ في عصرهِ جيلٌ لا يعرفونهُ حق المعرفة وقالوا أكثر أبو هُريرة على رسول الله صلى الله علية وسلم قال رضي اللهُ عنه وأرضاه { تقولون أكثر أبو هُريرة على رسول اللهِ صلى الله علية وسلم اللهُ الموعد } أي القيامة بيني وبينكُم و أيُما الله لولا آيةُ في كتاب اللهِ ما حدّثتُ أحداً بشيءٍ أبدا ثُمّ تلا هذهِ الآية (إنّ الذين يكتمُون ما أنزلنا من البينات والهُدى من بعد ما بينّاهُ لناس في الكتاب أُولئك يلعنهُم الله ويلعنهُم ألاّعنُون )
ثُمّ تأمل أيُها الأخ المُبارك سنن الله جل وعلا في خلقهِ كيف تتقابل ؟
أما كيف تتقابل على التالي :
فإنّ العالم الذي ينشُر علمهُ ويدعوا إلى الخير ويُعرّفُ الناس بربهِم تبارك وتعالى يُصلي عليهِ كُلُ أحد ويستغفرُ لهُ حتى الحوت في بحرهِ مُقابل هذا من أُوتي علماً وكتمهُ ولم يُبينهُ لناس وأوقع الناس فيهِ ضلالٍ مُبين دون أن يسعى في إخراجهِم مما هُم فيهِ كما الأول يُستغفر لهُ فهذا يُلعن قال اللهُ جل وعلا : (أُولئك يلعنهُم الله ويلعنهُم ألاّعنُون ) وكلمة ألاّعنُون عامة ولم تُحدد وقال بعضُ العُلماء كما هو طريقة الشنقيطي في التفسير:(8/179)
أن ما بعدها أن الله قال : (أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) .، لكن الصواب أن يقال : إن كل من يتضرر من كتمان العلم هو مندرج في لعن من كتم ذلك العلم
وهذا في ظني أصوب ما يمكن أن يقال في هذه المسألة ....
ثم قال الله ـ جل وعلا ـ :
( إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم )
الآن ثلاثة أفعال كلهن واقعة في صلة الموصول ( تابوا ، وأصلحوا ، وبينوا )
( تابوا ) بمعنى أقلعوا عن الذنب ، الذي هو هنا الكتمان ...
( وأصلحوا ) عزموا أن لا يعودوا إليه مرة أخرى ....
( وبينوا ) أظهروا ما كان قد كتموه من العلم ....
فإذا قد وقع منهم هذا ، فإن الرب ـ جل جلاله ـ لسعة رحمته وعظيم فضله يقول : ( فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم )
* ثم قال ربنا :
) إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) فقول ربنا :( وماتوا وهم كفار ) هذا قيد لا ينبغي اطّراحه ، فالعنة لا تكون لازمة لأحد ولو كان متلبسًا بالكفر حتى يموت على الكفر ، لأن الله قال في قيده : (وماتوا وهم كفار ) ، لكن هذا لا يعني أنه لا يجوز لعنهم وهم أحياء ،
والفرق بين الأمرين :
أننا لا نقول أننا يائسون من إيمانه ، أو أننا نحكم عليه أنه مطرود من رحمة الله ، حتى يموت على الكفر ، أما اللعنة العارضة فقد قال السلف ـ كما روى مالك في الموطأ عن أحدهم ـ : ( إني أدركت الناس وهم يلعنون الكفرة في رمضان ) ، وقد قال البعض : إن هذا من حيث العموم لا من حيث التعيين ....(8/180)
وللحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ كلام في الفتح دقيق في هذه المسألة وهو : (أن الأصل أنه مادام جاز قتاله يجوز لعنه ) ، فلعنه من باب طرده وإبعاده وذمه لا بأس ، أما الحكم عليه أنه في النار ، أي بمعنى اللعن العام بأن الله قد طرده من رحمته وأقصاه من ذمته ، فهذا لا يحكم عليه حتى يموت وهو كافر وهو معنى قوله ـ جل وعلا ـ : (وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)
ومما يدل على صحة هذا الرأي ما بعده ( أجمعين ** خالدين فيها ....) وهذا الخلود لا يكون إلا بعد الموت على الكفر ، لكن قد تكون هناك لعنة دون اللعنة العامة الكبير وهي ( الطرد عن رحمة الله ) ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ غلظ في مسألة اللعن وقال : ( لا تصحبنا ناقة ملعونة ) ولما صلى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالناس صلاة الاستسقاء ثم حذرهم ووعظهم .. ، بعدها أمر النساء أن يتصدقن ، وقال لهن :" إنكن أكثر أهل النار " قلن : " يا رسول الله بما ذاك ؟! " فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إنكن تكثرن اللعن ، وتكفرن العشير " ....
فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( تكثرن اللعن ) دليل على أن الإكثار من اللعن من سخط الله ـ جل وعلا ـ وعذابه ـ أعاذنا الله وإياكم منه ـ ، والعاقل لا يعوّد نفسه على مثل هذا
....
( لا يخفف عنهم العذاب ولاهم ينظرون )
( ينظرون ) هنا بمعنى يمهلون ، لأنه لا إمهال في الآخرة ، كان الإمهال في الدنيا وقد فات بموتهم على الكفر ...
ثم قال الله ـ جل وعلا ـ : ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم )
ينيخ المرء هنا مطاياه حتى ينظر في بديع القرآن كيف يتصل أوله بآخرة ...(8/181)
لما حذر الله ـ جل وعلا ـ من كتمان العلم ، ذكر جل وعلا بعدها أعظم علم ينبغي أن يظهر للناس وهو ( توحيده ـ جل جلاله ـ ، والتعريف به ـ تبارك وتعالى ـ فقال معرفا بذاته العلية ، مبينا أعظم علم ينبغي أن ينشر قال الله : ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم )
مرّ معنا تفسير ( الرحمن الرحيم ) في سورة الفاتحة
( لا إله إلا هو )
كلمة من أجلها خلق الله السماوات والأرض ، ومن أجلها كان الحساب والعرض ، ومن أجلها يُحشرُ العباد ، ومن أجلها جرّد مُحمدٌ وأصحابه سيوف الجهاد ، ومن أجلها أُقيمت الحُجج والبراهين ، ومن أجلها تُنصب يوم القيامة الموازين .
قال علية الصلاة والسلام " من كان أخر كلامهِ من الدُنيا لا إلهِ إلا الله دخل الجنة "
أولُها نفيٌ وأخرُها إثبات ، أولُها جُحُود وأخرُها إقرار
ويُروى عن بعض المتصوفة ممّن علق بهِ شيءٌ من التصوُّف كالشدي رحمهُ الله كان يقول لا أقولها إذا سُؤلِ عن اللهِ يقول الله فيُقال لهُ قيلها فيقول ورعاً مذموماً يقول أخشى أن أقول أبدأ بالجحُود فأموت دون أن أصل إلى الإقرار أخافُ أن أبدأ بالجحُود يقول لا إله ثُمّ أموت قبل أن أقول إلا الله .
قال القُرطبيُ رحمهُ الله مُعلّقاً على كلامهِ :
قال { هذا من علُومهم الدقيقة التي ليست لها حقيقة }(8/182)
لأن الله جل وعلا تعبّدنا بهذهِ الكلمة وذكرها مراراً في كتابهِ العزيز ووعد عليها الثواب العظيم والله أرأف وأرحم وأعدل من أنّ عبداً أراد أن يقول لا إلهِ إلا الله وهو مؤمنٌ بها قائمٌ بالعمل بها عارفٌ بلوازمها ثُمّ قال لا إله وأدركهُ الموت ومات فُجأةً أن يدخُل النار هذا من أهل الجنةٍ قطعاً فاللهُ جل وعلا حكمٌ عدلٌ وربٌ ذو فضل لكن كما قال القُرطُبي رحمهُ الله عنهُم " هذا من عُلُومهم الدقيقة لكنّ من العلم الذي ليس لهُ حقيقة وأيُ علمٍ تُريد لهُ أن يثبُت نبّش عنه وكثير من الأشياء يا بُني لا تغُرّنّك بادىء الرأي فتزدلف إليها وأنا أكثرتُ من القول في الشيعة لكن الشيعة يأتون مثلاً في مقتل الحُسين ابن علي وهو مُصيبة ويقولون : أيُ قُلوبٍ قاسيةٌ لكُم أنتُم تبكون على موت آباءكم وأُمهاتكُم وهذا حقّ يحصُلُ منّا فكيف تأتون بسبط رسول الله وسيدِ شباب أهلِ الجنة ، والنبيُ صلى اللهُ علية وسلم كان يُحبهُ ويضعهُ على فخذهِ ثُمّ يُؤتى بهِ في يوم وهو صائم فيُقتل ثُمّ يُجزّ رأسُهُ ويُفصل عن جسدهِ ثُمّ يُقدّم قُرباناً لسلاطين والأُمراء كُلُ ذالك ولا تتحركون .
هذا القول من أولهِ يستعطفُك يجلبُك يأسرُك لكن إنّ رأيت أنّ موت النبي صلى الله علية وسلم أعظم من موت الحُسين ومقتلُ عليٌ رضي اللهُ عنهُ وأرضاه والدُ الحُسين أعظمُ من مقتلِ الحُسين نفسهِ لكنّ الله جل وعلا ما تعبدنا بمثلِ هذهِ الصنائع قُرباناً لهُ ونحنُ نعلم أنّ قتلة الحُسين فجرة ظلمة فسقة أقترفوا إثماً عظيماً لكن ليس التعبيرُ العلمي والصنيعُ الحقيقي أنّ نصنع كما صنعوا في كُل عام نُظهرُ المآسي والمآتم والحُزن على وفاتهِ رضي الله عنهُ وأرضاه وإن كان في وفاتهِ عبر وعظات لكُل أحد فإنهُ كمّ منّ شخصٍ يتلبسُ بالحق ويُنادي علية ويُزمجرُ بهِ على المنابر وكلُ الذي يدعوا إليهِ عينُ الباطل .(8/183)
فإنّ الذي قتل الحُسين سبط رسول الله صلى الله علية وسلم كان يُكبر ويقول الله أكبر وهو يقتُل الحُسين سبطا رسول الله صلواتُ الله وسلامهُ علية .
يقولُ أحدُ عُلماء السُنة آنذاك :
جاءوا برأسك يا ابن بنتِ مُحمدٍ
مُتزملاً في ثيابهِ تزميلاَ
وكأنما بك يا ابن بنت مُحمدٍ
قتلُ جهاراً عامدين رسولا
قتلوك عطشاناً ولم يترقبُ
في قتلك التنزيل والتأويلَ
ويكبرون بأن قُتلت وإنما
قتلُوا بك التكبير والتهليلَ
من هُنا تعلم أيُها الأخُ المُبارك مسألة ما هو العلم ؟
نور يقذفهُ الله في القلب على بينةٍ من هدي كتابهِ وسنة نبيهِ صلى الله علية وسلم تُضيءُ للمؤمن الدروب وتسيرُ بهِ إلى رحمة علاّم الغيوب يسيرُ الإنسان تأتيهِ الشُبهات فيجلوها بالعلم وتتضحُ له ويمشي واثق الخطوة رافع الرأس ثابت القدم متوكلاً على الله لا تغرهُ الشُبهات ولا تأسرهُ الشهوات إذا أجتمع مع علمهِ إيمانٌ بالرب تبارك وتعالى .
قال الله ( وإلهكُم إلهٌ واحدٌ لا إله إلا هو الرحمنُ الرحيم )جاء في الأثر من حديث أسماء بنت يزيد ابن السكن أنّ النبي صلى الله علية وسلم قال " اسمُ اللهِ الأعظم في هاتين الآيتين ( ألم * اللهُ لا إله إلا هو الحيُ القيوم ) وقولهُ جل وعلا ( وإلهكُم إلهٌ واحدٌ لا إله إلا هو الرحمنُ الرحيم ) "
ونحنُ نعلمُ أن الآثار دلّت على أنّ للهِ جل وعلا اسماً أعظم لكنّنا نجهلُ هذا الاسم وأنّ هذا الاسم إذا دُعيَ بهِ اللهِ أجاب ، وإذا سُؤل بهِ أعطى ، وأنّ الله جل وعلا أخفاه وظهرت أثار تُقرّبُهُ : بعضُ العُلماء ذهب إلى أنهُ الحيُ القيوم وبعضهُم إلى أنهُ لفظُ الجلاله وبعضُهم ذهب إلى أنهُ اللهُ الذي لا إله إلا هو وبعضهُم من قال أنهُ الحي مع الله لا إله إلا هو واستشهد بآية غافر ( هو الحيُ لا إله إلا هو فادعُوهُ مُخلصين لهُ الدين )(8/184)
فمضمار جرت فيهِ أقدامُ العُلماء ولكلٌ منهُم ضرب بعطنٍ في ناحيةٍ بعينها لكنّ المقصود الأسمى أن يعلم الإنسان أن لله اسماً أعظم ووجهاً أكرم وعطية جزلا وحُجةً بالغة وقُوةً لا تُقهر ووعداً لا يُخلف وجُنداً لا يُهزم فيسأل اللهِ جل وعلا بأسمائهِ وصفاتهِ جُملةً أن يُدخلهُ الجنة ويُجيرهُ من النار .
قال اللهُ جل وعلا بعدها : ــ
في هذهِ الآية ( وإلهكُم إلهٌ واحد) إخبار أما الآية التي بعدها إنّما هي دلائلُ اعتبار الآية الأُولى إخبار والآية التي بعدُها دلائلُ اعتبار وذكرُ تفاصيل ما يدلُ على عظمةِ الواحد والقهّار .
قال الله :
( إنّ في خلق السماوات والأرض واختلافِ الليل والنهار والفُلك التي تجري في البحرِ بما ينفعُ الناس وما أنزل اللهُ من السماء من ماء فأحيى بهِ الأرض بعد موتها وبث فيها من كُل دابة وتصريف السحاب المُسخّرِ بين السماء والأرض لآياتٍ لقومٍ يعقلون )
العقل مناطُ التكليف وتمرُ عليهِ ثلاثةُ أحوال :
حال عارضة
وحال مُؤقتة
وحال مُستديمة
الحالُ العارضة النوم فيرتفع قلمُ التكليف ، والحال المُستديمة الجنون فيرتفع حالُ التكليف ، والحال المُؤقتة الصغر فيرتفع حالُ التكليف إلى أن يكبُر .
والعنايةُ بالعقل وجعلهُ مناط التكليف دليلٌ عظيم على عناية الإسلام بهذا العقل ــ على أنهُ ينبغي أن أُكرر لك مقُولةً طالما ردّدناه ــ العقلُ يا بُني مُكتشفٌ لدليل وليس مُنشأً لهُ العقلُ مُكتشف لدليل لكنّهُ ليس مُنشأً لهُ .(8/185)
في هذهِ الآيات ذكر الله دلائل الاعتبار التي تدلُ على قُدرة اللهِ الواحدِ القهّار فقال جل شأنهُ ( إنّ في خلق السماوات والأرض )وخلقُ السماواتِ والأرض من أعظم الأدلة والبراهين على قُدرة اللهِ قال اللهُ في غافر ( لخلقُ السماواتِ والأرضِ لأكبرُ من خلق الناس واختلافِ الليل والنهار ) لأنهُ اللهُ جل وعلا يُولج هذا في هذا ( والفُلك ) أي السُفُن ( تجري في البحر ) تسخير من الله جل وعلا والعُلماء تكلّموا في البحر كثيراً ومن أشهرِ من ركبيهُ من الأنبياء نوح وموسى ويونُس وقد فصّلنا هذا القول في درُوسٍ مضت ( بما ينفعُ الناس وما أنزل اللهُ من السماء من ماء فأحيى بهِ الأرض بعد موتها وبث فيها من كُل دآبة وتصريف الرياح والسحاب المُسخّر )
تصريفُ الرياح تكونُ أحياناً لينة وتكونُ أحياناً عاصفة ، تكونُ أحياناً حارّة وتكونُ أحياناً باردة ، تكونُ أحياناً صرّاً وتكونُ أحياناً نصرا .
قال علية الصلاةُ والسلام " نُصرتُ بالصبأ وهُلكت عادٌ بالدبُور " وتكونُ أحياناً مُلقّحة وتكونُ أحياناً عقيمة هذا كُلهُ تصريفٌ لرياح لا يقدرُ عليهِ إلا الله .
(السحاب المُسخّرِ بين السماء والأرض )
نحنُ نعلمُ قطعاً أن الماء ينزلُ من ؟ من السحاب لكن في قول نُظهرهُ حتى لا تُفاجأ بهِ إذا قرأتهُ !
للعُلماء أن المطر ليس من السحاب وإنّما السحاب غربال أمارة على نزول المطر غربال والمطر ينزل من السماء ويمرُ عبر هذا الغربال الذي هو السحاب ثُمّ ينزلُ لناس وهذا القول وإن قال بهِ أفراد قليلون إلا أنهُ موجود .(8/186)
وقالوا تجتمع فيهِ الآية لأن الله قال ( وما أنزل الله من السماء ماء فأحيا بهِ الأرض بعد موتها وبث فيها من كُل دآبة وتصريف الرياح والسحاب المُسخّر ) قال لو كان السماء الماء ينزل من السماء من السحاب لما حاجة لأن يُعيد الله جل وعلا قولهُ ( والسحاب المُسخّرِ ) وهذا أظُنّهُ منقولٌ عن كعب الأحبار لكنّهُ رأيٌ مرجوحٌ جداً جداً وإنما الذي عليهِ العُلماءُ كافة خاصةً في القُرون المُتأخرة مادلّ عليهِ العلمُ الحديث على أن السحاب منه من السماء لكنني قُلت حتى لا يكون لديك فُجأة إذا قرأتهُ في كتاب وأذكُر أنني سمعتهُ قبل ثلاثين سنة من أحد العُلماء فذُهلت آنها مُجرّد سماع ولو أنهُ رحمهُ الله قالها تفصيلاً لحرّرناها لكُم وهو لا يجهلُ هذا لكان هُناك مُتسعٌ في تلقي المعلومة ثُمّ مع الأيام تبين مقصدهُ غفر الله لهُ ورحمه .
نعود فنقول ( لأياتٍ لقومِ يعقلون )
بعد أن ذكر الله أدلة الاعتبار ذكر اللهُ جل وعلا اختلاف الناس في ربهم فذكر مسألة محبة الله جل وعلا وتعظيمهُ وهي لبُ الدين فقال جل وعلا :
( ومن الناس من يتخذُ من دُون اللهِ أنداداً يُحبُونهُم كحُب اللهِ والذين ءامنوا أشدُ حُباً للهِ ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أنّ القُوة للهِ جميعاً وأنّ اللهَ شديدُ العذاب )
للعُلماء وجهان في تخريج الآية :
التخريج الأول :
أن يُقال أن هؤلاءِ المُشركين يُحبُونَ أصنامهُم كحُب المُسلمين لمن ؟ لربهِم .
التخريج الثاني :
أن هؤلاء المُشركين يُحبُون ربهُم ويُحبُون أندادهُم كحُبهِم لمن ؟ لربهم . وهذا التخريجُ الثاني تدلُ عليهِ آيةُ الشُعراء ( تاللهِ إن كُنّا لفي ضلالٍ مُبين إذ نُسويكم بربْ العالمين )
لكن الله جل وعلا أياً كان المقصود بالمعني في الآيتين قد قال بعدها :
( والذين ءامنوا أشدُ حُباً للهِ )(8/187)
وهؤلاءِ المؤمنون جعلني اللهِ وإياكُم منهُم لمّا كان محبُوبهُم وهو الله ليس كأحدٍ مثلهِ كان حُبهم لله ليس كحُبهم لأي أحد غيرهِ ــ ظاهر ــ لمّا كان محبوبهُم وهو الله ليس لهُ مثيل كان حُبهم للهِ لا يعدلهُ مثيل ــ واضح ــ كان حبُهم لله لا يعدلهُ حُبهم لأي شيءٍ آخر لأن الله ليس كمثلهِ شيء ومنزلةُ محبة الله جل وعلا من أعظم المنازل التي يُعطاها عبد لأنها مع الرجاء والخوف هي مدارُ الدين كُلهِ ومن رحمة اللهِ جل وعلا بك أن يجعل قلبك وعاءٍ لحُبهِ تبارك وتعالى قال تعالى ( والذين ءامنوا أشدُ حُباً للهِ )
ثُمّ قال ( ولو يرى الذين ظلموا ) متى ؟
في الدُنيا ..
( إذ يرون العذاب ) متى ؟
في القيامة .
ولو يرى الذين ظلموا في الدُنيا إذ يرون العذاب أي في الآخرة.
( أن القُوة للهِ جميعاً وأنّ اللهَ شديدُ العذاب * إذ تبرأ الذين اتُبِعُوا من الذين اتبعُوا ورأوُا العذاب وتقطّعت بهِم الأسباب ُ * وقال الذين اتبعُوا لو أنّ لنا كرةً فنتبرأ منهُم كما تبرّءُوا منّا كذالك يُريهِمُ اللهُ أعمالهُم حسراتٍ عليهِم و ما هُم بخارجينَ من النار )
هُنا يا بُني هذهِ ظاهرة لا تحتاجُ إلى شرح رُؤساء لهُم أتباع يأتي يوم القيامة يتبرأ الرُؤساء من الأتباع لكنّ فلنقف عند لو ولولا إذا كان يومُ القيامة يرى المؤمن مقعدهُ من النار الذي نجّاهُ اللهُ منهِ وهو في الجنة ماذا يقول ؟
يقول ـ قال اللهُ عنهُم ( وقالوا الحمدُ للهِ الذي هدانا لهذا وما كُنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) لآحظ لولا تقترن بأهل الإيمان أما الكُفّار تقترن بهِم لو ما الفرق ؟
لولا حرفُ امتناعٍ لوجود أما لو حرفُ امتناعٍ لامتناع .
كيف أُطبّقُها على هذهِ الآية وسائر الآيات ؟
المؤمن وهو في الجنة إذا رأى مقعدهُ من النار الذي نجّاهُ اللهُ منه يقول ( وما كُنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) السؤال هل حصلت هدايةُ الله ؟(8/188)
حصلت فامتنع بحصُولها وجود المقعد الذي في النار فهذا معنى قولنا حرفُ امتناعٍ لوجود ما الموجود ؟ حُصولُ الهداية والرحمة من الله فهذهِ الرحمة والهداية من الله لك منعت أن تكون في ذالك المقعد الذي هو في النار على النقيض من ذالك يرى أهلُ النار مقعدُهم في الجنة الذين حُرموا منه فماذا يقولون ؟ لا يقولون لولا يقولون لو قال اللهُ عنهُم ( لو أنّ الله هداني لكُنتُ من المُتقين ) وهُنا يقول الله ( لو أنّ لنا كرة فنتبرأ منهُم كما تبرءوُا منّا ) ولا يُوجد كرة ــ إذ أنخ المطايا هُنا ــ
إذا رأى الكافرُ مقعدهُ من الجنة يقول ( لو أنّ الله هداني ) هل هداهُ الله ؟ لم يهدهِ فامتنع الأول فامتنع جوابُ الشرط فامتنع تحقُق أن ينال ذالك المنزل الذي يراهُ في الجنة وهذا وحدهُ كافٍ لأن تتعظ بهِ القلوب .
هل تكونُ ممّن يقول ( لولا أنّ الله هداني ) أو أن نقول ( لو أنّ الله هداني لكُنتُ من المُتقين ) مع أنّ الزيادة حرف واحد بين لو ولولا وهي لولا حرفُ امتناعٍ لوجود ، والثانية حرفُ امتناعٍ لامتناع والمقصودُ من ذالك أن من أراد اللهُ لهُ الرحمة في الآخرة سيرحمهُ أين ؟ في الدُنيا بتوفيقهِ للأسباب المُعينة على طاعة الله ، ومن لم يُرد اللهُ لهُ الرحمة في الآخرة لن يُوفق للهداية في الدُنيا حتى يصل إليها .
قال اللهُ ( وتقطّعت بهُم الأسباب )
يجبُ أن يخلُد في قُلوبنا أنّ كُل سببٍ يوم القيامة مُنقطع إلا سببٌ واحد ما كان بيع العبدُ وربهِ وهو سبب العُبودية المحضة سبب ماذا العبودية المحضة هو السببُ الواحد الذي يبقى يومُ القيامة قال الله ( وتقطّعت بهُم الأسباب * وقال الذين اتبعُوا لو أنّ لنا كرةً فنتبرأ منهُم كما تبرّءُوا منّا كذالك يُريهِمُ اللهُ أعمالهُم حسراتٍ )(8/189)
معنى ( يُريهُم الله أعمالهُم ) يُريهُم الله الأعمال التي تكونُ سبباً في نجاتهُم لو أنهُم صنعوها وفعلوها وأتوها فإذا رأوها ماثلةً أمام أعيُنهِم يوم القيامة تحسّروا على أنهُم لم يفعلوها أي أنهُم لو فعلوها لنجوا ممّا هُم فيهِ (كذالك يُريهِمُ اللهُ أعمالهُم حسراتٍ عليهِم) ولو كانت تلك الحسرة إلى أمد تنتهي ويُقضى الأمر لهان لكن الله قال بعد ذالك يذكُرُ خُلُودهُم ( وما هُم بخارجين من النار ) .
ثُمّ قال الله ( يا أيُها الناس كُلوا ممّا في الأرض حلالاً طيبا )
سُمّيَ الحلالُ حلالا لانحلالِ عُقدةٍ الحظر عنه يعني عُقدة المنع وكلمة حلالاً بيان للحُكم الشرعي وكلمة طيباً إظهار لعلة الحُكم الشرعي
( ولا تتبعُوا خُطوات ِ الشيطان إنهُ لكُم عدوٌّ مُبين )
عدوٌّ مُبين بمعنى عدوٌّ ظاهر فمُبين اسم فاعل لكنّها من أبانَ اللازمة أو المُتعدية ؟
من اللازمة غير المُتعدية والمعنى الفعل أبان أيُها المُبارك يأتي لازماً لا يتجاوز مفعُولهُ بمعنى ظهر بان بمعنى ظهر وتأتي أبان بمعنى أظهر تأتي لشيءٍ مخفي فتقوُل أبنتهُ لك تتعدى إلى مفعولين ، أمّا أن تظهر أنت فتقول بان فُلانٌ على الشاشة أي ظهر هُنا مُبين من للازم وليست من المُتعدي لأن الشيطان لم يُظهر عداوتهُ لنا وإنّما يتلبّس ويوسوس لكنّ كيف عرفنا أنهُ عدو بما أنّ الله جل وعلا فضحهُ وأظهر عدواتهُ ــ واضح ــ الشيطانُ عدوا لكنّهُ لم يُظهر لنا عداوتهُ وإنما يأتينا مُتلبساً عن طريق الوسوسة مُقرباً لنا ( فقاسمهُما أني لكُما لمن الناصحين ) ( هل أدُلكُما على شجرة الخُلد ومُلكٍ لا يبلى ) إلى غير ذالك لكنّ الله جل فضحهُ وكشف عداوتهُ لنا .
((8/190)
ولا تتبعُوا خُطوات ِ الشيطان إنهُ لكُم عدوٌّ مُبين * إنّما يأمُرُكُم ) أسلوب حصر ( بالسوءِ والفحشاء ) فلا يأمرُ الشيطان بشيءٍ فيهِ نفعٌ لنا البتة ولهذا قال الله ( إنّما ) أسلوبُ حصر (إنّما يأمُرُكُم بالسوءِ والفحشاء وأن تقُولوا على اللهِ ما لا تعلمُون )
ولم يذكُر اللهِ هُنا ما القول على الله بلا علم الذي دعانا إليهِ الشيطان لكن جاء في آياتٍ أُخر أعظمُها أن الشيطان دعاهُم إلى أن يفتروا ويزعموا للهِ الولد وأن يُحرموا ما أحل اللهُ لهُم من الطيبات كما قالوا ( خالصةٌ لذكُورنا ومُحرمٌ على أزواجنا ) إلى غير ذالك ممّا حرّموه ونسبوه إلى اللهِ جل وعلا افتراءٍ عليه ذالك الذي لقّنهُم الشيطانُ إياه وهو مُندرجٌ في بيان قول اللهِ جل وعلا ( وأن تقولوا على اللهِ ما تعلمون ) .
ثُمّ قال الله :
( وإذا قيل لهُم اتبعُوا ما أنزل اللهُ قالُوا بل نتّبعُ ما ألفينا عليهِ ءاباءنا أولو كان ءاباؤُهُم لا يعقلون شيئاً ولا تهتدون )هؤلاء المُشركون ـ قُلنا في الأول عظّم اللهُ العقل ــ تركوا عقُولهم فلم يستفيدوا منها فمن لم يستفد من جارحة أعطاهُ اللهُ إياها فكأنهُ لم يُعطاها ولهذا وصفهُم الله أنهُم صُمّ رغم أنهُم يسمعون وصفهُم بأنهُم بُكم رغم أنهُم يتكلمون وصفهُم بأنهُم عُمي رغم أنهُم يُبصرون لأن تلك الجوارح لم يستفيدوا منها الاستفادة التي تدُلهُم على ربهم تبارك وتعالى .
هُنا الله يقول (وإذا قيل لهُم اتبعُوا) يقول لهُم النبي ما أنزل الله قالوا بل نتبعُ ما ألفينا عليهِ ءاباءنا ) أي ما وجدنا عليهِ آبائنا .
قال الله (أولو كان ءاباؤُهُم لا يعقلون شيئاً ولا تهتدون )(8/191)
والمعنى على أي حالٍ يصلون بها إلى أن يدعُ عُقولهُم بلا عمل فيُعرضوا عن دعوة الإسلام ويبقوا على عبادة الأصنام مُلتزمين هدي من سبقهُم ولو كان من سبقهُم على ضلالةٍ وعيٍ وبُعدٍ عن اللهِ جل وعلا وهذا يحملُ التوبيخ مع الإنكار قال الله (أولو كان ءاباؤُهُم لا يعقلون شيئاً ولا تهتدون ) اختلف العُلماء في لو هُنا اختلافاً واسعاً في معناها :
فقال بعضُ العُلماءِ هُنا أنها بمعنى إن التي لا تحتملُ معنى الشرط وقال آخرون بغير ذالك لكنّ الأول وهو القولُ بأنها بمعنى إنّ التي لا تحتملُ معنى الشرط هو الأفضل والأولى التي لا تحتاجُ إلى جواب ، وقال آخرون كالبيضاوي قولاً لكن ليس لهُم فيهِ سلف مُحتجّين وهذهِ من دقائق اللُغة في بيتٍ لرُؤبة ابن العجاج
قالت بناتُ العم يا سلمى وإن كان فقيراً مُعدماً
قالت وإن لكن الأول كما قُلنا المُحتمل لمعنى إن التي لا تحتملُ معنى الشرط هو الذي عليهِ أكثروا أهلُ العلم والعلمُ عند الله جل وعلا .
ثُمّ ذكر اللهُ جل وعلا مثلاً يُبينُ فيهِ حاله لأهل الإشراك
( ومثلُ الذين كفرُوا كمثل الذي ينعقُ بما لا يسمعُ إلا دُعاءً ونداءً صُمّ بُكمٌ عُميٌ فهُم لا يعقلون )
هذا تشبيهِ حالة بحالة راعي الضأن يُنادي عليها فهي من حيث سماعهِ لدعوة لنداء تسمع لكن من حيث تدبُرها لما يُقال لها لا تعي فالنبيُ صلى الله علية وسلم يدعُوهُم ويُرشدُهم فهُم في حال سماعهِ كحال الضأن تسمع ما تُنادى بهِ وهُم يسمعون القُرآن والآيات إلا أنهُم لا ينتفعون كما أن الضأن لا تنتفعُ بكلام الراعي لا تفقهُ ممّا يقولُ شيئاً هذا تخريج .(8/192)
بعضُ العُلماء يقولون إنّ ليس المقصودُ هذا إنّما المقصُود حال المُشركين مع أصنامهِم عندما يُنادُونها فإنها لا تسمعُ منهُم شيئاً ولا تعي ما يقولون (صُمّ بُكمٌ عُميٌ فهُم لا يعقلون ) لكنّ هذا بعيد لأن الله قال : ( ومثلُ الذين كفرُوا كمثل الذي ينعقُ بما لا يسمعُ إلا دُعاءً ونداءً ) فأثبت السمع ومعلومٌ قطعاً ونقلا أنم الأصنام لا يُمكن لها أن تسمع فجعلُ المثل مثلاً لأهل الإشراك ويُسمّى تشبيهِ تمثيلي أفضل من جعلهِ مثالاً للأصنام يعني حال كونهُم هُم يسمعون النداء ولا يفقهون شيئاً ممّا يُقالُ لهُم أولى من حمل القضية على الأصنام أنها تُنادى ولا تعي لأي شيءٍ تُنادى لأن الله أثبت السمعَ والأصنامُ قطعاً لا تسمعُ شيئاً ممّا تُنادى بهِ ( ومثلُ الذين كفرُوا كمثل الذي ينعقُ بما لا يسمعُ إلا دُعاءً ونداءً صُمّ بُكمٌ عُميٌ فهُم لا يعقلون )
ثُمّ قال الله :
( يا أيُها الذين ءامنوا كُلُوا من طيباتِ ما رزقناكُم ) وهذا نزدلفُ إليهِ إن شاء الله تعالى في اللقاء القادم
هذا ما تيسر إيرادُهُ وتهيأ إعدادُهُ وأعان اللهُ جل وعلا على قولهِ واللهُ الموفقُ لكُل خير وصلى اللهُ على مُحمدٍ وعلى آلهِ والحمدُ للهِ رب العالمين .............
الحمد لله وحده ،حمدا ً كثيرا ً طيبا ً مباركا ً فيه ، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين وعلى آله وأصحابه وسائر من اقتفى أثره وتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين
00أما بعد 00
فقد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله (مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون )
وحرنا قول العلماء فيها(8/193)
ثم ننتقل إلى الله جل وعلا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } مرت معنا آية (يا أيها الناس كلوا ...) هذا للعموم الآن خص الله جل وعلا أهل الإيمان بالنداء فذكر المباح وذكر المحرم وبدأ بالحلال المباح لأنه أكثر و أخر المحرم لأنه محصور واستخدم في حصره إنما وهي تدل على الحصر قال في الأولى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ما دمن معترفين أننا عبيد لله وأن الله أفاء علينا الخير فإقبالنا على الخير نوع من الاعتراف بعبوديتنا لمن ؟
لربنا وعدم إعراضنا عنه ومن هنا تفقه أيها المبارك أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا ..
كلما كان الإنسان يظهر لله فقره ، مسكنته كان قريبا ً من الله
جاء في الحديث الصحيح أن أيوب عليه الصلاة والسلام بعث الله إليه رجل جراد من ذهب ، رجل جراد يعني ما يقال سرب طيور في الجراد ما يقال سرب يقال رجل ..رجل جراد من ذهب أي مجموعة من جراد من ذهب فأخذ وهو نبي الله المذكور في القرآن المقول عنه ( نعم العبد إنه أواب ) أخذ يحثو الجراد في ثوبه فأوحى إليه ربه يا أيوب ألم أكن قد أغنيتك عما ترى ؟
قال يا ربِ لا غنى لي عن فضلك .
فالله جل وعلا هنا يقول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }
( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ) تبنى على هذا قواعد مع هذه الآيات ومع غيرهن
نقول كل ما أباحه الله وأحله فهو طيب وكل ما حرمه الله فهو خبيث لكن ليس كل خبيث محرم قال علبه الصلاة والسلام " كسب الحجّام خبيث " مع أنه أعطى الحجّام وسمى البصل والثوم شجرتين خبيثتين مع أن الناس يأكلون منها0
وقال الله جل وعلا ( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا(8/194)
أن تغمضوا فيه ..) مع أننا نأكله فالعبارات تختلف ولذلك يتحرر الإنسان علميا ً قبل أن يتفوه بكلمه نقول قال الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ *إِنَّمَا} أداة حصر{ حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ } { الْمَيْتَةَ } ما مات حتف أنفه أو ذبح ذكاة غير شرعية
ما مات حتف أنفه أو ذبح ذكاة بطريقة غير شرعية يسمى ميتة وهو من أعظم المحرمات وأولها.
والثاني قال الله {وَالدَّمَ} وهذا الإطلاق قيدته آية (أو دما ً مسفوحا ً) فخصصه الحديث كما خصص الميتة أحلت لكم ، أحلت لنا ميتتان السمك والجراد وأحل لنا دمان الكبد والطحال فالكبد دم والطحال دم لكنه غير مسفوح والسمك والجراد خصص من الآية بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن البحر قال هو الطهور ماؤه الحل ميتته
{ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} والمراد به الخنزير جملة عند جمهور العلماء وإنما اختلفوا لماذا ذكر الله اللحم؟
على هذا ذهب مالك _رحمه الله_ إلى أن عين الخنزير ليست نجسة أو قال به بعض العلماء ليست نجسة حتى يصبح لقوله لحم خنزير له معنى وقال العلماء بالإطلاق ..
{ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ} الإهلال رفع الصوت يقال للوليد إذا استهل صارخا ً أهل
ويقال للحاج مهل لأنه يرفع صوته بالتلبية
كانت لقريش أصنام يأتون بذبائحهم فيقولون باسم اللات باسم العزى ينحرونها لماذا ؟! لألهتهم فأي شيء أهل به لغير الله لا يقبل حتى لو...[هذه مهمة] حتى لو كانت من صنع أهل الكتاب فمثلا ً الأصل طعام أهل الكتاب أنه ماذا ؟ حل لنا ..
لكن لو كان عيد يهلون به لغير الله وذبحوا فيه لا يجوز لنا أن نأكل منه لآية البقرة ..[واضح]
ونبقي آية المائدة على عمومها
{(8/195)
وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} ما الباغي في اللغة الطلب للشيء إن كان خير أو شر الباغي الطالب للشيء إن كان خيرا أو شرا لكن هنا المقصود بها الطلب للشر ولا عاد أي لا متجاوز للحد واختلف العلماء في معناها منهم من حصرها في البغي والخروج على الأئمة وجعلوا العاد قطاع الطريق والحق أن الباغي والعاد ليست مرتبطتين فقط بقطاع الطريق أو الخرجين على الأئمة إنما الباغي هو من يريدها من غير اضطرار والعاد من تجاوز الحد في أكلها قال بعدها { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } أي إن كان مضطرا غير باغ ولا عاد { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }ثم قال الله { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ } هذه عودة لذم أهل الكتاب { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }وفي قوله جل وعلا { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } زيادة على العذاب السابق وهو اللعنة الذكورة في الآيات السالفة والآن زاد عليهم إن كتمان العلم شيء عظيم و ظلم فظيع أغضب الله لصنعته في كتابه { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } ثمة شيء في المنازع البلاغية يا بنُي يسمى تنزيل المحصول المتحقق منزلة الحاصل تنزيل ماذا ؟(8/196)
تنزيل المحصول المحقق منزلة الحاصل .. الله جل وعلا أصدق القائلين وأخبر عن أهل النار وقال { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } المؤمن إذا سمع هذا يعلم يقينا ً أن هذا ماذا ؟
سيقع لا محالة لأن المخبر به من ؟
رب العالمين فيأتي جبلة إذا علم هذا ينزله منزلة ما وقع فيقول لهؤلاء الكفرة ما أصبكم على النار !!
أي ما أشد صبركم على النار وسياقكم إليها رغم علمكم بحرها وهذا لسان المخاطب بالقول والقائلون الناس وهذا أمر لم يقع لكن قلنا هذا منزع ماذا؟ بلاغي !!
وهو تنزيل المحصول المحقق .. تنزيل الشيء المحقق منزلة ماذا؟
الحاصل منزلة الشيء الحاصل فما أصبرهم على النار !!
هذا قول بتخريج التعدد بما أصبرهم على النار
تخريج آخر على أن ما هنا ليست تعجبية!!
إنما استفهامية ؟؟
يصبح المعنى أي شيء أصبهم على النار؟ أي ما الذي دفعهم إلى هذا حتى يصار بهم إلى النار ثم قال الله { ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } هذا جواب لهذه كله والمعنى أن الله جل وعلا أنزل الكتاب بالحق لينفع به العباد فلما جاء هؤلاء العلماء وكتموه كان حقا ً عليهم أن ينالوا ما أخبر الله جل وعلا عنه قال الله { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }(8/197)
ثم قال الرب تبارك وتعالى { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ }هذا عود على بدأ كان الله جل وعلا قد تحدث في صدر هذا الجزء عن قضية تحويل القبلة فلما أكثر الناس على أهل الإيمان من أهل الإشراك والنفاق واليهود والنصارى (ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) قال الله جل وعلا { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } والبر َ يا بُني قًرأت بالنصب والرفع فعلى النصب كما هو بين يديك على أنها خبر لـ ليس ماذا ؟ متقدم وأين اسم ليس المرفوع " المصدر " { أَن تُوَلُّواْ } والأصل في المبتدأ والخبر في الترتيب الأقوى معرفة هو يكون مبتدأ الأقوى معرفة هو الذي يكون مبتدأ .. لكن المصدر أولى من المعرف بأل .. المصدر أن ما دخلت عليه أقوى بالتعريف من ماذا ؟؟ من المعرف .. المعرف بأل .. لأنه إضمار الإضمار أقوى المعارف بعد العلم فعلى ذلك أخرت .. جعلت أن تولوا وجوهكم هي الخبر لكن الترتيب التقديم والتأخير هذه مسألة أخرى لكن أين المبتدأ أن تولوا وجوهكم وقدم الخبر ردا ً على أهل الإشراك هذا على قراءة { لَّيْسَ الْبِرَّ } على قراءة { لَّيْسَ الْبِرُّ } المسألة واضحة البر اسم ماذا ؟ اسم ليس وأن تولوا وجوهكم مصدر أن دخلت عليه في محل نصب خبر لمن ؟؟ لـ ليس وليس عند النحويين فعل ماض جامد ناقص فعل أي ماذا؟؟ ليس اسم أو خبر وماض أي ليس مضارع ولا أمر جامد أي غير متصرف لا يأتي منه لا مضارع ولا أمر.. قلنا ماذا؟ ناقص أي يحتاج إلى اسم وخبر ولا يكتفِ بمرفوع واحد وهو الفاعل
[واضح](8/198)
هذا معنى فعل ماض جامد ناقص هذه كله صناعات نحوية والآن نعود إلى الغاية من الآية وهي منزع إيماني قال الله { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } من أراد القرب من الله فليقرأ هذه الآيات يسأل الناس أين البر أين معالي الأمور أين مدارج الجنة أين النجاة من النار أين طرائق الحق أين معالم الهدى فيجيبهم الرب تبارك وتعالى
{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ } وهذا استدراك عظيم من رب رحيم {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ } آمن بأن الله لا رب غيره ولا إله سواه في السماء عرشه وفي كل مكان رحمته وسلطانه يحكم ما يريد يقدم من يشاء بفضله و يؤخر من يشاء من يشاء بعدله لا يسأله مخلوق عن علة فعله ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله له الأسماء الحسنى و الصفات العلى أنزل الكتب بعث الرسل هو الرب وحده لا رب غيره ولا رب سواه هو الخالق وما سواه مخلوق وهو الرازق وما سواه مرزوق ثم جاء بعد ذلك ما يتبع الإيمان بالله لا يمكن أن ينفك عنه
{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } يوم لا يوم من جنسه بعده يحشر الله فيه العباد ويقوم فيه الأشهاد يظهر فيه الشهداء تنصب فيه الموازين ويكون فيه الصراط يقام فيه الحوض وفيه من الأهوال ما يشيب له الغلمان
تضع كل ذات حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد..
{(8/199)
وَالْمَلآئِكَةِ} خلق من خلق الله خلقهم الله جل وعلا من نور لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون أطّت السماء وحق لها أن تئط والله ما من موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا ً لله تعالى لو تعلمون ما أعلم لضحكتم ولا بكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصعُدات تجأرون إلى الله تبارك وتعالى أثنى الله جل وعلا عليهم ثناء عاطر كرام بررة
ثم قال جل وعلا { وَالْكِتَابِ} كتب أنزلها الله جل وعلا فيها الهدى والنور سمى الله منها التوراة والإنجيل والقرآن والزبور فيها من المواعظ والرقائق و الهداية للخلق ما لا يمكن أن يحيط به أحد .
{ وَالنَّبِيِّينَ } بشر من الخلق اصطفاهم الله جل وعلا وخصهم بخصائص تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ما منهم أحد إلا ورعى الغنم يقبرون في المكان الذي ماتوا فيه خصهم الله جل وعلا بأعظم خصيصة وهي الوحي يتنزل عليهم من السماء هو دعاة للحق ومعالم على طريق الخير رحماء بالخلق أكرمهم و أعظمهم نبينا صلوات الله وسلامه عليه سمى القرآن منهم خمسة وعشرين والإيمان بهم جملة من أعظم أحكام الدين
{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّه} كلمة على حبه أي أن يكون الإنسان صحيحا ً شحيحا ً يخشى الفقر ويرجو الغنى وهي أعظم مواطن العطاء ومن أعطى وهذه حاله كيف به إذا اغتنى.. ومن أعطى وهذه حاله كيف به إذا اغتنى ، وهذا أمر تعرفه العرب في كلامها في سنن كلامها كما ذكره في مدح هِرم بن سنان.
المقصود من هذا أن الإنسان إذا أعطى المال على حبه وقت تعلقه بالمال كيف به إذا كان المال قد تملكه وقتها يكون أعظم
{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّه ذَوِي الْقُرْبَى} يقدم من قدم الله
{ وَالْيَتَامَى }: من لا كاسب لهم, وهم من مات آباؤهم وهم لم يبلغوا الرشد بعد
{ وَالْمَسَاكِينَ } : الذين يتعرضون للناس, أو يكونوا أخفياء
{وَابْنَ السَّبِيلِ } : المنقطع الذي انقطعت به السبل.
{ وَالسَّآئِلِينَ } : والسائل لا يسأل غالبا إلا عن حاجة.
{(8/200)
وَفِي الرِّقَابِ } : وهم المكاتبون.
{ وَأَقَامَ الصَّلاةَ } :أعظم أركان الدين على الإطلاق.
{وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ }: وهي منصوبة على الاختصاص, أي وأخص الصابرين.
{ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ }: فما البأساء؟
وما الضراء؟
وما حين البأس؟
البأساء: الفقر والعوز.
والضراء: الأسقام والأمراض والبلايا.
وحين البأس: أي وقت القتال.
البأساء: الفقر والعوز.
والضراء: البلايا و الأسقام والأمراض.
وحين البأس: أي القتال, وملاقاة العدو.
وكل هذه الصفات لا يمكن أن تكون إلا في قوم صدقوا.
والصدق مع الله جل وعلا أعظم المطالب وأدل البراهين على الانضمام لجند الله الغالبين, قال الله جل وعلا: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) .
قال الله{ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا }: أي صدقت أفعالهم أقوالهم.
{ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } : والتقوى لباس عام, جامع لكل خير؛ أن تعمل بطاعة الله, على نور من الله, ترجو ثواب الله.
وأن تترك معصية الله, على نور من الله , تخشى عقاب الله.
مثل هذه الآيات لا يمكن أن تشرح لغويا, ولا منزعا بلاغيا, لأنه خلق يتمثله المسلم, ويؤمن به, عقيدة يسلك به المؤمن إلى ربه تبارك وتعالى, آداب وقيم, وصلوات وعبادات, ومعالم يرشد الله بها الأخيار من عباده الطالبين معالي الأمور وحفظها والعمل بها من أعظم الضروريات للوصول إلى أعالي الجنات.
ثم بعد أن بين الله ذلك كله, ونشأ مجتمع مدني فيه هذه المنزلة العالية من الإيمان: جاءت الأحكام الشرعية التي لابد من إيضاحها للناس, قال الله جل وعلا{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى }في اللغة يا بني:
القص: المماثلة.
القصاص هو: المماثلة, والإتباع. ( وقالت لأخته قصيه ): اتبعي أثره – كما هو ظاهر الآية قد ورد -.(8/201)
الله يقول: ( فارتدا على آثارهما قصصا ): أي يتبعون آثارا قد مضت وسلفت.
فهذا معنى المماثلة والإتباع, هذا في أصل اللغة.
يقول الله{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } : أي فُرض.
{ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى }هل صدر الآية منفك عن عجزها؟
أو أن صدر الآية متصل بعجزها؟
هذا مربط الفرس, ومعقد الأمر في فهم العلماء للآية.
[واضح]؟
فمن فهم أن صدر الآية منفك عن عجزها – عما بعدها -, بمعنى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى }شيء مستقل لم ينظر إلى ما بعدها ولا إلى غيرها, فجعل القصاص في كل قتيل؛ حتى مابين الكافر والمسلم, لأنه أخذها بالعموم, وجعل ما بعدها إنما هو تأكيد وإجراء الكلام على مجراه وفق سنن العرب.
أما جمهور العلماء: فيجعلون صدر الآية مؤسس لما بعدها, فلا يقنعون بأن نقف عند قول الله جل وعلا وننهي الحكم في قولنا:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } , فلهذا استثنوا من ذلك أمور.
والحق والعلم عند الله, أن الله قال: ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ), وقال: ( ومن قتل مظلوما ) - ولم يحدد – ( فقد جعلنا لوليه سلطانا ), فلا يستثنى إلا من استثنته السنة, ومن استثنته السنة فريقان:
من استثنته السنة فريقان:
الفريق الأول:
الكافر إذا قتله مؤمن, فلا يقتل مؤمن بماذا؟ بكافر, إذ لا يقتل ولي الله بعدوه.
لا يقتل ولي الله بعدوه.
الحالة الثانية:
الوالد مع الولد.
كلمة الوالد: تشمل الأجداد وإن علوا.
فلا يقتل والد بولده.(8/202)
إلا أن مالكاً رحمه الله استثنى من هذه واحدة والنفس تميل إلى رأيه: أن الوالد إذا أخذ ابنه, وأضجعه للذبح, فذبحه بهذه الصورة, متعمدا, ليس عن حالة غضب, ولا عن حالة تأديب, وإنما باختياره, أخذه, وأضجعه, وذبحه, فقال مالك: بأنه يقتل به, وهذا القول تميل إليه النفس, لأن الأب في مثل هذه الحالة التي يفعلها جهارا عامدا تخلى عن أبوته, لكن الجمهور: لا يقتل والد بولده.
نعود فنقول: هذا خلاف في التأسيس.
أما قول الله جل وعلا { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى } فهذا سنن العرب في كلامهم.
لا يعني ذلك أن الأنثى لا تقتل بالذكر, أو أن الذكر لا يقتل بالأنثى.
كما أنه لا يعني أن الفرد لا يقتل بالجماعة, أو أن الجماعة لا تقتل بالفرد, لأن هذا فيه استباحة للدماء, وقد رفع لعمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه: أن غلاما من أهل صنعاء قتله سبعة, فقتلهم به, وقال رضي الله تعالى عنه وأرضاه: لو تمالأ عليه أهل صنعاء كلهم لقتلتهم به.
لأنه لو قلنا إن الجماعة لا يقتلون بالفرد؛ يأتي إنسان له عدو, فيذهب إلى رفقاء له, فيتفق معهم على قتل غريمه, حتى يستحيل شرعا قتلهم جميعاً به, فتهدر الدماء وتضيع أموال الناس, لكن يقتل الجماعة بالفرد كما يقتل الفرد لو قتل جماعة من باب أولى.
قال الله { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } : وهذه العلماء يستمسكون بها على أن أخوة الإيمان لا ينزعها شيء.
{(8/203)
فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } : والمعنى: أنم الإنسان إذا تنازل عن حقه في القصاص فإن له أن يعطي الدية: فيكون الأداء من نفس صاحب الجناية بإحسان إليه, والناس في زماننا هذا سلكوا بها مسالك غير محمودة؛ وأنا وقفت على بعض أمور شرعية أو إدارية – يعني لا يحسن نشرها – لكن المبالغة في قضية الفدية أمر غير محمود شرعا, وصحفنا للأسف – هي مجرد ناقلة يعني – تعج بأخبار لا تحمد في هذا الشأن , فيقال إن فلانا يتنازلون أهل الميت إذا دفع لهم كذا مليون, عشرة أو اثنعش, أو غير ذلك وهذا أمر غير محمود, ولا أؤيد أن يسهم البعض فيه , وقد بينت هذا كثيرا في دروس لنا سلفت, لأن هذا فيه نوع من المتاجرة, لا بأس بالشيء المعقول, أو أن يطلب الإنسان القصاص الذي هو له, أما أن يأتي أقوام , أو قبلة أو أولياء دم يريدون أن يغتنون على حساب ميتهم, فهذا أمر غير محمود أبدا.
نعود فنقول قال الله جل وعلا : { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }ثم قال الله { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } شرع الله القصاص حفظا للدماء.
والناس إنما يحتكمون في ثلاثة أمور:
الفروج.
والدماء.
والأموال.
ولا ريب أن المقصود بالآية أن الإنسان إذا علم أنه إذا قَتل قُتل, خاف على نفسه, فامتنع عن القتل فحُفظ ولهذا قال الله جل وعلا أن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.(8/204)
والتاريخ العربي الأدبي والسياسي, مليء بقضية إما عفو عند القصاص, وإما بقضية من ثبتوا عند الموت, أو بقضية من طلبوا بالقصاص, منها أن رجلا في أيام معاوية رضي الله عنه, أو قبل حكم معاوية, قتل رجلا من أهل المدينة كلاهما, فلما كانت ولاية معاوية رضي الله عنه وأرضاه, كان أهل الميت, أو ورثة الميت قد بلغوا سن الرشد, فذهبوا إلى معاوية, فأقدم القاتل بين يديه, فلما سأله معاوية ليعترف, قال: يا أمير المؤمنين! أتريد أن أعترف شعرا أم نثرا؟
قال: بل شعرا
فاعترف شعرا.
فلما اعترف شعرا؛ سلمه معاوية إلى ورثة القتيل, ليقتلوه على ما جرت به عادة الناس يوم ذاك, لأن هذا أمر مفوض للسلطان, فأخذه أولياء الدم, فلما خرجوا به إلى ساحة القصاص جاءت زوجته – أي القاتل المحكوم عليه بالقتل لتودعه - وقالت له توعده أنها لن تتزوج بعده , وكان فيها لمحة من جمال, فقال: والله ما هذا وجه من تريد أن تحرم من الرجال بعدي, فالمسكينة غلبت على أمرها؛ آمنت بقوله فجدعت أنفها, فلما راءها قال: نعم الآن اطمأنت نفسي, لأن مثلها لا ينظر إليها.
ثم ذهب إلى ساحة القتال, فحضر أمير المدينة آنذاك مشهد القتل, فجيء بالسياف الذي هو من الورثة, وجاء الأمير, وفتحت الساحة التي يقتص بها,, والحرس فرفع بصره إلى السماء وقال:
أذا العرش إني عائذ بك مؤمن **** مقر بزلاتي إليك فقير.
وإني وإن قالوا أمير مسلط **** وحجاب أبواب لهن صرير
لأعلم أن الأمر أمرك إن تَدِن **** فربٌّ, وإن ترحم فأنت غفور
ثم نادى صاحبه, قال: كيف ستضربني؟
فأخبره.
قال: لا ليس هكذا, فإني ضربت أباك ضربة لم يتحرك منها وعلمه كيف يقتله, يعني أين يكون محز السيف.
قال من شهدوه: لم يتحرك منه عضو.
يعني ثابت.
ومات.
وهذه يذكرها المؤرخون كما تجدونها في العقد أو في الكامل أو في غيرهما هذا من محفوظ القديم, لكن الشاهد منها تذكر كنماذج لمن ثبتوا عند الموت.(8/205)
أما قُدِّم آخرون للموت, وكان فصيحا بليغا فإذا في كفن, وجلاد, سيف, وقبور محفورة, فارتج عليه, قال الناس: وين فصاحتك؟ أين فصاحتك؟
قال: من أين الفصاحة؟
قبر محفور, وكفن منشور, وسيف ماذا؟
قبر محفور, محفور ( بالراء ).
وكفن منشور, وسيف مشهور , وسيف مشهور, من أين تأتي الفصاحة؟!!
وهو معذور.
وقد مر معنا في دروس عدة أن جميلا – أحد وجهاء العرب وفصحائها الخارجين على المعتصم – قدمه المعتصم للموت, فأراد المعتصم أن يعلم أين جنانه من لسانه!
وإذا بالنطع والجلاد.
فقال:
يا أمير المؤمنين! قبح الذنب, وكبرت الجريرة, والظن بك أن تعفو ثم قال:
أرى الموت بين السيف والنطع كامنا **** يلاحظني من حيثما أتلفت
وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي **** وأي امرئ مما قضى الله يفلت!
يعز على الأوس بن تغلب موقف **** يسل علي السيف فيه وأسكت
وما جزعي من أن أموت وإنني **** لأعلم أن الموت شيء مؤقت
ولكن خلفي صبية قد تركتهم **** وأكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين أنعى إليهم **** وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا
فإن عشت عاشوا سالمين بغبطة **** أذود الردى عنهم, وإن متُ موتوا
فقال: المعتصم: تركتك لله, ثم لمن؟
ثم للصبية.
وعفا عنه.
أقول التاريخ العربي - والمعاصر كثيرا - مليء بأحداث مثل هذي تبين أن الرجال يتفاوتون في هذه المواقف: موقف أن يرى الموت عيانا.
وقتل الميت عيانا يسمى في اللغة: قتله صبرا.
قتله صبرا.
والنبي صلى الله عليه وسلم قتل أحد خصومه صبرا في وادي الصفراء, وهو عائد من بدر , وكان يغلظ عليه ويسبه أيام دعوته الأولى, فقتله, وينسبون أشعارا إلى أخته, تعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لصحة نسبة تلك الأشعار شيء من الضعف سندا.
الذي يعنينا كما قلت - أنا لا أستطيع أن أدخل في آية أخرى لارتباط الأحكام - لكن؛ مازلنا في دائرة القتل.
وقد مر معنا أن المقتول إذا وقعت الجريمة يتحرر منها شرعا كم حكم؟
ثلاثة.
الحالة الأولى:(8/206)
أو ثلاثة حقوق.
حق لله.
وحق – أيها المبارك – للورثة.
وحق لمن؟
للميت.
كيف نصل إلى إسقاط هذه الحقوق الثلاثة؟
حق الله يسقط بالتوبة, أو بمغفرة من الله بمشيئته, لأنه مندرج في قول الله: ( إن الله لا يغفر أن يشرك به)
وحق الورثة؛ يخيرون؛ مابين ماذا؟
القصاص.
أو الدية.
أو العفو.
الحق الثالث: حق الميت.
وهذا لا سبيل لنا إلى معرفته.
متى يكون؟
يوم القيامة.
فحتى لو قُتل القاتل عمدا, قُتل واقتُص منه, لا يسقط حق الميت, لأن الميت في قبره لم يستفد شيئا من القصاص, وإنما استفاد الورثة, وإن أخذوا دية استفاد الورثة, فيبقى هذا الحق قائما, فإذا كان يوم القيامة, يسوقه إلى ربه ويقول: ي ارب سل عبدك هذا فيم قتلني؟
فإن كان الله قد تاب على هذا القاتل, سيجد الله لا محالة مخرجا لهذا القاتل, ويُرضي من؟ المقتول. وهذا لا يمكن أن يقع إلى بين يدي الله.
الله وحده المتكفل أن يرضيك ويرضي خصمك, أما عند الناس؛ لا يمكن أن يقع شيء من هذا أبدا.
هذه أمور القتل على وجه الإجمال؛ له ثلاثة صور من حيث الأحكام:
قتل ماذا؟
- عمد.
- وقتل شبه عمد.
- وقتل خطأ.
نص الله في القرآن على اثنين:
العمد, وشبه العمد, وسيأتي بيانها في تفسير سورة النساء.
العمد والخطأ.
أنا آسف.
العمد,وماذا؟
والخطأ.
أما شبه العمد؛ لم يتعرض الله له في القرآن, فلذلك أنكره مالك, ولكن جمهور العلماء - الأئمة الثلاثة - على أنها: عمد, وشبه عمد, وخطأ.
فقالوا في العمد: قتله بآلة يغلب على الظن أنها تقتل.
وقالوا في شبه العمد: ضربه بآلة يغلب على الظن أنها لا تقتل فقتلته.
وقالوا في الخطأ: ألا يتعمد قتله أصلا.
ومن شبه العمد الذي لم ينص الله عليه في القرآن لكن ألمح الله إليه, قتل موسى لمن؟ للغلام القبطي, قال الله : (فوكزه موسى فقضى عليه ), فإن موسى تعمد ضرب القبطي, لكنه لم يتعمد قتله.
تعمد ضربه لكنه لم يتعمد قتله, فهذا يسمى قتل ماذا؟
شبه عمد, ولا يسمى خطأ.(8/207)
ينجم عن ذلك أمور, يعني ينجم عن وقع الجريمة ثلاثة أمور:
- قلنا الحقوق الثلاثة –
لكن بالنسبة للقاتل:
ينجم عن ذلك أمور, يعني ينجم عن وقع الجريمة ثلاثة أمور:
- قلنا الحقوق الثلاثة –
لكن بالنسبة للقاتل:
* ينجم عنه أولا: الإثم: وهذا أعظم الأشِياء, وقتل النفس المحرمة من أعظم الذنوب.
* وينجم عنه بعد ذلك: أنه يحرم من الميراث إن كان أصلا ممن يرث من مقتوله.
* والأمر الثالث: أنه ينفذ فيه القصاص إن طالب به ورثة القتيل, أو الدية , أو عفو عنه.
فهذه ثلاثة تتعلق بالقاتل.
أما في شبه العمد ما الذي يسقط؟
يسقط القصاص.
يسقط القصاص.
لكن يبقى الإثم, وتكون الدية مغلظة.
أما في الخطأ فلا يوجد ماذا؟
فلا يوجد إثم.
لا يوجد إثم, لكن توجد دية, من يتحملها؟
عصبة القاتل.
من يتحملها؟
عصبة القاتل. ولا يوجد إثم, لكن لابد على القاتل شيء, ما عليه؟
الكفارة.إما عتق رقبة أو صيام شهرين.
إما عتق رقبة أو صيام شهرين.
وبعض العلماء عندنا في المدينة – أنا قلت هذا مرارا – جاءه رجل قتل أحدا خطأ, يعني بسيارة, فقال: ما علي؟
قال عتق رقبة.
- والرجل لم يكن مشهورا بالصلاح, والشيخ تفرس في هذا –
قال: أنى لي أن أعتق رقبة! – يعني : ما موجود - .
قال نعم ماذا نصنع يا شيخ؟
قال: صم شهرين متتابعين.
قال: فقط.
- استغلها الشيخ –
قال: لا بزيادة.
قال: ما الزيادة؟
قال: أن تفطر في الحرم.
- هذا لم يسأل ظنها لزاما, فشهران متتابعان أين يفطر؟ في الحرم وش بيسمع في الحرم!؟ آيات, وقرآن ودروس, فتغير حاله بالكلية –
طبعا هذا الجواب يعني يقبل إذا كان الشيخ على يقين أنه ممكن أن يبين بطريقته للرجل تعديل الحال لو تبين له أنه عاجز, أو تسبب في أنه أفطر, يعني هذه أمور تربوية, يعني يُلجأ إليها أحيانا.
المقصود من هذا كله, أن الله جل وعلا حرم الدماء.(8/208)
وقول الله جل وعلا { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ } ، { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } كل ذلك من باب أن يسود في المجتمع الأمن, و تعم فيه الحياة, وأن يأنف الناس من أن يقتل بعضهم بعضا, لأن في إبقاء حياتهم نفع لهم, لأنفسهم, وطاعة لربهم.
هذا أيها المباركون ما تيسر إعداده, وأعان الله على قوله..
وفي اللقاء القادم نشرع في قول الله تعالى: ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية )
إن شاء الله تعالى
نسأل الله لنا ولكم التوفيق
ونعتذر إليكم عن التقصير
وصل الله على محمد وعلى آله
والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده, ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وعلى سائر من اقتفى أثره, واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين..
وبعد
فهذا لقاءٌ مُتجدد ضمن تأمُلاتنا في كلامِ ربُنا جل وعلا وكُنّا قد انتهينا في اللقاء السابق إلى قول اللهِ جل وعلا : ( ولكُم في القصاصِ حياةٌ يا أُولي الألباب لعلّكُم تتقون )
واليوم نزدلف إلى قولِ الرب جل شأنهُ :
( كُتب عليكُم إذا حضر أحدكُم الموتُ إن ترك خيرا الوصيةُ للوالدين و الاقربين بالمعرُوف حقاً على المُتقين * فمن بدّلهُ بعدما سمعهُ فإنما إثمهُ على الذين يُبدلونه إنّ الله سميعٌ عليم * فمن خاف من موصٍ جنفاً أو إثماً وأصلح بينهُم فلا إثم عليهِ إنّ الله غفورٌ رحيم )
هذهِ الآيات الثلاث تلونها جميعاً لارتباط أحكامها بعضِها ببعض وهذهِ الآيةٌ صدرُها ممّا أشكل على كثيرٍ من المُفسرين واختلفت فيهِ كلمة الفُقهاء ورُبما وصل إليك بعضُ علمٍ عن هذا كُلهِ .(8/209)
سنشرعُ في بيان الآية فقهياً ولُغوياً واسترشادياً من حيثُ الجُملة
اللهُ جل وعلا هُنا أوجب بقولهِ ( كُتب ) الوصية للوالدين و الاقربين والوصيةُ تعريفُها :
القولُ المُبيّن لما يُراد العملُ بهِ ، القولُ المُبيّن لما يُراد العملُ بهِ، وهي هُنا مخصوصةٌ بما بعد الموت .
فمعنى قولنا أوصى فُلان أي ذكر قولاً يُبيّن ما يُطلب من غيرهِ أن يفعلهُ بعد موتهِ هذا معنى الوصية .
والتعبير القُرآني باللفظ ( كُتب ) يدلُ على الفرض والذين طلب الله أن نوصي لهُم بنصّ القُرآن هُنا الوالدان و الاقربون .
أين الإشكال ؟
الإشكال في قول اللهِ جل وعلا أن الله جل وعلا ذكر حق الوالدين وحق الاقربين في آيات المواريث هذا الذي جاء بالإشكال لأهل العلم .
هل هذهِ الآية مُحكمة أم منسوخة ؟
سلك الشافعيُ وكثيرٌ من العُلماء المسلك التالي في فهم الآية :
قالوا أن الله جل وعلا كتب وفرض الوصية هُنا للوالدين و الأقربين بآية الوصية ، وفرض حقاً للوالدين و الاقربين بآية المواريث فنحنُ لا ندري هل نجمع لهُما ما بين الوصية والميراث أو أنّ آية الميراث ناسخة للوصية ؟
فلمّا أحتمل الأمرُ الوجهينِ عمدنا إلى مُرجحٍ ثالث خارجٍ عن الدليلين ووجدنا في سُنة نبينا صلى الله عليهِ وسلم قولهُ " لا وصية لوارث " ففهمنا أنّ آية المواريث ناسخةٌ لآية الوصية ..
هذا مسلكُ من ؟ الشافعي وكثيرٌ من أهل العلم .
لكن حررتُ معنى قول الشافعي هذا هو المسلك :(8/210)
قالوا نحنُ بين آيتين إمّا أن نجمع بينهُما فنُعطي الوالدين مثلاً : ما فرضهُ اللهُ لهُم في آية المواريث ويحقُ لنا أن نوصي لهُم بل كُتب وجب علينا أن نُوصي لهُم . أو أن ننسخ المُتقدّم بالمُتأخّر فلمّا احترنا بينهُما عمدنا إلى مُرجحٍ خارجٍ من محلِ النزاع ووجدنا في السُنة حديثاً اتفق الناسُ على نقلهِ نقلةً مُتواتراً وإنّ كان في أصلهِ حديث أحاد : أي أنهُ لا اختلاف حول متنهِ فجعلنا هذا المُرجّح وهو قولهُ صلى الله علية وسلم " لا وصية لوارث " شيئاً بيدنا حكمنا بهِ على آية الوصية أنها منسوخة .
وهذا القول اختارهُ جمعٌ من العُلماء من أشهرهِم من المُفسّرين ابنُ كثيرٍ رحمهُ الله .
قال آخرون سلكوا مسلكاً آخر :
قالوا لا نقولُ إنّ آية الوصية منسوخة ولكن نقولٌ إنّ آية الميراث مُخصّصة لآية الوصية فنأتي لمن فرض اللهُ لهُم في آية المواريث فنُخرجهُم من الوصية ونُبقي الوصية للقرابة ولمن لم تُخرجهُم آيةُ المواريث .،
وآيةُ المواريث لا يُمكنُ أن تُخرج الوالدين إلا في حالة واحدة إذا كان كلاهُما أو أحدُهُما كافراً فإذا كان كافراً أحدهُما أو كلاهُما استطعنا أن نجمع ما بين إعمال آية المواريث وإِعمال آية الوصية فجعلوها مُخصّصة آيةُ المواريث جعلوها مُخصّصة لماذا ؟
لآية الوصية .
القاسميُ رحمهُ الله صاحبُ كتاب محاسن التأويل والذي سمينا البرنامجَ عنواناً باسمهِ نقل ما ذكرهُ العُلماء كما صنع غيرهُ من المُفسرين ثُمّ كتب في كُتيبٍ عندهُ خاص أسماه الموارد والسوانح العلمية وهُو ما يطرأُ عليهِ بعد التأليف كتب رأيً آخر لم يُدونهُ في محاسن التأويل اطلع عليهِ الأُستاذ مُحمد فؤاد عبد الباقي رحمةُ اللهِ تعالى عليهِ وادخلهُ في متن التفسيرِ عندما أخرج تفسير القاسمي الذي هو [محاسنُ التأويل] للناس .
وهذا الرأيُ يقول :(8/211)
إنّ الوصية هُنا في الشيء المعهود ولا تنازُع ما بين آية المواريث وآية الوصية فليست الوصية عندهُ هُنا بمعنى أنّ الله يُلزمنا أن نكتُب لفُلانٍ كذا وفُلانٍ كذا وإنّما ( كُتب عليكُم إذا حضر أحدكُم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف )
المعنى ::
فليتقي اللهِ وليعمل بما وصى اللهُ بهِ في آية المواريث فليعمل بما أوصى اللهُ بهِ في آية في آية المواريث فيُعطي كُل ذي حقٍ حقهُ ولا يأتي بطرائق أو سُبل يحيدُ بها عن التقسيم الشرعي الذي نصّ اللهُ عليهِ في آية المواريث وقال ــ أي القاسميُ رحمهُ الله في معرضِ ما قال قال " ولا أدري إنّ كان أحدٌ قبلي ذكر هذا أو لم يذكُرهُ "
وأنا على إطلاعي لم أقف على أحدٍ قالهُ قبل القاسمي وقد يكونُ كما قال القاسميُ قالهُ غيرُهُ .
الذي يعنينا هذهِ تخريجُ العُلماء من حيثُ الجُملة
وقال آخرون وهو في رأي ظنٌ بعيدٌ جداً ::
العمل بكلتا الآيتين وأنّ كلاهُما مُحكمة فجمعوا ما بين آية المواريث وآية الوصية وهذا وإنّ اختارهُ قلّة لكنّهُ موجود وإن كُنتُ أراهُ بعيداً في الترجيح .
هذا الإجمال حول آية الوصية ..
قال اللهُ بعدها ::
( فمن بدّلهُ بعد ما سمعهُ فإنّّما إثمهُ على الذين يُبدّلونهَ إنّ الله سميعٌ عليم )ينبغي أن تعلم أيُها المُبارك أنّ المُخاطب بهذا ثلاثة ، المُخاطب بقول اللهِ جل وعلا ( فمن بدّلهُ بعد ما سمعهُ فإنّّما إثمهُ على الذين يُبدّلونهَ )
من هُم ؟
* الشُهود : فيُصبح معنى الخطاب أنّ لا يكتُموا الشهادة .
* والوصي القائم على تنفيذ الوصية ألاّ يُغيّرها ولا يُحوّر فيها .
* والثالث لا يُمكن أن يكون الموصى إليهِ لكن الثالث هُم الورثة .
فكيف يكون الخطاب للورثة ؟
بألاّ يكونُ يحُولُ بين المال وبين وصُولهِ لمن أوصى صاحبُ المال لهُ أو إليهِ .
أصبح المخاطبون بهذهِ الآية ( فمن بدّلهُ بعد ما سمعهُ فإنّّما إثمهُ على الذين يُبدّلونهَ ) قُلنا ثلاثة :(8/212)
الشهُود لا يكتموا الشهادة .
والوصي أن لا يُغير ولا يُحوّر فيها .
والثالث الورثة أن لا يمنعوا وصول ما أوصى بهِ الميّت لغيره .
أمّا قول اللهِ جل وعلا ( فمن خاف من مُوصٍ جنفاً أو إثماً فأصلح بينهُم فلا إثم عليهِ إنّ الله غفورٌ رحيم )
أولاً نقول :
الجنف : الميل والعدُول عن الاستواء ...
والفرقُ بين الجنف والإثم أنّ الجنف هو الخطأ من غير عمد ،، أمّا الإثم فهو الجورُ بعمد .
الإثمُ أيُها المُبارك الجورُ بعمد ، و الجنف الخطأ من غير ِ عمد .
قولهُ جل وعلا ( فمن خاف من مُوصٍ جنفاً أو إثماً )
ينبغي أن تعلم أن خاف هُنا بمعنى :. توقّع وغلب على ظنّهِ وعلمهِ .
تُريدُ أن تخرُج الساعة الثانية ظُهرا والسماءُ مُلبّدة بالغيوم فقرّرت أن تخرُج الساعة الواحدةَ والنصف فسألك بعضُ من يعرفُ موعدك لما بكّرت ؟ فتقول أخافُ أن تُمطر السماء . والمعنى أتوقّع أن تُمطر السماء يغلبُ على ظني أن تُمطر السماء فتُعيقني فهذا معنى قولِ اللهِ جل وعلا ( فمن خاف من مُوصٍ جنفاً أو إثماً )
يُصبحُ المعنى :..
هذا الوصي أو من كان حاضرا إذا غلب على ظنّهِ أو توقّع أنّ الميّت ــ طبعاً نقول الميت باعتبارِ ما سيكون و إلا الإنسان عندما يُوصي يوصي وهو في حالةِ رُشد وقُدرة ــ توقعّت أو غلب على ظنّك أنهُ يُريدُ أن يُضرّ بالورثة فيكون منهُ وصيةٌ بأكثر ممّا ينبغي أو أن يكوُن المالُ قليلاً لا يحتمل أن يُوصي منه فتدخّلت بكلامٍ طيبٍ هيّن ليّن تخشى فيهِ من وقوع هذا الميت في خطأٍ إمّا بعمدٍ أو بغير عمد فهذا ليس كالأولين الذين خُوطبوا بقول اللهِ جل وعلا ( فمن بدّلهُ بعد ما سمعهُ ) اختلف الوضع فالأولون يُريدون الإفساد فلذالك اللهُ حذرهُم وقال ( سميعٌ عليم ) .
وأمّا الآخر فإنّ هؤلاء يُريدون الإصلاح .
لكن ما الذي أشكل على أهل العلم ؟(8/213)
أن المُصلح يأتي التذييل على أنهُ يُثاب فلما قال جل وعلا ( فلا إثم عليهِ إنّ الله غفورٌ رحيم ) ويُمكنُ توجيهُ الاسمينِ الكريمين من أسماء الله هُنا على الأمرين :
فيُصبح أن المُوصي وهو الميّت لو أخطأ وتعمّد الخطأ فحذّرهُ أو نبّههُ من هو عندهُ فرجع عن خطأهِ فالله يقول0(فإنّ الله غفورٌ) لهُ ما كان منهُ في الأول بعودتهِ إلى الحق ، ( رحيمٌ ) بمن؟ بمن أرشدهُ ودّلهُ بان يعدل عن الخطأ والإثم [ واضح ]
فيُصبح غفور تنصرف إلى الذي أخطأ ثُمّ آب ، ورحيم تنصرف على من أرشد ودّل على الخير وبهذا فيما يبدُو لنا يستقيمُ المعنى قال الله جل وعلا ( فمن خاف من مُوصٍ جنفاً أو إثماً فأصلح بينهُم فلا إثم عليهِ إنّ الله غفورٌ رحيم )
نعود لصناعة اللغوية في الآية ::..
الله يقول : ( كُتب عليكُم إذا حضر أحدكُم الموت )
أي إنّ حضرتهُ مُقدّمات الموت و إلا الموت نفسهُ إذا حضر لا يُمكنُ لأحدٍ وقتها أن يتحدث أو يُوصي أو يقول شيئاً .
والإنسان عند الموت تغلبُ عليهِ جبلّتُهُ ويفيء إلى أصل نبتتهِ فالذي ذوي غرسٍ جيد ومعدنٍ مُحكم وأصلٍ في الناس حتى لو صاحب حياتهُ أخطاء لبعض قراباتهِ ومن حولهُ إذا دنا الموت يشعُر بالندم فيُحاول أن يُعوّض ويتراجع .
وأمّا والعياذُ باللهِ من كان سيء السريرة أصلاً خبيث النفس اللؤُمُ فيهِ مُتحكّم فإنهِ حتى لو دنا الموت لا يزيدُ الأمر إلا وبالاً هذا واحد ..
الخير في القرآن ورد كثيراًُ بمعنى المال ومنهُ قولُ اللهِ جل وعلا ( وإنهُ لحُبِ الخيرِ لشديد ) لكن هُنا ( إن ترك خيراً ) فيها إشعار لُغوي أنّ ليس كُل مالٍ يُوصى منهُ إلا ما كان يجتنبُ فيهِ أمران :
الكثرة ومردُ معرفتها عن القلّة إلى العُرف .
والأمر الثاني :
الذي يجتمعُ في المال حتى يُسمّى خيرا أن يكون مُكتسباً من وجوهٍ حسنةٍ مُباحة فالمالُ إذا كان وفيراً مُكتسباً من وجوهِ حسنة هذا الذي يتأتى فيهِ الأمرُ القُرآنيُ أن تكون فيهِ الوصية .(8/214)
وهذا الذي يُفهم من السياق اللُغوي في قول اللهِ جل وعلا ( إن ترك خيراً الوصيةُ للوالدينِ و الأقربين بالمعروف حقاً على المُتقين ) .
جاء في أثرٍ عن الإمام أحمد رحمهُ اللهُ تعالى أن أحد الصحابة جمع أكبر بنيهِ وقال لهُ ادعُ لي إخوتك فدعاهُم فقال لهُ إنّني أُريدُ أن أُوصي وأبدأُ بيتيمٍ في حجري ــ لمّا قُلنا يتيم سيكونًُ ميت الأب ــ أي ليس ابناً لهذا الموصي فأوصى لهُ بمئةٍ من الإبل والنياق كانت تُسمّى المُطيبة عند العرب فقال الأبناء وهُم يتهامسون إنّنا وإن رضينا بهذا في حياةِ أبينا فلن نقبل بهِ بعد وفاتهِ فذهب الأخُ الأكبر وأخبر أباه فقال الأبُ ــ وما أسعدهُ من جيل لأنهُم يحتكمون إلى رسول اللهِ صلى الله علية وسلم ــ قال بيني وبينكُم رسول الله فحُمل يحفُهُ أبناؤهُ ومعهُ اليتيم فلمّا أقبل على النبي صلى الله عليهِ وسلم ذكر لهُ القضية فلمّا قال مئةً غضب صلى الله عليهِ وسلم وتغير وجههُ و قال لا لا لا ثُمّ قال عشرة ، خمسة ، عشرة ، خمسة عشر يرتفع حتى أوصلها صلى اللهُ عليهِ وسلم كحدٍ أقصى إلى أربعين قال " فإن أبيت فأربعون " وهو كم أراد ؟ مئة .
وهذا من دلالة كمال عقلهِ صلى الله عليهِ وسلم لأن هذا يُفضي إلى النزاع ويُفضي إلى سوء ظنّ الأبناء بأبيهم وقد يُفهم منه أنهُ أراد الفخر والخُيلاء إذ حرم من لهُم الحق ووزّعهُ في غيرِ ؟ في غيرِ مكانهِ .
فقال صلى الله عليهِ وسلم " فإن أبيت فأربعون " ثُمّ إنّ النبي صلى اللهُ عليهِ وسلم كأنهُ أُعجب باليتيم إذ معهُ هراوة يضربُ بها الجمال فقال " ما أعظمها من هراوةٍ في يد يتيم " ..(8/215)
ثُمّ إنّ الرجُل قبل أن يُودّع النبي عليهِ الصلاةُ والسلام قال يا نبي الله إنّ لي أبناء وإنّ منهُم ذوي لحى ــ أي كبار ــ وإنّ أصغرهُم هذا ــ كان اسمهُ حنظلة طبعاً غيرُ اليتيم ــ فادعُ لهُ فوضع النبيُ صلى الله علية وسلم يدهُ على جبهتهِ وقال " بارك الله فيك " ثُمّ إنّ هذا الشاب بعد وفاة النبي صلى الله عليهِ وسلم كان يُؤتى لهُ بالرجُل الذي فيهِ ورم أو بالبهيمةِ التي في ضرعها ورم ليقرأ عليهِما أو على أحدهِما فيضعُ يدهُ ثُمّ يُسمي اللهِ ثُمّ يتفُلُ فيها ثُمّ يضعُ يدهُ على موضعِ يدِ رسول اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم من وجههِ ثُمّ يضعهُ على الورم سواءً كان في رجُلٍ أو في بهيمة فيُزالُ ذالك الورم .
وكما قُلتُ الحديث عند الإمام أحمد رحمهُ الله في المُسند ...
المقصود كُل هذا ما يتعلقُ بقول اللهِ جل وعلا في آية الوصية .....
ثُمّ قال اللهُ جل وعلا :
( يا أيُها الذين ءامنوا كُتب عليكُم الصيامُ كما كُتب على الذين من قبلكُم لعلّكُم تتقون أياماً معدودات فمن كان منكُم مريضاً أو على سفرٍ فعدّةٌ من أيامٍ أُخر وعلى الذين يطيقونهُ فديةٌ طعام مُسكين .... )
إلى آخر الآيات
قول اللهِ جل وعلا ( يا أيُها الذين ءامنوا ) هذا نداءُ كرامة مرّ معنا نظائر لهُ من قبل .
( كُتب عليكُم الصيام ) أي فُرض ، الصيامُ في اللُغة كما تعلمون الإمساك سواءٍ كان عن كلامٍ أو عن غيرهِ .
ويُقالُ صامت الريح إذا ماذا ؟ إذا ركدت وسكنت .
ويُقال صامت الخيل إذا لم تًُعلف .
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ
تحت العجاجِ وخيلٌ تعلكُ اللُجما
هذا لرؤبة ابنُ العجاج الرجسي.
الذي يعنينا هذا الصيامُ في اللُغة وهو ظاهر ..
وفي الشرع : الإمساكُ عن المُفطّرات من وقتٍ مخصوصٍ على مثلهِ .
الله يقول ( يا أيُها الذين ءامنوا كُتب عليكُم الصيام ) أي فُرض ( كما كُتب على الذين من قبلكُم لعلّكُم تتقون )(8/216)
ما وجهُ الشبة هل في الكيفية ، هل في الأيام كُلُ ذالك مُحتمل لكن لا نستطع أن نجزم بهِ..
بمعنى
أن الصيام فُرض على الذين من قبلنا لكن هل فُرض عليهِم رمضان \ هذا ظاهرُ القرآن لكن لا نجزمُ بهِ \
هل كانوا يصومون من طلوع الفجر إلى غروب الشمس \ هذا ظاهرُ القرآن لكن لا نستطيع أن نجزم بهِ \
لكنّ الذي نجزم بهِ أن الصيام عباده تعبّد اللهُ بها من قبلنا .
( أياماً معدودات ) ثُمّ قال بعدها بآية ( شهرُ رمضان الذي أُنزل فيهِ القرآن )
جمهور المُفسرين على أن ( شهر رمضان ) المذكورة المبدوءة بالمُبتدأ ( شهرُ رمضان ) هي تفصيلُ وإزالة إبهام من قولهِ ( أياماً معدودات )
وعندي أن هذا خلافُ الصحيح ...
والمعنى
ــ حتى تفهم ما يغلبُ على الظنّ أنهُ مُرادُ الله ـــ
ربُنا يقول ــ سأُلخصُها بإجمال ثُمّ أدخُل في التفصيل ــ كتبتُ عليكُم الصيام في أول الأمر أياماً معدودات إمّا أن تكون يوم عاشوراء وثلاثة من كُل شهر .
( فمن كان منكُم مريضاً ) ظاهر
( أو على سفر فعدةٌ من أيامٍ أُخر ) يقضي فيها ماذا ؟
الصيامُ أيُ صيام صيام الثلاثة أيام الآن ليس لنا علاقة بماذا ؟ ليس لنا علاقة برمضان ( فعدةٌ من أيامٍ أُخر )
( وعلى الذين يطيقونهِ ) يطيقون صيام ثلاثة أيام ( فديةٌ طعام مسكين ) بمعنى أنّهُ مُخيّر ليس ليس بواجب لكنهُ لو أفطر يعدلُ على ماذا إلى الفدية .
( فمن تطوّع خيراً فهو خيرٌ له )
إمّا أن تكون زاد في الفدية أو جمع ما بين التطوع ما بين الصيام والفدية .
( وأن تصُوموا خيراً لكُم )
والمعنى :.
أنكُم إذا كُنتُم تقدرون على الفدية وتقدرون على الصيام فالصيام في حقكُم أولى . ( إنّ كُنتُم تعلمون )(8/217)
ثُمّ أرتفع الأمر و ارتقى إلى تكليفٍ أكبر فُنُسخت ماذا ؟ الثلاثةُ الأيام وحلّ بدلاً منها ماذا ؟ شهرُ رمضان فليس شهر رمضان هو الأيام المعدودات ويصعُبُ عندي في لُغة العرب أن يُقال لشهرٍ لا ينقُصُ عن تسعٍ وعشرين يوماً أنها أيامٌ معدودات وقولُ بعضِ الوعّاظ أحياناً بهذا قال بهِ جمهورُ المُفسرين لكنّني لا أستحسنُهُ .
نعود
يقولُ الله ( شهرُ رمضان الذي أُنزل فيهِ القرآن ) سأعود لهذهِ ( هُدىً لناس وبيّنات من الهُدى والفُرقان فمن شهد منكُم الشهر ) حضرهُ ( فليصُمهُ ) فليصُم الشهر الآن هذا الذي أوجب صيام صيام رمضان وليس قولهِ جل وعلا ( وعلى الذين يطيقونهُ ) لأن الأُولى تتكلم عن الثلاثة الأيام لا تتكلم عن شهرِ رمضان .
( فمن شهد منكُم الشهر فليصُمهُ ومن كان مريضاً أو على سفرٍ فعدةٌ من أيامٍ أُخر )
أي حضر الصيام أهلّ رمضان وهو في سفرٍ أو مريضاً ( فعدّةٌ من أيامٍ أُخر ) وبهذا يُفهم أن التكرار هُنا يتكلم عن كم قضية ؟
قضيتين لكنّنا لو جعلنا شهر رمضان بدلاً من أيامٍ معدودات يُصبح كم تكرّرت ( فمن كان منكُم مريضا ) مرتين [ واضح ] يُصبح تكررت مرتين وهذا يُنزّه كلامُ اللهِ عنه لكنّ الأُولى في قول اللهِ جل وعلا : ( فمن كان منكُم مريضا أو على سفر ) يتكلم عن الثلاثة الأيام . أمّا قولُ ربنا في الثانية ( فمن كان منكُم مريضا أو على سفر فعدةٌ من أيامٍ ُخر ) يتكلم عن ماذا ؟ يتكلم عن شهر رمضان لأنّ الآية عندنا في الأول منسوخة .
ثُمّ قال جل وعلا ( يُريدُ اللهُ بكُمُ اليُسر ) طبعاً معنى العبارة ( فعدةٌ من أيامٍ أُخر ) مُقدّر قبلها ( ومن كان مريضاً أو على سفرٍ ) فأفطر ( فعدةٌ من أيامٍ أُخر يُريدُ اللهُ بكُمَ ولا يُريدُ بكُم العُسر )
وتلحظُ هُنا أنهُ لا ذكر لقضية التخيير ولا ذكر لقولهِ جل وعلا ( وأن تصُوموا ) ولا ذكر للفدية لأنهُ لا يُوجد إلا صيامٌ وقضاء .
.
((8/218)
يُريدُ اللهُ بكُمَ ولا يُريدُ بكُم العُسر ولتُكملوا العُدة ولتُكبرُوا الله على ما هداكُم ولعلّكُم تشكرون )
كُلها لتعليل ..
لتُكملوا العدة تعليل لحرصهِ جل وعلا على مُراعاة العدة لقولهِ ( فعدةٌ من أيامٍ أُخر )
وقولهِ تبارك وتعالى ( ولتُكبرُوا الله على ما هداكُم ) هذا عند إكمال العدة .
و( لعلّكُم تشكرون ) على ما أباحهُ لكُم من الفطرِ حال السفر أو حال المرض .
وبهذا في ظنّنا تستقيمُ الآيات ويُمكن تجنُّب لماذا كُررت ( من كان مريضاً أو على سفرٍ ) ،
وقُلنا هذا خلافُ ما عليهِ جمهورُ أهل التفسير وجمهور أهل التفسير على أنّ شهر رمضان هو نفسهُ المقصُود بأيامٍ معدودات ، ويقولون بعضُ الآيةِ منسوخ وبعضُها غير منسوخ كما هو محررٌ في كُتب الفُقهاء .
هذا الإطلال العام للآية .:.
أمّا الإطلال الخاص فإنّنا نقول :
قال اللهُ جل وعلا : ( شهر رمضان الذي أُنزل فيهِ القُرانُ )
اختلف العُلماء ما المقصُود بـ ( بُنزل فيهِ القُرآن ) على قولين :
القول الأول ..
إنّ القُرآن أُنزل كاملاً من السماء إلى بيت العزة في السماء الدُنيا في شهر رمضان وهذا قولٌ لابن عباس رضي اللهُ تعالى عنه .
والآخرون وهو الذي أُرجّحهُ ..
أنّ المقصُود ابتداء نزول القُرآن على نبينا صلى الله عليهِ وسلم كان في أين ؟ في شهر رمضان وقد جاءت آثار تدلُ على أن كُتُب الأنبياء عليهِم الصلاةُ والسلام كالتوراة والإنجيل والزبُور كُلها أُنزلت أين ؟ في شهرِ رمضان هذا أولاً .
جاء تكرار في الآية قولُ اللهِ جل وعلا ( شهرُ رمضان الذي أُنزلِ فيهِ القُران هُدىً لناسِ ) ثُمّ قال ( وبيّناتٍ من الهُدى والفُرقان )
والجوابُ عن هذا التكرار أن يُقال :
إنّ الهُدى الأول هو الهُدى الذائع العام الذي يكاد يعرفهُ كُلُ أحدٍ في القُرآن ولهذا قال ( هُدىً لناس )
وأمّا الهُدى الثاني فهي غوامضُ القُرآن التي لا تُدرك إلا بالاستنباط والتي لا يعرفُها إلا العُلماء .
[واضح ](8/219)
قال جل وعلا
( هُدىً لناسِ وبيّناتٍ من الهُدى والفُرقان فمن شهد منكُم الشهر فليصُمه ومن كان مريضاً أو على سفرٍ فعدةٌ من أيامٍ أُخر يُريدُ اللهُ بكُمَ ولا يُريدُ بكُم العُسر ولتُكملوا العُدة )
من قول اللهِ جل وعلا و اضرابها في القُرآن (يُريدُ اللهُ بكُمَ ولا يُريدُ بكُم العُسر) أخذ العُلماء القاعدة التي تقول إنّ المشقة تجلب التيسير .
قد أُسّس الفقهُ على رفع الضرر
وأنّ ما يشقُ يجلبُ الوطر
الوطر بمعنى السعة والتخفيف هذا ما استنبطهُ العُلماء من قول اللهِ (يُريدُ اللهُ بكُمَ ولا يُريدُ بكُم العُسر) .
كذالك يُمكن القولُ في هذهِ الآيات المُباركات جُملة :.
قال الإمامُ الذهبيُ رحمهُ الله عبارة جلية يحسنُ أن يستشهد بها الخُطباءُ إذا خطبوا عن رمضان قال رحمهُ الله " وعند المؤمنين مُقّرر أن من أفطر من يوماً رمضان من غير عُذر فهو شرٌ من الزاني ومُدمن الخمر ويظنُون بهِ الزندقة والانحلال "
وهذهِ العبارةُ عندي ــ عندي أنا ــ عندما قرأتُها لذهبي من أفضلِ ما قرأتُ للعُلماء في الاستنباط من أحكام الشرع وتقنينهِ بلُغةٍ فقهيةٍ وعظيةٍ راقية .
" وعند المؤمنين مُقّرر أن من أفطر من يوماً رمضان من غير عُذر فهو شرٌ من الزاني ومُدمن الخمر ويظنُون بهِ الزندقة والانحلال "
عياذاً باللهِ من هذا كُلهِ .
ثُمّ قال العليُ الكبير :
( وإذا سألك عبادي عني فإني قريبُ أُجيبُ دعوة الداعِ إذا دعان فليستجيبوا لي وليُؤمنوا بي لعلّهُم يرشدون )
اللهُ تبارك وتعالى قريبٌ في علوهِ عليٌ في دنوهِ وهذهِ العبارة قالها شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمهُ الله وهي من أجملِ اما نُقل عنه عند الكلامِ عن باب الأسماء والصفات {أنّ الله جل وعلا قريبٌ في علوهِ عليٌ في دنوهِ } فما ذكرهُ جل وعلا من علوهِ وفوقيتهِ لا يتنافى مع ما ذكرهُ جل وعلا من قُربهِ ومعيتهِ .(8/220)
الصحابة رضي اللهُ عنهُم فيما ورد في سبب نزول هذهِ الآية أنهُم قالوا يا نبي الله " أقريبٌ ربُنا فنُناجيهِ أم بعيدٌ فنُناديهِ " فأنزل الله جل وعلا قولهُ ( وإذا سألك عبادي عني ) فأضافهُم إليهِ إضافة تشريف . ولم يقُل فقُل لهٌُم وإنّما أُختُصرت الطرائق اللفظية لتُبين لك اختصار الطرائق المعنوية .
قال اللهُ جل وعلا ( فإني قريب ) ولم يأتي في القُرآن جواباً لسؤال هكذا إلا في هذا الموضع (فإني قريبُ أُجيبُ دعوة الداعِ إذا دعان فليستجيبوا لي وليُؤمنوا بي لعلّهُم يرشدون )
لابُد من تحرير وجه الخلاف في المعنى ما بين الاستجابة والإيمان ؟
أولاً هُما مُتلازمان لا استجابة إلا بإيمان والإيمانُ يدلُ على الاستجابة .
لكن من حيث التحرير اللفظي : الاستجابة تتعلّق بالجوارح والإيمان يتعلّق بالقُلُوب .
( لعلّهُم يرشدون )
لا ريب أن الاستجابة لأمر اللهِ مع الإيمان بهِ جل وعلا ودُعاءهِ هو مُنتهى الرُشد فلا حُصُول إلى الرُشدِ الحق إلا بالإيمان بهِ جل وعلا واستجابة الجوارح لأوامرهِ ونواهيهِ مع دُعاءهِ تبارك وتعالى ، والآيةُ ظاهرةُ المعنى في فضل الدُعاء والثناء على الرب تبارك وتعالى وهذا قد بسطنا القول عنهُ كثيراً في أكثر من موضع .
قال الله جل وعلا بعدها في ختام آيات الصيام :
( أُحلّ لكُم ليلة الصيامِ الرفثُ إلى نساءكُم هُنّ لباسٌ لكُم وأنتُم لباسٌ لهُنّ علم اللهُ أنكُم كُنتُم تختانُون أنفُسكُم فتاب عليكُم وعفا عنكُم )
( أُحل لكُم )
فيهِ إشعار على أنهُ كان مُحرماً
جُمهورُ المُفسّرين قالوا :
كان الإنسانُ من كان المُسلمُ آنذاك في عهد الصحابة يحقُ لهُ إذا أفطر أن يأكُل ويشرب ويُجامع إلى أن ينام فإذا نام ثُمّ أستيقظ لا يحقُ لهُ بعد ذالك أن يأتي أهله ، هذا كان المشهور عندهُم وخالف بعضُ العُلماء في هذا لكنّ لا شك أن قول الله جل وعلا ( أُحل لكُم ) دلالة على أنهُ كان مُحرماً .
( الرفثُ إلى نسائكُم )(8/221)
الرفث في الأصل ما قبُحَ من القول وفحُش وهو هُنا مُقدّمات الجماع .
( هُنّ لباسٌ لكُم وأنتُم لباسٌ لهُنّ )
هُنا العُلماء يقولون لطيفة حسية أو لغوية ــ طبعاً ــ ( هُنّ لباسٌ لكُم وأنتُم لباسٌ لهُنّ ) يُفهم منهُ الالتصاق والقُرب و الالتصاق والقُرب يصعُبُ معهُ البُعد .
فما معنى الآية ؟
معنى الآية إذا كان حالكُم مع أزواجِكُم حال مُخالطة والتباس والتقاءُ بشرة لبشرة فمن الصعب أن تصبرُوا عنهُم فرحمةً بكُم أحللنا بكُم أن تأتوُهُم ليلاً في رمضان [ واضح]
فيُصبح هذهِ الآية جاءت مُذيّلهِ لقول الهِ جل وعلا ( أُحلّ لكُم ليلة الصيامِ الرفثُ إلى نساءكُم هُنّ لباسٌ لكُم وأنتُم لباسٌ لهُنّ علم اللهُ أنكُم كُنتُم تختانُون أنفُسكُم )
أي يحصًُل منكُم رغبة في الوصول إلى الزوجات ورُبما وقع بكُم وصولٌ إلى الزوجةِ فيكون قد خالف الأمر الشرعي والخيانة الاختيان هُنا ( تختانون ) مأخُوذٌ من الخيانة كما أنّ الاكتساب مأخُوذٌ من الكسب .
نقول نستطرد قليلاً :
يُقال خان الرجُل الرجُل إذا ماذا ؟ غدر بهِ ، خان الرجُل الرجُل إذا غدر بهِ
خان الرجُل العهد إذا نقضه .
خانني الدهر إذا تغيّر حلهُ من خيرٍ إلى شر .
خان السيفُ إذا ـ إذا لم يقطع يُسمّى هي غير خيانة لفظة أُخرى لسيف ــ خان السيفُ إذا نبا .
ما معنى نبا السيف ؟ أي لم يقطع .
يقول حافظ :
السيفُ نبأ " بمعنى لم يقطع "
ويقولون لكُل صديقٍ جفوة ـ هذي مرت معنا ــ ولكُل عالمٍ هفوة ولكُل سيفٍ نبوه فيقولون خان السيفُ إذا لم يقطع وقُلنا خان الرجُل الرجُل إذا غدر بهِ ، وخان العهد إذا نقضهُ ، وخانني الدهرُ إذا تغيّر من خيرٍ إلى شر .(8/222)
كُلُ شيءٍ أمّلت فيهِ فلم يُسعفك وقت ما أمّلت فيهِ من حيثُ الجُملة يُسمّى خيانة خانتني رجلاي فلم أمشي عليها إمّا لخوف أو لفزع والأصلُ أنك تمشي عليها وكان شوقي رحمهُ الله مُحباً لمُصطفى كامل زعيم مصري سياسي وبينهُما علاقة وطيدة ولكنّ شوقي كان يمنعهُ من برهِ شعراً لصديقهِ أنّ صديقهُ خارج على حُكومتهِ مؤسّس لحزبٍ مُعارضٍ للقصر ، وشوقي أين نشأ ؟
نشأ في قصر ولقد ولدتُ باب إسماعيل في بيت الخديوي فلّما مات مُصطفى كامل وقّع شوقي أنهُ سيُرثيهِ بمرثيةٍِ قلّ سماعُها لما بينهُما من صُحبة ولأنهُ ينتظر هذا اليوم ولأن أصحاب القصر لن يُعنفوُا شوقي على رثاء مُصطفى كامل لأن مُصطفى كامل قد أُمن شرهُ بماذا ؟ بموتهِ فعندما أراد شوقي أن يٌرثيهُ لم يرقى بمرثيتهِ إلى ما يُريد :
وأنا الذي ــ يقول في المرثية المرثية يقول مطلعُها ــ
المشرقانِ عليك ينتحبان
قاصيهُما في مأتمٍ والداني
إلى أن قال :
وأنا الذي أُرثي الشموس إذا هوت
فتعودُ سيرتُها إلى الدورانِ
ماذا دهاني يوم متْ فعقّني
فيك القريضُ خانني إمكانِ
هذا موضع الشاهد : وخانني إمكانِ ، قُلنا الخيانة الشيء الذي تُؤمّل فيهِ قلا يقع
ماذا دهاني يوم متْ فعقّني
فيك القريضُ خانني إمكانِ
فإذا ضعُف إيمانُ العبد وهذهِ تأمّلها في الناس تجدها ظاهرة وشعر بالنقص في أي مكانٍ ترّقب الناسُ فيهِ كمالاً ثُمّ وقع منهُ نقصاً أو كمالاً أو هفوة أو جموح أو عدم وصولٍ على مقصود تظطربُ نفسُهُ فإذا إظطربت نفسهُ جمحت إمّا لسيء الأفعال أو لسيء الأقوال فإنّ كان تقياً ألجمتهُ التقوى أن لا يخرُج منه ما ليس محموداً ولهذا قال النبي علية الصلاةُ والسلام في المُنافق " إذا خاصم فجر " لأنهُ يشعرُ بالغلبة فتأتيهِ نفسهُ أن ينتصر ولا يُوجد لجامٌ من التقوى ماذا يحصُل ؟ يحصُل فجُوره في الخصومة .(8/223)
فشوقي رحمهُ الله وعفا عنه عندما قال هذهِ القصيدة وخانهُ إمكانهُ وعقّهُ قريضُهُ ولم يستطع أن يقُل شيئاً يرقى إلى مراثيهِ في غير مُصطفى كامل جنح إلى الآثام فقال :
لو كان في الذكر الحكيم بقيةٌ
لم تأتي بعدُ رُثيت في القُرآنِ
مصرُ الأسيف تُريفُها وصيدُها
قبرٌ أضرٌ على عظامك حانِ
أقسمتُ أنك في التُرابِ
طهارةٌ ملكٌ يهابُ سؤالهُ الملكانِ
وهذا فحشٌ من القول كُفر لكنّ حللّهُ نفسياً ما الذي دفع شوقي إليهِ وقوعهُ فأبى عليهِ كبرهُ الشعري إلا أن يظهر فقُلت لا لجام التقوى حقيقي يمنعهُ فأطلق لنفسهِ العنان وهذا قابلاٌ لأن يأتينا جميعاً ولذالك لا لجام مثل لجام التقوى .
وعُمر رضي اللهُ تعالى عنه لمّا مرّ على تلك المرأة سمعها تقول :
تطاول هذا الليل واسودّ جانبُهُ
وأرقني ألا حبيب أُولاعبُهُ
فواللهِ لولا الله لا شيء غيرهُ
لحُرّك من هذا السريرُ جوانبهُ
مخافةُ ربي والحياءُ يكُفّني
وإكرامُ بعلي أن تُنال مراكبُهُ
على ما في هذهِ الأبيات من أُمورٍ غير مقبولة لكن قولها : مخافةُ ربي
قال عُمر رضي اللهُ تعالى عنه " نعم اللجام لجام التقوى " فأنت عندما تُريدُ أن تُنشأ أحداً تحتَ عينيك ابنك أو طالبك فإنك لن تُسقيهُ شيئاً أعظم من لجام التقوى ، أمّا المعلومات والمعارف سيصلُ غليها ذات يوم بقرأتهِ لكنّ أنت أعطهِ المنهج العام والطرائق التي يصلُ بها إلى مقصودةِ ثُمّ عظّم اللهِ جل وعلا في قلبهِ وليكُن خطابُك الدعوي والعلمي مبنياً على أن تُعظّم الله جل وعلا في القلوب أمّا المعلومات أو المعارف أو نثر الأحكام أو رفعُ الصوت في نبرة الوعظ هذا كُلهُ لا يُقّدّمُ ولا يُؤخّر إنّ كان الذي تُخاطبهُ محرُوماً من معرفة اللهِ جل وعلا إذّ أن القضيةً عندهُ ليست قضية علم وإنّما قضية أن لا لجام من التقوى يمنعهُ من أن يصل إلى المعاصي .
قال الله جل وعلا : ــ نعود للآيات ابتعدنا كثيراً ــ
((8/224)
علم اللهُ أنكُم كُنتُم تختانُون أنفُسكُم فتاب عليكُم وعفا عنكُم فالآن باشرُهُنّ ) قُلنا المُباشرة : إلصاقُ البشرة بالبشرة
( وابتغوا ما كتب اللهُ لكُم ) آية عامة لكنّ أول ما تنصرف إليهِ الولد ( وكُلوا واشربوا حتى يتبيّن لكُم الخيطُ الأبيضُ من الأسود من الفجر ثُم أتمّوا الصيامَ على الليل ) وهذهِ ظاهرة وإنّ كانت أشكلت على بعضِ الصحابة لكن مأخوذة حتى يتبين الفجرُ الصادق من الفجر الكاذب .
ثُمّ قال الله : ( ولا تُباشرُهُنّ وأنتُم عاكفُون في المساجد )
الإسلام يرقى بأتباعه في قاعدة يا بُني تحتمل الجميع لكنّ القواعد كُلّما علت لا تحتملُ إلا ماذا ؟ أجيبوا
أُعيد
القاعدة العامة تحتمل الجميع لكنّ المنازل كُلّما علت لا تحتملُ إلا القليل حتى يُصبح لا تحتملُ إلا واحد .
فالصيام منزلة جبرية بمعنى أنهُ فرض علينا جميعاً ليست جبرية على المذهب العقدي لكن علينا جميعاً و أنت وأنت صائم لك أن تأتي أهلك ليلاً لكنّ المُعتكف ليس لهُ أن يأتي أهلهُ ليلاً منزلة أشّق ولذالك هي منزلة أضيق .
(ولا تُباشرُهُنّ) وقبل قليل ( فالآن باشرُهُنّ ) لكنّ الآن قال (ولا تُباشرُهُنّ وأنتُم عاكفُون في المساجد ) معلومٌ لديكُم أنّ ليس كُلُ الناس عاكفين في المساجد ( ولا تُباشرُهُنّ وأنتُم عاكفُون في المساجد ) ظاهرُ القُرآن على أنّ أي مسجدٍ يُعتكف فيهِ .
والاعتكاف ــ يعني من باب الناحية الفقهية ــ يقع على ثلاث أوجهُ :
يقع سُنّة .
ويقع مندُوباً .
ويقعُ واجباً .
فمتى يقعُ سُنةً ؟
في العشر الأواخر من رمضان .
ويقعُ مندوباً في كُلِ وقت إلا العيدين لأنهُ لا صيام في العيدين .
ويقعُ واجباً إذا ــ شاركوا ..
إذا نذر إذا ألزم نفسهُ ونذر .
( تلك حُدودُ اللهِ فلا تقربُها كذالك يُبينُ اللهُ آياتهِ لناس لعلّهُم يتقون )
الحمدُ للهِ الذي بيّن لنا آياتهِ فنسألُ اللهَ كما بيّن لنا آياتهِ أن يرزُقنا التقوى والعمل بها
.........(8/225)
هذا ما تيسّر إيرادُهُ وتهيأ إعدادُهُ واللهُ المستعان وعليهِ البلاغ وصلى اللهُ على مُحمدٍ وعلى آلهِ والحمدُ للهِ رب العالمين .........[/
بسم الله الرحمن الرحيم
أن الحمد لله نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرُهُ ونعوذُ بالله من شرور أنفُسنا وسيئات أعمالنا من يهدهِ اللهُ فلا مُضل لهُ ومن يُضلل فلن تجد لهُ ولياً مُرشدا ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له ، وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمداً عبدهُ ورسولهَ صلى الله عليهِ وعلى آلهِ وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثرهُ وأتبع منهجهُ بإحسانٍ على يوم الدين ..
.....أما بعد .....
فكُنّا قد انتهينا في لقاءٍ ماضِ إلى آيات الصيام ونزدلفُ اليوم إلى قول الله جل وعلا :
( ولا تأكلُوا أموالكُم بينكُم بالباطل وتدلُوا بها إلى الحكّام لتأكلوا فريقاً من أموال الناسِ بالإثمِ وأتُم تعلمون )
معلومٌ أنّ الإنسان إذا أجرينا الأمور على حقيقتها لهُ أن يأكُل من مال نفسهِ لكنّ قول ربنا جل وعلا (ولا تأكلُوا أموالكُم ) هذا ممّا يُسمّى من إقامة الأخِ مقام النفس أقام اللهُ الأخ مقام النفس وفي هذا إشارة أن المُجتمع المُسلم مُجتمعٌ يختلفُ كثيراً عن غيرهِ من المُجتمعات ذالك أن الإسلام يُربي أتباعهُ على أن يكونُوا كالجسدِ الواحد وقد تظافرت نُصُوص القُرآن والسُنة على هذا .
(ولا تأكلُوا أموالكُم )
أي على وجهٍ مُحرّم وهذا لهُ من الناحية الفقهية صورتان لهُ صُورتان :
الصورة الأُولى :
الناتجة عن الظُلم كالسرقة والنهب والغصب والاختلاس فهذهِ صُور تحملُ معنى القوة ، تحملُ معنى الظُلم في الوصُولِ إلى أموال الناس .
والصُورةُ الأُخرى :(8/226)
لا تحملُ معنى الظُلم ولا التسلُط لكنّها في نفس الوقت يكوُن المالُ المُكتسبُ من خلالها حراما مثل صورة بيع الخمر ، لعب القمار وأمثال ذالك من الطرائق التي لا تحتملُ معنى القوة والتسلُط لكنّها تحتملُ معنى الطرائق المُحرّمه التي ولو تمّت بالاتفاق كأخذِ أموالِ الناس ربا فهذا ولو تمّ باتفاقٍ وتراضٍ إلا أنهُ طريقٌ مُحرمٌ في كسب المال .
ثُمّ قال الربُ :( ولا تأكلُوا أموالكُم بينكُم بالباطل وتدلُوا بها إلى الحُكّام )
وهذهِ الأموال التي إذا قُدّر أن جمعتُمُوها بالباطل تكونُ أشد إثماً وأعظم جُرما إذا كُنتُم تتوصلون بها إلى ميل الحُكّام وجورهِم لأجلكُم والحُكّام يدخُلُ فيها الحاكمُ أولاً ومن يُنيبهُم من القُضاة ، والذين لهُم حقُ الفصل بين الناس وجعل الله بيدهِم أمراً أو نهياً أو نواصي خلق .
( وتدلُوا بها إلى الحُكّام لتأكلوا فريقاً من أموال الناسِ بالإثمِ )
فالمالُ الذي نتشفّعُ بهِ ونتوسّلُ بهِ إلى استجداء الحاكم أن يكون معاً ضد غيرنا ينجُم عنهُ أن الحاكم سيُمارؤنا ويميلُ إلينا لو رُفعت إليهِ الخصُومةُ نحنُ أحدُ طرفيها وهذا كُلهُ بسبب ما قدّمناهُ لهُ من أموال تُسمّى في عُرف الشرعِ برشوة وألبساه اليوم لباس الهدايا وغير ذالك من التذكار وأشباههِ فيكونُ الوصول إلى ما يُريد عن طريق إقامة علاقات مالية غيرُ جائزةٍ شرعاً يُرادُ بها أن يُغضّ الطرف وقدّ جرت سُنةُ اللهِ في خلقهِ في عامة الناس إلا من أُلجم بالتقوى أنك من أطعمت فمهُ غضّت عنك عينُهُ ، أنّ من أطعمت فمهُ غضّت عنك عينهُ وذالك الأحرارُ من الرجال يأنفُون أن يكونَ لأحدٍ عليهِم منّة حتى لا تدفعهُم تلك المنّة أن يغُضُوا طرفاً عمّا لا يليق .
قال البارُودي : ــ وهو يُعتبرُ عند أهل البلد مُجدداً لشعر العربي بعد كبوتهِ ــ يقول :
خُلقتُ علوفاً لا أرى لابن حُرةٍ
علي يداً أُغضي لها حين يغضبُ(8/227)
والمقصُودُ من الآيات أنّ الله حل وعلا يُريدُ من المُجتمعِ هذا أن يكونَ الحقُ هو السائد فيهِ والمُهيمن عليهِ وأنّ الناس لا يأكُل قويهُم ضعيفهُم وهذا من طرائقِ أنّ يكون الحقُ هو السائد ألاّ يكون للحُكامِ ومن يُنيبُنهُم طريق إلى الغير وهذا الطريقُ إلى الغير يكونُ بعدم إعطائهِم ما يُستدرجُون بهِ حتى يكونوُن في صفّنا على غيرنا هذا مُرادُ اللهِ جل وعلا من الآية وقد جاءت بعد آيات الصيام التي نهت عن شهوتي الفرج والبطن .
ولمّا كان حُبُ المال مُتأصلاً في الناس قال اللهُ ( إنهُ لحُبِ الخير لشديد ) حرّم اللهُ جل وعلا الباطل في كسبهِ واستخدامهُ فيما هو أشنعُ منه في الوصُول إلى رضا الحُكّام الذي يُنجمُ عنهُ أن تُأكل أموالُ الناسِ بالباطل ، ٌقال الله (لتأكلوا فريقاً من أموال الناسِ بالإثمِ وأتُم تعلمون )
ثُمّ قال ربُنا وهو أصدقُ القائلين :
( يسألونك عن الأهلّة )
جاء الجوابُ القُرآني ( قُل هي مواقيتُ لناسِ والحج )
ثمّةَ يا أُخي في أسلُوب العرب من كلامنا أسلوب يُسمّى أسلوب الحكيم وأسلوب الحكيم يُمكنُ إجمالهُ في جُملةٍ واحدة هوتلقي السائل بخلاف الذي يطلبُهُ فأنت تُجيبهُ جواباً غير مُتوقعٍ من لدُنه لكنّ هذا الجواب أشدُ فائدة لهُ .
منهُ أنّ جماعة جاءوا لنبي صلى الله علية وسلم قيل بعضُ الصحابة وقيل أنهُم بعضُ اليهود ولا يعنينا ــ لا يتعلقُ عليها كبيرُ علمٍ أو كبيرُ خلاف ــ سألهُ عن الهلال لماذا يبدو دقيق ثُمّ يكتمل ثُمّ يعُودُ كما كان .
فاللهُ يُجيبهُم أن ليست السؤال لا ينصرف أصلاً ما السبب في كونها هكذا يبدو لكن ما الغايةُ من كونهِ على هذهِ الحالة فنقلهُم الله من السببية إلى الغائية هنا ليست اللغو وإنما الغاية نقلهُم الله إلى الغاية .
فبيّن الله ( يسألونك عن الأهلّة قُل هي مواقيتُ لناسِ والحج )(8/228)
وذكرُ الحج بعد قولهِ مواقيت لناس ذكرُ خاص بعد عام فالحجُ يدخلُ في قول اللهِ جل وعلا (مواقيتُ لناسِ )
ومواقيت : جمعُ ميقات كما أنّ مواعيد جمعُ ميعاد والميعادُ بمعنى الوعد والمواقيتُ بمعنى الوقت .
(هي مواقيتُ لناسِ )
الزكاة تُعرف بالأهلة إذا حال الحول ، العدد لنساء تُعرف بالأهلّة ، ما يكونُ بين الناس من إيجار يكونُوا عن طريق الأهلّة جميعُ مصالح الشرع مُعلّقة بالأهلّة وقد مرّ معنا أنّ المصالح الدُنيوية المحضة هذي مُعلّقة بالشمس وأمّا المصالح الشرعية مُعلّقة بالهلال .
والشمس والقمر كلاهُما آيتان من آيات اللهِ يُقالُ إذا ثُنيا القمران .
لماذا أفرد اللهُ الحج ؟
العرب جرت عادتُها في الشيء الذي تملكُهُ وتعرفهُ من قبل أن تُقدّم وتُؤخّر فيهِ .
فالزكاةُ والصلاة لم يكُن للعربِ عهدٌ بها فلهذا لا تملكُ تغييرها أمّا الحج فكانت العربُ تعرفُهُ قبل ماذا ؟ قبل الإسلام كما كانت تعرف الأشهُر الحُر م قبل الإسلام وقد أدخلُ التقديم والتأخير والزيادة و النُقصان في الأشهُر الحُرم ولذالك قال الله ( إنّما النسيء زيادةٌ في الكُفر ) فحتى لا يحصل إلى أشهُر الحج ما وصل إلى الأشهُر الحُرم قال اللهُ جل وعلا أفرد الحج لوحدهِ فقال ( يسألونك عن الأهلّة قُل هي مواقيتُ لناسِ والحج ) وكنوعٍ من التوطئة والتمهيد لماذا ؟ لما يأتي بعدها .
ثُمّ قال ربُنا:
( وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البر من أتقى وأتوا البيوت من أبوابها )
أي ُ شيء تطلبُهُ أيُها المُبارك على غير وجههِ هذا من إتيان البيوت من ؟ من ظهورها فإذا طلبتهُ من وجههِ هذا من إتيان البيوت من أبوابها .
فماذا يقولُ ربُنا :.(8/229)
يقول : ( وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها) هذا النبي الخاتم صلى الله علية وسلم ما يتعلّقُ بمصالح الدين والآخرة هي ما يُسألُ عنه أمّا ما يتعلق بمصالح الدين والآخرة فأصلاً هو لم يُبعثُ من أجلهِ فالمسألةُ إمّا بّر أو شأنٌٌ دُنيويٌ محض فالشأن الدُنيوي المحض ليس لكُم أن تسألوا النبي صلى الله علية وسلم عنه لأنهُ لم يُبعث لهذا فكونُ الهلال يبدأُ صغيراً ثُمّ يكبُر ثُمّ يعودُ كما كان هذهِ مسالةٌ نُسمّيها الآن المُعاصرون أقرب إلى المسائل الفيزيائية المُتعلّقة بالفلك فهذا شأنٌ دنيويٌ محض وأنتُم أيُها الأخيار من أصحاب مُحمد مُنزّهون أن تسألون نبيكُم عن مثل هذا فلم يبق إلا الشأن الديني الذي تجمعهُ كلمةُ برّ وكلمة البّر الاسمُ الجامع لجميع صفات الخير هُناك طرائق تسألون بها نبيكُم عنها ولهذا نهاهُم أن يأتوا البيوت من ظهورها أي يسألوه من غير الوجه اللائق وإنّما كُلُ الحصول إلى الأشياء يكونُ باتخاذ الأسباب الموصلة إليها فقال الله ( وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البر من أتقى وأتوا البيوت من أبوابها ) .
لكنّ القُرآن دائماً يجعلُ من التقوى في طيّات الأوامر الشرعية كُلها لأن هي المقصُود الأسمى من العبادة
( وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البر من أتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلّكُم تُفلحون )
ثُمّ قال :
( وقاتلوا في سبيل اللهِ الذين يُقاتلونكُم ولا تعتدوُا إنّ الله لا يُحبُ المُعتدين )
(قاتلوا في سبيل )
المقصُودُ بها الجهاد .
(الذين يُقاتلونكُم )
الزيادة هُنا وذكرهُم المُرادُ بها عند البلاغيين تهييج وإغراء عندما يقول لك يُقاتلُك يضطهدُك في دينك كأنهُ يُحرّكُ ما كمُن فيك حتى تُقاتل وهذا أمرٌ مشهُورٌ عند العرب عمرُ ابنُ معد كرم يقول :
لما رأيتُ نساءنا يفحصن بالمأزاء شداً
وبدت لميسُ كأنها بدرُ السماءِ كما تبدا
نازلت كبشهُم ولم أرى من نزال الكبشِ بُدا(8/230)
هُم ينذرون دمي وانذرُ إ لقيتُ بأن أشُدا
فجعل تشريدهُم لنساء وما يحصُل لنساء من فرارهِم حتى بدت سيقانهُم كُل ذالك جعلهُ مُهيجاً ومُغرياً له بأن يدخُل غمار الحرب فالله يقول ( وقاتلوا في سبيل اللهِ الذين يُقاتلونكُم ) .
ثمّ قال ( ولا تعتدوا )
الاعتداء هُنا تجاوز القتال إلى ما حرّم اللهُ جل وعلا قتالهُم كالنساء والصبيان والشيُوخ ومن كان في الصوامع ومن كان بيننا وبينهُ عهدٌ وميثاق أو من مثّل بنا فلا نُمثّل بهِ كُلها تدخُل تحت قول اللهِ جل وعلا وماذا ( ولا تعتدوا ) واصلُها تعتدون فأين ذهبت النون ؟
أجيبوا
مجزوم حُذفت تقول حُذفت بسب الجزم وما الجازم هُنا ؟ لا الناهية .
( ولا تعتدوا إنّ الله لا يُحبُ المُعتدين واقتلوهُم حيثُ ثقفتمُوهُم )
ثقفتمُوهُم أي ظفرتُم بهم .
( وأخرجُهُم من حيثُ أخرجُكُم )
من أين أُخرج المسلمون ؟
من مكة وقد وقع هذا للمُسلمين أنهُم فتحوا مكة .
( وأخرجُهُم من حيثُ أخرجُكُم والفتنةُ أشدُ من القتل ولا تُقاتلُوهُم عند المسجد الحرام) .
ما وقع منهُم من تقّول وفتنتكُم في الدين حتى يردُكُم عن دينكُم إلى الشرك أعظم من كون أنكُم تُقاتلُهم تسفكون دمائهُم .
(ولا تُقاتلُوهُم عند المسجد الحرام حتى يُقاتلُكُم فيهِ )
وهذا من إطلاق المسجد الحرام على مكة وفيهِ بيانٌ لحُرمة مكة عند الله " إنّ الله حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض " وهذا نزدلف بهِ إلى الخلاف القائم بين العُلماء أيُهُما أفضلُ مكةُ أو المدينة ؟
جماهيرُ العُلماء على أنّ مكة أفضلُ من المدينة ولهُم في ذالك دلائل و قرائن من أشهرها :
أنّ الله جل وعلا جعلها موئلاً للخليلين مُحمدٍ وإبراهيم بدل من الخليلين هذا واحد .
وقولُ النبي صلى الله عليه وسلم إنّ الصلاة في المسجد بمئة ألف صلاة ، وأنّ الكعبة في مكة وهي بيتُ الله ، وأنّ الله جل وعلا أوجب الحج إلى مكة إلى بيتهِ وغيرُها من القرائن كثير .(8/231)
وذهب الإمام مالك رحمهُ الله وهو المشهور عن عُمر وابنه عبد الله وبعضُ المالكية جمهُورُ أتباع مالك ليس كُلهُم على أنّ المدينة أفضلُ من مكة لسُكنى النبي صلى الله عليه وسلم فيها ومن أدلتهم ــ أي المالكية ــ
أن النبي علية الصلاة والسلام قال " ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنة " وقال في حديثٍ آخر " لموضعُ سوطِ أحدكُم من الجنة خيرٌ من الدُنيا وما فيها " فقالوا إذا كان موضعُ سوطٍ في الجنة خيرٌ من الدُنيا وما فيها فكيف ببلدةٍ فيها روضةٌ من رياض الجنة .
وبعضُ العُلماء يُفصّل فيقولُ :
إنّ مكة أفضل ولا يُمكنُ لما فقههُ مالك أن يُصادم تلك النصوص الشرعية لكن يقولون إنّ المُجاورة في المدينة أفضل من المجاورة في مكة والعلمُ عند الله .
نقول يقول الله :
(ولا تُقاتلُوهُم عند المسجد الحرام حتى يُقاتلُكُم فيهِ فإن قاتلُكُم فاقتلُوهُم ) لأن هذا نوعٌ من القصاص ( كذالك جزاءُ الكافرين * فإن انتهُوا فإنّ غفورٌ رحيم )
قطعاً إن الشرك لا يدخلهُ الغُفران فما معنى قول الله (فإن انتهُوا) انتهوا عن ماذا ؟
عن الشرك لم ينتهوا عن القتل ــ هذا قيدٌ لا بُد لك أن تفقهه ــ (فإن انتهُوا) أي عن قتالكُم وعن الشرك (فإنّ غفورٌ رحيم ) لأنّنا لو حملناها على القتل فقط لا يستقيم أن يُقال (إنّ الله غفورٌ رحيم ) لأنهُ لا مغفرة ولا رحمة خاصة لأهل الكُفر .
( وقاتلُهُم حتى لا تكون فتنة ويكونُ الدينُ للهِ فإن انتهوا فلا عُدوان إلا على الظالمين )
((8/232)
حتى لا تكون فتنة ) قال العُلماء حتى لا يكون تقوّل ينجُم عنه اضطهادُ الناس في دينهِم ولمّا حصلت ولايةُ ابنُ الزُبير واقتتل الناسُ كثيراً مع أتباع يزيد جيء لعبد الله ابن عُمر الصحابي المعروف ابن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي اللهُ عنه وأرضاه فقيل لهُ ألا تُقاتل والله يقول ( وقاتلُهُم حتى لا تكون فتنة ) فقال رضي الله عنه وعن أبيهِ لقد قاتلنا حتى لا تكون فتنة وكان الدينُ للهِ يقصد أيام ماذا ؟ أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأنتُم اليوم تُقاتلون حتى تكون فتنة وشتّان ما بين القتالين وأنتُم يا خادمُ الخوارج تُقاتلون اليوم حتى تكون فتنة .
ومعلومٌ أن هذا حصل أيام عبد الله ابن الزبير ويزيد ابن معاوية وأيام خروج عبد الله ابن الزُبير على يزيد فقد أرسل يزيدُ مُسلم ابنُ عُقبة المُري أراد أن يرسل أولاً عُبيد الله ابن زياد لكن عُبيد الله ابن زياد باء ماذا ؟ مقتل الحُسين فأراد أن يبعثهُ يزيد إلى مكة فأخذ درساً من الأُولى قال " واللهِ لا أبُؤُ بهما جميعاً قتلُ الحُسين وغزوُ مكة أعفني " فسّلم القيادة لرجُلٍ اسمهُ مُسلم ابن عُقبة المُري وكان شيخاً كبيراً في السن فوصل إلى بدأ بالمدينة لقتال من ؟ أهل المدينة ثم ينتقل إلى ؟ إلى ابن الزُبير فقاتل أهل المدينة حتى وقعت موقعة الحرّة فأسماهُ أهلُ المدينةِ مُسرف بدلاً من مُسلم يقولُ قائلهُم في جُزء بيت :
كتائبُ مُسرفٍ وبني اللّكيعه
على يدهِ أُستُبيحت المدينة ثم أراد أن يتوجّه إلى مكة وقُلنا أنهُ أتى وهو طاعنٌ شيخٌ كبير فمات فوكلت القيادة إلى غيرة ومات يزيدٌ بعدُهُ أو قبلهُ المهم قبل أن يصل جيشُ الشام إلى مكة .(8/233)
فلّما مات يزيد أعلن ابنُ الزُبير رضي الله تعالى عنه الخلافة على الحجاز وتبوء هُناك الخلافة عبدُ الملك بعد أبيهِ مروان وكان مروانُ ابنُ الحكم لمّا ولي ــ وأظن هذا قد مرّ معنا ــ سبّ ابن زوجنهِ شاب نشأ في حجرة فلمّا سبهُ عيّرهُ بأمه التي هي زوجتهِ وهذا الابنُ من رجُلٍ آخر فذهب الرجل يشتكي مروان ابن الحكم عند أُمة فاغتاضت الزوجة وقال لهُ إنهُ لن يُسمعك إياها بعد اليوم أي بيّتت قتله قلمّا قدم إليها قتلته خُفيةً في دارهِ اجتمعت عليه هي وخدمها فلّما مات مروان أعلن عبدُ الملك الخلافة له فانتقلت الخلافة كما يقولون المؤرخون من البيت السُفياني إلى البيت المرواني نسبة إلى مروان ابن الحكم لأن عبد الملك ابن مروان فصار الأمويون بعدها سيمُر معك في التاريخ يُقال لهُم بنو مروان وهذا معنى قول شوقي
مررتُ بالمسجد المحزون أسألهُ
هل في المُصلّى أو المحرابِ مروانُ
فيقصد بالمُصلّى والمسجد مسجد بني أُمية الذي يعنينا ــ أطنبتُ أنا كثيراً في قطاع المسجد الحرام ـــ أن عبد الملك بعث الحجاج فحاصر ابنُ الزُبير في مكة وضربها بالمنجنيق وهذا لا يُقبلُ شرعاً حتى احترقت أستارُها أولاً وهو لا يُريدُ حرق الكعبة هذا كُفر لكنّهُ أراد قتال ابنُ الزًُبير حتى قُتل ابنُ الزُبير رضي الله تعالى عنه وآل الأمرُ إلى الحجاج وبالتالي إلى عبد الملك ابن مروان .
الله جل وعلا هنا يقول ( ولا تُقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يُقاتلُكُم فيهِ فإن فاقتلوكُم فاقتُلُهم كذالك جزاءُ الكافرين * فإن انتهوا فإنّ الله غفورٌ رحيم * و قاتلُهُم حتى تكون فتنة ويكونُ الدينُ للهِ فإن انتهوا فلا عُدوان إلا على الظالمين الشهر الحرام بالشهر الحرام والحُرُماتُ قصاص )
( حُرمات ) جمعُ حُرمة كما تقولُ حُجرات جمعُ حُجرة .
ما الحُرمة ؟
الشيء الذي ينبغي أن ي~ُحفظ ويُصان ولا يُنتهك كُلُ ما ينبغي أ يُحفظ ويُصان ولا يُنتهك يُسمّى حُرمة .
أمّا تفسيرُ الآية :.(8/234)
فأنت تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كم عُمرةً أعتمر ؟ ــ أجيبوا ــ أربعة كُلهُنّ في ذي القعدة وذُو القعدة شهرٌ حرام والأشهُرُ الحُرم ثلاثةٌ سردٌ وواحدٌ مُنفرد .
ما الثلاثة السرد ؟
ذو القعدة ، ذو الحجة و مُحرم .
وما الفرد ؟
رجب .
فالنبي صلى الله علية وسلم اعتمر في ذو القعدة وذو القعدة شهر حرام فابتداء عُمرتهِ في يوم الحُديبية ماذا حصل ؟ ردتهُ قُريش فلمّا ردتهُ قريش انتهكت كم حُرمة ؟
ثلاث حُرُمات ــ سأقول اثنتين وتأتون بالثالثة ــ
حُرمة الشهر الحرام الذي هُو ذو القعدة .
وحُرمة البلد الحرام الذي هو مكة .
وحُرمة ــ هيا ـ هي الآن قُريش ردت النبي صلى الله عليه وسلم فرجع وحلّ من إحرامهِ فقُريش بهذا انتهكت ثلاث حُرمات لهذا قال الله ( الشهرُ الحرامُ بالشهرِ الحرام والحُرُماتُ قصاص ) لاحظ قصاص يعني مساواة فكان لازم نُبين التي بعد حتى تأتون بالتي قبلها .
فالحرمات الثلاث :
حُرمة ــ قُلنا ــ الشهر . ذو القعدة .
وحرمة البلد .
بقيت حُرمة ــ أي ما يسمّونها ــ حُرمة العُمرة ــ ايه ــ الإحرام حُرمة الإحرام .
نظيرهُ في السياسة قول عائشة لمّا قُتل عُثمان قالت " انتهكُوا ثلاث حرمات :
ــــ سآتي بثنتين وأتوا بالثالثة ـــ
لمّا قُتل عُثمان عثمان قُتل في ذي الحجة فقالت عائشة " لقد انتهك الخوارج ثلاث حُرمات "
حرمة الشهر ذو الحجة .
وحرمة البلد ، ما هو ؟ المدينة المدينة بلدٌ حرام .
وحُرمة الخلافة وحُرمة الخلافة .
فأمرُ الخلافة شرعاً أمرُ محرم ولهذا الصحابة رضي الله عنهُم قبل أن يدفنوا نبيهُم علية الصلاةُ والسلام أجمعوا أمرهم على ماذا ؟ على أبي بكر لعلمهِم بحُرمة الخلافة ، فقتلت عُثمان انتهكوا كم حُرمة ؟ ثلاثة .
الذين صدُّوا النبي صلى اله عليه وسلم انتهكوا ثلاث حُرمات ، حُرمةُ الشهر الحرام وهو ذو القعدة ، وحرمةُ البلد الحرام وهو مكة ، وحرمت الإحرام .(8/235)
ماذا يقولُ ربُنا يقول (والحُرُماتُ قصاص ) متى كانت الحُديبية ؟
عام ست ، ما يُسمّى بعُمرة القضاء كان عام ــ التي بعدها سبع ــ فدخلها النبيُ صلى الله عليه وسلم بعد أن أخلت قُريشٌ مكة لهُ فدخلها عليهِ الصلاة والسلام ونزحوا إلى الجبال فهذا معنى قول اللهِ (والحُرُماتُ قصاص ) ردوك يا نبينا عام ست فأدخلناك إياها عام سبع .
فكلُ الثلاث عادت فأحرم صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة ودخل البلد الحرام وبقي على ؟ وبقي على إحرامهِ [ واضح ]
( الشهرُ الحرامُ بالشهرِ الحرام والحُرُماتُ قصاص فمن اعتدى عليكُم فاعتدوا عليهِ بمثلِ ما اعتدى عليكُم واتقوا الله واعلموا أنّ الله مع المُتقين )
هذي مُطنب فيها الفُقهاء لأنه تحتمل أشياء عدة
إنسان أخذ مالك ثم ظفرت بمالهِ تأخُذهُ أو لا تأخُذُهُ فيها أقاويل لكن أنا أُعطيك خُلاصة الأمر .
لو تسلّط أحدٌ ما على مالك ثم وقفت على مالهِ بقدر الذي أخذ منك جاز لك أن تأخُذهُ ولا يُسمّى سرقةً ولا نهباً ولا ظُلماً لأن الله يقول (فمن اعتدى عليكُم فاعتدوا عليهِ بمثلِ ما اعتدى عليكُم ) ونقول إلا في حالة واحدة ما هي ؟
إلا في حالة واحدة ما هي شخصٌ ما تسلّط عليك خدعك فأخذ منك عشرين ألف ثم اكتشفت بتعامُلك معهُ انهُ أراد خداعك قال أقرضني ثم أنكر وثقت بهِ أعطيتهُ عشرين ألف فما لبث أن أنكرها وجحدها ثم لم يلبث أن وقفت على عشرين ألف لهُ إمّا وجدتها على مكتبهِ أو في دُرج سيارتهِ أو ما أشبه ذالك استطعت أن تحصُل عليها فلك أن تأخُذها هذا ربُنا يقول لكنّنا نقول إلا في حالة واحدة إذا نسي وأعطاك إياها أمانةً نسي صنيعهُ الأول وأعطاك إياها أمانةً فليس لك أن تأخُذها إذا طلبها لأن النبي قال " ولا تخُن من خانك " [ واضح ] إلا إذا كانت على وجه إئتمان فلا ينبغي أن تأخُذها وإن قال به بعضُ العُلماء لكن أحبُ إلينا أن لا تفعل لقوله صلى الله عليه وسلم " ولا تخُن من خانك " .(8/236)
فكُلُ شيءٍ ، الله قال ( يُخادعُون الله وهو خادعهُم ) وقال ( ويمكرُون ويمكُر الله ) وقال ( وإمّا تخافنّ من قومٍ خيانةً ) فلم يقُل خُنهُم قال ( فانبُذ إليهم على سواء ) أي بيّن لهُم الأمر على جلاء ــ واضح هذا ـــ
قال الله :
( والحُرُماتُ قصاص فمن اعتدى عليكُم فاعتدوا عليهِ بمثلِ ما اعتدى عليكُم واتقوا الله واعلموا أنّ الله مع المُتقين * وأنفقوا في سبيل اللهِ ولا تُلقوا بأيديكُم إلى التهلُكة وأحسنوا إنّ الله يُحبُ المُحسنين )
هذهِ دائماً الآية تُصبح مثار نزاع فيأتي الإنسان المُخوّف يقول الله يقول : (ولا تُلقوا بأيديكُم إلى التهلُكة ) يقولُ الآخرون حديث أبي أيوب " نزلت فينا معشر الأنصار أننا آثرنا الزرع على الجهاد "
والحقُ أن يُقال ما يلي :
الإنفاق لا يُسمّى إنفاقاً إلا إذا كان في وجهٍ يُسمّى إصلاح مال أمّا تضييع المال لا يُسمّى إنفاق هذا واحد .
ينبغي أن تعلم أنّ الله أمر بالإنفاق وأمر بالجهاد وبين الإنفاق والجهاد طرفي نقيض يُقابل الإنفاق إمّا البُخل وإمّا الإسراف فقولُ اللهِ تبارك وتعالى ( و أحسنوا ) تعودُ على الإنفاق والمعنى لا تنفقوا إنفاقاً يصلُ إلى حد الإسراف ولا تكونُوا بُخلاء.(8/237)
وفي قولهِ تعالى (ولا تُلقوا بأيديكُم إلى التهلُكة ) لا تقعدوا عن الجهاد ولا تلقوا بأنفُسكُم إلى المهالك على وجهٍ يغلبوا على الظن أنهُ الهلاك المذموم فيُصبح الإقدام غيرُ التهور فيُصبح الآية ( و أحسنوا ) ضابط لقولهِ تبارك وتعالى و(وأنفقوا في سبيل اللهِ ولا تُلقوا بأيديكُم إلى التهلُكة ) فالقعُودُ عن الجهاد إلقاءٌ بالنفسِ في التهلُكة بأنّك قصّرت في واجبٍ شرعي والتهورُ في المعركة إلقاءٌ لتهلُكة على وجهٍ مذمومٍ شرعاً ، والإنفاق إذا كان إسرافاً إلقاءٌ للمال في التهلُكة على وجهٍ مذموم كما أن القعُود عن الإنفاق بُخلٌ يُلقي النفس في التهلُكة لأن البُخل لا يُرثُ إلا ذماً ــ ظهر الآن المعنى فيما يغلبُ على الظن .
والعربُ كانت تعيبُ التهور في المعارك ولا تعدُهُ شجاعة يقولون إنّ الأعشى الشاعر المشهور المشهورُ بسُكرهِ مدح أحد الملُوك في زمانهِ فقال
وإذا تجيءُ كتيبةٌ مذمومةٌ
خرساء قد كره العدو نزالها
كُنت المُقدّم غير لابس لُمّةٍ
في السيف تضربُ مُعلماً أبطلها
يقول إذا جاءت كتيبة خرساء خرساء من الحديد الذي عليهم كأنها صماء يخشاها أحدٌ أن يُنازلُها فأنت أيُها الملك كُنت المُقدّم غير لابس لُمّة غير لابس وقاية غير لابس درع
كُنت المُقدم غير لابس لُمّةٍ
في السيف تضربُ مُعلماً أبطلها
فعابت العربُ الأعشى على هذا البيت قالوا ما لبثت أو ما زدت على أن وصفت الملك بالتهورُ هذهِ ليست بشجاعة .
الضابط القُرآني جاء مُبيناً لمسالك الناس في الإنفاق ألاّ يكون إسرافاً ولا بُخلَ ، وفي الحروب أن لا يكون قعُوداً ولا تهورا هذا معنى قول اللهِ : ( وأنفقوا في سبيل اللهِ ولا تُلقوا بأيديكُم إلى التهلُكة وأحسنوا إنّ الله يُحبُ المُحسنين ).
ثُمّ قال ربُنا :
( وأتمّوا الحج والعُمرة للهِ )(8/238)
هذهِ اختلف العُلماءُ فيها في معنى الإتمام فذهب ابنُ عباس إلى أن المقصود بالإتمام أن تحُج وتعتمر من دُيرة أهلك وأكثرُ المُفسرين على أن المقصود إذا شرعت في حج وعُمرة ولو كان نفلا يجبُ عليك أن تُتمّها .
( فإنّ أُحصرتُم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكُم حتى يبلُغ الهدىُ محلّهُ فمن كان منكُم مريضاً أو بهِ أذىً من رأسهِ ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نُسك )
مُجمل ما دلّت عليهِ الآيات ما يلي :
الإحصار في اللُغة : الحبس والمنع
لكن هل يكون الإحصار بالعدو وبغير العدو أو لا يُسمّى إلا بالعدو اختلف العُلماء :
فذهب طائفة إلى أن الاحصار الذي جاءت بهِ الآية لا يكونُ إلا في العدو ودليلهُم ( فإذا أمنتُم ) فالأمنُ لا يكونُ إلا من خوف العدو .
وأجملُ الأقوال أن يُقال أن الآية جاءت في حصر العدو لكنّ كُلما نجم عنهُ حرجٌ و ضيقٌ وحبسٌ عن البيت فيقاس عليهِ قياساً جلياً لا شُبهةً فيهِ حتى نخرُج من نزاع العُلماء .
فإنّ أُحصر الإنسانُ عن الوصولِ إلى البيت ومُنع في الوصول إلى البيت لأي سببٍ كان فإنّ يقول : ( فإنّ أُحصرتُم فما استيسر من الهدي )
والهديُ : هو ما يُساق وما يُقرّبُ ويُذبحُ في مكة من بهيمة الأنعام أعلاهُ بدنه وأدناهُ شاه .
( وما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلُغ الهدي محلهُ )
هذي مسألة خلافية بين العُلماء ما المقصود بمحل الهدي ؟
فقال بعضهُم في الاحصار أن دم الاحصار حيثما أُحصرت .
وقال آخرون يبعث بالهدي إلى الحرم فلا يكونُ منهُ حلقٌ حتى يصل إلى الهدي إلى محله وذهبُ في دليلٍ لهم إلى أن المقصود أن الحرم هو محلُ الهدي قول الله جل وعلا : ( هديً بالغ الكعبة ) وقول الله جل وعلا : ( ثم محلُّها إلى البيت العتيق ) والمرادُ مكة والأصلُ منى هي الأصلُ في النحر وان دخلت في مكة هذا قول .
وقال آخرون قُلنا إنّ دم الاحصار أين يكون ؟ يكون في موطن الاحصار . ( حتى يبلُغ الهديُ محلهُ ) .(8/239)
ثم قال الله جل وعلا :
( فمن كان منكُم مريضاً أو بهِ أذىً من رأسهِ )
فالأصلُ أنّ هناك محظورات للإحرام فقال الله : ( ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةً أو نُسك )
الصيام يا أُخي ثلاث أيام ، والصدقة نصف صاع ، والنُسُك أصلُها العبادة لكن لمّا كانت النحرُ من أعظم القُربات أُطلق على التقرُب إلى الله ببهيمة الأنعام لكنّ هذا يقومُ على التخيير وممّا يقعُ فيهِ الخطأ في الفتوى بين بعض طلبة العلم أنهُم لا يُفرّقون ما بين ترك الواجب وفعلُ المحظور ما بين ماذا ؟ ترك الواجب وفعل المحظور .
فما الذي يترتب على فعل المحظور ؟
وما الذي يترتب على ترك الواجب ؟
ــ أجيبوا ــ
في فعل المحظور يكون التخيير فمن فعل محظوراً من محظورات الإحرام جاءك يستفتيك قال حلقتُ رأسي أو قال تطيّبت أو قال أي محظور من محظورات الإحرام أو قلّمتُ أظافري فهذا تقول لهُ أنت مُخيرٌ بين ثلاثة أُمور ما بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ست مساكين كُل مسكين نصف صاع أو ذبح شاة لقول الله جل وعلا : ( ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةً أو نُسك ) فأو هُنا لماذا ؟ لتخيير .
أمّا من ترك واجباً فإنهُ يُهرق دم وليس هُناك تخيير لكنّهُ إذا عجز عن الدم ينتقل إلى صيام ماذا ؟ عشرة أيام ينتقلُ إلى صيام عشرة أيام وهذا مما تقع فيه الخطأ في الفتوى .
فلو جاء إنسان وقال أيُها الشيخُ المُبارك يا طالبُ العلم تجاوزتُ الميقات دون أن أُحرم نقول لهُ أولاً أنت لم تفعل محظوراً أنت تركت واجباً فعليك دم ولو جاءك من يقول لك لم أبت في مُزدلفة فتقول له تركت واجباً عند قول جماهير العُلماء أن المبيت في مُزدلفة واجب فعليك دم .
لكن لو قال حلقتُ أو قلّمتُ أو مسستُ طيباً أو لبستُ مخيطاً فهذا تقول له أنت مُخيرا لأنك فعلت محظوراً .
قال الله : ( فإذا أمنتُم فمن تمتّع بالعُمرة إلى الحجِ فما استيسر من الهدي )
وهل هو دمُ جُبران أو غيرُ ذالك ؟
هذي فيها خلاف بين العُلماء لكن معلومٌ أن الأنساك ثلاثة ؟(8/240)
أفراد
وتمتعٌ
وقران
وعلى قدر ما تأخُذ على قدر ما تُعطي ، و قدر ما تُعطي على قدر ما تأخُذ .
هذا الذي ذهب يحُج وأفراد الحج بسفرةٍ لوحدها هذا لم يُعطى زيادة من طاعة وهي العُمرة فلا يُؤخذ منهُ دم [ واضح ]
أمّا من قرن ما بين الحج والعُمرة في سفرة واحدة فعليه دم عوضاً عن أيش ؟ عن ماذا ؟ عن الجمع بين الحج والعُمرة في سفرٍ واحد .
ومن تمتّع فهذا مكث أياماً يلبس ويتطيب ويأتي النساء عوضاً عن هذا التمتُع يُهرق دم .
ــ تبين الأمر بوضوح ــ
قال الله : ( فمن تمتع بالعُمرة إلى الحجِ فما استيسر من الهدي فمن لم يجد ) ليس لتأخير ( فصيامُ ثلاثة أيامٍ في الحجِ وسبعةٍ إذا رجعتُم ) أي إلى أهلكُم ( تلك عشرةٌ كاملة ) ومعلومٌ أن الثلاثة والسبعة عشرة .
فلماذا نصّ اللهُ هنا وقال ( تلك عشرةٌ كاملة ) اختلف العلماء ؟
والأظهرُ عندي والعلُم عند الله أ، هذهِ أُمة أُمية لا تحسب وهم المخاطبون الأولون بالقُرآن فبيّنهُ الله بياناً جلياً حتى لا يقع منهُم خطأ .
( تلك عشرةٌ كاملة ذالك لمن لم يكُن أهالهُ حاضري المسجد الحرام )
ذالك اسم إشارة ــ الآن أيُها المباركون أريدُ ذهن ــ يعودُ على ماذا وماذا يترتبُ على العود ؟
( فإذا أنتُم فمن تمتع بالعُمرة إلى الحج ) هذهِ مسألة فقهية حسنٌ أن تُشاركوا ( فمن تمتع بالعُمرة إلى الحجِ فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيامُ ثلاثة أيامٍ في الحجِ وسبعةٍ إذا رجعتُم تلك عشرةٌ كاملة ذالك لمن لم يكُن أهالهُ حاضري المسجد الحرام ) ؟
ذالك تعود إلى أحد اثنين ما الأول ؟
ــ إلى ماذا ؟ ــ ذالك تعود إمّا ــ لا مو الحاج لا تعود إلى الحاج أبداً ــ إمّا لتمتُع أو لما يترتب على التمتُع من هديٍ وصيام ، إمّا تعود لتمتُع [ واضح ] فيُصبح ( فمن تمتع ) يعني لتمتُع لنُسك التمتُع تبين جيداً .
والأمر الثاني إمّا تعود إلى قولهِ (فما استيسر من الهدي فمن لم يجد ) ما يترتب على التمتُع [ واضح ](8/241)
ما الذي يختلف إذا قُلنا تعود على التمتُع ــ والآن يعني يُشاهدني الكثير حتى يضبط المسألة ــ إذا قُلنا أنها تعود إلى التمتُع فمعنى قول الله ِ (ذالك لمن لم يكُن أهالهُ حاضري المسجد الحرام ) يُصبح ليس على أهل مكة ماذا ؟
إذا كانت ذالك تعودُ على التمتُع فقال الله ( ذالك لمن لم يكُن أهالهُ حاضري المسجد الحرام ) يُصبح لا يجوز لأهل مكة أن يتمتعُوا يُصبح المعنى ليس لأهل مكة أي تمتُع فيُصبح هم مقصورُون على نُسكين إفراد وقران .
وإذا قُلنا ( ذالك ) عائدة على ما يترتب على التمتُع على الهدي أو الجزاء الذي هو الصيام بدلاً منهُ فيُصبح قول الله ذالك الجزاءُ على من لم يكُن أهلهُ حاضري المسجد الحرام يُصبح لهم التمتُع وليس عليهِم هدي وليس عليهم هدي لكن الكرامة لهم لأنهُم من أهل الحرم ليس عليهم هدي [ واضح ] فيُصبح يحقُ للمكي أن يتمتع إلا أنهُ يفترق عني وعنك ممّن يأتي من الآفاق أنهُ لا هدي عليه وهذا كُلهُ في تحرير معنى كلمة أو عودة الإشارة في ذالك تحرير كلمة الإشارة في ذالك .
(ذالك لمن لم يكُن أهالهُ حاضري المسجد الحرام ) وقد قُلتُ في درسٍ خلى أن المسجد الحرام هُنا المقصُودُ بها مكة وليس الحرم وما الفرق ؟
الفرق يتضح جلياً في ماذا ؟ لو جاءك شخصٌ من أهل مكة على القول إنّ ذالك تعودُ على الجزاء فجاءك رجُلٌ يسكُن في الشرائع فإذا قُلنا أن المسجد الحرام يعودُ على الحرم فيُصبح ممن يسكنون الشرائع في الحل خارج الحرم عليهم ماذا ؟ عليهم هدي لأنهُم ليسُ من الحرم ،
لكن لو قلنا أن المسجد الحرام هنا مكة ليس عليهم هدي لأن الشرائع من مكة وإن كانت ليست من الحرم [ واضح ]
عندنا حي في المدينة اسمهُ العزيزيه بينهُ وبين حدود الحرم شارعٌ واحد فهؤلاء خارج الحرم لكنّهُم من سُكان المدينة [ واضح هذا ](8/242)
وأنا رأيتُ إن لم أنسى في مروري على الشرائع عماره بناية نصفُها في الحرم ونصفُها خارج الحرم فلا يُعقل أن من كانت غُرفتهُ في أول الدار ليس عليهِ هدي ومن كانت غُرفتهُ في آخر الدار عليهِ هدي يُنزّه كلامُ الله أو فقهُ الإسلام عن هذا [ واضح ]
فيُصبح ( ذالك لمن لم يكُن أهالهُ حاضري المسجد الحرام ) عائدةٌ على مكة وليست للحرم .
( واتقوا الله واعلموا أن الله شديدُ العقاب )
هذا ما تيسّر إيرادهُ وتهيأ إعدادُهُ حول هذهِ الآيات المُباركات وفي اللقاء القادم إنّ شاء الله سنشرع في قضايا الحج عموماً ونبدأُ بقول الله تعالى الحجُ أشهرٌ معلومات .
نسأل الله أن يُفقنا وإياكُم لما يُحبُ ويرضى وأن يُلبسنا وإياكم لباسي العافية والتقوى وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آلهِ والحمدُ للهِ رب العالمين ................
والسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتهُ(8/243)
والسبب بأننا عينا التاريخ أننا كنا ولله الحمد والمنة والفضل في العام الماضي ، ونحن على قبيل شهر الحج توقفنا عند هذه الآيات وقلنا إن شاء الله تعالى نكمل في العام القادم حتى يتيسر عرضها قبل دخول أشهر الحج أو مع دخول أشهر الحج وكنا في اللقاء الماضي قد انتهينا إلى سورة الأحزاب إلى قول الله جل وعلا في حق أمهات المؤمنين : ( وقرن في بيوتكن ) فالآن نجيء الحديث في سورة الأحزاب ونعود إلى سورة البقرة والغاية من هذا كله إن قدمنا أو أخرنا نفع الناس نسأل الله أن ينفعنا وينفع غيرنا بما نقول.
قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين : (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث و لا فسوق و لا جدال في الحج) قبيل أن نشرع فيها نبين سبقت هذه الآية آية تقول : ( يسألونك عن الأهلة ) فجاء الجواب القرآني : ( قل هي مواقيت للناس والحج ) فأشعر قول الله أ ن الأهلة مواقيت للناس والحج على أن أشهر الحج طوال العام لأن كلمة ( قل هي مواقيت للناس والحج ) العائدة على الأهلة والأهلة طوال العام يشعر أن جميع أشهر السنة أشهر حج وهذا غير صحيح فهنا ذلك الإشعار الذي يظهر لك بادي الرأي أنه عام هذه الآية أشبه بالموضحة له ، وبعض أهل العلم يراها أنها مخصصة لذلك التعميم ، أي تعميم ؟ الذي قال الله فيه: ( يسألونك عن الأهلة قل والحج ) فهنا لم يحدد أن أشهر الحج محددة لكنه هنا قال :
((8/1)
الحج أشهر معلومات ) ومعنى الآية : وقت الحج أشهر معلومات ، تلحظ أيها المبارك ومن المهم أن تفقه مراد الله أن الله جل وعلا هنا لم يذكر لنا ما هي أشهر الحج واكتفى بقوله جل شأنه : ( أشهر) ماذا ؟ ( معلومات ) جمع معلوم أي معروف لا يكاد يجهلها أحد، في حين أن الله جل وعلا لما ذكر الصيام قال: ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ثم قال بعدها بآيات ( شهر رمضان ) لماذا عين؟ هنا لم يقل شهر شوال شهر ذي القعدة شهر ذي الحجة لأن رمضان لم يكن معروفا آن ذك بأن يصام فالعرب لا تعرف صيام رمضان في الجاهلية ، لكن العرب في الجاهلية تعرف ماذا ؟ تعرف الحج وكانت تحج وتعتمر لكن كانت له شركيات مع أصل حجهم الذي أخذوه إرثا عن إبراهيم عليه السلام ، فقول الله جل وعلا : ( أشهر معلومات ) يحيل إلى شيء معروف في الذهن والتعبير بقوله جل وعلا: ( أشهر ) هذا جمع قلة والعرب إذا جمعت جمع قلة من ثلاث إلى تسع تأتي على وزن[ أَفْعَلْ ]، تقول: "نجم" . فجمعها جمع قلة ماذا .؟ "أنجم" ، "وشهر" جمعها جمع قلة ماذا ؟" أشهر" ، أما" نجم" جمعها جمع كثرة" نجوم" ، ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) و"الشهر" جمعها جمع كثرة "شهور" قال ربنا : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ) فلما قال: اثنا عشر شهرا قال: ( إن عدة الشهور ) لم يقل ( إن عدة الأشهر ) وهذا الكلام يسمى تحت باب: ( الصناعة الصرفية) لأننا قلنا إن الكلام في الكلمة نفسها يسمى صناعة صرفية أما الكلام في الكلمة وسط الجملة( صناعة نحوية) ، الحديث عن كلمة في سياق الجملة تسمى صناعة نحوية ، أما الكلام عن أحرف الكلمة وأوزانها في ذاته هذه تسمى صناعة صرفية .
قال ربنا: ( الحج أشهر معلومات ) مع ذلك اختلف فقهاء الملة – رحمهم الله – في تحديد الأشر الملومات على أقوال ثلاثة :(8/2)
1. إن أشهر الحج هي: ( شوال – وذو القعدة – ومن الأول إلى التاسع من ذي الحج ، من أول ذي الحجة إلى التاسع منه) وحجة هؤلاء ظاهرة أين مكمنها – وهذا منهج الإمام الشافعي رحمه الله - ؟
يقولون إن الحج يفوت بفوات يوم عرفة بالاتفاق بين المسلمين ، أن المؤمن إذا فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج قالوا:
فلا معنى إذا أن نقول من يوم عشرة إلى يوم ثلاثين من أشهر الحج وصاحبها إن لم يقف بعرفة فاقه الحج فجعلوا أشهر الحج:
( شوال وذو القعدة وإلى التاسع من ذي الحجة ) .
2. القول الثاني : أن أشهر الحج : (شوال وذو القعدة وإلى العاشر من ذي الحجة) ، وحجة هؤلاء أن الله سمى العاشر من ذي
الحجة بيوم الحج الأكبر ، لأنه فيه من شعائر الحج ما ليس في غيره، ففي العاشر من ذي الحجة رمي جمرة العقبة والنحر والحلق وطواف الإفاضة وهذه الأربعة لا تجتمع إلا في عاشر ذي الحجة، فقالوا – أصحاب هذا القول - : ليس معقولا أن نقول إن عاشر ذي الحجة ليس من أشهر الحج وهذه الأعمال كلها فيه ، واضح الدليل .
3. القول الثالث والأخير : قالوا: ( شوال وذو القعدة وذو الحجة بكامله ) وحجتهم أن أقل ما يطلق عليه الحج حجا كلمة الأشهر أقل ما يطلق عليه في الجمع ثلاثة .(8/3)
نلحظ من هذه الاختلافات أنهم متفقون على أن شوال وذو القعدة من أشهر الحج ، فلو أن إنسان أحرم بالعمرة في رمضان ولم يرجع إلى بلده ثم بدى له أن يحج هل نلزمه بالتمتع ؟ لا نلزمه لأن عمرته لم تكن في أشهر الحج ، لكنه لو اعتمر في يوم العيد وبقي في مكة ثم أهل بالحج فهو متمتع ما لم يرجع إلى دويرة أهله ، أو إلى إحرامه الحقيقي ، لأن دويرة أهله المقصود بها هنا إحرامه الحقيقي ليست على إطلاقه فنأتي بمثال : رجل من أهل مصر يسكن الرياض أو يسكن المدينة ثم إنه أحرم في شهر شوال بالعمرة فاعتمر ورجع إلى مقر عمله في الرياض أو في المدينة وهذا يعتبر رجع إلى دويرة أهله لأن عمله وميقاته الأصلي على أنه من الرياض أو من المدينة ولا علاقة لنا ببلده الأصلي وهو مصر ، على هذا قال الله جل وعلا : ( الحج أشهر معلومات ) ثم قال ربنا، طبعا الحج في اللغة : القصد . لكنه هنا: قصد مكان من أجل التعظيم ولا يسمى حجا إلا إذا كان قصد ذلك المكان للتعظيم والمكان هنا بيت الله الذي هو الكعبة ، قال الله : ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) وهذا ظاهر .
قال ربنا : ( الحج أشهر معلومات ) قلنا التقدير ماذا ؟ وقت الحج أشهر معلومات حتى يأتي الذي بعده ، فقال ربنا بعده :
( فمن فرض فيهن ) أي في هذا الوقت ( فمن فرض فيهن الحج ) أي ألزم نفسه بالحج ، والحج خامس أركان الإسلام كما هو معروف ، هو ثابت ركنا بالكتاب والسنة .
قال الله تعالى : ( ولله ) هذه دلالة إيجاب ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله عني عن العالمين ) فالاستطاعة شرط في إلزام المرء بالحج، إضافة إلى الشروط التي تكون غالبا في جميع العبادات : من الإسلام والعقل والبلوغ ، لكن الاستطاعة في الوصول إلى البيت شرط في إلزام العبد له ، وهذه الاستطاعة فسرت:
? بالزاد والراحلة، وفسرت بغيرها .
? والصواب أن تفسر: بكل ما يمكن أن يبلغ بالمرء بيت الله الحرام على إطلاقه .(8/4)
لأن هذه القضايا مثلا الزاد في عصرنا قد لا يحتاج إليه المرء كثيرا لأنه يوجد كثير من الصدقات لكن لا يلزم المرء بالصدقات سنأتي بلطيفة هنا في التفسير قبل أن نشعر في معنى قول الله تعالى : ( فمن فرض فيهن الحج )في قضية الاستطاعة لو أن إنسان سئل أن فلان من الناس لا يملك مالا حتى يحج والحج الآن متفقون الناس على أنه من طريق الشركات فيأتي إنسان لا يملك مالا حتى يحج لا يملك درهم فالحج ركن ، لكن هذا الرجل لا نستطيع أن نلزمه بالحج لأنه لا يملك المال أي أنه عاجز ، عاجز ماليا لا بدنيا ، فلو جاء إنسان من الناس وقال له كم يكلف الحج ؟ فقلنا إن الشركات المتوسطة تأخذ مثلا أربعة آلاف قال: هذه سبعة آلاف ليس فقط أربع آلاف سبعة آلاف ثمانية آلاف الضعف وحُج ، السؤال يا بني هنا :
هل يصبح الحج في حقه واجب ، هل يلزمه الحج أو لا يلزمه ؟
لا يلزمه ليس شرطا أن يقبل إلا في حالة واحدة إذا كان المعطي الابن ، إذا كان المعطي إبنك هو الذي أعطاك على قول الشافعي لا على قول الجمهور ، لماذا ؟ لأن الأول فيها شيء من المنة وأنت حر تقبل أو لا تقبل أما إبنك إذا أعطاك ليس فيها منة لأن ابنك من كسبك ، ابن المرء من كسبه ، فلأن ابنك من كسبك تنتفي هنا المنة ،و احفظ بيت شعر :
قبول ما يهدى إليك سنة *** والترك أولى إن رأيت المنة
أي إن غلب على ذهنك أنها منة فلا تقبلها . ...
قبول ما يهدى إليك سنة ** والترك أولى إن رأيت المنة
ثم على قول الشافعي رحمه الله: يصبح ملزم بالحج إذا كان المعطي من ؟ ابنه خلافا للجمهور ، الجمهور على أنه مخير مثله مثل غيره ، لكن الشافعي هنا فيما يغلب على ظني أنه قوي جدا لأننا بينا أن ابنك من كسبك ، ولذلك سفيان لا أذكر هل هو سفيان الثوري أو ابن عيينة أحد السفيانين كلاهما حجة حافظ مجتهد مجمع على جلالتهم ، كان يقول:
((8/5)
أقبل هدايا السلطان ولا أقبل هدايا الإخوان )، فقيل له لماذا ؟ قال :" لأن الأخ يمن والسلطان لا يمن" . يعني أخوك إذا أعطاك كل أسبوع اسبوعين يذكرك ، لكن السلطان يعطيك ويعطي غيرك ولا يدري أنه أعطاك ينساك ، ولا يمن عليك فكان يقول : "أقبل هدايا السلطان ولا أقبل هدايا الإخوان ".
والناس يختلفون وليست هذه قاعدة مطردة ، و الإنسان بحسب حالته ، فلا نقول لمن يقبل لا يجوز أن تقبل ولا نقول لمن يرفض لا يجوز لك أن ترفض ، فأحوال الناس ووضعهم في المجتمع يختلف ومن يعطى خفية غير الذي يعطى علنا ولا يوجد لها ضابط ، لكن عموما القاعدة جميلة :
قبول ما يهدى إليك سنة *** والترك أولى إن رأيت المنة
نعود للآية قال ربنا: ( فمن فرض فيهن ) أي في هذه الأشهر الحج (فلا) " لا" هذه عند النحويين لا نافية للجنس ، تعمل عمل إنّ وأخواتها فتنصب الاسم وترفع الخبر ، ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) الرفث : الجماع ومقدماته ، ومن الصناعة الفقهية أنه لا يوجد شيء يفسد الحج إلا الجماع ، ( ولا فسوق ) الفسوق : العصيان ، وأصله كلمة معناها الخروج عن طاعة الله .
( ولا جدال ) أي لا مماراة ولا نزاع في الحج . ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) ولا ريب أن من أراد أن يقدم على بيت الله ينبغي عليه أن يقدم قدوم الخائف الوجل المشغول بذنبه الراجي عفو ربه المؤمل من الله جل وعلا بالقبول ليس مشغول بمن حوله ومن يطلق النكات ها هنا وهناك، وينازع الناس في الدينار والدرهم ، أو أن يتخذ شركة ينجم من خلالها جمع أموال الناس وأخذها بالباطل ، أو أن يبحث عن صدارة وشهرة فيتكلم في وقت وحين يرجوا أن يشر إليه بالبنان،(8/6)
أو ينجده الإخوان أمور كثيرة تحدث من أغاليط لكن الإنسان يتبع هدي نبويا ، الذي تركه النبي صلى الله عليه وسلم أمته ويخلص لله جل وعلا، ( فلا رفث ولافسوق ولا جدال في الحج ) الرفث إذا وقع وهو الجماع يفسد الحج ، أما الفسوق المعصية ما لم تكن شركا والجدال هذا لا يفسد الحج لكنه يقلل من أجره ، ثم قال الله جل وعلا :
( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ) " ما " هنا يا بني شرطية وفعل الشرط " تفعلوا " وجوابه " يعلمْه " ولذلك جاءت يعلم ماذا ؟ مجزومة ، ( يعلمْه الله ) ثم قال الله جل وعلا : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب ) أول ما يتبادر للذهن والإنسان قد فرض على نفسه الحج الزاد الذي يحتاجه ، فلما كان الحج سفر إلى مجمع عظيم وهو يوم عرفة ذكّر الله جل وعلا بالسفر الحقيقي إلى يوم لقائه إلى يوم العرض الأكبر فنبه إلى الزاد الحقيقي مجموعين في ذلك اليوم وهو تقوى الله قال سبحانه : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب ) ثم قال ربنا : ( ليس عليكم جناح ) الجناح : الإثم .
( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) سبب النزول : أن العرب كانت تتحرج من التجارة في الحج وتتأثم من التجارة في الحج فبين الله جل وعلا أن لا حرج في ذلك فقال جل شأنه وهو المُشَرِع : ( ليس عليكم جناح ن تبتغوا فضلا من ربكم ) ثم قال سبحانه : ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) ما عرفات ؟ بقعة .
لماذا سميت عرفات ؟ قيل فيها عدة أقوال:
? من أشهرها أن آدم عليه السلام التقى بحواء فيها فعرفها .
? هذا قول وقال آخرون : أن جبريل عليه السلام عَرّف إبراهيم الخليل عليه السلام المناسك في عرفات .
? واختار ابن عطية – رحمه الله – أنه اسم وضعي لا سبب له ، هذا ابن عطية قال : انه اسم وضعي لا سبب له .(8/7)
التوين في عرفات من حيث الصناعة النحوية تنوين مقابلة لا تنوين تمكين ، طبعا عندما أقول تنوين مقابلة لك أن تسأل مقابلة لماذا ؟ وإلا يصبح الكلام مجرد قبول ، من يشاهدني قد يكتبها قال الشيخ تنوين مقابلة ، ولو جاء أحد يقرأ ورقته قال ما معنى تنوين مقابلة ؟ يقول هكذا قالها الشيخ هذا ليس بعلم . تنوين مقابله هذه التنوين تقابل شيء آخر تقابل ماذا ؟ تقابل النون في جمع المذكر ، أعيد مسلم يا بني ما جمعها ؟ مسلمون و هذه النون دلالة جمع يقابلها في جمع المؤنث ، عرفات ٍ على أن التنوين تنوين مقابلة أي هذا التنوين في الاسم المؤنث بدل ومقابل للنون في جمع المذكر بدل ومقابل لماذا ؟ للنون في جمع المذكر، لماذا قلنا أنه تنوين مقابلة وأصررنا ولم نقول أنه تنوين تمكين ؟ لأن تنوين التمكين لا يلاحق الأسماء غير المنصرفة ، وعرفات اسم غير منصرف في الأصل لسببين ،عرفات اسم غير منصرف لأنه محال أن تلحقه نون التمكين لسببين هما:
1. العلمية .
2. والتأنيث.
( فإذا أفضتم من عرفات ) المشاعر منى انتهينا من مكة نفسها ، منى ومزدلفة وعرفة ، فمنى ومزدلفة مشعر وفي نفس الوقت حرم ، وعرفة مشعر لكنها ليست بحرم حِلْ ، وعرفات مشعر عظيم لكنها ليست بحرم حِلْ بخلاف منى ، وبخلاف مزدلفة ، وادي مُحَسِّر حَرَم لكنه ليس بمشعر ، هذه يجب أن تتنبهوا لها .
قال الله تعالى : ( فإذا أفضتم من عرفات ) خير من وقف بعرفة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وجابر رضي الله عنه وأرضاه في حديث في صحيح مسلم قص علينا حجته صلى الله عليه وسلم وهي طويلة ليس هذا موطن سردها ، لكن قلت مرارا هناك ثلاثة أمور ثلاثة مواطن :(8/8)
نمرة ، وعُرَنَة ، وعرفة ، كم ؟ ثلاث ، ما هي ؟ نمرة وعرنة وعرفة ، النبي صلى الله عليه وسلم نزل في نمرة ، وأين خطب وصلى ؟ في عرنة ، وأين وقف ؟ وقف في عرفة .فالوقوف الذي يجزئ الوقوف في ماذا ؟ في عرفة ، فنمرة قرية شرق عرفات ، وعرنة وادي يمر من بطن عرفة يأتي من جهة عرفات ، قال جابر : فوجد القبة قد ضربت له بنمرة صلى الله عليه وسلم ، ثم قال جابر : "ثم أتى بطن الوادي فخطب الناس وصلى" . أي وادي يا جابر ؟ وادي عرنة ، ثم قال :" أتى الموقف" ، أي موقف ؟ في عرفة وقال : "وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف". والله هنا يقول : ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) في اللقاء القادم إن شاء الله تعالى سنكمل تفسير هذه الآيات ونبين ما هو المشعر الحرام؟ وتتمة الآيات التي بعدها .
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين .(8/9)
تكملة سورة المدثر
فإذا نقر في الناقور" أي في الصور" فذلك يومئذٍ يوم عسير على الكافرين غير يسير" بعض الفضلاء من المفسرين إذا مروا بهذه الآية يجتنبونها بناء على أن أساس الفهم كان خطأً "يوم عسير" "غير يسير" يقولون المعنى واحد والثانية مؤكدة للأولى...هناك فرق بين "وصف اليوم " ووصف " من سيكون في ذلك اليوم" ... والمعنى: أن يوم القيامة عسير بطبعه ـ عسير وصف لليوم ـ ليست وصفاً لأهل ذلك اليوم لا للمؤمنين ولا للكفار...أما الثانية" غير يسير" فذكر للحساب الواقع على الكافرين...
ثم ذكر الله رجلاً وهو الوليد بن المغيرة...رجل من كبار قريش سناً جاءت البعثة وقد شاخ وهرم وكان له نفوذ مستمد من أمرين:كثرة ماله وكثرة أولاده...وقد عبّر الله تعالى عنه بقوله"مالاً ممدوداً" وهذه الكلمة تعطي مد بصري... أي جنان تتبعها جنان... وأيضا ممتدة من مكة إلى الطائف ومابينهما وما جاورهما...وكان رجلاً جريئاً حتى أن قريش لما أرادت هدم الكعبة لتعيد بنائها هابت أن تصل للبيت أول من تجرأ على أن يهدم الكعبة ويقلع حجرها هو الوليد بن المغيرة... وهذا كله جعل منه رجلاً عظيماً تلجأ إليه الناس بطبيعتها...
قال تعالى" ذرني ومن خلقت وحيدا" أي خلي بيني وبين من خلقت وحيداً...
ووحيدا من حيث اللغة "حال" من فاعل أو مفعول ؟ اختلفوا
فإذا قلنا من فاعل: خلقت "وحيداً" عائده إلى الله...أي خلقته لوحدي ليس معي شريك في خلقه...وهذا إذا كانت اللغة تحتمله فإني أستبعده
فتكون "وحيداً" حال من المفعول به الذي هو الوليد...واختلفوا في معناها على قولين:
1. "وحيدا" أي خلقته منفرداً وحيداً ضعيفاً في أول أمره...
2. " وحيدا" أي جعلته رجلاً لا نظير له في قومه...
ولا يمتنع الجمع بين القولين...
" وجعلت له مالاً ممدوداً * وبنين شهوداً "
أي حاضرين... من كثرتهم أولاده لايمكن ؟أن يغيبوا مجتمعين...(8/1)
أسلم منهم ثلاثة خالد واثنان اختلفوا في أسمائهم...وهو مخزوميّ كأبي جهل...
"ومهدت له تمهيداً" أي وطأت له في أن يصل إلى الرئاسة والجاه...
" ثم يطمع أن أزيد" قال الله " كلا " لماذا كلا ؟ لأن السبب في استدامتها رضوان الله... وهذا عصى الله
قال تعالى" إنه كان لآياتنا عنيدا" " سأرهقه صعوداً" أي سأكلفه عذاباً شديداً شاقاً لا يطيقه...في الدنيا وفي الآخرة...ثمّ علل هذا... قال تعالى" إنه فكر وقدّر" ثم لعنه الله تعالى قال " فقُتل" لعْنَه " كيف قدر"
أي أنه رجلاً ليس سهلاً..." ثم قُتل" تكررت اللعنة عليه..." كيف قدر" هذا كله تعجب من قدراته...قال تعالى " ثم نظر" ونظر تأتي متعدية بحرف الجر إلى... نظرت إلى الشيء ـ أي أبصرته ـ ونظرت في الأمر بمعنى تفكرت وتمعنت فيه...ونظر بدون حرف جر بمعنى تمهل وانتظِر وبكلٍ جاء القرآن هنا بمعنى التدبر والتفكر " ثم نظر" أي في أمر الرسالة
" ثم عبس وبسر" وهذه صورة لوجهه تدل على مافي قلبه ثم قال تعالى" ثم أدبر" أي عن الحق... " واستكبر" أي عن الإيمان... ثم قال ـ وقريش كلها تنتظر حكمه لأنه اجتمع بهم وقال"إن وفود العرب تأتيكم فإذا رأوا اختلافكم في محمد قالوا يا أبا المغيرة احكم أنت ـ هذا زاده استكبار ـ قال " إن هذا إلا سحر يؤثر" كأن القرشيين ما رضوا ـ قريش تريد أن يفصل ويقول أنه ليس كلام الله ـ فقال " إن هذا إلا قول البشر" فزادوه تعظيماً وهلك بعد البعثة بقليل...
قال تعالى " سأصليه سقر " أي النار... ثم قال وما أدراك ـ بصيغة الماضي ـ وفي القرآن وما أدراك وما يدريك...
إذا قال الله " وما أدراك" يخبر نبيه عن ذلك الشيء...وإذا قال وما يدريك لا يخبر نبيه عن ذلك الشيء..." وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً" ولم يخبره متى الساعة..." وما أدراك مالحطمة" بيّن قال " نار الله الموقدة"
قال " وما أدراك ماسقر" بينها قال" لا تبقي ولا تذر" " لوّاحة" أي حرّاقة(8/2)
" للبشر" ليس الناس وإنما جمع بشرة وهي الجلد الظاهر...
" عليها " أي على هذه النار " تسعة عشر" مبتدأ مبني على فتح الجزأين مؤخرـ والأعداد من أحد عشر إلى تسعة عشر مبنية دائما على فتح الجزأين في أي موضع كانت إلا إذا ثنّيت مثل اثني عشر فتعامل معاملة المثنى ـ " عليها تسعة عشر أي من الملائكة
كأن هذا القول استخف به أهل الإشراك...
" ليستيقن الذين أوتوا الكتاب" لأن العدد تسعة عشر هو العدد الموجود في التوراة والإنجيل...فإذا قرأوها في القرآن وفي التوراة والإنجيل استيقنوا..." ويزداد الذين آمنوا إيمانا" المؤمن أصلا مؤمن أنهم تسعة عشر فهو يقبل كلام الله...
" ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون" ينفي الله تعالى عنهم الريبة بعد أن أعطاهم الله اليقين
" وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا"
يتعجبون من قلة العدد الذي يقبض أرواح الخلائق كلهم ملَك واحد فكيف يعجز أهل النار تسعة عشر ملَكاً...والأمر الذي أكثر توكيداً أن الله يعطي القدرة من يشاء من عباده وأنه لو جعل خزنة النار واحد لقام بهذه المهمة لكن مرض القلب مبني أساساً على عدم تعظيم الله والعلم هو الذي يبعد ما يأتي من شبهات والإيمان يبعد ما يأتي من شهوات... قال تعالى " كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو " لا ينبغي حصر كلمة جنود في الملائكة... فالله تعالى له جنود لا يعلمها إلا هو كما قال... " وما هي إلا ذكرى للبشر"
اُختلف في "هي " عائدة على ماذا؟ هل هي على التسعة عشر خزنة النار أم النار نفسها؟ والأظهر والله أعلم أن ذكرنا لهذا الأمر إنما جعله الله ذكرى للبشر يعنى بني آدم...
قال تعالى " كلا والقمر" كلا كلمة ردع وقال الكسائي كلا هنا بمعنى حقاً وقال بعضهم بمعنى نعم والصواب أن كلا هنا بمعنى ألا الاستفتاحية لأن حقاً لا يصح أن تكسر إن بعدها...(8/3)
" كلا والقمر * والليل إذ أدبر* والصبح إذا أسفر" هذه الثلاث مخلوقات عظام لن أفصل الكلام فيها لأننا سوف نتعرض لذلك في سورة الليل... وهنا قسم من الله تعالى بهذه المخلوقات الثلاث...
" إنها لإحدى الكبر * نذيراً للبشر" والراجح أنها التذكرة بالآخرة أو جهنم نذيراً للبشر... " لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر " من هنا فهم العلماء لا يوجد في طريق السير إلى الله أحد واقف فإما متأخر وإما متقدم...
" كل نفس بما كسبت رهينة* إلا أصحاب اليمين * في جنات يتساءلون عن المجرمين * ما سلككم في سقر* قالوا لم نك من المصلين"... الذي عليه الجمهور وأكثر ما اطلعنا عليه من كتب التفاسير أن معنى الآيات أن كل إنسان مرتهنٌ بعمله...لا ينفك إلا إذا كان عمله صالحاً... وأهل اليمين انفكوا لكونهم عملوا الصالحات وأنهم سيمكثون في الجنة يتساءلون عن أهل الكفر الذين يمكثون في النار... هذا ما قاله أهل العلم... والحق أن هذا غير مقنع لأن كل من ألفاظ العموم فاستثنى الله منها أصحاب اليمين لكن أين المقربون؟ وهو السؤال الذي يجعل الرأي السابق غير مقنع...الله ما استثنى إلا أصحاب اليمين وهم الذين خلصوا بأعمالهم... والمقربون أولى من أصحاب اليمين... فلابد للآية من معنى غير الذي فهمه جمهور أهل العلم... وجدت عند القرطبي نقلاً عن علي ابن أبي طالب أنهم أطفال المسلمين والحق أن هذا خيط يقود إلى حل الإشكال... معنى الآية
" كل نفس بما كسبت رهينة" أي كل نفس مرهونة والعمل لا يخلص أصلاً إلا أصحاب اليمين لأنهم لا عمل لهم فهم ماتوا قبل التكليف...
فأصحاب اليمين عام أريد به الخاص...أريد به من مات على الإسلام من صغار المسلمين... ومما يستأنس به لصحة هذا الرأي أنه لو قلنا إنهم أصحاب اليمين الكبار هؤلاء لا حاجة لهم في الأصل أن يتساءلوا فيما بينهم عن أهل النار لماذا دخلوها والرأي الثاني أقرب لأنهم ماتوا صغار لا يعلمون لأي سبب عذب أولئك...(8/4)
ذكروا أربع أسباب عدم الصلاة لأنها عمود الدين وعدم إطعام المسكين أي قسوة القلب والخوض مع أهل الباطل ثم ذكروا قاصمة الظهر وهو التكذيب بيوم الدين... وانظر إلى دقة القرآن" وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين " لابد أن يكونوا قد ماتوا على الكفر حتى لا يخلدوا في النار... وثمة قول جميل " ليست العبرة بعثرة البدايات إنما العبرة بكمال النهايات "
وإذا كان هذا حالهم " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " نحن نتكلّم عن القرآن عند بدء نزوله وسيأتي بعد ذلك منهم الذين حق لهم أن يشفعوا ليس صوابا أن نقتحمها الآن
" فما لهم " استفهامية " عن التذكرة معرضين..." كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة " كأنهم أي أهل النار " حمر مستنفِره "(8/5)
قُرأت " مستَنْفَرًة " ـ بفتح الفاء ـ على أنها اسم مفعول... وقرأت مستنفِرة " ـ بكسر الفاء ـ على أنه اسم فاعل..." قسورة " قيل الأسد في لغة الحبشة وقيل مجموعة من الرماة أي مجموعة مخيفة للحمر الوحشية إما أسود تريد أكلها أو رماة يريدون صيدها هذه الحمر إذا قلنا مستنفَرة ـ بفتح الفاء ـ أي استنفرت من قبل تلك القسورة... وإذا قلنا مستنفرة ـ بالكسر ـ معنى ذلك أن الخوف بلغ منها مبلغاً حتى أصبح بعضها يستنفر بعض... أما الحمر فهي معذورة في ذلك لأنها تفر مما يهلكها أما هؤلاء فيفرون مما فيه صلاحهم ونجاتهم... " بل يريد كل امرئ منهم أن يعطى صحفاً منشرة" بلغ من طغيانهم في طلبهم أنهم يريدون أن ينزل على كل فرد منهم كتابا خاصا ولا يكون مطوياً حتى لا يكلفون فتحه إنما كتاب منشور مفتوح... وهذا كله رد بالباطل فانظر إلى حلم الله على عباده...ثم ذكر الله العلة وهي عدم إيمانهم بالآخرة " كلا بل لا يخافون الآخرة " " كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره " ثم بين أنه مهما كان قولهم فإن القرآن حق إنه تذكرة..." ثم ذكر الله تعالى لنفسه المشيئة الشرعية والقدرية... " ومايذكرون إلا أن يشاء الله " أثبت لهم المشيئة فمن شاء ذكر ثم قيدها بمشيئته " هو أهل التقوى وأهل المغفرة " كل مطلوب لا يطلب إلا بحول الله وكل مرهوب لا يدفع إلا بحول الله ولهذا عظمت كلمة لاحول ولا قوة إلا بالله... ومن جميل الدعاء أن يقال" اللهم لست بريئاً فأعتذر ولا قويا فأنتصر ولكن لا حول ولا قوة إلا بك "
كان بالإمكان أن تكون الآية هو أهل التقوى والمغفرة... لماذا كرر كلمة أهل ؟ كررها لأن "أهل" الثانية غير "أهل" الأولى... الله جل وعلا أهل لأن يتقى بمعنى أنه لازم على الخلق أن يتقوا ربهم دون سواه... أما أهل المغفرة فليس لزاما على الله أن يغفر لكل أحد...(8/6)
يستفاد من هذا أنه يجعلك تجنح إلى ربك فتعبده دون غيره وأهل المغفرة يجعلك تجنح إلى ربك فتطمع فيه أن يعينك على تقواه... هذا ما تيسر إيراده وتهيأ قوله... وقد لاحظت أنني تجاوزت بعض المسائل لأن حينها لم ينزل بعد والأفضل أن تفصل في الموضع الذي نزلت فيه...
بلغنا الله وإياكم من الخير فوق ما نؤمل, وصرف الله عنا وعنكم من السوء فوق ما نخاف ونحذر... هذا والله أعز وأعلى وأعلم, وصلى الله على محمد وآله وصحبه...
انتهى,,,(8/7)
سورة الفاتحة
بسم اله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيه كما يُحبُ ربُنا ويرضى ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك لهُ شعار ودثار ولواء أهل التقوى ، وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمدً عبدهُ ورسولهُ عبدٌ مُجتبى وحبيبٌ مُصطفى ورسولٌ مُرتضى صلى الله علية وعلى آله و أصحابة ومن على نهجهم اقتفى ..
أما بعد
هذا اللقاء قد يكونُ مُختلفً بعض الشيء عن سابقيه وذالك أننا شرعنا في هذه الدروس المُباركة نبدأُ بترتيب السور حسب نزولها مُجتهدين في ذالك ما حرّرهُ أهل العلم من قبل في أوائل ما أُنزل .
فبدأنا بالعلق والمُدثر و أضرابها من سور القرآن بحسبِ نُزولها ثُم عرّجنا على سورة النور وهي سورةٌ مدنية لأننا وجدنا أن من المُناسب أن نُعرّج على سورٍ مدنيةً حتى نُعرّج على بعض آيات الأحكام .
وقد منّ الله علينا في هذه القناة المُباركة وفي هذا الدرس المُبارك بأن حرّرنا الكثير من السور منها { الكهف * وطه * والنور ومن قبل ذالك كُلهِ العلق * والمُدثر * والمسد * والشمس وضُحاها * وغيرُها } والآن نعودُ للأصل فنبدأ
بفاتحة الكتاب
ونستمرُ إن شاء الله حتى ننتهي بحول الله وقوتهِ راجين من الله القبول والسداد عند سورة الناس ، فالسور التي سبق الحديثُ عنها لن نقف عندها قطعا ونستمرُ من الآن بالفاتحة ثم البقرة ، آل عمران ، النساء وهكذا حتى نختم المُصحف بحول الله جل وعلا وفضلهِ وقوتهِ ..
ونسألُ الله الذي أحسن بنا البدء أن يُحسن لنا المُختتم وأن يغفر لنا ما بين ذالك فذا تأصيلُ مُهم أو تذكيرٌ مُهم في هذا اللقاء المُبارك فعلى هذا يتحرّر أن لقاء اليوم يتكلم عن [[ سورة الفاتحة ]] وثمّة أمور دلّ عليها النقل والعقل .(8/1)
فأما العقلُ فإن سورةً أمر الله جل وعلا عبادهُ تعبدهُم بأن يتلوها في كُل صلاة فرضاً ونفلا حتى صلاة الجنازة على قلّةِ أركانها جعل الله جل وعلا قراءة الفاتحة مُقررةً فيها يدلُ على عظيم شأن هذهِ السورة .
وبدأنا بالأمور العقلية ثُمّ ننتقل للأمور النقلية ..
"النبي علية الصلاة والسلام ثبت أن ملكاً جاءهُ من السماء وقال لهُ أبشر بنورين أُتيتهُما لم يؤتهُما نبيٌ قبلك فاتحةُ الكتاب وخواتيمُ سورة البقرة" .
"وأخذ صلى الله علية وسلم بيد أُبيّ ابن كعب وقال ألا أُعلمك أعظم سورةً في القرآن (الحمدُ لله رب العلمين ) هي السبع المثاني وهي القرآن الذي أُتيتُهُ" .
فهذان الحديثان يُغنيان عن ذكر غيرهما لكُل من يعقل في بيان عظيمِ وفضلِ هذهِ السورة المُباركة ..
افتتح الله جل وعلى بها كتابهُ خطا ولا نقولُ افتتح بها كتابهُ تنزيلا لأن التنزيل بدأ بالعلق لكن افتتح بها الكتاب خطا ووضعُ سور القرآن الأصلُ أنهُ توقيفي عن الصحابة عن رسول الله صلى الله علية وسلم وهذا بإرشاد الله لنبيهِ فالله جل وعلا جعل الفاتحة فاتحة الكتاب وفاتحةُ الكتاب اسمٌ نبويٌ لها
قال علية الصلاةُ والسلام " لا صلاة لمن لم يقرءا بفاتحة الكتاب وهي أُم القرآن وهي السبعُ المثاني ولها أسماء توقيفية وأسماء اجتهادية لكن قيل :
في طلعة البدر ما يُغنيك عن زُحل
فما ورد في أسمائها التوقيفية يُغني عن الأسماء الاجتهادية لأن الأسماء التوقيفية لها تتلألأُ تلألأُ القمر { كفاتحة الكتاب ، وأُم القرآن ، والسبعُ المثاني ، والحمدُ لله رب العالمين }
هذا إجمال عن هذهِ السورة المُباركة قبل الشروعِ فيها ولا يكادُ ولله الحمد يجهلُها مُسلم لأن الله تعبدنا بتلاوتها مراراً في اليوم الواحد ..
نبدأُ أولاً بمعانيها العظام قبل الشروع في المُفردات :(8/2)
فأول معانيها العظام أن الله جل وعلا فيها علّم عباده كيفيةً مُناجاتهِ ولا توجدُ لحظات ولا أوقات هي أجلُّ ولا أعظم من مُناجاة الله تبارك وتعالى . فالربُ جل وعلا هُنا يُعلمُ عبادهُ الطريقة المُثلى والسبيل الأقوم في مُناجاتهِ ، فاهدنا الصراط المُستقيم هذا هو الطلب لكّن ذالك كان مسبوقاً بتمجيد الرب ولهذا عرفتُ الرعبُ ذالك فجعلت الخُطب ذات الشأن إن لم تكُن مبدوءة بالحمد لله والثناء على ربها جعلت ذالك أبترا كما قالت في خُطبة زياد ابن أبيهِ لما بدأها بغير حمد الله أنها خُطبةٌ بتراء .
والمعنى أن الله أراد بهذهِ السورة الكريمة التي افتتح بها كتابهُ أن يُعلّم عبادهُ كيف يُناجون ، ومُناجاة الله جل وعلا مطلبٌ عظيمٌ جليل يُتوصلُ بهِ إلى جليل الغايات وعظيم الأماني وأعذب الآمال...
فنقول ذكر الله فيها الحمد على ذاتهُ العلية وإخبار ما لهُ جل وعلا من صفات الكمال ونعوت الجلال ثُمّ ذكر قضية التوحيد ثُم جعل بعد ذالك الطلب وهو قولهُ ( اهدنا الصراط المُستقيم ) .
والعربُ تعرفُ هذا من قبل والله جل وعلا أثبتهُ في مُخاطبة ذاتهُ العلية قال أُبية ابن الصمت يمدحُ عبد الله ابن جدعان :
أأذكرُ حاجتي أم قد كفاني *** حياؤك إن شيمتك الحياءُ
إذا المرءُ أثنى عليك يوماً *** كفاهُ من تعرضهِ الثناء
يعني يُغنيهِ من سؤالك أن يُثني عليك فإذا قال هذا مخلوقٌ في حق مخلوق فكيف بما قالهُ العلي الكبير في حقِ ذاتهِ العلية جل جلاله.
فلا أحد أعلمُ بالله من الله ولا أحد يستحق الحمدُ المُطلق إلا الربُ تبارك وتعالى هذا المعنى الأول وهو المقصود الأسمى .
الأمر الثاني في المعاني الجليلة للآية :
بيان قضية التوحيد وهي المُجملة في قولهِ تعالى ( إيّاك نعبدُ وإيّاك نستعين )
{فلا إله إلا الله } كلمة التوحيد قائمةٌ على نفيٍ وإثبات فقولُ لا إله خلعٌ لكُل المعبودات غير الله هذا النفي .(8/3)
والإثباتُ فيها {إلا الله } وإيّاك نعبُد تقديم الضمير إيّاك هذا حصر أحدُ أساليب الحصر فتقديمُ أسلوب الحصر هنا نفيٌ لكُل معبودٍ غير الله ، والطريقةُ لنفي المعبوداتِ هُنا جاءت بتقديم المعمول وهو إيّاك . وأما الإثبات فهو في قولهِ تبارك وتعالى ( نعبُد ) .
هذان نقيضان جليلان في التمهيد لسورة
نأتي لسورة .....
جرت سنن العُلماء أنهم يبدءون بشرح الاستعاذة وسأحاولُ أن أبتعد كثيراً عن طرائقِ المُفسرين في تفسير هذهِ السورة عندما يُعرّجون على إعراب البسملة والاستعاذة وغير ذالك وإنما نحاول أن نُقدم شيئاً يتعلقُ بهِ العلم الذي ينجمُ عنهُ العمل ..
الإنسانُ ضعيف شاء ذالك أم أبى قال ربُنا ( وخُلق الإنسانُ ضعيفا) والضعيف يحتاجُ إلى من ينصُرهُ خاصةً إذا كان لهُ عدو فالاستعاذة المعنى الحرفي لها : أستجيرُ بالله وألوذ من الشيطان الرجيم في أمر ديني ودناياي هذا المعنى الحرفي .
ينجمُ عن الاستعاذة ثلاثةٌ مقاصد :
الأول منها :. اعترافُ العبد بضعفهِ لأنهُ لا يلجأ ولا يستجير إلا الضعيف اعترافُ العبد بضعفهِ و اعترافُ العبد بضعفهِ مقصودٌ شرعي .
الأمر الثاني في قضية الاستعاذة :. فيها اعترافٌ من العبد بعظمةً ربهِ وجلالهِ وأنهُ لا يُجيرُ إلا هو وهذا من أعظم مقاصد الشرع .
والأمرُ الثالث :. اعترافُ العبدِ بأن الشيطان عدوٌ له وهذا أمرٌ قصدهُ الله في كتابهِ ( إنّ الشيطان لكُم عدو فاتخذوهُ عدواً ) .
فهذهِ الثلاث تتحرر من قناعة المرء و تلفُظهِ بالاستعاذة .
أما قول ربنا جل وعلا ( من الشيطان الرجيم )(8/4)
فالشيطان هُنا إبليس وأعوانه من الجن والإنس لكن من أين مأخوذة مادة شيطان ــ المادة أقصد اللفظية الحرفية لا أقصد المادة الخلقية ، المادة الخلقية مخلوقون من نار ــ الصوابُ أن نقول إنها مأخوذةٌ من الفعل شطن بمعنى بعُد فتنبه يا أُخي إذا كان هُناك بئراً بعيدٌ قعرهُ وتُرمى فيه الدلاء بالحبال أين يكونُ طرفا الحبل ؟ أحدُهما في الأعلى والآخر في الأسفل وإذا قُلنا أنهُ بعيدٌ قعرُه وهُناك بُعدٌ تام بين طرفي الحبل عنترةٌ يقول :
أشطانُ بئرٍ في لبان الأدهمِ
أشطان البئر حبالهُ [ واضح ] مُتباعد الطرفين هذا التباعُد هو اللفظ المُشتق منهُ اسم الشيطان ، فكما يتباعدُ طرفا الحبل إذا طال فالبُعدُ بين الخير وبين الشيطان كالبعدُ بين طرفي الحبل إذا طال فهو بَعُد عن الخير بكُل وجه ولهذا شطن فسُميَ شيطان .
أما الرجيم فإننا نقولُ إن الله ذكر إبليس في كتابهِ بأوصافٍ مشئومة وأسماء مذمومة لكن لفظ الرجيم هو أجمعُ تلك القبائح فيهِ لكن لفظ الرجيم هو أجمع تلك القبائح في الشيطان يعني الوصف أو الاسم الذي تجتمعُ فيهِ القبائحُ كُلها في الشيطان فهو هنا رجيم فعيلٌ بمعنى مفعول أي رجيمٌ بمعنى مرجوم أي مطرودٌ بعيدٌ كُل البُعد عن الخيرِ وعن رحمة الله ( أُخرج منها فإنك رجيم وإنّ عليك لعنتي إلى يوم الدين ) نعوذُ بالله من ذالك .
هذا المعنى العام لأعوذُ بالله من الشيطان الرجيم .
ومن الناحية الفقهية فإن جمهور العُلماء على أن قراءتها مُستحبة وليست بمُتحتمه ، وقال بعضهم بالوجوب هذهِ الاستعاذة .
أما البسملة فهي قول ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وجرت عادة العُلماء أنهم يذكرون هُنا خلافهم في هل هي آية من القرآن أو لا ؟
أما هنا في سورة الفاتحة فالذي يتحرّرُ عندي أن بسم الله الرحمن الرحيم آيةٌ من الفاتحة وهي الآيةُ الأولى وبهذا يتحقق القول بأنها السبع المثاني .(8/5)
واتفقوا على أن بسم الله الرحمن الرحيم آيةٌ من سورة النمل ( إنهُ من سُليمان وإنهُ بسم الله الرحمن الرحيم ) .
واختلفوا ـ أي أهل العلم ـ فيما عدا ذالك هل بسم الله الرحمن الرحيم آيةٌ في المصحف أو قُصد بها الفصل والتبرك وليس هذا موطن التفصيل لأن هذا يُخرجنا عن المقصود الأسمى من تفسير سورة الفاتحة .
ثُم قال ربُنا
( الحمدُ لله رب العالمين )
إذاً على وجه الحقيقة ( الحمدُ لله رب العالمين ) هي أولُ ما افتتح الله بهِ كلامهُ لأن الاستعاذة والبسملة الاستعاذة اتُفق على أنها ليست من المُصحف الخلاف في بسم الله الرحمن الرحيم على أن الحمدُ لله رب العالمين يعني بسم الله الرحمن الرحيم كالتغطية لها فالحمدُ لله رب العالمين هي أولُ آيةٍ في القرآن مُتفقٌ عليها خطاً وقد قُلنا مراراً إن العاقل يشتق من القرآن ما ينفعهُ في خطابه فيتحرر من هذا أن يُقال الحمدُ للهِ الذي جعل حمدهُ أول آية في كتاب رحمتهِ وجعل حمدهُ آخر دُعاءٍ لأهل جنتهِ ( وآخر دعواهم أن الحمدُ لله رب العالمين) الحمد المقصود بهِ هنا الثناءُ على الله جل وعلا واللام في ( لله ) لام الاستحقاق واللام تأتي للاستحقاق وللمُلك وللخلاص والمقصودُ بها هُنا الاستحقاق .
( الحمدُ لله رب العالمين ) العالمين جمعُ ماذا ؟ جمع عالم لكن إلى الآن أنا لم أقُل شيئاً مُفيداً العالمين جمعُ عالم هذهِ سهلة لكن الذي قصدتهُ ماذا ؟
العرب تجمع على قسمين جمعُ قلّة وجمعُ كثرة يقولون في نجم نجوم إذا أردت الكثرة ، وأنجُم إذا أردت القلّة يقولون في شهر أشهُر إذا أرت القلّة وشهور إذا أردت الكثرة .
عالمين جمعُ قلّة وجمعُ الكثرة عوالم ومعلومٌ أن العالم بمجموعة المُتفرق عوالم كُثر جداً فلماذا ذكر الله هنا جمع القلّة ولم يذكُر جمع الكثرة ؟(8/6)
حتى يُفهم أن العوالم وإن كثُرت قليلةُ في حق ِ مجدهِ وعظمتهِ جل وعلا أن العوالم وإن كثرُت جمعها هنا جمعُ قلّة حتى يُبين أنها مهما كثُرت قليلةٌ في جانب عظمتهِ ومجدهِ تبارك وتعالى .
( الحمدُ لله رب العالمين * الرحمن الرحيم )
هذهِ الآية الثالثة قال الشنقيطيُ رحمهُ الله في أضواء البيان ( الرحمن الرحيم ) وصفان لله تعالى واسمان من أسمائهِ الحُسنى مُشتقانِ من الرحمة على هيئة المُبالغة والمقصودُ بالرحمن ذو الرحمة للخلق جميعاً في الدنيا وللمؤمنين في الآخرة .
والمقصودُ بالرحيم ذو الرحمة لعبادهِ المؤمنين يوم القيامة ، كذالك ممكن يُضاف على هذا الذي ذكرهُ الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى عليهِ أن يُقال إن الرحمن لم يوصف إلا الله جل وعلا بهِ بخلاف الرحيم ويجب أن تعلم أن للهِ أسماء لا يجوز أن يُشاركهُ فيها أحدٌ سواهُ بحال ، وأسماء يجوزُ أن يُشاركهُ فيها إذا وردت غير مُعرّفةً أو مُقيدة.
مثل لفظ الجلاله الله لا يُقال لغير اللهِ الله ، ولا يُقالُ لغير اللهِ أنهُ خالق ، ولا يُقالُ لغير اللهِ أنهُ رازق ، ولا يُقالُ لغير اللهِ أنهُ رحمان
لكن ...
يُقالُ لغير اللهِ أنهُ رحيم قال الله جل وعلا في حق نبيهِ ( بالمؤمنين رءوفً رحيم )، ويُقالُ لغير الله أنهُ صبور، ويُقالُ لغير الله إنهُ مؤمن ،ويُقالُ لغير اللهِ أنهُ ملك وأمثالُها [ واضح ]
هذا مُهمّ في التفريق
( الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين )
أي يوم الجزاء وقد نبّه على يوم الدين في قولهِ في الانفطار ( وما أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملكُ نفسٌ لنفسٍ شيئاً والأمرُ يومئذٍ للهِ )
هذهِ الثلاث هي قوامُ الإيمان كُلهِ لأن الحمدُ للهِ رب العالمين تستوجب أن هُناك مُنعم يستحقُ المحبة والرحمن الرحيم تستلزم أن هناك رحيم أهلٌ لأن يُرجى ومالك يوم الدين تُبين أن هناك عظيم يستحقُ أن يُخاف والدينُ كُلهُ قائمٌ على هذهِ الثلاث .
فالرجاء والخوف جناحان والمحبةُ رأسُ الطائر(8/7)
فمن جاء بهذهِ الثلاثة أحب الله ورجاهُ وخافهُ فقد آمن ومن نبذ واحدةً منها نبذً كُلياً فقد كفر فمن خاف الله ورجاه ولم يُحبهُ كافر ، ومن أحب الله ورجاه ولم يخفهُ كافر ، ومن أحب الله وخافهُ ولم يرجوهُ فهو كافر .
( إيّاك نعبُد وإيّاك نستعين )
مضى القولُ فيها وقد نقل ابنُ القيم رحمهُ الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهُ الله أنهُ قال : إيّاك نعبُد تطرُد الرياء ، وإيّاك نستعين تطرُد الكبرياء .
الإنسان خُلق لعبادة اللهِ فمتى انصرف إلى عبادةٍ غيرهِ يا بُني فلم يعرف ما الغاية من خلقهِ ، ومتى ظنّ أنهُ سيعبُد الله بغيرِ حولٍ من الله فلم يعرف كُنه نفسهِ أصلاً فإذا علم أنهُ لا سبيل إلى الوصولِ إلى غير اللهِ ولا إلى الله إلا باللهِ فقد علم المعنى الحقيقي من ( إياك نعبُد وإياك نستعين ) فالمرءُ أياً كان ضعيفٌ كُل الضعف عاجزٌ كُل العجز وهذا من المعاني السامية لقولهِ
{ لا حول ولا قوة إلا بالله }
فالمؤمن الحق من خلع جميع المعبودات غير الله واستعان بالرب تبارك وتعالى على عبادتهِ وقد قال العُلماء لماذا قدّم الله العبادة على الاستعانة مع أن العقل يقول إن الإنسان يستعينُ ثُمّ يعبُد ؟
والصوابُ أن الله قدّم العبادة على الاستعانة لأن الاستعانة نوعٌ من العبادة فقدّم جل وعلا الأعمّ على الأخص فلا تعارُض في التقديم هنا ( إيّاك نعبُد وإيّاك نستعين ) .
بعد أن بين الله جل وعلا أن هؤلاء المُتقين مجّدُ ربهُم وأثنوا عليهِ بما هو أهلهُ وعرفوا الطرائق المُثلى لاستدرار نعمتهِ ودفع نقمتهِ واستعانوا بهِ ووحّدوه وحققوا المطلوب هنا طلبوا الهداية
( اهدنا )
ما الهداية ؟
الهداية في كلمتين طلبُ الدلالة بتلطُف أو الدلالة بتلطُف هي الهداية هي ماذا ؟ هي الهداية .
فمن دلّك على شيءً بتلطُف فقد هداك أما من دلّك على شيءً بغير تلطُف فهذا لم يهدك هذا أمرك هذا ماذا ؟ هذا أمرك .(8/8)
سجّان يقول لسجينهِ اذهب من هُنا هذا دلّهُ على الطريق ،لكنّهُ لم يدلهُ بتلطُف فلا يُسمى هذا بهداية لكّن الله جل وعلا هدانا بتلطُف أن بعث لنا الرُسل وأنزل علينا الكُتب وبيّن لنا معالم السُبُل وحذّرنا من طرائق الضلالة فسُمي هذا كُلهُ هداية .
( اهدنا الصراط المُستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم )
التعريف بالصراط هنا ورد بطريقتين نحويتين : التعريف بال والتعريف بالإضافة .
( اهدنا الصراط المُستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم ) من الذين أنعم الله عليهم ؟ ذكرهُم الله في النساء ( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشُهداء والصالحين ) إذاً هذهِ الآية دلالة على صدق خلافةِ من؟ أبي بكر دلالة على صدق خلافة أبي بكر.
الآن الأُمة مُجمعة على أن أبا بكر صديق وأن الذي سمّاهُ الصديق النبي صلى الله علية وسلم [ واضح ] ومُجمعة بنصّ القرآن على أن الصديقية مرتبةٌ بعد النبوة وأنها مُجمعة على أن أعظم ما سألهُ العبادُ ربهم هو صراط الذين أنعم الله عليهم ، والذين أنعم الله عليهم قال الله عنهم ( مع الذين أنعمت عليهم من النبيين ) والنبوة انقطعت بموت مُحمد صلى الله علية وسلم ووفاتهِ فلما توفي علية الصلاةُ والسلام لم يبقى لنا في النبوة شيء لأنهُ خاتمُ الأنبياء فجبراً بهداية القرآن ننتقلُ من النبيين إلى الصديقين وبدلالة السُنة والقرآن إشارة ( والذي جاء بالصدق وصدّق بهِ ) لكنها غير صريحة في أبي بكر لكن تسمية الصديق صريحة بدلالة القرآن أن الصديق هو الصديق الأول تسمية النبي صلى الله علية وسلم له فتنصرف الصديقية لهُ دون غيرهِ وإن كانت موجودة في غيرة لكنها تنصرفُ إليهِ في أول الأمر لأنهُ مُعين فكانت خلافةُ أبي بكر مما تُرشدُ إليهِ هذهِ الآية .(8/9)
والمعنى بالقلب يعني من اتبع خلافة أبي بكر وأقرّ بولايتهِ فقد هُدي إلى الصراط المُستقيم لأن الله لمّا عرّف الصراط المُستقيم قال ( صراط الذين أنعمت عليهم ) أي طريق الذين أنعمت عليهم [ واضح ]
والصديقُ بويع لهُ في سقيفةً بني ساعده و بنو ساعده رهطٌ من الأنصار والسقيفة موضعُها اليوم في الشمال الغربي وإلى الغربِ أقرب من مسجد رسول الله صلى الله علية وسلم
لمن زار منكم المدينة هي الآن مجموعةُ نخل ما بين مكتبة الملك عبد العزيز وبين البناية التي تُعرف بوقف الملك عبد الله لوالديهِ بينهما إلى جهة الغرب هذهِ مكان محجوز فيهِ نخل الآن زرع يُسمى قديماً سقيفةً بني ساعده هذهِ السقيفة شهدت أول بيعةً شرعيةً في الإسلام بعد نبيها صلى الله علية وسلم فتوارُث البيعة سُنةٌ شرعيةٌ دأب عليها المُهاجرون والأنصار من قبل رضوان الله تعالى عليهم .
نعود للآية
( اهدنا الصراط المُستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم ولا الضالين )
(غير المغضوب عليهم ولا الضالين) افهمها عموماً الكُفرُ فرقتان : إما فرق غلب عليها الاستهانة بالدين ونبذهُ عن عمد .
وإما فرق غلب عليها الهوى والجهل والضلالة وعدمُ الإصغاء لتعاليم الله .(8/10)
فلا يُمكنُ أن يخرُج فرقةٌ من فرق الكُفر قديماً أو حديثاً عن هذين الطريقين إما رجُل مُعرض مُستهين يُبدل من عندهِ عمداً وإما شخصٌ ضال يركبُ هواه ولا يلتفتُ جهلاً لما يُقال له وأخصُ تلك الفرق الأولى اليهود وأخصُ ما في اليهود يجتمعُ في اليهود الغضب والضلالة غضبُ الله عليهم وضلالتهُ ويجتمعُ في النصارى غضبُ الله عليهم وضلالتهم لكن الغضب في اليهود أخص والضلالةُ في النصارى أخص وكلاهما على باطل لكن الله أراد هُنا ليس اليهود ولا النصارى تحديداً أو حصرا وإنما قصد أن يُبين لنا فرق الكُفر أن أصلها ينقسمُ إلى قسمين ثُم بين لنا في نواحيٍ عدة في آياتٍ عدة أن أعظم من غضب عليهم اليهود وأعظم من ضلوا النصارى ( وضلوا عن سواء السبيل ) [ واضح]
النصارى بإصرارها على أن عيسى ابنُ الله واليهود بقتلهُم الأنبياء ( فريقاً كذبتُم وفريقاً تقتلون ) يفعلون ذالك عمداً جهاراً هذان جنسا فرق الكُفر .
فغير المغضوب عليهم ولا الضالين يحميك حماية تامة عن أي فرقةٍ من فرق الكُفر لأنها تنحصرُ في هاتين الفرقتين .
( اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوبِ عليهم ولا الضالين )
والآيةُ من حيث الإجمال تُبين أن هؤلاء العباد مُتقين استعطفوا ربهم أثنوا عليه بالغوا في تمجيدهِ فذكروا عبادتهم لهُ وضعفهم وعجزهم واستعانتهم بهِ ثُمّ طلبوه أن يهدهم بلطفهِ وارشادهم إلى ما ينفعهم وأعظم المطالب الهداية ولها أنواع حرّرها العُلماء لكننا من الصعب أن نُفصل هُنا لماذا ! لأن التفصيل هنا يُخرجنا عن المقصود الأسمى من الآية والدُعاء بالكُليات والنظر إلى الشموليات من أعظم ما كان النبي صلى الله علية وسلم مُتلبسً بهِ ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) وإنما التفصيل في الأحكام .(8/11)
أما في نوعية الإعانة في تحقيق المطلوب و دفع المرهوب الأفضل أن يكون الأمرُ أمرً عاماً لأننا نعجز عن حصر الجُزئيات بعضهُم يقول هداية إلهام ، هداية كذا ، هداية كذا هذا حسن لكن الأفضل أن نقتصر على تعبير القرآن ( اهدنا الصراط المُستقيم ) فكل خيرٍ عطاهُ الله لأهل من أنعم عليهم .
هذا فيه دلالة كذالك على أن الإنسان مطلوبٌ منه أن يتأسى بالصالحين لأن أنعمت جاء في صيغة الماضي ويدخُل فيها الأنبياء والرُسل في المقام الأول والأنبياء والرُسل كانوا قبلنا وما ذكر الله نعمهُ على بعض خلقهِ إلا لنتأسى بهم ونعلم أن الذي أعطاهم قادرٌ على أن يُعطينا .
وما ذكر الله انتقامهُ من بعض خلقهِ إلا لأن نحذر أن نصنع صنيعهم حتى نعلم أن الذي أنتقم منهم قادرٌ على أن ينتقم منّا هذا الأصل في فهم الدين .
(صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوبِ عليهم ولا الضالين ) وجاءت السُنة أن تُقال آمين بعدها خاصةً في الصلاة وآمين اسم فعل بمعنى استجب ، تقبل ، حقق كُلها تدور في فلك واحد
وقولُ آمين بعد قراءة الإمام للفاتحة مما تضافر النقلُ عليه وهو من أعظم شعارات أهل الإسلام على وجه الحقيقة ومعناها قُلنا استجب ، والعربُ تنقلُ عن مجنون ليلى أنه قال :
فياربِ لا تسلبني حُبها أبدا ** ويرحم الله عبدً قال آمينا
قال بعضهم :
آمين آمين لا أرضى بواحدةٍ ** حتى أُبلغها ألفينِ آمينا
الذي يعنينا من هذا أن ذكر آمين جاءت فيهِ آثارٌ صحاح تتضافر على أن قولها سُنة بعد قراءة الإمام .(8/12)
هذا يُعرّجنا على مسألةٍ فقهية وهي قراءةُ سورة الفاتحة أثناء الصلاة والعُلماء في هذا رحمة الله تعالى عليهم اختلفوا اختلافاً كثيراً فمنهم من اتفقوا على أنه يقرأها الإنسان إذا كان مُنفرداً أو كان إماماً لكنهم اختلفوا في إذا كان الإنسان مأموماً هل الذي كان فيهِ النزاع فذهب بعضهُم إلى أنهُ لا يقرأ وحُجتهم أن قراءة الإمام قراءةٌ لمأمومةِ وهذا القول يُنسبُ إلى أبي حنيفة رحمه الله تعالى أولُ المذاهب الإسلامية ظهورا .
وبعضهم قال إنها تُقرأ للمأموم والإمام سواءً بسواء سواءً كانت الصلاةُ سريةً أو جهرية وأنها لا تسقُط بحال وحُجتهم " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "
وذهب مالكٌ رحمه الله أنها تُقرأ في الصلاة السرية في الركعتين الأُخريين من الصلاة الجهرية أما إذا قرأ الإمام في الصلاة الجهرية الأوليين كالعشاء والفجر والمغرب فإن المأموم لا يقرأُها وأختار هذا القولُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهُ الله .
كان الشيخ بن باز رحمه الله يرى أنها تُقرأ على الدوام سواءً في السرية أو في الجهرية سواءً كان المرءُ إماماً وهذا لا خلاف فيهِ أو كان مأموماً وهو الذي تنازع الناسُ فيهِ هذا الذي يُمكن عرضهُ في المسألة والقولُ بقرأتها يُخرجُ المرء من كُل نزاع وتعبُد الله جل وعلا بها كما قدمنا في الأول عبادهُ أن يقرأُها يدلُ على عظيم شأنها وعلّو منزلتها وهذا قد تحرر من نصوصٍ صريحة موضحة لهذهِ السورة العظيمة التي افتتح الله جل وعلا بها عبادهُ .
بقي أن نختم قولاً إيمانياً حول قول الله جل وعلا
( إيّاك نعبُد وإيّاك نستعين )(8/13)
المؤمنُ يكونُ قريباً من الله إذا أقبل إلى الله بقلبهِ ولن تُقبل إلى الله بقلبك حتى يتحقق فيك الثلاث الآيات الأُول من هذهِ السورة المُباركة لابُد أن يشعُر الإنسان أنهُ أصلاً لم يكُن شيئاً مذكورا ، أن هناك رب عظيم جليل قادر أوجدهُ من العدم وربّاه بالنعم وجعلهُ أهلاً لأن يُنعم عليهِ فما نحنُ إلا ربائب لنعم ربنا تبارك وتعالى نتقلبُ فيها ليل نهار وكوننا نعلم أننا لرب تبارك وتعالى هو الذي أنعم علينا يُجب علينا أن نُحبهُ وما عند الله جل وعلا لا يُنال بأعظم من شيء من أن تُحب الرب تبارك وتعالى لأن حُب الله يُجب محبته والنبي صلى الله علية وسلم يقول " واللهِ ـ يحلف ـ لا يُلقي الله حبيبهُ في النار"(8/14)
فحصول المرء على أن يُحبهُ الله جلا وعلا هذا مطلب سامي جليل عظيم مقصد كريم وكون الإنسان أصلاً ينشغل ذاتياً ذهنياً حتى وهو مع الناس في أن ينشغل أنهُ يتمنى أن يحصُل على محبة الله هذا من أسباب نيلها لأن الله جل وعلا إذا علم من عبدٍ صدق النية في أنهُ يرغب يتمنى لأن يُحبهُ الله اضطجع إلى فراشهِ إذا تخلى عن زُملائهِ إذا انفرد بنفسهِ إذا غدا للمسجد إذا خلا في مسجدهِ إذا تلبس بأي حال وشعر أنهُ في حاجة تامة لأن يُحبهُ الله وأظهر للهِ في قلبهِ أنهُ يُحب الرب تبارك وتعالى يُجلّهُ وأنهُ حتى ولو عصى الله أحياناً لا يعصيهِ فضحاً لا يعصيهِ افتخاراً إنما يعصيهِ لأن الشيطان غلبه والهوى تلبس بهِ و إلا هو يُبغضُ نفسهُ حال المعصية ويزدريها و إنما الأمر كُلهُ في أنهُ يُحبُ ربُهُ ويقول في نفسهِ {{ اللهم إنني أُحبك وإن عصيتُك ، أُحبُك وإن لم أقدر على أن أقوم بواجبك حق قيام ، أُحبُك ولو كُنتُ أحياناً أنأ عن طاعتك ، أُحبُك ولو كُنتُ أحياناً أتلبسُ بمعصيتك }} فإذا أظهر العبدُ ذالك لربهِ قلباً وظهر ذالك على جوارحهِ ينالُ محبة الله فإذا جمع مع ذالك خوفهُ من الله فرقهُ من الله تبارك وتعالى أدب الله نبيه ( قٌل إني أخافُ إن عصيتُ ربي عذاب يومٍ عظيم ) ( قُل إنهُ لن يُجيرني من الله أحد ولن أجد من دونهِ مُلتحداً ) في نفس الوقت مع خوفهِ من الله يعلم أنهُ لا يُمكن لهُ أن ينبُت لهُ ريش أو أن يحصُل لهُ نعمة أو أن تُدفع عنهُ نقمة إلا بربهِ تبارك وتعالى فيرجوا الله تبارك وتعالى وهو مع رجائهِ يعلم أن هذا الرب الذي يرجوه رحيم لا تنفُذ خزائنهُ لا ينقضي شيءٌ مما عندهُ وأنه لا يتعاظم تبارك وتعالى شيئاً أعطاه قال الله على لسان سُليمان ( ربِ هب لي مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي إنك أنت الوهاب ) قال العليُ الكبيرُ بعدها ( فسخرنا لهُ الريح ) قال الله عن عيسى وقد أثنى عليهِ أعظم ثناء ثم لخّص ذالك كُلهُ في آيةٍ موجزة قال جل(8/15)
وعلا ( إن هو إلا عبدٌ أنعمنا عليهِ ) فلولا إنعامُ الله عليه لم يكُن عيسى شيئاً مذكورا ، عيسى تُعظمهُ النصارى اليهود يتوارون عن القول بقتلهِ والمسلمون يقولون عبدُ الله ورسوله وهذه مناقب ما صح منها وما بطُل لم تكُن لهُ لو لم يُنعم الله جل وعلا عليه ( إن هو إلا عبدٌ أنعمنا عليهِ )
وموسى من موسى ألقتهُ أُمهُ وهي أُمهُ خوفاً عليهِ في لُجج اليم لكن لما أراد اللهُ بهِ رحمة لما رحمهُ ربهُ أصبح هذا الذي تتقاذفهُ الأمواج أصبح عبدً صالحاً حتى وهو ميت في قبره يُصلي يقول علية الصلاةُ والسلام " مررتُ بهِ لليلة أُعرج بي عند الكثيب الأحمر قائماً يُصلي " وهذا كله من فضل الله جل وعلا عليهِ ولهذا قال الله لهُ ( ولقد منّنا عليك مرةً أُخرى ) وقال لهُ ( وألقيتُ عليك محبةً مني ) .
وقال الله مُمتناً على إبراهيم ( إني جاعلُك لناس إماما)
هذهِ كُلها عطايا يعرف منها المرء أن هُناك رباً عظيماً جليلاً قادرً على أن يرحمه وثق أيُها المُبارك أن الله إذا أراد أن يرحمك لن يستطيع أحدٌ أن يٌمسك رحمة الله جل وعلا عنك أبدً فعلّق قلبك بالله وأقرأ هذهِ السورة المُباركة مراراً وتكراراً في صلاتك وفي غير صلاتك وأنت تستحضر معانيها العظام وأنها تُقربُك من الرب جل وعلا وأنها تبني لك الأُسُس التي تصلُ بها إلى ما عند الله وإلى مطالبك الدنيوية المُباحة كُلها تتحقق بـ ( إيّاك نعبُد وإيّاك نستعين )(8/16)
لا ينبغي لعاقلٍ يعرف عظمة الله وجلالهُ وسُلطانه وسعة رحمتهِ أن يُعلّق قلبهُ مثقال ذرة بأحدٍ غير الله إنهم لم ينفعوك ولن يضروك إلا بشيءٍ قد كتبهُ الله جل وعلا لك أو كتبهُ الله جل وعلا عليك ثُم وأنت في طريقك إلى الله أظهر لله عجزك وضعفك وأنهُ لولا لُطف الله بك وأنهُ هو الذي أوقفك بين يديه قال الله عن عباده الصالحين ( وما كُنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) فالله جل وعلا هو الذي أكرمنا وأعطانا ونحنُ مثلاً في حلقة علم حلقة قرآن سواءً نحنُ الذي نتحدث أو أنتم الذين تستمعون أو غيركُم ممن يُشاهد هذهِ رحمة من الله جل وعلا .
الله جل وعلا أكرمنا بأن نُفسر كتابهِ أو أن نسمع تفسير كلامهِ أو أن نُشاهد تفسير قرآنهِ كما أضل غيرنا بأنهم سلكوا مسالك أُخرى
قد كُنتُ أعذرُ في السفاهة أهلها ** فأعجب لما تأتي بهِ الأيامُ
فاليوم أعذُرهم وأعلم أنما ** سُبُل الضلالة والهُدى أقسامُ(8/17)
ومتى ظن عبدٌ ما أنهُ ما هو فيه من نعمة أو انصراف إلى الطاعة إنما كان بحولهِ وسُلطانهِ وقوتهِ ألبسهُ الله لباس الخزي وأظهر الله جل وعلا لهُ ضعفهُ وأزال الله جل وعلا عنهُ كرمه نعوذ بالله من سوء المُنقلب . وكلما أظهر البعدُ لربهِ أنهُ يعلم أنهُ ما خطت أقداهُ إلى مسجد ولا عُقدت أناملهُ بتسبيح ولا لهج لسانهُ بذكر ولا أنعقد في قبلهِ محبةُ الله إلا وهي أصلاً من فضل الله تبارك وتعالى عليه وأن الله جل وعلا أختارهُ واصطفاه وعلّمهُ واجتباه وهداه هذا من أعظم أسباب الزيادة وبهِ وبأمثالهِ يُنال ما عند الرب تبارك وتعالى و إلا فربُنا مستوٍ على عرشهِ بائنٌ عن خلقهِ لا تنفعهُ طاعة طائع ولا تضرهُ معصية عاصي في الحديث الصحيح " يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكُم ما زاد ذالك في مُلكي شيئاًَ يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكُم ما نقص ذالك من مُلكي شيئاً يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني وأعطيتُ كُل ذي سؤلٍ مسألته ما نقص ذالك من مُلكي شيئاً "
فإذا كان أهلُ الأرضِ والسماوات كٌُلهم لو سألوا الله وأعطاهم كُلهم على كل على قدر سؤلهِ ما نقص ذالك من مُلكهِ جل وعلا شيء فكيف ينقُصُ من طلب عبدٍ واحد لكن أعظم ما يُطلب من الله أن يُطلب منه رضاه ونيلُ محبتهِ جاء عن داود أنه كان يقول " اللهم إني أسألُك حُبك وحُب من يُحبك وحبُ كل عملٍ يُقربُ إلى حُبك "
من جوامع الدُعاء(8/18)
" ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار "ودُعاء الصالحين في آل عمران ( ربنا وآتنا ما وعدتنا على رُسلك ولا تُخزنا يوم القيامة إنك لا تُخلفُ الميعاد ) ربنا آتنا ما وعدتنا على رُسلك هذا تغليبُ لرجاء ولا تُخزنا يوم القيامة هذا إظهارٌ للخوف لأنهُ لا يأمنُ مكرُ الله إلا القوم الخاسرون ولو تُركنا لأعمالنا وذنوبنا لهلكنا لكن الظن كُل الظن حسن برب العزة والجلال أن يستُر العورات ويغفر الخطيئات وأن يرفع الدرجات ويقبل الحسنات إن ربي لسميعُ الدُعاء .
هذا التعليق الذي منّ الله بهِ علينا في التعليق على سورة الفاتحة نسأل الله لنا ولكم حُسن المُنقلب وأن يفتح لنا جل وعلا بكُل خيرٍ في أمر ديننا ودُنيانا
هذا ما تيسر إيرادهُ وتهيأ إعدادهُ وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آلهِ والحمدُ لله رب العالمين ......(8/19)
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:-
هذا استكمال لما سبق معنا من سورة القلم ....
قال تعالى : { إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم }
( للمتقين ) اللام هنا للاستحقاق وهي قد تأتي لثلاث معان :
1 ـ للاختصاص : كقولنا " السيف للرجل ، واللجام للفرس "
2 ـ للملك : كقوله تعالى : { لله ملك السموات والأرض }
3 ـ للاستحقاق : كأن يقال " لمن الجنة ؟ للمتقين " أي الذين يستحقون الجنة هم المتقون ...
كأن الآية يوم نزلت وتليت على الكفار فهموا أن المعنى ( ونحن معكم ) ، فرد الله على ذلك التوهم الذي في قلوبهم سواء نطقوا به أم لم ينطقوا فيقول سبحانه : { أفنجعل المؤمنين كالمجرمين }
إن من أعظم ما ينبغي أن نعلمه أن القرآن دل على أن الله ـ عز وجل ـ حكم عدل وأنه سبحانه لا يستوي عنده الأبرار والفجار ، ولقد قال الله ـ تعالى ـ في سورة أخرى : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون }
ومن هنا قال بعض العلماء : ( إن الجنة دخولها بالفضل ، لكن المراتب فيها بالعدل )
{ أفنجعل } ( الهمزة ) هنا همزة استفهام استنكاري توبيخي لما يظنه ويتفوه به كفار قريش ومن تبعهم على هذا المنحى ...
{ مالكم كيف تحكمون }
{ مالكم } استفهام ..
{ كيف تحكمون } أي : أيّ عقل هذا الذي يدلكم على هذا الحكم لا شك أنه عقل ضال غير مسترشد الذي ينجم من تفكيره أن يجعل الله ـ جل وعلا ـ ملزما أن يساوي ما بين الكفار وما بين أهل الإيمان ...
{ أم لكم كتاب فيه تدرسون }
والمعنى : هذه الجرأة التي تنشأ منكم على ربكم ـ تبارك وتعالى ـ وزعمكم أنكم في الجنة وأنكم على الحق فعلى أي مستند تستندون ؟؟(8/1)
هل عندكم من الله ـ تعالى ـ كتاب بيّنا يقول أنكم على حق ورسولنا ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ على باطل ؟؟
وسياق الآية هو نوع من التهكم ، بمعنى أنهم أميّون لا يعلمون القراءة ولا الكتابة ، فيعاملهم الله ـ تعالى ـ معاملة من يتهكم بهم ...
{ أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون }
أي هل يوجد لديكم أننا أقسمنا لكم قسما مؤبدا إلى يوم القيامة أنكم على الحق وأنكم تدخلون الجنة وهذا منتف غير وارد فرده الله ـ تعالى ـ عليهم .
{ أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين }
أي هل هناك شركاء لله ـ تعالى ـ كما تزعمون دلوكم على هذا الأمر وأخبروكم به ؟؟ { فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين } وهذا كله باطل .
* ثم لما كانوا كلما نزلت آية يتعرضون لها ويصادون الله ـ - عز وجل - ـ عاملهم الله بطريقة كلامهم فقال تعالى : { سلهم أيهم بذلك زعيم } : فلقد طلب الله ـ سبحانه ـ منهم زعيما واحدا لأنهم يرون أن أي أحد منكم كفؤ أن يعارض الله .
ــ والمعنى أي من هذا الذي يكفل لكم صدق ما تقولون ويتحمل هذه المسؤولية فتنيبونه عنكم ليحاج الله ويجادله .
فهذه الأمور جميعها محسوسة وكلها منتفية ، فلما انتفت أخبر الله نبيه أن الموعد القيامة ، فالدنيا ليست بدار جزاء .
{ يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون }
دلت لغة العرب على أن التعبير بالكشف عن الساق يدل على هول الأمر ..
وفي الصحيح : " أن النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أخبر أن الله ـ - عز وجل - ـ يكشف عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء يوم القيامة "
على هذا قال أهل الأثر : ( إن المقصود بـ { يوم يكشف عن ساق } ما يكون من كشف الله ـ - عز وجل - ـ عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء ، فكل ما خطر ببالك فالله غير ذلك )
ومن لوازم ذلك أن هناك هول وخطب وشدة ...
{ ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } :(8/2)
هذه الدنيا مزرعة للآخرة ، فمن أذعن لله وخافه ورجاه وأسلم نفسه لله ـ - عز وجل - ـ سيجدها أمامه .
ومن استكبر واستنكف يقول كما قال الله ـ تعالى ـ عن أهل الباطل : { يقول يا ليتني قدمت لحياتي } ..
{ ويدعون إلى السجود } : يسجد أهل الموقف ، فيسجد المؤمنون يوم يكشف الرب ـ تعالى ـ عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء ، ويهم بذلك أهل النفاق أن يسجدوا وكذا أهل الكفر فيبقى ظهرهم طبقا واحدا ...
{ خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة } :
( الخشوع ) يكون في القلب وإنما عبر الله به عن البصر لأن بالعين يعرف ما في القلب " وهذا من بلاغة القرآن وإعجازه " ...
* ولابد أن نعلم أن الله أغنى الأغنياء عن الشرك ولا يقبل ـ - عز وجل - ـ من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه سبحانه ، فطوبى لعبد في فلق سحر أو إدبار ليل أو إقبال نهار أقبل على الله ـ تعالى ـ بقلبه وجسده ، فكلما كان العبد متذللا لله ـ تعالى ـ حال هذه الحياة وجد المرء ثمرتها بين يدي الله ـ تبارك وتعالى ـ ، ولا راحة للمؤمن دون لقاء الله ـ - عز وجل - ـ ، فكل ما في الدنيا أكدار متتابعة { لقد خلقنا الإنسان في كبد } فإذا لقي المؤمن الصادق القانت في الدنيا بين يدي مولاه ـ - عز وجل - ـ انتفى كل كدر وزال كل خطر ، ولقي المؤمن بشارة من الرب ـ تعالى ـ ، لأن الإنسان إذا أراد أن يغدوا إلى أمر يريد أن يدركه يعلم أنه لن يستريح حتى يلقي عصاه من أثر ذلك السفر إلى بيته أو إلى جاره ، فكيف بالقدوم على أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين إن كنت تعمل بطاعته وتعزه ـ - عز وجل - ـ بما أفاءه الله ـ تعالى ـ عليك من التوفيق والطاعة والغدوة والرواح في باب طاعته ـ - عز وجل - ـ ...
* ولقد جاء الإشكال لدى العلماء في : " كيف يكون المطالبة بالسجود والآخرة ليست بدار تكليف ؟؟؟ "(8/3)
أجيب عن هذا : بأنه ليس المقصود التكليف ذاتا وإنما المقصود إظهار توبيخ الله ـ تعالى ـ لمن عصاه وامتنع عن السجود عنه في الدنيا ...
وقد دلت النصوص الأخرى على أنه ليس المقصود به التكليف ذاتا : ( فإن النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ كما جاء في حديث الشفاعة " أنه يسجد بين يدي الله ـ تعالى ـ عند العرش " ..
فما كان من عمل لم تعمله في وقت السعة ولم توفق إليه فإنه يصعب عليك فعله في وقت الضيق ...
{ وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } وهذا تهكما من الله ـ تعالى ـ بهم .
{ وقد كانوا } أي في الدنيا
{ يدعون إلى السجود وهم سالمون } : أي كانت لهم العافية في أبدانهم وذكاء في عقولهم ومتعة في قلوبهم ، ومع ذلك كله لم يستجيبوا لأمر الله ولم يتقربوا للسجود له أما الآن فلا يمكن أن يوفقوا للخير بعد أن فرطوا فيه في وقت التمكين ...
ثم قال تعالى لنبيه : { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث }
وهذا من أعظم أساليب التهديد والوعيد الإلهي
* والمعنى : أن من عصاك يا نبينا وحاربك يكفيك أن تخلي بيني وبينه وكفى أن يكون الله ـ - جل جلاله - ـ مكتفل به وبإهلاكه ...
{ الحديث } القرآن .
{ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون }
إن الإنسان إذا استدرج فإنه لا يعلم أنه استدرج ـ نسأل الله العافية ـ فأحيانا يثنى الشخص بالثناء الحسن الذي هو ليس له أهلا ، لأنه يعمل المعاصي ويثنى عليه في غير موضعه ومع ذلك لا يعلم أن الله أ تعالى ـ يستدرجه .
ــ كذلك إمهال الله ـ تعالى ـ للظالم نوع من الاستدراج ، فكونه يظلم ثم يظلم دون أن تحل به العقوبة فهو استدراج له ...
{ وأملي لهم إن كيدي متين }
{ أملي } أي تمهل واصبر عليهم من الإملاء والإبقاء{ إن كيدي متين }
{ أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون }
{ المغرم } ضد المغنم ، وقد جرت سنة الله ـ تعالى ـ في خلقه أن من له
( غنم ) شيء فعليه ( غرمه ) ..(8/4)
والمعنى أن الله يقول لنبيه ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أنت لا تطلب منهم أجرا حتى يكون سبب طلبك للأجر مانعا في عبادتهم ، وفي هذا إرشاد على أن من يعلم الناس ويحدثهم أن لا يأخذ منهم أجرا على تعليمهم .
{ أم عندهم الغيب فهم يكتبون }
انتقل سبحانه إلى أمور الغيبيات بعد الأمور الحسية ، والمعنى أم عندهم علم الغيب واطلعوا عليه وكتبوا ذلك العلم ، فتبين لهم ثم أخذوا يجادلونك به ، وبالقطع أنهم لا غيب عندهم يكتبون منه ، وليس هناك مغرم يخشون منه ، ولكنه أنفة في قلوبهم واستكبارا في نفوسهم وشقوة كتبت عليهم ...
* وبعد أن ذكر الله ـ تعالى ـ حال أهل الإجرام أخذ يسلي نبيه ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ويعزيه ويكتب له الطريق الذي يسير عليه ، لأن الأمر ما زال في أوله ...
فقال تعالى : { فاصبر لحكم ربك } :
{ حكم ربك } هنا عام أريد به الخاص وهو إمهاله لهؤلاء الظالمين ، ولكون الدعوة بدأت تدريجيا ...
والقرينة { ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم }
وهذه الآية قطعا أول آية تتحدث عن الرسل ..(8/5)
والمعنى { ولا تكن } أي يا نبينا { كصاحب الحوت } وهو يونس ـ - عليه السلام - ـ واسمه ( يونس بن متى ) بعثه الله ـ - عز وجل - ـ لأهل نينوى من أرض العراق فردوه ، فتوعدهم بالعذاب ، وكأن العذاب أبطأ فأصابه الغضب وخرج مغاضبا دون أن يستأذن ربه ، ثم لما وقف على ساحل البحر وجد مركبا فركبه ، ثم أن السفن تجري حول هذه السفينة غدوا ورواحا وهي على حالها ، فلما رأوا الأمر كذلك تشاوروا فيما بينهم ، فقالوا : إن عبدا أبق من سيده فأجروا قرعة { فساهم فكان من المدحضين } ووقعت عليه القرعة ، ثم ألقي به ـ - عليه السلام - ـ في البحر فابتلعه الحوت { فالتقمه الحوت وهو مليم } وأصبح في ظلمات ثلاث : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت ، وبعد ذلك تغير حاله دون أن يموت ، وحينما شعر يونس ـ - عليه السلام - ـ أنه حي خر ساجدا لله ـ تعالى ـ ويقول : ( اللهم إني اتخذت لك مسجدا في الأرض لا أظن أن أحدا عبدك فيه ) ، ونادى الله ـ تعالى ـ النداء العظيم : { لا إله إلا أنت سبحنك إني كنت من الظالمين }
ولم يرد الله ـ سبحانه وتعالى ـ هنا في هذه الآية المباركة ذكر قصة يونس ـ - عليه السلام - ـ وإنما كان المراد منه ـ - عز وجل - ـ بأن يعلم نبيه ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بأن لا يستعجل كصاحب الحوت ، وقد قيد سبحانه الكلام عن يونس ـ - عليه السلام - ـ بقوله : { إذ نادى وهو مكظوم } لئلا ينفي أحد عن يونس الهداية بالكلية ..
و{ مكظوم } أي قد امتلأ قلبه حنقا وغضبا ..
{ لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم }
{ نعمة } هنا أي الرحمة العظيمة الشاملة لهذا النبي الكريم ، فلقد أمر الله الحوت أن لا يكسر له عظما ، ولا يأكل له لحما ، وأن ينبذه بالعراء ....
* ولا يستقيم المعنى إذا وقفنا على قوله تعالى : { لنبذ بالعراء } لماذا ؟(8/6)
لأن الله ـ تعالى ـ لم يرد نفي النبذ بالعراء ، لأن ذلك جاء بنص القرآن في مواضع أخر كقوله ـ تعالى ـ : { فنبذناه بالعراء } ولكن الذي أراده الله ـ سبحانه ـ نفيه هنا أنه لم ينبذ وهو مذموم لأنه تداركته نعمة الله ـ تعالى ـ ، وعلى هذا يفهم أنه ـ - عليه السلام - ـ كان محمود الأمر ...
{ لولا } حرف امتناع لوجود ..
فالممتنع هنا : أن يكون مذموما ، و الموجود : نعمة ربك ..
{ فاجتباه ربه فجعله من الصالحين } :
{ فاجتباه } : أي اصطفاه وتاب عليه وأصبح الأمر الأول منسيا اللهم إلا للعظة والاعتبار ..
{ فجعله من الصالحين }
قال بعض المفسرين : ( أن المعنى : فجعله من الصالحين للنبوة ) وهذا غير صحيح ، لأنه - عليه السلام - قد كان نبيا قبل أن يجتبيه الله مرة أخرى ، وإنما تاب الله عليه كما تاب على آدم ـ - عليه السلام - ـ من قبل ..
* ثم بعد أن بين الله ـ سبحانه ـ لنبيه ما حصل لهذا النبي الكريم - عليه السلام - قال تعالى : { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون }
هذا تصوير للأحوال التي كانت سائدة في مكة في أول فترة البعث ، لأن الكفار كانوا كثير فكانت لهم الغلبة والأمر في مكة ، فكلما مر - صلى الله عليه وسلم - كادوا أن يأكلوه ( بأبصارهم ) وتحتمل مسألة العين التي لا ندري كيفية وصول أثرها إلى المعين وإن كانت لحقا ...
{ وإن يكاد } : هو فعل مقاربة ، فهو لا يعني وقوع الشيء وإنما قرب وقوع الشيء ..
وهؤلاء الكفار ليسوا هم بالذين تركوا نبينا ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ولم يمضوا إليه هذه النظرات الذميمة ، ولا هم الذين استطاعوا أن يغيروا بهذه النظرات مكانه أو أمره ..
{ لما } بمعنى عند ..
{ الذكر } القرآن ..
أي عندما سمعوا القرآن ..
{ ويقولون إنه لمجنون } : أي هذا النبي الذي يتلو إنه لمجنون وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - .(8/7)
فرد الله ـ - عز وجل - ـ عليهم بقوله : { وما هو إلا ذكرى للعالمين } :
{ ما } نافية
{ إلا } أداة استثناء ، وهي أحد أنواع الحصر ..
{ إلا ذكرى للعالمين }
المقصود به القرآن ..
ولا يعقل أن يكون هناك كتاب فيه ذكر للعالمين يبينه رجل مجنون ، فبهذا الإثبات ـ بأن القرآن ذكر ـ انتفى الجنون عن نبينا ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ..، ورد آخر السورة على أولها لأنه ـ - عز وجل - ـ قال في أول السورة : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } ...
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين ......(8/8)
تأملات في سورة ن والقلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ خالقِ الكون بما فيه وجامع الناس ليومٍ لا ريب فيهِ وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك لهُ وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمداً عبدهُ ورسولهُ صلى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين .....
أما بعدُ ..
فهذا لقاءٌ مُبارك يتجدد حول لقاءٍ في تأُمُلاتنا حول كلام ربنا جل وعلا والسورةُ التي نحنُ بصدد الحديث عنها في هذا اللقاء المُبارك هي سورة " ن ، والقلم " وهذا الاسم الذي يجمع ما بين الحرف الذي صُدّرت بهِ الآية وما بين أول القسم هو الاسم المُختار في اسم هذهِ السورة ، وهي سورةٌ مكيةٌ بإجماع وهي من أوائل ما أُنزل وقد ذكر بعضُ أهل العلم أنها نزلت بعد فواتح اقرأ..
وقال آخرون أنها نزلت بعد المُدّثر ..
وهذا الرأي الثاني الذي يقول أنها نزلت بعد المُدّثر هو الذي إليهِ نميل ونختارهُ والعلمُ عند الله ولهذا شرعنا في بيان سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق ثم بيّنّا سورة المُدّثر وها نحنُ بحمد اللهِ وعونهِ نُبين سورة " ن والقلم "
في بعض المصاحف تُكتب نون وبعضُ أهل العلم يُسميها سورة القلم والأكمل أن نُسمّيها " نون والقلم " بهذهِ ورد الأثر الصحيح .
صدّر الله جل وعلا هذهِ السورة بحرف نون وحرف نون لهُ نظائر في القرآن إمّا حرف واحد مثل ( ص) و( ق) وإمّا أكثر من حرف كقولهِ جل شأنهُ ( ألم ) ( حم ) ( كهيعص ) وأضرابُ ذلك وهذهِ الحروف تُسمّى عند أهلُ العلم بالحروف المُتقطعة لكنّ الخلاف في معناها .
مبدئياً نقول سورة نون أول سورةٍ أُنزلت بدءٍ بحرفِ مُقطّع سورة نون والقلم أول سورة أُنزلت مبدوءة بحرفً مُقطّع وهو حرفٌ واحد حرف (ن ) لأنها من أوائل ما أُنزل فقطعاً أن تكون حاملةً لهذا الأمر..(8/1)
العلماء يقولون اتفقوا على أن هذهِ الحروف من متشابهة القرآن لكنّهُم اختلفوا في معناها ،، والذي يظهر والعلمُ عند الله أن أفضل ما يُمكن أن يُقال في هذهِ الحروف يُجمع في أمرين :
الأمر الأول : أن يُقال أن الله أراد بهذهِ الحروف أن يقول للُقرشيين ولمن يقرأ القرآن إن هذا القرآن أحرفهُ من جنس كلامكُم أحرفهُ وكلماتهُ من جنس كلامكُم فماهية القرآن مأخوذة من هذهِ الأحرُف تأكيداً لقولهِ جل وعلا ({إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً }يوسف2) هذا منحى من مناحي التفسير .
المنحى الآخر : وهو تميل إليهِ النفس لكن الإشكال في أنهُ لا توجد استعمال عربي لهُ وهو أنهُم قالوا إنّ هذهِ الحروف أشبه بمثابة التنبيه أن هذهِ الأحرُف بمثابة حروف التنبيه حروف التنبيه العرب تقول ألا وكذا ، أما والله ، يستفتحون بها الكلام حروف الاستفتاح والتنبيه التي يُؤتي بها في مُقدّم الكلام ، فقالوا إن هذهِ الأحرُف هي نظير هذهِ الأحرف التنبيهيه التي تستخدمُها العربُ في كلامها .
وهذا الأمر يجعلنا نقبلهُ من وجه ونردهُ من وجه ::
نقبلهُ لأن جرى في كلام العرب في سننها ونسق كلامها أنها تستخدم أحرُف التنبيه والاستفتاح بلا خلاف .
وأما المانع وهو كونهم لم يُنقل لنا فيما نعلم أنهم استفتحوا كلام بمثلِ هذهِ الحروف يقولون أما ، ألا وأضرابهُما لكنّهم لا يقولون ن ، ولا ق ، ولا ص ، لم يُنقل عنهم .
فعلى هذا يُقبل من وجه ويُرد من وجهٍ آخر وقد قُلنا أن العِلم مضمار تجري فيهِ أقدام العُلماء وكلٌ يدلي بدلوهِ والعلُم الحقُ عند الربُ تبارك وتعالى .
وكان الأمين الشنقيطي رحمةُ الله تعالى عليه ولعلّكم اطلعتُم على أضواء البيان يُكثر من مقولة والعلمُ عند الله ليُبين أن المسألة مسألة أخذٌ وعطاء واستنباط بمقدار ما يفيء اللهِ جل وعلا بهِ على عباده .
ثم اقسم تبارك وتعالى قال (وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ{1})(8/2)
والقسم يكون بالواو ويكون بالباء ويكون بالتاء وأحرفُ القسمِ من حيث العمل النحوي تجرُ ما بعدها فكلُ مقسومٌ بهِ مجرورٌ نحوياً كل مقسوم بهِ حالتهُ النحوية أنهُ مجرور (وَالشَّمْسِ ـ وَالْفَجْرِ ـ وَاللَّيْلِ ) وهنا (وَالْقَلَمِ ).
وليست إذا قُلنا أن سورة القلم نزلت بعد المُدّثر فليس القلمُ هنا أول ما أقسم الله بهِ في القرآن لأن الله قال (كَلَّا وَالْقَمَرِ{32} وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ{33} وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ{34} المدثر ..)
إذاً بدء الله إذا قُلنا إنّ المُدثّر نزلت قبل هذهِ السورة فيُصبح القسم بالليل والقمر والصُبح مُقدّم على القسم بماذا ؟ بالقلم حسب ترتيب النزول .
أقسم الله جل وعلا بالقلم فقال جل ذكرهُ (وَالْقَلَمِ) كذلك جُرت (وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ )
وما هنا موصولة بمعنى والذي يسطرون .
بقي الإشكال ما القلمُ الذي أقسم الله بهِ ؟
"أل" أيُها الأخُ الكريم تأتي إمّا للجنس وإمّا للعهد أل تأتي للجنس وإمّا للعهد .
فإن أتت للجنس تأتي جنس الشيء عمومهِ تعني جنس الشيء عموم الشيء ،،، وإن أتت للعهد فلا يخلو العهد أن يكون إمّا لفظياً وإما ذهنياً لا يخلوا العهد إما لفظياً وإما ذهنياً .
ففريقٌ من أهل العلم يقول إنّ المقصود بالقلم هنا جنس الأقلام التي يُكتبُ بها وهو تشريفٌ للكتابةِ عموماً وليس المقصودُ قلماً بعينهِ هذا قول فريقٌ من العُلماء ويحتجّون : من ضمن حُججهم أنّ هذهِ السورة أُنزلت بعد اقرأ بقليل بينهما سورةٌ واحده وقد قال الله جل وعلا في اقرأ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} العلق ) قالوا هذهِ السورة هي تشريفٌ للكتابة وهذا امتدادٌ لذالك التشريف فهذا قسمٌ من الله جل وعلا بالقلم .
هذا من أخذها على أنها أل لـ لماذا ؟ للجنس.(8/3)
آخرون قال أل للعهد لأي عهد ؟ لا يُمكن أن يكون لفظياً لماذا ؟ لأنهُ لا يوجد شيء قبلها لا يوجد شيءٌ قبلها حتى نُحيل اللفظ عليهِ ، فبقي العهد الذهني والعهد الذهني هُنا القلم أيُ قلم ؟ القلم الذي خُط بهِ اللوح المحفوظ.
يُجاب عن هذا الإشكال ـ وهذي مزيةُ العلم أن ترد أن تُعطي الأمر ثم تردهُ بإشكال حتى تتعلم قضية كيف تأخُذ وتُعطي وتعاطى مع النصوص العلمية ـ
يُجاب عن هذا الأمر الذي قالوا أن المعهود الذهني هو القلم الذي خُط بهِ اللوح المحفوظ :
أُجيب بأن القُرشيين لا يعرفون القلم الذي خُط بهِ اللوح المحفوظ فأيُ معهودٍ ذهنيٍ هذا الذي يُخاطبون بهِ .
لكن يُقال أن القرآن لم ينزل يُجاب عن هذا الإشكال كذلك :
أن القرآن لم ينزل لحقبةٍ مُعينة فالعبرةُ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وأن القرآن سيبقى وسيُتلا وسيتناقلهُ الأجيال محفوظٌ في الصدور والكتُب لأجل ذلك قالوا أن الألف واللام هُنا للعهد الذهني وهو اللوح المحفوظ .
بأيٍ كان القولين ونقول والعلمُ عند الله فإن المقصود شرف الكتابة وفي القسم بالقلم بيانٌ أنّ هذا القرآن الذي الآن يُنزّل ويُتلا على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم سيُصبح ذات يومٍ مكتوبا ولهذا اتخذ النبيُ صلى الله عليه وسلم كتبة وحي لكن هُنا الكلام كلام عام يُخاطب الله بهِ القُرشيين لا يُخاطب بهِ النبي صلى الله عليه وسلم بصورة أولية...
وحتى تعرف الفرق :(8/4)
الله جل وعلا في سورة اقرأ لم يذكُر الكتابة قال (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{5} ) وهو يُخاطب نبيهُ لم يقُل لهُ اكتُب وإنما رددّ لهُ القراءة كم مرة ؟ مرتين والقراءة هنا بمعنى التلاوة للقرآن القراءة هنا بمعنى التلاوة للقرآن ولم يقُل لهُ اكتُب ولذلك لم يكتُب النبي صلى الله عليه وسلم حياتهُ كُلها لكنّهُ كان تالياً قارىءً لماذا ؟ للقرآن .
أما هنا ليس المُخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بصورةٍ أولية وإن كان القرآن أُنزل عليهِ وإنما هذا قسمٌ أراد الله جل وعلا بهِ تعظيم ما سيأتي بعد القسم المُسمّى جواب القسم .
(ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ )
الأحرُف إذا كانت بجوار بعضها الكلمات تُسمّى سطر ،، الرجال إذا وقفوا صفوفاً يُسمّى سطر ،، الأشجار إذا كانت واقفة قائمة تُسمّّى سطر ،، كلٌ بحسبهِ لكن المقصود بهِ هنا الكتاب .
(ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ )
هذا القسم العظيم الذي فيهِ تشريفٌ للقلم سواءً قُلنا أنهُ القلم الذي خُط بهِ اللوح المحفوظ أو جنسُ الأقلام .ما جواب القسم ؟
قال الله جل وعلا (مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ{2})
هذا القرآن أول ما أُنزل اتُهم صلى الله عليه وسلم في أول وحيهِ بأنهُ مجنون من قبل القرشيين ويظهرُ أنها أول تُهمة أُلقيت على النبي صلى الله عليهِ وسلم وهذهِ فائدة قراءة القرآن وتفسيرهِ من باب أوائل ما أُنزل حتى يتكيف هذا مع السيرة العطرة و الأيام النظِرة لرسولنا صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ .
قال الله جل وعلا (مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ{2} )(8/5)
ولاحظ المقصد البلاغي هنا الله قدم ما النافية حتى يُطمئن نبيهُ قبل أن يُخبرهُ بالخبر فتلك التُهم الجزام التي تُلقى عليك لست منها في شيء هم كاذبون فيما يدعون ولهذا بدأ بما النافية قال (مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) فما يقولهُ القرشيون و أهلُ الكُفر عنك باطلٌ من كُل وجه لماذا باطل ؟
لأن الله جل وعلا تفضّل عليك ولهذا اختُلف في المقصود بالباء هنا .
ما هذهِ عند النحويين تُسمّى ما الحجازية تعملُ عمل ليس وليس فعل وما حرف لكنّ الجامع بينهُما أن كلاهُما يُرادُ بهِ النفي
وليس عند النحويين من أخوات كان ويقولن عن ما هذهِ أنها تعمل عمل ليس ترفعُ المُبتدأ وتنصب الخبر ويكثرُ في خبرها أن يكون مُقترناً بالباء كما في الآيات .
(مَا أَنتَ) أيُها النبيُ الكريم (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) تحتمل الباء هاذي أن تكون قسم فيُصبح المعنى ما أنت ونعمة الله بماذا ؟ بمجنون تُصبح ما أنت ثم قسم اعتراضي ونعمة الله بمجنون.
وقيل أن الباء هنا للإلصاق بمعنى وأنت مُتلبسٌ بنعمة الله عليك مُحال أن تكون مجنوناً .
وقيل إن الباء سببية ويُصبح المعنى ما أنت بسبب نعمة الله عليك بماذا ؟ بمجنون .
والأُولى قد تكون بعيدة لكن الذي ينبغي أن يفهم جملةً أن المُراد أن ما أفاءهُ الله عليك من النعم وما اصطفاك الله جل وعلا لهُ وما تعاهدك الله جل وعلا بهِ لا يستقيم ما ادعاء القرشيين المُشركين من أنك مجنون فأنت بريءً كُل البراءة مما اتهمُوك بهِ لأفضال الله السابقة واللاحقة والآنية عليك أيُها النبيُ الكريم .
وقُلنا قُدم النفي لتطمين شخصه و سلُوّ قلبه صلواتُ الله وسلامهُ عليه(مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ).
ولم يكتفي الله بنفي التُهمة التي ألحقها وألصقها الكُفّار لنبيهِ بل بيّ، عظيم قدره ورفيع درجهِ بطريقين :
الطريق الأول : (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ{3})(8/6)
لاشك أن النبي صلى الله عليه وسلم مأجور وقال الله جل وعلا هنا (غَيْرَ مَمْنُونٍ)
وكلمة (غَيْرَ مَمْنُونٍ) تحتملُ معنيين :
المعنى الأول : أي أن الأجر الذي أفأناهُ عليك غير مُقترنٍ بمنٍ ولا أذى .
والحالة الثانية أو التفسير الآخر أن يٌُقال : أن المقصود بتلك أجراً غير ممنون أي غير مُنقطع .
وكلٌ تحتملهُ اللُغة أجراً غير ممنون أي غير مُنقطع .
وقد قال الله جل وعلا عن أهل جنتهِ ({عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ }هود108)
وأحياناً يقع من بعض المُفسرين عجلة في التفسير ، التفسير يعتمد اعتماداً كُلياً على استحضار كُل الآيات فبعضُ الفُضلاء من أهل العلم يقول في هذهِ الآية دليله على خصيصة النبي صلى الله عليه وسلم ،، فقُلنا من أين الدليل ؟
قالوا إنّ الله جل وعلا لمّا ذكر نعيم أهل الجنة قال (عطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وكلمة عطاء غير مجذوذ لا تحتمل إلا قولاً واحداً وهو أنهُ غير مُنقطع قالوا أمّا هذهِ فتحتملُ معنيين : غير مُنقطع ، وغير مُلتصقٍ بالمنّ والأذى فقالوا جمع النبي صلى الله عليه وسلم كلا الأمرين في معنىً واحد بخلاف حديثهِ جل وعلا عن أهل الجنة ذكر لهم معنىً واحد وهو غير مُنقطعٍ فقط ولم يقُل غير ممنون وقالوا إنّ هذا من كرامة الله لنبيهِ ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم كريمٌ عند ربهِ لكن ما ذهبوا إليه غيرُ صواب لماذا غيرُ صواب ؟
لأن الله قال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ }فصلت8
لكن الجواب الكلم الحق أن يُقال :
أن قول الله جل وعلا (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) هذا في الآخرة هذا أين ؟ في الآخرة ، أمّا قول الله لنبيهِ (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ) هذا في الدُنيا والآخرة.
كيف في الآخرة واضح الأمرُ ظاهر لكن كيف يستقيم أن يكون لنبي صلى الله عليه وسلم أجراً غير مُنقطعٍ في الدُنيا ؟(8/7)
الجواب عن هذا أن يُقال النبي صلى الله عليه وسلم في ميزان حسناته كُل من آمن من أُمتهِ فما أدّى أحدٌ عباده إلا ولنبي صلى الله عليه وسلم مثلُها من الحظ لأنهُ كان عليهِ الصلاة والسلام السبب الذي جعلهُ الله جل وعلا في إيمان أُمتهِ كُلها هذا واحد .
الأمر الثاني : قالوا أنهُ لا تخلوا أُمه من ساعة من ليلٍ أو نهار ممّن يُصلي على نبيهِ صلى الله عليه وسلم وهذا حق لأن المُؤذن لا ينقطع أشهدُ أن مُحمداً رسول الله ولا يُعقل أن يخلوا مُؤذنٌُ ممّن يُردد معهُ الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن كما قُلت يبقى اعتراض على هذا المنحى في التفسير وهو أنهُ سيأتي على الناس زمان يبقى فيهِ شرارُ خلق الله الذين لا يعبدون الله أصلاً وفي هذهِ الحالة لا يكون أحدٌ يُصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يُوجد أحد يعمل عملاً صالحاً حتى نقول يُكتب لنبي عليه الصلاة والسلام أجرهُ لكن تُحمل الآية عموماً التي جاءت في المؤمنين وقضية بقاء الإسلام كُلها إلى قُرب قيام الساعة بهذا يتضحُ المعنى ويستقيم (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ )
ثم قال الله جل وعلا (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ{4} ) ولم يقُل في وعلى حرفٌ يُفيد الاستعلاء .(8/8)
والمعنى أنهُ ما من خُلقٍ مبثوث مُفرق في الأنبياء إلا ومجموعهُ عند نبينا صلى الله عليه وسلم لأن الله جل وعلا قال له {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ }الأنعام90) ولا ريب أنهُ صلى الله عليه وسلم اقتدى بهدي الأنبياء من قبلهِ فجمع ما كان عند الأنبياء من خُلقٍ مُفرقٍ مبثوث وفضائل متنوعة إلى ذاتهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ وهذا كلهُ من رحمة الله جل وعلا بهِ ولا ينبغي أن تُحمل الآية فقط على ما يُسمّى بالسجايا الكريمة والأخلاق العظيمة وإن كانت تُحمل بصورة جُزئية لكن لا ينبغي حصرُها في التعامُل الفردي مع الناس وإنّما أعظم الخلُق التأدُب مع الله التوحيد أعظم الأخلاق لأنهُ أيُ خيرٍ يُرجى في رجُلٍ يُشرك مع الله وإنّما الخلق بمفهومهِ الواسع الأدبُ مع الله والأدبُ مع الخلق ، والأدبُ مع الله جل وعلا أُسّهُ الأول والذروةُ منه ألاّ يُشرك مع الله جل وعلا أحد .
وقد قال بعضُ العُلماء كلمة جامعة في هذا وهو أنهُ صلى الله عليه وسلم لم يكُن في قلبهِ أحدٌ سوى الله . والمقصود كما تقول أُم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها لمّا سُئلت عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت " كان خلقُ القرآن "
والقرآن فيهِ فضائل دعا إليها وثمّة أُمور حذر منها فكلُ ما حذر الله منه اجتنبهُ صلى الله عليه وسلم وكل ما دعا إليهِ جل وعلا أخذ بهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ وهو القائد الموفق والوالد الرحيم والزوج الكريم والراعي المؤتمن على رعيتهِ كلُ صفات الخير :
زانت في الخُلق العظيم شمائلٌ */* يُغرى بهنّ ويُولعُ الكُرماءُ
فإذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ */* هذان في الدُنيا هما الرحماءُ
وإذا ملكت النفس قُمت ببرّها */* ولو أن ما ملكت يداك الشاءُ
وإذا أخذت العهد أو اعطيتهُ */* فجميع عهدك ذمةٌ ووفاءُ
وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما */* جاء الخصوم من السماء قضاءُ(8/9)
وإذا بنيت فخيرُ زوجٍ عشرةً */* وإذا ابتنيت فدونك الأبناءُ
وإذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ */* هذان في الدُنيا هما الرحماءُ
وإذا حميت الماء لم يٌُورد ولو */* أن القياصرة والملوك ظماءُ
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى */* فالكلُ في دين الإلهِ سواءُ
لو أن إنساناً تخير ملةً */* ما اختار إلا دينك الفقراءُ
صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ
ومن هنا نتعلم أن كُل فضلٍ إنما يُطلب من الله وكل مكروب إنما يُدفع بالله ومن خلُصت نيتهُ واختصهُ الله أزلاً بكرامتهِ سيظهر خلقهُ ويُفيء الله جل وعلا عليهِ ويُظهرهُ على عبادهِ قال الله جل وعلا {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا }فاطر2 (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
هاتان الآيتان (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) و (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
ردّ اللهُ بهما على أقوالِ وأقاويل كُفّار قُريش وبيّن فيهما فضيلة نبيهِ صلى الله عليه وسلم .
ثم تكلم الربُ جل وعلا عن بعض خصُوم نبينا صلى الله عليه وسلم وعن الأجواء التي كانت تسود مكة آنذاك من الصراع العقدي ما بين مشكاة النبوة عليه الصلاة والسلام وما بين تلك الأباطيل والوثنية السائدة الضاربة أقدامها في مُجتمع مكة آنذاك قال (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ).
ثم قال (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ{5} بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ{6})
هنا (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) أي سترى ويرون وتعلم ويعلمون .
(بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ) المفتون هنا مصرٌ على وزن مفعول والمعنى : سينجلي ذات يوم أيُها النبيُ الكريم لك ولهؤلاء القوم من هو حقاً ذالك المجنون المفتونُ بأقاويل الشيطان .(8/10)
هم يزعمون أنك مجنون ، تلبست بك الشياطين ، تهذي بما لا تعلم وما تقولهُ إنّما هو أساطيرُ الأولين هذا زعمهُم لكن عليك أن تصبر فإنّ الحق سينجلي وسيفيءُ الأمرُ إلى مُنتهاه (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ{5} بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ ) سيعلمُ الكُل من هو أحقُ بهذهِ التُهمة ومن هو أولى بها هل هو النبيُ المُبرأ من كُل عيب المحفوف بهِ في الملكوت الأعلى والمحل الأسمى أم هؤلاء حملةُ الأباطيل عبدةٌ الأوثان وعُكّافُ الأصنام وقد انجلى هذا في الدُنيا وسينجلي بإذن اللهِ بسورةٍ أكبر في الآخرة .
(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ{5} بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ{6} إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ{7} )
هذا تطمين لنبي صلى الله عليه وسلم وهذهِ الآية يحتاجُها المؤمن في مسيرتهِ الحياتيةِ فالقرآن ليس معاني كلمات ليس المقصُود للمُفسّر ولا للمُتلقي ولا للمتدبر أن يعرف معاني الكلمات وإنّما هو مشكاة نور يُضيء بهِ الإنسان الدروب يقول الله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )
أحياناً تصلُ مع غيرك لمرحلة نزاع لمرحلة اختلاف لمرحلة بيان هُدى فيأبى ويستنكف ويستكبر أن يقبل منك لكن ما يزيدُك اطمئنانً أن الله يعلم من هو الذي من هو على الحق الله جل وعلا يعلم من هو الذي على الحق فكونك ما تقولهُ من الحق أو ما تحملهُ من الرايات العُظمى في سبيل نُصرة دين الله جل وعلا لو أحبطك المُحبطون و ثبّطك المثبطون يكفيك قناعةً في نفسك واستمراراً على الطريق الذي أنت فيهِ من الخير والرشاد علمُك أنّ الله جل وعلا يعلم ، وما دام اللهُ جل وعلا يعلم فالله جل وعلا سيُكافىء ويُحاسب على ذلك العلم فالله تبارك وتعالى لا يحتاجُ منك أو معك إلى شاهد يُثبت لك الحق الله جل وعلا لا يحتاجُ معك أو منك إلى شاهد يُثبت لك الحق .(8/11)
لكن لو اختلفت مع زيدٍ من الناس أو عمر في مسألة وأردتُما أن تحتكما إلى أحدٍ غير الله فإنّ الذي تحملُ همّه ويُثقلُ ظهرك انهُ ما الذي يُقنع ذلك الحكم بأنك على صواب ما الذي يُقنع ذلك الحكم بأنك على صواب لكن مع الله تبارك وتعالى هذا الحملُ لا وجود له لأنك تتعاملُ مع من يعلمُ السرّ وأخفى ، بل تتعامل مع من منّ علينا بهذا الهُدى وأرشدنا إلى سواء الصراط .
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ{7} فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ{8})
الفاء هذهِ مرّت معنا اسمُها الفاء الفصيحة ، والفاء الفصيحة هي ما تصلحُ أن تكون جواباً لفعلِ شرطٍ مُقّدّر غير مذكور الفاء الفصيحة ما تصلح أن تكون جواباً أو في أول جواب لفعل شرطٍ غيرُ مذكور .
والمعنى : إنّ كان الأمر كما بيّنّا لك وهديناك إليهِ فلا تُطع المُكذبين ، من المُكذبون هنا ؟ كُفّر قُريش .
وقد بيّنّا ولابُد أن تستحضر كُل قول أن الكُفر كلهُ في كلمتين أو في كلمةٍ وفعل أو في فعلين : التكذيب ، والتولي . قال الله جل وعلا على لسان هارون وموسى ({إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى }طه48)
والمقصود قال الله جل وعلا (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ{8} وَدُّوا )
واو الجماعة في (وَدُّوا ) عائدة على من ؟ على المُكذبين .
(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ{9})
الدُهن إلى يومنا هذا يُستخدم في تليين الأشياء (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) ودّ القرشيون ودّ خصُومك من أهل الكُفر لو أنك تلين فيلينوا .
لكن يجب أن تُحرّر المسالة :. هناك أربعة أمور :
مودة ،ومُصاحبة ، ومُعايشة ، ومُداهنة .
فالمودة واجبة مع أهل الإيمان تُحب المؤمن ويُحبُك .
والمُصاحبة تجوز مع الكافر الذي لهُ حق كالوالدين ({وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً }لقمان15) .(8/12)
والمُعايشة تجوز إذا كان للُمسلمين مصلحة حتى مع أهل الكُفر ، لكنها تتأكد في الأمور العامة،، مثل : أن اليهود كانوا يُحيطون بالمدينة كانوا جيران لنبي صلى الله عليه وسلم ويبيع ويشتري منهم هذا يُسمّى مُعايشة ولم يكُن هناك نوعٌ من المودة بينهُ وبينهُم معاذ الله لكنّ هذا الوضع يُسمّى مُعايشة وهذا أحياناً تحتاجهُ خاصةً إذا قُدّر لك أن تخرُج خارج البلاد كمن يطلبُ علماً غير موجودٍ هنا فيضطر إلى أن يُعايش القوم وإن كانوا كُفّارا هاذي تُسمّى مُعايشة .
فالآن مرّ معنا المودة والمُصاحبة والمُعايشة،
بقيت المُداهنة هاذي لا تجوز بأي حالٍ من الأحوال وهي التنازُل عن أمرٍ عقدي لماذا ؟
لأنهُ لا توجد مفسدة أعظم من ترك العقيدة لا توجد مفسدة أعظم من مفسدة ترك العقيدة فلهذا المُداهنة لا تجوز بأي حالٍ من الأحوال قال الله جل وعلا لنبيهِ ({وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً }الإسراء74 ) إذا ضممنا هذهِ آية الإسراء مع آية القلم علمنا قطعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلن ولم يُداهن ولم يركن لماذا ؟
لأن الله جل وعلا ثبّتهُ ، فإذا كان نبيُ الأمة ورأسُ الملة لا حول لهُ ولا طول ولا قوة إلا بالله فيتحرر من هذا أمران :
الأمر الأول : ما دام عاجزٌ عن أن يكون لهُ حول أو طول صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ فمن باب أولى أن يُعطيهُ غيرهُ إذاً لا يتعلقُ بهِ حولٌ ولا طول ما دام هو عاجز أن يكون لهُ حول أو طول من باب أولى فاقدُ الشيء لا يُعطيهِ لا يُمكن لهُ عليهِ الصلاةُ والسلام لأحدٍ طول إذا تعلّق بهِ .(8/13)
الأمر الثاني : أنهُ إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا حول لهُ ولا طول ولا قوة وهو القريبُ من ربهِ المُحتفى بهِ في السماواتُ العُلى فمن باب أولى كلُ أحدٌ غيرهُ صلواتُ الله وسلامهُ عليه لا حول لهُ ولا طول ولا قوة فينقطعُ العبدُ الصالحُ عن الخلائق ويربط قلبهُ ويُنيخُ مطاياه بين يدي الخالق جل جلالهُ . (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ )
قال الله جل وعلا بعدها (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ{10} هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ{11} مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ{12} عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ{13} أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ{14} )
سأآتيك من الأخير لا تُطعهُ يغرُك منه أنهُ ذو مالٍ وبنين ، واضح .
ف(أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ) مُتعلّقة بالأول معنى العبارة :: لا يغرُك أنهُ ذو مالٍ وبنين حتى تُطيعهُ لأنهُ أصلاً موصوف بصفاتٍ دنيئة هذهِ الصفات هي : (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ )
حلاّف بمعنى كثير الحلف لكن بعضُ أهلُ العلم رحمهُم الله نظروا لهذهِ الآية من زاويةٍ واحدة وقالوا في هذا دلالة على أن كثرة الحلف غيرُ محمودة واحتجوا ({وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ }البقرة224) وغيرها من الآيات والحقُ أن هذا غيرُ صواب لأن الآيات في مساق رجُلٍ مُشرك هذا أول .
ثم هذا الرجل لا يحلف لم يكُن يحلف بالله كان يحلف بهُبل واللات والعُزّى والله جل وعلا قيّد كلمة حلاّف بوصفٍ هو كلمة مهين فعلى هذا ليس المقصود مُجرد الحلف والدليل المُعارض لهذا المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يقول ومُقلب القلوب ويقول والذي نفسي بيدهِ وقد أمر الله نبيهُ أن يحلف في ثلاثة مواضع : أمرهُ أن يحلف في يونس ،، وفي سبأ ،، وفي التغابُن.
وفي هذا دلالة على أن الفهم أن كثرة الحلف غيرُ محمودة غيرُ صحيح لكن المُهم أن يكون الحلف يثبتُ الإنسان عليه .(8/14)
لكن كذلك النظرة الأخرى التي تدفع ما فهموه أن كثرة الحلف بالله فيها تعظيمٌ لمن ؟ فيها تعظيمٌ للهِ ولو لم يكُن في الحلف تعظيم لجاز أن يحلف بغير من ؟ بغير الله لو لم يكن في القسم والحلف تعظيم لله لجاز لنا أن نحلف بغير الله .
لكن لماذا لم يجوز لنا أن نُقسم بغير؟
الله لأن القسم بحياة أي أحد تعظيمٌ لهُ فلهذا الحلف محمود لأن الإنسان لما يقول واللهِ ورب الكعبة فيها تعظيمٌ لرب تبارك وتعالى لكن الأفضل إذا احتاج إليهِ الإنسان أو كان يجري على لسانه لا حرج فيهِ لكن لا يكون حلفاً ممقوتاً وهو ذالك الذي يُشترى بهِ الأمور الدنيوية ويُدفع بهِ الأمور الأخروية كمن يحلفُ على السلع باطلاً وفاجراً .
(وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ{10} هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ )
همّاز يلمزُ الناس يقولون الهمّاز الذي يلمز والناسُ غائبون فإذا كان بيدهِ والناس حاضرون يُسمّى لمز وأحياناً بعضُ العلماء أهل اللُغة يحجزون والمقصود انهُ يقع في معايب الناس (هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ) يسعى بالكلم على وجه الإفساد ولابُد أن نُقيد فنقول على وجه الإفساد لأن السعي في الكلام بين الناس على وجه الإصلاح لا يُسمّى نميمة يُسمّى نصيحة .
السعيُ بالكلمِ بين الناس على وجه الإفساد يُسمّى نميمة وقد جاءت فيها أحاديث كثر تنهى عنه ، أمّ السعي بالكلم بين الناس على وجه الإصلاح لا يُسمّى نميمة يُسمّى نصيحة والدليل قول الله جل وعلا (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ }القصص20) هذا من نقل الخبر إلى موسى أثبت الله ذالك الخبر وساقهُ سياق الامتنان والتزكية والمدح وأخبر وذيّلهُ (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) ولم يعترض الله جل وعلا على ذلك القول .
(وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ{10} هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ{11} مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ{12})(8/15)
كلمة الخير جاءت في القرآن بمفهومها العام وجاءت في القرآن بمعنى المال ومنه قول الله جل وعلا {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ }العاديات8) والمقصود هنا المال ليس المقصود الأفضال والصلاح والتقوى تكلم عن الله جل وعلا عن جنس الإنسان (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ).
إذا قُلنا المال أصبح منّاعٍ للخير شخصٌ ماذا ؟ بخيل.
وإن قُلنا الخير عموماً أصبح رجلٌ يحول ما بين الناس وما بين فضائل الأعمال وهو أقوى .
(مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ) ولا يكتفي بأنهُ مانع وإنّما متجاوز للحد.
قال الله جل وعلا (مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ{12} عُتُلٍّ ) أي جافٍ غليظ (بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ{13}) قالوا أن بعد هنا بمعنى مع لكن نقف عند كلمة زنيم :.
كلمة زنيم في مادتها اللُغوية بمعنى الإلصاق والشيء الذي مُلصق بغيرهِ .
والشاه إذا تدلّى منها ما تدلّى إمّا تحت رقبتها أو ما يقعُ من أُذنها بعد قطعها تُسمّى زُنمة يعني هذهِ الجلدة الظاهرة الزائدة تُسمّى زُنمة .
بعضُ العلماء نظر إلى هذهِ الآية نظرة تعيين تحديد فقالوا إنها في شخصٍ بعينهِ ثم اختلفوا هذا الشخص بعينه اختلفوا في اسمه واختلفوا في المعنى فقالوا زنيم أي مُلصق بقومٍ دعيٌ عندهُم وهو ليس منهم بمعنى أنهُ ليس من أبنائهم وهذا المنحى في التفسير لا أراهُ محموداً لأن الله يقول في آيةٍ مُحكمة (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) فكونهُ نشأ من غير أن يعلم في أقوام هذا مّما لا يُعاتبُ الله عليهِ لأن المرء لا يتحملهُ فقد يوجد إنسان برّ عاقل منسوب إلى قوم ليس منهم دون أن يعلم فهذا ليس مّما يُثرّب الله جل وعلا عليه ولا يجتمع مع تلك الأوصاف السابقة التي يتحمّل مقتضاها الإنسان .(8/16)
لكن الذي يبدوا لنا والله تعالى أعلم في هذهِ القضية أن قول الله جل علا (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) المُلصق به كل سوء يعني هذهِ الأمور الثمال التي مرّت توطئة للإخبار أنهُ رجلٌ زنيم أي مُلصق بهِ كلُ أمرٍ سيء فهو قابل لأن تقدحهُ من كُل وجه . (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)
قُلنا ( أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ{14}) متعلقة بالأولى (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ) لا يغرنّك منه كثرة أمولهِ وأبنائهِ وهذهِ تنصرف في المقام الأول إلى واليد بن المُغيرة .
قال الله (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ{16})
الوسم العلامة والعلامة في الوجه شين يقول جرير :
لما وضعتُ على الفرزدق ميسمِ */* وضغى البُعيث جدعت أنف الأخطلِ
إني انصببتُ من السماء عليكم */* حتى اختطفتُك يا فرزدقُ من علي
موضع الشاهد : لمّا أراد أن يُكلّم خصومهُ قال لما وضعتُ على الفرزدق ميسمِ فالوسم هو العلامة لكنّهُ في الوجه أمرٌ قبيح شين .
قال الله (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ)
الخرطوم الأنف لكن الأصل أن اللُغة تأتي في الخرطوم في قضية أنف السباع ويكثرُ في وصفهِ للفيل و الخنزير (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) هل هي علامة معنوية أم علامة حسية ، هل هي دنيوية أو أخروية ؟؟؟
من قال دنيوية وعلامة حسية صعبٌ إثباتهُ لأن الوليد ابن المغيرة مات مبكراً بعد البعثة بقليل ولم يُنقل تاريخياً انهُ حصل لهُ شيءٌ من هذا ومن زعم أنهُ غُلب بالسيف يوم بدر جانب الصواب لأن بالاتفاق الوليد ابن المغيرة لم يحضُر بدراً مات قبلها بكثير .(8/17)
لكن الصواب جملةً أن يُقال : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أن المعنى سنجعلهُ رمزٍ لكُل أمرٍ سيء فيتفق مع قول الله جل وعلا (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ) ومن أكبر الدلائل أننا إلى اليوم نذكرهُ فلا نشكرُه ويُقال فيهِ كل المعايب ولا تُذكر لهُ خصيصة فبقي الأمرُ مُستمراً ولا يمنع أن يكون ذالك بعذاب الآخرة (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ )
ثم بعد أن تكلم الله عن فردٍ قُرشي نقل الصورة إلى أجواء مكة العامة فقال :
( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ{17} )
النبي عليه الصلاة والسلام عانا من قريش فضرب الله في هذه السورة الكريمة مثلين :
مثل يتعلق بالقرشيين فجعلهم مشابهين لأصحاب الجنة .
ومثل يتعلق بنبيه ، ما ضربهُ بأقوام ضربهُ بنبيٍ مثله فقال في أخرها (وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ )
سُنعرج جملة على المقصود : أصحاب الجنّة في قول جماهير أهل العلم قومٌ كانت لهم جنّة كان أبوهم يتقي الله جل وعلا فيها وورثهُ أبناءهُ فلّما دنى موسم الحصاد تآمروا فيما بينهم أن لا يكون لأهل المسكنة والفقراء نصيبٌ من تلك الجنّة فاجمعوا أمرهم في الليل على أنهم غداً يمضون صباحاً باكرين ولا يعطون الفقراء منها أي شيء وهذا معنى قول الله (وَلَا يَسْتَثْنُونَ{18}) وسأُفسّر تفسيراً لكن اُعطيك الأجواء العامة ثم إنهم ناموا مطمئنين وبينما هم نيام كان الملك العلاّم جلّ جلالهُ قد سلّط على تلك الجنّة ما يجعلها كالليل البهيم الأسود فلمّا أصبحوا لم يتغير عمّا أضمرُه في الليل شيء وخوفاً أن يكون قد تغيّر أحدهم دون أن يدري فتحوا الموضوع من جديد قال الله جل وعلا (فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ{21} أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ{22})(8/18)
باتٌ وقد أضمروا ألا يُعطوا المسكين ثم ما زال هذا الأمر يبيت في صدورهم وينام معهم ويزدادون إثماً حتى اجمعوا على أن المسكين ليس فقط يحرمون فقط من تلك الجنّة بل لا إذن لهم في الدخول .
(أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ) ومضوا (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ) أي قدرة قادرين على قصدٍ ومنعٍ قادرين ( وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ{25}) مضوا في طريقهم إلى جنة وبستانٍ مُحال أن يخطئوه لأنهم يذهبون إليه .
كما أن الإنسان لو يخرُج من مسجدٍ أو المتجرٍ المجاور لبيتهِ معطوب العينين فوصل إلى بيتهِ دون أن يقودهُ أحد لأنهُ أمرٌ استمرأهُ فذهبُوا إلى تلك الجنة لكنّهم فوجوء أن تلك الجنة على خلاف ما تركوها فلّما رأوها لم يشكوا في أنفُسهم لأنهم يعلمون الطريق فاجمعوا أمرهم ضالون على الطريق أي لم يُصيبوا جنتهم ثم تبين لهم بعد أن استقرت أذهانهم أنهم مخطئون في هذا الظن فعرفوا ما أضمروه والمعصية ذلّة تُطاردُ صاحبها .
قالوا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ{27})
أي إنما الحق أن الله جل وعلا حرمنا وليس نحنُ الذين أخطأنا في الطريق في الوصول إلى الجنّة (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) هنا تكلم أحدهم ُ قال الله جل وعلا (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) أفضلهم أخيرهم (لَوْلَا تُسَبِّحُونَ{28} قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ{29} )
نُنزّه الله أن يكون ظالماً لنا بإحراق جنتنا وإنما الظلم عائدٌ إلينا الذين منعنا المساكين (سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) كل إنسانٍ إذا وقع في المُدلهمات يُحاول أن يتبرأ من موقفه فأخذ كُلٍ منهم يُلقي بالتبعية على أخيه.
قال الله جل وعلا (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ{30})(8/19)
ثم لمّا أخرج كلٌ منهم ما في قلبهِ ودافع عن نفسهِ وعلموا أن هذا ليس بنافعٍ ولا مُجدٍ قال الله (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ{30} قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ{31}) تجاوزنا حدّنا ولم نعرف قدرنا بمنعنا للمسكين ونسينا أنها فيءٌ أفاءهُ الله علينا وخيرٌ أعطانا الله إياه لم يتق اللهِ فيهِ قال الله (يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ{31} عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا ) من هذهِ الجنة (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ).
وبالتجربة التي دلّ عليها الكتاب كلمة إنّا إلى الله راغبون من أعظم ما يُتقى بها ضيقُ الرزق .
قال الله جل وعلا عن أهل النفاق والقرآن أولهُ كآخرة ما نزل بمكة كما نزل بالمدينة يُصدقُ بعضهُ بعضاً قال الله جل وعلا في هذا الموضوع أنهم قالوا ({حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ }التوبة59) هذه ورسوله كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم
والنبيُ صلى الله عليه وسلم قد مات فيقول حسبُنا الله سيؤتينا الله من فضلهِ إنا إلى الله راغبون الرغبة إلى الله راغبون ، فالرغبة إلى الله جل وعلا وإظهار صدق الرغبة إلى جل وعلا من أعظم أسباب العطايا وبُعد ضيق الرزق (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ)
قال الله جل وعلا (كَذَلِكَ الْعَذَابُ) الدنيوي ، ما الدليل ؟ أنك تقول (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) وتقف ثم قال الله (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)
لو حرفُ امتناعٍ لامتناع والمعنى : لو كانوا يعلمون أن ما جئت بهِ الحق لاتبعوك لكن لماذا لم يتبعوك ؟ لأنهم لا يعلمون أن ما جئت بهِ الحق لا يعلمون أن هناك آخرة أوان هناك عذاب وهناك نكال فقال الله جل وعلا (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)(8/20)
هذا الخطاب للقرشيين وليس الخبر لأهل الجنة وإنما ساقهُ الله خبره عن أهل الجنة ليُبين تبارك وتعالى أنه ينبغي عليهم أن يتعضوا بما مضى من أسلافهم وما مضى من إهلاك الله جلا وعلا لمن قبلهم .
ثم قال الله (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ{34} )
هذهِ فائدة للأمة :. أدركنا من أدركنا في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمة الفُضلاء أنهم كانوا لا يختمون قرأتهم في الصلاة بآية عذاب إذا كان يمكنهُم أن يقولوا آية رحمة .
فمثلاً : لو قُدّر أن أحدكم إماماً وأراد أن يقرأ سورة ن ويقسمها نصفين فلا يقف عند قول الله تعالى (كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ{33}) يقول (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ{34}) ويركع ثم إذا بدأ في الركعة الثانية يقول (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ{34} أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ{35}) و أمثالُها في النبأ .
قال الله تعالى (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً{21} لِلْطَّاغِينَ مَآباً{22} لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً{23} لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً{24} إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً{25} جَزَاء وِفَاقاً{26} إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً{27} وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً{28} وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً{29} فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً{30})الناس تركع .(8/21)
نحن أدركنا الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمة الله في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذهِ الآية يأخُذ التي بعدها (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً{31}) المصلين ورآه متقون فتستريح النفس ثم يركع وإذا جاء الركعة الثانية يقول (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً{31} حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً{32}) يُكمل وهذا محمود لماذا ؟ لأنه مندرج في جملة ما قال الله (فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } المزمل 20 ) نعم هناك آيات ليست بعدها آيات رحمة آيات نقل يعني إما أن يأتي قصة أو خبر آخر خلاص تبقى على ما هي عليه لكن إمّا أن تكون بإمكانك أن لا تختم بآية عذاب تفعلهُ خيراً لك .
نعود فنقول (كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ{33} إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ{34}) هذا إجماع
نعود الآن لمفردات الآية :. (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ) أي القرشيين (كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا)
إذ هنا لشيء الماضي ،،، وإذا لما يُستقبل من الزمان
(إِذْ أَقْسَمُوا) تعاهدوا (لَيَصْرِمُنَّهَا ) من القطع الجذاف (لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) وقت الصباح
(إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ{17} وَلَا يَسْتَثْنُونَ) ويحتمل (وَلَا يَسْتَثْنُونَ) معنيين :
المعنى الأول : لم يقولوا إن شاء الله .
والأمر الثاني : لا يستثنون شيءً من حصادهم يُعطونهُ للفقراء والمساكين وهو أظهرُ عندي .
لأن من بيّت مسألة حرمان الفقراء والمساكين لا يُظنُ .بهِ أن يقول إن شاء الله
(وَلَا يَسْتَثْنُونَ{18} فَطَافَ عَلَيْهَا ) أي الجنة ( طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ)
هذا يدلُك على ضعف بني ءادم القريةُ والجنة في هلاك وهم نائمون لا يعلمون فضلاً عن أن يُدافعوا عنها .
((8/22)
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ{19} فَأَصْبَحَتْ) أي الجنة والتاء التأنيث (كَالصَّرِيمِ ) مثل الصريم الليل البهيم الأسود .
( فَتَنَادَوا) لأن الآن في غياب تام عمّا حدث ...
(مُصْبِحِينَ ) يُنادي بعضهم بعضا ويظهر أنهم أهلُ ثراء كانوا ينامون متفرقين
( فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ{21} أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ{22}) هذا يقع إلى اليوم في أهل الباطل يشدُ بعضهم بعضا أهل الإجرام أهل الباطل أهل الكُفر .
(فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ{21} أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ{22} فَانطَلَقُوا) الله يقول (وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ{23} ) وهذه ذل المعصية رغم مع أنها جنتهم بُستانهم من سيُحاسبهم لكن ذُل المعصية جعلهم يتخافتون .
ولهذا العظيم ما في شي يُخفيه كلامهُ واضح يُجاهر بهِ أما الذي يتدخل في أمور لا تعنيهِ أو في قلبهِ دخل أو لا يُحسن يعني ليس رجلٌ ظاهرةُ كباطنه هذا الذي يحاول قدر الإمكان أن يكون تحركاته خُفيه .
( فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ{23} أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ{24} وَغَدَوْا) أي أصبحوا (عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) فلمّا رأوها قُلنا (قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) أي أننا أخطأنا الطريق وسيأتي كيف جاءت وردت الضلال في كتاب الله في تفسيرنا لسورة الضُحى سنُقسّم كلمة ظل في اللُغة كيف جاءت في كتاب الله لكن كما قُلت أنا لا أعجل قدر الإمكان نُحاول أن نُنزل كل سورة في وضعها الطبيعي يعني نُخاطب السورة نتكلم عن السورة بوضعها المكي الذي نزلت به أو المدني .
قال الله (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ{27} قَالَ أَوْسَطُهُمْ )
أجمل ما فُسّر بهِ كلمة أوسطهم أعدلهم أخيرهم أفضلهم لأن القرآن يُساعد على هذا ({وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} البقرة 143)
((8/23)
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ{28} قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ{29}) إلى آخر ما بينّاه إلى قول الله جل وعلا (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ{34})
هذا ما تيسر إيرادهُ وتهيأ إعدادهُ حول المقطع الأول من سور " ن * والقلم " نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممّن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ٍُبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمدُ للهِ رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تفريغ سورة القلم 2من الآية ( 34) إلى نهاية السورة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:-
هذا استكمال لما سبق معنا من سورة القلم ....
قال تعالى : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ{34}}
(لِلْمُتَّقِينَ ) اللام هنا للاستحقاق وهي قد تأتي لثلاث معان :
1 ـ للاختصاص : كقولنا " السيف للرجل ، واللجام للفرس "
2 ـ للملك : كقوله تعالى : { {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }آل عمران189 }
3 ـ للاستحقاق : كأن يقال " لمن الجنة ؟ للمتقين " أي الذين يستحقون الجنة هم المتقون .
كأن الآية يوم نزلت وتليت على الكفار فهموا أن المعنى ( ونحن معكم ) ، فرد الله على ذلك التوهم الذي في قلوبهم سواء نطقوا به أم لم ينطقوا فيقول سبحانه : { } أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ{35} }(8/24)
إن من أعظم ما ينبغي أن نعلمه أن القرآن دل على أن الله ـ عز وجل ـ حكم عدل وأنه سبحانه لا يستوي عنده الأبرار والفجار ، ولقد قال الله ـ تعالى ـ في سورة أخرى : {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ }الجاثية21}
ومن هنا قال بعض العلماء : إن الجنة دخولها بالفضل ، لكن المراتب فيها بالعدل { أَفَنَجْعَلُ } الهمزة هنا همزة استفهام استنكاري توبيخي لما يظنه ويتفوه به كفار قريش ومن تبعهم على هذا المنحى .
{ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ{36} }
{ مَا لَكُمْ } استفهام { كَيْفَ تَحْكُمُونَ } أي : أيّ عقلٍ هذا الذي يدلكم على هذا الحكم لا شك أنه عقل ضال غير مسترشد الذي ينجم من تفكيره أن يجعل الله جل وعلا ملزما أن يساوي ما بين الكفار وما بين أهل الإيمان .
{ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ{37} }
والمعنى : هذه الجرأة التي تنشأ منكم على ربكم تبارك وتعالى وزعمكم أنكم في الجنة وأنكم على الحق فعلى أي مستندٍ تستندون ؟؟
هل عندكم من الله تعالى كتاب بيّناً يقول أنكم على حق ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - على باطل ؟؟
وسياق الآية هو نوع من التهكم ، بمعنى أنهم أميّون لا يعلمون القراءة ولا الكتابة ، فيعاملهم الله تعالى معاملة من يتهكم بهم .
{ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ{39}}
أي هل يوجد لديكم أننا أقسمنا لكم قسما مؤبدا إلى يوم القيامة أنكم على الحق وأنكم تدخلون الجنة وهذا منتفٍ غير وارد فرده الله تعالى عليهم .
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ{41} }(8/25)
أي هل هناك شركاء لله تعالى كما تزعمون دلوكم على هذا الأمر وأخبروكم به ؟؟ { فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ } وهذا كله باطل .
* ثم لما كانوا كلما نزلت آية يتعرضون لها ويصادون الله - عز وجل - عاملهم الله بطريقة كلامهم فقال تعالى : { سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ{40} } : فلقد طلب الله سبحانه منهم زعيماً واحدا لأنهم يرون أن أي أحد منكم كفؤ أن يعارض الله.
ـ والمعنى أي من هذا الذي يكفل لكم صدق ما تقولون ويتحمل هذه المسؤولية فتنيبونه عنكم ليحاج الله ويجادله .
فهذه الأمور جميعها محسوسة وكلها منتفية ، فلما انتفت أخبر الله نبيه أن الموعد القيامة ، فالدنيا ليست بدار جزاء .
{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ{42}}
دلت لغة العرب على أن التعبير بالكشف عن الساق يدل على هول الأمر .
وفي الصحيح : " أن النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أخبر أن الله ـ - عز وجل - ـ يكشف عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء يوم القيامة "
على هذا قال أهل الأثر : ( إن المقصود بـ { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } ما يكون من كشف الله - عز وجل - عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء ، فكل ما خطر ببالك فالله غير ذلك )
ومن لوازم ذلك أن هناك هول وخطب وشدة .
{ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ } :
هذه الدنيا مزرعة للآخرة ، فمن أذعن لله وخافه ورجاه وأسلم نفسه لله - عز وجل - سيجدها أمامه ، ومن استكبر واستنكف يقول كما قال الله تعالى عن أهل الباطل : {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي }الفجر24 } ..
{ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ } : يسجد أهل الموقف ، فيسجد المؤمنون يوم يكشف الرب تعالى عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء ، ويهم بذلك أهل النفاق أن يسجدوا وكذا أهل الكفر فيبقى ظهرهم طبقا واحدا .
{ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } :
((8/26)
الخشوع ) يكون في القلب وإنما عبر الله به عن البصر لأن بالعين يعرف ما في القلب " وهذا من بلاغة القرآن وإعجازه " .
* ولابد أن نعلم أن الله أغنى الأغنياء عن الشرك ولا يقبل - عز وجل - من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه سبحانه ، فطوبى لعبد في فلق سحر أو إدبار ليل أو إقبال نهار أقبل على الله تعالى بقلبه وجسده ، فكلما كان العبد متذللا لله تعالى حال هذه الحياة وجد المرء ثمرتها بين يدي الله تبارك وتعالى ، ولا راحة للمؤمن دون لقاء الله - عز وجل - ـ، فكل ما في الدنيا أكدار متتابعة {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ }البلد4 ) فإذا لقي المؤمن الصادق القانت في الدنيا بين يدي مولاه - عز وجل - انتفى كل كدر وزال كل خطر ، ولقي المؤمن بشارة من الرب تعالى ، لأن الإنسان إذا أراد أن يغدوا إلى أمر يريد أن يدركه يعلم أنه لن يستريح حتى يلقي عصاه من أثر ذلك السفر إلى بيته أو إلى جاره ، فكيف بالقدوم على أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين إن كنت تعمل بطاعته وتعزه - عز وجل - بما أفائه الله تعالى عليك من التوفيق والطاعة والغدوة والرواح في باب طاعته - عز وجل - .
* ولقد جاء الإشكال لدى العلماء في : " كيف يكون المطالبة بالسجود والآخرة ليست بدار تكليف ؟؟؟ "
أجيب عن هذا : بأنه ليس المقصود التكليف ذاتً وإنما المقصود إظهار توبيخ الله تعالى لمن عصاه وامتنع عن السجود عنه في الدنيا .
وقد دلت النصوص الأخرى على أنه ليس المقصود به التكليف ذاتً : ( فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في حديث الشفاعة " أنه يسجد بين يدي الله تعالى عند العرش " .
فما كان من عمل لم تعمله في وقت السعة ولم توفق إليه فإنه يصعب عليك فعله في وقت الضيق
{ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ{43} } وهذا تهكما من الله تعالى بهم .
{ وَقَدْ كَانُوا } أي في الدنيا.
{(8/27)
يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } : أي كانت لهم العافية في أبدانهم وذكاء في عقولهم ومتعة في قلوبهم ، ومع ذلك كله لم يستجيبوا لأمر الله ولم يتقربوا للسجود له أما الآن فلا يمكن أن يوفقوا للخير بعد أن فرطوا فيه في وقت التمكين .
ثم قال تعالى لنبيه : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ }
وهذا من أعظم أساليب التهديد والوعيد الإلهي
* والمعنى : أن من عصاك يا نبينا وحاربك يكفيك أن تخلي بيني وبينه وكفى أن يكون الله - جل جلاله - مكتفل به وبإهلاكه ، { الْحَدِيثِ } القرآن .
{ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ{44} }
إن الإنسان إذا استدرج فإنه لا يعلم أنه استدرج ـ نسأل الله العافية ـ فأحيانا يثنى الشخص بالثناء الحسن الذي هو ليس له أهلا ، لأنه يعمل المعاصي ويثنى عليه في غير موضعه ومع ذلك لا يعلم أن الله أ تعالى يستدرجه .
كذلك إمهال الله تعالى للظالم نوع من الاستدراج ، فكونه يظلم ثم يظلم دون أن تحل به العقوبة فهو استدراج له .
{ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ{45} }
{ أُمْلِي } أي تمهل واصبر عليهم من الإملاء والإبقاء{ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }
{ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ{46}}
المغرم : ضد المغنم ، وقد جرت سنة الله تعالى في خلقه أن من له ( غنم ) شيء فعليه ( غرمه )
والمعنى أن الله يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أنت لا تطلب منهم أجرا حتى يكون سبب طلبك للأجر مانعا في عبادتهم ، وفي هذا إرشاد على أن من يعلم الناس ويحدثهم أن لا يأخذ منهم أجرا على تعليمهم .
{ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ{47} }(8/28)
انتقل سبحانه إلى أمور الغيبيات بعد الأمور الحسية ، والمعنى أم عندهم علم الغيب واطلعوا عليه وكتبوا ذلك العلم ، فتبين لهم ثم أخذوا يجادلونك به ، وبالقطع أنهم لا غيب عندهم يكتبون منه ، وليس هناك مغرم يخشون منه ، ولكنه أنفة في قلوبهم واستكبارا في نفوسهم وشقوة كتبت عليهم .
* وبعد أن ذكر الله تعالى حال أهل الإجرام أخذ يسلي نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويعزيه ويكتب له الطريق الذي يسير عليه ، لأن الأمر ما زال في أوله ...
فقال تعالى : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } :
{ لِحُكْمِ رَبِّكَ } هنا عام أريد به الخاص وهو إمهاله لهؤلاء الظالمين ، ولكون الدعوة بدأت تدريجيا .
والقرينة { وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ{48}}
وهذه الآية قطعا أول آية تتحدث عن الرسل ..
والمعنى { وَلَا تَكُن } أي يا نبينا { كَصَاحِبِ الْحُوتِ } وهو يونس - عليه السلام - واسمه يونس بن متى بعثه الله - عز وجل - لأهل نينوى من أرض العراق فردوه ، فتوعدهم بالعذاب ، وكأن العذاب أبطأ فأصابه الغضب وخرج مغاضبا دون أن يستأذن ربه ، ثم لما وقف على ساحل البحر وجد مركبا فركبه ، ثم أن السفن تجري حول هذه السفينة غدوا ورواحا وهي على حالها ، فلما رأوا الأمر كذلك تشاوروا فيما بينهم ، فقالوا : إن عبدا أبق من سيده فأجروا قرعة .
{ {(8/29)
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ }الصافات141 } ووقعت عليه القرعة ، ثم ألقي به - عليه السلام - في البحر فابتلعه الحوت { فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ{142} } وأصبح في ظلمات ثلاث : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت ، وبعد ذلك تغير حاله دون أن يموت ، وحينما شعر يونس - عليه السلام - أنه حي خر ساجدا لله تعالى ويقول : ( اللهم إني اتخذت لك مسجدا في الأرض لا أظن أن أحدا عبدك فيه ) ، و نادى الله تعالى النداء العظيم : { لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }الأنبياء87 }
ولم يرد الله سبحانه وتعالى هنا في هذه الآية المباركة ذكر قصة يونس - عليه السلام - وإنما كان المراد منه - عز وجل - بأن يعلم نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يستعجل كصاحب الحوت ، وقد قيد سبحانه الكلام عن يونس - عليه السلام - بقوله : { إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } لئلا ينفي أحد عن يونس الهداية بالكلية .
و{ مَكْظُومٌ } أي قد امتلأ قلبه حنقا وغضبا .
{ لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ{49}}
{ نِعْمَةٌ } هنا أي الرحمة العظيمة الشاملة لهذا النبي الكريم ، فلقد أمر الله الحوت أن لا يكسر له عظما ، ولا يأكل له لحما ، وأن ينبذه بالعراء .
* ولا يستقيم المعنى إذا وقفنا على قوله تعالى : { لَنُبِذَ بِالْعَرَاء } لماذا ؟
لأن الله تعالى لم يرد نفي النبذ بالعراء ، لأن ذلك جاء بنص القرآن في مواضع أخر كقوله تعالى : {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء } ولكن الذي أراده الله سبحانه نفيه هنا أنه لم ينبذ وهو مذموم لأنه تداركته نعمة الله تعالى ، وعلى هذا يفهم أنه - عليه السلام - كان محمود الأمر .
{ لَوْلَا } حرف امتناع لوجود ..
فالممتنع هنا : أن يكون مذموما ، و الموجود : نعمة ربك ..
{ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ{50}} :
{(8/30)
فَاجْتَبَاهُ } : أي اصطفاه وتاب عليه وأصبح الأمر الأول منسياً اللهم إلا للعظة والاعتبار ..
{ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ }
قال بعض المفسرين : أن المعنى :. فجعله من الصالحين للنبوة وهذا غير صحيح ، لأنه - عليه السلام - قد كان نبيا قبل أن يجتبيه الله مرة أخرى ، وإنما تاب الله عليه كما تاب على آدم - عليه السلام - من قبل .
* ثم بعد أن بين الله سبحانه لنبيه ما حصل لهذا النبي الكريم - عليه السلام - قال تعالى : { وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ{51}}
هذا تصوير للأحوال التي كانت سائدة في مكة في أول فترة البعث ، لأن الكفار كانوا كثير فكانت لهم الغلبة والأمر في مكة ، فكلما مر - صلى الله عليه وسلم - كادوا أن يأكلوه ( بأبصارهم ) وتحتمل مسألة العين التي لا ندري كيفية وصول أثرها إلى المعين وإن كانت لحقا ...
{ وَإِن يَكَادُ } : هو فعل مقاربة ، فهو لا يعني وقوع الشيء وإنما قرب وقوع الشيء ..
وهؤلاء الكفار ليسوا هم بالذين تركوا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ولم يمضوا إليه هذه النظرات الذميمة ، ولا هم الذين استطاعوا أن يغيروا بهذه النظرات مكانه أو أمره ..
{ لَمَّا } بمعنى عند .
{ الذِّكْرَ } القرآن .
أي عندما سمعوا القرآن .
{ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } : أي هذا النبي الذي يتلو إنه لمجنون وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - .
فرد الله - عز وجل - عليهم بقوله : { وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ{52}} :
{ مَا } نافية
{ إِلَّا } أداة استثناء ، وهي أحد أنواع الحصر ..
{ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ }
المقصود به القرآن .
ولا يعقل أن يكون هناك كتاب فيه ذكر للعالمين يبينه رجل مجنون ، فبهذا الإثبات ـ بأن القرآن ذكر ـ انتفى الجنون عن نبينا ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ..،(8/31)
ورد آخر السورة على أولها لأنه ـ - عز وجل - ـ قال في أول السورة : { مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } ...
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين ......(8/32)
ففي هذا اللقاء المبارك سنشرع معكم بإذن الله تعالى في تفسير وتوضيح وبيان محاسن التأويل في سورة الكهف , ونحن بدراستنا في هذا اللقاء المبارك في سورة الكهف نأخذ نوعاً من الانتقال , فما مضى من الدروس كان يُعنى بقصار الصور , ومعلوم هذا البرنامج وهذا اللقاء المبارك العلمي إنما يعنى بتفسير القرآن بحسب ترتيب السور نزوله قدر الإمكان , ولا نعلم ضابطاً يضبط كل ما أنزل حسب ترتيبه , لكننا كما قلنا حسب الإمكان العام , حسب ما تبين لكثير من أهل العلم وقد مضى القول في سورة اقرأ والمدثر والقلم والضحى والمسد والشمس وضحاها .
ثم ننتقل اليوم كما بينا سلفاً إلى سورة الكهف , وسورة الكهف مكية باتفاق , إلا الآيتين منها أختلف فيها لكن الأظهر أن جميع السورة مكية , هذه السورة من التلاد وفق تعبير عبد الله بن مسعود رضي الله عنه , وعبد الله بن مسعود أحد الصحابة الكبار الذين أخذوا القرآن رطباً من في رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأرائه في القرآن قوية معتبرة أكثر من غيره , لأنه كان يأخذ القرآن من في رسول الله صلى الله عليه وسلم وله في ذلك أقوال تبين رسوخ قدمه في علم القرآن .
سورة الكهف عنيت بعدة قضايا , ومن أجلها بلا شك موضوع العقيدة وهذا شأن السور المكية كلها , لكن عندما نقول أن موضوع العقائد هو شأن السور المكية لا يعني ذلك أن السور المدنية لم تُعنى بالعقائد , وإنما المقصود أن السور المكية تُعنى بالعقائد وقلما يكون فيها تشريع , أما السور المدنية فتُعنى بالعقائد ويكون فيها تشريع لاستقرار الإسلام ووجود المجتمع المسلم والدولة الآمنة التي يمكن إجراء الأحكام الشرعية فيها , هذا المعنى , ليس المعنى أن السور المدنية لا عقائد فيها معاذ الله .(8/1)
هذه السورة يقال في سبب نزول أولها أن قريش بعثت إلى اليهود تسألها عن هذا النبي الذي خرج من بين أظهرها , وكانت قريش تقول أنه فقير يزعم أن بين كتفيه خاتم النبوة وأنه يتيم وكذا وكذا , طبعاً يذكرونه بأوصافه التي يرونها أنها معيبة ومنقصة , وحشاه صلى الله عليه وسلم أن يكون فيه شيء من ذلك .
فقالت لهم اليهود من باب الإرشاد سلوه عن فتية ضاعوا في الزمن الأول واسألوه عن ملك طواف واسألوه عن الروح , فلما عاد ذلك البعث القرشي إلى مكة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن فتية ضاعوا في الزمن الأول وعن ملك طواف وعن الروح وبكل أجاب القرآن .
هذه السورة سميت بسورة الكهف لذكر أسم الكهف فيها , قال جل شأنه
((أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)).
لكنها تعرضت لجملة من القضايا العديدة غير قضية أصحاب الكهف , لكن القرآن أحياناً يسمي بالقضية الأشهر بتلك السورة , والله جل وعلا والقرآن بين أيدينا لم يتعرض لقضية أصحاب الكهف إلا في هذه السورة نظيره في القرآن قصة يوسف فأن الله لم يتعرض ولم يذكر القرآن خبراً عن قصة يوسف إلا ما جاء فقط إلا ما جاء في سورة يوسف , وإنما جاء ذكر يوسف فقط كنبي ورسول في سور متعددة , كما في غافر وكما في الأنعام وغيرهما , لكنه لم يذكر كقصة إلا في سورة واحدة , هذه نظيره سورة الكهف .
جاء في فضلها أنه يستحب قراءتها في يوم الجمعة , كما جاء في فضلها أنه من قرأ أولها وفي رواية أخرى أن من قرأ أواخرها حفظ من فتنة الدجال , وقد قال العلماء في بيان العلة من هذا أن هؤلاء الفتية مَنّ الله عليهم بالوقوف أمام ملك جبار طاغية , فكان من قرأ أوائل سورة الكهف التي تذكر خبرهم , برحمة الله جل وعلا جعل هذه القراءة سبباً في العصمة من الدجال , فالدجال نظير ذلك الطاغية في الزمن الأول , وقراءة سورة الكهف نظير أخذ السبب المقارب للفتنة من الطغاة.(8/2)
السورة كذلك من فوائدها أنها تبين أحوال المؤمنين , تختلف فإذا العصبة المؤمنة لديها قدرة على محاربة أهل الإشراك , العدد شبه متكافئ والقدرة شبه متقاربة , يتأكد الجهاد في حقهم , أما إذا كان هناك بون شاسع ما بين القوتين , ما بين الفئتين فلا يتأكد الجهاد اللهم إلا أن يكون هناك أمر رباني بعينه .
لكن الأصل أنه لا يتأكد الجهاد , هنا يحسن الفرار ليس الفرار من الزحف , ولكن الفرار بالدين , وفرق بين الأمرين , وهو ما يسمى بالهجرة أو الاعتزال لكن بعض العلماء كما صنع السيوطي رحمه الله في الإكليل أبعد النجعة فجعل أن مجرد وجود الفساد داعية إلى العزلة, وهذا غير صحيح , لا يُسلم بهذا الإطلاق , لأن الفساد لا يخلو منه زمن , لكن الإنسان ينظر للأمر بجملته وينظر إلى قدراته وينظر إلى قدرته على تكيفه مع الأمر , وإلا الفساد لا يخلو منه زمان ولا مكان , وقد كان حتى في عهد النبوة شيئاً من ذلك , المقصود هذه كلها هو المستسقى الأول من معين القرآن هذه السورة كلها , ولعلنا إذا دخلنا في طيات التفسير يتضح أشياء أكثر من ذلك .
قال الله جل وعلا في فاتحتها :
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1) }
هذه السورة واسطة عقد في خمس سور أفتتحت بالحمد , هذا الافتتاح هنا واسطة العقد أفتتحها الله جل وعلا بحمد ذاته العلي , وهذه السور سورة الفاتحة وسورة الأنعام والواسطة الكهف ثم سبأ ثم فاطر , ولا يوجد غيرهن بالقرآن أفتتحها الله بحمده .
قال ربنا
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ }(8/3)
وجه الرب مابين حمده جل وعلا وما بين ثناءه على ذاته العلي وما بين إنزال القرآن يستبين منه أولي النهى أن إنزال القرآن من أعظم النعم لذلك حمد الله ,ذكر الله جل وعلا الحمد بهذه السورة فالرب الذي أنزل على عبادة هذا القرآن هداية لهم للطريق الأقوم مستحق جل وعلا للحمد وللثناء وفيه بيان شرف وفضل ورفيع القرآن.
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ }
العبد هنا النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق , والكتاب الألف واللام في الكتاب للمعهود الذهني , والمراد به القرآن العظيم , نأتي عند كلمة أنزل وهنا لابد من مبحث علمي , لأنه سيكرر معنا كثيراً وكل طالب علم إذا ضبط المسائل برمتها ( بجملتها) وعرف طرائقها يستريح كثيراً , يصبح بعد ذلك إذا ضبط القواعد تنزيل الآيات ينزل على القاعدة , تنزيل التفسير في الآيات ينزل على القاعدة وهذا يريحك كثيراً في فهم كلام الله فلا تحتاج بعد ذلك إذا ذكرت لك آية أن تفسرها أن تتوقف فيها كثيراً إذا ضبطت التوجه العام في القرآن .
الإنزال في القرآن , جملة نقول ورد مطلقاً وورد مقيد, مع ذلك أتفق السلف على أن المراد بالإنزال من العلو إلى أدنى , على أن المراد بالنزول من العلو إلى أدنى , وقلنا أن الإنزال بالقرآن ورد مطلقاً وورد مقيداً , فنأخذ التقييد ثم نعرج على المطلق , لماذا نأخذ التقييد ثم نعرج على المطلق ؟
لأن المطلق بعد ذلك نحيله على المقيد , فنأتي في إيضاح الأمر على النحو التالي :
ورد الإنزال مضافاً إلى الرب تبارك وتعالى بمعنى أن يقال منزل من عند الله , وهذا لم يرد في القرآن إلا في ذكر إنزال القرآن , لم يرد في كلام الله الإنزال على أنه من عند الله إلا في ذكر إنزال القرآن قال الله جل وعلا
{ تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
هذا إخبار أنه منزل من عند الله , وقال جل وعلا
{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ }.
وقال جل ذكره
{(8/4)
تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ }
فأخبر جل وعلا أنه منزل من عنده بنعته جل وعلا بقوله جل وعلا
{ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ }
هذا التقييد الأول , وهذا القييد لم يرد إلا في ماذا؟
لم يرد إلا في القرآن أخبر الله أنه منزل من عند الله .
التقييد الثاني :أن يخبر أنه منزل من السماء , أن ذلك الشيء المقصود منزل من السماء , والسماء أسم جنس لكل ما علا , فهناك أشياء أخبر الله جل وعلا أنها منزل من أين ؟!
من السماء. قال الله جل وعلا
{ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء }
والمقصود بالسماء هنا ماذا؟
السحب .
بدليل قوله جل وعلا
{ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ }
وبدليل قوله سبحانه
{ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا }.
ومما أخبر الله جل وعلا أنه من السماء العذاب قال الله جل وعلا
{ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء }
فأخبر الله جل وعلا أن الرجز من أين ؟! من السماء .
ومما أخبر الله أنه أنزل من السماء قوله جل ذكره
{ قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً }
فأخبر الله جل وعلا أن الملائكة تنزل من أين ؟! من السماء.
ولا ريب أن السماء في الرجز والسماء في الملائكة والسماء بالماء تختلف كلاً بسببها أو بحسبها , لكن المقصود يا أُخي أن تفقه أنها هنا مقيدة لكنها لم تنسب أنها من عند الله , فما نسبه الله جل وعلا أنه من عنده فقط هو ماذا؟! هو القرآن .هذا التقييد .
بقينا في الإطلاق أن الله يذكر الإنزال ولا يذكر جهته , أو لا ينسبه إلى شيء معين منه قول الله جل وعلا
{ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ }
,
{ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ }(8/5)
فهنا لم يخبر الله جل وعلا كيف نزلت , فهذا يقال فيه أن كل شيء بحسبه , وهذا أختلف الناس فيه, أختلف الناس في ذكر الجهة التي أنزل منها وليس هذا موطن شرحها , ما جاء ذكره عن القرآن , ما جاء ذكر القرآن فيه أنه منزل دون أن يذكر أنه من عند الله , الإطلاق هنا يحمل على ماذا؟! على المقيد الذي أخبر الله جل وعلا فيه أنه من عنده , مثل هذه الآية التي بين أيدينا .
ما جاء مطلقاً ذكر القرآن فيه أنه منزل ولم يذكر الله جل وعلا من أياً منزل , هذا الإطلاق يحمل على التقييد .
التقييد الأول الذي ذكرنا فيه أن إنزال القرآن أخبر أنه من عنده , فنقول الله جل وعلا
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1) قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا }
لم يقل الله من أين أُنزل , هذا الإطلاق نحمله على ما جاء من تقييد , قال الله جل وعلا
{ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ }
,
{ تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
إلى غيره مما ذكرناه أنفا, وأضح الصورة.
الآن هذا مهم جداً في فهم قضية الإنزال , من هنا نفهم ونعتقد ما كان يعتقده سلف الأمة من قبل , وهو أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق , نفهم ونعتقد ما كان سلف الأمة من قبل أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ,أطبق السلف على هذا وأجمعت الأدلة علية , وخالف ذلك البعض من أصحاب الفرق ولكن لا عبرة في خلافهم هذا معنى الإنزال .
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1) قَيِّمًا ..}
تعلمون يقيناً أن هناك سكتة , ما بين عوجاً وما بين قيما , وجدت لسبباً مهماً جداً , وهو أن الله لم يجعل هذا نفي , ما الذي لم يجعله الله عوجاً؟ لكن الله جعل القرآن قيما.(8/6)
فلو قراناها من غير سكتة لأوهم هذا أن يفهم أن القرآن لا عوج ولا قيم , وهذا ليس مقصود كلام الله , إنما المقصود نفي العوج , وليس المقصود نفياً كونه قيماً , قال الله جل وعلا
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1) قَيِّمًا ..}
فعوجاً أيها الأخو المبارك مفعول ليجعل , وجملة ولم يجعل له عوجا الجملة كلها "حال" من الكتاب , ولم نجعل له عوجا الجملة الفعلية كلها "حال" من الكتاب ,وكذلك قيماً , إذاً وصف الله جل وعلا هذا الكتاب بكم حال ؟
بحالتين , أنه أنزله على حال , أنه ليس فيها عوج , وعلى حال أنه قيم , وهنا تفقه لماذا؟ وجدت هذه السكتة اليسيرة ما بين عوج وما بين قيم.
خالف هذا الزمخشري رحمه الله لكنه يعني نفيه في هذا الأمر غيرلا صحيح , لأن تعدد الحال نطق به القرآن قال الله جل وعلا
{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا }
فذكر الله حالين لحال موسى عندما رجع إلى قومه .
والحال قد يجئ ذا تعدد
لمفرد فعلم أو غير مفرد
والمقصود من البيت الشاهد الأول صدره , وهو أن الحال يأتي متعدداً
{ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا }
معنى ولم يجعل له عوجا أي أن القرآن العظيم لا خلل في نظمه ولا في تنافي معانيه , بل أنه يدعوا إلى الحق وإلى عدم العوج
{ قَيِّمًا }
أُختلف فيها والأظهر أنه مهيمن على الكتب كلها , ثم بين الله قائلاً
{ لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا }
الإنذار هو الإعلام المقترن بالتخويف والتهديد , فإذا كان غير مقترن بتخويف وتهديد فلا يسمى إنذار , وإنما يسمى إعلام .
وعلى هذا كل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذار.
{ لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ }(8/7)
نعود للتقعيد , كلمة بأس وردت في القرآن على ثلاث معاني , وردت بمعنى اللأواء والشدة والتضييق ومنه قول الله جل وعلا
{ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء }.
ووردت بمعنى العذاب وهو صريح آية الكهف التي بين أيدينا
{ لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا }
ونظيره قول الله جل وعلا في غافر
{ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا }
والمقصود عذاب الله.وتأتي بمعنى القتال والمعركة ويدل عليه قول الله جل وعلا في الأحزاب
{ وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً }
أي لا يشهدون المعركة , إلا أنهم يرونك وجوههم ثم ينصرفون , معنى البأس هنا القتال واحتدام المعركة .
هنا معناها ماذا؟! كما بينا العذاب
{ لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ }
سيأتيك الآن التنوع في الخطاب القرآني , كلمة الفعل أنذر
ينصب مفعولين .
ذكر الله جل وعلا واحداً منهما وهو العذاب ولم يذكر المعذبين , وسيأتي بعدها أن الله يذكر المعذبين ولا يذكر العذاب .
{ لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ }
طبعاً كلمة شديداً منه للتأكيد , وإلا كونه من عند الله يكفي قرينة على أنه شديد.
{ لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ }
فلما ذكر الله الإنذار لأهل الكفر , ذكر الله البشارة لأهل الإيمان
{ لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) }
هذا الأجر محتمل خيري الدنيا والآخرة , لكن هناك قرينة تدل على أن المقصود الآخرة وهي قول الله جل وعلا بعدها
{ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)}
ومعلوم أن أجر الدنيا ونعيم الدنيا لا خلود فيه , ولا يعني هذا أنه ليس لهم أجر في الدنيا , لكن هذا جاء في آيات أُخر , لكن قوله جل ذكره
{ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)}(8/8)
قرينة على أن المقصود الأجر الأخروي , وهذا يدفعك يا طالب العلم أن لا تستعجل في التفسير حتى تقرأ الآيات كلها , حتى تستبين لك القرائن المصاحبة لما تريد تفسيره مراد الله جل وعلا من قوله ...
{ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) }
هنا يذكر الله جل وعلا المعذبين المنذرين ولا يذكر العذاب عكس الأولى.
المخاطب
{ وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا }
المخاطب بهذه الآية كفار قريش , لكن الذين نسبوا لله الولد تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرا كم طائفة ؟
ثلاث , اليهود والنصارى ومشركوا العرب .
اليهود والنصارى جمعهم الله جل وعلا في آية واحدة :
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ }.
أما مشركوا العرب فقد نسبوا الملائكة , جعلوهم بنات الله قال الله جل وعلا :
{ وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ }
وكلمة سبحانه في آية النحل هذه تسمى عند البلاغيين إطناب أي زيادة , لكنها زيادة محمودة , زيادة ماذا؟
محمودة , لأن المقصود منها تنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به .
{ وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَّا لَهُم }
مالهم نافية ,
{ مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ }
لماذا ليس لهم به علم ؟
لأنه أصلاً غير موجود , ولا يتعلق غلا بشيء موجود , العلم لا يتعلق إلا بشيء موجود , فلما نفى الله العلم , هذا من نفي الوجود من باب اللزوم ,.
نفي الوجود
{ مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ }
. إنما المسألة عندهم مسألة تقليد , يتبع أخرهم أولهم , ويقلد أخرهم أولهم على غير بينة ولا برهان ,
{ مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ }
قال سبحانه
{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ }(8/9)
ليس المقصود بكلمة هنا كلمة واحدة أو مفرد, وإنما المقصود جنس كلام, وهذا دل عليه القرآن في أكثر من موضع قال الله جل وعلا
{ حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ }
قال الله جل علا
{ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ }
وهو قال جملة كاملة
{ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } .
كبُر : جاء الماضي هنا بضم الياء ,
( وكبر )
إذا تكلمت عن السن العمر تكسر الياء , وإذا تكلمت عن غير العمر تضم الياء , تضمها في الماضي والمضارع تقول
( كبُر يكبُر )
بمعنى يعظم , غير السن , كبُر يكبُر غير السن , وهنا الله لا يتكلم عن عمر ولا عن سن ولا عن أمر زمني , وإنما يتكلم عن فظاعة ما قالوه
{ كَبُرَتْ كَلِمَةً }
أما في السن فإنك تكسرها في الماضي , وتفتحها في المضارع , يقول
( كبَر يكبَر)
بالفتح إذا تكلمت عن السن , قال المجنون :
تعلقت ليلى وهي ذات ذوائب
ولم يبدُ للاتراب من ثديها حجمُ
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا
الى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ
ففتحها في الحالتين , ويقصد المرحلة الزمنية وامتداد العمر .
والمجنون هو قيس بن الملوح أحد شعراء العذريين المعروفين , وإنما يذكره المفسرون هنا , لأنه مما يستشهد بكلامه , لأنه في الحقبة التي يؤخذ منها كلام العرب , تأتي حقبة لا يستشهد بكلام الشعراء على أنه فصيح أو غير فصيح , وإن كان فصيحاً فمثلاً
لا يأتي أحد يستشهد بقول المتنبي أو بقول تمام , لأنهم متأخرون لكن ما كان قبل المائة عام أو مئة وثلاثين تقريباً يستشهد بكلامهم , وهذه تحتاجها كطالب علم , سيأتي الاستشهاد بكثير من شعر العرب , وهذا أصلا في تفسير كلام الرب جل وعلا.
قال الله
{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ }(8/10)
وقول الله جل وعلا من أفواههم دلالة على أن هذا الأمر له أصل في قلوبهم ولم يحرروه على بينة وبرهان , لأنه أصلاً لا وجود له , وإنما تتلقفه الأسماع وتقوله الأفواه , ولا أصل له قطعاً
{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا }
وتكذيبهم فيما قالوه ذكره الله جل وعلا في أكثر من موضع , قال الله تبارك وتعالى
{ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }
وقال { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا } ذكر الله بعدها الصفات وأنهم لكاذبون أي فيما زعموه
{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) }
(لعل )
الأصل فيها أنها للإشفاق والترجي , لكنها هنا بمعنى النهي , فينهى الله نبيه أن يذهب نفسه حزناً على هؤلاء القوم , لأن هذه أمور تجري بقدر الله ولا يوجد أحد بيده هداية الخلق كلهم , والله جل وعلا قد كتب أن الخلق لن يُهدى كله
{ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى }
, فلا يحسُن أن يتقطع الإنسان حسرات على أمور أخبر الله جل وعلا أنها ستكون , وثمة أمور أنت لا تملك تغييرها ولا تبديلها وسُنة الله جل وعلا ماضية في وقعها , فلا مجال لأن تحزن ويصيبك الأسى ويغير طبعك ويثبط شأنك , فهذه الأمور قد مضت ووقعت ولا سبيل إلى تغييرها
{ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً }
,.
{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا }
زينة لمن ؟
للأرض , من الشجر والثمار وغيرها , مما يدل على وجود الله
{ لِنَبْلُوَهُمْ }(8/11)
أي نأمرهم فنبلوهم , فتكون هذه الآيات التي على الأرض , تكون قرينة لصحة ذلك الأمر , والأنفس ما على لا يكفي أن يكون ابتلاء , ونظيره قول الله جل وعلا في الإسراء
{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا }
ليس المقصود أن الله أمرهم بالفسق , لكن أمرهم بأمور فخرجوا فيها عن طاعة الله , فكان حق عليهم أن يكون العذاب
{ لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) }
ومشهور لدي أهل العلم أن العمل لا يكون صواباً إلا إذا أجتمع فيه شرطان الإخلاص لله جل وعلا , والموافقة لهدي وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم
{ لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)}
ثم أخبر الله , وهذه الآيات كلها يعني فيها إجمال , ويأتي التفصيل في آيات أُخر , أن المسألة يكون في أنه ثمار أشجار زينة ثم ما نلبث أن ننتهي
{ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا }
أي ما على الأرض
{ صَعِيدًا جُرُزًا (8)}
الجرز الأرض التي لا ماء فيها ولا نبات , وهذا مآل الأرض بعد ذلك , ثم قال الله جل وعلا خبر أصحاب أهل الكهف , وهو ما سميت السورة بسببه , فالمؤمنون الذين أنزلت السورة أيامهم كانوا قلة , ويواجهون طغمة كافرة , فكانت تربية الله لأوليائه والمؤمنين من عباده أن يبين لهم حال أقوام سابقين كما ذكر لنبيه أحوال رسل حتى يثبت فؤاده , ذكر للمؤمنين أحوال أُناس قبلهم صبروا على دين الله حتى يثبت قلوبهم ويبيت لهم أنهم ليسوا أول من سار على هذا الدرب أو سلك هذا الطريق .
قال الله لنبيه
{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ }
أم هذه بمعنى بل , وأتى بها هنا لأمرين ,
للإضراب الانتقالي :
ومعنى الإضراب الانتقالي : الانتقال من حديث على حديث , كما أُتي بها للاستفهام .
{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) }(8/12)
هؤلاء القرشيون وهم يسألون , كأنهم يسالون باستعظام , وهذا الاستعظام جعل النبي عليه الصلاة والسلام يعتقد أو يمر على خاطره أو يدور بخلده أن أصحاب الكهف أعظم آيات الله , فالله يقول لنبيه أن خبر أصحاب الكهف , وأن كان خارقاً للعادات إلا أنه ليس أعظم الآيات
{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) }
أي ليسوا بأعجب آياتنا , فالله جل وعلا أعظم وأعجب وأشد في الذهن والخلد من نبأ أصحاب الكهف, وإن كان نبأ الكهف عجيب
{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) }
أصحاب الكهف طائفة واحدة , وأضافهم الله جل وعلا إلى شيئين , أضافهم على الكهف , وأضافهم إلى الرقيم .
والفجوة التي في الجبل إذا ضاقت فهي ماذا ؟
غار, وإذا اتسعت فهي كهف
{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ}
هنا نسبهم على الكهف ,
{ وَالرَّقِيمِ }
معطوف على الكهف , لكنه متعلق بالأصحاب أنفسهم , فليس كما فهم البعض أن أصحاب الكهف طائفة, وأصحاب الرقيم طائفة , لا , هم طائفة واحدة , أضيفوا إلى الكهف باعتبار المكان الذي ناموا فيه , وأضيفوا إلى الرقيم عطفاً باعتبار أن قومهم لما ظهروا عليهم دونوا أسمائهم وكتبوها , والأفضل أن يحمل أسم الرقيم على اللوح المكتوب فيه أسمائهم , لا على القرية أو الوادي كما قال بعض الفضلاء , والدليل أن أول ما نفسر به القرآن , القرآن نفسه , وقد جاء ذكر الرقيم بمعنى المكتوب , قال الله جل وعلا
{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ }
, فرقيم فعيل بمعنى مفعول , كما تقول قتيل بمعنى مقتول , فرقيم بمعنى مرقوم أي مكتوب.
{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) }.
ثم أجمل جل شأنه قال
{ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ }(8/13)
الفتية جمع فتى , وقال بعض الفضلاء أننا إذا جمعنا فتى على فتية فنقصد قوماً صالحين أشراف ذوي هيئات , وإذا جمعنا فتى على فتيان فإننا نقصد الخدم والحشم , واحتجوا بأن يوسف قال لفتيانه ولم يقل لفتيته , وهذا القول مقبول إلى حد ما , إلا أنه فيه قراءة ( إذ أوى الفتيان إلى الكهف ) وقراءة يوسف على أنها فتيته , المقصود هذا تخريج أحد الفضلاء وهو مقبول إلى حد ما كما قلت.
قال الله جل وعلا
{ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) }
ومن استهدى بالله هداه ومن سأله أغناه ومن لجأ إليه أواه , وليس للمؤمن أحد يلجأ إليه إلا ربه , قال الله جل وعلا
{ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا }
هذه دعوة كل يدعيها , لكن العطايا الإلهية والمنح الربانية إنما تكون بحسب ما في القلب , والله جل وعلا يحاسب عباده بما علم جل وعلا في قلوبهم لا بما ظهر للناس منهم , وهذا أمراً يعينك في طلب العلم وفي طلب كل أمر مرغوب من الرب تبارك وتعالى.
قال الله
{ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) }
صنعوا الذي عليهم أخذوا بالأسباب , فروا من قومهم , وسألوا الله جل وعلا الإيواء والرحمة.
قال ربنا
{ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) }
لم يذكر الله جل وعلا هنا مبهم عدد السنين , ثم فسر في أخر القصة , قال الله
{ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا }(8/14)
فهذه من تفسير القرآن بالقرآن , وقد قلنا ومر معنا تفسير القرآن بالقرآن له ثلاثة أنواع , تفسير في نفس الآية , وتفسير في نفس السورة , لكنه يأتي بعد مرحلة , وتفسيراً في غير السورة يعني في سورة أخرى , وهذا من الوسط الذي جاء في نفس السورة لكن في آية بعدها بآيات ,
أما المثال الأول المتتابع
{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ }
وهذا مر معنا في درس سابق .
نعود فنقول الله جل وعلا قال
{ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) }
الضرب هنا بمعنى الإلصاق , بمعنى ماذا ؟
الإلصاق والزوم والمباشرة .
ضربت له القبة بنمرة صلى الله عليه وسلم , هذه القبة ضربت بالوتد بالأرض , وهذا أمر تستخدمه العرب , تسمعون يقولون ضربت عليهم ماذا ؟
الجزية , يعني ألصقت بهم وهذا أسلوب العرب في كلامها , قال الفرزدق يخاطب جرير :
ضربت عليك العنكبوت بنسجها
وقضى عليك به كتاب الله المنزل
هنا يتكلم عن الإلصاق , شيء ملصق بجرير , وقد قلنا الاستشهاد يكون في العصور التي يصح فيها الاستشهاد والفرزدق ممن يستشهد بكلامه, بل قيل لولا الفرزدق لذهب ثلث كلام العرب , وهذا كطالب علم ينبغي أن تفقهه , وتقرأ كثيراً في شعره لأن فيه غرائب ألفاظ لا توجد في غيره , غرائب ألفاظ وقوة وفخامة لا توجد إلا في شعره , فممن يعينك على فهم كلام الله فقهك وإدراكك وحفظك لكلام العرب .
ضربت عليك العنكبوت بنسجها
وقال آخر :
إن السماحة والمروءة والندى
في قبة ضربت على ابن الحشرجي
يتكلم عن شخص ميت , والذي يعنينا من هذه الشواهد الشعرية كلها قول الله جل وعلا
{ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) }(8/15)
وخص الله جل وعلا الأذن بالذكر هنا دون البصر ليكون ذلك أن نومهم يصبح ممتنع على غيرهم أن يوقظهم , ومر معك كثيراً الحديث النبوي لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر ذلك الرجل الذي نومه ثقيل ولا يقوم الليل ليصلي قال :
( ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه )
حتى يبين أن القضية تتعلق بالأذن.
فلما أراد الله أن يرحم هذه الفئة قال
{ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ }
والمقصود هنا أيقظناهم و إلا هم ليسوا موتى
,{ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ }
وأي لفظ نعلم بالقرآن بهذه الصيغة { لِنَعْلَمَ} معناه ليظهر علم الله , وإلا الله جل وعلا يعلم من قبل
.{ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) }
أُختلف بالمقصود
(بالحزبين )
والأظهر أنهم الناس الذين اختلفوا فيهم كما سيأتي البيان في أخر القصة , لكن يأتي اعتراض هنا , ما الفائدة في معرفة عددهم بالنسبة للأولين لا بالنسبة لنا , ما الفائدة في معرفة عدد السنين التي لبثوها بالنسبة للأولين ؟
فالله الآن يذكر مسألة مهمة , قال أنه ما بعثهم إلا لشيء مهم وهو قوله سبحانه
{ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا }
ومع ذلك , وهذا بقدر الله لم يتعرض المفسرون لحل هذا الإشكال ,
قال الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان :(8/16)
ولم أقف على أحد تعرض لهذا الأمر , ثم حاول هو رحمه الله أن يجيب فقال : لعل المقصود جملة كلامه يعني , لعل المقصود في أن يكون أنه إذا علموا طول الزمن كان بالنسبة لهم دليلاً على قدرة الله أن أخرجهم رطبة أجسادهم أحياء رغم طول المكث , لأنه لو فرضنا أن الناس لم يعلموا عدد السنين لقالوا هؤلاء طيبون أبدانهم طرية ربما ناموا يوم واحد أو ناموا يومين , لا غرابة في هذا الأمر ولا ضرورة وليس هناك أمر خارق للعادة , لكن عندما يعلم الناس أن هؤلاء لبثوا أكثر من مائة عام أو ثلاث مائة سنة وتسع سنين فيقع في خلدهم صحة هذا أللبث ويرون هؤلاء القوم طيبة أجسادهم طرية لم يتغير فيهم شيء , هذا يزيدهم علماً بخالقهم جل جلاله لأن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق , وعظمة المصنوع تدل على جلال الصانع جل شأنه.
{ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا }
هذا كله إجمال , ثم فصل تبارك أسمه وعلا شأنه قال { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ } فالقرآن الأصدق في أخباره والأسمى في عباراته والأفصح في أسلوبه
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)}
وهذا إجمال عظيم ليس المقصود أشياء عديدة يراد تبيينها أكثر من أن الله جل وعلا قذف في قلوبهم الإيمان وزادهم هدى جل شأنه ً, وهذه منقبة عظيمة وخصلة عظيمة لهؤلاء القوم , وتزكية من العلي الكبير لهم تشرئب إليها الأعناق
{ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}
كل سائر إلى الله يحتاج إلى الثبات ومن الثبات أن يربط الله جل وعلا على قلبك , خاصة عند حلول النوازل والمصائب والكوارث أو عند ورود الشُبه أو عند شيوع الفتن , يحتاج المؤمن إلى أن يربط الله جل وعلا على قلبه , ولهذا كثُر في دعاءه صلى الله عليه وسلم أن يقول
((8/17)
يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك )
وقد مر معك في أحوال الناس مما قرأت أو سمعت أو شاهدت كثيراً من الناس يبدوا متحمساً للدين ثم لا يلبث عياذاً بالله أن ينتكس ولا حاجة لضرب الأمثلة , لكن الحاجة ملحة لأن نسأل الله جل وعلا الثبات على دينه وأن يربط تبارك وتعالى على قلوبنا أنما حللنا وحيثما نزلنا , قال الله ممتناً على تلك الفئة المباركة
{ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا }
أين قاموا ؟
المشهور بين يدي ذلك الملك الطاغية
{ فَقَالُوا }
أي للملك
{ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) },
{ شَطَطًا }
ميلاً عظيماً عن الحق , وأي شطط أعظم من أن يميل الأنسان عن توحيد الله تبارك وتعالى
{ هَؤُلاء قَوْمُنَا }
يقولون له أنظر إليهم
{ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ }
وهل يمكن أن يوجد أحد سلطان بين على أن مع الله ألهه , محال , لماذا ؟
لأنه أصلاً ليس مع الله ألهه , والشيء غير الوجود مستحيل إثباته , فليس مع الله شريك , فلا يمكن أن يأتي أحد بسلطان على أن مع الله شريك , لأنه ليس مع شريك أصلاً ,
وأعيد الشيء غير الوجود يستحيل إثباته .
{ لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)}
وهذا فسرته السُنة إنه لا ظلم أعظم من أن يزعم أحد أن مع الله شريك كما فسره القرآن من قبل
{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا }(8/18)
ثم ذكر الله خطاب هذه الفئة بعضهم إلى بعض , أنت ومع رفقتك الصالحة تحتاجون إلى أن يثبت بعضكم بعضا , وينبغي أن تكون الحوارات في المنزل المؤمن والأسرة المؤمنة والأصدقاء المؤمنين , وينبغي أن تكون الحوارات حوارات تثبيت , حوارات إيمانية تزيد في الإيمان .
قال الله جل وعلا
{ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ }
هذا يخاطب بعضهم بعضا
{ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16) }
جزمت ينشر وجزمت يهيئ لأنهما واقعان في جواب الأمر , في جواب الطلب وهو
{ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا }
ماذا صنعوا ؟ أخذوا بهذا الرأي , لجئوا إلى الكهف فنشر الله عليهم من رحمته وأفاء الرب تبارك وتعالى عليهم من عطاءه وآواهم جل وعلا أعظم الإيواء , هذا الإيواء سيأتي بيانه بعد ذلك في قول الله جل وعلا
{ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ }
هنا أقف عند هذه الآية حتى لا ينقطع تسلسل الآيات في الشرح , وأرجئ الحديث عنه في اللقاء الذي بعده , لكن أعيد الآن جملة ما تم قوله من أول السورة إلى قول الله جل وعلا
{ ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا }
يهيئ لكم من أمركم مرفقا نبدأ منها , الله جل وعلا رحيم بخلقه شفيق بعباده , قال الله سبحانه
{ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ }(8/19)
لكن كلما عظم إيمان المرء ورسخ في قلبه محبة الله وتبرأ المؤمن من كل أحد غير الله كان أقرب إلى رحمة الله جل وعلا وفضله ولطفه وينال ما عند الله بمقدار ما لله جل وعلا في قلبه , وما مر من آيات فيه فوائد جملة , نلخصها فيما يلي أن القرآن رحمة للخلائق ولهذا أخبر الله جل وعلا أنه مستحق للحمد بإنزال هذا الكتاب الذي لا عوج فيه بمعنى لا خلل في نظمه ولا تنافي في معانية بل هو مهيمن على الكتب كلها التي سبقت كما صرح الله جل وعلا بذلك في آيات غير سورة الكهف في كتابه المبين وأخبر تبارك وتعالى أن هذا القرآن إنذاراً لأهل الإشراك وبشارة لأهل لإيمان , وأن من زعم لله الولد وهم اليهود والنصارى ومشركوا العرب قد أعظموا على الله الفرية وأنهم لا يملكون برهاناً ولا دليلاً ولا قرينة على صحة ما يقولون , لأن ما يقولونه لا وجود له , والشيء الذي لا وجود له لا يمكن أن يكون عليه برهاناً ولا بينة ولا سلطان , وأن هذا الأمر يعظم ويكبر في السماوات والأرض كما قال الله جل وعلا في سورة مريم
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا *لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا *تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}.
ثم أخبر الله جل وعلا أنه رحمة بعبادة ودلالة على وجوده وإظهاراً لعظيم آياته وقدرته جعل ما على الأرض زينة لها , تتأمله الأعين وتستلذ به الأنفس ثم لا يلبث ذلك كله أن يضمحل ويذهب قال الله جل وعلا
{ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا }
بعد أن كان أمراً مشاهداً معيوناً { صَعِيدًا جُرُزًا } لا نبات فيها ولا شجر ولا ثمار دلالة على قدرة العظيم الجبار , فسبحان من لا يحول ملكه ولا يتغير
{ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } .(8/20)
ثم ذكر الله نبأ فتية في غابر الأزمان ظن نبينا صلى الله عليه وسلم أنهم من أعظم الآيات لكنهم وأن كانوا من خبرهم من خوارق العادات إلا أنهم ليسوا من أعظم آيات الله قال الله جل وعلا
{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ }
فخلق السموات والأرض أكبر الآيات , وكذلك لله جل وعلا آيات أخبرنا ببعضها ولم يخبرنا ببعضها , كلها جملة وتفصيلاً تدل على عظيم قدرته وجليل شأنه ثم يبين جل وعلا وقوف هؤلاء الفتية أمام الطاغية , ثم لما خافوا على دينهم فروا بأنفسهم ولا يلامون , وليس كل أحد مطالب بأن يواجه وأن يقتل نفسه, فأن حفظ النفس أمراً مقرراً شرعاً , اضطروا إلى الهجرة واللجوء إلى الكهف , فلما لجئوا إلى الكهف أمنهم الله جل وعلا من الأعداء وأغناهم عن جميع الأشياء , ووكلهم إلى حفظه ورحمته , فكان حقاً أن يكونوا في حصن أمين وكهف يحفظهم الله جل وعلا فيه كما سيأتي تفصيله إن شاء الله في اللقاء القادم , هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده حول هذا المقطع من السورة , والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل , سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين , والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له دثار ولواء أهل التقوى , وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى سائر من أقتفى أثره وأتبع منهجه إلى يوم الدين , أما بعد :
فسنكمل في هذا اللقاء المبارك ما كنا قد سبق بيناه عن الحديث عن أصحاب الكهف , والسورة التي نحن معنيون بها في هذه اللقاءات المتتابعة هي سورة الكهف , وقد مر معنا أنها سورة مكية , وأنها تعرضت لجملة من القضايا وأن قراءة أولها يعصم الله جل وعلا به من فتنة الدجال , وأن من السنة أن يقرأها المؤمن كاملة يوم الجمعة .(8/21)
وصلنا إلى قول الله جل وعلا أن أصحاب الكهف تنادوا مع بعضهم البعض إلى أن يقولوا { وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16) } فهم أخذوا بالأسباب وتوكلوا على الملك الغلاب , هذا ما انتهى إليه حديثنا في اللقاء الماضي , الآن نقول قال الله جل وعلا : { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا (17) } الآيات بينها وبين السابق ما يسمى عند البلاغيين إيجاز حذف , معنى إيجاز الحذف أن الله لم يذكر أنهم اتفقوا على الكهف , ولم يذكر مسيرتهم إلى الكهف , إنما أتى بالخطاب مباشرة أن الشمس تطلع عليهم ويحصل كذا ولا يحصل كذا , فمعنى هذا أنها اتفقت كلمتهم على أنهم يذهبوا للكهف ,
مفهوم الآيات بعد ذلك يدل على أنهم في طريقهم كان معهم كلب , لأن الله ذكر هذا الكلب بعد ذلك , لكن هل كان الكلب لأحدهم مسبقاً أو أن أحد أنضم إليهم ,(8/22)
هذا أمر لم يبينه الله ولا حاجة إلى أن نتكلفه , لكن الذي يعنينا أن هؤلاء الفتية ضرب الله على أذانهم في الكهف , ثم بين جل وعلا , طوى الله الأيام والسنين , يبين لنا ماذا حصل في الكهف , وهؤلاء الفتية أمنون فيه , العجيب في القضية كلها , أو الذي ينبغي أن تفهمه كلها , أن إذا أراد الله جل وعلا أن يحفظك فنم مطمئناً , فخصومهم الآن يبحثون عنهم وينفقون الأموال في الوصول إليهم ويتهددونهم ويتوعدونهم , ولا يوجد أحد مغيب مثل النائم يتمكن منه أكثر من غيره , ومع ذلك كانت تحيطهم عناية الله , هذا لا يقدر عليه إلا الله , بل أن الشمس وهي تسير بقدر الله ويحصل منها إيذاء لمن تعرض لها , تعرض غير حميد وتصدى لها أضحى , أضحى يعني يعرض للشمس كما مر معنا في تفسير سورة الضحى , مع ذلك حتى الشمس لم تستطيع أن تنالهم بأذى لماذا؟
لأنهم في حفظ وكنف الرحمن جل جلاله , صور الله ذلك الموقف بقوله { وَتَرَى الشَّمْسَ } أيها المخاطب بكلامنا { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ }
تقول في اللغة جاءني زائر , ما معنى زائر؟
الزائر الأصل أنه متوجه إلى بيته , لكن لما مال إليك و وجاءك سمي ماذا؟
زائر , فالزور في اللغة أصله الميل , أصله ماذا؟
الميل , قال عنترة
فازور من وقع القنا بلبانه
وشكى إلى بعبرة وتحمحم
عنترة من أحد الشعراء الجاهليين من أصحاب المعلقات , ومعلقته مطلعها:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم
وهذا عبسي ينسب إلى أمه من حيث الرقة والعبودية ,
وثمة فائدة هنا , المولود ينسب إلى أبيه ديانة , فلو أن رجل مسلماً تزوج نصرانية أو يهودية فحملت منه فولدت فمات الصغير , يدفن أين ؟(8/23)
في مقابر السلمين , وإن كان لا دين له يعني ليس له دين ظاهر لم ينطق بالشهادتين , لكن يعد في أطفال المسلمين لأنه ينسب لأبيه ديانة , وينسب إلى أمه رقة أو حرية , وفي غير بني آدم طعمة ينسب إلى أخبث أبويه طعاماً , طبعاً هذه تحتاج إلى مثال :
البغل نتاج ماذا ؟
الخيل والأتان ( الحمار ) هو نتاجهما , الخيل مباحة والحمار محرم الأتان محرم , ينسب إلى ماذا ؟
إلى أمه فلا يجوز أكل البغل – واضح –وهي طويلة , سلسلة طويلة , لكن أنا أتي بفوائد عارضة .
عنترة مر معنا الفرزدق مر معنا غيره في قضية الاستشهاد بماذا ؟
بكلامهم وشعرهم , قال عنترة فزور يتكلم عن خيله , عن وقع القنا الرماح بلبانه أي مقدمة رقبة الخيل , أي أن الفرس عندما تأتيه الرماح يميل يمنة .. ميسرة , الذي يعنينا هنا أن الازورار بمعنى الميل
, فنعود للآية { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ } تميل عنهم ذات اليمين , { وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ } يقال مقراض , ما المقراض ؟
المقص يقطع , تتقطع عنهم { تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ } ’ { وَهُمْ } أي أصحاب الكهف { فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } في مكان متسع من ماذا ؟
من الكهف { فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } قال الله { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } قال العلماء { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } هذه قرينة , قرينة على ماذا ؟
قرينة على أن الأصل أنه ينبغي بوضع الكهف أن يصيبهم حر الشمس , لكن صرف الله عنهم الشمس حال طلوعها وحال غروبها أن لا تصيبهم بأذى عد ذلك آية من آيات الله , وقال آخرون لا , أن الأصل في وضع الكهف أن لا تصيبهم منه وهج الشمس , فكيف أجابوا عن { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } قالوا الخبر كله , كل نبأ أصحاب الكهف من آيات الله ,(8/24)
لكن القرينة ألصق وأقرب في ظننا والعلم عند الله , أي أن المقصود أن ازورار الشمس وقرضها عنهم إنما بقدر الله جل وعلا ولطفه بهذه الفئة المباركة , { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ }
قال الله { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } وهذا تنيخ المطايا عنده , لأن الله لا يقول ذلك من آيات الله لنمر عليها سريعاً و وهو أن تعلم أن لله جل وعلا آيات تدل على عظمته من وفق لإدراكها وفهمها ونظر بعين البصيرة في نقمة الله من خصومه , ورحمة الله بأوليائه , يجعله يعظم خشيته من الله ويعظم توكله على الله ,ألا ترى إلى هاجر لما أوكلت أمرها إلى الله أخرج الله ماء زمزم , خرج لها وكرامة لإسماعيل , ولما قبلت وقالت لخليل الله إبراهيم أالله أمرك بهذا , فقال نعم وغدت سبع غدوات تعود وتروح بين الصفا والمروة تبحث لأبنها عن ماء جعل الله ذلك الممشى لا يضيع هباء منثورا , فمشى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم على نفس الممر والمعبر والطريق الذي مشت عليه هاجر , هذا آية من آيات الله أن الله لا يضيع أهل طاعته , وعلى النقيض من عاداه جل وعلا وحاربه ونازعه أوكل الله جل وعلا إليه من أصناف العذاب ما يجعله عبرة لغيره ,
ثم قال الله { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن } شرطية { مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ } إذاً من لم يهده الله فلن يكون مهتدياً { وَمَن يُضْلِلْ } شرطية أخرى { فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا } وأين يكون مرشد وأين يكون ولي والله جل وعلا قد تخلى عنه ,(8/25)
وهذا المفهوم الحقيقي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاءه الذي علمه الحسن ( اللهم إنه لا يعز من عاديت ولا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت ) { اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ } تظنهم { أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ } أفضل ما يحمل عليه المعنى أن الله أنزل عليهم هيبة وأن أعينهم كانت مفتوحة ولذلك من رآهم يظنهم أيقاظ , لأنه لا يظن بشخص أنه يقظ إلا إذا كان مفتوح العينين , والعرب تزعم في كلامها أن الذئب ينام بإحدى عينيه فقط ويبقي الأخرى مفتوحة , وتقول العرب في كلامها عهن الذئب :
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى
المنايا فهو يقظان نائم .
ولقد مر معكم ربما في هذا الدرس أو غيره أنك لو دخلت مجمعاً للحيوانات تسمى حديقة في عرف الناس , ومررت على الحيوانات تجد الأسد رابض لأن الله سلط عليه الحمى , فلا يوجد في الحيوانات من هو شديد الحمى مثل الأسد , فيه مثل عند العامة يقولون خلق الله الشوكة وسود رأسها علشان يبان أنها شوكة , تميز , والله يقصم كل شيء ما يعطيه الكمال , والذئب إذا رأيته قبل أن يراك تغلبه , وإذا رآك قبل أن تراه قلما أن تغلبه , لكن إذا أنت رأيته يصيبه نوع من الخلع في نفسه , ولهذا من شدة خوفه ينام بإحدى مقلتيه ويبقي الأخرى مفتوحة , الذي يعنينا إذا دخلت حديقة الحيوانات كل بحسبه إلا الذئب أتحدى أنه يقول أحد أنه دخل حديقة حيوان وجد ذئباً رابضاً أو مقعياً , تجده يفر ويتحرك ولو كان مترين في متر إلا أنه سريع الحركة لا يثبت لأنه يبقى خائفاً حتى لا يراه أحداً قبل أن يراه هو ,هذه أشياء تفيدك ..في فهم أمور عديدة في الحياة ليست شرطاً فيما أنت فيه الآن
الذي يعنينا قال الله { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ } ثم قال سبحانه { وَنُقَلِّبُهُمْ } فأسند التقليب إلى ذاته العلية ,
وفيه فائدتان :(8/26)
الأولى : تشريف لهم ,
الثاني : بيان لطف الله جل وعلا بهم
{ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } قال العلماء في علة ذلك حتى لا تأكل الأرضة أجسادهم , ومعلوم أن الله قادر على أن يحفظ أجسادهم دون تقليب لكن المقصود إجراء سنن الله جل وعلا في الكون ,
الأصل أن الإنسان إذا نام على جنب واحد أو حال واحدة أن الأرضة تأكل جسده { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } كلبهم مضاف إليه , أي أنه لهم جملة أو لأحدهم أو لبعض منهم , كل ذلك واقع محتمل ,
الكلب حيوان معروف وقد أباح الله جل وعلا صيده إذا كان معلماً { وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ } لما ذكر الله جل وعلا ما أباحه من الأطعمة , والعرب تضرب به المثل في الوفاء , وكانت تتخذه العرب ..الحراسة ....الكلام فيه يطول ,
لكن المقصود من هذا هنا أن الله ذكر الكلب هنا ليبين جل وعلا أن من صحب الأخيار يلحق به ,
ويؤيده ما في الصحيح من حديث أنس أن أعرابياً سئل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة قال ما أعددت لها قال ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولكن أحب الله ورسوله فقال عليه الصلاة والسلام : أنت مع من أحببت فقال أنس رضي الله عنه والله ما فرحنا بعد إسلامنا بشيء أعظم من فرحنا بهذا الحديث فكان أنس يقول وأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر, قال بعض الرواة لهذا الحديث وأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر وأنس , ونحن نقول نحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر والصحابة كلهم وكل مؤمن تبع النبي وأصحابه بإحسان إلى يوم الدين ,(8/27)
نقول قال الله جل وعلا { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } الوصيد مقدمة الكهف , وكلمة باسط أسم , وأراد الله بها جملة أسمية الاستمرار , لأن الاسم تلحق به الاستمرار أكثر مما يلحق بالفعل , كقول الله جل وعلا { بَاسِطٌ } غير لو قال ( يبسط) لأنها قابلة للتحريك ,
لكن يظهر أن النوم والغشوة التي أصابت أصحاب الكهف أصابت كذلك الكلب { وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ } أيها المخاطب { لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) } وهذا نوع من الحماية لهم ,
لكن الإشكال الوارد هنا أن الإنسان يرعب أولاً ثم يفر , والله قدم الفرار على الرعب ولعله يجاب عن هذا بأن يقال أن الرائي لهم يصيبه رعباً من هول ذلك الرعب , قبل أن يتملكه الرعب ويغطي قلبه يسارع بالفرار , { لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا }
قال الله جل وعلا { وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ } بعثهم هنا بمعنى أيقظهم من سباتهم { لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُم}
ما زال الحديث عن أهل الكهف أنفسهم { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ } يعني يكلم أحدهم { كَمْ لَبِثْتُمْ } كأنه شعر بطول المدة ,
والآن أدخل الأحوال النفسية في الخطاب { قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } هؤلاء الفتية نعتهم الله جل وعلا بأنهم ذوو هدى , فلو كان هناك تغير في أجسادهم بأن طالت أشعارهم أو أظفارهم أو أنحنت ظهورهم لما قال القائل منهم { لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } لأنه محال أن يقع هذا في يوم أو بعض يوم لأنه لا يختلف عاقل في إدراكه , فدل هذا القول على أنهم لم يتغير منهم شيء
{ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ }(8/28)
وقلنا ونقول مراراً عند تفسير السورة , الإنسان مكلف بما هو فيه لك الساعة التي أنت فيها-الماضي ماضي تستسقي منه،لكن لايكون لك مثبط ولا يكون لك شيء تركن إليه دون عمل
مضى السلف الأبرار يعبق ذكرهم
فسيرو كما ساروا على الدرب واصنعوا
و لا خير في الماضي اذا لم يكن له
من الحاضر الزاهي بناء مرفع
هذا للاستشهاد في الأعمال , ليس في الاستشهاد للألفاظ , لا يقبل في الألفاظ !
نعود فنقول : أن الله جل وعلا هنا : أنهم تساءلوا بينهم , فلما علموا أن التساؤل في الأمر القديم لا ينفعهم لجئوا إلى المشكلة التي يعاصرونها , وهم لهم سنين جوعى فيحتاجون إلى ما يسد رمقهم وجوعهم , فقالوا { كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ } ما زالت معهم فضة , وفهم منها بعض العلماء أنهم أبناء أثرياء { فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ } الورق : الفضة .والفضة قرينها ماذا ؟
الذهب .
والذهب والفضة : مالان ماذا ؟
يقال في نعتهما : ربويان وزكويان .
والمعنى : أن فيهما الزكاة , خلاف مثلاً : ما لا يعد للتجارة , كبيت الرجل , وخيله ودابته , هذا لا يقال عنه مال زكوي !
إلا إذا عد للتجارة .
ولا يقال عنه مال ربوي !
لأنه لا يدخله الربا , ليسا من أصناف الربا .
لكن الذهب والفضة من أعظم زينة الدنيا التي يدخلها الربا , , وتكون فيها الزكاة .
{ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا } كأنهم يعيشون بيننا الآن , أردوا أن يوصوه أختار طعام طيب{ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا } قيل أزكى بمعنى : أطيب.(8/29)
وقيل : أغلى ’ اللفظ يحتمل المعنيين , وهذا يدل على إنهم أبناء ذوات { فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ } هذه { وَلْيَتَلَطَّفْ } : يعطيك أن الإنسان من حق نفسه عليه في مسيرته الدعوية العلمية , وحياته الاجتماعية أن يكون حريصاً على أن يبحث عن الأمان لنفسه , ولا يعرض نفسه للمهالك , يقول عليه الصلاة والسلام : [ حتى لا يتحدث الناس أن محمد يقتل أصحابه ] في الفترة المكية جاءه أبو ذر – أعتقد- أو أحد الصحابة , كان يجهر بالدعوة , ماذا قال عليه الصلاة والسلام ؟
قال : ألحق بقومك , فإذا سمعت أن الله أظهرني تعال , أقدم علي , لماذا ؟
لأن هذا الفتى آنذاك , الصحابي الجليل لا يصلح وسط تلك الفئة , فيه نوع من الجراءة , والمرحلة آنذاك لا تحتاج إلى جراءة , تحتاج إلى نوع من السكينة والطمأنينة .
والمقصود أن المرء يحتاج في مسيرته إلى أن لا يشغب على نفسه , ولا يدل الحاسدين عليه , هذا من الحكمة التي أمر الله جل وعلا بها , ودل عليها قول الله عن أهل الهداية هؤلاء { وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) } لا يحاول أن يدل الناس والأعداء علينا .
{ إِنَّهُمْ } أي الأعداء { إِن يَظْهَرُوا } أي ينتصروا عليكم , ويصبحوا قادرين , هذا معنى { يَظْهَرُوا }
{ إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ } والمقصود أنهم يعذبونكم { أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ } وهذه الثانية أنكى من ماذا ؟
أنكى من الأولى , لأن فساد الجسد لا يمكن أن يقارن بفساد المعتقد
{ إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) }مرتبطة بالثانية ليست بالأولى , قد يكون مبتلى في جسده , وهو في قمة الفلاح.(8/30)
عطاء بن أبي رباح , كان أعرج , أعور , فيه شلل في بعض أجزاء جسده , وكان لا يفتي في مكة في زمانه غيره , فلم يضره ما فيه من جسد , كان في قمة الفلاح .
لكن قولهم { وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدً} هذا المقصود فيه عدم الفلاح الأخروي , إذا فسد المعتقد , إذا أعادوكم في ملتهم { وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدً } .
قال الله { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } هنا خرجنا عن تصرف هؤلاء الفتية
, ودخلنا في تدبير العلي الكبير .
ذهب ذلك الفتى الذي بعثه أصحابه , يقيناً أنه أخرج تلك الورق , عرفها من أخرجها له أنها قديمة , صار نوع من المسائلة , فدلوا عليهم , وهذا المعنى حقيقي لقول الله جل وعلا { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ }.
{ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } كيف يعلموا أن وعد الله حق ؟
هناك أشياء يدل بعضها على بعض , فالذي حفظ هؤلاء ثلاث مئة عام , ثم بعثهم من مرقدهم , والنوم أخو الموت , هو قادر على أن يبعث من ؟
من في القبور , كما قال الله في إنبات الأرض { ِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى } , والأثرة تدل على المسير , والبعرة تدل على البعير , وهذا معنى قول الله { لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا } أنها حق قادم لا شك فيه .
{ إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ } من الذي يتنازع ؟
القوم الظاهرون , أمر من ؟
أمر هؤلاء الفتية , بعد أن ماتوا ,
أين الدليل على أنه بعد أن ماتوا ؟
أن الله قال : { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا } واتخاذ المساجد لا يكون على أحياء , إنما يكون على موتى .
فأن أحتج أحد بأنه يجوز بناء المساجد على القبور !
نقول له : أن هذا باطل , بدليل أن القرآن فيه محكم ومتشابه .(8/31)
فالمتشابه من أي قول يرد إلى المحكم , وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه , أي أخريات حياته , مما لا يدخله النسخ , قال : [ لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ] تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها , أي يحذر ما صنع اليهود والنصارى بقبور الصالحين .
واللعن لا يكون على أمر إلا كبير , عظيم منهي عنه في الدين , فهذا الحديث فصل الخطاب , وليس من الإنصاف , ولا من طرائق العلم المعتمدة المعتبرة أن يترك الإنسان المحكم ويفر إلى المتشابه , إنما يفر الإنسان من المتشابه و يعمد إلى المحكم إذا أراد أن يصل إلى الحق , أما من لم يرد الوصول إلى الحق فسيتخذ بنيات الطريق , ويتلوى في قواعد العلم حتى يصل إلى مبتغاه وهواه , أعاذنا الله وإياكم من إتباع الهوى .
{ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا } فإن قال قائل : أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم اليوم في مسجده ,
نقول : أن الصحابة لم يتخذوا مسجداً على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ’ فالمسجد بني قبل القبر ,
وإنما الحقيقة التاريخية أن حجرة عائشة رضي الله عنها وأرضاها التي قبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم هي أصلاً خارجة عن المسجد , المسجد كان الصف الأول منه موازي للحجرة , ما يسمى بالروضة الآن , المفروش بفراش أخضر , ويوجد إلى اليوم مكان محراب النبي صلى الله عليه وسلم في المجاور للمنبر , داخل الروضة , هذا المحراب كان موضع صلاته صلى الله عليه وسلم , فلما كانت خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وسع السجد من جهة القبلة , جهة الجنوب .
والمحراب الذي يصلي فيه الأئمة اليوم هو محراب عثمان , لم يصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم , وإنما صلى فيه عثمان , وإنما تأسينا به , لأن الصحابة وهم أفقه منا وأتقى تأسوا بعثمان عندما جعل قبلة المسجد متقدمة قليلا في الجنوب .(8/32)
ثم مضى الأمر على هذا الحال حتى كانت خلافة الوليد بن عبد الملك , أحد خلفاء بني أمية , وكان له شغف في البناء والعمار , الناس على دين ملوكها , في زمن الوليد كان الناس يتساءلون : كم بنيت كم , كم ., هذه حياتهم .
في زمن عمر بن عبد العزيز , كان يحيي الليل ,
فكان الناس يتساءلون : كم صليت من الليل , كم قمت , كم أوترت .
فالوليد كان من شغفه بالبنيان أنه أمر عامله على المدينة آنذاك , وأسمه عمر بن عبد العزيز ابن عمه رحمه الله , أمره أن يوسع المسجد , فلما امتدت التوسعة جهة الشرق , لأن الحجرة جهة الشرق , أدخل الحجرات , وقد أخطأ من صنع هذا الصنيع .
لكنه لم يخطئ ...أخطأ خطأ تاريخي , ألبس على الناس أمرهم , فظن المتأخرون من الناس أن القبر داخل المسجد ,
وإلا كانت هذه الحجرة خارج المسجد في عهد : أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد ومروان الحكم وعبد الملك بن مروان , هؤلاء تسعة خلفاء والوليد العاشر إن لم أنسى أحد من الخلفاء , الذي وصل إليه الأمر , وهذا كله تقريباً عام 90 هـ أو أكثر بقليل , هذا متأخر فلا علاقة للقبر بالمسجد أو المسجد بالقبر , ثم أنه في عهد هذه الدولة المباركة عندما جاءت التوسعة , توخى ولاة الأمر في هذه البلاد أن تكون التوسعة للمسجد كله , وإنما تأخروا من جهة الشرق قليلاً حتى لا يصبح القبر وسط المسجد , وتلاحظ في بنيان الحرم , أن فيه مثلاً مثل هذا المستطيل ,
ثم تبدأ التوسعة هكذا !
فما كان في القبر من جهة الغرب أو الشرق , لا يوجد توسعة , في مقدمة الصفوف لا يوجد توسعة , حتى لا يصبح القبر فعلاً متوسط للمسجد .
هذه محاولة لإبعاد اللبس , وهذا عمل صالح مبارك , يعني موقف أهتدى إليه ولاة الأمر والعلماءؤ ,
هذا الذي يعنينا حول قول الله جل وعلا { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا (21) }(8/33)
وفي قوله جل وعلا { غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ }
دلالة على أن السلطان يصنع ما لا يقدر عليه غيره , هذا معنى { غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ } .
قال الله بعدها { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاء ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا (22) } يقول العلماء أو بعض العلماء , يقول : أن عدد أصحاب الكهف : سبعة وثامنهم كلبهم , وأن الآية نص في الباب , فقلنا : من أين النص ؟
قالوا : أن الله قال : { ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ } وقال { رَجْمًا بِالْغَيْبِ } ,
وقال في { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } لم يقل رجماً بالغيب , وجاء بالواو
وقالوا أن هذه واو الثمانية , والحق الذي يجب أن نصير إليه , أن ليس في الآية ما يدل على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم , نعم قد يكونون سبعة وثامنهم كلبهم ,
لكن أنا أقول :الآية لا تدل عليه , إذا قلنا لا تدل عليه ,
يجب أن نرد على الدليلين الذين احتجوا بهما .
أما الرد على الأول : أن الله لم يقل رجماً بالغيب في الثالثة , لأنه تكرر في الأول , وهذا أسلوب قرأني واضح لمن تأمل القرآن , قال الله تبارك وتعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } إلى أن قال جل وعلا {ِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ } . ولا جان ماذا ؟
قبلهم ,
لكن لماذا لم يكررها بعد جان وكررها بعد الأنس ؟
لأن ذكرها في الأول يغني عن ذكرها في الثاني , وهذا أسلوب قرأني في أكثر من آية , تستطيع أن تصل إليه – واضح-(8/34)
أما قولهم : أن الواو واو الثمانية , فهذا من العجب !!
لا يوجد في اللغة شيء أسمه واو الثمانية !
مع تقديرنا لمن قال به من فضلاء العلماء ,
وهم من أين أتوا بواو الثمانية ؟
احتجوا بالقرآن بآيات منها : قول الله { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ } إلى أن قال { الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ } قالوا هذه واو الثمانية !
وقول الله تبارك وتعالى : { عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ } إلى أن قال جل ذكره : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } ,
والرد على هذا : أن يقال : أما الواو في ثيبات وأبكارا , هي واو عاطفة يراد بها التقسيم , لماذا يراد بها التقسيم ؟
لأنه لا يمكن أن تكون المرأة ثيب وبكر في وقت واحد !
فلا يستقيم أن يقال ( ثيبات أبكارا )
الأمر الثاني في قول : { الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ } أن هذا أمر يسمى , فيه التصاق يعني كل ما جاء في القرآن عن أمر بالمعروف ونهي عن منكر يؤتى بالواو , حتى بالأفعال : { َيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر} .
ومن الأدلة , واحتجوا كذلك بأية الزمر أن الله قال [ أبواب الجنة ثمانية معروف ] قال : { حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } ولا ريب أن الواو هذه واو حال , والمعنى : أنه سيحدث شيء قبل فتح الأبواب , وهذا دلت عليه السنة , أن النبي صلى الله عليه وسلم يطرق باب الجنة ,
ومن الأدلة الدامغة في أنه لا يوجد واو ثمانية , أن لو توجد لا التزمها القرآن , قال الله جل وعلا { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ } الثامنة { الْمُتَكَبِّرُ }(8/35)
ما قال الله والمتكبر , وإنما ذكرها من دون واو , فلو كانت هناك واو تلتصق بالثمانية , كما ذهبوا إليه لقال الله العزيز الجبار والمتكبر , لكن الله لم يقلها هنا لأنه لا يلتزم لها أصلاً , وإنما قيلت في تلك المواطن لا لعدد الثمانية , وإنما لأن الحال تناسب وتفرض أن تكون هناك واو – واضح-
نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : أنا من القليل الذي يعلمونهم , كانوا سبعة وثامنهم كلبهم – قلت أو أقول : هذا محتمل لكن ليس من أين ؟
ليس من الآية { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاء ظَاهِرًا } وهنا قال العلماء أن الإنسان إذا قرأ هذه الآية ينبغي عليه أن ينبه طلابه على أنه لا يتعلق بعددهم كبير علم ,
فيه أمور فلنصطلح عليها من الآن في دروسنا , في أمور تسمى من مليح القول , فيه أشياء تسمى من متين العلم , فلو قدر أننا عرفنا عددهم فهذا من مليح القول ليس من متين العلم , أين الدليل على أنه ليس من متين العلم ؟
لو كان من متين العلم لأخبر الله جل وعلا به , قال الله جل وعلا {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ } نافية { إِلاَّ قَلِيلٌ } ثم قال الله لنبيه { فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاء ظَاهِرًا }(8/36)
من لا يوجد أرضية بينك وبينه لا تجادله بكثرة , لأنك لن تصل أنت و هو إلى بغيتك , لا بد أن يكون طرف الجدال , هناك أرضية مشتركة , هناك تقارب , أما إذا كان هناك تفاوت فإن هذا الأدنى السفيه لن يعرف للعالي قدره , وإذا لم يعرف له قدره لن يكون هناك توافق في الجدال ,
وإن سفاهة منك أن تعلم جاهل
فيحسب جهلاً منك أعلم
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه
إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
ما يمكن يتفقون ,فلقد قال الله لنبيه { فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاء ظَاهِرًا } بل أنه بعد ذلك قطع المادة كلها , حسمها قال : { وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا } لماذا ؟
لأنهم ليسوا بذي علم ولا يستفتى إلا من كان ذو علم { وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا } أي من ماذا ؟
أي من القرشيين , ثم قال الله { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ } هذه ارجأها لأنها مرتبطة فيما بعدها .
لكن أبقى على آية { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } السين للاستقبال , والمعنى أن هذا الأمر لم يقله القرشيون بعد , لكنهم سيقولونه وقد قالوه !
لأن الله جل وعلا أخبر بأنهم سيقولونه ,
مما يستطرف في هذا المقام , ولعله طرد للملل وإبعاد للسآمة , أنهم يقولون أن دعبل الخزاعي – دعبل الخزاعي – هذا شاعر كان مناصراً لآل البيت بقوة وفيه تشيع شديد , وله أبيات في ذلك :
ذكرت محل الربع من عرفات
فأسبلت دمع العين بالعبرات
ديار علي والحسين وجعفر
وحمزة والسجاد ذي الثفنات
كان على خصومة مع المعتصم , والمعتصم ثامن خلفاء بني العباس , ويقولون أن رقم ثمانية هذا أرتبط به ارتباط كبيرا.فهو ثامن الخلفاء العباسيين , وكان له ثمانية ذكور أبناء وثمانية إناث , وحكم ثمانية سنين وثمانية شهور وثمانية أيام , ومات وعمره ثمانية وأربعون سنة ,
وهذا الذي أذى الإمام أحمد , يتأول , يعني كان متأول .(8/37)
المهم أنه خالف دعبل , والعاقل ما يعارض السفهاء , خاصة الشعراء , لأن الشاعر قد يكون جباناًً , لكنه يقول قولا يسير بين الناس فيغلبك بشعره لا بقوته ولا بسلطانه .
فانتهز كونه ثامن , فقال دعبل يهجو المعتصم :
ملوك بني العباس في الكتب سبعة
وما جأنا عن ثامن لهم في الكتب
وكذلك اهل الكهف في الكهف سبعة
كرام إذا عدوا وثامنهم كلب
ويقال أن المعتصم أهدر دمه وهو معذور من الناحية السياسية في أهداره لدمه ,
وقد بقيت خصومة دعبل , كانت من قديم حتى مع المأمون , والمأمون أخو من ؟
أخو المعتصم , إلا أنه السابع , طبعاً في السابع ما وجد شيء يقوله , لكن المأمون كيف وصل للحكم ؟
بعد مقتل من ؟
مقتل الأمين , الذي قتل الأمين رجل خزاعي من بني خزاعة , من قوم دعبل , فقال دعبل يهجو المأمون ويبين له أن الخلافة ما وصلت إلا بسببنا , نحن الدين قتلنا الأمين , وأوصلناك إلى الخلافة , ذكر بيتاً يقول فيه عن طريقهم وصلت أنت إلى الحكم , لكن لا أستظهر البيت الآن .
المقصود أن العاقل لا ينافس السفهاء وقد جاء في الحديث أن الإنسان يدافع عن عرضه بالمال , وأنت الآن قد تذهب إلى بقال – نفرض – تريد أن تشتري , وتكون ما اشتريته شيء زهيد ’ بريال مثلاً , والقرآن للعظة والعبرة , فيمكن أنك أعطيته ريال , فلو اختصمت معه وعلا صوتك, وعلا صوته وأجتمع الناس على ريال .
غداً لو أخطأت في كلمة في المحراب أو في المنبر أو في الإمامة , ولك خصوم – كل ذي نعمة محسود- فيأتوا الناس إلى حاسديك يسألونهم عنك , يقولون علشان ريال قاتل الناس نسأل الله العافية , يحب الدنيا ويحب ,,لكن أنت عاقل , لو قال ما دفعت ريال أعطيه ريالين , لو قال ما دفعت ريالين أعطيه ثلاثة , لماذا ؟
حتى ,, أنت تبحث عن شيء عظيم , والشيء العظيم لو جلست للمال ولمور عديدة تنتظرها لن تصل إلى مبتغاك .
بالعلم والمال يبني الناس ملكهم
لم يبن ملك علي جهل وإقلال(8/38)
وحتى تصبح مقبولاً لدي الناس تعظهم , وتذكرهم وتعلمهم , لا بد أن تحفظ عرضك , وتدافع عنه قدر الإمكان وسمعتك ما يعلمه الناس عنك .
ولهذا في القرآن طيات وأمور وخفايا هي حقيقة التفسير , أن نستظل بما في القرآن وأن نفئ بما في القرآن من آيات تبين لنا كيف نكون أنفسنا , والدليل على ذلك أنه ما فقه القرآن أحد مثل نبينا صلى الله عليه وسلم فالأيام النضرة للرسول صلى الله عليه وسلم , أعظم مفسر للقرآن , وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحفظ هذا لنفسه , يقول عبد الله بن أبي مستحق للقتل ,حتى لا يتحدث الناس أن محمد يقتل أصحابه ,وقف يقول من يعذرني في رجل أذاني في أهلي , أختصم السعدان سعد بن عبادة وسعد بن معاذ , فنزل من المنبر حتى يسكت الناس , ولا يخوض الناس في اللغط .
ثمة أمور لا تستشير فيها استشارة عامة , وإنما ,,,لما حصلت قضية الأفك كما سيأتي , ذهب إلى علي ابن عمه وأسامة والجارية , ناس خواص ما يشيع الخبر , بطريقة خاصة يحاول صلى الله عليه وسلم أن يجمع شتات الموضوع .
هذا ما يمكن أن يقال عن هذه السورة المباركة ,
أعيد على وجه الإجمال ما فيها , هذا المقطع .الآية التي مرت معنا يحفظ الله جل وعلا ورحمته بأولئك القوم , كيف أن الله جل وعلا جمع لهم أمرهم وآواهم وأيدهم جل وعلا بحفظه , وأن الشمس , حتى الشمس جعلها الله جل وعلا أمراً طبيعياً أن من تعرض لها آذته , لكنه حفظهم وكلائهم وأسند التقليب لذاته , قال جل وعلا { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } ثم أعثر عليهم وبين اختصام الناس فيهم , وبين المنهج الحق فالاتعاظ بالقرآن والأخذ منه , هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده والله المستعان وعليه البلاغ وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(8/39)
الحمد لله وإن كان يقل مع حمد جلاله حمد الحامدين , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين’ وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ...وبعد
فهذا لقاء متجدد مع برنامجنا من محاسن التأويل الذي نشرع فيه يعون من الله جل وعلا وتوفيق في تأملات في كلام الله تبارك وتعالى , والمنهج في هذه اللقاءات المباركة أننا تعرج على سور القرآن متوخين أوائل ما نزل منها نبدأ به , ذلك حتى يكون التأمل والتفسير والتأويل مطابقاً لمجريات النزول والأحداث والسيرة العطرة والأيام النضرة لنبينا صلى الله عليه وسلم , وكان قد مر معنا لقاءان حول سورة الكهف بينا فيهما أن سورة الكهف من أوائل ما نز , قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه : إنها من العتاق الأُول : أي من أوائل ما أنزل , وأنها من أوائل ما أخذه عن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه من القرآن .
وانتهينا إلى قول الله جل وعلا { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) } وبيان المعنى في هذه الآيات على التالي :(8/40)
يخاطب الله جل وعلا نبيه قائلاً له { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ } وهي استغراق في العموم : أي لأي أمر , { فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ } ومناسبة هذا الاستثناء فيما ذكره أكثر أهل التفسير : أن قريش لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم أسئلتها عن الكهف والروح وعن رجل حكم أوائل الزمان – يعنون ذو القرنين – أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قريش أنه سيحدثهم ويأتيهم بالخبر عن الله ولم يستثني , أي لم يقل إن شاء الله , فعاتبه ربه بأن تأخر الوحي القرآني قليلاً عنه صلوات الله وسلامه عليه , ثم جاءه الجواب دون أن يكون الجواب مصدراً بمعاتبه , وإنما قال الله { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } وأخذ جل وعلا يبين لنبيه قصة أصحاب الكهف , بعد أن كادت القصة أن تنتهي ولم يبقى إلا حل الإبهام في قوله جل وعلا { فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا } بين الله جل وعلا كم لبثوا قبل أن يصل إلى مدة اللبث ليختم على القصة وينهيها خبرا , عاتب نبيه بقوله { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ }وقبل نشرع في بيانها وأوجه التفسير فيها , نقول هذا يسمى العتاب من الله جل وعلا للحبيب المكرم صلوات الله وسلامه عليه , ويقولون إن الشخص إذا أراد أن يعاتب حبيبه على بعض أسئلته أو بعض طلبه يعطيه الطلب ثم بعد ذلك يعقبه بالعتاب , ولا يقدم العتاب على الطلب سواء أجاب أو لم يجب ,إنما يؤخر العتاب , الله جل وعلا أخر المدة الزمنية فقط, ولم يعاتب نبيه وأخبر نبيه بنبأ أصحاب الكهف { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ } ثم لما قص عليه جل وعلا قص على نبيه نبأ أصحاب الكهف بالحق قال له في نهاية الخطاب { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا }(8/41)
وهذا الخلق الذي علمه جل وعلا نبيه تأدب به صلوات الله وسلامه عليه فكما عامله ربه جل وعلا عامل صلى الله عليه وسلم أصحابه بمثل هذا ويدل على هذا حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه وأرضاه , وحكيم بن حزام أحد الصحابة المتأخر إسلامهم , ولد في جوف الكعبة , وهو ابن أخ لخديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها , حكيم بن حزام بن خويلد الأسدي , كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم مالاً فيعطيه , قال سألته فأعطاني وسألته فأعطاني , وسألته فأعطاني , ثم بعد أن أعطاه ثلاث مرات حتى لا يبين له أن المقصود منعه , وإنما المقصود تربيته قال له : يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة , ثم أخذ يبين له أن العاقل لا يأخذه باستشراف نفس , فما أتاك منه بغير استشراف نفس فخذه , ونهاه أن يأخذه بطلب وإلحاح واستشراف نفس , ثم قال له : (اليد العليا خير من اليد السفلى )
فأخذ يبين له الأدب الذي ينبغي عليه أن يكون الكملاء من الرجال , قال بعدها حكيم يجيب النبي صلى الله عليه وسلم : والذي بعثك بالحق لا اسأل أحد بعدك . ولم يقل لا أسألك حتى لا يقول للنبي فهمت من كلامك أنك تريدني لا أطلب منك مالاً , فقال لا اسأل أحد بعدك . بقي على سؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم , فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حكيم لا يسأل أحد , فكان عمر يناديه ويقول من يعذرني في حكيم , أعطيه حقه فيرفضه , لأنه أعطى النبي عهداً أن لا يأخذ من أحدٍ غيره , هذا الخلق النبوي تعلمه النبي صلى الله عليه وسلم من تعليم الله له في القرآن { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ } , هذا الأدب الرباني الإلهي لنبينا صلى الله عليه وسلم .
أما قول العلماء في تفسير الآية فهو يمكن حصره في تأويلين :(8/42)
إذا أخذناها مع التي بعدها , لأن الله تعالى قال : { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا* إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } موضع الإشكال { وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } وإلا { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ } هذه ظاهره لا تحتاج إلى مزيد إيضاح , لكن الإشكال هل قول الله جل وعلا { وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } مرتبط بما سبق أم أنه استئناف كلام جديد , وهذا الذي قلت في مقدمة كلامي أنه للعلماء فيه طريقين :
الطريق الأول يقول : أن قول الله جل وعلا {{ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } أي إذا نسيت أن تستثني في أيمانك وطال الفصل , فأذكر ذلك الاستثناء ولو بعد أجل , والمعنى أنك إذا قلت سأفعل كذا , ونسيت أن تقول إن شاء الله , فيصبح معنى {{ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } أي إذا نسيت الاستثناء حال اليمين أو حال الإخبار بفعل شيء , فلا بأس أن تقوله بعد فصل – هذا الأول-
وهذا القول يدل عليه ارتباط الآيات بعضها ببعض .
وقول آخر : أن قول الله جل وعلا { وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } لا علاقة له بالأول , وإنما إذا غلب عليك النسيان فمن أسباب تذكر ما قد نسيت أن تذكر الله بتسبيحه وحمده و تهليله , أن تقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله , وأمثالها حتى تذكر الشيء الذي نسيته ,
وحجة هؤلاء ظاهرة وهي أن الله جل وعلا أخبر في طيات كتابه أن النسيان من الشيطان ,(8/43)
قال الله جل وعلا على لسان يوشع بن نون فتى موسى { وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } وقال جل ذكره { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ } وغير ذلك من الآيات الدالة أن النسيان من الشيطان , فيطرد ذلك النسيان الذي هو من الشيطان بذكر الرحمن على هذا القول –الوجه , الطريق- من التفسير [u]لا علاقة لقول الله جل وعلا من قبل [/U]{ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا* إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ }, ولكن ينبغي تحرير المسألة كالتالي :
من قال أصلاً بأن { وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } مرتبطة بما سبق , يقول أن الفعل إذا طال لا ينفع فيه الاستثناء ’ بمعنى لو أن إنسان أقسم على شيء أن يفعله ولم يقل إن شاء الله , ثم قال في غده أو بعد غده , فأن هذا الاستثناء المتأخر البعيد الفصل بينه وبين الخطاب الأول لا يمنع من وجوب الكفارة , إذا حنث في يمينه , بمعنى أنه لا تبرأ به ؟!
لا تبرأ به الذمة , لا بد من الكفارة إذا حنث في اليمين .
لكن أشكل على العلماء أن المشهور من قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن الفصل يصح ولو طال ولو بعد سنين , يقول إن شاء الله , هكذا فهم في المنقول عنه ابن عباس رضي الله تعالى عنه الآية , ونحن الآن أمام معضلة , إذا قلنا برأي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما , فقد أطبق العلماء لو أخذنا بهذا الرأي , لن يحنث أحداً في الدنيا أبداً , لأنه إذا كان يحق له أن يقول إن شاء الله في أي وقت , فأنه قبل أن يقدم أن يحجم يقول إن شاء الله وتنتهي يمينه , وهذا لا يقول به عاقل , مادام لا يقول به عاقل من الصعب إسناده إلى من ؟
على ابن عباس(8/44)
مادام نزهنا العقلاء أن يقولوه , فكيف نتهم به رجل من أكابر علماء الصحابة , إذاً لا بد من تخريج لقول ابن عباس , يخرج قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : وهذا هو الصواب إن شاء الله , أنه قصد بقوله ( إن شاء الله ولو طال الفصل ) لا لتبرأ الذمة بحنثك من اليمين , وإنما لتشعر نفسك بأنك تداركت الأمر , فلا تصبح كاذباً أو معتمداً في أمورك على غير الله , فإذا نسيت وتذكرت بعد حين , تقول إن شاء الله من باب تدارك الأمر , من باب الاستغفار , من باب أخبار أنك نسيت في الأول , من الاعتماد على الرب جل وعلا , من باب الاعتقاد أن الأمور كلها لن تنفذ إلا بمشيئة الله , لكنك لا تقصد بهذا أن ترفع عن نفسك أو تصوغ لنفسك أن تحنث في يمينك , فتجعل من إن شاء الله التي بعد حين هي نفسها القريبة العهد في نفس الخطاب , وهذا أرجو الله أن يكون ظاهراً .
ومما يستظرف في هذا الشأن : أن أبا حنيفة النعمان لم يكن يقول بقول ابن عباس , هذا الفقيه المعروف , فكان أبو جعفر المنصور لأنه عباسي , فيأتي الواشون إليه فيقولون إن أبا حنيفة لا يقول بقول ابن عباس على اعتبار أن ابن عباس جد لجعفر , فأقدمه بين يديه , قال له كيف لا تقول بقول بن عباس , فأراد أن يخرج منها , هذا تقارع بالشيء الذي يمسه , وأبو جعفر أمير مؤمنين , تقارعه بالكرسي , شيء يحفظ عليه كرسيه , قال له يا أمير المؤمنين : إن القول بقول ابن عباس يضر ملكك , فأن الناس يعطونك أيمان وبيعة فإذا خرجوا من عندك قالوا إن شاء الله , ثم يحنثون في يمينهم فيتركون البيعة , ولم يستطع أبو جعفر أن يرد جواباً على أبي حنيفة , وإنما أستحسن قوله وقبله منه , والمقصود من هذا إن هذه مضمار كما أقول مراراً تجري فيه أقدام العلماء .
{(8/45)
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)} هذه الآية فيها إشعار خفي غير ظاهر , معنى الآية : أدعوا الله أن يدلك على طريق أقرب لهداية الناس بآيات أعظم من قصص أصحاب الكهف , يعني لا تجعل القضية وقفاً على قضية أصحاب الكهف , أن تقنع بها قومك , واسأل الله آيات أقرب رشداً , أقرب إلى طريق الحق من قضية أصحاب الكهف , وإن كان أصحاب الكهف من آيات الله , ولا ريب أن الله استجاب دعاء نبيه , فأعطاه من الآيات المثبتة لنبوته صلى الله عليه وسلم , وصدقه إلى أن توفى صلوات الله وسلامه عليه .
{ لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا } ثم عاد الخطاب منهياً قصة أصحاب الكهف , وقد قلنا مراراً أن من أعلى أنماط التفسير إيضاح القرآن بالقرآن ’ والله جل وعلا لم يقل في الأول كم ضرب على أذانهم , قال { فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا } هذا الإبهام بينه الله في أخر القصة , قال جل ذكره { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } .
هناك طريقان لتفسير الآية :
1-الطريق الأول : أن يقال إن الله أراد بقوله أنهم لبثوا ثلاثة مئة وتسع سنين , وإنما أتى بها بهذه الطريقة لتباسب رؤؤس الآيات , لأنه لو قال [ لبثوا في كهفهم ثلاث مئة وتسع سنين] لما أصبحت فواصل الآيات متطابقة ,هذه طريقة
2-والذي عليه الجمهور أن الله أراد أن يقول { َلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } من الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال ؟!
قريش .
من أرشد قريش أن تسال ؟!
أهل الكتاب .
فأراد الله أن يقول : لبثوا ثلاث مئة سنين بحساب من أرشد , وهم أهل الكتاب , بالسنة الشمسية ,(8/46)
وازدادوا تسعاً على الثلاث مئة , بحساب من سألك مباشرة , وهم قريش , الذين يحسبون بالسنة القمرية .
وهذا الجواب لا يقدر عليه إلا من ؟!
إلا الله .
الذي أحاط بعلم أهل الكتاب وبعلم قريش , لأن العلم بالفوارق بين السنين الشمسية والقمرية قلما يهدى إليه كل أحد , يحتاج إلى رجل حاذق ذي علم بطرائق الأفلاك , أو أمة ربيت على هذا الشأن , لكن الله تبارك وتعالى علم نبيه ما لم يكن يعلم , وإلا علم الله أعظم من هذا وأجل .
فيصبح هذا حل الإشكال في الآية { َلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } .
{ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } وهذا يوهم أنهم لم يعلموا كم لبثوا , لكن المقصود من هذه الآية من قوله سبحانه { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا }
المقصود : أن العلم ذاته درجات متفاوتة , فليس علم الله جل وعلا مثل علم غيره في المدة التي لبثها أصحاب الكهف , فهؤلاء إنما ينقل بعضهم عن بعض , قد يصيبون وقد يخطئوا , ولو وفقوا بالصواب تكون الطرائق التي نالوا بها التوفيق ضعيفة أو قوية , أما علم الله جل وعلا فليس كعلمهم , فإن الله علم بلبثهم هذه المدة قبل أن يخلقهم , فالله يعلم ما قد كان وبما هو كائن وما سيكون , ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون .
قال الله جل وعلا { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } وهم لم يخرجوا .
هذا قول الله جل وعلا { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا }(8/47)
هذا قول الله جل وعلا { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } هذه اللام للملك , فما من غائبة في السموات والأرض إلا والله جل وعلا يعلمها { لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } هذا تعجب , أسلوب تعجب عربي , والمقصود عظم سمع الله جل وعلا وبصره , وهذا أمر لا خلاف فيه بين أهل السنة { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } , { مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ } على ماذا يعود الضمير ؟
هل يعود على قريش المخاطبة ؟
أم يعود على من في السموات والأرض ؟
الأظهر أنه يعود لكل أحد , فليس لأحد ولي من دون الله { مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ } , ثم قال سبحانه { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } وهذه الآية أصل فيما يسمى الفقه السياسي , والمعنى أن التنظيم المعاصر ينقسم إلى قسمين :
تنظيم إداري
تنظيم شرعي
فالتنظيم الإداري لا يعارض الآية , فعله من أمرنا بالاقتداء بهم مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه
فإن النبي صلى الله عليه وسلم في معركة غزوة تبوك لم يكن يعلم أن كعباً هو الذي تخلف حتى رجع إلى المدينة ,لأنه لم يكن يوجد فيه دواوين يكتب فيها الجند فلما جاءت خلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه أقر إيجاد الدواوين , ليعرف من غاب ومن حضر ,فصنع شيئاً لم يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم , لأن هذا النظام نظام إداري وليس شرعياً ,(8/48)
وأشترى عمر دار صفوان ابن أمية في مكة وجعلها سجناً , والدار قديمة من أيام الجاهلية , ولم يصنع هذا النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر من بعده , لكنه أمر إداري رآه عمر حسن فستحسنه , فهذه الأمور إدارية ما لم تخالف نصاً صريحاً وعليه أكثر قوام حياة الناس اليوم , وهذا لم يعنف الله فيه وتركه مفتوحاً لخلقه يصنعون بحسب ما يلائم كل عصر ظاهر , كاتخاذ عمر التاريخ الهجري .
أما قوله سبحانه { مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) } هذا الذي لا يجوز , مثل ما ينادى به في الميراث أو دعوة إن الطلاق ينبغي أن يكون عن طريق المحاكم فقط وسلبه من الرجل , أو ما إلى ذلك من أمور متعددة كوصفهم الرجم والقطع بأنه وحشية , هذا كله لا يجوز شرعاً , القول به ومن تبناه كفر , ولهذا قال الله { وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } ثم لما بين الله لنبيه قصة أصحاب الكهف و ما لله جل وعلا من جلال الكمال ونعوت الجلال قال له { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) } أي أن المستند الذي تتكئ عليه والذخر العلمي الذي تلجأ إليه ما وصى الله جل وعلا به إليك في هذا الكتاب العظيم قال { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } وكلمات الله وصفها الله جل وعلا بوصفين بأنها متضمنة لأمرين :
التضمين الأول : للأخبار.
والتضمين الثاني : للأوامر والنواهي .
فالأخبار لا توصف بأنها عدل , توصف بلأنها ماذا ؟
{ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً } توصف بأنها صدق .(8/49)
والأوامر والنواهي توصف بأنها عدل , فقول الله جل وعلا { لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } أي لا يجوز لأحد أن يجعل من أخباره الصادقة أخبار كاذبة , ولا من أوامره ونواهيه العادلة أن يجعلها أمور أو أسئلة أو مطالب أو نواهي أو أوامر جائرة أو ظالمة , هذا معنى قول الله { لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } .
{ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } الميت يوضع في قبره , والقبر قسمان : شق ولحد ,
اللحد ما هو ؟
الميل
{ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } مأخوذ منها أسم مفعول بمعنى : لن تجد شيئاً تميل به عن الله , وهذا في القرآن جاء كثير , معبر عنه مرة بالملتحد ومره بالمحيص ومرة بالمناص ومرة بالموئل وكل المعنى واحد { وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } فلما أمر الله جل وعلا نبيه الكريم أن يعكف على هذا القرآن يستضئ بنوره , أمره أن يكون له إيمانه في الباطن وهو قراءة القرآن , إيمانه في الظاهر وهي الرفقة والصحبة الصالحة قال له { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } قال العلماء في تأويلها : أن نفر من قريش من ساداتهم قدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعيروه بصحبته وجلوسه مع فقراء الصحابة كعمار وصهيب وبلال وسلمان , وأمثالهم , سلمان قد يكون متأخر لأنه في المدينة أسلم , لكن فقراء الصحابة الذين كانوا يعيشون في مكة , فأنزل الله جل وعلا على نبيه قوله { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } أي أحبسها { مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } فُسر { يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } بصلاة الفجر وصلاة العصر , وفُسر بغير ذلك ,(8/50)
لكن أجمع ما قيل في تفسير هذه إيمانياً أن هؤلاء المباركين سلك الله بي وبكم سبيلهم -وهذه ينبغي تدبرها جيداً - أنهم في الغداة { يَدْعُونَ رَبَّهُم } بأن يسألونه التوفيق لطاعته , وفي { الْعَشِيِّ } يدعون ربهم بأنهم يستغفرونه لما وقع منهم من تقصير في عبادته – واضح- في أول النهار يسألونه التوفيق في طاعته ولا موفق إلا الله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وبالعشي يستغفرونه عما حصل من تقصير خلال طاعتهم في ذلك اليوم , لأنه لا يمكن لأحد أن يعبد الله جل وعلا حق عبادته [ سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ] وهذا نظيره في القرآن أن الله قال عن بعض أولياءه { كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون} ثم ذكر مع ذلك كله ينهون وقتهم بقضية الإستغفار , قال الله جل وعلا { وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } عما حصل من تقصير .
قال ربنا تبارك وتعالى { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) } قول الله جل وعلا { يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } هذه جملة حالية : أي حال كونك تريد زينة الحياة الدنيا , وهذه من تأديب الله لنبيه , أن هؤلاء المعاندين المتكبرين إنما يريدون زينة الدنيا ولا يحرثون للآخرة , ثم قال له { تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ } في ترك هؤلاء الصالحين , هم ؟ما قال الله أسمائهم , قال الله صفاتهم حتى يصبح لا عبرة بخصوص السبب وإنما العبرة بعموم اللفظ .(8/51)
قال الله جل وعلا { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } فهو ظاهر الطغيان متبع لهواه غافل معرض عن ذكر الله , وهذه الأسباب قد توجد كلها في شخص , وقد توجد بعضها , لكن أي أن كانت وجدت كلاً أو بعضاً فهي صفات مقيتة تبعد عن الرب تبارك وتعالى , قد يتلبس بها الناس تلبساً كاملاً ويكونون كفاراً , أو يتلبسون بها تلبساً جزيئاً فيكونون مؤمنين لكنهم عصاة أو مسلمين لكنهم فساق { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا }(8/52)
قال الله { وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } فالدين دين حق أمنتم أو لم تؤمنوا { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } وأكثر الصحفيين في عصرنا يجعلون من هذه الآية دليلاً على التخيير , ويقولون لمن يجنح إلى الدعوة ماذا تريدون من الناس والله قد أطلق لهم العنان فقال { وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } , وقد قال علماء الملة ونصراء الدين وأئمة التفسير أن ليس المقصود من الآية التخيير , وإنما السياق سياق تهديد ووعيد , والدليل على أنه سياق تهديد ووعيد أن الله قال بعدها { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا } والظالمون هم المشركون الذين حادوا عن طريق الحق , فقول الله سبحانه { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } قرينة على أن المقصود ليس التخيير فيما سبق وإنما سياق تهديد ووعيد , كما أن المراد من ذلك التهديد والوعيد إظهار استغناء الله ورسوله عن نصرة أهل الإشراك , فالدين حق أمنتم أو لم تؤمنوا , نصرتم أو لم تنصروا , دخلتم فيه أو حدتم عنه , المعنى لا يضر الله جل وعلا ذلك شيئا { وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } سرادق الفسطاط الخيمة , الشيء المسور , له معاني واسعة لكن تفهم منه الإحاطة {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا } شرطية {يُغَاثُوا } واقع في جواب الشرط , لذلك حذفت نونه لأنه من الأفعال الخمسة { وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء } والأصل أنهم طلبوا الإغاثة ليشربوا , لكن الله لم يقل أنهم أزدادوا عطشاً , ولم يقل أنهم ذهب عطشهم , جاء بشيء آخر { وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ } ويأتي(8/53)
السؤال , ما علاقة { يَشْوِي الْوُجُوهَ } بماء يشرب ؟
والمقصود أن هذا الماء أنما دعوا به ليذهبوا حر عطشهم فما أن قرب لهم لشدة حرارته التي { كَالْمُهْلِ }. أي كعكر الزيت , وما أن يدنوه من أفواههم حتى تتساقط فروة جلودهم , ما أن يدنوا ليشربوه حتى تتساقط فروة وجوههم .
فهذا قبل أن يطعموه !
فكيف بعد أن طعموه !
ولا ينجيك من هذا ..إلا من ؟
إلا الله .
فمن توكل على الله كفاه خزي الدنيا وعذاب الآخرة , ومن حاد عن الله فإن الله قال قبلها { وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } .
{(8/54)
وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ } قال الله { بِئْسَ الشَّرَابُ } أسلوب ذم عند العرب , وبئس فعل ماضي جامد ناقص التصرف , يعني لا ينصرف تصرفاً كاملاً , والمخصوص بالذم محذوف , والتقدير بئس الشراب هذا الماء { بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ } قيل بئس سياق ذم , { مُرْتَفَقًا } هذا المرفق , إنما يتكئ الإنسان عليه إذا شعر بالإعياء , وليس في النار راحة , وإنما المقصود إسلوب تهكم بهم , فليس الخطاب على أصله , فليس الخطاب على حقيقته { بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا } أي جهنم أعاذنا الله وإياكم منها , فلما الله الأشرار أتبعه جل ذكره بذكر الأخيار قال { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } فكل من عمل صالحاً ...أمنوا وأرادا بذلك وجه الله فإن الله لا يضيع أجر المحسنين {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَ} وسيأتي بيان هذا في موطنه { أُوْلَئِكَ لَهُمْ } أي هؤلاء الذين أمنوا وعملوا الصالحات { أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } عدن ...(8/55)
المكان بمعنى أقام وخلد , ولهذا سميت جنات عدن بجنات عدن لأنها دار خلود وإقامة { أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ } أنهار من لبن وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى وأنهار من ماء غير أسن , والقرآن يوضح بعضه بعضا , { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } وجاء في بعض الآيات أنها{ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } وجاءت بعض الآيات أنها أساور من لؤلؤ , ويجمع بينهما أنهم يحلون بأساور من ذهب وأساور من فضة وأساور من لؤلؤ تبلغ منهم ما يبلغه الوضوء , كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح وغيره من حديث أبي هريرة { الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ }
السندس : رقيق الحرير .
الإستبرق : غليظ الحرير .
وجمع الله جل وعلا لهم النعمتين .
لما أهديت له صلى الله عليه وسلم قطعة من حرير , قال :[ أتعجبون من رقتها ] وقد لمسها الصحابة وتحلقوا حولها [ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه ] (أو أفضل أو أرق من هذه ) أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه .
والمقصود جملة ما أعطاه الله من نعيم لأهل الجنة , وكون الثياب خضر هذا الذي كان لباس الملوك في الجاهلية لباس ملوك العرب في جاهليتهم( خضر المناكب) أخر بيت لنابغة الذبياني .
والمقصود أن الخضر كانت نوعاً من اللباس الذي يتجمل به أعالي القوم , فعاملهم الله جل وعلا بجنس صنيعهم { وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } السرير معروف , ولا أعتقد أنه يحتاج إلى بيان ,له أرجل ,
هذا السرير يا أُخي
إن وضعت عليه ميت فهو نعش ,
,وإن جلس عليه ملك فهو عرش ,(8/56)
وإن لم تضع عليه لا ميت ولا ملك , نمت عليه يسمى سرير ,
شيء أخر أسمه الحجال .
الحجال : قباب من ثياب مزخرفة بعضها فوق بعض , كان النساء في ذلك الزمان ينامن عليها , ولهذا يقال للمرأة أو للنسوة ربات الحجال أي عاكفة على الحجال تنام فيه , فإذا هذا السرير وضع عليه الحجال أي ظهرت له أعمدة وغطي بثياب – لعل الصورة ظاهرة أمامكم – يأتي له أعمدة عالية أربعة ثم يغطى , أشبه ما يتقى به البعوض ثم وضعت عليه ألحفة وشراشف وأشباهها , هذا كله جلة مجموعة أريكة .
وقد كان هذا النوع من الطرائق في النوم من حال أهل الترف وما زال بنسب , والمقصود قال الله { مُّتَّكِئِينَ } أهل طاعته { عَلَى الأَرَائِكِ } الذي صورت لك , ثم قال الله بعد ذلك كما قال بئس الشراب قال { نِعْمَ الثَّوَابُ } ولم يقل الشراب لأنه لم يذكر الشراب هنا { نِعْمَ الثَّوَابُ }والثواب يطلق على الجزاء الحسن والجزاء السيئ , قال الله جل وعلا { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ } , { نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } هنا حسنت على ماذا ؟(8/57)
على بابها , في الأول قلنا ليست على بابها , لكن هنا على بابها لأن الاتكاء من الإعياء , والراحة لا يطلق على عذاب أهل النار وإنما تهكم بهم قاله الله , وهنا على بابها الأصلي أنهم يتكئون اتكاء راحة نعتها رب العزة والجلال بقوله { نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } ثم ذكر الله جل وعلا بعد أن ذكر الفريقين حقيقة , وهم صناديد قريش والفقراء , ضرب مثلاً , وضرب المثال تقريب للشيء البعيد , ولا بد أن تكون صورة المثال مقربة للشيء المبهم , وإلا تصبح غير موفق في ضرب المثال , لأن الضرب حقيقته إلصاق اليد بشيء آخر , فأنت عندما تريد أن تعاقب أحد أصغر منك أو أضعف منك جسماً , إذا ضربته ألمته فتحقق مقصودك , لكنك إذا ضربت بيدك شيء أقوى منك كمن يضرب حديداً أو صخراً وأشبه بذلك فإنه هو المتضرر ولا يصبح هو ؟
هو الضارب .
كناطح صخرة يوماً ليوهنها
فلم يضرها فأوهى قرنه الوعل
فالوعل إذا نطح الصخرة بقرنية هو الذي يتأثر وليس الصخرة , فضرب المثال لا بد أن يكون شيئاً مقرباً للمستمع لمن يراك , لمن تريد أن تضرب له مثالاً , لا تجنح به بعيداً فيكون مثالك أصعب من الشيء الذي أردت إزالة الإبهام عنه واضح { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ } هل هذا حقيقة أم مجرد ضرب مثل ؟
كل ذلك محتمل !
هل هم في عهد النبوة ؟(8/58)
هل هو في الزمن الغابر في عهد بني إسرائيل ؟ هذا هو الأظهر , أياً كان الأمر هذا , كان مثالاً ضربه الله جل وعلا , { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا } أحطناهما { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ} أي تنقص { مِنْهُ شَيْئًا } ولا يوجد تظلم في القرآن بمعنى تنقص إلا في هذه الآية , والأصل في النخل والكرم وغيرها أنها إذا طال الأمد عليها ليس في كل عام تفي بغلتها كاملة , ولكن هذا الرجل منَّ الله عليه بأن شجره وزرعه ونخله يؤتي أكله في كل حين كاملاً
{ وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا (33) } أي مجرى ماء { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } المقصود بقول الله جل وعلا { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } أي كان له مال آخر غير الشجر , لأن الثمر في لغة العرب يطلق على الولد وكل ما تمولته وعلى الذهب والفضة والحلي وسائر ما تمتلكه , يقال له ثمر , هذا أسلوب العرب في كلامها , قال نابغة الذبياني
مهلاً فداء الأقوام كلهم
وما أثمر من مال ومن ولد
وهو يعتذر لأحد الملوك
مهلاً فداء الأقوام كلهم
وما أثمر من مال ومن ولد
أي ما أنمى وما أملك من مال ومن ولد فداء لك .
ونابغة الذبياني - أحنا قلنا سنستطرد قليلاً , في أن التفسير من أعظم آلاته العلم بلغة العرب , وللعرب أسلوب كلام , وأسلوب الكلام أعظم ما تضمنه أسلوب في كلامها شعرهم الجاهلي , والنابغة أحد رؤوس الشعراء الجاهليين , وكانوا يقولون إن أشعر الجاهليين ثلاثة :
امرؤ القيس إذا ركب
والأعشى طرب
والنابغة إذا رهب
معنى الكلام :
امرؤ القيس إذا ركب : إذا خرج يصطاد ووصف الصيد.(8/59)
والأعشى إذا طرب : كان سكيرا , إذا بلغت الخمرة منه مبلغها .
والنابغة إذا رهب : أي إذا خاف وأعتذر لأن الخوف يدفع إلى الاعتذار وهو أحد أصحاب المعلقات ومطلع معلقته :
خولة أطلال ببرقة ثهمدد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقوفاً بها صحبي على مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجلد
لكن هذا البيت الذي بين أيدينا ليس من المعلقة وإنما من أحد أعتذاراته .
نقول إن قول الله جل وعلا { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } أي له مال آخر غير ذلك الزرع .
{ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ } أي قرينة { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً } وهذا ظاهر بالجنتين وما فيهما { وَأَعَزُّ نَفَرًا } النفير من إذا استنفرت نفر معك , ويقصد أكثر أولاداً , أين الدليل أنه يقصد أكثر أولاداً ؟
ما بعدها , لأن العبد الصالح قال له { مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ } ماذا ؟
{ مَالاً وَوَلَدًا } فمالاً تأتي مقابل { أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً } وولد تأتي مقابل { وَأَعَزُّ نَفَرًا } ففهمنا أن النفر هنا بمعنى الولد لهذا قلنا من أراد أن يفسر القرآن لا يستعجل وإنما يرى الآيات مجتمعة , ومن بعد ذلك سيهدى إن شاء الله إلى أقوم السبل .
{(8/60)
أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) } قال { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } والمقصود كلتا الجنتين { وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } جملة حالية , والظلم هنا بمعنى الشرك { وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) } لا أعتقد أن هذه على جلالتها وكثرة مائها ووفرة زرعها وما فيها من رغاء وثغاء , أنها ستفنى , ثم قال { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً } والإنسان والعياذ بالله إذا جاء يطغى , يطغى بالتدرج , لأنه إذا ما وجد مقابل للكلمة ما أحد رد عليه يزيد , يقال قيل لفرعون : كيف وصلت إلى ما أنت إليه , قال : لم أجد أحد يقول أن هذا ممنوع , مازال يقول , يقول , يقول حتى صدق نفسه , لما رأى الناس يصدقونه , كمن يعتاد الكذب , يقول الكذبة مرة ومرتين وأنت تستحي منه , فأن تركت له الحبل على الغارب كل مرة يزيدها , فأنت لن تستطيع أن تدفع الأخيرة , وقد رضيت بالأولى , فالمقصود قال أول الأمر { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا } الآن اغترار بالجنتين , ثم تطور الأمر إلى أن قال { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً } كأن نفيه عاتبته , رجع إلى طغيانه قال { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا (36) } قال العلماء كلمة ( رب ) هنا ما قالها اعتقادا , جاءت عرض الكلام , إن كان ولا بد كما يقول الناس إن فيه آخره , فالذي أعطاني هذا في الدنيا سيعطيني هذا في الآخرة ,
{ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } والمحاورة تجوز مع أ ي أحد إذا كان المقصود منها إظهار الحق .
{(8/61)
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) } أعطاه ثلاث أطوار للخلق , وإلا الخلق أطوار أكثر من ذلك , بدأ بالتراب وهو أصل أبينا آدم , ثم النطفة وهي أصل كل مخلوق { ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } وهذا لا يلزم تمامه كل أحد , لأنه ليس كل أحد يعمر إلى هذه السن , لكن هو يخاطب رجل بعينه , قال { ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّا } لكن : زائدة ألف , واصلها الاستدراكية , وأنا الذي هو الضمير , فحذفت همزة القطع من أنا وأدغمت نون الضمير في الحرف ( لكن) فأصبحت بهذه الصورة التي نراها في المصحف { لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ } يخاطب المحاور الكافر { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ } يعني أنت { جَنَّتَكَ } كان الأولى والأحرى بك أن تقول { مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ } وهي تستخدم لدفع العين , كلمة شرعية , لكن الكلام عنها سيأتي في بابها عند الحديث عن قول الله على لسان يعقوب { لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } .
وكان مالك رحمة الله يقولون أنه إذا أراد أن يجيب سائلاً قبل أن يجيب يقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله ثم يجيب , لكن الناس ما اعتادوا على هذا , وأذكر حاولت مرة أن أحاكي مالك فيها فسألني سائل فقلت ما شاء الله ولا قوة إلا بالله , فستغرب , قال خير يا شيخ , فأحجمنا عنها لأن الناس لا يدركونها تحتاج إلى نوع من الدربة , تعويد الناس عليها .(8/62)
المقصود { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا }.ما عند الله إنما يستجدى بإظهار الفقر والمسكنة والحاجة إلى الله , لا يعرف بإظهار البطر والاستغناء والتعالي على رب العالمين جل جلاله .
{ بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ } وكان عبداً صالح دعا على ذلك المشرك { فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء } تأمل كلمة { حُسْبَانًا } حسبان هذه نعت , صفة لمحذوف , ما المحذوف ( هلاك) والمعنى ( أن نرسل عليها هلاك حسبان من السماء ) الحسبان الشيء المقدر , لكن أُختلف في معنى الحسبان , هنا قيل الجراد وأظنه بعيد لأن الجراد قد يغلب , يأكل الأخضر , لكنه لا يقدر على إهلاك الجنتين كلاهما , هذه واحدة.
وقيل سهام أصابتها , وقيل صاعقة وهو الأظهر .
لكن لماذا قال الله حسبان؟
حسبان , قلنا الحسبان الشيء ماذا ؟
المقدر , لو أن هاتين الجنتين أهلكتا بزلزال عام أو بجائحة عامة , لما كان فيها انتصار للعبد الصالح , يقول بتعبير العامة اليوم (هذا موس على كل الرؤوس ) , يعني هذا زلزال عام , هذه صواعق عامة , هذه كل سنة تأتي في الشتاء , هذه كل سنة تأتي في الصيف .
شيء عام ما تستطيع تقول إنني أذنبت .
لكن الله قال (حسبان ) شيء مقدر على قدر الجنتين , حتى يعرف أنها مراده مقصودة بالهلاك .(8/63)
وقد قال لنا أحد العلماء غفر الله له ورحمه يقول : أنه أدرك بالمدينة مزرعة , تسمى مزارع عندنا بالمدينة , أصابها صاعقة , وهذه الصاعقة أفنت كل ما في المزرعة , وصاحبها ظالم لم يخرج من ( الكفر ) , إلا ظل بسيط , يقول : لما جاء للظل وجد تحته قطة لديها أبناءها . فلما انتفعت تلك القطة وأبناءها بذلك الحيز اليسير من المزرعة نجاه الله جل وعلا , لأن الله ما يظلم الناس مثقال ذرة , ولما كان غيرها يذهب ربما فجوراً و عصياناً , ناله ما ناله من غضب الله , وهذا يؤيده قول الله جل وعلا من قبل { إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } وأن كان يقع أحياناً ويوجد حديث يبعث الناس على نياتهم .(8/64)
المقصود قال الله جل وعلا { حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا } غورا هنا مصدر بمعنى غائر , ويؤيده قول الله جل وعلا { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا } والعرب كثر في كلامها كما قرر نحاتها أنهم يصفون أسم الفاعل بالمصدر { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا } قال الله { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } كلمة ثمر تبين أن هذه الصاعقة أخذت كل شيء { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } كناية عن الندم والحسرة { عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا } قال الله { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ } ومن ذا الذي ينصره يستطيع أصلاً أن ينصره من دون الله , ولهذا ترتب اللوازم عليها , قال الله { وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا } ثم قال الله { هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) } الولاية أي شيء بينك وبين غيرك له سبب , دين حلف جوار نسب هذه الولاية , الولاء شيء يكون بسبب , هذا السبب قد يختلف , فالولاية بيني و بينكم وبين سائر من يسمعنا من المسلمين الإسلام , وقد تزداد , ( الإسلام , النسب ) وقد تزداد بأشياء أخرى , لكن لما لم يكن له غير – هذه بين المخلوقين – أما بين الله وبين خلقه الإيمان والعمل الصالح , بها يستقطب المؤمن ويستجدي ولاية الله , فلما لم يكن له إيمان ولا عمل صالح , لم يكن بينه وبين الله ولاية , قال الله { هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا } ثم قال الله جل وعلا { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ(8/65)
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا (45) } المقصود من الآية جملة : أن يبين الله لك أن الله جل وعلا قادر على كل شيء أن يبدأه ويفنيه ويعيده ,
أن يبدأه ويفنيه منصوبة بأن ويعيده سبحانه وتعالى , فالله قادر على الإحياء والإفناء والإعادة , ضرب الله لهذا مثلاً قال { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } التي يتعلقون بها { كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء } شيء محسوس لا يستطيعون أن يكابروا في رده { فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا } بعد أن قام على سوقه {َذْرُوهُ الرِّيَاحُ } وهذا معنى قول الله { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا } فهذا المثال البين الظاهر الواضح المحسوس لكل , يبين لك ربك كمال قدرته وجلال عزته وعظيم قدرته على الخلق والإفناء والإعادة سبحانه وتعالى { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا }.
هذا ما يمكن أن يقال في هذا اللقاء المبارك في هذا الآيات المجزوءة من سورة الكهف التي بيننا في أولها قضية قول الله جل وعلا في المشيئة وأقوال العلماء في الاستثناء , ثم ذكرنا ما بينه ربنا تبارك وتعالى من الرجلين المتحاورين مؤمن صابر وكافر غني ذو كبر ..
و وما حصل بينهما من نزاع , وما انتهى الأمر إليه من ولاية الله جل وعلا لأوليائه المتقين ,استجابة الله جل وعلا لدعوة ذلك العبد على من حاوره وقارنه., ثم بينا مثل الحياة الدنيا الذي بينه الله جل وعلا , وهذه الآية الأخيرة سنبدأ بها إن شاء الله تعالى لارتباط ما بعدها بالحلقة أو اللقاء المقبل إن شاء الله تعالى .
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده والله المستعان وعليه البلاغ , صلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين .(8/66)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى ,وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره وأتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين
فما زلنا وإياكم نتفي ظلال سورة الكهف وكنا قد مضى القول في أخر اللقاء السابق عن قول الله جل وعلا { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا } وقلنا أن هذه تبين أن لله جل وعلا كمال القدرة وجليل الصنعة وأنه جل وعلا قادر على الإحياء قادر على الإفناء قادر على الإعادة , وهذه الآية التي بعدها قال الله فيها { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) } قال على رضي الله عنه { الْمَالُ وَالْبَنُونَ } حرث الدنيا { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ } حرث الآخرة , وقد جمعهما الله لأقوام .
أما التفسير الجزئي للآيات :
فإن الله جل وعلا ذكر في صدر الآية أن المال والبنين من أعظم العطايا التي تعطي بالدنيا - وأنا قلت ( البنين) لأني عطف على المال ولأنها منصوبة , لم أقولها حكاية عن القرآن حتى تتنبه يعني ليس خطأ في القراءة –قال الله { الْمَالُ وَالْبَنُونَ } البنون والمال كلاهما من زينة الدنيا باتفاق , لكن لماذا قدم المال ؟
قدم الله المال لأن المال يتعلق به كل أحد , يتعلق به نفس كل أحد بخلاف البنين لا يتعلق قلب كل أحد هذا واحد(8/67)
الأمر الثاني أن الإنسان إذا كان كثير المال ولا أبناء عنده , فلا يقال عنه أنه شقي , شقاوة دنيوية , لكن من كان عنده كثرة أبناء ولا مال له فيعتبر فيه نوع من الرقة الحال وكثرة العيال وشقاوة المرء في دنياه من حيث الجملة لا من حيث ..قضاء الله وقدره ,
لهذا قدم الله جل وعلا المال , وأن كان حب الأبناء في النفس مقدم على حب المال , لكن هذا الذي من أجله قدم ذكر المال
فذكر الله أثنين من زينة الدنيا , وذكر الزينة يدل على أن هناك شيء من الضروريات غير الزينة , لأن الله قال { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا } والمعنى أن ما على غير ماذا ؟
غير الأرض , فلما قال جل وعلا {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَة } دل على أن هناك أشياء ألصق بالإنسان غير ماذا ؟
غير المال والبنين , وهي جمعها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله [ من أصبح معافى في بدنه أمناً في سربه عنده قوت يومه , فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ]
هذا لا يعد زينة , قوت اليوم الواحد , ولا الأمن في الديار ولا المعافاة في الأبدان , هذه من أعظم النعم , لكنها تعين على طاعة الرب تبارك وتعالى , فأن رزق الإنسان مع هذه الثلاث مالاً وبنينا فقد أتم الله عليه نعمة الدنيا , فما بقي عليه إلا أن يجعلها طريقاً للآخرة .
لما ذكر الله متاع الدنيا الفاني , وكان قد ضرب مثالاً معذراً فيه قال { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا } ذكر هنا ما يفنى , لأن لا المال ولا البنون يغدوان مع صاحبهما إلى القبر(8/68)
فذكر الله ما يغدو معك إلى قبرك فقال جل ذكره { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً } والمعنى الأعمال الصالحة الباقية , الأصل أن يقدم الصلاح هنا لا تقدم الباقيات , لكن الله هنا ذكر الباقيات قبل الصالحات مع أن الصالحات هي المستخدمة في القرآن كله , لكن الله قدمها حتى تقابل قضية ما هو فاني ولا يجدي ولا نفع منه في الآخرة
{ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ } وقد قال بعض العلماء أن الباقيات على وجه التخصيص وقالوا ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ) وقد وردت بهذا المعنى أحاديث
لكن الأصح أن يحمل قول الله جل وعلا { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ } على كل عمل صالح أجتمع فيه الشرطان وهما :
أرادة وجه الله
وموافقة شريعة محمد صلى الله عليه وسلم
{ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً } , { َخَيْرٌ أَمَلاً } أمور الدنيا حرث الدنيا لا أمل من وراءه , لأن أمله ينقطع بجرد الموت , أما الأعمال الصالحة سماها الله باقيات لأن أمل نفعها بعد البعث أعظم وأجدى .
{ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً } ثم قال جل ذكر { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً } أي وأذكر يوماً نسير فيه الجبال وترى الأرض بارزة - ولن نطنب في الحديث عن الجبال لأن سيأتي لها شيئاً مخصوص , ومن منهجنا في التفسير أن ما ذكر في الآيات عرضاً لا نتوقف عنده وما ذكر أصلاً نقف عنده وسيأتي ذكر الجبال كأصل في سورة طه عند قول الله جل وعلا { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ } –
ولكن المقصود هنا ذكر أهوال اليوم الآخر { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ } دل عليه قول الله { وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ }
{(8/69)
وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً } الأرض الآن موجودة سواء هي أرض المحشر أو غير أرض المحشر , لكن لماذا قال الله بارزة ؟
بارزة بمعنى ظاهرة , وأنت تقرأ في التاريخ وتعي بعقلك أن عندما يحتدم الجيشان يلتقي الجيشان لا يميز فارس عن فارس , ما معنى المبارزة ؟
أن يخرج واحد من هذا الجند مثلاً في الشق الأيمن يخرج واحد من الجند , فيصبح ظاهراً بيناً , خرج عن جملة الجيش الأول , ويخرج آخر من الجيش الثاني فيصبح بارز ظاهر عن الجيش الثاني , لقاءهما يسمى مبارزة , وكان هذه طريقة في الحروب كما هي مقدمة معركة بدر
معنى { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً } الآن الأرض مغطاة بما عليها من بنيان , بما عليها من جبال , بما عليها زرع , قلما ترى الأرض على حقيقتها إلا في الصحراء غير المثمرة , غير التي عليها نبت , وإلا الأرض أذهبت معالمها ما عليها مما أفائه الله على بني آدم
لكن يوم القيامة يقول ربنا { وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً } لا يوجد على الأرض أ ي معلم ولهذا جاء في الحديث [ وليس فيها معلم لأحد ] لا يوجد على ما نتواعد نتفق على أن نلتقي عنده , وهذا معنى قول الله { وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً }
ثم قال ربنا { وَحَشَرْنَاهُمْ } جمعناهم { فَلَمْ نُغَادِرْ } أي لم نترك , ويقال لفلان غادر لأنه ترك الأمانة { فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } قطعاً كل مخلوق سيحشر في عرصات يوم القيامة { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } فكما خلقناكم أول مرة هذا بداية الخلق الأول , وهذا يسمى الخلق الثاني أو الخلق الآخر باعتبار أن لا خلق بعده , وهو الذي حار فيه أهل الإشراك قال الله جل وعلا { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ } لم يعترضوا على الخلق الأول اعترفوا أن الله خالقهم , لكن أين المشكلة ؟(8/70)
قال الله { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } هم الشك عندهم في قضية البعث
فقال ربنا { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ } الخطاب لأهل الإشراك { أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا } أسم زمان , أي ليس لكم موعد لا زماني ولا مكاني , وهذا مخاطب به أهل الكفر في المقام الأول أنهم كانوا يعترضون على البعث والنشور قال الله جل وعلا { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } , { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا }
ثم مازالت الآيات تذكر أهوال اليوم الآخر قال الله { وَوُضِعَ الْكِتَابُ } وهو أسم جنس , ولكل احد كتاب كما دلت عليه كثير من النصوص { فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ } أعاذنا الله وإياكم منهم { مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } أصابهم الوجل والخوف , أنقلب ما كانوا يظنونه وهناً إلى حقيقة وأصبح أمراً مرئياً لا يمكن إنكاره
قال الله جل وعلا { مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا } مؤنث ويل , والمعنى الدعوة على أنفسهم بالهلاك والثبور أي شعروا بالهلاك والثبور
{ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } قول الله جل وعلا { صَغِيرَةً } إخبار بدقة ما تضمنه الكتاب وقوله جل وعلا { وَلا كَبِيرَةً } أخبار بالعموم { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا }
قال الله { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } وكل ما صنعه الناس واقترفته اليدان وأبصرته العينان أي خطيئة في ليل أو نهار سيراه المرء بين عينيه أعاذنا الله وإياكم من ذل الفضيحة يوم العرض عليه(8/71)
قال الله { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } بل أنه سبحانه يغفر ويرحم ويقيل العثرة ويقبل التوبة ويعفو عن السيئات { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } منزه تعالى جل وعلا أن يظلم أحد فأنت عندما تناجي ربك أثني على ربك , لأنه تنزه عن الصاحبة والولد , وتقدس فلم يلد ولم يولد وتعالى أن يظلم أحد , فكلما نعت الله بما أثنى به على نفسه كنت أقرب إلى رحمة ربك , فكلما نعت الله في دعائك بما أثنى به على نفسه كنت أقرب إلى ربك { مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا } وقال { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } وقال { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا }
{ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) } هذه القصة تكرر ذكرها في القرآن لكن العلماء يقولون إن ذكرها في كل مرة له غاية وعبرة , فذكرها في سورة البقرة إعلان بماذا ؟
بمبادئ الأمور , وذكرها ها هنا تنظير للحال وتوطئة للإنكار , فالعبر من القصة تختلف من طريقة إلى طريقة , من سورة إلى سورة , والقصة واحدة لا تتغير
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ } إبليس رأس الجن قال الله { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ } وقوله جل وعلا { كَانَ مِنَ الْجِنِّ } أحد الأدلة التي أحتج بها العلماء على أن إبليس لم يكن من الملائكة طرفة عين كما توهم بعض الآيات
من هذه الأدلة أمور :(8/72)
أولها أن الله نعت الملائكة بأنهم { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } وإبليس عصى ربه .
ومن الأدلة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الملائكة خلقت من نور , وأن إبليس أخبر الله جل وعلا أنه مخلوق من نار السموم { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } .
ومن الأدلة آية الكهف وهي تصريح { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي } .
فأن قلت في نفسك كيف يأتي أحد يقول أن إبليس ربما يكون من الملائكة والله يقول { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ } !!
فنقول إن من يقول بهذا الرأي يقول : أن قول الله جل وعلا { كَانَ مِنَ الْجِنِّ } بمعنى اللغوي , والمعنى كان مستتراً عن العين بمعنى أنه من الملائكة , لأن الملائكة جاء بالقرآن نعتهم بأنهم جِنة قال الله جل وعلا { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } هذه الآية تتكلم عن من ؟
تتكلم عن الملائكة , لأن القرشيين لم يزعموا أن الجنة بنات الله , وإنما زعموا الملائكة بنات الله , وهم الذين جعلوا النسب تعالى الله عما يقول الظالمون ما بين رب العزة وما بين الملائكة وقال الله { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ } أي الملائكة { إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي القائلون بهذا القول – واضح – هذا تخريجهم حتى لا تسئ الظن بالعلماء , وأنت لا تستطيع أن تدفع حجة أحد , أو تقبلها أو تردها حتى تفهمهما , فقد تجد له عذر لكن إيجاد العذر له لا يمنع أن نقول له أنك أخطأت لوجود أدلة غير الذي ذهبت إليه .(8/73)
قال الله { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } فسق بمعنى خرج , والمقصود بها العصيان { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي } والمخاطب كفار قريش , كيف اتخذوا إبليس وذريته أولياء ؟
بأنهم عبدوهم وأطاعوهم فيما أمروهم به من الإشراك , ولهذا قال الله { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } معنى الآية , {بِئْسَ } الشيطان هي المخصوصة بالذم وذريته بدلاً للمشركين
فالمشركون عبر عنها بماذا ؟
فالمشركون عبر عنها بالظالمين , والمخصوص بالذم محذوف , دل عليه المعنى , والمعنى العام للآية ( بئس الشيطان وذريته بدلاً ) لمن ؟
للمشركين الذين نعتهم الله بأنهم ظالمون , لأنه لا ظلم أعظم من الشرك بالله )
{ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } قال الله { مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ } أي لا يوجد لهم دليل قيم ولا برهان يتكئون عليه في دعوائهم , فإن الله خلق السماوات والأرض قبل أن يخلق الخلق , ثم أن الله جل وعلا ما أشهد أحداً خلق نفسه حتى يشهده على خلق غيره
{ مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ } وهذه الآيات إبقائها على هذه عظيم الهيبة والغيبة التي فيها أعظم أثراً في القلوب { مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)}
ثم قال الله جل وعلا { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ } في هذه المرة استجاب أهل الإشراك , وهم يردون قول الله في الدنيا , أين الدليل أنهم استجابوا ؟{ فَدَعَوْهُمْ } ,
{ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } من الذين لم يستجيبوا ؟
المدعوين , لماذا لم يستجيبوا ؟
لأنهم أصلاً لا يملكون القدرة ......قال الله { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا }
{(8/74)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا (52) } الموبق الهلاك , قال الله { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } أي يهلكهن بما كسبوا , لكن ما المقصود به هنا ؟
هل هو وادي ما بين المحشر والنار ؟
هل هو وادي في النار ؟
الله أعلم بكيفيته وحيثيته وكنهه . لكن المقصود أنه الهلاك هو الذي سيكون محل أهل الإشراك يوم القيامة
قال الله { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } كما أخبر الله من قبل { لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا * وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ } وهذه رؤيا بصرية , فأنقلب الأمر الذي كان وعداً إلى حقيقة { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا } وظن هنا ليست على بابها !
وإنما بمعنى الاعتقاد , لأنه لا يعقل أن يروا النار وهم يدفعون إليها ويشكون , هل يدخلونها أو لا يدخلونها
{ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) } وهذه ظاهره أي محيد ولا ملجأ من النار
قال الله بعدها { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) } وهذا عود على بدء
أن الله كرر وبين في هذا الكتاب العظيم ما ينفع الإنسان في أمر دينه ودنياه , فلا يوجد مجلس أعظم من مجلس يتدارس فيه كلام الله , جعل الله مجلسنا هذا ومجلسكم من هذه المجالس ,
قال الله { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } ومع ذلك قال الله { وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } أكثر أسم تفضيل , لكنها هنا مسلوبة التفضيل , والمعنى ( وكان الإنسان كثير الجدل ) ليست المقارنة بين الإنسان وغيره , وإنما المقصود أن الإنسان كثير الجدل
والجدل ينقسم إلى قسمين :
جدل محمود
وجدل مذموم(8/75)
فمن أدلة الجدل المحمود ما نعت الله به خليله إبراهيم قال الله جل وعلا { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ }
والجدل المذموم هو الذي يراد به دحض الحق بماذا ؟
بالباطل , وسيأتي ذكره بعد قليل
قال الله جل وعلا { وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } وقد ثبت في الصحيح وغيره , أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على علي وفاطمة , وكانت بيوتهما بجوار بيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهة الشمالية الشرقية من حجرة عائشة , فدخل عليهما ودعاهما أن يقوما الليل , [ فقالا : يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله , لو شاء أن يبعثنا لبعثنا ] , فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من حجة علي , لأنها غير صحيحة , لكنها فيها نوع من الاستلطاف , ثم قال علي :[ فخرج ولم يجب بشيء إلا أنه كان يضرب فخذه ويقول ويردد { وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }]
ولا يدراً بخلدك أن هذا ينقص من مقام علي رضي الله عنه ومن مقام فاطمة , فأولئك قوم شهد الله ورسوله لهم بالجنة , لكن أي شيء إذا قسته بعظيم ( يغلب ) فأن قست علي وفاطمة بمقام نبي الأمة صلى الله عليه وسلم لن ترى لهم ذالك المقام الرفيع , هذا الذي يجعل الصورة أحياناً غير متضحة في سبيلك , والإنسان مجبول على النقص علي أو غيره(8/76)
قال الله تعالى { وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } ثم قال { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً (55) } الناس هنا عموم يراد به الخصوص ( عام أريد به خاص ) والمقصود كفار قريش { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى } من الله { وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } ما سنة الأولين ؟
أن الله جل وعلا أهلكهم بهلاك الاستأصال كما أهلك عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم { أوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً } لها معنيان :
قُبُلاً بمعنى مواجه أي مقابل .
وقُبُل تكون جمع لقبيل والمقصود متنوع , جاء المعنى ألوان من العذاب { أوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ } ذا ألواناً وأنواعاً متعددة { أوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً }
ثم بين الله { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } والمعنى أننا لم نبعث الرسل ليطلب منهم قومهم العذاب , فهذا خلاف ما كلف الله به الرسل , ولا شأن للرسل به إنما لماذا بعثهم ؟
إما ليبشروا ولينذروا في آناً واحد , وما بعثهم ليطلب منهم عذاب أو غير عذاب , لكن الناس إذا جاءهم الرسول خرجوا عن الطريق الذي يخاطبون به لا يقبلون بشارة ولا يخافون نذارة , وإنما أخذوا يطلبون من الرسل العذاب , وهذا خلاف ما قصد من أجله إرسال الرسل { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا } بماذا ؟
{(8/77)
بِالْبَاطِلِ } وهذا نوع من الجدال المذموم { وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا } صرفت لهم الآيات , بعثت لهم النذر لتكون طرائق ومعالم تهديهم إلى الحق فقلبوا (,,,ظهراً بجد ! ), لم يفقهوا التعامل معها وجعلوها هزواً , فسخروا من القرآن وقالوا { إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } وسخروا ممن نزل عليه القرآن فقالوا { وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } وكلا الحالتين جعلوا من القرآن ومن الرسول مادة هزئ لهم , وهذا لا يضر إلا إياهم هم
{ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا } ثم قال الله { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } هذا استفهام إنكاري – أي لا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه , ومع ذلك { فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } وما تصنعه من خير , وما تصنعه من شر هو يسمى كسب يد , لكن جرى - أسلوب القرآن أن الله إذا قال { بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } يراد به العمل السيء ودليله قول الله في ( ق ) { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }
قال الله { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } الأكنة – الغطاء – { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } ثقل في السمع _ صمم – { وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى } قال الله { الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا } هذه إذاً هي الرابط { فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا } أي إذا كان الله قد طبع على قلوبهم أكنة وفي سمعهم وقر , فلن ماذا ؟(8/78)
فلن يهتدوا , إذاً كل أمر راجع إلى مشيئة الله قال الله عن أهل تقواه { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّه}
{ وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا } قال الله { وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ } هذا توطئة , توطئة لماذا ؟
للو وما بعدها , ما الذي بعد لو ؟
{ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ } فهم حري بهم أن يعجل لهم العذاب , لكن من أسباب عدم تعجيل العذاب لهم , أن الله رب غفور ذو رحمة { لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ } ثم جاءت بل وهي للإضراب الانتقالي , انتقال في الخطاب { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ } زماناً ومكاناً , الزمان متى ؟
يوم القيامة , والمكان أرض المحشر
لكن المقصود هنا الزماني أقرب { لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } وئل بمعنى : لجأ , فموئل بمعنى : ملجأ { لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } أي لن يجدوا ملجأ يفرون به عن ذلك الموعد , سواء قلنا أنه مكاني أو زماني وبينهما تلازم , لأن الزمان لا بد من مكان يكون فيه , والمكان لا بد له من زمن يقع الحدث فيه
{ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرَى } عائدة للأمم السابقة عاد وثمود وغيرها { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا } أي حين ظلمهم { لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا } أي جعلنا لمهلكهم موعداً معيناً مخصوصاً محدداً لما جاء ما كان لهم أن ينجوا منه قال الله جل وعلا { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ }
هذا شرحناه أجمالاً بطريقة سريعة , لأنها ظاهرة(8/79)
ثم قال الله جل وعلا { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ } وهذا خبر موسى عليه الصلاة والسلام مع الخضر , مع فتاه , فهو أمر يطول أرجو الله أن يتسع الوقت لشرحه , سأتكلم بإطار عام , أختلف في من هو موسى هذا ؟
هل هو موسى الكليم النبي المعروف أو رجل آخر من بني إسرائيل ؟
هذه أول قضية , وأنا اشرح ما هو مبهم , أختلف من هو موسى !
الجمهور على أنه موسى بن عمران النبي المكلم المعروف , وهو الذي أراه وأميل إليه
وقال آخرون أنه من بني إسرائيل لكنه ليس النبي المعروف
وحجة هؤلاء الذين قالوا أنه ليس موسى
قالوا أنه لا يعرف أن موسى خرج من أرض التيه هذا واحد تاريخياً
تاريخياً ولا يعقل أن موسى وهو النبي المكلم والرسول المبجل الذي كاد أن يصل إلى منزلة أن يرى الله يطلب العلم من غير نبي , هذه حجة من قال
وحجة الجهور ظاهرة وهي أن الله قال { وَإِذْ قَالَ مُوسَى } ولا يعرف موسى في القرآن إلا موسى واحد , هو موسى من ؟
ابن عمران , ولو كان موسى غير موسى بن عمران لبينه الله جل وعلا
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ } فتى موسى هو يوشع بن نون بالاتفاق
هو يوشع بن نون أحد أنبياء بني إسرائيل الذي ساس بني إسرائيل بعد موسى
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ }
أصل الأمر , أصل الحكاية التي دفعت موسى إلى أن يحلف { لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ } أمشي سنين عديدة , لا بد فيه دافع(8/80)
الدافع هذا بينته السنة وهو حديث ابن عباس عن أبي بن كعب : أن موسى عليه الصلاة والسلام وقف خطيباً في بني إسرائيل فوعظ موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب وتبعه رجل من بني إسرائيل قال : يا نبي الله أأحد في الأرض أعلم منك , فنسي موسى أن يرد العلم إلى ربه , قال : لا , فعتبه ربه أن في الأرض من هو أعلم منك , قال يا ربي وكيف لي به , قال الله له خذ حوتاً في مكتل , فحيثما فقدت الحوت فهو ثمة , يعني موجود , فأخذ حوتاً في مكتل ومعه غلامه يوشع بن نون , وصلوا إلى مجمع البحرين , استراح موسى , وبقي يوشع يحرس نبي الله , خرج الحوت - ردت له الروح – فخرج وأتى البحر فضرب الله كالطاق محدد على الحوت , يوشع يتعجب وينتظر متى يستيقظ موسى ليخبره , أستيقظ موسى نسي يوشع أن يخبره , استمرا في سيرهما , جاع موسى وأصابه التعب , طلب من فتاه الغداء , ولم يكن الحوت هو الغداء , الحوت علامة الآن , فلما طلب الغداء تذكر قضية الحوت { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ } رجعا ,
قال الله { فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا } وسنخبرك بما تفيده الآيات , فلما رجعا وجدا الخضر مغطى , فوقف موسى على رأسه
قال له السلام عليكم , فكشف عن غطاءه وقال : وإنا بأرضك السلام
قال له أنا موسى , قال موسى بني إسرائيل
قال نعم
فتعجب الخضر كيف قدم عليه موسى
قال : جئت أطلب على يديك , أأخذ عنك علمك
قال : أنت على علم علمك الله إياه لا أعلمه أنا
وأنا على علم علمني الله إياه لا تعلمه أنت
فأخبره موسى بإلحاح أنه سيطلبه , فتوجه معه كما سيأتي
{(8/81)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ } قلنا يوشع بن نون { لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا } أختلف الناس يا بُني أين مجمع البحرين على أقوال أربعة , وقلما أن يحصيها أحد إلى أربعة , وهذا فائدة أن يأتي الإنسان متأخراً , لأنه يستطيع أن ينظر في أقوال السابقين
فذهب قوم إلى أنه ملتقى بحر فارس والروم والمعنى أنه مضيق باب المندب الآن
وقال محمد بن كعب القرضي أحد أئمة التفسير قال أنه في طنجة , اليوم عند مضيق جبل طارق ( المحيط الأطلسي مع البحر الأبيض المتوسط )
هذا كم قول ؟
قولان .
وذهب البقاعي رحمه الله وأختاره الأمين الهروي , ما هو الأمين شيخنا الشنقيطي , الأمين الهروي معاصر حي متع الله به ونفعنا والمسلمين بعلمه ذهب مال إلى هذا الرأي . وهو أنه في مدينة دمياط في أرض مصر , في التقاء المالح بالعذب في دلتا مصر في دمياط , وحجة هؤلاء من حيث النظر قوية , وهم قالوا أن الحديث دل على أن عصفوراً يأتي ينقر في البحر , فقالوا العصفور لا يشرب من الماء المالح , فلا بد أن يكون مجمع البحرين هذا فيه ماء عذب , وهذا يكون في دلتا مصر , هذا الرأي ماذا ؟
الثالث .
لكن يرد عليه , يعني المانع من قبوله أنه لم يعرف أن موسى بن عمران بعد خروجه من مصر أنه رجع !!رجع إليها , لكنه كان مع قومه في أرض التيه فلا يعرف أنه دخل إلى مصر ووصل إلى مدينة دمياط
وكذلك القول إلى أنه ذهب إلى مدينة طنجة بعيد , لأن القضية , قضية أنه ترك قومه وأتى إليه , وهذا لم يذكر في القرآن هذه المدة الطوية الحقبة ماذا فعلوا فيها , هم في ثلاثين يوم عندما ذهب لمقات ربه عبدوا العجل , فلو كان ذهب إلى طنجة سيطول ذلك الأصل ...يحتاج إلى أماد بعيدة . وكذلك ما يقال عن طنجة يقال عن باب المندب
إذاً بقينا في ماذا ؟
في القول الرابع ,,,, القول الرابع قاله الشعراوي رحمه الله : وهو أنه اجتماع خليج السويس مع خليج العقبة(8/82)
وهذا أذهب إليه إلى ساعتي هذه , أميل إليه إلى ساعتي هذه
طبعاً لا بد من قرينة
العلم تحتفظ للعالم بشخصيته من القديم أو من الجديد , لكن يبقى لا بد من قرينة تبين
القرينة أن الله قال { فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا } هذا ارتدا على أثارهما قصصا يلزم منها أمران :
أللازم الأول أنه في شيء يبان عليه أثار المشي , وإلا ما يصير فيه أثار – واضح- فتكون صحراء , هذه واحدة
الأمر الثاني قول الله جل وعلا { فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا } فيه نوع إشعار , أن هذه المنطقة لا يوجد فيها معالم ممكن أن يستدل بها موسى ومن ؟
يوشع , لو كانت فيها معالم محتاجا إلى أن يقال { فَارْتَدَّا} على ماذا ؟
{عَلَى آثَارِهِمَا } يعني يرجعون حسب المعاني التي مروا بها , فيعرفون , يأخذون يمين هذا الجبل يمين هذا البحر يسار هذا النهر كما في تعلم , فدل على أنهم كانوا في صحراء
والصحراء هذه لا ينطبق عليها إذا قلنا خليج السويس
وخليج العقبة إذاً صحراء ماذا ؟
صحراء سيناء , فإذا قلنا أنه في صحراء سيناء فيتفق مع سياق القصص القرآني عن موسى بأنه خرج من أرض مصر يريد أرض فلسطين يقول { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } وهي أريحا
فهذا يتفق مع القصص القرآن مع أنه لم تطول المدة عن قومه . كله يتفق إلى حد ما نقول أن هذا القول الرابع الذي ذكره الشعراوي رحمه الله أقربها إلى الصواب – ولا أدري هل قاله أحد قبل الشعراوي أو لم يقله , وأنا العبرة عندي بقرب القول من الصواب والعلم عند الله
قال الله { حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا } الاثنان موسى وفتاه { مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا } كما بينا
{(8/83)
فَلَمَّا جَاوَزَا } أي المكان { فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا } وهؤلاء أنبياء الله بشر , يتعبون وينصبون كما ينصب ويتعب الخلق { لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ } أي يوشع { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا } فهو ( سرب) بالنسبة للحوت ( عجب) بالنسبة لموسى ومن ؟
وفتاه
قال الله تعالى { فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا } وهذه اوضحناها { فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا } وهذه إضافة تشريف { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا } ذهب بعض العلماء إلى أن الخضر كان نبياً , ومن حججهم ما يلي :
من حججهم أن الله قال { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً } والرحمة إذا أطلقت يراد بها النبوة قال الله جل وعلا { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } هذا الأول .
والثاني أن الله جل وعلا قال { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا } ومعلوم أن علم كل أحد مِنْ مَن ؟
من الله , لكن المقصود أنه أعطيه إياه بغير واسطة , إلا أن يكون ملك , وهذا قالوا لا يقع إلا لمن ؟للأنبياء , هذا الثاني .
الثالث أنه قال عن نفسه { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } والمعنى أنه بوحي مِن مَن ؟
من الله .
والرابع أنه قالوا يستحيل أن يأخذ نبي الله أي موسى علمه عن غير نبي .
يستحيل – هذا عقلي طبعاً الرأي – أن يأخذ علمه عن غير نبي , فدل على أن الخضر كان نبياً – وقد مر معنا
واختلفت في خضر أهل العقول
قيل نبي أو ولي أو رسول
هذا مسألة خلافية والعلم عند الله
لكن نرجح أنه يكون نبياً(8/84)
قال الله { فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا } إذاً رحل موسى يطلب علما , والنبي يقول : [ وأن الملائكة لا تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ] فخروجك من بيتك لن يكون خروجاً أعظم توفيقاً من أن تخرج لتطلب العلم الشرعي
{ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } ثم أستدرك { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا } من أعظم ما يعينك على الصبر أن تعرف أنت على ماذا تصبر
كمن يوضع في سجن , الذي يوضع في السجن إذا أرادوا أن يرحموه يخبروه كم يوم يريدوا أن يسجنوه , حتى يتكيف نفسياً وعقلياً , لكن إذا وضع إنسان في سجن ولم يخبر كم سيمكث في السجن , كم حكم عليه , هذا أدعى للهلاك وعدم الصبر , لأنك ما تدري أنت تجلس سنة وإلا ألف سنة , يوم وإلا عشرين يوم – واضح – فمعرفة الشيء تعين على الصبر عليه , ولهذا قال الخضر { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا }
ولهذا قال العلماء إن أعظم ما أعان الله به يعقوب على الصبر على فقد يوسف , أنه كان يعلم أن أخر الأمر سيلتقي بابنه , لأن أبنه لما رأي الرؤيا قال { رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } ففهم يعقوب أن أبنه هذا سيصير أو سيؤل إلى رجل ذا شأن وبال وعظيم ملك , وهذا يترتب عليه لزاماً أن يلتقي غالباً بأبيه فهذا من أسباب صبر يعقوب على فقد يوسف
والمقصود أن الخضر قال لنبي الله موسى { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } وكما قالها موسى قالها من قبل من ؟(8/85)
إسماعيل لما أخبره أبوه انه سيذبحه { سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } بعض من ليس له دربه في العلم يقول : ( أنظر إلى وعد إسماعيل الذي وفى به , ووعد موسى الذي لم يفي به ) وهذا عدم فهم في الأسلوب
المقام يختلف إسماعيل كان يصبر على شيء يعرفه , وهو أن وراء استسلامه جنات النعيم , وان المقصود منه أن يكون قرباناً لله فقبل , فهو يعرف مبدأ الأمر ومنتهاه هذا بالنسبة لإسماعيل فلذلك وفى
أما كليم الله موسى ما كان يتعامل مع الله في هذا المقام , كان يتعامل مع مخلوق ولا يدري على أي شيء يصبر , فلذلك ما أستطاع أن يوفي بالأمر الذي قطعه على نفسه , لم يكن موسى يعلم على أي شيء يصبر , وهذا شهد له الخضر { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا } لكنه الذي دفعه إلى أن يصبر مرة بعد مرة محاولة الوصول , فلما عجز لأنه لم يكن يعرف نهاية هذا الأمر ولا قراره ولا خبره جعله يؤل به الأمر إلى أن يكون هناك فراق بينه وبين الخضر
{ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } أي أحاول أن أروض نفسي على أن لا أعصيك , وموسى أصلاً عليه السلام كما سيأتي مقامه مقام قائد , والقادة صعب أن ينقلبوا بين عشية وضحاها أن يكونوا تابعين , جرت العادة أنه متبوع , هو النبي الذي يسوس الأمة يأمر فيأتمر الناس بأمره , ما بين عشية وضحاها أصبح يتلقى أوامر , ويؤمر بالصبر , ويطلب منه الطاعة من مخلوق مثله , ويرى أمور لا تتفق مع علمه , ويطلب منه أن لا يعارض , فلم يقدر على هذا , حاول مرة ثانية ثالثة ثم ألزم نفسه قال { قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا }
{(8/86)
قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا } وأنا أحاول أن لا أدخل على قضية افتراقهما في البحر لأن هذا يحتاج إلى درس مستقل .
لكن نقول قال الله جل وعلا عنه { قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } قال الخضر { قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي } هذا شرط { فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } وهذا المسلمون على شروطهم , سترى ختام القصة أن الخضر ألزم موسى بهذا الشرط { قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) }
قال الله جل وعلا بعده { فَانطَلَقَا } انطلقا وقفا على الشاطئ جاءت سفينة , عرفوا الخضر ولم يعرفوا موسى , فأركبوهما من غير عطاء – من غير أجرة – ثم بينما هما في السفينة إذ جاء عصفور فوقف على حافة القارب , نقر نقرتين في الماء ثم رحل طار , فقال الخضر لموسى - وهذا في حياتنا اليومية كما حصل قبل هذا اللقاء , تعليم الناس من المواقف , فقال : يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور بنقرتيه من البحر , ومعلوم أن العصفور لم ينقص شيء من البحر بنقرتيه
والمقصود أن علم الخضر وعلم موسى بالنسبة لعلم الله – ما أحاطهما الله بعلمه – كنسبة هاتين النقرتين من أرض البحر , فليكن من الكلمات التي تأدب على أن ترددها أن تقول دائماً ( أعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيئاً علما )
::(8/87)
قابلت بعض شيوخ المدينة الصالحين – الشيوخ هنا بمعنى كبار السن – قبل فترة في مزرعته , فكان يسألني أسئلة أظنه يعرف جوابها , المهم كان ما بين الفينة والفينة يردد هذا الذكر , كلما أخبرته بخبر أطرق رأسه وقال ( أعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيئاً علما ) فخرجت من عنده والله وأنا متأثر بذكره أكثر مما هو متأثر بعلمي , والعبرة بما قربك من الله جل وعلا وأدناك من رحمته
والإنسان أحياناً إذا رأي أقواماً – لا نزكيهم على الله لكن غالبهم الصلاح – تجري على ألسنتهم أذكار , يقولونها بسجية بطريقة أولي..؟ لها نصوص تؤديها من الكتاب والسنة , فتعرف بعد ذلك إذا تأملت قولهم لماذا هم محفوظون بحفظ الله , لماذا هم موفقون , لماذا ترى النور في وجوههم , قد لا يكونون يملكون من العلم ما تملك – كأفراد العلم وآحاده – لكن كما قال الحسن ( إنما العلم الخشية ) وقال الله جل وعلا وهو أصدق { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } ركب أحد كبار السن مع أحد أخواننا إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم , يقول منذ أن ركب إلى أن أوصلته الحرم ى - وأنا لا أعرفه وجدته في عرض الطريق يبتغي صلاة الفجر - وهو يقول ( يا دائم المعروف يا قديم الإحسان ) قال فأوصلته إلى الحرم , والله ما كلمني كلمة , كان محني ظهره وهو يقول (يا دائم المعروف يا قديم الإحسان )
فالإكثار من ذكر الله بالأذكار التي وردت , أو تأول القرآن أي النظر في القرآن كما تقول عائشة , كما فعل هذا الرجل المبارك , والأخذ منها من أعظم ما يجعل الإنسان ذا قلب رقيق ولساناً رطب بذكر الله , وهذه الغاية الأولى من تدارس القرآن وحلق العلم , المقصود : أن تربى القلوب وأن تذعن وأن تكون وجلة إذا ذكر الله تبارك وتعالى – جعل الله قلبي وقلبكم مما يجل إذا ذكر أسم الله جل وعلا –(8/88)
أما ما يتعلق بالقصة , تفصيلاً وهو إن شاء الله تعالى موضوع لقاء اللقاء القادم , وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى وألبسنا الله وإياكم لباسي العافية والتقوى , وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأشهد أ ن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق فيسر وشرع فقدر ووعد وبشر وأوعد فأنذر وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله بعثه ربه من أعز قبيل بواضح الدليل وسواء السبيل في أكرم جيل وأمثل رعيل أثنى عليه وعلى أصحابه من قبل في التوراة والإنجيل وصلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه كما وحد الله وعرف به ودعا إليه اللهم وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره وأتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
فهذا لقاء متجدد حول تأملاتنا في كلام ربنا جل وعلا وقد انتهى بنا المطاف في اللقاء السابق إلى خبر موسى عليه الصلاة والسلام مع العبد الصالح الخضر , والتقائهما عند مجمع البحرين , ومضى القول أن موسى عليه الصلاة والسلام مع فتاه نسيا حوتهما فكان ذلك سبباً في رجوهما ليلتقيا بالعبد الصالح ثم تبدأ تلك القصة التي أخبر الله عنها , وجاءت كذلك مفصلات في صريح السنة في حديث ابن عباس عند البخاري وغيره .
قال الله جل وعلا وهي أولى الآيات التي نشرع في التأمل فيها قال الله تبارك وتعالى : { حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا } موسى عليه الصلاة والسلام أتفق مع الخضر على أن ينطلقا سويا , وأشترط الخضر على موسى أن يلتزم الصمت , وأن لا يبدأه بسؤال حتى يخبره الخضر بما عنده , ووافق موسى عليه الصلاة والسلام على هذا الشرط , وأخذ الخضر منه العهد والميثاق .(8/89)
وسيأتي بعد ذلك بيان أن المؤمنين على شروطهم , وأن ذلك لا يغير من كون كل منهما على جادة الصواب وسواء السبيل .
قال الله جل وعلا { حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ} ففهم أنهما ركبا في السفينة , وأظنه قد مر معنا أنهما وقفا على شاطئ البحر ينتظران مركبا , فمرت سفينة فعرفت الخضر , فأركبوهما من غير نول أي من غير أجرة إجلالاً وإكراماً للخضر , وهذا فيه دلالة على أن عباد الله الصالحين يسخر جل وعلا لهم من يحبهم ويعطيهم ويمنحهم فضلاً من الله تبارك وتعالى عليهم .(8/90)
قال الله : { حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ} ركبا السفينة وكان موسى فرحاً أن أولئك القوم المساكين أركبوهما من غير نول ولا أجرة , ففجأة وإذا بالخضر يعمد إلى قدوم فيخرق السفينة ثم يضع مكان ذلك الخرق قطعة من خشب تسده , فشتاط موسى غضبا لأنه شخص قيادي بفطرته , وتعود أن يسوس بني إسرائيل ولم يتعود أن يكون تابعا , ,وإنما تعود أن يكون متبوعا , فقال منكراً على الخضر ناسياً الشرط الذي بينهما { قَالَ أَخَرَقْتَهَا} أي السفينة {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } واللام للتعليل ولهذا جاء الفعل المضارع بعدها منصوباً بالفتح لأنه صحيح الأخر { ِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ} أي بفعلك هذا والتاء للمخاطب , تاء الفاعل للمخاطب { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} أي شيئاً مستعظماً لا يقبل , ما زاد الخضر على أن ذكره بالشرط الذي بينهما { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} وهذا ليس فيه عتاب ولا لوم ولكنه تذكير بالشرط , فتذكر موسى الشرط فأوى إلى رشده , ولم يغب عنه الرشد يوما عليه الصلاة والسلام { قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ } أي إنما وقعت هذه مني نسياناً والله جل وعلا أعذر عباده بالنسيان { قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} أي لحاجة لأن تزيد في اللوم وتكلفني ما لا أطيق لمجرد أنني نسيت , والإنسان ينبغي عليه أن يقبل عذر المعتذر إذا كان ذلك لأول وهلة .(8/91)
قال الله جل وعلا{ فَانطَلَقَا} أي مازالا سويا , وليس هناك ذكر ليوشع بن نون في الآيات كما سيأتي , والله أعلم هل كلن يوشع معهم وهذا هو الأظهر , أو لم يكن معهم وهو بعيد , لكن سواء كان معهم أو لم يكن معهم فأن يوشع بن نون فتى موسى غير مقصود بالحكاية كلها , لأن موسى هو المقصود بالأمر وإنما يوشع كان تبع لموسى يخدمه ويقوم بشؤونه قال الله جل وعلا {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا } ولا يتصور أنهم لقوا غلام في البحر ولكن المقصود أنهم تجاوزوا البحر ودخلوا المدينة على شاطئ البحر , خرجوا منها وهذا مر معنا كثير مثله وسميناه إيجاز حذف وقلنا أن القرآن فيه مساواة وفيه إطناب وفيه إيجاز , وكل ما يقتضيه السياق يأتي القرآن على أحد هذه الأنماط الثلاثة ( الإيجاز أو الإطناب أو المساواة )
قال الله جل وعلا {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ } أي قتل الخضر ذلك الغلام فتعجب موسى , وهذه أكبر من أختها أعظم من الأولى { قَالَ } مستنكراً { أَقَتَلْتَ } والهمزة للاستفهام { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ } لو كونك قتلتها بنفس أخرى لكان القتل حق , لكن نفساً زكية قتلتها من غير جرم ولا ذنب يظهر لي {نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا } و { نُّكْرًا } أخت إمر لاستعظام الشيء , وفي القرآن كما مر معنا ( منكر و نُكر )
نُكر الشيء المستعظم على النفوس الذي تتهول منه الأعين إذا رأته وإن كان حقاً في ذاته(8/92)
أما المنكر فهو ضد المعروف ولو أن النفس العاصية قد قبلته لكنه يبقى منكراً إذا كان على غير شريعة الله جل وعلا , فالمنكر ما حرمه الله ما ذمه الله ولو قبلته النفس , والنُكر ما استعظمته النفس ولو كان حقاً في ذاته وسيأتي هذا في بيان قصة ذي القرنين إن شاء الله تعالى {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ } زاد هنا { قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا (75) قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا} وإن هنا يا بُني شرطية { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي } الفاء عند النحويين واقعة في جواب الشرط , والأصل في جواب الشرط أن يخلو من الفاء لكن الفاء تقع لأسباب منها :
أن يكون الفعل مبدوء بالطلب والـ لا هنا نهي , والنهي نوع من الطلب
{إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي } وهذا شرط التزم به موسى لنفسه , ولا ندري هل موسى ضجر من القضية فأراد أن ينهي الأمر أو أن موسى عليه الصلاة والسلام أراد أن يلزم نفسه أن لا يسأل الخضر , أياً كان الأمر فقد كانت هذه أخر الحوادث التي مرت بموسى والخضر
قال الله { قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا} أي لا عذر لي بعد ذلك إذا وصل الأمر إلى كونه ثالثا!(8/93)
قال الله {فَانطَلَقَا } أي واصلا سيرهما { حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا } المستطعم موسى والخضر , والهمزة والسين والتاء هنا للطلب , والهمزة همزة وصل { اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا } أي طلبوا منهم طعاماً ضيافة , قال الله { فَأَبَوْا } من الذي أبى وأمتنع , أهل القرية { فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا } وهذا فيه إشارة إلى أن يوشع غير موجود {فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا } وهذا يدل على لئيم طباع أهل تلك القرية , وقد فهم منها العلماء فائدة جليلة أن عبرة الإنسان بمقامه عند ربه , وإلا الناس لا يمكن أن يتواطئوا كلهم على أن يعرفوا لك قدرا , لكن العظيم لا يبالي بعدم معرفة الخلق له والعبرة التي ينبغي أن تحرص عليها والمسألة التي ينبغي أن تعض عليها النواجذ أين مقامك عند ربك جل وعلا ؟
أما الخلق فمنهم المنصف ومنهم المبالغ ومنهم الحاقد ومنهم الجاهل يختلفون فيك ولا يوجد أحد أجمع الناس عليه , نبي الأمة ورأس الملة صلى الله عليه وسلم مات ومن أمة العرب من لا يرى النبي على النبوة , لكن هذا لا يضيره عليه الصلاة والسلام ولا يقدح في مقامه عليه الصلاة والسلام عند ربه , قال الله {فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا } وقال بعض من ينظم الشعر
فأن رددت فما في الرد منقصة
قد رد موسى قبل والخضر
وإن كان السياق الذي جاء فيه النظم غير حميد لكنني أنا أجتز منه ما هو مقبول(8/94)
والمقصود أن الله قال { فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا} وكان هذا من المفترض أن يدفع الخضر في فهم موسى على أن يمتنع عن الإحسان إلى أولئك القوم الذين أبوا أن يضيفوا الأغراب , لكن الخضر بادر على غير طلب منهم إلى جدار يريد أن ينقض أي يكاد أن ينقض , لأنه ليس منقضاً وليس مستوياً , لو كان مستوياً لما أحتاج إلى أن يقومه الخضر , ولو كان منقضاً تماماً ( لم يقل الله يريد أن ينقض ) قال الله { يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} أي أقام الخضر ذلك الجدار وجعله عائداً إلى أصله الأول في أنه متمكن ألا يهدم , فاستشاط موسى غضباً معاتباً الخضر {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا } أي كان ينبغي عليك أن تطلب منهم أجراً على صنيعك هذا بهم مقابلة بالمثل ولحاجتنا إلى الطعام
هنا أوقف الخضر المسألة وطبق الشرط الذي بينهما وقد قلت في التمهيد المسلمون على شروطهم {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } فلهذا قال الله جل وعلا { وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وقال في الطلاق { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } في قضية الرجعة , وقال { وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ} فلوضوح في المعاملات أمر محمود ولا يضير إنسان أن يعطي دينه أو أن يقترض فيطلب منه من أقرضه ورقة أو سنداً أو مأشبه ذلك مما به المواثيق هذا مما شرعه الله جل وعلا لعباده , والدليل هذا عبد صالح ويعرف أن موسى كليم الله ومع ذلك أجرى تنفيذ الشرط بينهما وقال { قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ } والسين للمستقبل القريب وهو بحسب الأحوال
{(8/95)
سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا }والزيادة في المبنى زيادة في المعنى , ولهذا قال الخضر {مَا لَمْ تَسْتَطِع } ما زال الأمر في ذهن موسى ملتبساً لا يعرف تأويلاً ولا مسوغاً لأعمال الخضر التي قام بها فالأمر ما زال مدلهم في ذهنه فخاطبه الخضر بجنس ما هو فيه { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا }
ثم شرع الخضر يبين لموسى عليه السلام هذه القضايا ويحل العقد واحدة تلو الأخرى قال { أَمَّا } وهي تفصيلية هنا { السَّفِينَةُ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} أي سفينة ؟(8/96)
التي خرقتها {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ } اللام يا بُني للملك والذين يملكون هذه السفينة هم المساكين والمسكين من عجز على أن يجد لنفسه دخلاً يوافق مصروفه من حيث الجملة , وأختلف أيهما أشد فقرا , الفقير أو المسكين , مع الاتفاق على إنهما من ذوي الحاجات والظهر والعلم عند الله أن الفقير أشد فقراً من المسكين بدليل تقديم الله له في أصناف الزكاة الثمانية المستحقين لها قال الله جل ذكره { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } والمقصود أن الخضر قال {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ } أي يؤجرونها { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} بخرقها { وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} كل من ألفاظ العموم مرت معنا مراراً , وظاهر كلام الخضر عن الملك أن الملك يأخذ كل سفينة صالحة أو غير صالحة فكيف عرفنا أنه لا يأخذ المعيبة , أنه لو كان الملك يأخذ كل سفينة صالحة وغير صالحة لما أحتاج أن يخرقها , وقوله {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } نص في موضع الخلاف { الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا } أي ظلم وتجبرا , كلمة وراء جاءت في القرآن على عدة معاني من أشهرها ثلاثة :
وراء بمعنى أمام زمانياً ومكانياً , بمعنى أمام زمانياً قول الله جل وعلا { وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } , { وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } يعنى هذا بمستقبل أيامه فحياة البرزخ والعذاب المتوعد به أهل النار لم يأتي بعد , وإنما هو أمام المتوعد به - هذا ظاهر -
وأما وراء بمعنى أمام مكانياً الآية التي بين يديك يقول الله جل وعلا على لسان الخضر { وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا } ما معنى وراء هنا ؟(8/97)
أمام .. أمامهم ملك , لم يصلوا إليه بعد { وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} يعني أمامهم مكاناً ملك يأخذ كل سفينة غصبا , فأول معاني وراء بالقرآن بمعنى أمام .
وتأتي بمعنى خلف وهو الأصل باستخدامها اللغوي قال الله جل وعلا على لسان العبد الصالح شعيب {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا } وظهر الإنسان خلفه , وليس { وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا } نص بأنها تأتي بمعنى خلف
بقيت أشهر معانيها بمعنى غير أو بعد الثالثة بمعنى غير أو بعد قال الله تعالى في النساء {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } ثم ذكر المحصنات ثم قال {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } أي ما بعد ذلك , وقال جل وعلا { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ } أي غير ذلك { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} , وهذا يدل كما قلنا على بعض المعاني التي تأتي عليها كلمة وراء في القرآن .
{ وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} هذا السبب الأول , وأنت تلحظ أن الخضر عليه السلام أسند فعل العيب إلى نفسه قال {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} الآن قضية لماذا خرق السفينة حلت أمام موسى , والمسكين قلنا أسند إليهم ملك السفينة وسماهم مساكين , فعلى هذا لو أن إنسان وهذا يأتيك في باب الفقه في الزكاة , مصروفه أكثر من دخله يعد مسكيناً , من كان مصروفه العادي من غير سرف ولا مخيلا أكثر من دخله الثابت المتوقع شهرياً أو سنوياً يسمى مسكين , هذا خبره مع السفينة(8/98)
قال { وَأَمَّا الْغُلامُ } أي شأن الغلام الذي أنكرت علي أن أقتله { وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} والأبوان هنا ( أبوه وأمه ) وهذا على جريان كلام العرب في التغليب ولغة القرآن { كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ } , { وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا } أي أنه سبق في علم الله وقدره أن هذا الولد لو نشأ وعاش سيكون كافرا ويخشى من طغيانه وكفره مع تعلق والديه به أن يكون سبباً في كفر والديه فلا أن يفقدا الولد في الصغر خير لهما من أن يبقى الولد يحي ويموتان على الكفر , فخيرة الله لعبده خيراً من خيرة العبد لنفسه , وكم من أمور حجبها الله جل وعلا عنا وبقيت في قلوبنا بعض علامات الأسف والحزن عليها لو فتح لنا الغيب لسجدنا شكراً على أن الله حجبها عنا , ولذلك من أرفع مقامات الصالحين الرضا بقضاء الله وقدره قال الله جل وعلا على لسان العبد الصالح {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } وتقول أم سلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج من بيتها إلا ويرفع رأسه إلى السماء ويقول [ أمنت بالله واعتصمت بالله وتوكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أُضل أو أزل أو أُزل أو أن أظلم أو أن أُظلم أو أن أجهل أو أن يُجهل علي ] والعبد الصالح هو من أوكل إلى الله جل وعلا أمره واستعان بالله تبارك وتعالى ورضي بقضاء الله وقدره ولا يمسي إلا وهو راض كل الرضا عن ربه بصرف النظر عما أتاه أو لم يأته , فما كان لك سيأتيك على ضعفك وما لم يكن لك لن تناله بقوتك(8/99)
نقول { وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا } أي يعوضهم الله معنى الآية إجمالاً
من هو أقرب زكاة ورحم لهما ولا يكون سبباً في كفرهما ولا تجاوزهما للحدود مع الرب تبارك وتعالى . هذه المسألة الثانية
ثم قال له { وَأَمَّا الْجِدَارُ } وهي أخر القضايا فالذي دفعني إلى إصلاحه وتقويمه رغم لئيم أهل القرية { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ } وقد مر معنا أن اليتيم في بني الإنسان من فقد أباه دون البلوغ وفي الحيوان من فقد أمه دون أباه ’ لأن الحيوان لا يعرف أباه , وفي الطير من فقد أباه وأمه
ووجه الشاهد هنا اليتيم المعروف { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ } تحت ماذا ؟!
تحت الجدار
{ كَنزٌ لَّهُمَا } أي اليتيمين ولو قدر وترك هذا الجدار على حاله يريد أن ينقض وأنقض , لتسلط الأشرار على الكنز
وليس لليتيمين قدرة ولا شدة ولا بلغة في الدفاع عن أنفسهما لأنهما ضعاف
قال : { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ } هنا نسب الفضل إلى الله , وتأدب مع الله جل وعلا ولم ينسبه إلى نفسه , وفي خبر السفينة نسب إرادة العيب إلى نفسه قال { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } وقد مر معنا في دروس متكررة أنه كذلك من أرفع المقامات حُسن الأدب مع الله , وأعظم الأدب مع الله توحيده (قال : أي الذنب أعظم ؟ قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك ) ومن وحد الله جل وعلا عرف الطريق الأدب الحق مع الرب تبارك وتعالى
{ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } أي اليتيمين , واليتيم يبتلى بأمرين :(8/100)
بلوغ الأشد البدني يكون بالقدرة على النكاح
والأشد العقلي يختبر فإذا تصرف , تصرفاً راشداً في ماله سلم له ماله .
إذا اجتمعت فيه قوتان قوة البدن وقوة العقل
قوة البدن عبر الله عنها بقوله { حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ }
وقوة العقل عبر الله عنها بقوله { فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ }
فنقول { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا } أي بعد أن يبلغا
قبلها { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ }
{ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا } هذه ضمناً جاءت لتبين أن أعظم ما يدخره الآباء للأبناء أن يكونوا صالحين في أنفسهم , وقد قيل أن هذا الأب المقصود هو الجد السابع لليتيمين وهذا غير بعيد لكن الأولى إمرار القرآن على ظاهره
فقوله جل وعلا { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا } إنما ينصرف في لغة العرب أول ما ينصرف إلى الأب المباشر ولا ينصرف إلى الجد وأن كان يصح تسمية الجد أباً ’ لكنه ينصرف أول ما ينصرف إلى الأب
{ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا } فبرحمة الله جل وعلا لهذا الوالد في قبره وهو ميت لصلاحه سخر الله موسى والخضر يتجاوزان البحار والقفار ليقيما جداراً تحته كنز من أجل يتيمين فمن أستودع الله شيئاً حفظه تبارك وتعالى , ولهذا لن تودع أحداً شيئاً أعظم من أن تودعه عند الله , وأعظم ما تودعه الله جل وعلا دينك ولهذا نقول : ( يا مقلب القلوب قلبنا على دينك )(8/101)
قال الله جل وعلا : { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا } وأنظر إلى الأدب { رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } خرج منها الخضر , أنا مجرد آلة تنفذ حتى لا يفهم أن هناك شفقة غير منبعثة من شيء خارجي من الخضر نفسه , لكنه قال , أسند هذا الأمر جعل غدوه ورواحه وصنيعه إنما جعله الله رحمة للخلق { رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } ثم زاد الأمر توكيدا قال : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } ما نافية أي ما فعلته بشيء تصرف مني , وقد قلنا أن هذه الآية من قبل في أول التأصيل من أعظم الأدلة على أن الخضر كان نبياً وأن كان الناس أي العلماء اختلفوا في الخضر هل هو نبي أم لا , وقلنا
واختلفت في الخضر أهل العقول
قيل نبي أو لي أو رسول
لكن الذي يظهر عندي والعلم عند الله أن القول بنبوته يقطع الخلاف فيما حام حوله بكثير من التأويلات
{ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ } الذي صنعته ورأيته وشاهدته وفصلته لك وبينته إليك { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا } الآن خففها لأن المسألة قد حلت العقد واحدة بعد الأخرى وانتهى الأمر إلى أن قال : { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا } وهنا قلنا نكرر أن الزيادة في المبنى زيادة في المعنى , وأن الخطاب في الأول كان يناسب حال موسى ومقامه { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا } ثم أنتقل الأمر إلى أن قال { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا }
قال الله جل وعلا بعدها { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا } ذو القرنين أنموذج لملك صالح بلا خلاف , لكن هل هو نبي أم غير نبي مسألة خلافية(8/102)
لقد جاء في الحديث ( لا أدري أكان ذو القرنين نبياً أم لا ) فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم توقف في نبوته فمن باب أولى أن يتوقف أتباعه من العلماء صلوات الله وسلامه عليه
{يَسْأَلُونَكَ } وردت في القرآن كثيراً
وردت على ألسنة الكفار { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ } ووردت على ألسنة الكفار { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ }
ووردت ها هنا { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ } والسائل القرشيين بأمر من اليهود
ووردت { َسْأَلُونَكَ} من مجتمع المدينة الأول الذي كان معاصراً للنبي صلى الله عليه وسلم { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } , { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } لكن الفرق بين السؤالين
أما الأولى كانت أسئلة من كفار يريدون إثبات النبوة والمجادلة فيها
أما الأسئلة الثانية كانت أسئلة قوم مؤمنين يريدون أن يفقهوا الشريعة وأن كانت هذه الأمة كما قال ابن عباس [ أقل الأمم سؤالاً ] وجملة ما في أسئلة هذه الأمة في القرآن لا يكاد يتجاوز أربعة عشر سؤالا
قال الله { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ } لم يذكر الله أسمه ولا زمانه ولا مكانه لماذا ؟!
لأن القرآن المقصود منه من أخباره العظة والاعتبار وليس تدوين التاريخ
والعظة والاعتبار تحصل من غير تدوين تاريخي ينبغي ضبط هذه المسألة
قال الله { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ } يا نبينا { سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ } من بعضيه , لن أقول لكم كل شيء , سأقول لكم بالقدر الذي ينفعكم وتقام به الحجة عليكم و ألا ما أصبح قرآناً أصبح كتاب تاريخ , لكنه قرآن(8/103)
وهذا فهم يجب أن تستحضره , أن تفرق ما بين من يقرأ التاريخ مستعيناً بالقرآن , ومن يفسر القرآن فيجعله تاريخاً
فرق كبير يحق لك أن تقرأ التاريخ مستعيناً ب القرآن لكن لا تقل هذا تفسير
لكن إذا فسرت القرآن لا تجعله تاريخاً
ولهذا صبغة كل فرد تظهر على تفسيره
فمن كان جيداً في الفقه إذا فسر القرآن أدخلك في أقوال الشافعية وأحمد ومالك وأبي حنيفة وغير المتبوعين كإبراهيم النخعي والليث بن سعد و الطبري وغيرهم حتى أصبحت أنك تقرأ في كتاب فقه
أو يأتيك إنسان ويقول هذه مسألة صرفيه ولها أوجه عند النحويين ثم يخرج يخرج كأنك تقرأ بشرح ابن عقيل ولا تقرأ في تفسير
أو يأتيك إنسان تاريخي فيأتيك بالأمم دولة بني أمية ودولة بني العباس والحروب التي حصلت بين آل البيت و خصومهم وما إلى ذلك كأنك تقرأ في أحداث تاريخية سطرها الناس ولا تقرأ في كلام رب العالمين جل جلاله
لكن إذا أردت أن تفسر القرآن نجعل همنا الأول ما فيه من عظة واعتبار تدلنا على الواحد القهار
وإذا أردت أن أعرف تلك المسائل فأستشهد بالقرآن لا ضير لكن لا أسميه تفسيراً ولا تأويلاً
نعود فنقول : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ } جعله الله نموذج للحاكم الصالح حتى لا يتعذر أحد , أن الحكم لا يقوم إلا على البطش والجبروت أتى الله بحاكم صالح ينفذ منهج الله
قال الله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا } صيغة التعظيم { مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ } والتمكين يعني ماذا ؟!
الاستمرارية – والمعنى أن ذا القرنين لم يكن يملك خوارق العادات ولا يملك معجزات حتى تقول إذا جادلت أحد من الملوك بصنع ذي القرنين قال هذا أعطاه الله معجزات
ليست معجزات
الله يقول : { إِنَّا مَكَّنَّا } تعني الاستمرار , فتعني الاستمرار خرجت من كونها من خوارق العادات
خرجت من كونها أمراً يفنى مباشرة , يعني وهلة تظهر ثم تنتهي
{(8/104)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } الأسباب التي يقوم بها حكمه على الوجه الأمثل
ماذا صنع هذا العبد الصالح ؟!
قال الله : { فَأَتْبَعَ سَبَبًا } أخذ بتلك الأسباب , ولا يعقل أن السفينة لا تجري على اليبس
والذي يريد أن يبني مجداً يأخذ ويتوكل على الله جل وعلا , نحن لسنا أنبياء يوحى إلينا
نطلب علماً نبحث عنه في مواطنه في مظانه في الكتب نثني الركب نراجع المسائل نقوم نستذكره كلما وجدنا فرصة بحثنا عن مظان العلم لسنا أنبياء يوحى إلينا , ومع سؤال الله جل وعلا العون و التوفيق والسداد وأن لا يفتتنا فيه
نأخذ بالأسباب
وكذلك سائر الملوك يجب عليهم
{ فَأَتْبَعَ سَبَبًا } ثم ذكر الله جل وعلا رحلات هذا الملك الصالح
قال : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } الآن أخذ الغرب سأتكلم بإجمال مراعاة للوقت وأهمية الفائدة
قال الله : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا } وجد ماذا ؟!
وجد الشمس { تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } فهم بعض الناس
أُلفت في هذا كتب أن الشمس تغرب في عين حمئة
وهذا غير صحيح , لأن الله يقول وجدها , بحسب نظر من ؟!ذي القرنين
ليس بحسب غروبها , والإنسان إذا كان في جدة مثلاً وينظر فيرى الشمس تغرب في البحر
وإذا كان في صحراء نجد سيرى الشمس تغرب في الصحراء
وإذا كان في جبال تهامة والحجاز سيرى الشمس تغرب في الجبال
كلٌ بحسب الموطن الذي هو فيه
.:::تنبيه :::.
هنا فيه نقص ... لم أستطيع أن أكمله ..
......... من هذا الجزء أي من آية ( 85 ) إلى ألاية ( 88 )
أعتذر للكل .. لم استطيع أن أكمله ... لتكرار الخلل .. في هذا الجزء بالذات ...(8/105)
قال الله جل وعلا { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا* حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا } أي الشمس ,الآن أنتقل من المغرب إلى المشرق { تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا (90)} أي أنهم في فقر شديد , يسكنون بيوتاً وكهوفاً وصخوراً , ولم يذكر الله جل وعلا شيء عن أمرهم هنا ,قال {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا } ثم قال {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا } أخذ بالأسباب , ومعنى {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } أين يوجد السدين ؟
لا ندري!
ويرجح أنها في أذربيجان جهة الإتحاد السوفييتي ويقال غير ذلك , وقلنا أغفل الله مكانهم هنا , لكن السدين هما الجبلان العظيمان {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } ضعاف عقول {لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} أي هؤلاء {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْن} طبعاً نصبت ذا لأنها منادى مضاف وهو من الأسماء الخمسة ينصب بالألف {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ}الآن من المشتكي ؟
هؤلاء القوم الذين نعتهم الله بأنهم لا يكادون يفقهون قولا , قوم بدائيون { يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} من يأجوج ومأجوج ؟
أختلف الناس فيهم , كلام كثير لكن أظهر الأقوال أنهم قبيلتان من نسل يافث بن نوح على نوح السلام , وبعض العلماء يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليهما في رحلة الإسراء والمعراج حتى تقوم عليها الحجة , وهذا لا يُبعد لكنه لم يثبت , قال الله جل وعلا على لسانهم {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا } عطية { عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا } ماذا قال ؟(8/106)
الآن هذا ملك سياسي دبلوماسي , قال أولاً متصلاً بالله {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } وحمد الله على ما أعطاه ورفض الخراج , لماذا رفض الخراج ؟
كنت أحسب قديماً في أول علم التفسير أنه رفض الخراج لأنه لا يريد أن يأخذ مع استغنائه , لكن الذي بدأ شيء آخر , وهو أنه رفض الخراج حتى يستفيد من قوتهم البدنية , والمعنى أنه لو قبل أن يأخذ الخراج لأوكلوا إليه بناء السد , أشبه بالعقد بينهم وبينه وهم ينتظرون صنيعه , لكنه علم أنهم قوم لا يكادون يفقهون قولا
ومن كان قوياً في بدنه وهو غير مكتمل في عقله لا يحسن بك أن تعطل الفائدة منه أستخدمه فيما يتفق مع شخصيته ، فقال لهم { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } أي بقوة أبدانكم وما أعطاكم الله من قوة وجلد وحمل أعينوني بها , أما العقول قال الله من قبل {لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} , { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ } أي بين يأجوج ومأجوج { رَدْمًا } , { آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ } زبر الحديد يعني قطع الحديد
والزبر في اللغة الكتاب { آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ } الصدفين : الجبلين العظيمين ,
وهنا فيه نقطة فائدة نعرج بها
يقول الناس إذا لقوا أحداً على غير ميعاد : قابلته صدفة ,وهذا خطأ ما أتكلم عن خطأ شرعي , معروف كل شيء بقدر الله , لكن صدف الرجل عن أخيه : بمعنى أعرض عنه ,,واضح .
يقول قابلته مصادفة, يعني على غير أتفاق , لا تقول صدفة (( صدفة)) يعني إعراض , تقول قابلته مصادفة لا تقول قابلته صدفة .
قال الله جل وعلا { حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا } ذكر الله نفخ النار وذكر أنهم أفرغوا عليه قطرا , والقطر النحاس المذاب(8/107)
وغاية الأمر أنه خطط ونفذ بمعونة أبدانهم وكمال عقله وإتحاد جيشه على أنه بنا في تلك الفجوة التي بين الجبلين العظيمين التي كان من خلالها تأتي قبائل يأجوج ومأجوج , بنا من خلالها عليه السلام بنا سداً منيعاً مكوناً من نحاس مذاب ومن حديد ومن صخر , قال بعد ذلك { هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي } أي لكم لأن الله جل وعلا بهذا الردم حماكم من أذى يأجوج ومأجوج { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي } أي عند قرب قيام الساعة
وتأيده آية الأنبياء { وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا } قبلها { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } , { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا } وهذا سيأتي في الدروس القادمة
ويأجوج ومأجوج قلنا قبيلتان من نسل يافث بن نوح قال عليه الصلاة والسلام (( ويل للعرب من شر قد أقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج , وحلق بين أصبعيه الإبهام والسبابة )) صلوات الله وسلامه عليه
وهم أمة من الأمم الله أعلم بعددهم ليس لأحد بهم قدرة كما يوحي الله لعيسى عند خروجهم ’ يخرجون يشرب أولهم بحيرة طبرية فلا يبقى لأخرهم شيء , فيأتي أخرهم فيقول كان هنا ماء , يرمون النشاب إلى السماء يرد الله رأس الرمح أحمر فيقول بعضهم لبعض غلبنا أهل الأرض وقهرنا أهل السماء , وهم فتنة من أعظم الفتن , ويفر عيسى والمؤمنون الذين معه إلى جبل الطور يدعون عليهم يصيبهم النغف في رقابهم يموتون موتة رجل واحد , ثم تأتي طيور تحملهم , ثم ينزل الله مطراً لا .... زرع ولا ضرع , يغسل الأرض من نتنهم , ثم أن المؤمنين الذين مع عيسى يشبون النار , يوقدون النار من ..... يأجوج ومأجوج سنين طويلة مما يدل على كثرتهم , هذا ما يمكن أن يقال عن يأجوج ومأجوج(8/108)
ويمكن أن يقال عن هذه الآيات المباركات التي شرعنا فيها ببيان قصة كليم الله موسى مع العبد الصالح الخضر , ثم ذكرنا إجمالاً نبأ الملك الصالح ذي القرنين وما مكن الله جل وعلا له في الأرض , وأن الأصل في جهاد المسلمين هو , .....الغاية الكبرى هو أن يدخل الناس في دين الله أفواجا , هذا ما نيسر إيراده وما تهيأ إعداده حول هذه السورة الكريمة , بقي لنا إن شاء الله تعالى في اللقاء القادم سنختم بقول الله { فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا } وندخل على قول الله { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } ثم نذكر أهل الجنة وما آلها { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً } ثم نذكر إن شاء الله تعالى في اللقاء القادم الفرق ما بين كلام الله وكلام المخلوقين , ثم نذكر خاتمة السورة وأن الوحي أعظم خصائص الأنبياء التي أعطاهم الله جل وعلا إياها { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } هذا كله موضوع الحلقة أو اللقاء القادم إن شاء الله تعالى
اسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى وأن يلبسنا وإياكم لباسي العافية والتقوى وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ن يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد ولياً مرشدا , واشهد أن لا أله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره وأتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :(8/109)
فسنعرض في هذا اللقاء المبارك إلى ما بقي لنا من آيات من سورة الكهف من قوله جل شأنه {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا } إلى أخر السورة المباركة وهي قول الله جل وعلا {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }
وسورة الكهف قد مضى الحديث عنها في اللقاءات السابقة تفصيلاً وانتهينا إلى خبر الملك الصالح ذي القرنين وقلنا فيما سلف أن العلماء اختلفوا فيه هل هو نبي أم غير نبي ورجحنا التوقف في المسألة لما ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا أدري أكان ذو القرنين نبياً أم لا ) وما دام علم الهدى صلوات الله وسلامة عليه توقف في أمر ذي القرنين وحقٌ على حملة العلم من بعده أن يتوقفوا ,
وأن كنا نقول أن ظاهر القرآن يدل على أنه نبي .
هذا الملك الصالح بني سداً سمي في القرآن ردما , والطلب الذي تقدمت به تلك القبائل كان المطلوب سد , لكنه عبر عنه بالردم , وهذا الردم كان الغاية منه أن يصد دخول قبائل يأجوج ومأجوج ليفسدوا في الأرض , فأستعان ذي القرنين في عتاد أولئك القوم في أن يعينوه ورتب بناء ذلك الردم وسد تلك الفجوة ثم بعد أن فرغ منها وأنقطع الشر وسد البأس قال لهم هذا - أي الذي بنيته - ويشير إلى الردم رحمة من ربي , ووجه كونه أنه رحمه أن الله جل وعلا منع به الأذى , والرحمة كلمة واسعة كل ما كان سبباً في حصول مرغوب أو دفع مرهوب يسمى رحمه
قال : {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي } وهذا من أدب ذي القرنين مع ربه أنه نسب هذا الأمر إلى الله ولم يشر إلى ذاته أو إلى نفسه طرفة عين
{(8/110)
فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي } والمقصود بوعد الله هنا قرب قيام الساعة ويؤيده قول الله جل وعلا في الأنبياء {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ } رتب الله جل وعلا اقتراب الوعد الحق على خروج قبائل يأجوج ومأجوج وأن خروجهم من أعظم أمارات الساعة وأشراطها كما مر معنا في أخبار عديدة وسيأتي تفصيلاً في موضعه ومنهجنا في التفصيل أننا لا نستطرد كثيراً في خبر نعلم أنه سيأتي الحديث عنه في حينه
{ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء} وهذا يحتمل أمرين
إما أن يدك على يد يأجوج ومأجوج عندما يحفرون وهذا الذي نميل إليه
وإما قصد ما يحدث في الأرض من تغير معالمها عند قيام الساعة
والأول أقرب قال صلى الله عليه وسلم وقد نام عند زينب بنت جحش قال : ( ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج ) وفي قوله صلى الله عليه وسلم ( ويل للعرب من شر قد اقترب ) أراد الأمة كلها عرباً وعجما
أراد أهل الإسلام لكن الحديث فيه دلالة ظاهرة صريحة على أن العرب هم مادة أهل الإسلام , وهذا النوع من الافتخار لا ينافي ما جاء بالشرع عن النهي من الفخر , لأن الإنسان إذا تكلم عن مادة الأشياء فإنما يضع الأمور في مواضعها الصحيحة وعليه يقاس قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين : ( أنا النبي لا كذب ) ثم قال مفتخرا ( أنا ابن عبد المطلب ) وهذا قوله صلوات الله وسلامة عليه ( أنا ابن عبد المطلب ) لا يلزم منه صلوات الله وسلامة عليه التعالي على غيره , وإنما الإخبار بأصل مادته صلوات الله وسلامة عليه , فهذا إن شاء الله من جنسه
{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا } , {حَقًّا } نصبت لأنها خبر لكان(8/111)
أي أنه لا ارتياب ولا شك في أن وعد الله الذي أخبر عنه سيأتي لأنه لا يستطيع أحد أن يرد ما قضى الله جل وعلا وقدر أن يكون
قال الله جل وعلا بعدها { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } ذهب بعض المفسرين أو أكثر المفسرين على أن المقصود الناس جميعاً {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ }
لكننا نقول والعلم عند الله أننا نرى أن هذا مخالف للصواب , لأن كلمة { يَوْمَئِذٍ } عائدة لقول ذي القرنين {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي } عائدة عليها يعني { يَوْمَئِذٍ } عائدة لليوم الذي يجعل فيه ذلك الردم دكاء , وليس عائدة لقيام الساعة وحشر العباد
والدليل على أنها ليست عائدة على قيام الساعة وحشر العباد أن الله قال بعدها {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا } والواو تقتضي الترتيب وهي عاطفة والعطف يقتضي المغايرة بصورة أولية , فلا يمكن أن يكون المعنى في شيء واحد
لكننا نقول {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ } المقصود قبائل يأجوج ومأجوج { يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} أي من كثرتهم يموج بعضهم في بعض , والموج الاختلاط بين الأشياء والاضطراب على غير نظام , ويؤيد هذا على ما ورد بالأحاديث الصحيحة بخبر يأجوج ومأجوج [ أن أولهم يشرب بحيرة طبرية فيأتي أخرهم فيقول قد كان ها هنا ماء ] ولكثرتهم يموج بعضهم في بعض , فليس المقصود الناس جميعاً وأن قال بأن المقصود به الناس جميعاً أفاضل من العلماء
{(8/112)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } ثم قال الله { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا } على كثرة ما ورد في القرآن من ذكر النفخ في الصور إلا أن الله جل وعلا لم يذكر في القرآن قط أسم الملك الذي سينفخ في الصور , فكلها جاءت بالبناء للمجهول , لكنه أشتهر بين العلماء بدلالة السنة من وجه أو أخر على أن الذي ينفخ في الصور هو الملك " إسرافيل " عليه السلام , والمستقر عند العلماء أن رؤساء الملائكة أربعة منهم " إسرافيل عليه السلام " وأنه قد ألتقم الصور ينتظر متى يؤمر بالنفخ فينفخ كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح
قال الله { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا } وهذا يقيناً أنها النفخة الثانية لأن النفخة الأولى ليس بعدها جمع , وإنما يكون بعدها الصعق ثم يكون بعدها أربعون الله أعلم أن كانت أياماً أو سنيناً أو شهر ثم يكون بعد ذلك بعث الخلائق من جديد قال الله { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا } هذه تعود على الجميع , تعود على ماذا ؟
على الجميع على كل من خلقه الله يجمع يوم القيامة { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا } ثم ذكر الله جل وعلا بعضاً من مراتب أهوال اليوم الآخر فقال جل شأنه : { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا } اللام هاهنا {لِّلْكَافِرِينَ } بمعنى على
وهو استخدام عربي معروف دل عليه ما ورد من آيات أُخر قال الله { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } فاللام هنا بمعنى على , " أي عرضنا جهنم على الكافرين " كما أن الكافرين يعرضون على النار(8/113)
فكل من جهنم وكل من الكافرين يعرض أحدهما على الأخر نكاية بهم الله يقول { النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } والوعد لا يكون إلا في الخير , لكن المخاطب ليس الكفار . ا قال الله " وعدت الذين كفروا النار " قال " وعدت النار الذين كفروا " قال الله : { النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } - واضح -
وإلا الوعد في الأصل يستخدم للخير
فنعود فنقول : { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا } هذا أول مراحل العذاب واللام هنا بمعنى على وهو استخدام عربي معروف وقد جاء في بيت شعر عربي عجزه
فَخَرَّ صَرِيعاً لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ
والمعنى خر صريعاً على يديه وعلى فمه , فعبر باللام عن حرف الجر على
قال الله جل ذكره { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا } من هؤلاء الكافرون ؟!
{ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } ومعلوم لكل أحد أن هؤلاء الكافرين المخاطبين بالآيات القرآنية كانوا يسمعون وكانوا يبصرون , لكنهم لم يكونوا ينتفعون بأبصارهم ولم ينتفعوا بأسماعهم كما قال الله { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا } وقد تقرر عقلاً أن الجارحة إذا لم تفد صاحبها فهي كالعدم , فمن كانت له قدمان لا يستطيع أن يمشي عليهما فكأنه ليس له قدمان , ومن كانت له أعين لا يرى فيها بعين بصيرته مخلوقات الله جل وعلا ويستدل بها على عظمة ربه ووحدانيته في المقام الأول كمن ليس له عيناً أصلاً , ومن كانت له أذن فلا يعتبر بالقرآن ولا يتدبره ولا يتذكره ولا يسمعه ولا ينتفع بما يسمع من المواعظ والأحاديث والذكر فكأنه لا سمع له أصلا
- وسنقرر هنا مسألة إيمانية عظيمة وهي من فرائد ما ينقل -
ونقول من الآية ومن غيرها :(8/114)
أن الرب تبارك وتعالى - وهذه حري بها أن تفهم ويعمل بها - أن الله جل وعلا حجب عنا جميعاً في الدنيا ذاته العلية - فالله لا يرى في الدنيا -ومكننا من رؤية مخلوقاته - فمن رأى تلك المخلوقات بعين البصيرة وأستدل بها على ربه جل وعلا وعرف الله من خلالها ووحده وعظمه وأجله - ماذا يحصل له في الآخرة ؟!
يرى الله جل وعلا بعينه الباصرة
ومن لم تدله بصيرته على عظمة الله ووحدانيته وجلالة خلقه جل وعلا وقدرته على الخلق بعين بصيرته
يحرم يوم القيامة لذة النظر إلى وجه الله بعينه الباصرة
قال الله جل وعلا عن أهل النار : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } وقد قدمنا مراراً بدروس عدة هنا أو في غير هذا الموطن أنه لا عذاب أشد وأنكأ من أن يحرم أهل النار من رؤية وجه الواحد القهار
ولا عطية لأهل الجنة أعظم من أنهم يرون وجه العلي الأعلى جل جلاله قال الرب تبارك وتعالى ممتناً عليهم { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } من النضرة بسبب { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } لأنها تبصر وترى وجه ربها العلي الأعلى
على هذا يفهم أن السمع والبصر من الجوارح التي منَّ الله جل وعلا بها على خلقه فمن أستعملها استعمال صحيحاً دلته على الله قد أنتفع بها
أما من كتب الله عليه الشقاوة وجعل على بصره غشاوة وكان فد ختم الله من قبل على قلبه وسمعه , فهذا كمن لا سمع له ولا بصر ولا قلب قال الله جل وعلا { الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } ثم قال جل شأنه { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً }
الهمزة هنا يا أُخي همزة استفهام , والمقصود من هذه الاستفهام التوبيخ(8/115)
والمعنى العام " أفسحب أولئك الذين عبدوا ما عبدوا من دون الله من ملائكة وأنبياء وأقوام صالحين وجعلوهم أولياء من دون الله يعبدونهم ويعظمونهم ويصرفون لهم من الطاعات ما لا يجب شرعاً ولا يجوز شرعاً صرفه إلا لله , فصرفوه للأولياء أيحسبون بعد ذلك كله - والجواب محذوف - أنهم ناجون من العذاب وأنهم يتركوا هذا لا يمكن أن يكون - وجاء في الحديث الصحيح : ( قال : أي الذنب أعظم ؟ قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك ) وأولئك الملائكة والأنبياء معهم يتبرؤون من أولئك الذين عبدوهم من دون الله , لكن أولئك الملائكة والأنبياء الذين عبدوا من دون الله لا يسمون طواغيت وهذا احتراز لا بد منه وإنما يسمى طاغوت من رضي بتلك العبادة , صرفت له طاعة وعبادة ورضي بها , أو أمر بها , أما من لم يرضى بها ولم يأمر بها أصلاً كما صنعت الملائكة وعيسى بن مريم وغيرهما ممن عبد من دون الله من الصالحين فلا يسمون طواغيت وإنما الجرم كل الجرم على من جعلهم أولياء من دون الله
{ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً } النزل أول ما يقدم للضيف يسمى نزل , كالقهوة التي تقدم للضيف في عصرنا هذا , لكن القهوة شراب وأحياناً تكون طعام , كما قال صلى الله عليه وسلم ( أن أول نُزُل أهل الجنة زيادة كبد النون ) أي زيادة كبد الحوت ولا تكون مكاناً في الأصل , لكن الله قال هنا { إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً } فكأن جهنم أول ما يقدم للضيف , والحق أنني أقول أن هذه الآية مر عليها المفسرون مروراً عادياًَ لا يرون فيها إشكال , لكن نقول والعلم عند الله أن هذه الآية مشكلة وكثير من آيات القرآن التي فيها جهنم فيها إشكال كبير , ينتبه له من ينتبه أو لا ينتبه له غير ذلك(8/116)
لكنني في صدد فهم نظريتها كاملة , وقد وصلت غلى أكثرها لكنها لم تكتمل من بعد , وسبب الإشكال أين هو ؟!
قال الله جل وعلا مثلاً في تبارك { ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ * وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ } ثم قال { وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } فكأن جهنم غير السعير , فقال الله في البروج وكنت أتحاشا تفسيرها قال : { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } فكأن عذاب جهنم غير عذاب الحريق
قد يقول إنسان أنها دركات لا يعقل هنا , لماذا ؟!
لأن المخاطب بها فئة واحدة , والفئة الواحدة لا تنقسم , لكنني لست في عجلة في إظهار ما توصلنا إليه , لكن نجعل هذه الآية أو فهمها معلق حتى حين
وكذلك الفردوس في القرآن تحتاج إلى إعادة نظر
نقول إن الله يقول هنا { إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً } وبينا أن النزل الذي عليه عامة أهل التفسير أنه أول ما يقدم لهم من مكان في النار , لأن النُزُل في اللغة هو أول ما يقدم للضيف(8/117)
تأملات في سورة المدثر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثرة واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد:
فالسورة التي سنشرع إن شاء الله تعالى في تفسيرها في هذا المقام هي سورة المدثر ويظهر جليا أننا نتتبع أوائل ما أنزل وسورة المدثر سورة مكية باتفاق لا يعلم لها اسم آخر إلا هذا الاسم وهو موجود في المصاحف التي بين أيدينا ولا يعلم فيه خلاف .
قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ{1} قُمْ فَأَنذِرْ{2}}(8/1)
من المدثر ؟ هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا مناداة له لوصف حاله وقلنا قد قلنا في لقاء ماض عند حديثنا عن قول الله تبارك وتعالى { {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }العلق1} ذكرنا قضية أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل من الجبل يرجف فؤاده ووصل إلى خديجة رضي الله عنها وأرضاها وقد من الله عليها بالعقل والروية والحكمة ولأمر ما جعلها الله زوجه لنبيه صلى الله عليه وسلم رغم أن سنها أكبر منه ولكن الله ادخرها لفترة ومرحلة عصيبة في عمر الدعوة قامت بها رضي الله عنها وأرضاها على أكمل وجه فلما قدمت عليه ذكرته بصنيعه عندها والإنسان قد يظهر للناس شخصية أخرى غير شخصيته لكن خلطائه وأصحابه وأهله وأبنائه طلابه لا يخفى عليهم كثيرا من شخصيته وإذا كان الإنسان كاملا أو شبه كامل أو عظيما في نظر أبنائه في نظر زوجته في نظر قرابته في نظر خواص طلابه خواص رفقائه فهذا من أعظم الدلالة العظمة لأن هؤلاء يرونه على حقيقته فخديجة رضي الله عنها تر النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقته ولما جاء يفاجئها أن ملك انزل علية وألقى عليه وحيا ولما ما تعرفه من خصيصه أحواله واطلاعها على أسراره جعلها تقبل الأمر بكل رضي لأنها على علم أن هذا الرجل الذي هو الآن بعلها أهل لأن يكون نبي هذه الأمة فأيدته وقالت إنك لتحمل الكل وتعين على نوائب الحق وتقرى الضيف وأخذت تعدد مآثره ومناقبه قبل أن يبعث صلوات الله وسلامه عليه.
بل إنهم قالوا فيما نقلوه ما قاله ابن إسحاق بسند مرسل يعنى فيه انقطاع وهو من أعجب ما نقل .(8/2)
من أعجب ما نقل قالوا : إن من وسائل التثبيت التي ادخرتها خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم في مرحلة ما من مراحل الدعوة تريد أن تثبته يا ابن عم إذا جاءك الملك هذا فأخبرني فلما رأي النبي صلى الله عليه وسلم جبريل قال لخديجة إنني أراه قالت يا ابن عم أجلس هاهنا على فخذها الأيمن ثم قالت له يا ابن عم أتراه قال نعم قالت له يا ابن عم تحول تعالى على فخذا الأيسر قالت أتراه قال نعم قالت له يا ابن عم تحول تعالى في حجري فجلس فقالت يا ابن عم أتراه قال نعم فنزعت خمارها وحصرت عن شعر رأسها ثم قالت يا ابن عم أتراه قال لا قالت يا ابن عم اثبت فو الله إنه لملك وليس بشيطان .
هذا نقل بعدة طرائق رغم أن الطرائق التي نقل عنها فيها انقطاع .
• الشاهد من هذا : يبعد وقوعه مما عرف من رجاحة عقلها وهى المرأة الوحيدة التي أبلغها الله السلام ووحيه جبريل وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له جبريل هذه خديجة إذا أتتك فأقرئها من ربها ومنى السلام ورغم أنه في أول الإسلام ما بعد انتشر الفقه والدعوة والعلم لكنها ماذا قالت : وعليك وعلى جبريل السلام ولم تقل وعلى الله السلام لأن الله هو السلام .
فهذا إذا علمته تلك المرأة في المرحلة الأولى من الدعوة هذا برهان آخر عظيم
على عقلها ورفيع قدرها .
مسألة : س: من هو المدثر؟
ج: هو النبى صلى الله عليه وسلم .
س: الثياب تكون شعار ودِثار فما المقصود بكل منهما ؟
: الشعار هو ما يلبس ويكون ملاصق للجسد ، الدِثار هو ما يلبس فوق الثوب الملامس للجسد .
والنبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل على خديجة وقال دثروني كان عليه ثياب أم لا ؟ قطعيا كان عليه ثياب وكيف دثرته خديجة أعطته ثياب أخر يتغطى بها فأصبح ما أعطته خديجة دِثارا وليس شعارا لأنه صلى الله عليه وسلم كان عليه شعارا .
مسالة : س: ما أصل المدثر ؟
ج: من المتدثر من الفعل تدثر لكنها أُدغمت لقرب المخرج .(8/3)
فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة ناداه ربه بالحال والوصف الذي هو عليه فناداه نداء ملاطفه لقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ{1} قُمْ فَأَنذِرْ{2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ{3}}
مسالة :س: ما هي الوصايا الخمس التي أوصى الله بها رسوله في هذا المقام ؟
ج: قال له : { قُمْ فَأَنذِرْ{2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ{3} وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ{4} وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ{5} وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ{6} وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ{7}}
الوصية الأولى : قوله تعالى { قُمْ فَأَنذِرْ } أي قم من مضجعك وأنذر قومك في المقام الأول .
مسألة : س: لماذا قال (قُمْ فَأَنذِرْ ) ولم يقل قم فبشر ؟
ج: لأن الناس كانوا على معاص وهو في حاجة للنذاره أكثر من حاجتهم للبشارة، فقال الله تعالى { قُمْ فَأَنذِرْ } وكونه صلى الله عليه وسلم سيصبح نذير للعالمين هذه مهمة صعبة فأوصاه الله بوصايا خمس .
الوصية الثانية : قوله تعالى { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } أي تعظيم الله وليس المقصود فقط قول كلمة الله أكبر لأن الصلاة لم تكن فرضت وإنما الآن تهيئه هذا النذير والبشير صلى الله عليه وسلم ، فتعظيم الله سبحانه وتعالى الممهد له أصلا على جبل حراء يترفع عن البلايا وأهلها فجاءه الأمر صريحا { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } أي عظمه وأجله وكل ما عظم الله في قلبك عرفت قدر المخلوقين، فمن أعظم ما يعينك على الطاعة ويذهب بك عن المعصية ويجعلك صبورا على طاعة الله علمك بعظمة الجبار جلا جلالة
قوله تعالى { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } : وقد جاءت في أخر الإسراء { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً }الإسراء111 } وتسمى هذه الآية التي في الإسراء آية العز .
الوصية الثالثة : قوله تعالى { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}
مسألة : س: أختلف العلماء في قضية الثياب .(8/4)
ج: فمنهم من قال إنه القلب ومنهم من قال أنه الثياب المعهودة والصواب أن يقال أن المقصود كل ذلك طهارته صلى الله عليه وسلم حسيا ومعنويا .
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم كذلك فأمره جلا وعلا أن يبتعد عن المعايب والمناقص وهذا الأمر للتأكيد فقط وأن الله قد هيأه وأعده لذلك .
ولكن أنت المتبع لهدى محمدا صلى الله عليه وسلم هممت بأمر صعب وُليت الإمامة بالمسجد أو الخطابة أو الدعوة إلى الله أو الشروع في طريق العلماء فيجب أن تكون محمود الخصال كريم الأخلاق تنأي بنفسك عن كل مواطن الرذائل ولو كانت مباحة حتى لا تقع في دائرة الشبهات فإن الناس تذم بالحق وبالباطل ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل .
قوله تعالى { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } : الرجز يعنى المعاصي والمقصود في هجرانها توخي الحذر من غضب الله جلا وعلا والبعد عن غضبه لا يكون إلا بالبعد عن معاصيه لأن المعاصي هي أسباب النقم قال جلا وعلا { {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ }الزخرف55 } في قضية موسى وفرعون .
الوصية الرابعة : قوله تعالى { وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } من طرائق الهبات أن الإنسان أحيانا يعطى عطية رجاء أن يكافأ أعلى منها طريقة استثمارية في الناس ويبلغكم أن بعض الناس يعطون بعض الأمراء أو الوجهاء بعض الهدايا حتى يكافئه الأمير أو الوجيه بأكثر من هذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعد لشأن عظيم فينبغي أن يبعد أي شائبة فهذا وإن كان هذا الشأن مباح للأمة إلا أنه لا يجوز بحقه صلى الله عليه وسلم .
وإن أردت أن تكون عظيم بحق لا تجعل لأحد من الخلق عليك خاصة في قضية المال منا فالناس ثلاث: رجل أنت أميرة أحسنت إلية فأصبح أسير لك ، وإن هو أحسن إليك أصبحت أسير إليه خرجت من كونك أمير إلى كونك أسير ، وإن لم تحسن إليه ولم يحسن إليك فأنت وهو نظراء .(8/5)
هذا النبي صلى الله عليه وسلم معد بأن يفئ الناس إلى رشده وعقلة وحلمة وكرمة فلا يحسن بأن يكون أحد من الخلق له عليه منه.
مسألة : س: لماذا عاش النبي صلى الله عليه وسلم يتيم الأبوين ؟
ج: حتى لا يكون لهما حقا عليه فحق الأبوة واجب وحق الأمومة واجب فمات أبوة وهو حمل وماتت أمة وهو ابن ست سنوات فنتفي بذلك إيجاب حق علية صلى الله عليه وسلم لأن للوالدين حق فالله جعلهما سبب لإيجادك فلما ماتا أنتهي السبب الذي تكون به الولاية لهما فأصبح صلى الله عليه وسلم يمشى على الأرض ليس لأحد عليه فضل إلا ربه سبحانه وتعالى .
وقد جاء دور أبى بكر ، لكن دور أبى بكر في الدين ليس على النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا ادخر أبى بكر النياق للهجرة فرفض الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقبلها إلا بحقهم وأعطى أبا بكر دنانير مقابلها والمقصود أنه اشتراها حتى يركب ذلولا هي لهم وليس لأحد، فمن الحر الذي ليس لأحد عليه يد .
مسألة : س: فإذا وقع عليك فضل الأحرار ماذا تفعل ؟
ج: تكافئهم بأعظم حتى تدفع عن نفسك أن تكون في رقة أحد إذا أعطاك .
ومن هنا نفهم أن النبي صلى الله علية وسلم يقبل الهدية ولكن يكافئ بأعظم منها حتى لا يكون لأحد عليه فضل صلى الله عليه وسلم .
هذا لا يمكن أن يفترض في كل أحد و لكن نتكلم عن عظماء الرجال وأنتم طلبة علم فيجب أن تكونوا كذلك .
وهذه الأربع محتاجه إلى الصبر .
ولهذا قال الوصية الخامسة : { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } ولم يجعلها مطلقة إنما جعلها مقرونة بالله لماذا لأن كل من يصبر رجاء عطاء أحد أو فعل أحد أي إن كان ذلك الموعود يدب إليه اليأس أما من كان يرجوا فرج الله فلا يمكن أن يدب إليه اليأس أبدا لأن ما عند الله مضمون موثوق لا يخلف الله وعدة .(8/6)
فالنبي صلى الله عليه وسلم وعدة جبريل ذات يوم أن يأتيه ولما أن جاءت الساعة التي واعدة فيها كان بيده صلى الله عليه وسلم عصا فمازال يروح ويغدوا في البيت ويلقى عصاه ويقول ما يخلف الله وعدة ورسوله لماذا لم يأت جبريل، ثم أبصر تحت سريرة فإذا جرو ـ أي كلب ـ قيل للحسن أو الحسين قال منذ متى وهذا الجرو قالوا : ما ندرى يا رسول الله قال : أخرجوه فلما أخرجوه فجاء جبريل فلما سأل جبريل قال : إننا معشر الملائكة لا ندخل بيت فيه كلب ولا صورة .
الشاهد : أن الله لا يخلف وعدة .
لكن التعامل مع الناس فإنه حتى في موعد اللقاء تنتظر ساعة أو ساعتين تصبر ثم لا تلبث أن تيأس لأنك تتعامل مع مخلوق لا تتعامل مع خالق .
مثال ذلك : ابن الحطيئة شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام بديع اللسان مشكوك في نسبه ، موضع الشاهد : جاءه أقوام بغية أن يعطوه والشعراء يفتنون بشعرهم فما أكرموه الإكرام اللازم حصل شيء من التقصير ومازال ينتظر وكان لهؤلاء القوم جيران ينافسونهم في الخير والمعروف وكان يطلبون من الحطيئة أن يأتي ويتنقل إليهم حتى يكرموه فيصبح بذلك العار على الآخرين ولكن ابن حطيئة بقى على جواره حتى لم يجد شيء أصابه اليأس انتقل إلى الآخرين فلما انتقل إلى الآخرين لامه الأولون فقال لهم البيت المشهور .
فالله سبحانه وتعالى لا يخلف وعدة كما قال جلا وعلا على لسان نبيه يعقوب { وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }يوسف87 }
هذا ما حكاه الله في وصاياه لنبيه ثم ذكر جلا وعلا بعد أن قال { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } ذكر الساعة كنوع من الإشارة .
{(8/7)
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ } أي في الصور{ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ{9} عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ{10}} بعض الفضلاء من المفسرين إذا مروا بهذه الآية يجتنبونها بناء على أن أساس الفهم كان خطأً "يوم عسير ،، غير يسير" يقولون المعنى واحد والثانية مؤكدة للأولى.
هناك فرق بين وصف اليوم ووصف من سيكون في ذلك اليوم .
والمعنى: أن يوم القيامة عسير بطبعه ـ عسير وصف لليوم ـ ليست وصفاً لأهل ذلك اليوم لا للمؤمنين ولا للكفار...أما الثانية " غير يسير" فذكر للحساب الواقع على الكافرين.
ثم ذكر الله رجلاً وهو الوليد بن المغيرة رجل من كبار قريش سناً جاءت البعثة وقد شاخ وهرم وكان له نفوذ مستمد من أمرين: كثرة ماله وكثرة أولاده وقد عبّر الله تعالى عنه بقوله { مَالاً مَّمْدُوداً } وهذه الكلمة تعطي مد بصري أي جنان تتبعها جنان وأيضا ممتدة من مكة إلى الطائف وما بينهما وما جاورهما وكان رجلاً جريئاً حتى أن قريش لما أرادت هدم الكعبة لتعيد بنائها هابت أن تصل للبيت أول من تجرأ على أن يهدم الكعبة ويقلع حجرها هو الوليد بن المغيرة وهذا كله جعل منه رجلاً عظيماً تلجأ إليه الناس بطبيعتها.
قال تعالى { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } أي خلي بيني وبين من خلقت وحيداً.
ووحيدا من حيث اللغة "حال" من فاعل أو مفعول ؟ اختلفوا
فإذا قلنا من فاعل: {خَلَقْتُ وَحِيداً } عائده إلى الله ،أي خلقته لوحدي ليس معي شريك في خلقه وهذا إذا كانت اللغة تحتمله فإني أستبعده
فتكون ( وَحِيداً ) حال من المفعول به الذي هو الوليد ، واختلفوا في معناها على قولين:
1/ (وَحِيداً ) أي خلقته منفرداً وحيداً ضعيفاً في أول أمره.
2/ (وَحِيداً) أي جعلته رجلاً لا نظير له في قومه، ولا يمتنع الجمع بين القولين .
{وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً{12} وَبَنِينَ شُهُوداً{13} }
أي حاضرين من كثرتهم ، أولاده لا يمكن أن يغيبوا مجتمعين ،(8/8)
أسلم منهم ثلاثة خالد واثنان اختلفوا في أسمائهم وهو مخزوميّ كأبي جهل.
{وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً{14}}
أي وطأت له في أن يصل إلى الرئاسة والجاه.
{ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } قال الله { كَلَّا } لماذا كلا ؟ لأن السبب في استدامتها رضوان الله ، وهذا عصى الله ، قال تعالى: { إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } أي سأكلفه عذاباً شديداً شاقاً لا يطيقه في الدنيا وفي الآخرة .
ثمّ علل هذا قال تعالى{ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } ثم لعنه الله تعالى قال : { فَقُتِلَ ـ لعْنَه ـ كَيْفَ قَدَّرَ }
أي أنه رجلاً ليس سهلا { ثُمَّ قُتِلَ } تكررت اللعنة عليه، { كَيْفَ قَدَّرَ } هذا كله تعجب من قدراته .
قال تعالى { ثُمَّ نَظَرَ } ونظر تأتي متعدية بحرف الجر إلى ، نظرت إلى الشيء ـ أي أبصرته ـ ونظرت في الأمر بمعنى تفكرت وتمعنت فيه ، ونظر بدون حرف جر بمعنى تمهل وانتظِر وبكلٍ جاء القرآن هنا بمعنى التدبر والتفكر { ثُمَّ نَظَرَ } أي في أمر الرسالة .
{ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ }
وهذه صورة لوجهه تدل على ما في قلبه ثم قال تعالى{ ثُمَّ أَدْبَرَ } أي عن الحق { وَاسْتَكْبَرَ } أي عن الإيمان ، ثم قال ـ وقريش كلها تنتظر حكمه لأنه اجتمع بهم وقال : "إن وفود العرب تأتيكم فإذا رأوا اختلافكم في محمد قالوا يا أبا المغيرة احكم أنت ـ هذا زاده استكبار ـ قال { فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } كأن القرشيين ما رضوا ـ قريش تريد أن يُفصْل ويقول أنه ليس كلام الله ـ فقال { إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } فزادوه تعظيماً وهلك بعد البعثة بقليل.
قال تعالى { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } أي النار،ثم قال { وَمَا أَدْرَاكَ } بصيغة الماضي وفي القرآن وما أدراك وما يدريك.(8/9)
إذا قال الله { وَمَا أَدْرَاكَ } يُخبر نبيه عن ذلك الشيء ، وإذا قال وما يدريك لا يخبر نبيه عن ذلك الشيء ({وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً }الأحزاب63 ) ولم يخبره متى الساعة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ }الهمزة5 ) بيّن قال ({نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ }الهمزة6)
قال { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } بينها قال { لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ{28} لَوَّاحَةٌ } أي حرّاقة
{ لِّلْبَشَرِ } ليس الناس وإنما جمع بشرة وهي الجلد الظاهر.
{ عَلَيْهَا } أي على هذه النار { تِسْعَةَ عَشَرَ } مبتدأ مبني على فتح الجزأين مؤخرـ والأعداد من أحد عشر إلى تسعة عشر مبنية دائما على فتح الجزأين في أي موضع كانت إلا إذا ثنّيت مثل اثني عشر فتعامل معاملة المثنى ـ { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } أي من الملائكة ، كأن هذا القول استخف به أهل الإشراك.
{ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } لأن العدد تسعة عشر هو العدد الموجود في التوراة والإنجيل فإذا قرءوها في القرآن وفي التوراة والإنجيل استيقنوا { وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً } المؤمن أصلا مؤمن أنهم تسعة عشر فهو يقبل كلام الله.
{ وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ } ينفي الله تعالى عنهم الريبة بعد أن أعطاهم الله اليقين .
{ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً }(8/10)
يتعجبون من قلة العدد الذي يقبض أرواح الخلائق كلهم ملَك واحد فكيف يعجز أهل النار تسعة عشر ملَكاً والأمر الذي أكثر توكيداً أن الله يعطي القدرة من يشاء من عباده وأنه لو جعل خزنة النار واحد لقام بهذه المهمة لكن مرض القلب مبني أساساً على عدم تعظيم الله والعلم هو الذي يبعد ما يأتي من شبهات والإيمان يبعد ما يأتي من شهوات. قال تعالى { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } لا ينبغي حصر كلمة جنود في الملائكة، فالله تعالى له جنود لا يعلمها إلا هو كما قال
{ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ }
اُختلف في " هِيَ " عائدة على ماذا؟ هل هي على التسعة عشر خزنة النار أم النار نفسها؟ والأظهر والله أعلم أن ذكرنا لهذا الأمر إنما جعله الله ذكرى للبشر يعنى بني آدم.
قال تعالى {كَلَّا وَالْقَمَرِ } كلا كلمة ردع وقال الكسائي كلا هنا بمعنى حقاً وقال بعضهم بمعنى نعم والصواب أن كلا هنا بمعنى ألا الاستفتاحية لأن حقاً لا يصح أن تكسر إن بعدها.
{كَلَّا وَالْقَمَرِ{32} وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ{33} وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ{34} }
هذه الثلاث مخلوقات عظام لن أفصل الكلام فيها لأننا سوف نتعرض لذلك في سورة الليل ،وهنا قسم من الله تعالى بهذه المخلوقات الثلاث.
{ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ{35} نَذِيراً لِّلْبَشَرِ{36}}
والراجح أنها التذكرة بالآخرة أو جهنم نذيراً للبشر.
{ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ{37} }
من هنا فهم العلماء لا يوجد في طريق السير إلى الله أحد واقف فإما متأخر وإما متقدم .
{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ{38} إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ{39} فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ{40} عَنِ الْمُجْرِمِينَ{41} مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ{42} قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ{43} }(8/11)
الذي عليه الجمهور وأكثر ما اطلعنا عليه من كتب التفاسير أن معنى الآيات أن كل إنسان مرتهنٌ بعمله لا ينفك إلا إذا كان عمله صالحاً وأهل اليمين انفكوا لكونهم عملوا الصالحات وأنهم سيمكثون في الجنة يتساءلون عن أهل الكفر الذين يمكثون في النار ، هذا ما قاله أهل العلم.
والحق أن هذا غير مقنع لأن كل من ألفاظ العموم فاستثنى الله منها أصحاب اليمين لكن أين المقربون؟ وهو السؤال الذي يجعل الرأي السابق غير مقنع ، الله ما استثنى إلا أصحاب اليمين وهم الذين خلصوا بأعمالهم، والمقربون أولى من أصحاب اليمين ، فلابد للآية من معنى غير الذي فهمه جمهور أهل العلم.
وجدت عند القرطبي نقلاً عن علي ابن أبي طالب أنهم أطفال المسلمين والحق أن هذا خيط يقود إلى حل الإشكال.!
معنى الآية : {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } أي كل نفس مرهونة والعمل لا يخلص أصلاً إلا أصحاب اليمين لأنهم لا عمل لهم فهم ماتوا قبل التكليف.
فأصحاب اليمين عام أريد به الخاص ، أريد به من مات على الإسلام من صغار المسلمين.
ومما يستأنس به لصحة هذا الرأي أنه لو قلنا إنهم أصحاب اليمين الكبار هؤلاء لا حاجة لهم في الأصل أن يتساءلوا فيما بينهم عن أهل النار لماذا دخلوها والرأي الثاني أقرب لأنهم ماتوا صغار لا يعلمون لأي سبب عذب أولئك.
ذكروا أربع أسباب عدم الصلاة لأنها عمود الدين وعدم إطعام المسكين أي قسوة القلب والخوض مع أهل الباطل ثم ذكروا قاصمة الظهر وهو التكذيب بيوم الدين. وانظر إلى دقة القرآن { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ{46} حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ{47} } لابد أن يكونوا قد ماتوا على الكفر حتى لا يخلدوا في النار.
وثمة قول جميل " ليست العبرة بعثرة البدايات إنما العبرة بكمال النهايات "(8/12)
وإذا كان هذا حالهم { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } نحن نتكلّم عن القرآن عند بدء نزوله وسيأتي بعد ذلك منهم الذين حق لهم أن يشفعوا ليس صوابا أن نقتحمها الآن
{ فَمَا لَهُمْ } استفهامية { عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ {49} كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ{50} فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ{51}} كأنهم أي أهل النار " حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ "
قُرأت " مستَنْفَرًة " ـ بفتح الفاء ـ على أنها اسم مفعول ، وقرأت مستنفِرة " ـ بكسر الفاء ـ على أنه اسم فاعل " قَسْوَرَةٍ " قيل الأسد في لغة الحبشة وقيل مجموعة من الرماة أي مجموعة مخيفة للحمر الوحشية إما أسود تريد أكلها أو رماة يريدون صيدها هذه الحمر إذا قلنا مستنفَرة ـ بفتح الفاء ـ أي استنفرت من قبل تلك القسورة. وإذا قلنا مستنفرة ـ بالكسر ـ معنى ذلك أن الخوف بلغ منها مبلغاً حتى أصبح بعضها يستنفر بعض ، أما الحمر فهي معذورة في ذلك لأنها تفر مما يهلكها أما هؤلاء فيفرون مما فيه صلاحهم ونجاتهم.
{ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً }
بلغ من طغيانهم في طلبهم أنهم يريدون أن ينزل على كل فرد منهم كتابا خاصا ولا يكون مطوياً حتى لا يكلفون فتحه إنما كتاب منشور مفتوح. وهذا كله رد بالباطل فانظر إلى حلم الله على عباده.
ثم ذكر الله العلة وهي عدم إيمانهم بالآخرة { كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ{53} كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ{54} فَمَن شَاء ذَكَرَهُ{55}}(8/13)
ثم بين أنه مهما كان قولهم فإن القرآن حق إنه تذكرة ، ثم ذكر الله تعالى لنفسه المشيئة الشرعية والقدرية { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ } أثبت لهم المشيئة فمن شاء ذكر ثم قيدها بمشيئته { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } كل مطلوب لا يطلب إلا بحول الله وكل مرهوب لا يدفع إلا بحول الله ولهذا عظمت كلمة لا حول ولا قوة إلا بالله. ومن جميل الدعاء أن يقال" اللهم لست بريئاً فأعتذر ولا قويا فأنتصر ولكن لا حول ولا قوة إلا بك "
كان بالإمكان أن تكون الآية هو أهل التقوى والمغفرة لماذا كرر كلمة أهل ؟ كررها لأن "أهل" الثانية غير "أهل" الأولى ، الله جل وعلا أهل لأن يُتقى بمعنى أنه لازم على الخلق أن يتقوا ربهم دون سواه. أما أهل المغفرة فليس لزاما على الله أن يغفر لكل أحد.
يستفاد من هذا أنه يجعلك تجنح إلى ربك فتعبده دون غيره وأهل المغفرة يجعلك تجنح إلى ربك فتطمع فيه أن يعينك على تقواه.
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ قوله، وقد لاحظت أنني تجاوزت بعض المسائل لأن حينها لم ينزل بعد والأفضل أن تُفصل في الموضع الذي نزلت فيه.
بلغنا الله وإياكم من الخير فوق ما نؤمل, وصرف الله عنا وعنكم من السوء فوق ما نخاف ونحذر. هذا والله أعز وأعلى وأعلم, وصلى الله على محمد وآله وصحبه.(8/14)
سورة النور
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحدهُ حمداً كثيراً طيباً مباركاً كمَا يُحب ربُنا ويرضى وأشهدُ أن الله لا إله إلا هو وحدهُ لا شريك له شعارُ ولواءُ ودثارُ أهل التقوى وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمدً عبدُ ورسوله صلى الله علية وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد
فاللقاء في هذا اليوم قٌد يأخذُ نقلةً نوعيةً بعض الشيء فقد اعتدنا على السور المكية وكنا قد ذكرنا في أول اللقاءات أن هذا البرنامج يُعنى أول ما يُعنى بترتيب السور حسب نزولها على ما حرّره أهل العلم في ذلك لكننا ارتأينا رغبة في تحقيق رغبة كثيرٍ ممن لهم اتصالٌ بالبرنامج أن نعرض على السور المدنية رغبةً في أن يشمل الحديث الأحكام كما شمل العقائد وبناءً على هذا فإن السورة التي سنُعنى بها في هذا اللقاء المبارك هي { سورة النور} وهذا الاسم هو اسمٌ توقيفيٌ لا يُعرفُ لسورة أسمٌ غيره جاء مدوناً في المصاحف ونُقل عن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال " علّموا نسائكم سورة النور" ونُقل عينُ هذا القول أو قريبٌ منه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها ، والسورة مدنيةٌ باتفاق أي بإجماع المسلمين ممن يعنون بعلم التأويل وهذه السورة صدرها الحقُ جل وعلا بقوله :
(( سورةٌ أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بيّناتٍ لعلكم تذكّرون ))
وهو افتتاحٌ غير مألوف في القُرآن فلا يُعلمُ أن سورة من القرآن افتتحت بمثل هذا الافتتاح .
السورة في اللغة : المنزلة الشريفة العالية و حُقَّ لسور القرآن أن يُقال لها ذلك وقد شرُفت وعظُمت تنزيلاً ولفظاً ومعنى والعربُ تطلقُ ذلك على ما عظُم وشرُف قال قائلهم :
ألم ترى أن الله أعطاك سورة ** ترى كُل ملكٍ دونها يتذبذبُ
فإنك شمسٌ والملوك كواكبُ ** إذا طلعت لم يبدُ منهن كوكبُ(8/1)
القرآن كله منزلٌ من عند الله لكنّ الله قال هنا (سورةٌ أنزلناها) وقد أجاب عن هذا العلماء بقولهم : إن هذا للفت الانتباه وإرشاد العناية لما تتضمنه هذه السورةُ المُباركة من عظيم الأحكام الشرعية قال الله جل وعلا بعدها (سورةٌ أنزلناها وفرضناها ) قُرء بالتخفيف وقُرء بالتشديد والمعنى قُرئت وفرَضناها و وفرّضناها بتشديد الراء والقراءة الأخرى أي الثانية المقصود منها أنها أحكامها نزلت مُنجمة أي أن السورة لم تنزل كاملة و أياً كان المعنى فإن الأفضل في أن يُقال جواباً عن هذا كُله أن هذه السورة عَنيت بالأحكام وعَنيت بتعريف العباد بربهم فما يتحدثُ عن الأحكام عبّر الله جل وعلا عنه بقوله ( فرضناها ) وما يتعلق بالعقائد والتعريف بالرب عبّر الله جل وعلا عنها بقوله ( وأنزلنا فيها آياتٍ بيناتٍ لعلكم تذكّرون ) والقرينة التي تدلُ على صحة هذا المنحى في التفسير قول الله جل وعلا (لعلكم تذكّرون ) فإن الدعوة إلى تذكرُ الشيء يلزم منه أن يكون الشيء مُستقراً من قبل ومعلومٌ أن الأحكام لم يكن في المسلمين علمٌ بها من قبل فلا ينطبقُ عليها قول الله (لعلكم تذكّرون ) وإنما ينطبق على الآيات التي عُنيت بالتعريف بالرب والإرشاد إليه ومنه في هذه السورة قول الله جل وعلا ( ألم ترى أن الله يُزجي سحاباً ثُم يؤلف ُبينه ) وقول الله جل وعلا ( والله خلق كل دابة من ماء ) والآيةُ التي من أجلها سُميت السورة بسورة النور وهي قول الله جل وعلا ( الله نورُ السماواتِ والأرض ) فهذه الثلاث التي ذكرناها كنماذج لا تحمل أحكاماً فلا ينطبقُ عليها قول الله( فرضناها ) وإنما ينطبقُ عليها قول الله (وأنزلنا فيها آياتٍ بيناتٍ لعلكم تذكّرون ) وقُلنا أن قرينة( لعلكم تذكرون ) تؤيد هذا المنحى فقد جاءت عقب الآيات البينات ولم تأتي عقب فرضناها.(8/2)