************ دروس ومحاضرات الشيخ صالح المغامسي **********************
*************** للشيخ صالح المغامسي ***************************
الكتاب : دروس ومحاضرات الشيخ صالح المغامسي
178 مجموعة من دروس ومحاضرات فضيلة الشيخ صالح المغامسي مفرعة ومنسقة ومرتبة ..
حولها وفهرسها للشاملة أبو سلمى المغربي بعد أن طلبها الأخ أحمد القزاز في ملتقى أهل الحديث
فأسأكم الدعاء لي بالمغفرة وحسن الخاتمة
صفحة الشيخ صالح المغامسي بموقع صيد الفوائد
www.saaid.net/Doat/almgamce/k.htm
www.almeshkat.net(/)
******************** تأملات في سورة البقرة **************************
****************** للشيخ صالح المغامسي ***************************
الجزء الأول
من صفحة الشيخ صالح المغامسي بموقع صيد الفوائد
http://saaid.net/Doat/almgamce/index.htm
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا , و أشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى 0
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد .
أيها الإخوة المؤمنون السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جميع العلوم تفيء إلى القرآن الكريم
نذكر بأمور وهي أن القرآن أم العلوم كلها وأن الإنسان إذا قدر له أن يفقه كتاب الله أصبح بيده مقاليد العلم كلها ذلك أن جميع العلوم تفيء إلى القران على أننا ونحن نشرح قد نطيل الوقف عند آية ونتجاوز أية أخرى على هيئة أسرع والمقصود أن الآيات تتفاوت فيما نريد إيصاله لك كطالب علم في المقام الأول .
وقد نقل الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله عن شيخه الإمام الشنقيطي صاحب كتاب أضواء البيان رحمه الله نقل عنه انه سئل الشيخ "أي الشيخ عطية سأل الشيخ محمد الأمين عندما كان يفسر القران في مسجد رسول الله صلى الله علية وسلم قال له: إنك رجل ذو باع عظيم في العلم فلماذا اخترت التفسير دون سائر العلوم مع قدرتك على إتيان كثير من المسائل وشرحها ؟(1/1)
فقال الشيخ ـ رحمه الله ـ وهو العارف بكتاب الله قال : إن العلوم كلها تفيء إلى القران أو نحو ذلك من المعنى والمقصود إن هناك مسائل في العقيدة ومسائل في الفقه ومسائل في التربية ومسائل في الدعوة متنوعة متعددة نقف عند كثير منها قدر المستطاع ونحاول أن نكثر من بعضها ونقلل من بعضها بحسب ما يمليه الموقف وبحسب ما تمليه الآية كما أننا نخاطب في المقام الأول طلبة العلم فلذلك قد لا يغلب الوعظ على الدرس كله وإن كان لابد منه ولكن المقصود أن مما يعين طالب العلم على طلب العلم بعد الاستعانة بالله إن يجد مادة علمية يعقد عليها خنصره وبنصره فإذا وجد شيء يعقد عليه وزاد الكم الذي يأخذه مع مراجعته إياه استمر في الطريق ولكن إن وجد طالب العلم نفسه يقول ويكرر مسائل معدودة بعينها تمر عليه الشهور والأيام وهو مازال رهين مسائل معدودة أصابه سآمة وملل من العلم نفسه وهذا ما نحاول قدر الإمكان تلافيه .
هذا التأصيل أحببت أن أبينه قبل الشروع في التفسير ....
حقيقة البعث والنشور
يبين الله جل وعلا في قوله في سورة البقرة " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{21} الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ{22} "
قلنا المناسبة :. إن الله لما ذكر أصناف الخلق الثلاثة ( المراد بهم المؤمنون , الكفار , المنافقون ) خاطبهم أجمعين بعبارة " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ . . . إلى آخر الآيتين " أراد الله من هذا أن يبين حقيقة البعث والنشور.
و ذكر في هذه الآيتين ثلاثة براهين على وجود البعث والنشور(1/2)
البرهان الأول: هو ( الإيجاد و الخلق الأول ) وهذا بقوله " اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ " ومعلوم قطعاً أن من قدر على الخلق الأول قادر على الخلق الثاني وهذا بينة الله في غير سوره .
وقلنا نحن نبين لك كيف تفسر كتاب الله لا نريد أن نلقن وتحفظ كيف تفسر كتاب الله , هذه الطريقة بينها الله في أشياء عدة قال الله جل وعلا في سورة يس : " وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ " وقال أيضاً في سورة الإسراء : " فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ " فالاتكاء في الدليل على الإيجاد الأول هذا أول البراهين على أن هناك بعث ونشور .
البرهان الثاني:( ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان) , وفائدة الذكر أن من قدر على خلق الأعلى قادر على أن يخلق ما هو دونه , والله جل وعلا خلق السموات والأرض فمن باب أولى هو قادر على أن يحي الناس بعد موتهم ودليل هذا في القران في سورة فاطر " لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ " وقوله في سورة يس : "أَوََلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ "(1/3)
البرهان الثالث :( القياس ) و أن الله جل وعلا قال " وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ " فالأرض كونها ميتة وينزل عليها من السماء "أي من السحاب "مطراًً فتحيى من جديد هذا يدل على أن من أحياها قادراً على أن يكون على يديه البعث والنشور وهذا يفسره القرآن قال الله جل وعلا في سورة فصلت : " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " فبين سبحانه بأنه القادر على أن يحي الأرض بعد موتها قادر بقدرته وعظمته وجبروته وعزته وسلطانه على أن يحي الناس ويعيدهم بعثاً ونشوراً بعد أن كانوا أمواتاً .
فاجتمعت في هاتين الآيتين ثلاثة براهين على إثبات حقيقة البعث والنشور
هذا التفسير المجمل للآيتين.
أما التفسير التفصيلي مما يتعلق بالمفردات وغيرها فقوله جل وعلا " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " هذا تلازم مابين العبادة والتقوى فالعبد إذا عبد الله فقد اتقاه وإذا اتقاه فقد عبده " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{21} الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً " أي تطئون عليها ممهدة ميسرة وهذا ظاهر لكل ذي عينين " وَالسَّمَاء بِنَاء" الأصل أن السماء في اللغة كل ما أضلك فهو سماء
وأرضك كل مكرمة بنتها *** بنو تيم وأنت لها سماء
أي وأنت لها سقف , كل ما أضلك فهو سماء لكن المقصود بالآية هنا السماوات السبع وسيأتي تفصيلها في آيات أخرى ,(1/4)
" وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ " السماء هنا ليس المقصود بها السموات السبع المقصود به السحاب بالقرينة الموجودة وهو أن المطر ينزل من السحاب , " وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ " الباء هنا سببية أي فأخرج لك بسبب الماء من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعمون لما قال الله جل وعلا هذه البراهين الثلاثة التي تدل على قدرته وعلى ربوبيته وعلى أنه لا ريب غيره ولا إله سواه قال مطالباً عباده بقوله " فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً " .
الند هو الشريك ـ المثيل ـ النظير ولا يوجد لله شريك ولا ند ولا مثيل ولا نظير" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ " لذلك ما بني الدين إلا أنه لا يعبد إلا الله وما أرسلت الرسل وما أنزلت الكتب وما أُقيمت الموازين ولا نصبت البراهين إلا ليعبد الله وحده دون سواه من أجل هذا خلق الله جلا وعلا الخلق كلهم قال سبحانه في سورة الذاريات : " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ{57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ " .
أكبر الكبائر(1/5)
** " فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " قبل أن تتلوها لا تفهم أن " وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " هذه متعلقة " فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً " لأنك إذا علقت " فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " ونسيت أن هناك محذوف يصبح مفهوم الآية في ذهنك لا تجعل لله أنداداً وأنت تعلم كأنك تقول يجوز أن تجعل لله نداً وأنت لا تعلم , قطعاً ليس هذا المقصود لكن المعنى " ولا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون يقيناً أنه ليس له أنداداً " فهناك مفعول به للفعل تعلمون حذف لدلالة المعنى عليه وهذا كثير في القرآن هناك مفعول به محذوف دل عليه المعنى أي لا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون يقيناً أنه ليس لله جل وعلا نداً ولا شريك ولا نظير ولا ظهير ولا نصير ولا أي شيء من ذلك أبداً بل الله واحد أحد فرد صمد ليس له شريك ولا ند ولم يكن له كفواًً أحد " فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " يفهم من هذا أن الشرك والعياذ بالله أعظم الكبائر وهو الذنب الذي لا يغفره الله أبدا والناس قد لا يكون الشريك الذي اتخذوه صنم يعبد ولا يعبد عزرائيل ولا المسيح ولا غيرهما مما عبده غيره في الجاهلية لكن قد يعبد المرء هواه وقد يعبد المرء شيء آخر لا حاجة للتفصيل وقد يعبد المرء شيء آخر بحيث يصبح هذا الشيء يتعلق به القلب حتى يصرفه عن طاعة الله جل وعلا فهذا قد جعل لله ندا سواء علم أو لم يعلم ولكن لا يقال بكفره كفراً أكبر لأن مسألة التكفير سيأتي الكلام عنها أمر يحتاج إلى تفصيل وإلى تأني وتبين ,
آيات التحدي(1/6)
ثم قال سبحانه " وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين {23} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ{24} " هذه الآيات تسمى في لغة القرآن آيات التحدي وهي أول آيات التحدي في القرآن حسب ترتيب المصحف وآيات التحدي في القرآن خمس , ومعنى آيات التحدي أن الله جلا وعلا تحدى العرب على فصاحتهم وبلاغتهم أن يأتوا بمثل هذا القران وقلنا إن آيات التحدي في القرآن خمس هذه الآية من سورة البقرة وقوله الله جلا وعلا في آية 38من سورة يونس " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " و الآية 13من سورة هود وهي قوله جلا وعلا " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{13} "
و الآية 88 من سورة الإسراء قوله جلا وعلا " قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً{88} " والتحدي الخامس جاء في سورة الطور في الآيتين 33 و 34قال جلا وعلا " أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ{33} فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ{34} " اجتمع بهذا خمس آيات حسب ترتيب المصحف توالى بعضها بعضاً في تحدي كفار قريش .
لماذا التحدي ؟(1/7)
مسألة التحدي هذه نقول فيها أن العرب كانوا ليس لهم هماً ولا بضاعة إلا بضاعة الكلام نُصبت على ذلك أسواقهم وقامت على ذلك أنديتهم وكانوا أهل بلاغة وفصاحة وشعر وخطابة ليس لهم تباري و لا تنافس ولا نقد إلا في الشعر والخطابة على هذا قامت حياتهم فجاء نبينا صلى الله علية وسلم بالقرآن من عند ربه وهو يقول إن هذا القرآن من عند الله وهذا الكلام كلام الله فكذبوه قائلين إن هذا الكلام من عندك إن هذا إلا أساطير الأولين فلما كذبوه أخبره الله جلا وعلا إن كان هذا القرآن من عندي كما تقولون فأنا بشر مثلكم وعربي مثلكم وأنتم أهل فصاحة وأهل بلاغة فأتوا بمثله أن كنتم صادقين فاستفزهم الله أيما استفزاز وتحداهم أيما تحدٍ قال الله عنهم " فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ " ثم قال " وَلَن تَفْعَلُواْ " ثم ساوهم بالحجارة فقال " فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " وأخبر أن وقودها الناس والحجارة كل ذلك ليلهب مشاعرهم ويوقظ الهمم فيهم حتى يتحدوا القرآن ومع ذلك أثبتوا عجزهم وأنهم غير قادرين على أن يأتوا لا بآية ولا بجزءْ من آية فضلاً عن سورة أو عشر سور أو عن القرآن كله فهذا معنى التحدي في الآيات , واختلف الناس لماذا لم يستطيع العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن ؟
- قيل لإعجاز في ذاته. هذا الذي لا ينبغي أن يقال في غيره.(1/8)
- قيل لمفهوم الصرفة، ومفهوم الصرفة مسألة بلاغية لا نحب أن نطيل فيها، ولكن نقولها على سرعة، قالها رجل معتزلي اسمه إبراهيم بن سيار النظام، قال: إن العرب كانوا قادرين على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لكن الله صرفهم لحكمة أرادها على أن يأتوا بمثله. وهذا قول باطل حتى مشايخ المعتزلة خالفوه على هذه المسألة، و إلا أجمع المسلمون على أن العرب عجزت على أنه تأتي بمثل هذا القرآن لنظمه لأمور عديدة لا تحصى، ومن أراد أن يرجع في مثل هذه المسألة، في كتاب اسمه ( النبأ العظيم ) لرجل عالم اسمه محمد عبد الله دراز من أئمة الدنيا له قدره بلاغية، لكنه مات قبل أن يكمل الكتاب، لكن الكتاب موجود يطبع ويباع كثيراً، اسم الكتاب: النبأ العظيم، وهذا الكتاب مزيته الكبرى أن الرجل أعطاه الله جل وعلا بلاغة وفصاحة عز نظيرها وقل مثليها فمن أراد أن يستزيد في البيان، والقدرة على الكتابة، والقدرة على الخطابة فليكثر من القراءة في هذا الكتاب، فهذا الكتاب ألهم الله جلا وعلا كاتبه قدرة بيانية يعجز الناس في هذا القرن أن يأتوا بمثلها , وله أسلوب غريب وعجيب في قضية أنه يتأسى بالقرآن كثيراً، فلما ذكر قضية الإعجاز مثلاً قال: نحفظ بعض كلامه.[أي كلام دراز ـ رحمه الله ـ ]
قال: فما كان جوابهم، إلا أن ركبوا متن الحتوف ، واستنطقوا السيوف بدل الحروف لما عجزوا عن الإتيان بالبرهان وهذا حيلة كل عاجز يعجز عن الدفاع عن نفسه بالقلم واللسان !!
إلى غير ذلك مما قال والمقصود نحن في مجلس علمي ندل على ما ينفع الناس، قلنا الكتاب اسمه النبأ العظيم، واسمه عبد الله دراز، وأحياناً يكتب محمد عبد الله دراز كما يفعل إخواننا المصريون، يضعون اسم محمد قبل أسمائهم من باب التبرك، نعود للآيات هذه أول ما دلت عليه الآيات.
معاني كلمة عبد في اللغة والشرع(1/9)
دلت الآيات أيضاً على صدق رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم كما أن في قوله جلا وعلا " وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا " أن مقام العبودية أرفع مقام وأجل منزلة , وكلمة عبد تأتي في الشرع واللغة على ثلاثة معاني:
العبودية الأولى : عبد" بمعنى مقهور: وهذا يستوي فيه المؤمن والكافر.
كل الناس المؤمنون والكافرون عبيد لمن ؟
عبيد لله والدليل في سورة مريم : " إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً " . هذه عبودية مطلقة يستوي فيها المؤمن والكافر والملائكة والجن والإنس.
العبودية الثانية: وهي عبودية بالشرع، وهي ضد كلمة حر، قال الله جل وعلا في سورة البقرة " الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ " . هذا الذي يسترق في الجهاد ويؤخذ كأسير بصرف النظر عن لونه فيسمى عبد بالشرع.
العبودية الثالثة: عبد بالطاعة والإتباع: وينقسم إلى قسمين:
1 ـ طاعة لله، وهذا الذي يتنافس فيه عباد الله الصالحون.
2ـ عبد لغير الله أعاذنا الله وهذا بابه وساع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (( تعس عبد الدينار وعبد الدرهم )) ، أي: الذي يطيع هواه يطيع ديناره، يطيع درهمه وهذا مصيره الضلالة والخسران .
" وإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين {23} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُوا ْ" قمة الإعجاز لأنه لن يستطيع أحد أن يأتي بمثل القرآن ,اتقوا النار التي وقودها من الحجارة .
أما وقودها الناس: فمعروف.
وأما وقودها الحجارة للعلماء فيها قولان :
قوم قالوا: أن الحجارة هنا حجارة من كبريت في النار .
هذا عليه الأكثرون وهو فيما نرى أنه رأي مرجوح.(1/10)
وقوم قالوا: إن الحجارة هنا: هي الأصنام التي كانوا يعبدونها في الجاهلية فتقرن معهم في النار.وهذا هو الراجح إن شاء الله ودليله من القرآن في سورة الأنبياء " إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ " .
ثم قال جلا وعلا " فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " اتقوا النار بماذا :
بالإيمان والعمل الصالح .
قال العلماء: في قول الله جلا وعلا : أن النار أعدت للكافرين دليل على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد .
من مات على لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وجاء بأركان الإيمان الست، فهذا لا يخلد في النار.
قال العلامة السفاريني وغيره : وتحقيق المقال أن خلود أهل التوحيد في النار محال .
فإن من مات من أهل التوحيد مهما عذب في النار على قدر ذنبه، مصيره أن يخرج منها لأن الله قال: " أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " والموحد غير كافر. والله جل وعلا قال في سورة الليل " لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى{15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى{16}" فما دام كذب وتولى هذا كافر فمن لم يكذب ولم يتولى فيعذب في النار إن كان عاصياً، إن لم تدركه رحمة الله من قبل أمداً محدوداً، ثم يخرج منها إلى الجنة، أعاذنا الله وإياكم من النار على العموم.
ثم من أسلوب القرآن أنه يجمع ربنا ما بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد بعد أن ذكر أهل النار، قال جلا وعلا."وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{25} " .
هذه الآية فيها مبشّر وفيها مبشر وفيها مبشّر به وفيها سبب للبشارة.(1/11)
أما المبشِر: فهو النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يقوم مقامه بعده من أمته في الدعوة إلى الدين من أمته.
وأما المبشَّر : فهم المؤمنون .
وأما المبشَّر به : فهي الجنات، على ما وصفها الله جلا وعلا.
وأما أسباب البشارة فهي الإيمان والعمل الصالح.
البشارة للمؤمنين/
" وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات " وهذه البشارة يا أخي، تأخذ طرائق تأخذ مسالك . ومن أعظمها أن الإنسان إذا وفق في الدنيا وهو حي يرى نفسه موفق للخيرات،
أول البشارة: أن توفق للإيمان والعمل الصالح.
وثاني البشارة أن تبشر بالجنة عند موتك على يد الملائكة .
وأما تحقيق البشارة : فيكون بعد الموت، وقلنا أن هذا جرى مجرى البشارات بعد أن ذكر الله جلا وعلا الترهيب، ذكر الترغيب.
أما التفصيل في الآية: " وَبَشِّر " أي يا نبينا : صلى الله عليه وسلم.
" وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ". وجاءت جنات مجرورة لأنها جمع مؤنث سالم منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة. لأنه وقع اسماً للحرف الناسخ أن وأصل الكلام، أن جنات لهم.
ثم ذكر الله جلا وعلا وصف الجنات.
أنهار الجنة/
فقال في أول وصفها: " تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ " لم يذكر الله جلا وعلا هنا ما هي الأنهار، وقلنا أن القرآن يفسر بالقرآن.
لكنه ذكر الأنهار في سورة محمد، وهي أنهار من ماء، وأنهار من لبن، أنهار من خمر وأنهار من عسل مصفى.
وتجري من تحتها الأنهار: أي أنهار الماء وأنهار اللبن وانهار الخمر وأنهار العسل.
ثم إنه جلا وعلا ذكر أن تجري من تحتها الأنهار أول صفاتها لأن القاعدة كلما كان الأمر ملتصقاً بذات الشيء كان تقديمه أولى بمعنى: الله قال بعدها: " كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ " ، يتكلم عن أهلها، لكن لما قال: " تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ " يتكلم عن الجنة نفسها فقدم هذه الصفة لأنها متعلقة بالجنة، مثلاً تأخذها من باب العبارات .(1/12)
الطواف حول الكعبة عباده، وكلما أقترب الإنسان من الكعبة كان أولى، لكن عندما يأتي الإنسان، في طواف القدوم، وطواف القدوم من سننه الرمل، أن الإنسان يسرع في الخطوات، فإذا كلما اقترب الإنسان من الكعبة يفوت عليه أن يسرع، نقول هنا: ابتعد عن الكعبة، وآت بالإسراع خير من أن تقترب من الكعبة ولا تأتي بالإسراع، لماذا ؟
لأن الرمل من ذات العبادة، أما القرب من الكعبة ليس من ذات العبادة، أمر منفك عن العبادة .
إنسان قبل أن يسكن في هذا الحي، وأقيمت الصلاة، ثم حرك سيارته ليدرك الصلاة في الحرم، نقول إن إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام في حيك أفضل من إدراك بعض الصلاة في الحرم.
لأنه إدراك تكبيرة الإحرام فضل يتعلق بذات الصلاة، لكن الصلاة في الحرم يتعلق بمكانها لا بذاتها، واضح،لا يتعلق بذاتها إنما يتعلق بمكانها، وكلما كان الفضل يتعلق بذات العبادة كان أكمل وأفضل وأولى.
لذلك الله جلا وعلا، قدم الأنهار على ذكر غيرها من الصفات لأن ذكر الأنهار يتعلق بذات الجنة، قال جلا وعلا : " تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ".
نحو ياً نقول : كلمة " كُلَّمَا " لا تتكرر كما هو مشهور ، الناس يقولون كلما أتيتني كلما أطمعتك هذا خطأ، يؤتي بـ كلَّما في أول الكلام ولا تكرر، كما قال الله: " كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ " . ولم يقل: كلما قالوا وأكمل، هذا ناحية نحوية .
ناحية المعنى : للعلماء في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال:
فريق يقولون: " قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ " . أي في الدنيا، لأنه قبل جاءت مضمومة منقطعة عند الإضافة فلم يذكر الله جلا وعلا المضاف إليه، فوجب إحرازه قدر الإمكان، هذا قول:(1/13)
فيصبح أن هؤلاء المؤمنين جعلنا الله وإياكم منهم يرون ثمار الجنة، فإذا رأوها قالوا: هذه الثمار تشبه الثمار التي كنا نأكلها في الدنيا هذا قول.
القول الثاني: أن الثمار إذا أخذوا منها تبدل غيرها، أن الثمار إذا قطفوا منها تبدل بغيرها، فإذا رأوا الثاني قالوا: هذا مثل الأول الذي قطفناه من قبل لتشابه ثمار الجنة، ما بين هذين يدور أكثر المفسرين،
لكننا نقول والله أعلم إن المعنى :أن أهل الجنة إذا قطفوا ثمرة في أول النهار تبدل بغيرها تشبهها في آخر النهار فإذا جاءوا يقطفونها - مثلاً لما تأتي لإنسان يأكل طعام متكرر، يقول بالعامية ما في جديد العشاء مثل الغداء مثل الفطور – فإذا جاءوا يقطفونها قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل يعني هذا نفس طعام الصباح فإذا أكلوها وجدها تختلف عن الطعم الأول.
وأظن الشوكاني رحمه الله في الفتح القدير مال إلى هذا القول ولست متأكداً، ولكنه قول مذكور.
" وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا " ، واللام هنا للملكية، ولهم فيها أي في الجنة " أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ " ولم يقل الله مطهرة من ماذا.
لم يقل الله مطهره من ماذا ؟ لفائدة عظيمة، أنها مطهره من كل شيء مطهرون في خلقهم ومطهرون في أخلاقهم.
هؤلاء الأزواج أي النساء مطهرات في خلقهن و في أخلاقهن، في الخلق الخُلُق.
مطهرات من كل عيب ونقص لا يشينهن شيء , وأزواج مطهرة وهم فيها : ( أي في الجنة ). خالدون وهذا الخلود خلود أبدي لانقطاع منه أبداً دل عليه القرآن والسنة.(1/14)
أما ما دل عليه القرآن، فقد قال الله جل وعلا في أكثر من سورة " خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً " . وأما دلت عليه السنة في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أنه إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار أوتي بالموت على صورة كبش أملح فينادي يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا، فيظرون فزعين خوفاً أن يقال لهم أخرجوا منها ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا، فيظرون فرحين علهم أن يقال لهم: أخرجوا منها.
فيقولون جميعاً: نعم هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار، وينادي يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، قالت عائشة: فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة فرحاً، ولو أن أحداً مات حسرة، لمات أهل النار، حسرة، وفي رواية البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا بعدها " وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ{39} إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ" . تحرر من هذا أن دخول الجنة أعظم الأماني وأجل الغايات وأن الإنسان ما يناله من نصب أو تعب أو جهد أو إنفاقه من ماله أو بدله أو وقته في سبيل تحقيق إيمان وعمل صالح، إذا دخل الجنة نسي كل بؤس وجده في الدنيا، وقد قيل للإمام أحمد متى يستريح المؤمن، قال: إذا خلف صراط جهنم وراء ظهره، وفي رواية أخرى أنه سئل فقال: إذا وضع قدمه في الجنة , والمقصود أن أهل الجنة لا يعبدون، وقال النبي عليه الصلاة والسلام عنهم: لا يفنى شبابهم، و لا تبلى ثيابهم، والإنسان إذا أراد أن يقوم من الليل فأضجعته نفسه ودعته نفسه الأمارة بالسوء إلى أن يخلو إلى الفراش يتذكر يوم الحشر ويوم الحساب ويوم يقال لأهل الجنة: كلوا وأشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية.(1/15)
يتذكر يوم أن يطرق النبي صلى الله عليه وسلم أبواب الجنة، فينادي الخازن من أنت ؟ فيقول: أنا محمد، فيقال: أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك، فيدخلها عليه الصلاة والسلام، ثم يدخلها بعده الأخيار والمؤمنين الأنقياء الأبرار من أمته.
يتذكر المؤمن وهو يرى ما يثبطه عند العمل الصالح ويدعوه إلى الشهوات، ويدعوه إلى أن يعصي الله جل وعلا، خروج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلاً بهماً أشد ما يكونون إلى ماء يروي ظمأهم، فإذا خرجوا وجدوا النبي عليه الصلاة والسلام على حوض يسمى : الحوض المورود، فيقبل عليه صلوات الله وسلامه عليه المؤمنون الأنقياء من أمته، فيردون من حوضه ويشربون من يده شربة لا يعطشونه بعدها أبداً.
إذا تذكر الإنسان حال أهل الجنة و ما فيها من نعيم وتذكر حال أهل النار عياذاً بالله وما فيها من جحيم، دعاه ذلك إلى زيادة الإيمان في قلبه والمسارعة في الخيرات والإتيان بعمل الصالحات، ولم تلقي الله جل وعلا بشيء أعظم من سريرة صالحة وإخلاص في قلب ومحبة للمؤمنين، وعدم بغض لهم لا في قلبك حسد ولا غل على مؤمن كائناً من كان ترى من ترى من أفضل الله عليه فتسأل الله من فضله ولا يخلوا إنسان من عثرة ولا من زلل ولا من خطأ، لكن المؤمن إذا آب إلى الله كفل الله جل وعلا به قال الله جل وعلا في نعت خليله إبراهيم في سورة التوبة " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ". وقال الله جل وعلا عنه في آية أخرى في سورة هود " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ " . أي: كثير الرجعة إلى الله، فكثرة التوبة والاستغفار والإنابة إلى الله، مع الإيمان والعمل الصالح وهما مندرجتان فيه كل ذلك يهيئ للمؤمنين أن يدخل جنات النعيم، رزقنا الله وإياكم إياها بأمن وعفو وعافية منه، ثم قال جل وعلا:(1/16)
" إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ " . لما ذكر الله جلا وعلا الأمثال السابقة عن المنافقين، استنكروا أن يضرب الله أمثالاً بهذا الوضع، فرد الله جل وعلا، عليهم بقوله: " إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا " . شيء عظم أم شيء حقر ، لأنه العبرة بما ينجم عن المثل لا بعين المثل.
والناس في تلقيهم للمثل القرآني فريقان : قال الله : " فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ " . أي المثل : " الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ " . لأن قلوبهم مؤمنة تتلقى ما عند الله جل وعلا " وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ً" أسلوب التشكيك والظلمات التي في قلوبهم ، تبقى على ألسنتهم كما هي موغلة في قلوبهم.
ثم أخبر الله أن المثل كالقرآن يظل الله به كثيراً ويهدي به كثيراً. وقد قلنا في الدرس الماضي أن القرآن كالمطر المعطي، لا ينبت في كل أرض ينزل عليها، وقال الله في سورة الإسراء : " وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ " . لمن ؟ " لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ً " . وقال في سورة فصلت : " قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء " .
وذكر الذين كفروا فقال: " وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى " . كذلك الأمثال التي يضربها الله جل وعلا في القرآن ينتفع بها المؤمنون ولا ينتفع بها أهل الفسق والكفر والفجور.
" يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً " . ثم قال الله " وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ " .(1/17)
معنى الفسق/
الفسق: يأتي على معنيين:
- يأتي بمعنى الكفر، ويكون مخرجاً من الملة ومنه قول الله جل وعلا في سورة السجدة " أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ " .
- ويأتي بمعنى الكبيرة أو العصيان الذي لا يخرج من الملة ومنه قول الله جل وعلا في سورة الحجرات " إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا " .
فهذا فسق لا يخرج من الملة، وأصل الفسق الخروج، فكل من خرج عن طاعة الله فهو فاسق والناس في هذا بلا شك درجات عدة.
" وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ "
صفات الفاسقين /
ثم ذكر الله صفات الفاسقين، "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" وأعظم عهد لله توحيده والإيمان به.
" وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ " والذي أمر الله به أن يوصل كثير، ولكن أعظمه صلة الرحم .
" وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ " . أي بالمعاصي وأنا قلت أجمل أحياناً في التفسير، لأن القرآن مثاني يعني يتكرر فأطنب في مجالات وأتوقف في مجالات عمداً حتى يأتي البيان في سورة ثانية.
" وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ " .
ثم ذكر الله جل وعلا خطاباً موجهاً لأهل الكفر خاصة، على هيئة أسلوب استفهامي إنكاري توبيخي فقال سبحانه: " كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " .
الموتتان والحياتان /
يتحرر من هذا كم موت ؟ موتان، وكم حياة ؟ حياتان.
الموت الأول: المقصود به العدم، قبل الخلق، قال الله تعالى في سورة الإنسان : " هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً " .(1/18)
والحياة الأولى : هي نفخ الروح في الجنين في بطن أمة وهي الحياة التي نعيشها الآن .
والموت الثاني: مفارقة الروح الجسد.
والحياة الثانية: عودة الروح للجسد.
وهذا ينجم منه أن الروح لا تموت، وإنما موتها خروجها من الجسد.
والروح تخرج من الجسد، بعد أن تكون قد دخلت فيه، ودخول الروح إلى الجسد ليس وضعاً اختيارياً لها، فلا يوجد إنسان اختار جسده، ولا جسده اختار روحه، لكن ينجم مع الأيام تآلف ما بين الجسد والروح، فإذا جاء نزع الروح، يكون نزع الروح صعب على الإنسان لما وجد من تآلف ما بين الجسد والروح :
هبطت إليك من المحل الأرفعِ ... ورقاء ذات تعزز وتمنعِ
هبطت على كره إليك وربما كرهت ... فراقك وهي ذات توجُّعِ
يعني يصبيها تمنع وتوجع وعندما تريد أن تفارقك، هذا معنى قول الله في " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحيكم ثم إليه ترجعون" .
والمقصود أن من كان وليي هذا وربه وهو القادر عليه وجب أن لا يكفر به، فمن كفر به استحق التوبيخ والإنكار.
الأصل في الأشياء الإباحة/
ثم قال الله جل وعلا " هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعا " هذه مسألة يقول عنها الأصوليون دلت على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة،و أكدها الله جلا وعلا بقوله "جميعا ً" فالمخلوقات الأصل فيها الطهارة والإباحة إلا ما دل الدليل على نجاسته أو على حرمته.
فالناقل عن الأصل وهذه المسألة أصولية هو الذي يحتاج إلى دليل .
فالأصل في البيوع مثلاً الحل، قال الله جل وعلا : " وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ " . فمن جاء قال هات دليل على أن هذا البيع حلال، نحن لا نحتاج إلى دليل أنت إن قلت إنه حرام تحتاج إلى دليل، والعبادات الأصل فيها المنع إلا ما دل الدليل على شرعيته، قال الله تعالى في سورة الشورى : " أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ " .(1/19)
" هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " .
معنى ((استوى))/
نأتي في الفعل استوى لأنه هذا المسألة تحتاج كطالب علم إلى تحريرها، اسمع يا أخي: العرب تقول هناك فعل لازم وفعل متعدي .
يعني على مهل: تقول: أكل الرجل الطعام.
يقولون: هذا أكل فعل، والرجل فاعل، هذا الفعل أكل تعداه إلى مفعول به الذي هو ماذا ؟ الطعام.
- المتعدي، يقولون هذا المتعدي يتعدى بأحد طريقين:
إما أن يتعدى مباشرة، مثل: أكل الرجل الطعام. وإما أن يتعدى بحرف جر، تقول جلس الرجل على الكرسي. جلس ، فعل، والرجل: فاعل: وعلى الكرسي: جار ومجرور، تعدي بها الفعل ما هو ؟ جلس... جار ومجرور.
أما الفعل استوى، جاء في القرآن على ثلاثة أحوال: جاء لازماً غير متعدي، وجاء متعدياً بحرف الجر على. وجاء متعدي بحرف الجر إلى .
وفي كلا الثلاثة أحوال، في كل حال له معنى ، قال الله جل وعلا عن كليمه موسى في سورة القصص : " وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى " . هل بعد استوى شيء ؟ ما في شيء.
إذا جاءت استوى وليس بعدها شيء معناه: الكمال والتمام.
أي: موسى هنا تمت وكمل عقله ورجولته. هذا إذا لم يتعدى بشيء،
بقينا في الحالة الثانية التي تنقسم إلى قسمين، إذا تعدى بحرف، قال الله جل وعلا في سبع مواضع من القرآن " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " . فتعدى بحرف الجر على . إذا تعدى بحرف الجر على يصبح معناه العلو والارتفاع ، " لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ " إذا تعدى بحرف الجر إلى يصبح معناه القصد يعني قصد من شيء إلى شيء آخر، وهو الذي بين أيدينا .
قال الله جل وعلا " هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء " . حتى تفهم الآية جيداً.(1/20)
خلق الله الأرض قبل السماء .
خلق الأرض في يومين ، ثم قبل أن يتمها جل وعلا وهو القادر قصد السماء ، فخلقها في يومين ، " قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ " .
فخلق الأرض في يومين، بعد أن خلق الأرض في يومين عاد جل وعلا وهو القادر على كل شيء فأكمل خلق الأرض ، فأصبح خلقت السموات والأرض جملة في كم يوم ؟ في ستة أيام، لكن السماء خلقت في يومين والأرض في أربعة أيام.
بدأ الله بالأرض خلقها في يومين، ثم استوى إلى السماء أي قصد السماء، تعدى بحرف الجر إلى ، ثم لما أكمل خلق السماء عاد جل وعلا وأكمل خلق الأرض ولذلك قال جل وعلا في سورة النازعات " وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا " . ولم يقل والأرض بعد ذلك خلقها، لأن خلقها تم من قبل، لكن تركها جل وعلا غير منتهية لحكمة أرادها ثم أكمل خلقها.
نقول: يتحرر من الآية أن استوى فعل يأتي على ثلاث صيغ يأتي غير متعد فيصبح، معناه الكمال والتمام.
ويأتي متعدي بحرف الجر على، فيصبح معناه العلو والارتفاع.
ويأتي متعدياً بحرف الجر إلى ، فيصبح معناه القصد، وهذا المقصود به في الآية هنا.
السماوات السبع /
" ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ " . ذكر الله في القرآن أن السموات سبع، ولم يذكرا في القرآن نصاً صريحاً كلمة سبع أراضين ، لكنها جاءت في السنة ، ودل عليها القرآن.
دل عليها القرآن، في سورة الطلاق، لما قال الله تعالى في آخر الآية " وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ " .
وجاءت به السنة أن من اغتصب شبراً طوق من سبع أراضين، ولا يوجد جواب شافيٍ لماذا لم يذكر الله كلمة سبع أراضين في القرآن فيما نعلم.(1/21)
هذه السموات السبع بعضها فوق بعض أدنى سماء إلينا، تسمى السماء الدنيا، وأعلى سماء تسمى السماء السابعة، ولكل سماء خزنة وأبواب وسكان , أما الأبواب فإن الله يقول في سورة الأعراف " لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء " , وأما السكان فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( أطت السماء وحق لها أن تئط والله ما من موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى ) , وأما خزنتها فإن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج أن جبريل كان يستفتح فيسأله الخزنة من أنت فيقول أنا جبريل ومعي محمد وهؤلاء القائمون على شؤون السماوات . هذه السماوات تفتح لأقوام وتسد في وجه أقوام , تفتح للإيمان والعمل الصالح و الدعوات الصالحات ودعوة المظلوم هذه كلها تفتح لها أبواب السماء قال الله جل وعلا في سورة فاطر " إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ " .
وتسد عياذاً بالله في وجه أرواح أهل الكفر وأهل الفسق " لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء " وتسد في وجه الأعمال التي يخل الإنسان فيها كمن ضيع الصلاة أو فرط فيها وفي الدعوات كقطيعة الرحم والبغي وفي كل ما نهى الله عنه لا تفتح لهم أبواب السماء فتح الله لنا ولكم أبواب السماء .
ثم قال جل وعلا " وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " الباء هنا للإلصاق , وعليم اسم من أسمائه الحسنى . هذا ما تيسر إيراده والفضل لله في أوله و آخره .سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .(1/22)
تأملا ت في سورة البقرة
للشيخ صالح المغامسي
(( الجزء الثاني ))
من صفحة الشيخ صالح المغامسي بموقع صيد الفوائد
http://saaid.net/Doat/almgamce/index.htm
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا , وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له , خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى , وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهاجه بإحسانٍ إلى يوم الدين .
أما بعد.
أيها الإخوة المؤمنون السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
قال الله تعالى في سورة البقرة : " تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ " .
هذه الآية جاءت بعد قول الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم " تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ " فناسب الله بعد أن ذكر المرسلين في ختام الجزء الثاني أن يبدأ بالرسل , وقال الله تلك ولم يقل هؤلاء كما قال في أول القرآن " ذَلِكَ الْكِتَابُ " بياناً لعلو قدرهم ورفيع مكانتهم وجليل منازلهم , أشار الله جلا وعلا إليهم بقول " تِلْكَ الرُّسُلُ " جم غفير أخبر الله نبيه أنهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً أرسلهم الله جلا وعلا .
يتنزل على الآية التي ذكرناها مسائل عدة أولها :.
الفرق بين الرسول والنبي:(1/1)
أكثر المصنفين في كتب العقيدة وغيرها يقول : أن النبي والرسول بينهما فرق , فكل رسول نبي وليس كل نبي رسول , ويقولن أن الفرق :
أن الرسول من أوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه والنبي من أوحي إلية وحي ولم يؤمر بتبليغه , قلنا هذا علية أكثر من صنف لكنه خلاف الحق خلاف الصحيح لأن الله عز وجل أعز وأجل من أن يوحي إلى عبدٍ علماً ويكون هذا العبد سرير الكتمان في صدر ذلك الرجل يموت بموته ولا يؤمر ببلاغة وهذا أمر يتنافى مع الشرع , إذن نقول :
إن هذا التعريف غير مستقيم ولابد من تعريف مستقيم , فنقول :
إن الرسول من أوحي إليه شرع جديد و أما النبي من بعث على تقرير شرع من قبلة. حتى يتضح المثال :
موسى وعيس عليهم السلام , موسى جاء بالتوراة وجاء بعده أنبياء لا يسمون رسل لأنهم كانوا يحتكمون إلى التوراة فهم أنبياء وليسوا رسل , وعيسى عليه السلام لما جاء بالإنجيل خرج عن كونه نبي إلى كونه نبي رسول لأن الإنجيل فيه شريعة غير الشريعة التي جاء بها موسى عن ربه والمدونة في التوراة مع اتفاقهم عليهم الصلاة والسلام أجمعون على أنهم كلهم بعثوا بالتوحيد وباتفاقهم على البعث والنشور واليوم الآخر , فهذا اتفقت علية كلمة النبيين اتفقوا جميعاً أنهم جاءوا بدين واحد و إنما الإختلاف كان اختلافاً في الشرائع فإذا جاء نبي وقرر شرع الذي قبلة فهذا نبي وإذا جاء رسول وجاء بشرع جديد فهذا رسول هذه المسألة الأولى في الفرق بين النبي والرسول.
الرسل بشر لكنهم تميزوا عن البشر بخصائص منها :(1/2)
أولها وأعظمها : الوحي , وثانيها أنهم يخيرون عند الموت وثالثها أنهم يدفنون حيث يموتون , ولذلك النبي كان يخير وسمعته عائشة وهو يقول : " بل الرفيق الأعلى " لأنه كان يخير ودفن في نفس موطن موته في حجرة عائشة كما هو الظاهر اليوم لأن الأنبياء يدفنون حيث يموتون , و رابعها أن الأنبياء لا تأكل الأرض أجسامهم قالوا يا رسول الله كيف نصل عليك وقد أرمت قال إن الله أوحي إلى الأرض أن لا تأكل أجساد الأنبياء فالأنبياء لا تأكل الأرض أجسادهم . الخصيصة الخامسة أنهم أحياء في قبورهم حياة برزخية الله أعلم بها , وقد مر الرسول صلى الله علية وسلم بموسى وهو يصلى في قبره كما أخبر بذلك صلوات الله وسلامه علية .
قال الله في الآية " فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ " هذا قول الله فضلنا بعضهم آية محكمة صريحة واضحة أن التفضيل قائم بين من؟ بين الأنبياء لكنه ثبت عن نيبنا صلى الله علية وسلم في الصحيحين عن حديث أبي سعيد وأبو هريرة رضي الله عنهم وغيرهم أنه قال : " لا تفضلوا بين الأنبياء" وقال عليه السلام " لا تخيروا بين الأنبياء " إذن يوجد ما يسمى بالنطاق العلمي (( إشكال )) لابد من حل ذلك الإشكال , قلنا الإشكال ما بين منصوص الآية وأن الله يقول " فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ " وبين منطوق الحديث " لا تخيروا بين الأنبياء " أجاب العلماء رحمهم الله عن هذا بأجوبة من أشهرها أن هذا كان قبل أن يعلم علية السلام أنه قال ذلك القول قبل أن يعلم بأن هناك تفاضل وهذا أضعف الأقوال في حل الإشكال أنه قال هذا الحديث قبل أن تنزل عليه الآية وقلنا هذا أضعف الأقوال في حل الإشكال .(1/3)
القول الثاني : قال بعض العلماء انه التفاضل يكون ممنوعاً في حالة أن يكون معتمداً على عصبة وحمية أن يأتي كل مسلم يناصر الرسول الذي من الأمة التي هم منها وينتسب إليها عرقاً أو غير ذلك قالوا إذا كان التفاضل مبنياً على حمية وعصبية هذا ممنوع ويجوز فيما سواء ذلك وهذا القول مال إليه كثير من العلماء وعندما نقول كثير غير كلمة أكثر عندما نقول كثير لا يعني الغلبة لكن قال عدد غير محدود من العلماء أما الأكثر فإننا نوازي بين الطرفين .
القول الثالث : ممن أجاب هذا من العلماء الشيخ الإمام الشنقيطي في أضواء البيان قال أن حل الإشكال أن يقال أن الأنبياء يتساوون في أصل النبوة ويكون التفاضل في الأعطية التي خص الله بها بعضهم على بعض .
والقول الرابع : قول ابن عطية رحمة الله كما نقله عن القرطبي وهو الآن موجود ومطبوع وهو أصوب الآراء فيما نعتقد أنه قال رحمه الله أن التفاضل يكون ممنوعاً إذا كان مخصوصاً بين نبياً بعينه ونبي آخر , ويكون مخصوصا يعني بين نبي ونبي , تقول موسى وعيسى ومحمد وإبراهيم وموسى ونوح قال هذا ممنوع لأن هذا يورث شيئاً في الصدور ولكن أن تبين فضل الله على نبي بخلاف ما علية غيره من الأنبياء هذا هو الذي أراده الله في قوله : " فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ " وإلى هذا الرأي نميل والله تعالى أعلم , هذا أجوبة العلماء تبين الإشكال القائم بين الآية وبين قول النبي " لا تفضلوا.." و في رواية كما في الصحيحين "لا تخيروا بين الأنبياء" قال الله " تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ " منهم عائدة على من؟ عائدة على الرسل , من كلم الله إذا أطلق التكليم ينصرف إلى موسى عليه السلام لأن الله قال له في سورة الأعراف : " قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ " .(1/4)
وقال الله جلا وعلا في سورة النساء " وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً " لكن الذين كُُلموا أكثر من واحد , الثابت منهم ثلاثة ( آدم علية السلام ؛ فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم بسند صحيح أنه سُئل عن آدم أنبي هو قال " نعم نبي مكلَّم " ) وهذا نص في المسألة نفسها سُئل عن آدم فقال نبي مكلم ( وموسى بنص القرآن) و (محمد في ليلة الإسراء والمعراج) فهؤلاء الثلاثة منصوص على أن الله كلمهم , والتكليم من أرفع المنازل وأجل العطايا و أسخى الهبات من الرب جل وعلا :
" مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ " , فإن الله رفع الأنبياء وميز بعضهم على بعض , كلم موسى وقال في إدريس في سورة مريم : " وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً " وأعطى داود الزبور وكان نديَّ الصوت به , وجعل نوح أول الرسل إلى الأرض وجعل إبراهيم خليلا , فكل منهم صلوات الله وسلامه عليهم وهبه الله جل وعلا مزية أو فضيلة مع الاتفاق على أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء جميعاً بل أفضل الخلق كلهم جناً وإنساً صلوات الله وسلامة علية .(1/5)
يتحرر من المسألة أن أفضل الأنبياء جملة أُلوا العزم , قال تعالى في سورة الأحقاف : " فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ " وأُلوا العزم هم خمسة قال أكثر العلماء على أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام ورَتَّبتُهم حسب ظهورهم حسب أزمنتهم , هؤلاء قال الله عنهم في سورة الأحزاب : " وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ " , فهذا النص على أنهم أُلوا العزم وأنهم أرفع الأنبياء مقاماً , أهل السنة متفقون على أن الأنبياء جملة أفضل البشر وأنه لا يوجد أحد من البشر أبو بكر فمن دونه لا يرقى أبداً إلى أي نبي من الأنبياء فالنبوة منزلة لا تعدلها منزلة ولا يعدلها شئ , ذهب الشيعة الأمامية إلى أن أئمتهم أفضل من الرسل بخلاف أُلوا العزم من الرسل على قول وعلى قول آخر أنهم أفضل من أُلوا العزم بخلاف نبينا محمد وهذا نقوله من باب العلم وإلا هو قول باطل بلا شك ولا يحتاج إلى دليل لنقضه لأن النبوة مسألة منتهية ثابتة بالكتاب و السنة وأما الإمامة التي يزعمون فلم تثبت بالكتاب ولا بالسنة قال الله : " فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ " ذكر عيسى بعد الأنبياء عموماً يسمى ( ذكر خاص بعد عام ) لأن عيسى ابن مريم يندرج في الأولين يندرج في قوله تعالى " تِلْكَ الرُّسُلُ " لكن الله خصه بالذكر هنا لحكمة هي أن أهل الكتاب ( اليهود،النصارى)اختلفوا فيه ما بين إفراط وتفريط , فالنصارى بالغوا فيه حتى جعلوه إلهاً مع الله , واليهود ذموه حتى حاولوا قتله وكلا الفريقين أخطأ السبيل ولذلك حدد الله جل وعلا ذكره هنا قال سبحانه " وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ " و(1/6)
البينات جمع بينه وهي الأمارة والدلالة والبرهان والوضوح وقد منَّ الله على عيسى بعدت بينات منها انه تكلم في المهد وأنه يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراَ بإذن الله هذا بعض ما من الله به على عيسى .
" وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ " جمهور العلماء على أن روح القدس المقصود به هنا هو جبرائيل ويؤيده من السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم " اهجوهم وروح القدس معك " أي جبرائيل وذهب بعض العلماء كابن السعدي رحمة الله في تفسيره إلى أن المقصود بروح القدس الإيمان واليقين في قلب عيسى عليه السلام .
ثم قال " وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ " الأنبياء لما جاءوا أتوا بالحق فطبيعي أن يختصم الناس فيما جاء به الأنبياء فلما اختصم كل قوم فيما جاء به النبي انقسموا إلى فريقين مؤمن وكافر, كونهم مختلفين يولد بينهم الحرب الاقتتال والحرب فلما جاء الأنبياء والرسل بالعلم من الله بالوحي بالتوحيد بالإسلام أثار ذلك الناس فانقسموا إلى فريقين سواء كانوا قلة أم كثره هذان الفريقان أصبح بينهم اقتتال لعلة الاختلاف ثم أخبر الله جل وعلا أن منهم فريقان منهم من آمن ومنهم من كفر ثم أراد الله أن يبين أن السبب قد يوجد أحياناً ولا يعمل حتى لا تنصرف أذهان الناس أن السبب قد ينفع أحياناً ويضر من غير الله .(1/7)
قال الله بعدها " وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ " هذا التكرار فهمه بعضهم أنه توكيد وقد نتسامح ونقول أنه توكيد لكنه ليس توكيد لمجرد التكرار وإنما المقصود من الآية البيان التالي: الله أخبر أن وجود الإختلاف سبب للقتال ثم كرر وقال ولو شاء الله ما اقتتلوا ليبين انه قد يوجد خلاف ولكنه لا يوجد قتال بإذن من الله بمعنى أن الله يلغي السبب تماماً مثل النار جعلها الله سبحانه للإحراق وقد يدخل إنسان النار ويخرج منها كما حصل لإبراهيم دون أن تؤثر فيه لأن الله لم يرد للنار أن تعمل .(1/8)
أبو مسلم الخولاني تابعي أدرك عمر رضي الله عنه لما ظهر الأسود العنسي في اليمن أمر بنار ليحرق أبو مسلم وهو رجل تابعي من أهل اليمن فأدخله في النار فخرج منها أبو مسلم دون أن يصيبه أي شيء , الأصل أن النار سبب للحرق لكن من الذي جعلها لا تعمل وعطل سببها الرب سبحانه ولذلك كرر الله قوله " وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ " فنحن كمؤمنين نأخذ بالأسباب وبعلمنا أن الذي بيده كل شيء هو الله فنحن وإن أخذنا بها أخذنا بها لأننا مأمورون أن نسلكها لكننا متفقون على أنها لا تضر ولا تنفع إلا بيد الله , سبحانه وتعالى وقد يسقي إنساناً زرعاً فيحصده غيره وقد يجمع إنساناً المال ليأكله فيموت ويأكله غيره وهذا أمر كل عاقل يدركه ليلاً ونهاراً بكرةً وعشياً فيما يراه وينظر إليه , وأنا قلت مراراً إن هارون الرشيد الخليفة العباسي أوكل الخلافة من بعده لابنه الأمين والمأمون وثالثاً آخر منهم وترك المعتصم , وكان له أكثر من أربعة عشراً ابناً , وكان المعتصم في العدد الأخير من أبنائه أي في الثامن أو التاسع ثم أخذ الوثيقة و علقها على الكعبة أخذ فيها العهد من العلماء والمسلمين على أن الخلافة من بعده لابنه الأمين ثم المأمون ثم الثالث وحجبها عن المعتصم لأن أمه لم تكن عربيه فشاء الله أن يموت الأمين والمأمون يقتتلان فيقتل المأمون الأمين على يد طاهر الخزاعي ثم يرث المأمون الخلافة ويموت الثالث في خلافة أخيه المأمون ثم يطول المأمون قليلاً يموت مابين المأمون والمعتصم ثم في ذروة مجده يموت المأمون ثم تأتي الخلافة منقادة إلى المعتصم بخلاف ما أراد والده ولم يأتي بعد ذلك خليفة عباسي إلا وهو من ظهر المعتصم ولم يبقى للأمين والمأمون ولا غيرهم أبناء ولا أحفاد يتولون الحكم انصبت كلها في المعتصم , فأنت تريد وهذا يريد والله يفعل ما يريد , العاقل لا يعطل الأخذ بالأسباب لكنه يتوكل على الملك الغلاب(1/9)
وهذه أمور تجري بقدر الله والله جلا وعلا الملك ملكه والأمر أمره يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد .
ثم قال سبحانه " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ " .
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ " يسميه العلماء نداء كرامه لأن الله تعالى نعت فيه عباده بوصف , ونعت الإيمان أحبُ وصف ونعت إلى قلوبهم , ثم طالبهم بالإنفاق وجعله مبهماً لأن المقصود منه الإنفاق الفرضي والإنفاق النفل على الصحيح مجرد إنفاق إن كان قرضاً أو كان نفلاً هذه تفسره السنة يعتبر في كتب الفقهاء , لكن الله بين هنا سبب الإنفاق وأن الإنسان ينفق في الدنيا حتى يهون عليه الموقف يوم القيامة .
قال سبحانه " مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ " وسنبين لماذا قال الله البيع والخلة والشفاعة وقلنا دائماً ضرب الأمثال من الواقع يقرب , لو أن إنسان إي إنسان عليه ذمه عليه حق يريد أن يسدده لغيره هذا الحق حتى تتخلص منه لن تتخلص منه إلا بأحد طرائق ثلاث :
الطريقة الأولى : أن تشتريه _تدفع ثمن_ وينتهي الحق مثلاً عليك ألف ريال من فلان صدمت سيارته فإما أن تبيع شيءً أو تشتري منه هذا كم تقدر العطل يقول بألف تعطيه ألف ريال وتنتهي القضية
الطريقة الثانية : تعجز أنت عن الألف فتعمد إلى صديق يعينك على دفع الألف _صديق أو قريب أو أي إنسان آخر _ .
الطريقة الثالثة : لا تجد أحد يُدينك أو يعطيك ولكن تعرف شخص ذو وجاهه يعرف هذا الرجل يذهب إليه كشفيع يتشفع عند هذا أن يتنازل عن الحق ولا يوجد حل ثالث .(1/10)
هذه الثلاثة كلها منتفية يوم القيامة أنت لا تستطيع أن تشتري ذنوبك بأي ثمن ولا تستطيعُ أن تذهب إلى أحد ليحملها عنك ولا يوجد شفيع ذو وجاهه من غير الله يستطيع أن يشفع يومئذ إلا ما أذن الله جل وعلا أن يشفع لذلك قال الله " البَيْعٌ " يفسر بالشراء وقال "الخُلَّة" وهي الصداقة و المعرفة وقال "الشَفَاعَةٌ " وهي الوجاهة وكلها منتفية إلا الشفاعة المثبتة شرعاً وسيأتي بيانها .
" لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ" لأنهم عدلوا مع الله غيره وهذا من أعظم الظلم .
ثم ذكر الله الآية الشهيرة المعروفة بـ (( آية الكرسي )) وهي أعظم آية في كتاب الله ثبت عنه عليه السلام أنه سأل أُبي ابن كعب الصحابي المعروف قال " يا أبي أي آية في كتاب الله أعظم فقال أُبي الله لا إله ألا هو الحي القيوم " فضرب الرسول على صدر أُبي بن كعب وقال " ليهنك العلم يا أبا المنذر "
يتحرر من الحديث أن آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله وهذا لا خلاف فيه بين العلماء , يتحرر من الآية نفسها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما رواه ابن حبان بسند صحيح "أن من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت" هذا ما جاء في فضلها أما في معناها فإنا نقول على هيئة نقاط حتى لا نطيل :(1/11)
صدرها الله بلفظ الجلالة " الله " وهو علم على الرب سبحانه وتعالى ولم يطلق على غيره , ثم نعت الله سبحانه وتعالى نفسه باسمين من أعظم أسمائه وهي قوله جل وعلا " الحي القيوم " والحي القيوم قال أهل العلم كل أسماء الله الحسنى مردها إلى معنى هذين الاسمين و يقال أن معنى الحي أن حياة الله جلا وعلا حياة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال حياة الله حياة تامة كاملة , ومعنى القيوم أنه جلا وعلا مستغن عن كل أحد وكل أحد مفتقر إليه , فلا قوام لأحد إلا بالله , والله جلا وعلا غني كل الغنى عن جميع خلقة " اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ " .
ثم قال سبحانه " لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ " بما أن الله جلا وعلا قائم على كل أحد فإن من كمال قيموميته على كل أحد أنه لا تأخذه سنه ولا يأخذه نوم قال صلى الله علية وسلم "أن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام بيده القسط يخفضه ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه منتهى إليه بصره من خلقة" فكل من يخطر ببالك فالله غير ذلك " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ " .
" لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ " اللام هنا لام الملكية المطلقة وقد قلنا أن هناك ملك حقيقي وملك صوري هذه اللام لام الملكية أي جميع من في السموات ومن الأرض عبيد مقهورون للرب تبارك وتعالى .
" مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ " هذا استفهام إنكاري أي لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه يعلم مابين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشي من علمه إلا بما شاء .(1/12)
العلوم أربعة : علم ماضي وعلم حاضر وعلم مستقبل وعلم لم يكن كيف يتصور كونه . وهذه الأربعة كلهن يعلمهن الله تعالى قال تعالى في هذه الآية " يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ " يشمل كل شيء يشمل كل علم , أما العلم الرابع قلنا يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون فيدل عليه قول الله تعالى " لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً " الله يتكلم عن المنافقين أن هؤلاء المنافقين لو خرجوا مع المسلمين ما زادوهم إلا خبالا مع أن المنافقين لم يخرجوا لكن الله أخبر لو كان منهم خروج كيف سيكون الوضع وقال الله عن أهل النار في سورة الأنعام " وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " ومعلوم أن أهل النار لن يخرجوا من النار ولن يعود إلى الدنيا , لكن الله يخبر حتى لو عادوا على أي حال سيتصرفون وهذا معنى قولنا أن الله يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون .
" يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء " كل من لديه علم فالذي علمه هو الله ولا يمكن لأحد أن يأتي بعلم لم يشاء الله له أن يعلمه(1/13)
" وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً " فإذاً أول طرائق طلب العلم ما هو ؟ أن تطلبها ممن ؟ من الله لا يأتي العلم بمداد ولا بصحيفة ولا بالتتلمذ ولا بأي شيء أكثر مما يأتي بالاستعانة بالرب عز وجل فمن أخلص لله النية واستعان بربه على الوجه الأتم علمه الله جل وعلا وساق إليه العلم ماء زُلالا ومن والعياذ بالله ساءت نيته أو اعتمد على قلم ومحبرة وصحيفة ومداداٍ وزيدٍ وعمرٍ وشريط وشيخ اعتماداً كلياً واغفل جانب الاعتماد على الله لم ينل من العلم إلا بقدر ما يريده الله جلا وعلا فمن قرة عينه بالله قرة به كل عين ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات أعاذنا الله و إياكم من ذلك .(1/14)
" يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ " اختلف في معنى الكرسي فقيل أنه العرش وهذا بعيد وهو قول الحسن البصري , وقيل أنه موضع القدمين للرب عز وجل وهذا فيه حديث صححه بعض العلماء , وقيل أن الكرسي معناه العلم معنى الكرسي أي العلم وسع كرسيه السموات والأرض يصبح معنى الآية وسع علمه السموات والأرض وهذا المشهور عن ابن عباس واختاره الإمام ابن جرير الطبري رحمة الله في تفسيره , وبعض العلماء يقولون أن الكرسي شيء ولا يقتحم لجج معرفة معنى الكرسي , الشيخ الإمام الشنقيطي في أضواء البيان تجاوز الآية والعلامة ابن السعدي لم يعرج عليها تعريجاً يبين فيه معنى الكرسي , وابن جرير كما قلت اختار طريق ابن عباس انه العلم , وبعض العلماء كابن كثير وغير مال إلى تصحيح الحديث وقال أن الكرسي موضع القدمين للرب عز وجل وقال بعض العلماء منسوب إلى أبو هريرة أنه موضع أمام الرب عز وجل وقيل غير ذلك وهذا مجمل ما تبناه أهل السنة سلك الله بنا وبكم سبيلهم .
" وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ " الذي نريد أن نبينه أن الكرسي شيء عظيم وعظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق وهذا هو الأمر المهم عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق .
تأمل في نبات الأرض و انضر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات على ورق هو الذهب السبيك
على كثب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
" وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ " أي لا يعجزه ولا يثقل عليه حفظهما .
" الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ " العلي العظيم اسمان من أسماء الله الحسنى , الله جلا وعلا علي في ذاته وعلي في مكانه وعلي بقهره لسائر خلقه وله العلو من الوجوه جميعها بالجر توكيد الوجود .(1/15)
" وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ " هذه آية الكرسي على وجه الإجمال وهي من أعظم آيات كتاب الله كما صح الخبر وبينا عن الرسول صلى الله علية وسلم , لا أظن مسلم يخلوا من انه يحفظها , تحفظ للأبناء للأمهات الكبار التي لا يقرأن ولا يكتبن ينبهن على أنها تقرأ كل دبر صلاه حتى ندخل في قوله صلى الله علية وسلم: " من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاه لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت " جاء في الصحيح عن أحاديث أبي هريرة عند البخاري وغيره " أنها حفظاً وحرزاً من الشيطان" يقرأها المؤمن صباحاً ومساءً غدواً ورواحاً فهي من أعظم آيات كتاب الله المبين .
ثم قال سبحانه : " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "(1/16)
العقائد والشيء القلبي لا يأتي بالقوة أنت الآن تريد أن تجبر إنسان على أن يأكل تستطيع من خلال الضرب أن يأكل أو تريد أن تسقيه شيء لا يريد أن يشربه , بالعقاب تستطيع أن تجعله يشرب لكن الشيء القلبي لا يمكن أن يأتي بالإكراه لأنك لا تدري هل وقع في قلبه أو لم يقع , مثل معلم يأتي بعصا يجبر طلابه أن يحبوه حتى لو قال أحد الطلاب: أنا أحبك لا يستطيع أن يتبين هذا لأن هذا شيء قلبي فلا يمكن الإكراه في المسألة القلبية حتى لو أن الإنسان يتظاهر أمامك أنه يفعلها قد لا يفعلها فالله يقول" لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ " , العقائد ما تأتي بالإكراه ومن معنى الآية كذلك أن دين الإسلام دين فطره لا يحتاج أن يُكره الناس عليه , وما يحصل في بغداد أعظم شاهد كانت بغداد تحت رهينة الحكم البعثي وعقائدهم الكافرة , ثم جاء الأمريكان وهم أسوأ حالاً بعقائدهم الضالة وتجبرهم على المسلمين فلما لم يستطع أهل بغداد أن يتكلموا أمام حاكمهم الأول جاء هؤلاء المغفلون وأعطوهم الحرية , خرج الناس بعد صلاة الجمعة يطلبون الإسلام وهذا الذي لا إكراه فيه والفطر لا تريد إلا الإسلام , وكم من بلد عربي مقهور تحت سلطانه يمنع فيه كثيراً من الطاعات لو قُدر لشعوبه أن تتكلم لطالبوا بالإسلام , فالإسلام دين الفطرة ولذلك موسى وإخوانه من النبيين عليهم السلام كانوا يقولون لفرعون وأمثاله نحن لا نريدك أن تسلم ولكن خلي بيننا وبين الناس نحن إذا دعونا الناس واثقون أنهم سيدخلون في الإسلام , موسى عليه السلام يقول في سورة الدخان " أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ " ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يحارب أبو جهل وأمثاله لأنهم كفار وحتى اليهود كانوا هنا كفار لكن حاربهم لأنهم كانوا يمنعونه أن يبلغ رسالة ربه وإلا لو حال هؤلاء الطغاة المعاندون في كل زمان ومكان مهما تلبسوا لو حاولوا وتركوا أن يكون حائلاً بين الدعاة و بين لناس(1/17)
لآمن الناس وقبل الناس دين الله جلا وعلا ولكن الطغاة والمعاندون والكفرة والظلمة وعلى اختلاف منازلهم في كل عصر يحولون بين العلماء والدعاة وبين عباد الله فتصبح الدعوة مخنوقة فلا يهتدي الناس لأن فيه حائل بينه وبين الدعوة , وبلادنا مثلاً أمثل شاهد على النقيض لما لم يوجد منع للدعوة كما في هذا الدرس مثلاً يأتي الناس طواعية وكراهيةً , لماذا لا توجد مثلاً في تونس وغيرها من الدول العربية لا لأننا أحسن منهم لكن لأن الناس حيل بينهم وبين دعوة ربهم جل وعلا وإلا لو تُرك الناس على حالهم لما ابتغوا غير صراط الله والله يقول " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ " , الرشد الإيمان , والغي هو الكفر والباطل , وقال بعض العلماء كما نُقل عن الشعبي أن تفسير الآية مخصوص بالنصارى واليهود أهل الكتاب والمعنى أنهم لا يكرهون على الدين إذا دفعوا الجزية لكن الأول اشمل واظهر والله تعالى أعلم ثم قال سبحانه" قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ " العروة الوثقى قيل معناها لا إله إلا الله وقيل الإسلام ولا تعارض بينهما , الطاغوت كل ضال يدعو إلى غير دين الله كل ما عُبد برضاه من غير الله .
والإيمان بالله واضح فمن كفر بالطاغوت وآمن بالله يخبر الله أنه استمسك بالعروة الوثقى المؤدية إلى جنات النعيم التي هي مطلب كل مؤمن ,(1/18)
ثم قال الله بعد ذلك : " لاَ انفِصَامَ لَهَا " يا أُخي فيه فصم وفيه قصم , الفرق بين الفصم والقصم كلاهما يعني النزع ولكن الفرق يمثل بشيء محسوس لو أخرجنا هذه الحديدة بالكلية من هذا فهذا يسمى قصم لأنها بانت بالكلية لكن لو أخرجناها وبقي شيء يسير منها معلق بالأصل يسمى انفصام فالشيء إذا بان عن أصله لكنه بقي متعلقاً بخيط ولو رفيع بالأول يسمى انفصام فإذا قضمته بالكلية وصار بينونة منتهية يسمى فصم فالله يقول إن الذي يفعل هذا استمسك بالعروة الوثقى دون انفصام فإذا نفي الانفصام من باب أولى أن ينفى القصم بالكلية .
" َقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " سميع بالأقوال عليم بالأفعال .
ثم قال سبحانه" اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ "
قبل إن نشرح الآية وعظياً نشرحها بلاغياً يوجد في اللغة إفراد وجمع غالب استعمال القرآن إذا وجدَ مفرد مقابل جمع فإن الله يوازن بين فاضل و مفضول أو بين حق وباطل وتأمل القرآن , الله سبحانه يقول " الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ _جمعها _ وَالنُّورَ " _ أفردها _ وقال في النحل " أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ _أفرد اليمين _ وَالْشَّمَآئِلِ _جمعها _ سُجَّداً لِلّهِ " جمع الشمائل لأن اليمين أفضل من الشمال .(1/19)
هنا قال " يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ "_ جمع الظلمات وأفرد النور _ وقال سبحانه " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي _مفرد_ مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُل _جمع سبيل_ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ " دائم الحق واحد والكفر أجناس متعددة يجمعها الباطل فالله يقول في هذه الآية : " اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " الله يا أخي يجيب من سأله ويعطي من طلبه ويأوي من التجأ إليه ومن حسن الظن بالله أن تعلم أن الله لا يضيع من لجأ إليه , الإكثار من صلاة الليل والدعاء في ثلث الليل الآخر والتضرع بين يدي رب العالمين والتماس رحمة الله تبارك وتعالى مع عدم اليأس والقنوط والإلحاح على الله تعالى من أعظم ما ينال به الإنسان خيري الدنيا والآخرة فإن جعلت الله وليك بحق تولاك الله تبارك وتعالى ومن تولاه الله لا يضيع وأنت حينما تردد مع أئمتك أو مع نفسك قول المؤمنين في دعائهم " اللهم إنه لا يعز من عاديت ولا يذل من واليت "رددها وأنت تفقه معناها ولا يعجبك آخر التاءات والسجع وتنشغل به أو بلحن الكلام إنما انشغل بمعنى الكلام اللهم لا يعز من عاديت من عادى الله لا يمكن أن تكتب له العزة مهما بلغ ومن تولى الله فإنه عزيز ولو أراد أن يذله الناس, اللهم لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت قلها في وترك في سجودك في أدبار الصلوات وأنت موقن بها والتمس من الله الرحمة والغفران أن يكون الله وليك فإن كان الله وليك فاعلم أنه لا يقدر على غلبتك أحد وليس غلبتك أن تظهر منتصرا على أقرانك ولكن العبرة بالمآل العبرة بالعاقبة العبرة بالوقوف بين يدي الله تعالى العبرة أن لا تعض يديك يوم القيامة يقول الله في(1/20)
سورة الفرقان : " وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً " زوال الحسرة يوم القيامة من أعظم المكاسب وأعظم المفاوز وأعظم الهبات وأعظم العطايا وهذه لا يعطاها إلا من تولاه الله تعالى " يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ " يكون الإنسان حيران مبهم مدلج عليه الأمر فإذا لجأ إلى الله أنار الله له الطريق وأظهر الله له السبيل وأنت لا تعلم الغيب وقد يختار لك الله شيئاً لا تريده ولكنه يظهر لك بعد مرور الأيام وتوالي الأعوام أن ما اختاره الله لك خيرا مما اخترته لنفسك .
قال الله جلا وعلا بعدها : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "
إبراهيم عليه الصلاة والسلام إمام الحنفاء وإليه تنسب الملة قال الله جلا و علا :
" مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ " فيه لفته قبل أن نذكر المحاجه , كلمة حنيف في اللغة معناها الميل والإنسان الأعرج يقال له أحنف فكيف يوسم الدين بأنه مائل وكيف يوسم رجلاً كإبراهيم بأنه يميل والجواب عن هذا أن الرسل عليهم السلام بُعثوا والناس معوجون عن الطريق أي مائلون عن الحق فلما جاء إبراهيم أو أي رسول بعده جاء والناس معوجه فلوا سار معهم سيصبح معوج فلم اعوج عنهم أصبح مستقيم .
فحنيف معناها الميل عن الميل إستقامة , فبان من هذا إن مخالفة المعوجين يصبح اعتدال و استقامة هذا معنا الحنيفية في اللغة .(1/21)
نعود إلى القصة قال العلماء أن هذا الرجل اسمه النمرود بالذال وقيل النمرود بالدال النمرود ابن كنعان ولا يهمنا اسمه والمُؤرخون نقلاً عن مجاهد يقولون أن الذين حكموا الأرض من المشرق إلى المغرب أربعه اثنان مسلمان والآخران كافران فالمؤمنان سليمان بن داود والثاني ذو القرنين والكافران بختنصر والنمرود ابن كنعان , هذا النمرود كان الناس يمرون عليه أيام الجدب يأخذون منه الميره يعني المؤونه فكل ما يمر عليه شخص يسأله من ربك فيقول ذلك الضال أنت فيعطيه المؤونه ويمشي فلما مر عليه إبراهيم قال النمرود لإبراهيم من ربك قال ربي الذي يحي ويميت وإبراهيم يقصد الذي أحيا الناس من إماتتهم ويفنيهم إذا شاء فقال هذا النمرود فرارا من الإجابة أنا أحيي وأميت , وفي رواية أنه جاء باثنين محكوم عليهما بإعدام قال أنت سامحتك , قال هذا أحييته وجاء بشخص ماله ذنب فقتله وقال أمته وإبراهيم ما قصد هذا والنمرود يعرف أن إبراهيم ما قصد هذا لكن توارياً منه فبقي إبراهيم على نفس المجادلة فيأتي بما هو أعظم منها , وقلت من يتولى الله يتولاه , قال إبراهيم إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتي بها من المغرب قال الله فبهت الذي كفر ولم يقل الله فبهت الكافر لو قال فبهت الكافر يصبح مجرد نعت عام للرجل الذي مر ذكره لكن لما قال فبهت الذي كفر بين الله أن خذلانه في الإجابة كان بسبب كفره , ولذلك الإنسان يصلي الفجر في الجماعة فيخرج وهو مستعين ويردد" لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله " جاء في الحديث الصحيح "إذا قال الإنسان لا إله إلا الله يقول الرب عز وجل صدق عبدي لا إلا أنا وإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله يقول الرب عز وجل صدق عبدي لا حول ولا قوة إلا بي " فإذا خرج الإنسان في حياته اليومية وهو يردد لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يعقد عليها أصابعه فيأتيه موقف مفاجىء هو نفسه لم يستعد له فيلهم إجابة لو جلس عشرين سنه يستعين(1/22)
بالناس لا يعطاها , و يأتي إنسان لم يصلي الفجر ولم يعرف الله إلا قليلا ولا يذكره . فيأتي في موقف يجيب عنه الطفل الصغير فيبهت ولا يستطيع الإجابة لماذا ؟ لعدم الإستعانة بالله , فهذا الرجل ما بهت لأن إبراهيم أفصح ولكن لأن إبراهيم موحد وهذا كافر قال الله " فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ " والدليل أن الله قال بعدها " وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " من ظلم وجعل لله ندا ولم يجعل لله تبارك وتعالى قدرا ولا معرفه ولا مكانه لا يمكن أن يوفقه الله ويهديه لأن الهداية مردها إلى الأيمان والعمل الصالح .
ثم قال الله تعالى : " أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "(1/23)
القرية هي بيت المقدس والذي هدمها وخربها بختنصر والذي مر عليها أختلف فيه قيل إنه عزير وهو بعيد والشاهد أن رجلا مر على تلك القرية وقد خربت فلما رءاها قد خربت وسقطت سقوفها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فهم البعض أن مقصود هذا الرجل أن الله يعيد هذه البلاد تعود من جديد هذا بعيد , لأن أي ديار على ما ترى وأنت في سفرك كثير من الديار تمر عليها قد خربت ثم تعود عاديه , وكم من ديار مبنية عاديه ثم تعود خربه كما في بغداد لكن هو لم يقصد القرية كبنيان لكن هو يقصد أهل القرية كيف يحيون بعد أن يموتون أنى يحيي هذه الله بعد موتها , فالله جلا وعلا رحمة به ورحمة بالناس بعده جعله هو آية فأماته الله بعث إليه ملك الموت قبض روحه مكث مئة عام ميت ثم عاد إليه ملك الموت فأحياه ثم سأله ملك الموت كم لبثت قال لبثت يوما فلما رأى الشمس لم تغيب قال لا بل لبثت بعض يوم فأخبره ملك الموت بل لبثت مئة عام ثم أنظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه لم يتغير.
لم يتغير هذا يردنا إلى القصة الأولى لما قلنا أحيانًا الله يعطل السبب لأن مرور الأيام سبب في تغيير الطعام والماء ولكن الله أبقاه وعطل السبب وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه .(1/24)
وانظر إلى حمارك لأنه كان ميتا وأحياه الله , ولنجعلك أية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها وقرئت ننشرها ولا خلاف في المعنى لأن النشر هو الإحياء والإنشاز هو الرفع وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال الكلمة التي يقولها كل مؤمن " أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " ولو أن الناس وثقوا بهذه الآية لأراهم الله من عجائب قدرته قالوا أن المنصور أبي عامر أحد الملوك الطوائف في الأندلس كان يعمل حمّاراً يسوق الحمير ومعه اثنين على نفس صنعته قال لهم يوماً ماذا تودون مني لو أصبحت أمير للمؤمنين فأخذوا يسخرون منه قال أنتم تمنوا فقال أحدهم وكان عاقلاً أنا أريد قصور وجواري , قال الثاني أنا أريد أن تحملني على حمار وتجعل وجهي عكس الحمار ويطوّف بي على القرية ويقال إني مجنون , ترك هذه الصنعة والتحق جندياً ثم مازال يترفع حتى صار حاجباً للخليفة يعنى الذي يجلس على الباب مثل قائد الحرس الملكي في عصرنا , وكان لهذه المكان منزلة عظيمة عند الناس قديماً بعد ذلك مات الخليفة وكان له ابناً صغيراً لا يصلح للخلافة أُعطي ولاية العهد فصنع له مجلس وصاية مثل ما يقال في عهدنا ولي العهد من عدة مجموعة الوزير والأمير والحاجب منهم المنصور بن أبي عامر , مع الأيام بقدرته وشطارته وبإرادة الله تغلب على الجميع فأصبح هو الأمير قال ائتوني برفيقي فوجدوهما في نفس المكان فأتى بهم فقال الأول ماذا قلت قال قلت قصور وجواري قال أعطوه قصور وجواري قال لثاني ماذا قلت قال أعفني يا أمير المؤمنين أنا نسيت فألح عليه فقال فأمر أن يوضع على حمار ويطوف به على البلاد , تشفع الناس وقالوا أنت حقق الله أمنيتك ماذا تستفيد أن يحمل هذا على حمار مخلوف قال لشيء واحد حتى يعلم أن الله على كل شيء قدير.(1/25)
فا أعلم يا أخي أن الله على كل شيء قدير هؤلاء الذين ترونهم الأمريكيون في ارض بغداد وغيرها نعم ظاهرهم الطغيان وهم ما جاؤوا إلا ليفسدوا في الأرض لا يمكن أن يبيت بوش وأقرانه خيراً لأمة محمد لكن هذا الذي يريدونه هم والذي يريده الله بهذه الأمة من خير عظيم والله ثم والله ثم والله لا يمكن أن يرده بوش ولا غيره قال الله عز وجل في سورة الطور : " أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ " فنصر الله قادم شاءوا أم أبوا رضوا أم غضبوا كيف سيكون لا نعلمه لكن الذي نعلمه يقيناً أنه سيكون كيف سيكون لا نعلمه ؟ متى لا نعلمه ؟ وأرجوا الله أن يكون قريباً لكن ثقوا أنه كم من محنه في طياتها منحة وعطية من الله والأمور كلما ضاقت دل ذلك على أول الفرج .
قال شاعر مسلم :.
وراء مضيق الخوف متسع الأمن وأول مفروح به غاية الحزن
فلا تيأسن فالله ملك يوسفاً خزائنه بعد الخلاص من السجن
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين .(1/26)
تأملا ت في سورة
آل عمران
للشيخ صالح المغامسي
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا و نبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد .
أيها الإخوة المؤمنون : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
كنا قد بدأنا بسورة البقرة وبعد أن أخذنا مقاطع من آيات منها ننتقل بكم إلى سورة آل عمران . ونبين لماذا اتخذنا هذا المنهج ــ للملاحظة هذه المادة هي من درس الشيخ الأسبوعي في مسجد السلام بالمدينة النبوية ــ قلنا أن السبب في هذا المنهج أن بعض طلاب العلم الفضلاء قالوا لو أننا أخذنا القرآن آية آية لطال بنا الأمد والوقت ــ بحمد الله الآن للشيخ في قناة المجد العلمية برنامج يسمى " محاسن التأويل " يفسر القرآن فيه آية آية ــ وبعضنا دارسون لا يمكن لهم الاستمرار لسنوات عديدة والدرس أسبوعي فيكون التحصيل فيه رتيباً لأنه هناك فترة طويلة , فقال الفضلاء من باب المشورة أنه لو اتخذنا لكل سورة من سور القرآن درسين أو ثلاثة ننم على أعظم ما فيها كان أولى حتى نخرج جميعاً بفائدة جمة , فيكون الطالب قد مر على شيء من سورة البقرة وعلى شيء من سورة آل عمران وعلى النساء وهكذا . ثم إننا نقول ونكرر أن الإنسان كلما زادت حصيلته العلمية ومعارفه كان ذلك أدعى لارتباطه في العلم . ثم إن في بعض السور مسائل فقهيه وهذه في الغالب لا نعرج عليها قلنا حتى لا يكون هناك نوع من التكرار بين درسنا ودروس الآخرين من فضلاء العلماء في الحرم النبوي أو في غيره .
على هذا بعد أن اتضح المنهج نقول أن الآيات المختارة من سورة آل عمران هي :(1/1)
من قوله تعالى : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ{59} الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ )) إلى قوله تعالى : (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ )) . والحديث عن ذلك كله على النحو التالي :
أولاً : قال العلماء : " إن من أعظم علوم القرآن أن يعلم أن القرآن نزل لدفع شبه الظالمين وإبطال عناد المعاندين وإثبات البراهين العقلية الموافقة للأدلة النقلية . وقالوا أن هذا الفن لا يدركه إلا الجهابذة العلماء المستبصرون الذين من الله عليهم بإدراك مغازي كتابه " . جعلنا الله وإياكم منهم وألحقنا بهم وإن لم نكن لذلك بأهل .
هذا السبب هو الذي جعلنا نختار هذه الآيات للتفسير .
أما هذه الآيات فالحديث عنها كالتالي :
مناسبة الآيات لما قبلها : أن الله جل وعلا ذكر قبلها قصة عيسى ابن مريم عبدالله ورسوله عليه الصلاة والسلام , فذكر جل وعلا قصة الصديقة مريم وكيف أنها حملت بعيسى عليه الصلاة والسلام وكيف وضعته و ما كان له من آيات وبراهين وكيف أنه دعا قومه وكيف أن الله جل وعلا آتاه المعجزات الظاهرة والبراهين التي تدل على نبوته حتى رفعه الله جل وعلا إليه وسينزل في آخر الزمان بعد أن ذكرها جل وعلا . ثم ذكر قوله تعالى : (( ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ{58} إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ )) إذن هذه مناسبة الآيات لما قبلها .(1/2)
أما سبب نزول الآيات : فالمشهور عند العلماء أن عام الوفود كان العام التاسع للهجرة وهو بعد أن فتح الله لنبينا صلى الله عليه وسلم مكة وأسلمت ثقيف وانتهت غزوة تبوك أتى الناس على هيئة وفود من كل شق إلى نبينا صلى الله عليه وسلم . من جملة الوفود التي حضرت وفد نجران وكانوا على الديانة المسيحية ومنهم السيد والعاقب وهم من رؤوسهم , هؤلاء النفر لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له مالك : " تشتم صاحبنا ". قال ( وما ذاك ) صلى الله عليه وسلم , قالوا : " تقول إن عيسى عبدالله ورسوله " قال : ( نعم هو عبدالله ورسوله ) فجادلته النصارى بأن عيسى عليه الصلاة والسلام لا أب له , قالوا : فقل لنا من أبو عيسى عليه الصلاة والسلام وأتنا بأحد له أب غير عيسى عليه الصلاة والسلام ؟ فأمهلهم حتى ينزل القرآن عليه في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام , فأنزل الله جل وعلا على نبينا عليه الصلاة والسلام قوله هذه الآيات التي نريد أن نشرحها : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) فهذا هو سبب النزول .
بعد هذا نبدأ في تفسير الآيات :
قال الله جل وعلا : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ )) ليس كلمة مثل هنا المقصود بها المثل المعروف الذي يضرب للأشياء , وإنما كلمة مثل هنا بمعنى حاله أو صفه . فيصبح معنى الكلام حالة و صفة عيسى عليه الصلاة والسلام عند الله كحال آدم عليه الصلاة والسلام .(1/3)
ما حال ادم عليه الصلاة والسلام ؟ قال الله تعالى : (( خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) النصارى تقول : إن من أدلة أن عيسى عليه الصلاة والسلام ابن الله أنه لا أب له باتفاق أهل الأرض والرد عليهم , وقلنا هذا من علوم القرآن الرد على كشف شبه الظالمين , أن آدم عليه الصلاة والسلام لا أب له ولا أم زيادة على عيسى عليه الصلاة والسلام . أي إن كان عيسى لا أب له فآدم لا أب له ولا أم , وإن كان عيسى خلق بكلمة كن بعد أن نفخ جبرائيل في رحم الصديقة مريم وكان بأمر الله فإن آدم كذلك قال الله له كن فكان كما أخبر الله في كتابه . فإذن مقارنة عيسى بآدم عليهما الصلاة والسلام ضربها الله جل وعلا دليلاً على بطلان حجج النصارى . لأنه لو كان قولهم إن مجرد أن عيسى لا أب له دليلاً على أنه ابن الله فمن الذي أولى بالبنوة ؟ آدم لأنه لا أب له ولا أم . والنصارى وغير النصارى كل أهل الأرض لا يقولون إن آدم ابن الله . فلما اعترفتم أن آدم ليس ابن الله يجب أن تعترفوا أن عيسى ليس ابن لله . وان الله لم يلد ولم يولد فدمغت حجة النصارى .
(((1/4)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ )) والهاء في خلقه عائدة على آدم خلقه من تراب ثم قال له أي قال لآدم كن فيكون , أي كن فكان . واختلف العلماء لماذا عبر الله بالمضارع بدلاً من الماضي يعني كان السياق أولى أن يقال : خلقه من تراب ثم قال له كن فكان . قال بعضهم ــ من الأجوبة ــ إن العرب تجري المضارع مقام الماضي إذا عرف معنى الحال . هذا جواب ربما فيه شيء من الركاكة . وقال بعضهم ولعل هذا أظهر أن الله أراد أن يبين تمثل المعنى لمن يسمع , بمعنى أن عيسى عليه الصلاة والسلام حتى عندما نفخ جبرائيل عليه الصلاة والسلام في رحم مريم عليه السلام لم يخرج مباشرة يمشي على قدميه وإنما تكون لحماً وعظاماً حتى حملت به تسعة أشهر على الصحيح , ثم ولدته صبياً رضيعاً ثم كان عيسى ابن مريم . فلم يقل الله كن فكان مباشرة إنما قال كن فيكون ليبين التدرج الذي مر به خلق عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .
(( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) هذا أمر عيسى عليه الصلاة والسلام على الوجه الصحيح .
قال تعالى : (( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ )) يعنى هذا الحق الذي أتاك من ربك . وإضافة الرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً للنبي صلى عليه وسلم .
(( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ )) أي لا تكن من الشاكين . وينبغي أن يعلم أنه ليس المقصود من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ممترنٍ أو شاك , فهذا منتفٍ أبداً . إنما المقصود من هذا الأسلوب إثارة الأريحية فيه صلى الله عليه وسلم لأن يقبل الحق من ربه ويعض عليها بالنواجذ هذا تخريج . وقال بعض العلماء تخريج آخر إنه وإن كان المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم فإن المخاطب الحق هو أمته وكل من يسمع القرآن . لكن لا تعارض بين هذين التخريجين .
(((1/5)
الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ {60} فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ )) الهاء عائدة على من ؟ عائدة على عيسى وخلقه .
(( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ )) العلم أي البيان الذي أظهره الله لك في شأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .
يزعم النصارى أنهم مسلمون من قبل ويمنعهم من ذلك :
(( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )) لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وفد النصارى نصارى نجران بالأمر لم يقبلوا , قالوا : نحن مسلمون من قبل فقال صلى الله عليه وسلم :
( يمنعكم من الإسلام ثلاث :
1ـ أكلكم لحم الخنزير .
2ـ وسجودكم للصليب .
3ـ وزعمكم أن لله ولد . )
هذه الثلاث منعت ما يزعمونه من أنهم مسلمون . فلما طال الأمر بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم احتكم إلى المباهلة .
ما معنى المباهلة ؟(1/6)
والمباهلة أصلها مأخوذ من الابتهال وهو الدعاء ويكون غالباً لإظهار الحجة . وقد ربما يخصص كما في الآية في نزول اللعنة وأصل المسألة أنه لما طال الجدال لا هم يقتنعون ولا هم قادرون على أن يقنعوا لأنهم على باطل , احتكم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال قائلاً لهم كما أمر الله : (( نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ )) أي ندعوا ونقول : اللهم العن الكاذب منا في شأن عيسى ابن مريم . فلما كان من الغد قدم صلى الله عليه وسلم ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم أجمعين , وقال : ( إذا أنا دعوت فأمنوا ) . قبل أن نكمل اعترض النصارى وخافوا من المباهلة . وخوفهم من المباهلة دليلٌ على أنهم يعلمون أنه رسول الله حقاً لأنهم لو كانوا على يقين لقبلوا المباهلة .
العلة من جلب علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين :
وكون النبي عليه الصلاة والسلام يأتي بابنته وعلي والحسن والحسين دليل على ثقته فيما يدعوا إليه , لأنه كان بالإمكان أن يباهلهم لوحده ويقول أنا وأنتم ندعوا على بعض أهلك أنا أو تهلكون أنتم , لكن لما أتى بابنته وهي أحب بناته إليه عليه الصلاة والسلام وزوجها علي والحسن والحسين ثم بعد ذلك يدعوا على الجميع دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان واثقاً من حفظ الله له وكان على برهان ويقين أن ما عند الله هو الحق .
(( ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )) الاستطراد هنا وأنا قلت أن الدروس ليس المقصود منها الحرفيات وإنما المقصود منها الفوائد العلمية .
وآية المباهلة تدل على أمور عدة :(1/7)
الأمر الأول : فضل آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم , وهؤلاء الأربعة مع النبي صلى الله عليه وسلم يسمون أصحاب الكساء لأن النبي صلى الله عليه وسلم جللهم أي غطاهم ذات مرة بكساء وقال صلى الله عليه وسلم : ( اللهم هؤلاء بيتي فإذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ) . فهؤلاء آل بيته صلى الله عليه وسلم . وعلي ابن عمه نسباً وهو زوج ابنته فاطمة تزوجها بعد منقلب النبي صلى الله عليه وسلم من معركة بدر في السنة الثانية من الهجرة , قيل تزوجها في شوال وقيل تزوجها في أول ذي القعدة . وتعيين التاريخ هنا تحديداً لا يهم , وأنجب منها عليٌ الحسن والحسين . أراد علي أن يسمي ابنه حرب فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بل هو الحسن ) , ولما ولد الحسين أرادوا أن يسموه حرباً فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بل هو الحسين ) . فالذي سمى الحسن والحسين من ؟ رسولنا صلى الله عليه وسلم .
والحسن رضي الله عنه عاش حتى كانت خلافة معاوية رضي الله عنه , فتنازل عنها لمعاوية رضي الله عنه ليحقن دماء المسلمين . ثم سكن المدينة ومات فيها أيام معاوية . أما الحسين رضي الله عنه فامتد به العمر حتى مات معاوية رضي الله عنه , وولي من بعده ابنه يزيد فخرج من مكة إلى العراق حتى وصل إلى كربلاء المدينة العراقية المشهورة , فلما وصل إليها سأل عنها ؟ قيل له كربلاء قال بل كرب وبلاء , أخذ اشتقاقها من اسمها فكان ما كان . قتل رضي الله عنه في يوم عاشوراء العاشر من محرم , ولذلك الشيعة يحيون هذا اليوم كما هو معلوم .
وإحيائهم لهذا اليوم باطل من عدة أوجه :
باطن بالنقل : لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرعه ولا يقوم دين إلا إذا شرعه الرسول لأنه أعلم الخلق بشرع الله .(1/8)
وباطل بالعقل : لأنهم لو كانوا صادقين في المناسبة العقلية لكانوا أقاموا مأتم على مقتل علي أبي الحسين رضي الله عنهم , وهم يقولون أن علياً أول أئمتهم والحسين الثاني فلو كانوا صادقين عقلياً لأقاموا مأتم على مقتل علي كما قتل الحسين قتل من قبله علي . فهم يمرون على مناسبة علي رضي الله عنه دون ذكر مع أنه مات مقتولاً كما قتل ابنه الحسين رضي الله عنه , ثم يأتون عند مقتل الحسين رضي الله عنه فيقيمون ما يقيمونه . فهذا من الدلائل العقلية والأول دليل نقلي على بطلان ما يصنعه الشيعة في يوم عاشوراء .
الذي يعنينا أن الحسين رضي الله عنه قتل في يوم عاشوراء وقتل معه أكثر من ثمانين من آل بيته ولم ينجوا إلا النساء وابنه علي الملقب بزين العابدين قتل ابنه علي الأكبر وقتل ابنه عبدالله معه وإخوانه الأربعة وبعض آل بيته . وبقى ابنه علي كان مريضاً لم يستطع أن يحارب مع أبيه , فأبقى الله جل وعلا ذرية الحسين رضي الله عنه بنجاة علي هذا الصغير المريض , فكل من ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الحسين فهو من ولد علي زين العابدين كل الحسينية ينتسبون إلى علي الملقب بزين العابدين ابن الحسين ابن فاطمة ابن محمد صلى الله عليه وسلم . وهؤلاء كما قلت آله ولهم في الشرع حق عظيم وينبغي لا إفراط ولا تفريط قال تعالى : (( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى )) . الشورى23. وقال عليه الصلاة والسلام لما شكا إليه العباس رضي الله عنه أن بعض قريش يجبوا بني هاشم قال عليه الصلاة والسلام : ( والله لا يؤمنوا حتى يحبوكم لله ثم لقرابتي ) .
الأمام أحمد رحمه الله و دليل فقهه في الدين :(1/9)
والمعتصم الخليفة العباسي , عباسي أي من ظهر العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم ليس من ظهر النبي وإنما من ظهر العباس . والعباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم وليس ابنه . المعتصم سجن العالم السني المشهور أحمد بن حنبل رحمه الله . فلما سجنه أُخرِج أحمد بعد موت المعتصم وكان أحمد بعد خروجه يجتهد في الدعاء للمعتصم ويسأل الله أن يعفو عنه , فلما كلمه الناس قال رضي الله عنه وأرضاه ورحمه " لا أريد أن أقف بين يدي الله وبيني وبين أحد من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومة " . وهذا من فقه الدين في أن الإنسان يتجنب أن يكون بينه وبين قرابة النبي صلى الله عليه وسلم خصومة كما بينا في قضية الإمام احمد .
الأمر الثاني : في الآية أن الله قال في القرآن على لسان نبيه : ((َ قُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُم )) ومعلوم نقلاً وعقلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له بعد هجرته ابنٌ من صلبه , يعني ليس له ابن ذكر من صلبه ومع ذلك قدم الحسن والحسين رضي الله عنهم , استدل بها فريق من العلماء على أن أولاد البنات في منزلة أولاد الأبناء . يعني مثلاً نفرض رجل اسمه محمد وله بنت اسمها سلمى وله ولد اسمه خالد فأولاد خالد هم أولاده باتفاق الناس لم يخالف في هذا أحد , لكن الخلاف في أولاد البنت هل يعتبرون أبناء أو لا يعتبرون ؟ المسألة خلافية لكن من أدلة القائلين بأن أولاد البنت يعتبرون أبناء هذه الآية فإن الله قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : ((َ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُم )) , والنبي صلى الله عليه وسلم دعا الحسن والحسين رضي الله عنهم , وقال في حديث آخر ( إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين دعواهما واحدة ) . يقصد الحسن رضي الله عنه . فهذا قول من قال من العلماء .(1/10)
وهذه المسألة بالنسبة لطالب العلم متى تظهر ؟ تظهر في الميراث وتظهر في الوقف وكلاهما متقارب فهل ينزل الجد منزلة الأخوة في الميراث ؟ من يقول أن ابن البنت ابن أعتبر الجد كالأب . وعندما يوقف الإنسان حديقة أو مزرعة أو بيتاً فيقول هذه لأبنائي وأبناء أبنائي ولا يحدد فإن قال أبناء أبنائي بمقتضى الآية يدخل من؟ يدخل أولاد الأبناء وأولاد البنات , وقال بعض العلماء بخلاف هذا وهذه المسائل تنظر في المحاكم , لكن أنا أردت أن أبين كيف يستنبط طالب العلم الأدلة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
((َ فقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )) أي نقول اللهم العن الكاذب منا في أمر عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام . الذي حصل أن النصارى خافوا من المباهلة تشاوروا ثم تراجعوا , قال قائلهم والله إنكم لتعلمون إنه نبي ولو باهلتموه لاضطرم عليكم الوادي ناراً , فقالوا ما الأمر بيننا وبينك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( واحدة من ثلاث : الإسلام ـ أي تدخلوا الإسلام ـ أو الحرب أو الجزية ) فاختاروا الجزية فصالحوا النبي عليه الصلاة والسلام على ألف حلة صفراء تقدم له في شهر صفر وألف حلة تقدم له في شهر رجب . فقالوا ابعث لنا رجلا أميناً من أصحابك فقال عليه الصلاة والسلام : ( لأبعثن معكم أميناً حق أمين ) فاستشرف لها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم , فقال عليه الصلاة والسلام : ( قم يا أبا عبيدة ثم قال لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة رضي الله عنه وأرضاه ) .
ولذلك ورد أن عمر رضي الله عنه لما طعن وطلب منه أن يستخلف قال : " لو كان أبا عبيدة حياً لوليته هذا الأمر فإذا سألني الله عن ذلك قلت سمعت نبيك صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ) " .(1/11)
نأتي للآية التي بعدها قال الله عز وجل بعدها : (( فَإِن تَوَلَّوْاْ )) أي فإن لم يقبلوا قوله وأعرضوا عن الدخول في الإسلام فإن الله عليم بالمفسدين . وقوله تعالى : (( فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ )) يجري مجرى التهديد لأنه إذا كان الله عليم بهم وهو قطعاً عليم بهم فإنه سيعاقبهم جل وعلا , وهذا معنى قول الله تعالى : ((فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ )) .
ثم قال الله جل وعلا : (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )) .
هذه الآية قبل أن نفصل معناها يتعلق بها فائدتين :
الفائدة الأولى : أن هذه الآية كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكتبها في كتبه التي يبعثها إلى ملوك العرب والعجم وهو يدعوهم إلى الإسلام كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم .(1/12)
الفائدة الثانية : في حياتنا العملية جميعاً وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم في الصحيح كان يقرأ بها أي بهذه الآية في ركعة الصبح الأخيرة من سنة الفجر , ومعلوم أن لصلاة الفجر سنة قبلية والسنة فيها أن تخفف , النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيها فاتحة الكتاب وبقول الله تعالى : (( قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ )) . البقرة136. ويقرأ بالثانية بهذه الآية : (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )) . إذاً يتحرر من هذا من الناحية العملية أن هذه الآية كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في الركعة الأخيرة من سنة الفجر ويقرأ بغيرها ولو قرأ أي مسلم بأي سور القرآن أو آياته جاز ذلك , لكن أوفق للسنة أن تقرأ هاتان الآيتان .
أما معناها : (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ )) أهل الكتاب يندرج فيها اليهود والنصارى لأنهما أنزل عليهما الكتاب . على اليهود التوراة على موسى عليه السلام وعلى النصارى الإنجيل على عيسى عليه السلام .
(( تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء )) سواء هنا بمعنى عدل وإنصاف .
(( تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ )) هذا إجمال . هذا الإجمال فسرته ما بعدها : (( تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ )) .
إذاً ما الكلمة السواء ؟(1/13)
هي : (( أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً )) . فقول ربنا جل وعلا : (( أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ )) هي الكلمة السواء التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب من اليهود والنصارى إليها .
اليهود يقولون عزير ابن الله والنصارى تقول المسيح ابن الله وكلا الفريقين على خطأ معلوم , فدعاهم النبي إلى كلمة يتفق عليها الجميع وهذه الكلمة لابد أن تكون كلمة عدل (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً )) .
(( وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً )) تأكيد للآية التي قبلها لقوله جل وعلا : (( أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ )) لأن المعنى واحد (( أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ )) أسلوب حصر فيه نفي واستثناء . (( أَلاَّ نَعْبُدَ )) هذا نفي , (( إِلاَّ اللّهَ )) هذا استثناء .
(( وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ )) هذا من بديع أسلوب القرآن لأنه عندما قال سبحانه : (( وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً )) دلالة على أننا كلنا من جنس واحد , فكيف يعقل ونحن متفقون على أننا من جنس واحد أن يصبح بعضنا آلهة خارقة وبعضنا مخلقون , هذا لا يستقيم لا بالعقل ولا بالنقل .
(((1/14)
وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ )) والاتخاذ هنا ليس معناه ولم يقع أنهم كانوا يعبد بعضهم بعضاً بالسجود والركوع والصلاة وإنما كان يعبد بعضهم بعضاً بطريقة أخرى وهي أن أحبارهم ورهبانهم يحرمون ما أحل الله فيحرمه الأتباع ويحلون ما حرم الله فيحلُه الأتباع , وهذه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( تلك عبادتهم ) . قال سبحانه : ((اتخذوا احبارهم ورهبانهم ارباباً من دون الله )) . وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام لعدي ابن حاتم : ( أليسوا يحلون ما أحل فتحرمونه قال بلى قال فتلك عبادتهم ) . فهذا معنى قول الله : (( وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ )) .
من هنا نعلم أن التشريع لله والرسول مجرد مبلغ صلوات الله وسلامه عليه . فمن الله التشريع وعلى الرسول البلاغ وعلينا السمع والطاعة لأننا عبيد مخلوقون لله تبارك وتعالى .
(( فَإِن تَوَلَّوْاْ )) أي فإن لم يقبلوا هذا الذي عرضته عليهم (( فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )) أي نحن باقون على ما نحن عليه من الإسلام واتخاذ الله جل وعلا آله واحد لا رب غيره ولا آله سواه .
ثم قال الله جل وعلا : (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ{65} هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )) ثم قال (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) .(1/15)
مناسبة الآيات عموماً : من العقل والنقل يا أخي أن الإنسان إذا كان متقناً في شيء ما يتبناه الجميع وكلٌ ينتسب إليه وينسبه إلى نفسه . إذا كان الشخص محسن متقن جيد في أمره كل من حوله يتبناه وينتسب إليه ويقول إنه مني وأنا منه لأنه مصدر فخر . إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان أمة كما أخبر الله جل وعلا . فاليهود تقول إن إبراهيم منا والنصارى تقول إن إبراهيم على ملتنا وحتى كفار قريش كما سيأتي يقولون منا والمسلمون يقولون منا , في أول الآية الله عز وجل يقول لما اختصمت اليهود والنصارى في إبراهيم عليه الصلاة والسلام , قال الله لليهود والنصارى : (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ )) . لمَ تجادلون وتخاصمون في إبراهيم (( وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ )) . بين إبراهيم وموسى عليهم الصلاة والسلام مئات السنين وبين إبراهيم وعيسى عليهم الصلاة والسلام أكثر لأن عيسى بعد موسى عليهم الصلاة والسلام . فمحمد عليه الصلاة والسلام عند اليهود والنصارى خبر منه لأنه مذكور في التوراة والإنجيل . فكون اليهود والنصارى عندهم خبر عن نبينا صلى الله عليه وسلم هذا حق , لكن الحق أيضاً أن ليس عندهم علم بإبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنهم جاؤوا بعده وما أسست اليهودية وهي محرفة في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام ولا أسست النصرانية وهي محرفه من شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام إلا بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام فكيف يكون عندهم علم عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هذا لا يمكن عقلاً , ولذلك قال الله عز وجل : (( هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )) معنى يعلم : يعلم حال إبراهيم وأنتم لا تعلمون عن إبراهيم شيئاً .
العقل مكتشف للدليل وليس منشىء له .(1/16)
وفي هذا دليل على أن الإنسان ينبغي عليه أن يستخدم عقله . وقد يقول قائل أن العقل ليس له علاقة بالنقل .
يجب أن تفهم يا أخي ملحظ دقيق يميز من يتبع منهج العقل عن غيره . المسلمون مدركون من أهل السنة أنه لا يمكن للعقل أن ينشىء دليلاً . والدليل في النقل لكن العقل يكتشف الدليل . بمعنى تأتي بمصحف وتأتيه لرجل ذي باع في العلم أعطاه الله عقل , فهو إذا قرأ المصحف يستنبط الأدلة من المصحف . لا يأتي بدليل من عقله لكن قدرته العقلية تمكنه من أن يستنبط الأدلة من القرآن . إنسان ليس عنده حظ من عقل حتى لو نظر في المصحف لا يستطيع بأن يأتي بأدلة يكتشفها من المصحف هذا الفرق . لا يوجد عقل يسير الناس , الوحي هو الذي يسير الناس لكن العقل يكتشف الدليل الموجود الذي في الوحي . ولذلك قال تعالى للنصارى : (( أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )) أي لو عرضتم هذا الأمر على عقولكم الحقة لما قبلته لكن لأنه ليس لديكم عقول تقولون بغير هذا .
الشافعي رحمه الله كيف بعقله اكتشف الدليل ؟(1/17)
الشافعي رحمه الله وهو صبي في السادسة عشر وكان من أذكى الناس مر في السوق فوجد رجلان يختصمان فتدخل لثقته برأيه , قال : ما بالكما ؟ قال أحدهما : هذا كان يبيع طيراً ـ ببغاء ـ ويقول وهو يبيعه : هذا الطائر لا يسكت يتكلم طوال الليل والنهار , قال الذي اشتراه : فأنا اشتريته بناءً على هذا الشرط فلما ذهبت به إلى البيت إذا هو يتكلم أكثر الوقت لكنه يسكت أحياناً فأنا أريد أن أرده . والذي باع يقول : لا ترده أنا لم أقصد الليل والنهار أنه لا يسكت , تخاصما والشافعي رحمه الله كان في السادسة عشر من عمره , فقال للمشتري : ليس لك حجة عليه . فأستصغره قال من أين لك هذا ؟ قال لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لإحدى نساء المؤمنين لما أخبرته أن فلاناً خطبها , قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( أما فلان فلا يطرح عصاه من كتفه ) . والمقصود إما كثرة الضرب وإما طول السفر ـ لكن لا يوجد إنسان يضرب أربع وعشرون ساعة ولا يوجد إنسان يسافر أربع وعشرون ساعة وإنما المقصود غلبة الأمر والكثرة ـ , فاقتنع المشتري فأخذ الطائر وذهب . فالشافعي هنا لم يأتي بدليل من عقله لكن عقله مكنه من أن ينظر في كتاب الله أو في سنة النبي عليه الصلاة والسلام . وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه طالب العلم لأنه إن لم تكن لديه آله عقلية في النظر في كتاب الله لا يمكن أن يكون قادراً على أن يفقه أو يفهم أو يستنبط من كتاب الله شيئاً كثيراً .(1/18)
ثم قال سبحانه وتعالى : (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) قلنا إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان إماماً وإليه تنسب الملة وهو أعظم النبيين بعد نبينا عليه الصلاة والسلام . اليهود تقول إننا على ملة إبراهيم وقالوا لنبينا عليه الصلاة والسلام : " إنك تعلم أن اليهود أولى بإبراهيم ولكن الحسد منعك أن تجهر بهذا " , والنصارى تقول نفس العبارة , حتى عباد الأوثان وعباد النار يقولون " إن إبراهيم منا " . وذلك لأن إبراهيم يشرف كل إنسان أن ينتسب إليه والمسلمون يقولون " إبراهيم منا " . ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة عندما نظر إلى الكعبة قبل أن يدخلها وجد كفار قريش على كفرهم وضعوا صورة لإبراهيم صنعوها من عقولهم وهو يستقسم بالأزلام , وهي الطريقة التي كانوا يفعلونها مع آلهتهم حتى يخرج أحدهم لسفر أو لغيره , فلما رآها النبي عليه الصلاة والسلام وقد جعلوا صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام قال عليه الصلاة والسلام : ( قاتلهم الله والله ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام ) وفي رواية أنه قال عليه الصلاة والسلام : ( ما لشيخنا وللاستقسام بالأزلام ) . المقصود أنه حتى عباد الأوثان نسبوا إبراهيم أنه منهم . فلما كانت المسألة خلاف نزل الحكم من الله والله عليم .
قال الله جل وعلا : (( مَا كَانَ )) وهذا نفي . (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً )) كما تزعم اليهود ولا نصرانياً كما تزعم النصارى . (( وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً )) كما يزعم محمد عليه الصلاة والسلام وأتباعه . (( وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) كما يزعم عبدة الأوثان .
من الذي هو أولى بإبراهيم عليه الصلاة والسلام ؟(1/19)
ثم بين الله بعد أن بين منهج إبراهيم عليه الصلاة والسلام . بين من الذي هو أولى بإبراهيم قال سبحانه : ((ِ إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ )) . ذكر كم فئة ؟ ثلاثة .
وهذا الظهور حسب الترتيب الزمني لأن الذين اتبعوا إبراهيم من قومه كان ظهورهم قبل النبي عليه الصلاة والسلام , قال تعالى ((ِ إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ )) حسب تسلسلهم الزماني ((ِ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ )) الذين ءامنوا به وقت نبوته ورسالته صلوات الله عليه . (( وَهَذَا النَّبِيُّ )) ذكره مفرداً . قال العلماء : " هذا تعظيم وتشريف لنبينا عليه الصلاة والسلام " . (( وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ )) من أي أمة ؟ من أمة محمد عليه الصلاة والسلام على الصحيح من أقوال العلماء .
فأصبح إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يتولاه ثلاثة :
المؤمنون الذين معه , ونبينا عليه الصلاة والسلام , والمؤمنون من هذه الأمة .
لكن النبي عليه الصلاة والسلام أفرد قلنا تعظيم له لأنه عليه الصلاة والسلام أولى بإبراهيم من جهتين :
الأولى : لأنه من ذريته .
والثانية : لأنه موافق له في ملته .
لم يبعث نبي بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا وهو من ذريته .
إبراهيم عليه الصلاة والسلام من إكرام الله له لم يبعث نبي بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا وهو من ذرية إبراهيم , قال تعالى في آية حصر : (( وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ )) العنكبوت27. فما بعث نبي ولا رسول بعده عليه الصلاة والسلام إلا وهو من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام .
(((1/20)
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ )) . قال العلماء : " دلت الآية أيضاً على أن المؤمنين مهما تباينت أقطارهم المكانية وتفاوت ظهورهم الزماني فإنهم أولياء بعضهم لبعض لأنهم جميعاً يفيئون إلى ملة واحدة , وهي ملة إبراهيم القائمة على توحيد الله تبارك وتعالى . واليوم أعداء المسلمين لا يحاولون شيئاً أن يثيروه بين المسلمين أكثر من تفريق الكلمة وإيثار النعرات القائمة إما على عرق أو على مذهب أو على مكان أو على ظهور زماني حتى يتشتت شمل الأمة , فإذا تشتت شملها انشغل بعضها ببعض , وأرادت كل فئة منها أن تقيم لواءها , فاقتتلوا وكفوا غيرهم مهمة القتال فأصبح غيرهم قادراً على أن يحتلهم بيسر وسهولة . وفي مواضع الفتن العظمى كما هي في عصرنا هذا وفي الأحداث الأخيرة في العراق فإن جمع الكلمة وتوحيد الصف وغض الطرف عن كثير من الخلافات مقدم على أكثر الأمور , لأن الدين قائم على جلب المصالح ودرء المفاسد . ولكل مرحلة من مراحل عمر الأمة ما يتماشى مع أوامر ونواهي وتطبيقات وأحكام شرعية تختلف من حال إلى حال ومن زمان إلى زمان , والمعيار في ذلك كله مصلحة الأمة وعدم تمكين عدوها منها .
(( وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ )) طائفة تطلق على الجماعة من الناس . والود هنا بمعنى الرغبة .
(((1/21)
وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ )) يعني كان مراد بعضٍ من اليهود و بعضٍ من النصارى أن يردوكم عن إسلامكم لماذا؟ لأنهم يعلمون أن الإسلام حق , لكن الإنسان إذا حسد غيره لا يتمنى الخير له . جرت سنة الله في خلقه أن الهالك يتمنى أن يهلك الناس معه . فالذي واقع في سلك المخدرات , والواقع في سلك النساء , والواقع في سلك كذا و كذا من المعاصي والجرائم هو لا يريدك أن تكون معه حباً فيك أو يريد لك الخير , ولكن يدفعه إلى ذلك أن كثرة الناس في الشر تهون الشر على نفسه .
وأنت خذها بمثال واقعي بسيط لو أن ابنك أخبرك أن نتيجته في الامتحان غير موفق لَلُمْتَهُ كثيراً , ولكن لو أن هذا الابن أخبرك أن الفصل كله على هذا النحو لخف لومك على ابنك . وهذا من سنة الله في خلقه ولذلك إبليس لما غوى وتمت عليه اللعنة هَمَّ أن يعصي بني آدم كلهم . يريد ويرغب في ذلك حتى لا يقع في الهلاك لوحده . فأهل الإشراك وأهل الكفر من أهل الكتاب لما وقعوا فيما وقعوا فيه ومنعهم الحسد أن يتبعوا نبينا عليه الصلاة والسلام رغبوا في أن يضلوا المؤمنين , والله جل وعلا يقول : (( وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ )) لأن الله تبارك وتعالى يحمي أولياءه وينصرهم ويمنع عنهم كيد الأعداء .
ثم قال الله جل وعلا (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ )) أي تشهدون . ومفعولها هنا محذوف . والمعنى : أنكم تشهدون البراهين العقلية والنقلية التي تدل على أن الله جل وعلا حق . وكفركم مع كونكم تشهدون الآيات من أعظم الدلالة على العناد والمرض المستقر في قلوبكم . لأن كون الإنسان يكفر ولما تظهر له الأدلة بعد . أمر هين لكن إذا ظهرت له الأدلة و تتابعت وتظاهرت ومع ذلك أصر على كفره فذلك دلالة على الران الذي في قلبه وعلى أنه أبعد إلى الحق منه إلى الباطل .(1/22)
من أساليب تسمية كتاب الله جل وعلا سور القرآن :
وهذا الذي كنا فيه قلنا إن سورة آل عمران سورة مدنيه , ونبين إن من أساليب تسمية كتاب الله جلا وعلا سور القرآن يسمى الشيء باسم بعضه . وهذا أمر كانت العرب تستخدمه في كثير من الأمور . فسميت سورة البقرة بسورة البقرة لأنه جاء ذكر قصة البقرة فيها , وسميت سورة آل عمران بسورة آل عمران لأن الله جل وعلا ذكر فيها عمران وآله وعلى هذا يقاس كثير مما في كتاب الله وهو ظاهر بين . وإنما الخلاف بين العلماء هل إن تسمية سور القرآن كان من النبي صلى الله عليه وسلم أو من أصحابه رضي الله عنهم أو غير ذلك , والذي يظهر والله جل وعلا أعلم أن تسمية سور القرآن تسمية توقيفية بمعنى أن الصحابة رضي الله عنهم سموها بإشارة وأمر وإرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم .
وسورة آل عمران تكلمت كثيراً عن أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ وبحثتْ كثيراً في مواضيعهم . وسبب ذلك أمران :
الأمر الأول : قدوم وفد نجران كما بينا في الأسبوع الماضي قدوم وفد نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما حصل بينهما من مجادله انتهت إلى الإقرار بالصلح بينهما وكانت تلك الأسئلة التي طرحها وفد نجران سبب في نزول كثير من آيات سورة آل عمران .
الأمر الثاني : ما كان من أحداث من أهل الكتاب من اليهود المجاورين للنبي عليه الصلاة والسلام في المدينة فكان القرآن ينزل ليبين كثيرا من أمورهم ومعايبهم وما يكون بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام من أحداث . فجل ما في السورة من ذكر أهل الكتاب كان هذا سببه وفي السورة آيات أخر لا علاقة لها بأهل الكتاب كغزوة بدر وغزوة أحد وغيرهما مما هو معروف في مظانه . لعل الله جل وعلا أن ييسر شرحه .(1/23)
أما الآية التي بين أيدينا فإن الله يقول : (( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) حب المال أمر مفطور في النفوس قال سبحانه : (( وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً )) الفجر ( 20 ) . وقال جل وعلا عن بني آدم : (( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ )) العاديات ( 8 ) . والأمانة في إنفاذها وفي إعطاءها لا علاقة لها بالإيمان والكفر إلا شيء يسير . فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كذب أعداء الله ـ يقصد اليهود ـ كل أمور الجاهلية تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى بر و فاجر) تؤدى إلى البر والفاجر فلو قدر أن لأحد من الناس له أمانة عندك وإن كان فاجراً فإن فجوره لا يمنعك من تأدية الأمانة إليه فمسألة كونه كافر أو فاجر أو فاسق لا علاقة له بأحقية الأمانة التي له عندك هذا كمفهوم عام للآية .
الآية فيها وقفات عدة منها:(1/24)
إنصاف الرب تبارك وتعالى . وأن الله جل وعلا حكم عدل فبرغم أن اليهود قوم بهت نعتوا ربهم بأقبح المعايب تعالى الله عما يقولون الظالمون علواً كبيرا , ومع ذلك فإن الله جل وعلا يقرر في هذه الآية أن من هؤلاء اليهود على ما فيهم من معايب منهم من لو أمنته وضعت عنده قنطار والقنطار آلاف من الدنانير يعني مبلغاً كثيراً من المال لو وضعت عنده قنطار آلاف من الدنانير ثم طلبتها منه يردها إليك رغم أنه يهودي . وإخبار الله بهذا دلالة على إنصاف الرب جل وعلا وأن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة فقول الله جل وعلا : (( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ )) إن وضعت عنده قنطار أمانه رده إليك كما هو تام رغم أنه كتابي إما يهود وإما نصارى وهذا كفر لكن كفره لم يمنعه من تأدية الأمانة .
سنقف كثيرا في اللغويات حتى تفهم كلا م الله لكن لا تستعجل إتيان الثمرة :
ثم قال سبحانه : (( وَمِنْهُم )) و (( مَّنْ )) في الحالتين بعضيه .
وقلنا إننا سنقف كثيرا في اللغويات حتى تفهم كلا م الله لكن لا تستعجل إتيان الثمرة . العلم يا أخي كالبنيان . والبنيان لا يعرف من أول يوم وإنما يعرف بعد تمامه . فما تأخذه من علم في هذه الحلقة أنت لوحدك به , وإنما تقوم على علم تأخذه من هاهنا ومن غير هذه الحلقة , وشيء تقرأه و شيء تسمعه وآخر تدونه حتى يجتمع لديك علم جم . لكن لا تحسبن أن أحدا يمكن أن يعطي الناس العلم كاملاً لوحده هذا لن يقع ولم يقع لأن الله عز وجل قسم العلم وفضله بين الناس . لكن أنت تأخذ أمور ترشدك بعضها على بعض .
أقول إن ( من ) هنا بعضيه وحتى يتم المعنى وحتى تعرف الفرق بين ( من ) البعضيه و( من ) أخرى .
( من ) أخرى بيانيه , معنى الكلام لو جاء إنسان ضفته أنت في بيته فأعطاك فاكهة , الفاكهة هذه منوعه ثم غاب عنك ثم جاء يسألك من أي الفاكهة أكلت قلت من كذا , نفرض قلت من البرتقال هذه ( من ) ما هي ؟(1/25)
بيانيه فأنت بينت أي نوع من الفاكهة أكلت .
أما ( من ) التي بين أيدينا (( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ )) هذه ( من ) بعضيه , بمعنى بعض من أهل الكتاب وليس الكل .
(( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ )) لا يساوي شيء (( لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً )) ما دمت عليه قائماً هذا كناية , كناية عن الإلحاح والمواجهة وشدة الطلب وأنت تتعقبه من مكان إلى آخر حتى يؤدي إليك ماذا ؟ الدينار والذي قبله يؤدي إليك القنطار رغم انه أضعف وأكبر من الدينار مرات عديدة لكن الأول أمين والثاني خائن . وقلنا أن الأمانة تؤدى لكل أحد يستحقها إن كان باراً أو إن كان فاجراً , (( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً )) كناية عن الإلحاح كثره المواجهة كثره الطلب تنتقل معاه من مكان حتى يؤدي إليك حقك .
(( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) هذه (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ))
جملة تعليليه ينجم عن الآية ما يلي :
أن في اليهود قوم مؤتمنون وهم قلة وقم خائنون وهم كثرة . وهؤلاء الخائنون علتهم في الخيانة يعنى إذا قيل لهم لماذا لا تؤدوا الأمانات ؟ قالوا : (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) .
(( الأُمِّيِّينَ )) جمع أمي وهو في اللغة من لا يقرا ولا يكتب .
أما المقصود بها هنا فهم أمة العرب من يقرأ ومن لا يقرأ قال الله عز وجل وقلنا إن القران يفسر بعضه بعضاً (( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ )) الأميين من ؟(1/26)
أمة العرب فقول اليهود : (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) اليهود يقولون إن هؤلاء العرب قوم أميون لا دين لهم ولا يرونهم شيئاً لأن اليهود يرون أنفسهم شعب الله المختار , ويقسمون الناس غيرهم طبقات فلا يرون العرب شيئاً ويقولون إن المال الذي في يد العرب أصله لنا فإن حصل بيننا وبينهم تقاضي بيع وشراء وأمانه فلا حاجه أن يرد إليهم المال لأن المال أصلاً لنا .
فالمعنى الحرفي لقول الله جل وعلا : (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) أي ليس علينا إثم ولا حرج ولا وزر أن نأكل أموال الأميين فما من طريق يصل إلينا بها المحاسبة (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) وقلنا أن الأميين يطلق على العرب لأن الأصل أن العرب أمة لا تقرأ ولا تكتب . قال صلى الله عليه وسلم : ( إننا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب , الشهر هكذا وأخذ يشير صلى الله عليه و سلم بأصابع يديه ليفهم من حوله ) , والنبي عليه الصلاة والسلام نعت في القرآن بأنه نبي أمي قال شوقي :
يا أيها الأمي حسبك ربتة فالعلم أن دانت بك العلماء
أما لماذا بعث النبي أمي ؟(1/27)
فليقطع الله جل وعلا ألسنه المشككين وشبه المعاندين فإن النبي عليه الصلاة والسلام جاء بالقرآن من عند ربه أبلغ كتاب وأعظم عبارات وأجل كلام فلو كان عليه الصلاة والسلام يقرأ ويكتب من قبل لقال عنه الكفار إن هذا الكتاب الذي أتى به أخذه عن من ؟ أخذه عن غيره لأنه يقرا ويكتب فما زال يطالع أربعين سنة ثم بعد أربعين سنة من المطالعة والقراءة والكتابة والاستكتاب خرج إلينا بهذا القرآن فبعث الله جل وعلا نبيه أمي لا يقرأ ولا يكتب , قال سبحانه : (( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ )) يعني لو كنت تقرأ وتكتب (( إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ )) العنكبوت ( 48 ) . لكنه النبي عليه الصلاة والسلام كان أمي لا يقرأ ولا يكتب وهذا من فضل الله جل وعلا عليه .
نعود إلى مسألة مهمة فالأمية في حق النبي صلى الله عليه وسلم منقبة وفي حق غيره مثلبة .
يحسن بالرجل أن يقرأ ويكتب ولذلك قال الله جل وعلا : (( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ )) العلق ( 1 ) . فلا يأتي إنسان ويقول نحن ننتسب إلى أمة أميه فلا حاجه لأن نقرأ ولا نكتب , هذا النبي عليه الصلاة والسلام أمي حتى يقطع الله على يديه ألسنة المعاندين أما نحن ففي حاجة ملحة لأن نقرأ ونكتب ونزداد علماً .
وليس الأمي المقصود بها النبي عليه الصلاة والسلام عدم العلم وإنما قلت القراءة والكتابة وإلا العلم شيء آخر , فقد يكون من العلماء من لا يقرأ و لا يكتب يأخذ علمه بالتحصيل ويعطيه بالتلقين .
ثم قال سبحانه : (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) أي يعلمون أنه لهم وعليهم في الأميين سبيل ثم قال سبحانه : (( بَلَى )) هذه (( بَلَى )) جواب من الرب سبحانه على دعوى أهل الكتاب ليصبح المعنى بلى عليكم في الأميين سبيل .(1/28)
ثم قال سبحانه : (( بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )) هذه من (( مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى )) جملة استئنافية و (( بَلَى )) منقطعة عنها جواب من الرب سبحانه لما قبلها . أما معنى قول الله جل وعلا : (( مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )) أي من عاهد إنساناً على أمانة وردها وأتم العهد فإنه قد أتم الشيء الذي عليه واتقى ربه ,
وهذا من أسباب حصول محبة من ؟ محبة الله سبحانه وتعالى قال الله جل وعلا : (( فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )) .
ينجم عن الآيات كلها فوائد عدة لأن القرآن إنما أنزل ليكون منهجاً يسير عليه الناس :
الفائدة الأولى : ينبغي أن تفر في عباراتك وكلامك من ألفاظ العموم لأن ألفاظ العموم تجمع ما بين البر والفاجر والمخطئ والمصيب وليس هذا من العدل في شيِ . فقلنا هؤلاء يهود ومع ذلك لما تكلم الله عنهم سبحانه فصل ولم يقل جل وعلا إن اليهود كلهم لا يؤتمنون , وهذا أسلوب قرآني يعرفه كل من تدبر القرآن وسيأتي في آل عمران أن الله قال : (( لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ )) . فالإنسان العاقل عندما يتكلم أو يحكم على قوم أو على جماعة أو على دار أو على مدرسة أو على أي شيء أو على أمة لا يحكم حكماً عاماً ولا حكماً جماعياً وإنما يفر من ألفاظ العموم على منهج القرآن الذي بينه الله جل وعلا للناس .(1/29)
الفائدة الثانية : الحق من قول أو فعل يقبل من أي أحد . دل على هذا هذه الآية عن طريق التلميح ليس عن طريق التصريح , ودلت آيات أخر عن طريق التصريح أن الحق يقبل من أي أحد , بلقيس كانت تحكم اليمن وكانت تعبد الشمس كما قال الهدهد : (( وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ الله )) النمل ( 24 ) .لما حصل ما حصل من بعث سليمان عليه السلام الخطاب لها وأخذت تستشير قومها قالت لهم : (( قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً )) هذا كلام من ؟ كلام بلقيس في كتاب الله قال الله بعدها : (( وَكَذَلِكَ يَفْعَلُون )) فالله جل وعلا صدقها على قولها رغم أنها عابدة ماذا ؟ عابدة شمس . الكفار القرشيون قال الله عنهم : (( وإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا )) الأعراف ( 28 ) . فذكروا سببين لفعل الفاحشة فلما رد الله عليهم قبل الله الأولى ولم يردها رغم أنهم عباد وثن يعبدون اللات والعزى لكن الله قبل قولهم أنهم وجدوا عليها آباءهم فلم يرد عليهم لكن رد في الثانية جاءت الآية (( قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )) الأعراف ( 28 ) . لأنهم كذبوا في قولهم أن الله أمرهم بها لكن عندما قالوا (( قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا )) كانوا صادقين فلما كانوا صادقين أن آباءهم ورثوا هذا الشيء من آباءهم لم يرده الله جل وعلا عليهم .
فالحق يا أخي يقبل بصرف النظر عن قائله , وأما الخطأ فانه يرد بصرف النظر عن قائله .
فالخطأ يرد لكن إن كان قائله معروف بالعلم والصلاح والتقوى فانه يعتذر له ولسْتَّ ملزم بقبول القول لكنك لا تقع في عرضه .(1/30)
الفائدة الثالثة : أنه يجب تأدية الأمانات إلى أهلها فالدَّين شأنه عظيم عند الله تبارك وتعالى ومن يستدن ليأكل أموال الناس يضيعه الله جلا وعلا كما يريد أن يضيع أموال خلقه , ومن استدان ليسد ثغرة وإنما منعه العجز عن رد الدين فهذا يسدد الله جل وعلا عنه ولا يأثم . وكيف نعرف أن فلاناً يستدن من أجل تضييع أموال الناس أو من أجل الرد ؟ هذا يظهر من طبيعة المعاملة , فمثلاُ لو أن إنساناً تاجراً احتاج إلى مئة ألف ثم اقترض من رجل ما مئة ألف وقامت تجارته ثم انكسرت تجارته ثم لم يبقى في يديه إلا أموال يسيره ألف , ألفين , ثلاثة , فجاء اشترى بهذه الألف أو الألفين شيئاً لبيته فلا نقول له يجب أن تسدد المائة ألف , لأن هذه الألف والألفين ريال مثلاً لا تنفع صاحبها , وإنما تنفع الرجل في بيته وهي لا تنفع صاحبها الأول , لأن المبلغ زائد عن الحد عن قدرة هذا المستدين , لكن إذا كان الإنسان ينفق في شيء زائد عن حاجته بمقدار أكثر قليلا أو أقل مما هو مستدينه يدخل في من لم يفي بحق الأمانة بينه وبين الناس . وإذا كانت الشهادة ترفع بها كل إثمٍ إلا الدين كما قال صلى الله عليه وسلم : ( أخبرني به جبريل آنفاً ) فهذا يبين أن الأمانات بين الناس شأنها عظيم ومن حاول وجاهد في تأدية الدَّين عن نفسه أدى الله جل وعلا عنه وأعانه ربه تبارك وتعالى .
ثم قال الله سبحانه في الآية التي تليها : (( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) .(1/31)
المناسبة بين الآيتين السابقة واللاحقة : الآية السابقة بيان للمعايب المالية وأما الآية التي بعدها بيان للمعايب الدينية في اليهود في عقائدهم . قال الله جل وعلا : (( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ )) اللي هو الميل تقول لوا فلان يدا فلان أي أمالها . (( يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ )) أي يحرفون الكتاب لفظاً ومعنى وينطقونه على هيئة من يغررك أنه من كلام الله .
(( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ )) اللام للتعليل والفعل بعدها منصوب وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة وأصل الكلام تحسبونه بالنون لكن حذفت النون لدخول لام التعليل . (( لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ )) إذاً (( وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ )) ( ما ) هذه ما نوعها ؟ نوعها نافيه .
(( ومَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ )) المعنى أنهم لم يكتفوا فقط بأنهم يحرفون في الكلم حتى يلبسوا على الناس أن ما يقولونه من عند الله بل زادوا على ذلك إثماً فلم يكفيهم التلميح وإنما لجؤوا إلى التصريح وصرحوا كفراً وكذباً بأن ما يقولون هو من عند الله وهم يعلمون يقيناً أنه ليس من عند الله , قال سبحانه : (( وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) أي يفعلون ما يفعلون من كذب وخداع وتمويه على الناس وهم يعلمون حقيقة أنهم يأتون الباطل بعينه فلا يرتدعون عنه وهذه نعت مما نعت الله جل وعلا به اليهود .
فتَحَصَّل من الآيتين معيبان : المعيب الأول مالي والمعيب الثاني ديني (( وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) .(1/32)
ثم قال سبحانه : (( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) نعود لقضية المال الناس يتعاملون بالمال , حب الدنيا العاجل يدفع البعض والعياذ بالله لأن يحلف كذباً حتى ينال شيء من حطام الدنيا الزائلة وهذا أكثر ما يكون في التجار وهو وإن كان في اليهود يظهر إلا أنه ليس مختص بهم وحدهم وإنما يكون في كل صاحب سلعه في الغالب يريد أن ينفقها ويكون في غير أصحاب السلع . والمعنى أن الحلف بالله شيء عظيم وإعطاء العهد بالله تبارك وتعالى شيء أعظم .
فإذا كان الإنسان يبيع هذين العهد والحلف بالله من أجل أن يشتري شيئاً من الدنيا يعلم انه زائل كذباً وميلاً وزوراً فهذا توعده الله جل وعلا برواعد وزواجر عدة من أهمها :
أن الله جل وعلا لا يجعل له في الآخرة حظاً ولا نصيباً وهذا معنى قول الله جل وعلا : (( لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ )) فالخلاق هنا بمعنى الحظ والنصيب فلا حظ لهم ولا نصيب , (( وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ )) وهذا والعياذ بالله منتهى الحرمان , (( وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) وهذا اشد , (( وَلاَ يُزَكِّيهِمْ )) أي لا يطهرهم وتطهير الله لعباده يكون بغفران ذنوبهم وستر معايبهم , (( وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) .
ويتحصل من هذا فقهياً ما يلي :
أن الأيمان ثلاثة :(1/33)
الأولى : يمين اللغو : تجري على ألسنة الناس لا يتعمدونها ولا يقصدونها فهذه قال الله جل وعلا عنها : ((لاَّ يُُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ )) , يقول الرجل " بلا والله " , " كلا والله " , " اجلس والله " فهذه تجري على اللسان لم يتعمدها العبد فهذه أسماها الله جل وعلا لغواً وأخبر جل وعلا أنه لا يؤاخذ عليها .
اليمين الثانية : تسمى اليمين المنعقدة : وهي التي قال الله جل وعلا عنها (( وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ )) وهذه تكون في الأمور المستقبلية " تفعل أو لا تفعل " , " تترك أو لا تترك " , فهذه إن وقعت على خلاف ما قلت يلزم منها كفاره اليمين .
وكفارة اليمين : واحد من ثلاث على التخيير إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة . فإن أعتق رقبة أو أطعم عشرة مساكين أو كسا إنساناً ما يكفيه لأن تقام بلباسه الصلاة يستر عورته في الصلاة . هذه الثلاثة على التخيير فإن لم يستطع أن يحرر رقبة ولم يستطع أن يطعم عشرة مساكين ولم يستطيع أن يكسوهم ينتقل في حالة العجز عن هذه الثلاثة بالتخيير ينتقل إلى الصيام , والمشهور عند العامة أن الصيام مواز لهذه الثلاثة وهذا خطأ . فإن هذه الثلاثة بينها التخيير قال الله جل وعلا : (( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ )) أي واحد من هذه الثلاثة (( فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ )) المائدة ( 89 ) . فلا ينتقل إلى الصيام إلا إذا عجز عن واحدة من هذه الثلاث .
هذان الاثنان لا علاقة له بالآية , الأخير هو الذي له علاقة بالآية .(1/34)
اليمين الثالثة : التي يحلفها الإنسان على شيء قد مضى , " يحلف على شيء لم يكن على أنه كان وعلى شيء قد كان على أنه لم يكن " هذه تسمى يمين غموس ولأنها من كبائر الذنوب لم يجعل الله جل وعلا لها كفارة , فتسمي يمينٌ غموس يمينٌ فاجرة , يلزم فيها التوبة النصوح والتخلص من المظالم والأوبة إلى الله جل وعلا . قال صلى الله عليه وسلم كما عند الستة من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : ( من حلف على يمين فاجرة وهو كاذب ليقطع بها مال امرئ مسلم لقي الله جل وعلا وهو عليه غضبان ) عياذاً بالله . وكفى بالمرء إثماً أن يلقى الله جل وعلا وربه تبارك وتعالى غضبان . وبالاستقراء أي في النظر في أحوال الناس عبر التاريخ أن كل من يحلف على يمين كاذبة يعاقبه الله جل وعلا قبل أن يموت . وهذا في محلات السيارات وأمثالها كثير خاصة إذا كان في قسمه وأيمانه مضرة على إنسان مسلم , كشهادة الزور تودي بأخيه المسلم وتضر به في الدنيا فهذه اليمين تبقى ملتحقة به وينتقم الله جل وعلا منه .(1/35)
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أبو إسحاق أحد العشرة المبشرين بالجنة . بعثه عمر رضي الله عنه أميرا على الكوفة فمكث فيها ما شاء الله , ثم جاء وفد من الكوفة فسألهم عمر رضي الله عنه عن سعد ؟ فكأن بعضهم ألمح على أنه لا يريده ,فبعث عمر رضي الله عنه و كان حاكماً عادل أشبه ما يسمى في أيامنا هذه بلجنة تتقصى الحقائق , فجاءت هذه اللجنة إلى الكوفة فأخذت تسأل الناس عن سعد في المساجد فيأتون المسجد يقولون كيف أميركم سعد ؟ فيدلي الناس بإجاباتهم حتى دخلوا مسجداً لبني عبس اللذين سكنوا الكوفة من بني عبس فلما دخلوا فيه سألوهم عن سعد ؟ فقام رجل قال : أما وقد سألتنا عنه فإنه لا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية فقال كلمة أخرى كلها يرى أنها عيوب في سعد رضي الله عنه , وكان سعد رضي الله عنه حاضراً مع اللجنة فلما سمعه سعد رضي الله عنه وكان سعد رضي الله عنه يعلم أن هذا كاذب وقد حلف قال رضي الله عنه " اللهم إن كان عبدك هذا قد قال ما قال كذباً ورياءً فاللهم أطل عمره وعرضه للفتن " . فعاش هذا الرجل ما شاء الله له أن يعيش حتى طال عمره وأصبح رجلاً أبيض الحواجب مع بياض الشعر حتى تساقطت حاجباه على عينيه من شدة الهرم وكبر السن ومع ذلك في هذا السن التي يعقل فيها كل ذي خبل كان يقف في شوارع الكوفة وأحياءها وأسواقها يتعرض للنساء ويغمزهن ويلمزهن وهو قد تجاوز المئة فإذا قال له الناس يا رجل اتق الله يقول شيخٌ مفتون أصابته دعوة سعد . فلا يجد في نفسه قدره على أن يمتنع عن هذا . موضع الشاهد إن اليمين الفاجرة من أعظم ما حرمه الله ومن كبائر الذنوب وقد دلت الآية عليها : (( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) .(1/36)
ثم قال سبحانه : (( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ )) هذا عود على بدء . والمعنى قلنا في الدرس السابق إن آية المباهلة نزلت بسبب وفد نجران وقلنا إن وفد نجران يقولون إن المسيح ابن الله فيعبد كما يعبد الله حسب زعمهم , هنا الله جل وعلا يقول رداً عليهم أنه لا يمكن أن يقع ولا ينبغي أن يقع أن الله جل وعلا يعطي بشراً الحكم أي الحكمة والكتاب المنزل ويجعله نبيا ثم هذا العبد يقول للناس اجعلوني رباً من دون الله , هذا لا يمكن أن يقع شرعاً ولا قدراً , لسبب بسيط وهو أن (( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )) الأنعام ( 124 ) . هؤلاء الأنبياء الجم الغفير الله جل وعلا قبل أن يبعثهم علم تبارك وتعالى ما في قلوبهم . ولذلك لا يمكن أن يقع منهم خلاف ما أراده الله جل وعلا أن يكونوا عليه , لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية القدرية , من الناحية القدرية كل الناس في هذا سواء ولكن لا يقع منهم لا شرعا ولا قدرا . ولذلك قا ل الله جل وعلا : (( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ )) طيب ما الذي يقع ؟ جاء الجواب ولكن أي الذي يقع والذي يقوله النبي (( وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ )) كلمة رباني نسبة إلى الرب فزعم بعض العرب أنها لفظ غير عربي وأنها غير مسموعة بلغة العرب والأكثرون على أنها عربيه .
والمعنى اختلف العلماء فيه في معنى (( رَبَّانِيِّينَ )) وجميع ألفاظ العلماء تدل على معناً متقارب فمجملها أن يقال :(1/37)
إن الرباني هو : العالم الفقيه الذي يستطيع أن يسوس الناس بعقل وحكمه ويربي طلبته على صغار العلم قبل كباره .
إن جمع الإنسان هذا كله قدر له أن يكون من الربانيين في العلم . والحوادث المعاصرة ميزت كثيراً من الربانيين عن غيرهم . فالربانيون من العلماء لا يلقون الناس في المهالك . والشاطبي رحمة الله في الاعتصام وفي الموافقات وهي كتب في التأصيل العلمي بين كثيراً في معنى الربانية وتكلم على ما ينبغي أن يكون عليه العالم الحق الذي يسوس الناس في أيام الفتن العالم . الذي يسوس الناس في أيام الفتن لا يهمه أن يجيب على السؤال وإنما يهمه أن ينظر في المآل . أعيد العالم الرباني الذي يسوس الناس في أيام الفتن لا يهمه أن يجيب على السؤال حتى يقال عالم ويتخلص منها وإنما يهمه أن ينظر في المآل قبل أن يتكلم . فينظر مآل قوله مآل فتواه وعاقبتها على عامة الناس قبل أن يتفوه بها حتى يكون الناس على بينه من أمرهم في دين الله جل وعلا وتلك منازل الكل يطلبها وقليل من يحصل عليها بلغنا الله وإياكم إياها .
(( وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ )) الباء في الحالتين سببيه . والمعنى بما أنكم رزقتم الكتاب تعلمونه وتَدرسونه وتُدرسُونه فإنه ينبغي عليكم أن تكونوا ربانيين وأنتم تسوسون الناس .(1/38)
ثم قال سبحانه (( وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ )) الواو هنا عاطفة على الصحيح . والمعنى إن هذا النبي يقول لقومه إن الله لا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً , ذلك أن لب دعوة الرسل هي إقامة التوحيد , فلو جاء نبي وطلب من الناس أن يعبدوا الملائكة ويعبدوا النبيين لخالف هذا جوهر الرسالة التي بعث من أجلها . فما أنزل الله الكتب ولا بعث الله الرسل ولا نصب الله الموازين ولا أقام البراهين إلا ليعبد وحده دون سواه . فعلى هذا كان بدهياً أن الأنبياء والمرسلين يأمرون الناس أن يفروا من الربوبية العبودية إلا أن يعبدوا الله جل وعلا لا رب غيره ولا إله سواه .
(( وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ )) الناس إذا علموا الكتاب وعلموا الحكمة تحركت الفطرة التي في أنفسهم وأصبحت مقبلة على الله , فكيف يعقل أن هذا النبي بعد أن أسلم الناس وأصبحوا مقبلون على ربهم جل وعلا يطلب منهم أن يعبدوا الملائكة أو أن يعبدوا النبيين هذا لا يمكن أن يقع كما بينا كما قال الله : (( مَا كَانَ )) أي ما ينبغي ولا يمكن أن يقع . (( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ{79} وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُون )) .(1/39)
ثم قال سبحانه : (( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ )) .
اختلف العلماء في تفسير هذه الآية على طريقين :
فريق يرى وهم الأقل من العلماء أن هذه الآية شاملة لجميع الأنبياء , والمعنى عندهم أن الله جل وعلا بعث النبيين بغاية واحده هي عبادته سبحانه فيأخذ الله جل وعلا من كل نبي أن يبين هذا للناس وأن يعينه من بعده على هذا الطريق هذا ما فهمه بعض العلماء . والفريق الثاني وهم الأكثرون من العلماء وهم المحفوظ المنقول عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن هذه الآية منقبة لنبينا صلى الله عليه وسلم ,
ويصبح معنى الآية على النحو التالي : إن هناك ميثاق وهناك من أخذ الميثاق , وهنا ك من أُخذ عليهم الميثاق . فأما الذي أخذ الميثاق فهو من؟ الرب جل وعلا وهذا واضح .
(( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ )) . والذين أحذ منهم الميثاق النبيون وأتباعهم وإنما ذكر النبيين فقط وأن من درج فيهم الأتباع لأن الأنبياء رؤوس الناس . مالذي أخذه الله منهم ؟ أخذه الله منهم أنه متى ظهر نبينا صلى الله عليه وسلم في زمانهم يجب عليهم أن يتبعوه (( ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ )) المقصود به نبينا صلى الله عليه وسلم (( مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي )) والإصر بمعنى العهد (( قالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ )) .
ينجم عن هذا أمور فهو المقصود من درس التفسير اليوم :(1/40)
النبي صلى الله عليه وسلم حضنا من النبيين ونحن حظه من الأمم ولا نبي بعده ولا أمة بعدنا , وهذا النبي خصه الله جل وعلا بأمور منها ما يشترك مع إخوانه من النبيين ومنها ما هو خصيصة له صلوات الله وسلامه عليه .
فمما يشترك فيه مع النبيين مر معنا أن النبي تنام عينه ولا ينام قلبه وأنه يخير عند الموت وأنهم يدفنون حيث يقبضون وأنهم مؤيدون بالوحي هذا كله يشترك فيه النبي صلى الله عليه وسلم مع غيره من الأنبياء .
ثم خصه الله جل وعلا بخصائص عده صلوات الله وسلامه عليه , منها هذه الخصيصة وهي أن الله أخذ العهد والميثاق من النبيين من قبل أنه متى ظهر صلوات الله وسلامه عليه في زمانه أن يتبعوه . وهو صلى الله عليه وسلم ظهر و ليس هناك نبي وآخر الأنبياء قبله عليه الصلاة والسلام عيسى ابن مريم عليه السلام وبين عيسى عليه السلام ونبينا عليه الصلاة والسلام قرابة ستة قرون وهو آخر الأنبياء أي عيسى عليه السلام قبل نبينا عليه الصلاة والسلام , يقول عليه الصلاة والسلام : ( لو أن موسى ابن عمران كان حياً لما وسعه إلا أن يتَّبِعني ) .
ولذلك الذين قالوا إن الخضر حي ـ الخضر صاحب موسى المعروف ـ في قول للعلماء أنه حي هذا وإن كان مرجوحاً نقول من أعظم الأدلة على أن الخضر غير حي أن النبي عليه الصلاة والسلام وقف في لواء يوم بدر ويوم بدر جمع الله جل وعلا فيه على تلك الأرض على أرض بدر خيرة الله جل وعلا من خلقه تحت اللواء في يوم بدر , وذلك اللواء كان تحته النبي عليه الصلاة والسلام وجبرائيل . فلو أن الإنسان صنع ما صنع من الدين والمناقب والعطايا و الإمامة وغير ذلك لا يمكن أن يصل إلى الدرجة التي أعطاها الله جل وعلا أهل بدر يوم بدر , فإن الله جل وعلا أخرجهم من بيوتهم ليكونوا مع نبيه عليه الصلاة والسلام . وحسان بن ثابت قال مفتخراً في شطر بيت لم تعرف العرب فخراً أعظم منه أنه قال :
و جبريل تحت لوائنا ومحمد(1/41)
موضع الشاهد لو كان الخضر حياً لوجب عليه شرعاً أن يكون مع نبينا صلى الله عليه وسلم يوم بدر لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يومها في أعظم الحاجة إلى النصرة . ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام وهو ينظر إلى أهل بدر من أصحابه : ( اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً ) . وقال عليه الصلاة والسلام لعمر في قصة حاطب : ( أما علمت أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم ) . فلا يعدل مقام النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر وأصحابه أي مقام لأي أحد بعدهم من أهل الدنيا لا من الصحابة ولا من غير الصحابة فإن لم يكن من الصحابة فمن باب أولى كل ما يصنعه الناس بعد الجيل الأول للصحابة لا يمكن أن يرقى لصنيع المسلمين الثلاث مئة والأربعة عشر الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر . موضع الشاهد كنا نتكلم على أن الخضر يجب أن ينصر النبي صلى الله عليه وسلم . هذا العهد أول خصائص أو واحد من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم .(1/42)
من خصائصه عليه الصلاة والسلام أن الرسول يبعث إلى قومه خاصة وهو عليه الصلاة والسلام بعث إلى الناس عامة . من خصائصه عليه الصلاة والسلام أن الجن كذلك بعثه الله جل وعلا إليهم , ولما عاد عليه الصلاة والسلام في وادي نخله بعد خروجه من الطائف وأخذ يقرأ القرآن ويقوم الليل يتلوا آيات ربه جاء الجن فاجتمعوا عليه قال الله جل وعلا : (( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ))عبدالله يعني من ؟ نبينا صلى الله عليه وسلم يدعوا من ؟ يدعوا ربه (( كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً )) الجن ( 19 ) . اللبد الشيء إذا تجمع . فالجن لما سمعت قراءته صلى الله عليه وسلم وتوسله إلى ربه في ظلمة الليل في وادي نخله أقبلت رغم شدة جبروتها وأنها مخلوقه من نار أحاطت به صلى الله عليه وسلم وأخذت تسمع ما يقوله وأخذت تسمع ما يتلوه ويقرؤه صلى الله عليه وسلم في ظلمة الليل رغم أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم ولم يرى الجن وهم يستمعون إليه ولذلك قال الله له : (( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ )) أي أنا لا أدري (( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً )) الجن ( 1 ) . وإلا فهو صلوات الله وسلامه عليه اجتمعوا حوله وسمعوا قراءته وتلاوته وتهجده وتعبده لربه ودعائه لله وهو لا يعلم عنهم شيئا , فلما مضى صلوات الله وسلامه عليه أخبره ربه بان الجن كانت تستمع إليه . من خصائصه صلى الله عليه وسلم رحلة الإسراء والمعراج وهذه أشهر من أن تُعرف .(1/43)
ومن خصائصه صلوات الله وسلامه عليه أن الله يعطيه يوم القيامة مقام الوسيلة وهو المقام المحمود قال عليه الصلاة والسلام : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزله في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد صالح وأرجوا أن أكون أنا هو ) صلوات الله وسلامه عليه , فالوسيلة حق له صلوات الله وسلامه عليه من ربه وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام . والمقام يطول لكن الذي يعنينا أن يكون الفرد محبا متبعا لنبيه صلى الله عليه وسلم . وفي عصرنا هذا كثر المشاهير من أهل الحق ومن أهل الباطل وبالغ الناس فيهم بالذات مبالغات الناس في أهل الباطل , والمؤمن التقي العاقل الذي يعلم ويتلو كتاب الله حقا لا يقبل أن يعظم في قلبه إلا من ؟ إلا الله .
القلب يا أخي مثل الكعبة فالكعبة لا يليق أن يكون عليها صور لأنها بيت الله وقلب المؤمن لا ينبغي أن يعلق بأحد إلا بمن ؟ إلا بربه جل وعلا أو من أمرنا الله جل وعلا أن نحبه كنبينا صلى الله عليه وسلم فنحن نحبه صلوات الله وسلامه عليه لأن الله جل وعلا أمرنا بحبه , ولا يمكن أن يرقى حبنا له كحبنا لربنا تبارك وتعالى .
كما أن المبالغة في مدح أهل الحق يخرج بهم كذلك , قد يدخلهم في الفتن وهذا حاصل في عصرنا فإن الإنسان من طلبة العلم يحمد له حبه للعلماء وحبه للدعاة وهذا شئ من فضائل الأمور ولكن لا يحصل المبالغة في تعظيم الدعاة ولا العلماء ولا المدرسين ولا غيرهم مبالغة يتجاوزون بها عن الحد لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن , وربما أعجبت الإنسان نفسه من كثره مبالغة الناس في تعظيمهم له وثنائهم عليه وتقبيلهم لرأسه يوم بعد يوم مرحله بعد مرحله فيدخله والعياذ بالله ما يدخله ما يكون سبب في هدم دينه وهدم دين أتباعه , وقد ذكر بعض العلماء الثقات رحمه الله في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تعلم كيف يبلغ الناس أحياناً بهم الضلال إلا ما لا نهاية ,(1/44)
أن رجلاً دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يضن نفسه أنه من أولياء الله من أصحاب الطرائق المذمومة فرءاه رجل من العامة كان يجلس بجانب هذا العالم المتوفى الذي كتب هذا بيده وأنا قرأته كان يجلس بجواره فلما جاء هذا الرجل قام هذا العامي وأجلس هذا الرجل مكانه , فلما فرغت الصلاة وهذا في الحرم النبوي قال هذا العالم وهو من أساطير العلماء قال له : يا هذا مرة أخرى لا تقم من مقامك في الحرم لأحد ولو كان القادم أبو بكر وعمر قالها للعامي والرجل يسمع فما ذا أجاب العامي وانظر إقرار الرجل قال العامي هذا أفضل ممن ذكرت أفضل من أبي بكر وعمر , قال الشيخ رحمه الله يقول وهذا يسمع ولا ينكر شيئاً عياذاً بالله , هذا الذي قال هذا عامي جاهل وهذا الذي قبل هذا رُبي يومياً عياذا بالله تدريجيا من مبالغات الناس وثنائهم حتى وصل إلى هذه المرحلة فصدق كذب الناس . من هذا يفهم أن أحياناً بعد الدرس بعض الطلاب جزاهم الله خيرا يسلمون ويقبلون الرأس لا داعي لهذا إذا كانت ولا بد أن تسلم على الشيخ صافحه . إذا قدم الإنسان من سفر لا بأس , لكن أن يقبل كل شيخ بعد كل درس على رأسه أو على غير ذلك هذا لا يحسن , فتنة للمحاضر وذلة للمتبوع والعاقل من حرر نفسه وحرر الناس من رقة أحد إلا لمن ؟ إلا الله جل وعلا .(1/45)
انتهينا من خصائصه صلى الله عليه وسلم كما بينا وقلنا إن محبته عليه الصلاة والسلام مندرجة في حبنا لربنا تبارك وتعالى . ثم إن هذه المحبة ينبغي أن تنقلب إلى سلوك فكما ينبغي أن تستقر في القلب ينبغي أن تنقلب إلى سلوك كيف تنقلب إلى سلوك ؟ إن الإنسان ينظر أين هديه من هدى الرسول صلى الله عليه وسلم وليس الدين أن تأخذ من الدين ما يناسبك وتترك ما لا يناسبك ولكن الدين أن تعلم أنه مبنيا على قاعدة واحده , القاعدة هذه قالها صلى الله عليه وسلم : ( إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإن أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم ) . القدرات تختلف أما النهي الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم يجب أن تنتهي عنه نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الزنا عن شرب الخمر عن إيذاء المؤمنات عن أمور عده من المحرمات هذه لا مجال للأخذ والعطاء فيها ينتهي المؤمن . أما ما أمرنا الله به فالناس يختلفون لا يمكن أن نطالب الناس بالأمر الكلي ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( فاتوا منه ما استطعتم ) . فمثلا صيام ثلاثة أيام من كل شهر .صيام يوم وإفطار يوم هذا أمر محمود لكن ليس كل الناس يطيق الصيام , الأمر بالإنفاق أمر محمود لكن ليس كل الناس يملك المال وعلى هذا قس أمورك أن ما أمرك النبي صلى الله عليه وسلم افعل منه ما تستطيع أن تفعله , أما ما نهاك النبي صلى الله عليه وسلم عنه فانتهي عنه بالكلية حتى يكون اتباعك لنبينا صلى الله عليه وسلم طريقاً لك إلى رحمه الله جل وعلا ومغفرته ثم في جناته جنات النعيم .(1/46)
ثم قال الله تبارك وتعالى : (( وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ{80} وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ{81} فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )) أي بعد أن بين الله هذه الحجج وأوضح الله تلك الطرائق وأقام الله جل وعلا تلك البراهين فجاء من الناس من أعرض وتولى ولم يقبل نداء الله تبارك وتعالى له , فلا ريب أنه من الفاسقين .
وقد قلنا أن الفسق ينقسم إلى كم قسم ؟ إلى قسمين :
قلنا فسق يخرج من الملة كقول الله : (( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ )) وفسق غير مخرج من الملة قال الله جل وعلا : (( وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ )) الحجرات ( 7 ) . ومن القواعد العلمية " أن العطف يقتضى المغايرة " . والله عطف الكفر والفسوق والعصيان بعضها على بعض فدل على أن الكفر غير الفسوق والفسوق غير العصيان (( فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )) .
ثم قال سبحانه : (( أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )) .
(((1/47)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ )) الهمزة للاستفهام ونوع الاستفهام هنا استفهام إنكاري أي المعنى : كيف يبغون ديناً غير دين الله . من عرف هذه الحجج وعرف هذه البراهين واستبانت له لا يمكن أن يقبل ديناً غير دين الله تبارك وتعالى . ثم ذكر الله جل وعلا أن مما يدلهم على أنه ينبغي أن يتبعوا الله أن الله جل وعلا قال : (( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )) اللام هنا للملكية وقد جاءت معنا في آية الكرسي لما قلنا إن الله يقول : (( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ )) .
وقلنا أن الملك كم قسم ؟ قسمان : ملك حقيقي وملك صوري .
وقلنا إن ما يجري في الدنيا اليوم هو ملك صوري وأن الملك الحقيقي أصلاً لله وقلنا أن ما تملكه اليوم إما أن تذهب عنه و إما أن يذهب عنك , ولذلك قال الله جل وعلا : (( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ )) الفرقان ( 26 ) . مع أن الملك يومئذ واليوم لله وقال الله جل وعلا في آخر الانفطار : (( وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ )) ولاشك أن الأمر كل يوم لله لكن المقصود حتى الحالة الصورية تغيب وتذهب (( أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ )) أي انقاد وخضع واستسلم لله تبارك وتعالى (( طَوْعاً وَكَرْهاً )) هذا من الأضداد ويسميه البلاغيون طباق إذا جاءت الكلمتان متضادتان يسميه البلاغيون طباق مثلاً الليل والنهار, طوعا وكرها .
طوعا معروفه وكذلك كرها .
ولكننا نفرق ما بين كَرها بفتح الكاف وكُرها بضم الكاف وهذه من اللغويات وهذه شرحناها في دروس متفرقة :
نقول أن الكَره هي المشقة الخارجة عنك التي لا تريدها الأمر الذي تجبر عليه وأنت لا تريده هذا يعبر عنه بماذا؟ بالكَره .
وأما الكُره بضم الكاف فهي المشقة التي تريدها رغم أن فيها مشقه , المشقة التي تطلبها أنت لأن فيها منفعة رغم مشقتها .(1/48)
وبالأمثال يتضح الحال : الحال الكَره مثل قول الله تبارك وتعالى في هذه الآية : (( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً )) وقول الله تبارك وتعالى : (( لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً )) أي وهن غير راضيات . أما الكُره بضم الكاف فإن الله كتب الحمل على بنات حواء وقال سبحانه وتعالى : (( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً )) الأحقاف ( 15 ) . فالمشقة التي تأتي للمرأة مشقة الحمل مشقة مرغوبة أو غير مرغوبة ؟ مرغوبة طبعاً ما من امرأة إلا وهي تريد أن تلد وتحمل فهذه مشقة مرغوبة لذلك عبر الله عنها بالكُره . أما عند ما تكون غير مرغوبة تسمى كره بفتح الكاف . قال الله جل وعلا عن الجهاد في سبيله : (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ )) البقرة ( 216 ) . بضم الكاف والجهاد فيه مشقة لأنه فيه ذهاب أرواح وذهاب أبدان وذهاب أموال ويرى الناس فيه من العناء والمشقة الشيء العظيم لكن ما فيه من أجر ما يتعلق به من ثواب ما ينال المسلم فيه من قربات عند الله هذا يجعله محبوباً إلى النفوس , لذلك عبر الله جل وعلا بضم الكاف .
ثم بين سبحانه وتعالى دلالة ملكه وعظيم عطائه فقال جل ذكره : (( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )) أي أن مآبهم ومردهم إلى الله تبارك وتعالى وهذه آية من مثاني القرآن سيأتي عنها الحديث تفصيلاً .
قال ربنا تباركت أسماؤه وجل ثناؤه :
(((1/49)
لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) المعنى الإجمالي للآية : أن الله جل وعلا يخبر أن معالي الأمور والجوامع لكل خير التي هي رأس كل غاية وأمل كل مؤمن لا تنال إلا بإنفاق الإنسان لأشياء يحبها , والله جل وعلا جبل القلوب على حب المال قال سبحانه : (( وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً )) سورة الفجر( 20 ) وقال جل ذكره : (( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ )) سورة العاديات ( 8 ) .
والمال هنا ليس وقفا على النقدين الذهب و الفضة وإنما المال كل ما يتمنى الإنسان ويملكه من نقدين أومن عقار أو أراض أو من غير ذلك كعروض التجارة , هذا كله يدخل تحت مسمى المال كالخيل والفرس وما أشبه ذلك مما يملكه الإنسان .
فالله جل وعلا يقول إن النفوس جبلت على حب المال فإذا بلغ الإنسان مرتبة يتخلى فيها عما يحب لشيء أعظم وهو حبه لله جل وعلا كان ذلك موصل لطريق الخير والبر .
(( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ )) لن تحصلوا عليه لن تدركوه . (( حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ )) أي حتى يتخلى الإنسان عن محبة الدنيا والتعلق بها ويصل بنفسه إلى مرحلة يتخلى عن ما يحب من أجل ما عند الله جل وعلا من ثواب وعطاء وجزاء .
ثم قال سبحانه : (( وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) كل ما أنفقه الإنسان مهما عظم أو حقر فإن الله جل وعلا يعلمه ويكتبه له إن خيراً فخير وإن كان غير ذلك فغير ذلك .
جيل الصحابة أعظم جيل بلا شك :(1/50)
هذه الآية لما نزلت كان جيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أعظم جيل بلا شك , ناصروا نبينا صلى الله عليه وسلم وأيدوه ووقفوا معه , هم شامة في جبين الأيام وتاج في مفرق الأعوام رضي الله عنهم وأرضاهم , لما نزلت هذه الآية تسابقوا رضوان الله تبارك وتعالى عليهم في الإنفاق مما يحبون , ومما نقل نقلاً صحيحاً ما في الصحيحين من حديث أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه كما روى عنه أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة هذا الصحابي الجليل كانت له نخلٌ في مقدمة المسجد النبوي تسمى بئر بالنبر وبير بالياء " بئر حاء " كانت في مقدمة المسجد وكان ماؤها عذب طيب كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل ذلك النخل ويشرب من ذلك الماء الطيب , فلما نزلت هذه الآية عمد هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه وأشهد النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذا النخل صدقة في سبيل الله فقبلها عليه الصلاة والسلام وقال له : من باب الإرشاد ( اجعلها في أقربائك ) , فجعلها أبو طلحة رضي الله عنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاده في اثنين من الأنصار هما حسان بن ثابت وأبي بن كعب وكانا ذا قرابة من أبي طلحة رضي الله تعالى عنه وأرضاه .(1/51)
كما نقل من وجه آخر أن زيد بن حارثه الذي جاء ذكره في القران أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانت له فرس تسمى" سَبَل " وكانت أثيرة عنده مقربةً لديه فلما أنزل الله جل وعلى قوله : (( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ )) جاء زيد رضي الله عنه إلى نبينا صلى الله عليه وسلم وقال : يا نبي الله إن فرسي سبل أحب مالي إلي وقد أشهدتك أني جعلتها صدقة في سبيل الله وأعطاها النبي عليه الصلاة والسلام ليتصدق بها فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أسامه بن زيد وأعطاه الفرس فلما أعطاه الفرس قال صلى الله عليه وسلم : ( اقبضه يا أسامه ) تغير وجه زيد لأنه ما كان يريد أن يأخذها ولده حتى يشعر أنه أنفق بعيداً , فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تغير وجه زيد قال : ( يا زيد إن الله جل وعلا قد قبل صدقتك منك ) . موضع الشاهد أن المقصود إخراج حب المال من القلوب , أما أين يقع المال مسألة لا تهم إذا اجتهد الإنسان وبذل جهده , قد يقع في قرابة قد يقع في غير قرابة يجتهد الإنسان , والإنسان مأمور أن يجتهد أين يضع ماله لكن المهم إخراج الدنيا من القلوب .
ينبغي على الإنسان أن يتبع السنة بفهم للسنة لا بفهمه هو :(1/52)
وليس معنى ذلك أن يأتي الإنسان لشيء يتقوت به وينفق به على عياله ولا يملك غيره ثم ينفقه كما نسمع بين الحين والآخر فإن هذا قد يكون في بعض الأحايين مخالفاً للصواب قال الله جل وعلا : (( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً {29} إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً{30} )) سورة الإسراء . فالإنفاق أن ينفق الإنسان من أحب ما لديه نعم , ولكن ينظر نظرة توازن في أهله وذويه وأبناءه ومن لهم حق عليه , والناس في هذا يختلفون اختلافاً جذرياً , ليس معنى أنهم يختلفون في الإيمان , نعم هم كذلك لكن في هذا الشأن لا , إنما يختلفون في قضية أن من الناس من يستطيع أن يعوض ومن الناس من لا يستطيع أن يعوض , ولو ذهب ليقترض لا يقرضه أحد . فهذا لو أنفق ماله كله أصبح أشد ممن أنفق عليه وأشد ممن طلبه مالاً فأعطاه ولا يقول بهذا عاقل لكن يوجد إنسان له جاه و له قدره أن يستدين يحبه الناس و معروف , إمام مسجد , خطيب , مدير , موظف كبير هذا لو أعطى ماله كله يستطيع أن يعوضه , أو رجل تاجر حتى لو أنفق اليوم ماله كله غداً يكسب شيء آخر . على هذا يحمل ما فعله الصحابة , لا يأتي إنسان يقول أبو بكر رضي الله عنه أنفق ماله كله .(1/53)
نعم أبو بكر رضي الله عنه أنفق ماله كله لكن أبو بكر رضي الله عنه كان تاجراً ما ينفقه اليوم يعوضه غداً, لكن لا يأتي الإنسان كما نسمع في بعض الحملات في بعض المناسبات كحملة الانتفاضة أو غيرها يأتي الإنسان سمعت هذا بأذني لا يملك إلا السيارة التي ينقل عليها الماء يسميها العامة " وايت " , فلما تبرع بها قال : يعلم الله أنني لا أملك غيرها وبها أقتات لأبنائي , ثم قال : جعلتها في سبيل الله , هذا ليس بحق ولا برشد وليس بعقل نسأل الله أن يتقبل منه نعم , لكن هذا أمر لا يقبل لماذا ؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ( كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت ) . هذا الرجل إذا أمسى وأبناءه لا يجدون طعاماً وبناته في ظل هذا الزمن الذي يحتاج فيه الناس إلى الدينار والدرهم كره أبناه الدِّين لأنهم يشعرون أن الدين هو السبب في إنفاق المال كله , المقصود أن الإنسان يتبع السنة بفهم للسنة لا بفهمه هو , إنما كما فهمها الصحابة رضي الله عنهم , أبو طلحه رضي الله عنه رجل غني رجل ثري من ماله المحبب إليه مزرعة بجوار المسجد أحب ماله إليه معنى أن ماله كثير ولكن هذا أحب ماله إليه . كإنسان عنده مزرعة وعنده قصر أفراح وعنده عمائر وعنده أبناء يقوتهم . وأحب ماله إليه المزرعة أو قصر الأفراح فتصدق بقصر الأفراح تصدق بالبناية تصدق بالمزرعة هذا طبق السنة .
أما أن يأتي إنسان وهذا يمر علينا بحكم مخالطتنا للناس يأتي شاب لا يملك إلا راتبه وقد يأتيه الراتب أحيانا أو موظف في شركه مرة يثبت ومرة لا يثبت ثم يأتي ويقول : أنفقت مالي كله لمؤسسة كذا أو جمعية كذا أو لسبب كذا , هذا يا بني الإنسان يكون راشداً عاقلاً لا يتكلف مفقود ولا يرد موجود يمشى بخطى والله أعلم بما في صدور العالمين , ولا حاجة لأن يرى الناس ماذا تصنع .(1/54)
نقول : عموماً أن الإنفاق من أعظم أسباب حصول الخير , لكن كما قلت بضوابطه الشرعية . وكلما كان في السر كان أعظم وأبلغ قال عليه الصلاة والسلام لما ذكر السبعة : ( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) و ليست العبرة بالكثرة بقدر ما العبرة أن يصيب مال الإنسان ذا فاقة يحتاجها وكلما كان ذا قرابة كان أولى و أحرى لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أبا طلحه أن يضعها في قرابته فوضعها كما ذكرنا عند حسا ن وعند وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهم أجمعين .
هذا المعنى الإجمالي للآية أما ما يتعلق بها علمياً :
فإن " لن " : حرف ناصب يفيد نفي المستقبل كما أن " لم " : حرف جازم يفيد نفي الزمن الماضي , وأنت طالب علم ستمر عليك " لن و لم " كثيراً , " لن " ينفى بها المستقبل و " لم " ينفى بها الماضي وكلاهما يؤثر في الفعل بعده .
فـ " لن " تنصب الفعل و " لم " تجزمه . وإذا طبقتها على الآية الله عز وجل يقول : (( لَن تَنَالُواْ )) أصل الفعل تنالون بنون زائدة في آخر الفعل و تسمى نون علامة ثبوت النون من الأفعال الخمسة .
لما دخلت " لن " حذفت النون فأصبحت (( لَن تَنَالُواْ )) بدون نون ثم توضع ألف للدلالة على أن هذه الواو " واو الجماعة " .
(( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ )) اختلف العلماء في المقصود بالبر قيل إنه الجنة وهذا رأي ابن مسعود وابن عبا س رضي الله عنهم والسدي رحمه الله وغيرهم من أئمة التفسير , وإذا قلنا أنه الجنة يصبح تقدير الآية : لن تنالوا ثواب البر الذي هو الجنة . فوضع المقدر مكان ما قدر به . وقيل إن البر اسم جامع لكل خير واختاره ابن السعدي في تفسيره على أن المعنى أن يصل الإنسان إلى الاسم الجامع لكل خير .
والغاية أن يقال إن البر سواءً قلنا إنه الجنة أو الطريق إلى الجنة فالمعنى متقارب لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر الصدق قال : ( وإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ) ,
(((1/55)
لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ )) " حتى " هذه يقول عنها بعض النحاة , والنحاة معروفون جمع نحوي وهم مشتغلون بعلم النحو مثل سيبويه و أقرانه , أحدهم قال قبل أن يموت : " أموت وفي نفسي شئ من حتى " .
والمعنى أن " حتى " حرف غريب في تأثيره فيما بعده , وذلك أنهم لما نظروا إلى الأحرف وجدوا أن عملها واضح جلي بعضها ينصب و بعضها يجزم و بعضها عطف وبعضها استئنافيه ولها طرائق . ولما جاؤا عند "حتى " وجدوا أنها تقبل الجميع ويمثلون ــ وأنا قلت أني مضطر أن أتكلم هكذا لأنك ستفسر القرآن بعدنا فلابد أن تتضح عندك الطرق ــ يقولون مثلاً : " أكلت السمكة حتى رأسها " أكلت فعل وفاعل والسمكة مفعول به , وبعدها " حتى رأسها " قالوا : إن قلت أكلت السمكة حتى رأسُها بالرفع صح وإن قلت أكلت السمكة حتى رأسَها بالنصب صح وإن قلت أكلت السمكة حتى رأسِها بالجر صح . هذا الذي أشكل على النحاة وقال قائلهم : " أموت وفي نفسي شيء من حتى " .
فعلى القول أكلت السمكة حتى رأسُها تصبح " حتى " حرف استئناف و يصبح المعنى أكلت السمكة حتى رأسها أكلت , فتعرب رأسها مبتدأ وأكلت المقدر المحذوف خبر . وإن قلت أكلت السمكة حتى رأسَها بالنصب جعلت " حتى " حرف عطف فعطفت كلمه رأس على السمكة . وإذا قلنا أكلت السمكة حتى رأسِها بالجر تصبح " حتى " حرف جر وما بعدها اسم مجرور .
(((1/56)
حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) وهذا أحد معاني كلمة " ما " وقلنا فيما سبق أن " ما " تتكرر في القرآن ولها بحسب سياقها معاني عده فتأتي نافية وتأتي استفهامية , وهنا أتت شرطيه (( مَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) إذن الجملة جملة شرط . أداة الشرط : ما , وفعل الشرط : تنفقوا , وجواب الشرط : الجملة الاسمية (( فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) , على هذا " الفاء " في قول الله : (( فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) واقعة في جواب الشرط .
قصة بني إسرائيل ومن هو إسرائيل ؟
ثم قال تعالى : (( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )) .
نبين قصة إسرائيل ثم ندخل في مناسبة الآية :
إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء ورزقه الله بعد ما كبر ذريه نص الله على اثنين من هؤلاء الذرية الأكبران الأجلان إسماعيل وإسحاق عليهما السلام , إسماعيل من هاجر وإسحاق من سارة , ومن إسماعيل جاء نبينا صلى الله عليه وسلم ومن إسحاق جاء يعقوب عليهما السلام .
إلا أن يعقوب عليه السلام الأظهر أنه كان توأماً لأخ له يقال له " العيس " لما ولدتهما أمهما على ما يقول جمهرة المؤرخين ولدت العيس أولاً ثم أعقبه يعقوب فسمي يعقوب لأنه جاء في عقب أخيه . والعيس كان محبباً إلى إسحاق أكثر من يعقوب وكان يعقوب محبب إلى أمه أكثر من العيس .(1/57)
من يعقوب هذا ؟ بعدما كبر بفترة قابله مََلَك , المَلَك هو الذي سمى يعقوب إسرائيل على معنى أن كلمه إسرائيل عابد الرب ككلمه عبدالله أو حولها . إذن يعقوب عليه السلام له اسمان : يعقوب الاسم الذي سماه به أبوه والاسم الثاني إسرائيل . وبهما جاء القرآن قال الله عز وجل : (( فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ )) سورة هود ( 71 ) . وقال الله عز وجل : (( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ )) .
من ذريه إسرائيل هذا جاء بنو إسرائيل الذين من هم اليوم ؟ هم اليهود .
ومن ذريه إسماعيل جاء العرب المستعربة الذين هم نحن , ومن ذريه العيس جاء الروم الذين هم الأوربيون والأمريكيون اليوم ـ أغلب من هاجر إليها من الأوربيين ـ . إذن الأمريكيون و الأوربيون واليهود والعرب كلهم أبوهم إبراهيم عليه السلام , إلا أن إسحاق وإسماعيل كانا نبيين بنص القران أما العيس فلم يكن نبياً وإنما كان محبباً لوالده ودعا له كما يقولون أبوه أن يملك غلاض الأرض وأن يرزقه من الثمرات وهذا حاصل كل من يرى ما هم فيه من الثمرات يتذكر دعوة إسحاق عليه السلام لابنه العيس . إلا أن من ذرية إسحاق جاء يعقوب الذي اسمه إسرائيل . فعندما يقال بنو إسرائيل ينسبون إلى جدهم يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام . هذا إسرائيل " يعقوب " تخاصم مع أخيه العيس فخرج , عندما خرج بعد ما تخاصم مع أخيه العيس لم يكن له ذرية ثم رزقه الله ذرية , لما رزقه الله ذرية بارك الله له في ذريته حتى حصل ما حصل من قصة نبي الله يوسف عليهم السلام . ولم يكن يوسف وحيداً ليعقوب وإنما كانوا جملة أخوه ثم تاب الله على إخوة يوسف عليهم السلام .(1/58)
وعلى الصحيح أن إخوة يوسف هم الأسباط , فالأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب قال الله جل وعلا : (( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً )) سورة الأعراف ( 160 ) . أي : قبائل متفرقة كلهم يفيئون إلى الأسباط الإثنى عشر ولد الذين هم من ذرية إسرائيل . من هذه الذرية جاء أنبياء لا يعدون ولا يحصون منهم أيوب واليسع وذو الكفل سليمان وداود حتى وصلوا إلى موسى عليه الصلاة والسلام . فبين موسى وإسرائيل نفسه أمم لا تعد ولا تحصى أو فتره زمنية طويلة أكثر من ستمائة عام .
موسى عليه الصلاة والسلام هو الذي خرج ببني إسرائيل من أرض مصر , وهم سكنوا أرض مصر عند ما جاء يعقوب إلى ابنه يوسف عليهم السلام (( وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ )) سورة يوسف ( 100 ) .
أنا أريد أن أصل إلى قضية وهي قضية أنه توجد مسافة زمنية طويلة بين بني إسرائيل وبين موسى عليه السلام . التوراة أنزلت على موسى عليه السلام .
الآن نرجع للآية الله جل وعلا يقول : (( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ )) اختلف في سببها لكن جملة يقال :(1/59)
إن اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إن النسخ هذا شيء باطل , إذ ليس من المعقول أنت تأتي تنسخ شريعة موسى عليه السلام وشريعة عيسى عليه السلام وتقول : أنا أتيت بشريعة جديدة , و قالوا إنك تقول أن الله جل وعلى حرم علينا لأن الله في القرآن قال : (( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً )) سورة النساء ( 160 ) , و جاء قوله تعالى في سورة الأنعام الآية ( 146 ) : (( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ )) فقالوا : أنت تقول هذا الكلام وهم يقولون ـ وناقل الكفر ليس بكافر ـ يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم قولك هذا كذب هذه الأشياء محرمة علينا منذ إسرائيل بل هي محرمة منذ نوح وإبراهيم , ـ وهذا زعمهم ـ هنا الله جل وعلى يقول القول الفصل ولذلك قال بعدها : (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) .(1/60)
الله يقول لهم : إن الطعام كله كان مباحاً طيباً ليعقوب إلا جزئية بسيطة لم يحرمها الله . من الذي حرمها ؟ حرمها يعقوب على نفسه . لماذا حرمها ؟ ولم يذكر الله لما ذا حرمها , لكن ورد في السنن وفي الآثار أن يعقوب عليه السلام اشتكى عرق النساء ـ مرض معروف ـ فلما اشتكى عرق النساء نذر إن الله إذا شفاه من عرق النساء أن يحرم على نفسه أحب شيء إليه فكان يحب لحوم الإبل وألبانها , فلما شفاه الله حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها . إذاً تحريم يعقوب على نفسه لحوم الإبل وألبانها كان باجتهاد شخصي منه, ولم يحرم الله على إسرائيل ولا من بعده شيء من الطعام إنما حرمه على قوم موسى لما بغوا حرم الله عليهم ما ذكره الله جل وعلا لنبيه , فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول عن ربه : (( كُلُّ )) وهي من ألفاظ العموم في القرآن , (( كُلُّ الطَّعَامِ )) أي : أي مطعوم كان حلاً أي حلالاً وجاءت منصوبة لأنها خبر كان . (( كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ )) . كذبتم فيما تزعمون (( إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ )) . قلنا لحوم الإبل وألبانها لأمر عارض .
(( قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا)) إذا أتيتم بالتوراة ستجدون فيها أن الله لم يحرم على إسرائيل شيئاً لأن التوراة أنزلت في عهد موسى وإنما المحرم فيها ما حرمه الله على بني إسرائيل وفق ما نصه الله جل وعلا في كتابه .
قال الله بعدها : (( قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )) وهذا منتهى التحدي . و لم يأتوا بالتوراة وإنما بهتوا وألجموا ولم يقبلوا أن يعرضوها على النبي صلى الله عليه وسلم .(1/61)
ثم قال الله جل وعلا وهذا قول فصل وكلام رب العالمين لا يقبل الرد : (( فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ )) من قال وتَّزعم كذباً بعد أن بينه الله (( فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) وقطعاً هم ظالمون لأنه قد ظلم نفسه وجاوز حده وافترى على الله من رد على الله جل وعلا كلامه وكذب قوله لذلك قال الله بعدها : (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) .
بيان عظيم لبشرية النبي صلى الله عليه وسلم :
وعندما يقول الله (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) يأتي إنسان في هذه (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) وفي (( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )) و (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )) و (( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ )) ويسأل : لماذا النبي صلى الله عليه وسلم قرأها : ((قل صدق الله )) ؟ ألم يكن من المفترض أن يقرأها (( صَدَقَ اللّهُ )) و (( يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )) و (( هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )) و ((أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ )) وهذا سؤال يرد بلا شك على الذهن .
و الجواب عليه : أن هذا فيه بيان عظيم لبشرية النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يأتي بشيء من عنده وإنما هو مجرد مبلغ , ولله المثل الأعلى . يأتي إنسان عظيم ويبعث بشخص عزيز عليه مقرب لديه إلى قوم و يقول لهم : يقول لكم مثلاً الوالد تفضلوا عندنا على الغداء , أيهما أوقع على نفس المدعوين ؟ لو قال هذا تفضلوا على الغداء يأتي في قلوب الناس شك الدعوة هل هي من الولد أو من الوالد ؟ ولكن عندما يقول لهم : يقول والدي تفضلوا على الغداء , فإنه سوف يعرف المدعوين أن الابن ليس عليه إلا البلاغ وأن الدعوة فعلاً من الوالد .
فعندما يقول الله جل وعلا (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) وينقلها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا بيان أنه بشر لا علاقة له بالأمر والنهي والأمر والنهي والبلاغ من عند الله و إنما هو عليه الصلاة والسلام ليس أكثر من مبلغ بشيراً ونذيراً لقوم يؤمنون .
(((1/62)
قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) صدق بلا شك بكل ما يقول لكنها هنا تبنى على خصوص وعموم , تبنى على الخصوص (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) في قوله تعالى : (( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ )) و تبنى على العموم في أن الله صادق بكل ما يقول .
ولذلك عبدالله بن مسعود رضي الله عنه الصحابي المكنى بأبي عبدالرحمن إذا حدث غالباً يقول : " أخبرني الصادق المصدوق " , أو يقول : " سمعت الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم " , كما في الصحيحين من حديث الخلق النطفة والعلقة . فقوله صادق أي : فيما يقول . ومصدوق أي: فيما يقال له .
وهو عليه الصلاة والسلام لما بعث علي وجمع من الصحابة رضي الله عنهم إلى روضة خاخ عندما يدركوا الخطاب الذي بعثه حاطب بن بلتعه مع المرأة لتبعث به إلى كفار مكة , بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً و المقداد و جمعاً من الصحابة قال : ( ائتوا روضة خاخ تجدون فيها امرأة معها كتاب من حاطب إلى قريش فائتوني بالكتاب ) , لما ذهب علي رضي الله عنه وقبض على المرأة أنكرته , فقال علي : " والله ما كَذبنا ولا كُذبنا " بمعنى : نحن ما افترينا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال هذا الكلام وهو صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكذب علينا ويقول لنا إن معك كتاب وليس معك كتاب . وهذا هو معنى " ما كذبنا ولا كذبنا " .
(( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) فلما ظهر الصدق لم يبقى إلا الإتباع , قال الله جل وعلا : (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً )) والخطاب لليهود على وجه الخصوص وعلى كل من يقرأ القرآن ويصله البلاغ على وجه العموم .
(((1/63)
قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) ومن الذي ما كان من المشركين ؟ عائدٍ على إبراهيم عليه السلام ولماذا جاء به قلنا في سياق سابق أن الله جل وعلا نزه إبراهيم عليه السلام عن كل إثم لأن جميع الأمم ادعت أن إبراهيم منها وهي تنتسب إليه ولذلك قال الله جل وعلا فيما مر معنا : (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) آل عمران ( 67 ) .
يتحقق من هذا كله أمور بيناها فيما سبق ونربطها فيما لحق وهي :
أن هذه السورة سورة آل عمران لها علاقة قوية باليهود فأغلبها رد على مزاعم اليهود فكل ما زعمه اليهود يفنده الله جل وعلا و يبين لنبيه صلى الله عليه و سلم مكمن الصواب فيه .
تحرر من ذلك كله أن بني إسرائيل وبني إسماعيل وبني العيس كلهم يفيئون إلى رجل واحد هو إبراهيم . وما زال الناس بذلك ينتسبون ويلتقون في سام وحام ويافث أبناء نوح عليه السلام ثم يلتقون في نوح ثم في الإثنى عشر الذين كانوا مع نوح ثم يلتقون في أبيهم آدم عليه السلام . ولهذا عنصر التفضيل القبلي مرفوض وإنما كما قال الله جل وعلا : (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )) سورة الحجرات ( 13 ) , كلكم لآدم و آدم من تراب .
ثم قال الله عز وجل : (( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ{96} فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) .
أول بيت وضع للعبادة :
(((1/64)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ )) وضع لماذا ؟ وضع للعبادة وإلا البيوت قديمة . وليس الكلام عنها سواء كانت قديمة أو حديثة , وإنما يتكلم الله جل وعلا عن أول بيت وضع للعبادة . هذه الآيتان فيها كلام طويل نحاول قدر الإمكان أن نجمله :
أن المسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض للعبادة قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه لما سأله : يا رسول الله أي بيت وضع في الأرض أول ؟ قال : ( المسجد الحرام ) , قال ثم أي ؟ قال : ( المسجد الأقصى ) , أو بيت المقدس , قال : كم بينهما ؟ قال : ( أربعون سنة ) . من الذي قال بينهما أربعون سنة ؟ الرسول صلى الله عليه وسلم . والمشهور أن الذي بنى بيت المقدس هو سليمان بن داود عليهما السلام والمشهور الذي بنى البيت الحرام هو إبراهيم عليه السلام . و إذا أخذنا بهذا المشهور فلن يتفق الحديث مع الآية , لأن بين إبراهيم وسليمان ثلاثة قرون تقريباً والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أربعون سنة ) .
إذاً فالصحيح إن شاء الله : أن آدم عليه السلام هو أول من وضع الكعبة وبيت المقدس . ولا يمكن أن ينطبق الحديث إلاّ على آدم , ويصبح الكلام أن الله جل وعلا أمر آدم أو ملائكةً قبله أن يبنوا الكعبة ثم أمره بعد أربعين سنة أن يبنى بيت المقدس , ثم بين الله لإبراهيم مكان الكعبة ولذلك قال الله : (( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ )) سورة الحج ( 26 ) , أي: مكان الكعبة فأعاد بنائها , ثم بين لداود وسليمان عليهما السلام مكان بيت المقدس فأعادا بنيانه .
المسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي هي الثلاثة التي تشد إليها الرحال ـ وأنا أتكلم هنا بلا ترتيب لأنني قلت أن ما يتعلق هنا من الفوائد كثير ـ .
المسجد الأقصى وقصة مسجد قبة الصخرة :(1/65)
المسجد الأقصى فيه صور تنقل كثيرة , هناك مسجد اسمه قبة الصخرة و هناك مسجد اسمه المسجد الأقصى , فالمسجد الأقصى هو الذي ليس عليه قبة وهو الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم و ربط فيه دابته البراق , أما قبة الصخرة فالصخرة هذه كانت تعظمها اليهود وتصلي إليها في غابر الأزمان , ولما جاء بختنصر من بابل من العراق وأهلك اليهود أعانه النصارى , ولذلك فالعداوة بين اليهود و النصارى عداوة قديمة .
الصخرة كانت تعظمها اليهود في حين أن النصارى يعظمون كنيسة القيامة وما حولها بيت المقدس عموماً . إذاً فبيت المقدس متفق عليه بين اليهود والمسلمين والنصارى على أنه أرض مباركة وكل منهم له فيه غاية . وبيت المقدس كانت فيه الصخرة لما فتح عمر رضي الله عنه بيت المقدس و خرج من المدينة صلحاً وسلمت إليه مفاتيح بيت المقدس كانت النصارى مسيطرة على المدينة وكان اليهود أذلة , كانت هذه الصخرة يجعلها النصارى نكاية في اليهود مجمع للنفايات , وكان مع عمر رضي الله عنه كعب الأحبار ـ يهودي أسلم في المدينة ـ فسأل عمر رضي الله عنه كعب الأحبار فقال : " أين تراني أصلي؟ " فقال : " أرى أن تصلي خلف الصخرة " , حتى يصبح عمر رضي الله عنه مستقبل الكعبة وأيضا مستقبل الصخرة , فقال له عمر رضي الله عنه : " ما فارقتك يهوديتك تريدني أن أستقبل الصخرة حتى يرتفع شأن اليهود " , فتقدم و جعل الصخرة خلفه . وهو يعلم عمر رضي الله عنه أن الصخرة معظمة وأخذ يمسح النفايات عنها ولكنه لم يرد أن يصلي فيجعلها في قبلته فتفتخر بها اليهود . فالصخرة في بيت المقدس و بيت المقدس كله مبارك بلا شك لكن عمر رضي الله عنه لم يرد أن يجعل للصخرة خصوصية تزيد على خصوصية بيت المقدس فتقدم وجعل الصخرة خلفه .
السياسة لا تدخل في شيء إلا أفسدته :(1/66)
بقيت الصخرة على هذه الحالة حتى كان عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي وكان الذي ينازعه الخلافة خصمه عبدالله بن الزبير رضي الله عنه في مكة , والعرب كانت تحج إلى مكة فيلتقون بابن الزبير رضي الله عنه .
والسياسة لا تدخل في شيء إلا أفسدته . ولذلك العاقل لا يأخذ آراء السياسيين حتى لو كان أتقى خلق الله . فلا تكن إمعة كل من يحمل راية سياسية تعتقد أنها راية دينية , أصبح الناس يأتون ابن الزبير رضي الله عنه خصيم عبد الملك بن مروان ثم يعودون راجعين إلى الشام يقولون لعبدالملك بن مروان : " أن الناس وأمراء القبائل يحجون و يقابلهم ابن الزبير " . فأمر عبدالملك بن مروان أن يبنى على الصخرة قبة تكسى مثلما تكسى الكعبة وزينها لعل الناس أن يأتوها لسبب سياسي واحد هو أن ينصرفوا عن ابن الزبير رضي الله عنه .
ففهم الأمور في سياقها يريحك كثيراً عندما تستمع إلى أي خطاب سياسي . السياسة فيها شيء اسمه مراحل فالورقة هذه تنفع اليوم ما تنفع غداً , فلما انتهت القضية هذه بقتل عبد الله ابن الزبير رضي الله عنه على يد الحجاج بن يوسف واحتل العراق , عبد الملك لم يبالي بالصخرة ولم يكسها ولم يهدمها وإنما تركها على حالها الذي هي عليه اليوم , وجاء بعده ملوك لم يفهموا لماذا بناها وأخذوا يزينوها . هذه قصة بيت الصخرة , في قول الله تعالى : (( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ )) هذه الفائدة الأولى .
الفائدة الثانية : قال تعالى : (( لَلَّذِي بِبَكَّةَ )) والاسم الآخر مكة .
فهل هما بمعنى واحد أم المعنى يختلف ؟
القول الأول : قال بعض العلماء إن " الباء والميم " في اللغة كثيرة الإبدال بعضها عن بعض , فيقولون هذا طين لازب وطين لازم بالميم والمعنى واحد , على هذا القول تصبح مكة وبكة معناهما واحد ويصبح الباء والميم بينهما بدل .(1/67)
القول الثاني : أن بكة المقصود بها المسجد الحرام نفسه , ومكة يقصد بها الحرم كله , هذا قول وكلا القولين لا يمكن أن يكون تنافي بينهما ولا يتعلق به كثير اختلاف .
لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً )) ولاشك أنه مبارك بدليل أمور لا تعد منها : ))
أن الله جل وعلا يضاعف فيه الحسنات . 1ـ
أن من حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه . 2ـ
أن الله شرع فيه الطواف ولا يشرع إلا فيه . وغيرها كثير . 3ـ
والله نعته بأنه مبارك (( لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ )) .
(( فِيهِ )) أي : المسجد الحرام (( آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ )) لم يذكر الله الآيات وإنما ذكر واحدة فقال : (( مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ )) إذاً يصبح تقدير الكلام فيه آيات بينات كثيرة منها مقام إبراهيم . هذا أرجح ما قيل في إعرابها أنه مبتدأ لخبر محذوف مقدم تقديره منها مقام إبراهيم , وقيل غير ذلك لكن هذا الذي نراه والله اعلم .
من هذه الآيات الموجودة في الحرم المكي مقام إبراهيم .
والسؤال ما مقام إبراهيم ؟(1/68)
إبراهيم عليه السلام قلنا هو الذي رفع جدار الكعبة بناه وساعده ابنه إسماعيل عليه السلام . لما ارتفع البنيان وهذا مشهور قدم إسماعيل حجراً لأبيه ليرتقي عليه , حتى يبقي الله هذه المزية لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أصبح الصخر رطباً فآثار قدمي إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقيت في الصخرة ظاهرة بينةً على مر الزمان . حتى إن قبيلة في العرب تسمى بني مدلج معروفة بالقفاية ـ يعرفون الأقدام والأرجل ـ وكانوا يطوفون بالبيت ويرون أقدام إبراهيم عليه السلام , وذات يوم عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم صغير في حجر جده عبدالمطلب خرج يلعب رآه أحدهم فحمله إلى جده وقال له : من هذا منك , قال هذا ابني , فقال : حافظ عليه فإنه أقرب شبهاً إلى قدمي من في المقام , يقصدون إبراهيم عليه السلام . ولما عرج به صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى ورأى إبراهيم عليه السلام قال : ( ما رأيت أحداً أشبه بصاحبكم منه ولا منه بصاحبكم ) .
المقصود أن مقام إبراهيم حجر وطئ عليه إبراهيم لما أراد أن يبني الكعبة بعد أن ارتفع بنائها بقيت آثار قدميه إلى يومنا هذا , وقد شرع الله الصلاة عند هذا المقام قال تعالى : (( وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى )) سورة البقرة ( 125 ) .
(( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ )) ثم قال تعالى : (( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) دخله عائدة على المسجد أو على مكة عموماً .
(( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) ما المقصود من الآية ؟
واختلف العلماء في معنى قول الله تعالى : (( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) مكمن الخلاف أنه قد يدخل الإنسان الحرم ويؤذي فقد يأتي الحرم مجرم يخرج خنجر أو مسدس ويستطيع أن يقتل الناس في الحرم وهذا مر عبر التاريخ كله , فالتوفيق ما بين الآية وما بين الواقع مشكلة لأن الله تعالى قال : (( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) لذلك اختلفت كلمة العلماء في المعنى :(1/69)
القول الأول : إن هذا خبر عن الماضي بمعنى أن أهل الجاهلية قديماً كانوا يدخلون الحرم فلا يؤذي بعضهم بعضاً لحرمة البيت التي وضعها الله في قلوبهم وهذا معروف وإن كان ليس بصحيح على إطلاقه لأنه قد وقع في الجاهلية أذىً وسط الحرم والنبي صلى الله عليه وسلم أوذي وسط الحرم .
القول الثاني : قول ابن عباس واختاره الأمام ابن جرير الطبري إمام المفسرين وغيره أن الإنسان إذا جنى جناية خارج الحرم ثم دخل استجار بالحرم فإنه لا يقام عليه الحد ولا يقبض عليه ولكن يضيق عليه في المعاملة لا يبتاع معه ولا يشترى ولا يطعم حتى يضطر إلى الخروج فيقام عليه الحد . هذا قول وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله .
القول الثالث : (( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) أي آمناً من عذاب النار أي جعل الحج والعمرة سببان في النجاة من النار .
القول الرابع : وهو اختيار المظفر السمعاني رحمه الله في تفسيره أن المعنى أن الله جل وعلا أمَّن قريش في جاهليتهم لأنهم أهل الحرم قال تعالى : (( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ )) سورة العنكبوت ( 67 ) , فلم يكن يؤذون لأنهم أهل حرم الله , وكل من رامهم بأذى قسمه الله كما حصل لإبرهه وجنده , وهذا في ظني أقرب الأقوال إلى الصحة والله تعالى أعلم .
ثم قال الله جل وعلا : (( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) .(1/70)
اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إنك كنت تصلي إلى بيت المقدس , ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس وهو في مكة ويصلي إلى بيت المقدس وهو في المدينة , أما في مكة فكان عليه الصلاة والسلام يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس يصلي في جهة بحيث تكون الكعبة أمامه وبيت المقدس وراءها ويصبح استقبل بيت المقدس و الكعبة في آن واحد , هذا المشهور عن ابن عباس رضي الله عنه .
لما قدم المدينة هذه ما يمكن أن تجتمع لأن الكعبة في الجنوب وبيت المقدس في الشمال فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً كما في رواية البراء بن عازب رضي الله عنه عند البخاري وغيره ثم أنزل الله جل وعلا : (( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ )) سورة البقرة ( 144 ) , فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى الكعبة إلى وقتنا هذا .(1/71)
اليهود قالوا : هذا أكبر دليل أنك مضطرب في عبادتك . فبين الله جل وعلا لهم في جواب قرآني قال تعالى : (( قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ )) سورة البقرة ( 142 ) , كل الجهات ملك لله والله جل وعلا يختص منها ما يشاء ويتعبد عباده بما يريد , حتى لو تعبده كل شهر من جهة هو ربهم وهم عبيده والجهات جهاته والملك ملكه وليس لليهود ولا لغيرهم قول ولا برهان : (( قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )) .فالله جل وعلا ابتلاءً للناس وتمحيصاً واختباراً أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي إلى بيت المقدس وهو يعلم جل وعلا أزلاً أنه سينقلهم إلى الكعبة , في هذه الفترة يمحص الله جل وعلا عباده يبتلي خلقه من يثبت ومن لا يثبت كما قال الله جل وعلا : (( وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ )) سورة البقرة ( 143 ) , أي هذا الأمر عظيم إلا على من يسره الله جل وعلا إليه .
المقصود أن بيت المقدس كان معظماً , مبالغةً في تعظيم الكعبة أمر الله جل وعلا في رده على اليهود أن يكون الحج إلى الكعبة لما كانت الكعبة تفضل على بيت المقدس بوجوه كثيرة كان اختيارها مكان للحج أمر لا مناص منه قال تعالى : (( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )) " اللام " في (( وَلِلّهِ )) من حيث النحو حرف جر , من حيث المعنى للإيجاب والإلزام . فأوجب الله وألزم عباده حج البيت , ولم يكتف الله باللام بل جاء بحرف " على " , أتى بمؤكدين " اللام و على " وكلاهما تدل على الإيجاب والإلزام . تقول لفلان عندي كذا , على فلان عندي كذا , أي يجب علي له .
كل من استطاع الوصول إلى البيت يجب عليه الحج ومن لم يستطع فقد أعذره الله جل وعلا في كتابه :
(((1/72)
وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )) كلمة (( النَّاسِ )) عامة ثم جاء التخصيص (( مَنِ اسْتَطَاعَ )) فمن لم يستطع الوصول إلى البيت سقط عنه فريضة الحج .
الله جلا وعلا لم يحدد كيفية الاستطاعة وهذا من بلاغة القران لأنه لا يمكن عقلاً تحديد الاستطاعة بشي واحد من كل الأزمنة . ومن قال من العلماء رحمهم الله أن الزاد والراحلة فهذا قول مرجوح لا يمكن أن يكون صحيح لأنه قد يقع عارض أشد من الأول . ونأتي بعارض عصري لو أن المرض كفانا الله وإياكم شره المعروف بـ " سارس " انتشر في أمة مسلمة في بلاد ما حتى أهلكهم , ثم رغب أناس من هذه الأمة أن يحجوا إلى البيت يملكون زاداً ويملكون وراحلة .
هل من الحكمة أن يؤذن لهم بالحج ؟ قطعاً لا , لأنه قد يأتي منهم من يحمل المرض فيفتك بالحجاج كلهم . فلذلك من الحكمة منعه والحج يعتبر ساقط عنه ومعذور شرعاً , لأنه لا يستطيع الوصول إلى البيت فيمنع . هذا المنع لا علاقة له لا بالزاد و لا بالراحلة , فتبقى (( مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )) كلمة مفتوحة كل من استطاع الوصول إلى البيت يجب عليه الحج ومن لم يستطع فقد أعذره الله جل وعلا في كتابه .
(( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )) أي طريقاً .
(( وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) هذه (( وَمَن كَفَرَ ))للعلماء فيها ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن الآية على ظاهرها , والمعنى أن من لن يحج وهو قادر فهو كافر بظاهر الآية وهذا مذهب الحسن البصري رحمه الله ووافقه عليه بعض العلماء .
الوجه الثاني : أن من أنكر فريضة الحج فهو كافر وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وعليه جماهير العلماء .(1/73)
الوجه الثالث : أن الآية جرت مجرى التهديد والتغليظ والوعيد والزجر في بيان أهمية الحج إلى بيت الله وأنه كالكافر وهذا القول اختاره بعض العلماء وهو الذي إليه نميل والله أعلم .
و هذا له قرائن في الكتاب والسنة :
أما في القرآن : قال تعالى : (( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً )) سورة النساء ( 93 ) , مع اتفاقنا أن هذه الآية تحمل على أنها مبالغة في التهديد وإلا من قتل نفس ومات على التوحيد لا يخلد في النار .(1/74)
ومن السنة : قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل : ( عبد بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة وقاتل نفسه في النار ) وما إلى ذلك مما جاء في قصة الانتحار , والصحيح أن من مات منتحراً ولم يأتي بناقض شرعي ومات على لا إله إلا الله فإنه لا يخلد في النار ويُحمل هذه الأحاديث والآية (( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً )) النساء (29 ) , وغيرها على المبالغة في التهديد والزجر والوعيد وإلا قاتل نفسه لا يخلد في النار وإنما يسن لإمام المسلمين أو نائبه أن لا يصلي عليه , أما أنه يخلد في النار فلا يخلد في النار لما روى مسلم في الصحيح أن رجل من الصحابة اشتد عليه مرض ما فعمد إلى عروقه فقطعها فسال الدم فلما سال الدم أخذ ينزف حتى مات فرءاه ابن عم له في المنام وعليه ثياب بيض و قد غلت يداه أي أحكمت , قال : ما صنع بك ربك ؟ قال : عفا عني . قال : فما بال يديك ؟ قال : إن الله قال لي : (( إننا لا نصلح منك ما أفسدته من نفسك )) ـ لأنه قطع يديه ـ بعد ذلك الرجل لما استيقظ قص الرؤيا على الرسول عليه الصلاة و السلام فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( اللهم وليديه فاغفر , اللهم و ليديه فاغفر , اللهم وليديه فاغفر ) قالها ثلاثاً . قال النووي رحمه الله في شرح مسلم وغيره من العلماء في الآية دليل واضح على أن قاتل نفسه لا يخلد في النار .
لكن هذا يخاطب به طلبة العلم فقط ولا يقال للعامة حتى لا يستهينوا بقتل النفس لا بقتل غيرهم ولا قتل أنفسهم .
طالب العلم والتفريق في الخطاب :(1/75)
وطالب العلم ينبغي أن يفرق بين الخطاب إلى العامة و الخطاب إلى طلبة العلم , وبيان الحكم الشرعي غير الوعظ , ولذلك عندما تقرأ في كتب ابن قدامه رحمه الله أو غيره من أئمة الدين الفقهاء لا يتكلمون مع بعضهم بـ " اتقي الله , وخاف الله , واخش الله " هذا كلام وعظ ليس له علاقة بالأحكام الشرعية . وعندما يتكلم بالوعظ لا يتكلم عن تفسيرات اختلافات العلماء .(1/76)
يعني ما يأتي إنسان مثلاً في مسألة يخالف فيها آخر ويقول : " اتق الله خاف الله كيف تقول بهذا " الكلام العلمي أنت تقول له : " اتق الله " هو لم يتق الله ما يقول هذا الكلام لأنه يعتقد أنه صحيح , فلأنه يتق الله يقول هذا الكلام لا علاقة له بالتخويف من الآخر لأنه يعتقد أن هذا صحيح فهو يقوله لأنه يتقي الله فما في مجال لكلمة اتقي الله وخاف الله , لكن في إنسان يعلم شيء أنه معصية تقول له اتقي الله لأنه يعلم أنه معصية ويعصي الله جل وعلا , يعني مثلاً : " بسم الله الرحمن الرحيم " قلنا في درس سابق أنه يوجد اختلاف بين العلماء هل هي آية من الفاتحة أو ليست بآية ما تأتي لإنسان يعتقد أنها ليست بآية وتقول له اتق الله وخاف الله خاف عذاب النار قول : " بسم الله الرحمن الرحيم " , هو لأنه يخاف الله لم يقولها لأنه لا يعتقد أنها آية والعكس . هذا أهم شئ تفهمه في قضية النزاع العلمي . ولذلك أنت اقرأ مناضرات العلماء كلام ابن قدامه وغيرهم من أئمة العلم في كتب الفقهاء وغيرهم لا تجد فيها الأسلوب الوعظي ولا ذكر الجنة والنار لأن كل فريق يعتقد صحة ما يقوله , إنما يبنى الكلام على الأدلة . كلٌ يحاج الآخر بالأدلة .ولذلك يشتهر ما بين صغار طلبة العلم تقول له ما رأيك في أبو فلان ؟ يقول لك هذا ما يخاف الله . لماذا لا يخاف الله يفتي بكذا وكذا ويقول بكذا , هذا ليس بكلام رجل عاقل لأنه هو يخاف الله يقول ما يعتقده . وهذه أهم ما في الدرس وإلا لو طبقت هذا الكلام الذي يتناقله اليوم البعض لو طبق على الصحابة لهلكنا جميعاً , فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتبادلون الرأي ويقول كل منهم بقول , لا يأتي إنسان لآخر ويقول له اتقي الله لأن كلاً منهم يقول ما يعتقد أنه صواب , لكن كل منهم يقارع الآخر بالحجة وبالنظر وبالدليل ثم إذا المسألة استبانت لك لم تكن لتستبين لأخيك والعكس صحيح .(1/77)
هذا ما تيسر إيراده والفضل لله في أوله و آخره , سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .(1/78)
تأملا ت في سورة
آل عمران
للشيخ صالح المغامسي
(( الجزء الأول ))
من صفحة الشيخ صالح المغامسي بموقع صيد الفوائد
http://saaid.net/Doat/almgamce/index.htm
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا و نبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد .
أيها الإخوة المؤمنون : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
كنا قد بدأنا بسورة البقرة وبعد أن أخذنا مقاطع من آيات منها ننتقل بكم إلى سورة آل عمران . ونبين لماذا اتخذنا هذا المنهج ــ للملاحظة هذه المادة هي من درس الشيخ الأسبوعي في مسجد السلام بالمدينة النبوية ــ قلنا أن السبب في هذا المنهج أن بعض طلاب العلم الفضلاء قالوا لو أننا أخذنا القرآن آية آية لطال بنا الأمد والوقت ــ بحمد الله الآن للشيخ في قناة المجد العلمية برنامج يسمى " محاسن التأويل " يفسر القرآن فيه آية آية ــ وبعضنا دارسون لا يمكن لهم الاستمرار لسنوات عديدة والدرس أسبوعي فيكون التحصيل فيه رتيباً لأنه هناك فترة طويلة , فقال الفضلاء من باب المشورة أنه لو اتخذنا لكل سورة من سور القرآن درسين أو ثلاثة ننم على أعظم ما فيها كان أولى حتى نخرج جميعاً بفائدة جمة , فيكون الطالب قد مر على شيء من سورة البقرة وعلى شيء من سورة آل عمران وعلى النساء وهكذا . ثم إننا نقول ونكرر أن الإنسان كلما زادت حصيلته العلمية ومعارفه كان ذلك أدعى لارتباطه في العلم . ثم إن في بعض السور مسائل فقهيه وهذه في الغالب لا نعرج عليها قلنا حتى لا يكون هناك نوع من التكرار بين درسنا ودروس الآخرين من فضلاء العلماء في الحرم النبوي أو في غيره .(1/1)
على هذا بعد أن اتضح المنهج نقول أن الآيات المختارة من سورة آل عمران هي :
من قوله تعالى : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ{59} الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ )) إلى قوله تعالى : (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ )) . والحديث عن ذلك كله على النحو التالي :
أولاً : قال العلماء : " إن من أعظم علوم القرآن أن يعلم أن القرآن نزل لدفع شبه الظالمين وإبطال عناد المعاندين وإثبات البراهين العقلية الموافقة للأدلة النقلية . وقالوا أن هذا الفن لا يدركه إلا الجهابذة العلماء المستبصرون الذين من الله عليهم بإدراك مغازي كتابه " . جعلنا الله وإياكم منهم وألحقنا بهم وإن لم نكن لذلك بأهل .
هذا السبب هو الذي جعلنا نختار هذه الآيات للتفسير .
أما هذه الآيات فالحديث عنها كالتالي :
مناسبة الآيات لما قبلها : أن الله جل وعلا ذكر قبلها قصة عيسى ابن مريم عبدالله ورسوله عليه الصلاة والسلام , فذكر جل وعلا قصة الصديقة مريم وكيف أنها حملت بعيسى عليه الصلاة والسلام وكيف وضعته و ما كان له من آيات وبراهين وكيف أنه دعا قومه وكيف أن الله جل وعلا آتاه المعجزات الظاهرة والبراهين التي تدل على نبوته حتى رفعه الله جل وعلا إليه وسينزل في آخر الزمان بعد أن ذكرها جل وعلا . ثم ذكر قوله تعالى : (( ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ{58} إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ )) إذن هذه مناسبة الآيات لما قبلها .(1/2)
أما سبب نزول الآيات : فالمشهور عند العلماء أن عام الوفود كان العام التاسع للهجرة وهو بعد أن فتح الله لنبينا صلى الله عليه وسلم مكة وأسلمت ثقيف وانتهت غزوة تبوك أتى الناس على هيئة وفود من كل شق إلى نبينا صلى الله عليه وسلم . من جملة الوفود التي حضرت وفد نجران وكانوا على الديانة المسيحية ومنهم السيد والعاقب وهم من رؤوسهم , هؤلاء النفر لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له مالك : " تشتم صاحبنا ". قال ( وما ذاك ) صلى الله عليه وسلم , قالوا : " تقول إن عيسى عبدالله ورسوله " قال : ( نعم هو عبدالله ورسوله ) فجادلته النصارى بأن عيسى عليه الصلاة والسلام لا أب له , قالوا : فقل لنا من أبو عيسى عليه الصلاة والسلام وأتنا بأحد له أب غير عيسى عليه الصلاة والسلام ؟ فأمهلهم حتى ينزل القرآن عليه في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام , فأنزل الله جل وعلا على نبينا عليه الصلاة والسلام قوله هذه الآيات التي نريد أن نشرحها : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) فهذا هو سبب النزول .
بعد هذا نبدأ في تفسير الآيات :
قال الله جل وعلا : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ )) ليس كلمة مثل هنا المقصود بها المثل المعروف الذي يضرب للأشياء , وإنما كلمة مثل هنا بمعنى حاله أو صفه . فيصبح معنى الكلام حالة و صفة عيسى عليه الصلاة والسلام عند الله كحال آدم عليه الصلاة والسلام .(1/3)
ما حال ادم عليه الصلاة والسلام ؟ قال الله تعالى : (( خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) النصارى تقول : إن من أدلة أن عيسى عليه الصلاة والسلام ابن الله أنه لا أب له باتفاق أهل الأرض والرد عليهم , وقلنا هذا من علوم القرآن الرد على كشف شبه الظالمين , أن آدم عليه الصلاة والسلام لا أب له ولا أم زيادة على عيسى عليه الصلاة والسلام . أي إن كان عيسى لا أب له فآدم لا أب له ولا أم , وإن كان عيسى خلق بكلمة كن بعد أن نفخ جبرائيل في رحم الصديقة مريم وكان بأمر الله فإن آدم كذلك قال الله له كن فكان كما أخبر الله في كتابه . فإذن مقارنة عيسى بآدم عليهما الصلاة والسلام ضربها الله جل وعلا دليلاً على بطلان حجج النصارى . لأنه لو كان قولهم إن مجرد أن عيسى لا أب له دليلاً على أنه ابن الله فمن الذي أولى بالبنوة ؟ آدم لأنه لا أب له ولا أم . والنصارى وغير النصارى كل أهل الأرض لا يقولون إن آدم ابن الله . فلما اعترفتم أن آدم ليس ابن الله يجب أن تعترفوا أن عيسى ليس ابن لله . وان الله لم يلد ولم يولد فدمغت حجة النصارى .
(((1/4)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ )) والهاء في خلقه عائدة على آدم خلقه من تراب ثم قال له أي قال لآدم كن فيكون , أي كن فكان . واختلف العلماء لماذا عبر الله بالمضارع بدلاً من الماضي يعني كان السياق أولى أن يقال : خلقه من تراب ثم قال له كن فكان . قال بعضهم ــ من الأجوبة ــ إن العرب تجري المضارع مقام الماضي إذا عرف معنى الحال . هذا جواب ربما فيه شيء من الركاكة . وقال بعضهم ولعل هذا أظهر أن الله أراد أن يبين تمثل المعنى لمن يسمع , بمعنى أن عيسى عليه الصلاة والسلام حتى عندما نفخ جبرائيل عليه الصلاة والسلام في رحم مريم عليه السلام لم يخرج مباشرة يمشي على قدميه وإنما تكون لحماً وعظاماً حتى حملت به تسعة أشهر على الصحيح , ثم ولدته صبياً رضيعاً ثم كان عيسى ابن مريم . فلم يقل الله كن فكان مباشرة إنما قال كن فيكون ليبين التدرج الذي مر به خلق عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .
(( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) هذا أمر عيسى عليه الصلاة والسلام على الوجه الصحيح .
قال تعالى : (( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ )) يعنى هذا الحق الذي أتاك من ربك . وإضافة الرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً للنبي صلى عليه وسلم .
(( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ )) أي لا تكن من الشاكين . وينبغي أن يعلم أنه ليس المقصود من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ممترنٍ أو شاك , فهذا منتفٍ أبداً . إنما المقصود من هذا الأسلوب إثارة الأريحية فيه صلى الله عليه وسلم لأن يقبل الحق من ربه ويعض عليها بالنواجذ هذا تخريج . وقال بعض العلماء تخريج آخر إنه وإن كان المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم فإن المخاطب الحق هو أمته وكل من يسمع القرآن . لكن لا تعارض بين هذين التخريجين .
(((1/5)
الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ {60} فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ )) الهاء عائدة على من ؟ عائدة على عيسى وخلقه .
(( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ )) العلم أي البيان الذي أظهره الله لك في شأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .
يزعم النصارى أنهم مسلمون من قبل ويمنعهم من ذلك :
(( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )) لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وفد النصارى نصارى نجران بالأمر لم يقبلوا , قالوا : نحن مسلمون من قبل فقال صلى الله عليه وسلم :
( يمنعكم من الإسلام ثلاث :
1ـ أكلكم لحم الخنزير .
2ـ وسجودكم للصليب .
3ـ وزعمكم أن لله ولد . )
هذه الثلاث منعت ما يزعمونه من أنهم مسلمون . فلما طال الأمر بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم احتكم إلى المباهلة .
ما معنى المباهلة ؟(1/6)
والمباهلة أصلها مأخوذ من الابتهال وهو الدعاء ويكون غالباً لإظهار الحجة . وقد ربما يخصص كما في الآية في نزول اللعنة وأصل المسألة أنه لما طال الجدال لا هم يقتنعون ولا هم قادرون على أن يقنعوا لأنهم على باطل , احتكم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال قائلاً لهم كما أمر الله : (( نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ )) أي ندعوا ونقول : اللهم العن الكاذب منا في شأن عيسى ابن مريم . فلما كان من الغد قدم صلى الله عليه وسلم ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم أجمعين , وقال : ( إذا أنا دعوت فأمنوا ) . قبل أن نكمل اعترض النصارى وخافوا من المباهلة . وخوفهم من المباهلة دليلٌ على أنهم يعلمون أنه رسول الله حقاً لأنهم لو كانوا على يقين لقبلوا المباهلة .
العلة من جلب علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين :
وكون النبي عليه الصلاة والسلام يأتي بابنته وعلي والحسن والحسين دليل على ثقته فيما يدعوا إليه , لأنه كان بالإمكان أن يباهلهم لوحده ويقول أنا وأنتم ندعوا على بعض أهلك أنا أو تهلكون أنتم , لكن لما أتى بابنته وهي أحب بناته إليه عليه الصلاة والسلام وزوجها علي والحسن والحسين ثم بعد ذلك يدعوا على الجميع دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان واثقاً من حفظ الله له وكان على برهان ويقين أن ما عند الله هو الحق .
(( ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )) الاستطراد هنا وأنا قلت أن الدروس ليس المقصود منها الحرفيات وإنما المقصود منها الفوائد العلمية .
وآية المباهلة تدل على أمور عدة :(1/7)
الأمر الأول : فضل آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم , وهؤلاء الأربعة مع النبي صلى الله عليه وسلم يسمون أصحاب الكساء لأن النبي صلى الله عليه وسلم جللهم أي غطاهم ذات مرة بكساء وقال صلى الله عليه وسلم : ( اللهم هؤلاء بيتي فإذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ) . فهؤلاء آل بيته صلى الله عليه وسلم . وعلي ابن عمه نسباً وهو زوج ابنته فاطمة تزوجها بعد منقلب النبي صلى الله عليه وسلم من معركة بدر في السنة الثانية من الهجرة , قيل تزوجها في شوال وقيل تزوجها في أول ذي القعدة . وتعيين التاريخ هنا تحديداً لا يهم , وأنجب منها عليٌ الحسن والحسين . أراد علي أن يسمي ابنه حرب فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بل هو الحسن ) , ولما ولد الحسين أرادوا أن يسموه حرباً فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بل هو الحسين ) . فالذي سمى الحسن والحسين من ؟ رسولنا صلى الله عليه وسلم .
والحسن رضي الله عنه عاش حتى كانت خلافة معاوية رضي الله عنه , فتنازل عنها لمعاوية رضي الله عنه ليحقن دماء المسلمين . ثم سكن المدينة ومات فيها أيام معاوية . أما الحسين رضي الله عنه فامتد به العمر حتى مات معاوية رضي الله عنه , وولي من بعده ابنه يزيد فخرج من مكة إلى العراق حتى وصل إلى كربلاء المدينة العراقية المشهورة , فلما وصل إليها سأل عنها ؟ قيل له كربلاء قال بل كرب وبلاء , أخذ اشتقاقها من اسمها فكان ما كان . قتل رضي الله عنه في يوم عاشوراء العاشر من محرم , ولذلك الشيعة يحيون هذا اليوم كما هو معلوم .
وإحيائهم لهذا اليوم باطل من عدة أوجه :
باطن بالنقل : لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرعه ولا يقوم دين إلا إذا شرعه الرسول لأنه أعلم الخلق بشرع الله .(1/8)
وباطل بالعقل : لأنهم لو كانوا صادقين في المناسبة العقلية لكانوا أقاموا مأتم على مقتل علي أبي الحسين رضي الله عنهم , وهم يقولون أن علياً أول أئمتهم والحسين الثاني فلو كانوا صادقين عقلياً لأقاموا مأتم على مقتل علي كما قتل الحسين قتل من قبله علي . فهم يمرون على مناسبة علي رضي الله عنه دون ذكر مع أنه مات مقتولاً كما قتل ابنه الحسين رضي الله عنه , ثم يأتون عند مقتل الحسين رضي الله عنه فيقيمون ما يقيمونه . فهذا من الدلائل العقلية والأول دليل نقلي على بطلان ما يصنعه الشيعة في يوم عاشوراء .
الذي يعنينا أن الحسين رضي الله عنه قتل في يوم عاشوراء وقتل معه أكثر من ثمانين من آل بيته ولم ينجوا إلا النساء وابنه علي الملقب بزين العابدين قتل ابنه علي الأكبر وقتل ابنه عبدالله معه وإخوانه الأربعة وبعض آل بيته . وبقى ابنه علي كان مريضاً لم يستطع أن يحارب مع أبيه , فأبقى الله جل وعلا ذرية الحسين رضي الله عنه بنجاة علي هذا الصغير المريض , فكل من ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الحسين فهو من ولد علي زين العابدين كل الحسينية ينتسبون إلى علي الملقب بزين العابدين ابن الحسين ابن فاطمة ابن محمد صلى الله عليه وسلم . وهؤلاء كما قلت آله ولهم في الشرع حق عظيم وينبغي لا إفراط ولا تفريط قال تعالى : (( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى )) . الشورى23. وقال عليه الصلاة والسلام لما شكا إليه العباس رضي الله عنه أن بعض قريش يجبوا بني هاشم قال عليه الصلاة والسلام : ( والله لا يؤمنوا حتى يحبوكم لله ثم لقرابتي ) .
الأمام أحمد رحمه الله و دليل فقهه في الدين :(1/9)
والمعتصم الخليفة العباسي , عباسي أي من ظهر العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم ليس من ظهر النبي وإنما من ظهر العباس . والعباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم وليس ابنه . المعتصم سجن العالم السني المشهور أحمد بن حنبل رحمه الله . فلما سجنه أُخرِج أحمد بعد موت المعتصم وكان أحمد بعد خروجه يجتهد في الدعاء للمعتصم ويسأل الله أن يعفو عنه , فلما كلمه الناس قال رضي الله عنه وأرضاه ورحمه " لا أريد أن أقف بين يدي الله وبيني وبين أحد من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومة " . وهذا من فقه الدين في أن الإنسان يتجنب أن يكون بينه وبين قرابة النبي صلى الله عليه وسلم خصومة كما بينا في قضية الإمام احمد .
الأمر الثاني : في الآية أن الله قال في القرآن على لسان نبيه : ((َ قُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُم )) ومعلوم نقلاً وعقلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له بعد هجرته ابنٌ من صلبه , يعني ليس له ابن ذكر من صلبه ومع ذلك قدم الحسن والحسين رضي الله عنهم , استدل بها فريق من العلماء على أن أولاد البنات في منزلة أولاد الأبناء . يعني مثلاً نفرض رجل اسمه محمد وله بنت اسمها سلمى وله ولد اسمه خالد فأولاد خالد هم أولاده باتفاق الناس لم يخالف في هذا أحد , لكن الخلاف في أولاد البنت هل يعتبرون أبناء أو لا يعتبرون ؟ المسألة خلافية لكن من أدلة القائلين بأن أولاد البنت يعتبرون أبناء هذه الآية فإن الله قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : ((َ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُم )) , والنبي صلى الله عليه وسلم دعا الحسن والحسين رضي الله عنهم , وقال في حديث آخر ( إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين دعواهما واحدة ) . يقصد الحسن رضي الله عنه . فهذا قول من قال من العلماء .(1/10)
وهذه المسألة بالنسبة لطالب العلم متى تظهر ؟ تظهر في الميراث وتظهر في الوقف وكلاهما متقارب فهل ينزل الجد منزلة الأخوة في الميراث ؟ من يقول أن ابن البنت ابن أعتبر الجد كالأب . وعندما يوقف الإنسان حديقة أو مزرعة أو بيتاً فيقول هذه لأبنائي وأبناء أبنائي ولا يحدد فإن قال أبناء أبنائي بمقتضى الآية يدخل من؟ يدخل أولاد الأبناء وأولاد البنات , وقال بعض العلماء بخلاف هذا وهذه المسائل تنظر في المحاكم , لكن أنا أردت أن أبين كيف يستنبط طالب العلم الأدلة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
((َ فقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )) أي نقول اللهم العن الكاذب منا في أمر عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام . الذي حصل أن النصارى خافوا من المباهلة تشاوروا ثم تراجعوا , قال قائلهم والله إنكم لتعلمون إنه نبي ولو باهلتموه لاضطرم عليكم الوادي ناراً , فقالوا ما الأمر بيننا وبينك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( واحدة من ثلاث : الإسلام ـ أي تدخلوا الإسلام ـ أو الحرب أو الجزية ) فاختاروا الجزية فصالحوا النبي عليه الصلاة والسلام على ألف حلة صفراء تقدم له في شهر صفر وألف حلة تقدم له في شهر رجب . فقالوا ابعث لنا رجلا أميناً من أصحابك فقال عليه الصلاة والسلام : ( لأبعثن معكم أميناً حق أمين ) فاستشرف لها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم , فقال عليه الصلاة والسلام : ( قم يا أبا عبيدة ثم قال لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة رضي الله عنه وأرضاه ) .
ولذلك ورد أن عمر رضي الله عنه لما طعن وطلب منه أن يستخلف قال : " لو كان أبا عبيدة حياً لوليته هذا الأمر فإذا سألني الله عن ذلك قلت سمعت نبيك صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ) " .(1/11)
نأتي للآية التي بعدها قال الله عز وجل بعدها : (( فَإِن تَوَلَّوْاْ )) أي فإن لم يقبلوا قوله وأعرضوا عن الدخول في الإسلام فإن الله عليم بالمفسدين . وقوله تعالى : (( فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ )) يجري مجرى التهديد لأنه إذا كان الله عليم بهم وهو قطعاً عليم بهم فإنه سيعاقبهم جل وعلا , وهذا معنى قول الله تعالى : ((فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ )) .
ثم قال الله جل وعلا : (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )) .
هذه الآية قبل أن نفصل معناها يتعلق بها فائدتين :
الفائدة الأولى : أن هذه الآية كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكتبها في كتبه التي يبعثها إلى ملوك العرب والعجم وهو يدعوهم إلى الإسلام كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم .(1/12)
الفائدة الثانية : في حياتنا العملية جميعاً وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم في الصحيح كان يقرأ بها أي بهذه الآية في ركعة الصبح الأخيرة من سنة الفجر , ومعلوم أن لصلاة الفجر سنة قبلية والسنة فيها أن تخفف , النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيها فاتحة الكتاب وبقول الله تعالى : (( قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ )) . البقرة136. ويقرأ بالثانية بهذه الآية : (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )) . إذاً يتحرر من هذا من الناحية العملية أن هذه الآية كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في الركعة الأخيرة من سنة الفجر ويقرأ بغيرها ولو قرأ أي مسلم بأي سور القرآن أو آياته جاز ذلك , لكن أوفق للسنة أن تقرأ هاتان الآيتان .
أما معناها : (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ )) أهل الكتاب يندرج فيها اليهود والنصارى لأنهما أنزل عليهما الكتاب . على اليهود التوراة على موسى عليه السلام وعلى النصارى الإنجيل على عيسى عليه السلام .
(( تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء )) سواء هنا بمعنى عدل وإنصاف .
(( تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ )) هذا إجمال . هذا الإجمال فسرته ما بعدها : (( تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ )) .
إذاً ما الكلمة السواء ؟(1/13)
هي : (( أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً )) . فقول ربنا جل وعلا : (( أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ )) هي الكلمة السواء التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب من اليهود والنصارى إليها .
اليهود يقولون عزير ابن الله والنصارى تقول المسيح ابن الله وكلا الفريقين على خطأ معلوم , فدعاهم النبي إلى كلمة يتفق عليها الجميع وهذه الكلمة لابد أن تكون كلمة عدل (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً )) .
(( وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً )) تأكيد للآية التي قبلها لقوله جل وعلا : (( أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ )) لأن المعنى واحد (( أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ )) أسلوب حصر فيه نفي واستثناء . (( أَلاَّ نَعْبُدَ )) هذا نفي , (( إِلاَّ اللّهَ )) هذا استثناء .
(( وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ )) هذا من بديع أسلوب القرآن لأنه عندما قال سبحانه : (( وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً )) دلالة على أننا كلنا من جنس واحد , فكيف يعقل ونحن متفقون على أننا من جنس واحد أن يصبح بعضنا آلهة خارقة وبعضنا مخلقون , هذا لا يستقيم لا بالعقل ولا بالنقل .
(((1/14)
وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ )) والاتخاذ هنا ليس معناه ولم يقع أنهم كانوا يعبد بعضهم بعضاً بالسجود والركوع والصلاة وإنما كان يعبد بعضهم بعضاً بطريقة أخرى وهي أن أحبارهم ورهبانهم يحرمون ما أحل الله فيحرمه الأتباع ويحلون ما حرم الله فيحلُه الأتباع , وهذه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( تلك عبادتهم ) . قال سبحانه : ((اتخذوا احبارهم ورهبانهم ارباباً من دون الله )) . وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام لعدي ابن حاتم : ( أليسوا يحلون ما أحل فتحرمونه قال بلى قال فتلك عبادتهم ) . فهذا معنى قول الله : (( وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ )) .
من هنا نعلم أن التشريع لله والرسول مجرد مبلغ صلوات الله وسلامه عليه . فمن الله التشريع وعلى الرسول البلاغ وعلينا السمع والطاعة لأننا عبيد مخلوقون لله تبارك وتعالى .
(( فَإِن تَوَلَّوْاْ )) أي فإن لم يقبلوا هذا الذي عرضته عليهم (( فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )) أي نحن باقون على ما نحن عليه من الإسلام واتخاذ الله جل وعلا آله واحد لا رب غيره ولا آله سواه .
ثم قال الله جل وعلا : (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ{65} هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )) ثم قال (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) .(1/15)
مناسبة الآيات عموماً : من العقل والنقل يا أخي أن الإنسان إذا كان متقناً في شيء ما يتبناه الجميع وكلٌ ينتسب إليه وينسبه إلى نفسه . إذا كان الشخص محسن متقن جيد في أمره كل من حوله يتبناه وينتسب إليه ويقول إنه مني وأنا منه لأنه مصدر فخر . إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان أمة كما أخبر الله جل وعلا . فاليهود تقول إن إبراهيم منا والنصارى تقول إن إبراهيم على ملتنا وحتى كفار قريش كما سيأتي يقولون منا والمسلمون يقولون منا , في أول الآية الله عز وجل يقول لما اختصمت اليهود والنصارى في إبراهيم عليه الصلاة والسلام , قال الله لليهود والنصارى : (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ )) . لمَ تجادلون وتخاصمون في إبراهيم (( وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ )) . بين إبراهيم وموسى عليهم الصلاة والسلام مئات السنين وبين إبراهيم وعيسى عليهم الصلاة والسلام أكثر لأن عيسى بعد موسى عليهم الصلاة والسلام . فمحمد عليه الصلاة والسلام عند اليهود والنصارى خبر منه لأنه مذكور في التوراة والإنجيل . فكون اليهود والنصارى عندهم خبر عن نبينا صلى الله عليه وسلم هذا حق , لكن الحق أيضاً أن ليس عندهم علم بإبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنهم جاؤوا بعده وما أسست اليهودية وهي محرفة في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام ولا أسست النصرانية وهي محرفه من شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام إلا بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام فكيف يكون عندهم علم عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هذا لا يمكن عقلاً , ولذلك قال الله عز وجل : (( هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )) معنى يعلم : يعلم حال إبراهيم وأنتم لا تعلمون عن إبراهيم شيئاً .
العقل مكتشف للدليل وليس منشىء له .(1/16)
وفي هذا دليل على أن الإنسان ينبغي عليه أن يستخدم عقله . وقد يقول قائل أن العقل ليس له علاقة بالنقل .
يجب أن تفهم يا أخي ملحظ دقيق يميز من يتبع منهج العقل عن غيره . المسلمون مدركون من أهل السنة أنه لا يمكن للعقل أن ينشىء دليلاً . والدليل في النقل لكن العقل يكتشف الدليل . بمعنى تأتي بمصحف وتأتيه لرجل ذي باع في العلم أعطاه الله عقل , فهو إذا قرأ المصحف يستنبط الأدلة من المصحف . لا يأتي بدليل من عقله لكن قدرته العقلية تمكنه من أن يستنبط الأدلة من القرآن . إنسان ليس عنده حظ من عقل حتى لو نظر في المصحف لا يستطيع بأن يأتي بأدلة يكتشفها من المصحف هذا الفرق . لا يوجد عقل يسير الناس , الوحي هو الذي يسير الناس لكن العقل يكتشف الدليل الموجود الذي في الوحي . ولذلك قال تعالى للنصارى : (( أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )) أي لو عرضتم هذا الأمر على عقولكم الحقة لما قبلته لكن لأنه ليس لديكم عقول تقولون بغير هذا .
الشافعي رحمه الله كيف بعقله اكتشف الدليل ؟(1/17)
الشافعي رحمه الله وهو صبي في السادسة عشر وكان من أذكى الناس مر في السوق فوجد رجلان يختصمان فتدخل لثقته برأيه , قال : ما بالكما ؟ قال أحدهما : هذا كان يبيع طيراً ـ ببغاء ـ ويقول وهو يبيعه : هذا الطائر لا يسكت يتكلم طوال الليل والنهار , قال الذي اشتراه : فأنا اشتريته بناءً على هذا الشرط فلما ذهبت به إلى البيت إذا هو يتكلم أكثر الوقت لكنه يسكت أحياناً فأنا أريد أن أرده . والذي باع يقول : لا ترده أنا لم أقصد الليل والنهار أنه لا يسكت , تخاصما والشافعي رحمه الله كان في السادسة عشر من عمره , فقال للمشتري : ليس لك حجة عليه . فأستصغره قال من أين لك هذا ؟ قال لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لإحدى نساء المؤمنين لما أخبرته أن فلاناً خطبها , قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( أما فلان فلا يطرح عصاه من كتفه ) . والمقصود إما كثرة الضرب وإما طول السفر ـ لكن لا يوجد إنسان يضرب أربع وعشرون ساعة ولا يوجد إنسان يسافر أربع وعشرون ساعة وإنما المقصود غلبة الأمر والكثرة ـ , فاقتنع المشتري فأخذ الطائر وذهب . فالشافعي هنا لم يأتي بدليل من عقله لكن عقله مكنه من أن ينظر في كتاب الله أو في سنة النبي عليه الصلاة والسلام . وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه طالب العلم لأنه إن لم تكن لديه آله عقلية في النظر في كتاب الله لا يمكن أن يكون قادراً على أن يفقه أو يفهم أو يستنبط من كتاب الله شيئاً كثيراً .(1/18)
ثم قال سبحانه وتعالى : (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) قلنا إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان إماماً وإليه تنسب الملة وهو أعظم النبيين بعد نبينا عليه الصلاة والسلام . اليهود تقول إننا على ملة إبراهيم وقالوا لنبينا عليه الصلاة والسلام : " إنك تعلم أن اليهود أولى بإبراهيم ولكن الحسد منعك أن تجهر بهذا " , والنصارى تقول نفس العبارة , حتى عباد الأوثان وعباد النار يقولون " إن إبراهيم منا " . وذلك لأن إبراهيم يشرف كل إنسان أن ينتسب إليه والمسلمون يقولون " إبراهيم منا " . ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة عندما نظر إلى الكعبة قبل أن يدخلها وجد كفار قريش على كفرهم وضعوا صورة لإبراهيم صنعوها من عقولهم وهو يستقسم بالأزلام , وهي الطريقة التي كانوا يفعلونها مع آلهتهم حتى يخرج أحدهم لسفر أو لغيره , فلما رآها النبي عليه الصلاة والسلام وقد جعلوا صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام قال عليه الصلاة والسلام : ( قاتلهم الله والله ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام ) وفي رواية أنه قال عليه الصلاة والسلام : ( ما لشيخنا وللاستقسام بالأزلام ) . المقصود أنه حتى عباد الأوثان نسبوا إبراهيم أنه منهم . فلما كانت المسألة خلاف نزل الحكم من الله والله عليم .
قال الله جل وعلا : (( مَا كَانَ )) وهذا نفي . (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً )) كما تزعم اليهود ولا نصرانياً كما تزعم النصارى . (( وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً )) كما يزعم محمد عليه الصلاة والسلام وأتباعه . (( وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) كما يزعم عبدة الأوثان .
من الذي هو أولى بإبراهيم عليه الصلاة والسلام ؟(1/19)
ثم بين الله بعد أن بين منهج إبراهيم عليه الصلاة والسلام . بين من الذي هو أولى بإبراهيم قال سبحانه : ((ِ إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ )) . ذكر كم فئة ؟ ثلاثة .
وهذا الظهور حسب الترتيب الزمني لأن الذين اتبعوا إبراهيم من قومه كان ظهورهم قبل النبي عليه الصلاة والسلام , قال تعالى ((ِ إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ )) حسب تسلسلهم الزماني ((ِ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ )) الذين ءامنوا به وقت نبوته ورسالته صلوات الله عليه . (( وَهَذَا النَّبِيُّ )) ذكره مفرداً . قال العلماء : " هذا تعظيم وتشريف لنبينا عليه الصلاة والسلام " . (( وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ )) من أي أمة ؟ من أمة محمد عليه الصلاة والسلام على الصحيح من أقوال العلماء .
فأصبح إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يتولاه ثلاثة :
المؤمنون الذين معه , ونبينا عليه الصلاة والسلام , والمؤمنون من هذه الأمة .
لكن النبي عليه الصلاة والسلام أفرد قلنا تعظيم له لأنه عليه الصلاة والسلام أولى بإبراهيم من جهتين :
الأولى : لأنه من ذريته .
والثانية : لأنه موافق له في ملته .
لم يبعث نبي بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا وهو من ذريته .
إبراهيم عليه الصلاة والسلام من إكرام الله له لم يبعث نبي بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا وهو من ذرية إبراهيم , قال تعالى في آية حصر : (( وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ )) العنكبوت27. فما بعث نبي ولا رسول بعده عليه الصلاة والسلام إلا وهو من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام .
(((1/20)
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ )) . قال العلماء : " دلت الآية أيضاً على أن المؤمنين مهما تباينت أقطارهم المكانية وتفاوت ظهورهم الزماني فإنهم أولياء بعضهم لبعض لأنهم جميعاً يفيئون إلى ملة واحدة , وهي ملة إبراهيم القائمة على توحيد الله تبارك وتعالى . واليوم أعداء المسلمين لا يحاولون شيئاً أن يثيروه بين المسلمين أكثر من تفريق الكلمة وإيثار النعرات القائمة إما على عرق أو على مذهب أو على مكان أو على ظهور زماني حتى يتشتت شمل الأمة , فإذا تشتت شملها انشغل بعضها ببعض , وأرادت كل فئة منها أن تقيم لواءها , فاقتتلوا وكفوا غيرهم مهمة القتال فأصبح غيرهم قادراً على أن يحتلهم بيسر وسهولة . وفي مواضع الفتن العظمى كما هي في عصرنا هذا وفي الأحداث الأخيرة في العراق فإن جمع الكلمة وتوحيد الصف وغض الطرف عن كثير من الخلافات مقدم على أكثر الأمور , لأن الدين قائم على جلب المصالح ودرء المفاسد . ولكل مرحلة من مراحل عمر الأمة ما يتماشى مع أوامر ونواهي وتطبيقات وأحكام شرعية تختلف من حال إلى حال ومن زمان إلى زمان , والمعيار في ذلك كله مصلحة الأمة وعدم تمكين عدوها منها .
(( وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ )) طائفة تطلق على الجماعة من الناس . والود هنا بمعنى الرغبة .
(((1/21)
وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ )) يعني كان مراد بعضٍ من اليهود و بعضٍ من النصارى أن يردوكم عن إسلامكم لماذا؟ لأنهم يعلمون أن الإسلام حق , لكن الإنسان إذا حسد غيره لا يتمنى الخير له . جرت سنة الله في خلقه أن الهالك يتمنى أن يهلك الناس معه . فالذي واقع في سلك المخدرات , والواقع في سلك النساء , والواقع في سلك كذا و كذا من المعاصي والجرائم هو لا يريدك أن تكون معه حباً فيك أو يريد لك الخير , ولكن يدفعه إلى ذلك أن كثرة الناس في الشر تهون الشر على نفسه .
وأنت خذها بمثال واقعي بسيط لو أن ابنك أخبرك أن نتيجته في الامتحان غير موفق لَلُمْتَهُ كثيراً , ولكن لو أن هذا الابن أخبرك أن الفصل كله على هذا النحو لخف لومك على ابنك . وهذا من سنة الله في خلقه ولذلك إبليس لما غوى وتمت عليه اللعنة هَمَّ أن يعصي بني آدم كلهم . يريد ويرغب في ذلك حتى لا يقع في الهلاك لوحده . فأهل الإشراك وأهل الكفر من أهل الكتاب لما وقعوا فيما وقعوا فيه ومنعهم الحسد أن يتبعوا نبينا عليه الصلاة والسلام رغبوا في أن يضلوا المؤمنين , والله جل وعلا يقول : (( وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ )) لأن الله تبارك وتعالى يحمي أولياءه وينصرهم ويمنع عنهم كيد الأعداء .
ثم قال الله جل وعلا (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ )) أي تشهدون . ومفعولها هنا محذوف . والمعنى : أنكم تشهدون البراهين العقلية والنقلية التي تدل على أن الله جل وعلا حق . وكفركم مع كونكم تشهدون الآيات من أعظم الدلالة على العناد والمرض المستقر في قلوبكم . لأن كون الإنسان يكفر ولما تظهر له الأدلة بعد . أمر هين لكن إذا ظهرت له الأدلة و تتابعت وتظاهرت ومع ذلك أصر على كفره فذلك دلالة على الران الذي في قلبه وعلى أنه أبعد إلى الحق منه إلى الباطل .(1/22)
نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .(1/23)
تأملا ت في سورة
آل عمران
للشيخ صالح المغامسي
(( الجزء الثاني ))
من صفحة الشيخ صالح المغامسي بموقع صيد الفوائد
http://saaid.net/Doat/almgamce/index.htm
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا , وأشهدا أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد . أيها الإخوة المؤمنون , السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
في هذا اللقاء المبارك يسر الله إتمامه نواصل تفسير كتاب ربنا جلا وعلا واقفين عند قول الله جلا وعلا في سورة آل عمران : (( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) إلى قول الله جلا وعلا : (( أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )) .
من أساليب تسمية كتاب الله جل وعلا سور القرآن :(1/1)
وهذا الذي كنا فيه قلنا إن سورة آل عمران سورة مدنيه , ونبين إن من أساليب تسمية كتاب الله جلا وعلا سور القرآن يسمى الشيء باسم بعضه . وهذا أمر كانت العرب تستخدمه في كثير من الأمور . فسميت سورة البقرة بسورة البقرة لأنه جاء ذكر قصة البقرة فيها , وسميت سورة آل عمران بسورة آل عمران لأن الله جل وعلا ذكر فيها عمران وآله وعلى هذا يقاس كثير مما في كتاب الله وهو ظاهر بين . وإنما الخلاف بين العلماء هل إن تسمية سور القرآن كان من النبي صلى الله عليه وسلم أو من أصحابه رضي الله عنهم أو غير ذلك , والذي يظهر والله جل وعلا أعلم أن تسمية سور القرآن تسمية توقيفية بمعنى أن الصحابة رضي الله عنهم سموها بإشارة وأمر وإرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم .
وسورة آل عمران تكلمت كثيراً عن أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ وبحثتْ كثيراً في مواضيعهم . وسبب ذلك أمران :
الأمر الأول : قدوم وفد نجران كما بينا في الأسبوع الماضي قدوم وفد نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما حصل بينهما من مجادله انتهت إلى الإقرار بالصلح بينهما وكانت تلك الأسئلة التي طرحها وفد نجران سبب في نزول كثير من آيات سورة آل عمران .
الأمر الثاني : ما كان من أحداث من أهل الكتاب من اليهود المجاورين للنبي عليه الصلاة والسلام في المدينة فكان القرآن ينزل ليبين كثيرا من أمورهم ومعايبهم وما يكون بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام من أحداث . فجل ما في السورة من ذكر أهل الكتاب كان هذا سببه وفي السورة آيات أخر لا علاقة لها بأهل الكتاب كغزوة بدر وغزوة أحد وغيرهما مما هو معروف في مظانه . لعل الله جل وعلا أن ييسر شرحه .(1/2)
أما الآية التي بين أيدينا فإن الله يقول : (( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) حب المال أمر مفطور في النفوس قال سبحانه : (( وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً )) الفجر ( 20 ) . وقال جل وعلا عن بني آدم : (( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ )) العاديات ( 8 ) . والأمانة في إنفاذها وفي إعطاءها لا علاقة لها بالإيمان والكفر إلا شيء يسير . فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كذب أعداء الله ـ يقصد اليهود ـ كل أمور الجاهلية تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى بر و فاجر) تؤدى إلى البر والفاجر فلو قدر أن لأحد من الناس له أمانة عندك وإن كان فاجراً فإن فجوره لا يمنعك من تأدية الأمانة إليه فمسألة كونه كافر أو فاجر أو فاسق لا علاقة له بأحقية الأمانة التي له عندك هذا كمفهوم عام للآية .
الآية فيها وقفات عدة منها:(1/3)
إنصاف الرب تبارك وتعالى . وأن الله جل وعلا حكم عدل فبرغم أن اليهود قوم بهت نعتوا ربهم بأقبح المعايب تعالى الله عما يقولون الظالمون علواً كبيرا , ومع ذلك فإن الله جل وعلا يقرر في هذه الآية أن من هؤلاء اليهود على ما فيهم من معايب منهم من لو أمنته وضعت عنده قنطار والقنطار آلاف من الدنانير يعني مبلغاً كثيراً من المال لو وضعت عنده قنطار آلاف من الدنانير ثم طلبتها منه يردها إليك رغم أنه يهودي . وإخبار الله بهذا دلالة على إنصاف الرب جل وعلا وأن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة فقول الله جل وعلا : (( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ )) إن وضعت عنده قنطار أمانه رده إليك كما هو تام رغم أنه كتابي إما يهود وإما نصارى وهذا كفر لكن كفره لم يمنعه من تأدية الأمانة .
سنقف كثيرا في اللغويات حتى تفهم كلا م الله لكن لا تستعجل إتيان الثمرة :
ثم قال سبحانه : (( وَمِنْهُم )) و (( مَّنْ )) في الحالتين بعضيه .
وقلنا إننا سنقف كثيرا في اللغويات حتى تفهم كلا م الله لكن لا تستعجل إتيان الثمرة . العلم يا أخي كالبنيان . والبنيان لا يعرف من أول يوم وإنما يعرف بعد تمامه . فما تأخذه من علم في هذه الحلقة أنت لوحدك به , وإنما تقوم على علم تأخذه من هاهنا ومن غير هذه الحلقة , وشيء تقرأه و شيء تسمعه وآخر تدونه حتى يجتمع لديك علم جم . لكن لا تحسبن أن أحدا يمكن أن يعطي الناس العلم كاملاً لوحده هذا لن يقع ولم يقع لأن الله عز وجل قسم العلم وفضله بين الناس . لكن أنت تأخذ أمور ترشدك بعضها على بعض .
أقول إن ( من ) هنا بعضيه وحتى يتم المعنى وحتى تعرف الفرق بين ( من ) البعضيه و( من ) أخرى .
( من ) أخرى بيانيه , معنى الكلام لو جاء إنسان ضفته أنت في بيته فأعطاك فاكهة , الفاكهة هذه منوعه ثم غاب عنك ثم جاء يسألك من أي الفاكهة أكلت قلت من كذا , نفرض قلت من البرتقال هذه ( من ) ما هي ؟(1/4)
بيانيه فأنت بينت أي نوع من الفاكهة أكلت .
أما ( من ) التي بين أيدينا (( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ )) هذه ( من ) بعضيه , بمعنى بعض من أهل الكتاب وليس الكل .
(( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ )) لا يساوي شيء (( لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً )) ما دمت عليه قائماً هذا كناية , كناية عن الإلحاح والمواجهة وشدة الطلب وأنت تتعقبه من مكان إلى آخر حتى يؤدي إليك ماذا ؟ الدينار والذي قبله يؤدي إليك القنطار رغم انه أضعف وأكبر من الدينار مرات عديدة لكن الأول أمين والثاني خائن . وقلنا أن الأمانة تؤدى لكل أحد يستحقها إن كان باراً أو إن كان فاجراً , (( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً )) كناية عن الإلحاح كثره المواجهة كثره الطلب تنتقل معاه من مكان حتى يؤدي إليك حقك .
(( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) هذه (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ))
جملة تعليليه ينجم عن الآية ما يلي :
أن في اليهود قوم مؤتمنون وهم قلة وقم خائنون وهم كثرة . وهؤلاء الخائنون علتهم في الخيانة يعنى إذا قيل لهم لماذا لا تؤدوا الأمانات ؟ قالوا : (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) .
(( الأُمِّيِّينَ )) جمع أمي وهو في اللغة من لا يقرا ولا يكتب .
أما المقصود بها هنا فهم أمة العرب من يقرأ ومن لا يقرأ قال الله عز وجل وقلنا إن القران يفسر بعضه بعضاً (( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ )) الأميين من ؟(1/5)
أمة العرب فقول اليهود : (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) اليهود يقولون إن هؤلاء العرب قوم أميون لا دين لهم ولا يرونهم شيئاً لأن اليهود يرون أنفسهم شعب الله المختار , ويقسمون الناس غيرهم طبقات فلا يرون العرب شيئاً ويقولون إن المال الذي في يد العرب أصله لنا فإن حصل بيننا وبينهم تقاضي بيع وشراء وأمانه فلا حاجه أن يرد إليهم المال لأن المال أصلاً لنا .
فالمعنى الحرفي لقول الله جل وعلا : (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) أي ليس علينا إثم ولا حرج ولا وزر أن نأكل أموال الأميين فما من طريق يصل إلينا بها المحاسبة (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) وقلنا أن الأميين يطلق على العرب لأن الأصل أن العرب أمة لا تقرأ ولا تكتب . قال صلى الله عليه وسلم : ( إننا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب , الشهر هكذا وأخذ يشير صلى الله عليه و سلم بأصابع يديه ليفهم من حوله ) , والنبي عليه الصلاة والسلام نعت في القرآن بأنه نبي أمي قال شوقي :
يا أيها الأمي حسبك ربتة فالعلم أن دانت بك العلماء
أما لماذا بعث النبي أمي ؟(1/6)
فليقطع الله جل وعلا ألسنه المشككين وشبه المعاندين فإن النبي عليه الصلاة والسلام جاء بالقرآن من عند ربه أبلغ كتاب وأعظم عبارات وأجل كلام فلو كان عليه الصلاة والسلام يقرأ ويكتب من قبل لقال عنه الكفار إن هذا الكتاب الذي أتى به أخذه عن من ؟ أخذه عن غيره لأنه يقرا ويكتب فما زال يطالع أربعين سنة ثم بعد أربعين سنة من المطالعة والقراءة والكتابة والاستكتاب خرج إلينا بهذا القرآن فبعث الله جل وعلا نبيه أمي لا يقرأ ولا يكتب , قال سبحانه : (( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ )) يعني لو كنت تقرأ وتكتب (( إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ )) العنكبوت ( 48 ) . لكنه النبي عليه الصلاة والسلام كان أمي لا يقرأ ولا يكتب وهذا من فضل الله جل وعلا عليه .
نعود إلى مسألة مهمة فالأمية في حق النبي صلى الله عليه وسلم منقبة وفي حق غيره مثلبة .
يحسن بالرجل أن يقرأ ويكتب ولذلك قال الله جل وعلا : (( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ )) العلق ( 1 ) . فلا يأتي إنسان ويقول نحن ننتسب إلى أمة أميه فلا حاجه لأن نقرأ ولا نكتب , هذا النبي عليه الصلاة والسلام أمي حتى يقطع الله على يديه ألسنة المعاندين أما نحن ففي حاجة ملحة لأن نقرأ ونكتب ونزداد علماً .
وليس الأمي المقصود بها النبي عليه الصلاة والسلام عدم العلم وإنما قلت القراءة والكتابة وإلا العلم شيء آخر , فقد يكون من العلماء من لا يقرأ و لا يكتب يأخذ علمه بالتحصيل ويعطيه بالتلقين .
ثم قال سبحانه : (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) أي يعلمون أنه لهم وعليهم في الأميين سبيل ثم قال سبحانه : (( بَلَى )) هذه (( بَلَى )) جواب من الرب سبحانه على دعوى أهل الكتاب ليصبح المعنى بلى عليكم في الأميين سبيل .(1/7)
ثم قال سبحانه : (( بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )) هذه من (( مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى )) جملة استئنافية و (( بَلَى )) منقطعة عنها جواب من الرب سبحانه لما قبلها . أما معنى قول الله جل وعلا : (( مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )) أي من عاهد إنساناً على أمانة وردها وأتم العهد فإنه قد أتم الشيء الذي عليه واتقى ربه ,
وهذا من أسباب حصول محبة من ؟ محبة الله سبحانه وتعالى قال الله جل وعلا : (( فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )) .
ينجم عن الآيات كلها فوائد عدة لأن القرآن إنما أنزل ليكون منهجاً يسير عليه الناس :
الفائدة الأولى : ينبغي أن تفر في عباراتك وكلامك من ألفاظ العموم لأن ألفاظ العموم تجمع ما بين البر والفاجر والمخطئ والمصيب وليس هذا من العدل في شيِ . فقلنا هؤلاء يهود ومع ذلك لما تكلم الله عنهم سبحانه فصل ولم يقل جل وعلا إن اليهود كلهم لا يؤتمنون , وهذا أسلوب قرآني يعرفه كل من تدبر القرآن وسيأتي في آل عمران أن الله قال : (( لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ )) . فالإنسان العاقل عندما يتكلم أو يحكم على قوم أو على جماعة أو على دار أو على مدرسة أو على أي شيء أو على أمة لا يحكم حكماً عاماً ولا حكماً جماعياً وإنما يفر من ألفاظ العموم على منهج القرآن الذي بينه الله جل وعلا للناس .(1/8)
الفائدة الثانية : الحق من قول أو فعل يقبل من أي أحد . دل على هذا هذه الآية عن طريق التلميح ليس عن طريق التصريح , ودلت آيات أخر عن طريق التصريح أن الحق يقبل من أي أحد , بلقيس كانت تحكم اليمن وكانت تعبد الشمس كما قال الهدهد : (( وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ الله )) النمل ( 24 ) .لما حصل ما حصل من بعث سليمان عليه السلام الخطاب لها وأخذت تستشير قومها قالت لهم : (( قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً )) هذا كلام من ؟ كلام بلقيس في كتاب الله قال الله بعدها : (( وَكَذَلِكَ يَفْعَلُون )) فالله جل وعلا صدقها على قولها رغم أنها عابدة ماذا ؟ عابدة شمس . الكفار القرشيون قال الله عنهم : (( وإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا )) الأعراف ( 28 ) . فذكروا سببين لفعل الفاحشة فلما رد الله عليهم قبل الله الأولى ولم يردها رغم أنهم عباد وثن يعبدون اللات والعزى لكن الله قبل قولهم أنهم وجدوا عليها آباءهم فلم يرد عليهم لكن رد في الثانية جاءت الآية (( قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )) الأعراف ( 28 ) . لأنهم كذبوا في قولهم أن الله أمرهم بها لكن عندما قالوا (( قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا )) كانوا صادقين فلما كانوا صادقين أن آباءهم ورثوا هذا الشيء من آباءهم لم يرده الله جل وعلا عليهم .
فالحق يا أخي يقبل بصرف النظر عن قائله , وأما الخطأ فانه يرد بصرف النظر عن قائله .
فالخطأ يرد لكن إن كان قائله معروف بالعلم والصلاح والتقوى فانه يعتذر له ولسْتَّ ملزم بقبول القول لكنك لا تقع في عرضه .(1/9)
الفائدة الثالثة : أنه يجب تأدية الأمانات إلى أهلها فالدَّين شأنه عظيم عند الله تبارك وتعالى ومن يستدن ليأكل أموال الناس يضيعه الله جلا وعلا كما يريد أن يضيع أموال خلقه , ومن استدان ليسد ثغرة وإنما منعه العجز عن رد الدين فهذا يسدد الله جل وعلا عنه ولا يأثم . وكيف نعرف أن فلاناً يستدن من أجل تضييع أموال الناس أو من أجل الرد ؟ هذا يظهر من طبيعة المعاملة , فمثلاُ لو أن إنساناً تاجراً احتاج إلى مئة ألف ثم اقترض من رجل ما مئة ألف وقامت تجارته ثم انكسرت تجارته ثم لم يبقى في يديه إلا أموال يسيره ألف , ألفين , ثلاثة , فجاء اشترى بهذه الألف أو الألفين شيئاً لبيته فلا نقول له يجب أن تسدد المائة ألف , لأن هذه الألف والألفين ريال مثلاً لا تنفع صاحبها , وإنما تنفع الرجل في بيته وهي لا تنفع صاحبها الأول , لأن المبلغ زائد عن الحد عن قدرة هذا المستدين , لكن إذا كان الإنسان ينفق في شيء زائد عن حاجته بمقدار أكثر قليلا أو أقل مما هو مستدينه يدخل في من لم يفي بحق الأمانة بينه وبين الناس . وإذا كانت الشهادة ترفع بها كل إثمٍ إلا الدين كما قال صلى الله عليه وسلم : ( أخبرني به جبريل آنفاً ) فهذا يبين أن الأمانات بين الناس شأنها عظيم ومن حاول وجاهد في تأدية الدَّين عن نفسه أدى الله جل وعلا عنه وأعانه ربه تبارك وتعالى .
ثم قال الله سبحانه في الآية التي تليها : (( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) .(1/10)
المناسبة بين الآيتين السابقة واللاحقة : الآية السابقة بيان للمعايب المالية وأما الآية التي بعدها بيان للمعايب الدينية في اليهود في عقائدهم . قال الله جل وعلا : (( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ )) اللي هو الميل تقول لوا فلان يدا فلان أي أمالها . (( يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ )) أي يحرفون الكتاب لفظاً ومعنى وينطقونه على هيئة من يغررك أنه من كلام الله .
(( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ )) اللام للتعليل والفعل بعدها منصوب وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة وأصل الكلام تحسبونه بالنون لكن حذفت النون لدخول لام التعليل . (( لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ )) إذاً (( وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ )) ( ما ) هذه ما نوعها ؟ نوعها نافيه .
(( ومَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ )) المعنى أنهم لم يكتفوا فقط بأنهم يحرفون في الكلم حتى يلبسوا على الناس أن ما يقولونه من عند الله بل زادوا على ذلك إثماً فلم يكفيهم التلميح وإنما لجؤوا إلى التصريح وصرحوا كفراً وكذباً بأن ما يقولون هو من عند الله وهم يعلمون يقيناً أنه ليس من عند الله , قال سبحانه : (( وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) أي يفعلون ما يفعلون من كذب وخداع وتمويه على الناس وهم يعلمون حقيقة أنهم يأتون الباطل بعينه فلا يرتدعون عنه وهذه نعت مما نعت الله جل وعلا به اليهود .
فتَحَصَّل من الآيتين معيبان : المعيب الأول مالي والمعيب الثاني ديني (( وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) .(1/11)
ثم قال سبحانه : (( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) نعود لقضية المال الناس يتعاملون بالمال , حب الدنيا العاجل يدفع البعض والعياذ بالله لأن يحلف كذباً حتى ينال شيء من حطام الدنيا الزائلة وهذا أكثر ما يكون في التجار وهو وإن كان في اليهود يظهر إلا أنه ليس مختص بهم وحدهم وإنما يكون في كل صاحب سلعه في الغالب يريد أن ينفقها ويكون في غير أصحاب السلع . والمعنى أن الحلف بالله شيء عظيم وإعطاء العهد بالله تبارك وتعالى شيء أعظم .
فإذا كان الإنسان يبيع هذين العهد والحلف بالله من أجل أن يشتري شيئاً من الدنيا يعلم انه زائل كذباً وميلاً وزوراً فهذا توعده الله جل وعلا برواعد وزواجر عدة من أهمها :
أن الله جل وعلا لا يجعل له في الآخرة حظاً ولا نصيباً وهذا معنى قول الله جل وعلا : (( لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ )) فالخلاق هنا بمعنى الحظ والنصيب فلا حظ لهم ولا نصيب , (( وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ )) وهذا والعياذ بالله منتهى الحرمان , (( وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) وهذا اشد , (( وَلاَ يُزَكِّيهِمْ )) أي لا يطهرهم وتطهير الله لعباده يكون بغفران ذنوبهم وستر معايبهم , (( وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) .
ويتحصل من هذا فقهياً ما يلي :
أن الأيمان ثلاثة :(1/12)
الأولى : يمين اللغو : تجري على ألسنة الناس لا يتعمدونها ولا يقصدونها فهذه قال الله جل وعلا عنها : ((لاَّ يُُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ )) , يقول الرجل " بلا والله " , " كلا والله " , " اجلس والله " فهذه تجري على اللسان لم يتعمدها العبد فهذه أسماها الله جل وعلا لغواً وأخبر جل وعلا أنه لا يؤاخذ عليها .
اليمين الثانية : تسمى اليمين المنعقدة : وهي التي قال الله جل وعلا عنها (( وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ )) وهذه تكون في الأمور المستقبلية " تفعل أو لا تفعل " , " تترك أو لا تترك " , فهذه إن وقعت على خلاف ما قلت يلزم منها كفاره اليمين .
وكفارة اليمين : واحد من ثلاث على التخيير إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة . فإن أعتق رقبة أو أطعم عشرة مساكين أو كسا إنساناً ما يكفيه لأن تقام بلباسه الصلاة يستر عورته في الصلاة . هذه الثلاثة على التخيير فإن لم يستطع أن يحرر رقبة ولم يستطع أن يطعم عشرة مساكين ولم يستطيع أن يكسوهم ينتقل في حالة العجز عن هذه الثلاثة بالتخيير ينتقل إلى الصيام , والمشهور عند العامة أن الصيام مواز لهذه الثلاثة وهذا خطأ . فإن هذه الثلاثة بينها التخيير قال الله جل وعلا : (( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ )) أي واحد من هذه الثلاثة (( فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ )) المائدة ( 89 ) . فلا ينتقل إلى الصيام إلا إذا عجز عن واحدة من هذه الثلاث .
هذان الاثنان لا علاقة له بالآية , الأخير هو الذي له علاقة بالآية .(1/13)
اليمين الثالثة : التي يحلفها الإنسان على شيء قد مضى , " يحلف على شيء لم يكن على أنه كان وعلى شيء قد كان على أنه لم يكن " هذه تسمى يمين غموس ولأنها من كبائر الذنوب لم يجعل الله جل وعلا لها كفارة , فتسمي يمينٌ غموس يمينٌ فاجرة , يلزم فيها التوبة النصوح والتخلص من المظالم والأوبة إلى الله جل وعلا . قال صلى الله عليه وسلم كما عند الستة من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : ( من حلف على يمين فاجرة وهو كاذب ليقطع بها مال امرئ مسلم لقي الله جل وعلا وهو عليه غضبان ) عياذاً بالله . وكفى بالمرء إثماً أن يلقى الله جل وعلا وربه تبارك وتعالى غضبان . وبالاستقراء أي في النظر في أحوال الناس عبر التاريخ أن كل من يحلف على يمين كاذبة يعاقبه الله جل وعلا قبل أن يموت . وهذا في محلات السيارات وأمثالها كثير خاصة إذا كان في قسمه وأيمانه مضرة على إنسان مسلم , كشهادة الزور تودي بأخيه المسلم وتضر به في الدنيا فهذه اليمين تبقى ملتحقة به وينتقم الله جل وعلا منه .(1/14)
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أبو إسحاق أحد العشرة المبشرين بالجنة . بعثه عمر رضي الله عنه أميرا على الكوفة فمكث فيها ما شاء الله , ثم جاء وفد من الكوفة فسألهم عمر رضي الله عنه عن سعد ؟ فكأن بعضهم ألمح على أنه لا يريده ,فبعث عمر رضي الله عنه و كان حاكماً عادل أشبه ما يسمى في أيامنا هذه بلجنة تتقصى الحقائق , فجاءت هذه اللجنة إلى الكوفة فأخذت تسأل الناس عن سعد في المساجد فيأتون المسجد يقولون كيف أميركم سعد ؟ فيدلي الناس بإجاباتهم حتى دخلوا مسجداً لبني عبس اللذين سكنوا الكوفة من بني عبس فلما دخلوا فيه سألوهم عن سعد ؟ فقام رجل قال : أما وقد سألتنا عنه فإنه لا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية فقال كلمة أخرى كلها يرى أنها عيوب في سعد رضي الله عنه , وكان سعد رضي الله عنه حاضراً مع اللجنة فلما سمعه سعد رضي الله عنه وكان سعد رضي الله عنه يعلم أن هذا كاذب وقد حلف قال رضي الله عنه " اللهم إن كان عبدك هذا قد قال ما قال كذباً ورياءً فاللهم أطل عمره وعرضه للفتن " . فعاش هذا الرجل ما شاء الله له أن يعيش حتى طال عمره وأصبح رجلاً أبيض الحواجب مع بياض الشعر حتى تساقطت حاجباه على عينيه من شدة الهرم وكبر السن ومع ذلك في هذا السن التي يعقل فيها كل ذي خبل كان يقف في شوارع الكوفة وأحياءها وأسواقها يتعرض للنساء ويغمزهن ويلمزهن وهو قد تجاوز المئة فإذا قال له الناس يا رجل اتق الله يقول شيخٌ مفتون أصابته دعوة سعد . فلا يجد في نفسه قدره على أن يمتنع عن هذا . موضع الشاهد إن اليمين الفاجرة من أعظم ما حرمه الله ومن كبائر الذنوب وقد دلت الآية عليها : (( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) .(1/15)
ثم قال سبحانه : (( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ )) هذا عود على بدء . والمعنى قلنا في الدرس السابق إن آية المباهلة نزلت بسبب وفد نجران وقلنا إن وفد نجران يقولون إن المسيح ابن الله فيعبد كما يعبد الله حسب زعمهم , هنا الله جل وعلا يقول رداً عليهم أنه لا يمكن أن يقع ولا ينبغي أن يقع أن الله جل وعلا يعطي بشراً الحكم أي الحكمة والكتاب المنزل ويجعله نبيا ثم هذا العبد يقول للناس اجعلوني رباً من دون الله , هذا لا يمكن أن يقع شرعاً ولا قدراً , لسبب بسيط وهو أن (( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )) الأنعام ( 124 ) . هؤلاء الأنبياء الجم الغفير الله جل وعلا قبل أن يبعثهم علم تبارك وتعالى ما في قلوبهم . ولذلك لا يمكن أن يقع منهم خلاف ما أراده الله جل وعلا أن يكونوا عليه , لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية القدرية , من الناحية القدرية كل الناس في هذا سواء ولكن لا يقع منهم لا شرعا ولا قدرا . ولذلك قا ل الله جل وعلا : (( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ )) طيب ما الذي يقع ؟ جاء الجواب ولكن أي الذي يقع والذي يقوله النبي (( وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ )) كلمة رباني نسبة إلى الرب فزعم بعض العرب أنها لفظ غير عربي وأنها غير مسموعة بلغة العرب والأكثرون على أنها عربيه .
والمعنى اختلف العلماء فيه في معنى (( رَبَّانِيِّينَ )) وجميع ألفاظ العلماء تدل على معناً متقارب فمجملها أن يقال :(1/16)
إن الرباني هو : العالم الفقيه الذي يستطيع أن يسوس الناس بعقل وحكمه ويربي طلبته على صغار العلم قبل كباره .
إن جمع الإنسان هذا كله قدر له أن يكون من الربانيين في العلم . والحوادث المعاصرة ميزت كثيراً من الربانيين عن غيرهم . فالربانيون من العلماء لا يلقون الناس في المهالك . والشاطبي رحمة الله في الاعتصام وفي الموافقات وهي كتب في التأصيل العلمي بين كثيراً في معنى الربانية وتكلم على ما ينبغي أن يكون عليه العالم الحق الذي يسوس الناس في أيام الفتن العالم . الذي يسوس الناس في أيام الفتن لا يهمه أن يجيب على السؤال وإنما يهمه أن ينظر في المآل . أعيد العالم الرباني الذي يسوس الناس في أيام الفتن لا يهمه أن يجيب على السؤال حتى يقال عالم ويتخلص منها وإنما يهمه أن ينظر في المآل قبل أن يتكلم . فينظر مآل قوله مآل فتواه وعاقبتها على عامة الناس قبل أن يتفوه بها حتى يكون الناس على بينه من أمرهم في دين الله جل وعلا وتلك منازل الكل يطلبها وقليل من يحصل عليها بلغنا الله وإياكم إياها .
(( وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ )) الباء في الحالتين سببيه . والمعنى بما أنكم رزقتم الكتاب تعلمونه وتَدرسونه وتُدرسُونه فإنه ينبغي عليكم أن تكونوا ربانيين وأنتم تسوسون الناس .(1/17)
ثم قال سبحانه (( وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ )) الواو هنا عاطفة على الصحيح . والمعنى إن هذا النبي يقول لقومه إن الله لا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً , ذلك أن لب دعوة الرسل هي إقامة التوحيد , فلو جاء نبي وطلب من الناس أن يعبدوا الملائكة ويعبدوا النبيين لخالف هذا جوهر الرسالة التي بعث من أجلها . فما أنزل الله الكتب ولا بعث الله الرسل ولا نصب الله الموازين ولا أقام البراهين إلا ليعبد وحده دون سواه . فعلى هذا كان بدهياً أن الأنبياء والمرسلين يأمرون الناس أن يفروا من الربوبية العبودية إلا أن يعبدوا الله جل وعلا لا رب غيره ولا إله سواه .
(( وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ )) الناس إذا علموا الكتاب وعلموا الحكمة تحركت الفطرة التي في أنفسهم وأصبحت مقبلة على الله , فكيف يعقل أن هذا النبي بعد أن أسلم الناس وأصبحوا مقبلون على ربهم جل وعلا يطلب منهم أن يعبدوا الملائكة أو أن يعبدوا النبيين هذا لا يمكن أن يقع كما بينا كما قال الله : (( مَا كَانَ )) أي ما ينبغي ولا يمكن أن يقع . (( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ{79} وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُون )) .(1/18)
ثم قال سبحانه : (( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ )) .
اختلف العلماء في تفسير هذه الآية على طريقين :
فريق يرى وهم الأقل من العلماء أن هذه الآية شاملة لجميع الأنبياء , والمعنى عندهم أن الله جل وعلا بعث النبيين بغاية واحده هي عبادته سبحانه فيأخذ الله جل وعلا من كل نبي أن يبين هذا للناس وأن يعينه من بعده على هذا الطريق هذا ما فهمه بعض العلماء . والفريق الثاني وهم الأكثرون من العلماء وهم المحفوظ المنقول عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن هذه الآية منقبة لنبينا صلى الله عليه وسلم ,
ويصبح معنى الآية على النحو التالي : إن هناك ميثاق وهناك من أخذ الميثاق , وهنا ك من أُخذ عليهم الميثاق . فأما الذي أخذ الميثاق فهو من؟ الرب جل وعلا وهذا واضح .
(( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ )) . والذين أحذ منهم الميثاق النبيون وأتباعهم وإنما ذكر النبيين فقط وأن من درج فيهم الأتباع لأن الأنبياء رؤوس الناس . مالذي أخذه الله منهم ؟ أخذه الله منهم أنه متى ظهر نبينا صلى الله عليه وسلم في زمانهم يجب عليهم أن يتبعوه (( ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ )) المقصود به نبينا صلى الله عليه وسلم (( مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي )) والإصر بمعنى العهد (( قالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ )) .
ينجم عن هذا أمور فهو المقصود من درس التفسير اليوم :(1/19)
النبي صلى الله عليه وسلم حضنا من النبيين ونحن حظه من الأمم ولا نبي بعده ولا أمة بعدنا , وهذا النبي خصه الله جل وعلا بأمور منها ما يشترك مع إخوانه من النبيين ومنها ما هو خصيصة له صلوات الله وسلامه عليه .
فمما يشترك فيه مع النبيين مر معنا أن النبي تنام عينه ولا ينام قلبه وأنه يخير عند الموت وأنهم يدفنون حيث يقبضون وأنهم مؤيدون بالوحي هذا كله يشترك فيه النبي صلى الله عليه وسلم مع غيره من الأنبياء .
ثم خصه الله جل وعلا بخصائص عده صلوات الله وسلامه عليه , منها هذه الخصيصة وهي أن الله أخذ العهد والميثاق من النبيين من قبل أنه متى ظهر صلوات الله وسلامه عليه في زمانه أن يتبعوه . وهو صلى الله عليه وسلم ظهر و ليس هناك نبي وآخر الأنبياء قبله عليه الصلاة والسلام عيسى ابن مريم عليه السلام وبين عيسى عليه السلام ونبينا عليه الصلاة والسلام قرابة ستة قرون وهو آخر الأنبياء أي عيسى عليه السلام قبل نبينا عليه الصلاة والسلام , يقول عليه الصلاة والسلام : ( لو أن موسى ابن عمران كان حياً لما وسعه إلا أن يتَّبِعني ) .
ولذلك الذين قالوا إن الخضر حي ـ الخضر صاحب موسى المعروف ـ في قول للعلماء أنه حي هذا وإن كان مرجوحاً نقول من أعظم الأدلة على أن الخضر غير حي أن النبي عليه الصلاة والسلام وقف في لواء يوم بدر ويوم بدر جمع الله جل وعلا فيه على تلك الأرض على أرض بدر خيرة الله جل وعلا من خلقه تحت اللواء في يوم بدر , وذلك اللواء كان تحته النبي عليه الصلاة والسلام وجبرائيل . فلو أن الإنسان صنع ما صنع من الدين والمناقب والعطايا و الإمامة وغير ذلك لا يمكن أن يصل إلى الدرجة التي أعطاها الله جل وعلا أهل بدر يوم بدر , فإن الله جل وعلا أخرجهم من بيوتهم ليكونوا مع نبيه عليه الصلاة والسلام . وحسان بن ثابت قال مفتخراً في شطر بيت لم تعرف العرب فخراً أعظم منه أنه قال :
و جبريل تحت لوائنا ومحمد(1/20)
موضع الشاهد لو كان الخضر حياً لوجب عليه شرعاً أن يكون مع نبينا صلى الله عليه وسلم يوم بدر لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يومها في أعظم الحاجة إلى النصرة . ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام وهو ينظر إلى أهل بدر من أصحابه : ( اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً ) . وقال عليه الصلاة والسلام لعمر في قصة حاطب : ( أما علمت أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم ) . فلا يعدل مقام النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر وأصحابه أي مقام لأي أحد بعدهم من أهل الدنيا لا من الصحابة ولا من غير الصحابة فإن لم يكن من الصحابة فمن باب أولى كل ما يصنعه الناس بعد الجيل الأول للصحابة لا يمكن أن يرقى لصنيع المسلمين الثلاث مئة والأربعة عشر الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر . موضع الشاهد كنا نتكلم على أن الخضر يجب أن ينصر النبي صلى الله عليه وسلم . هذا العهد أول خصائص أو واحد من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم .(1/21)
من خصائصه عليه الصلاة والسلام أن الرسول يبعث إلى قومه خاصة وهو عليه الصلاة والسلام بعث إلى الناس عامة . من خصائصه عليه الصلاة والسلام أن الجن كذلك بعثه الله جل وعلا إليهم , ولما عاد عليه الصلاة والسلام في وادي نخله بعد خروجه من الطائف وأخذ يقرأ القرآن ويقوم الليل يتلوا آيات ربه جاء الجن فاجتمعوا عليه قال الله جل وعلا : (( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ))عبدالله يعني من ؟ نبينا صلى الله عليه وسلم يدعوا من ؟ يدعوا ربه (( كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً )) الجن ( 19 ) . اللبد الشيء إذا تجمع . فالجن لما سمعت قراءته صلى الله عليه وسلم وتوسله إلى ربه في ظلمة الليل في وادي نخله أقبلت رغم شدة جبروتها وأنها مخلوقه من نار أحاطت به صلى الله عليه وسلم وأخذت تسمع ما يقوله وأخذت تسمع ما يتلوه ويقرؤه صلى الله عليه وسلم في ظلمة الليل رغم أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم ولم يرى الجن وهم يستمعون إليه ولذلك قال الله له : (( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ )) أي أنا لا أدري (( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً )) الجن ( 1 ) . وإلا فهو صلوات الله وسلامه عليه اجتمعوا حوله وسمعوا قراءته وتلاوته وتهجده وتعبده لربه ودعائه لله وهو لا يعلم عنهم شيئا , فلما مضى صلوات الله وسلامه عليه أخبره ربه بان الجن كانت تستمع إليه . من خصائصه صلى الله عليه وسلم رحلة الإسراء والمعراج وهذه أشهر من أن تُعرف .(1/22)
ومن خصائصه صلوات الله وسلامه عليه أن الله يعطيه يوم القيامة مقام الوسيلة وهو المقام المحمود قال عليه الصلاة والسلام : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزله في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد صالح وأرجوا أن أكون أنا هو ) صلوات الله وسلامه عليه , فالوسيلة حق له صلوات الله وسلامه عليه من ربه وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام . والمقام يطول لكن الذي يعنينا أن يكون الفرد محبا متبعا لنبيه صلى الله عليه وسلم . وفي عصرنا هذا كثر المشاهير من أهل الحق ومن أهل الباطل وبالغ الناس فيهم بالذات مبالغات الناس في أهل الباطل , والمؤمن التقي العاقل الذي يعلم ويتلو كتاب الله حقا لا يقبل أن يعظم في قلبه إلا من ؟ إلا الله .
القلب يا أخي مثل الكعبة فالكعبة لا يليق أن يكون عليها صور لأنها بيت الله وقلب المؤمن لا ينبغي أن يعلق بأحد إلا بمن ؟ إلا بربه جل وعلا أو من أمرنا الله جل وعلا أن نحبه كنبينا صلى الله عليه وسلم فنحن نحبه صلوات الله وسلامه عليه لأن الله جل وعلا أمرنا بحبه , ولا يمكن أن يرقى حبنا له كحبنا لربنا تبارك وتعالى .
كما أن المبالغة في مدح أهل الحق يخرج بهم كذلك , قد يدخلهم في الفتن وهذا حاصل في عصرنا فإن الإنسان من طلبة العلم يحمد له حبه للعلماء وحبه للدعاة وهذا شئ من فضائل الأمور ولكن لا يحصل المبالغة في تعظيم الدعاة ولا العلماء ولا المدرسين ولا غيرهم مبالغة يتجاوزون بها عن الحد لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن , وربما أعجبت الإنسان نفسه من كثره مبالغة الناس في تعظيمهم له وثنائهم عليه وتقبيلهم لرأسه يوم بعد يوم مرحله بعد مرحله فيدخله والعياذ بالله ما يدخله ما يكون سبب في هدم دينه وهدم دين أتباعه , وقد ذكر بعض العلماء الثقات رحمه الله في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تعلم كيف يبلغ الناس أحياناً بهم الضلال إلا ما لا نهاية ,(1/23)
أن رجلاً دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يضن نفسه أنه من أولياء الله من أصحاب الطرائق المذمومة فرءاه رجل من العامة كان يجلس بجانب هذا العالم المتوفى الذي كتب هذا بيده وأنا قرأته كان يجلس بجواره فلما جاء هذا الرجل قام هذا العامي وأجلس هذا الرجل مكانه , فلما فرغت الصلاة وهذا في الحرم النبوي قال هذا العالم وهو من أساطير العلماء قال له : يا هذا مرة أخرى لا تقم من مقامك في الحرم لأحد ولو كان القادم أبو بكر وعمر قالها للعامي والرجل يسمع فما ذا أجاب العامي وانظر إقرار الرجل قال العامي هذا أفضل ممن ذكرت أفضل من أبي بكر وعمر , قال الشيخ رحمه الله يقول وهذا يسمع ولا ينكر شيئاً عياذاً بالله , هذا الذي قال هذا عامي جاهل وهذا الذي قبل هذا رُبي يومياً عياذا بالله تدريجيا من مبالغات الناس وثنائهم حتى وصل إلى هذه المرحلة فصدق كذب الناس . من هذا يفهم أن أحياناً بعد الدرس بعض الطلاب جزاهم الله خيرا يسلمون ويقبلون الرأس لا داعي لهذا إذا كانت ولا بد أن تسلم على الشيخ صافحه . إذا قدم الإنسان من سفر لا بأس , لكن أن يقبل كل شيخ بعد كل درس على رأسه أو على غير ذلك هذا لا يحسن , فتنة للمحاضر وذلة للمتبوع والعاقل من حرر نفسه وحرر الناس من رقة أحد إلا لمن ؟ إلا الله جل وعلا .(1/24)
انتهينا من خصائصه صلى الله عليه وسلم كما بينا وقلنا إن محبته عليه الصلاة والسلام مندرجة في حبنا لربنا تبارك وتعالى . ثم إن هذه المحبة ينبغي أن تنقلب إلى سلوك فكما ينبغي أن تستقر في القلب ينبغي أن تنقلب إلى سلوك كيف تنقلب إلى سلوك ؟ إن الإنسان ينظر أين هديه من هدى الرسول صلى الله عليه وسلم وليس الدين أن تأخذ من الدين ما يناسبك وتترك ما لا يناسبك ولكن الدين أن تعلم أنه مبنيا على قاعدة واحده , القاعدة هذه قالها صلى الله عليه وسلم : ( إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإن أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم ) . القدرات تختلف أما النهي الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم يجب أن تنتهي عنه نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الزنا عن شرب الخمر عن إيذاء المؤمنات عن أمور عده من المحرمات هذه لا مجال للأخذ والعطاء فيها ينتهي المؤمن . أما ما أمرنا الله به فالناس يختلفون لا يمكن أن نطالب الناس بالأمر الكلي ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( فاتوا منه ما استطعتم ) . فمثلا صيام ثلاثة أيام من كل شهر .صيام يوم وإفطار يوم هذا أمر محمود لكن ليس كل الناس يطيق الصيام , الأمر بالإنفاق أمر محمود لكن ليس كل الناس يملك المال وعلى هذا قس أمورك أن ما أمرك النبي صلى الله عليه وسلم افعل منه ما تستطيع أن تفعله , أما ما نهاك النبي صلى الله عليه وسلم عنه فانتهي عنه بالكلية حتى يكون اتباعك لنبينا صلى الله عليه وسلم طريقاً لك إلى رحمه الله جل وعلا ومغفرته ثم في جناته جنات النعيم .(1/25)
ثم قال الله تبارك وتعالى : (( وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ{80} وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ{81} فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )) أي بعد أن بين الله هذه الحجج وأوضح الله تلك الطرائق وأقام الله جل وعلا تلك البراهين فجاء من الناس من أعرض وتولى ولم يقبل نداء الله تبارك وتعالى له , فلا ريب أنه من الفاسقين .
وقد قلنا في الدرس السابق أن الفسق ينقسم إلى كم قسم ؟ إلى قسمين :
قلنا فسق يخرج من الملة كقول الله : (( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ )) وفسق غير مخرج من الملة قال الله جل وعلا : (( وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ )) الحجرات ( 7 ) . ومن القواعد العلمية " أن العطف يقتضى المغايرة " . والله عطف الكفر والفسوق والعصيان بعضها على بعض فدل على أن الكفر غير الفسوق والفسوق غير العصيان (( فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )) .
ثم قال سبحانه : (( أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )) .
(((1/26)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ )) الهمزة للاستفهام ونوع الاستفهام هنا استفهام إنكاري أي المعنى : كيف يبغون ديناً غير دين الله . من عرف هذه الحجج وعرف هذه البراهين واستبانت له لا يمكن أن يقبل ديناً غير دين الله تبارك وتعالى . ثم ذكر الله جل وعلا أن مما يدلهم على أنه ينبغي أن يتبعوا الله أن الله جل وعلا قال : (( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )) اللام هنا للملكية وقد جاءت معنا في آية الكرسي لما قلنا إن الله يقول : (( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ )) .
وقلنا أن الملك كم قسم ؟ قسمان : ملك حقيقي وملك صوري .
وقلنا إن ما يجري في الدنيا اليوم هو ملك صوري وأن الملك الحقيقي أصلاً لله وقلنا أن ما تملكه اليوم إما أن تذهب عنه و إما أن يذهب عنك , ولذلك قال الله جل وعلا : (( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ )) الفرقان ( 26 ) . مع أن الملك يومئذ واليوم لله وقال الله جل وعلا في آخر الانفطار : (( وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ )) ولاشك أن الأمر كل يوم لله لكن المقصود حتى الحالة الصورية تغيب وتذهب (( أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ )) أي انقاد وخضع واستسلم لله تبارك وتعالى (( طَوْعاً وَكَرْهاً )) هذا من الأضداد ويسميه البلاغيون طباق إذا جاءت الكلمتان متضادتان يسميه البلاغيون طباق مثلاً الليل والنهار, طوعا وكرها .
طوعا معروفه وكذلك كرها .
ولكننا نفرق ما بين كَرها بفتح الكاف وكُرها بضم الكاف وهذه من اللغويات وهذه شرحناها في دروس متفرقة :
نقول أن الكَره هي المشقة الخارجة عنك التي لا تريدها الأمر الذي تجبر عليه وأنت لا تريده هذا يعبر عنه بماذا؟ بالكَره .
وأما الكُره بضم الكاف فهي المشقة التي تريدها رغم أن فيها مشقه , المشقة التي تطلبها أنت لأن فيها منفعة رغم مشقتها .(1/27)
وبالأمثال يتضح الحال : الحال الكَره مثل قول الله تبارك وتعالى في هذه الآية : (( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً )) وقول الله تبارك وتعالى : (( لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً )) أي وهن غير راضيات . أما الكُره بضم الكاف فإن الله كتب الحمل على بنات حواء وقال سبحانه وتعالى : (( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً )) الأحقاف ( 15 ) . فالمشقة التي تأتي للمرأة مشقة الحمل مشقة مرغوبة أو غير مرغوبة ؟ مرغوبة طبعاً ما من امرأة إلا وهي تريد أن تلد وتحمل فهذه مشقة مرغوبة لذلك عبر الله عنها بالكُره . أما عند ما تكون غير مرغوبة تسمى كره بفتح الكاف . قال الله جل وعلا عن الجهاد في سبيله : (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ )) البقرة ( 216 ) . بضم الكاف والجهاد فيه مشقة لأنه فيه ذهاب أرواح وذهاب أبدان وذهاب أموال ويرى الناس فيه من العناء والمشقة الشيء العظيم لكن ما فيه من أجر ما يتعلق به من ثواب ما ينال المسلم فيه من قربات عند الله هذا يجعله محبوباً إلى النفوس , لذلك عبر الله جل وعلا بضم الكاف .
ثم بين سبحانه وتعالى دلالة ملكه وعظيم عطائه فقال جل ذكره : (( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )) أي أن مآبهم ومردهم إلى الله تبارك وتعالى وهذه آية من مثاني القرآن سيأتي عنها الحديث تفصيلاً .
هذا ما أردنا بيانه ونسأل الله جل وعلا لنا ولكم التوفيق . وفي الأسبوع القادم بإذن الله تبارك وتعالى نواصل ما تيسر من تفسير سورة آل عمران .
وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين .(1/28)
تأملا ت في سورة
آل عمران
للشيخ صالح المغامسي
(( الجزء الثالث ))
من صفحة الشيخ صالح المغامسي بموقع صيد الفوائد
http://saaid.net/Doat/almgamce/index.htm
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خالق الكون بما فيه وجامع الناس ليوم لا ريب فيه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد .
أيها الإخوة المؤمنون السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
فهذا درس متواصل في تفسير كتاب الله جل علا ومازلنا وإياكم في سورة آل عمران في تفسير قول الله عز وجل (( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ )) إلى قوله جل وعلا : (( وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) ( 92 – 97 ) .
نقول مستعينين بالله عز وجل , قال ربنا تباركت أسماؤه وجل ثناؤه : (( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) المعنى الإجمالي للآية : أن الله جل وعلا يخبر أن معالي الأمور والجوامع لكل خير التي هي رأس كل غاية وأمل كل مؤمن لا تنال إلا بإنفاق الإنسان لأشياء يحبها , والله جل وعلا جبل القلوب على حب المال قال سبحانه : (( وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً )) سورة الفجر( 20 ) وقال جل ذكره : (( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ )) سورة العاديات ( 8 ) .
والمال هنا ليس وقفا على النقدين الذهب و الفضة وإنما المال كل ما يتمنى الإنسان ويملكه من نقدين أومن عقار أو أراض أو من غير ذلك كعروض التجارة , هذا كله يدخل تحت مسمى المال كالخيل والفرس وما أشبه ذلك مما يملكه الإنسان .(1/1)
فالله جل وعلا يقول إن النفوس جبلت على حب المال فإذا بلغ الإنسان مرتبة يتخلى فيها عما يحب لشيء أعظم وهو حبه لله جل وعلا كان ذلك موصل لطريق الخير والبر .
(( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ )) لن تحصلوا عليه لن تدركوه . (( حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ )) أي حتى يتخلى الإنسان عن محبة الدنيا والتعلق بها ويصل بنفسه إلى مرحلة يتخلى عن ما يحب من أجل ما عند الله جل وعلا من ثواب وعطاء وجزاء .
ثم قال سبحانه : (( وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) كل ما أنفقه الإنسان مهما عظم أو حقر فإن الله جل وعلا يعلمه ويكتبه له إن خيراً فخير وإن كان غير ذلك فغير ذلك .
جيل الصحابة أعظم جيل بلا شك :(1/2)
هذه الآية لما نزلت كان جيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أعظم جيل بلا شك , ناصروا نبينا صلى الله عليه وسلم وأيدوه ووقفوا معه , هم شامة في جبين الأيام وتاج في مفرق الأعوام رضي الله عنهم وأرضاهم , لما نزلت هذه الآية تسابقوا رضوان الله تبارك وتعالى عليهم في الإنفاق مما يحبون , ومما نقل نقلاً صحيحاً ما في الصحيحين من حديث أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه كما روى عنه أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة هذا الصحابي الجليل كانت له نخلٌ في مقدمة المسجد النبوي تسمى بئر بالنبر وبير بالياء " بئر حاء " كانت في مقدمة المسجد وكان ماؤها عذب طيب كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل ذلك النخل ويشرب من ذلك الماء الطيب , فلما نزلت هذه الآية عمد هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه وأشهد النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذا النخل صدقة في سبيل الله فقبلها عليه الصلاة والسلام وقال له : من باب الإرشاد ( اجعلها في أقربائك ) , فجعلها أبو طلحة رضي الله عنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاده في اثنين من الأنصار هما حسان بن ثابت وأبي بن كعب وكانا ذا قرابة من أبي طلحة رضي الله تعالى عنه وأرضاه .(1/3)
كما نقل من وجه آخر أن زيد بن حارثه الذي جاء ذكره في القران أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانت له فرس تسمى" سَبَل " وكانت أثيرة عنده مقربةً لديه فلما أنزل الله جل وعلى قوله : (( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ )) جاء زيد رضي الله عنه إلى نبينا صلى الله عليه وسلم وقال : يا نبي الله إن فرسي سبل أحب مالي إلي وقد أشهدتك أني جعلتها صدقة في سبيل الله وأعطاها النبي عليه الصلاة والسلام ليتصدق بها فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أسامه بن زيد وأعطاه الفرس فلما أعطاه الفرس قال صلى الله عليه وسلم : ( اقبضه يا أسامه ) تغير وجه زيد لأنه ما كان يريد أن يأخذها ولده حتى يشعر أنه أنفق بعيداً , فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تغير وجه زيد قال : ( يا زيد إن الله جل وعلا قد قبل صدقتك منك ) . موضع الشاهد أن المقصود إخراج حب المال من القلوب , أما أين يقع المال مسألة لا تهم إذا اجتهد الإنسان وبذل جهده , قد يقع في قرابة قد يقع في غير قرابة يجتهد الإنسان , والإنسان مأمور أن يجتهد أين يضع ماله لكن المهم إخراج الدنيا من القلوب .
ينبغي على الإنسان أن يتبع السنة بفهم للسنة لا بفهمه هو :(1/4)
وليس معنى ذلك أن يأتي الإنسان لشيء يتقوت به وينفق به على عياله ولا يملك غيره ثم ينفقه كما نسمع بين الحين والآخر فإن هذا قد يكون في بعض الأحايين مخالفاً للصواب قال الله جل وعلا : (( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً {29} إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً{30} )) سورة الإسراء . فالإنفاق أن ينفق الإنسان من أحب ما لديه نعم , ولكن ينظر نظرة توازن في أهله وذويه وأبناءه ومن لهم حق عليه , والناس في هذا يختلفون اختلافاً جذرياً , ليس معنى أنهم يختلفون في الإيمان , نعم هم كذلك لكن في هذا الشأن لا , إنما يختلفون في قضية أن من الناس من يستطيع أن يعوض ومن الناس من لا يستطيع أن يعوض , ولو ذهب ليقترض لا يقرضه أحد . فهذا لو أنفق ماله كله أصبح أشد ممن أنفق عليه وأشد ممن طلبه مالاً فأعطاه ولا يقول بهذا عاقل لكن يوجد إنسان له جاه و له قدره أن يستدين يحبه الناس و معروف , إمام مسجد , خطيب , مدير , موظف كبير هذا لو أعطى ماله كله يستطيع أن يعوضه , أو رجل تاجر حتى لو أنفق اليوم ماله كله غداً يكسب شيء آخر . على هذا يحمل ما فعله الصحابة , لا يأتي إنسان يقول أبو بكر رضي الله عنه أنفق ماله كله .(1/5)
نعم أبو بكر رضي الله عنه أنفق ماله كله لكن أبو بكر رضي الله عنه كان تاجراً ما ينفقه اليوم يعوضه غداً, لكن لا يأتي الإنسان كما نسمع في بعض الحملات في بعض المناسبات كحملة الانتفاضة أو غيرها يأتي الإنسان سمعت هذا بأذني لا يملك إلا السيارة التي ينقل عليها الماء يسميها العامة " وايت " , فلما تبرع بها قال : يعلم الله أنني لا أملك غيرها وبها أقتات لأبنائي , ثم قال : جعلتها في سبيل الله , هذا ليس بحق ولا برشد وليس بعقل نسأل الله أن يتقبل منه نعم , لكن هذا أمر لا يقبل لماذا ؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ( كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت ) . هذا الرجل إذا أمسى وأبناءه لا يجدون طعاماً وبناته في ظل هذا الزمن الذي يحتاج فيه الناس إلى الدينار والدرهم كره أبناه الدِّين لأنهم يشعرون أن الدين هو السبب في إنفاق المال كله , المقصود أن الإنسان يتبع السنة بفهم للسنة لا بفهمه هو , إنما كما فهمها الصحابة رضي الله عنهم , أبو طلحه رضي الله عنه رجل غني رجل ثري من ماله المحبب إليه مزرعة بجوار المسجد أحب ماله إليه معنى أن ماله كثير ولكن هذا أحب ماله إليه . كإنسان عنده مزرعة وعنده قصر أفراح وعنده عمائر وعنده أبناء يقوتهم . وأحب ماله إليه المزرعة أو قصر الأفراح فتصدق بقصر الأفراح تصدق بالبناية تصدق بالمزرعة هذا طبق السنة .
أما أن يأتي إنسان وهذا يمر علينا بحكم مخالطتنا للناس يأتي شاب لا يملك إلا راتبه وقد يأتيه الراتب أحيانا أو موظف في شركه مرة يثبت ومرة لا يثبت ثم يأتي ويقول : أنفقت مالي كله لمؤسسة كذا أو جمعية كذا أو لسبب كذا , هذا يا بني الإنسان يكون راشداً عاقلاً لا يتكلف مفقود ولا يرد موجود يمشى بخطى والله أعلم بما في صدور العالمين , ولا حاجة لأن يرى الناس ماذا تصنع .(1/6)
نقول : عموماً أن الإنفاق من أعظم أسباب حصول الخير , لكن كما قلت بضوابطه الشرعية . وكلما كان في السر كان أعظم وأبلغ قال عليه الصلاة والسلام لما ذكر السبعة : ( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) و ليست العبرة بالكثرة بقدر ما العبرة أن يصيب مال الإنسان ذا فاقة يحتاجها وكلما كان ذا قرابة كان أولى و أحرى لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أبا طلحه أن يضعها في قرابته فوضعها كما ذكرنا عند حسا ن وعند وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهم أجمعين .
هذا المعنى الإجمالي للآية أما ما يتعلق بها علمياً :
فإن " لن " : حرف ناصب يفيد نفي المستقبل كما أن " لم " : حرف جازم يفيد نفي الزمن الماضي , وأنت طالب علم ستمر عليك " لن و لم " كثيراً , " لن " ينفى بها المستقبل و " لم " ينفى بها الماضي وكلاهما يؤثر في الفعل بعده .
فـ " لن " تنصب الفعل و " لم " تجزمه . وإذا طبقتها على الآية الله عز وجل يقول : (( لَن تَنَالُواْ )) أصل الفعل تنالون بنون زائدة في آخر الفعل و تسمى نون علامة ثبوت النون من الأفعال الخمسة .
لما دخلت " لن " حذفت النون فأصبحت (( لَن تَنَالُواْ )) بدون نون ثم توضع ألف للدلالة على أن هذه الواو " واو الجماعة " .
(( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ )) اختلف العلماء في المقصود بالبر قيل إنه الجنة وهذا رأي ابن مسعود وابن عبا س رضي الله عنهم والسدي رحمه الله وغيرهم من أئمة التفسير , وإذا قلنا أنه الجنة يصبح تقدير الآية : لن تنالوا ثواب البر الذي هو الجنة . فوضع المقدر مكان ما قدر به . وقيل إن البر اسم جامع لكل خير واختاره ابن السعدي في تفسيره على أن المعنى أن يصل الإنسان إلى الاسم الجامع لكل خير .
والغاية أن يقال إن البر سواءً قلنا إنه الجنة أو الطريق إلى الجنة فالمعنى متقارب لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر الصدق قال : ( وإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ) ,
(((1/7)
لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ )) " حتى " هذه يقول عنها بعض النحاة , والنحاة معروفون جمع نحوي وهم مشتغلون بعلم النحو مثل سيبويه و أقرانه , أحدهم قال قبل أن يموت : " أموت وفي نفسي شئ من حتى " .
والمعنى أن " حتى " حرف غريب في تأثيره فيما بعده , وذلك أنهم لما نظروا إلى الأحرف وجدوا أن عملها واضح جلي بعضها ينصب و بعضها يجزم و بعضها عطف وبعضها استئنافيه ولها طرائق . ولما جاؤا عند "حتى " وجدوا أنها تقبل الجميع ويمثلون ــ وأنا قلت أني مضطر أن أتكلم هكذا لأنك ستفسر القرآن بعدنا فلابد أن تتضح عندك الطرق ــ يقولون مثلاً : " أكلت السمكة حتى رأسها " أكلت فعل وفاعل والسمكة مفعول به , وبعدها " حتى رأسها " قالوا : إن قلت أكلت السمكة حتى رأسُها بالرفع صح وإن قلت أكلت السمكة حتى رأسَها بالنصب صح وإن قلت أكلت السمكة حتى رأسِها بالجر صح . هذا الذي أشكل على النحاة وقال قائلهم : " أموت وفي نفسي شيء من حتى " .
فعلى القول أكلت السمكة حتى رأسُها تصبح " حتى " حرف استئناف و يصبح المعنى أكلت السمكة حتى رأسها أكلت , فتعرب رأسها مبتدأ وأكلت المقدر المحذوف خبر . وإن قلت أكلت السمكة حتى رأسَها بالنصب جعلت " حتى " حرف عطف فعطفت كلمه رأس على السمكة . وإذا قلنا أكلت السمكة حتى رأسِها بالجر تصبح " حتى " حرف جر وما بعدها اسم مجرور .
(((1/8)
حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) وهذا أحد معاني كلمة " ما " وقلنا فيما سبق أن " ما " تتكرر في القرآن ولها بحسب سياقها معاني عده فتأتي نافية وتأتي استفهامية , وهنا أتت شرطيه (( مَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) إذن الجملة جملة شرط . أداة الشرط : ما , وفعل الشرط : تنفقوا , وجواب الشرط : الجملة الاسمية (( فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) , على هذا " الفاء " في قول الله : (( فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) واقعة في جواب الشرط .
قصة بني إسرائيل ومن هو إسرائيل ؟
ثم قال تعالى : (( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )) .
نبين قصة إسرائيل ثم ندخل في مناسبة الآية :
إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء ورزقه الله بعد ما كبر ذريه نص الله على اثنين من هؤلاء الذرية الأكبران الأجلان إسماعيل وإسحاق عليهما السلام , إسماعيل من هاجر وإسحاق من سارة , ومن إسماعيل جاء نبينا صلى الله عليه وسلم ومن إسحاق جاء يعقوب عليهما السلام .
إلا أن يعقوب عليه السلام الأظهر أنه كان توأماً لأخ له يقال له " العيس " لما ولدتهما أمهما على ما يقول جمهرة المؤرخين ولدت العيس أولاً ثم أعقبه يعقوب فسمي يعقوب لأنه جاء في عقب أخيه . والعيس كان محبباً إلى إسحاق أكثر من يعقوب وكان يعقوب محبب إلى أمه أكثر من العيس .(1/9)
من يعقوب هذا ؟ بعدما كبر بفترة قابله مََلَك , المَلَك هو الذي سمى يعقوب إسرائيل على معنى أن كلمه إسرائيل عابد الرب ككلمه عبدالله أو حولها . إذن يعقوب عليه السلام له اسمان : يعقوب الاسم الذي سماه به أبوه والاسم الثاني إسرائيل . وبهما جاء القرآن قال الله عز وجل : (( فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ )) سورة هود ( 71 ) . وقال الله عز وجل : (( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ )) .
من ذريه إسرائيل هذا جاء بنو إسرائيل الذين من هم اليوم ؟ هم اليهود .
ومن ذريه إسماعيل جاء العرب المستعربة الذين هم نحن , ومن ذريه العيس جاء الروم الذين هم الأوربيون والأمريكيون اليوم ـ أغلب من هاجر إليها من الأوربيين ـ . إذن الأمريكيون و الأوربيون واليهود والعرب كلهم أبوهم إبراهيم عليه السلام , إلا أن إسحاق وإسماعيل كانا نبيين بنص القران أما العيس فلم يكن نبياً وإنما كان محبباً لوالده ودعا له كما يقولون أبوه أن يملك غلاض الأرض وأن يرزقه من الثمرات وهذا حاصل كل من يرى ما هم فيه من الثمرات يتذكر دعوة إسحاق عليه السلام لابنه العيس . إلا أن من ذرية إسحاق جاء يعقوب الذي اسمه إسرائيل . فعندما يقال بنو إسرائيل ينسبون إلى جدهم يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام . هذا إسرائيل " يعقوب " تخاصم مع أخيه العيس فخرج , عندما خرج بعد ما تخاصم مع أخيه العيس لم يكن له ذرية ثم رزقه الله ذرية , لما رزقه الله ذرية بارك الله له في ذريته حتى حصل ما حصل من قصة نبي الله يوسف عليهم السلام . ولم يكن يوسف وحيداً ليعقوب وإنما كانوا جملة أخوه ثم تاب الله على إخوة يوسف عليهم السلام .(1/10)
وعلى الصحيح أن إخوة يوسف هم الأسباط , فالأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب قال الله جل وعلا : (( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً )) سورة الأعراف ( 160 ) . أي : قبائل متفرقة كلهم يفيئون إلى الأسباط الإثنى عشر ولد الذين هم من ذرية إسرائيل . من هذه الذرية جاء أنبياء لا يعدون ولا يحصون منهم أيوب واليسع وذو الكفل سليمان وداود حتى وصلوا إلى موسى عليه الصلاة والسلام . فبين موسى وإسرائيل نفسه أمم لا تعد ولا تحصى أو فتره زمنية طويلة أكثر من ستمائة عام .
موسى عليه الصلاة والسلام هو الذي خرج ببني إسرائيل من أرض مصر , وهم سكنوا أرض مصر عند ما جاء يعقوب إلى ابنه يوسف عليهم السلام (( وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ )) سورة يوسف ( 100 ) .
أنا أريد أن أصل إلى قضية وهي قضية أنه توجد مسافة زمنية طويلة بين بني إسرائيل وبين موسى عليه السلام . التوراة أنزلت على موسى عليه السلام .
الآن نرجع للآية الله جل وعلا يقول : (( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ )) اختلف في سببها لكن جملة يقال :(1/11)
إن اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إن النسخ هذا شيء باطل , إذ ليس من المعقول أنت تأتي تنسخ شريعة موسى عليه السلام وشريعة عيسى عليه السلام وتقول : أنا أتيت بشريعة جديدة , و قالوا إنك تقول أن الله جل وعلى حرم علينا لأن الله في القرآن قال : (( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً )) سورة النساء ( 160 ) , و جاء قوله تعالى في سورة الأنعام الآية ( 146 ) : (( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ )) فقالوا : أنت تقول هذا الكلام وهم يقولون ـ وناقل الكفر ليس بكافر ـ يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم قولك هذا كذب هذه الأشياء محرمة علينا منذ إسرائيل بل هي محرمة منذ نوح وإبراهيم , ـ وهذا زعمهم ـ هنا الله جل وعلى يقول القول الفصل ولذلك قال بعدها : (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) .(1/12)
الله يقول لهم : إن الطعام كله كان مباحاً طيباً ليعقوب إلا جزئية بسيطة لم يحرمها الله . من الذي حرمها ؟ حرمها يعقوب على نفسه . لماذا حرمها ؟ ولم يذكر الله لما ذا حرمها , لكن ورد في السنن وفي الآثار أن يعقوب عليه السلام اشتكى عرق النساء ـ مرض معروف ـ فلما اشتكى عرق النساء نذر إن الله إذا شفاه من عرق النساء أن يحرم على نفسه أحب شيء إليه فكان يحب لحوم الإبل وألبانها , فلما شفاه الله حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها . إذاً تحريم يعقوب على نفسه لحوم الإبل وألبانها كان باجتهاد شخصي منه, ولم يحرم الله على إسرائيل ولا من بعده شيء من الطعام إنما حرمه على قوم موسى لما بغوا حرم الله عليهم ما ذكره الله جل وعلا لنبيه , فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول عن ربه : (( كُلُّ )) وهي من ألفاظ العموم في القرآن , (( كُلُّ الطَّعَامِ )) أي : أي مطعوم كان حلاً أي حلالاً وجاءت منصوبة لأنها خبر كان . (( كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ )) . كذبتم فيما تزعمون (( إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ )) . قلنا لحوم الإبل وألبانها لأمر عارض .
(( قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا)) إذا أتيتم بالتوراة ستجدون فيها أن الله لم يحرم على إسرائيل شيئاً لأن التوراة أنزلت في عهد موسى وإنما المحرم فيها ما حرمه الله على بني إسرائيل وفق ما نصه الله جل وعلا في كتابه .
قال الله بعدها : (( قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )) وهذا منتهى التحدي . و لم يأتوا بالتوراة وإنما بهتوا وألجموا ولم يقبلوا أن يعرضوها على النبي صلى الله عليه وسلم .(1/13)
ثم قال الله جل وعلا وهذا قول فصل وكلام رب العالمين لا يقبل الرد : (( فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ )) من قال وتَّزعم كذباً بعد أن بينه الله (( فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) وقطعاً هم ظالمون لأنه قد ظلم نفسه وجاوز حده وافترى على الله من رد على الله جل وعلا كلامه وكذب قوله لذلك قال الله بعدها : (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) .
بيان عظيم لبشرية النبي صلى الله عليه وسلم :
وعندما يقول الله (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) يأتي إنسان في هذه (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) وفي (( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )) و (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )) و (( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ )) ويسأل : لماذا النبي صلى الله عليه وسلم قرأها : ((قل صدق الله )) ؟ ألم يكن من المفترض أن يقرأها (( صَدَقَ اللّهُ )) و (( يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )) و (( هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )) و ((أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ )) وهذا سؤال يرد بلا شك على الذهن .
و الجواب عليه : أن هذا فيه بيان عظيم لبشرية النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يأتي بشيء من عنده وإنما هو مجرد مبلغ , ولله المثل الأعلى . يأتي إنسان عظيم ويبعث بشخص عزيز عليه مقرب لديه إلى قوم و يقول لهم : يقول لكم مثلاً الوالد تفضلوا عندنا على الغداء , أيهما أوقع على نفس المدعوين ؟ لو قال هذا تفضلوا على الغداء يأتي في قلوب الناس شك الدعوة هل هي من الولد أو من الوالد ؟ ولكن عندما يقول لهم : يقول والدي تفضلوا على الغداء , فإنه سوف يعرف المدعوين أن الابن ليس عليه إلا البلاغ وأن الدعوة فعلاً من الوالد .
فعندما يقول الله جل وعلا (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) وينقلها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا بيان أنه بشر لا علاقة له بالأمر والنهي والأمر والنهي والبلاغ من عند الله و إنما هو عليه الصلاة والسلام ليس أكثر من مبلغ بشيراً ونذيراً لقوم يؤمنون .
(((1/14)
قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) صدق بلا شك بكل ما يقول لكنها هنا تبنى على خصوص وعموم , تبنى على الخصوص (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) في قوله تعالى : (( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ )) و تبنى على العموم في أن الله صادق بكل ما يقول .
ولذلك عبدالله بن مسعود رضي الله عنه الصحابي المكنى بأبي عبدالرحمن إذا حدث غالباً يقول : " أخبرني الصادق المصدوق " , أو يقول : " سمعت الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم " , كما في الصحيحين من حديث الخلق النطفة والعلقة . فقوله صادق أي : فيما يقول . ومصدوق أي: فيما يقال له .
وهو عليه الصلاة والسلام لما بعث علي وجمع من الصحابة رضي الله عنهم إلى روضة خاخ عندما يدركوا الخطاب الذي بعثه حاطب بن بلتعه مع المرأة لتبعث به إلى كفار مكة , بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً و المقداد و جمعاً من الصحابة قال : ( ائتوا روضة خاخ تجدون فيها امرأة معها كتاب من حاطب إلى قريش فائتوني بالكتاب ) , لما ذهب علي رضي الله عنه وقبض على المرأة أنكرته , فقال علي : " والله ما كَذبنا ولا كُذبنا " بمعنى : نحن ما افترينا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال هذا الكلام وهو صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكذب علينا ويقول لنا إن معك كتاب وليس معك كتاب . وهذا هو معنى " ما كذبنا ولا كذبنا " .
(( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) فلما ظهر الصدق لم يبقى إلا الإتباع , قال الله جل وعلا : (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً )) والخطاب لليهود على وجه الخصوص وعلى كل من يقرأ القرآن ويصله البلاغ على وجه العموم .
(((1/15)
قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) ومن الذي ما كان من المشركين ؟ عائدٍ على إبراهيم عليه السلام ولماذا جاء به قلنا في سياق سابق أن الله جل وعلا نزه إبراهيم عليه السلام عن كل إثم لأن جميع الأمم ادعت أن إبراهيم منها وهي تنتسب إليه ولذلك قال الله جل وعلا فيما مر معنا : (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) آل عمران ( 67 ) .
يتحقق من هذا كله أمور بيناها فيما سبق ونربطها فيما لحق وهي :
أن هذه السورة سورة آل عمران لها علاقة قوية باليهود فأغلبها رد على مزاعم اليهود فكل ما زعمه اليهود يفنده الله جل وعلا و يبين لنبيه صلى الله عليه و سلم مكمن الصواب فيه .
تحرر من ذلك كله أن بني إسرائيل وبني إسماعيل وبني العيس كلهم يفيئون إلى رجل واحد هو إبراهيم . وما زال الناس بذلك ينتسبون ويلتقون في سام وحام ويافث أبناء نوح عليه السلام ثم يلتقون في نوح ثم في الإثنى عشر الذين كانوا مع نوح ثم يلتقون في أبيهم آدم عليه السلام . ولهذا عنصر التفضيل القبلي مرفوض وإنما كما قال الله جل وعلا : (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )) سورة الحجرات ( 13 ) , كلكم لآدم و آدم من تراب .
ثم قال الله عز وجل : (( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ{96} فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) .
أول بيت وضع للعبادة :
(((1/16)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ )) وضع لماذا ؟ وضع للعبادة وإلا البيوت قديمة . وليس الكلام عنها سواء كانت قديمة أو حديثة , وإنما يتكلم الله جل وعلا عن أول بيت وضع للعبادة . هذه الآيتان فيها كلام طويل نحاول قدر الإمكان أن نجمله :
أن المسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض للعبادة قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه لما سأله : يا رسول الله أي بيت وضع في الأرض أول ؟ قال : ( المسجد الحرام ) , قال ثم أي ؟ قال : ( المسجد الأقصى ) , أو بيت المقدس , قال : كم بينهما ؟ قال : ( أربعون سنة ) . من الذي قال بينهما أربعون سنة ؟ الرسول صلى الله عليه وسلم . والمشهور أن الذي بنى بيت المقدس هو سليمان بن داود عليهما السلام والمشهور الذي بنى البيت الحرام هو إبراهيم عليه السلام . و إذا أخذنا بهذا المشهور فلن يتفق الحديث مع الآية , لأن بين إبراهيم وسليمان ثلاثة قرون تقريباً والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أربعون سنة ) .
إذاً فالصحيح إن شاء الله : أن آدم عليه السلام هو أول من وضع الكعبة وبيت المقدس . ولا يمكن أن ينطبق الحديث إلاّ على آدم , ويصبح الكلام أن الله جل وعلا أمر آدم أو ملائكةً قبله أن يبنوا الكعبة ثم أمره بعد أربعين سنة أن يبنى بيت المقدس , ثم بين الله لإبراهيم مكان الكعبة ولذلك قال الله : (( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ )) سورة الحج ( 26 ) , أي: مكان الكعبة فأعاد بنائها , ثم بين لداود وسليمان عليهما السلام مكان بيت المقدس فأعادا بنيانه .
المسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي هي الثلاثة التي تشد إليها الرحال ـ وأنا أتكلم هنا بلا ترتيب لأنني قلت أن ما يتعلق هنا من الفوائد كثير ـ .
المسجد الأقصى وقصة مسجد قبة الصخرة :(1/17)
المسجد الأقصى فيه صور تنقل كثيرة , هناك مسجد اسمه قبة الصخرة و هناك مسجد اسمه المسجد الأقصى , فالمسجد الأقصى هو الذي ليس عليه قبة وهو الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم و ربط فيه دابته البراق , أما قبة الصخرة فالصخرة هذه كانت تعظمها اليهود وتصلي إليها في غابر الأزمان , ولما جاء بختنصر من بابل من العراق وأهلك اليهود أعانه النصارى , ولذلك فالعداوة بين اليهود و النصارى عداوة قديمة .
الصخرة كانت تعظمها اليهود في حين أن النصارى يعظمون كنيسة القيامة وما حولها بيت المقدس عموماً . إذاً فبيت المقدس متفق عليه بين اليهود والمسلمين والنصارى على أنه أرض مباركة وكل منهم له فيه غاية . وبيت المقدس كانت فيه الصخرة لما فتح عمر رضي الله عنه بيت المقدس و خرج من المدينة صلحاً وسلمت إليه مفاتيح بيت المقدس كانت النصارى مسيطرة على المدينة وكان اليهود أذلة , كانت هذه الصخرة يجعلها النصارى نكاية في اليهود مجمع للنفايات , وكان مع عمر رضي الله عنه كعب الأحبار ـ يهودي أسلم في المدينة ـ فسأل عمر رضي الله عنه كعب الأحبار فقال : " أين تراني أصلي؟ " فقال : " أرى أن تصلي خلف الصخرة " , حتى يصبح عمر رضي الله عنه مستقبل الكعبة وأيضا مستقبل الصخرة , فقال له عمر رضي الله عنه : " ما فارقتك يهوديتك تريدني أن أستقبل الصخرة حتى يرتفع شأن اليهود " , فتقدم و جعل الصخرة خلفه . وهو يعلم عمر رضي الله عنه أن الصخرة معظمة وأخذ يمسح النفايات عنها ولكنه لم يرد أن يصلي فيجعلها في قبلته فتفتخر بها اليهود . فالصخرة في بيت المقدس و بيت المقدس كله مبارك بلا شك لكن عمر رضي الله عنه لم يرد أن يجعل للصخرة خصوصية تزيد على خصوصية بيت المقدس فتقدم وجعل الصخرة خلفه .
السياسة لا تدخل في شيء إلا أفسدته :(1/18)
بقيت الصخرة على هذه الحالة حتى كان عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي وكان الذي ينازعه الخلافة خصمه عبدالله بن الزبير رضي الله عنه في مكة , والعرب كانت تحج إلى مكة فيلتقون بابن الزبير رضي الله عنه .
والسياسة لا تدخل في شيء إلا أفسدته . ولذلك العاقل لا يأخذ آراء السياسيين حتى لو كان أتقى خلق الله . فلا تكن إمعة كل من يحمل راية سياسية تعتقد أنها راية دينية , أصبح الناس يأتون ابن الزبير رضي الله عنه خصيم عبد الملك بن مروان ثم يعودون راجعين إلى الشام يقولون لعبدالملك بن مروان : " أن الناس وأمراء القبائل يحجون و يقابلهم ابن الزبير " . فأمر عبدالملك بن مروان أن يبنى على الصخرة قبة تكسى مثلما تكسى الكعبة وزينها لعل الناس أن يأتوها لسبب سياسي واحد هو أن ينصرفوا عن ابن الزبير رضي الله عنه .
ففهم الأمور في سياقها يريحك كثيراً عندما تستمع إلى أي خطاب سياسي . السياسة فيها شيء اسمه مراحل فالورقة هذه تنفع اليوم ما تنفع غداً , فلما انتهت القضية هذه بقتل عبد الله ابن الزبير رضي الله عنه على يد الحجاج بن يوسف واحتل العراق , عبد الملك لم يبالي بالصخرة ولم يكسها ولم يهدمها وإنما تركها على حالها الذي هي عليه اليوم , وجاء بعده ملوك لم يفهموا لماذا بناها وأخذوا يزينوها . هذه قصة بيت الصخرة , في قول الله تعالى : (( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ )) هذه الفائدة الأولى .
الفائدة الثانية : قال تعالى : (( لَلَّذِي بِبَكَّةَ )) والاسم الآخر مكة .
فهل هما بمعنى واحد أم المعنى يختلف ؟
القول الأول : قال بعض العلماء إن " الباء والميم " في اللغة كثيرة الإبدال بعضها عن بعض , فيقولون هذا طين لازب وطين لازم بالميم والمعنى واحد , على هذا القول تصبح مكة وبكة معناهما واحد ويصبح الباء والميم بينهما بدل .(1/19)
القول الثاني : أن بكة المقصود بها المسجد الحرام نفسه , ومكة يقصد بها الحرم كله , هذا قول وكلا القولين لا يمكن أن يكون تنافي بينهما ولا يتعلق به كثير اختلاف .
لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً )) ولاشك أنه مبارك بدليل أمور لا تعد منها : ))
أن الله جل وعلا يضاعف فيه الحسنات . 1ـ
أن من حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه . 2ـ
أن الله شرع فيه الطواف ولا يشرع إلا فيه . وغيرها كثير . 3ـ
والله نعته بأنه مبارك (( لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ )) .
(( فِيهِ )) أي : المسجد الحرام (( آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ )) لم يذكر الله الآيات وإنما ذكر واحدة فقال : (( مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ )) إذاً يصبح تقدير الكلام فيه آيات بينات كثيرة منها مقام إبراهيم . هذا أرجح ما قيل في إعرابها أنه مبتدأ لخبر محذوف مقدم تقديره منها مقام إبراهيم , وقيل غير ذلك لكن هذا الذي نراه والله اعلم .
من هذه الآيات الموجودة في الحرم المكي مقام إبراهيم .
والسؤال ما مقام إبراهيم ؟(1/20)
إبراهيم عليه السلام قلنا هو الذي رفع جدار الكعبة بناه وساعده ابنه إسماعيل عليه السلام . لما ارتفع البنيان وهذا مشهور قدم إسماعيل حجراً لأبيه ليرتقي عليه , حتى يبقي الله هذه المزية لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أصبح الصخر رطباً فآثار قدمي إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقيت في الصخرة ظاهرة بينةً على مر الزمان . حتى إن قبيلة في العرب تسمى بني مدلج معروفة بالقفاية ـ يعرفون الأقدام والأرجل ـ وكانوا يطوفون بالبيت ويرون أقدام إبراهيم عليه السلام , وذات يوم عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم صغير في حجر جده عبدالمطلب خرج يلعب رآه أحدهم فحمله إلى جده وقال له : من هذا منك , قال هذا ابني , فقال : حافظ عليه فإنه أقرب شبهاً إلى قدمي من في المقام , يقصدون إبراهيم عليه السلام . ولما عرج به صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى ورأى إبراهيم عليه السلام قال : ( ما رأيت أحداً أشبه بصاحبكم منه ولا منه بصاحبكم ) .
المقصود أن مقام إبراهيم حجر وطئ عليه إبراهيم لما أراد أن يبني الكعبة بعد أن ارتفع بنائها بقيت آثار قدميه إلى يومنا هذا , وقد شرع الله الصلاة عند هذا المقام قال تعالى : (( وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى )) سورة البقرة ( 125 ) .
(( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ )) ثم قال تعالى : (( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) دخله عائدة على المسجد أو على مكة عموماً .
(( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) ما المقصود من الآية ؟
واختلف العلماء في معنى قول الله تعالى : (( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) مكمن الخلاف أنه قد يدخل الإنسان الحرم ويؤذي فقد يأتي الحرم مجرم يخرج خنجر أو مسدس ويستطيع أن يقتل الناس في الحرم وهذا مر عبر التاريخ كله , فالتوفيق ما بين الآية وما بين الواقع مشكلة لأن الله تعالى قال : (( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) لذلك اختلفت كلمة العلماء في المعنى :(1/21)
القول الأول : إن هذا خبر عن الماضي بمعنى أن أهل الجاهلية قديماً كانوا يدخلون الحرم فلا يؤذي بعضهم بعضاً لحرمة البيت التي وضعها الله في قلوبهم وهذا معروف وإن كان ليس بصحيح على إطلاقه لأنه قد وقع في الجاهلية أذىً وسط الحرم والنبي صلى الله عليه وسلم أوذي وسط الحرم .
القول الثاني : قول ابن عباس واختاره الأمام ابن جرير الطبري إمام المفسرين وغيره أن الإنسان إذا جنى جناية خارج الحرم ثم دخل استجار بالحرم فإنه لا يقام عليه الحد ولا يقبض عليه ولكن يضيق عليه في المعاملة لا يبتاع معه ولا يشترى ولا يطعم حتى يضطر إلى الخروج فيقام عليه الحد . هذا قول وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله .
القول الثالث : (( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) أي آمناً من عذاب النار أي جعل الحج والعمرة سببان في النجاة من النار .
القول الرابع : وهو اختيار المظفر السمعاني رحمه الله في تفسيره أن المعنى أن الله جل وعلا أمَّن قريش في جاهليتهم لأنهم أهل الحرم قال تعالى : (( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ )) سورة العنكبوت ( 67 ) , فلم يكن يؤذون لأنهم أهل حرم الله , وكل من رامهم بأذى قسمه الله كما حصل لإبرهه وجنده , وهذا في ظني أقرب الأقوال إلى الصحة والله تعالى أعلم .
ثم قال الله جل وعلا : (( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) .(1/22)
اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إنك كنت تصلي إلى بيت المقدس , ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس وهو في مكة ويصلي إلى بيت المقدس وهو في المدينة , أما في مكة فكان عليه الصلاة والسلام يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس يصلي في جهة بحيث تكون الكعبة أمامه وبيت المقدس وراءها ويصبح استقبل بيت المقدس و الكعبة في آن واحد , هذا المشهور عن ابن عباس رضي الله عنه .
لما قدم المدينة هذه ما يمكن أن تجتمع لأن الكعبة في الجنوب وبيت المقدس في الشمال فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً كما في رواية البراء بن عازب رضي الله عنه عند البخاري وغيره ثم أنزل الله جل وعلا : (( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ )) سورة البقرة ( 144 ) , فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى الكعبة إلى وقتنا هذا .(1/23)
اليهود قالوا : هذا أكبر دليل أنك مضطرب في عبادتك . فبين الله جل وعلا لهم في جواب قرآني قال تعالى : (( قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ )) سورة البقرة ( 142 ) , كل الجهات ملك لله والله جل وعلا يختص منها ما يشاء ويتعبد عباده بما يريد , حتى لو تعبده كل شهر من جهة هو ربهم وهم عبيده والجهات جهاته والملك ملكه وليس لليهود ولا لغيرهم قول ولا برهان : (( قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )) .فالله جل وعلا ابتلاءً للناس وتمحيصاً واختباراً أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي إلى بيت المقدس وهو يعلم جل وعلا أزلاً أنه سينقلهم إلى الكعبة , في هذه الفترة يمحص الله جل وعلا عباده يبتلي خلقه من يثبت ومن لا يثبت كما قال الله جل وعلا : (( وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ )) سورة البقرة ( 143 ) , أي هذا الأمر عظيم إلا على من يسره الله جل وعلا إليه .
المقصود أن بيت المقدس كان معظماً , مبالغةً في تعظيم الكعبة أمر الله جل وعلا في رده على اليهود أن يكون الحج إلى الكعبة لما كانت الكعبة تفضل على بيت المقدس بوجوه كثيرة كان اختيارها مكان للحج أمر لا مناص منه قال تعالى : (( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )) " اللام " في (( وَلِلّهِ )) من حيث النحو حرف جر , من حيث المعنى للإيجاب والإلزام . فأوجب الله وألزم عباده حج البيت , ولم يكتف الله باللام بل جاء بحرف " على " , أتى بمؤكدين " اللام و على " وكلاهما تدل على الإيجاب والإلزام . تقول لفلان عندي كذا , على فلان عندي كذا , أي يجب علي له .
كل من استطاع الوصول إلى البيت يجب عليه الحج ومن لم يستطع فقد أعذره الله جل وعلا في كتابه :
(((1/24)
وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )) كلمة (( النَّاسِ )) عامة ثم جاء التخصيص (( مَنِ اسْتَطَاعَ )) فمن لم يستطع الوصول إلى البيت سقط عنه فريضة الحج .
الله جلا وعلا لم يحدد كيفية الاستطاعة وهذا من بلاغة القران لأنه لا يمكن عقلاً تحديد الاستطاعة بشي واحد من كل الأزمنة . ومن قال من العلماء رحمهم الله أن الزاد والراحلة فهذا قول مرجوح لا يمكن أن يكون صحيح لأنه قد يقع عارض أشد من الأول . ونأتي بعارض عصري لو أن المرض كفانا الله وإياكم شره المعروف بـ " سارس " انتشر في أمة مسلمة في بلاد ما حتى أهلكهم , ثم رغب أناس من هذه الأمة أن يحجوا إلى البيت يملكون زاداً ويملكون وراحلة .
هل من الحكمة أن يؤذن لهم بالحج ؟ قطعاً لا , لأنه قد يأتي منهم من يحمل المرض فيفتك بالحجاج كلهم . فلذلك من الحكمة منعه والحج يعتبر ساقط عنه ومعذور شرعاً , لأنه لا يستطيع الوصول إلى البيت فيمنع . هذا المنع لا علاقة له لا بالزاد و لا بالراحلة , فتبقى (( مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )) كلمة مفتوحة كل من استطاع الوصول إلى البيت يجب عليه الحج ومن لم يستطع فقد أعذره الله جل وعلا في كتابه .
(( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )) أي طريقاً .
(( وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) هذه (( وَمَن كَفَرَ ))للعلماء فيها ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن الآية على ظاهرها , والمعنى أن من لن يحج وهو قادر فهو كافر بظاهر الآية وهذا مذهب الحسن البصري رحمه الله ووافقه عليه بعض العلماء .
الوجه الثاني : أن من أنكر فريضة الحج فهو كافر وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وعليه جماهير العلماء .(1/25)
الوجه الثالث : أن الآية جرت مجرى التهديد والتغليظ والوعيد والزجر في بيان أهمية الحج إلى بيت الله وأنه كالكافر وهذا القول اختاره بعض العلماء وهو الذي إليه نميل والله أعلم .
و هذا له قرائن في الكتاب والسنة :
أما في القرآن : قال تعالى : (( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً )) سورة النساء ( 93 ) , مع اتفاقنا أن هذه الآية تحمل على أنها مبالغة في التهديد وإلا من قتل نفس ومات على التوحيد لا يخلد في النار .(1/26)
ومن السنة : قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل : ( عبد بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة وقاتل نفسه في النار ) وما إلى ذلك مما جاء في قصة الانتحار , والصحيح أن من مات منتحراً ولم يأتي بناقض شرعي ومات على لا إله إلا الله فإنه لا يخلد في النار ويُحمل هذه الأحاديث والآية (( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً )) النساء (29 ) , وغيرها على المبالغة في التهديد والزجر والوعيد وإلا قاتل نفسه لا يخلد في النار وإنما يسن لإمام المسلمين أو نائبه أن لا يصلي عليه , أما أنه يخلد في النار فلا يخلد في النار لما روى مسلم في الصحيح أن رجل من الصحابة اشتد عليه مرض ما فعمد إلى عروقه فقطعها فسال الدم فلما سال الدم أخذ ينزف حتى مات فرءاه ابن عم له في المنام وعليه ثياب بيض و قد غلت يداه أي أحكمت , قال : ما صنع بك ربك ؟ قال : عفا عني . قال : فما بال يديك ؟ قال : إن الله قال لي : (( إننا لا نصلح منك ما أفسدته من نفسك )) ـ لأنه قطع يديه ـ بعد ذلك الرجل لما استيقظ قص الرؤيا على الرسول عليه الصلاة و السلام فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( اللهم وليديه فاغفر , اللهم و ليديه فاغفر , اللهم وليديه فاغفر ) قالها ثلاثاً . قال النووي رحمه الله في شرح مسلم وغيره من العلماء في الآية دليل واضح على أن قاتل نفسه لا يخلد في النار .
لكن هذا يخاطب به طلبة العلم فقط ولا يقال للعامة حتى لا يستهينوا بقتل النفس لا بقتل غيرهم ولا قتل أنفسهم .
طالب العلم والتفريق في الخطاب :(1/27)
وطالب العلم ينبغي أن يفرق بين الخطاب إلى العامة و الخطاب إلى طلبة العلم , وبيان الحكم الشرعي غير الوعظ , ولذلك عندما تقرأ في كتب ابن قدامه رحمه الله أو غيره من أئمة الدين الفقهاء لا يتكلمون مع بعضهم بـ " اتقي الله , وخاف الله , واخش الله " هذا كلام وعظ ليس له علاقة بالأحكام الشرعية . وعندما يتكلم بالوعظ لا يتكلم عن تفسيرات اختلافات العلماء .(1/28)
يعني ما يأتي إنسان مثلاً في مسألة يخالف فيها آخر ويقول : " اتق الله خاف الله كيف تقول بهذا " الكلام العلمي أنت تقول له : " اتق الله " هو لم يتق الله ما يقول هذا الكلام لأنه يعتقد أنه صحيح , فلأنه يتق الله يقول هذا الكلام لا علاقة له بالتخويف من الآخر لأنه يعتقد أن هذا صحيح فهو يقوله لأنه يتقي الله فما في مجال لكلمة اتقي الله وخاف الله , لكن في إنسان يعلم شيء أنه معصية تقول له اتقي الله لأنه يعلم أنه معصية ويعصي الله جل وعلا , يعني مثلاً : " بسم الله الرحمن الرحيم " قلنا في درس سابق أنه يوجد اختلاف بين العلماء هل هي آية من الفاتحة أو ليست بآية ما تأتي لإنسان يعتقد أنها ليست بآية وتقول له اتق الله وخاف الله خاف عذاب النار قول : " بسم الله الرحمن الرحيم " , هو لأنه يخاف الله لم يقولها لأنه لا يعتقد أنها آية والعكس . هذا أهم شئ تفهمه في قضية النزاع العلمي . ولذلك أنت اقرأ مناضرات العلماء كلام ابن قدامه وغيرهم من أئمة العلم في كتب الفقهاء وغيرهم لا تجد فيها الأسلوب الوعظي ولا ذكر الجنة والنار لأن كل فريق يعتقد صحة ما يقوله , إنما يبنى الكلام على الأدلة . كلٌ يحاج الآخر بالأدلة .ولذلك يشتهر ما بين صغار طلبة العلم تقول له ما رأيك في أبو فلان ؟ يقول لك هذا ما يخاف الله . لماذا لا يخاف الله يفتي بكذا وكذا ويقول بكذا , هذا ليس بكلام رجل عاقل لأنه هو يخاف الله يقول ما يعتقده . وهذه أهم ما في الدرس وإلا لو طبقت هذا الكلام الذي يتناقله اليوم البعض لو طبق على الصحابة لهلكنا جميعاً , فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتبادلون الرأي ويقول كل منهم بقول , لا يأتي إنسان لآخر ويقول له اتقي الله لأن كلاً منهم يقول ما يعتقد أنه صواب , لكن كل منهم يقارع الآخر بالحجة وبالنظر وبالدليل ثم إذا المسألة استبانت لك لم تكن لتستبين لأخيك والعكس صحيح .(1/29)
هذا ما تيسر إيراده والفضل لله في أوله و آخره , سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .(1/30)
تأملا ت في سورة
النساء
للشيخ صالح المغامسي
(( الجزء الأول ))
من صفحة الشيخ صالح المغامسي بموقع صيد الفوائد
http://saaid.net/Doat/almgamce/index.htm
إن الحمد لله ، نحمده و نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد .
أيها الإخوة المؤمنين : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
في هذا اللقاء بعون الله وتوفيقه سننتقل إلى سورة النساء بعد أن أنهينا مواقف ثلاث مع سورة آل عمران والمناسب في الانتقال واختيار آيات اليوم قبل أن نشرع في بيان أحكام عامة من سورة النساء أن نبين أننا تحدثنا فيما مضى في سورة آل عمران عن بعض من جرائم اليهود وتكلمنا عن مسجد الصخرة وما إلى ذلك , واليوم ننتقل إلى إتمام الحديث لكن من سورة أخرى هي سورة النساء .
وننتقي بعضها للعلم ببعض من عقائد النصارى بعد أن بينا شيء من عقائد اليهود ثم نُعرج على بعض الأحكام الفقهية التي يستلزم الحديث عنها في الآيات .
فنقول مستعين بالله عز وجل .
مقدمة عن السورة وسبب تسميتها :
سورة النساء سوره مدنية ، جاءت متنوعة الأغراض كأكثر سور القرآن . ذكر الله فيها جل وعلا جملة من العقائد وجملة من الآداب وجملة من الأحكام . ولأن السورة من أكثر سور القران حديثاً عن أحكام النساء ، نُعتت بسورة النساء . وقد سبق أن بينا أن تسميت سور القران الراجح أنه توقيفي ، فعله الصحابة بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم . وهناك سورة أخرى تنعت بأنها سورة النساء الصغرى وهي سورة الطلاق .(1/1)
فإذا قيل عن سورة النساء إنها سورة النساء الكبرى فإن المقصود بسورة النساء الصغرى هي سورة الطلاق لأن كلا السورتين تحدثتا كثيراً عن أحكام النساء وما يتعلق بهن .
أما الآيات التي سنتكلم عنها تفصيلاً فهي :
قول الله جل وعلا : (( يسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً )) إلى قول الله عز وجل :
(( لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً )) سورة النساء 153ـ162 .
فقد سبق أن بينا شيئا من جرائم اليهود في سورة آل عمران , وفي هذا السياق يُخبر الله جل وعلا عن تاريخ اليهود إجمالاً , لا يختص هذا السياق بمرحلة دون عينها , فالجرائم التي سيذكرها القرآن الآن وسنفسرها إجمالاً، لا تتعلق بمرحلة زمنية معينة , فمنذ موسى عليه الصلاة السلام أنزلت عليه التوراة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قرابة أكثر من ألف عام , خلال الألف عام هذه كان اليهود يعيشون بُعث إليهم مابين موسى وعيسى عليهم السلام أنبياء ، ثم بعث إليهم عيسى عليه الصلاة والسلام وأعطاه الله الإنجيل . ولم يبعث أحد بعد عيسى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
عبر هذا التاريخ يذكر الله جل وعلا جملة من الخُبث الملازم لليهود في تعاملهم مع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
(((1/2)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً{153} )) سورة النساء .
فالله يقول لنبيه هؤلاء المعشر الذين يعاصرونك الآن اليهود يطلبون منك كتاباً ينزل جملة قالوا أن موسى عليه السلام جاءته التوراة جملة واحدة ، فنحن يا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لن نؤمن بك حتى تنزل علينا كتاباً جملة واحدة كما أُنزلت التوراة على موسى جملة , فرد الله جل وعلا عليهم لنبيه أن يقول لهم : (( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ )) من باب التعزية , (( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ )) . فلا تعجب يا نبينا ولا تستغرب من هذا الطلب ، لأنهم قد طلبوا طلباً أكبر منه، وهو طلبهم من موسى عليه السلام يوم قالوا له (( لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً )) . وهذا وقد قلنا أن القرآن يفسر بعضه بعضاً ذكره الله مفصلاً في سورة البقرة قال الله جل وعلا : (( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ{55} ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{56} )) . فهذا أول وأعظم طلبهم ، وفيه من الجرأة على الله جل وعلا مالا يخفى .
(((1/3)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ )) . لما طلبوا هذا الطلب أهلكهم الله بالموت ثم رحمهم تبارك وتعالى وأحياهم بعد ما أماتهم كما قال جل وعلا في سورة البقرة : (( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )) وهذا صريح بأن الله أماتهم ثم أحياهم .
وقد قال بعض العلماء من المفسرين : أن إماتتهم وإحيائهم كان في يوم وليلة .
(( فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ )) . " اتخذ " هذه الكلمة تنصب مفعولين ، ذكر الله واحداً منهما ولم يذكر الآخر لدلالة المعنى عليه بمعنى (( ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ )) يظهر من السياق واضح أنهم اتخذوا العجل إلهً , فإلهاً هي المفعول الثاني الذي لم يذكره الله ولأن هذا سبب نقمة الله عليهم وإلا لو أنهم اتخذوا العجل كدابة يركبونها ، أو دابة ينحرونها ليأكلوها ، أو لأعلافهم أو لأي شيء آخر لكان هذا أمر مشروع ، لكن القرآن يفسر بعضه بعضاً
والعجل اتخذوه في الفترة التي ذهب فيها موسى عليه الصلاة والسلام ليكلم ربه وجعل عليهم أخاه هارون ففي تلك الفترة لما أبطأ عليهم موسى لأن الله وعد ه ثلاثين ليلة ثم جعلها الله أربعين ليلة , فلما جعلها الله أربعين أبطأ موسى عليهم ، فلما أبطأ عليهم ملوا فصنع لهم السامري عجلاً من ذهب وجعل له طريقين يدخل منهما الهواء ، فأخذ الهواء والريح إذا دخلت من القبل وخرجت من الدبر أحدثت صوتاً فخدعهم بقوله : (( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ))( طه : 88 ) كما أخبر الله .(1/4)
هذه من جملة ما نقم الله عليهم .
الأول : أنهم سألوا موسى عليه السلام أن يروا الله جهرة (( فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً )) .
الثاني : أنهم اتخذوا العجل إلهاً من بعد ما جاءتهم البينات (( ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً )) .
ثم قال سبحانه : (( وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً{154} )) سورة النساء .
فهذه ثلاث وقعوا فيها .
أما رفع الطور، فالطور يطلق على الجبل الذي به نبت ، فإن لم يكن عليه نبات يسمى جبلاً فقط ولا يطلق عليه طور .
وهل هو الطور الذي كلم الله عنده موسى عليه الصلاة و السلام أو أي جبل أخر ؟
الجواب :
كلا الأمرين محتمل .
لما أعطاهم الله التوراة رفضوا أن يقبلوها ، فرفع الله عليهم الجبل تهديداً بأن يلقيه عليهم فقبلوا . قال الله تعالى في سورة الأعراف : (( وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ )) (171) . فهذا من جملة ما اعترضوا عليه وهي النقيصة الثالثة .
ثم أمرهم الله أن يدخلوا باب المدينة سجداً معترفين لله بالفضل وطلب المغفرة , فدخلوا يزحفون على مقاعدهم كما أخبر الله جل وعلا وهذه النقيصة الرابعة .(1/5)
والنقيصة الخامسة : أن الله جل وعلا قال : (( وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ )) . السبت المقصود به يوم السبت . وهذه قصة القرية التي كانت على الشاطئ . عبر الله عنها بقوله : (( حَاضِرَةَ الْبَحْرِ )) . وهذه ذكرها الله في سورة الأعراف . وأنه كانت هناك قرية من بني إسرائيل حاضرة البحر أمرهم الله أن لا يصطادوا يوم السبت فكانت الحيتان تأتيهم شُرعاً ظاهره تدعوهم فتنة لهم يوم السبت ويوم لا يسبتون لا تأتيهم فكانوا يلقون أشرعتهم يوم الجمعة ويأتون يوم الأحد ليجمعون فيحتالون على الله جل وعلا و بئسما فعلوا.
وهذا كله حدث في فترات زمنية متفاوتة ، وفي أماكن متفرقة ، وعبر تاريخ طويل لكن المقصود من هذا كله ، سياق بعض من جرائم اليهود بياناً وشفاءً لقلب نبينا صلى الله عليه وسلم .
قال سبحانه بعدها : (( وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً )) .
ثم قال سبحانه : (( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً{155} وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً{156} )) .
الآن السياق القرآني يأتي يبين هذه المعاصي ما الذي نجم عنها . يذكر القرآن المعصية إجمالاً ثم يأتي بها تفصيلا .
(( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ ))
عدنا للباء السببية , أي بسبب نقضهم للميثاق , ما أخذه الله عليهم عن طريق أنبيائه ورسله من مواثيق وعهود نقضوها وهذا دأبهم في كل آن وحين .
(( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ )) .(1/6)
وهذا يسميه البلاغيون مجاز مرسل , ومعلوم أن اليهود لم يقتلوا الأنبياء كلهم ، لكنهم لما استباحوا دم واحدٍ منهم كأنهم استباحوا دم الجميع . وأي إنسان يستبيح دم شخص واحد فإنه يستبيح الدماء التي توازيه . فالله عبر عن قتلهم لنبي بقتل الأنبياء جميعاً , هم قتلوا يحي وقتلوا زكريا عليهم السلام فهنا عبر الله عنه بقتل الأنبياء جميعاً لأن الأنبياء جميعاً يجمعهم دين واحد .
(( وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ )) .
هنا (( وَقَوْلِهِمْ )) لمن ؟ لنبينا . (( وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ )) و الغلف جمع أغلف ، وهو الشيء المطبوع المختوم الذي فيه حجاب يحول بينه وبين وصول المعرفة إليه .
(( وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً )) .
هذه الأخيرة (( فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً )) لها وجهان في التفسير :
الوجه الأول : أنه أسلوب تستخدمه العرب في كلامها بمعنى عديم الأيمان .
الوجه الثاني : أنهم لم يؤمنوا ألا بقليل من أنبيائهم . فلما لم يؤمنوا بالكل كأنهم لم يؤمنوا , لأن الشرع يوجب الإيمان بالأنبياء جميعاً بلا استثناء ، ولعل هذا أظهر . ...
(( وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بهتناً عظيماً )) .
كرر الله الكفر ثم ذكر شيء من جرائمهم وسننتقل بعدها للنصارى .
(( وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بهتناً عظيماً )) .
القول الذي قالوه في مريم هو إنها زانية ، وبرأها الله جلا وعلا كما هو معلوم في كتابه .
(( وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بهتناً عظيماً )) .(1/7)
البهتان هو الكذب والإفك والقول بلا حق ولا علم ولا بينة كله يمكن تسميته بالبهتان . أما مريم فهي سيدة نساء العالمين ولم يذكر الله جلا وعلا في القرآن اسم امرأة باسمها الصريح إلا هي عليها الصلاة والسلام ، رغم أنها ليست بنبيه لأن الله جل وعلا قال في سورة يوسف : (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم )) فلا يوجد نبي امرأة , ما بعث الله امرأة قط ، لكنها الوحيدة من النساء عبر التاريخ كله التي ذكرت باسمها الصريح في القرآن وهي سيده نساء العالمين كما جاء ذلك في صحيح السنة مريم البتول العذراء اسمها مريم بمعنى عابدة أو خادمة الرب . و قصتها أشهر من أن تعرف (( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً )) (مريم : 16 )) . شرقي بيت المقدس . جاءها روح القدس جبريل عليه الصلاة والسلام و نفخ في جيب درعها فحملت بعيسى , وبعد أن وضعته أتت به قومها فكذبوه واختلفوا فيه ، منهم من صدقها ومنهم من كذبها وكان مولد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام .
فالله هنا يقول من جرائم اليهود رميهم لمريم المبرئة بالزنا وبكفرهم وقولهم على مريم بهتناً عظيماً .
(( وقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً )) (النساء : 157-158 )) .
هذا يقودنا للحديث عن النصارى، كما تحدثنا عن اليهود والتفصيل كالتالي :(1/8)
ولد عيسى ابن مريم فحملته أمه ، وأتت به للملأ من بني إسرائيل فأنكروه , وقالوا يا مريم لقد جئتِ شيئاً فرياً فأشارت إليه فأنطقه الله في المهد : (( قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً )) سورة مريم (30) . وما اختلف الناس في رجل كما اختلفوا في عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام . أخذ يدعو إلى ربه ، فأسلم على يديه أقوام سُموا في القرآن بالحواريين وهم خاصة أصحابه عليه الصلاة و السلام , ثم لما ظَهُر أمره خاف خصومه وأعدائه من اليهود
فتآمروا على قتله فبعضهم يعرفه بعينه وبعضهم يعرفه باسمه , فلما أجمعوا أمرهم على قتله ، أخذوا معهم شخصاً يدلهم على مكانه ، فلما دخلوا عليه ليقتلوه رفعه الله جل وعلا إليه ، وألقى شَبَهَهُ على غيره .
مع اختلاف بين العلماء فيمن أُلقي عليه الشبه ، فقيل أنه عبد من الحواريين صالح ألقى الله عليه الشبه غير عيسى . وقيل أن الرجل الذي دلهم عليه وهو يهوذا عند بعض المفسرين هو الذي ألقى الله عليه شبه عيسى فقتله اليهود ظناً منهم أنه عيسى عليه الصلاة والسلام .
و جملة الأمر أن الله جلا وعلا شَبَّهَ لهم شخصاً غير عيسى ورُفِع عيسى إلى السماء ، كما قال ربنا في صريح القران : (( بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ )) . وهذا الذي شبه بهِ اختلفوا فيه . فلما أخذوه قالوا إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ؟ وان كان هذا صاحبنا فأين عيسى ؟
فأخذوه وصلبوه وقتلوه اعتقاداً منهم أنهم ينتقمون منه . وكان هذا في بيت المقدس في المكان المسمى اليوم بكنيسة القيامة وتعظمه النصارى وسيأتي لماذا تعظمها النصارى .(1/9)
رفع الله عيسى إلى السماء , فالله جل وعلا يقول إن اليهود تزعم أنها قتلت عيسى ، فالله أنكر ورد على اليهود قولهم أن عيسى قتل أو صلب، بل أنه سبحانه رفعه إليه فهو حيٌ جسداً وروحاً في السماء الثانية كما قابله النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج . وسينزل كأمارة وعلامة من علامات الساعة .
معتقدات النصارى في عيسى :
نرجع للنصارى وعيسى . فبعد رفعه النصارى صدقوا اليهود في أن عيسى صلب وقتل , وقالوا إن الله جل وعلا ـ وعلى هذا تقوم عقيدة النصارى ـ يقولون إن الله عدل ومن عدله ألا يترك الخطيئة بلا عقوبة . فيقولون أن آدم أكل من الشجرة فارتكب الخطيئة فلما أكل من الشجرة وارتكب الخطيئة واهبطه الله ، كل ذريته ترث خطيئته . وقالوا لابد أن تُكفر الخطايا عن الذرية . ولما كان الله من صفاته مع العدل الرحمة تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، بعث ولده الذي هو عيسى . وأنزله إلى الأرض وأحله في الناسوت بدل اللاهوت ، يعني أنسي . وصلب هذا وقتل حتى يكفر عن البشر كلهم خطيئة أبيهم آدم . فمن آمن أن عيسى ضحى من أجل البشر أصبح مؤمناً ينجوا يوم القيامة ، ومن لم يؤمن أن عيسى ضحى من أجل البشر لا يعتبر مؤمن .
كيف يُؤمِنون الناس ؟ عندهم ما يسمى بالتعميد . وصفته أن يأتوا بالطفل على خلاف في المذاهب عندهم ، لكن قد يأتوا بطفل شباب لكن غالب المذاهب عندهم يأتون بالطفل الصغير . إما أن يضعونه في مكان فيه ماء كحوض أو يرشون عليه الماء . ويقولون باسم الأب والابن وروح القدس . فإذا قالوا هذه الثلاثة يعتقدون أن هذا الابن عُمِّد وإذا عُمِّد طهُر من الذنوب والخطايا فأصبح قابلاً للنجاة يوم القيامة . وهم عندهم جنة ونار وعندهم حساب ، لكن بناء على هذا الاعتقاد . ثم يختلفون هؤلاء النصارى على ثلاث طوائف رئيسية وهي الأرثوذكس وهؤلاء انفصلوا في عام 1054م عن الكاثوليك ، والكاثوليك هي الكنيسة الأم والبروتستانت هي الكنيسة الثالثة .(1/10)
فأصبحت ثلاث كنائس رئيسيه . نفصل فيهم على النحو التالي :
1ـ الكاثوليك:
وهي الكنيسة التي في روما اليوم ، والتي تتبع البابا يوحنا بولس الثالث وجل كنائس العالم في النصارى تابعة للكاثوليك .
2- الأرثوذكس :
وهؤلاء أقل منهم ومعناها مستقيم المعتقد حسب ظنهم . و هذه خرجت عن الكنيسة الأم ويتبعها بعض الكنائس؛ كالتي في مصر تتبع البابا شنوده الثالث ، و هذا تابع لهذه الكنيسة .
3-حركة إصلاحية :
وقد خرجت من الكاثوليك في القرن الثامن عشر الميلادي تقريباً على يدي مارتي لورثر و اسمها الكنيسة البروتستانت ، وهذه تؤمن بأن لليهود منّة على النصارى وهذه الكنيسة الثالثة هي التي يدين بها الرئيس الأمريكي المعاصر ورئيس الوزراء البريطاني المعاصر تورن بلير الذي يجمع بينهما ارتباطهماً حالياً بهذه الكنيسة . أما الكنيسة التي في روما فهي منفكة عنهم ولا علاقة لها بهم .
إذن ينجم عن هذا أن النصارى غالباً هم ثلاث فرق ، ويوجد فرق شتى غير هذه لكن هذه الفرق الثلاثة هي الأم يجتمعون في أمور ويختلفون في أمور أقل منها لكن جميعهم يتفقون على أن الأقانيم ثلاثة وهم الأب والابن وروح القدس تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا , وقد رد الله على الجميع في كتابه وسيأتي في الدرس القادم كيف رد الله جل وعلا عليهم اليوم فقط العرض .
أصل الصليب :
نأتي لقضية الصليب الأصل أن عيسى بعث لبني إسرائيل مثل موسى عليهما السلام . وقد قلنا في التأملات في سورة آل عمران أن بني إسرائيل يعودون إلى إسرائيل الذي هو يعقوب ؛ وقلنا أن يعقوب له أخ اسمه العيس وقلنا إن من ذرية العيس الروم . وأن هذا العيس كان فيه صُفرة ولذلك يسمون ببنوا الأصفر . فأبو سفيان لما رأى هرقل يخشى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لقد أصبح ملك محمد عظيماً فقد خافه بنوا الأصفر " .(1/11)
فأصبح الروم الأصل ليس لهم علاقة بعيسى عليه الصلاة والسلام , إذن الآن الدين النصراني في بني إسرائيل أكثر أم في الروم ؟ في الروم في أوربا أكثر وكذلك في أمريكا فالنصرانية أكثر من اليهود . وهذا جاء بعد ثلاث قرون من رفع عيسى عليه الصلاة والسلام حدثت حروب مابين الرومان وأشياعهم؛ فآمن ثلة من الرومان بعيسى عليه الصلاة السلام أي بالنصارى بما بقي من دين عيسى عليه الصلاة والسلام من المؤمنين الذين معه . وكانت اليهود كما قلنا تزعم أنها قتلته ويأتون للموطن والذي قلت لكم أن اسمه الآن كنيسة يوم القيامة فيأتون لهذا الموطن الذي قتلوا فيه عيسى عليه الصلاة والسلام فيرمون فيه القاذورات والقمامة حتى تجمعت . فجاء قسطنطين الثالث فآمن بدين عيسى عليه الصلاة السلام مع التحريف . فجاءت أمه واسمها هيلانه بعد أن جاء رجل يبحث في تلك القمامات حتى وصل إلى الصليب أي وصل إلى الخشبة التي صلب فيها من يعتقد اليهود أنه عيسى . فالصلب وقع لكنه ما وقع على عيسى . ولكن اليهود صلبوا رجلاً وقتلوه على هذه الخشبة . و لما أخذوا يفتشون هذا الرجل وجد تلك الخشبة وعليها حركة الصليب المعروفة الآن . وحصل هذا بعد عيسى بثلاث قرون .
ولما أخذ هذا الرجل هذا الصليب زعم أنه كان مريض فلما تمسح بها برئ . فلما علم الناس بذلك أخذوا يصنعون الصليب ويتبركون به ويعتقدون به إلى يومنا هذا . وهذا أصل فكرة خروج الصليب للناس .
ولما علمت تلك المرأة ــ هيلانه ــ بهذا أمرت بمحو القاذورات وما كان موضوعاً , وبنت عليها كنيسة أسمتها كنيسة القيامة .
ومعنى كنيسة القيامة هو : أنهم يعتقدون جهلاً أن عيسى بما أنه مات فإنه سيبعث من هذه الكنيسة . وهي موجودة في بيت المقدس . وإن لم أنسَ السادات ـ رئيس مصر المتوفى ـ لما زار إسرائيل ، تكلم أو ألقى خطاب في هذه الكنيسة المقصود سواءً ألقاها أو لم يلقيها أن هذه الكنيسة قائمة وتعظم إلى اليوم .(1/12)
وهذا سبب تسميتها بكنيسة القيامة وأحيانا تسمى بكنيسة القمامة بالنسبةً لما كان عليها .
هذه المرأة لما أمرت بإزالة هذه النفايات وضعوها على الصخرة التي تعظمها اليهود . وكان يصلي إليها موسى عليه الصلاة السلام وقلنا في الدرس الماضي أن هذه الصخرة من الذين محو القاذورات عنها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولكنه صلى أمامها وجعلها خلفه. فأصبح بيت المقدس يضم الكنيسة التي يعظمها النصارى؛ ويضم الصخرة التي تعظمها اليهود ويضم المسجد الأقصى الذي يعظمه المسلمون .
و هذا مجمل ما يمكن أن يقال عن عقيدة النصارى والتي ذكرنا أنها قائمة على سر التعميد والإيمان بأن الله كفر عن البشر خطاياهم ببعث ابنه تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .
والآن نعود للآية الله جل وعلا يقول : (( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً )) .
(( عَزِيزاً )) أن يقتل نبي من أنبيائه وهو جل وعلا غير مريد .
(( حَكِيماً )) بسبب رفعه لعيسى عليه الصلاة والسلام إلى السماء الثانية . والمحفوظ عندنا في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وفي ظاهر القرآن أن عيسى عليه الصلاة والسلام سينزل في آخر الزمان واضع يديه على أجنحتي ملك يخرج منه مثل بقايا الوضوء ؛ ويقتل الدجال بحربة تكون معه قال الله عز وجل : (( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ )) (الزخرف : 61 ) .
قال الله جل وعلا بعدها :
(( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً{159} )) سورة النساء .(1/13)
هذه الآية إحدى معضلات القرآن لأن تفسيرها غير واضح .
هذه الآية تحتمل عدة تفاسير لكن نكون معكم صريحين هذا درس علمي إلى الآن لم أقف على تفسير مقنع .
لكن نقول جملة ما قاله أهل العلم :
الله جل وعلا يقول : (( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ )) . المعنى لا أحد من أهل الكتاب , (( إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ )) الآن يوجد ضميرين الهاء في (( بِهِ )) والهاء في (( مَوْتِهِ )) على من تعود ؟ هذا موضع الإشكال .
تحتمل الآية أن يكون معنى الآية أن الله يقول : ما من أحد من أهل الكتاب ألا يؤمن به أي بعيسى قبل موته أي قبل موت الكتابي . فيصبح الضمير في (( بِهِ )) عائد على عيسى عليه الصلاة والسلام والثانية عائده على الكتابي . فيصبح معنى الآية أن ما من يهودي ولا نصراني تغرغر روحه إلا وهو مؤمن أن عيسى عبد الله ورسوله لكنه لأنه يؤمن في ساعة الاحتضار فلا يقبل منه . وهذا مروي عن ابن عباس وقاله به كثير من العلماء , لكن يصعب تصوره وهذا الأمر الأول .
الأمر الثاني : قالوا أنه ليس من أحد من أهل الكتاب ألا ويؤمن بعيسى قبل موت عيسى أي ينزل مرة أخرى فيؤمنون به . لكن يأتي الإشكال أن الله قال : (( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ )) أي لا أحد من أهل الكتاب وقد مات جمع غفير من أهل الكتاب قبل أن يرى عيسى عليه الصلاة والسلام وقد نموت نحن قبل أن ينزل عيسى . وهذا هو الإشكال على التفسير الثاني .
الأمر الثالث : يبقى تفسير آخر و لعله يكون أقربها إلى الصواب يصبح معنى الآية إنه ما من كتابي يحضر ويبقى حياً إلى يوم عيسى إلا ويؤمن به وهذا تحدث إشكالية أخرى وهي أن اليهود من أهل الكتاب ولا يؤمنون بعيسى حتى بعد نزوله .
فيبقى تفسير الآية إلى يومنا هذا في علمنا غير واضح . إنما نقلنا ما ذكره أهل التفسير فإذا أوقفنا الله على شيء آخر سنخبركم به في حيينه .
(((1/14)
فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً{160} وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً{161} لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً{162} )) سورة النساء .
الكلام في هذه الآيات بوجوه عدة :
أولها : أن المعاصي من أعظم أسباب الحرمان ولذلك الله جل وعلا قال : (( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ )) .
فإذا كانت المعاصي من أعظم أسباب الحرمان فما أعظم أسباب العطاء ؟
الطاعات إذا كانت المعاصي من أعظم أسباب الحرمان فإن الطاعات من أعظم أسباب العطاء قال الله جل وعلا : (( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً )) (الطلاق : 3 ) . فالله يخبر أن ما حل على اليهود من تحريم كثير من الطيبات إنما كان بسبب معاصيهم .
)) فبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ )) .
كذلك الآية تتكلم عن بعض من مظالم اليهود . ومنها الصد عن سبيل الله ومنها أكل أموال الناس بالباطل ومنها أكل الربا .(1/15)
قول الله جل وعلا : (( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ )) من الناحية العلمية هذا عطف عام على خاص . لأن أكل أموال الناس بالباطل يدخل فيه الربا .
نتكلم الآن عن الربا :
الربا محرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين .
ومن الفوائد أن يقال إن هناك معصيتين حرمها الله على جميع الأمم ولم يبحها الله في أي شريعة قط , هما الربا والزنا . وهذا قول بعض أهل العلم .
والربا ينقسم إلى ثلاث أقسام وهي :
ربا الفضل وربا النسيئة وربا القرض .
وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم الأصناف الربوية فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما : ( الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر, والملح بالملح ، سواء بسواء يداً بيد . فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ) . معنى الحديث : أن هذه أصناف ربوية مابين مكيل وموزون إن كان مطعوماً يدخلها الربا .
القسم الأول: ربا الفضل
الفضل في اللغة : الزيادة .
سنأتي بصورة له حتى تفهمه :
إنسان يأتي مثلاً بالتمر والتمر كما ذكرنا صنف ربوي والتمر في بلادنا موزون ، يباع بالوزن بالكيلو . فلو جاء إنسان ومعه 3 كيلو من التمر، وآخر معه أربعة كيلو من التمر .
وهذان الصنفان ربويان فالتمر صنف ربوي كما ذكرنا ونقصد به أنه يدخله الربا وليس لأنه صنف ربوي يعني أنه محرم .
والأربعة زيادة على الثلاثة . فلا يصح التبادل ولو كان أحدهما أفضل من الآخر . كأن يكون هذا تمر عجوة أو أعلى منه أو اقل . أو نقول هذا برني ـ أسماء أنواع للتمور ـ أو هذا رديء وهذا جيد فأعطيني أربع كيلو بثلاث كيلو أو كيلوين بخمس كيلو . فهذا لا يجوز ، وإذا وقع فهو ربا فضل .
ما معنى ربا فضل ؟
أي زيادة . لأنهما اتفقا في الصنف و اختلفا في الزيادة . وهذا هو معنى ربا الفضل وهو محرم .
القسم الثاني : ربا النسيئة(1/16)
النسيئة تعني التأجيل و التأخير . قال الله جل وعلا في سورة التوبة : (( إِِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ )) أي التأجيل زيادة بالكفر .
كيف يقع ربا النسيئة ؟
تأتي بصنف ربوي واحد وبصنف ربوي آخر . والرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم ) لكنه قال : ( يدا بيد ) . هم يلغون ( يداً بيد ) فيؤخر واحد عن الآخر .
مثال:
الآن 375 ريال سعودي تساوي 100 دولار أمريكي , الدولار يعتبر صنف ، والريال يعتبر صنف . فلو قايضتهما بعضهما ببعض الـ100 دولار ليست مثل الـ375 , فـ 375 أكثر من الـ100 .حتى لو أخذتها بـ500 , أو لو أخذتها بـ 200 , أي لو كان واحد زائد والآخر ناقص أي أقل منه فإنه لا يضر . لأن الصنفين مختلفين فالدولار غير الريال ولكنها كلاهما صنف ربوي لأنها ذهب وفضه .
كيف يدخل الصورة السابقة ربا النسيئة ؟
الجواب أنه لو أتى للصراف فقال : أنا أعطيك 500 ريال سعودي بس أنا أبغى أسافر أعطيني 100دولار أمريكي فيعطيك 100 دولار ولا تعطيه الـ 500 . تقول الـ 500 بعدين ، أنا ما عندي الآن . فأنت تأخرت! فيكون هذا ربا النسيئة . أو هو لا يعطيك وأنت تعطيه . أي أحدكما يدفع والآخر لا يدفع . فهذا ربا النسيئة وهو محرم ، لكن إذا أخذ منك 100 وأعطاك 500 أو 375 أو قدرها أو أعلى أو أو ، حيثما اتفقتم بالحال يداً بيد فهذا ليس ربا . لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ) . يعني كله ناجز ولا يباع ناجز بغائب .
القسم الثالث : ربا القرض
وهو أصل الربا ، وهو الذي كانت تتعامل به العرب في الجاهلية . وهو يدخل في ربا الفضل والنسيئة ، ولكن ميزناه لوحده أفضل حتى يتضح .
وهو أن يأتي إنسان فيقرض إنساناً آخر شيء يجوز قرضه . ليس فقط ذهب وفضه بل أي شيء يجوز قرضه ، ثم يشترط عليه منفعة مقابل هذا القرض . وأكثر ما يقع في الأموال .
مثال :(1/17)
شخص يأتي إنسان يطلب منه مال . فيعطيي10 آلاف إلى ثلاث شهور . فإذا انتهت المدة يأتي الدائن للمدين يقول أريد الـ 10 آلاف . فيقول له : لا أملك . فيقول له : إما أن تأتي بها في الحال وإما أؤخرها أنا لك شهر على أن تردها لي أكثر من 10 آلاف ريال ولو ريال واحد . فالريال الواحد مثل الـ 100 ألف في الحكم . هذا يسمى ربا القرض . وهو الذي قال الله جل وعلا فيه : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) (آل عمران : 130 ) . وهو الذي قال فيه أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ) وقال ( هم سواء ) أي هم في الإثم سواء . أخرجه مسلم من حديث جابر وأخرجه البخاري من طريق آخر لكن المعنى في الصحيحين . هذا ربا القرض .
و ينجم عن ربا القرض مسائله تسمى عند العلماء قلب الدَّين وهو من كبائر الذنوب.
قلب الدَّين :(1/18)
إنسان يعطي إنسان قرض1000 ريال ويقول إلى شهر . ثم جاء بعد شهر و هذا ليس عنده الـ 1000 ريال فهو رجل مستور الحال الذي عنده شيء لا ينفك عن قوته يعني شيء تقوم به حياته . يعني مثلاً سيارة يذهب بها ويغدو على قدر مستواه الاجتماعي , أو بيت صغير مثلاً يسكنه . يعني أشياء خاصة لا يمكن أن يستغنى عنها لا فقير ولا غني . فيأتي هذا الذي له المال له الـ 1000 ريال وهو ليس معه الـ 1000 ريال فيأتي هو بالـ1000 ريال. ويقول له بيعني هذا الألف , ويأتي لشيء خاص عند هذا الرجل يحتاجه فيقول له بيعني إياه بـ 1000 ريال . فيأخذ الشيء الخاص ويعطيه ألألف , ثم يقول له رد لي هذه ألألف التي لي عندك ولأنه يعرف أنه لا يملك ألألف ريال يأتيه بالألف ويشتري منه مثلاً ثوبه وعمامته وساعته بالألف ريال أو السيارة التي يغدو بها ويذهب ويوصل بها أبنائه للمدرسة . قال هاتها أنا اشتريها منك بـ1000 على أنك تعطيني الألف لأن لي عندك 1000 ريال .
هذا يسمى قلب الدين وهو من كبائر الذنوب كما نص عليه العلماء ونقل العلامة الشيخ عبد الله بن البسام رحمة الله عن شيخه العلامة عبد الرحمن السعدي القول أنه من كبائر الذنوب .
هذه أصناف الربا وكلها محرمة ولا يوجد أحد ولله الحمد فيما نعلم من علماء المسلمين أباح الربا في أي قطر كان .
فلما تفهم أو تسمع أن أحد أباح الربا من علماء المسلمين ، فلا تصدقه .
هذا ليس بعالم .
لا يوجد أحد يتجرأ فيبيح الربا . لكن قد تفهم أنت المسألة خطاء , فهذه مسألة ثانية ، لكن الربا لا يحتاج أن تقول مسألة خلافية ويمكن ويأخذ و ما يعطى ما فيه . فالربا محرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين .
مسائل :
نرجع للآية . ينجم عن الآية مسألة لها وضع خاص في عصرنا .(1/19)
نحن نعلم أن اليهود هم من أكلت الربا ، بنص القران قال الله تعالى : (( فبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً *وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا )) . هذا كلام رب العالمين ، ومع ذلك ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى شعيراً من يهودي وليس عنده مال . فرهن درعه صلوات الله وسلامه عليه عند اليهودي ؛ بعد أن اشترى منه . إذن النبي عليه الصلاة والسلام تعامل مع اليهود بيعاً وشراءً . رغم أنهم أكلت ربا .
إذن ينجم عن هذا : أنه إذا سألت هل يجوز التعامل مع البنوك الربوية بيعاً وشراءً ؟
الجواب يكون نعم .
لأن اليهود أكلت ربا والنبي صلى الله عليه وسلم اشترى منهم وباع إليهم وقَبِل هداياهم . وذلك مالم تعلم أن عين ما تتعامل به محرم . يعني رأيت إنسان يسرق سيارة أمام عينيك ثم يبيعك إياها فهذا لا يجوز .
لكن لو أن إنسان اشترى من أي بنك بماله شراء وبيعاً شرعيا فالبيع جائز باتفاق المسلمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من اليهود ولأن الله قال في كتابه وهو يعلم أن اليهود حرفوا والنصارى حرفت قال جل وعلا في سورة المائدة : (( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ )) . ولن يكون طعامهم حلٌ لنا حتى يكون بالشراء . فطعامهم لن يأتينا هدية . بل لابد من الشراء . فأباحه الله لنا أكله , فإذا أباح الله لنا أكله إذن من باب أولى أن يبيح شرائه . وهذه المسألة تحتاجها كثيراً في العصر الحالي .
حتى لو كان محارباً ؟ هذه مسألة عصرية .عنون الإمام البخاري في الصحيح باب " الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب " وساق حديثاً أن النبي صلى الله عليه وسلم في سفر له اشترى قطيع غنم من رجل مشرك وكان النبي صلى الله عليه وسلم في خارج المدينة في حربه مع أهل الشرك .(1/20)
ولو جاء إنسان بما يسمى اليوم بالمقاطعة . فما حكمها ؟
لا شك أن المقاطعة إذا تبناها الإنسان قربة لله . وأراد بها قطيعة من يعين أهل الباطل وتعبد الله بها . فإنها قربة يثاب عليها بلا شك . لكن نحن لا نتكلم عن القربة من عدم القربة . نحن نتكلم عن صحة البيع وصحة الشراء . وأنت تُنَزِّل الأشياء على منازلها .
لكن الكلام بالحِّل أو الكلام بالحرمة هو توقيع عن رب العالمين . قال ابن القيم : " أعلام الموقعين عن رب العالمين " . والكلام عن رب العالمين بالحل والحرمة لابد أن يكون على بينةٍ وهدي من الكتاب والسنة ، ولا علاقة للعواطف به . ولن تكون أعظم ورعاً من رسولنا صلى الله عليه وسلم .
فاليهود يقول الله عنهم في سورة التوبة : (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ )) ويذهب الرسول صلى الله عليه وسلم يشتري من يهودي ، رغم أن أسواق المدينة مليئة بمن يبيعون الشعير ؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين للأمة جواز البيع .
مادمنا في قضايا العصر نأتي لقضية الاقتراض من البنوك .
الاقتراض بفائدة لا نحتاج لدليل لأنه حرام بإجماع علماء المسلمين وقد بيناه . لكن أحياناً البنوك تقول أنت إلى ثلاث أشهر إذا رددتها لا نطلب منك فائدة . ولكن إذا لم تستطع ردها نأخذ منك فائدة هذا يعود كالأول سواءً بسواء بمجرد توقيع العقد ولو كنت قادراً على السداد قبل نهاية العقد فإنه يعتبر عقد ربوي يدخل في اللعن الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه .
فالتعامل مع البنوك قرضاً أو إيداع الأموال عندهم وتعود إليك بفائدة هي من الربا الملعون صاحبه على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم والمحرم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين كما بينا .
(((1/21)
فبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ))
أكل أموال الناس بالباطل عام ، وقلنا أنه عطف عام على خاص . وكل شيء تتوصل إليه بالباطل فهو محرم . سواءً بالرشوة أو بالسرقة أو بالاختلاس أو بالنهب فأي طريق من طرائق الباطل تصل بها إلى أموال الناس يعتبر مالاً محرماً قد لا يكون رباً لكن أي طريقة حرمها الله فإنه يأثم صاحبها .
ثم قال سبحانه : (( لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً{162} )) سورة النساء .
هذه (( لَّكِنِ )) الأصل عند النحويين أنها حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر , لكنها هنا خففت لأن الأصل أنها مشدده " لكنَّ " فلما خففت جاز فيها عدم الإعمال . فأصبحت تعني الانتقال من جملة إلى جملة و تسمى باب الإضراب . أي الانتقال من حال إلى حال . فلا تعمل ولا تؤثر فيما بعدها عملاً . فيصبح الراسخون على أنها مبتدأ .
(( الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ )) مِن مَن ؟
هم من أهل الكتاب وهذا يدخل فيه عبد الله بن سلام رضي الله عنه ومن آمن من اليهود والنصارى .
(( وَالْمُؤْمِنُونَ ))
والمؤمنون المقصود بها المهاجرون والأنصار , أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
(( يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ ))
أي القرآن .
(( وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ))
أي بجميع الكتب
(( وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ))
(((1/22)
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ )) نحوياً مفروض تكون والمقيمون مثل المؤتون والمؤمنون لكنها جاءت (( وَالْمُقِيمِينَ )) ويوجد قراءة (( والمقيمون )) لكن نحن نتكلم عن القراءة التي بين أيدينا وهي (( وَالْمُقِيمِينَ ))
وهذه للعلماء فيها ست تخريجات :
سنترك خمسة ونبقى على واحد وهي : أنها منصوبة على الاختصاص ، لبيان التعظيم والتفخيم . فيصبح المعنى وأخص المقيمين بالصلاة . وهذا تخريج إمام النحويين سيبويه وعليه أكثر العلماء . ونصب الصلاة على الاختصاص يبين أهميتها من الدين وعلى أنها أمر عظيم .
(( وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ))
نّكر الله كلمة (( أَجْراً )) هنا لبيان التفخيم . لأنه لا يعلم مالهم من أجر إلا الله . قال تعالى : (( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) (السجدة : 17 )
هذا ما أردنا الوقوف عنده . يصبح من هذا كله إجمالاً تكلمنا عن اليهود وتكلمنا عن النصارى في سورتين سورة آل عمران وسورة النساء . وقلنا إجمالاً إن اليهود يزعمون أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم ويفخرون بذلك ويفرحون به . وأن النصارى تقبل هذا وتدعيه لكنها تقول أن هذا خلاصاً للبشرية . وكلا الفريقين ضال ، فإن عيسى ابن مريم لم يقتل ولم يصلب بل رفعه الله جل وعلا إليه وكان الله عزيزاً حكيماً . وقلنا إنه سينزل في آخر الزمان حكماً عدلاً مقسطا .
هذا ما انتهى إليه الدرس والله تعالى أعز وأعلا وأعلم وصلى الله وسلم على محمد .(1/23)
تأملا ت في سورة
النساء
للشيخ صالح المغامسي
(( الجزء الثاني ))
من صفحة الشيخ صالح المغامسي بموقع صيد الفوائد
http://saaid.net/Doat/almgamce/index.htm
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، خلق فسوى وقدر فهدى ، وأخرج المرعى ،فجعله غثاءً أحوى ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ما جزا به نبياً عن أمته اللهم صلي عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين .
أما بعد . أيها الأخوة المؤمنون السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
حديثنا اليوم إكمال لما فسرناه من كتاب ربنا في الدرس الماضي من سورة النساء , ووقفنا عند قول الله عز وجل : (( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً{163} وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً{164} رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً{165} )) .
هذه الثلاث الآيات هي التي سيدور عنها الحديث في هذا اللقاء المبارك إن شاء الله تعالى .
ومبدئياً نقول :(1/1)
إن الإنسان وهو يسير إلى ربه لابد له منهج يسير عليه ولابد له من نفس الوقت من أئمة يقتدي بهم , وحتى يكون المسير إلى الله جل وعلا حقاً على بينةٍ وعلى صراط مستقيم لا بد أن يكون المنهج مِن مَن ؟
مادمنا نعبد الله لا بد أن يكون المنهج الذي نسير به إلى ربنا يكون من لدن ربنا وإلا لن نستقيم في السير على صراطه ولا في الطريق إليه .
الأمر الثاني : ينبغي أن يكون القدوة والإمام الذي نضعه نصب أعيننا لابد أن يكون معصوماً حتى لا تختلف علينا الأهواء والزيغ . ولا معصوم إلا أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
ولذلك عندما يكون الإنسان وهو يتحدث وهو يعمل وهو يقول وهو يفعل يحتج بفعل الأنبياء والمرسلين لا تجد لأحد طريقاً عليه لأن الله جل وعلا عصم الأنبياء والمرسلين من الزيغ ومن الضلال فهم عليه الصلاة والسلام لا يصدرون من آرائهم إنما يصدرون من وحي الله جل وعلا إليهم , فإذا اجتهدوا في أمر ليس فيه وحي لا يقرهم الله جل وعلا على خطأ إذا أخطؤا .
كما أن نبينا عليه الصلاة والسلام أعرض عن عبد الله بن مكتوم رضي الله عنه نزل القران يعاتبه : ((عَبَسَ وَتَوَلَّى{1} أَن جَاءهُ الْأَعْمَى{2})) . أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون له أسرى يوم بدر واستشار أصحابه أنزل الله جل وعلا : (( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ )) الأنفال 67. إلى غير ذلك من الدلائل التي لا تحتاج إلى كثير شواهد ،وعظيم قرائن .
المقصود قص الله جل وعلا في كتابه الكريم بعض من أخبار رسله وبعضا طواه عن نبينا صلى الله عليه وسلم وعنا .
وفي الآيات التي تلوناها التي بين أيدينا التي هي موضوع درس اليوم يتكلم الله جل وعلا عن جملة من أنبياء الله ورسله ممن اصطفاهم الله وأنبأهم , وكل المذكورين في هذه الآية هم رسل وليسوا أنبياء فقط . بمعنى بعثوا إلى أقوام ودعوا إلى الله جل وعلا بشرع جديد .(1/2)
هؤلاء الرسل أوحى الله جل وعلا إليهم قال سبحانه : )) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ )) .
الوحي : هو الفارق الأعظم بين الأنبياء وبين المصلحين من البشر . نحن نعترف أن البشرية شهدت علماء ومصلحين وقادة عبر تاريخها الطويل في كل الأمم ولكن هؤلاء القادة والمصلحين والأئمة في أي ملة لن يسلموا من خطأ لأنهم غير موحى إليهم وليسوا بمعصومين , لكن أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين الوحي كفل لهم العصمة فهذا هو الفارق العظيم بين أنبياء الله ورسله وبين من شهدتهم البشرية عبر تاريخنا الطويل .
نسمع بسقراط وأرسطو وغيرهم وأفلاطون في الحضارة اليونانية وغيرهم , نعم كان كثير منهم أجلاء فيهم عقل فيهم حكمه أسسوا حضارة لكنها لم تسلم ولن تسلم من زلل ما دامت جهداً بشرياً . أما جهد أنبياء الله ورسله فهو فرقان ووحي ينزل من الله لا يقبل أنصاف الحلول لأنه (( مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ )) هود 1, قال الله جل وعلا في حق نبيه صلى الله عليه وسلم : (( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى{3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى{4} )) النجم .
نأتي لهؤلاء الأنبياء سنقف على مجمل سيرتهم عبر ما سردهم الله جل وعلا , منهم من مر معنا ومن مر معنا في دروس لاحقة لا حاجة للتكرار ومن لم يمر معنا سنقف عنده لنتبين بعض سيرة حياته وكيف نقتدي به , مع البيان الشافي أنهم جملة بعثوا بدين واحد وهذه أهم قضية ولذلك قال الله : (( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا )) البقرة 285.
(((1/3)
إِنَّا أَوْحَيْنَا )) " إن " هذا كلام رب العزة . والنون للتعظيم " نا " الدالة على الفاعلين لتعظيم الرب جل جلاله , تسمع في الأوامر الملكية في السعودية مثلا : " نحن فهد بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية " ثم يأتي الأمر هذه " نحن " للجماعة لكنها تقال في السياق اللغوي للتعظيم . ويجوز إطلاقها على البشر ويجوز إطلاقها على الله , لكنها في حق الله بلا شك أعظم منها في حق البشر كما تقال فلان حكيم والله جل وعلا حكيم , لكن فرق ما بين حكمة العباد وحكمة رب العباد جل جلاله , إن اتفقا في المسمى لا يتفقان في دقائق الوصف .
(( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ )) وأوحينا الفعل" أوحى " كذلك أسند إلى " نا " الدالة على الفاعلين لبيان العظمة الإلهية .
(( أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ )) المخاطب هنا النبي صلى الله عليه وسلم نبينا محمد مع اليقين أنه عليه الصلاة والسلام آخر الأنبياء لكنه قدم هاهنا لعلو شرفه وجليل منزلته وعلى أنه أفضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بلا شك .
وحتى يستفيد الإنسان فالإنسان إذا خطب أو ألقى محاضرة أو أرد أن يقول درساً كطالب علم مثلا يحاضر أو شيء من هذا يقول : " وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله آخر الأنبياء في الدنيا عصرا وأولهم يوم القيامة شأنا وذكرا " .
يقول : " وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله آخر الأنبياء في الدنيا عصرا ـ من حيث الزمن هو آخر الأنبياء ( أنا آخر النبيين وأنتم آخر الأمم ) ـ آخر الأنبياء في الدنيا عصرا وأولهم يوم القيامة وأرفعهم شأنا وذكرا صلوات الله وسلامه عليه .
(((1/4)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ )) ثم جاء الله بكاف التشبيه " كما " أي كالذي (( كَمَا أَوْحَيْنَا )) ثم ذكر الله جملة من الأنبياء على ما سيأتي بيانهم على التفصيل . (( كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ )) نوح عليه الصلاة والسلام أول رسل الله جل وعلا إلى الأرض , وقد أثنى الله جل وعلا عليه في القرآن وأسماه ((عَبْداً شَكُوراً )) الإسراء 3 . والأصل أن الله خلق الناس على فطرة واحدة منذ أن كان أبوهم آدم عليه السلام , مكثوا على هذا الحال كما يقول ابن عباس وجمهرة المؤرخين عشرة قرون ثم اجتالتهم الشياطين صرفتهم عن طاعة الله فبعث الله جل وعلا وأرسل أول ما أرسل أرسل إليهم مَن ؟
نوح عليه الصلاة والسلام والدليل على أنه أول الرسل ثابت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر قيام الناس وحديث الشفاعة قال : ( إن الناس يأتون نوحاً ويقولون يا نوح أنت أول رسل الله إلى الأرض وسماك الله في كتابه عبدا شكورا ) . فهو أول رسل الله إلى الأرض بالاتفاق , وهو أطول الأنبياء عمراً عاش ألفا وتزيد قيل إنها ألف ومائه وخمسين , وما ذكره الله جل وعلا في كتابه أن الله قال : (( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً )) العنكبوت 14 . هذا العمر الدعوي وليس عمر حياته كلها قول الله جل وعلا : (( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً )) يدعو إلى الله بدليل أن الله قال بعدها : (( فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ )) . (( فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ )) و (( فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ )) هذه كلها دلالة على أن نوحاً عاش بعد هذه المدة ويحسب معها المدة التي كانت قبل أن ينبأ صلوات الله وسلامه عليه , والمقصود أنه شيخ المرسلين وهو الأب الثاني للبشر بعد آدم والأب الأول للأنبياء صلوات الله وسلامه عليه .
(((1/5)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ )) ولم يذكر الله جل وعلا من النبيين الذين بعد نوح عليه الصلاة والسلام .
ثم قال سبحانه : (( وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ))
بيان هؤلاء على النحو التالي :
ذكر الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقد مرت معنا سيرته وهو الأب الثاني للأنبياء ويطلق عليه أبو الأنبياء من باب التجوز إذا أطلقت أبو الأنبياء يراد بها إبراهيم وإذا قيل شيخ الأنبياء يراد بها نوح عليهم الصلاة والسلام , وإذا قيل كليم الله يراد بها موسى مع أن الله كلم محمداً وكلم آدم لكن إذا قيل كليم الله تنصرف إلى موسى عليهم الصلاة والسلام , وإذا قيل شيخ المرسلين تنصرف إلى نوح لأنه الأبُ الأول للأنبياء ولأنه أطولهم عمراً , وإذا قيل أبو الأنبياء تنصرف إلى إبراهيم لأن إبراهيم ما بعده جميع الأنبياء كانوا من ذريته قال الله تعالى : (( وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب )) هذا يفيد الحصر إلا أنه يشكل أن لوطاً ابن أخي إبراهيم عليهم الصلاة والسلام .
(((1/6)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ )) إسماعيل الابن الأكبر لمن؟ لإبراهيم من زوجته هاجر وهاجر كانت جارية عند من ؟ عند سارة فجارية أمه وسارة حرة . لما لم تنجب سارة أهدت إبراهيم هاجر فلما ولدت إسماعيل أصابها ما يصيب النساء من الغيرة فما طاقت أن تمكث هي وسارة في مكان واحد , فهاجر إبراهيم بزوجته هاجر وابنه إسماعيل إلى واد غير ذي زرع أي إلى مكة ووضعها في مكة بأمر الله في القصة المشهورة ومضى عنهما , رجع إلى أين ؟ رجع إلى مصر إلى زوجته سارة . لما رجع إلى سارة أنجبت له سارة إسحاق وجاء في الآية : (( إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ )) . فصار إسحاق الابن الثاني لمن ؟ لإبراهيم .(1/7)
لما ترك إبراهيم إسماعيل في واد غير ذي زرع التي هي مكة اليوم تركه ولم يترك معهم إلا شيئا يسيراً من زاد وماء ثم فني الإثنان فلما فني الإثنان والقصة المشهورة أن بعثت ماء زمزم من تحت قدمي إسماعيل . وجود الماء يجلب القبائل جاءت قبيلة جرهم وهي قبيلة قحطانية من العرب العاربة تزوج منهم إسماعيل بعدما شب وبلغ مبلغ الرجال تزوج منهم , بعدما تزوج منهم ماتت أمه قبل أن يأتي أبوه ماتت أمه هاجر بعد أن تزوج من قبيلة جرهم ثم مكث ما شاء الله ,جاء إبراهيم يبحث عن زوجته وابنه , لما جاء عرف أن الوالدة توفيت أي والدة إسماعيل , فسأل عن ابنه كان إسماعيل وقتها في الصيد فلما دخل على المرأة الجرهمية التي تزوجها إسماعيل في أول الأمر سألها عن إسماعيل قالت : " خرج يصطاد لنا " فسألها عن حالهم فذكرت شيئا عسيراً ولم تحسن الخطاب وقالت : " نحن في ضيق وشدة كرب ولم تذكر شيئا حسنا " فقال لها إذا جاء إسماعيل فأقرئيه مني السلام وقولي له : " غير عتبة بابك " . جاء إسماعيل من الصيد كأنه آنس شيئا , قال لزوجته : " هل من خبر ؟ " أخبرته القصة رجل كبير أخذت تصف إبراهيم وهي لا تدري أنه والد إسماعيل . هل قال شيئاً أخبرك بشيء ؟ أخبرته بالقصة , قال : " ذاك أبي وقد أمرني أن أطلقك فالحقي بأهلك فطلقها " , ثم تزوج امرأة أخرى من نفس جرهم لأنه ما كان فيه قبيلة إلا جرهم , فلما تزوج وافق أن جاء إبراهيم بعدها بفترة وكان إسماعيل في الصيد فقابل المرأة الزوجة الجديدة سألها عن حالهم أين إسماعيل قالت : " في الصيد " سألها عن حالهم أخبرته بأنهم : " بأحسن حال " فدعا لهم بالبركة وقال : " إذ جاء زوجك فأقرئيه مني السلام وقولي له ثبت عتبت بابك " , لما جاء إسماعيل سأل زوجته وأخبرته الخبر قال : " ذاك أبي وقد أمرني أن أبقي عليك " , ثم جاء في المرة الثالثة وحصل ما حصل من بناء الكعبة .
هذا من؟ هذا إسماعيل عليه الصلاة والسلام .(1/8)
حث الأبناء على الصلاة من هدي الأنبياء
نعته الله جل وعلا في القرآن بأنه : (( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً{54} وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً{55} )) مريم . المقصود أن إسماعيل كان يحث أهله على الصلاة وهذا أعظم الفوائد في هدي الأنبياء .
حث الأبناء على الصلاة من هدي مَن؟ من هدي الأنبياء هذه الغاية من ذكر الأنبياء . نأخذ من كل نبي الفائدة المرجوة . حث الأبناء على الصلاة من هدي الأنبياء . فالإنسان وهو يعمل يوقظ أهل بيته يتذكر هذه الآية يتلوها : (( وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ )) ويأمر أهله بالصلاة وينادي علَّ الملكين أن يكتباها له .
إسحاق عليه الصلاة والسلام تكلمنا عنه وقلنا إنه والد يعقوب ويعقوب هو مَن ؟ هو إسرائيل .
(( وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ )) الأسباط أبناء يعقوب على الأظهر . اختلف فيهم : جمع سبط والأظهر أنهم أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام , إذا قلنا إنهم أولاد يعقوب فهم إخوة مَن ؟ إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام وقيل إن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب هذا أظهر ما قيل في أن الأسباط وهم أخوة يوسف تاب الله جلا وعلا عليهم وهناك أقوال غير ذلك .
(( وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى )) الأصل أن عيسى عليه الصلاة والسلام في الترتيب ليس بعد يعقوب والأسباط وإنما عيسى آخر الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم وفي هذا فائدتان :(1/9)
الفائدة الأولى : أن الله ذكر عيسى مقدماً هنا لأن الخطاب هنا أصلا موجه للنبي عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب بني إسرائيل لأن مر معنا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجادل من ؟ نصارى نجران قلنا إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجادل نصارى نجران والآيات قريبة مما قبلها تتكلم عن النصارى فتقديم عيسى هنا لمناسبة الآية بما قبلها هذا واحد .
الفائدة الثانية : بما أن عيسى ليس الأول فهذا دليل على أن " الواو العاطفة " لا تفيد الترتيب . وإن كان في المسألة أقوال للعلماء لكن " الواو العاطفة " لا تفيد الترتيب .(1/10)
ثم قال الله جل وعلا : (( وَعِيسَى وَأَيُّوبَ )) أيوب عليه الصلاة والسلام من ذرية يعقوب أي من بني إسرائيل . وقد جعله الله جل وعلا قدوة ومثالاً وموعظة للصابرين . وهو عبد صالح ونبي مرسل بنص القرآن كما في هذه الآية , هذا النبي ابتلاه الله جل وعلا بعد أن كان حسن الخلقة ابتلاه الله بمرض في الظاهر والباطن , ومكث في المرض عليه الصلاة والسلام ثمانية عشر عاماً وهو صابر محتسب حتى كان ذات يوم فقد أبناءه طبعاً في الفترة هذه فقد بعض أهله تخلى الناس عنه لم يبقى له إلا صاحبان وزوجته .(1/11)
وكانت بارة فيه وغضب عليها مرة فحلف بالله أن يضربها إن شفاه الله مائة جلدة , إذ أن الإنسان مع المرض يحدث منه أشياء عاجلة , بقي له صاحبان خرجا من عنده ذات يوم وأخذا يتحدثان فيه , رواه أبو يعلى والحاكم في مستدركه بسند صحيح وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة , خرجا من عنده ثم أخذا يتحدثان عنه فقال أحدهما للأخر : " ألا ترى أن أيوب قد أذنب ذنباً عظيما وإلا يمكث ثمانية عشر عاماً ولم يشفه الله ؟ ـ حتى تعلم أن الناس في تقبلها للآخرين يبقى مهما بقي تصورها ماذا ؟ تصور ضيق والأمور مردها إلى الله تنظر حسب ما ترى , ولا يمكن أن يعطى إنسان العلم كله , هذان صاحبان حميمان ومع ذلك يقولان عنه هذا القول وهو نبي مرسل ـ لما رجعا إليه ما صبرا أخبراه قالوا : " إننا تحدثنا في شأنك وقلنا إنك أذنبت ذنباً عظيماً وإلا لا يعقل أن تمكث في البلاء ثمانية عشر عاما لا يشفيك الله " , فقال عليه السلام : ( لا أدري ما تقولان إلا أنني أمر على الرجلين ـ وهنا تأمل كيف يعظم أنبياء الله ربهم ـ أمر على الرجلين يتنازعان فيحلفان الإثنان بالله فأعلم أن أحدهما كاذب ـ لأنه لا يعقل أن يصدق الاثنان وهما متنازعان ـ فأذهب إلى بيتي فأكفر عن أحدهما كراهية أن يذكر الله إلا بحق ) , فخرجا من عنده , وكان عندما يقضي حاجته تذهب معه زوجته , أخذته ليقضي الحاجة وأوصلته إلى منتهى المكان الذي تريد أن يقضي فيه الحاجة وتركته يتكئ عليها لضعفه , ثم انتظرته كالعادة , وهو في الطريق أصابه ما أصابه من الهم فسأل الله جل وعلا كما قال الله جل وعلا عنه : (( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )) الأنبياء 83 , وفي الآية التي في سورة " ص" : (( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ )) 41.(1/12)
ففجر الله من تحته عيناً وقال له اشرب واغتسل (( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ )) فركض (( هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ )) فشرب فبرئ باطنه كل وجع داخلي انتهى , واغتسل فبرئ ظاهره . فأصبح تام الخلقة حسن الوجه فرجع معافى إلى من ؟ إلى زوجته , لكنها لم تعرفه , فقالت : " يا فلان أمر معك هذا النبي المبتلى فوالله إنه عندما كان غير مريض من أشبه الناس بك " فقال لها : ( أنا نبي الله أيوب ) . رجع معها صلوات الله وسلامه عليه .
مكثه ثمانية عشر عاما من أعظم وأجل أنواع الصبر ولذلك لما نعته الله جل وعلا في القرآن قال : (( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ )) .
قال العلماء الربانيون :
" إن نِعم الثناء من الله ليس بالأمر الهين " . أن يقول الرب الجليل جل جلاله عن أحد عباده (( نِعْمَ الْعَبْدُ )) إلا لعلم الله بسريرة ذلك العبد وأنه أهل لهذا الثناء والمدح الإلهي . وقد من الله على أيوب عليه الصلاة والسلام بهذا العطاء .
زيادة في الخير كان له أندران يعني بيادر كبيرة فيها قمح وشعير , فجاءت سحابتان ـ وهذا حديث صحيح ـ فأفرغت إحداهما على مكان القمح ذهبا وعلى مكان الشعير فضة فضلاً من الله جل وعلا عليه وإكراما لصبره صلوات الله وسلامه عليه . من مات من ذريته وأولاده وأهله أحياهم الله جل وعلا إكراماً له .
فالله جل وعلا إذا أعطى لا يسأله أحد عما يفعل تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرا .
قال سبحانه : (( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ{83} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا )) هذه لأيوب (( وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ{84} )) أي لمن صنع في صبره صنيع من ؟ صنيع أيوب . هذا أيوب عليه الصلاة والسلام .(1/13)
قال الله جل وعلا : (( وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ )) أما يونس عليه الصلاة والسلام فهو يونس ابن متى عليه الصلاة والسلام بعثه الله جل وعلا إلى أرض نينوى من أهل الموصل من بلاد الموصل في أرض العراق حالياً . هذا النبي خرج مغاضباً في قصة مشهورة مرت معنا مراراً لا حاجة لذكرها لكن الذي يعنينا أنه عليه الصلاة والسلام قال الله جل وعلا عنه : (( وَذَا النُّونِ )) أي وصاحب الحوت (( إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )) الأنبياء 87 .
وجاء في السنة كما في البخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقل أحدكم أنا خير من يونس ابن متى ) هذا الحديث مشكل لأن له مفهومين :
المفهوم الأول : أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام لا يقل أحدكم ( أنا خير ) " أنا " هذه عائده على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قلنا بها يصبح المعنى لا يفضل أحد بيني أي النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره من الأنبياء . وهذا بعيد في ظني لأن النبي عليه الصلاة والسلام أفضل من كل الأنبياء ولا حاجة لتأكيد يونس لوحده وإن قال به فريق من العلماء .(1/14)
أما المفهوم الثاني : وهو الأرجح معناه لا يقل أحد من الناس عن نفسه يرى صلاحه وتقواه وصلاته و صيامه أنه أفضل من يونس . طيب ما لذي يدفع الناس لأن يقول أحدهم أنا أفضل من يونس . ما ذكره الله جل وعلا عن يونس من نوع عتاب فإن الله قال في كتابه : (( وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ )) القلم 48 , فقالوا هذه الآية تشعر أن يونس ليس بذلك الكمال , فيأتي إنسان يرى في نفسه الكمال العظيم فيظن أنه خير من يونس . فقال عليه الصلاة والسلام حسماً للباب : ( لا يقل أحدكم أنا خير من يونس ابن متى ) . فيونس عليه الصلاة والسلام نبي مرسل قلنا أرسله الله إلى أرض نينوى من أرض الموصل من أرض العراق حالياً .
(( وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ )) أما يونس بيناه أما هارون فهو الأخ الأكبر لموسى عليهم الصلاة والسلام وكان فرعون لما اشتكاه الأقباط أنه إذا أفنى بني إسرائيل لا يبقى لهم خدم أصبح يقتل عاماً ويبقي عاماً , فولد هارون في العام الذي لا قتل فيه وولد موسى في العام الذي فيه قتل .
هارون كان أكبر من موسى وجعله الله جل وعلا رسولاً نبياً بشفاعة موسى قال الله جل وعلا : (( وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً{53} )) مريم . وقال الله عن موسى (( وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً )) الأحزاب 69.
جاء في حديث الإسراء والمعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنه رأى في السماء الخامسة : ( ورأيت رجلاً تكاد تلامس لحيته سرته قلت من هذا يا جبرائيل قال : هذا المحبب في قومه هارون ابن عمران ) .
كان هارون سمحاً ليناً ولذلك كان محبباً في بني إسرائيل .
وافترقت بني إسرائيل على ولايته لمّا ذهب موسى يكلمه ربه كما سيأتي . هذا هارون ابن عمران عليه الصلاة والسلام .(1/15)
ثم قال الله : (( وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ )) سليمان ابن داوود وسيأتي بيان داوود عليهم الصلاة والسلام ، أما سليمان قلنا إنه ابن داوود وقد منّ الله جل وعلا عليه بأن استجاب دعائه عندما قال : ((رب اغفرلي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أنك أنت الوهاب )) إذا جئت تسأل الله فلا تسأل الله على قدر ما تظنه في الناس ولكن اسأل الله على قدر ما تظنه في ربك . الله جل وعلا أعظم مسؤول .هذا سليمان يفقه هذه جيداً فلما سأل ربه سأل ربه على قدر ما يعلمه عن ربه لا ما قدر ما يستحقه , فنحن لا نستحق شيئا لكننا نسأل الله على قدر علمنا بعظمة ربنا وجلال قدرته وأن خزائنه لا تنفد سبحانه وتعالى .
فهذا النبي الصالح قال : (( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ )) ص 53 , فمن الله جل وعلا عليه وأعطاه ما سأل فسخر الله تعالى له بعدها (( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ )) ص 36 .
حتى أصبح في الأمثال يقال : " ملك سليمان " كناية عن الملك العظيم الذي لا يعطى لأي أحد وهذا فضل من الله جل وعلا له .
ثم قال سبحانه : (( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً )) داوود والد من ؟ والد سليمان وهذا دلالة كذلك على أن الواو لا تعني الترتيب وإن كانت هذه : (( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً )) ممكن أن تكون واو استئنافيه .
داوود عليه الصلاة والسلام أحد أنبياء بني إسرائيل وهو الذي يسمى عند النصارى اليوم : " ديفيد " . وكلمة " كامب ديفيد " معناها مخيم داوود . داوود عليه الصلاة والسلام أحد أعظم أنبياء بني إسرائيل وعلى يديه قتل جالوت (( وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ )) البقرة 251 , كما قال جل وعلا .(1/16)
هذا النبي لما مسح الله جل وعلا كما عند الترمذي بسند صحيح على ظهر آدم وخرج من ظهر آدم ذريته رأى آدم كل نسمة كائنة من ذريته إلى يوم القيامة . فرأى فيما رأى منهم غلاما أزهر فيه " وبيص " نور بين عينيه , قال : ( يا رب من هذا ؟ ) ـ طبعاً هو أبو البشر لكن لا يعرفهم هذا عالم الأرواح الأول ـ قال له ربه : (( هذا رجل من ذريتك يكون في آخر الزمان يقال له داوود )) ، قال : ( كم جعلت عمره ) قال : (( ستين عاماً )) فقال : ( يا رب زده أربعين ) فقال الله : (( إلا أن يكون من عمرك )) فوافق آدم , وكان الله قد أعطى آدم ألف عام , فلما جاء ملك الموت ليقبض آدم نسي آدم أنه أعطى ابنه داوود أربعين عام . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فنسي آدم فنسيت ذريته وجحد آدم فجحدت ذريته ) فأتم الله الألف لآدم والمائة لداوود عليهم الصلاة والسلام .
هذا النبي قال الله عنه : (( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ )) ص 17 , كلمة (( ذَا الْأَيْدِ )) جمع الله له قوة القلب وقوة البدن في الطاعة .
الإنسان أحيانا يكون عنده رغبة في الطاعة لكن الكسل يكون بدني مثلاً مهدود ، رجل كبير، شاب مريض ،قادم من عمل مضني متعب فالرغبة لا يطيقها البدن , وأحيانا يكون في الإنسان عافية وقدرة لكنه نائم يعني ما كان وراءه تعب لكن ما عنده قلب يريد أن يقوم الليل , فاجتمع في داوود قوة القلب على الطاعة وقوة البدن . وهذا من أفضال الله جل وعلا على عباده .
لو أراد شخص في يوم واحد أن يطبق سنة داوود عليه الصلاة والسلام ما لذي يلزمه ؟
(((1/17)
ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ )) منّ الله عليه بخصلتين حسن الصلاة وحسن الصيام قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : ( أحب الصلاة إلى الله صلاة داوود ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ) . الآن آذان المغرب يؤذن الساعة السابعة وصلاة الفجر تكون الساعة الرابعة أي أن الليل تسع ساعات بالضبط ، لو أراد شخص في يوم واحد أن يطبق سنة داوود عليه الصلاة والسلام ما لذي يلزمه ؟
ينام بعد صلاة العشاء إذا اعتبرنا الليل من بعد صلاة العشاء تصبح سبع ساعات لأنه ما فيه قيام ليل إلا بعد صلاة العشاء فكان ينام نصف الليل،هذه السبع ساعات ثلاث ساعات ونصف فإذا نام الساعة التاسعة يقوم الساعة الثانية عشر والنصف ويصلي إلى كم يبقى من السدس؟ الآن إذا وصل إلى الساعة الثانية عشر والنصف هذا نصف الليل في أيامنا هذه إذا اعتبرناه من اثنا عشر ونصف إلى أربعه كم ساعة ؟ ثلاث ساعات ونصف إذا قسمت على ستة ثلاثة في ستين مائة وثمانين ونصف ثلاثين مائتان وعشره ، مائتان وعشره دقيقه لو قسمت على ستة يصبح فيها حوالي أربعين أو خمسه وثلاثين دقيقه فتبقى الخمسة وثلاثين دقيقه قبل أربعه يصبح يبدأ يقوم اثنا عشر ونصف وينتهي الساعة الثالثة وخمسه وعشرين دقيقه . هذه قل ما يطيقها أو يفعلها أحد في عصرنا مرة في العمر هذا النبي كان يصنعها كل ليلة وقال صلى الله عليه وسلم : (وأحب الصيام إلى الله صيام داوود كان يصوم يوما ويفطر يوما ) وتمام الحديث وهو في الصحيحين : ( وكان لا يفر إذا لاق ) لأنه كان يجاهد في سبيل الله ولا يفر صلوات الله وسلامه عليه .(1/18)
أعطاه الله جل وعلا حسن الصوت ولذلك لما سمع النبي عليه الصلاة والسلام أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قال : ( أعطي مزمارا من مزامير آل داوود ) . كان إذا قرأ الزبور , والزبور هو الكتاب الذي أعطاه الله داوود عليه السلام والزبور كله مواعظ , وقال بعض العلماء ليس فيه أي حكم شرعي وإنما كله رقائق ومواعظ تذكر بالله ، كان يتلوها بصوت حسن فتجتمع الطير تنجذب إلى صوته وقراءته للزبور فتمكث إذا طال بعضها يموت جوعا ينسى الأكل وهو مؤتلف منسجم مع ترتيل داوود .
قال الله: (( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً )) والزبر في اللغة : الكتاب المجموع بعضه إلى بعض . (( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً )) الزبور الكتاب الذي أنزله الله جل وعلا على داوود عليه السلام وقلنا إنه مواعظ كله وحكم . الآن أنظر إلى التفكير ما بين أهل الدنيا وأهل الآخرة .
سنأتي بفائدة أدبية حتى أريك الفرق بين الناس :
تسمعون بالفرزدق أبو فراس شاعر أموي كان من أهل الفسق جاء ذات يوم على كلمة زبور ، جاء ذات يوم عند مسجد يقال له مسجد بني زريق في الكوفة هذا المسجد يجلس عنده شعراء ينشدون شعر , فذكر رجل ينشد شعراً ذكر شعر للبيد بن ربيعه ، لبيد له معلقه :
عفت الديار محلها فمقامها
بمنٍ تأبد غولها فرجامها
*فيها بيت يقول:
وجل السيول عن الطلول كأنها
زبر تجد متونها أقلامها
يتكلم عن السيل عندما يأتي يمسح الوادي كأنه يعيد كتابتها من جديد , هذا الشاعر واقف يتكلم والفرزدق عابر فقال :
وجل السيول عن الطلول كأنها
زبر تجد متونها أقلامها(1/19)
سجد هذا الفرزدق , فلما سجد ورفع رأسه قالوا : ما هذا يا أبا فراس ؟ قال : أنتم تعرفون جَيِّد القرآن فتسجدون وأنا أعرف جيد الشعر فأسجد له . الآن هذا يبين لك أن عقلية الناس تختلف من شخص إلى شخص . الفرزدق لا ينقصه ذكاء وإلا ما يقول هذا الشعر لكن لا يوجد قلب يتعلق بماذا ؟ يتعلق بالآخرة . الناس كلها ترى منظر واحد لكن كيف ترى هذا المنظر ؟ كلما كان قلبك أخروياً ربطته بالآخرة . سليمان بن عبد الملك خرج ومعه عمر بن عبد العزيز وهما واضع يده بيد بعض أمير المؤمنون سليمان ومعه عمر ماشين في الطائف , والطائف معروف البرق والرعد فيها , جاء رعد وبرق انتفض سليمان ـ والذي يعرف جبال الهدا والشفا يعرف هذا ـ فلما رأى البرق والرعد قال عمر : " يا أمير المؤمنين هذا صوت رحمته فكيف إذاً بصوت عذابه ؟ " هذا الذي أنت خائف منه صوت رحمه يأتي منه مطر فكيف إذاً بصوت عذابه . فربطها رحمه الله بالآخرة مباشرة وإلا المنظر يبقى واحد لكن الناس الذي يرونه تلقي المنظر، تلقي الكلام ، تلقي الخطاب ، يختلف من زيد إلى عمرو لأن الناس يتفاوتون في إدراك الأشياء بحسب قلوبهم .
قال الله جل وعلا : (( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً )) ثم قال سبحانه : (( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً )) . الله هنا يقول لنبيه هؤلاء رسل قصصناهم عليك . ممن قصه الله جل وعلا صالح ، وشعيب ، وهود ،وهم غير مذكورين في هذه الآية (( وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ )) طبعا لا نعرفهم لأن الله لم يقصصهم على نبيه (( وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً )) إفراد موسى عليه السلام هنا بالذكر تشريف له صلوات الله وسلامه عليه .
موسى أعظم أنبياء بني إسرائيل .(1/20)
وهو كليم الله وصفيه قال الله عنه : (( قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي )) الأعراف 144 .
فيه شيء في اللغة يسمى مفعول مطلق يأتي على ثلاثة أنواع :
إما يأتي مبيناً للعدد تقول مثلا : " ضربت فلان ستاً " أي ست ضربات .
وإما مبيناً للنوع تقول : " أكرمت زيداً إكراماً كثيراً " أي كثير الإكرام .
وإما أن يأتي مؤكداً يؤكد حدوث الفعل كما في هذه الآية : (( وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً )) هذا تأكيد أن الله كلم موسى أما كيف كلمه لا ندري . لكن كلمه بلا شك . لأنه فيه فرق حادت عن الصواب وقالت إن الله لم يكلم موسى .
متى كلم الله موسى ؟
كلم الله موسى في بدء النبوة عندما خرج من أرض مدين وأظنه مر علينا هذا كلمه الله عند جبل الطور وكان لا يدري أنه نبي ولا يدري أنه رسول فكلمه ربه .
الحالة الثانية : كلمه الله جل وعلا عندما وعده تبارك وتعالى قال تعالى : (( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ{142} وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي )) الأعراف .
هذه (( لَن تَرَانِي )) نذكر منها فوائد مهمة إن صح الخطاب :(1/21)
هذه " لن " للنفي وقد مرت معنا ، ظهرت فرقه يقال لها المعتزلة سأخصص الحديث عنها الآن . تقول إن الله جل وعلا لا يُرى في الآخرة ومن حججهم هذه الآية يقولون إن الله قال لموسى (( لَن تَرَانِي )) بمعنى لن تراني أبداً , فقالوا يستحيل أن يُرى الله في الآخرة . ونحن معشر أهل السنة نؤمن أن الله جل وعلا يُرى في الآخرة لدلالة الكتاب ودلالة السنة قال الله جل وعلا : (( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ{22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ{23})) القيامة , وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته ) في حديث الصحيحين وفي غيرهما .
نأتي لقضية المعتزلة وهذا من باب الفوائد .
المعتزلة فرقة ظهرت في أواخر القرن الأموي وازدهر قولها وسلطانها في عصر بني العباس أيام المأمون والمعتصم أخو المأمون .
تقوم أركان المعتزلة على خمسة بنود :
أولاً : التوحيد . الثاني : الوعد والوعيد . الثالث : العدل . الرابع : المنزلة بين المنزلتين . الخامس : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . طبعاً حسب فهمهم هم .
لماذا سموا المعتزلة ؟
قالوا من أسباب تسميتهم أن الحسن البصري رحمه الله وهذا مر معنا كثيرا كان يدرس في الحلقة وجاءه رجل سأله يا أبا سعيد ما تقول في مرتكب الكبيرة ؟ كان في أيامها فيه جدال صراع بين الناس هل مرتكب الكبيرة يكفر أولا يكفر؟
كان الخوارج يقولون : إن مرتكب الكبيرة يكفر كفراً أكبر مخرج من الملة فيستبيحون قتله . وأهل السنة يقولون إن مرتكب الكبيرة فاسق لكن الكبيرة لا تخرجه من الملة وبالتالي لا يستبيحون قتله .
فجاء رجل يسأل الحسن البصري رحمه الله وكان من أعلام الناس , فبينما الحسن يريد أن يجيب ظهر رجل في الحلقة اسمه واصل بن عطاء من أعظم من أسس مذهب الاعتزال فقام وقال هو في منزلة بين المنزلتين .(1/22)
سنرد عليهم عقلاً هم جاؤوا بها عقلاً سنرد عليهم عقلاً , فقال : هو في منزلة بين المنزلتين ، ما معنى منزلة بين المنزلتين ؟ قام وجلس تحت سارية ثانية يشرح : ما معنى منزلة بين المنزلتين ؟ ـ طبعاً إي إنسان يقوم يشرح الآن حتى لو إي واحد الآن زعل علي في الدرس وجلس هناك يتكلم لا بد واحد أو اثنين يروحوا وراه يشوفوا ماذا يقول ـ لما ذهبوا ناس معاه قال الحسن رحمه الله : " اعتزلنا واصل " فسموا بالمعتزلة .
قرر واصل مذهب الاعتزال . واصل هذا من أفصح خلق الله رغم أنه كان فيه لظغه ما يعرف ينطق حرف الراء ما تجيء على لسانه هذا شيء ليس في يده من الله , يجلس يتكلم بالساعات ولا أحد يعرف أن فيه لظغه في الراء لا يأتي ولا بكلمة فيها راء , هذا إنسان يعرف في اللغة أشياء لا تعقل يتكلم بالساعات يقول الحمد لله القديم بلا ابتداء الباقي بلا انتهاء يذكر يعظ بالله ويصف ويشرح ويتكلم ويخرج وأنت لا تدري أنه ما يأتي بالراء لأنه ما قال ولا كلمة بالراء لقوة بلاغته , ومع ذلك أضله عقله ، لأنه حكم على الناس بأن الفاسق ترد شهادته وأنه منزلة بين المنزلتين .
من أعظم ضلاله أنه قال وبئس ما قال : " إن علياً رضي الله عنه والحسن والحسين وعمار حاربوا عائشة وطلحة والزبير " . ورد هو كل النصوص التي جاءت في فضل هؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم , وقال : " بالعقل واحد فيهم فاسق وواحد ظالم وواحد مظلوم ". قال : " وأنا ما أدري من الظالم ومن المظلوم إذاً لا أدري من الفاسق ؟ فقال : " لو شهد عندي عليٌ والحسن والحسين وعائشة وطلحة والزبير وعمار لما قبلت شهادتهم ولا في حتى في بقل ولا بصل لأنهم فساق ترد شهادتهم " . هل يقول هذا عاقل ؟ وهو يزعم أن مذهبه قام على العقل .
الآن سنبين بالعقل أن مذهبه باطل .(1/23)
قالوا له : اشرح ما معنى منزلة بين المنزلتين ؟ قال : بسيطة أنا ما أقول مثل الخوارج إنهم كفار يقتلون في الدنيا ولا أقول مثل ما تقولوا أنتم أهل السنة أنهم مؤمنين مسلمين أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم , قال : " في الدنيا تجري عليهم أحكام أهل الإسلام فهم مسلمون وفي الآخرة كفار مخلدون في النار تجري عليهم أحكام أهل الكفر لأنهم لم يتوبوا ـ وهذا معنى الوعد والوعيد عندهم يقول الله ملزم على أن يعذبهم لأن الله عدل ما يترك واحد ما يعذبه وهو قد عصاه ـ هذا معنى منزلة بين منزلتين معناها : تجري عليه في الدنيا أحكام أهل الإسلام ما يقول مثل الخوارج نقتله وفي الآخرة قال مستحيل كافر مباشرة إلى جهنم ويخلد فيها ولا يدخل الجنة أبدا " . الآن بالعقل بلاش يا آية و بلاش يا حديث , عندما نجري عليه أحكام الدنيا وهذا سيموت طب الميت المسلم كيف تجري عليه أحكام الدنيا يغسل ويكفن ويصلي عليه هذه أحكام الدنيا على المسلم , صلينا عليه وهو مرتكب الكبيرة على مذهب واصل ماذا نقول في الدعاء اللهم اغفر له وارحمه وعافه ونحن عارفين إنه كافر داخل النار ما صار دعاء , فصار هو يدعوا على المسلمين دعاء يعلم أنه باطل وأنه عبث وهذا أكبر دلالة على أن المذهب كله باطل .(1/24)
هذه جابت دليل أن الزمخشري أحد أئمة الاعتزال يقول : " إن الله لن يرى في الآخرة " وله تفسير اسمه تفسير " الكشاف " يباع موجود في المكتبات هذا التفسير آية في البيان الرجل كان فصيحاً لكنه ضيعه بما فيه من مذهب الاعتزال والدعوة إليهم , هذا المذهب قلنا كان في عصر بني أميه ثم انتشر في عهد بني العباس تبناه المأمون ومات ثم كتب لأخيه المعتصم أن يتبنى المذهب فتبناه المعتصم وبسببه أوذي وعذب الإمام أحمد رحمه الله حتى جاء الواثق أو المتوكل أحدهما اختلط علي فألغى مذهب الإعتزال وتبرأ منه وأعاد مذهب أهل السنة بعد أربعة عشر عاماً من انتصار المذهب ثم بعد ذلك ظهر المذهب كرة أخرى في دولة بني بويه دوله شيعية عام 334 هـ وجعلوا القاضي عبد الجبار أحد أئمة المعتزلة جعلوه قاضي القضاة في ذلك العصر , هذا إجمالاً على مذهب الإعتزال .
قال الله سبحانه : (( وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً )) ثم قال الله : (( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً )) أي هؤلاء الرسل يبشرون الناس بالجنة وينذرونهم من النار وهذه الغاية الأساسية لمن ؟ للأنبياء والرسل . لماذا ؟ (( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )) إذا موضع الشاهد أن الله لا يعذب من لم تقم الحجة عليه لأن الله جل وعلا قال : (( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً )) .
هذا مجمل ما أردنا بيانه ونسأل الله أن يبارك فيما قلناه وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(1/25)
تأملا ت في سورة
المائدة
للشيخ صالح المغامسي
من صفحة الشيخ صالح المغامسي بموقع صيد الفوائد
http://saaid.net/Doat/almgamce/index.htm
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد.
أيها الإخوة المؤمنون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وهذا بعون الله وتوفيقه لقاؤنا حول تفسير سورة المائدة وبه نختم إن شاء الله تعالى هذه السورة، وقد بينا غير مرة أن من منهجنا في التفسير أننا ننتقي ونختار آيات من السورة التي نعنى بتفسيرها وما كان من الآيات معنيا كثيرا بالفقهيات نحاول أن نبتعد عنه لأن هذا له موطن آخر.
{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} (111) سورة المائدة، إلى آخر السورة.
فنقول مستعينين بالله تبارك وتعالى:
هذه الآيات تتكلم عن نبي الله عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وقد جرت سنة الله تبارك وتعالى في خلقه أنه ما بعث رسولا إلا وفي الغالب يؤيده بأنصار وأصحاب يعضدونه كما قال الله في حق نبينا صلى الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (62) سورة الأنفال ، كما يجعل فريقا آخر يقاوم ذلك النبي ويعاديه قال الله جل وعلا :{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (31) سورة الفرقان.(1/1)
وفي هذه الآيات يخبر الله جل وعلا أنه قذف وألهم في قلوب الحواريين الذين هم أنصار عيسى ابن مريم قذف الله جل وعلا في قلوبهم محبة عيسى والإيمان بالله جل وعلا من قبل ونصرة ذلك النبي الكريم صلوات الله عليه وعلى نبينا.
فقال الله جل وعلا : {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} :
و((أوحى)) في القرآن تأتي على ثلاثة أضرب: تأتي بمعنى الإرسال: وهو الذي يختص بالنبيين وكنا قد تكلمنا عن هذا سلفا وقسمناه إلى عدة أقسام فالوحي الذي يكون به الإنسان نبيا هذا يسمى إرسال.
ويأتي على عدة هيئات بيناها في درس سابق قلنا منها: يأتي بأن يكلم الله جل وعلا العبد من وراء حجاب أو يرسل جبرائيل بذاته أو أن يكون شيئا يقذف في قلب ذلك النبي. وهذا النوع هو الذي يميز به النبيون عن غيرهم.
والنوع الثاني: وحي بمعنى الإلهام قال الله جل وعلا {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} وقال الله تبارك وتعالى {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} فوحي الله جل وعلا إلى النحل ووحي الله تبارك وتعالى إلى أم موسى لا يجعل من النحل ولا من أم موسى أنبياء ولكن المقصود الإلهام الذي وضعه الله جل وعلا في النحل ووضعه الله جل وعلا عند أم موسى. وهذا الثاني هو الذي قصده الله بقوله {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي} أي ألهمتهم الإيمان بالله والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم.
النوع الثالث: الوحي بمعنى الأمر قال الله جل وعلا : {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا* وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} هذه {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} أي بأن الله أمرها فأصبح ينجلي عن هذا أن الوحي في القرآن على ثلاثة أضرب:(1/2)
وحي بمعنى الإرسال. ووحي بمعنى الإلهام.ووحي بمعنى الأمر. وقول الله جل وعلا { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} هو من النوع الثاني أي إذ ألهمت الحواريين أن يؤمنوا بي وبرسولي.
قال الله جل وعلا : {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ} أي الحواريون {آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}.
اختلف في المخاطب بـ اشهد هل هو الله أو عيسى؟ وقواعد القرآن لا تنافي الاثنين أي أشهدوا الله وأشهدوا عيسى على أنهم مسلمون {وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} .
ثم قال الله جل وعلا بعد أن ذكر أن الحواريين كانوا أنصارا لعيسى ابن مريم أي خلصاء وأصحاب وأصفياء ويعضدونه ويؤمنون بالله قال الله جل وعلا: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (112) سورة المائدة.
أولاً المبحث الأول:(1/3)
هذه الآية فيها قراءتان: القراءة الأولى المشهورة التي بين أيدينا {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا} والقراءة الثانية {هل تستطيع ربَّك} بالتاء بدلا من الياء وبنصب رب بدلا من رفعها, قلنا القراءة التي نقرؤها اليوم: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} على أن يستطيع فعل ورب فاعل، والقراءة الثانية {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } سنبين الأمرين نبدأ بالثانية لأنها مبهمة: إذا قلنا بقراءة الكسائي ومن وافقه من القراء على أن الآية {هل تستطيع ربك} يصبح معنى الآية مع تقدير المحذوف: هل تستطيع خطاب لعيسى هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء! وهذه القراءة قلنا قرأ بها الكسائي وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه تختارها. يصير يصبح معنى الآية هل تستطيع - الخطاب لعيسى- أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء. وعلى القراءة الأولى وهي قراءتنا في المصحف الذي بين أيدينا يصبح معنى الآية {هل يستطيع ربك} الاستطاعة المعروفة لكن بالطبع ليس المقصود إظهار عجز الله كما سيأتي.
{(1/4)
هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} عندما يتكلم الإنسان مفسر أو غيره عن أمر لا بد أن يستصحب واقع الحال هؤلاء الذين يتكلمون ويسألون عيسى هم أنصاره وحواريوه وأصفياؤه فلا يعقل أبدا أن الحواريين يشكون في قدرة ؟ في قدرة الله، لو كانوا يشكون في قدرة الله لما أصبحوا أصلا مؤمنين فضلا على أن يكونوا حواريين لعيسى ابن مريم. لكن المقصود أنهم أرادوا أمرا زيادة في اليقين كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما نص القرآن بذلك {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (260) سورة البقرة. فالذي يظهر خروجا من خلافات المفسرين أن سؤال الحواريين هنا من نوع سؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء} ما المائدة؟
المائدة الطعام الموجود في مكانه المعد للأكل وهو لا يخلو من أن يكون على أحد حالين:
إن كان على خوان، خوان الذي يسمى اليوم طاولة الطعام الذي له قوائم هذا في اللغة يسمى خوان بضم الخاء ويسمى خوان بكسر الخاء، هذا ما يسمى في عصرنا بطاولة الطعام إذا كان عليه طعام يسمى مائدة ولا يسمى مائدة إن لم يكن عليها طعام، تسمى خوان.
وإن كان على ما يسمى اليوم السفرة وهي كلمة فصحى إذا وضع على السفرة يسمى مائدة، ما دام موجود طعام يسمى مائدة، فإن كانت السفرة خالية من الطعام لا تسمى مائدة. وإن كان الخوان - الذي له قوائم الطاولة - ليس عليها طعام لا تسمى مائدة.(1/5)
المقصود أن الحواريين طلبوا ماذا؟ طلبوا طعاما، طلبوا طعاماً إذا عرجنا الحديث النبي عليه الصلاة والسلام ثبت عنه كما عند البخاري من حديث أنس: ( لم يأكل على خوان قط ) أي ما يسميه اليوم الناس طاولة طعام نقل أنس رضي الله عنه وهو خادم نبينا صلى الله عليه وسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأكل على خوان أي على ما يسمى طاولة طعام قط ولا يعني هذا التحريم قطعا لأن الفعل المجرد لا يدل على حكم ولكنه عليه الصلاة والسلام كان نبيا عبدا ولم يكن نبيا ملكا وكان الأكل على الخوان من دأب الملوك، فكان عليه الصلاة والسلام لا يأكل حتى يكون أقرب إلى العبودية ولذلك قيل لقتادة راوي الحديث، الحديث رواه البخاري عن أنس لكن الذي روى الحديث عن أنس قتادة بن دعامة السدوسي المشهور قتادة قيل له وهو يحدث قال: حدثني أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحديث فيه ثلاثة أشياء الذي يهمنا منها: (وما أكل على خوان قط)، فقيل لقتادة: " على أي شيء كانوا يأكلون؟ "قال : "على السفرة " . والسفرة في السابق كان لها معاليق فتجمع بعضها على بعض وتعلق فيوضع فيها الطعام أحيانا لأن طعامهم كان غالبا ليس ما يحفظ في الثلاجات اليوم وإنما غالب الطعام تمر أو شيء يحفظ فكان يوضع بعضه في السفرة فتعلق فإذا وضعت بين أيدي الناس مدت فإذا مدت أسفرت عما فيها فلما كان الطعام يسفر عما فيه سميت سفرة. وقيل إن السفرة اسم للطعام لكن الأول أقرب فيما نعلم. هذا الطلب الذي تقدم به الحواريون إلى عيسى.
قال لهم عيسى عليه السلام : {اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} كأنه عليه السلام استعظم الطلب فلما استعظم الطلب أدلى الحواريون بحجتهم في بيان سبب أنهم طلبوا هذه المائدة، {قَالُواْ} أي الحواريون {نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ}، ذكروا كم تعليل؟ أربعة،(1/6)
الآن قبل أن نعرج على التعليلات التي ذكرها الحواريون نقول : إن الحوار والأخذ والعطاء أمر محمود لا يوجد أحد منزه عن الخطأ إلا الأنبياء بما عصمهم الله جل وعلا به، كون الإنسان يناقش ويأخذ ويعطي ويقبل أن يعترض عليه ويعترض على غيره ويقدم أدلة هذا أمر محمود فهذا نبي يطلب منه أنصاره مائدة يقول : {اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} يردون عليه يخبرون السبب {نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا.. } إلى آخر الآية، ففيه أخذ وعطاء ذلك الرجل المعصوم الذي يجلس على كرسي وينبغي ألا يقول إلا الحق لا يوجد ، لا يوجد ولا تبحث عنه، فإن العصمة خصها الله جل وعلا بأنبيائه ورسله وقلنا مرارا المشهور من أقوال العلماء قال مالك رحمه الله : " ما منا إلا وراد ومردود عليه " وقال الشافعي رحمه الله تعالى: " ما أعلم أحدا حفظ السنة كلها "، وقال غيره أشكل من هذا، فلا يوجد أحد تحارب وتعادي وتوالي وتخاصم من أجله، أن مجرد فلان قال ينبغي أن يكون حق لا، لا يوجد هذا الرجل إلا قول نبينا صلى الله عليه وسلم، أما غيره مهما بلغ يعرض قوله على الكتاب والسنة فيقبل ما هو حق ويعتذر له عما أخطى فيه.
فواجب عند اختلاف الفهم إحساننا الظن بأهل العلم
تعتذر له لكن لست ملزما بقوله، والناس منذ أن كانوا يأخذون ويعطون ويقبلون، ومن دلالة علو كعب العالم أنه يناقش ويأخذ ويعطي لكن المهم أن يكون المراد من المناقشة والأخذ والحوار والوصول إلى الحق ليس قضية المجادلة وإظهار علو الصوت ونبذ الأقران والتعالي على الناس، {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (83) سورة القصص.
(قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}
{(1/7)
قَالُواْ} أي الحواريون {نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} نأكل منها إما لحاجتهم من الفقر الذي كانوا عليه وإما وهو الأظهر أنها لكونها منزلة من السماء بإذن من الله وفضل منه تكون مباركة طيبة فيحسن بلا شك الأكل منها .
{نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} :
{تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} ينتقلون ينتقلون إلى مرحلة تسمى عين اليقين . لأن الإنسان إذا حدثه أحد من الصادقين بشيء فهذا يقين لكنه إذا رأى الشيء بعينه انتقل من اليقين إلى عين اليقين،ومن أظهر الأدلة موسى عليه السلام فإن الله جل وعلا أخبر موسى أن قومه عبدوا العجل من بعده فلما أخبره الله جل وعلا اشتاط غضبا ورجع والله تبارك وتعالى أخبر موسى أن قومه اتخذوا العجل من بعده فلما رجع إلى قومه رآهم بعينه يعبدون العجل كان هذا أعظم في عينه أوقع أثرا في نفسه ليس الخبر كالمعاينة فألقى الألواح، لأن الشيء الذي تراه بعينك مهما بلغ ليس كما يقال لك.
نقول هم أرادوا أن يصلوا إلى مرحلة عين اليقين في أنهم يروا المائدة تنزل فيكون إيمانهم أرفع.
وقد قال العلماء من الفوائد:
أن الإنسان يجدد إيمانه يبحث عن وسائل تزيد من إيمانه ما بين الفينة والفينة وما بين الحين والآخر.
أما ماذا يزيد إيمانه؟ فهذا باب واسع.
{وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} والخطاب لعيسى {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} نخبر من بعدنا أن هناك مائدة نزلت فيصبح في فوائد دنيوية وفوائد دينية، فوائد دينية أننا نخبر الناس ونشهد على صدقك وفوائد دنيوية أننا نأكل ونطعم ونسد جوعنا.
{وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} عيسى اقتنع بقولهم قيل: جاء في بعض الآثار أنه أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوما فصاموا فدعا ربه.(1/8)
قال الله جل وعلا بعدها: { قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (114) سورة المائدة.
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} أي النبي {اللَّهُمَّ} نحويا أصلها يا الله، نحويا أصل هذا النداء يا الله كلمة {اللَّهُمَّ} أصلها يا الله وإنما العرب تحذف أحيانا حرف النداء فلما حذفت حرف النداء في يا الله عوضت بدلا منه بالميم. - أعيد – أصل اللهم : يا الله ثم حذفوا حرف النداء الذي هو الياء ثم أضافوا ميما بدلا من الياء المحذوفة فأصبحت اللهم، ولا يقال (يا اللهم) بالميم والياء، فلا يجمع ما بين البدل والمبدل منه، لا يجمع ما بين البدل والمبدل منه إلا عند الضرورة الشعرية كما نقل سيبويه وغيره رحمهم الله عن الراجز أنه قال:
إني إذا ما خطب ألما * أقول يا اللهم يا اللهم
هذا شاهد نحوي المقصود به الجمع بين البدل والمبدل منه، لكن لا يقاس عليه لكن الأصل كما قلنا أن الياء حذفت وأبدلت عنها الميم.
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا} وأصلها يا ربنا وحذف حرف النداء فأصبحت رب منادى ولأنه مضاف نصب مباشرة فلذلك جاءت الفتحة على الباء. {رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء} الآن الذي يدعو عيسى ثم نعت تلك المائدة ذكر بعض أوصافها وتعليلات لذلك الطلب {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام في دعائه لربه مصلحتين:
المصلحة الدنيوية : {وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} و {تَكُونُ لَنَا عِيداً} .(1/9)
المصلحة الدينية : أنه قال {وَآيَةً مِّنكَ} أي علامة وأمارة على أنك قبلت دعاءنا فيكون ذلك سبب في أن يدخل الناس في الدين بعد ذلك أفواجا.
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا}.
العيد الشيء الذي يعود ويتكرر لكن لا ينبغي أن يكون ثمة عيد إلا بإذن شرعي، أما أن يتخذ الإنسان من أي مناسبة دينية أو غير دينية عيدا فهذا أمر إذا ربطها بالدين لا يجوز شرعا أما إذا جعلها من باب العادات هذا باب واسع لا يحسن تفصيله الآن، لكن نقول الأشياء الشرعية لا تثبت إلا بشيء شرعي فمثلا : الله جل وعلا على مر العصور يجعل من بعض عبادات أنبيائه ورسله سننا يجتمع الناس عليه فمثلا كلنا الآن في الطواف والسعي نمر على الصفا والمروة لنحيي سنة هاجر لكن هذا الإحياء لم يكن من أنفسنا إنما كان بإذن من مَن؟ كان بإذن من الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم نطوف بالبيت كما طاف به إبراهيم عليه الصلاة والسلام من قبل ونرمي الجمار كما رماها إبراهيم من قبل فنحيي ملة إبراهيم لكن هذا أمر لم نجتهد به نحن من أنفسنا وإنما شرعه الله تبارك وتعالى لنا والدين لا يكون باجتهاد شخصي أبدا قال الله جل وعلا {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} (21) سورة الشورى .
{ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
قال الله بعدها: {قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} (115) سورة المائدة.
أولا ً: اختلف العلماء هل أنزل الله جل وعلا المائدة أو لم ينزلها؟(1/10)
الله جل وعلا قال {إِنِّي مُنَزِّلُهَا} وليس في القرآن أن الله أنزلها فجمهور العلماء من المفسرين على أنها أُنزلت، وقالوا: " إن هذا وعد من الله لنبيه والله لا يخلف الميعاد "، وهو الذي نختاره.
ذهب مجاهد رحمه الله تعالى المفسر المعروف تلميذ ابن عباس رضي الله عنه إلى أن الله لم ينزلها لأنه مجرد مثل ضربه الله في كتابه، وهذا أبعد الأقوال عن الصواب في ظننا.
القول الثالث قاله الحسن البصري رحمه الله تعالى وتبعه عليه بعض المفسرين وهو: أن الله لما قال لهم {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} خافوا وطلبوا الإعفاء من نزولها واستغفروا الله ولم تنزل المائدة. هذا قول الحسن البصري رحمه الله . الذين قالوا بهذا الرأي من أدلتهم أن هذه المائدة لم تذكر في الإنجيل الذي بين أيدينا والنصارى لا يعرفون قصتها إلا من القرآن،من أدلة من قال أنها لم تنزل أنهم قالوا إنها غير مذكورة في الإنجيل الموجود وأن النصارى لم يفهموها إلا من المؤمنين . رد جمهور العلماء على هذا القول بأن كونها لم تذكر في الإنجيل هذا من الشيء الذي نسوه الذي قال الله جل وعلا عنهم {فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} فهذا من الشيء الذي أنساهم الله جل وعلا إياه. الذي نختاره والله أعلم من هذه الأقوال أن الله جل وعلا أنزلها وهو كما قلنا مذهب جماهير العلماء.
{(1/11)
قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} هنا نتوقف، الآية يا أُخي إذا كان ظاهرة وأقيمت الحجة ينقطع العذر فإذا انقطع العذر أصبح الله لا يقبل عنده إما إيمان وإما كفر أو ينزل عذاب، وقف عند هذه وارجع للسيرة، دعك الآن من كتب التفسير، ارجع لسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم فيها أن النبي عليه الصلاة والسلام كما في مسند أحمد من طريقين بإسناد كلاهما جيد فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم طلبت منه قريش أن يجعل لهم الصفا – الصفا الجبل المعروف - طلبت منه قريش أن يجعل لهم الصفا ذهبا قالوا : " إن جعلت الصفا ذهبا آمنا بك! " فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو أن يجعل الله الصفا ذهبا حتى يؤمنوا فبعث الله إليه جبرائيل عليه السلام أو ملكا غيره أخبره أنه لو جعل الله الصفا ذهبا ولم يؤمنوا فإن الله سيهلكهم عن بكرة أبيهم، طبعا إذا هلكوا عن بكرة أبيهم لن يكون منهم ماذا؟ مؤمنين لأنهم انتهوا لكن إذا بقوا ولم يهلكهم الله فيه أمل أنهم هم يؤمنوا أو فيه أمل أن يأتي من ظهورهم من؟ من يؤمن، إما أنهم هم يؤمنون كما حدث أو أن يأتي من ظهورهم مؤمنين فاختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا على حالهم حتى يؤمن منهم من يؤمن أو أن يخرج الله من ظهورهم من يؤمن بالله ومن يعبد الله لا يشرك به شيئا. ولذلك قال الله في سورة الإسراء {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} (59) سورة الإسراء. والله إذا أراد أن يرحم أمة أمات نبيها قبل إهلاكها.(1/12)
فيكون النبي فرطا سابق لأمته وإذا أراد الله أن يهلك أمة أبقى نبيها حيا وأهلكها ونبيها ينظر ليكون أقر لعينه وأهلك لمن عصاه كما هو دأب الله في سنن الأنبياء الذين قبلنا فقوم صالح قوم نوح قوم لوط كلهم أهلكوا وأنبياءهم ينظرون إليهم قال الله جل وعلا عن صالح {وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل : 53] بعد أن أخبر أنه أهلك قومه وكذلك قال الله عن شعيب وكذلك الله قال عن عاد وغيرهم من الأمم وهذا أظنه ظاهر. {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ}.
وقد قلنا في درس سابق أخذ بعض العلماء من هذه الآية أن أعظم الناس عذاباً ثلاثة:
أتباع آل فرعون قال الله جل وعلا :{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (46) سورة غافر، والذين كفروا بالمائدة بعد نزولها من قوم عيسى قال الله جل وعلا :{فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} والثالث المنافقون الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال الله جل وعلا : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (145) سورة النساء ، ويظهر لي أن هؤلاء المنافقين هم أشد خلق الله جل وعلا عذابا. بهذا انتهت مسألة المائدة.
ثم قال الله جل وعلا بعدها:{وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}(116) سورة المائدة. إلى آخر السورة.(1/13)
هذا الموقف موقف في الآخرة أما موقف المائدة كان أين؟ كان في الدنيا، أما هذا موقف في الآخرة وإن قال بعض العلماء أنه موقف دنيوي لكنه بعيد كونه جاء بصيغة الماضي لا ينفي أنه سيكون يوم القيامة. {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ} نحن نعلم أن الله يعلم أن عيسى ابن مريم لم يقل هذا للناس والله ما أراد بهذا السؤال توبيخ عيسى وإنما أراد الله تقريع النصارى وتوبيخهم في يوم العرض الأكبر على ما اتهموا به نبيهم كذبا أنه دعاهم إلى عبادة نفسه وإلى عبادة أمه وقالوا بالأقانيم الثلاثة وزعموا أن المسيح ابن الله فأراد الله جل وعلا أن يبطل كيدهم ويظهر كذبهم على ملأ من الأشهاد بنطق عيسى نفسه فيقول الله جل وعلا يوم يحشر العباد، يوم الحشر يوم عظيم وقد مر بكم في حديث الشفاعة أن الأنبياء يقولون جميعا: (إن الله غضب غضبا لم يغضب قلبه ولا بعده مثله) فيتدافعون الشفاعة أولو العزم من الرسل حتى تصل إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فالموقف موقف جليل وخطب عظيم ودعاء النبيين يومئذ (اللهم سلم سلم).
في هذا الموقف في هذا الشأن يسأل الله جل وعلا عيسى {أأنت} كم همزة؟ همزتان، الهمزة الأولى للاستفهام والهمزة الثانية من أصل الكلمة، {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ} بدهيا كان المفروض عيسى يقول لا أو يقول لم أقله، لكن عيسى في هذه الآيات كما سيأتي ضرب أروع الأمثلة في الأدب مع الرب جل وعلا بدأ جوابه بقوله {سُبْحَانَكَ}.
وقد قال بعض العلماء إن عيسى عليه السلام قدم الجواب بكلمة سبحانك لسببين:
قدم الجواب بكلمة (سُبْحَانَكَ) لسببين :
الأول منهما: تنزيه الله عما أضيف إليه .
والأمر الثاني: الخضوع لعزة الله والخوف من سطوته.(1/14)
من أجل ذلك قال هذا النبي الكريم {سُبْحَانَكَ} ثم قال بدأ يدخل في الجواب قال : {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} في أشياء يا أخي تملكها وفي أشياء أنت لا تملكها من أعظم ما لا نملكه أننا عبيد، وبما أننا عبيد لا نملك أن نتكلم كما يتكلم الرب سبحانه وتعالى ولا نطالب بحق الألوهية لأننا لسنا آلهة فلا إله إلا الله وكل أحد سوى الله مربوب وعبد والله جل وعلا وحده هو الإله وهو الرب لا رب غيره ولا إله سواه. فهذا الحق أنه يعبد أحد من دون الله لا يستحقه إلا الله فلا يمكن أن يأتي أحد لا يملك هذا الحق فيطلبه لنفسه، فعيسى يقول أنا مربوب وعبد ولا أملك أن أطلب من الناس أن يعبدوني من دونك لأنه هذا ليس في حق فيه فمقام الألوهية غير مقام العبودية .
{مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} ثم لم يقل أنا لم أقله، قال تأدبا مع ربه: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}، وهذا الجواب لا يكون إلا مع من؟ إلا مع الله، لا تستطيع أن تجيب أحدا من الناس بهذا الجواب، مستحيل هذا الجواب لا يمكن أن يكون إلا مع الله . مع الناس تقول لم أقله أو تقول قلته، ذهبت إلى مكان كذا أو لم تذهب؟ تقول لمن سألك ذهبت أو لم أذهب، لكن ما يعقل أن تقول له إن كنت ذهبت فأنت تعلم أني ذهبت! من أين يعلم أنك ذهبت؟ هذا جواب لا يقال إلا لمن؟ إلا لله.
{(1/15)
إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} وهذه واضحة لا تحتاج إلى بيان {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} فما من غيب إلا والله جل وعلا يعلمه كما قال لقمان لابنه :{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (16) سورة لقمان.
{إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}(1/16)
ثم أخذ يبرئ ساحته أمام النصارى قال:{مَا قُلْتُ لَهُمْ}هذه ما نافية{إِلاَّ}هذا استثناء{ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}فأنا عبد أنفذ أوامرك وأؤدي ما أوكلته إلي ولا أستطيع أن أخرج عن أمرك مثقال ذرة{مَا قُلْتُ لَهُمْ إلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}هذه {أَنِ} حرف تفسير لا محل له من الإعراب فأصبحت جملة{أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} مفسرة لقوله :{إلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} يعني ما الذي أمرتني به؟{أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} . وقد مر علينا هذا في سورة البقرة ومنه قول الله جل وعلا : {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ}أي أمر؟{أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ}(66) سورة الحجر، فهذه{أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ}مفسرة لقول الله جل وعلا : {ذَلِكَ الأَمْرَ} . كذلك هذه قول الله تبارك وتعالى{أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}مفسرة لقول الله تبارك وتعالى{إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} . فعيسى عليه السلام قبل أن يقرر أن الله رب لهم قرر أن الله رب له هو {أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} وهذا هو التوحيد الذي بعث الله جل وعلا به الرسل من نوح إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والذي لا يقبل الله من أحد صرفا ولا عدلا إلا بتحقيقه.
{(1/17)
أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}{وَكُنتُ} يتكلم عن نفسه { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} قوله {مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} أنه عبد متى ما وضع أو رفع لا يعلم شيئا ولا يوجد عاقل يدعي أنه يفهم كل شيء أو يعلم كل شيء، النبي عليه الصلاة والسلام كما قلنا هذا مرارا كان يعيش في المدينة حوله فيه المدينة فيه مهاجرين فيه أنصار فيه يهود فيه منافقين فالله يقول لنبيه:{ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ}(101) سورة التوبة .
قال العلماء إذا جاز على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: أن يكون له جيران يسكنون مدينته ولا يعلم أنهم يكيدون له وأنهم منافقون فمن باب أولى أن يخفى ذلك على من دونه وكل الناس دونه صلوات الله وسلامه عليه.
{وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ}وأنا بينهم أعيش أقول لهم اعبدوا الله هذا يوافق وهذا لم يوافق أنا شهيدهم هذا وافق وهذا لم يوافق هذا قبل وهذا لم يقبل هذا رضي بك ربا وهذا لم يرض.
{مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
هذه ((تَوَفَّيْتَنِي)) فيها نوع من الإشكال:(1/18)
لأن عيسى عليه السلام قطعا ليس بميت وإنما رفع إلى السماء قال الله جل وعلا {بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ} وهذا نص فدائما عندما تريد أن تفسر أو حتى في أي شيء في حياتك امسك أصلك إذا جاء شيء يعارض الأصل رد العارض وخليك على من؟ على الأصل إلا بعارض يفوق؟ يفوق الأصل،وأنت ماشي في حياتك في أمر دين أو أمر دنيا امسك الأصل لا تترك الأصل لأي عارض أو لأي شبهة وإنما تثبت في الأصل رد العارض وابق على الأصل حتى لو لم تفهم العارض مو لازم، لكن خليك متمسك بالأصل فالله جل وعلا تكلم عن عيسى في سورة النساء وقال إن اليهود زعمت أنها قتلته، وقال جل وعلا :{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} ثم قال :{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا*بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ} (157-158) سورة النساء ، هذا الله يقول في كتابه أنه رفع عيسى فلما تأتي آية أنه توفى والله يقول رفع ما يجتمع وفاة مع رفع، نبقي على الأصل الذي هو الرفع ونقول إن الوفاة هنا بمعنى الرفع ، يعني {تَوَفَّيْتَنِي} يعني استوفيت بقائي معهم ثم رفعتني، حتى نبقي على ماذا؟ نبقي على الأصل، وهذا من أخذ بهذه القاعدة يسلم في أمر دينه وأمر دنياه لأنه ليس كل شبهة تستطيع أنت أن تردها لكن حتى لو وجدت شبهة لا تستطيع أن تردها ابق على الأصل حتى يمن الله عليك بعالم تسأله عن هذه الشبهة، فيردها أما كل أصل تمسكه كل شبهة تأتيك تأخذ بها الشبه لا تنتهي ستصل إلى ما لا نهاية تتخبط بك الطرق كما هو حاصل بعض ممن ينتسب إلى العلم، كيف يتخبط ميمنة وميسرة لأنه لا يوجد أصل أصلا يقبض عليه ويمسك به، لكن يمسك الإنسان على الأصل ثم يمضي.(1/19)
فالأصل مثلا في المؤمن من قال لا إله إلا الله أنه مؤمن فإخراجه من الملة يحتاج إلى أصل أعظم من هذا ولا يوجد حتى هو يفرح بالكفر إذا قال أنا كافر راضي أنا كافر هذا يهدم الأصل لكن إذا فعل أفعال يعتقد أنها كفر في خلاف أنها كفر لم يرض بها ليس لك ولا لغيرك أن يكفره بمثل هذه الشبهات، ستصل إلى ما لا نهاية، وهذا الذي وقع فيه من وقع ظهر في أيام الصحابة لما كُفِّر علي وكُفّر عثمان وكُفِّر غيرهما من أضل ضل بهذا الطريق، فلا يمسك أصل كلما جاءته شبهة يطبقها على الناس إلى ما لا نهاية الذين خاصموا علياً مروا على شجرة شجرة ليهودي فيها بلح جاءوا جوعا جاء بيخرجوا البلح قالوا هذه شجرة يهودي ما يجوز هذا ذمي مستأمن واليهودي عالم بس عناد ما يسلم، سكت عنهم وينظر فيهم بعد قليل جاء عبد الله بن خباب بن الأرت مسلم حاط المصحف في جيبه قالوا : " ماذا تقول في عثمان وعلي؟ " قال : " صحابة أخطئوا في أشياء وأصابوا في أشياء وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مردهم إلى الله "، قالوا : " إن هذا الذي في صدرك يعني القرآن يأمرنا بقتلك! لأنك ما قلت الحق! وعلي حكم الرجال في دين الله والله يقول {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} أصبح علي كافر وأنت ما ترى أن علي كافر يعني أنت ايش ؟ أنت كافر لأن من لم ير كفر الكافر فهو كافر "، كأنه يبني طوب!! وأخرجوه من ناقته ومعه زوجته وابنه ثم جاءوا إلى نهر دجلة هذا الذي في العراق وذبحوه على النهر وسال دمه على النهر!!! واليهودي ينظر! قال : " والله ما رأيت أجهل منكم؟! " ألحين أنتم – بالعامية خلنا نقول- ممتنعين عن التمر تقولوا حرام وذمة وهي كلها حبتين بلح تقولوا حرام وما يجوز وتأتون لرجل من أتباع دينكم يقول لا إله إلا الله وتذبحونه كما يذبح الشاة تقولون هذا يجوز؟! هذا يهودي فهمها. فالعاقل في كل شؤون حياته يمسك أصل ويتمسك به وليس سهلا أن تهدم الأصل لأن هذا الباب لو دخلت فيه ما تنتهي .(1/20)
أنا أتكلم في مسجدي هذا تأخرت يوم عن الصلاة صلى شخص بدلا مني فدخل رجل طيب يعني كان في واحد ساجد اللي ساجد هذا ساجد مو على أطراف الأصابع على الأمشاط معروف أن السنة على الأمشاط يعني عامي من العوام إلى الآن هذا العامي ما يدري عن القصة وهذا الرجل يعني ليس من الحي عارض، فقال أخذني بيدي وقال شوف شوف كيف يصلي! ما طبق السجود والسجود على الأعضاء السبعة وهذا ما سجد على الأعضاء السبعة! شوف هذه الفتوى المركبة: إذن السجود غير صحيح! والسجود ركن من أركان الصلاة إذن صلاته غير – والله في المسجد- أن صلاته غير صحيحة، إذن ما كأنه صلى، إذن الرسول يقول (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) صار كافر وقعد يقول سبحان ربي الأعلى سبحان ربي الأعلى اللهم اغفر لي! كله من ترك ماذا؟ من ترك الأصل فعقلك لا تعطيه لغيرك احفظ لسانك عن أعراض المسلمين عالم حاكم أمير وزير صغير كبير، في النقاش العلمي ناقش على كيفك، قل ما تشاء العلم حق مشاع ما في أحد بيده العلم كله، لكن بالذات الإخراج من الملة والإدخال في الملة هذا ليس لأحد الله يقول: {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} احنا أطلنا بس نرجو الله الفائدة .
{ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي...} قلنا إن الوفاة هنا بمعنى الرفع حتى يصير الأمر تقعيدي، الوفاة في كتاب الله على ثلاثة أضرب.
لفظ الوفاة في كتاب الله على ثلاثة أضرب:(1/21)
الوفاة بمعنى الموت وانقضاء الأجل، ومنه قول الله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (42) سورة الزمر، أي حين انقضاء أجلها. ومنه قول الله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (42) سورة الزمر.
والوفاة بمعنى النوم قال الله جل وعلا : {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} (60) سورة الأنعام. الوفاة بمعنى النوم قال الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} (60) سورة الأنعام.
والوفاة بمعنى الرفع وهي الآية التي بين أيدينا {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} أي رفعتني {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ولا ريب أن الله على كل شيء شهيد.
ثم قال الله جل وعلا على لسان عيسى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (118) سورة المائدة.
وهذه من أعظم آيات القرآن في المعاني، ومعناها كثير لكن نحوم حولها وفق التالي:
أولا معناها:(1/22)
الله جل وعلا أرحم بعباده من أنفسهم، أرحم بخلقه من أنفسهم فلما يحق العذاب على أحد فمعنى قطعا أنهم مستحق تماما للعذاب لو لم يكن عبدا متمردا مستحقا للعذاب لما عذبه الله لأن الله أرحم بنا من أنفسنا وأرحم بالعبد من الوالدة بولدها، أرحم بالعبد من الوالدة بولدها فقوله: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} يعني لو ما كانوا يستحقون أنت ما عذبتهم والأصل أنهم عبادك، مملوكون لك تفعل وتحكم فيهم ما تشاء {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ولم يقل عيسى هنا وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، وهذا مرده إلى أننا كما بينا قبل قليل أن الموقف موقف عظمة وخطب جليل ولا يريد عيسى أن يظهر بمظهر من يملي على ربه ما يفعل ولذلك قال بما يناسب واقع الحال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} بمعنى أنك لو غفرت غفرت وأنت قادر على أن تعذب لكن لحكمة لم تعذبهم و إلا فليس عفو الله عمن يعفو عنه لضعف أو عجز كما يفعل بعض أهل الدنيا، تجيء مثلا لمدير ضعيف شخصية ويتأخر المدرس هو خوفا منه المدرس هذا له قرابات له شفاعات يقول سامحناك المرة هذه لن نكتب فيك، فهذا عفو لكنه ناجم عن ضعف، لكن عفو الله جل وعلا عمن يعفو عنه ناتج عن عزة وقدرة و إلا فإن الله قادر على أن يعذبهم ولذلك قال عيسى {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، هذه الآية ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة لا يردد إلا هذه الآية، وثبت عند مسلم وغيره من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله جل وعلا على لسان إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ(1/23)
عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (36) سورة إبراهيم، وقول الله في هذه الآية على لسان عيسى{إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، ثم بكى صلى الله عليه وسلم فلما بكى جاءه جبرائيل بعد أن بعثه الله سل محمدا علام يبكي؟ والله أعلم بسببه فجاءه جبرائيل سأله فقال: (إني أخشى على أمتي) فبعث الله جل وعلا جبرائيل ليقول له: (إن الله لن يسوءك في أمتك) ولهذا قال العلماء : " إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة مرحومة " ، أخذوها من هذا الحديث.
أن الله جل وعلا وعد نبيه أنه لن يسوءه في أمته والله جل وعلا لا يخلف الميعاد والنبي صلى الله عليه وسلم يسوءه ألا ترحم أمته والله وعده ألا يسوءه فهذا على وجه الإجمال أن هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة مرحومة.
ينتهي الموقف بقول الله تبارك وتعالى: {قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} صدقوا في النيات صدقوا في الأقوال صدقوا في الأعمال فكان صدقهم هذا ينفعهم بين يدي ربهم ولذلك الجزاء من جنس العمل و{هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (60) سورة الرحمن، فلما صدقوا مع الله قال الله جل وعلا : {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (55) سورة القمر، الجزاء من جنس العمل، قال الله جل وعلا : {قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (119) سورة المائدة، هذه أتم نعمة ولا توجد نعمة بعد رؤية وجه الله أعظم من رضوان الله وهي آخر ما يعطاه أهل الجنة. بلغنا الله وإياكم رضوانه.(1/24)
ثم ختم الله جل وعلا السورة كلها بقوله: {لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (120) سورة المائدة. وقلنا مرارا إن تقديم الخبر نوع من أنواع الحصر والمعنى أن الله جل وعلا المالك وحده لما في السماوات وما في الأرض وما بينهن وما فيهن وهو تبارك وتعالى على كل شيء قادر يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد يقدم من يشاء بفضله ويؤخر من يشاء بعدله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله.
هذا ما تيسر إيراده من سورة المائدة فلله الحمد على توفيقه وإحسانه نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما قلنا. هذا والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين.(1/25)
تأملا ت في سورة
الأنعام
للشيخ صالح المغامسي
(( الجزء الأول ))
من صفحة الشيخ صالح المغامسي بموقع صيد الفوائد
http://saaid.net/Doat/almgamce/index.htm
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن من المقدمات المهمة في تفسير سورة الأنعام أن هذه السورة سورة مكية وأن أكثر أهل العلم يقول : " إنها نزلت جملة واحدة " كما روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وأنه نزل معها سبعون ألف ملك يشيعها .
وقلنا إن هذه السورة أصل في حجة إثبات الحجة على المشركين وأنها اعتمدت على أسلوبين هما:
أسلوب التقرير وأسلوب التلقين، وبينا هذا في موطنه واليوم بإذن الله تعالى نتخذ وقفات مع آيات من هذه السورة المباركة سائلين الله فيها التوفيق والسداد:
قال الله عز وجل: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} (50) سورة الأنعام.(1/1)
قلنا مرارا إن التفسير الحقيقي: ليس بيانا للمفردات والمعاني فهذا أمر متيسر لكن التفسير الحقيقي أن تفهم المراد من كتاب الله في سياقه العام وأن تفقه الآية من السورة والسورة من القرآن، زمانا ومكانا ومناسبة حتى تتضح لك ما المقصود من كلام الرب تبارك وتعالى، النبي عليه الصلاة والسلام لما بعث عانده الكفار من قريش فتارة يطالبونه بحجج منها أنه يقسم الأرزاق بينهم وهذا لا يقدر عليه إلا الله، وتارة يسألونه عن أمور غيبية لا يعلمها إلا الله وتارة يعيبون عليه أنه يمشي في الأسواق ويأكل الطعام والشراب وأن هذا ليس من شأن الرسل، وتارة وهو الشق الثاني من الحجج تارة يقولون له إنك بدينك هذا إنما تريد أن تدعي الألوهية! هذان الضربان هما اللذان يجمعان نقمة كفار قريش على رسولنا صلى الله عليه وسلم.(1/2)
هذه الآية التي أنزلها الله من باب أسلوب التلقين رد على مزاعم أولئك الكفار، (قُل) أي يا محمد (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ) أي يا كفار قريش (عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) النبي صلى الله عليه وسلم يأمره ربه أن يبين للناس أنما غاية المراد من دعوته أنه بشر يبلغ رسالة ربه ولا يملك قدرة على التغيير جبرية ( لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) [الغاشية : 22] ويخبرهم أن خزائن الله لا يملكها ولا يدعي أصلا أنه يملكها لماذا؟ لأن ملك خزائن الله أمر من خصائص الرب وحده جل وعلا وهذا مقام الألوهية والنبي صلى الله عليه وسلم ليس له من مقام الألوهية شيء، فلا يمكن له أن يقسم الأرزاق ولا الرحمة ولا الخيرات ولا العطاءات بين الناس لأن هذا من خصائص الرب والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع يوما أنه إله، (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) كما يخبر نبينا صلى الله عليه وسلم بأمر ربه كفار قريش أنه لا يعلم الغيب . والغيب قلنا مرارا ضده الشهادة فيخبر صلوات الله وسلامه عليه أن ربه يأمره أن يبلغ الناس أنه لا يعلم الغيب فإذا بان ضعف الرسول في علم الغيب بالضد يظهر ماذا؟ كمال الله في العلم، وهذا الأمر هو المقصود من السورة كلها، أن يظهر الله للناس ضعفهم وعجزهم حتى يظهر لهم من باب أولى كمال خالقهم وعظمته جل وعلا وأنه منزه من كل عيب ونقص. ولذلك قال الله لما ذكر خلق السماوات والأرض قال (وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ) [قـ : 38] أي لم يمسه جل وعلا إعياء لأن ذاته غير ذات المخلوقين فصفاته بالأمر اللازم غير صفات المخلوقين، (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) وهذا الأمر الذي قرره النبي صلى الله عليه وسلم وقع حالا ومعنى , عليه وعلى الملائكة وعلى الأنبياء والرسل من قبله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(1/3)
الملائكة بين يدي ربها: لما علم الله آدم الأسماء قال جل ذكره :{أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ*قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} (31-32) سورة البقرة.
وخليل الله إبراهيم: وهو أبو الأنبياء وثاني الرسل من أولي العزم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يأتيه الملائكة في صورة ضيوف فيذهب عَجِلا إلى بيته فيأخذ العجل ويذبحه ويشويه ويقدمه كل هذا وهو لا يعلم أن الضيوف ملائكة لا يأكلون الطعام، فلو كان يعلم لما فعل هذا كله وتعنى لهم، لكن حتى يبين الله لك وأنت تقرأ كتابه ضعف المخلوقين أيا كانوا وعظمة الرب جل جلاله وحده.
ونبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام: كان ابنه يوسف في أرض مصر عزيزا على كرسي الوزارة يأمر وينهى ويأتيه الناس من كل مكان ويعقوب في أرض كنعان في بادية الشام والعراق قد ابيضت عيناه من الحزن على فقد ولده! وهو نبي يوحى إليه ومع ذلك كان عليه السلام يجهل أن ابنه في مقام عزيز ومكان رفيع ولو كان يعلم لما دمعت عيناه ولا اغتبط فرحا ولكنه شيء من الغيب الذي أخفاه الله جل وعلا عن هذا النبي الكريم.
ورسولنا صلى الله عليه وسلم: كان في المدينة وحوله من يكيد له الكيد ويحيق به الدوائر ربه يقول له { وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} (101) سورة التوبة .
وسليمان: يعطى الملك والريح ومعه الجن والشياطين تأتمر بأمره وتذعن لخبره وتنفذ ما يطلب وتفعل ما يأمرها به ومع ذلك رغم هؤلاء الجند كلهم من يبصرهم ومن لا يبصربهم الناس يخفى عليه أن بلقيس كانت تعبد الشمس ثم يأتي طائر عجمي لا ينطق ليقول له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} (22) سورة النمل .(1/4)
هذا ما جرى على أنبياء الله ورسله وأخذنا منهم بعض الأمثلة. وما يقال عنا من باب أولى وأكثر وهذا يدل على أن علم الغيب أمر اختص الله جل وعلا به وحده وسيأتي الحديث عن مفاتيحه بعد قليل.
(وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) تستنكرون علي أن أمشي في الأسواق! وأن آكل الطعام والشراب وهذا لا يكون إلا للملائكة وأنا أي محمد لم أقل يوما من الدهر إني ملك، (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) إذن من أنت؟ (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) فهو صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي من السماء يأمره بكذا بالنذارة والبشارة فيفعل ما أمره الله جل وعلا به قال الله تعالى عنه : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) ثم بعد بيان هذا كله أنني أنا رسول وأدعو إلى رب بيده خزائن كل شيء ويعلم الغيب والشهادة يستحق العبادة فالأمر واضح جلي بين، قال بعدها (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ) [الأنعام : 50] وهذا استفهام إنكاري لأن (هَلْ) أداة استفهام بمعنى لا يستوي الأعمى والبصير، والمقصود بالأعمى والبصير هنا الضال والمهتدي العالم والجاهل الموحد والمشرك كلها يمكن أن تدخل في تفسير قول الله جل وعلا : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ) وقول الله جل وعلا : (أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ) دلالة على أن العقول مخاطبة بشرع الله تبارك وتعالى.
لكن خذ قاعدة:
عندما تجادل إنسانا في قضايا العقل هل له دخل في الشريعة أو ليس له دخل؟ هذه مسألة تتكرر كثيرا بين طلبة العلم لكن فصل الخطاب فيها :
أن تعلم أن العقل مكتشف للدليل وليس منشئ له، فالدليل يضعه الله في كتابه أو على لسان رسوله وإنما أصحاب العقول يكتشفون تلك الأدلة ويتوصلون إليها بعد أن وضعها الله لهم في كتابه أو على لسان رسوله أو كانت آية من الآيات العامة المنثورة في الخلق.
هذه الآية الأولى التي نريد أن نقف عندها.(1/5)
الآية الثانية : آيات مسترسلات ست آيات بعضها بعد بعض، قال الله تعالى:
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ*وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ*وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ*ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ*قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ*قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ*قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} (59-65) سورة الأنعام.
نبدأ بالأولى:
(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) هذا أسلوب حصر مر معنا كثيرا وقلنا إن من أساليب الحصر في اللغة تقديم ما حقه التأخير وأصل الآية (مفاتح الغيب عنده)، فقدم الله الخبر على المبتدأ ليصبح المقام مقام حصر، فيصبح المعنى وعنده مفاتح الغيب أي ليست لأحد غيره مفاتح الغيب .
لكن لو قال: ( ومفاتح الغيب عنده ) يحتمل المعنى :(1/6)
مفاتح الغيب عنده وعند غيره لكنه قال (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) جعل الأمر محصورا لأنه قدم الخبر على المبتدأ وقلنا تقديم ما حقه التأخير أسلوب من أساليب الحصر في بلاغة العرب .
(وَعِندَهُ) أي عند الله ((مَفَاتِحُ الْغَيْبِ)) مفاتح جمع مفتاح وهي عند النحويين اسم ممنوع من الصرف لأنه على وزن مفاعل.
لكن الذي يعنينا هنا أن مفاتح الغيب - والقرآن يفسر بعضه بعضا- خمسة:
وقد مرت معنا في خطب ودروس عدة لذلك سنعيدها إجمالا لا على وجه التفصيل، يقول الله جل وعلا : (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ) النفي مع الاستثناء كذلك أسلوب من أساليب الحصر (لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ) ثم لم يذكر الله في هذه الآية ما هي مفاتح الغيب لكن السنة فسرت القرآن قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عمر: (مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله) ثم تلا : {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (34) سورة لقمان. خاتمة سورة لقمان.
نقول إن مفاتح الغيب أمر لا يعلمه إلا الله لا يعطى لأحد . أما الغيب الباقي يمكن أن يُطلع الله جل وعلا عليه بعض عباده قال الله جل وعلا :{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا*إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ..} [(27) سورة الجن] ، فقد يُطلع الله بعض عباده على بعض غيبه لكن مفاتح الغيب أمر اختص الله جل وعلا به وحده لا يطلع عليه أحدا كائنا من كان إلا وقت المراد من الغيب نفسه.
فقلنا بناء على آية لقمان أصبح أعظم الغيبيات :(1/7)
علم الساعة : وهي أعظم الغيبيات بدلالة القرآن والسنة فجبرائيل سيد الملائكة يسأل نبينا صلى الله عليه وسلم ( أخبرني عن الساعة؟ قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) أي علمي وعلمك فيها سواء والله يقول: (لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ) بل إن إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور لتقوم الساعة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنه قد أحنى جبهته وأصغى أذنه والتقم القرن ينتظر متى يؤمر بالنفخ فينفخ) فإذا الذي سينفخ إسرافيل لا يعلم متى ينفخ من باب أولى ألا يعلم الناس، فالساعة يا أخي أعظم الغيبيات.
(إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ)
إنزال المطر: تحديد وقته لا يعلمه إلا الله أما ما تراه من إرهاصات هذه مقدمات تصيب وتخطئ عوارض غالب الظن أنه يقع غالب الظن أنه لا يقع لكن لا يجزم بهذا أحد وقد نقل القرطبي رحمه الله عن بعض علماء المسلمين أن من جزم بنزول الغيب قال غدا مطر يكفر لأنه خالف صريح القرآن .
(وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) قلنا مرارا إن (مَا) هنا موصولة تدل على العموم أي يعلم ما في الأرحام إن كان ما في الرحم سقطا سينزل أو سيتم خلقه يعلم الله جل وعلا إن كان شقيا أو سعيدا يعلم الرب تبارك وتعالى إن كان سيعمر أو لا يعمر أمور شتى تتعلق به إن كان ذكرا أو أنثى إن كان كاملا أو خديجا، غير ذلك مما يتعلق به لا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى.
(وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا) ونقول إنه فرق ما بين جدول العمل وبين ما تحصل عليه من العمل فإن المعلم يعلم جدول حصصه قبل العام وكذلك كثير من الناس ممن لهم أمور مرتبة وجداول وأعمال، لكن هل يحصل هذا العمل؟ هو الذي يسمى في اللغة كسبا وهذا لا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى فقد يحول الله بين المرء وبين ما يريد قبل أن يقع الأمر بلحظات.
((1/8)
وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ) وفي المسند : ( أن من أراد الله أن يقبض روحه في أرض جعل له حاجة إليها ). ومن جهل المكان من باب أولى أن يجهل الزمان والمقصود من هذا كله إجمالا لأنه قد مر معنا كثيرا أن مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الرب تبارك وتعالى.
(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) . هذه يا أخي من أعظم آيات الربوبية في القرآن .
يخبر الله جل وعلا فيها عن سعة علمه وعظيم إحاطته بخلقه وأن ما تراه العيون وما لا تراه مثاقيل الجبال ومكاييل البحار وورق الأشجار على كثرته واتساعه وعظيم عدده لا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى وهي على اتساعها أينما كانت وأينما غابت عن عيوننا الغيب والمجهول غياهب البحار ومفاوز البر كل ذلك ما يقع فيه وما يكون في ليل أو في نهار في أي زمان أو في أي مكان الله جل وعلا مطلع عليه قد علمه وكتبه وأراده وشاءه قال الله تعالى : (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ) ثم تسقط ثم تتناقلها الرياح ميمنة وميسرة شمالا وجنوبا ثم تذوب ثم تهوي كل ذلك يعلمه الله جل وعلا لا يخفى عليه من خلقه خافية أينما كانت {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (16) سورة لقمان.(1/9)
والإنسان ستره الظلام أو كان في الضوء فالله جل وعلا مطلع عليه علم الناس ما فعل أو لم يفعل الله جل وعلا مطلع عليه أسر في نفسه أم أعلن الله جل وعلا يعلم ذلك كله فالقلوب له مفضية والسر عنده علانية ولا تخفى عليه من خلقه خافية.
(وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ ولا حبة) أي ولا حبة تسقط (فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ) وقوله جل وعلا : (وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ) أسلوب قرآني يسمى عطف عام على خاص لأن كل ما سلف لا يخلو من كونه إما رطب وإما يابس إما حي وإما ميت وهذا معنى رطب أو يابس. (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ ولا حبة فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ) كل ذلك (إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) أي في اللوح المحفوظ فإن الله أول ما خلق القلم قال : اكتب , فقال ما أكتب؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة .
فما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، جفت الأقلام وطويت الصحف وأنت تسعى وراء رزق سيأتي إليك أو تطلب شيئا لن يأتيك أبدا، فالعاقل من أحسن صلته مع ربه جل وعلا ز
وأهل العلم والفضل يقولون: " من خسر مع الله جل وعلا ماذا ربح؟ ومن ربح مع الله تبارك وتعالى ماذا خسر؟ " فمن ربح مع الله لم يخسر شيئا ومن خسر مع الله لم يربح شيئا ولو أوتيت له الدنيا بحذافيرها. (إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) .(1/10)
ثم قال جل شأنه: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى} نسب الله جل وعلا هنا الوفاة إلى ذاته العلية رغم أنه نسبها كما سيأتي إلى الملائكة في آيات أخر لكن يقال إن نسبة الأمر إلى الله نسبة حقيقة ونسبة الأمر إلى غير الله نسبة تكليف أي كلف الله أحدا أن يقوم بها كما كلف الملائكة، وقول الرب : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ) المقصود به المنام وليس المقصود به الوفاة الحقيقية .
وقد قلنا في تأملاتنا في سورة المائدة أن الوفاة في القرآن تأتي على ثلاثة معاني:
تأتي بمعنى الموت وقلنا منها قول الله تعالى (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا).
وتأتي بمعنى النوم مثل هذه الآية (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ) وقول الله تعالى في سورة الزمر (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا الله) .
وتأتي بمعنى الرفع وقلنا إن الله قال لعيسى (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) .
والمقصود من هذا كله أن الوفاة هنا بمعنى النوم والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ قال: ( الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) فسمى النوم موتة صغرى.
وصفوة القول أن يقال:
إن للروح علاقة مع الجسد تختلف من حال إلى حال علاقة قبل أن يوجد الجسد، يوم كانت أرواحنا في ظهر أبينا آدم، وعلاقة بعد أن نفخ فينا الروح يوم كنا أجنة في بطون أمهاتنا وعلاقة شبه كمال وهي علاقة الروح بالجسد في حال اليقظة وعلاقة أقل من هذا وهي علاقة الروح بالجسد في حال النوم وعلاقة لا نعلم كنهها وهي علاقة الروح بالجسد في حياة البرزخ فإن الإنسان ينعم ويعذب في حياة البرزخ وعلاقة وهي علاقة الكمال والتمام تكون بعد البعث والنشور لأنه لا موت بعدها.
نجم عن هذا ست علاقات:(1/11)
قلنا علاقة في عالم الأرواح وعلاقة في عالم الأجنة وعلاقة في عالم اليقظة وعلاقة في عالم النوم وعلاقة في عالم البرزخ والسادسة علاقة بعد البعث والنشور، هذه العلاقة علاقة الروح مع البدن حال النوم.
(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ) ثم تعود الروح ولم تكن قد أخذت بالكلية أما الكيفية فمسألة لا يعلمها إلا الله. (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) جرت سنة الله في خلقه أن النهار للمعاش فلما كان الإنسان في النهار يعمل ويكد من أجل عيشه يكد بماذا؟ يكد بجوارحه ولذلك قال الله جل وعلا : (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) فلما كان يكد الإنسان بالجارحة أخذ الله منها الفعل فجعله ملتبسا بالمعاش بالنهار فقال (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) أي ما كسبتم فعبر عن الآلة عما تسبب به الآلة فالذي يتسبب بالرزق الجارحة فعبر عنها الله لأنها تؤدي نفس الغرض.
(وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ) يبعثكم أي يوقظكم من منامكم (فِيهِ) أي في النهار لماذا؟ (لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى) وهذا باعتبار الأفراد لا باعتبار الجماعات بمعنى أن كل فرد له أجل مسمى كتبه الله جل وعلا عليه ( لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأنعام : 60] وهذه مرت معنا كثيرا.(1/12)
ثم قال جل ذكره: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} بما أنه قاهر وقلنا إن السورة حجة في إثبات توحيد الربوبية والألوهية بما أنه جل وعلا قاهر مالك لجميع الخلق فإنه يفعل في خلقه ما يشاء. فكما أنه تبارك وتعالى خلقهم ورزقهم وجعل لهم طريقا موصلا إليه وقال : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ) [الانشقاق : 19] أي أن الخلق أطوار منذ أن كانوا في ظهر أبيهم ثم في بطون أمهاتهم حتى وصلوا ثم أصبحوا ينامون بالليل ثم يبعثون بالنهار وانظر تسلسل الآيات بقي المرد إلى الله فقال الله جل وعلا {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} فلما كان قاهرا مالكا ملكا حقيقيا متصرفا قال : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ )[الأنعام : 61] .
هذه ( إِذَا ) في اللغة تأتي على ثلاث معاني:
تأتي قبل التلبس بالفعل تقول إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ أي قبل أن تقوم إلى الصلاة ماذا تفعل؟ تتوضأ، إذا وقفت بين يدي الله فكبر هذا حال التلبس بالفعل، إذا صليت فاقرأ القرآن أي بعد دخولك في الصلاة بعد التلبس بالفعل .
هنا (حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي حتى إذا قرب الموت وجاءت علاماته ودنت ساعته وحان الأجل ما الذي يحصل؟ قال الله : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ) الرسل هنا هم من؟ الملائكة.
وينبغي أن تعلم أن قرب الله من خلقه من عباده على طريقين:(1/13)
قرب بذاته وقرب بملائكته فالقرب بالملائكة هذا واحد منها وقد فسره الله جل وعلا في سورة الواقعة قال سبحانه {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ} (85) سورة الواقعة، وليس قرب الله بذاته إنما قرب الله بماذا ؟بملائكته. (حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) الأصل أن الموكل بقبض الأرواح ملك لكن هذا الملك له أعوان.
ومفهوم الآية لا يخلو من أحد أمرين وبهما قال العلماء:
إما أن تكون الملائكة هي التي تخرج الروح حتى إذا دنت من الحلقوم تركتها لملك الموت فهو الذي يقبضها والله يقول : {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (11) سورة السجدة .
الجمع بين هذه الآية وبين آية السجدة :
الله يقول في هذه الآية آية الأنعام : (حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) وقال في السجدة : (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ) نقول : قال بعض العلماء : إن الملائكة تقبض الروح تستلها من الجسم كله استلالا يختلف من روح المؤمن إلى روح الكافر وليس هذا موضع بيانه فإذا دنت الروح من الحلقوم قام ملك الموت بالنزع الكلي أو الآخر هذا قول.
وقول آخر : أن ملك الموت هو الذي ينزع الروح وقد جعل الله له العالم كالمأدبة بين يدي من يريد أن يأكل يأخذ منها كيفما يشاء فإذا كثر عليه في يوم قبض الأرواح مجرد أن يناديها تأتي وكل ذلك بأمر الله وسواء صح هذا أو لم يصح العقل لا يرده والشرع لا ينافيه، والمقصود هذا رأي.
الرأي الثاني : أن يكون ملك الموت هو الذي يقبض الروح وحده، وليس لأحد غيره من الملائكة يعينه في قبض الروح ثم إذا قبضها لا تلبث في يده حتى يعطيها ملائكة آخرين فإن كانت روحا مؤمنة أعطاها لملائكة الرحمة - جعل الله جل وعلا أرواحنا وأرواحكم كذلك . وإن كانت روحا كافرة أعطاها ملائكة العذاب وهذا الرأي الثاني هو الذي تميل النفس إليه والله أعلم.(1/14)
(حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ )[الأنعام : 61] .أي لا يضيعون في قبض الأرواح وإنما لا يتقدمون قبل الأجل ولا يتأخرون بعد الأجل فحيثما أمرهم الله زمانا ومكانا يكونوا عليهم السلام.
(ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ) و( ثُمَّ ) حرف عطف لكنه يفيد التراخي ، التعقيب والتراخي فيه فترة زمنية ما بين قبض الروح وأن ترجع إلى الله ليحكم بينهم هي التي تسمى حياة البرزخ (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ) .
(ثُمَّ رُدُّواْ) أي الخلق (إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ) بكسر القاف لأنها صفة للفظ الجلالة.
(ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ) تبقى مسألة لغوية هنا: الله هنا يتكلم عن جميع الأرواح مؤمنها و كافرها فكل الأرواح مردها إلى الله وقال الله في نعت ذاته العلية هنا (ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ) مع أنه قال في سورة محمد {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (11) سورة محمد.
فكيف يستقيم الجمع بين أن الله يقول في كتابه ((وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ)) ثم يقول في آية عامة (ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ)؟
و الجواب عن هذا أن يقال: إن كلمة مولى لفظ مشترك لعدة معان يأتي بمعنى المُعتِق ويأتي بمعنى المعتَق فيقال للسيد الذي أعتق: مولى، ويقال للعبد للذي أُعتق: مولى، هذا أحد معانيها .(1/15)
ويقال مولى بمعنى مالك الملك وهو المراد بالآية هنا فقول الله جل وعلا : (ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ) أي مالكهم وأما قول الله في سورة محمد {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} أي ناصرهم وقول الله {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} أي لا ناصر لهم، و إلا الكفار والمؤمنون مُلك لمن؟ ملك لله، فمعنى مولى في سورة محمد ناصر ومعنى مولى في سورة الأنعام مالك الملك، والله مالك ملك أهل الكفر وأهل الإيمان أما أن الله ناصر لأهل الإيمان بلا شك وليس الله بنصير لأهل الكفر. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من كنت مولاه فعلي مولاه) أي من كنت ناصره وحاميه فعلي ناصره وحاميه، هذا معنى مولى في هذا الحديث الشريف. قلنا يتحرر من هذا أن معنى مولى لفظ مشترك لعدة معان وهي في سورة الأنعام بمعنى مالك الملك ولا شك أن الله كما بينا مالك للعباد كلهم.
( ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) [الأنعام : 62] وقول الله (أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ) فيه إشارة خفية إلى أنه ليس لأحد أمر لازم على الله، وإنما الله يحكم بما شاء يدخل من يشاء برحمته ويعذب من يشاء بعدله.
(أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) الله جل وعلا ليس ذاته كذات المخلوقين فلا يقاس ما في أذهاننا من الحساب على ما نعلمه من محاسبة المخلوقين بعضهم لبعض فالله جل وعلا كما أن خلقه خلقهم تبارك وتعالى خلقا واحدا قادر على أن يخلقهم جملة وقادر على أن يميتهم جملة وقادر على أن يبعثهم جملة كذلك قادر سبحانه وتعالى على أن يحاسبهم جملة فهو جل وعلا له الحكم وهو أسرع الحاسبين.(1/16)
ثم قال الله جل وعلا : {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ*قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ}.
ما زال السياق في أن القضية سورة مكية والمقصود منها في المقام الأول إثبات توحيد الألوهية لكن إثبات توحيد الألوهية لا يقوم إلا إذا ثبت توحيد الربوبية.
وقلنا إن هذا أسلوبان: أسلوب تقرير وأسلوب تلقين.(1/17)
بيان ذلك أن الله جل وعلا يخاطب هؤلاء أهل الإشراك الذين يشركون مع الله يخاطبهم بأرض الواقع ويقول لهم جل وعلا: إنكم تسافرون في البر وتسافرون في البحر ويصيبكم من المشاق والكوارث والمصائب ما يجعلكم وأنتم مشركون في حال الرخاء يجعلكم توحدون الله ولا تسألون معه غيره، كما قال الله جل وعلا في عدة سور أنهم يلجؤون إلى ربهم وحده دون سواه: {دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (22) سورة يونس، والله تبارك وتعالى يبتلي عباده كائنا من كان ويدلل جل وعلا في خلقه المنثور وكتابه المسطور في الأرض على أنه الرب الأوحد والمالك الذي لا يقدر على النفع ولا على الضر إلا هو لا يكشف بلوى ولا يدفع ضرا إلا هو ولا يعطي عطاء ولا يمنح رحمة إلا هو (قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) وليس المقصود عين الظلمة وإنما المقصود ما في البر والبحر من مشاق ومن مفاوز ومن أمور تصيب الرجل والمرأة والجماعة والفرد على السواء فإذا أصابهم الأمر وتيقنوا بالهلاك وعظم عليهم الأمر واشتد عليهم الكرب علموا أن لا ملجأ من الله إلا إليه فلجؤوا إلى الله جل وعلا مخلصين يتضرعون بالدعاء سرا وإعلانا فردا وجماعات خفية وتضرعا فإذا نجاهم الله واستجاب دعاءهم ونقلهم من حال الخوف إلى حال الأمن ومن حال الضراء إلى حال السراء نسوا ـ عياذا بالله- كل ذلك الأمر ولجئوا من جديد إلى شركهم قال الله جل وعلا : {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} (12) سورة يونس، وهذا أمر يتحقق في القريب والبعيد في الزمن الماضي وفي الزمن الحاضر وفي الزمن المستقبل كم من تاجر خاف على تجارته وأيقن بغرقها أو بتسلط غيره عليها أو أيقن بالخسران فزع إلى الله في(1/18)
ظلمات الليل يسأل الله ويدعوه فلما نجا الله له تجارته وأنعم عليه ورزقه أخذ تلك الأموال التي اكتسبها فأنفقها في غير طاعة الله وربما سافر بها سفر معصية، وهذا مرحلة أدنى، لكن المرحلة الأعظم التي عناها الله في هذه السورة أن أولئك أهل الإشراك يرون الموت عيانا فيفزعون إلى الله بقلوبهم وجوارحهم وألسنتهم ويصرون على الدعاء ويلحون ثم إن الله لعظمته وحلمه وكمال رحمته ينعم عليهم وينجيهم حتى إذا شعروا بالأمان والرخاء لجأوا إلى أصنامهم وأوثانهم وما غلوا فيه يعبدونه ويسألونه من دون الله وحتى تعلم أنه لا شيء أعظم من أن تشرك مع الله جل وعلا غيره وأن يكون قلبك الذي فطره الله وخلقه وسواه وجبله على التوحيد وعلى إخلاص العبادة له أن يعطى بعد ذلك كله لغير الله وأن يلهج لسانك بأي فرد ملكا أو أميرا أو سلطانا أو عالما أو داعية أو والدا أو ولدا أو زوجة أو ابنا أو محبا تحبه تجعله مقدما على حبك لله جل وعلا ومن أراد ما عند الله من النعيم وخاف ما عند الله من الجحيم لم يقدم على ذات الله أحدا كائنا من كان لا والدا ولا ولدا ولا أما ولا زوجة ولا أحدا كائنا من كان لا يتعلق قلبه لا بممثل ولا بلاعب ولا بمعلم ولا بطالب ولا بسائر أحد وإنما يجعل فؤاده وقلبه للرب تبارك وتعالى .(1/19)
هذا هو التوحيد الذي بعث الله من أجله الرسل وأنزل الله من أجله الكتب وأقام النبي صلى الله عليه وسلم من أجله الجهاد، أما غير ذلك فكلما نقص حظ الله منك نقص حظك من الله، كلما ابتعدت عن الله في توحيده وذكره وإجلاله ومحبته كنت من رحمة الله جل وعلا أبعد وإلى عذابه أدنى، قال الله جل وعلا : (قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا) أي من هذا الكرب المخصوص الذي تسألونه بل إن الله لا يكتفي بأن ينجيكم من كرب مخصوص تدعونه بعينه قال الله : (وَمِن كُلِّ كَرْبٍ) أي ومن كل كرب عام علمته أو لم تعلمه وقد ينجيك الله من كرب لم تدعه أن ينجيك منه لا تعلم أن ذلك الكرب في طريقك لكن الله جل وعلا يزيله عن طريقك من غير أن تعلم .
ثم يقول الله جل وعلا بعد ذلك وبالا وعارا عليهم : (قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ) أي مع تلك النجاة وتلك الرحمة وذلك الحلم من الرب تعودون كما كنتم تشركون مع الله جل وعلا غيره.
والمقصود من هذا كله:
أنه لا يعقل أن نفسر سورة الأنعام وقد جعلها الله جملة في أغلب آياتها خصيصة للتوحيد ودعوة إلى الإيمان به ونبذا للشرك ودفعا للإشراك ثم لا يخرج الإنسان منها بثمرة تجعله يسير في سائر أيامه حتى يلقى الله وليس في قلبه أحد يحبه ويوالي ويبغض ويعادي عليه إلا الرب تبارك وتعالى. - جعل الله قلوبنا وقلوبكم على تلك الفطرة السليمة -.
ثم نقول قال الله بعدها : {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ..} (65) سورة الأنعام.
مناسبة الآية لما قبلها : أن الله كما بين أنه قادر على أن ينجي من المهالك قادر على أن يلقيكم فيها .
((1/20)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ) مثل الرجم (أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) مثل الخسف (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) هذه الآية لا تحتاج إلى كلفة في الشرح لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري وغيره لما نزلت هذه الآية جاء بها جبرائيل فجبرائيل وهو يتلوها على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ) فقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهه) فهذا النبي استعاذ بوجه من؟ بوجه الله، فلما استعاذ النبي بوجه ربه أعاذه الله، تفهم من هذا أن هذه الأمة لا يمكن أن تهلك بعذاب عام من السماء، قال جبرائيل: (أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) فقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهه) ومن هذا تعلم أن هذه الأمة كأمة مجتمعة لا يمكن أن تهلك بخسف من الأرض، ثم قال جبرائيل يتلو كلام الله : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) هنا لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهه، ليمضي قدر الله قال صلى الله عليه وسلم : (هذه أهون) وفي رواية ( أيسر) وفي رواية أخرى (هاتان أهون وأيسر) , ولم يستعذ بالله ليمضي قدر الله، وهذا أمر مشاهد واضح جلي أن الأمة ذاق بعضها بأس بعض، فمنذ أن قتل عثمان رضي الله عنه إلى يومنا هذا والأمة يذيق بعضها بأس بعض، ونتكلم بوضوح آخر ما حصل في قامعة الدولة الإرهابيين الذين ماتوا من الطائفة هذه مسلمين ومن الطائفة هذه مسلمين، هذا ما يقوله الله جل وعلا : (وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) صحيح أنهم خارجون عن طاعة ولي الأمر وأن ما فعلوا خطأ محض وأن ما فعلوه أمر لا يجوز شرعا لكن هذا لا يخرجهم عن دائرة الإسلام، والذين ماتوا ممن كانوا تحت طاعة ولي الأمر مسلمين، فهذا معنى قول الله : (وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ).
((1/21)
أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) الشيع الفرق والأحزاب (وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) الأمة منذ مقتل عثمان في أكثر أزمنتها وهي متفرقة أهواء وفرقا وشيعا ويذيق بعضها بأس بعض.
وأعلم أن هذه الأمة فنبينا صلى الله عليه وسلم زويت له الأرض وقال: (إن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض) أي ملك فارس وملك الروم، (وإنه زويت لي الأرض وسيبلغ ملكي ما زوي لي منها). ثم دعا صلى الله عليه وسلم ربه ألا يهلك أمته غرقا فاستجاب الله جل وعلا له، فمن خوف الأمة أنها ستموت كلها غرقا لا تخوف لأن هذا أمر سأله النبي صلى الله عليه وسلم ربه وأعطاه الله إياه ثم سأله ألا يسلط عليها عدوا يستبيح بيضتها، سأله ألا يسلط عليها عدوا يستبيح بيضتها بيضتها: يعني مركزها مقامها أصلها جرثومتها هذا كله يطلق على البيضة العصبة الرئيسة، فاستجاب الله جل وعلا كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وسأله ألا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعه الله جل وعلا ذلك، وأخبره (أنني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد).
تفهم من هذا أمور وهذه مزية العلم:(1/22)
لما حصل غزو العراق من قبل أمريكا خاف الناس وبعضهم أرجف بقول أن تسلط أمريكا على دولة الحرمين وتهلك مكة والمدينة ولا شك أن الذين خافوا قوم غيورون يريدون الخير للأمة، لكن من كان لديه بضاعة قوية من العلم كان يعلم أن هذا لا يمكن أن يقع لا يمكن أن يقع قدرا ولا شرعا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ربه وعد أنه لا يسلط عدوا من خارج الأمة على أمة الإسلام يستبيح بيضتها وكل من كان منصفا علم أن بيضة الإسلام اليوم هي دولة الحرمين ومكة والمدينة بالذات، الدولة الحامية لها، هذه بيضة الإسلام اليوم لا يمكن أن تمكن لا لأمريكا ولا لغيرها أن يسلط تسلط عسكري على أرض الحرمين يستبيح بها بيضتها وتهلك فيها بالكلية هذا أمر لا يمكن أن يقع لا على يد أمريكا ولا على يد غيرها؛ لأن هذا أمر سأله نبينا صلى الله عليه وسلم ربه فأعطاه الله إياه، لكن الله منع نبيه صلى الله عليه وسلم لأمره وقضائه وحكمته لما سأله ألا يسلط بعضهم على بعض هذه قال الله جل وعلا فيها (إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد) وهذا أمر مشاهد فإن الأمة تفرقت فرقا وأحزابا وشيعا منذ القدم منذ مقتل عثمان وحرب علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما وغيرهما بعد ذلك والأمة يذيق بعضها بأس بعض للأسف، والمفر من هذا كله أن يعتصم الإنسان بكلمة المسلمين وأن يلزم طاعة ولي الأمر وأن يعلم أن يد الله جل وعلا مع الجماعة وأنه من خرج عن الإيمان قيد شبر مات ميتة جاهلية وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصبر وأمر بأمور عدة تقوى بها شوكة الإسلام والتفاف الناس بعضهم إلى بعض كلما كانوا متحدين متفقين على إمام واحد كان ذلك أغيض للعدو وأعظم لإقامة شرائع الله وحدوده والكمال عزيز والنقص موجود لكن لا يسدد مثل ذلك إلا بالتناصح والتشاور والسمع والطاعة في غير معصية الله تبارك وتعالى.
المقصود من هذا:(1/23)
بيان أن الله سبحانه وتعالى بين وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرا من الأمور التي يسترشد بها العاقل ويستنير بها المؤمن ويتقي بها البصير ويعرف الجميع الطريق الموصل إلى الله وهذه مزية أهل العلم على غيرهم في أنهم يعلمون من كتاب الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما يثبت الله جل وعلا به فؤادهم ويهديهم إلى صراط مستقيم.
لذلك الله قال بعد هذا كله : {انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} ولا ريب أن الله فصل الآيات وأبان لعباده طرائق الحق والطريق المستقيم وأوضح ما يقرب منه وما يدل عليه وما يرشد في أمر الدين وأمر الدنيا لكن الناس يتفاوتون في مقدار العلم وحتى أهل العلم يتفاوتون في مقدار الأخذ بالعلم والسمع والطاعة لله والعمل بما يعملون فكم من إنسان حافظ للقرآن متدبر له لكنه لا يعمل به ويعلم معانيه ومواطن نزوله وناسخه ومنسوخه لكنه لا يعمل به شيء ومنهم من أضله الله على علم يقرأ ويأخذ لكنه لا يستفيد منه في واقع الحياة شيئا، وهذه رحمة من الله وفضل يؤتيه الله من يشاء ومن أخلص لله النية وصدق مع الله بلغه الله مناله وأعطاه مراده .
سائلين الله جل وعلا لنا ولكم التوفيق . وصلى الله على محمد وعلى آله.(1/24)
تأملا ت في سورة
الأنعام
للشيخ صالح المغامسي
من صفحة الشيخ صالح المغامسي بموقع صيد الفوائد
http://saaid.net/Doat/almgamce/index.htm
(( الجزء الثاني ))
الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله آخر الأنبياء في الدنيا عصرا وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأنا وذكرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الآيات التي سنقف عندها اليوم قول الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ*وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (75) سورة الأنعام، إلى ما بعدها من آيات ثم ننتقل إلى قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ ..} (93) سورة الأنعام.
ثم نقول مستعينين بالله عز وجل:
إنه لما كانت السورة تتكلم عن العقيدة تتكلم عن عقيدة التوحيد التي بها بعث الله الرسل ومن أجلها أنزل الكتب ذكر الله جل وعلا في هذه السورة إمام الموحدين خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام .(1/1)
فإبراهيم عليه الصلاة والسلام أبو الأنبياء وشيخ الحنفاء ونسب الله جل وعلا الملة إليه في كتابه قال الله تبارك وتعالى : (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) . وهذا النبي الكريم مر معنا كثيرا الثناء والمدح عليه من الله جل وعلا، وهو أهل لكل مدح فهو أرفع الأنبياء قدرا بعد نبينا صلى الله عليه وسلم. ومع اتفاق المسلمين على أن إبراهيم بعد نبينا عليه الصلاة والسلام وعلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم أرفع العباد قدرا إلا أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما دخل مكة عام الفتح أمر أن يخرج ما في الكعبة من صور حتى يستطيع دخولها فكان مما أخرج صورة فيها صورة إبراهيم وهو يستقسم بالأزلام جعلها المشركون له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (قاتلهم الله) يقصد كفار قريش (قاتلهم الله والله لقد علموا ما استقسم شيخنا بها قط) . موضع الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم سمّى إبراهيم شيخه، ولم يسم النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من الأنبياء بأنه شيخه إلا إبراهيم.
وهذه يجب أن تحفظ وتحرر فهي من فرائد العلم الذي يستبينه طالب العلم لنفسه :
أن النبي صلى الله عليه وسلم سمّى هذا النبي الصالح سماه شيخه مع الاتفاق على أن النبي عليه الصلاة والسلام أفضل من إبراهيم. وفي ليلة المعراج لما عرج به صلى الله عليه وسلم قابله إخوانه من النبيين فلما مر على إبراهيم قال إبراهيم لنبينا : (السلام عليك أيها النبي الصالح والابن الصالح) لأن الله جل وعلا جعل كل نبي بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم، قال العلماء ما أنزل كتاب بعد إبراهيم من السماء على نبي من الأنبياء وإلا ذلك النبي من ذرية إبراهيم وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى.(1/2)
المقصود: هذا جملة ما يمكن أن يقال عن إمام الحنفاء أبينا إبراهيم عليه السلام، الله جل وعلا هنا يخبر أن إبراهيم كان يدعو الناس جميعا من أهل عصره الذين بعث فيهم وفي مقدمتهم أبوه وهو هنا يدعو أباه قال الله جل وعلا : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ) أهل التاريخ يقولون إن اسم أبي إبراهيم تارح وليس آزر وحجتهم في هذا اتفاق كثير من النسابة على أن والد إبراهيم اسمه تارح وعلى أنه هذا المذكور في التوراة .
لكنه في مثل يقول: " إذا جاء سيل الله بطل سيل معقل "، وقلنا ونحن نؤصل في الدروس السابقة أن الإنسان يستمسك بأصل ثم إذا جاءت شبهات وعوارض على هذا الأصل يبقي على الأصل ويترك العوارض , فلو أجمعوا أهل النسب على أن اسم والد إبراهيم اسمه تارح هذا مردود لأن الآية لا تحتمل أكثر من النص الصريح الله يقول: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} فالله أسماه آزر فلا معدل عما سماه الله جل وعلا به .
قالوا هذا عمه ، قالوا هذا لقب لأبيه، قالوا عدة أمور يخرجون بها المقصود فنبقى على المقصود الذي هو أصل لأنه لا يوجد ما يعارضه ويقاومه.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً}
( اتخذ ) فعل يتعدى إلى مفعولين:
مفعوله الأول هنا أصنام ومفعوله الثاني آلهة، (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ).
ويمكن أن تقول معنى الآية : تتخذ آلهة أصناما وكلا المعنى صحيح، لكن القرآن نزل : (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ).(1/3)
فهذا إبراهيم عليه السلام يعيب على أبيه أن يعبد الأصنام ويترك عبادة الله الواحد القهار { أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} وهذا الخطاب الذي قاله إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه جاء مبينا في سور عدة في آيات أخر بين الله جل وعلا فيها الأسلوب الدعوي الذي كان يخاطب به إبراهيم أباه، ( قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ) كما جاء في سورة مريم، كلها دلالة على أن الإنسان يجب أن يعلم وهذا ما تبينه الآيات التي تليها أننا نحن المسلمون ندعو إلى شيء واحد هو توحيد الله ودين الإسلام فلا يختلف ما ندعو إليه لكن ما الذي يختلف؟ طرائق الدعوة، فالإنسان يدعو ويتغير أسلوبه بحسب حال المدعو، أما ما تدعو إليه هذا شيء ثابت لا يتغير نحن ندعو إلى الله إلى ما أمر الله به وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، هذه دعوة الأنبياء و نحن مجرد متبعون، والأنبياء تنوعت طرائق الدعوة وتتنوع طرائق الدعوة من لديهم. فخطاب إبراهيم لأبيه ليس كخطابه لقومه كما سيأتي.
ثم قال الله جل وعلا :
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (75) سورة الأنعام.
فضل الله جل وعلا على هذا العبد الصالح لا يعد ولا يحصى ومنه أن الله أراه ملكوت السماوات والأرض، وملكوت هذه التاء زائدة للمبالغة.
التاء في ( مَلَكُوتَ ) زائدة للمبالغة والمعنى :
أن هناك ملك وهناك ملكوت فالملك ما تشاهده بعينك والملكوت ما وراء ما تشاهده بعينيك .
فالله جل وعلا منَّ على إبراهيم بأن أراه ملكوت السماوات والأرض قد يكون رؤيا بصرية تؤدي إلى يقين قلبي، وقد تكون مجرد يقين قلبي في صدر إبراهيم، والمقصود أن الإنسان ينظر إلى ما حوله.
والناظرون إلى ما حولهم ينقسمون إلى قسمين:
قوم ينظرون نظر إبصار وقوم ينظرون نظر اعتبار.(1/4)
بالطبع نظر الاعتبار خير من نظر الإبصار لأن الإبصار يشترك فيه كل من يبصر ولكن نظر الاعتبار يختلف عن نظر الإبصار، ثم ليس كل من نظر نظر اعتبار يوفق إلى المقصود.
حتى الذين ينظرون نظر اعتبار ينقسمون إلى قسمين:
مهتدون وغير مهتدين، فمثلا يوجد من النصارى من القسيسين والذين يتأملون في السماوات يتأملون في الأرض يتأملون في الناس ويكتبون ويدونون من ينظرون نظر اعتبار لكنهم لم يحصلوا على المقصود فهؤلاء وإن نظروا نظر اعتبار إلا إنه لم يحصلوا على المقصود.
فالهداية من الله، ونظر الاعتبار لا يتعدى كونه وسيلة من وسائل الحصول على الهداية، و إلا الهداية يا أخي من الله، فمن رام شيئا يطلبه من ربه . الله جل وعلا رب كل شيء كما سيأتي .
الله جل وعلا يقول : {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (185) سورة الأعراف، هنا يقول الله تعالى : {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} واليقين درجة عالية من أحوال المؤمنين، ولا شك أن إبراهيم عليه السلام من أعظم الموقنين .
هذه (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) تبقى أصل و إلا فرع؟ الأصل، لأن الله قالها نصا : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) سيأتي الحديث عنها الآن.(1/5)
ثم قال الله جل وعلا بعدها: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ*فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ*فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ*فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} (76-78) سورة الأنعام.
قبل أن نشرع في التفسير نقول:
لا يمكن أبدا أن يصدق قول من قال من المفسرين أن إبراهيم قال هذا على الحقيقة، أن إبراهيم قال هذا على الحقيقة وأن هذا قاله في طفولته، هذا أمر لا يمكن أن يعقل لماذا؟ لأن الله سمى إبراهيم في كتابه أنه إمام للحنفاء وقال عنه أنه من الموقنين وأن القرآن والسنة تواترت على أن هذا العبد الصالح من أعظم من أيقن بالله، فكيف ينسب له الشرك في مرحلة من مراحل عمره لا يعقل! لكن القضية أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال هذا كله في موضع المناظرة والمحاجة مع قومه .
(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي) كان كوكب الزهرة لم يقصد أن يقول أنه ربه يقينا يستحيل أن يطبق هذا على إبراهيم عليه السلام.
وقلنا من القواعد:(1/6)
تأخذ أصلا ثم ما جاء من شبهات وعوارض تفندها بثباتك على الأصل فالتفنيد يكون بأننا نقول إن إبراهيم عليه السلام قال هذا في موضع المناظرة والمحاجة إلى قومه , وقد قلنا إن طرائق الدعوة تختلف مع الناس فكان ثلة من قومه لا يعبدون الأصنام يعبدون الكواكب يعبدون المشتري والشمس والقمر وفريق يعبدون الأصنام تعامل مع كل فريق بطريقة معينة أهل الأصنام ذهب إلى الأصنام وهدمها، أما أهل الكواكب ليس له سبيل على الكواكب حتى يهدمها فتعامل معهم بعقلياتهم قال الله جل وعلا : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) جن بمعنى غشاه ولذلك سميت الجنة جنة وسمي الطفل في بطن أمه جنينا وسميت الجن جن لأنها لا ترى بالأعين، كل ما غاب واستتر وتغطى يدخل في مادة جنَّ .
هنا الله يقول: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا) والكواكب لا ترى في النهار فلما رأى كوكبا قال لمن حوله بأسلوب يبين له أنه يريد أن يصل معهم إلى الحق : (قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ) وبالطبع إبراهيم رأى الكواكب مائة مرة قبل هذا اليوم كل يوم يرى الكواكب تأفل ويرى القمر يأفل ويرى الشمس تأفل لكن هو الآن يتعامل مع ناس هذه عقلياتهم .
(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي)، يقال إنه الزهرة الذي يعنينا أنه كوكب، (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ) يعني يقول لهم لا يصلح أن يكون رب يسير ويؤمر ويحرك من مكان إلى مكان .
((1/7)
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا) طبعا في اليوم التالي (قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ) هم ينظرون كيف ردة فعل إبراهيم هو يريد أن يشعرهم أنه واحد منهم يبحث عن الحق حتى يشعروا أنه غير متسلط عليهم (قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ) ما قال لا أحب الآفلين لأن هذه مرت جاب شيء جديد قال (لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) حتى يبين لهم أنه متعطش أعظم العطش والظمأ إلى الهداية.
(لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) جاء اليوم الثالث مع الصبح ظهرت الشمس {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ) حتى يهيئهم للجواب (فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} ولم يقل ابرؤوا مما تشركون قال (إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ).
ولم يقل ابرؤوا مما تشركون والسبب:
أن الإنسان لا يقبل الناس منه شيء في الغالب حتى يطبقه على نفسه فالناس يأخذون علم من يرونه يأخذ بالعلم على نفسه وإن كان هذا ليس فيه حجة للناس، لكن الناس إنما يتبعون في الغالب من يرون أنه يطبق ما يدعوهم إليه كما قال شعيب عليه السلام : {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (88) سورة هود، وقال غيره ذلك متكرر في القرآن، فالمقصود انه قال : (إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ) فالآن برئ مما يشرك به قومه وهم الأصنام .
أصبح الناس ينتظرون منه , إذن أنت تبرأت مما نشرك ستعبد من؟(1/8)
قال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (79) سورة الأنعام، {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} لم يقل عليه السلام وجهت وجهي لمن خلق الشمس والقمر والنجوم التي كان يحاج بها وإنما شمل كل المخلوقات أدرجها لأن الله رب المخلوقات جميعا قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فهو عليه السلام كما قلنا إمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وإليه تنسب الملة.
تنسب إليه الملة وكان شيخ الحنفاء لأربعة أمور:
أولها: أنه جعل ماله للضيفان.
الثاني: أنه جعل بدنه للنيران.
الثالث: أنه جعل ولده للقربان.
الرابع: أنه جعل قلبه للرحمن.
والثلاثة الأولى مندرجة في الأخير.
نقول ثم قال: (وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) مع هذا كله لم يقتنع قومه. قال الله جل وعلا: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ} أخذوا يحاجونه فيما يقول {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ} فرد عليهم {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ} أي كيف يعقل أن أقبل أقوالكم الباطلة وآراءكم الفاسدة والله جل وعلا قد من علي بالهداية . وأصلا العاقل لا يترك الحق من أجل الباطل ولا يترك الشيء البين الواضح من أجل الشيء المختلط الفاسد هذا لا يفعله صغار العقلاء فما بالك بشيخ الأنبياء عليه السلام؟
قال الله جل وعلا : {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} (80) سورة الأنعام، وهذه (أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ) لوحدها تدل على بلاغة القرآن .
يا بني لما تقول لإنسان: تذكر، معناه أن الشيء هذا يعرفه من قبل ، لكن تعلم غير تذكر.(1/9)
تذكر غير تعلم , تعلم شيء جديد لكن تذكر شيء لك علاقة به من قبل .
فالعقائد توحيد الله جل وعلا شيء مفطور في النفوس فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه : (أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ) يعني مجرد لو رجعتم إلى أنفسكم قليلا تذكرتم الشيء الذي فطره الله في قلوبكم لعرفتم أنه لا رب غيره ولا إله سواه . هذا يدل على أن عقيدة التوحيد أمر مفطور في النفوس يعرفه كل أحد إذا من الله جل وعلا عليه بالهداية. (أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ)
ثم قال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ*الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}. مجمل الآية معناها يقول :
أنا إبراهيم اتبعت وعبدت من بيده الضر والنفع وأنتم تعبدون من ليس بيده لا ضر ولا نفع .
فمن الذي مفروض يخاف؟ هم لما عبد الله قالوا نخاف عليك من آلهتنا نخاف عليك من أصنامنا نخاف عليك من الشمس نخاف عليك من القمر نخشى عليك من النجوم فالله يعلمه أن يقول لهم كما قال إبراهيم لهم : (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ) يعني كيف أخاف أنا من الذين أشركتم من أصنامكم وأنتم لا تخافون من الله! مع أن المفروض الذي يخشى منه من؟ الله لأن بيده الضر والنفع أما أصنامكم هذه لا تضر ولا تنفع ولا تقدم ولا تؤخر وكل من عبد من غير الله لا يقدم ولا يؤخر ولا يضر ولا ينفع، هذه الأمور كلها بيد الله.
((1/10)
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ) استفهام استنكاري (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)؟ ثم جاء الجواب: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) هذه الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة كما روى البخاري وغيره، فقالوا يا نبي الله وأينا لم يظلم نفسه قط! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ليس بالأمر الذي تعنون) أو (تذهبون إليه إنما الأمر كما قال العبد الصالح: إن الشرك لظلم عظيم) فيصبح معنى قول الله جل وعلا (يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) معناها ولم يلبسوا إيمانهم بشرك.
(وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) وقد جرت - كما بينا سلفا- سنة الله في خلقه أن هناك أمنين وهناك خوفين:
من خاف الله في الدنيا أمن يوم القيامة، ومن لم يخف الله في الدنيا خاف يوم القيامة، فلا يجمع الله على عبد خوفين ولا يعطي عبدا أمنين، إنما الأمن الموجود في الدنيا السكينة والرضا بالله لكن لا يعني ذلك عدم الخوف من الله، الله جل وعلا قال لما ذكر الساعة قال:{وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} (18) سورة الشورى، أي خائفون من الساعة فالخوف لا بد منه في الحياة الدنيا. (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) .(1/11)
ثم قال جل ذكره: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (83) سورة الأنعام، (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا) أي هذه الحجج التي أعطيناها إبراهيم ليرد بها على قومه فضل من الله على هذا العبد الصالح (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) فلما كانت من الله كانت فضلا منه قال الله بعدها : ( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء) وإبراهيم من أعظم من رفعهم الله جل وعلا درجات. (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) . ثم قال جل وعلا : (وَوَهَبْنَا لَهُ) فبعد أن من الله عليه بالعطاء من النبوة والرسالة من الله عليه بالذرية قال الله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ*وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} (86) سورة الأنعام.
الآن نترك الوعظ نرجع قليلا للناحية العلمية :
نحن قلنا في دروس كثيرة أن الأنبياء المذكورين في القرآن خمسة وعشرون نبيا هذه الآية آية الأنعام تسمى آية ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ) ذكر الله فيها كما تلوناها ثمانية عشر نبيا بقي سبعة هم :
في تلك حجتنا منهم ثمانية * من بعد عشر ويبقى سبعة وهم
إدريس هود شعيب صالح وكذا* ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
هؤلاء السبعة الذين ذكروا في القرآن في غير هذه الآيات، ذكر الله ذي الكفل وذكر آدم وذكر محمد صلى الله عليه وسلم وذكر شعيبا وهودا وإدريس وصالحا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
.
نبدأ نفصل فيما لم نشرحه عنهم :(1/12)
قلنا إن الله جل وعلا قال: (وَوَهَبْنَا لَهُ) لإبراهيم (إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ) ولما ذكرنا يعقوب في درس النافلة قلنا إن النافلة الزيادة على الأصل وقلنا إنها تختلف كل شيء زاد عن الأصل يسمى نافلة فقلنا قيام الليل يسمى نافلة لأنها زيادة على الصلوات المكتوبة.
قال الله جل وعلا – نتعلم القرآن من القرآن- قال الله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} (79) سورة الإسراء, فصلاة الليل أو أي نافلة يسمونها العامة سنة زيادة على الأصل تسمى نافلة.
الناس عندما يغزون ماذا يريدون ؟ يريدون النصر، عندما يحصل النصر ما الزائد؟ الغنائم فلذلك قال الله : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} (1) سورة الأنفال، سماها زيادة الأنفال الغنائم الزيادة على مقصود الحرب، قال الله : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً..) , (وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) ، فذكر الله جل وعلا أنه رزقه بعد إسماعيل إسحاق ثم زيادة على الأبناء أبناء الأبناء فسمى يعقوب نافلة لأنه زيادة على الأصل وهو الولد.
نعود هنا للآية: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ) من قبل إبراهيم وهذا يسمى إضافة منقطعة وقبل وبعد إذا أضيفت تجر وإذا لم تضف تبنى على الضم {مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ} (58) سورة النور. فمن قبل لما أضيفت إلى صلاة كسرت لكن قال: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} (4) سورة الروم، حذف المضاف إليه تضم، هنا نفس الشيء قال الله : (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ) أي من قبل هداية إبراهيم زمنيا وإن كان إبراهيم أفضل من نوح.
(وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ) ونوح يسمى شيخ الأنبياء؟ لأنه أطولهم عمرا وإبراهيم يسمى أبو الأنبياء؟ لأن كل الأنبياء بعده من سلالته وذريته. (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ) إلى آخر الآيات.(1/13)
هذه (وَمِن ذُرِّيَّتِهِ) موضع إشكال لماذا؟
لأنه لا يدرى أن تعود على نوح أو تعود على إبراهيم، وأنا قلت سأترك الوعظ الآن.
(وَمِن ذُرِّيَّتِهِ) إذا قلنا إنها تعود إلى نوح يؤيدها أمران:
الأول: أن قواعد اللغة تقول أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور،وأقرب مذكورهو نوح.
والأمر الثاني: قال الله جل وعلا : (وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ) في الآية الثالثة هي : (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ)، قالوا إن لوط بالاتفاق ليس من ذرية إبراهيم، ابن أخيه، لوط ابن هاران وهاران أخو إبراهيم، فمن حيث النسب الصريح لوط ليس ابنا لإبراهيم إنما ابن أخيه . فقالوا : هذان دليلان على أن المقصود نوح.
يبقى الجواب عليها ـ طبعا لا يوجد مرجح- : الذين قالوا إن (وَمِن ذُرِّيَّتِهِ) عائدة إلى إبراهيم قالوا: إن الآيات أصلا في مقام الثناء على إبراهيم، وهذا واضح إن الله يتكلم عن إبراهيم (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ) جملة اعتراضية هذه الأمر الأول.
الأمر الثاني: قالوا إن الله سمى في القرآن العم أبا، في سورة البقرة {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ} (133) سورة البقرة، هؤلاء أبناء يعقوب يقولون لأبيهم : (نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ) فإبراهيم أبو يعقوب جده وإسحاق أبو يعقوب مباشرة لكن إسماعيل ليس أبا ليعقوب إنما عم له، فقالوا هذا من الأدلة على أن الله سمى في كتابه العم أبا .
طبعا ما الراجح؟ :(1/14)
لا يوجد راجح، لأنه لا يوجد مُرجح، لا يكون القول راجح حتى يكون في شيء مرجح ولا يوجد مرجح هذان قولان كلاهما متكافئان، فنقول تحتمل الآية الأمرين والله أعلم بمراد الله منها، تأدبا مع كتاب الله.
(وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى) كلهم مروا معنا وقدم الله داود وسليمان لأن الله أعطاهم الملك والنبوة .
(وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ) وكلهم مروا معنا (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى) ويحيى ابن لزكريا وأيهم مات قبل الآخر؟ مات يحيى مقتولا عليه السلام في حياة أبيه زكريا، وقلنا إن زكريا رزق الولد وهذا معروف بعد انقطاع، رزق يحيى، وقلنا: إن الله لماذا سمى يحيى يحيى؟ طبعا لم يكن أحد يسمى يحيى قبل هذا الاسم الله قال: (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً)[مريم : 7] قلنا: أسماه يحيى لأن يحيى عليه السلام مات شهيدا، فناسب الاسم المسمى فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
(وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى) ما القرابة بين يحيى وعيسى؟ ابني خالة، وقد ورد حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه : ( ما من عبد من ولد آدم إلا وعصى الله إلا يحيى بن زكريا ) لم يعصي الله طرفة عين قال صلى الله عيه وسلم : ( ما من أحد من ولد آدم إلا وقد عصى الله طرفة عين ليس يحيى بن زكريا) أي إلا يحيى بن زكريا، ويظهر من نصوص التواريخ أنه مات صغيرا عليه السلام. لكن كما قلنا قد يوجد مفضول ما هو أفضل من الفاضل.
((1/15)
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ) إلياس ذكره لله ست مرات تقريبا في القرآن وبعثه الله جل وعلا إلى أهل بعلبك شرقي دمشق في لبنان حاليا، وقد قال الله جل وعلا في كتابه: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ*إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ*أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} (123-125) سورة الصافات. (وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ) ثم قال: (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) .
وقلنا إن الخلاف في لوط وأن لوطا بالاتفاق ليس ابنا لإبراهيم ولكنه ابن لهاران وهاران أخ لإبراهيم،
فإبراهيم عم له لكن قلنا إن الله سمى العم أبا في كتابه والاحتجاج بالقرآن ليس بعده احتجاج.
يفهم من السياق الذي سلف أن مراتب التفضيل أربعة:
طبعا نتكلم عن المؤمنين:النبوة والصديقية والشهادة والصلاح .
قال الله تبارك وتعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (69) سورة النساء.
ثم قال جل وعلا: (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) أي فضلناهم بالنبوة.(وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ)
{وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (87) سورة الأنعام.
عندما قال (آبَائِهِمْ) يعني الأصول، ثم قال (وَذُرِّيَّاتِهِمْ) ذكر الآباء في الأول لأنهم أصول ثم قال: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} ماقال من إخوانهم لأن الأبناء فروع، ما دام ذكر الأصول سيذكر الفروع ثم قال (وَإِخْوَانِهِمْ) والإخوان لا هم أصول وليسوا فروع يسمون حواشي،(1/16)
فترتيب القرآن ترتيب منطقي ذكر الله أولا الأصول ثم ذكر الفروع ثم ذكر الحواشي، فالله يريد أن يقول أن نعمة الله على إبراهيم ليست فقط محصورة في هؤلاء الصالحين في أنفسهم وإنما في أصولهم وفروعهم وحواشيهم.
{وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} من الذي اجتباهم؟ الله، ومن الذي هداهم؟ الله (وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) لأجل ذلك قال بعدها:
{ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (88) سورة الأنعام .
كل من يلتمس شيء لن يلتمس شيئا أعظم من الهداية . والهداية إنما تطلب من الله وسيأتي قصة تبين لك هذا بعد قليل، لا يطلب شيء في الدنيا أعظم من الهداية، في الدنيا لاشيء أعظم من الهداية والهداية إنما تطلب من الله، ولذلك قال الله : (ذَلِكَ هُدَى اللّهِ) نسبه وأضافه إلى نفسه (ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ) على الفرض وإلا لا يعقل أنهم سيشركون (لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) نستفيد منها إجمالا أن الشرك يحبط كل عمل (وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) .
إلى هنا ننتهي في هذا المقطع .
بقي المقطع الأخير الذي نريد أن نقف عليه في التفسير:(1/17)
قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (93) سورة الأنعام.
يا بني لأنك طالب علم اخترنا هذه الآيات حتى تعيها:
لا شيء أعظم من أن يفتري الإنسان على الله الكذب (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا) أي لا أحد أعظم جرما ولا أشد شناعة ممن يفتري الكذب على الله وليس بمعقول أن يأتي إنسان ينتسب إلى الملة ويفتري على الله الكذب، يعني حاشاكم بإذن الله .
لكن المقصود بالنسبة لنا : عدم الجرأة في العلم والقول على الله بلا علم {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ} (116) سورة النحل، هذا الذي يعنينا لكن الآية في الأصل المخاطب بها كفار قريش، وكانوا يكذبون على الله ويفترون على الله الكذب وينسبون إلى الله جل وعلا ما لم يقله الله ولم ينزله على أحد، فأخبرهم الرب جل وعلا أن هذا ظلم شنيع وتحد عظيم وأنه لا أحد أعظم فرية من ذلك، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ) يدخل في هذا مسيلمة ويدخل فيها الأسود العنسي .
إلا أنه تبقى قصة :(1/18)
من الذين أسلموا قديما صحابي اسمه عبد الله بن سعد ابن أبي السرح وهذا الرجل أرضعته أم عثمان رضي الله عنه فهو أخو عثمان من الرضاعة، هذا لما أسلم كان يحسن الكتابة فجعله النبي صلى الله عليه وسلم كاتبا للوحي فلما أنزل الله سورة المؤمنون على الحكاية وفيها: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ*ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} (13) سورة المؤمنون، الرسول يتلوها وهذا يكتب حتى وصل إلى قول الله جل وعلا : {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} فكتبها قبل أن يمليه الرسول قال: تبارك الله أحسن الخالقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (هكذا أنزلت علي) {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}.(1/19)
دخله في تلك الحقبة زلة غر بنفسه فترك كتابة الوحي وقال: " إن كان محمد صادقا فيما يقول فأنا يوحى إلي كما يوحى إليه وإن كان محمد كاذبا فيما يقول فأنا أقول كما يقول" . وترك الإسلام والتحق بكفار قريش ولذلك قال الله (وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ) لكن الله يعلم أزلا أنه سيتوب فلم يسمه باسمه الصريح في القرآن فلما ذهب إلى مكة حصل فتح مكة في العام الثامن ودخلها النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر عن رجال فأمر بقتل عبد الله بن خطل ورجل آخر وعبد الله بن سعد وعكرمة ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، فأما عبد الله بن خطل تعلق بأستار الكعبة فلم تنجه وقتل، ورجل آخر يقال له ابن يسار قتل في السوق، وعكرمة وعبد الله بن سعد هذان فرا، فذهب عثمان رضي الله عنه إلى أخيه من الرضاعة الذي هو عبد الله وطلب منه أن يدخل به ليأمن له من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عثمان رضي الله عنه وأرضاه بأخيه عبد الله على النبي صلى الله عليه وسلم ورسول الله كاره لتوبته لأنه قال ما قال، فطلب عثمان الأمان لعبد الله فسكت صلى الله عليه وسلم طويلا قبل أن يعطيه الأمان رجاء أن يقوم أحد فيقتله، فلم يقم أحد لم يفطن الصحابة لهذا ليمضي قدر الله، ثم قال صلى الله عليه وسلم (نعم) فأعطى عثمان الأمان، فلما خرج قال عليه الصلاة والسلام ( لقد أطلت الصمت رجاء أن يقوم أحدكم فيقتله ) فقال رجل من الأنصار هلا أومأت لي يا رسول الله! قال ( إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين ) صلوات الله وسلامه عليه.(1/20)
حتى نرجع قليلا قبل قليل أنا قلت (ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ) حتى تعلم أن القلوب كلها بيد الله يفعل بها ما يشاء، هذا الذي حصل من هذا أسلم وحسن إسلامه فلما كانت ولاية عثمان رضي الله تعالى عنه أصبح أميرا للمؤمنين جعل عبد الله بن سعد هذا واليا على مصر، وهو الذي قاد معركة ذات الصواري وهي أول معركة حربية في الإسلام، وكان كثير من فتح بلدان إفريقيا على يديه، ثم لما رجع جاءت الفتنة بين علي ومعاوية فاعتزلها ولم يبايع لا لعلي ولا لمعاوية، وسكن في الرملة المدينة المعروفة في فلسطين، ثم مكث فيها ما شاء الله إلى قبل انتهاء ولاية علي ثم إنه ذات يوم قال: " اللهم اقبضني إليك في صلاة الصبح "، فصلى بالناس صلاة الصبح قرأ في الأولى الفاتحة والعاديات ضبحا، وقرأ في الثانية لم يضبطهم عنه الرواة ثم سلم التسليمة الأولى ومات قبل أن يسلم التسليمة الثانية.
هذا كله يدل على أن القلوب يا أخي بيد الله وقد يكون الإنسان متلبسا بالمعصية وقد يكون الإنسان يحب أن يهتدي، وأنا أرى في الدرس اليوم شباب مباركين أسأل الله أن يهدينا وإياهم سواء السبيل.
هذا كله عندما يأتي الإنسان إلى بيت من بيوت الله أنت لو رحت إلى قصر واستطعت تدخل إلى القصر يستحي الأمير أن يردك ومعك شيء، وهو بشر، فكيف وقد دخلنا أجمعين بيت أرحم الراحمين! فأنت في صلاتك هنا في دعائك في استغفارك ليكن قلبك متعلقا بالله تطلب من الله الهداية تطلب من الله غنى النفس ، تطلب من الله الرحمة تطلب من الله التوفيق تطلب الله أن يرزقك حسن الخاتمة تطلب من الله أن يقيك عذاب القبر أن يقيك عذاب النار تطلب من الله أعظم المطالب دخول الجنة.
والمقصود كلما آمن الإنسان أن الهداية والرحمة والفضل والإحسان بيد الله وطلبها بقلبه قبل أن يطلبها بلسانه أعطاه الله جل وعلا إياها لكن لا تستعجل وكن صادقا مع ربك يصدقك الله تبارك وتعالى. هذا السياق الأول من الآية.(1/21)
ثم قال الله جل وعلا : (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) هذا تصوير لكيفية نزع روح أهل الإشراك وقد مر معنا كثيرا والمقصود أن قبض الأرواح موكل به ملائكة وأن النفس إما أن تكون مؤمنة وإما أن تكون كافرة ولأن الكفر والإيمان لا يستويان فطبيعة الحال لا يستوي قبض روح المؤمن وقبض روح الكافر والله يصور هنا قبض أرواح الكفار.
والغمرة في اللغة : لجج الماء التي تغطي صاحبها . والإنسان يضربه الموج وغمرات الماء تنقله من مكان إلى مكان يصيبه الخوف الشديد والرعب فالله جل وعلا يقول إن هؤلاء الكفار تتخبط روحهم في أجسادهم قبل أن تخرج والملائكة تضربهم وتقول لهم (أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ) أي جدوا لأنفسكم خلاصا ومنجى ومخرجا إن استطعتم ولا يجدون لا هم ولا من يحيطون بهم (أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) وليس المقصود أنه ليس بعده عذاب لكن هذا أول مراحل العذاب (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) عذاب الذلة عذاب الصغار ثم ذكر السبب (عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) .
والاستكبار عن آيات الله أعظم طرائق الموصلة إلى الضلالة كما أن انسياق القلب وانقياده إلى الرب تبارك وتعالى واللين فيه أعظم ما يجعله سببا في أن ينال الإنسان به رحمة الله تبارك وتعالى.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى ورحمتك التي وسعت كل شيء أن تهدينا أجمعين سواء السبيل وأن تختم لنا بخير وأن تجعل الجنة دارنا وقرارنا إنك سميع مجيب.
هذا وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(1/22)
تأملات في سورة [ الأعراف ]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .(1/1)
أما بعد : أيها الأخوة المؤمنون فهذا هو اللقاء الأول في هذا المسجد المبارك ، حول تفسير كلام ربنا جل وعلا و قبل أن نشرع فيما نود تفسيره نبين أمورا بأن هذه التفسيرات أشبه بالتأملات والتعليقات على كتاب رب العالمين جل جلاله ، والمقصود الأسمى منها الناحية العلمية وتبقى الناحية الوعظية فيها تبعا للناحية العلمية ، فالمخاطب بهذا الدرس طلبة العلم في المقام الأول ولهذا فإن التفصيل في بعض القضايا أمر ملح ، فليس المقصود الوعظ المحض وإنما المقصود إيجاد جيل علمي يفقه كلام الرب تبارك وتعالى ومتى وجد هذا الجيل تبوء الصدارة في الأمة ونفع الناس لأنه لا يعقل أن يتصدر إنسان لتعليم الناس وهو يجهل ما جاء في الكتاب العظيم من آيات بينات وعظات بالغات يهذب الله بها خلقه ويرشد الله جل وعلا بها عباده ولقد قال الله جل وعلا في كتابه " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكِر " قال العلماء في تفسيرها : إن من تفسيرها أن علم التفسير علم يعان عليه صاحبه . وهو أجل العلوم وقد بينا هذا كثيرا في دروس سابقة نشرت وإنما أجدد التذكير بها ، على أننا ونحن نفسر سنقف عند آيات معينة نختارها من السورة التي نفسرها وربما تستغرق السورة الواحدة عدة دروس وربما تستغرق السورة درسا واحدا بحسب ما فيها والله جل وعلا ذكر أن كتابه مثاني أي يثني .. يذكر .. يفصل ما كان فيه إجمالا ويبين ما كان فيه مبهما ، ويبسط الله جل وعلا الحديث عن موضوع ، ثم يقوله باختصار في سورة أخرى وهكذا ... فعلى هذا سنقف عندما نرى أن الوقوف عنده ملزم ، وما كان غير مكرر في القرآن فهذا يجب الوقوف عنده فمثلا : في سورة يوسف لم تتكرر قصة يوسف إلا في سورة واحدة فلا ينبغي تجاوزها إذا وصلنا إلى السورة بخلاف غيرها كقصة موسى مثلا : وردت في عدة سور من القرآن الكريم .
هذه مقدمة يظهر من الواجب التذكير بها ، أما السورة التي سنبدأ بها هذه الدروس سورة الأعراف .(1/2)
ونبدأ بسورة الأعراف لأننا انتهينا في المدينة إلى سورة الأنعام ، فنستهل هنا سورة الأعراف وإن كنت قد بدأت في المدينة قبل أسبوع تفسير الجزء السابع والعشرين وأنهيناه ، والآن نبدأ بسورة الأعراف في هذا المسجد المبارك ونمضي بها إلى ما شاء الله تبارك وتعالى .
وقبل أن نشرع في اختيار الآيات من السورة يجب أن تعلم أنه حتى تفقه القرآن تبدأ به بنظرة كلية ثم تصغر هذه النظرة حتى تصل إلى الزبدة التي تريدها ، وسورة الأعراف من حيث الجملة سورة مكية إلا بضع آيات منها وهي قول الله تبارك وتعالى:" واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر .." فهذه القصة ذكر أنها نزلت في المدينة ، أما السورة إجمالا فهي سورة مكية ، والقرآن المكي له خصائص تختلف عن القرآن المدني لأن القرآن المكي يهتم بقضايا ثلاث :
1ـ إثبات التوحيد والربوبية والألوهية لله .
2ـ ذكر صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
3ـ البعث والنشور وأهوال اليوم الآخر .
هذه هي قضايا القرآن المكي على وجه الإجمال ويندرج فيها قضايا : كتذكير الله بنعمه على خلقه وهذا يندرج في إثبات التوحيد ، أما القرآن المدني : فإن أكثره تشريع وأحكام وفقهيات كما في البقرة وآل عمران وحديث عن السير والغزوات التي كانت في أيامه صلوات الله وسلامه عليه في المدينة ، وقد بينا في دروس سابقة أن القرآن المكي والقرآن المدينة أو السور المكية أو السور المدينة ، أو بتعبير أقل اختصارا الآيات المكية والآيات المدينة ، في تسميتها هذه خلاف طويل بين العلماء لكن المقصود بالمكي : ما نزل قبل الهجرة .(1/3)
والمقصود بالمدني ما نزل بعد الهجرة ،هذا أرجح الأقوال على هذا قلنا مرارا إن قول الله جل وعلا :" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " آية مدنية رغم أنها نزلت في جوف الكعبة والرسول صلى الله عليه وسلم آخذ بعضدتي باب الكعبة أنزل الله جل وعلا قوله :" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " فخرج إلى الناس ونادى عن بني شيبة وأعطاهم مفتاح الكعبة تنفيذا للآيةفالآية نزلت في مكه بل في الكعبه لكنها تسمى آية مدنية لأنها نزلت بعد الهجرة ، فسورة الأعراف من حيث الجملة سورة مكية وهي من أطول سور القرآن المكي وعدد آياتها مائتان وست آيات .
قلنا : إنها جملة مكية إلا بضع آيات منها ، هذه السورة بدأها الله جل وعلا في إثبات صدق هذا الكتاب وما فيه من خير عظيم وختمها بقوله تبارك وتعالى :" إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون " وختمها بآية سجدة وبحسب ترتيب المصحف هذه الآية ـ آية السجدة في الأعراف ـ جاءت آخر آية في السورة لكنها من حيث ترتيب المصحف هي أول سجدة في القرآن .
وما بين فاتحة السورة ومابين خاتمتها تضمنت السورة جملة من القضايا منها :
خلق آدم عليه السلام،أبو البشر وما ذكر الله ـ جل وعلاـ فيها من قصته مع إبليس،ثم بعد ذلك خاطب الله ـ جل وعلا ـ بني آدم بصفة أن آدم أبوهم ، خاطبهم - جل وعلا- وناداهم بأربع نداءات :
1ـ " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا .."
2ـ " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة .."
3ـ " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد .."
4ـ " يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي .." إلى آخر الآية .(1/4)
وذكرهم الله - جل وعلا- بأربع نداءات ، ثم إنه - جل وعلا- فصل ما أجمله في الأنعام لكن هنا التفصيل ليس بترتيب النزول ، أنا أتكلم عن ترتيب المصحف و إلا الأعراف سورة مكية والأنعام سورة مدنية ، فعلى هذا سورة الأعراف جاء فيها ما أجمله الله في الأنعام ، الله في الأنعام ذكر الرسل جملة :" وتلك حجتنا آتيناه إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين " هؤلاء ذكرهم الله جملة ثم جاء في الأعراف بحسب ترتيب المصحف بدأ يفصل فلم يذكر في الأنعام قصة نوح ولا موسى ولا غيرهما ، ثم بدأ يفصل بدأ بالأعراف ففصل فيها قصة نوح وقصة هود إلى عاد وقصة صالح إلى ثمود وقصة لوط إلى أهل سدوم وقصة شعيب إلى أهل مدين وقصة موسى إلى فرعون وبني إسرائيل ، فهؤلاء ستة من الأنبياء ذكر الله - جل وعلا- خبرهم تفصيلا فيصبح ترتيب المصحف أنه أجمل في سورة الأنعام ، وفصل في سورة الأعراف ، ثم ذكر الله - جل وعلا- في السورة بعضا من آياته الدالة على عظيم خلقه وأعاد فيها أن أحدا لا يملك نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ، تأكيدا للتوحيد ، هذا كله عن سورة الأعراف جملة ، بعد هذا التصور الكامل عن السورة ننتقل إلى اختيار بعض الآيات المتعلقة بتفسيرها
قال الله جل وعلا : بسم الله الرحمن الرحيم :" المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين "(1/5)
هذا أول السورة وأنا لا أبدأ تفسيرا قبل أن أفسر أول آية في السورة نفسها لأنها مفتاح ، قد نتجاوز بعض الآيات نعم ، لكن أول آية في السورة لا بد من تفسيرها لأنها مدخل ( المص ) هذه من الحروف المقطعة وقد مرت معنا في دروس سابقة وأنا أتكلم إجمالا باعتبار التدريس العام ، مرت بأنها من الذي اختص الله بعلمه هذا قول جمهور العلماء وهو الأظهر .
" كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين "
معنى الآية : هذا كتاب وحذف المبتدأ لدلالة الخبر عليه على قول الكسائي ومن تبعه ، والمعنى أن هذا الكتاب المقصود به : القرآن ، وقد نُكٍّرت هنا ( كتاب ) لدلالة التعظيم ، أي أن هذا الكتاب أعظم من أن يعرف ، فإذا عرف في آية أخرى فباعتبار علانيته واشتهاره ،(1/6)
" كتاب أنزل إليك " المخاطب في المقام الأول هنا النبي صلى الله عليه وسلم :" فلا يكن في صدرك حرج منه " فسر ( الحرج ) بأحد تفسيرين: 1/ فسر بالشك ، فيصبح معنى الآية هذا كتاب من الله فلا يكن في قلبك شك منه . وإذا قلنا بهذا التفسير يصبح هذه الآية لها قرائن كقوله تبارك وتعالى :" فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ..(1/7)
" لكن اختار جمهور العلماء على أن المراد بالحرج هنا الضيق ، فيصبح معنى الآية فلا يكن في صدرك ضيق منه ، هذا الضيق لا يفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم جبل على ضيقة الصدرهذا محال ، لأن الله هيئه صلى الله عليه وسلم لأن يختم الله به النبوات ويتم به الرسالات ، وليس في القرآن أصلا ما يدعوا للضيق في المؤمنين ، إذا أين ينجم الضيق ؟ينجم الضيق من أن هذا القرآن آياته واضحة ظاهرة بينة لا تحتاج إلى دليل لا تحتاج إلى إثبات أنها من عند الله فالعرب أفصح البلغاء وأبلغ الفصحاء ومع ذلك عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، أين ينجم الضيق؟ ينجم الضيق مثالا: كالطالب الذي عندك تعلمه فأنت لا يصيبك الضيق ولا الحرج ولا الغضب على طالب لم يفقه مسألة صعبة وإنما يصيبك الحرج والضيق على الطالب الذي لا يفهم المسألة الواضحة، المسألة الواضحة التي بينة ظاهرة لا تحتاج إلى علم فيأتي إنسان لا يفقها يصيبك ضيق أو حرج في صدرك ، فالضيق الذي يصيبه صلى الله عليه وسلم من أن دلائل نبوته قاهرة ومعجزاته ظاهرة ومع ذلك لم يؤمنوا به ونجم عن هذا ضيق في صدره فالله يقول له : فليكن صدرك منشرحا بهذا القرآن لأنه أجل كتاب وأعظم منزل به الهداية والرحمة لكل أحد ، أراد أن ينتفع به وإن لم ينتفع به قومك وكذبوه وردوه عليك،" كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه " ثم ذكر العلة من إنزاله " لتنذر به " فاللاام هنا :لام التعليل ولهذا جاء الفعل بعدها منصوبا:" لتنذر به وذكرى للمؤمنين " لم يقل الله هنا تنذر به من ؟ أي لم يقل الله من المنذَر في القرآن لكن لما ذكر الذكرى قال :" وذكرى للمؤمنين " إذا من المنذر بالقرآن ؟ أعظم قواعد العلم :أن القرآن يفسر بالقرآن ، والله يقول :" فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدّا " المحذوف هنا هو الموجود في سورة مريم " لتنذر به قوما لدّا " أي لتنذر به الكافرين، وذكرى للمؤمنين ، والإنذار في اللغة : هو(1/8)
الإعلام المقرون بالتهديد، على هذا تنجم قاعدة أن كل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذار، فإن قال قائل : إن الله قال في آية أخرى أنه يُنذر بالقرآن المؤمنين ، قال الله جل وعلا :" إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم " فيجاب عن هذا بأن الإنذار على قسمين :
1/ إنذار عام 2/ إنذار انتفاع .
الإنذار العام ينصرف إلى الكفار، أما إنذار الانتفاع ينصرف إلى المؤمنين " لتنذر به وذكرى للمؤمنين " هذه هي الآية الأولى .
ثم قال الله جل وعلا :" فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين " فأخبر الله جل وعلا أن اثنين يسألان يوم القيامة :
1/ المُرسَلون 2/ المُرسَل إليهم .(1/9)
لكن الله لم يقلهنا ماذا يسأل هؤلاء ولا ماذا يسأل أولئك ؟ فأين قال الله ماذا يسأل المرسلون ، وماذا يسأل من أرسل إليهم ؟ هنا الله يقول :" فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين " لكنه لم يقل ماذا يسألون ؟ أما الجواب : فإن الله قال عن الأول :" فلنسئلن الذين أرسل إليهم " قال عنها في سورة القصص :"ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين" فيكون السؤال للأمم ماذا أجبتم المرسلين؟وهو من تفسير القرآن بالقرآن.هذا حل الإشكال الأول:"فلنسئلن الذين أرسل إليهم" بقي حل الإشكال الثاني قال الله : " ولنسئلن المرسلين " ماذا يسأل المرسلين ؟ قال الله في سورة المائدة :" يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم " فالإشكال ( الإجمال ) الذي وقع في الأعراف فصل في موضعين : 1ـ فصل في القصص . 2ـ وفصل في المائدة . وهذا من تفسير القرآن بالقرآن " والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم ..(1/10)
" الله جل وعلا حكم عدل يوم القيامة يحشر الناس على أرض بيضاء نقيه لم يعص الله جل وعلا فيها قط ، وليس في تلك الأرض معلم لأحد ، الآن تتفق مع زميلك مع جارك مع أخيك على أن تلقى به في مكان ما فتجعل له أمارة مستشفى إشارة علامة دار مبنى محل تجاري بينك وبينه تذهب إليه هذا المكان المعلم هو سبب التقائكما ، يوم القيامة يحشر الناس على أرض بيضاء نقية ليس فيها معلم لأحد ليس فيها شئ بارز تجتمع عنده الناس، والناس يحشرون حفاة عراة غرلا بهما ليس معهم شئ ، إذا كان في الدنيا فيه ملك صوري تملكه بيديك ثيابك دابتك سيارتك ، في يوم القيامة يخرج الناس لا يعلمون شيئا الله يقول في القرآن :" يوم يكون الناس كالفراش المبثوث " وقال في سورة أخرى :" كأنهم جراد منتشر " ولا يستقيم الجراد مع الفراش لأن الجراد منتظم والفراش يموج بعضه في بعض ، والجمع بين الآيتين أن الناس عندما يخرجون ، يخرجون أول الأمر كالفراش لا يعرفون أين يذهبون ، فإذا تقدمهم إسرافيل وهو الداعي قال الله :" يومئذ يتبعون الداعي " انتظموا خلف إسرافيل فأصبحوا انتقلوا من حالة الفراش إلى حاله الجراد،هذا كله يكون يوم القيامة،يوم القيامة له أهوال عظيمة قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :لابن عباس : ومع أنني على ما قلت عني لو أن لي ملء الأرض ذهبا لافتديت به من هول المطلع .(1/11)
مما يكون يوم القيامة الميزان ، وأهل السنة يقولون سلك الله بنا وبكم سبيلهم يقولون أنه ميزان حقيقي له كفتان وله لسان ، والله جل وعلا يقول :" ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " والله يقول هنا :" والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه " والقصد بكلمة الحق : أن لا جور فيه ولا ظلم ولا بخس ولا رهق ، ميزان حق يكفي أن الله جل وعلا قائم عليه وهوتبارك وتعالى أعدل الحاكمين ، وأحكم العادلين . على هذا اختلف العلماء ما الذي يوزن ؟ مع اتفاقهم جملة أهل السنة على أنه يوجد ميزان له كفتان لكن ما الذي يوزن على أقوال أشهرها :
1ـ أن الذي يوزن العمل نفسه .والذين قالوا بهذا القول احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم :" الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان " وموضع الشاهد أنه قال أن:" الحمد لله تملأ الميزان " وهذا معناه أن العمل نفسه يوزن وقال صلى الله عليه وسلم :" اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غايتان أو فرقان من طير صواف تحاج على أصحابها " فهذا من أدلة من قال أن الذي يوزن هو العمل .(1/12)
2ـ وقال آخرون أن الذي يوزن صحائف العمل وهؤلاء احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي بسند صحيح :" إن الله سيخلص رجلا من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق ينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر فيقول له ربه أتنكر مما رأيت شيئا فيقول لا يا رب ، فيقول الله جل وعلا له :أظلمك كتبتي الحافظون فيقول :لا يا رب ،فيقول الله :إن لك عندنا بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله،فيقول: يا رب وما تغني هذه البطاقة مع هذه السجلات ، فتوضع البطاقة في كفه والسجلات في كفه ،قال صلى الله عليه وسلم :" فطاشت السجلات ورجحت البطاقة " وفي زيادة عند الترمذي :" ولا يثقل مع اسم الله شئ " فهذه أدلة من قال أن الذي يوزن صحائف العمل .
3ـ القول الثالث : أنه يوزن صاحب العمل ، وهؤلاء احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين :" يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة ( والمقصود الكافر) فلا يزن عند الله جناح بعوضة ثم قرأ عليه الصلاة والسلام :" فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " هذه أحد أدلة من قال أن الذي يوزن صاحب العمل واحتجوا كذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحك الصحابة من رِجل عبد الله ابن مسعود ، قال صلى الله عليه وسلم :" أتعجبون من دقة ساقيه فلهما أثقل في الميزان من جبل أحد " أي رجلا ابن مسعود أثقل في الميزان من جبل أحد ، هذه أدلة من قال أن الذي يوزن صاحب العمل .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله جمعا بين الأدلة قال : لا يبعد أن يوزن هذا تارة وهذا تارة وهذا تارة ،والأظهر والله تعالى أعلم أنه يوزن العمل وصاحبه وصحائف الأعمال جمعا بين الأحاديث وجمعا بين الآثار وهذا هو الذي تستقيم به الحجة وتستقيم به الآيات والله تعالى أعلم .(1/13)
" والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون" والذي يعنينا هنا كخطاب قرآني أن يعني الإنسان بأعماله الصالحة وأن يسعى فيما يثقل به الميزان ومن أعظم ما يثقل به الميزان حسن الخلق ، الذي تتعامل به مع الناس، قال عليه الصلاة والسلام :" الدين معاملة " ولم يكن صلوات الله عليه وسلامه عليه فظا وغليظا في خطابه وليس الدين مجرد ركعات تؤدى في المساجد وإن كانت الصلاة في الذروة الأعلى من الدين ، ولكن الدين جملة معاملة مع إخوانك المؤمنين ، مع والديك مع أبنائك .. مع زوجاتك .. مع جيرانك .. مع عامة المسلين تحب لهم ما تحب لنفسك .. تؤثرهم على نفسك .. تقبل اعتذارهم وتقبل عثراتهم .. وتقدم الصورة المثلى لما أمر الله به في كتابه وما أمر به رسولهم صلى الله عليه وسلم كما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كان خلقه القرآن ، أي أنه يطبق القرآن صلوات الله وسلامه عليه ومن الخطأ العظيم الذي نقع فيه أن نعتقد أن اتصالنا بالدين وقف على أشهر معينة كرمضان أو مساكن معينة كالمساجد وإنما يعبد الله جل وعلا بكل لسان وفي كل مكان ، وأخوة الإسلام تفرض علينا مطالب شتى في تعاملنا ، نكون بها إن شاء الله عباد الله إخوانا كما أمر نبينا صلى الله عليه وسلم .
قال الله جل وعلا كذلك في هذه الآيات :" ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين "(1/14)
هذه تكلمنا عنها في تفسر سورة البقرة وأنا أتكلم إجمالا ، خلق الله جل وعلا أبينا آدم من قبضة قبضت من الأرض، وورد أن الله بعث ملكا يقبض هذه القبضة ، فلما جاء الملك ليقبضها ، قالت له الأرض : أعوذ بالله منك ، فرجع الملك إلى ربه ،فقال له ربه: ما صنعت وهو أعلم ، قال يا رب : استجارت بك فأجرتها ، فبعث الله ملكا آخر وهو أعلم فلما جاء ليقبض قبضة من الأرض، قالت الأرض : أعوذ بالله منك ، فرجع إلى ربه، فسأله ربه كما سئل الأول فأجاب كما أجاب الأول ،فبعث الله ملكا آخر،وهذا الفرق في العلم ،فلما جاء ليقبض من الأرض قبضة، قالت له الأرض : أعوذ بالله منك كما قالت لأخويه، فقال لها الملك: وأنا أعوذ بالله ألا أنفذ أمره لأن الله أمرني أن أقبض قبضة ، فقبض قبضة من الأرض مجتمعة مختلطة فلذلك تفاوت طبائع الناس فحملها إلى الله تبارك وتعالى، من هذه القبضة الترابية خلق أبانا آدم لكن هذه القبضة الترابية مزجت مع ماء فأصبحت طين ثم تركت مدة فأصبحت صلصال ( فخار ) وكلها ذكرها الله جل وعلا في القرآن ، قال :" خلقناكم من تراب " وقال :" خلقناكم من طين " وقال : "من صلصال كالفخار " فذكر الله في القرآن المراحل الثلاثة التي مر بها خلق أبينا آدم ،ثم أكرم الله جل وعلا آدم بأن نفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شئ كما هو نص القرآن وقد بينا هذا مفصل في موضعه ثم قال جل وعلا هنا :" ولقد خلقناكم ثم صورناكم " لكن الله لم يقل في الأعراف هل صور آدم على هيئة حسنة أم على هيئة غير حسنة فأين أثبت الله حسن خلق آدم ؟ في سورة التين " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم "(1/15)
ولهذا قال بعض الفقهاء لو أن رجلا قال لامرأته أنت طالق إن لم يكن وجهك أحسن من القمر، أنها لا تطلق ولو كانت من أقبح الناس وجها لأن لله يقول " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " ثم وقع من أبينا المعصية بالأكل من الشجرة ، وأهبط إلى الأرض، فلما أهبط إلى الأرض جاءت النداءات الربانية الإلهية إلى بني آدم فناداهم الله في الأعراف بأربع نداءات :
1. قال في الأولى " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير " ، هذه الآية مسوقة في سياق الامتنان ، واللباس هو اللباس الضروري الذي تستر به العورة ، والرِّيَش : هو اللباس الزائد عن الضروري الذي يجمل به الإنسان " قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم " أي عوراتكم ، وسميت العورة سوءة لأن العاقل يسوءه أن تظهر عورته للناس ، فالله يقول في باب الامتنان على عباده " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا " لباسا ضروريا ولباسا زائدا تتزينون به ، فلما ذكر الله اللباس الحسي ذكر اللباس المعنوي فقال الله جل وعلا " ولباس التقوى ذلك خير " أي خير من كل شئ خير من كل الباس ، "ولباس التقوى " أن يكون الإنسان مكتسيا بتقوى الرب تبارك وتعالى في قلبه ، يخشى الله تبارك وتعالى ويخافه يجتنب نواهيه ويأتي أوامره ، هذا هو المؤمن حقا الذي ارتدى خير لباس ،
إن الجمال معادن ومناقب ليس الجمال بمئزرٍ
فاعلم إن رُديت بُردا إن الجمال معادن ومناقب أورثنا حمدا
فاللباس الحسي يبلي يبيد ولا ينفعك في الآخرة ، تستر به عورتك في الدنيا، أما لباس التقوى هو الذي عليه معيار العقاب والحساب والثواب يوم القيامة.(1/16)
2. وقال الله :" يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم .." سنتكلم كلام علمي وكلام وعظي حول هذه الآية " يا بني آدم " هذا خطاب ويسمى نداء علامة ويسمى نداء كرامة إذا قال الله :" يا أيها الذين آمنوا " وإذا قال :" يا أيها الناس " أو " يا بني آدم " هذا نداء علامة لأنه يشترك فيه المؤمن والكافر ، وإنما عُلِّموا بنسبتهم إلى أبيهم " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان " وهو العدو الأول " كما أخرج أبويكم من الجنة " الأبوان هنا آدم وحواء وإنما سميا أبوان رغم أن حواء امرأة من باب التغليب وقد قلنا في دروس عدة مكررة أن العرب إذا تكلمت عن اثنين وأرادت أن تثني تُغلب ، لكن معيار التغليب تختلف من مثنى إلى مثنى فقالوا في الأبوين الأبوان ، غلبوا الرجل على المرأة لأن الذكر أفضل من الأنثى ،وقالوا في المدينة ومكة المكتان ، لأن مكة أفضل عند الجمهور من المدينة وقالوا في الحسن والحسين الحسنان ، لأن الحسن أكبر ، وقالوا في الشمس والقمر القمران القمر مذكر والشمس مؤنث
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
فلو كل النساء كمن فقدن لفضلت النساء على الرجال(1/17)
لأن القمر مذكر قالوا القمر ، فهنا قول الله جل وعلا :" لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليرهما سوءاتهما " لما ذاقا من الشجرة حصل أن بدأت السوءتان لآدم وحواء فعلما أنهما وقعا في أمر عظيم ،من هنا تعلم أن هذا القرآن أنزله الله هداية للناس فأول طريق للمعاصي نزع الحياء من قلب المؤمن ، فأول ما أراده إبليس حتى يغوي آدم وزوجته وذريته لجأ إلى أول قضية أن يريهما عورتهما فإذا كشفت السوءتان في مكان ظاهر واستمرأ النظر إليها تصبح النفس والعياذ بالله هين لين عليها ما ترى فتسمر أ كل الفواحش فتنساق بعد ذلك إلى المعاصي من غير أن تعلم ،ولهذا تعلم أن ما صنعه الشيطان قديما يضعه شياطين الإنس حديثا فأكثر ما يسعى إليه القائمون على القنوات الفاجرة أن يبثوا أشياء تكشف من خلالها العورات حتى تعتاد الأسرة المسلمة أبا وأما وأحفادا وأبناء أن ينظروا إلى تلك العورات وأن يصبح أمرا بدهيا مستساغا لدى الأسرة ككل ، أن تنظر إلى الفواحش والإغراءات وما يكون من اتصالات محرمة وكشف العورات إما عن سبيل رقص أو سبيل غناء أو سبيل تمثيل أو غير ذلك فتصبح الأسرة والعياذ بالله بعد ذلك أي معصية تهون وتسهل على الجميع ويصبح أمر الله جل وعلا عياذا بالله هينا لينا على تلك القلوب فمن أراد الله جل وعلا أن يعصمه أول ما يعظم فيه مسألة الحياء في قلبه والإنسان إذا جبل على الحياء يقول عليه الصلاة والسلام :" الحياء لا يأتي إلا بخير " والإنسان قد ترى أنت بعض الناس على مسألة تستغرب كيف يصنعها والفرق بينك وبينه ليس العلم ، فهو يعلم وأنت تعلم لكن الفرق بينك وبينه أن مسألة الحياء شجرة نابتة في قلبك والحياء في قلبه غير موجود ،لما ذهب الحياء من نفسه من قلبه سهل عليه أن يأتي المعاصي قال صلى الله عليه وسلم :" كل أمتي معافى إلا المجاهرين يبيت أحدهم يستره ربه على معصية فإذا أصبح قال يا فلان ، أما علمت أن البارحة فعلت(1/18)
كذا وكذا، يقول صلى الله عليه وسلم يمسي يستره الله ويصبح يكشف سترالله عنه " نعوذ بالله من فجأة نقمته وزوال نعمته ، وهذا الذي يصل هذه المرحلة طبع على قلبه تماما كمن يذهب إلى حانات الغرب وبارات الشرق فيقع في المعاصي والفجور وبنات الزنى وأشباه ذلك ثم والعياذ بالله مع أن الله قد ستر عليه يصور نفسه ثم يأتي بتلك الصورويجمع أقرانه وخلطائه وأثاله ليعرض عليهم تلك الصور و ويريهم إياها ، هذا قد يصل إلى حد الكفر لأن في الغالب لا يصنع امرؤ مثل هذا إلا وهو يستحل ما حرم الله ، وإن كنا لا نكفر أحدا بعينه ، لكن نقول : إن هذا من أعظم الدلائل على ذهاب الخشية من القلب واستيلاء الشيطان على تلك القلوب يقول صلى الله عليه وسلم :" من ابتلي من هذه القاذورات في شئ فليستتر بستر الله عليه " والمؤمن يسأل الله دائما الستر والعافية ومحو الذنوب في الدنيا والآخرة ، لكن المقصود من الآية أن نبين أن من أعظم طرائق إبليس لإغواء الناس أن ينزع عنهم لباسهما كما قال الله :" ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم " فالله كتب أن الإنس لا ترى الجن ، والجن ترى الإنس ، وقد قلنا في دروس سابقة أن العرب تسمي الجن خمسة أسماء أو ست . يسمون الجن العادي : جني فإذا كان مما يسكن البيوت يسمونه عمار وإذا كان مما يتعرض للصبيان يسمونها أرواح فإذا كان فيه شئ من التمرد يسمونه شيطان فإذا ازدادت تمرده يسمونه عفريت (ذكر هذا الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى )(1/19)
" إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " يستنبط من هذه الآية أن عقد الولاية ما بين الإنس والشيطان قائم على عدم الإيمان لأن الله قال :" أولياء للذين لا يؤمنون " فعدم الإيمان بالله عقد بين الإنسي والشيطان ، ثم قال تبارك وتعالى :" يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم ءاياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بئاياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " حتى قال الله جل وعلا بعد ذلك بآيات " إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها " " كذبوا بآياتنا " أي لم يصدقوا الرسل " واستكبروا عنا " أي لم ينقادوا لها " إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة .." الإنسان تخرج روحه من جسده ، بعد أن تكون هذه الروح قد ألفت الجسد فإذا خرجت كانت روح مؤمنة تفتح لها أبواب السماء وإن كانت روح كافرة أو منافقه أغلقت في وجهها أبواب السماء عياذا بالله ، فالله يقول هنا :" إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء " هذا الجزاء الأول وهذا قبل البعث ، ثم قال :" ولا يدخلون الجنة " يعني : بعد البعث ، على هذا الآية نص على أن الكافر لا يدخل الجنة " إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط .." الجمل الحيوان المعروف ، سم الخياط : الخرم الذي في الإبرة ، فالخرم الذي في الإبرة من أضيق الأشياء والجمل من أعظم المخلوقات جسما ، والمقصود من الآية : تعليق على الاستحالة فكما أنه محال أن يدخل الجمل في هذه الخلقة العظيمة في سم الخياط ، فمحال أن يدخل الكافر الجنة .(1/20)
" إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط " ولن يلج الجمل في سم الخياط " وكذلك نجزي المجرمين * لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين " لما ذكر الله حال أهل الكفر ذكر حال أهل الإيمان والأصل في القرآن أنه يبدأ بالكفار ويختم بالمؤمنين ، قال سبحانه :" والذين آمنوا وعملوا الصالحات " جعلنا الله وإياكم منهم " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " ذكر الله جل وعلا هنا " لا نكلف نفسا إلا وسعها "وقد استنبط العلماء من هذه الآية وأمثالها قاعدة فقهية : وهذه القاعدة تقول : لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة فمثلا الله جل وعلا جعل من واجبات الوضوء غسل اليدين إلى المرفقين فلو أن أحد الناس من حادث مثلا قطعت يده ، فهذا ليس عنده يد ، لذا يسقط عنه واجب الوضوء للعجز لأنه لا يوجد له يد أصلا وقد يكون العجز أقل من ذلك ، الإنسان يجب عليه أولا أن يتوضأ بالماء فإذا عجز عن الوصول إلى الماء أو أضره الماء رغم وجوده هذا الواجب يسقط وينتقل إلى مسالة أخرى إلى التيمم حتى قد يصل أحيانا أنه يصلي بدون وضوء بدون تيمم إذا كان عاجزا فلا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة وهذا معنى قول الله :" ولا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " ثم قال سبحانه :" ونزعننا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وماكنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون " الناس يبقون بشر مهما بلغوا في الارتفاع في الطاعات لا يخرجهم عن كونهم بشر والنبي صلى الله عليه وسلم في الذرة من البشر وهو يقول عليه الصلاة والسلام :" أنا أغضب كما تغضبون " ولما قيل له إن إحدى أمهات المؤمنين حاضت في الحج غضب وقال حلقى(1/21)
قعرى تغير كلامه صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر رضي الله عنه نقل أنه يغضب وعمر رضي الله عنه كل الناس يغضبون . فالإنسان مهما بلغ يبقى بشرا إلا أن نبينا صلى الله عليه وسلم معصوم وغيره من الناس غير معصوم ، على هذا أحيانا يبقى في الصدر شيء ، ولو خفيف تبقى مؤمن تدخل الجنة لكن في الصدر بينك وبين زيد شئ .(1/22)
الله من إكرامه لأهل الجنة قبل أن يدخلوا الجنة وهم ماضون ذاهبون إلى الجنة يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار هذا الغل الباقي القليل الذي باقي في القلوب ينزعه الله منهم قبل أن يدخلوا الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم :" يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص منهم بينهم مظالم كانت بينهم في الدنيا " قال علي رضي الله عنه أمير المؤمنين المعروف حصل بينه وبين الزبير بن العوام شئ من سوء التفاهم ، وكاد يقتتلان في المعركة فذكر علي الزبير بقول للنبي صلى الله عليه وسلم فترك الزبير أرض المعركة ، قناعة منه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم فتبعه رجل يقال له ابن جرموز فقتله ، وممن نازع عليا طلحة بن عبيد الله صحابي جليل أحد العشرة المبشرين وقد أحنى ظهره يوم أحد حتى يرقى النبي عليه الصلاة والسلام على ظهره ، فقال عليه الصلاة والسلام أُوجب طلحة يعني وجبت له الجنة ، ومع ذلك كان هناك سوء تفاهم بسيط ما بين طلحة والزبير وعلي كل منهم يرى الصواب معه ، وكلهم في المحل الأعلى من الصحابة قال علي رضي الله عنه : إني لأرجو الله أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم :" ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار " فالكمال عزيز والصحابة رضي الله عنهم أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم والله رضي عنهم وشهد برضاه عنهم في كتابه ولا ينبغي لعاقل أن يدخل فيما كان بينهم كلهم مجتهد رضي الله عنهم وأرضاهم نسأل الله أن يرزقنا جوارهم مع نبينا صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم " وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله " هذا الكلام يقوله أهل الجنة ، اعترافا منهم بأن الهداية من الله جعلنا الله وإياكم برحمته ممن يقولها في الجنة ، وهذا يؤكد على أمر عظيم على أن من يطلب الهداية فليطلبها من الله ولذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم :" اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " ولا يشمت الإنسان بأحد(1/23)
خوفا من أن ينتكس كما انتكس غيره ، وإنما المؤمن يسأل الله السلامة ولا يشمت بأحد ويأل الله غفران الذنوب وستر العيوب ورحمته حتى نلقاه ." ولقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا " أي هؤلاء المؤمنين نودوا " أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون" يوجد باء عوض ويوجد باء سبب أي باء تختص بالعوض وباء تختص بالسبب مثال : لو ذهبت إلى المتجر وسألت صاحب المتجر بكم هذا القلم؟قال : بريال ، فأعطيته ريال فأعطاك القلم فهذا الريال عوض عن القلم بمعنى مكافئ له الريال مكافئ لهذا القلم ولو هذا القلم أحسن كان أصبح الريال أكثر من ريال يصبح مثلا بعشرة ، فهذه باء عوض، تسأل إنسان بكم اشتريت هذا القلم يقول لك بريال يصبح هذه الباء باء العوض .يوجد باء أيها الأحبة اسمها باء السبب تأتي لصاحب متجر فيسألك: من أين أنت ؟ فتقول له مثلا من جدة ،ويكون هو قد سكن جدة قديما ،فتسأله :من أي حي؟يقول : من النزلة مثلا .. يكون هو ساكن النزلة قديما .. فتطلب ماء فيقول هذا الماء خذه لأننا أنا وأنت كنا نسكن في حي واحد فسكنك الحي الذي سكن فيه صاحب المتجر سبب في الحصول عن الماء ، مثال آخر/ تعفوا عن إنسان لأنه صاحب أخيك ، يحصل لك سيارة يأتي إنسان يصدم سيارتك فتنزل غاضبا فعندما ترى من صدمك تعرف أنه صاحب لأخيك فتعفوا عنه، أنت عفوت عنه لأنه أعطاك عوض بل لأن صداقته لأخيك سبب في عفوك عنه يقول الله جل وعلا :" أورثتموها " أي الجنة " بما كنتم تعملون " هذه الباء سببية : أعماكم سبب في دخول الجنة و إلا الأعمال لا يمكن أن تكون عوضا عن الجنة لأن الجنة أكبر من أعمالنا ، لكن قال بعض العلماء من السلف كلمه جميلة في هذا الباب قالوا : إن المؤمنين ينجون من النار بعفو الله ويدخلون برحمة الله ويرثون
منازل غيرهم بأعمالهم الصالحة ثم ذكر الله جل وعلا ما يكون يوم القيامة وذكر تبارك وتعالى عدة نداءات
النداء الأول : نداء أصحاب الجنة لأصحاب النار.(1/24)
والنداء الثاني : نداء أصاب الأعراف لأصحاب الجنة .
والنداء الثالث : نداء أصحاب الأعراف لأصحاب النار.
والنداء الرابع : نداء أصحاب النار لأصحاب الجنة .
في هذه السورة الذي سميت سورة الأعراف لأن الله ذكر فيها الأعراف ولم يرد ذكر أصحاب الأعراف في القرآن إلا في هذه السورة ، قال الله :" ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعد ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون "
هذا النداء الأول يكون من أصحاب الجنة إلى أصحاب النار ، أن أصحاب الجنة يفتخرون على أصحاب النار بأنهم وجدوا ما وعدهم الله من النعيم حقا ، فيسألونهم هل وجدتم ما وعدكم الله من الجحيم حق فيقولون نعم ،فيستمعا الفريقان بعد ذلك إلى مؤذن يؤذن يقول : أن لعنة الله على الظالمين ،قال طاووس بن كيسان رحمه الله عن هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي المعروف قال : يا أمير المؤمنين اذكر يوم الآذان قال وما يوم الآذان قال : يوم أن الله يقول :" فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " فصعق هشام رحمه الله فقال طاووس بن كيسان : سبحان الله هذا ذل الصفة فكيف بذل المعاينة أي صعقت وأنا مجرد وصف لك اليوم فكيف لو عاينته ورأيته بعينك ثم قال الله جل وعلا :" وبينهما " أي بين الجنة والنار " حجاب " هذا الحجاب جاء مفسرا في سورة الحديد " فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " قال الله جل وعلا :" وبينهما حجاب وعلى الأعراف " مكان مرتفع " رجال " الله أعلم بهم قيل أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم وهذا قول حذيفة واختاره أكثر المفسرين وقيل : أنهم أنبياء وقيل: أنهم ملائكة ولا يوجد نص نجزم به ونفيء إليه " و بينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم " يعني : يعرفون أهل الجنة ويعرفوا أهل النار .(1/25)
" بسيماهم " أي بعلاماتهم ، فإن الله قال عن أهل الجنة " تعرف في وجوهم نظرة النعيم " وقال عن أهل الكفر : "ونحشر المجرمين يومئذ زرقا " أي أعينهم زرقا فيعرف المجرمون بزرقة أعينهم ويعرف المؤمنون جعلني الله وإياكم منهم بما عليهم من نظرة النعيم .
هؤلاء أصحاب الأعراف عندما يقفون عليها معهم نور هذا النور يجعلهم يطمعون أن يدخلوا الجنة ، فيقفون حكما بين الفريقين قال الله :" ونادوا أصحاب الجنة " المنادِي : أصحاب الأعراف ، والمنادَى : أصحاب الجنة ، " أن سلام عليكم " وتقف ثم ينقطع الكلام " لم يدخلوها " والمعنى أن أصحاب الأعراف لم يدخلوها في أظهر الأقوال " وهم يطمعون " أي ويطمعون في دخولها ، وهذا الطمع الرغبة في دخولها حث عليها أنهم مازالوا يملكون النور ولم ينقطع ثم بعد أن يرون أهل الجنة تصرف أبصارهم من غير إرادة منهم إلى أهل النار قال الله :" وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين " إذا رأوا أهل النار وما فيهم من عظيم الجحيم والنكال والحميم تعوذوا بالله واستجاروا به " قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين " ثم قال الله جل وعلا :" ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم " أي رجالا كانوا في الدنيا على الكفر يصدون عن سبيل الله " قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * أهؤلاء " أي الضعفاء الفقراء المساكين ـ المطاوعة في لغة العصرـ " أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته " كنتم تقسمون في الدنيا أنهم لن ينالوا رحمة ولا مغفرة " أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون " ثم قال الله جل وعلا " ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء " جعلنا الله وإياك في هذه الحالة ممن ينادَى لا ممن ينادِي فإن الله جل وعلا بقدرته يجعل لأهل النار إطلاعا على أهل الجنة فإذا رأوها أحوج ما يكونوا إليه أهل النار(1/26)
الماء قال الله جل وعلا :" ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله" فيجيبهم أهل الإيمان قالوا : " إن الله حرمهما " الماء والرزق " إن الله حرمهما على الكافرين " فلا يوجد شئ يحتاجه أهل النار أول الأمر أكثر من احتياجهم إلى الماء لأنهم إذا استسقوا في النار يسقون ماء حميما كما قال الله :" فقطع أمعاءهم " فقد أخذ العلماء من هذه الآية أن من أفضل القربات إلى الله سقي الماء ، وقد قال العلماء : إنه ثبت في الصحيح أن الله جل وعلا غفر لرجل لأنه سقى كلبا فكيف بمن سقى مؤمنا يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، ولما قيل لابن عباس رضي الله تعالى عنهما يابن عم رسول الله ما أفضل الصدقة ؟ قال : أن تسقي الماء أين أنت من قول الله :" أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين " ثم ذكر الله بعضا من نعوت الكافرين ، قال" الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون " وليس الله ينسى أبدا قال :" علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " ولكن هذا في لغة العرب يسمى المشاكلة في الكلام وإنما يتركهم الله جل وعلا من غير نصرة من غير ظهرة من غير معين حتى يتساقطون في جهنم ، ثم بين جل وعلا عظيم كتابه قال :" ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون * هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل " أي في الدنيا " قد جاءت رسل ربنا بالحق " فيتمنون أمرين " فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا " وهذه قطعها الله بقوله " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " وطلبوا أمرا ثانيا " أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل " وهذه قطعها الله جل وعلا عنهم أن الله لن يخرجهم من النار " قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون " فلما ذكر الله تبارك وتعالى حال الفريقين وذكر(1/27)
الحالة الثالثة وهي حالة أهل الأعراف عرف الله جل وعلا بذاته العلية والقرآن أيها المؤمن كله فاضل ، لكن آياته فيها فاضل وفيها مفضول ، أما كونه فاضل فلأن القرآن كله من عند الله وأما كونه فاضل ومفضول فإن من آيات الله ما تتكلم عن الله فجمعت الفضل من وجهتين الوجه الأولى : لأنها كلام الله ، والوجه الثانية : أن تتحدث عن الله، وليس هناك أعلم من الله ،ولذلك من أراد أن يرق قلبه وتدمع عينه فليقرأ ما تكلم جل وعلا عن ذاته العلية كخواتم سورة الحشر وأوائل سورة الحديد ، وهذه الآيات التي في سورة الأعراف وفي الفرقان يتكلم الرب جل وعلا عن ذاته العلية أو آية الكرسي فكل آية تحدث الله فيها عن ذاته العلية فإن الله جل وعلا لا أحد أعلم به منه قال الله جل وعلا :" ولا يحيطون به علما " وقال :" أأنتم أعلم أم الله " فالآيات التي يتحدث فيها الرب جل وعلا عن ذاته العلية هي أعظم آيات القرآن قدرا لأن جمعت المجد من طرفين كونها من الله وكونها تتحدث عنه جل جلاله قال الله :" إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين . ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين " هذه مجمل ما تكلم الله جل وعلا به عن ذاته العلية .(1/28)
تأملا ت في سورة
الأعراف
للشيخ صالح المغامسي
من صفحة الشيخ صالح المغامسي بموقع صيد الفوائد
http://saaid.net/Doat/almgamce/index.htm
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد.
أيها الإخوة المؤمنون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فهذا هو اللقاء الأول من المجموعة الثانية من التأملات حول تفسير كلام ربنا جل وعلا وقبل أن نشرع فيما نود تفسيره نبين أمورا:
أن هذه هي التفسيرات هي أشبه بالتأملات والتعليقات على كتاب رب العالمين جل جلاله والمقصود الأسمى منها الناحية العلمية وتبقى الناحية الوعظية فيها تبعا للناحية العلمية فالمخاطب بهذا الدرس طلبة العلم في المقام الأول ولهذا فإن التفصيل في بعض القضايا أمر ملح فليس المقصود الوعظ المحض وإنما المقصود إيجاد جيل علمي يفقه كلام الرب تبارك وتعالى .
ومتى وجد هذا الجيل تبوأ الصدارة في الأمة ونفع الناس، لأنه لا يعقل أن يتصدر إنسان لتعليم الناس وهو يجهل ما جاء في الكتاب العظيم من آيات بينات وعظات بالغات يهذب الله بها خلقه ويرشد الله جل وعلا بها عباده.(1/1)
ولقد قال الله جل وعلا في كتابه: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } قال العلماء في تفسيرها: إن من تفسيرها أن علم التفسير علم يعان عليه صاحبه وهو أجل العلوم وقد بينا هذا كثيرا في دروس سابقة نشرت وإنما أجدد التذكير بها. على أننا ونحن نفسر سنقف عند آيات معينة نختارها من السورة التي نفسرها وربما تستغرق السورة الواحدة عدة دروس وربما تستغرق السورة درسا واحدا بحسب ما فيها والله جل وعلا ذكر أن كتابه مثاني أي يثنى يفصل ما كان فيه إجمالا ويبين ما كان فيه مبهما ويبسط الله جل وعلا الحديث عن موضوع ثم يقوله باختصار في سورة أخرى وهكذا, فعلى هذا سنقف عندما نرى أن الوقوف عنده ملزم وما كان غير مكرر في القرآن فهذا يجب الوقوف عنده. فمثلا في سورة يوسف لم تتكرر قصة يوسف إلا في سورة واحدة فلا ينبغي تجاوزها إلى وصلنا إلى السورة بخلاف غيرها كقصة موسى مثلا وردت في عدة سور من القرآن الكريم. هذه مقدمة يظهر أنه من الواجب التذكير بها.
أما السورة التي سنبدأ بها هذه الدروس فهي سورة الأعراف :
ونبدأ بسورة الأعراف لأننا انتهينا في المجموعة الأولى من التأملات إلى سورة الأنعام. فنستهل هنا سورة الأعراف .
وقبل أن نشرع في اختيار الآيات من السورة يجب أن تعلم أنه حتى تفقه القرآن تبدأ به بنظرة كلية ثم تصغر هذه النظرة حتى تصل إلى الزبدة التي تريدها .
فسورة الأعراف من حيث الجملة سورة مكية إلا بضع آيات منها وهي :
قول الله تبارك وتعالى:{ واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ }، فهذه القصة ذكر أنها نزلت في المدينة. أما السورة إجمالا فهي سورة مكية.
والقرآن المكي له خصائص تختلف عن القرآن المدني:
لأن القرآن المكي يهتم بقضايا ثلاث: إثبات توحيد والربوبية والألوهية لله. وذكر صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . والبعث والنشور وأهوال اليوم الآخر.(1/2)
هذه قضايا القرآن المكي على وجه الإجمال ويندرج فيها قضايا كتذكير الله بنعمه على خلقه وهذا يندرج في إثبات التوحيد.
أما القرآن المدني:
فإن أكثره تشريع وأحكام وفقهيات كما في سورة البقرة وآل عمران، وحديث عن السير والغزوات التي كانت في أيامه صلوات الله وسلامه عليه في المدينة وقد بينا في دروس سابقة أن القرآن المكي و القرآن المدني أو السور المكية والسور المدنية أو بتعبير أقل اختصارا الآيات المكية والآيات المدنية في تسميتها هذه خلاف طويل بين العلماء لكن أرجح الأقوال إن شاء الله أن المقصود بالمكي ما نزل قبل الهجرة والمقصود بالمدني ما نزل بعد الهجرة هذا أرجح الأقوال، على هذا قلنا مرارا إن قول الله جل وعلا : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} آية مدنية رغم أنها نزلت في جوف الكعبة والرسول آخذ بعضدتي باب الكعبة أنزل الله جل وعلا عليه قوله : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فخرج إلى الناس ونادى على بني شيبة وأعطاهم مفتاح الكعبة تنفيذا للآية، فالآية نزلت في مكة بل في الكعبة لكنها تسمى آية مدنية لأنها نزلت بعد؟ بعد الهجرة.
فسورة الأعراف من حيث الجملة سورة مكية وهي من أطول سور القرآن المكي، وعدد آيها كما هو معلوم 206 آيات قلنا إنها جملة مكية إلا بضع آيات منها. هذه السورة بدأها الله جل وعلا في إثبات صدق هذا الكتاب وما فيه من خير عظيم وختمها بقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} ، ختمها بآية سجدة وبحسب ترتيب المصحف هذه الآية آية السجدة في الأعراف أول سجدة في القرآن ومن حيث ترتيبها في آي سورة الأعراف هي آخر آية في سورة الأعراف، وهذا يعني ما بين فاتحة السورة وما بين خاتمتها .
تضمنت السورة جملة من القضايا منها:(1/3)
خلق آدم عليه الصلاة والسلام أبو البشر وما ذكر الله جل وعلا فيها من قصته مع إبليس، ثم بعد ذلك خاطب الله جل وعلا بني آدم بصفة أن آدم أبوهم خاطبهم جل وعلا وناداهم بأربع نداءات :
{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا}{يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ}{يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } إلى آخر الآية، ذكرهم الله جل وعلا بأربع نداءات ثم إنه جل وعلا فصل ما أجمله في الأنعام لكن هذا التفصيل ليس بترتيب النزول بل بترتيب المصحف، وإلا الأعراف سورة مكية والأنعام سورة مدنية فعلى هذا سورة الأعراف جاء فيها ما أجمله الله في الأنعام.
الله في الأنعام ذكر الرسل جملة :
{(1/4)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ*وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ*وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} هؤلاء ذكرهم الله جملة ثم جاء في الأعراف بحسب ترتيب المصحف بدأ يفصل فلم يذكر في الأنعام قصة نوح ولا موسى ولا غيرهما ثم بدأ يفصل بدأ بالأعراف ففصل فيها قصة نوح وقصة هود إلى عاد وقصة صالح إلى ثمود وقصة لوط إلى أهل سدوم وقصة شعيب إلى أهل مدين وقصة موسى إلى فرعون وبني إسرائيل، فهؤلاء ستة من الأنبياء ذكر الله جل وعلا خبرهم تفصيلا فيصبح ترتيب المصحف أنه أجمل في سورة الأنعام وفصل في سورة الأعراف، ثم ذكر الله جل وعلا في السورة بعضا من آياته الدالة على عظيم خلقه وأعاد فيها أن أحدا لا يملك نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله تأكيدا للتوحيد هذا كله عن سورة الأعراف جملة، بعد هذا التصور الكامل عن السورة ننتقل إلى اختيار بعض الآيات المتعلقة بتفسيرها.
على أنه ينبغي أن تعلم أن :(1/5)
العلم لا يظهر بجلاء إلا إذا اجتمع بعضه إلى بعض، إذا اجتمع بعضه إلى بعض يظهر العلم فإذا جمعت أشتات العلم واكتمل لديك مع الإلحاح والكتابة والتدوين والحفظ وسؤال الله التوفيق يكونه العلم لديك، تراه في أول أمره صعبا كالبحر لكنه يسير على من يسره الله جل وعلا إليه، كالبناء عندما يريد أن يبنيه صاحبه يراه متوسع الأطراف بعيدا، لا يرى إلا حديده وما أشبه ذلك حتى إذا اكتمل بعضه إلى بعض قام بنيانا، كذلك العلم يجب على من تصدر للتدريس أن يعين من يطلب العلم على يديه في فقه العلم وإنه يعطي أشتات العلم حتى يجتمع شيئا فشيئا، وهذا كله أعاننا الله و إياكم بتوفيق من الله وفضل والأمر كله مبدأ ومنتهى وأوسط فضل من الله تبارك وتعالى يهبه جل وعلا لمن يشاء.
قال الله جل وعلا: بسم الله الرحمن الرحيم {المص*كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}، هذا أول السورة وأنا لا أبدأ تفسيرا قبل أن أفسر أول آية في السورة نفسها لأنها مفتاح قد نتجاوز بعض الآيات نعم لكن أول آية في السورة لا بد من تفسيرها لأنها مدخل.
{المص}:هذه من الحروف المتقطعة وقد مرت معنا في دروس سابقة وأنا أتكلم إجمالا باعتبار التدريس العام،مرت أنها من الذي اختص الله جل وعلا بعلمه هذا قول جمهور العلماء وهو الأظهر.
{كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} معنى الآية :
هذا كتاب فحذف المبتدأ لدلالة الخبر عليه على قول الكسائي ومن تبعه والمعنى أن هذا الكتاب المقصود به القرآن . وقد نكرت هنا كتاب لدلالة التعظيم، أي أن هذا الكتاب أعظم من أن يعرف فإذا عرف في آية أخرى فباعتبار علميته واشتهاره هذا كتاب أنزل إليك، والمخاطب في المقام الأول هنا النبي صلى الله عليه وسلم {فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} .(1/6)
فسر الحرج بأحد تفسيرين:
التفسير الأول : فسر بالشك، فيصبح معنى الآية هذا كتاب من الله فلا يكن في قلبك شك منه، وإذا قلنا بهذا التفسير يصبح هذه الآية لها قرائن كقوله تبارك وتعالى :{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ}.
التفسير الثاني : اختار جمهور العلماء على أن المراد بالحرج هنا الضيق، فيصبح معنى الآية فلا يكن في صدرك ضيق منه، هذا الضيق لا يفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم جُبل على ضيقة الصدر هذا محال لأن الله هيأه صلى الله عليه وسلم لأن يختم به الله النبوات ويتم به الرسالات وليس في القرآن أصلا ما يدعو للضيق في المؤمنين إذن ينجم الضيق من أن هذا القرآن آياته واضحة ظاهرة بينة لا تحتاج إلى دليل لا تحتاج إلى إثبات أنها من عند الله فالعرب أفصح البلغاء وأبلغ الفصحاء ومع ذلك عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن . ينجم الضيق مثالا كالطالب الذي عندك تعلمه فأنت لا يصيبك الضيق ولا الحرج ولا الغضب على طالب لم يفقه مسألة صعبة وإنما يصيبك الحرج والضيق على الطالب الذي لا يفهم المسألة الواضحة، المسألة الواضحة التي بينة ظاهرة لا تحتاج إلى علم فيأتي إنسان لا يفقهها يصيبك ضيق حرج في صدرك فالضيق الذي يصيبه صلى الله عليه وسلم من أن دلائل نبوته قاهرة ومعجزاته ظاهرة ومع ذلك لم يؤمنوا به! فنجم عن هذا ضيق في صدره، فالله يقول له فليكن صدرك منشرحا بهذا القرآن لأنه أجل كتاب وأعظم منزل به الهداية والرحمة لكل أحد أراد أن ينتفع به وإن لم ينتفع به قومك وكذبوه وردوه عليك.
هذا { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } ثم ذكر العلة من إنزاله :(1/7)
فاللام هنا لام التعليل{ لِتُنذِرَ} ولذلك جاء الفعل بعدها منصوبا{ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } لم يقل الله من المنذَر بالقرآن قال:{لِتُنذِرَ بِهِ } لكن لما ذكر الذكرى قال {وَذِكْرَى} لمن { لِلْمُؤْمِنِينَ } .
إذن من المنذَر بالقرآن؟ أعظم قواعد العلم أن القرآن يفسر بالقرآن والله يقول :{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} ، إذن المحذوف هنا هو الموجود في سورة مريم، لتنذر به قوم لدا، يعني الكفار .
{ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } والإنذار في اللغة هو الإعلام المقرون بالتهديد، على هذا تنجم قاعدة أن كل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذار،{ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} فإن قال قائل إن الله قال في آية أخرى أنه ينذر بالقرآن المؤمنين قال جل وعلا: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} فيجاب عن هذا بأن الإنذار على قسمين:
إنذار عام وإنذار انتفاع، الإنذار العام ينصرف للكفار أما إنذار الانتفاع ينصرف إلى المؤمنين.
{ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} هذه الآية الأولى ثم قال الله جل وعلا:
{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}فأخبر الله جل وعلا أن اثنين يُسألان يوم القيامة : المرسلون والمرسل إليهم، لكن الله لم يقل هنا ماذا يسأل هؤلاء ولا ماذا يسأل أولئك، فأين قال الله وأنا قلت أعانكم الله أن تستحضروا القرآن هذا علم التفسير أين قال الله ماذا يسأل المرسلون وماذا يسأل من أرسل إليهم؟ هنا الله يقول : {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} لكنه لم يقل ماذا يسألون، أما الجواب :(1/8)
فإن الله قال عن الأول :{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} قال عنها: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}، فيكون السؤال للأمم ماهو سؤالهم؟{مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} هذا من تفسير القرآن بالقرآن. قال الله في القصص: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} هذا حل الإشكال الأول{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ}.
يبقى حل الإشكال الثاني قال الله جل وعلا : {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} ماذا يسأل المرسلون؟ قال الله في المائدة: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ}، فالإشكال الإجمال الذي في سورة الأعراف فصل في موضعين: فصل في القصص وفصل في المائدة وهذا من تفسير القرآن بالقرآن.
{ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ*وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } :
الله جل وعلا حكم عدل ويوم القيامة يحشر الناس على أرض بيضاء نقية لم يعص الله جل وعلا فيها قط وليس في تلك الأرض معلم لأحد، الآن أنت تتفق مع زميلك مع جارك مع أخيك على أن تلتقي به في مكان ما فتجعل له أمارة مثلا : مستشفى , إشارة , علامة , دار , مبنى , محل تجاري بينك وبينه تذهب إليه هذا المكان المعلم هو سبب التقائكما .(1/9)
يوم القيامة يحشر الناس على أرض بيضاء نقية ليس فيها معلم لأحد ليس فيها شيء بارز تجتمع عنده الناس والناس يحشرون حفاة عراة غرلا بهما ليس معهم شيء إذا كان في الدنيا فيه ملك صوري تملكه بيديك ثيابك دابتك سيارتك في يوم القيامة يخرج الناس لا يعلمون شيئا، الله يقول في القرآن: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}والفراش يموج بعضه في بعض ومعنى الآيتين الجمع بينهما أن الناس عندما يخرجون يخرجون أول الأمر كالفراش لا يعرفون أين يذهبون! فإذا تقدمهم إسرافيل وهو الداعي قال الله جل وعلا : {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} انتظموا خلف إسرافيل فأصبحوا انتقلوا من حالة الفراش إلى حالة الجراد هذا كله يكون يوم القيامة يوم القيامة له أهوال عظيمة قال عمر بن الخطاب رضي الله عنهما لابن عباس: "مع أنني على ما قلت عني لو أن لي ملء الأرض ذهبا لافتديت به من هو المطلع".
مما يكون يوم القيامة الميزان، وأهل السنة يقولون سلك الله بنا وبكم سبيلهم يقولون: إنه ميزان حقيقي له كفتان وله لسان، والله جل وعلا يقول {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ، والله يقول هنا{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} القصد بكلمة الحق أنه لا جور فيه ولا ظلم ولا بخس ولا رهق ميزان حق يكفي أن الله جل وعلا قائم عليه فهو تبارك وتعالى أعدل الحاكمين وأحكم العادلين .
على هذا اختلف العلماء ما الذي يوزن؟ مع اتفاقهم جملة أهل السنة على أنه يوجد ميزان له كفتان، على أقوال أشهرها:(1/10)
القول الأول : أن الذي يوزن العمل نفسه، والذين قالوا بهذا القول احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم (الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان) موضع الشاهد أنه قال أن : (الحمد لله تملأ الميزان) فهذا معنى إن العمل نفسه يوزن، وقال صلى الله عليه وسلم :(اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غايتان أو فرقان طير صواف تحاجان عن أصحابها) فهذا من من أدلة من قال إن الذي يوزن العمل.
القول الثاني : إن الذي يوزن صحائف العمل، وهؤلاء احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي بسند صحيح : (إن الله سيخلص رجلا من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق ينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر فيقول له ربه: أتنكر مما رأيت شيئا ؟ فيقول لا يارب فيقول الله جل وعلا له أظلمك كتبتي الحافظون فيقول: لا يا رب، فيقول الله:إن لك عندنا بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ،فيقول يارب وماتغني هذه البطاقة مع هذه السجلات: فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة" قال صلى الله عليه وسلم: " فطاشت السجلات ورجحت البطاقة "وعند زيادة عند الترمذي " ولا يثقل مع اسم الله شيء) فهذه أدلة من قال إن الذي يوزن صحائف العمل، والقول الأول أنه يوزن العمل.(1/11)
القول الثالث: أنه يوزن صاحب العمل وهؤلاء احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين (يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة –والمقصود الكافر- يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة) ثم قرأ عليه الصلاة والسلام : {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} هذه أحد أدلة من قال إن الذي يوزن صاحب العمل، واحتجوا كذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحك الصحابة من رجل عبد الله بن مسعود قال صلى الله عليه وسلم : (أتعجبون من دقة ساقيه فلهما أثقل في الميزان من جبل أحد) . أي رجلا عبد الله بن مسعود أثقل في الميزان من جبل أحد هذه هي أدلة من قال إن الذي يوزن صاحب العمل.
قال الحافظ بين كثير رحمه الله تعالى جمعا بين الأدلة :
ولا يبعد أن يوزن هذا تارة وهذا تارة وهذا تارة، والأظهر والله تعالى أعلم أنه يوزن العمل وصاحبه وصحائف الأعمال جمعا بين الأحاديث وجمعا بين الآثار، وهذا هو الذي تستقيم به الآيات والله تعالى أعلم.
{(1/12)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }فالذي يعنينا هنا كخطاب قرآني أن يعنى الإنسان بأعماله الصالحة وأن يسعى فيما يثقل به الميزان ومن أعظم ما يثقل به الميزان حسن الخلق الذي تتعامل به مع الناس قال عليه الصلاة والسلام : (الدين المعاملة) ولم يكن صلوات الله وسلامه عليه فضا ولا غليظا في خطابه فليس الدين مجرد ركعات تؤدى في المساجد وإن كانت الصلاة في الذروة الأعلى من الدين ولكن الدين جملة معاملة مع إخوانك المؤمنين مع والديك مع أبنائك مع زوجاتك مع جيرانك مع عامة المسلمين تحب لهم ما تحب لنفسك تؤثرهم على نفسك تقبل اعتذارهم وتقيل عثراتهم وتقدم الصورة المثلى لما أمر الله به في كتابه وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، كما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:( كان خلقه القرآن) ، أي أنه يطبق القرآن صلوات الله وسلامه عليه، ومن الخطأ العظيم الذي نقع فيه أن نعتقد أن اتصالنا بالدين وقف على أشهر معينة كرمضان أو أماكن معينة كالمساجد وإنما يعبد الله جل وعلا بكل لسان وفي كل مكان وأخوة الإسلام تفرض علينا مطالب شتى في تعاملنا نكون بها إن شاء الله عباد الله إخوانا كما أمر نبينا صلى الله عليه وسلم.
قال الله جل وعلا كذلك في هذه الآيات:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} ، هذه تكلمنا عنها في تفسير سورة البقرة وأنا أتكلم إجمالا:(1/13)
خلق الله جل وعلا أبانا آدم عليه السلام من قبضة قبضت من الأرض وجاء في بعض الآثار أن الله بعث ملكا يقبض تلك القبضة فلما وصل إلى الأرض قالت له الأرض : " أعوذ بالله منك " فرجع إلى ربه فسأله الله وهو أعلم قال : " يا رب استعاذت بك فأعذتها " فبعث الله وهو أعلم ملكا آخر غيره فقالت له الأرض مثل ما قالت لصاحبه فرجع إلى ربه فقال له مثل ما قال الأول فبعث الله ملكا ثالثا فلما جاء أن يقبض من الأرض قالت الأرض كما قالت لصاحبيه " أعوذ بالله منك " قال : " وأنا أعوذ بالله أن لا أنفذ أمره " ثم أخذ قبضة من الأرض هذه القبضة جاءت مجتمعه مخلوطة ممزوجة فلما رفعت إلى ربنا جل جلاله خلطت بماء فأضحت طينا ثم تركت فترة فأضحت صلصالا من فخار بحيث أنه لو قرع يحدث صوتا على هذا هذه المراحل الثلاث كلها ذكرها الله جل وعلا في كتابه فقال جل ذكره : { خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ} وقال: {خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ} وقال جل وعلا : { مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} لأن هذه المراحل الثلاث كلها مر بها خلق أبينا آدم.
ثم قال الله جل وعلا هنا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} لكن الله لم يقل في الأعراف هل صور آدم على هيئة حسنة أم على هيئة غير حسنة فأين أثبت الله حسن خلق آدم؟ في سورة التين: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}. ولهذا قال بعض الفقهاء لو أن رجلا قال لامرأته: " أنت طالق إن لم يكن وجهك أحسن من القمر " لا تطلق، ولو كانت من أقبح الناس وجها لأن الله جل وعلا يقول : {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} .
ثم وقع من أبينا آدم عليه الصلاة والسلام المعصية بالأكل من الشجرة وأهبط إلى الأرض فلما أهبط إلى الأرض جاءت النداءات الربانية الإلهية لبني آدم فناداهم الله في الأعراف بأربع نداءات:(1/14)
قال في الأولى جل وعلا: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} ، هذه الآية مسوقة في سياق الامتنان واللباس هو اللباس الضروري الذي تستر به العورة، والريش هو اللباس الزائد عن الضروري التي يتجمل به الإنسان .
{قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} أي عوراتكم، وسميت العورة سوءة لأن العاقل يسوؤه أن تظهر عورته للناس، فالله يقول في باب الامتنان على عباده: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا} لباسا ضروريا ولباسا زائدا تتزينون به .
فلما ذكر الله اللباس الحسي ذكر اللباس المعنوي فقال جل وعلا : {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ } أي خير من كل شيء خير من كل لباس .
ولباس التقوى: أن يكون الإنسان مكتسيا بتقوى الرب تبارك وتعالى في قلبه يخشى الله تبارك وتعالى ويخافه يجتنب نواهيه ويأتي أوامره هذا هو المؤمن حقا الذي ارتدى خير لباس:
ليس الجمال بمئزر ***فاعلم وإن رديت بردا
إن الجمال معادن ومنا***ـاقب أورثن مجدا
فاللباس الحسي يبلى يبيد ولا ينفعك في الآخرة تستر به عورتك في الدنيا أما لباس التقوى هو الذي عليه معيار العقاب والحساب والثواب يوم القيامة.
ثم قال الله جل وعلا : {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} ، سنتكلم كلام علمي وكلام وعظي حول هذه الآية.
{(1/15)
يَا بَنِي آدَمَ} هذا خطاب ويسمى نداء علامة فمتى يسمى النداء نداء كرامة؟ إذا قال الله في القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} هذا نداء كرامة، وإذا قال { يَا أَيُّهَا النَّاسُ} أو {يَا بَنِي آدَمَ } هذا نداء علامة لأنه يشترك فيه المؤمن والكافر وإنما علموا بنسبتهم إلى أبيهم.
{يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} وهو العدو الأول {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} الأبوان هنا آدم وحواء وإنما سميا أبوان رغم أن حواء امرأة من باب التغليب وقد قلنا في دروس عدة مكررة إن العرب إذا تكلمت عن اثنين وأرادت أن تثني تغلب لكن معيار التغليب يختلف من مثنى إلى مثنى، فقالوا في الأبوين الأبوان غلبوا الرجل على المرأة لأن الرجل أفضل من المرأة عموما، وقالوا في المدينة ومكة المكتان لأن مكة أفضل عند الجمهور ، وقالوا في الحسن والحسين الحسنان لأن الحسن أكبر، وقالوا في الشمس والقمر القمران القمر مذكر والشمس مؤنث:
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ***ولا التذكير فخر للهلال
فلو كل النساء كمن ذكرنا *** لفضلت النساء على الرجال
لأن القمر مذكر قالوا القمران.
فهنا قول الله جل وعلا : {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا} لما ذاقا من الشجرة حصل أن بدت السوءتان لآدم وحواء فعلما أنهما وقعا في أمر عظيم.
من هنا تعلم أن هذا القرآن أنزله الله هداية للناس فأول طريق للمعاصي نزع الحياء من قلب المؤمن، أول طريق للمعصية نزع الحياء من قلب المؤمن فأول ما أراده إبليس حتى يغوي آدم وزوجته وذريته لجأ إلى أول قضية أن يريهما عوراتهما فإذا كشفت السوءتان في مكان ظاهر واستمرأ النظر إليها تصبح النفس والعياذ بالله هين لين عليها ما ترى فتستمرئ كل الفواحش فتنساق بعد ذلك إلى المعاصي من غير أن تعلم .(1/16)
ولهذا تعلم أن ما صنعه الشيطان قديما يصنعه شياطين الإنس حديثا، فأكثر ما يسعى إليه القائمون على القنوات الفاجرة أن يبثوا أشياء تكشف من خلالها العورات حتى تعتاد الأسرة المسلمة أبا وأما وأحفادا وأبناء أن ينظروا إلى تلك العورات وأن يصبح أمرا بدهيا مستساغا لدى الأسرة ككل أن تنظر إلى الفواحش والإغراءات وما يكون من اتصالات محرمة وكشف العورات إما عن سبيل رقص أو سبيل غناء أو سبيل تمثيل أو غير ذلك فتصبح الأسرة والعياذ بالله بعد ذلك أي معصية تهون وتسهل على الجميع ويصبح أمر الله جل وعلا عياذا بالله هينا على تلك القلوب، فمن أراد الله جل وعلا أن يعصمه أول ما يعظم فيه يعظم فيه مسألة الحياء في قلبه والإنسان إذا جبل على الحياء يقول عليه الصلاة والسلام : (الحياء لا يأتي إلا بخير) .
وقد ترى أنت بعض الناس على مسألة تستغرب كيف يصنعها والفرق بينك وبينه ليس العلم فهو يعلم وأنت تعلم لكن الفرق بينك وبينه أن مسألة الحياء شجرة نابتة في قلبك والحياء في قلبه غير موجود فلما ذهب الحياء من نفسه من قلبه سهل عليه أن يأتي المعاصي، قال صلى الله عليه وسلم (كل أمتي معافى إلا المجاهرين يبيت أحدهم يستره ربه ـ أي على معصية ـ فإذا أصبح قال يا فلان أما علمت أن البارحة فعلت كذا وكذا وكذا!) يقول صلى الله عليه وسلم : (يمسي يستره الله ويصبح يكشف ستر الله عنه) نعوذ بالله من فجأة نقمته وزوال نعمته.(1/17)
وهذا الذي يصل إلى هذه المرحلة طبع على قلبه تماما كمن يذهب إلى حانات الغرب وبارات الشرق فيقع في المعاصي والفجور وبنات الزنا وأشباه ذلك ثم والعياذ بالله مع أن الله قد ستر عليه يصور نفسه ثم يأتي بتلك الصور ويجمع أقرانه وخلطاءه وأمثاله ليعرض عليهم تلك الصور ويريهم إياها هذا قد يصل إلى حد الكفر، لأنه في الغالب لا يصنع امرؤ مثل هذا إلا وهو يستحل ما حرم الله وإن كنا لا نكفر أحدا بعينه لكن نقول: إن هذا من أعظم الدلائل على ذهاب الخشية من القلب واستيلاء الشيطان على تلك القلوب يقول صلى الله عليه وسلم : (من ابتلي من هذه القاذورات بشي فليستتر بستر الله عليه) . والمؤمن يسأل الله دائما الستر والعافية ومحو الذنوب في الدنيا والآخرة.
لكن المقصود من الآية : أن نبين أن من أعظم طرائق إبليس لإغواء الناس أن ينزع عنهم لباسهما كما قال الله جل وعلا : {لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} فالله كتب أن الإنس لا ترى الجن والجن ترى الإنس .
وقد قلنا في دروس سابقة إن العرب تسمي الجن خمسة أسماء ـ وأنا مضطر للكلام العلمي لأني قلت الكلام في مقامه الأول علمي ـ :
يسمون الجني العادي جني فإذا كان مما يسكن البيوت يسمونه عُمَّار وإذا كان مما يتعرض للصبيان يسمونها أرواح فإذا كان فيه شيء من التمرد يسمونه شيطان فإذا ازداد تمرده يسمونه عفريت. ذكر هذا الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى.
{إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }يستنبط من هذه الآية أن عقد الولاية ما بين الإنس والشيطان قائم على عدم الإيمان لأن الله جل وعلا قال : {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} . فعدم الإيمان بالله عقد ما بين الإنسي والشيطان .(1/18)
ثم قال تبارك وتعالى : {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ*وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، حتى قال الله جل وعلا بعد ذلك بآيات: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا} كذبوا بآياتنا أي لم يصدقوا الرسل واستكبروا عنها أي لم ينقادوا لها، كذبوا بالآيات عدم التصديق واستكبروا عنها أي عدم الانقياد {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} .(1/19)
الإنسان تخرج روحه من جسده بعد أن تكون هذه الروح قد ألفت الجسد فإذا خرجت كانت روحا مؤمنة تفتح لها أبواب السماء وإن كانت روحا كافرة أو منافقة أغلقت في وجهها أبواب السماء عياذا بالله، فالله جل وعلا يقول هنا:{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء} هذا جزاء الأول وهذا قبل البعث ثم قال:{وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} يعني بعد البعث، على هذا الآية نص على أن الكافر لا يدخل الجنة {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} الجمل الحيوان المعروف وسم الخياط الخرم الذي في الإبرة فالخرم الذي في الإبرة من أضيق الأشياء والجمل من أعظم المخلوقات جسما والمقصود من الآية تعليق على الاستحالة فكما أنه محال أن يدخل الجمل بهذه الخلقة العظيمة في سم الخياط فمحال أن يدخل الكافر الجنة {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} ولن يلج الجمل في سم الخياط {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ*لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} .
لما ذكر الله حال أهل الكفر ذكر حال أهل الإيمان والأصل في القرآن أنه يبدأ بالكفار ويختم بالمؤمنين قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} جعلنا الله وإياكم منهم { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، ذكر الله جل وعلا هنا {لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}(1/20)
وقد استنبط العلماء من هذه الآية وأمثالها قاعدة فقهية وهذه القاعدة تقول:
" لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة " . فمثلا الله جل وعلا جعل من واجبات الوضوء مثلا غسل اليدين إلى المرفقين فلو أن أحد الناس من حادث مثلا قطعت يده ماذا نصنع بواجب الوضوء؟ يسقط عنه للعجز.
لا يوجد يد أصلا وقد يكون العجز أقل من ذلك: الإنسان يجب عليه أولا أن يتوضأ بالماء فإذا عجز عن الوصول للماء أو أضره الماء رغم وجوده هذا الواجب يسقط وينتقل إلى مسألة أخرى هي التيمم حتى قد يصل أحيانا أنه يصلي بدون وضوء وبدون تيمم إذا كان عاجزا فلا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة، وهذا معنى قول الله جل وعلا : {لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
ثم قال سبحانه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(1/21)
الناس يبقون بشر مهما بلغوا في الارتفاع في الطاعات لا يخرجهم عن كونهم بشر والنبي صلى الله عليه وسلم في الذروة من البشر وهو يقول عليه الصلاة والسلام : (أنا أغضب كما تغضبون) ولما قيل له إن إحدى أمهات المؤمنين حاضت في الحج غضب وقال : (حلقى قعرى) تغير كلامه صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر نقل عنه أنه يغضب وعمر كل الناس يغضبون، فالإنسان مهما بلغ يبقى بشرا إلا أن نبينا صلى الله عليه وسلم معصوم وغيره من الناس غير معصوم على هذا أحيانا يبقى في الصدر شيء ولو خفيف تبقى مؤمن تدخل الجنة لكن فيه في الصدر بينك وبين زيد شيء، الله من إكرامه لأهل الجنة قبل أن يدخلوا الجنة وهم ماضون ذاهبون إلى الجنة يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار هذا الغل الباقي القليل الذي باقي في القلوب ينزعه الله منهم قبل أن يدخلوا الجنة قال صلى الله عليه وسلم : ( يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بينهم مظالم كانت بينهم في الدنيا).
قال علي رضي الله عنه أمير المؤمنين حصل بينه وبين الزبير بن العوام رضي الله عنه شيء من سوء التفاهم وكادا يقتتلان في المعركة فذكر علي الزبير بقول للنبي صلى الله عليه وسلم فترك الزبير أرض المعركة قناعة منه بقول رسول صلى الله عليه وسلم فتبعه رجل يقال له ابن جرموز فقتله، وممن نازع عليا طلحة بن عبيد الله صحابي جليل أحد العشرة المبشرين وقد أحنى ظهره يوم أحد حتى يرقى النبي عليه الصلاة والسلام على ظهره فقال عليه الصلاة والسلام : (أوجب طلحة) يعني وجبت له الجنة ومع ذلك كان هناك سوء تفاهم بسيط ما بين طلحة والزبير وعلي كل منهم يرى الصواب معه وكلهم في المحل الأعلى من الصحابة، قال علي رضي الله عنه: قال : "إني لأرجو الله أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم "{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} " .(1/22)
فالكمال عزيز والصحابة رضي الله عنهم أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم والله رضي عنهم وشهد برضاه عنهم في كتابه ولا ينبغي لعاقل أن يدخل فيما كان بينهم كلهم مجتهد رضي الله عنهم وأرضاهم نسأل الله أن يرزقنا جوارهم مع نبينا صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم.
{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ}هذا الكلام يقوله أهل الجنة اعترافا منهم بأن الهداية من الله ـ جعلني الله وإياكم برحمته ممن يقولها في الجنة ـ ، وهذا يؤكد على أمر عظيم على أن من يطلب الهداية فليطلبها من الله ولذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم : ( اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) .
ولا يشمت الإنسان بأحد خوفا من أن ينتكس كما انتكس غيره وإنما المؤمن يسأل الله السلامة ولا يشمت بأحد ويسأل الله غفران الذنوب وستر العيوب ورحمته حتى نلقاه.
{وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ} أي هؤلاء المؤمنين نودوا {أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
يوجد باء عوض ويوجد باء سبب , يعني باء تختص بالعوض وباء تختص بالسبب، شف هذا قلم فلو ذهبت إلى المتجر وسألت صاحب المتجر: " بكم هذا القلم؟ " قال : " بريال " فأعطيته ريالا فأعطاك القلم، فهذا الريال عوض عن القلم بمعنى مكافئ له، ولو هذا القلم أحسن كان أصبح الريال أكثر من ريال يصبح مثلا بعشرة، فهذه باء عوض.(1/23)
في باء أيها الأحبة اسمها باء السبب . تأتي لصاحب متجر فيسألك: " من أين أنت؟ " فتقول له مثلا : " من جدة " ويكون هو قد سكن جدة قديما فتسأله : " من أي حي " يقول " من النزلة " يكون هو ساكن النزلة قديما فتطلب ماء فيقول هذا الماء خذه لأننا أنا وأنت كنا نسكن في حي واحد، فسكنك الحي الذي سكن فيه صاحب المتجر عوض عن الماء أو سبب في الحصول على الماء؟ سبب في الحصول على الماء .
تعفو عن إنسان لأنه صاحب أخيك يحصل لك سيارة يأتي إنسان يصدم سيارتك فتنزل غاضبا فعندما ترى من صدمك تعرف أنه صاحب لأخيك فتعفو عنه أنت عفوت عنه لا لأنه أعطاك عوض بل لأن صداقته لأخيك سبب في عفوك عنه.
طيب يقول الله جل وعلا : {أُورِثْتُمُوهَا}أي الجنة {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} هذه الباء عوض أو سبب؟
هذه الباء باء أعمالكم سبب في دخول الجنة، وإلا الأعمال لا يمكن أن تكون عوضا عن ماذا؟ عن الجنة لأن الجنة أكبر من أعمالنا .
لكن قال بعض العلماء من السلف كلمة جميلة في هذا الباب قالوا: "إن المؤمنين ينجون من النار بعفو الله، ويدخلون الجنة برحمة الله، ويرثون منازل غيرهم بأعمالهم الصالحة " {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
ثم ذكر الله جل وعلا ما يكون يوم القيامة وذكر تبارك وتعالى عدة نداءات:
النداء الأول: نداء أصحاب الجنة لأصحاب النار .
والنداء الثاني: نداء أصحاب الأعراف لأصحاب الجنة.
النداء الثالث : ونداء أصحاب الأعراف لأصحاب النار.
النداء الرابع : ونداء أصحاب النار لأصحاب الجنة.
في هذه السورة التي سميت بسورة الأعراف لأن الله ذكر فيها الأعراف . ولم يرد ذكر أصحاب الأعراف في القرآن إلا في هذه السورة.(1/24)
قال الله جل وعلا : {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ*الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} هذا النداء الأول يكون من أصحاب الجنة إلى أصحاب النار أن أصحاب الجنة يفتخرون على أصحاب النار بأنهم وجدوا ما وعدهم الله من النعيم حق، فيسألونهم هل وجدتم ما وعدكم الله من الجحيم حق؟ فيقولون نعم، فيستمع الفريقان بعد ذلك إلى مؤذن يؤذن يقول: {أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}
.
قال طاووس بن كيسان رحمه الله لهشام بن عبد الملك الخليفة الأموي المعروف قال: " يا أمير المؤمنين اذكر يوم الأذان "، قال : " وما يوم الأذان؟ " قال : " إن الله يقول {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} " فصعق هشام رحمه الله فقال طاووس بن كيسان : " سبحان الله هذا ذل الصفة فكيف بذل المعاينة! " أي صعقت وأنا مجرد وصفت لك اليوم فكيف لو عاينته ورأيته بعينيك! .
ثم قال الله جل وعلا: {وَبَيْنَهُمَا} أي بين الجنة والنار {حِجَابٌ} هذا الحجاب جاء مفسرا في سورة الحديد:{فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} .
قال الله جل وعلا :{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ} مكان مرتفع {رِجَالٌ} الله أعلم بهم قيل إنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم وهذا قول حذيفة واختاره أكثر المفسرين وقيل إنهم أنبياء وقيل إنهم ملائكة ولا يوجد نص نجزم به ونفيء إليه .
{(1/25)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} يعني يعرفون أهل الجنة ويعرفون أهل النار بسيماهم أي بعلاماتهم فإن الله قال عن أهل الجنة : {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} وقال عن أهل الكفر: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً } أي أعينهم زرقا فيعرف المجرمون بزرقة أعينهم ويعرف المؤمنون جعلني الله وإياكم منهم بما عليهم من نظرة نعيم .
هؤلاء أصحاب الأعراف عندما يقفون عليها معهم نور هذا النور يجعلهم يطمعون أن يدخلوا الجنة فيقفون حكما بين الفريقين قال الله جل وعلا : { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} المنادي أصحاب الأعراف والمنادى أصحاب الجنة {أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} وتقف ثم ينقطع الكلام {لَمْ يَدْخُلُوهَا} والمعنى أن أصحاب الأعراف لم يدخلوها في أظهر الأقوال {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} أي ويطمعون في دخولها وهذا الطمع الرغبة في دخولها حث عليها أنهم ما زالوا يملكون النور ولم ينقطع. ثم بعد أن يرون أهل الجنة تصرف أبصارهم من غير إرادة منهم إلى أهل النار قال الله جل وعلا :{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} إذا رأوا أهل النار وما هم فيه من عظيم الجحيم والنكال والحميم تعوذوا بالله واستجاروا به {قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .(1/26)
ثم قال الله جل وعلا :{وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي رجالا كانوا في الدنيا على الكفر يصدون عن سبيل الله {قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ*أَهَؤُلاء} أي الضعفاء الفقراء المساكين { أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ} كنتم تقسمون في الدنيا أنهم لن ينالوا رحمة ولا مغفرة! { أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } .
ثم قال الله جل وعلا: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء} جعلنا الله وإياك في هذه الحالة ممن ينادى لا ممن ينادي، فإن الله جل وعلا بقدرته يجعل لأهل النار اطلاعا على أهل الجنة فإذا رأوها أحوج ما يكون إليه أهل النار الماء قال الله جل وعلا:{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ} فيجيبهم أهل الإيمان {قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا} الماء والرزق { إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} فلا يوجد شيء يحتاجه أهل النار أول أمر أكثر من احتياجهم إلى الماء لأنهم إذا استسقوا في النار يسقون ماء حميما كما قال الله {فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} ، فقد أخذ العلماء من هذه الآية أن من أفضل القربات إلى الله سقي الماء، وقد قال العلماء إنه ثبت في الصحيح:( أن الله جل وعلا غفر لرجل لأنه سقى كلبا ) فكيف بمن سقى مؤمنا يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ولما قيل لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "يا ابن عم رسول ما أفضل الصدقة ؟ قال : أن تسقي الماء " .(1/27)
أين أنت من قول الله جل وعلا :{أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}ثم ذكر الله بعضا من نعوت الكافرين قال: {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} وليس الله جل وعلا ينسى أبدا {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} ، ولكن هذا في لغة العرب يسمى المشاكلة في الكلام وإنما يتركهم الله جل وعلا من غير نصرة من غير ظهرة ؟؟؟؟
من غير معين، حتى يتساقطوا في جهنم.ثم بين الله جل وعلا عظيم كتابه قال سبحانه : {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ*هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ} أي في الدنيا {قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} .
فيتمنون أمرين: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا} وهذه قطعها الله بقوله: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وطلبوا أمرا ثانيا :{أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} وهذه قطعها الله جل وعلا عنهم أن الله لن يخرجهم من النار { أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} .(1/28)
فلما ذكر الله تبارك وتعالى حال الفريقين وذكر الحالة الثالثة وهي حال أهل الأعراف عرف الله جل وعلا بذاته العلية، والقرآن أيها المؤمن كله فاضل لكن آياته فيها فاضل وفيها مفضول، أما كونه فاضل فلأن القرآن كله من عند الله وأما كونه فاضل ومفضول فإن من آيات الله ما تتكلم عن الله فجمعت الفضل من وجهتين:
الوجهة الأولى: أنها كلام الله .
والوجهة الثانية: أنها تتحدث عن الله
وليس هناك أحد أعلم بالله من الله ولذلك من أراد أن يرقق قلبه وتدمع عينه فليقرأ ما تكلم الله جل وعلا به عن ذاته العلية كخواتم سورة الحشر وأوائل سورة الحديد وهذه الآيات التي في الأعراف وفي الفرقان يتكلم الرب جل وعلا عن ذاته العلية أو آية الكرسي، فكل آية تحدث الله فيها عن ذاته العلية فإن الله جل وعلا لا أحد أعلم به منه قال الله جل وعلا : {و َلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } وقال : {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ } .
فالآيات التي يتحدث فيها الرب جل وعلا عن ذاته العلية هي أعظم آيات القرآن قدرا لأنها جمعت المجد من طرفيه: كونها من الله وكونها تتحدث عنه جل جلاله.
قال الله جل وعلا : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ*ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} .
هذه مجمل ما تكلم الله جل وعلا به عنه عن ذاته العلية .
هذا وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(1/29)
(تأملات في سورة الأنفال)
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله (صلى الله عليه وعلى أصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد. فإننا نستعين الله جل وعلا في تفسير كلامه جل وعلا كرةً أخرى... وكنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى سورة الأعراف وسنشرع اليوم في تفسير سورة الأنفال على أننا قبل أن نشرع فيها نذكر ببعض مما كنا قد تأملناه حول سورة الأعراف التي تمت دراستها عبر درسين، وكنا قد ذكرنا في اللقاء الماضي أن الله جل وعلا ذكر ثلة من أنبيائه ورسله بسورة الأعراف بدءاً بنوح وانتهاءً بموسى عليهم السلام ووقفنا عند اثنين منهم هما لوط وموسى عليهم الصلاة السلام وذكر نا عن قوم لوط أن الفطرة انتكست عند هم فكانوا يأتون الذكران من العالمين ولذلك لم يكن بينهم وبين رسولهم أخذ ولاعطاء فإن الله جل وعلا ذكر أن الأنبياء أخذوا وأعطوا وتحاوروا مع من بعثوا إليهم من الأمم فقوم ثمود قالوا لصالح:(ياصالح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا...)
*قالوا لصالح :(قد كنت فينا مرجواً قبل هذا)(1/1)
*وقال قوم شعيب كذلك قريباً منه. إلى غير ذلك مما ذكره الله من محاورات الرسل لأممهم وأما قوم لوط مما انتكست الفطرة عندهم، لم يكن لديهم عقل يحاورون من خلاله قال الله عنهم أنهم قالوا:(وماكان جواب قومه إلاَّ أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون )فعاملهم الله جل وعلا بلمثل قال الله تبارك وتعالى:(فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود)وهذه الأيه في هود ثم ذكرنا بعضاً مما كان من خبر نبي الله موسى مع فرعون وآله أوفرعون وملائه وذكرنا أن الله جل وعلا قال عنهم(وقالوا مهما تأتنابه من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين*فأرسلناعليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدَم...)فهذه خمس آيات،وقال قبلها جل وعلا:(ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات)هذه اثنتان مع الخمس سبع آيات وبقيت اثنتان هما .الأول:العصا . والثاني:اليد . فهذه تسع آيات التي قال الله جل وعلا عنها أنه بعث بها موسى إلى فرعون وملائه والقرءآن ينظر إليه جمله واحدة ويفسر بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاًوكله كلام رب العالمين جل جلاله. كما ذكرنا أن قول ربنا جل وعلا: (وأرسلنا عليهم الطوفان و الجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات) أن كلا من كلمتي آيات وكلمه مفصلات أعطت معنا فقلنا إن كلمه آيات دلت على أمر خارج عن المألوف لأن الجراد والقمل والضفادع يوجد في كل زمان ومكان لكن الله جل وعلا جعل وجودها في زمن موسى آيه له خارقه عن المألوف وقوله تبارك وتعالى "مفصلات"يدل على أنها كانت لم تكن جملة واحدة وإنما كانت يتبع بعضها بعضا وكان بينهم مرحله زمنيه ثم قلنا إن الله جل وعلا قال: (ووعدنا موسى ثلاثين ليلة......(1/2)
)وقلنا إن القاعده في ذكر الأيام والليالي أن الأيام تحسب بها المنافع الدنيويه فالمزارعون مثلا إنما يحصدون بناء على البروج الشمسيه وليس لهم علاقة بالأهلة وأما الأهلة والليالي فإنما يحسب بها المناسك الدينيه قال الله جل وعلا: ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) وهذه قلنا فيها فائدة كبرى أن يعرف الإنسان أن ما يتعلق بالأيام فيه المنافع الدنيويه وما يتعلق بالليالي فيه المنافع والمناسك الدينيه ثم قلنا إن الرب تبارك وتعالى قال : ( وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين * ولما جاء موسى لميقاتنا....) فذكرنا أنه كان هناك ميقاتان:ــ
فالأول: ميقات مكاني..
والثاني: ميقات زماني..(1/3)
الميقات المكانيي:الوادي المقدس أو بتعبير أقرب جبل الطور قال الله جل وعلا في سورة القصص:(وما كنت بجانب الغربي إذا قضيناإلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين)والجبل الطور هو الجبل الذي كلم الله عنده موسى مرتين المرة الأولى: في أول أيام الوحي..والمرة الثانية: في وقت الميقات الذي وعده الله جل وعلا إياه هذا هو الميقات المكاني أما الميقات الزماني فإن الله كلم عبده موسى بن عمران في اليوم العاشر من ذي الحجه فإن الله وعده ثلاثين يوماً عند جماهير العلماء هي ثلاثين شهر ذي القعده ثم زاده الله عشراً قال الله:(فتمت ميقات ربه أربعين ليله)فاليوم الأربعون:هو اليوم العاشر من ذي الحجة المتمم لثلاثين ذي القعده وعشرذي الحجه ثم قلنا:(فلما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال ربي أرني أنظر إليك)رغب عليه السلام في مقام الرؤيا بعد أن أعطي مقام التكليم فقال الله جل وعلاله:(لن تراني) وقلنا إن رؤية العبد المؤمن للرب جل وعلا تكلمنا عنها في الدنيا وفي الأخره وقلنا يحرر الخطاب على أنه يقال: أن رؤية الله جل وعلا في الدنيا جائزة عقلاً ممتنعة شرعاً ومعنى قولنا جائزة عقلاً: أنه يمكن بقدرة الله أن يعطي الله عباده قدره على أن يروا ربهم في الدنيا لأن الله على كل شيء قدير فهذا لاينافي العقل لكن أخبر في كتابه أن هذا لن يقع إذ قال لكليمه موسى:(لن تراني)فقلنا إن وإن كانت جائزة عقلاً إلا أنها ممتنعه شرعاً هذا في الدنيا أما في الأخرة: فقد قلنا مادامت جائزة عقلاً في الدنيا فمن باب أولى أن تكون جائزه عقلاً في الأخره لأن الأبصار في الأخره أقوى منها في الدنيا قال الله جل وعلا(فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ...(1/4)
) ولكنا قلنا : إنها في الدنيا ممتنعة شرعاً ونقول في الآخرة واقعة شرعاً للمؤمنين في الجنة وقد نص القرآن والسنه على هذا قال الله جل وعلا في سورة القيامه:( وجوه يومئذ ناضره ) بالضاد أخت الصاد والمعنى تعلوها النظره (إلى ربها ناظره ) أي تبصر ربها من غير إحاطه لأن الله يقول:( لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) فالله جل وعلا لايدركه بصر خلقه على هذا ماتحرر...(1/5)
وقلنا: إن من العلماء من قال أنها ممتنعة في الدنيا والآخرة وهذا قول (المعتزلة) وقلنا نص عليه جار الله الرمخشري في تفسيره المشهور باسمه: (تفسير الكشاف) فإنه قال إن العباد لايرون ربهم لافي الدنيا ولافي الآخرة واحتج بحرف النفي (لن) وقلنا الجواب العلمي أن يقال أن الله جل وعلا قال عن اليهود أنهم لايتمنون الموت فقال عنهم:( ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم ) أي الموت ومع ذلك قال الله عن أهل النار واليهود قطعاً من أهل النار قال :( وقالوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون) يتمنون الموت فدل على أن (لن) هنا تجري على أحكام الدنيا لاتجري على أحكام الأخرة ثم إن النصوص الصريحة في رؤية المؤمنين لوجه ربهم لايمكن تأويلها ولادفعها بحال في رؤية وجه ربهم تبارك وتعالى منها آيه القيامة التي مرت معنا ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغير هما (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)منَّ الله علينا وعليكم برؤية وجهه الكريم ثم قلنا بعد ذلك أن الله جل وعلا قال لموسى: (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما ءاتيتك وكن من الشاكرين) وقلنا إن هذه الكلمه [على الناس]ليست على إطلاقها وإن من الآله العلميه في تفسير كلام الله أن يكون الإنسان مطلعاً على اللغة مطلعاً على الأحاديث مطلعاً على التاريخ فقول الله جل وعلا لموسى: (إني اصطفيتك على الناس) لا يمكن أن تكون على اطلاقها لعموم الناس لأن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من موسى عليه السلام بالإتفاق فموسى عليه السلام أفضل أهل زمانه أما من قبله فإبراهيم أفضل من موسى بل إن موسى عليه السلام من ذريه إبراهيم جميع الأنبياء الذين من بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم باستثناء لوط على الخلاف أنه ابن أخيه لأن الله قال: (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) وما بعث نبي من الأنبياء كما بُينَ هذا في غير درس ولا أُنزل(1/6)
كتاب من السماء إلا على رجل من ذرية إبراهيم المقصود أن موسى عليه السلام أفضل أهل زمانه لكنه ليس أفضل من كان من قبل فإبراهيم أفضل منه ولا أفضل من بعد لأن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل كلهم. هذا ما انتهينا إليه حول سورة الأعراف ونشرع اليوم إن إنشاء الله تعالى في تأمل خمس آيات من سورة الأنفال وقد جرت العاده أننا نقدم السوره بأكملها قبل أن نشرع في تفسيرها سورة الأنفال سور مدنية ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : أن قول الله جل وعلا: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ...)هذه مكيه والله أعلم . لكن السورة في جملتها سورة مدنية وهي من أوائل السور المدنية التى نزلت . ومن أواخر السور المدنية التي نزلت سورةالتوبة.وكلتا السورتين عنيتا بالغزوات بالذات سورة الأنفال . فسورة الأنفال تكلمت عن بدر ولذلك يقولوا بعض العلماء إنها سورة (مدنية بدرية)أما التوبة فتكلمت عن غزوة تبوك وجيش العسرة وهذا كان في السنة التاسعة والنبي صلى الله عليه وسلم مات في العاشرة على هذافالتوبة من آخر ما أُنزلَ جملة من السور المدنية والأنفال من أوائل ما نزل من السور المدنية (مدنية بدرية ) وحتى نفقهه هذه السورة نزلت بعداختصام المسلمين في غنائم بدر وحتى تكون أنت في إطارعلمي حول السورة الرسول علية الصلاة والسلام خرج بأصحابه إلى بدر وكان أول أمره يريد عير قريش وقال لأصحابه لعل الله أن ينفيكموها ))أي يهبها لكم فلما نجا أبو سفيان بالعير وجاءت قريش تحاد الله ورسوله التقى الجمعان في يوم الفرقان في بدر في الموضع المعروف ما بين مكة والمدينة .(1/7)
وهوإلى المدينة أقرب، وقعت المعركة وهي أول معركة وقعت في الإسلام (يمكن أن تطلق عليها غزوة بالمعنىالحقيقي)وكان قبلها بدرالصغرى لكن لم يقع فيها قتال ووقعت تلك المعركة وأعلى الله فيها كلمة الإسلام ونصرالله جل وعلا محمداًصلى الله عليه وسلم وأصحابه وردالله القرشيين ردهم على آدبارهم فغنم المسلمون غنائم هذه الغنائم أن الجيش بعدالغزوة في آخر الغزوة انقسم إلى ثلاثه أقسام:.
1/قسم أخذ يحرس النبي صلى الله عليه وسلم خوفاًعليه أن يأتيه أحد من المشركين.
2/وقسم أخذ يجهزعلى من بقي ويتبع فلول أهل الإشراك.
3/وقسم أخذ يجمع الغنائم.فلما انتهى الأمرووقع من وقع من القرشيين في الأصل وقتل منهم من قتل وفر منهم من فر انقضت الحرب ووضعت الحرب أوزارها اختصم المسلمون في الغنائم ممن يأخذها هل أولى بها من حرس النبي عليه الصلاة والسلام أومن جمعها أومن تبع فلول أهل الإشراك.فلما اختصموا فيها لجأواإلىالنبي صلى الله عليه وسلم يسألونه فقال الله:((يسألونك عن الأنفال))قبل أن نشرع في تفسيرالأية النفل هو: الزياده علىالأصل،فالغنيمه:زيادة علىالنصرفي المعركه لأن المطلوب الأول في المعركه النصر فالغنيمه زيادة عليها وولد الولد زيادة على الولد،
ولذلك قال الله عن يعقوب لأن من ذرية اسحاق قال عن إبراهيم (ووهبنا له يعقوب نافلة )أي زيادة على اسحاق لأن اسحاق بن إبراهيم ،فوهب الله يعقوب زياده لإبراهيم على إسحاق الذي هو ولده،فأصبح وهبه ولد الولد والسنن التطوع (صلاة التطوع )زيادة على الفريضة ولذلك تسمى الأولى فريضة ويسمى مايزاد عليها نافله قال الله تعالى:(ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) فهذا أصل كلمة:نافله في اللغة وإيرادها في الشرع إذاً السؤال هنا عن أي نافلة؟ عن الغنائم والغنائم زيادة على النصر نقسم معنى الغنيمه ومعنى الفيء؟(1/8)
الغنيمة:مايناله المسلمون من عدوهم بسعي وإيجاف خيل وركاب. وماناله المسلمون من عدوهم من غير سعي ولاإيجاف خيل ولاركاب كخراج الآراضين أو جزية الجماجم هذا يسمى فيء .إذاً يوجد قسمان يناله أهل الإسلام هما الغنيمة والفيء والمقصود بالأنفال: غنيمة المسلمين يوم بدر بإجماع العلماء أن قول الله جل وعلا:(يسألونك عن الأنفال) أي ماغنمه المسلمون يوم بدر وقلنا إن هذه السوره(مدنيه بدريه) نأتي لكلمة (يسألونك) وردت في القرءآن مراراً مرة بدون واو ومرة بالواو قال الله جل وعلا في البقرة(يسألونك عن الأهلة) وقال جل وعلا في البقرة أيضاً:(يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) وقال جلا وعلا:(يسألونك عن الخمر والميسر...) هذا كله بدون واو وقال جلا وعلا في المائدة :(يسألونك ماذا أحل لهم...) وقال تبارك وتعالى الأعراف (يسألونك عن الساعه...) وقال جل ذكره في الأنفال:( يسألونك عن الأنفال...)وقال تبارك وتعالى في الإسراء:( يسألونك عن الروح) وقال جل وعلا في الأحزاب:( يسألك الناس عن الساعه) وقال تبارك اسمه في النازعات (يسألونك عن الساعه) فهذه سؤلات وردت من الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير واو وجاءفي القرءآن يسألونك مقرونة بالواو قال الله تعالى في البقرة:(ويسألونك ماذا ينفقون) وقال جل وعلا في البقرة :(ويسألونك عن اليتامى) وقال جل ذكره في البقرة: (يسألونك عن المحيض) وقال جل ذكره في الكهف :(يسألونك عن ذي القرنين) وقال تبارك وتعالى في طه:(ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا)فهذا ماتحرر بالواو وما قبلها تحررمن غيروا وبعض العلماءيقول:إن الفرق بينهما:أن يسألونك إذا لم تكن مقترنه بواو يكون السؤال قد وقع من الصحابه وإما إذاكان مقترناًبالواو فإن الله يخبر به لعلمه جل وعلاأنه سيقع والله أعلم .(1/9)
وأنا أقول إذا قلت والله أعلمأو سكت،معناه:أنالاأرجح في المسألة إذا لم نرجح معناه: أن الأمر لم يثبت لدينا بياناً شافياًفيه كدليل والله أعلم، هذامعنى حول كلمه:(يسألونك)كان المفترض:(الله يقول:(يسألونك عن الأهله)الله قال بعدها (قل هي
مواقيت للناس والحج)و(يسألونك ماذا ينفقون)(قل ماأنفقتم من خير فللوالدين والأقربين )(ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا)(ويسألونك عن الروح)(قل الروح من أمر ربي) يأتي الجواب مباشرة.لكن هنا:.قال الله (يسألونك عن الأنفال)ولم يأتي جواب جاء الجواب بعد أربعين آية،أي في الآيه(41)قال الله:)واعلمواأنماغنمتم من شيءفأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم ءامنتم بالله وماأنزلناعلى عبدنا يوم الفرقان يوم يلتقى الجمعان والله على كل شيء قدير)جاءالجواب بعد أربعين آية وهذا من تربية الله للصحابة؛لماذا؟الخطأمن الرجل العظيم ليس كالخطأمن هو أقل منه ترى شاب يلعب بالكرة والمغرب يؤذن لايجوز لكن لأنه شاب تأتيه بيسرلأنك تعرف من عين القدر ومن عين الشرع هذاشاب،فتأديه باللين لكن لايقبل أن تأتي رجل إمام مسجد والآذان يؤذن وهو يلعب كرة.ما يمكن أن تقبل.فيكون تأنيبك للأمام ليس كتأنيبك لشاب... صفوة الأمة هم أهل بدر.والنبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: أما علمت أن الله أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم )والبدريون هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، المهاجرون/الذين تركوا ديارهم وأهليهم في مكة من أجل نصرة الدين.(1/10)
والأنصار/الذين قبلوا أن يأتوا هؤلاء من مكة فيؤونهم ويحمونهم ويتقاسمون معهم الأموال والله يقول:((والذين تبوءا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)) فهم هؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم من المهاجرين والأنصار أعظم أصحاب النبيين على الإطلاق وهم صفوة الأمة والرسول صلى الله عليه وسلم قال في ليلة بدر ينظر إليهم ثلاث مائة وأربعة عشرا رجلاً قال اللهم ))إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً)) فهم رضي الله عنهم وأرضاهم خير أهل الأرض بعد النبيين والمرسلين. فهؤلاء الصفوة يأتي منهم أنهم ما إن تنتهي المعركة يختصمون فيما بينهم على الغنائم أمر لايقبل .(1/11)
فرباهم الله جل وعلا وعاتبهم عتاباً شديداً قال: ((يسألونك عن الأنفال)) ولم يقل هي كذا وكذا وكذا(قل الأنفال لله وللرسول )) أي ليس لكم فيها أي اختصاص والصحابه يعلمون أن كل شيء أمره لله وللرسول عليه الصلاة والسلام يحكم فيه لكن أراد الله أن يؤدبهم(قل الأنفال لله والرسول فاتقوا)إذا علمت هذا أن الله قال في حق بدر (أهل بدر)(فاتقواالله) وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الأحزاب :((ياأيها النبي اتق الله )) إذاًلا يستكبر أحد عن كلمة اتق الله ولا يوجد أحد فوق مستوى النقد كل إنسان عرضه للخطأ وكل إنسان يخطئ يُنقد ويقال له أخطأت ولو كان منزلته أيا كانت،لكن كيف تنقده يختلف، فلا تأتي لإمام مسجد أمام عشرات الناس يصلون وراءه والمئات وتقف تنقده أمام الناس ،هذا ليس من النصيحة في شيء ،ولا تأتي لمعلم أمام طلابه وتوبخه أو تنهره أمام طلابه ولا تأتي لأمير ولا حاكم في خطبة جمعه،تنقده لتذهب هيبته في الناس ولاتأتي لأب تنقده أمام أولاده ولاأم أمام بناتها،من أخلص النية في النقد سيوفق في الطريقه السليمه التي ينقد بها،لكن هنا لماذا اختلف الأمر لأن المعاتب هنا الله،فألمسألة تختلف جذرياً،ليس اختلاف كفؤ لكفؤ ليست نقد كفؤاً لكفؤ،وإنما هذا عتاب من الله لأهل بدر فقال الله جل وعلا لهم:"يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم"أنتم انتصرتم على المشركين والأهم أن تنتصروا على ما في النفوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس الشديد بالصرعه وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"انتصار الإنسان على هوى نفسه وعلى شهواته وعلى حبه للمال ولحب لأن يكون أفضل من غيره وما يدفعه للإستئثار بالشيء هذا الذي ينبغي أن ينتصر عليه فإذا انتصر الإنسان على شهواته نفسه وحبه للكبروالاستعلاءعلى الغيرحقق الإنتصارالعظيم فالله يقول لنبيه ولأصحابه:(فاتقواالله وأصحوا ذات بينكم ) فالصلح:وصفه الله جل وعلا(1/12)
بأنه خيرويقع على عدة طرائق:أولاً: يقع الصلح مابين أهل الإيمان وأهل الكفر ودليله من نفس السوره(وإن جنحوا للسلم فا جنح لها وتوكل على الله) وهذا مرده لولي أمر المسلمين.ثانياً: وصلح يقع مابين فئتين من أهل الإسلام تحترب فيسعى ما بينهمافي الصلح قال الله تعالى:(وإن طائفتان من المؤمنين اقتلوا فأصحوا بينهما).ثالثاً:وصلح يقع مابين الزوج والزوجه قال الله فيه: (فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما....)رابعا: وصلح يقع ما بين الرجل والرجل في خصومات ماليه وهذا لابد فيه من التنازل أي صلح لا بد فيه من التنازل إن لم يتنازل كلا الطرفين عن بعض حقه لا يسما صلح والسعي بين الناس في الصلح من أعظم طرائق الخير قال الله جل وعلا: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقه أو معروف أو إصلاح بين الناس) فالسعي في الإصلاح حتى مما يجوز الكذب فيه شرعا فالصلح بين الناس مما يجوز الكذب فيه شرعاً...(1/13)
فنعود إلى قول ربنا جل وعلى: (فأصلحوا ذات بينكم)أي كونوا أمة متحابة متآلفة لا تفرق بينكم الدنيا ولا الغنائم وهذا تربيه لصفوة الأمة وهم أهل بدر من لدن العليم الخبير جل جلاله (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله والرسول إن كنتم مؤمنين) قبل أن نأتي الآية التي بعدها ننتقل إلى الآية الإحدى والأربعين التي فسرت هذه الأية ثم بعد ذلك بين ألله جل وعلا قسمة الغنائم فقال: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم ءامنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير)هنا قسم الله الغنائم ،حب المال فطرت عليه النفوس،الله يقول:(وتحبون المال حباًجماً)وقال:(وإنه لحب الخير لشديد)وتفسير الخير هنا/المال والله يتكلم عن الإنسان فلا يعقل أن كل الناس يحب الخير الخيرالمعروف الذي هو ضد الشر،لكن الله هنا يتكلم عن المال،(وإنه لحب الخير لشديد)ولذلك لما علم الرب جلاوعلا أن النفوس جبلت على حب المال كان المال الذي يأتي للمسلمين على ثلاثة طرائق:.وكل هذه الثلاث تولى الله جل وعلا بنفسه تقسيمها ولم يكلها إلى أحد ولا إلى نبيه صلى الله عليه وسلم.وهذه الثلاث:.أولاً:الميراث.ثانياً:الغنيمة في الحرب.ثالثاً:الصدقات(الزكاة)والجزيه تدخل في الغنيمه.فهذه كلها تولى رب العالمين تقسيمها فالله جل وعلا قسم المواريث وأعطى كل ذي حق حقه،وقسم جل وعلا الغنائم.قال(واعلموا أنما غنمتم...)إلى آخر الآيه.وجاء إلى الزكاة الشرعية وقال:(إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم)فهذه الثلاثة.((1/14)
المصادر المالية)لم يكل الله تقسيمها لأحد وتولى جل وعلا تقسيمها بنفسه لعلمه تبارك وتعالى بحب الناس وتقاتلهم على المال جعلنا الله وإياكم ممن المال في يده وليس في قلبه ، الذي يعنينا / أن هذا الأمر تولى الله جل وعلا قسمة الغنائم . فجعلها تبارك وتعالى ، جعل الخمس لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)وقد اختلف العلماء في التوزيع لكن نختار منها قول مالك رحمه أنه يسند أمرها إلى الإمام فيعطي القرابة مايراه مناسبا ًلهم ويقسم الباقي ويضعه في المجاهدين الذين معه ، بالطريقة التي يراها مناسبة وقالوا : إن هذا فعل الخلفاء الأ ربعة من بعده صلى الله عليه وسلم نأتي هنا إلى قضية : تقسيم الغنائم على ذوي القربى ، والمقصود بذوي القربى/ قرابة النبي صلى الله عليه وسلم لما قال الله ))واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسة وللرسول ولذي القربى)) أي قرابة النبي صلى الله عليه وسلم ، واختلف العلماء في قرابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين يتم تقسيم خمس الغنائم عليه ،على ثلاثة أقوال :ـ أولاً:قول أنهم قريش كلهم.باعتبارأن النبي صلى الله عليه وسلم من قريش وهذا أضعف الأقوال .ثانياً:وقول آخر: أنهم بنوهاشم فقط وهذا قول مالك رحمه الله والأوزاعي ومن تبعهما من العلماء . ثالثاً:وذهب الإمام أحمد والشافعي وكثير من العلماء وهو الصحيح إن شاء الله أن المقصود بهم بنو هاشم وبني المطلب وليس عبدالمطلب . تفصيل هذا علمياً :.أن النبي صلى الله عليه وسلم اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، هذا هاشم ابن عبد مناف هذا عبد مناف والد هاشم ترك أربعة: ترك هاشماً وعبد شمس ونوفل والمطلب ، ليس عبد المطلب ، هؤلاء أربعة أبوهم واحد.هو عبد مناف،أصبحوا إخوة الأربعة النبي صلى الله عليه وسلم جاء من هاشم فالآن بنو هاشم استحقوا الخمس لأن نسب النبي صلى الله عليه وسلم فهذا أمر معروف.بقينا في الثلاثه:.(1/15)
1/المطلب.
2/ونوفل.
3/عبد شمس.
تركوا أبناءلما جاءت قريش وحاصرت بني هاشم في شعب بني طالب حاصرت النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته من بني هاشم في الشعب وكان لهم ثلاثة أبناء عمومه لهم بنو المطلب،وبنو عبد شمس وبنو نوفل.بنو عبد شمس وبنو نوفل اتفقوامع قريش،بقينا في بني المطلب فقد دخلوا مع بني هاشم في الشعب ليناصروهم،فحفظها النبي صلى الله عليه وسلم لهم،فلما جاء يقسم الغنائم بعد خيبر جاءه من ذرية عبد شمس عثمان بن عفان رضي الله عنه وجاءه من ذرية نوفل/جبير بن مطعم رضي الله عنه وقالا يارسول الله لما وزع الغنائم أعطى بني المطلب وأعطىبني هاشم قالارضي الله عنهما يارسول الله:كونك تعطي بني هاشم هذه لا نعترض لأن الله عزهم بك لكن ما دمت أعطيت إخواننا من بني المطلب فنحن وبني المطلب إخوة فلماذا فرقت بيننا؟فقال صلى الله عليه وسلم:(إن بني المطلب لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام)لأنهم دخلوا معهم في حصار الشعب.ثم شبك بين أصابعه،وقال:إنما بنوالمطلب وبنو هاشم شيء واحد.فأصبح هذاالحديث حجه ظاهره في أنهم يعطون من الخمس كما يعطي بنوهاشم.وفيه مثل يقول:إذا جاء سيل الله بطل سيل معقل.فما دام هذا الحديث نص في الموضوع يعتذر الذين قالوا أنها محصورة في بني هاشم أوعامة في قريش كلها.هذا توزيع الغنائم كما أمر الله جل وعلا وقد بيناه. نعود للسورة الآن .قال جل وعلا ذلك ، بعد أن ذكرنا قضية بدر. وقلنا إن معركة بدر هي أول معركة بين أهل الحق وأهل الباطل .بين المسلمين وبين الكفار. والنبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر بعد أن ألقي فيه الجمع منهم وأخذ يسألهم هل وجدتم ماوعد ربكم حقاً ، فأني قد وجدت ماوعدني ربي حقا،فجاءه عمررضي الله عنه وقال يارسول الله : كيف تكلم أقوام قد جيفوا فقال: يا عمر ماأنت بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لايملكون جوابا قال حسان :
فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا
أصبت وكنت ذا رأي مصيب(1/16)
لكن كتب الله عليهم ما كتب عياذاً بالله هذه معركة بدر وهذه سورة الأنفال التي نزلت تبين الموقعة وتذكر جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تلك المعركة.نعود للسورة نفسها ثم قال الله جلا وعلا انتهى من هذه القضية يربي عباده الصالحين على الإيمان قال:"إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون*الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون *أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم"ذكر الله جل وعلا هنا أصحاب المنازل العالية من أهل الإيمان،المقربون ، أهل الدرجات الرفيعة ،أهل الإيمان الحق الذين اصطفاهم واجتباهم سواء من النبيين أو من أتباعهم إلى يوم الدين.فلم يذكر الله أعياناًًًًًًًًًًًًً باسمائها وإنما ذكر صفات يتحلون بها،جعلتهم مؤمنين حقاً،فقال في أولها " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " والوجل هو الخوف والمعنى: أنهم يصيبهم من الخوف والوجل والطمع والرغبة فيما عند الله ما تقشعر له الأبدان وترتجف له القلوب ثم لا تلبث قلوبهم أ ن تسكن وجوارحهم أن تهدأ بعد ذكر الرب تبارك وتعالى وهذا من أعظم دلائل الإيمان أن يجل قلب المؤمن إذا ذكر الله تبارك وتعالى وهذا من أعظم دلائل الإيمان أن يجل قلب المؤمن إذا ذكر الله تبارك وتعالى فإذا خوف بالله خاف وإذا ذكربالله ذكر وإذا اتعظ بالله وعظ وإذا قيل له اتق الله لم تأخذه العزة بالإثم هذا الذي قال الله عنهم (إنما الؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم....(1/17)
)ثم قال: وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا) فالإيمان يزيد وينقص ينقص بالمعاصي ويزيد بالطاعات وأن مما يزيد إيمان المؤمن تلاوة كلام الرب جلا وعلا بل هذا من أعظم مايزيد الإيمان قال الله تعالى:(وننزل من القرآن ماهو شفاء ورحمة للمؤمنين ولايزيد الظالمين إلاخساراً) والمؤمن ينبغي عليه أن يكون يومه خيرمن أمسه وغده خيرمن يومه، يزداد إيماناًكلما تلى هذا الكتاب العظيم وعلم أن هذا القول قول الله جل وعلا وهذه مناقب ذكرها الله جلا وعلا في الأنبياء وذكرها الله جل وعلا في الرسل وذكرها الله جل وعلا في العامة.قال الله في الأنبياء:(أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم ءايات الرحمن خروا سجداًوبكيا)وقال جلا وعلا عن أهل العلم:"قل ءامنوا به أولا تؤمنوا إن الذين أتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً* ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا* ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً ) وقال الله عن عامة الناس (إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا ءآمنا فاكتبنا مع الشاهدين *ومالنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين* فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهارخالدين فيها وذلك جزاء المحسنين)) فالمؤمن يحاول قدر الإمكان أن يرقى بنفسه إلى مستوى من وصفهم الله ونعتهم من أهل الدرجات العالية ممن وعدهم الله جنانه ومغفرته والرزق الكريم ،جعلني الله وإياكم منهم.(1/18)
ثم قال جل ذكره ( وعلى ربهم يتوكلون ) وهذا متصل بما قبله فإن من رزق الإيمان ومعرفة الله وما لله من كمال عظيم الرحمة وكمال القدرة وجلال العطاء وأن الله جل وعلا لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وأنه يجيب من دعاه ويؤي من لجأ إليه وأنه لا ملجأ ولا منجأ منه تبارك وتعالى إلاإليه صدق توكله على الله ، فذكر الله جل وعلا في الأول ثلاثة من صفات القلوب وهي:أولاً:الوجل أي الخوف . ثانياً:ثم ذكر زيادة الإيمان ثالثاً:ثم ذكرالتوكل وكلها أعمال قلوب . ثم انتقل جل وعلا إلى أعمال الجوارح وقال:(والذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) والصلاة أعظم ما افترضه الله جل وعلا على عباده وخلقه بعد الشهادتين بها يتقرب العبد إلى ربه ولذلك فرضت الصلاة في رحلة الإسراء والمعراج فلما كان صبيحتها كما قال سعيد بن جبير وغيره. صبيحة ليلة الإسراء المعراج بعد أن زالت الشمس يعني عند حلول وقت الظهرنزل جبريل من السماء فأم النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت فكانت أول صلاة فرضت من الصلوات الخمس صلاة الظهر أمَّ بها جبريل نبينا صلى الله عليه وسلم ليومين متتاليين صلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر في أول وقته ثم صلى به كرة أخرى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر في آخر وقتها وقال له بعد ذلك وهو يعلمه الصلاة ما بين هذين الوقتين أي ما بين هذين كله كله صلاة. والمؤمنون حتى في الصلاة يختلفون: من الناس والعياذ بالله من لا يصليها وهذا محال أن يطلق عليه مؤمن ومن الناس والعياذ بالله من يصليها في بيته من غير عذر ومنهم من يأتي إلى الجماعة ومنهم من هو أرقى درجة وأرفع منزله يسابق إلى التكبيرة الأولى قال صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي بسند حسنه العلامة الألباني رحمه الله:(( قال من صلى لله أربعين يوماً يدرك التكبيرة الأولى .((1/19)
أي تكبيرة الإحرام ) كتبت له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق)) وفقنا الله وإياكم لهذا العمل ثم قال جل وعلا يختم أعمالهم ((ومما رزقناهم ينفقون )) فالإنفاق مما آتاك الله حسن ظن بالرب جل وعلا وأن الله قادر على أن يعوضك وقد جاء في الأثر. لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله قال:ورجل تصدق بصدقه فأخفاهاحتىلا تعلم شماله ماتنفق يمينه ثم لما ذكر الرب تبارك وتعالى صفاتهم ونعوتهم والسرائر أمرها إلى الله،ذكر الله جل وعلا ما أعد لهم فقال عنهم(أولئك هم المؤمنون حقاً)ولا يعني ذلك أن من لم يبكي بخشية الله ليس بمؤمن، لأن الله يتكلم هنا عن أهل المنازل العالية ولايتكلم عن الإيمان الذي يفرق به من الإيمان والكفر فربما رجل هذه الخمس تجتمع فيه بعضها،ولا يجتمع فيه كلها فلا يقال عنه/أنه ليس بمؤمن،كل من شهد أن لاإله إلا الله وأن محمداًرسول الله ورضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا فالأصل أنه مؤمن،ثم أهل الإيمان يتفاوتون والأعمال قرينة الإيمان لا انفكاك بين الإيمان والعمل الصالح.ثم قال الله(أولئك هم المؤمن حقاً لهم درجات عند ربهم..(1/20)
)أي لهم درجات عالية في الجنة، والجنة لها ثمانية أبواب في صورة أفقية ويأتي عليها يوم وهي كضيض من الزحام وفي داخل الجنة درجات متفاوتة ولقد سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه عن أهل الدرجات العلى فقال الله جل وعلا كما في الحديث القدسي(أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي،فلم تسمع أذن ولم ترى عين ولم يخطر على قلب بشر)وقال الله في سورةالسجدة(فلا تعلم نفس ماأخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)والله لو أن ملكاً من ملوك الدنيا أجرى مسابقة وقال لمن يفوزبها أعطيه جائزة يتوقعها لتسابق الناس إليها لعلمهم أن هذا الملك لايمكن أن يعطي جائزة وضيعة يعير بها وأن الناس يتوقعون أن ينال هذا الفائز أعظم شيء مادام الملك قد أخفاه لأن الملك سيعطي على قدر ملكه فكيف إذا كان المانح والمعطي ومخفي الجائزة رب العالمين جل جلاله،من بيده خزائن السموات والأرض وله جل وعلا السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى فقال الله:(أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي)"فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون" كما في الآية.ثم قال:(ومغفرة) دلالة على أن هؤلاء الذين هم المؤمنون حقاً لا يمكن أن يكون قد خلوا من الذنوب كلها هذا محال لا يمكن أن يوجد أحد خلى من الذنوب كلها،كلنا متكلم وسامع ومن قبلنا ومن بعدنا كلنا ذو خطأ ولن ندخل الجنة بأعمالنا لكن المؤمن شبه النبي صلى الله عليه وسلم كالفرس المعقود حبله في مكان ثابت مهما بعد يعود إلى مكانه ، مهما نأى يعود إلى مكانه كذلك المؤمن ،فالمسلم مهما نأت به المعصية أحياناً يفئ إلى ربه ويرجع إلى مولاه ويجدد التوبة ويسأل الله غفران الذنوب ويأتي بالحسنات علَّ الله أن يكفر بها ما سلف من الخطايا قال الله:(( إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى لذاكرين)) وإن كنت قد ابتليت بنوع من المعاصي فليس الحل أن تبقى على أن تبقى على تلك المعاصي وتداهن أهلها وتبقى معهم الحل :(1/21)
أن تتوب وترجع ولأن تلقى الله وأنت خلطت عملاً صالحاً وآخرسيئاً خير لك من أن تلقى الله وليس لك من العمل الصالح شيء ، والمؤمن حصين عاقل يعلم أن الله يغفر الذنوب ويقبل التوبة والله جل وعلا يقول في الحديث القدسي ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأن أغفر الذنوب جميعاًً فاستغفروني أغفر لكم) فالله جل وعلا وسعت رحمته كل شيء وباب توبته مفتوح وهو جل وعلا يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل فلا انفكاك من التوبة والأوبة والرجوع إلى الله جل وعلا ثم قال سبحانه :((ورزق كريم )) وهذا الرزق جاء بعضه في القرءآن قال الله عن أهل الجنة: ((كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأوتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواج مطهرة )) يقطف أحدهم الثمرة فما أن يقطفها وتقع في يده إلا وتحل محلها أخرى مثلها تماما فإذا أخذوا الثانية ورجعوا إلى الثالثة قالوا : ((هذا الذي رزقنا من قبل وأوتوا به متشابها ))كما قال الله ((ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيهاخالدون))اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد أنت ربنا لا إله إلا أنت لا رب لنا غيرك ولا إله سواك أنت خالقنا ورازقنا ، ولي نعمتنا وملاذنا عند كربتنا ، نسألك اللهم في هذه الليلة المباركة أن تصلي على محمد وعلى آله وأن تسلم تسليماً كثيرا وأن تغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها سرها وعلانيتها أولها وآخرها اللهم تب على من تاب من يارب العالمين اللهم تب علينا جميعاً ياذا الجلال والإكرام اللهم من حضر درسنا هذا يريد أن يتقرب إليك ويسدرف إليك فاللهم تب عليه وأعنه على نفسه يا ذا الجلال والإكرام وأكرم مجيئه يا حي يا قيوم وارزقه التوبه النصوح الصادقه إليك يا ذا الجلال والإكرام اللهم إن لنا من الذنوب والخطايا ما لا يعلمه غيرك ولا يعرفه سواك فاغفر(1/22)
اللهم لنا ذنوبنا أجمعين ياذا الجلال و الإكرام واجعلنا اللهم مباركين أينما كنا لا إله إلا أنت اغفرلنا ولوالدينا ولمن له حق علينا ورزقنا اللهم من فضلك واغننا بفضلك عمن سواك اجعلنا اللهم من افقر خلقك إليك واغنا عبادك بك لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين (سبحان ربك رب العزة عما يصفون *وسلام على المرسلين * والحمد لله ربالعالمين ) .(1/23)
تأملات في سورة التوبه(1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلىآله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره وتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين ...أما بعد..فهذا هو اللقاء المتجدد حول تأملات لنا لكتاب ربنا جل جلاله وقد كنا قد انتهينا إلى سورة الأنفال وسنشرع اليوم إن شاء الله تعالى في تأملات في سورة التوبة سائلين الله جل وعلا التوفيق لما يحبه ويرضاه والعون والسداد على التأمل فيها ...على أنني أكرر ما أقوله دائما إن المخاطب في مثل هذه التأملات هم طلبة العلم في المقام الأول ولهذا يهمنا جدا أن نعرج على مافي الآيات من مسائل علميه يحسن تدوينها والمقصود من هذه الدروس وأضرابها المقصود من ذلك كله إنشاء جيل قرءآني يتدبر القرآن وهذه مساهمة لا أكثر ولا أقل في إحياء جيل ينشأ على تدبر القرآن لأن الله جل وعلا نعى إلى أهل الإشراك إغفالهم عن القرآن بقوله (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)فإننا نقول مستعينين بالله جل وعلا سورة التوبه سورة مدنيه وعدد آياتها/مائتان وتسع وعشرون آية وهذه السورة من آخر ما نزل من القرآن كما ثبت عند البخاري في صحيحه في كتاب التفسير من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه (أن سورة براءه من آخر مانزل) وليس المقصود بأنها آخر ما نزل كآيه وإنما كسورة مجمله هي آخر ما نزل وإلا كآيه قد عرجنا عليه في مسائل عدة .اختلاف العلماء في آخر مانزل منهم من قال (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) وهو الأظهر.(1/1)
ومنهم من قال إنها آية المائدة (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) وقيل غير ذلك لكن هذين هما المشهوران الذي يعنينا أن سورة التوبه هي آخر مانزل وقبل أن نشرع في تفسير الست الآيات الأول منها نقدم اجمالا عن هذه السورة، النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله جل وعلا عليه القرآن أول ما أنزل (اقرأ باسم ربك الذي خلق) فكان لم يؤمر صلى الله عليه وسلم بأن يبلغه إلى الناس كان يقرأه بينه وبين نفسه ومن سنة الله في خلقه التدرج وعدم اعطاء الشيء دفعه واحدة فمن رام شيئا دفعه واحدة سيسقط عما قليل ولكن الله جل وعلا له سنن لاتتبدل ولا تتغير والله لايعجل لعجلة أحد من خلقه والله يقول لعبده (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) فلا يعطى الإنسان العطايا مره واحدة وإنما يتدرج فيها على هذا بنيت الدنيا...(1/2)
على هذا أجرى الله السنن في الكون، فهذا النبي الكريم أنزل عليه (اقرأ باسم ربك الذي خلق)ولم يقل له (ادع الناس) ولم يقل له"اتل القرآن على الناس"ولم يقل له شيء من ذلك فلما نزل من ذلك الجبل خائفا وجلا وضمته زوجته خديجه رضي الله عنها وءآوته واطمأنت نفسه أنزل الله جل وعلا عليه (يا أيها المدثر* قم فأنذر) ينذر من؟أنزل الله عليه(وأنذر عشيرتك الأقربين) الذين حوله ولم يؤمر بأكثر من هذا ثم بعد ذلك أمر بالعرب الذين في مكه وحولها قال الله (لتنذر أم القرى ومن حولها) والقرآن يجب أن يفهم مقرونا بالسنة لأن من أخطاء من وقع في كتاب ربنا جل وعلا أنهم فهموا القرآن مجزوءا ولم ينظروا إلى سيرته صلى الله عليه وسلم وسنته حتى يفهم القرآن ومن أراد أن يفهم القرآن من غير السنه ومن غير سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فلن يفهم شيئا وهذا هو الذي وقع فيه الخوارج الأولون لما حاربوا حتى الصحابه لأنهم يفهموا مراد الله على ماأراده الله من رسوله صلى الله عليه وسلم فالله يقول(لتنذر أم القرى ومن حولها)لكن لايقصد الله بهذا نهاية النذارة وإنما التهيئه تدريجيا ثم أمره الله بأن ينذر العرب قاطبة ثم لما مكن الله له في الأرض صلوات الله وسلامه عليه وعقد صلح الحديبيه مع أهل مكة واطمأن من مقاومتهم أخذ صلى الله عليه وسلم يأتي بعالمية الدعوة ويراسل الملوك والزعماء آنذاك ليحقق قول الله جل وعلا(تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) وقوله جل وعلا(وماأرسلناك إلا رحمة للعالمين) في ظل هذا المفهوم يفهم الإنسان المقصود من سورة التوبة هذه السورة قلنا إنها من آخر مانزل في عام تسع من الهجره في شهر رجب خرج النبي صلى الله عليه وسلم بجيش العسرة إلى تبوك وقد قلنا في أكثر من درس أن هذه الغزوة سميت في القرآن بغزوة العسرة قال الله جل وعلا (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) وسماها النبي صلى(1/3)
الله عليه وسلم في السنه/ غزوة تبوك ولذلك الإمام البخاري رحمه الله لما تكلم عنها قال "باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة"حتى يجمع بين تسمية السنه وتسمية القرآن. المقصود في عام تسع من الهجرة خرج صلى الله عليه وسلم في جيش العسرة إلى تبوك هذا الظرف الذي كان في جيش العسرة، كان فيه شح في المال وظهور في الثمار وحرا في المناخ أصاب الناس فتن فانقلبت الناس، كانوا أقسام في اتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم .منهم المثبطون، المحبطون، الناصرون، البكاؤون...فرق شتى فنزلت هذه السورة تبين حال المجتمع المدني وقت أن دعا النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة واستنفر الناس إلى غزوة العسرة بينتهم بجلاء فكشف الكثير من الأسرار كما سيأتي ثم بعد ذلك بعد عودته صلى الله عليه وسلم من تبوك لما عاد من... تخوم البلغاء وأذعن له الروم عامة بمعنى أنه لم يحصل حرب لكن اطمأن صلى الله عليه وسلم أن الروم لن تغزوه فرجع من تبوك لما لم يجد قتالا رجع إلى المدينة أراد صلى الله عليه وسلم أن يحج في العام التاسع ثم قال: إن العرب تحج وهي عراة وأنا لاأريد أن أحج على هذا الوضع فأمر أبا بكر رضي الله عنه أن يخرج بالناس حاجا .(1/4)
أمير على الحج لأن مكه كانت قد فتحت في العام الثامن ونحن نتحدث في العام التاسع فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أميرا على الحج ثم بعد ذلك اتبعه بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ليظهر في الناس مقدمة سورة براءه فمقدمة سورة براءه الآيات الأول من سورة براءه الخمس الأول أوالست الأول من سورة براءه وإن كانت في مقدمة السورة إلا أنها من آخر مانزل في نفس السورة ،لأن السورة تكلمت عن المنافقين وعن حالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم مابين رجب إلى ذي الحجه ثم جاءت مقدمة السورة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها في المقدمه فالقرآن ترتيبه الآن الذي نقرأه ليس على ترتيب نزوله من أهم مايجب أن تعلمه أن ترتيب القرآن على مانقرأه ليس على ترتيب نزوله فالفاتحه مثلا أول القرآن لكنها ليست أول سورة فالآيات الخمس من سورة العلق هي أول مانزل، فترتيب القرآن ليس ترتيبا حسب النزول وإنما لحكمه توقيفيه آرادها النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه كان يملي الكتبه ويقول افعلوا كذا... واتركوا كذا... وضعوا الآيه في مكان كذا... والسورة بعد كذا... فترتيب القرآن ترتيب سور المصحف ترتيب توقيفي من النبي صلى الله عليه وسلم نفذه الصحابه .الذي يعنينا هذا هو المناخ العام لفهم سورة التوبه إذا ينجم عن هذا أن سورة التوبه ذكرت مواضيع عدة لكنها يمكن أن يقال أن موضوعين رئيسيين تضمنتها سورة التوبة:ـ الموضوع الأول :ـ علاقة المسلمين بالمشركين وأهل الكتاب.(1/5)
الموضوع الثاني:ـ كشف أسرار المنافقين وحال الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينه وفي جيش العسرة على وجه الخصوص .هذان الموضوعان الرئيسيان اللذان تعرضت لهما سورة التوبه قال الله جل وعلا (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين *فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين*وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم...)إلى آخر الآيات إلى أن قال الله (وإن أحد من المشركين استجارك...) الأيه السادسه هي سنتكم عنها في لقاء هذا اليوم أول ما يلفت النظر في هذه السوره أنها ليست مصدره بالآيه الشهيره (بسم الله الرَّّحمن الرَّحيم) ولذلك اختلف العلماء لماذا لم تصدر سورة براءه بـ (بسم الله الرَّحمن الرَّحيم) على أقوال عده:ــ
أشهر هذه الأقوال ثلاث:ــ
وسنبدأ بالأضعف ثم الأقوى ثم ما نره راجحا على عادتنا في التفسير..
*أما الأضعف: فقد قيل إن من أسباب عدم ذكر( بسم الله الرحمن الرحيم) في أول سورة براءة أنها جرت عادة العرب أنه إذا كان ما بين قوم وقوم عهد فأراد أحدهم أن ينقضه كتبوا إليهم كتابا غير مصدر بالبسمله وهؤلاء يعنون بكلمة (بسم الله الرحمن الرحيم) (باسمك اللهم) هذا قول ذكره العلماء وهو أضعف الأقوال...
القول الثاني:ــ(1/6)
ما رواه الحاكم في المستدرك وأحمد في المسند من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:ــ أن ابن عباس سأل عثمان ابن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال له: لما جعلتم سورة الأنفال وهي من المثاني وبعدها سورة التوبة وهي من المئين ولم تجعلوا بينهما (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه لابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت إذا نزلت عليه السوره أو الآيه يقول ضعوها في مكان كذا في سورة كذا بعد كذا وكذا وإن سورة الأنفال من أول ما نزل بالمدينه وإن سورة التوبة من آخر مانزل فمات النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يبين لنا هل هما سورة واحده أم لا فاختلف الصحابه فمنهم من قال إنهما سورة واحده ومنهم قال إنهما سورتان فلم يفصلوا بينهما وجعلوا بينهما فرجه حتى يعرف أنهما سورتان منفصلتان ولم يكتب بينهما (بسم الله الرحمن الرحيم) حتى يبقى قول من قال إنهما سورة واحده يعني/ الصحابه تراضوا على هذا القول أنهم جعلوا بينهما فرجه حتى يرضوا من قال أنهما سورتان ولم يكتبوا (بسم الله الرحمن الرحيم) بينهما حتى يرضوا من قال: أنهما سورة واحده هذا القول اختاره العلامه الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان وقال: كعادته قال: مقيده عفى الله عنه وهو أظهر الأقوال عندي "عند الشنقيطي رحمه الله" هذا بناء على صحة الحديث والحديث رواه الحاكم كما قلت وقال صحيح على شرطيهما ولم يخرجاه (أي على شرطي البخاري ومسلم) ولم يخرجاه معناه/ لم يذكراها في الصحيحين هذا على صحة الحديث وقلت رواه أحمد في المسند ورواه البيهقي في السنن لكن قال الألباني رحمه الله: إن الحديث ضعيف وأغرب منه قال العلامه أحمد محمد شاكر محقق كتاب المسند قال: إن الحديث موضوع لا أصل له وهذا صعب أن يقال لكني لم أطلع إلى الآن على نص كلامه لكن كلامه مثبت في مكان آخر.(1/7)
قال: إن الحديث موضوع لا أصل له والحق أن المتن يؤيد قول أحمد محمد شاكر رحمه الله لأن الحديث فيه إن النبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يبين لنا هل هما سورة أو سورتان هذا صعب أن يقال فمتن الحديث يساعد على قول العلامه أحمد محمد شاكر أن الحديث لا أصل له وقلت: إن الألباني رحمه الله يقول إن الحديث ضعيف أما من رأى صحة الحديث من العلماء كالترمذي حسنه أخذ به وذهب إلى أنه ما دام حسنه فهو صحيح عنده والأثر مقدم على العقل مقدم الأثر على الرأي عند كثيرين فلذلك اختار الشنقيطي رحمه الله القول بأن أظهر الأقوال هو هذا القول المحكي عن عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه...
القول الثالث:ـــ(1/8)
مروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعن سفيان بن عينيه المحدث المشهور وهذا القول هو الذي عليه أكثر العلماء وهو الذي نراه ونرجحه ونختاره والله أعلم، وهو أن سورة براءة نزلت بالسيف و (بسم الله الرحمن الرحيم) فيها أمان ورحمه والأمان والرحمه لا يتفق مع السيف وسورة براءة نزلت بالسيف والبراءه من أهل الإشراك وقوة الحجه على المنافقين وهذا لايتفق مع قوله جل وعلا (بسم الله الرحمن الرحيم) هذا مجمل الأقوال الثلاثه التي ذكرها العلماء رحمهم الله في قضية لماذا لم تصدر سورة براءة بقول الرب جل وعلا (بسم الله الرحمن الرحيم) وخلاف العلماء فيه بقية... الأقوال يجب أن لا ينظر فيها لأنها بعيده جدا فيما نحسبه عن الصواب والله تعالى أعلم نعود إلى السوره:ـ قال الله في أولها: قبل أن نذكرها تفسير تفصيلي نقول: هذه السورة من أسمائها سورة الفاضحه وهذا مروي عن ابن عباس لأنها فضحت أحوال أهل النفاق وقد قال سعيد بن جبير تلميذ ابن عباس أحد مشاهير التابعين خرج على الخليفه عبد الملك بن مروان فقتله الحجاج بن يوسف بأمر من عبد الملك بن مروان في فتنة عبد الرحمن بن الأشعث طبعا أنا أؤكد على من هم المفسرون وأذكر طرفا من أخبارهم لأنك تدرس تفسير فينبغي أن تعرف الأحاديث المعينه في التفسير والعلماء الذين تصدروا أهل التفسير وسعيد بن جبير هذا عرض القرآن على ابن عباس من أوله إلى آخره ثلاث مرات ، يستوقفه عند كل آيه ولما قتل الحجاج سعيد بن جبير بعد ذلك بسنين قال الإمام أحمد رحمه الله: قتل الحجاج سعيدا وما من أحد من أهل الأرض إلا وهو مفتقر إلى علم سعيد وقلنا إن سبب قتل الحجاج لسعيد بن جبير أنه خرج مع عبد الرحمن بن الأشعث على عبد الملك بن مروان الخليفه الأموي المعروف الذي يعنينا أن سعيد بن جبير يقول: سألت ابن عباس عن سورة براءة فقال: هي الفاضحه ما زال ينزل ومنهم... ومنهم... ومنهم...(1/9)
يعني يذكر الله فيها المنافقين (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا....) إلى آخر الآيات فما زال ينزل ومنهم ومنهم ...حتى خفنا ألا تدع أحد منهم فلذلك سميت بالفاضحه لأنها فضحت أحوال أهل النفاق عياذا بالله هذا ما يتعلق بتسمية السورة وقد أوصل الزمخشري رحمه الله في كتابه [الكشاف] عدد أسماء السورة إلى أربعة عشر. والزمخشري عالم لغوي شهير لكن عقيدته عقيدة المعتزله فجار الله الزمخشري رحمه الله وعفا عنه من مشاهير المعتزله ودافع عن مذهبهم دفاعا صلبا وإن كان من أفذاذ العلماء في اللغه والذي يعنينا الآن الرجل مات وأفضى إلى ما قدم الذي يعنينا العلم وقد ذكر أربعة عشر اسما في السوره لكنها كلها يدور في فلك واحد كلها يدور حول قول سعيد ابن جبير أنها الفاضحه هذا ما ذكرناه في سبب عدم تصدر السوره (بسم الله الرحمن الرحيم) وقلنا إن من أسمائها الفاضحه قال الله فيها: ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) يوجد مُتَبَرِئْ ويوجد مُتَبَرَأْ منه فالمُتَبَرِئْ/" الله ورسوله..."
والمُتَبَرَأْمنه/" من الذين عاهدتم من المشركين..."
البراءه/ الإنفكاك والتخلص من الشيء ولا تكون البراءه من شيء إلا إذا كنت لا تريده بالكليه وهي أعظم صفات الإنفكاك من الأشياء فأنت إذا تعاملت مع أحد وأخذت صك براءه فلا يستطيع خصمك أن يطالبك بأي شيء لانفكاك تماما عنه فالله جل وعلا يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس هذه طبعا براءه: خبر لمبتدأ محذوف تقديره/"هذه براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين" النبي عليه الصلاة والسلام كان الناس حوله ثلاثة أقسام:ــ
1/ أهل حرب.. 2/أهل ذمه.. 3/ أهل عهد..
1/أهل الحرب:ـــ
الذين يحاربونه والذين مازال بينهم وبينه حروب....
2/أهل العهد:ـــ
الذين في الأصل هم محاربون لكن يوجد عهد لمده معينه....
3/ أهل الذمه:ـــ(1/10)
غير مسلمين يعيشون تحت حكم المسلمين، كاليهود الذين كانوا أفرادا في المدينه هؤلاء يسمون أهل ذمه.
الخطاب هنا ليس موجها لا لأهل الحرب ولا لأهل الذمه موجه لأهل العهد (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) هذه البراءة فيها (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين) معنى الآيه يأخي: أن من كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد أو لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فقد جعل الله لهم أربعة أشهر هذه الأربعة أشهر حرم الله فيها على المسلمين قتال أهل الإشراك قال لهم (فسيحوا في الأرض) الخطاب/ للمشركين سيحوا في الأرض أي اقبلوا وادبروا...سافروا...اذهبوا كيفما شئتم..لن ينالكم أذى من المسلمين هذا بأمر من الله لكن بعد الأربعة أشهر ينتهي الأمان..كما سيأتي..
((1/11)
فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ثم قال الله (واعلموا أنكم غير معجزي الله) أي وإن أذن الله قدرا وشرعا أن تبقوا أربعة أشهر تسيحون في الأرض إلا أن ذلك لا يعني أبدا خروجكم وانفكاككم عن سلطان الله لأن هذا العطاء من الله أصلا (وأن الله مخزي الكافرين) الخزي في الكافرين واقع لامحاله في الدنيا والآخره واقع في الدنيا/ بالحرب والقتل والأسر وبما يقع فيه من التعذيب والنكال. ويقع في الأخره قطعا/بشيء واحد هو عذاب النار(فسيحوا في الأرض أربعة أشهر)يجب أن تعلم أن المخاطب بها :المشركين لذلك لايجوز نزع الآيه من سياقها والاحتجاج به وقد قرأت مرة لأحدهم يكتب عن السياحه وعلى أنه يجوز للمؤمن من السياحه مطلقا في أي ديار فقال فإن السياحه مباحه قال الله جل وعلا (فسيحوا في الأرض) وهذا إخراج النص من سياقه ووضعه في موضع غير موضعه هذا (فسيحوا في الأرض)مخاطب بها/المشركون والمقصود أنه لكم أمان من الله .(1/12)
أن تبقوا في الأرض أربعة أشهر أعطاكم الله إياها حتى يراجع المرء منهم حسابه ويتدبر في أمره ربما يفيء على أمر الله،بعد ذلك ينتهي الأمان الذي أعطاهم الله جل وعلا لهم ثم قال الله (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الكافرين بعذاب أليم) الأذان في اللغه/ هو الإعلام ،هذا الأذان تولاه علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه النبي صلى الله عليه وسلم قدمنا أنه بعث أبو بكر رضي الله عنه أميرا على الحج فلما وصل أبو بكر رضي الله عنه إلى ذو الحليفه بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعده علياً وأبو بكر رضي الله عنه حج بالناس وهو على ناقة النبي صلى الله عليه وسلم العظباء أميرا على الحج في العام التاسع فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم مقدمة سورة براءة أعطاها لعلي رضي الله عنه فأخذها علي رضي الله عنه حتى لحق بأبي بكر رضي الله عنه لذي الحليفه المسماه اليوم (بأبيار علي) طبعا لا علاقه لعلي بها وإنما التسميه هذه جاءت متأخره أما على عهد الصحابه والتابعين لم تسمى (أبيار علي) وإنما هذه سميت متأخره للرجل اسمه علي مجهول لا يعرف لكنها مذكوره في التاريخ القديم الذي يعنينا وصل علي رضي الله عنه إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال أبو بكر لعلي وهذا من أدب الصحابه بعضهم مع بعض قال له: أمير أم مأمور فقال علي رضي الله عنه: بل مأمور هذه البراءه لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ من أهل الإشراك وأن يبين حاله مع مشركي العرب، والإسلام دين واضح لا خداع فيه ولا تمويه لما أمر الله نبيه أن يفعل هذا جرت العاده أن مثل هذه الأمور لا يبلغها إلا الرجل بنفسه أو رجل من عصبته ولا شك أنه من حيث القرابه والعصبه واللصوق بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن عليا أقرب للنبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر رضي الله عنه وإن كان أبو(1/13)
بكر أفضل من علي رضي الله عنه قطعا لكن علياً ألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر بل ألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم من كل أحد لأنه زوج ابنته وتربى في حجره وابن عمه وقد قال الإمام أحمد رحمه الله لم يجمع لأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الخصائص ما جمع لعلي رضي الله عنه وهو الذي تولى غسله عليه الصلاة والسلام فالصحابه الذين من آل البيت كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم أيام وفاته كانوا إما يحملونه صلى الله عليه وسلم يعني العباس كان مسند يده ظهر النبي صلى الله عليه وسلم عليه وأسامه كان يسكب الماء لكن كان الذي يباشر الماء علي رضي الله عنه ولما نزلوا في حفرته عليه الصلاة والسلام كان علي من باشر دفنه صلوات الله وسلامه عليه فعلي من حيث القرابه ألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم من كل رجل وإن كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وله مزيه لكن تأخر إسلام العباس جعل لعلي تلك المنزله فالرسول صلى الله عليه وسلم حتى يبين للعرب الذين لهم أعراف وعادات يحكمها النظام القبلي القديم أبقاه النبي صلى الله عليه وسلم وبعث عليا بالبراء بفواتح سورة براءة مع أبي بكر رضي الله عنه فكان الأمير هو أبو بكر رضي الله عنه وإنما تبليغ البراءه مسند إلى علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه الله يقول :(وأذان من الله ورسوله إلى الناس) الآن لم يقل الله ما هو الآذان ما هو الإعلام (إلى الناس) ذكر الله الزمن تشويقا (يوم الحج الأكبر) واختلف العلماء رحمهم الله بما هو المقصود بيوم الحج الأكبر على أقوال: لكن هذه الأقوال تزدحم أخيرا في قولين وقولنا دائما من قواعد العلم..(1/14)
ضيق المسافات حتى تصل إلى قمة الهرم فذكرت أقوال عده تضيق منها من قال :أنه يوم عرفه وهو منقول عن كثير من الصحابه والذي عليه أكثر العلماء وأهل التحقيق أنه يوم النحر وسمي يوم الحج الأكبر لأنه لا تجتمع أعمال الحج في يوم كما تجتمع في يوم النحر والذي يظهر والله أعلم أنه يوم الحج الأكبر هو يوم النحر الآن إلى هنا لم يقل الله ما هو الأذان قال الله:(وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله..) والغايه المجمله من الآيه براءة الرب جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم من أهل الإشراك وهذا يدل على أنه ليس بين المؤمن والمشرك في الأصل أي عقد من الولايه وبين كل مؤمن ومؤمن عقد من الولايه بأصل الإيمان فمهما اختلفت اللغات والجنسيات وتباعد الديار وما أحدثه الإستعمار من فرقه إلا أن الله يقول: (إنما المؤمنون إخوه) فأنت ومنهم في أقصى الشرق أو في أقصى الغرب إخوان في المله والدين ولو أن أخاك من أمك وأبيك لا قدر الله كان كافرا فليس بينك وبينه أي ولايه لا ترثه ولا يرثك والله يقول عن إمام الحنفاء إبراهيم:(فلما تبين له) أي أن أباه (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) والمقصود من هذا أن الله جمع المؤمنين بتوحيده وخالف بينهم وبين أهل الإشراك لأنهم أشركوا فقال الله:(وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله) هذه البراءه لم يكن وحدها التي ذهب بها علي وإنما أمر علي أن ينادي في الناس بأربعة أمور: 1/أن لا يطوف بالبيت عريان وكانت قريش تسمى نفسها الحمس ويقولون لمن يقدم عليهم من خارج مكه لا يجوز أن تطوف في ثياب فأنت واحد من أمرين:ــ إما أن تشتري ثوبا قريشا أو تأخذ ثوبا من أحد قريش أو أن تطوف عريانا فكان الناس بعضهم يطوف عراة على فقه قريش فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن ينادي بألا يطوف بالبيت عريان..(1/15)
2/ أن لا يدخل مكه بعد هذا العام مشرك وهذه قالها الله في كتابه: ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) فلا يقرب المسجد الحرام مشرك..3/ من كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته.4/ أنه لا يدخل الجنه إلا نفس مؤمنه..ختم الله لنا ولكم بالإيمان وأدخلنا الله وإياكم الجنه.هذه هي التي أذن بها علي رضي الله تعالى عنه في الحج (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله...)نأتي عند "ورسوله" وقلنا هذا الدرس علمي هذه "ورسوله" الواو هنا تحتمل احتمالين:ـالإحتمال الأول/ أن تكون عاطفه والإحتمال الذي عليه القراءه اليوم وهي أن تكون:ـ استئنافيه فإن كانت عاطفه فلها من حيث التصور احتمالان: الإحتمال الأول/ والإعتقاد به كفر أن يقرأها القاريء (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسولِه..) فتعطف الرسول صلى الله عليه وسلم على المشركين فيصبح معنى الآيه في غير القرآن أن الله متبرأ من المشركين متبرئ من رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قرأها أعرابي بهذه الصوره/ سمع رجلا يلحن لا يعرف قواعد اللغه وعنده أعرابي قليل الفقه الرجل العامي يقرأ: (أن الله برئ من المشركين ورسولِه) فقال الأعرابي: برئت من رسول الله برئت فيمن برأ الله منه هذا السبب كان فيه سبب أحد أسباب قيام علم النحو فإن أبا الأسود الدولي يقولون/ أنه لما سمع هذا الأعرابي ذهب إلى علي رضي اله عنه وأخبره الخبر فقال له: انحُ للناس نحوا فصنع علم النحو طبعا هذه لا يقولها مسلم إلا جهلا ولا تجد مسلما يعتقدها أو يقولها هذا الإحتمال الأول من حيث النحو لكنه لا يمكن أن يقع شرعا..(1/16)
الإحتمال الثاني/أن تكون رسوله معطوفه على لفظ الجلاله فتؤتى بالنصب فيصبح المعنى (أن اللهَ برئ من المشركين ورسولَهُ) فتصبح "ورسوله" معطوفه على لفظ الجلاله والمعنى هنا يستقيم وبه قراءة..الحاله الثالثه:ـ (أن الله بريء من المشركين) وتقف وتأتي الواو استئنافيه كلام جديد والمعنى: ورسوله كذلك بريء من المشركين.وهنا الواو تسمى استئنافيه وحق الاسم هنا أن يرفع لأن مابعد واو الإستئنافيه يعرب مبتدأ . (فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله)والخطاب للمشركين.(وبشري الكافرين بعذاب أليم)ثم قال الله جل علا (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد )هذه الآية قبل أن أفصل فيها تسمى آية السيف.طبعا عرفنا أن فيه سور من القرآن لها أسماء لكن ينبغي أن تعلم أن هناك آيات من القرآن لها أسماء وأنا سأراجع اليوم معكم أربع من آيات القرآن المسماه أشهر آية في القرآن مسماه :آية الكرسي وهي قول الله جل وعلا (الله لاإله إلا هو الحي القيوم....) الآية الخامسه والخمسون بعد المائتين من سورة البقره ثم بالترتيب :آية الدين أو آية المداينة اسم واحد وهي الآية الثانيه والثمانون بعد المائتين من سورة البقره (يأيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ...)إلى آخر الآية.والآية الثالثة:آية المباهلة الواحدة والستون أوالثالثة والستون من سورة آل عمران .(فمن حاجك فيه من بعد ماجاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين)الآيه الرابعه:ـ آية السيف وهي الخامسه من سورة براءة.(1/17)
سميت آية السيف لأن الله أمر فيها بالقتال وقال بعض العلماء /إن هذه الآية ناسخة لكل مافي القرآن من أمور الكف والإعراض الله يقول (فاصفح عنهم وقل سلام)وقال (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا)وأمر نبيه بالصبر لكن قالوا هذه الآية ناسخه لكل ذلك وقال بعضهم إن آية سورة محمد (فإما منا بعد وإما فداء)ناسخه لآية السيف .وقال آخرون : إن آية السيف ناسخه لسورة محمد والحق أن لا أحدهما تنسخ الأخرى . وإنما العمل بهما جميعا وكل منها توضع في موضعها الذي سيظهر في سياق الكلام .الذي يعنينا أن هذه الآيه اسمها آية السيف وهي الآيه الخامسه من سورة التوبة.قال الله تعالى(فإذا انسلخ الأشهر الحرم )انسلخت / يعني مرت وانتهت.لكن ماهي الأشهر الحرم؟تحتمل معنين :الأول :ـ الأشهر الحرم التي في الذهن"ذوالقعده ـ وذوالحجةـ ومحرم ـ ورجب" ثلاثة سرد وواحد فرد ، ثلاثة سرد"ذوالقعده ـ وذوالحجه ـ ومحرم"وواحد فرد "رجب"هذا في الذهن.الثاني:ـ اللفظ الآن في (فإذا انسلخ الأشهر الحرم)يعود على الأربعة أشهر التي مرت معنا (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) فالعودة إلى المذكور أصح من العودة إلى المقدر . فنعيد هذه الأربعة إلى قول الله جل وعلا (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر...)وأخذت كلمة حرم لأنه هو الذي حرم فيها على المسلمين قتال المشركين من هذا المعنى أخذت كلمة "حرم".(فإذا انسلخ الأشهر الحرم) ربنا يقول (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)من هنا أخذ العلماء أن هذه الآيه اسمها آية السيف لكن يوجد في القرآن عام وخاص ويوجد في القرآن ناسخ ومنسوخ وبينهما فرق دقيق لايظهر إلا بالتطبيق لكن عموما النسخ لايقع في الأخبار ويقع التخصيص في الأخبار ،النسخ يقع في الشرائع لكن التخصيص لايقع بين شريعه وأخرى هذا من حيث الإجمال.(1/18)
أما من حيث التفصيل العام له ألفاظ اللفظ العام له من أشهر ألفاظه "كل"كلمة "كل"من أعظم ألفاظ العموم في القرآن وهي أم الباب يتبعها أدوات الشرط "من" ويتبعها بعد ذلك الأسماء الموصوله"الذي"ثم المضاف إلى معرفة...أمور طويله نبقى في الثلاث الأوائل.أما التخصيص فيقع على قسمين:الأول:ـ مخصص متصل.الثاني:ـ مخصص منفصل. سأضرب مثال على المخصص المتصل والمخصص المنفصل سنأخذه في آية السيف.المخصص المتصل:الله يقول (كل شيء هالك)هذه "كل"من ألفاظ العموم لكن هذا العموم خصص بقول الله تبارك وتعالى (كل شيء هالك إلا وجهه)فوجه الله ـ تعالى الله عما يقول الظالمون ـ ليس بهالك لأن الآية خصصته من كلمة"كل" خرج منها بحرف الإستثناء "إلا" استثني وجه الله تبارك وتعالى .فالإستثناء طريقه من طرائق التخصيص .فكل من ألفاظ العموم وخصص وجه الله جل وعلا من ألفاظ العموم هذا التخصيص وقع كله في آية واحدة لذلك اسماه العلماء تخصيص متصل .والشق الثاني:تخصيص منفصل هو الذي بين أيدينا يقول الرب جل وعلا (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) سأبدأ من النهايه (حيث وجدتموهم )يدل عموم على أن المشرك يقتل في أي مكان .لكن هذا الكلام لايصح هذه الآيه مخصصة بآية أخرى أنه توجد أمكنه لايجوز قتل المشرك فيها (في الحرم المكي)الله يقول (ولاتقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) إذا كيف يجمع مابين الآيتين ؟ أن يقال أن آية التوبة عامه وآية البقرة مخصصة لعموم آية التوبة فالمشرك يجوز قتله في أي مكان إذا لم يكن هناك عهد أو لم يكن هناك ذمه يجوز قتله حيث وجدناه إن لم يكن له عهد ولا ذمه ولا ميثاق إلا في المسجد الحرام فلو جاء إنسان وقتل أحدا في المسجد الحرام وقال إن الله يقول (حيث وجدتموهم)قلنا له إن هذه الآيه العامه خصصت بقول الرب جل وعلا(ولاتقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه)هذا تخصيص مكان.(1/19)
نرجع قليلا الله يقول(واقتلوا المشركين)تعم كل مشرك لكن هل يجوز قتل كل مشرك؟هنا مخصصه بالسنه لا يجوز قتل النساء ولايجوز قتل الرهبان ولايجوز قتل الأطفال دلت السنه في آثار عده متعاضدة أنه لايجوز قتل النساء ولاقتل الصبيان ولاقتل الرهبان إذا العموم الذي وجد هنا في قوله جل وعلا(المشركين)خصصته السنة فأخرجت السنة النساء وأخرجت الأطفال وأخرجت الرهبان وفي روايه أخرجت الشيخ الكبير الهرم إن لم يكن له دور في المعركه أما إن كان له دور حيث أنه مدبر أو مفكر أو مخطط للمعركه فيجوز قتله ولو كان شيخا فانيا مثل: دريد بن الصمه كان شيخا كبيرا فانيا وكان ذا عقل وتدبير وهو أحد فرسان العرب أدرك الطائف وهو كبير لكن العرب عفا الله عنا وعنهم فيهم أنفه كانوا يقدمون رجلا يقال له مالك أو كعب ذاعلم بالمعركه ودريد أشد خبره من مالك هذا فلما أعمى يقودوه في المعركه وهو أعمى يتحسس الأرض ويسأل أين نحن؟قالوا أنت في ديار كذا قال ماتصلح ديار حرب أخرجوا فخاف الزعيم وهو من نفس القبيله أن يأخذ دريد الأمر عنه فما أراد أن يكون لدريد فيها نصيب فجاء بالسيف ووضعه على يد يعني وضع السيف وجعل نصل السيف قائم وثنى بطنه على السيف وقال إن لم تطعني هوازن قتلت نفسي يريد أن يخرج منها دريد بالكلية فهوازن كانت متعاطفه معه القبيله قالوا أنت الزعيم الذي تقوله هو الذي يمضي لن نأخذ برأي دريد فرفع نفسه عن السيف ووقعت الهزيمه عليه وكان رأي دريد أشد صوابا لكنه لم تأخذ به العرب.وهو القائل المثل
المشهور:
وهلْ أنَا إِلا مِن غَزِيةُ إِن غَوتْ.
غَوَيتُ وإنْ تَرْشُد غَزيةُ أَرْشُد.(1/20)
هذا دريد بن الصمه قتله المسلمون وهو شيخ كبير لأنه كان يخطط وله دور في المعركه أما الشيخ الكبير الذي ليس له يد في المعارك فهذا يترك .نعود اللآيه.قلنا إن هذا تخصيص فالله يقول (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد)وهذا كله أمر بتضيق الخناق عليهم.ثم قال الله جل وعلا(فإن تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم)هذه الآيه استدل بها بعض العلماء/على أن تارك الصلاة كافر وحجتهم/قالوا إن الله ذكر ثلاثة أسباب هي العودة من الشرك وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.وقالوا إن إيتاء الزكاة خرج بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث(ثم ينظر في سبيله تارك الزكاة هل هو إلى الجنه أو إلى النار)ويبقى تارك الصلاة صاحب الشرك على حاله.(1/21)
وهذا رأي جيد وإن كان هذا ليس محل تفصيله لكن أنا أذكره لمناسبة الآية(فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) ثم قال سبحانه (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) بعد أن ذكر الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم كيفية التعامل مع أهل الإشراك قال له (إن أحد من المشركين) طلب أن تجيره أن يلجأ إليك فالله يأمر نبيه أن يقبل تلك الإجاره وأن يجير ذلك لسبب عظيم وهو (حتى يسمع كلام الله)فإذا سمع كلام الله ومافي كلام الله من وعد ووعيد وثواب وعقاب ربما كان ذلك سبب في اسلامه بدليل أن الله قال بعدها (ذلك بأنهم قوم لايعلمون)الذي ينبغي أن تفهمه من الآية أن تفهم أن أهل الكفر وإن كان الكفر ملة واحدة لكن الكفار تختلف أسباب كفرهم فمنهم كافر عنادا ومنهم من هو كافر جهلا لو قدر له أن يسمع كلام الله لكان ذلك سببا في إيمانه فالله يقول لنبيه(حتى يسمع كلام الله)وهذا دلاله على أن المؤمن واثق من الدين الذي يدعوا له فينبغي أن نحرص على أن نسمع من كان علته الجهل أن يسمعه كلام الله وهذا يوجد في بلادنا مايسمى "بتوعية الجاليات"هذا أمر محمود لأن كثيرا من الناس لمن يأتون لهذه البلاد بغير قصد الإسلام فإذا اختلطوا بالناس ورأوا الإسلام كان ذلك سببا في اسلامهم وقد يأتي إنسان يريد أن يكون لاعب كرة فيحتك بالمسلمين هنا ثم يرى عظمة الإسلام فإذا تلي عليه القرآن يصبح ذلك سببافي اسلامه كذلك مايقال على حال الأفراد يقال على حال الأمم والدول فليست كل دول الكفر السبب في كفرها شيء واحد وإنما تختلف اختلاف واضح منها ماهو محارب للإسلام عقيده ،ومنهم من هو محارب للإسلام عملا، ومنهم من يحارب الإسلام لمصلحة ومنهم من لامصلحه له في حرب الإسلام فلا يحارب الإسلام فيجب أن نتعامل مع أهل الكفر بحسب أصل كفرهم أو بحسب سبب كفرهم مثلا قبل يومين وزيرة التربيه والتعليم في الدنمرك قررت تطبيق تدريس القرآن(1/22)
الكريم في مراحل التعليم العام في الدنمرك من دون أي ضغط دولي اسلامي هذا من أعظم الفتوح في عالم الإسلام اليوم ولما جاءت المعارضه واحتجت عليها في بلادها على أنها قررت تدريس القرآن قالت: إن الكثير من الدنمركيين مسلمين وأنا قلت أن كلمة كثير لاتعني الأكثر لاتعني الغلبة يوجد مسلمون دنمركيون وأصحاب لهم من الدنمركيين الغير مسلمين فنريد منهم أن يتعرفوا على الإسلام وهذه حضارات لايوجد شيء يمنعها فهذا الفكر العلماني هنا خدم الإسلام بما يسمى سياسيا تقاطع المصالح فيجب أن ينظر من يدعوا إلى الله ينظر إلى حال أهل الكفر فليس أهل الكفر وإن كان الكفر مله واحده ليس حالهم في معاداة الإسلام على حال واحدة بل يوجد بينهم أمور عظيمه من الخلافات فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه كيف يدعوا إلى الله مستشهدا بالآية (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لايعلمون)قال العلماء:ـ ربما كان سبب كفرهم الجهل فإذا رفع عنهم الجهل دخلوا في دين الله تبارك وتعالى أو دخل في الإسلام بتعبير أوضح.المقصود من هذا أن الإنسان يفرق مابين من يدعوهم في تعامله مع الأفراد....تعامله مع الأمم...تعامله مع الدول ... بنص القرآن الآيه فيها دليل كذلك واضح على أن القرآن كلام الله وفيه رد عقدي على المعتزله الذين يقولون أن القرآن مخلوق وغير منزل والله جل وعلا قال (حتى يسمع كلام الله) فأضاف كلمة(كلام)إلى لفظ الجلاله وهو مايسمى بإضافة صفة إلى موصوف فالله جل وعلا من صفاته تبارك وتعالى أنه يتكلم بماشاء متى شاء له جل وعلا الأمر كله وهذا من أدلة أهل السنه وأدلتهم كثيره علىأن القرآن منزل غير مخلوق والآيه من حيث قواعد اللغه "إن"هذه شرطيه "وأحد"مبتدأوقلنا مراراهذه جمل شرطيه (فأجره)الفاء واقعة في جواب الشرط وسبب وقوعها أنها مبدوءه بفعل أمر.(1/23)
هذا ماأردت بيانه في هذا اللقاء وأنا أكثرت فيه من الناحيه العلمية لكن كما قلت المقصود أن يخرج من هذه الحلقه من يحمل تفسير كلام الله جل وعلا إلى غيره وليس المقصود الوعظ على وجه الخصوص وإن كانت ستأتي آيات خاصة بالوعظ نعرج عندها ونطيل أكثر من اليوم لكن أنا جرت العادة حتى وأنا أدرس في الكلية أن أول المحاضرات تكون أقل وآخر المحاضرت تكون أقل وهذا عين السنة .النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين ويختم بواحدة ويجعل الإطاله في الوسط ولن تجد هديا أعظم من هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأنا كنت أصرف الطلاب في آخر العام وأذهب للوكيل وأقول له هذه السنة.لن تكون آخر حصة كمثل أوسط الحصص آخر العام يأخذ كلمتين مراجعة ويذهبون وكذلك بداية العام الله يقول على لسان نبيه (قل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا)
"سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك"
.(1/24)
تأملات في سورة التوبة (2)
أما بعد فما زلنا وإياكم نتفيؤ دوحة سورة التوبه في التعليق عليها وقد سبق الحديث عنها أولا حول مجمل عدد آياتها وأسمائها وماتعلق بها من موضوعين رئيسيين في الدرس السابق .وقلنا إن هذه السورة هي السورة الوحيده في القرآن التي لم تصدر بقوله جل وعلا (بسم الله الرحمن الرحيم) وذكرنا أن للعلماء في هذه أقوال عدة خلصنا منها إلى ثلاثة أقوال ثم قلنا إن من أرجح الأقوال فيها أنها نزلت بالسيف وأن (بسم الله الرحمن الرحيم) تتضمن الرحمه والآمان وهذان لايتفقان وقلنا إن هذا القول منسوب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وإلى سفيان ابن عيينه رحمه الله تعالى وهذا قلنا هو الذي يظهر لنا ترجيحا والله تعالى أعلم وذكر رأيين دونهما في القوة كما قلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا ابن أبي طالب رضي الله عنه ملحقا بأبي بكر الصديق رضي الله عنه في مسيرة أبي بكر رضي الله عنه أميرا للحج في السنة التاسعه للهجرة وقلنا إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يشأ أن يحج في ذلك العام لأن العرب كان يطوف بعضهم عريان فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بأربعة أمور ذكرناه فيما سبق وأنا أقولها اجمالا حفاظا على الوقت أمره بأن من كان له مع النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته ،وأنه لايدخل الجنة إلا نفس مؤمنه،وأنه لايطوف بالبيت عريان،وأن لايحج بعد هذا العام مشرك،وأنزل الله قوله (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ثم شرعنا في بيان الآية الخامسه منها وهي آية السيف وتكلمنا عنها وشرحنا ماتعلق بها من عام وخاص وفق ماسلف قوله .(1/1)
اليوم إن شاء الله تعالى نختار كالعاده بعضا من آيات هذه السورة ونحن نكرر في سائر دروسنا أنا لانفسر جميع آيات السور وإنما نختار منها بحسب الحال حتى نحاول أن نعرج على القرآن كله وقد بدأنا ولله الحمد بالبقرة ونحن الآن في سورة التوبة فنقول سنقف اليوم عند قول الرب تبارك وتعالى (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون *ولوأنهم رضوا ماءاتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون*إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم*ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ....)إلى آخر هذه الآية،ثم سنقف إن شاء الله تعالى عند قوله تبارك وتعالى(والسابقون الأولون...)وسنقف عند قول الرب تبارك وتعالى(والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين)هذه مواضيع لقاء هذا اليوم نسأل الله جلت قدرته أن ييسر إلقاءها والنفع بها للقائل والسامع .فنقول الله جل وعلا في هذه السورة ذكرنا فيما سلف أنه ذكر فيها المجتمع المدني الذي كان يعم بالأخيار لكن لم يكن يخلوا من المنافقين وأن المنافقين كانوا مجاورين للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينه ممن مردوا على النفاق كما أخبر الله جل وعلا في القرءان وهذه السورة سميت بسورة الفاضحه لأنها فضحت المنافقين وقلنا إن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان يقول مازال ينزل من هذه السوره ومنهم....ومنهم....ومنهم حتى لاتكاد تدع أحدا منهم نسأل الله العافيه،فقوله(منهم)هذه من:بعضيه وليست بيانيه.(1/2)
فقول الله تعالى(ومنهم من يلمزك في الصدقات) معنى الآية:وبعض منهم أي بعض من المنافقين يلمزك في الصدقات وأصل الآية:أن النبي صلى الله عليه وسلم في منصرفه من حنين قسم الغنائم فأعطى أقواما حديث عهد بالإسلام وبعضهم مشركين أعطاهم من الغنائم يتآلفهم بها صلوات الله وسلامه عليه فجاءه رجل يقال له ذو الخويصره التميمي قال له يارسول الله اعدل كما أمرك الله فقال عليه الصلاة والسلام ويحك إن لم اعدل فمن يعدل فقام إليه عمر رضي الله عنه فقال يارسول الله إذن لي أن أضرب عنقه فقال عليه الصلاة والسلام لاحتى لايتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وهذا أخذ بما يسمى في السياسه المعاصره/أخذ باعتبار الرأي العام .فقال حتى لايتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ثم لما ولى قال عليه الصلاة والسلام سيخرج من ضئضئي هذا أقوام يقرؤن القرءان لايجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فكان هذه أول نبته تاريخيه لما يسمى بعد ذلك بالخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه.وقد اختلف العلماء في أي أول فرق الإسلام ظهورا من أهل البدع؟قال بعضهم الخوارج وقال بعضهم الشيعه والصواب أنهم أشبه بالمتلازمين مع بعضهما البعض وإن كان الأصل في الخوارج إذا اعتبرنا ذوالخويصرة منهم بأنه رأسهم لاشك أنهم أقدم تاريخا لأنهم ظهروا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال الله (ومنهم)أي من المنافقين (من يلمزك) أي يعيبك وينتقصك وهذا رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله.(1/3)
فلما فسد القلب فسد اللسان فسد التعبير قال عثمان رضي الله عنه "ماأسر أحد سريرة إلا وأظهرها الله على قسمات وجهه أو فلتات لسانه"جعلنا الله وإياكم ممن يسر الخير فهذا الرجل شارك مع النبي صلى الله عليه وسلم معركة حنين وحارب وغزى لكنه كان يسر الشر في قلبه فلما جاء المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو أمين من في السماء واستأمنه الله جل وعلا على أعظم منزل وهو القرءان ومع ذلك لما أخذ عليه الصلاة والسلام يقسم الغنائم بحسب المصلحه العلياللإسلام يأتي هذا من بين الناس ويقول له يامحمد اعدل كما أمرك ربك أو كلمه نحوها فقال عليه الصلاة والسلام ويحك إن لم أعدل فمن يعدل.(1/4)
فهذا الرجل أسر السريرة المريضه في قلبه وهي سريرة النفاق وأظهر مايخفه وأظهر خلاف مايبطنه خلاف مايخفيه فلما جاء هذا الموقف لم يصبر فأخرج السريرة التي من قلبه فأخذ يعترض على حكم وتقسيم نبينا صلى الله عليه وسلم الذي ائتمنه الله تبارك وتعالى من فوق سبع سموات والله جل وعلا يقول(الله أعلم حيث يجعل رسالته)الله تبارك وتعالى في هذه الآية يقول لنبيه (ومنهم من يلمزك في الصدقات)أي يعيبك (فإن اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذاهم يسخطون)ومن دلالة القبول قبول الإنسان للحق أو مراده للهوى أن ينظر في تصرفه حال المنع والإعطاء فمن الناس من يأتي يسأله وقد بيت الإجابة من قبل إجابه يريدها فإن وافقت إجابتك له الإجابه التي يريدها خرج يمدحك بين الناس ويرفعك على أقوام تعلم أنت أنك لاتصل إلى علمهم وإن قلت له إجابة لايريدها تخالف هواه تخالف مراده خرج يقدح فيك ويقول فيك من المعايب ويظهر مافيك من النقائص لأن إجابتك لم توافق هواه فهو لايريد الحق يريد أن يجبرك على أن يوافق هواك أنت هواه هو،فالله يقول عن هؤلاء(ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذاهم يسخطون)فهم لايريدون نصرة دين ولا إعلان كلمه ولا إقامة حق إنما يردون أن يتبعوا أهواءهم فإن اعطيتهم أثنوا عليك وقالوا محمدكذا ومحمد كذا صلى الله عليه وسلم يمدحونك وإن لم تعطهم أطلقوا لألسنتهم العنان في أن ينتقصوك لأنهم أصلا لايريدون الميزان الحق وإنما يريدون مايتبع أهواءهم هذه إحدى خصال النفاق أعاذنا الله وإياكم منها لكن هنا نتكلم عن قوم منافقين حقا فليس أمر نطبقه على الغير معاذ الله نحن نتكلم عن قوم وجدوا بأسمائهم وأعيانهم تكلم الله جل وعلا عنهم فهؤلاء ليسوا مثلا يضربه الله للناس وإنما هذا قوم حصل منهم هذا الأمر ووقعت منهم الواقعه (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذاهم يسخطون)وقلنا إن من ذرية هذا(1/5)
الرجل ظهرت فرق الخوارج بعد ذلك والخوارج والشيعة كما قلنا متلازمان وعلى وجه الإجمال نتكلم بعض المقارنة العلمية المحضه بين الفريقين كلاهما فيه الغلو لكن الفرق أن الخوارج يغالون في الأحكام فيتشددون فيها على غير علم والشيعة يغالون في الأشخاص .فلما غالى الشيعه في الأشخاص غالوا في علي وآل البيت حتى أوصلوهم إلى منازل ليست لهم حتى قال الخميني في كتاب له اسمه "الحكومه الإسلامية"يقول :وإن من أصول مذهبنا أن لأئمتنا منزلة لاينالها ملك مقرب ولانبي مرسل طبعا يقصد بأئمتهم الأئمه الإثني عشريه من آل البيت فهؤلاء آل البيت قوم مرضيون عنهم صالحون لكن هؤلاء غلوا فيهم مغالاة فاحشة فوق منازلهم الخوارج يغالون في الأحكام يأتون للحكم فيتشددون فيه على غيرفهم ولاغير علم ينزلونه جبرا على الناس هذا الأمر الأول..الأمر الثاني:ــ الخوارج يعتمدون على الصدق والمكاشفه ولا يضمرون شيئا والشيعة يعتمدون على التقيا والمواراة والإلتفات والخوارج قوم يظهرون ما عندهم ولذلك جابهوا الأحكام عبر الدهور ،جابهوا عليا...جابهواالأمويون جابهوا عبدالملك لا يوارون شيئا لا يستترون بشيء لكن الشيعه قوم يتحايلون لأنهم يؤمنون بالتقيا حتى خروج المهدي الذي يزعمون أو يرتقبون خروجه ينجم عند هذا: إن الخوارج يعتمدون على الصدق لأنهم يرون أن مرتكب الكبيره كافر فلا يكذبون في حين أن الشيعه يعتمدون على الكذب لأنهم يعتقدون بجواز التقية والخوارج لا يرون الكذب أصلا لأنهم يرون أن مرتكب الكبيره كافر فيعتمدون على الصدق ولذلك عمران بن حطان أحد زعماء الخوارج وشعرائهم وأخرج له البخاري في الصحيح اعتمادا على أنه لا يكذب أبدا في كلامه لأنهم يرون أن مرتكب الكبيره كافر هذه من الفوارق ما بين الشيعه والخوارج..الأمر الثالث:ــ الخوارج أشد شجاعة لا يخافون الموت لا يهابونه عبر التاريخ كله..يقول قطري بن الفجاءه..
أَقولُ لها وقدْ طَارتْ شَعَاعا(1/6)
مِن الأَبْطال وَيحَكَ لنْ تُراعِي
... فَإِنكِ لَوْ سَألتَ بَقَاءَ يَومٍ
عَن الأَجلِ الذِي لكِ لَنْ تُطاعِي
فَصَبْراً في مَجالِ المَوتِ صَبرَا
فَمَا نَيْلُ الخلُودِ بِمُسْتَطاعِ .....هذه الأبيات كلها لرجل من أكبر زعماء الخوارج اسمه: قطري أن الفجاءه في حين أن الشيعه يعتمدون على بقاءأنفسهم عبر التاريخ ويحافظون على سلامة أنفسهم مستطاعوا إلى ذلك سبيلا هذه مقارنه سبيطه علمية ما بين الفريقين دفع إلى القول بها حديثنا عن ذي الخويصره ثم قال الله:(ولو أنهم رضوا ماءاتاهم الله ورسوله وقال حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون) يبين الله جل وعلا هنا المنهج الحق في الإنسان إذا أعطي أو منع..الإنسان عبدلله والمؤمن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم ليكن ليصيبه وأن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها كما قال صلى الله عليه وسلم (فاتقوا الله وأجملوا بالطلب) فالله جل وعلا يقول كان المفترض الموقف الشرعي لهؤلاء (ولو أنهم رضوا ماءاتاهم الله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون) لو قالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله علقوا أنفسهم بالله طبعا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم هنا/ لأنه كان حيا ولا يقال هذا اليوم. (إنا إلى الله راغبون) أي ينقطعون إلى الله فلو أنهم انقطعوا إلى الله وسلموا بأمره ورضوا بحكمه جل وعلا وقالوا حسبنا الله كان خيرا لهم وأعظم وأهدى سبيلا وهذا هو الموقف الذي ينبغي على المسلم أن يتبعه على كل حال، في حال الفقر... وحال العطاء... وحال المنع... وحال الأخذ... وحال السراء...وحال الضراء...وعلى كل حال. ثم قال الله وهذه الآيه الآن (إنما الصدقات للفقراء....) آيه عارضه داخله في مجمل بيان لأحوال الناس وإنما دفع القول بها قطعا لأطماع المنافقين أن يكون لهم حظا من المال.(1/7)
قال الله تعالى:(إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) "إنما" لغويا تفيد الحصر وهي أحد أساليب الحصر في لغه العرب وبالتالي أحد أساليب الحصر في القرآن فقول الرب تبارك وتعالى (إنما الصدقات للفقراء) ثم ذكر باقي الثمانيه دليل على أنه لا يجوز أن تعطى الصدقات لغير هؤلاء الثمانيه "الصدقات" هنا المقصود بها الزكاة الشرعيه وليس المقصود بها/ صدقة التطوع وإنما الزكاة التي هي قرينة الصلاة التي هي الركن الثالث من أركان الإسلام (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم....)أنا سأشرح الآن لن أشرح فقهيا لأن هذا الدرس تفسير لكن سأذكر إجمالا ما يمكن أن تستفيد منه من هذه الآيه دلت الآيه على أمور:ــ 1/ حصر أصحاب الزكاة الثمانيه..(1/8)
2/ أن الله جل وعلا تولى تقسيم الزكاة والله قد خلق النفوس وهو جل وعلا أعلم بحبها للمال. وقال تبارك وتعالى (وتحبون المال حبا جما) وقال (إنه لحب الخير لشديد) والخير هنا بمعنى المال. فالمواريث والزكاة لأنها حقوق ماليه تتعلق بها أنفس الناس لم يكل الله توزيعها لأحد وإنما تولى الرب جل وعلى مصارفها وتقسيمها قال الله: (يوصيكم الله في أولادكم لذكر مثل حظ الأنثيين...) وقال: (ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد..) فقسم تبارك وتعالى المواريث وقسم تبارك وتعالى وحدد أصناف الزكاة وجاءت السنه ففصلت ما أجمله القرآن كل ذلك حتى لا يبقى لأحد مشاحه في أحد ولايبقى تطلع أكثر مماهو مذكور في القرآن فعلى هذا علم الله جل وعلا وهو أعلم بخلقه تطلع النفوس للأموال فحسم الرب تبارك وتعالى تعلق العباد بها فقال جل وعلا(إنما الصدقات للفقراء...) الأصناف المذكورون هنا ثمانية كما هو ظاهر الآية وقرن الله جل وعلا بين كل صنف وصنف بواو العطف.(1/9)
الأمر الثالث:ـ ذكر الله جل وعلا أربعة "باللام" وأربعه بحرف الجر "في"فقال (للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفه قلوبهم)هؤلاء "باللام"وقال (وفي الرقاب والغارمين )ثم أعاد العطف قال(وفي سبيل الله وابن السبيل)مجمل مايراد قوله هنا /أن اللام تعني التمليك فيملك الفقير ويملك المسكين ويملك العامل ويملك المؤلفة المال ولايقال له نشترط عليك أن تضعه في كذا أو تضعه في كذا وإنما تعطي الفقير أو المسكين أو العامل أو المؤلفة هؤلاء الأربعه الأوائل المال بيده فيقبضه فيدخل ملكه وهو حر في أن يفعل به مايشاء أما قول ربنا(في الرقاب)(في الغارمين)(في سبيل الله وابن السبيل) فهذه لايشترط أن تعطى لهم وإنما إنسان مثلا غارم يعطى دينه لمن له عليه الدين يعني:للدائن (وفي الرقاب) فك الرقاب:العتق سوف يأتي فيعطى لصاحب الرقبه حتى يعتقها أو للمكاتب حتى يفسح عنه كما سيأتي فالفرق بين "اللام" و"في"يختلف اختلافا جذريا كما بينا .الأمر الرابع:ـ ذكر الله الأهم فالأهم لأن الأصل الواو لاتعني الترتيب الصحيح لكن دلت السنه عموما على أن هناك خصائص في التقديم فالنبي عليه الصلاة والسلام(صعد الصفا وقال:أبدأ بما بدأ الله به (إن الصفا والمروة من شعائر الله)فقدم الصفا لأن الله قدمها في كتابه وإلا الأصل أن الواو في لغة العرب لاتعني الترتيب لكن قلت تقديم الله جل وعلا هنا يدل في الغالب على تقديم الأهم فالأهم .قال الله (إنما الصدقات للفقراء والمساكين)اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين لكن الآية تدل عموما على أن الفقير أشد حاجة من المسكين وهذا الذي نرتضيه وإن كان في المسألة أكثر من عشرة أقوال لاحاجة لذكرها لكن الفقير من كان أشد حاجة من المسكين .الفقير والمسكين/لاحاجة للشرح .وهما شخصان غلبت عليهما المسكنه والحاجة إلى المال إلا أن أحدهما أشد من الآخر.ثم قال جل وعلا (والعاملين عليها)العاملين/القائمين على الزكاة....السعاة...(1/10)
الجباة...المسؤولين.... الإداريين عن جمع الزكاة هؤلاء هم العاملون ثم قال جل وعلا (والمؤلفة قلوبهم)المؤلفة قلوبهم لم يرد في القرآن كله ذكر لهذا الصنف من الناس إلا في آية الزكاة فيوجد في القرن مشركون...كفار....منافقون...مؤمنون..مجاهدون...توجد أصناف كثيرة ...تتكرر لكن كلمة مؤلفة قلوبهم لم ترد في القرآن هذه الطائفه إلا في ذكر مصارف الزكاة نعود إليهم المؤلفة قلوبهم قد يكونون أهل إيمان وقد يكونون أهل كفر والجامع بينهماأن في اعطائهما مصلحه للإسلام فمثلا:ـ إما كافر يعطى ولوكان كافرا دفعا لشره أو كافرا يعطى تأليفا لقلبه أن يسلم أو مسلم ضعيف الإيمان يعطى وله شوكه مسموع الكلمه مطاع يعطى زيادة في إيمانه أو مسلم لتوه داخل في الإسلام وله نظراء من الكفار فإذا اعطيناه طمع غيره ونظراؤه من الكفار في الدخول في الإسلام . واختلف العلماء في هذا السهم،سهم المؤلفه قلوبهم باق أو منسوخ .فقال بعضهم إن هذا منسوخ لأن الله عز دينه وهذا كان في أول الإسلام والحق الذي عليه المحققون من العلماء والجمهور/أنه غير منسوخ لأن الأحوال تختلف والعصور تتباين فيطبق في كل عصر مافيه مصلحة المسلمين العليا وإن أسقطه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه. هؤلاء الأربعة ثم قال جل وعلا(وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل)الرقاب :ـ تحتمل أمرين.الأمر الأول:ـ أن يشتري صاحب الزكاة "المزكي"من زكاة ماله عبدا أو أمه مملوكا لغيره "عبدا أو أمه مسلمان طبعا"فيملكها ثم يعتقها. مثلا:ـ عليه زكاة عشرة آلآف ريال فذهب إلى بلد كموريتانيا حاليا يوجد فيها رق فذهب للموريتانيا واشترى بعشرة آلآف ريال عبدا أو جارية مملوك لغيره ثم أعتقه هذا قول ربنا وفي (وفي الرقاب) وهو الأظهر .(1/11)
الأمر الثاني:ـ يوجد في الشرع مايسمى بالمكاتب والمكاتب وهذا غير موجود في عصرنا ،المكاتب رجلا مملوك فيأتي لسيده ويقول أنا أدفع لك مالا معينا أسعى في تحصيله على أن تعتقني فيوافق السيد فيأخذ هذا العبد يجمع في المال هذا إما من الناس أو بجهده حتى يكون ذلك المبلغ الذي يخرج به من سيده فيصبح حرا.فإعانة هذا المكاتب تجوز شرعا وهي داخلة في قوله تبارك و تعالى :(وفي الرقاب) عند أكثر العلماء لا عند كلهم .في عصرنا هذا نسمع كثيرا ما يقال إن من فك الرقاب أن يذهب انسان إلى السجن ،شخص محكوم عليه بالإعدام "بالقصاص" بتعبير الشرع .فيعطي الورثة "ورثة القتيل" المقتول المطالبين بالمال مثلاً الدية:مائة ألف يقول أنا أعطيكم مليون،ولكن اتركوا هذا...سامحوه...س/هل هذا فك رقبة داخل في الزكاة؟*لا يدخل في الزكاة .هذا عمل خير نعم هذا فضل...صدقة نعم.لكنه لا يدخل في الرقاب.فأنت تتعبد الله بلغة القرآن لا باللغة السائرة بين الناس . فالقرآن أنزل عربيا فمن يعرف لغة العرب يستطيع أن يتعامل مع القرآن ،أما اللغات الدارجة التي تتغير هذه لا تحكم بها ،القرآن وإن كان المشهور في بلادنا أنهم يسمونها:فك رقبة لكنها غير داخلة. قال الله:(والغارمين)الغارم :أصل الغرم في اللغة /اللزوم.والله قال عن جهنم أعاذنا الله وإياكم منها :"إن عذابها كان غراما" يعني لازم لأصحابها.والغارم:هو من عليه الدين،والغريم :هو الذي له الدين ويسمى غريم ؟لأنه ملازم للمدين ،والدين العرب وأهل العقل والفضل يقولون إنه هم بالليل وذلُّ بالنهار.وقالوا:إن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رأى رجلا متقنعا فقال له عمر:أما بلغك أن لقمان الحكيم يقول :إن التقنع هذا تهمة بالليل أو ريبة بالنهار أو كلمة نحوها ،تذم التقنع .(1/12)
فقال هذا الرجل :يا أمير المؤمنين إن لقمان لم يكن عليه دين فهذا يتقنع حتى لا يراه أصحاب الدين ويطالبونه ولذلك قال الفقهاء :إن من عليه دين ويخشى من غرمائه في المسجد قد تسقط عنه صلاة الجماعة . الذي يعنينا هذا الغارم والغارم شرعا قسمان:ـ
1/غارم لنفسه.
2/غارم لغيره .
الغارم لنفسه هو من يستدين لمصلحة نفسه .يريد أن يتزوج ...يريد أن يطلب علما...يريد أن ييبني بيتا...يريد أن يؤثث بيته...هذا غارم لنفسه .(1/13)
أما الغارم لغيره/ رجل جاء لقوم صار بينهم شجار واقتتال وفساد في الأموال فأصلح بينهم وتكفل باصلاح ما أفسدته الخصومة بين الفريقين. فأخذ يطلب أموالاً...غرم أموالاً تكلف المسألة مثلاً:خمسين ألف...سبعين ألف...مائة ألف...فأخذ يطلبها من الناس. فهذا غارم لغيره ليس غارماً لنفسه .وكلا الفريقين يعطى من الزكاة بقدر الذي يحتاج إليه ،وقد قال العلماء:إن الإسلام حث على عدم الدين ومن الدلائل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي على من عليه دين ،حتى فتح الله جل وعلا له الفتوح وقال في الجهاد وهي من أعظم الأعمال ..وقال في الشهاده وهي من أعظم القربات إن الشهاده تكفر الذنوب إلا الدين أخبرني به جبريل ءانفا لكن العلماء يقولون:إن الإنسان إذا كان يستدين ترفا فلايعطى من الزكاة .فمثلا إنسان راتبه أربعة آلاف ريال فهذا أنه كونه عنده سياره هذا حق من حقوقه ولايخرج من كونه فقير لكن بالعقل إنسان"لانريد أن نسمي نحن في مسجد"راتبه أربعة آلاف ريال ففيه نوع من السيارات لاحاجه للتفصيل يلائم حاله لكن لوجاء وطلب سياره استدان ليشتري سياره فارهة جدا لايركبها أمثاله فهذا دين ترف فمثل هذا لايعطى من الزكاة هذا من قول الله تبارك وتعالى(والغارمين)ثم قال الله جل وعلا (وفي سبيل الله)وسبيل الله كثير كما قال مالك واختلف العلماء في كلمة(في سبيل الله)على أقوال عدة لكن أنا أقول الرأي الراجح فيما أراه .الرأي الراجح أن في سبيل الله الغزاة المجاهدون في سبيل الله المتطوعون هم المقصود بقول الرب تبارك وتعالى(وفي سبيل الله)وقال بعضهم طلبة العلم ،وقال بعضهم أهل الحج ،وقال بعضهم غير ذلك .لكن هذا الذي نرتضيه والله تعالى أعلم.(وابن السبيل)هذا أسلوب عربي. العرب تنسب الشيء إلى من يلازمه يقولون(ابن السبيل)للمسافر لأن السبيل هو الطريق ،الله يقول في الحجر(وإنهما لبسبيل مقيم )أي هذه الديار موجوده في طريق مقيم ثابت عن قوم ثمود.(1/14)
فقول الرب جل وعلا (وابن السبيل)هذا أسلوب العرب يقولون بنات الدهر للمصائب. عبد الله ابن الزبعرة يقول :وبنات الدهر يكعبن بكل...."يعني المصائب"تأتي على الفريقين .ويقولون نبات أفكاره يعني آرائه وشعره يسمونه/نبات أفكاره، الذي يعنينا (ابن السبيل)هو الرجل الذي انقطعت به السبل وإن كان غنيا في دياره ، الغريب الذي انقطعت به الحال حتى أصبح محتاجا للمال فيعطى بمقدار مايوصله إلى أهله هؤلاء اجمالا وأنا قلت لن أفصل كثيرا أقسام أهل الزكاة الثمانيه الشرعيون.إذا ذكرنا من يستحق الزكاة يجب أو يلزم أن نذكر من لايجوز أبدا أن يعطون من الزكاة ونبدأ بالأول :أولهم:ـ الكفار والملاحدة سائر أمم الكفر لايعطون من الزكاه إلا المؤلفه قلوبهم وهذا ظاهر فليس معقولا أن تعطي كافر من زكاة مالك لكن يجوز اعطاؤه من صدقة التطوع لقول الله(ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) والأسير لايكون إلا كافر .الأصل أنه كافر.الثاني:ـ بنوهاشم آل النبي صلى الله عليه وسلم وقد مر معنافي تفسير سورة الأنفال أن الكلام عن آل البيت أنهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام منهم من قال أن آل البيت هم قريش كلها وقلنا هذا بعيد.وقلنا الفريق الثاني:ـ أنهم قالوا بنوهاشم وقلنا هذا أقوى من الأول.ثم رجحنا أن المقصود ممن لايعطون الزكاة هم بنوهاشم بالإضافه إلى بنوا المطلب وليس عبدالمطلب وقلنا إن هاشم بن عبد مناف وإن عبد مناف هذا ترك أربعة من الولد نوفل،وعبد شمس،وهاشم،والمطلب.(1/15)
وقلنا إن هاشم هذا منه كان النبي صلى الله عليه وسلم وهذا واضح لماذا منع من الزكاة وأن هؤلاء الثلاثه لما حاصرت قريش النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم في الشعب جاء أبناء المطلب فدخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وبقي بنونوفل وبنوعبد شمس خارج الأمر فقال عليه الصلاة والسلام كما في البخاري قال:" إن بني المطلب لم يفارقون في جاهليه ولافي إسلام وإنما نحن وهم شيء واحد وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه" وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن مذهب الإمام أحمد وهو الحق إن شاء الله أن هؤلاء لايعطون من الزكاة لأنها من أوساخ الناس لكن اختلف العلماء فيما لوكان موالي بني هاشم من العاملين عليها هل يعطون أو لا يعطون قال فريق :ـ يعطون والأظهر أنهم لايعطون لحديث رافع وهو مولى للنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل من بني مخزوم قال اذهب معي نسعى في الزكاة حتى نكسب لأن العاملين عليها يأخذون منها فقال: دعني استشير النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدم عليه الصلاة والسلام "مولى القوم منهم"فموالي بني هاشم كذلك لايعطون من الزكاة أما صدقة التطوع فالمسألة فيها خلاف كثير بين العلماء والذي يظهر أنهم لايعطون .الأمر الثالث:ـ أصول الرجل "آباؤه فما فوق"و"أمه فما بعدها"فلا يعطي الرجل من الزكاة لاأباه ولاأمه وإن قال شيخ الإسلام ابن تيميه أنهم يعطون لكن القول الذي عليه أكثر العلماء أنهم لايعطون لأنه يجب عليه نفقته.الأمر الرابع:ـ بعد الأصول يأتي الفروع فلا يجوز لرجل أن يعطي ابنه ولاابن ابنه ولاابن ابنته ولاابنته فلا يعطي فروعهم والله ذكر في القرآن الفروع والأصول في آية غير الزكاة وذكر الحواشي .الحواشي/الإخوان.وفيهم نظر.ولكن الأرجح إن شاء الله أنه يجوز إعطاءهم من الزكاة لأنه لاتجب نفقتهم في الأصل.(1/16)
الأمر الخامس/أعمال الخير المطلقه لايجوز أن يبني مسجد أويعمل جمعيه خيريه تعنى بتكفين الميت وإن كان هذا خير أو تبني قناطر خيريه أو تبني مطاعم أو ما أشبه ذلك من الصدقات العامه كإفطار صائم ومايقال في مثل هذا في بلادنا وفي غيرها هذا كله لايجوز إعطاء الزكاة منه لأنهم لايدخلون في الأصناف الثمانيه وقلنا إنما:ـ تفيد الحصر.وأنا أقول إذا تريد أن تعطي الزكاة الشرعيه أعطها شخصا بعينه وإرتاح لا تسلمها أحد.أما أمور الصدقات التطوع العامة هذه ترجع لك تعطيها أي مؤسسة تطمئن إليها .أما الفرض تريد أن تعطي مثلا أخ لك قريب من جماعتك...طالب يدرس في حييك ...فقير في الحي تعرفه...أحد جيرانك...أحد قرابتك...اذهب إليه واعطها بنفسك تبرأ ذمتك وتتأكد من أنها وصلت إليه .أما صدقة التطوع هذه تحتاج إلى جهد مثال:ـ الطعام،وأمثال الكسوه.وهذا صعب أن تقوم أنت بها بمفردك .لكن هذه الجمعيات الخيريه،المؤسسات الخيريه،أقدر على إصالها ،ففرق مابين الأمرين أفضل لنفسك هذه مايمكن أن نقوله حول الصدقات.ثم قال الله جل وعلا في الآيه التي نريد تفسيرها (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم)هذه الآية مما يفتح لكل مسلم باب الترغيب في العمل الصالح لأن الله جل وعلا ذكر فيها ثلاثة أصناف.
1/ذكر المهاجرين.
2/وذكر الأنصار.(1/17)
3/وذكر جل وعلا التابعين لهم بإحسان وهذا يدخل فيه كل مؤمن إلى يوم القيامه.فذكر الله هنا ثلاثة أصناف قال جل وعلا(والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه)وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله في الحديث الصحيح(أمتي كالمطر لايُدَرى خيره أوله أم آخره) والله يقول في الجمعه (وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم)فباب الرحمة مفتوح واللحوق بهؤلاء أمر مقدور عليه لكن كان عمر رضي الله تعالى عنه يظن أن هذا محال وكان يقرأ هذه الآية هكذا (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان ) فأصبحت على قراءة عمر رضي الله عنه فريقان:ـ
1/الأنصار.
2/والمهاجرين.(1/18)
وقال ماأظن أنه كان أن يبلغ أحد مبلغنا فلما قرأها على زيد وزيد أعلم من عمر رضي الله عنه بالقرآن .قال:ياأمير المؤمنين يوجد واو قال ليس فيها واو قال يوجد واو فقال عمر رضي الله عنه ادع لي أبياً أبي بن كعب،فصدق أبي قول زيد وقرأها:"والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان..."فقال عمر ماكنت أعلم أن أحداً سيبلغ مبلغنا. يعني/ما أظن أن الباب مفتوح ،لكن رحمة الله واسعة والنبي عليه الصلاة والسلام قال: وددت لو أني رأيت أخواني قالوا يارسول الله:ألسنا إخوانك قال بل أنتم أصحابي ولكن إخواني لم يأتوا بعد.وهذا داخل فيه كل من اتبع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان.نأتي عند قوله تعالى :"والسابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار" المهاجرين /أطلقت على من هاجر قبل الفتح إلى مكة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"لا هجرة بعد الفتح" يقصد لا هجرة من مكة وإلا الهجرة قائمة إلى الآن. يترك الإنسان ديار الكفر ويأتي ديار الإسلام ممكن. لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد الهجرة من مكه "لاهجرة بعد الفتح"الذي يعنينا أن هؤلاء المهاجرين هم أعلى الأمه مقاما لأنه بدأ بهم لكن اختلف في معنى كلمة السابقين .فمنهم من قال من صلى إلى القبلتين وقد فرض تحويل القبله بعد ستة أو سبعة عشر شهرا من الهجره إلى المدينه فيصبح من ءامن قبل هذا يصبح من السابقين على هذا القول.وءاخرون قالوا من شهد بدرا هذه أوسع زمنا.ومنهم من قال من شهد بيعة الرضوان وأظنه أرجح وأرحم من شهد بيعة الرضوان في السنه السادسه في صلح الحديبيه وهاجر إلى المدينه قبل هذا الوقت يدخل في قوله تعالى(والسابقون الأولون من المهاجرين)هذا الكلام عن المهاجرين وهم رضي الله عنهم وأرضاهم كثرمن أشهرهم الخلفاء الراشدون الأربعة .(1/19)
ثم قال جل وعلا(والأنصار)الأنصار:ـ تسميه شرعية وليست تسمية نسبيه وإنما سموا أنصارا لأنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي إذا أطلقت يراد بها /الأوس والخزرج .والأوس والخزرج رجلان أخوان اسمهما الأوس ابن حارثه والخزرج ابن حارثه والحارثه هذا من أزد اليمن ممن هاجروا من اليمن بعد وقوع السد وسكنوا المدينه وكانت قبائل اليمن قد تفرقت في مواطن شتى منهم الأوس والخزرج سكنوا المدينه فإذا قيل الأنصار ينطلق في أول المقام إلى الأوس والخزرج وكان بينهما من النزاع والنفره مالله به عليم.قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعث صلوات الله وسلامه عليه آخى بينهم وسماهم الأنصار.وقد جاء في الأحاديث الصحاح الكثير من مناقبهم قال عليه الصلاة والسلام "لولا الهجره لكنت امرأ من الأنصار"وقال"اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار"وقال"إن الناس يكثرون والأنصار يقلون"وأوصاهم بالصبر.(1/20)
وقال لهم "إنكم ستجدون أثره بعدي فاصبروا حتى تلقوني،وموعدكم الحوض"رضي الله عنهم وأرضاهم فهم قدموا أنفسهم ودورهم ومهجهم وأموالهم من أجل نصرة الله ورسوله وهم كما قلنا في الأصل قبيلتان الأوس والخزرج من أشهر الأنصاريين من الأوس/سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه وأرضاه ومن أشهر الأنصاريين من الخزرج/سعد بن عبادة،وحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه،وبنوعوف الذين نزل النبي صلى الله عليه وسلم في دارهم في أول هجرته كما سيأتي في قوله تعالى (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين ) ثم قال الله (والذين اتبعوهم بإحسان)وهذا القيد لابد منه لأن الله لما قال(السابقون الأولون من المهاجرين)أطلق ولم يقل قيدا وقال(والأنصار)ولم يقل قيدا لكن لما قال(والذين اتبعوهم)جاء جل وعلا بقيد والقيد هو(بإحسان)والإحسان/الإتقان والمعنى:ـ أن ينظر في صنيعهم وهنا لم يذكر الله قضية (اتبعوهم)فيه أشياء يدل عليها العقل فالمقصود أن هؤلاء المهاجرين والأنصار وقع منه هفوات وزلات وأخطاء فلايجوز أن نتبعهم فيها وإنما المقصود اتباعهم فيما اصابوا فيه من الإعتقادات والأقوال والأعمال رضي الله عنهم ورضوا عنه ولايوجد نعمه أعظم من رضوان الله قال الله تعالى في كتابه(ورضوان من الله أكبر)والمعنى/ورضوان من الله أكبر من كل نعمه.رضوان من الله أكبر :ـ أي لايعدل رضوان الله جل وعلا شيء .والله جل وعلا يخاطب أهل الجنه آخر الأمر فيقول :أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا.(1/21)
فلا يعدل رضوان الله شيء بلغنا الله وإياكم رضوانه فقال الله تعالى(رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها)هذه قراءة الأكثرين بدون حرف الجر "من"وقراءة أهل المدينه على قراءة ابن كثير (تجري من تحتها)يوجد "من"لكن الذي عليه الأكثرين عدم حرف الجر ولا يختلف هذا في المعنى كثيرا(وأعدلهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم)والمقصود من هذه الآيه أننا كما تكلمنا عن أهل النفاق نتكلم عن أهل الفضل كما أمرنا الله أن نجتنب أحوال أهل النفاق أمرنا الله أن نتبع أحوال أهل السبق من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم وأن نقتفي سيرهم ونلتمس هديهم ونتبع آثارهم ونكون كما كانوا. يوجد آيه تركتها نسيانا مع أنني قلت في أول الدرس أنني سوف أفسرها وهي قول الله جل وعلا(ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين ءامنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم)هذه الآيه نزلت أن قوما من أهل النفاق كانوا يتحادثون في مجالسهم الخاصه فيعيبون النبي صلى الله عليه وسلم فيقول بعضهم لبعض نخشى أن يصله كلامنا فيقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن أي يصدق كل شيء.فإذا بلغه أننا تكلمنا فيه نذهب إليه فنعتذر فيصدقنا يسيمون النبي صلى الله عليه وسلم بالبلاهه يريدون أن ينتقصوه فالله هنا يدافع عن نبيه ويناصره ويتولاه يقول(ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن)والأذن: الجارحه المعروفه.(1/22)
والمقصود/أن النبي صلى الله عليه وسلم يسمع ويصدق كل مايقال له حسب زعمهم ويقولون هو أذن فقال الله(قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين)والنبي صلى الله عليه وسلم أرفع مقاما وأكمل أخلاقا وأجل سيرة مما افتراه هؤلاء المنافقون عنه بل كان عليه الصلاة والسلام يتغافل عما لايشتهي ولم يكن فيه إلا الرحمه والخير للناس عموما قال الله عنه:"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"فقال الله هنا (قل أذن خيرلكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين )فجاء بالفعل يؤمن وعدى في الأول بحرف الجر الباء وعدى في الثاني بحرف الجر اللام .والمعنى/الفرق في التعديه هنا:لأن قوله جل وعلا (يؤمن بالله) فإيمانه بوجود ربه تبارك وتعالى أمر لا يخالطه فيه شك بوحدانية ربه وألوهيته وأن الله موجود لكن قوله تعالى :"ويؤمن للمؤمنين"النبي ليس مسؤل عن سرائرهم ، وإنمايسلم أمرهم لله فيؤمن بما ظهر منهم ويكل سرائر الناس إلى خالقهم .فقال الله في الأولى "يؤمن بالله"وقال في الثانية"ويؤمن للمؤمنين"ثم قال جل وعلا :"ورحمة للذين ءامنوا منكم "ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم رحمة في بعثته ...رحمة في هديه...رحمة في سيرته...رحمة في كل من يقتفي أثره ويتبع سنته.(1/23)
ثم قال الله(والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم)إذا كان المسلم أصلا مطالبا بأن يؤمن ويحب ويوالي ويناصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بالك بمن يؤذيه عليه الصلاة والسلام فأذيته عليه الصلاة والسلام وانتقاصه حيا أو ميتا ولو بمقدار شعره مع اعتقاد ذلك كفر مخرج من الملة يقتل صاحبه ولو تاب وتراجع يقام عليه حد القتل وقد بينا ذلك مرارا ويهرق دمه لكن يقيمه ولي أمر المسلمين،وأمره إلى الله تبارك وتعالى إن صدق في توبته أو لم يصدق لكن حتى ولو أظهر صدق التوبه يقام عليه الحد ويقتل إذا انتقص شيئا من نبينا صلى الله عليه وسلم ومستند العلماء في هذا مابيناه مرارا كما أخرج أبوداوود بسند صحيح من حديث ابن عباس أن رجلا أعمى كانت له جارية أم ولد تقوم برعايته وأنجب منها طفلين كالؤلؤتين يحبهما وهذه المرأه كانت تحبه رغم أنه أعمى وشفيقه به ...(1/24)
رفيقة تقدم له كل حاجة إلا أنها كانت تقع في رسول الله صلى الله عليه وسلم فينهاها هذا الأعمى فلا تنتهي فوجدت ذات مرة هذه المرأة مقتولة قد بقر بطنها ولطخ دمها الجدار فقام صلى الله عليه وسلم خطيبا في الناس قال:أنشد الله رجلا لي عليه حق ويعلم عن هذا الأمر شيئا إلا أخبرنا به فقام هذا الأعمى من آخر المسجد يقطع الصفوف ويضطرب في مشيته حتى وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال:يارسول الله أنا صاحبها أنا قتلتها فتعجب منه صلى الله عليه وسلم وقال:ولما؟قال:إنها كانت تقع فيك فأنهاها فلاتنتهي وازجرها فلاتنزجر فالبارحه وقعت فيك فنهيتها فلم تنتهي وزجرتها فلم تنزجر فقمت إلى الموغل"والموغل السيف القصير"فأتيت حتى وصل إليها وهو أعمى يعني لايراها حتى علم أنه أصاب بطنها فتكأ على الموغل حتى بقر بطنها وقتلها فلما أتم حديثه قال صلى الله عليه وسلم"اشهدوا أن دمها هدر"من هنا أخذ العلماء ومن غيره من الأحاديث أنه لايجوز أبدا أذيته صلوات الله وسلامه عليه وقد فصلنا هذا في مواطن كثيرة باستطراد أكثر فالذي يعنينا أن الله توعد بالعذاب الأليم من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن على الناحيه الأخرى لايجوز للمؤمن أن يغلوا في تعظيمه صلى الله عليه وسلم فهو عليه الصلاة والسلام بشر وليس له من خصائص الألوهية ولا الربوبية شيء وإن كان أفضل الخلق مقاما وأعلاهم منزلة بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم لكن في الأمه بعد سقوط بغداد على يد هولاكو أصاب الأمه مرحله من الضعف سياسيا واقتصاديا وعقديا وعلميا حتى ظهر مايسمى بأدب التصوف أو بأدب المدايح النبويه فجأ أقوام يبالغون لقلة العلم العقدي فيه صلى الله عليه وسلم فأنشأت قصائد لايمكن أن تجوز شرعا في حقه صلى الله عليه وسلم منها قصيدة البصيري المشهوره.
أَمِنْ تَذكُر جيران بِذي سَلَم
مَزَجْت دَمْعا جَرى من مُقلةٍ بِدمِي
أَمْ هَبتْ الريحُ من تَلْقاءِ كاظِمةٍ(1/25)
أَو أَومَضَ البرقُ بالظَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّلماءِ من إِضَمِي
إلى آخر القصيده وقد سماها"الدرر البهية في مدح خير البرية"أو كلمة نحوها وهو رجل مات في آخر القرن السابع وأمره إلى الله أنا أتكلم عن القصيده .قال في القصيده عفا الله عنا وعنه.
قال:ياأكرمَ الرسلِ مَالي مَن أَلوذُ بِه
سِواكَ عند حُلول الحَادث العَممِ(1/26)
ولاريب أن هذا عين الشرك وعين الكفر الذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لهدمه ونقضه...قال الإمام الشوكاني رحمه الله معلقا على هذا البيت قال:إنالله وإنا إليه راجعون انظر كيف غفل عن الله ولاذ بالنبي صلى الله عليه وسلم والنبي عبد بالله ورسول من رسل الله صلى الله عليه وسلم فمثل هذا لايمكن أن يقبل ولايمكن أن يجوز لا ماقاله البصيري ولا ماقاله أترابه وأقرانه ممن غالوا فيه صلوات الله وسلامه عليه وهو عليه الصلاة والسلام بما أعطاه الله من المناقب في غنى عما قاله هؤلاء ضعفاء الإيمان والجاهلون عنه فله صلى الله عليه وسلم المقام الرفيع لكن لايجوز لأحد أن يغلو فيه صلوات الله وسلامه عليه ثم نختم بقول الرب تبارك وتعالى(والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون*لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) النبي عليه الصلاة والسلام أول مانزل المدينه نزل في قباء عند المسجد المؤسس اليوم وكانت هناك دار الرجل يقال له كلثوم بن الهدم أحد الخزرج من بني عمر بن عوف وهو عليه الصلاة والسلام دخل المدينه يوم الإثنين فمكث الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس صبيحة الجمعة قبل الزوال خرج من دار كلثوم بن الهدم حتى وصل إلى مكان المسجد الآن المسمى بمسجد الجمعه فصلى فيه ثم أتى مسجده الموجود الآن فأناخ راحلته فيه هناك أسس صلى الله عليه وسلم المسجد مسجد التقوى مسجد قباء لكنه لم يبنيه وإنما بناه بنوعمرو بن عوف بعد ذلك .(1/27)
هذا المسجد كان لبني عمرو بن عوف جيران من الخزرج وهم بني عمرو بن عوف هؤلاء من الأوس من هؤلاء قوم نشأوا على الشرك والضلاله وأكثرهم منافقون فبنوا مسجد ضرارا منازع لهذا المسجد لأن هذا المسجد كان يغص بالمصلين فتجتمع الكلمه فتتآلف القلوب ويتوحد الصف فبنوا ذلك المسجد وزعموا أنهم بنوه لذي العلة والليله المطيرة والليله الشاتيه وللحاجة وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إنما بنينا مسجدا بهذه الأوصاف ونريد منك أن تأتيه وتصلي فيه كما صليت في مسجد قباء لإخواننا من بني عمرو بن عوف فاعتذر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه على شغل وأنه على جناح سفر وأنه ذاهب إلى تبوك فلما قدم من تبوك أوحى الله جل وعلا إليه بقوله(والذين اتخذوا مسجدا ضرارا...) فانتدب صلى الله عليه وسلم نفرا من الصحابه منهم رجل يقال له مالك ومنهم وحشي قاتل حمزة حوالي أربعة فبعثهم ليحرقوا ذلك المسجد ويهدموه فهدموا المسجد وأخرج مالك من بيته شعلة نار وأحرق المسجد وهدمه ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم في روايه أن يكون المسجد مكانا كناسة :يعني توضع فيه القمامات وفضلات الناس نكالا بهم.هذا هو مسجد الضرار قال الله فيه (والذين اتخذوا مسجدا ضرار...) الضرار:ـ المنازعه..العمل الذي يدفع إليه الحسد.هذا قوله (ضرارا) (وكفرا) لأنهم أرادوا بذلك زيادة النفاق الذي في قلوبهم .(وتفريقا بين المؤمنين)تدل الآية على كل عمل يراد به تفريق الناس أمر محرم شرعا يؤدي إلى الكفر ولو كان في مسجد.(1/28)
فلايوجد مصلحة في الدين أعظم من اجتماع كلمة الناس وكل من حمل لواء يريد فيه أن يفرق بين المسلمين يجب نبذه وتركه ولوتستر بألف ستار فإذا كان هذا مسجد كان بالإمكان أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابه أن يأتوه ويلقوا فيه دروس ويغيروه ويحولوه لكنه مادام أسس على باطل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه واحراقه ومن هنا نحن نقول والله أعلم إن القنوات المعاصره اليوم لاتخلوا من أحد أمرين :ـ إن أسست على باطل فلا نرى جواز الخروج فيها ولوظن من يخرج فيها أن هناك مصلحة في الخروج. أما إذا أسست على حق:فيجوزالخروج فيها وإن خالطها شيء من الحرمه فمثلاً جاء إنسان وأسس قناة تبث أفلاماً ثم قال للشيخ والشيخ والشيخ ثلاثه أو أربعه قال نحن نريد منكم دروس في هذه القناة نحن والله تعالى أعلم نقول أنه لا يجوز شرعاُ الخروج في مثل هذه القناة لأن هنا تقرير الصحه ما بنيت عليه القناة أمرها أما إن وجدت قناة أصلاًُ قناة اسلاميه كالمجد مثلاُ ونحن لا نمدح المجد لمصلحه نمدح المجد لأنها المنارة الوحيدة الموجودة الآن التي تبث الإسلام كما نريد فيما نعلم. يقرن إليها قناة الفجر إن وجدت(قناة القرآن الكريم تبقى قنوات رسميه لبعض الدول فهذه لا أسست لا على حق ولا على باطل هذه لمصلحه فهذه يجوز الخروج فيها لتوسطها أما قناة تؤسس لبث دعارة أو بث أفلام فلا يعقل أن تأتي قناة تبث فلما إباحيا أو فلما يكاد يقرب من دوافع الفحشاء ثم يؤتى برجل يحدث ثم ينتهى هذا الرجل ويؤتى بفلم آخر على نفس المنوال هذا عبث هذا مثاله في الواقع كرجل أراد أن يصنع حفلة فرح (زواج) وجاء براقصات ومغنين عراة فجاء ناس ينكرون عليه قالوا: هذا حرام لا يجوز قال:ليست مشكلة هذا الفرح من التاسعة إلى الساعة الثانية من الساعة الحادية عشر إلى الساعة الواحدة أنا أسمح لكم أن تأتوا على نفس المسرح وتلقوا أي حديث.(1/29)
هل يجوز لهذا الرجل أن يأتي هذا الفرح ويلقي هذا الحديث ويخرج وهو يعلم يقيناً أن قبله محرم وبعده محرم لا يمكن لأنك أنت إذا فعلت جعلت الناس يكفرون ويأتون هذا فيما نعتقدة لكن يوجد مسأله مهمه لا يعني ذلك أن من خرج من علمائنا وفضلائنا في مثل هذه القنوات أنه يتهم بشيء ونحن نقول ما ندين الله به لكن كما قلنا إن ما قد نراه نحن حق خطأعند غيرنا ونراه نحن خطأ صواب عند غيرنا نحن نبين الحكم على مانرتضيه لكن لا يجوز لنا ولا لغيرنا أن نقدح في أحد من علماء المسلمين رأى أنه توجد مصلحه في الخروج في تلك القنوات.(1/30)
لكن أنا أقول ما أدين الله به من هذه الأيه (والذين اتخذوا مسجداًضراراً) لأن هذا مسجد بني وسقف ووجد وكان له إمام سيأتي قصته فلو كان الشيء الذي أسس على باطل يمكن قلبه إلى حق لكان هذا المسجد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل أبي بن كعب إمام له وتنتهي القضيه هذا الذي ندين الله به من هذه الآيه نعود إلى الآيه:(وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل)الإرصاد/التربص والترقب وكان هناك رجل يقال له أبو عامر الفاسق وكان يقال له في الجاهليه أبو عامر الراهب وهذا قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أحد:لا أجد قوما ًيقاتلونك إلا قاتلتهم فقاتل حتى مع هوازن يوم حنين ثم خرح إلى قيصر وقال للمنا فقين الذين في المدينة أنتم ابنو المسجد وترقبوا عودتي من قيصربالجنود حتى نخرج محمدا ًوأصحابه منها صلى الله عليه وسلم فهذا معنا قول الله:(وإرصاداً لمن حارب الله ورسول من قبل) والمقصود أبو عامر الراهب وسبحان الهادي هذا أبو عامر هو والد حنظله ابن أبي عامر غسيل الملائكة فسبحان من يخرج الحي من الميت وليس هناك حياة أعظم من حياة الإيمان ولاميت أعظم من ميت ميت الكفر الذي يعنينا(وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحفلن إن أردنا إلا الحسنى) ولا يوجد إنسان يريد أن يضل الناس يقول لهم أنا أريد أن أضلكم الله يقول:(وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)(وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون) فقال الله لنبيه (لا تقم فيه أبداً)فأحرقه صلى الله عليه وسلم ثم قال له:(لمسجد أسس على التقوى) وهو مسجد قباء على الصحيح (من أول يوم)أي من أول يوم حضرته المدينه (أحق أن تقوم فيه) لكن يستنبط من هذا إذا كان مسجد قباء الذي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه هذا الفضل وقلنا إنه مجرد أنه أسسه أما مسجده فهو الذي أسسه وهو الذي شارك في بنيانه فهذا أعظم لأنه إذا ورد هذا في حق ماأسسه فمن باب أولى أن يكون تعظيم(1/31)
المسجد النبوي أعظم لأنه أسسه وشارك صلى الله عليه وسلم في بنائه (أحق أن تقوم فيه)المراد بالقيام هنا الصلاة (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) ثم ذكر الله القاعدة:(أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهد القوم الظالمين) قال العلامه ابن سعدي رحمه الله:.إن المعصيه تؤثر في المكان كما تؤثر فيه الطاعة فذلك المسجد لما بناه قوم عصاه خرج عن كونه مسجد فمسجد قباء لما صلى فيه قوم طائعون مصلحون ازداد نورا على نور هذا ماأردنا بيانه على وجه الإجمال في وقفاتنا هذه الليله مع سورة التوبه وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى وألبسنا وإياكم لباس العافيه والتقوى وصلى الله على محمد وعلى آله.
*ملاحظة: لم تذكر مقدمة الدرس في الشريط.(1/32)
تأملات في سورة يونس (1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا،من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا،وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره،واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.أمابعد ....فهذا واحد من اللقاءات المتجدده مع كتاب ربنا جل وعلى وكنا قد انتهينا في اللقاء الماضي ماأردنا أن نعلق عليه من سورة التوبة ونشرع اليوم إن شاء الله تعالى في تفسير سورة يونس واختيار بعض الآيات منها للتعليق عليها كما جرت العادة وقبل أن شرع فيها نستذكر بعضاً مما ذكرناه في سورة التوبة وقد بينا أن الله جل وعلا قال فيها (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله....)وقلنا إن إنما/أداة من أدوات الحصر وقلنا إن الله جل وعلا هنا جعل الزكاة الشرعية منصرفة إلى ثمانية أقسام عدَّى في بعضها باللام وعدَّى في بعضها بفي والفرق بالتعدية باللام والتعديه بفي أن اللام تقتضي التمليك أما في فلا تقتضي التمليك وحتى تظهر المسألة لوأن إنسانا أراد أن يخرج زكاة ماله فأراد أن يعطي فقيرا فإنه يلزمه شرعا أن يسلم الفقير المال بنفسه يعني يصل المال إلى الفقير بأي واسطة كانت فلابد أن يملكه الفقير حتى تصبح هذه الزكاة وصلت وهذا مقتضى قول الرب جل وعلا(إنما الصدقات للفقراء.....(1/1)
)أما التعديه بفي فلا يلزم أن يقبضها من صرفت له بنفسه فمثلا لو وجد مجاهدون متطوعون كما في الزمن القديم مثلا فأراد إنسانا أن يزكي فاشترى بزكاة ماله فرسا فوضع الفرس في حظيره تعطى للمجاهدين هذا يكفي لايلزم تسليمها إلى مجاهد بعينه هذا الفرق بين الأمرين وقلنا اختلاف العلماء في قوله جل وعلا(وابن السبيل)ورجحنا أنه المجاهد المتطوع في أصح أقوال العلماء وللعلماء في ذلك كما قلنا أقوالا عدة وتكلمنا عن مسجد الضرار وقلنا إن الله يقول(والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون)وقلنا إن المكان المعتبر في الشيء أصل تأسيسه.فالمسجد هذا رغم أنه بني مسجدا لكن لما أسس لغير الغاية المنشودة من المساجد أسس ضرارا وكفرا لم ينفعه أنه مسجد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه واحراقه ولايقال أن تغير نيته فلو كان كذلك لبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو غيرهما من وجهاء الصحابه وأقاموا فيه الصلوات وغيروا الطريق التي من أجلها أنشيء لكن ماأنشيء على باطل يبقى منشأ على باطل وماأنشيء على حق يبقى منشأ على حق ولو دخله بعض.((1/2)
لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين)وقلنا إن الصحيح إن المقصود هنا/مسجد قباء(من أول يوم)أي أول يوم في الهجرة وليس معنا أول مسجد أسس في العالمين فإن أول مسجد أسس في العالمين هو المسجد الحرام لكن أول مسجد أسس في الإسلام هو مسجد قباء من الفوائد اللغويه إن الله قال(لاتقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه)بعدها (فيه رجال يحبون أن يتطهروا)وهذه كلمتان متشابهتان لم يفصل بينهما فاصل (فيه)بعدها مباشره(فيه رجال يحبون أن يتطهروا)هذه إحدى الفوائد اللغويه في القرآن ومثلها قول الله في الأنعام(وقالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ماأوتي رسل الله)بعدها (الله أعلم حيث يجعل رسالته...)فجاء لفظ الجلاله لايفصل بينهما بفاصل إلا المعنى فتقف عند قول الله جل وعلا (وقالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ماأوتي رسل الله)بعدها تقف وتقول (الله أعلم حيث يجعل رسالته) هذه كفائده
الفائدة الثانية:جاءت ثلاث هاءات في القرآن متواليه.لايفصل بينهما فاصل وهي قول الله جل وعلا(أريت من اتخذ إلهه هواه)فإلهه مختومه هاءين والكلمه التي بعدها مبدوءة بهاء.فأصبحت ثلاث هاءات متواليه.هذه كفوائد تعينك وتحفز همتك على تدبر كلام الله وتدبر كلام الله أيا كان فهو نافع.لأن الإنسان لابد أن يشغل نفسه بحق أو بباطل حتى لو ذهنيا يفكر فلإن تنقضي الأعمار في التفكر في كتاب الوحد القهار خير من أن تنقضي في شيء آخر أيا كان وهذا سر أن علم القرآن أشرف العلوم هذا ماتكلمنا عنه في الأسبوع الماضي اليوم نتكلم عن سورة يونس وسورة يونس عدد آياتها فوق المائة وكنا قدمنا في الدرس الأول أو الثاني من هذه اللقاءات أن العلماء يقسمون القرآن جملة كسور إلى أربعة أقسام:ــ
1/ يسمى السبع الطوال..
2/ يسمى المئون جمع مائه..
3/ المثاني...
4/ يسمى المفصل ويقال له/ المحكم..(1/3)
هذا التقسيم السبع الطوال والمئون وإذا نصبت أو جرت تقول: المئين والمثاني والمفصل هذه الأربع العلاقه بينها وبين سورة يونس أن سورة يونس عند قوم من العلماء من السبع الطوال وعند ءاخرين: من المئين فسورة يونس لا تنفك إما من المئين وإما من السبع الطوال ومرد هذا الإختلاف نحن قلنا في دروس سابقه أن السبع الطوال هي: البقره، آل عمران، النساء، المائده،الأنعام، الأعراف..هذه الست متفق عليها على أنها من السبع الطوال بقينا في السابعه من العلماء من يرى أن التوبة والأنفال سورة واحده كما مر معنا فهذا يجعل التوبة والأنفال هي السابعه وعلى هذا يكون عدد سور المصحف بهذا الترتيب مائه وثلاثه عشر ومن لا يرى أن التوبة والأنفال سورة واحده وهذا هو الذي عليه الجمهور يجعل السابعه من السبع الطوال يجعلها يونس فيقفز التوبه ويقفز الأنفال هذه السبع الطوال قلنا بعد الطوال يأتي المئون..المئون عند العلماء ما جاوزت أو قاربت المائة آيه ومن طرائق العلم أن الإنسان نقول مرارا لا بد أن يفهم تصور عام للعلم الذي يريد أن يدخل فيه أما الإكتفاء بالجزئيات لا يمكن أن يبني علما فلا بد أن تتصور المسأله عموما ثم حتى الجهل بالجزئيات لا يضر لكن إذا كان الإنسان يفقهه الجزئيات ويجهل الكليات هذا ليس بعلم، العلم أن تفهم الأمور بكلياتها مثلا رجل غريب من غير السعوديه فتريد أن تصف له مثلامسجد نفرض المسجد الذي على الطريق يسمى جامع النزاوي نفرض تريد أن تصف له تقول له عند دوار القبلتين مثال هو أولاً هذا ليس بجواب أول شيء تقول له في السعوديه ثم تقول له في المدينه ثم تقول له في الجهه الغربيه من المدينه ثم تقول له عند دوار القبلتين فلا تبدأ بالجزئيات.(1/4)
الجزئيات لا تقدم علما فإذا أردت أن تعرف كلام الله يجب أن تعرف أولا أنه مائة وأربعةعشرسورة وأنه مقسم إلى أربعة أقسام من حيث جمع السور بعضها إلى بعض وأنه مقسم من حيث النزول إلى مكي ومدني ومقسم من حيث الحكم إلى ناسخ ومنسوخ ومقسم من حيث الإيمان إلى محكم ومتشابه ومقسم من حيث الجمله إلى عام وخاص إذا فهمت هذا تفهم القرآن أما أن يدخل الإنسان من جزئيات لن يفقه شيئا في دين الله هذه معلومات تقال في كتب مسابقات ثقافيه يجيب عليها إنسان يقرأ ورقة تقويم يستفيد معلومه يدخل مسابقة يأتي السؤال الذي قرأه في التقويم فيجيب فيقول الناس فلان عالم أو هذا مثقف هذا ليس بعلم العلم الشرعي الذي يتصدر به الإنسان للناس ينبغي أن يكون مؤصلا بهذه الطريقه فقلنا إن القرآن يقسم إلى السبع الطوال وذكرناها ثم المئين ثم يقسم إلى المثاني فيأتي السؤال المئين عرفنا لماذا مئين لأنها تصل المائه والطوال لماذا طوال؟ لطولها بقينا في المثاني / معنى ثنى الشيء كرره إذن تسمى المثاني بالمثاني لأنها تقرأ في الصلوات أكثر من غيرها هذا القسم الثالث .والقسم الرابع المفصل وقد بينا اختلاف العلماء في بداية المفصل قيل من" ق" وقيل من "الحجرات "الذي يعنينا أن المفصل سمي بالمفصل لأنه كثيرا مايفصل فيه مابين سوره بقول(بسم الله الرحمن الرحيم) جاء في مسند الإمام أحمد من حديث ابن عباس بسند صحيح أن المفصل يسمى المحكم ويسمى المفصل بالمحكم لأنه لا يدخله النسخ كثيرا لأنه مسائل عقديه لاتقبل النسخ.(1/5)
النسخ يأتي في الأحكام والأحكام في السور المدنية في البقرة في أمثالها في الأعراف في الأنعام يأتي النسخ أما أحكام العقائد أن الله جل وعلا واحد وأن النبي صلى الله عليه وسلم رسول واليوم الآخر بعث هذا لايقبل النسخ يسمى محكم أو يسمى مفصل أتينا الآن إلى سورة يونس قلنا إن العلماء يتراوح قولهم مابين أنها من السبع الطوال أو من المئين وهي بحسب ترتيب المصحف لابحسب النزول أول سورة في القرآن سميت باسم نبي. والقرآن بالنسبه للأعيان ورد فيه أسماء سور بأسماء أنبياء وسور للقرآن بأسماء قوم صالحين لم تثبت نبوتهم فما ورد بأنه أسماء أنبياء أول سورة يونس وتعقبها مباشرة سورتان هود ويوسف أصبحت ثلاثة طبعا لاأحد يقول" طه" ولا"يس" لاختلاف العلماء في( طه ويس ) ثم بعدها "إبراهيم" وهو الرابع بقيت اثنتان "محمد" صلى الله عليه وسلم ولها اسم ثان هي" سورة القتال" وسورة "نوح" إذن أسماء الأنبياء التي أطلقت على السورست ثم جاءت سور باسماء قوم صالحين لم تثبت نبوتهم مثل أول سورة" آل عمران" فإنهم قوم صالحين بالإتفاق(إن الله اصطفى ءادم ونوحا وءال إبراهيم وءال عمران ...(1/6)
)وسورة "مريم "بعدها بعده سور سورة "لقمان"فمريم ولقمان وآل عمران هؤلاء قوم صالحون ليسوابأنبياء اللهم أن يقال إن من آل عمران عيسى ممكن لكن إذا قلنا بالجمله فإنهم قوم صالحون هذه سورةيونس مما يتعلق بالسورة أنها اسم للنبي اشتهرت قصته ولايوجد داع لقول قصة يونس لأنها معروفه ونحن نتكلم هنا في درس علمي لافي درس وعظي لكنها سميت بهذا الاسم لأن الله ذكر اسم هذا النبي فيها فقال (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها إلاقوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين)قلنا في دروس سبقت إن سنن الله لا تتبدل ولاتتغير فإذا استثنى الله شيئا ينبه على أنه خارجا عن سنته فإذا خرج الشيء عن سنة الله التي جرت في الخلق لا يجوز لأحد أن يستشهد بها من الدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في أصح قولي العلماء حارب وقاتل ومكة سنة الله في خلقه أنها محرمة فقال صلى الله عليه وسلم يرد هذا الباب يردم هذه الفجوه قال:" إن الله حرم القتال فيها فإن احتج أحد "هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم"بقتالي فيها فقولوا... أي قولوا له:" إن الله أحلها لنبيه ساعة من نهار ولم يحلها لك .هذا دلاله على أن السنه لايستشهد بها قلنا مراراأن الإيمان .
1/إيمان اضطراري.
2/إيمان اختياري.
وقلنا إن الله لايقبل الإيمان الإضطراري أبدا والإيمان الإضطراري له حالتان .
الحالة الأولى :ـ عامه لم تأتي وهي طلوع الشمس من مغربها .والدليل عليه قول الله تعالى (يوم يأتي بعض ءايات ربك لاينفع نفسا)مفعول به مقدم(إيمانها)فاعل يعني لاينفع الإيمان النفس .(1/7)
والحاله الثانيه:ـ إذا حق العذاب ونزل فلا يقبل كما قال فرعون (ءامنت أنه لاإله إلا الذي ءامنت به بنواسرائيل وأنا من المسلمين)ومع ذلك لم يقبل الله منه إيمانه هذه الحاله العامه السنه الكونيه العامه أخرج الله منها قوم يونس لحكم أخفاها الله لكن أثبتها أثبت الواقعه قال الله (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها )أي معنى الآيه إذا آمنت قريه وقت حقوق العذاب لايقبل (لولا كانت قرية)يعني لايوجد قرية ءامنت فنفعها إيمانها ثم سمى ربنا فقال(إلاقوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين )ولهذا اختلف العلماء هل إيمانها هذا يقبل في الآخره أولايقبل والصواب إن شاء الله أنه يقبل مادام الله أكرمهم في الدنيا سيكرمهم في الآخره وقلنا إن يونس أحد أنبياء الله من بني اسرئيل ولاحاجة للإخبار عن قصته لإشتهارها نأتي الآن إلى هذه السورة قلنا إنها أول سورة بدأت باسم نبي كما أنها أول سورة ذكر فيها الحلف الذي أمر الله به نبيه أن يحلف وقد أمر الله نبيه أن يحلف في ثلاثة مواضع في القرآن على شيء واحد وهو تحقيق البعث وهذا فيه دلاله على من قال إن كثرة الحلف ليست بقادح يعني بعض الناس يقول كثرة الحلف لاتصلح لكن هذا فيه رد قالوا إن الله أمر نبيه أن يحلف ثلاثة مرات أول مرة في سورة يونس (ويستنبؤنك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين)هذا في يونس والثانيه في سبأ(وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب...(1/8)
) والثالثه في التغابن (زعم الذين كفروا ألن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن)وكل القسم جاء بكلمه (وربي)إلاأنه في يونس قال الله (قل إي وربي)هذه (إي) عند النحويين حرف جواب بمعنى نعم إلا أن النحويين يقولون إنها لايؤتى بها إلا إذا جاء بعدها قسم معنى الكلام أنك لوأردت أن تقول إي فقلتها فلابد أن تلحقها بقسم هذا مايتعلق عن السورة اجمالا ثم نختار كالعاده آيات منها الآيه الأولى قوله جل وعلا (وبشر الذين ءامنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم...)الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والبشاره أمر معروف لكن العلماء رحمهم الله اختلفوا في معنى قوله جل وعلا(قدم صدق عند ربهم)على أقوال كل يعضدها دليل قال بعض العلماء:" قدم الصدق":ـ المقصود به الجنه يعني المكان والمدخل أو المقام وحجة هؤلاء قول الله جل وعلا (وقل ربي أدخلني مدخل صدق..)فقالوا إن المدخل والقدم كلها بمعنى واحد والمقصود بالآيه هنا الجنة وهذا يظهر أنه بعيد .(1/9)
الأمر الثاني قالوا:ـ إن المقصود بها شفيع قبلهم وهذا الشفيع هو الذي يجعل هؤلاء المؤمنين يتكئون على شيء قبل أن يصلوا إلى ربهم وهؤلاء قالوا إن المقصود به شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم واحتجوا بما جاء في السنه الصحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال(أنافرطكم على الحوض)ومعنى فرطكم أي سابقكم إلى الحوض هذه حجة من قال أن القدم هنا الشفيع وبعضهم أبعد قليلا وهوقول الحسن البصري رحمه الله أبوسعيد الإمام المعروف قال إن "قدم الصدق" وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وجه الدلاله عنده أن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مصيبه وصبر المؤمنين على هذه المصيبه هي قدم صدق عند الرب هذا القول الثاني وتفرع عنه قول الحسن البصري كما بينا القول الثالث:ـ أن قدم الصدق المعنى ماكتب الله في الأزل في القدم أن هؤلاء كتب الله لهم الجنه من قبل وهؤلاء حجتهم آية الأنبياء (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون)فقول الله جل وعلا (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى)دليل على أن الحسنى سبقت لهم من قبل فقالوا إن معنى قول ربنا جل وعلا (وبشر الذين ءامنوا أن لهم قدم صدق)أن المقصود بها ماكتبه الله جل وعلا في الأزل من أن لهم الجنه وهذا قوله قول قوي جدا القول الرابع: أن المقصود بقدم الصدق:ـ العمل الصالح وهذا هو قول مقاتل بن سليمان أحد أعظم المفسرين واختاره الإمام الطبري رحمه الله وحجة هؤلاء أنه جاء في كلام العرب أن العرب تكني عن النعمه باليد تقول فلان له علي يد يعني له علي نعمه وتقول عن الثناء الحسن تكني عنه باللسان جاء في القرآن(واجعلي لسان صدق في الآخرين)معنى لسان صدق يعني ثناء حسنا في الآخرين وتكني بالقدم عن السعي وهذا ثابت عندهم وفيه أشعار لهم كقول حسان : إليك قَََََََدمُنا وخَلْفُنا لأوَلِنا تابِع ....(1/10)
فالمقصود منها أن السعي هو القدم لكن لما قال قدم صدق أصبح السعي بالعمل ..بالعمل الصالح وهو الذي يظهر والله تعالى أعلم لكن قلنا إنك لست ملزما بقول من يملي عليك فما تختاره لك فيه إمام سابق هذه الآيه الأولى ثم قال سبحانه وتعالى لما ذكر أهل الجنه قال (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) دعواهم هنا بمعنى دعاؤهم لكن يأتي الإشكال من جهتين الإشكال الأول :ـ أن الجنه بالإتفاق ليس فيها تكليف ليس فيها عمل فكيف يقال (دعواهم فيها)هذا أجابت عنه السنة أنهم يلهمون التسبيح كما يلهم أحدكم النفس الآن صوره طبيعه الإنسان يتنفس بصورة طبيعيه يلهم إلهام صوره طبيعيه مافيه أحد يتكلف النفس هذا شيء يقع بصورة طبيعيه من الله فأهل الجنة يلهمون التسبيح من غير كلفه كما يلهم أحدنا النفس لكن قال بعض العلماء وهذا لادليل عليه لكنه موجود قالوا إنهم إذا اشتهوا شيئا يقولون سبحانك الله فيأتيهم مايشتهيه وهذا غير بعيد لكن لا نملك دليلا على صحته أورده وقلنا إن الغيب لايتكلم فيه إلابنص ظاهر، هذا اشكال بسيط .الإشكال الثاني:ـ عندما نقول الآن سبحانك اللهم هل أنت طلبت شيء ومع ذلك سماه الله جل وعلا دعاء نأتي إلى مسألة تقع في رمضان سنوياً وهو أن الإمام إذا أثنى على الله مثلا نصلي وراء مشايخنا حفظهم الله الشيخ الحذيفي وإخوانه من الأئمه يدعون..(اللهم اهدنا فيمن هديت) إلى أن يقول الإمام (اللهم إنه لايعز من عاديت ولا يذل من واليت)أو يقول "ربا وجهك أكرم الوجوه "أو يثني على الله فيقول من في الحرم سبحانك...(1/11)
وقد قلنا مرارا في هذا المسجد وفي غيره إن هذا القول لايوجد أي دليل عليه لأن الثناء على الله نوع من الدعاء وإذا دعاالإمام فإن موقف المأموم واحد من اثنين إما أن يسكت وإما أن يؤمن ولايوجد شيء في الدعاء أن يقول الإمام شيئا ويقول المأموم سبحانك لايوجد في السنة فيما نعلم ولافي القرآن دليل على أن الإمام إذا قال شيئا يقول المأموم سبحانك.المأموم حاله مع إمامه واحد من اثنين إما أن يؤمن وإما أن يسكت أما قول سبحانك أوحقا أونشهد كما يقول بعض إخواننا المصريين فهذا لايوجد عليه دليل من أدلتنا عموما على أن الدعاء يأتي بمعنى الثناء هذه الآية فإن الله قال(دعواهم فيها)أي دعاؤهم فيها سبحانك اللهم وهذا ليس فيه طلب ومن السنه كثير منها أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوا عند حلول الكرب بهذه الكلمات (لا إله إلا الله العظيم الحليم لاإله إلا الله رب العرش العظيم لاإله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم)وليس في هذه طلب فلا يلزم من الدعاء أن يكون طلبا بل إن من الطلب أن تثني على الله وأنت أمثل حتى مع العامه الآن تخرج من المسجد تقابل رجل يشحذ حتى هؤلاء الشحاذين يختلفون فيأتي إنسان يقول أنامسكين يريد ريال فيه آخر يقول أعطني ريال فيه آخر أعطني لله لايسمي فيه آخر يقول لك أنت أنت رجل كريم أنت طيب مامعنى أنت طيب ،أنت كريم،أعطني فالثناء نوع من الدعاء وممايدل عليه من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الترمذي (خيرالدعاء دعاء يوم عرفه وخير ماقلت أنا والنبيون من قبلي -الآن يتكلم عن الدعاء- قال:(لاإله إلا الله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)هذا مدح وثناء على الله فسماه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء.(1/12)
الثالث ماثبت بعدة طرق عند النسائي وعند أحمد أن سعدا بن أبي وقاص رضي الله عنه مر على عثمان بن عفان فلما مر سلم فلما سلم نظر إليه عثمان وملأ عينيه منه يعني نظر عثمان في سعد وحدق فيه النظر ولم يرد السلام فذهب سعد إلى عمر رضي الله عنه فقال ياأمير المؤمنين هل حدث في الإسلام شيء قال لا لماذا تسأل قال إنني مررت على عثمان فسلمت عليه فملأ عينيه مني ولم يرد السلام فبعث عمر إلى عثمان واستدعاه وقال له مامنعك أن ترد السلام على أخيكزقال لم أره فحلف سعد أنه سلم وأن عثمان رءاه وحلف عثمان أنه لم يرى سعدا ولم يدري أن سعدا سلم عليه طبعا لايمكن أن يكون أحدهما كاذب فحلف الإثنين ثم تراجع عثمان وقال استغفر الله وأتوب إليه تذكرت الآن وهذا دليل أنك لاتعجل على الناس قال تذكرت الآن لكنني كنت أفكر في مسألة إذا تذكرتها تصيبني غشاوة قال إنني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول سأدلكم على دعوة وسكت فكمل سعد قال أنا أكمل لك القصه فأراد أن يقول لنا الدعوه ثم جاء أعرابي فشغله فمضى قبل أن يخبرنا بها فأسرعت وراءه سعد يسرع وراء الرسول صلى الله عليه وسلم قال فلما أراد أن يدخل الدار يعني البيت فضربت بقدمي على الأرض بقوة حتى أشعره أن أحدا وراءه فلما ضرب سعد الأرض بقوه التفت صلى الله عليه وسلم قال: مه .مه /كلمه للإستفهام تقولها العرب قال أبو إسحاق وهذه كنية سعد(أبوإسحاق)قال نعم يارسول الله ثم قال يارسول الله إنك أردت أن تقول لنا دعوة فجاء الأعرابي فشغلك فقال نعم دعوة أخي ذي النون(لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)مادعى بها مسلم في كرب إلااستجاب الله له.(1/13)
موضع الشاهد من القصه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى قول ذي النون (دعاء)وقد سماه الله من قبل في القرآن دعاء قال الله:(وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى)اسماه الله نداء دعوة ذي النون ماذا فيها(لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)فليس فيها طلب وإنما فيها ثناء على الله يتحرر من هذاكله من هذه الشواهد أن قول دعوة(سبحانك اللهم)فيها نوع من المسألة (وتحيتهم فيها سلام)هذه التحيه المقصود بها إجمالا لكن قلنا إن القرآن مايجمل في موقف يفسر في موقف ثاني السلام هنا تحية الله لهم والدليل (سلام قولا من رب رحيم)وتحية الملائكه لهم ودليلها (سلام عليكم بما صبرتم فنعما عقبى الدار)وتحيتهم في بعضهم لبعض وهذا دليله حياتهم في الدنيا لأنهم إذا كانوا يسلمون على بعضهم في الدنيا فمن باب أولى أن يكون بينهم سلام في الآخره (وءاخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)وقلنا إن الرجل إذا أراد أن يحرر خطبه أو أراد أن يحرر محاضره أو أراد أن يحرر شيء فمن المناسب أن يقول (الحمد الذي جعل حمده أول آية في كتاب رحمته )أي في الفاتحه "وآخر دعاء لأهل جنته"أي قوله تعالى(أن الحمد لله رب العالمين)الآيه الثالثه التي سنقف عندها قول ربنا جل وعلا(وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ماكانوايعملون)هذه الآيه هي إحدى آيتين في القرآن باستقراءنا والله أعلم قد تجد غيرها التي وردت فيها كلمة واحدة ترددت ثلاث مرات وجاءت عليها الثلاثة الأحوال النحويه أي أن هذه الأيه إحدى كلمتين في القرآن كلمة (الضر)إحدى كلمتين في القرآن جاءت في ءاية واحدة ومرت عليها الأحوال الثلاث قال الله (وإذا مس الإنسان الضرُ..(1/14)
)إعراب الضر هنا/فاعل (فلما كشفنا عنه ضرَّه)وقعت مفعول به منصوب(مر كأن لم يدعنا إلى ضرٍّّّّّّّ)فمر عليها الرفع والنصب والجرولايوجد حاله للإسم غير هذه الثلاث إما أن يرفع وإما أن ينصب وإما أن يجر والكلمه الثانيه في البقرة الله يقول (الحجُّّّّّّّّّّّّّّ أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحجَّ فلا رفث ولافسوق ولاجدال في الحجِّ)هذا كفائده نحويه وقد تجد أنت في القرآن غيرها لكن هذا الذي وجدته أنا نعود للآيه الآيه تتكلم عن الإنسان وهنا(أل)للإستغراق للجنس وقلنا إن (أل)إما أن تأتي للإستغراق والجنس وإما تأتي للعهد فإذا جاءت للعهد تنقسم إلى قسمين :
1ـ عهد لفظي.
2ـ عهد ذهني.(1/15)
عهد عقلي شيء في العقل أو عهد لفظي وإذا جاءت للجنس وهو أكثر ماتأتي في القرآن يقصد بها الإستغراق يعني جنس الإنسان فكلام الله هنا عن كل إنسان الله يقول(وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما...)يعني لايفتأ يدعوا ربه على كل حال(فلما كشفنا عنه ضره)أي معناه (مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ماكانوا يعملون)هذا يسمى يابني اطلاق .س/هل كل أحد إذا مسه الضر ودعاالله وكشف الله عنه ضره يغفل عن الله؟مستحيل ليس كل أحد فالمسلم المؤمن الصادق في إيمانه لايمكن أن يغفل وإذا احتج أحد عليك بالآية؟ترد عليه بالقرآن.وقلنا إنه يجب أن ينظر إلى القرآن على أنه كله كل لايتجزأ.(1/16)
ماأطلقه الله هنا قيده في هود قال(ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور)هذا نفس الإطلاق الذي في يونس ثم استثنى جل وعلا(إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير)فيصبح هذا المؤمن مستثنى من هذا الإطلاق الذي في سورة يونس بالقرآن ومستثنى بالسنه في حديث(عجبا لأمر المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر فكان خيرا له)هذا الإستثناء الذي أطلقه الله جل وعلا في يونس قيده تبارك وتعالى في هود وقيدته السنه نأتي للمعنى /المعنى أن الإنسان بطبيعته كافرا أو مؤمن إذا جاءه الضر يلجأ إلى الله وهذه حاله يستوي فيها أهل الكفر مع أهل الإيمان ولكن الإبتلاء يكون بعد رفع الضر فالله يقول عن جنس الإنسان عموما(فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه)نسأل الله العافيه فمن الناس أعاذنا الله وإياكم من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنه انقلب على وجهه والمؤمن يعبد الله على كل حال مؤمنا بالله راضيا بقضاء الله وقدره ويعلم أن خيرة الله له خير من خيرته لنفسه وأن ماأصابه لم يكن ليخطئه وماأخطأه لم يكن ليصيبه وأن ماكان لك سيأتيك على ضعفك ومالم يكن لك لن تناله بقوتك جفت الأقلام وطويت الصحف،وحرم النبي صلى الله عليه وسلم على الأمه أن تقول لو لأن لو تفتح عمل الشيطان والمؤمن يرضى بقضاء الله وقدرته والرضا بالقضاء والقدر هو الحياة الطيبه التي قال الله عنها لأهل الإيمان (فلنحيينه حياة طيبة)فالرضا بقضاء الله وقدره هو معنى الإيمان الحق وكم من منحه يعني عطيه في طيي محنه والحبل إذا اشتد انقطع والسحاب إذا تراكم همع يعني ينزل ماء فالأمور كلما ازداد ضيقها دل على قرب الفرج والإنسان لايدري ماهو مكتوب لكن يستقدر الله الخير ويرضين بقدر الله ويأخذ بالأسباب ويتوكل على الله فإن جاءه مايؤمل فالحمد لله وإن لم يأته مايؤمل فكذلك الحمد لله لكن(1/17)
لايعم يقول الحمد لله على كل حال ونعوذ بالله من حال أهل النار ويعلم أن خيرة الله له خير من خيرته لنفسه هذا كفائده إيمانيه كفائده دنيويه لاتؤمل في الناس خيرا أكثر من اللازم فقد تحسن إلى إنسان فلا يكافئك على إحسانك فلا تتعجب لأن الإنسان إذا وجد من الناس من الله يكشف عنه الضر فيمر كأن الله لم يكشف عنه شيئا إذا كان هذا تعامله مع خالقه من باب أولى أن يكون تعامله مع عبد مثله ومخلوق مثله أردى من ذلك وأسوأ والعاقل أصلا لايؤمل مافي أيدي الناس شيئا يزرع الجميل ولو في غير موضعه فإن الجميل يحصد في أي مكان وينفع والعرب تقول :لايذهب العرف بين الله والناس ،إن أضاعوه الناس يبقى عند الله لكن الذي يعنينا في الآيه أن من دلائل أهل الإيمان أن لهم مع الله طريقين وكل طريق لهم فيه مطيه فطريق الإبتلاء مطيتهم فيه الصبر وطريق النعماء مطيتهم فيه الشكر والحمد ،وهما في كلا الحالتين معترفون مقرون لله جل وعلا بالحمد والفضل والمنة... هذا ماأردنا بيانه هذه الليلة على عجل حول سورة يونس .وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلىآله وصحبه أجمعين.(1/18)
تأملات في سوره يونس [2]
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه وأشهد أن لاإله إلاالله وحده لاشريك له خالق الكون بما فيه وجامع الناس ليوم لا ريب فيه وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى أله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثر واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد فهذا هو اللقاء الثاني المتعلق بتعليقنا وتأملاتنا على سوره يونس وكنا قد سبق أن التقينا الأسبوع الماضي وتحدثنا عن هذه السوره وقلنا إنها سميت بهذا الإسم لأنه ورد فيها ذكر اسم النبي الكريم يونس بن متى عليه الصلاة والسلام في قوله جل شأنه (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا) ويونس بن متى أحد الأنبياء المرسلين بنص القرآن وقد ذكره الله جل وعلا في القرآن باسمه الصريح وذكره في القرآن بلقبه ذكره باسمه الصريح في النساء والأنعام وفي يونس والصافات وذكره جل وعلا بلقبه مرتين في الأنبياء:(وذا النون إذ ذهب مغاضبا) وفي القلم:(ولا تكن كصاحب الحوت) وسميت هذه السوره باسمه وقلنا في الدرس الماضي إنها أول سوره في القرآن إذا التزمنا بترتيب المصحف صُدرت باسم نبي ثم تلاها سوره هود ثم سوره يوسف ثم ذكرنا سوره إبراهيم ثم ذكرنا سوره محمد ثم نوح هذه السور التي سميت بأسماء الأنبياء وذكرنا أن من غير الأنبياء ممن سميت السور باسمائهم من الصالحين ثلاثه:ـ(1/1)
1/ آل عمران 2/ مريم 3/لقمان هذه جمله ما تكلمنا عنه إجمالا حول تسميه السوره ثم انتقلنا إلى أن السوره هي أول سوره في القرآن أمر الله فيها نبيه أن يحلف (ويستنبؤنك أحق هو قل إي وربي إنه لحق) وقلنا بقيت اثنتان الأولى في سبأ(وقال الذين كفروا لاتأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب) والثانيه في التغابن (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن) الآن ندخل على درس الليلة سنقف أولا عند قول الله جل وعلا:(ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون*الذين ءامنوا وكانوا يتقون *لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الأخره لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم*ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم) من المقر شرعا أن الله جل وعلا أمر الخلق بعبادته وحذر الناس من عباده الشيطان فمن عبد الله فهو بالجمله ولي من أولياء الله ومن عبد الشيطان عياذا بالله وكفر فهو ولي من أولياء الشيطان والشيطان يوم القيامه يتبرأ من أوليائه كما قال الله عنه أي عن إبليس أنه يقوم خطيبا يوم القيامه في اتباعه (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي.....(1/2)
) إلى آخر الآيه في سوره إبراهيم أما أولياء الله فحتى لا يترك مجال للناس في تعريف من هو الولي فسر الله الولي بالقرآن نفسه وهذا من إيضاح القرآن بالقرآن يسألك إنسان مالحطمه؟فتجيب بالقرآن(وماأدراك مالحطمه*نارالله الموقده)إذن مالحطمه/نار الله الموقده ولايمكن أن يأتي أحد فيفسر الحطمه بأفضل من أن تقول نار الله الموقده هنا قال الرب سبحانه(آلاإن أولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون)فسر جل وعلا قال(الذين ءامنوا وكانوا يتقون)فمن ءامن بالله واتقى فهو ولي من أولياء الله لكن هذه الولاية درجات ومنازل عدة لكن بالجمله كل من ءامن بالله واتقى الله فهو ولي بنص القرآن وقد أغرق الناس في هذا الباب(باب الولاية)في مداخل ومخارج لايعلمها إلا الله منذ أن ظهرت الصوفيه في القرن الثالث في الأمه إلى يومنا هذا والناس في قضية هذا ولي وهذا غير ولي يركبون مراكب الصعب والذلول في إثبات أمور أثبتها الله من قبل ولاحاجة لخوض الناس فيها كما يخوضون فيه اليوم الصحابه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يعرفون اسم للناس إلامسلم أو مؤمن أو اسم تاريخي يقال فلان بدري لأنه شهد بدرا أو يقال فلان من أهل الشجره لأنه شهد البيعه أو يقال فلان تابعي لأنه رأى الصحابه أمور تتعلق بأحداث تاريخيه لاتتعلق بأعمال القلوب والنبي عليه الصلاة والسلام قال(من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه)ومن حسن اسلام المرء بناء على هذا الحديث أن لايدخل الإنسان في تصنيف الناس وألا يفتن أحد بأحد ولايعظم أيا ماترى في عيناك من بشر مهما رأيت فيه من الدين أو من البكاء من خشية الله أو من حسن الصوت بالقرآن أو من العلم أوما إلى ذلك لاتفتن بأحد فالقلوب بين اصبعين من اصبع الرحمن يقلبها كيف يشاء وكما أنك لاتفتن بأحد تخشى الفتنه على نفسك فلا يغرنك عملك ولاما إلى ذلك أو ثناء الناس عليك أوما تراه أو أشياء كثيره قد تصبح لك مشجعه كما سيأتي لكن لاتصبح لك مهلكه(1/3)
وتظن أنك أنت تستحق هذا أو أنك قادر أو أن تزكي نفسك قلبيا وفرق جم مابين أن يزكي الإنسان نفسه قلبيا ومابين أن يزكي الإنسان كموهبه أعطاه الله جل وعلا إياه تزكية القلوب أمرها محسوم أنها لاتجوز قال الله(فلاتزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى)فلا يجوز لأحد أن يزكي نفسه قلبيا أما تزكية الصنعه التي تحسنها فهذا لاضير فيه ومن قول نبي الله يوسف(قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)هنا يتكلم عن أحوال الجوارح يتكلم عن قدرة في إدارة شؤون الدوله اقتصاديا ولايتكلم عن إيمانه وتقواه وقربه من الله يتكلم عن أمر دنيوي محض قال (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)تريد أن تركب باصا تسافر به إلى مكة وأمامك أربعين نفس أنت مسؤول عنهم فمن حقك أن تسأل من يريد أن يقود أيكم يحسن القياده فلو قام أحد الناس أنا أحسن أو يتكلم عن خبره سابقه فهذا ليس تزكية للنفس هذا إخبار بالعمل لايذم صاحبه لأن فيه منجاة للناس وإلا ترك الأمر على غير ذلك لهلك الناس لكن المحرم شرعا تزكية أعمال القلوب هذه اجعلها بينك و بين الله ولاتأبى بمدح الناس ولا بذمهم وسيأتي التفصيل أكثر من ذلك قال الله(آلا إن أولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون)قلت من المهم جدا أن يخشى الناس على نفسه الفتنه والسعيد من يتعظ بغيره وقد ذكر الله جل وعلا نماذج في القرآن وجاء في السنه وفي أحوال الناس المعاصره وغير المعاصرة نماذج فتن الناس بها ثم انقلبت على اعقابها عياذا بالله والله جل وعلا يقول(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) بعد أن من الله جل وعلا عليه بالعلم وأصبح ذا قدره وذا مكانه أخلد إلى الأرض واتبع هواه كما قال الله جل وعلا عنه فعلى هذا أمر في نفسك يتعلق بغيرك وأمر في نفسك يتعلق بنفسك فأما أمرك الذي يتعلق بغيرك ألا تفتن بأحد والأمر الذي يتعلق بنفسك أن تخشى على نفسك الفتنة فإن الإنسان مطلوب منه أن يعبد الله حتى يلقى الله قال الله(1/4)
لنبيه:(واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)أي حتى يحل بك الموت.وتفارق الروح الجسد هناك ينتهى وقت التكليف وزمنه بعد ذلك لو مدحت شخصاً أفضى إلى ربه بحدود الشرع فلا ضير،أما والإنسان حي فلا تبالغ في مدح أحد ولا تفتن بمدح أحد،كان هناك رجل وهذا من باب العظه يقال له عبدالله القصيمي هذا مات مؤخرًا قبل عدة سنوات كان يسكن القصيم،ثم سافر إلى الأزهر قديمًا،هو عمِّّر إلى التسعين ومات قبل عدة سنوات في الأردن وكتبت الصحافه عنه شيئًا كثيرًا لكن أنا أتكلم عن الفتنه فلما سافر إلى القصيم درس في الأزهر فجاء أحد علماء الأزهر كتب كتبًا يقال له الدوجي ألف كتبًا في قضايا جواز التبرك بالأضرحه ودعاء الأولياء فرد عليه هذا الشيخ آنذاك وهو طالب في الأزهر فلما رد عليه قرر الأزهر فصله بعد جلسات علميه لمجلس الجامعه كان الشيخ محمد رشيد رضا صاحب تفسير المنار شيخ الألباني حيا أنذاك حاول أن يقف معه وأن يعضده لكنه لم يستطع أن يفعل له شيئا لكن الشاب آنذاك لم ييئس وألف كتبا جعلت له مكانه علميه آنذاك ثم ظهر في سوريا رجل شيعي ألف كتابا يخاصم فيه دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب فرد عليه هذا صاحبنا بكتاب اسمه(الصراع بين الإسلام والوثنيه)في ألفين وخمسمائه صفحة أظهر فيها قدره علمية خارقه وحجج عقليه قلما يصنعها أحد من أهل زمانه ففتن الناس بعلمه حتى أنه في إحدى خطب الحرم المكي ذكره الإمام على المنبر يثني على الكتاب وعلى صاحبه.
صراع بين إسلام وكفر
يقوم به القصيمي الشجاع(1/5)
إلى آخر القصيده وقال العلماء آنذاك للملك عبد العزيز رحمه الله وكان حيا قالوا له إن القصيمي بكتابه هذا دفع ثمن مهر الجنه. بناء على مافي الكتاب من قدرات في الرد وردم الوثنية وإعلاء شأن الإسلام فتن الناس به فترة ثم خبوا،فكأنه كان يرجوا أن يكون له عند الناس مكانه أعظم مما تلقاها منهم،فبعد ذلك رجع إلى مصر وسكن فيها وخالط قوماً من أهل الفساد"فساد الفكر"فألف كتاباً يتبرأ فيه نسبياً من كلامه الأول ثم عياذاً بالله ارتد صراحة وألف كتاباً اسماه(هذه هي الأغلال) والتهم الدين كله بأنه غل وتكلم حتى في الرب جل جلاله.وجلس ذات يوم أمام رئيس الوزراء المصري آنذاك وكان موجودا الشيخ:محمد متولي الشعراوي العالم المصري المعروف وكان يومئذٍ في أول زمانه فجلسا يتناقشان فإذا بهذا القصيمي الذي ألف كتاب:الصراع بين الإسلام والوثنية،يسخر حتى من الله،فلم يستطع الشعراوي أن يرد عليه لأن أحيانا الإنسان الذي أمامك لا يريد حق صاحب دعوة صاحب جدل والله يقول:{وذكر إن نفعت الذكرى} إن لم تنفع أخرج،فخرج الشعراوي رحمة الله عليه وهو يتلو:"...إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره..." وخرج من المجلس ثم مكث هذا الرجل يؤلف كلها سبا في الدين وسخرية بالله ورسوله بعد أن ألف كتاباً أثنى عليه في حرم مكة.فأمر الملك عبد العزيز علمائه آنذاك في الصحافه أن يتبرؤا منه، وأصدر علماء في ذلك العصر كثيرا من الكتب التي ترد عليه عياذا بالله. ثم عاش في الأردن فترة حتى قبل عدة سنوات مات عن قرابة تسعين عاماً جاءت الصحف هنا للأسف تكلمت عنه على أنه كتب في الروايات له راويه اسمها(مدن الملح) ممنوعة سياسياًالذي يعنينا أنه لم يبقى له أصحاب ولم تأتي الصحافه...(1/6)
الصحفيون غالبهم ينشأ متأخر لم يقرأ شيئاً من القديم ولم يطلع وبعضهم عفا الله عنا وعنهم ليس هناك لديه غيره على الدين لعدم العلم والجهل، المقصود هذه نظره للإنسان في أن يتأمل ماحوله فحتى تستريح لاتفتن نفسك بأي مخلوق ولاتعلق قلبك بأي مخلوق لأن الله لما ذكر أهل الولاية قال:(الذين ءامنوا وكانوا يتقون) فنسب الولايه الشرعيه إلى الإيمان به جل وعلا وإلى تقواه سبحانه وتعالى قال الله:(ألا إن أولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون)الخوف يكون في الأمور المستقبليه والحزن على الشيء الماضي فالله كتب لأهل تقواه من أهل الولايه كتب لهم ألاخوف يعتريهم على ماهو قادم ولاحزن يعتريهم على ما فات وهذا قد يقع في الدنيا وقد يقع عند سكرات الموت وقد يقع يوم يقوم الأشهاد ويحشر العباد وقد يقع في عبد صالح بالثلاثه... لكن أولياء الله يختلفون وقد تكلم العلماء كيف يعرف الولي ولن أتكلم فيه لكن يكفي أن الله قال :(الذين ءامنوا وكانوا يتقون )وجاء في الحديث القدسي (ماتقرب إليَّ عبدي بأحب مما افترضته عليه ومايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها وقدمه التي يمشي عليها والمقصود هنا التوفيق من الله التوفيق في السمع والتوفيق في البصر والتوفيق في الأخذ والعطاء والتوفيق في الغدو والرواح هذا المقصود (بكنت سمعه.. كنت بصره..كنت قدمه...(1/7)
كنت يده المقصود بها التوفيق من الرب جل وعلا يجعل الله له نور يجعل الله له بيَّنه يجعل الله له فرقانا يميز به الأشياء لأنه قريب من الله تبارك وتعالى محبوب منه (ألاإن أولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون*الذين ءامنوا وكانوا يتقون)قال الله عنهم بعد أن ذكر نعتهم بالجمله قال(لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخره)فلما قال ربنا في الحياة الدنيا وفي الآخره فهمنا أن البشارة قسمان لأن الله ذكر زمانين فلما ذكر الرب زمانين كان لابد أن تكون البشرى بشارتين هذه البشرى تكلم العلماء فيها كثيرا والأصل الذي نرى أن لا يحسن ولايجمل قصرها على شيء واحد وتبقى البشرى في الحياة الدنيا مفتوحه إلا أنه من أعظم البشرى الرؤيا الصالحه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في البخاري وهو لاينطق عن الهوى قال(لم يبقى من النبوة إلا المبشرات قالوا يارسول الله وما المبشرات؟ قال الرؤيا الصالحه يراها المؤمن أو ترى له) كما في الزياده هذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام:(لم يبقى من النبوه إلا المبشرات الرؤيا الصالحه).(1/8)
فالرؤيا نوع من البشاره فقد يخرج الإنسان من موطن من مكان من عمل كئيبا حزينا على شيء أصابه ويكون له عندالله مقام أو عمل صالح فيراه أحد فيخبره أنه رأى له رؤيا يكون في هذه الرؤيا بشاره لنجاته أو يكون هو قد غفا أو نام في ليل أو نهار فيرى رؤيا تدل على أمر حسن وقد قلنا مرارا أن يعقوب عليه الصلاة والسلام لما قال له بنوه وأخبروه أن يوسف هلك كان واثقا أن يوسف لم يهلك فقال كما قال الله جل وعلا عنه(قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) الذي جعل يعقوب يطمئن على أن يوسف لم يهلك هي الرؤيا التي رأها يوسف من قبل فلما قصها على أبيه فهم يعقوب أن هذا الابن سيكون له شأن:(قال يا أبتي إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) وهذا يظهر بعلوه وعلو مكانه لأن خضوع الأب والأم والأبناء له يدل على ارتفاع قدره، فلما جاءه الإخوه وقالوا إنه هلك لم يقبل يعقوب هذه الدعوه لكن ضعفه آنذاك اجتماعيا هو الذي جعله أن يصبر ويحتسب عند الله وقد تحقق له الأمر ولذلك قال:كما قال الله جل وعلا عنه:(قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله مالا تعلمون) من البشاره كلمة إنسان يسمعها من غير أن يبيت حسبان لها من غير أن يبيت أن يسمعها فيلقاها في طريقه أو حدث يراه بعينه هذه أمور دقيقه لا يمكن شرحها لكن تراها في حياتك العامه النبي عليه الصلاة والسلام أقبل على خيبر وقلنا هذا مرارا فلما صلى الفجر قريبا من خيبر ونظر إلى خيبر وكانت اليهود محميه لهم خيبر ويخشى على المدينه منهم رأى أهل خيبر بيدهم المساحي وهي أداة هدم فلما رأها استبشر صلى الله عليه وسلم هذا من البشرى ففرح وقال:(الله أكبر خربت خيبر لأنه رأى في أيديهم ما هو أداة هدم وهو جاء ليهدم خيبر فتحققت تلك البشرى لما رآهم قال:(الله أكبر خربت خيبر) فخربت خيبر كما قال عليه الصلاة والسلام وقيل:إنه لما قدم عليه الصلاة والسلام إلى المدينه رأى قوما لا(1/9)
يعرفهم ومعه أبو بكر رضي الله عنه وهو هارب من مكه خارج من قومه يريد الأمان في المدينه فقابل رجلا قال له من أنت قال: بريده فاستبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفت إلى أبي بكر برد أمرنا ثم قال بن من؟ قال بن أسلم قال: أبشر يا أبا بكر سلمنا أخذها من الإسم فهذا نوع من البشاره يحسن للإنسان وهو غاد أراح ولما اقبل سهيل بن عمرو في معركه الحديبيه والنبي عليه الصلاة والسلام يعرف سهيلا من قبل وهو قادم للصلح وكان النزاع قد اشتد ودعى النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيعة الرضوان تحت الشجره لما أشيع أن عثمان قد قتل فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام أن قريشا بعثت سهيلا قال:أبشروا لأصحابه سهل أمركم أخذها من اسم سهيل فهذا نوع من البشرى الذي يعطاه المؤمن في الحياة الدنيا هذه أمور قلت لا يمكن حصرها في شيء معين لكنها أمور عديده تحصل للمؤمن وعده الله جل وعلا بها بنص القرآن قال سبحانه:(لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخره) في الآخره:أن الإنسان (المؤمن) لا يموت حتى يرى مقعده من الجنه وكذلك يبشر في القبر يأتيه عمله الصالح في صورة شاب حسن الوجه فيقول له من أنت؟ فيقول أنا عملك الصالح هذه كلها من المبشرات حتى يدخل المؤمن الجنه فيجد الراحه التامه الكبرى التي وعدها الله جل وعلا عباده أدخلنا الله وإياكم الجنه وحتى لا ترتاب القلوب قال الله بعدها (لا تبديل لكلمات الله) هذه أوامر الله وقضاؤه وقدره ولايمكن لأحد أن يغيرها ولا أن يبدلها ولا أن يجري في الكون أمرا لم يكتب الله منذ الأزل أن يقع (لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم) من تمسك بالإيمان والعمل الصالح واجتهد في أن يقترب من الله واجتهد في أن يبتعد عن السيئات وصاحب عمله الإستغفار والخوف من الله والطمع في رحمته ووصل إلى الجنه هذا هو إجمالا بلا شك (ذلك هو الفوز العظيم) ثم قال الله لنبيه (ولا يحزنك قولهم) ويجب وجوبا أن تقف لأنه لا يستقيم المعنى (ولا(1/10)
يحزنك قولهم إن العزه لله جميعا) كفر تقول:(ولا يحزنك قولهم) أي قول:قول القرشيين أنك كافر... أنك ساحر... أنك كاهن... أنك مجنون، هذا لا يحزنك ثم تقف لأن الجمله تمت ثم تقرأ:(إن العزه لله جميعا) فليس قولهم إن العزة لله جميعا يجب أن لا يحزنك هذا يفرح لكن (ولا يحزنك قولهم) لا/ناهيه ويحزنك:فعل مضارع مجزوم (ولا يحزنك قولهم) وتقف أي قول: ما سلف في القرآن من اتهام القرشيين بنبينا عليه الصلاة والسلام بعدة أمور ثم تقول لماذا لا يحزنك؟ (إن العزه لله جميعا) ولا يوجد عاقل لا يطلب العزه لكن الله قال إن العزه كلها أولها وآخرها مبدؤها ومنتهاها ملك لله وقد مرت معنا هذه اللام:لام للملك (إن العزه لله جميعا) مرت معنا للفقراء (إنما الصدقات للفقراء)لكن الفرق أن ملك بني ءادم لما تحت يده ملك صوري وملك الله جل وعلا لكل شيء ملك حقيقي ولذلك قال الله جل وعلا:(الملك يومئذ الحق للرحمن) فيفنى الملك الصوري فلا يبقى إلا الملك الحقيقي ولذلك حصده الله جل وعلا في يوم القيامه ومنه قول الله في آخر الإنفطار (والأمر يومئذ لله) لأن الأمر الصوري ينتفي فيبقى الأمر الحقيقي والأمر الحقيقي ليس إلا لله جل وعلا وحده (ولا يحزنك قولهم إن العزه لله جميعا هو السميع العليم) هو السميع لأقوالهم العليم بأعمالهم ومادام جل وعلا يسمع أقوالهم ويعلم أعمالهم فهو جل وعلا القادر علا جمعهم القادر على حسابهم وكل هذا سيكون لامحاله كما أخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه من هذا يفهم من الآيه عموما أن المؤمن ينبغي عليه وهو يسير في طريقه إلى الله ألايصل به الحزن وإن كان الحزن لابد منه الرسول صلى الله عليه وسلم يقول(إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن)لكن لايصل بك الحزن إلى اليأس الكامل والقنوط من رحمة الله تبارك وتعالى أما أن يعتريك حزن يعتريك دمعه يعتريك أسف هذا لامفر منه لكن لايعني ذلك التشكيك في قدرة الله أو الإعتراض على قدره فقد بكى من هو(1/11)
خير منا وحزن من هو خير منا لكن الحزن والدمع والشكوى تبث إلى الله كما قال الله عن الصديق يعقوب(قال إنما أشكوا بثي وحزني) فأثبت له حزنا لكن هذا الحزن شكاه وبثه إلى ربه جل وعلا (قال إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله مالاتعلمون)أما الحزن الذي نفاه الله جل وعلا عنه هنا هو الحزن الذي يصيب الإنسان بالقعود التام والشلل التام في حياته هذا منفي عن أهل ولاية الله لأن ثقتهم بالرب تبارك وتعالى يعلمون بها أن الله سيجد لهم من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ومن كل كرب تنفيسا وأن الله جل وعلا قادر على كل شيء لايعجزه شيء في الأرض ولافي السماء وثقتهم بربهم تبارك وتعالى تجعلهم مطمئني البال على يقين بأن الله سيجد لهم المنجى والمخرج ولو زاد عليهم البلاء فإن هذا أكثر عظمة لأجورهم وتكفيرا لخطاياهم فهم يتقلبون مابين أجر يعطونه أوسئية يكفر بها عنهم هذه الوقفه الأولى لسورة يونس لهذا اليوم ثم قال الله جل وعلا في هذه السورة ذكر الله ثلاثة من الأنبياء ذكر نوحا وموسى ويونس وقد مرمعنا تفصيل كثير من هذا في الأعراف وفي النساء وفي غيرها مما ورد فيه ذكر الأنبياء وأناقلت إنني لأكرر ماوقفت عنده لكنني سأقف هنا عند قضية غرق فرعون آخر أيام موسى في أرض مصر وغرق فرعون حتى تعلم البلاغه العظيمه لكلام الرب جل وعلا قال الله(واتل عليهم نبأنوح...)وذكر فيها خبر نبي الله نوح وقد مر معنا نوح في أكثر من مرة ثم ذكر الله جل وعلا أنه أرسل رسلا ولم يسمهم في هذه السورة إجمالا ثم قال(ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون...(1/12)
)فذكر موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام وقلنا إن موسى أخ شقيق لهارون وهارون أكبر من موسى وأن هارون ولد في العام الذي لا قتل فيه وولد موسى في العام الذي فيه قتل لكنا الله جل وعلا لحكمه أرادها جعل موسى خيرا من هارون وذكر الله جل وعلا قضية السحر وهذه تكلمنا عنها تفصيلا نصل إلى أنه بعد أن انتصر موسى على سحرة فرعون وآمن السحره مكث موسى في مصر ولم يخرج منها لأنك إذا أردت أن تفسر القرآن لابد أن تجمع بعضه إلى بعض في هذه الفتره جاءت الآيات الباقيه قال الله في الأعراف(فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ءايات مفصلات)وقلنا إن ءايات تعني شيء خروج عن المألوف لأن لآن يوجد جراد...يوجدقمل..يوجد ضفادع...لماذا لاتسمى ءايات؟لأنها تعيش حياة طبيعيه لكن قول الله(فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ءايات)يدل على أن ءايات شيء غير مألوف غير معهود وقول الله جل وعلا(مفصلات)يدل على أنها لم تكن مجتمعه لم تكن جمله واحدة مفصلات آية تنتهي تأتي ءايه ثانيه وهذا يدل عموما على أن موسى وقومه مكثوا فتره طويله في أرض مصر قبل أن يخرجوا منها قال الله في يونس(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوأ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبله وأقيموا الصلاة وبشري المؤمنين)الوحي من الله ويأتي على صور الوحي للأنبياء غير الوحي للصالحين والوحي للصالحين غير الوحي للمخلوقات هذه الثلاثه كلها جاءت في القرآن فالوحي للمخلوقات(وأوحى ربك إلى النحل..)والوحي للصالحين غير الأنبياء (وأوحينا إلى أم موسى ..(1/13)
)والوحي للأنبياء كثير هذه منها(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوأ لقومكما بمصر بيوتا)مصر/ البلد المعروف لكنها ليست القاهرة قطعا لأن القاهره أسست بعد ذلك في عهد دولة بني عبيد وإنما كانت أحداث موسى لمادخل المدينه على حين غفلة من أهلها مدينة(عين شمس)ليست القاهرة الذي يعنينا كلمة مصر كلمه مؤنثه وعلم والمؤنث العلم يمتنع من الصرف إلا إذاكان ساكن الوسط فإنه يجوز صرفه (كنوح،هند،ومصر)ولذلك جاءت كلمه مصر في القرآن مرة موقوف بالراء ومره منونة،مرة مصروفه،ومره غير مصروفه لأنها ساكنه الوسط الذي يعنينا الله يقول لنبيه(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوأ)أي اتخذا (لقومكما بمصر بيوتا)هذه واضحه لكن قال الله (وجعلوا بيوتكم قبله)واختلف العلماء في معنى قوله تعالى (واجعلوا بيوتكم قبله)ذهب الإمام الطبري رحمه الله وهو شيخ المفسرين نبدأ به وجمهور العلماء من المفسرين إلى أن المعنى:ـ اتخذوا بيوتكم مساجد أي صلوا في بيوتكم وهو عند هؤلاء العلماء رحمهم الله أن بني اسرائيل كانوا يصلون في الكنائس والبيع فشد عليهم فرعون فأوحى الله إليهم أن انقلوا الصلاة إلى البيوت هذا ماقاله جمهور المفسرين وقال بعضهم ويحكى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن (واتخذوا بيوتكم قبله)أي جهة الكعبة أي اجعلوها جهة الكعبة ونحن نقول والله أعلم أن المعطيات التاريخية والقرآنيه لاتساعد على أي من القولين:ـ أما القول الأول:فإننا نقول لايعقل أن فرعون يسمح في مدة من الزمن لبني اسرائيل أن يصلوا في المساجد والبيع ظاهرين الذي ذكره الله في القرآن من سوم فرعون لبني اسرائيل من العذاب يتنافى عقليا مع القول أنه يمكن أن يكون بني اسرائيل اتخذوا مساجد ظاهرة علانيه كالبيع والكنائس يصلون فيها إلا إذا يوجد دليل صريح من القرآن أن هذا موجود فقلنا إذا جاء سيل الله يبطل سيل معقل لكن لا يوجد دليل صريح من القرآن أنهم كانوا يصلون في مساجد ظاهره وإنما هذا فهم للآيه(1/14)
ولابد أن تفرق مابين كلام الله وفهم العلماء لكلام الله فالمقدس كلام الله أمافهم العلماء ليس بمقدس فالذي لايدخله التبديل ولا التحريف ولا التكذيب النص أمافهم العلماء للنص يدخله الخطأ أي إنسان قابل قوله الصواب وقابل قوله للخطأ هذا رد الأول.أمارد الثاني أنه إذا قلنا كما قالوا أن (وجعلوا بيوتكم قبله) أي متجهه إلى الكعبه فهذا يعني أن اليهود كانوا يتجهون إلى الكعبه لأن الكعبه قبلتهم وهذا ينافي ماثبت في السيره الصحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكه يصلي إلى بيت المقدس وستة عشر شهرا في المدينه يصلي إلى بيت المقدس فلا يعقل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس وهو يعلم أن الكعبه أصلا متخذه قبله من قبل اليهود من قبل هذا يتنافى مع القرآن والله يقول (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها....)ثم ذكر أهل الكتاب قال(ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آيه ماتبعوا قبلتك...)وقال(وماأنت بتابع قبلتهم)وقال(ومابعضهم بتابع قبلة بعض)فمن أن كانوا كان لليهود قبله وللناصارى قبله وللمسلمين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبله هذا الرد على الثاني .(1/15)
طبعا قلنا عندما ترد أقوال لابد أن تأتي ببديل إذا ماتقول؟تقول الآيه ليست لها معنى نقول كما قال بعض العلماء من قبل قالوا وهذا أرجح الأقوال عندنا وإن كان ضعيفا في كتب التفسير نقول إن معنى (قبله)أي يقابل بعضها بعضا أي بمعنى عامي مميزه حتى إذاجاء النفير أن يخرجوا من أرض مصر يكون البعض يميز بيت الآخر فيسهل أن ينادي بعضهم بعضا فيكون معنى قول الله جل وعلا(واجعلوا بيوتكم قبله)أي متقابله في مكان واحد متجاوره لكم مصطلح/ يعرف فيها بعضكم بيوت بعض هذا الذي ندين الله نختاره من أقوال المفسرين وعندما نقول نختاره أي لسنا الذي أول من قاله هذا كلام مكتوب في كتب التفسير لكن نحن نرجحه لأن معطياته العلميه أقوى مما يدل على صحة هذا القول أن الله قال بعدها (وأقيموا الصلاة)فمعناه أنه لم يكن يتكلم عن الصلاه من قبل كلما فهموا أنها الصلاة في المساجد والبيوت(وبشري المؤمنين)هذه أظهر أنها خاصه بقوم بني اسرائيل أنه سيأتيهم البشاره والنجاه لكن يلزمنا وقلنا أنت كطالب علم لست ملزما بما يقوله الشيخ نحن نتكلم من باب الأمانه العلميه أما أنت فلك قدراتك وإمكانياتك تختار من أقوال العلماء ماتراه صوابا فإذا قلنا على قول العلماء أن (وجعلوا بيوتكم قبله)معناه/مساجد هذا ننتقل إلى مسأله فقهيه يبحثها العلماء وهي الصلاة في البيوت الصلاة إما أن تكون فرضا وإما أن تكون نفلا فصلاة الفرض لابد أن تكون في المساجد وهذا أمر ينبغي أن يرفع الخلاف فيه إلا بعذر بقينا في النوافل النوافل من حيث الجمله تنقسم إلى قسمين نافله يجمع لها ونافله لايجمع لها فالنوافل التي يجمع لها الإستسقاء ،الكسوف،الخسوف،هذه تصلى في المساجد أو في المصليات يصح صلاتها في البيوت لكن الأولى أن تصلى في المساجد نأتي إلى النوافل التي لايجمع لها كالسنن الرواتب هذه تصلى في البيوت لحديث البخاري العام أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:(اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولاتجعلوها(1/16)
قبورا) أي البيوت وركعتا المغرب هي أوكد الصلوات التي تصلى في البيوت لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث كعب بن عجره عند أبي داوود بسند صحيح ذهب إلى بني عبد الأشهل بني عبد الأشهل فخذ من الأوس قوم سعد بن معاذ صلى فيهم صلى الله عليه وسلم المغرب فلما صلى والتفت قام الناس يسبحون يصلون -إذا جاءت معك وأنت تطلب العلم في الأحاديث كلمة يسبحون فالمقصود بها يصلون النوافل- فقاموا يسبحون أي أهل بني عبد الأشهل قاموا يصلون السنه فتعجب صلى الله عليه وسلم وقال هذه صلاة البيوت وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ماأحصي كم سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي المغرب وركعتي الفجر (قل يأيها الكافرون)و(قل هو الله أحد)لو مثلا جاء إنسان وقال هذا حجة على أن ركعتي المغرب تصلى في المسجد سألته أنت أين الحجه قال لك أن ابن مسعود قال سمعته .كيف سمعه وهو يصلي المغرب في البيت كيف يكون جوابك؟يكون بأن الراوي ابن مسعود كان يخرج ويدخل وهو صاحب سواكه ووضوئه فكان من الخدم الخاصين بالنبي صلى الله عليه وسلم فمعرفة أحوال الصحابه تساعد على فهم السيره على فهم القرآن وهذا قلنا إن معطيات التفسير أن يكون للإنسان علم متنوع حتى يستطيع أن يفهم كلام الله نعود فنقول إن صلاة النوفل في البيوت أفضل منها في المساجد لكن إذا كان وراء الإنسان عمل أو عنده موعد لزيارة مريض أو غادر إلى مكان ما ولم يكن بمقدوره أن يرجع إلى البيت فليس بمعقول أن نقول له اذهب إلى البيت وأخرج...يصلي في المسجد...(1/17)
كمن يجلس في الحرم النبوي بين المغرب والعشاء يصلي في البيت لكن نقول إذا كنت إذا خرجت من المسجد تعلم أنك ستعود إلى البيت فأد النافله في البيت باتفاق الأئمه نعود إلى الآيه ثم قال الله جل وعلا(وقال موسى ربنا إنك ءاتيت فرعون وملاءه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم)الذي دعا هنا موسى ،الله يقول (وقال موسى ربنا)لاتحتاج إلى جواب الله بعدها قال (قد أجيبت دعوتكما)ذكر كم شخص؟شخصان "هذه ألف الاثنين"والاثنان هما موسى وهارون والذي دعا موسى فكيف عد هارون داع؟كان يؤمن فأصبح المؤمن في تأمينه يأخذ حكم الداعي لأن الله قال بنص القرآن(وقال موسى ربنا إنك ءاتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم)فقال الله بعدها (قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل المفسدين)إذا سمى الله موسى وهارون كلاهما على أنه داع رغم أن أحدهما كان يدعوا والآخر كان يؤمن قال جل وعلا(ولاتتبعان)اللام هنا/الناهيه نهاهم أن يتبعا سبيل المفسدين بما أنها لا الناهيه كيف وجدت النون ؟أصل الفعل(تتبعانن)يوجد نونان نون الأفعال الخمسه ونون التوكيد فلما دخلت لا الناهيه تجزم بحذف النون لأنه من الأفعال الخمسه فعل مضارع اتصل به ألف الاثنين فحذفت نون وبقيت نون فالنون الباقيه هنا/ليست نون الأفعال الخمسه لأنها حذفت وإنما نون التوكيد ثم قال الله جل وعلا(وجاوزنا ببني اسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال ءامنت أنه لاإله إلا الذي ءامنت به بنوا اسرائيل وأنا من المسلمين) هذه الآيات الثلاث إلى قوله تعالى (ءالئن وقد عصيت قبل)من أعظم بلاغة القرآن قول الله (وجوزنا)هذه"نا"الداله على الفاعلين فالأمر بيد الله فالذي نجا موسى الله(1/18)
سبحانه وتعالى(وجوزنا ببني اسرائيل البحر)أصلا:مالذي خافه فرعون من موسى بالعقل ؟أن يذهب ملكه هذا هو الأصل أن فرعون سمع من الكهنه أن هلاك ملكه علىيد رجل من بني اسرائيل هذا الرجل الذي أنت تخاف منه الذي هو سيذهب ملك هو نفسه شرد خرج ماجلس في مصر إذن كان العقل المفروض أن فرعون مادام أن الذي أنا أخاف أن يذهب ملكي هو باختياره خرج وذهب عني وهرب وترك مصر كلية وترك البحر إذن لايوجد داعي لأن أتبعه ولذلك الله قال(فأتبعهم فرعون وجنوده..)ماذا؟(بغيا وعدوا)البغي/تجاوز الحد .والعدو/الإصرار على الباطل.ففرعون كان مفروض يكون أعقل من هذا لكن انفعال الشر والعدوانيه التي وصفها الله موجوده في قلبه لم تطب نفسه حتى يرد أن يهلك موسى لكن الإنسان إذا غلب عليه التفكير في قضيه واحدة ينسى قضايا كثيره ولذلك أحيانا إعرض المشكله على غيرك لأنك أنت تعيش في شيء متوقع حول شيء معين مهما كان عقلك ورأيك وفضلك ستنظر بعين واحده .
والعين ترى مادنا منها ونئا...(1/19)
ولاترى نفسها إلا بمرءاتي.والعين ترى مادنا منها ونئا/أي ترى القريب لكن العين لاترى نفسها ففرعون لما وصل ،الله جل وعلا جاوز ببني اسرائيل البحر معلوم أن الله أمر موسى أن يضرب بعصاه البحر فانفلق فلما انفلق أصبح البحر اثنا عشر فرقه مر موسى والذين معه وقلنا مرارا إن فرعون لم يدخل البحر حتى خرج موسى،فرعون لايعقل أن إنسان يصبح ملك أكثر من أربعين سنه لايملك عقلا لكن لما رأى موسى نجا كان من المفروض أن يعلم بداهة أنه يستحيل أن يتحول البحر إلى يابس إلا بقدرة الله وإن الذي نجا موسى من البحر من الغرق قادر على أن ينجيه منك فيرعوي ويرتدع لكن مازال الإنفعال العدواني في قلبه فنسي حتى هذه وإلاهذه تكفيه أنه يعرف أن موسى محاط ومسخر له البحر وأنه لاسبيل إليه لكنه كما قال الله(بغيا وعدوا) فلما خرج موسى من البحر كله وفرعون ينظر اطمأن فرعون إلى أن البحر لم يرجع فأراد موسى كما قلنا مرارا أن يضرب البحر فأمر الله موسى أن يترك البحر على حاله قال الله في الدخان(واترك البحر رهوا)أي ساكنا فتركه موسى فلما تركه موسى اطمأن فرعون على أن البحر سيبقى فجاء بجيشه فلما جاء بجيشه أمر الله البحر أن يعود إلى حاله قال الله(حتى إذا أدركه الغرق)الغرق نفسه غير عاقل هذا عند البلاغيين يسمى تشخيص وهو أن يعطى غير العاقل حكم العاقل الغرق أصلا لا يعقل حتى يدرك فرعون بالغرق لكن الله هنا يصور الموقف على أن هذا الغرق جند من جند الله له حواس وله قدرات وله امكانات حتى أضحى يتبع فرعون حتى أدركه وأحاط به من كل جانب وقلنا هذا أسلوب عربي يسمى (التشخيص)الله يقول(حتى إذا أدركه الغرق قال)قال أي فرعون (ءامنت أنه لاإله إلا الذي ءامنت به بنوا اسرائيل وأنا من المسلمين)ءامن أولم يؤمن؟ءامن.(1/20)
لكن الله ماأنكر إيمانه أنكر وقت الإيمان ولذلك الله قال بعدها (ءالئن وقد عصيت قبل)هنا جاء في الخبر الصحيح أن جبريل عليه السلام لما سقط فرعون في البحر يغرق جاء جبريل بوحل البحر"طين البحر"وأخذ يضعه في فم فرعون خشي أن فرعون يثني على الله فتدركه رحمة الله وهذا فعله جبريل لسببين السبب الأول:ـ علم جبريل بعظيم رحمة الله وإلايفعل هذا.(1/21)
السبب الثاني:ـ قاله جبريل قاله في حديث رواه الطبراني(قال:يامحمد ماأبغضت أحدا من خلق الله كبغضه إلى فرعون عندما قال (ماعلمت لكم من إله غيري)فلما قال فرعون لأهل مصر سابقا (ماعلمت لكم من إله غيري)أبغضه جبريل فلما جاء فرعون في هذا الموقف بقي البغض في قلب جبريل فأخذ يضع الطين في فم فرعون خشية أن يثني على الله ثناء يستدر به رحمة الله قال:حتى لايثني على الله ثناء فيغفر الله له قال:الترمذي رحمه الله والحديث صحيح بالجمله وصححه كثير من العلماء كالألباني والأشقر وغيرهما من علماء المله الذي يعنينا أن فرعون لم يقبل الله إيمانه لأنه كان إيمان اضطرار لاإيمان اختيار وقلنا إن هذه السنه أن الله لايقبل إيمان الإضطرار ولايقبل إلا إيمان الإختيار مستثناة في قوم يونس وهي باسمهم سميت السوره باسم نبيهم قال الله (فلولا كانت قريه ءامنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا)فنعود للآيه قال الله(ءالئن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين*فاليوم ننجيك ببدنك)وفي قراءة(ننحيك)بالحاء والمعنيان واحد ننجيك ببدنك كان المصريون يعبدون فرعون على أنه إله فلو غاب فرعون وضاع في البحر ويغرق وأهلك ولم تظهر جثته لقال بعضهم إنه اختفى ليعود أو أنه غاب ليرجع لكن الله أخرجه حتى يراه من كان يعبده فإذا رآه من يعبده وهو جثه ميتا علم أن الذي كان يزعم أنه إله لايملك أن يهب الحياه لنفسه فكيف يهبها لغيره ولهذا قال الله (فاليوم ننجيك ببدنك)أي بجسدك دون روحك (لتكون لمن خلفك ءاية وإن كثيرا من الناس عن ءاياتنا لغافلون)يدخل الناس اليوم إلى مايسمى بقبور الفراعنه في الأهرامات في مصر ويرون مايرون يخرجون يتعجبون من تلك الحضارات وينسون أن هذه كلها ءايات من رب الأرض والسموات والعاقل إذا رأى بنور الإيمان لا كمن ينظر بنور الثقافه أو العلم المحض أو بنور المعرفه لكن من يرى سنن الله في الخلق كيف يحي ويميت ويبدئ(1/22)
ويعيد ويعطي ويمنع ويهب ويقطع جل وعلا عرف مالله جل وعلا من عظيم القدره وجليل المكانه هذا ما أردنا التعليق عليه اليوم .هذا والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد وعلىآله .(1/23)
بسم الله الرحمن الرحيم
المجموعة الثالثة
للشيخ: صالح المغامسي
الشريط الثاني
من قواعد العلم عند أهل الأصول أن المطلق والمقيد له أربعة أنواع................................3
قول الله جلا وعلا{وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ....}............. 4
قول الله جلا وعلا{وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ }........5
قضية حمل النساء............................................................................5
قول الله جل وعلا:{وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً....}....................6
قول الله تعالى{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ.....}...................................8
طرفه حول قوله تعالى{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}.................................................8
قول الله تعالى عن فرعون{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}............9
أحكام اللعنة تنقسم إلى.......................................................................9
من الكلام حول اللعنة.......................................................................10
أن كثرة اللعن من أسباب دخول النار........................................................11
بعض من لعنه الله أو لعنه رسوله............................................................12
قول الله جل وعلا{وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ}.............................................12
قول الله جل وعلا{وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ...}..........................13(1/1)
الأسئلة الواردة في الدرس...................................................................14
أسئلة على الشريط.........................................................................17
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ما جزا به نبياً عن أمته اللهم صلى وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فهذا هو اللقاء الثاني حول تأملاتنا في سورة هود بلغنا الله وإياكم العلم بكتابه والعمل به وكنا قد شرعنا في اللقاء الماضي مبينين أن هذه السورة مكية إلا بعض آياتها وذكرنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم صح عنه قوله (شيبتني هود وأخواتها) وقلنا هذا إجمال فسرته روايةٌ أخرى هي قوله صلى الله عليه وسلم(شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتسألون وإذا الشمس كورت) وقلنا إن الجامع في هذا كله أو بين ذلك كله هو أنها تتحد ث عن أهوال اليوم الآخر كما ذكرنا في تعليقاتنا أن الله جل وعلا قال فيها {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (16) } وقلنا إن هذا إطلاق وهذا الإطلاق قيده قول الرب تبارك وتعالى في سورة الإسراء{مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً}(1/2)
ـ وقلنا من قواعد العلم عند أهل الأصول أن المطلق والمقيد له أربعة أنواع:
قلنا إن الحالة الأولى: يتفق فيها السبب والحكم وقلنا هذه إطلاقاً يُحمل فيها المطلق على المقيد.
والحالة الثانية:قلنا يختلف فيها الحكم ويتحد فيها السبب وهذه مسألة خلافيه.
والأمر الثاني:يتحد السبب ويختلف الحكم وهذه كذلك مسألة خلافيه.
والرابعة منها: أن يختلفا في السبب ويختلفا في الحكم وهذه اتفقوا على أنها لا يحمل المطلق فيها على المقيد.
هذا بعض ما ذكرناه في اللقاء الماضي ثم تكلمنا عن قصة نوح عليه الصلاة والسلام ونحن نحرص في كل لقاء على أن ننوع في الطرح حتى تكون الاستفادة العلمية أكبر لمن يحضر هذا اللقاء ثم ذكر الله جلا وعلا قصص أنبياءه ورسله والقصص المذكورة عرجنا عليها أكثر من مرة في عدة مناسبات سواء في دروس التفسير أو في غيرها فلا حاجة لإعادتها ولكننا اليوم سنختار التعليق على كلمات أو آيات هي في الغالب مظان إشكال عند من يقرأ القرآن هي في الغالب مظنة إشكال عند من يقرأ القرآن في بعض الآيات وبعض الآيات نعرج عليها على الفوائد التي فيها لكن يهمنا الشيء الذي يثير الإشكال عند من يسمعه فنزيل الإشكال قدر الإمكان قال الله جلا وعلا{وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ }ما لمقصود بالرسل هنا ؟(1/3)
الملائكة والملائكة أصلاً كانت ذاهبة إلى قوم لوط للعذاب فمرت على إبراهيم عليه السلام قبل أن تذهب إلى من؟ إلى لوط ولوط ما قرابته من إبراهيم؟ ابن أخيه فإبراهيم عم للوط نسباً وبمثابة الوالد حقيقة لأن الله قال له قال {فآمن له لوط}فبعث الله لوطا نبياً في حياة من ؟ في حياة إبراهيم بعثه إلى قرية سدوم وحصلت منهم الفاحشة كما سيأتي فجاءت الملائكة بالعذاب على أهل سدوم وهم مارون في طريقهم إلى القرية لإهلاكها مرو على إبراهيم بأي شيء ؟ بالبشارة قال الله جلا وعلا :{وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى } البشرى هنا المقصود بها إجماعاً البشارة بمن ؟ بالولد إسحاق بمولود يقال له إسحاق قال الله{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}وهذا ظاهر لكن العلماء يقولون هنا في التعبير العلمي يقولون كون إبراهيم يولد له وهو في هذا السن وكون سارة تولد لها في هذا السن هذا يقال له معجزة نبي وكرامة ولي( أعيد) كون إبراهيم يولد له وهو في هذا السن وكون سارة يولد لها وهي في هذا السن مع كونها عاقر منذ أن خلقت هذا يقال له ماذا؟ معجزة نبي وكرامة ولي ما نظيره من الأنبياء والرسل ؟ زكريا نظيرة زكريا فإن زكريا رزق ولداً كما رزق إبراهيم على كبر فهي بالنسبة لزكريا معجزة وبالنسبة لزوجته كرامة لأن المعجزة تلحق بالرسول والكرامة تلحق بمن؟ بالأولياء والكرامة تلحق بالأولياء جاءت الرسل لإبراهيم بالبشرى نقف هنا وقفة يسيرة أن كل ما في القرآن حكاه الله جلا وعلا أو قصه عن إبراهيم نحن ملزمون شرعاً به كل ما حكاه الله أو قصه عن خليله إبراهيم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ملزمة شرعاً به وهذه لا تكون هذه الحالة إلا مع إبراهيم اتفاقاً ما الدليل على هذا ؟ {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}وقوله جل وعلا{مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } والمعنى إلزموا ملة أبيكم إبراهيم ولذلك(1/4)
جاءت بالنصب فهذا من الدلائل على أن هذه الأمة مطالبة شرعاً بقضية كل ما فعله إبراهيم ولذلك لما استغفر إبراهيم لأبيه جاء النهي مستثناً ألا تفعل ولا يكون الاستثناء إلا في الأصل الذي أن تفعل فيه(واضح) فمثلاً عندما تأتي لشخص تسلمه بيت فتقول له إلا هذه الغرفة لا تدخلها معنى الكلام أن كل البيت ماذا؟ مباح له(واضح) فلذلك الله جلا وعلا قال في قضية استغفار إبراهيم لأبيه قال{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ}هذه ليس لكم علاقة بها لا تتبعوه فيها إذن دل هذا على أن كل ما صنعه إبراهيم نحن ملزمون شرعاً به(واضح) هذا الفائدة الأولى في القضية .(1/5)
الأمر الثاني: يأتي عند قوله جلا وعلا عن سارة أنها كانت تقف تخدم مع إبراهيم قال الله جلا وعلا{وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ }موضع الإشكال كلمة كلمة ضحكت فإن كلمة ضحكت الضحك إذا أطلق يراد به انفراج الفم عن الأسنان الضحك المعروف الذي لا يختلف عليه اثنان موضع الإشكال أن بعض العلماء كما نقل عن مجاهد وعكرمة وبعض السلف قالوا ضحكت هنا بمعنى حاضت وأن الحيض من دلائل أن المرأة إذا حاضت تكون عرضة لأن تحمل فقالوا إن المقصود بها ضحكت هنا حاضت وهذا وإن قال به أئمة أجلاء لكن لا يوجد في اللغة فيما نعلم شيء يدل عليه وحكيت بعض الأبيات ذكرها بعض العلماء في مواطنها في التفسير لكن أئمة اللغة كأبوعبيدة والفراء وغيرهما من أئمة اللغة في اللغة قديماً قالوا إنا لا نعرف في لغة العرب أن ضحكت تأتي بمعنى حاضت وإن نسب هذا أحياناً للشافعي ونحن نقول الشافعي لأن الشافعي أصلاً عاش في هذيل كثيراً وأخذ عنهم اللغة فيبقى قوله في اللغويات له مكانته العلمية لأنه رحمه الله عاش في هذيل يأخذ عنهم اللغة لكنننا نقول لا يوجد في اللغة أن تكون ضحكت بمعنى حاضت وقلنا دائماً عندما يُرد قول لا بد أن تأتي أن تأتي ببديل وإلا يبقى الكلام عائم ليس له مفهوم فنقول إن المعنى والله تعالى أعلم الذي اختاره كثير من المفسرين نقول أن سارة كانت واقفة بالخدمة مع زوجها فلما علمت بهلاك قوم لوط سُرت وفرحت فضحكت فأعطاها الله جل وعلا والأصل أن البشارة حاصلة حاصلة لكن جعلت ضحكها تمهيداً لها فلما سرت بنجاة المؤمنين بنجاة لوط فبشرها الله جل وعلا بإسحاق قال الله تعالى{ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}وتكلمنا عن موضوع إسماعيل وإسحاق هذا ليس مكانه.(1/6)
لكن نأتي لقضية أخرى وهي قضية حمل النساء: هنا قال الله{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}الحمل الذي تحمله المرأة إذا حملته في أول الأمر يصبح بشارة وفي آخر الأمر ينقلب إلى ماذا ؟ ينقلب هم .الحمل في أوله بشارة فإن الرجل إذا دخل على زوجته وأخبرته أنها حامل فلاشك أنه يستبشر الرجل أو المرأة في الشهور الأولى من الحمل في أي بيت تحدث بشارة في البيت ويتناقل أهل الدار والأقارب الفرح أن زوجة فلان حملت هذا أمر لا خلاف فيه بين الناس (واضح) ولذلك قال الله{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} لكن الله قال{حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ } أي الحمل{فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا } آخر الحمل يبقى هم لأن النفاس مظنة؟ مظنة الموت النفاس مظنة الموت ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم المرأة إذا ماتت في نفاسها تعد شهيدة المرأة إذا ماتت في نفاسها تعد شهيدة ولهذا قلنا إن أوله بشارة وآخره هم وعند بعض العلماء كالمالكية مثلاً أظنها رواية في المذهب أن المرأة إذا وصلت إلى الثلاثة الأشهر الأخيرة من حملها لا يجوز لها أن تتصرف في أكثر من ثلث المال لا يجوز لها أن تتصرف في أكثر من ثلث المال لأن الإنسان إذا دخل في المرض المخوفة مرض الموت يقل سلطانه على ماذا ؟ على ماله .ويبقى السلطان لمن ؟ للورثة . يبقى السلطان للورثة فلا يجوز للمرأة في آخر حملها وهي مظنة ولادة أن تتصرف في أكثر من ثلث المال لأنها مظنة مرض مخوف حتى لا يتضرر الورثة من تصرفها(واضح) هذا من تعليق على قول الله تعالى{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}.(1/7)
ثم نأتي إلى قول الله جل وعلا وهذه القضية الثانية:{وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ (78) } القصة معروفه ولا حاجة للإعادة أن بإجمال نقول أن الملائكة دخلت في صورة شباب حسان جميلين جداً إلى أبعد درجه عمداً دخلوا على لوط بهذه الطريقة فلما رآهم يعرف قومه قال الله{ سِيءَ بِهِمْ }والحر لا يسيء بضيوفه لكن خاف عليهم{ سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ }أي سيكون فيه من المشاق ما الله به عليم وقد وقع قال الله{ وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} يتسابقون{ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ }يعني أمر تعودوا عليه{ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}هذا كله مفهوم لا إشكال فيه{ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } نقف عند قول الله على لسان نبيه لوط{ هَؤُلاء بَنَاتِي}هذا الإشكال الذي نحاول أن ندفعه قدر الإمكان في هذا اللقاء قلنا لما دخل قوم لوط لأذية الشباب الذين هم الملائكة في الأصل لوط أراد أن يدفع هؤلاء عن ضيفه فذكر ثلاثة أمور قال{ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ }هذه{ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ }لا تحتاج إلى شرح الذي يحتاج إلى شرح قول لوط { هَؤُلاء بَنَاتِي}أهل كثير من المفسرين يقولون إنه قصد بقوله(1/8)
هؤلاء بناتي بنات القرية بنات القرية وأنه أراد بالمعنى الحرفي أنه يتشفع لهؤلاء الرجال في أن يتزوجوا بنات القرية حتى يكون ذلك دفعا لهم عن الفاحشة وقالوا إن النبي أي نبي يعني يعتبر كالأب لمن ؟ لأمته هذا حجة من قال معنى هذه الآية هذا الكلام أن هؤلاء بناتي عائدة على من ؟ على بنات القرية وأن كلمة بناتي مردها إلى أن النبي يعتبر كالأب لأمته هذا قول .(1/9)
قول آخر قالوا إن{ هَؤُلاء بَنَاتِي} أراد بناته الذين عنده بناته لصلبه و{هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}أراد أن يزوجهم بناته(واضح المسألة) ونحن نقول والله أعلم كلا هذين الرأيين صعب أن يقال به لأن القرآن نزل باللغة على ما يوافق العقل والكلام هذا لا يوافق اللغة ولا يوافق العقل وسنقول الرأي الراجح إن شاء الله تعالى أما لماذا لا يوافق اللغة فإن كلمة هؤلاء في اللغة تكون على الحاضر الشاهد للإشارة على الشيء الحاضر ولا تكون على الشيء الغائب كلمة هؤلاء لا تطلق على شخص غير موجود تطلق على شخص حاضر فانتفى بذلك القول أنه قصد من ؟ بنات القرية فهذا الأمر الأول ويُدفع كذلك أن النبي يعتبر كالأب للبنات المؤمنات لكن لا يعتبر كالأب للبنات الكافرات والقرية كلها كافرة إلا من كان في بيت لوط الله قال{ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ } هو بيت من ؟هو بيت لوط فلا يوجد في القرية أصلاً أحد مؤمن حتى نقول إن لوط أبا لهم(واضح) القول الثالث وهو الذي نختاره والله أعلم وقد نسبه العلامة الألوسي رحمه الله في روح المعاني إلى غير أحد قال قال به أجلاء المفسرين ونص عليه العلامة ابن سعدي رحمه الله في كتابه قصص الأنبياء أي أن هذا القول قول من ؟ نسبه الألوسي إلى أجلاء المفسرين لم يذكر أسماء ونسبه ونص عليه العلامة ابن سعدي رحمه الله في كتابه قصص الأنبياء وهذا القول يقول إنه قصد بناته عيناً وقصد أن يأذن لهم بزواج أو بدون زواج أن يأتوا بناته فيقول عاقل كيف يعقل أن نبي يعرض بناته لمن ؟ لأهل فواحش هذا من باب إقامة العذر وإقامة الحجة على المعاند ومن باب علمه اليقيني أن هذا لن يكون من باب العلم اليقيني أن هذا لا يكون ونظيره لأن من أعظم الشواهد أن تأتي بالنظير أعظم القرائن على صحة قول تأتي له بمثيل نظيره أن سليمان عليه السلام كما ثبت في الحديث الصحيح اختصمت عنده امرأتان في ابن لهما كل ٌ تدعي أنها أمه فقال(1/10)
عليه السلام أتوني بالسيف ثم قال أنا أقطعه قطعتين وأعطي كل واحده نصفه فقالت أمه الحقيقية لا تفعل أعطه فلانة تطلب نجاة من ؟ نجاة ابنها الشاهد من القصة أنه لا يعقل حتى لو وافقت المرأتان أن سليمان سيقطع من ؟ سيقطع الطفل مستحيل لكن هذا من باب العلم أنه لن يقع نأتي للقصة سنأتي بمثال آخر غير هذه القصة حتى تفهمها جيدًا لأنه لا تأتي إلا بأسلوب عربي فصيح والأسلوب العربي الفصيح يعني يصعب تمريره فنقول لو أن رجلاً له خصوم أعداء ينتظر منذ مدة أن يظفر بهم بينه وبينهم دم وبينك وبين هذا الرجل علاقة مودة أنت وأبناءك ما بينك وبينهم خصومة الخصوم هؤلاء جاءوا بيتك فعلم هذا العدو لهم أنهم في بيتك فجاؤك فلما دخلوا عليك البيت وأنت عندك هؤلاء الأضياف الذي يريدهم هذا الخصم ومعه مثلا سلاح وأراد أن يقتلهم فأخذت تذكره بالله وأنهم ضيفك وكل ذلك لم يرتدع فقلت له إذ كان ولابد أقتلني وأبنائي بدل منه من الناحية الشرعية لا يجوز أن يدعو الإنسان الناس إلى ماذا ؟ إلى قتله ولا قتل أبناءه لا يجوز لكن هو ما قال هذا من باب يجوز أو لا يجوز من باب أن يبين لهذا الخصم أنه أحرجه أمام من ؟ أمام ضيوفه وهو يعلم يقيناً أن هذا العدو لن يقتله لماذا لن يقتله؟ لأنه لن يستفيد شيء لو قتل الرجل وأبناءه لن يستفيد شيئا هو يريد خصومه مثلها تماما لوط يعلم يقيناً أنه لو عرض بناته حتى بالزنا على هؤلاء لن يقبلوا لماذا ؟ لأنهم هم لو أرادوا الزنا لو أرادوا الزوجات كان ما جاءوا بيت من ؟ ما جاءوا بيت لوط كلهم متزوجون يستطيعون أن يأتوا الفاحشة كما يريدون فاحشة الزنا لكن هو يعرف أنهم لا يريدون هذا ومما يدل على صحة هذا القول أنهم هم أنفسهم عرفوا ذلك فقالوا (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ) كمن يقول له بأسلوب العامة اليوم العبها على غيرنا أنت تعرف أننا نحن لا نريد بنات ولا نريد زواج نريد هؤلاء(1/11)
لأنهم ذكران(واضح) لكن لوط عليه السلام أراد أن يبين لضيفة للملائكة وهو لا يدري أنهم ملائكة أراد أن يبين لهم أنه فعل كل ما يمكنه ليدفع عنهم الفاحشة(واضح) هذا القول قلنا رجحه العلامة ابن سعدي في قصص الأنبياء و نسبه الألوسي إلى أجلاء من أهل العلم لكنه لم يذكر أسماء وهو إلى ساعتنا هذه هو الذي نختاره والعلم عند الله تبارك وتعالى هذا حل لإشكال{ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي}وبقية القصة تكلمنا عنها مراراً .
ـ نأتي لقضية أخرى:(1/12)
قال الله تعالى{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ }سنقف أولاً نذكر طرفه حول قوله تعالى{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} ثم ندخل في القضية العلمية الملك فيصل رحمه الله تعالى كان عنده مستشار اسمه رشاد فرعون كان رجلاً طيباً عاقلاً صالحاً لكن هذا اسمه رشاد فرعون فالملك رحمه الله زار المدينة وأراد أن يزور الجامعة الإسلامية وكان في الجامعة الإسلامية آن ذاك يدرس العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله وليس هذا خبر ملفقاً أنا سمعته من عالم كان طالباً في الفصل آن ذاك بأذني ورأيته بعيني فجاء الملك غفر الله له ورحمة وزار الجامعة صار يزور المحاضرات فلما دخل على الفصل المحاضرة التي فيها الأمين الشنقيطي رحمه الله وهو يشرح طبعاً لما دخل الملك توقف الأمين الشيخ الأمين رحمه الله عن الشرح والطلاب حاضرون وكان في الملك معروف أنه تواضع وكان في الرجل علم والملك يعرف أن هذا هو الأمين الشنقيطي العلامة المعروف فأراد الملك رحمه الله أن يُعرف بمستشاره لشنقيطي فقال هذا مستشارنا رشاد فرعون فقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله أعوذ بالله الله يقول{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}وأنت تقول رشاد فرعون فعكس المسألة وقال يعني أمره بمعنى الكلام غير اسمه فهذه مما يذكره العلماء كطرفة أن هذا الرجل رحمه الله تعالى ربي على حفظ القرآن وعلى شرح القران فيأتي عليه الأمر سجيهً ولا يحب أن يعبث أحد في القران ويقال عنه رحمه الله انه كان(1/13)
يدخل من باب معين في الحرم فكان إذا دخل الحرم فيضع يده في جيبه ويخرج ما تيسر ويضعها في يد البواب إلِّي على الباب للحرم ويدخل فلم يكن الحرم طبعا بالأبواب الكثيرة هذه قليلاً يعني الشاهد يدخل من هذا الباب لأنه من جهة سكنه وعلى هذا النحو واعتاد هذا البواب أن يأخذ من الشيخ هذا المبلغ تقريباً في كل دخلة الشيخ يدخل بعد العصر ويجلس يدرس إلى بعد العشاء فدخل مرة وكان بجواره شخص يسأله فالشيخ انشغل عن إعطاء المال للبواب فالبواب غفر الله له والله إذا أراد منع الشيء هيأ أسبابه قال للشيخ أدخل يدك في جيبك الآية التي آية موسى فامتعض الشيخ لأنه أخذها من باب السخرية وصار حتى لا يعطي هذا الرجل أصبح لا يدخل من ذلك؟من ذلك الباب فهذا حرم نفسه لأنه لم يعرف بإذن الله طبعاً كله بأمر الله بشخصية الشيخ العلمية وهذا يعني يرزقه رجل عاش حياته كلها للقران وأنا قلت مراراً أنه كان يدرس التفسير رغم أنه يجيد أكثر العلوم فقيل له ذلك فقال كل العلوم مردها إلى القرآن وهذا أحد أسباب أننا نشرح كتاب الله هذا حول قوله تعالى{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}.
نأتي للقضية التي أردناها: قال الله عن فرعون{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}اللعنة ـ أعاذنا الله وإياكم ـ الطرد والإبعاد من رحمة الله سنتكلم علمياً وفقهياً وأصولياً حول كلمة اللعنة وما أمرها في الكتاب والسنة لإشتهارها بين الناس اليوم اللعنة قلنا هي الطرد والإبعاد من رحمة الله.
ـ ويمكن أن نقول أن أحكامها تنقسم إلى ما يلي :(لمن أراد أن يكتب)
الحالة الأولى: لعن المسلم المصون مسلم عادي فهذا باتفاق العلماء لا يجوز لعنه باتفاق العلماء لا يجوز لأحد أن يلعنه.الحالة الأولى ماذا؟لعن المسلم المصون.(1/14)
الحالة الثانية: لعن الأوصاف العامة وهذا جائز بالاتفاق مثل أن تقول ألا لعنة الله على الظالمين ألا لعنة الله على الكافرين ألا لعنة الله على الكاذبين هذا يسمى لعن ذوي الأوصاف العامة وهو جائز بالاتفاق.
الحالة الثالثة: لعن الأوصاف الخاصة تقول لعن الله آكلي الربا لعن الله السراق لعن الله من يلعن والديه فهذا جائز جاءت به السنة تلعن الشخص وإلا الوصف؟ الوصف.هذه كم حالة ؟ ثلاث.
الحالة الرابعة: لعن الكافر الذي ثبت أنه مات على الكفر فهذا جائز كلعن أبي جهل ولعن فرعون هذا كله جائز.
الحالة الخامسة: لعن الكافر الذي لم يتحقق موته على الكفر فهذا ينظر فيه فإن كان غالب الظن أنه مات على الكفر فيلعن وتركه أولى وإن كان غالب الظن أننا لا ندري مات على الكفر أومات على الإيمان فإننا نتوقف في ماذا؟في لعنه(واضح) ترى هذا لماذا هو مهم لأنك تطبقه في حياتك العملية(واضح) فالكافر الذي لا يوجد دليل على أنه أسلم ولا يوجد قرينه على إسلامه يلعن إذا مات على الكفر لكن من كان هناك قرائن أو شبهات حول أنه أسلم لم يسلم توقف الناس فيه فالأصل نتوقف عن لعنه احتياط.(1/15)
الحالة السادسة: لعن الكافر المعين الحي مثل لعن شارون يجوز أو لا يجوز؟ وإن كان شارون هذا الدين وأنا لعنته مره في محاضرة لكن كلام العلم غير كلام العاطفة الله جل وعلا يقول {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }فجاء الله بقيد هنا هو ماذا{ وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ } فمن لعن كافرا معيناً أبطل القيد ماذا ؟ القرآني أبطل القيد القرآني وهذا قول جماهير العلماء ونقل عن أبي بكر ابن العربي المفسر المعروف في كتابه أحكام القرآن نقل القول بأنه يجوز لعن الكافر المعين على إلي يبي يلعن شارون على ذمة أبي بكر ابن العربي يلعنه يقول يجوز لعن الكافر المعين لكن الأدلة التي قالها غير صحيحة أتى بحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن عمرو ابن العاص أيام كفره لكن الحديث ضعيف جداً ولم يقل أحد بصحته ولذلك هو أصلاً وقع في المسالة قال وروي وكلاً منكم يعرف مصطلح الحديث أن كلمة روي يؤتى بها صيغة ماذا؟ صيغة تمريض يؤتى بها لضعف الحديث هو أراد أن يفر منها لكن لا يوجد دليل والقرآن حكم والله قال{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وقلنا إنه في أمور لا يقتدى بالأنبياء فيها إذا كان النبي يعرف عن طريق معين لا تعرفه أنت (واضح)فنقول إن لعن الكافر المعين قول أكثر أهل العلم على أنه لا يجوز لعنه إلا إذا مات على الكفر لأن الله يقول{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}مادام قلنا إنه لا يجوز لعن الكافر المعين فمن باب أولى لا يجوز لعن المسلم العاصي المعين هذه ناحية الجهة الثانية من الكلام حول اللعنة: أن المؤمن ينبغي عليه أن يفر من اللعن قدر الإمكان فلا(1/16)
يعود نفسه على اللعن فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أبي الدرداء وهو صحيح ( إن العبد إذا لعن تصعد اللعنة إلى السماء تسد أمامها أبواب السماء ثم تعاد إلى الأرض فلا تجد لها مساغا فتلتفت يميناً وشمالاً ـ كما قال صلى الله عليه وسلم ـ ثم تذهب إلى من لعن فإن كان أهلاً وإلا رجعت للذي لعن) إذا لعن أي شيء ويؤيده كذلك ما في سنن أبي داوود من حديث صحيح أن عبدالله ابن مسعود الصحابي المعروف كان صديقاً لرجل يقال له أبوعمير فذهب عبدالله ابن مسعود لزيارة أبي عمير فلم يجده فأدخلته أم عمير زوجة أبي عمير أدخلت عبدالله بن مسعود الدار فدخل زي ما يقول الناس اليوم في المجلس فبينما هو ينتظر صاحبه ينتظر أخاه سمع امرأة أبي عمير تقول بعد أن بعثت جارية لعنها الله أبطأت علي ماذا فعل ابن مسعود خرج من البيت وجلس خارج الباب ناحية عن البيت فجاء أبو عمير حديث صحيح في سنن أبي داوود فجاء أبو عمير فوجد ابن مسعود خارج الدار فقل ما منعك أن تدخل بيت أخيك قال قد دخلت ولكني سمعت امرأتك تلعن جارية لها أبطأت عليها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إن اللعنة إذا خرجت من في ـ يعني فم ـ قائلها تذهب إلى من لعن فإن كان لذلك أهلاً وإلا رجعت إلى من لَعن ) فقال ابن مسعود فكرهت أن أكون بسبيل اللعنة ما معنى سبيل؟ طريق فكرهت أن أكون بسبيل اللعنة ما حببت أن أجلس في البيت حتى لا تمر اللعنة وألا هو يعرف أنه لا ناقة له فيها ولاجمل لكن قال كرهت أن أكون في طريق اللعنة فخرج من البيت فاللعن لا يجوز أبداً أن يكثر الإنسان منه كذلك ثبت أن عبد الملك ابن مروان الخليفة الأموي المعروف استضاف أم الدرداء رضي الله عنها وأرضاها فسمعته في الليل وهو في قصره يلعن فلما أصبحت قالت له إنني سمعتك تلعن بعض خدمك وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول( لا يكون اللعانون يوم القيامة شهداء ولا شفعاء).(1/17)
كذلك مما يعضد هذا أن كثرة اللعن من أسباب دخول النار:فإن النبي صلى الله عليه وسلم قام يخطب في عيد فطر أو أضحى كما في حديث أبي سعيد ثم قال عليه الصلاة والسلام يوجه كلامه إلى النساء ( معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار فقامت امرأة جزلة قالت بما يا رسول الله قال إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير ) تكفرن العشير يعني تنكرن حسنات الزوج عليكن لكن نحن لنا الشاهد في الأول وهو قوله صلى الله عليه وسلم (إنكن تكثرن اللعن) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإكثار من اللعن سبب من أسباب دخول النار .العاقل ينبغي عليه أن لا يلعن شيئا لا دابة ولا غيرها ويكثر من البعض ـ عفا الله عنا و عنهم ـ لعن أبناءهم وهذه أشد وإنما الإنسان يحفظ لسانه فلا يلعن إلا اللعن العام إذا اضطر إليه كما قلنا لعنة الله على الظالمين لعنة الله على الكاذبين كذلك من قواعد العلم أن الإنسان لا يأتي مثلاً لشخص يعمل في بنك ربوي فيحكم على هذا الرجل بأنه أنه ملعون هذا لا يجوز تقول لعن الله آكل الربا حذرالرسول صلى الله عليه وسلم من أكل الربا وقال لعن الله آكل الربا لكن لا تحكم على شخص بعينه أنه ملعون( واضح) هذا لا يجوز شرعاً أبداً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعن الله شارب الخمر ) فجئ له بصحابي قد شرب الخمر فلما لُعن قال (لا تلعنوه فإني ما علمته إلا محباً لله ورسوله) مع أنه عليه الصلاة والسلام قال (لعن الله شارب الخمر ) هذا واضح طبعا اللعنة تختلف وقوعها على آكل الربا وعلى السراق وعلى الزناة وعلى أمثالهم ممن لعن الله ولعن رسوله ليس كوقوعها على من؟ على أهل الكفر وما ذكر لملعون في القرآن أكثر من فرعون ـ عياذاً بالله ـ كما في هذه الآية وقال الله جل وعلا في القصص {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} ـ نعوذ بالله جل وعلا من موارد اللعنة ـ(1/18)
ـ سنذكر على سبيل الإجمال من لديكم الآن بعض من لعنة الله أو لعنة رسوله : لعن الله شاهد الزور ـ نعم قائل الزور ـ الراشي –المصورين- غير منار الأرض- النامصة - الواصلة- المستوصلة - من ذبح لغير الله-شارب الخمر-لعن الله من لعن والديه- لعن الله آكل الربا- من أحدث في المدينة حدثاً- أو آوى فيها محدثا وهذا كثير كلها داخله في اللعن وهذا الكلام الشرعي الذي يقوله النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله لتحفظه أنت وتمليه علي أو أحفظه أنا وأمليه عليك وإنما قاله حتى نطبقه ونعمل به كما أمرنا نبينا صلوات الله وسلامه عليه.(1/19)
ـ نأتي إلى آية أخرى : قال الله جل وعلا{وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ}أي يوم القيامة{يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)}الإشكال أين ؟{ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ}هذا موضوع الإشكال هذا الإشكال أجاب عنه العلماء بأجوبة كثيرة ذكر منها أبو العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية أكثر من ثمانية أقوال وغيره من المفسرين وسردها الألوسي في روح المعاني وغيره من العلماء والذي يظهر والله أعلم أنها كلها أجوبة متكلفه لا تستقيم وإنما نختار الذي نراه صواباً كرأي واحد نقول إن هذا القول من ربنا جل وعلا{ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} المراد به بيان القدرة والمشيئة ودفع توهم أن يكون ذلك واجب على الله المراد به بيان القدرة والمشيئة ودفع توهم أن يكون هذا واجب على الله أما ما ذكره العلماء كقولهم{ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ}يعني مدة بقاءهم في أرض المحشر أو مدة بقاءهم من العصاة أو مدة بقاءهم في الحساب وأمثال ذلك فهذا كله صعب القول به حتى من نقله قال هذا أمر لا يستقيم وإنما نقول{ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ}بيان أن المسألة مطلقة لمن؟ لله جل وعلا والله قد أخبر والقرآن فيه محكم وفيه متشابه ويرد المتشابه إلى ماذا؟ إلى المحكم وقد أخبر الله في أكثر من آية محكمة أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن أهل النار خالدين فيها أبد الآباد ـ عياذاً بالله ـ وأهل الجنة خالدين فيها أبد الآباد قال الله {عَطَاء غَيْرَ(1/20)
مَجْذُوذٍ}ما معنى غير مجذوذ ؟ أي غير مقطوع لا ينقطع لا ينتهي وهذا أمر أجمع الناس عليه وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أهل الجنة قال لاتبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم فهم خالدون فيها كما قال الله جل وعلا فهذا هو الحق أن أهل النار خالدين فيها وأهل الجنة خالدين فيها أما قول الله{ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ}فبيان أن هذا الأمر غير ملزم على الله تبارك وتعالى دفع توهم أن يكون واجب على الله ولبيان أن الأمر كله يرجع إلى قدرته ومشيئته وأمره ونفوذ ذلك منه تبارك وتعالى.(1/21)
ـ الذي يعنينا بعد هذا كله:أن الله جل وعلا قال{وَأَقِمِ الصَّلاَةَ} الآية الأخيرة {طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}هذه الآية قدمنا في المقدمة أنها آية مدنية والمقصود منها أن النبي صلى الله عليه وسلم فيما قاله أهل العلم وقع من رجل من آحاد المسلمين في المدينة أمر يتعلق بالنساء دون الزنا قبل أو ضم أو ما أشبه ذلك امرأة محرمة فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما وقع منه تائباً نادماً فسكت النبي صلى الله عليه وسلم عنه ثم أنزل الله عليه هذه الآية فقال صلى الله عليه وسلم أين الرجل فقال أنا يا رسول الله قال أصليت العصر معنا قال نعم قال اذهب فقد غفر الله لك ثم تلا هذه الآية{وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}إذاً كلنا ذوو خطأ ولا يخلو إنسان من معصية ولا يُذهب السيئات مثل الحسنات وكل بني آدم الخيرون منهم يريدون التوبة فإن أقبلت على الله جل وعلا وأنت تريد التوبة وغسل ما كان من الذنوب فإنه لا يغسلها ويذهبها مع الاستغفار والتوبة أعظم من كونك تكثر من ماذا؟ من الحسنات لأن الله يقول وهو أصدق القائلين وأعلم بخلقه{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وهذا فسرته السنة فالحج يقول عليه الصلاة والسلام (من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) وقال عليه الصلاة والسلام (الجمعة إلى الجمعة والعمرة إلى العمرة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن من الذنوب إذا اجتنبت الكبائر ) فالإنسان يكثر من عمل الصالحات كلما استطاع إلى ذلك سبيلا فإن هذا كفيل برحمة الله أن يذهب(1/22)
السيئات ويطهر قلبك ولابد من الميزان فمن كثرت حسناته ترجح بسيئاته إذا وقعت منك خطيئة أحسست فيها بالندم فليس الحل أن تخبر بها زيداً أو عمروا وإنما الحل أن تكثر من فعل الخيرات وعمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه راجع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الحديبية فقال علاما نعطي الدنية في ديننا فكأنه أغلظ على نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول عمر نفسه فما زلت أعمل لذلك اليوم يعني يكفر عن تلك الخطيئة بأنني أكثر من الصلاة والصيام والصدقة رجاء أن يغفر عني ذنب ذلك اليوم (واضح) فالمؤمن الذي يتبصر بالقرآن ويعمل به يأخذ بهذه الأمور يكثر من الحسنات رجاء أن يغفر الله جل وعلا له{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}هذا ما أردنا التعليق عليه في لقاء الليلة ثم نقف على أسئلتكم .
س/ يقول قول الله تعالى{ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء} أليس هناك ترادف بين قول الله {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ}وبين قوله{ وَغِيضَ الْمَاء} واضح السؤال السائل يقول الله يقول{ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء} يقول أليس هناك ترادف يعني الكلام واحد في قوله تعالى {يَا أَرْضُ ابْلَعِي} {وَغِيضَ الْمَاء} ومن المعلوم هذا كلام السائل أن أمر الله لا يكون فيه تكرار ؟(1/23)
ج/ هو نعم ليس فيه تكرار وإنما المعنى كالتالي نحن قلنا في اللقاء الماضي إن الأرض أخرجت ما عندها من ماذا ؟ من ماء، والسماء أمطرت ماء فقول الله جل وعلا{يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ} أي ماء الذي أخرجته، بقينا في أي ماء؟ في ماء السماء هذا الذي قال الله عنه ماذا (وَغِيضَ الْمَاء) ـ واضح ـ ما بلعته الأرض الماء الذي خرج منها لأن الله قال {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} وقال (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ) فالتقي ماءان ماء السماء وماء الأرض فقول الله ابلعي ماءك عائد على الأرض في الماء الذي أخرجته وغيظ الماء في الماء الذي نزل من ماذا ؟ من السماء فيصبح بهذا لا تكرار في الآية.
س / هل يجوز للزوجة أن تستضيف [هذا أخذها من الحديث] صديق زوجها في غيابه حتى يحضر وخاصة في زماننا هذا ؟
ج / هذا مرده إلى أمور كثيرة فإن كان في البيت أطفال وخدم كبيوت العرب قديماً فهذا لا حرج أما إن لم تكن إلا الزوجة لوحدها فلا قطعاً لأنه حيحدث نوعا من الخلوة وهذا لا يعقل خاصة في الشقق أو الفلل البعيدة هذا كله لا يجوز لأن هذا مضن شبهه ومضن تهمه ولا يفعله عاقل لأنه يفتح باب شر عظيم حتى لو لم يحصل شيء ويأتي الزوج يدخل في قلبه ما الله به عليم لكن العرب أول خيام أو بيوت فيها خدم وغلمان وعبيد وجواري وإماء يدخلن ويخرجن فالأمر منتفاً إذا كان الأمر كذلك فنعم كمثلاً إنسان يدخل على رجل من أهل الثراء عنده خدم وحشم ترد عليه زوجته صاحب الهاتف أو بالإنترفون تقول له تفضل فيدخل المجلس وهي في الدور العلوي ويأتي أبنائه وتأتي خادمة وطفل يذهب وسائق يأتي ويذهب هذا كله لا حرج فيه فتقدر الحالة بقدرها والله اعلم.
س / يتكلم عن أحد المشايخ يقول بعض العلماء يحذر منهم ما إلى ذلك ؟(1/24)
ج/ هذا بيت الله نتكلم فيه بما ينفع الناس وذكر الشيخ عائض القرني الشيخ عائض القرني لا نعلم عنه إلا خيراً وكونه يخطئ ويصيب كل الناس يخطؤن ويصيبون ولا يخلو أحد من خطأ لكن الشيخ من أهل السنة معروف بفضلة ولا نعلم عليه والله تعالى أعلم أمر يقدح في دينه أوفي علمه أو في عقيدته أما كونه يخطئ فكلنا يخطئ ويصيب لا يوجد أحد لايخطئ ولا يصيب وأنت عندما تسمع لصالح أو لزيد أو لعمرو لا يعني ذلك أنت ملزم بما يقول خذ من كل إنسان ما ينفعك منه ودع الباقي لغيرك.
س / يقول أنا شاب من الله على بالاستقامة على هديه وشرعه وظاهري ظاهر الصالحين ولكن لدي ذنب أعاوده بين فترة وأخرى وأخشى أن يهلكني فيا شيخ أصبحت أفكر بالانتكاس لكي لا أكون منافق أخدع الناس في باطني مخالف الظاهر أنا بين أظهركم الآن فالرجاء ياشيخ أن لا تجعل سؤالي بعد الدرس لعل غيري يستفيد سواء كانت مشكلته مثلي أولا ؟
ج / هو أنت لم تذكر المشكلة حتى نقارنها بغيرك لكن إن كان ليس عليك حرج ممكن أن تقابلني لوحدك إذا استطعت .
س / لماذا آيات سورة هود كلها مكية إلا واحدة مدنية وجزآكم الله خيرا ؟
ج / نحن قلنا إن القرآن ما نزل قبل الهجرة مكي وما نزل بعد الهجرة مدني فأكثر آيات القرآن هود نزلت في مكة فلما نزلت هذه الآية{وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ }التي ذكرناها قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ضعوها في موضع كذا في موضعها الذي هي فيه اليوم فأصبحت بذلك مدنية .
س / ما حكم قولهم [ الله يقطعك] ؟
ج / هو كاتبها بالكاف إذا جئت تكتب سؤال انتبه كيف يقرأه قائلهم أنا أنطقها بما أريد لا بما كتب ( الله يقطعه ) هو كتبها بالكاف واضح طبعا لا يجوز فهمتم هو كتب سؤال نقرأها بما أريد (الله يقطعه)هو كتبها بالكاف طبعا أنا لا يمكن أقرأها وهي أيش وهي بالكاف كأني أدعو على نفسي.
س / هذا يدعو لزيارة لوسطى ؟
ج / نفعل إن شاء الله .(1/25)
س / هذا يقول وجه الشباب لقفل الجوالات ؟
ج / أظنهم يفعلون ذلك لكن أحيانا ينسون.
س / يقول (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً ) من هم الأعراب ؟
ج / طبعا هنا الآية يقصد بها من كان حول النبي صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة من سكن البادية ورفض الترحال ويتنقل هذا يقال له أعرابي لكن الذي يتنقل ولا يدخل المدن هذا أعرابي لكن ليس كل أعرابي مذموم قال الله (وَمِنَ الأَعْرَابِ) ماذا ؟( مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ) الذي يستشهد بالقران يستشهد به كاملاً.
س / يقول لماذا قال الله في سورة المطففين (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ)و (عِلِّيُّونَ) ما لفرق بين عليين وعليون ؟
ج / من يجيب الإعراب عليون هي عليين لكن جاءت مجرورة وجاءت مرفوعة.
س / يقول{ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} كان العرب يقولونه للشيء الدائم الغير منقطع ما رأيك في هذا القول ؟
ج / هو يؤدي نفس المعنى لكن لا أعلم دليلاً على أن العرب كانت تقوله.
س / يقول أرجو أن تعيد أنواع اللعن بالأمثلة؟(1/26)
ج / قلنا لعن المسلم المصون لا يجوز اتفاقاً ، ولعن الأوصاف العامة لعنة الله على الكذابين لعنة الله على الكافرين هذا اثنين،ثم قلنا الأوصاف الخاصة لعن الله آكل الربا لعن الله السراق لعن الله شارب الخمر هذه ثلاثة ،ثم قلنا لعن الكافر الذي مات على الكفر تحقق موته على الكفر هذا جائز ، ثم قلنا لعن الكافر الذي يشك في كفره هل مات على الكفر أو مات على الإسلام فالأفضل التوقف إلا إن كانت هناك قرينه على أنه مات على الكفر فيلعن وإن كان اختلف فيه هل مات على الإسلام أو غيره فلأحوط عدم لعنه ،ثم قلنا لعن الكافر المعين الحي فقلنا إنه لا يجوز لعن الكافر المعين الحي لأن الله جل وعلا قال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ }{وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} قيد لا يمكن تركه ، ثم قلنا لعن المؤمن العاصي لا يجوز من باب أولى المعين إذا كنا قد لم نجز لعن الكافر المعين.
س / هذا يقول أرجو أن ترد على السؤال الذي صاحبه يقول يفكر أن ينتكس فربما لا يستطيع أن يقابلك ؟
ج / أنا أقول لا يخلو أحد من معصية كائن من كان وهذي من طرائق دخول الشيطان على بني آدم أنه يقول هذه المعصية لاتستطيع تتركها لا يوجد شيء لا يمكن تركه وإن قدرنا أنك لم تستطع تركه على الأقل في الفترة الآنية في الفترة الحالية كمن مثلاً يبتلى بالنظر إلى النساء وهو شاب لم يتزوج هذا لا يكون سبب في الإنتكاسه إنما يستغفر كلما وقع منه هذا الشيء حتى يتزوج هذه مرحلة فإذا أكثر من الصلوات في الحرم وصيام يوم الاثنين و الخميس وأمثالها تكفر تلك الخطيئة وإذا صدق مع الله جل وعلا يصدقه الرب تبارك وتعالى . شكر الله لكم حضوركم و نلتقي إن شاء الله تعالى يوم الأحد القادم و صلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين .
أسئلة على الشريط(1/27)
س1/قال الله جلا وعلا{وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}ما لمقصود بالرسل هنا ؟
س2/ أحكام اللعنة تنقسم إلى أقسام أذكرها ؟
س3/ من قواعد العلم عند أهل الأصول أن المطلق والمقيد له أربعة أنواع فماهي؟
س4/ لماذا آيات سورة هود كلها مكية إلا واحدة مدنية؟
س5/ قال الله في سورة المطففين (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ)و (عِلِّيُّونَ) مالفرق بين عليين وعليون ؟
س6/ ذكر الشيخ حفظه الله طرفه حول قوله تعالى{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أذكرها؟
س7/ قال الله تعالى:(الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً ) من هم الأعراب ؟
تم بحمد الله وتوفيقه
سائلين المولى عز وجل الإخلاص والقبول(1/28)
بسم الله الرحمن الرحيم
المجموعة الثالثة
للشيخ: صالح المغامسي
الشريط الثالث
خصائص نبي الله يوسف عليه السلام................................................................3
م قول الله تبارك وتعالى على لسان عزيز مصر {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}..........................................9
قول الله جل وعلا عن النساء على لسان عزيز مصر...................................................9
قول الله جل وعلا{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ...}.................11
قال الله جل وعلا{وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}...............................11
الأسئلة الواردة في الدرس............................................................................12
أسئلة على الشريط..................................................................................17
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا وأشهد أن لا إ له إلا الله وحده لا شريك له خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ما جزا به نبياً عن أمته اللهم صلى وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين... أما بعد
فهذا استمرار للقاء المبارك حول تأملات في كلام رب العالمين جل جلاله وكنا قد انهينا ولله الحمد تأملات سورة هود وسنعكف اليوم إن شاء الله تعالى على تأملات في سورة يوسف وفقنا الله وإياكم للعمل الصالح والعلم النافع نقول مستعينين بالله جلا وعلا .(1/1)
سورة يوسف إحدى سور كتاب ربنا جل وعلا التي خصصت بأكملها لقصة نبي بأكمله حياة نبي بأكمله خصصت لها سورة كاملة إلا قليلاً ثم سميت هذه السورة بسم ذلك النبي التي تحدثت السورة عنه وهي سورة يوسف وهي بحسب ترتيب المصحف ثالث سورة في كتاب الله تسمى بأسماء الأنبياء وكان قد مر معنا سورتان هما سورة يونس وسورة هود قبل أن أشرع في التأملات أقول لا يكاد أحد من الحاضرين وغير الحاضرين يجهل قصة يوسف وتسلسلها وسيرورت الأمر فيها فلأجل ذلك لن نتكلم عن القصة ولن نأخذ القصة من أولها كما هو مفترض لأننا تكلمنا عنها مراراً ولا أظن أحدا منكم يجهل قصة يوسف لكننا سنتكلم عنها من باب الفوائد الجزئية لا من باب الفوائد العامة لأننا قلنا إن هذا الدرس في المقام الأول درس علمي يراد به تثقيف الناس تثقيفاً علمياً لتتسع المدارك وتزداد المعرفة ويكون لدى طالب العلم الذي يحضر الدرس آلة في فهم كلام الله ولا نقصد من هذه الدروس أن نعطي معلومات فقط فإن هذا لا يؤهل طالب علم لكن طالب العلم الحق الذي يملك آلة يستطيع بها أن يمضي في الناس فيتصدر يكون إماماً فيسأل ويفهم واقعه وأحواله ودروسه هذا الذي نريد أن نبنيه من خلال هذه الدروس وهذه الأمور لا تبنى في المحاضرات العامة فإن محاضراتنا العامة تجري على النظرة الإيمانية المحضة أما في هذه الدروس فلا تقدم النظرة الإيمانية المحضة وإنما يقدم ما يعين الطالب على أن يفهم كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أنه يملك آلة علمية هذا المقصود الأسمى من الدرس .
نأتي لهذه القصة تتحدث عن من ؟ عن نبي الله يوسف.
ومن الحسن أن تعرف من هو نبي الله يوسف أصلاً هذا النبي جعل الله جل وعلا له خصائص :(1/2)
ـ سنبدأ بأولها:النسب الشريف الذي هو فيه ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم كما في البخاري وغيره أنه سُئل عن الكريم فقال عليه الصلاة والسلام(إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله) وهذه الأربع لم تجتمع لنبي لا يوجد نبي فيما نعلم هو نبي وأبوه نبي وجده نبي وجد أبيه نبي إلا يوسف أو على القول الآخر أن أسباط إخوة يوسف كانوا أنبياء وهذا قال به بعض العلماء لكنه بعيد نحن لا نرجح أن إخوة يوسف كانوا أنبياء إنما تابوا فتاب الله عليهم لكن لم يكونوا أنبياء هذا بعيد وإن قال به جمعٌ من العلماء لكن هذا الأمر خص الله به يوسف في أنه نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله وهذا شرفٌ عظيم وموئلٌ كريم أفاء الله به على هذا العبد الصالح عليه الصلاة والسلام نشأ في أرض فلسطين ثم بيع بيع العبيد في أرض مصر ثم أوصله الله إلى أن يصبح عزيز مصر ثم مات في مصر ثم حُمل بعد موته وهو جسد في القبر حمل بعد موته بمئات السنين حمل من قبره إلى أرض ماذا؟ إلى أرض فلسطين والذي حمله من ؟ نبي الله موسى كما صح في ذلك الخبر عن رسولنا صلى الله عليه وسلم فولد في فلسطين وعاش أكثر عمره في مصر من عبد أجير إلى مسجون إلى عزيز مصر إلى أن توفي عليه السلام إلى أن حمل بعد موته حمله موسى عندما خرج من أرض مصر هذا جملةً عن حياته ثبتت في القرآن نبوته ورسالته أما نبوته فالقصة نفسها وقول الله جل وعلا في سورة الأنعام{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا}ذكر فيها يوسف ثم قال جل وعلا{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}فهذا نص على نبوته وثبت أنه رسول بنص القرآن فأين الدليل على أن يوسف رسول بنص القرآن في آية واحدة{وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ(1/3)
قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً}فهذا قاله الله جل وعلا على لسان من ؟ على لسان مؤمن آل فرعون في سورة غافر فهذا ثابت في القرآن أنه رسول وثابت في القرآن أنه نبي هذا أول ما يمكن أن نقول عن خصائصه عليه السلام.
ـ الخصيصة الثانية: أن الله جل وعلا منّ عليه بالخلقة الحسنة ونبينا صلى الله عليه وسلم عرج به إلى سدرة المنتهى فكان قابل في تلك رحلة المعراج بعضا من أنبياء الله ورسله ومر معنا كثيراً هذا الأمر قابل في السماء الثالثة أخاه يوسف فجاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال(فإذا برجل أوتي شطر الحسن قلت من هذا قال هذا أخوك يوسف فرحب به قائلاً أهلاً بالأخ الصالح والنبي الصالح)فأعطاه الله جل وعلا خلقة لم يعطها فيما نعلم أحداً من خلقه ثم لما نبئ عليه الصلاة والسلام أي يوسف نور النبوة غلب على جماله فأصبح النساء لا يتحرشن به ولذلك امرأة العزيز تجرأت عليه قبل أن ؟ قبل أن ينبأ لكن لما جاءه نور النبوة لم ينقل أن أحداً تحرش به رغم جمال خلقته وجمال خلقته ذكره الله وجاءت به السنة ونص الله عليه في القرآن نص الله جل وعلا به حكاية عن النساء اللواتي دعتهن امرأة العزيز فإن الله قال{ وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}هذا السياق القرآني جاء الله به على وجه الإجمال مع أن الله قال{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ}ونسوة أكثر من ماذا؟ أكثر من واحدة فلما نقل الله كلامهن عن يوسف قال أنهن قلن{حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}والمقصود من إيراد العبارة أن النسوة لم يختلفن في جماله فلم تقل امرأة أنه جميل وامرأة قالت أجمل وامرأة قالت ملك وإنما جميع النسوة اتفقن على جماله وقلنا{حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ(1/4)
كَرِيمٌ}وهذا مهم جداً في فهم كلام الله في أنك تأتي بالأشباه والنظائر أو تأتي للكلمة فمثلاً حتى تتضح الصورة الله قال عن السحرة لما جاءوا لفرعون قال عنهم في آية إنهم قالوا {إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}وقال عنهم في آية ماذا{أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً}جاء مرة بالإثبات ومرة بالاستفهام وكلاهما وقع لأن الله قاله كلاهما وقع طيب الآن يأتيك سائل يسألك هم قالوا {إِنَّ لَنَا لأَجْراً} أم قالوا{أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً}تقول في جوابك قالوا الأمرين كيف قالوا الأمرين السحرة أنفسهم يختلفون فمنهم سحرة أقوياء في الشخصية ومنهم سحرة عاديون فالسحرة العاديون يسألون يقولون لفرعون لأنهم ضعفاء شخصية قالوا لفرعون{أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}والسحرة الأقوياء المتمكنين الذين لا يعبؤن بفرعون قالوا له {إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}وكلا ً ساق القرآن وقال الله جل وعلا عن السحرة الذين سجدوا إيمانا ً بالله قال عنهم أنهم قالوا في أية{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}وقال عنهم أنهم قالوا (ءامنا برب هارون وموسى ) والسحرة لم يكونوا واحد ولا عشرة كانوا أكثر ففريق قال( أمنا برب هارون وموسى) وفريق قال( أمنا برب موسى وهارون) وكلاً حكا القرآن (واضح)هنا الله قال إن هؤلاء النسوة مجتمعات قلن{حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}فيدل على أن جميع النسوة اللواتي حضرن اتفقن على جمال يوسف وهذا أمر أفائه الله جل وعلا عليه والله جل وعلا يخلق ما يشاء .(1/5)
ـ الأمر الثالث الذي خصه الله جل وعلا به : القدرة على تأويل الرؤيا وهذه القدرة على تأويل الرؤيا حكاها الله عن يعقوب تفرسها في ابنه فإن الله قال{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} فإن يعقوب قال لابنه{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } فيعلمك من تأويل الأحاديث معناها القدرة على تعبير الرؤيا وهذا وإن جاء مجمل في أول السورة جاء مفصلا في الملك الذي رأى السبع البقرات ففسرها يوسف عليه الصلاة والسلام كما قال الله{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ}وفسر للذين كانا معه في السجن رؤياهما ولهذا قلنا أن من مزاياه عليه السلام مما اصطفاه الله به أنه أعطاه الله القدرة على أن يعبر الرؤيا .(1/6)
وفي تاريخنا الإسلامي الذي يقرأ في التراث كثيراً :يوجد محمد ابن سيرين أحد التابعين رحمه الله هذا الرجل رحمه الله اشتهر بأنه من أعظم المعبرين لرؤيا فكان يعبر الرؤيا فتقع كما عبر هذا في أول عمره في أول حياته محمد بن سيرين رأى رؤيا هو نفسه المعبر محمد بن سيرين رأى رؤيا رأى رجلاً وشاباً وسيماً عند مسجد عند جامع وثلاثة مشايخ بجواره غير بعيد عنه فهو يرى في الرؤيا يقول فذهبت لهذا الشاب قلت من أنت يرحمك الله قال أنا يوسف قال من هؤلاء المشيخه قال هؤلاء أبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب قال فقلت له في الرؤيا علمني مما علمك الله فقال له يوسف فتح فمه قال أنظر ثم قال يوسف في الرؤيا لمحمد ماذا ترى قال أرى لسانك ففتح فمه مرة أخرى قال أنظر ماذا ترى قال أرى لهاتك ففتح فمه ثالثة أخرى قال له أنظر ماذا ترى قال أرى قلبك فقال له يوسف في الرؤيا قال لمحمد بن سيرين فعبر ولا تخف عبر الرؤيا ولا تخف قال ابن سيرين بعدها فأصبحت لا تعرض عليَّ رؤيا إلا وأرها في كفي طبعاً لا يرها بعينه لكن يرى تأويلها يعرفه مباشرتاً وقد حكا الناس عنه أموراً عديدة في تأويل الرؤيا رحمة الله تعالى عليه واشتهر بها عبر التاريخ الإسلامي كله الذي يعنينا أن الله خص يوسف بأن الله منحه وأعطاه القدرة على تعبير الرؤيا قال الله تعالى عن يعقوب عن ابنه{وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}هذا الأمر الثالث .(1/7)
ـ رزقه الله جل وعلا الرزانة وهذه من أعظم المطالب للوصول إلى الأشياء العالية الأمور العظيمة العالية لا يمكن أن يرزقها رجلٌ عجل لكن العجلة نفسها تختلف فيه إنسان عجل في أمور بسيطة لكنه رزين في الأمور العظيمة وفيه إنسان رزين في الأمور اليسيرة التي لا تضر العجلة فيها وعجل في الأمور العظيمة والمؤمن ينبغي أن يكون بالعكس أن يكون رزين في الاثنتين معاً لكن العجلة في الأمور الخفيفة لا تضر لكن أهم شيء في الأمور التي تبنى على سياسات الدول وقيادة الناس وإمامة المحاريب في المساجد والصعود على المنبر تحتاج إلى رجل رزين ومن أعظم الدلالة على أن يوسف رزين أنه عليه الصلاة والسلام لما جاءه إخوته عرفهم لأنه لا يمكن أن يخطئ إنسان في عشرة أشخاص مستحيل إنسان يتعرف على عشرة أشخاص إخوانه ثم لو بعد ألف سنة يقابل العشرة فإنه لو أخطأ في واحد لن يخطأ في الثاني هم عشرة قال الله تعالى{فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} ومع ذلك رغم شوقه لأبيه وشوقه لأمه على القول أنها كانت حيه أو إلى خالته إن كانت أمه غير حيه إلى شوقه إلى أن يظهر حقيقته إلى أن يبين فوزه ماتكلم ومكث على مهله هذا صاع روحوا تعالوا بهذلهم روحوا تعالوا جو وأخذهم ودَّاهم إلين بعد سنين سنتين ثلاث قال أنا يوسف وهذا أخي حتى يصل إلى ما يريد خطوة خطوة مع أنه مفترض لو كان غيره لقال من أول مرة أنا أخوكم أين أبي لكنه رزق الرزانة هذه الرزانة حتى من قبل رزقها لما جاءه الملك وقال ائتوني به وأرسل له الرسول{قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ}ما رضي يخرج{فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}فلا يمكن أن يصل إنسان إلى أن يصل إلى مستوى الحل والعقد في الأمة إلا إذا كان رزيناً لأن العجل هذا يهلك الناس ويهلك الخلق معه ولذلك أكثر أسئلة الشباب اليوم عندما يستفتونك أو تأخذ وتعطي معهم في(1/8)
نقاش علمي حول مشاكل المسلمين اليوم يقولون ماذا نصنع نجلس نتفرج وهذا ليس جواباً وليس حلاً لكن لأنهم لم يرزقوا الصبر يريدون أن يغير سنن الله في خلقه بين عشية وضحاها كل شيء بني في سنين لا يمكن أن يهدم في ليلةٍ واحده لابد أن يبنى الضد ضده في سنين ما يمكن أن يبنى في ليلة واحده هذه سنن الله فيخلقه إن أردت أن تغير وفق منهج الله أما إن أردت أن تغير وفق منهجك هذا شيء يعود لك لكن لا تنسبه للدين لكن ينسب للدين سنن الأنبياء وسنن المرسلين في التغيير التي كانوا عليهم السلام يرزقون الرزانة في أمورهم كلها.(1/9)
ـ الخصيصة الخامسة أو الرابعة : أنه عليه الصلاة والسلام رزق الأدب والأدب عنده تمثل في ناحيتين تمثل الأدب في وفاءه مع من أحسن إليه وعفوه عن من أساء إليه تمثل الأدب عنده في وفاءه لمن أحسن إليه وعفوه عن من أساء إليه فإن عزيز مصر لما اشتراه تفرس فيه وقال لزوجته كما نص الله في كتابه قال{أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً }بعد مدة لما تعلقت امرأة العزيز بيوسف ودعته إلى الفاحشة قال لها عليه الصلاة والسلام قال{مَعَاذَ اللّهِ}هذا جواب شرعي يعني أعوذ بالله أن أعصيه ثم قال{إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} من ربه هنا؟ يقصد عزيز مصر صاحب الدار ورب تطلق بمعنى صاحب وهذا جاء كثير في اللغة المقصود أنه قال{إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}فجعل من أسباب امتناعه عن إتيان الفاحشة خوفه من الله وهذا أس في كل خير ثم جعل من ذلك وفاءه لمن أحسن مثواه والأدب مع من كان له حق عليك من أعظم ما ينبغي أن يبنى عليه الناس عموما ويبنى عليه طالب العلم خصوصاً فكل من أحسن إليك إما علمياً أو مالياً أو بعفوٍ أو ما شابه ذلك له عليك يد ينبغي أن تحسن إكرامه وأن تجله إجلالاً غير مبالغ فيه لكن حفظ الإنسان للمعروف من أعظم دلائل على حسن معدنه والله جل وعلا لا يمكن أن يبعث نبيا من رعاع الناس لكن هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام يوسف وغيره من الأنبياء كان الله جل وعلا ينشئهم أحسن تنشأة ويربيهم تبارك وتعالى أعظم تربية وينشؤن إلى معالي الأمور وكمال الأخلاق فيعرفون الجميل لأصحابه فقال عليه الصلاة والسلام كما حكا الله عنه{إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} لا يمكن أن يكرمني وأخونه في أهله وهذا أمر يكاد يكون يقل يبدأ يقل في الناس والمتنبي يقول :
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ... **** ... ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدَ(1/10)
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... ... *** ... ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وما قتل الأحرار الحر لا يقتله شيء مثل المعروف تقتله إذا أحسنت إليه
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ** ومن لك بالحر ـ يعني قليل في الناس ـ ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدَ
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا(1/11)
لكن لا يعني من حفظ المعروف في طلب العلم أن توافق شيخك في كل ما يقول هذا ليس له علاقة بحفظة لأن هذا دين لست ملزما بكل ما يقول الشيخ تحبه تجله نعم لكن الحق ينبغي أن يكون أحب إليك من شيخك أياً كان ذلك الشيخ لكن ينبغي الإكرام والإجلال والتقدير في غير مبالغ فيه لأن المبالغة في كل شيء مذمومة لكن التقدير الذي يحكمه العرف وتحكمه العادات والتقاليد أمرٌ مستحسن ولا يخرج صاحبه عن الحد الشرعي لأنه لا يعظم على إطلاقه إلا الرب تبارك وتعالى المقصود أن يوسف عليه السلام نشأ أديباً مع من أحسن إليه وعفواً عن من أساء إليه فإنه قال لإخوانه{لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ }الرجل الفاضل إذا أسدى معروفاً لا يمن لا يذكر بمعروفه فهو عفا عن إخوته قال{لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}عندما أراد أن يخبر عليه السلام عن منن الله تبارك وتعالى عليه قال كما حكا الله تعالى عنه{ وَ قَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ}مع أنه ذهب إلى السجن باختياره{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}ولم يذكر الجب الذي ألقاه فيه إخوته لم يذكره أبداً لأنه قد عفا فلا حاجة لأن يذكرهم بأنه عفا عنهم{وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ}ولم يأتي بقضية الجب بتاتاً حتى لا يجرح مشاعر إخوانه ثم قال{مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ}ولم يقل إخواني تسلطوا عليّ نسبها إلى الشيطان{مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}فجعل الأمر كأنه مشترك بسبب الشيطان بينه وبين إخوته وتأدب مع إخوانه رغم ظلم إخوته له وهذا من أخلاق العظماء من الرجال ولا شك أن يوسف عليه السلام كان واحداً منهم هذا من أدبه عليه السلام مما خصه الله جل وعلا(1/12)
به .
ـ خصه الله تبارك وتعالى : بشكر ربه وهذا ظاهر في القصة كلها خاصة في آخرها{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ }كله إقرار لله بفضله وإحسانه عليه هذا الشكر ذكره الله جل وعلا عموماً في القرآن والله جل وعلا إذا أخبر بنعمة يريد أن يثيب عليها أو أمر يريد أن يمنحه لعباده في القرآن يقيد إلا في الشكر فإنه أطلق جل وعلا يقيد إلا في ماذا ؟ إلا في الشكر فذكر الله خمسة من نعمه على عباده قيدها تبارك وتعالى ولما ذكر الشكر أطلقه ولم يقيده وبيان هذا على النحو التالي : ذكر الله الرزق فقال سبحانه (ويَرْزُقُ ) ماذا{مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فمن يشاء هذا ماذا يسمى ؟ قيد يسمى ماذا ؟ قيد قال{وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}هذا في ماذا ؟ في الرزق وقال جل ذكره في المغفرة{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}فما قال أن كل أحد دون الشرك يغفر قيده جل وعلا لمن يشاء هذه كم ؟ اثنان وقال جل وعلا في الإغناء قال{فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء}فقيدها جل وعلا بالمشيئة{فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء}في التوبة قلنا الإغناء وقلنا الرزق وقلنا المغفرة وقال جل وعلا في التوبة{وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ}ويتوب الله على من يشاء فمر معنى التوبة والمغفرة والرزق والاغناء وقال في الدعاء{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء}فليس كل من يدعى يجاب قال جل وعلا{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء}لما ذكر الشكر قال جل وعلا {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}ولم يقل سبحانه ولا ملزم على الله ولم يقل لمن يشاء وجعل كل شاكر له الزيادة قال{لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}ولم يقيدها سبحانه وتعالى بالمشيئة هذا من الإطلاق وذلك من(1/13)
المقيد الذي يعنينا أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان شاكراً لربه تبارك وتعالى مثنياً على ربه في كل أمره هذه مدخل القصة قلنا نحن لا نتكلم عن القصة كاملة نتكلم عن فوائد منها هذا ما يتعلق بشخصية يوسف و قد تناولناها من جوانب عدة .
الآن نعود للآيات فنقف عند بعضها من باب الناحية العلمية :
ـ قال الله تبارك وتعالى على لسان عزيز مصر {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}المفسرون إذا ذكروا هذه الآية يقولون نقلاً عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال كلمة مشهورة أشد الناس فراسة ثلاثة عزيز مصر عندما تنبأ في يوسف وأبو بكر رضي الله تعالى عنه عندما تفرس في عمر فأسند إليه الخلافة ويذكرون قبلها ابنة شعيب عندما قالت{يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}(واضح)هذا الكلام يذكره المفسرون ينقله بعضهم عن بعض لكن الحق أن هذا الكلام لا يمكن أن يقوله ابن مسعود لماذا ؟ لأن رأي أبو بكر في عمر لا يسمى ماذا؟ لا يسمى فراسة الفراسة في الشيء الذي لا تعرفه يسمى فراسة تقابل شخص كعزيز مصر عندما قابل يوسف لا يعرفه من قبل فقال{أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا}أما العلاقة بين أبي بكر وعمر كانت وطيدة فأبو بكر يعرف كل شيء عن عمر عشرات السنين مع بعض متجاورين يعرف مخبره ومظهره وجهاده وكل شخصية عمر مكشوفة لدى أبي بكر فليس في الأمر فراسة فعلى هذا نقول إن هذا مما ينقله المفسرون أحياناً من غير تدقيق و نبه إليه أبو بكر ابن العربي رحمة الله تعالى عليه يعني لست أنا الذي اكتشفته هذا مهم نبه إليه أبو بكر ابن العربي رحمة الله تعالى عليه قال إن هذا مما جلبه المفسرون بعضهم على بعض وهو غير صحيح لا يمكن أن يقول ابن مسعود هذا الأمر.(1/14)
القضية الثانية : قال الله جل وعلا عن النساء على لسان عزيز مصر وهذه مهم جداً أن تفهمها الله قال ذكر قصة مراودة امرأت العزيز ليوسف ثم قال جل وعلا{وَاسُتَبَقَا}الباب {اسُتَبَقَا الْبَابَ}يعني تسارعا {وَأَلْفَيَا}يعني وجدا ألفيا بألف الاثنين يوسف وامرأة العزيز{سَيِّدَهَا} يعني عزيز مصر{لَدَى الْبَابِ}يعني في وجهه{قَالَتْ}أي امرأة العزيز{مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ}قال الله{ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}الآن على مهل نحن نعلم أن القرآن كله كلام الله أنا لا أناقشك هذا كلام الله أوغير كلام الله القرآن كله كلام الله لكن قول الله جل وعلا{إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} قاله الله حكاية عن من ؟ عن عزيز فالذي قال{إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}هو من؟ عزيز مصر والله جل وعلا بعدها لم يعقب لا بإنكار ولا بإقرار(واضح) لم يعقب الله هنا لا بإنكار ولا بإقرار حتى تتضح المسألة قال الله على لسان بلقيس{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}هذا كلام من؟ كلام بلقيس قال الله{ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}هذا كلام من؟ هذا كلام الله تصديقاً لكلام من ؟ لكلام بلقيس (واضح) فقول الله على لسان بلقيس{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّة}ًأعقبه الله بقوله{ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}تأكيدٌ لها وتصديق لكلامها أن هذا صحيح(واضح) لكن الله قال هنا{إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} الكلام متصل هذا كلام من؟ كلام العزيز(1/15)
وليس حكاية عن الله (خلاص) إذاً على هذا قول المفسرين إن الله يقول إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان غير صحيح قول المفسرين كيد النساء أعظم من كيد الشيطان بحجة أن الله قال{ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} وقال{إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} هذا غير صحيح لأنك أنت تقارن هنا ما بين أن كيد الشيطان كان ضعيف هذا كلام الله حكاية عن الله ذاته أما{إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}هذا كلام الله على لسان من؟ على لسان عزيز مصر (واضح) مهم جداً أن يُفهم حتى لما نأتي نقارن نقار بين شيئين والغريب أن أكثر العلماء لم ينبه على هذا حتى الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه على علمه لما ذكر المسألة هذه ذكرها كما ذكرها المفسرون وقد ذكروا أن هذا دليلاً على أن كيد الشيطان ضعيف وكيد النسوة أكثر ثم أتى ببيت شعر لأحد العلماء الشنقيطيين اسمه محمد بن الأمين الحسيني البيت يقول:
ما استعظم الإله كيدهن إلا لأن هن هن هن
ما استعظم الإله كيدهن أي النساء إلا لأن هن هن هن هذا أسلوب تعجب يعني طريقة في السياق الكلمي يدل على أن النساء معروفات نحن نتفق مع المفسرين على أن كيد النساء عظيم لكن لا ننسب هذا الوصف إلى من ؟ إلى الله (واضح) نتفق مع المفسرين على أن كيد النساء عظيم نعم وأي كيد ولا يوجد أعظم من كيد النساء لكن كيد النساء جملةً داخل في كيد من؟ كيد الشيطان كيد النساء جملةً داخل في كيد الشيطان وإلا النساء عموماً مشهورات بالكيد وقد كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم رجل ضعيف من باهله يقال له أعشى باهله كان عنده امرأة فذهب يأتي برزق راح في شهر رجب يأتي برزق فلما جاء لم يجدها في البيت فأُخبر أنها ذهبت إلى رجل يقال له فلان بن فلان فلما ذهب قال أعطني زوجتي ذلك استضعفه ورفض فقدم من نجد إلى المدينة ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم والحديث صحيح فأخذ ينشده شعراً عن الحدث الذي أصابه فقال:(1/16)
يا مالك الناس وديّان العرب أشكو إليك ذربة من الذرب
قصيدة طويلة ذهبت امتري الطعام في رجب
رجز إلى أن جاء عند آخرها فقال وهذا البيت يستشهد به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كثيراً لأنه يقرأ الفتاوى قال الرجل يقول هذا الذي يشكو للنبي قال في آخر الأبيات قال:
وهن ـ أي النساء ـ وهن شرُ غالبٍ لمن غلب
فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقلب كفيه ويعجبه القول ويقول وهن شر غالبٍ لمن غلب ويردد المقولة مع الشاعر أن النساء شر غالبٍ لمن غلب الذي يعنينا نحن نتفق على أن كيد النساء عظيم لكن لا ينسب هذا فنقول حكا الله كيدهن بأنه عظيم نعم لكن لا نقول إن الله وصف كيدهن بأنه عظيم لأن الله حكاه على لسان عزيز مصر هذه الوقفة الثانية في القضية.
الوقفة الثالثة : في الأمر قول الله جل وعلا{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}هذا الباب زلت فيه أقدام كثير من العلماء وينقلون حكايات لا يمكن أن يصدقها الإنسان يفعلها إمام مسجد في عصرنا فضلاً على أن يفعلها نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله فنحن نقول جملةً لن نحكيها وننزه أنبياء الله عما ينسب إليهم لكن نقول إن الله ذكر[همّان] هم امرأة العزيز وهم يوسف فقال{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ }أي امرأة العزيز وهذا الهم وقع فعلياً بدليل أنها غلقت الأبواب وقالت{هَيْتَ لَكَ}بقينا في هم يوسف قال الله{وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}
للعلماء في القضية هذه المحققين من العلماء لهم رأيان :(1/17)
ـ الرأي الأول يقول إن الهم وقع منه كخاطرة في النفس لم يلبث أن مرت ولم تترك أثراً أن الهم وقع منه كخاطرة في النفس كأي رجل يرى امرأة دون أن يقع منه شيء مع اتفاق أنه لم يقع منه شيء نعم أصلاً الله جل وعلا برأه ونزهة وامرأة العزيز نفسها برأته لكن نقول أن هذا الهم مر كخاطرة على قلبه هذا التخريج الأول.
ـ التخريج الثاني مبنيٌ على مذهب الكوفيين النحاة على جواز تقديم جواب لولا عليها لولا حرف امتناع لوجود والأصل فيه أن يتأخر جوابها فهم يقولون أي العلماء في تخريج الآية يقولون أصل الآية{لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} لهم بها فهل هم أو لم يهم هنا لم يهم لماذا؟ لأنه رأى البرهان السؤال ما هو البرهان؟ ما الجواب كلمتان الله أعلم ما قال الله ما هو البرهان ولا بد أن الذي يعرف البرهان يكون حاضر ولا يوجد أحد حضر وقعت امرأة العزيز مع يوسف لأن فيه أشياء ما تستنبط بالعقل فيه أشياء لا يمكن استنباطها بالعقل محال فالله جل وعلا قال{لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}فكل من سعى في معرفة البرهان فقد تكلف ما لاعلم له به من أين سيعرف البرهان والله جل وعلا لم يحكيه وهذه أشياء ما تُعرف بعقل نحن لا ندري كيف أداه الله جل وعلا هذا البرهان الذي يعنينا هنا أنه لم يهم أبداً فيصبح مثلاً قررت أن أزورك ثم نزل المطر فحالت الطرق لأنها مبتلة أن أصل إليك فلما قابلتني قلت لي لماذا لم تزرني فقلت لك لولا المطر لزرتك فهل أنا زرتك بسبب وجود المطر فالله يقول أنه لولا أن رأى برهان ربه لهم بها فلم يقع الهم لأنه رأى برهان ربه هذان التخريجان الذي يمكن نسبتهما إلى المحققين من العلماء في قضية هم يوسف عليه الصلاة والسلام.(1/18)
نأتي إلى قضية أخرى تتعلق بالآية أن الله تبارك وتعالى ذكر بعد ذلك في القصة نفسها أن الله قال{وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} السورة كلها تدل على أن الله غالبٌ على أمره كلما أراد أحدٌ في القصة شيئاً يقع خلاف ما أراد خلاف ما أراد صاحب القصة وبدأ من الأول أراد إخوته أن يقتلوه فنقله الله إلى حياة القصور فوقع خلاف ما أراد من؟ ما أراد الإخوة أراد الإخوة أنه بقتله يخلوا لهم وجه أبيهم فانقلب العكس أصبح يعقوب شديد البغض لهم ضيق الصدر عليهم بعد أن كانوا يريدون أن يخلوا بأبيهم فوقع خلاف ما أرادوا أراد له إخوته غيابة الجب فنقله الله إلى دهاليز القصور يعيش مكرم أرادت له امرأة العزيز أن يدخل السجن فأخرجه الله من السجن ووضعه على كرسي الوزارة هو نفسه عليه السلام في السجن أراد أن يخرج فقال للساقي أذكرني عند ربك فوقع خلاف الذي أراد يوسف أنسى الله من ؟ أنسى الله الساقي فمن الذي مكث في السجن يوسف قال الله{فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}فلا يوجد أحد في القضية في القصة كلها يريد شيء إلا ويريد الله غيره فيقع الذي أراده الله ولا يقع ما أراده أصحاب الحدث قلنا إن الإخوة أرادوا قتله فأنجاه الله وأرادوا أن يخلو بوجه أبيهم فضاق عليهم صدر أبيهم وأرادت امرأة العزيز أن يدخل السجن فأخرجه الله من السجن وأراد هو أن يخرج من السجن فمكث في السجن بضع سنين فلا يقع إلا ما يريد الله ولذلك قال الله{وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}ثم إن الله إذا أراد شيئاً ماذا ؟ هيأ أسبابه إذا أراد شيئاً هيأ أسبابه فكان في دخوله السجن فرصه لأن يحتك بالمجرمين فلما احتك بالمجرمين ورأو الرؤيا كانت فرصة أن يعبر وكان خروج أحد المجرمين فرصة لأن يلتقي بالملك ومعرفة الملك بهذا الساقي كانت فرصة للملك أن يعرف يوسف وكلها أحداث تجري بتدبير الواحد(1/19)
القهار حتى تعلم أن كل شيء إنما يدبر في الملكوت الأعلى لكن شرع الله أسباباً يأخذ بها من وفقه الله تبارك وتعالى إليها قلت لا أريد أن أطيل في قضية يوسف لأنها معروفه لكن هذا ملخص ما نريد بيانه عن القصة وهناك جم غفير من الأسئلة نجيب عليه لعل الله أن ينفعكم بما قلناه .
س/ حدثِنا عن قيام الليل كم أكثرة وكم أقله كنت أقوم وتكاسلت فادعوا الله لي ؟(1/20)
ج/ نسأل الله لنا ولك وللمسلمين أجميع التوفيق قيام الليل قربة من أعظم القربات وقد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم صور متعددة في قيام الليل منها وهو الأكثر أنه كان يصلى ركعتين ركعتين ركعتين ثم يوتر صلوات الله وسلامه عليه بثلاث يوتر بثنتين منفصلتين يقرأ فيهما بسبح اسم ربك الأعلى وقل ياأيها الكافرون ويقرأ في الأخيرة بقل هو الله أحد هذه سور من سور قيام الليل من صوره ما ورد عند مسلم في الصحيح من حديث عائشة أنه كان يقوم بثمان ركعات متصلات لا يجلس في أي واحدة من هن ثم إنه يجلس في الركعة الثامنة فيتشهد ثم يقوم ثم يأتي بالتاسعة فيتشهد ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسلم كما أنه يسلم على النبي عليه الصلاة والسلام يسلم على نفسه هو النبي ويسلم على نفسه يقول اللهم صلي وسلم على محمد هذه صيغته ويقول في التشهد بعد ما يقرأ التحيات يقول اللهم صلي وسلم على محمد ثم يقوم ثم يأتي بالركعة الأخيرة التاسعة فيتشهد ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو كثيراً ثم يرفع صوته بالتسليم تقول عائشة فيسلم سلاماً يسمعنا إياه ثم يصلي ركعتين وهو جالس جاء في المسند أنه يقرأ فيهما بإذا زلزلت وقل يا أيها الكافرون والحديث ضعيف لكن وإن كان ضعيف فهو أحب إلينا من رأي الرجال الذي يعنينا هذا صور من صور قيامه الليل يقوم أحياناً بست وسبع يعني نفس الثمان يجعلها ست ثم يوتر بالسابعة وورد أنه فعلها خمس أربع سرداً ثم خمس هذا أكثر قيام الليل وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي أربع ركعات تقول عائشة لا تسأل عن حسنهن وطولهن واختلف العلماء هل هذه الأربع متصلة أو اثنتين اثنتين وكلاهما مقبول لا يوجد شيء مرجح نجزم به ثم يصلي أربع قد تكون ركعتين ركعتين و قد تكون أربع متصلة بسلام واحد ثم يسلم ثم يصلي ثلاث يقرأ فيهما بسبح والكافرون وقل هو الله أحد هذه جملة من صلاة الليل الإنسان إذا خشي أن ينام يوتر قبل أن ينام وإذا غلب(1/21)
على ظنه أنه سيقوم يؤخر القيام إلى جوف الليل الآخر قال الله تعالى{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ وصلاة الرجل في جوف الليل الآخر يحددها لكنه إذا رزق التوفيق أنه يقوم آخر الليل فيوتر يصلي ما شاء الله ثم يوتر ثم ينام ثم يقوم لصلاة الفجر إذا جاء بهذه تسمى ناشئة الليل فناشئة الليل هي الصلاة ما بين نومتين وقد قال عليه الصلاة والسلام (إن بلال يؤذن بليل ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم) يعني الذي كان قائم يعرف أن الفجر قرب فينام حتى يستعد لصلاة الفجر( ويوقظ نائمكم) يعني الذي ما قام إلى الآن يقوم حتى يوتر قبل أن يطلع الفجر( إن بلال يؤذن بليل ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم) كلٌ يستفيد والناس يختلفون في هذا اختلافا كثيرا لكن المهم أن يكون هناك حظ من صلاة الليل0
س / يقول ذكرت أن نبي الله يوسف لم ينبأ إلا متأخراً وقد قال الله عز وجل حينما وضع يوسف في البئر (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فالوحي كان قبل ذلك فكيف تُخرج هذه الآية ؟
ج / هذا الوحي ليس وحي نبوة هذا شيء أوقعه الله في نفسه أو سمعه من ملك لكن لا يمكن أن ينبأ نبي وعمره سبع سنين0
س / ذهبنا لأداء العمرة من بدر وتجاوزنا الميقات بنية المبيت في جدة ؟
ج / إذا كنتم تجاوزتم الميقات دونما عقد النية فيلزمكم هذا ترك واجب ويلزم فيه فدية على كل واحد منكم شاة تذبح لفقراء الحرم0
س / يقول في كثير من الأحيان أنام عن صلاة العصر أرجوا أن تدلوني على الطريقة المثلى للحفاظ عليها؟
ج / اجتهد ولا فيه طريقه بعينها لأنني لا أدري ما عملك من أنت فلا يمكن أن أعطيك طريقة معينة لكن إحرص كثيراً على أن تدعو الله على أن يوفقك لصلاة الفجر0
س / يقول ما هو أول الإبتلاء للتمكين ؟(1/22)
ج / لا يمكن أن يكون تمكين حتى يكون إبتلاء هذا السؤال عرض على الإمام الشافعي رحمه الله فقال سبحان الله وهل يمكن الرجل حتى يبتلى لا تمكين إلا بعد أن يبتلى الإنسان0
س / يقول ( إنه ربى أحسن مثواى ) الآية ؟
ج / ليس المراد به الرب الخالق بدليل إنه لا يفلح الظالمين ما فهمت ماذا أراد لكن قوله (إنه ربى أحسن مثواى ) جمهور العلماء على إنه عائد على عزيز مصر لقرينة (أكرمى مثواه) وقال بعض العلماء إنه عائد إلى الله ولا يستبعد وارد هذا0
س / هل صحيح قول العاطس لمن شمته غفر الله لنا ولكم ؟
ج / يصح لا بأس الأمر واسع وقد كان اليهود يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيعطسون عنده فيقولون الحمد لله لماذا ؟ رجاء أن يقول لهم يرحمكم الله فلا يقولها ماذا يقول يهديكم الله وهذا إن دل يدل على أدب نبينا صلى الله عليه وسلم وكمال عقله 0
س / هل إذا ذكر أي نبي من الأنبياء عليهم السلام غير الرسول صلى الله عليه وسلم يوجب الصلاة عليهم ؟
ج / يقال عليهم السلام يكفي لكن لو قال عليهم الصلاة والسلام جائز0
س/ ما صحة أن جبريل عليه السلام عاتب يوسف عليه السلام لأنه طلب من الساقي أن يذكره عند ربه ؟
ج/ هذا قاله المفسرون لكن لم أقله لأني يحتاج إلى دليل قالوا إن جبريل عاتب يوسف على أنه طلب من الساقي أن يذكره عند ربه0
س/ يقول لماذا لا نرى لكم كتب باسمكم في التفسير أو الأدب أو ما إلى ذلك؟
ج/ الكتابة يقول العلماء مرحلة متقدمه في العلم وهي أمر لم نصل إليه بعد0
س/وهذا يقول ما تفسير قوله تعالى (كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك )؟
ج/ الطريقة التي وضع فيها جاء من خلالها يوسف ألزم أخاه بنيامين بالبقاء عنده هذه علمه الله إياها هذا معنى الآية0(1/23)
س/ يقول لدي معصية لم أستطع التخلص منها فلقد تبت إلى الله أكثر من خمس مرات ثم أعود إليها أرجوا منكم نصحي وإرشادي والدعاء لي بالتوبة الصادقة الخالصة لله تعالى وأسأل أن يغفر لي ولوالديك؟
ج / اللهم آمين أهم شيء يا أخي إذا غلبت على نوع معين من المعصية أن تكثر من الطاعات أكثر من الطاعات أكثر من بر الوالدين والإحسان إلى الناس أعظم ما يذهب أنواع الإبتلاءات الإحسان إلى الوالدين والإحسان إلى الناس هذا بإذن الله يعينك على ترك ما أنت مبتلى به 0
س/ يقول (وليس الذكر كالأنثى )هل هذا القول على لسان مريم أم أنه تقرير من الله عز وجل ؟
ج/ هذا ليس على لسان مريم قطعاً إما على لسان أم مريم أو على لسان الله والأظهر أنه من كلام الله0
س/هذا يسأل عن الثلاثة الذين اشتاقت إليهم الجنة؟
ج/ أنا أذكر منهم عمار ولا أدري من الاثنان الآخران الذي يعرف يجيب أما أنا نسيته أذكر عمار نعم اثنان لا أدرى0
س/ هل من حفظ القرآن ثم نسيه آثم ؟
ج/ إذا تعمد ذلك يخشى عليه من الإثم 0
س/ هل يجوز الدعاء الجماعي في السفر؟
ج/ إذا دعا واحد والآخرون يأمنون فلا حرج0
س/ رجل يصلي ويشهد الشهادتين ثم قتل نفسه هل يخلد في النار؟(1/24)
ج/لا لا يخلد في النار قطعاً بيان ذلك أن النار لا يمكن أن يخلد فيها مسلم يموت على الإسلام لا يمكن أن يخلد في النارمن يموت على الإسلام وقد روى مسلم في الصحيح أن رجلا من الصحابة كان له ابن عم في سفر ثم إن هذا جُرح فلما جرح اشتد عليه الألم فقدم إلى أداة حادة فقص فيها يديه العروق هذه فسال الدم حتى مات فرأه ابن عمه في المنام وقد ربُطت يداه فقال يا ابن عمي ما فعل الله بك قال غفر الله لي قال ومالي أرى يداك هكذا قال إن الله قال لي إنا لن نصلح منك ما أفسدته من نفسك فلما قال هذا الكلام لنبينا عليه الصلاة والسلام دعا صلى الله عليه وسلم وقال اللهم وليديه فغفر اللهم وليديه فغفر أخرجه مسلم في الصحيح وتُرجم لهذا الباب باب لا يخلد في النار من قال لا إله إلا الله أو كلمة نحوها فعلى العموم قاتل نفسه يصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين لكن لا يحسن بولي الأمر أن يصلى عليه أو من له جاه من الناس أن يصلى عليه وإنما يصلي عليه أهله وذووه ويعتبر مسلماً يُترحم عليه ويتصدق عنه ويحج عنه ويعتمر ويستغفر له ويدفن في مقابر المسلمين 0
س/ هذا سؤال خاص يعني يذكر إنه مثلا فقير وحالته المادية ضعيفة وليس راضي مع زوجته الأولى هل يجوز أن يتزوج الثانية رجاء أن الله يغنيه ؟
يجوز نعم لا يوجد في ذلك مانع خاصة إذا كان يريد بذلك أن يعف فرجه 0
هذا ما تيسر و نسأل الله أن يعيننا وإياكم على توفيقه واللقاء القادم إن شاء الله سنفسر سورة الرعد بإذن الرب تبارك وتعالى سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين 0
أسئلة على الشريط
س1/ جعل الله جل وعلا لنبيه يوسف عليه السلام خصائص أذكرها (باختصار)؟
س2/ للعلماء ي قوله تعالى:{وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}رأيان ماهما؟
س3/قال الله جل وعلا{إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} من ربه هنا؟
س4/ هل يجوز الدعاء الجماعي في السفر؟(1/25)
س/ قال الله جل وعلا (وليس الذكر كالأنثى ) هل هذا القول على لسان مريم أم أنه تقرير من الله عز وجل ؟
تم بحمد الله وتوفيقه
سائلين المولى عز وجل الإخلاص والقبول(1/26)
بسم الله الرحمن الرحيم
المجموعة الثالثة
لشيخ: صالح المغامسي
الشريط الثامن
اختلاف العلماء رحمهم الله في المراد بقول الله جل وعلا:
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ }...............................................................4
الوقفة الثانية:عند قوله تعالى { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ.........}................................5
اختلاف العلماء رحمهم الله في نسخ القرآن بالسنة.................................................6
جواز نسخ الحكم قبل وقوعه.....................................................................7
الحكمة من نسخ الحكم قبل وقوعه...............................................................7
الآية الثالثة: قول الله جل وعلا { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا...}......................8
الوقفة عند قوله تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ....}.............................9
التقوى.........................................................................................14
الأسئلة الواردة في الدرس....................................................................16،15
أسئلة على الشريط.............................................................................18
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .(1/1)
أما بعد: فإننا نستعين الله جل وعلا في هذا اللقاء في تفسير ما تبقى من سورة النحل ، وكنا قد تكلمنا عن هذه السورة المباركة في اللقاء الماضي وذكرنا أنها سورة مكية إلا بعض آياتٍ منها قلنا أننا سنعرج عليها في اللقاء الثاني أي في هذا اليوم إن شاء الله تعالى وهي آخر ثلاث آياتٍ منها ، وذكرنا كذلك فيها بعض من الأحكام والأمور ، ذكرنا تحريم الله جل وعلا لبعض اللحوم وإباحته لبعضها واختلاف العلماء فيها ،وذكرنا قول الله جل وعلا {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } ، إلى غير ذلك من التأملات التي عرجنا عليها فيما سلف ، أما الآيات التي سنعرج عليها الليلة فنبدأ بقول الله جل وعلا {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }.
ـ والكلام عن هذه الآية الكريمة يتضمن الوجوه التالية :
أولها : قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : "إن هذه الآية أجمع آية في كتاب الله لخيرٍ يُتمَثل ولشرٍ يُجتنب"، هذه الآية هي أجمع آية في كتاب الله لخيرٍ يُتمَثل وشرٍ يُجتنب ، ذكر بعض الفضلاء من المؤرخين أن عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي المعروف كان يأمر خطباء المساجد أن يضعوا هذه الآية مكان ما يقولونه من قبل من لعنهم وشتمهم لعلي رضي الله تعالى عنه وأرضاه ، فقد كان علي يلعن حيناً من الدهر على المنابر ، فلما ولِيَ أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ، أمر بإلغاء شتم علي ولعنه وجعل مكانه هذه الآية { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }،ولذلك يعظم شيعة علي عمر بن عبد العزيز رحمه الله ، قال كثيِّر وهو شيعي :(1/2)
وليت فلم تشتم علياً ولم تخف *** برِّياً ولم تسمع مقالة مجرم
فما بين شرق الأرض والغرب كلها *** منادي ينادي من فصيح وأعجم
يقول أمير المؤمنين ظلمتني *** بأخذ لدينار ولا أخذ درهم
فلو يستطيع المسلمون لقسموا ***لك الشطر من أعمارهم غير ندم
فكان عمر رضي الله عنه مما اتفقت عليه كلمة المسلمين على فضله وعدله وإحسانه ، وقد أخذ هذه الآية وجعلها مكان ما بيناه ،ما يتعلق بالآية ما العدل ؟ وما الإحسان ؟
ـ اختلف العلماء رحمهم الله في المراد بقول الله جل وعلا: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ }.
1/ فالمشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أن العدل: لا إله إلا الله ، والإحسان: بقية الفرائض ، أن العدل قول: لا إله إلا الله ، والإحسان: بقية الفرائض وهذا مرجوح عند كثير من العلماء .
2/ وذهب البعض إلى أن العدل هو : الفرائض ، والإحسان هو : النوافل ، العدل هو : الفرائض ، والإحسان هو : النوافل.
3/ وقال سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى أحد مشاهير المحدثين الكبار قال : العدل: استواء السريرة والعلانية،العدل:استواء السريرة والعلانية والإحسان : أن تكون سريرة المرء خير من علانيته ، والإحسان : أن تكون سريرة المرء خير من علانيته وهذا بصرف النظر عن كونه يطابق معنى الآية أو لا يطابقها ، لكن قول سفيان هذا رحمه الله دونه خرط القتات ، أمر صعب ، قلما يرقى إليه أحد ، لكن هذا تفسير سفيان رحمه الله جل وعلا للآية .(1/3)
4/ ونُقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه : أن العدل هو الإنصاف ، والإحسان هو التفضل ، وهذا فيما يبدو والله أعلم أظهر الأقوال ، وهذا فيما يبدو والله أعلم أظهر الأقوال وجميع الأقوال السابقة يمكن إدخالها في قول علي رضي الله عنه وأرضاه ، لأننا إذا قلنا إن العدل هو الإنصاف فلا ريب أن من أعظم الإنصاف أن لا تعبد إلا الله ، فدخل فيه قول ابن عباس أنها لا إله إلا الله ، كما يدخل فيه في قول علي هذا الإنصاف مع الناس ، ويدخل في قوله رضي الله عنه وأرضاه أن الإحسان هو التفضل ، يدخل من باب خفي،التفضل على الناس بالعفو عنهم وعدم الانتقام منهم يدخل في قول علي رضي الله عنه وأرضاه إن العدل هو الإنصاف والإحسان هو التفضل ، وقلنا إننا نميل إلى هذا الرأي { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْي } لا ريب أن اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى ، وإيتاء ذي القربى لاريب أن المؤمن مطالب بأن يعطي الخير للآخرين ولكن القرآن جُبل أو جاء بتربية أتباعه من المسلمين على التدرج في الأمور وهذا بيناه مراراً ، فلا يمكن أن يكون حق العالم كحق الوالدين ، لأن حق الوالدين أعظم ، ثم تأتي الحقوق بالتدرج ، وهنا قال الله : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} فمن بينك وبينه رحم من قرابة ليس حقه كحق من ليس بينك وبينه أي صلة من قرابة ذاك له حق الإسلام والأول له حق القرابة وحق الإسلام ، وهذه الأمور ذكرناها مراراً لا حاجة للوقوف عندها ، ثم قال جل وعلا {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْي } الفحشاء تكون في الأقوال وتكون في الأفعال والمنكر وهي غالبا ما الأمور الأخلاقية ، تطلق في القرآن غالباً على الأمور الأخلاقية ، وأما المنكر فهو أعم والبغي(1/4)
أخص من المنكر ، والبغي أخص من المنكر إلا أنه يسمى عطف البغي على المنكر ، يسمى من باب عطف الخاص على العام ، لأن كلمة المنكر يدخل فيها ماذا ؟ يدخل فيها البغي ، فقول الله جل وعلا عن الفحشاء والمنكر والبغي ، يدخل البغي في المنكر ، لكن الله كما قال أهل العلم خصص البغي بالذكر لعظيم قبحه ، خصص البغي بالذكر لعظيم قبحه والبغي: هو التجاوز والطغيان وتجاوز الحد على العباد إما بسفك دمٍ أو بأكل مالٍ أو بانتهاك عرضٍ أو بالتسلط الوظيفي كما يحصل في حياة الناس المعاصرة أو بالتسلط على أرض مجاورة أو بأمور عدة ينتقم بها الإنسان بغياً من غير انتقام ابتداءً هذا البغي الذي نهى الله جل وعلا عنه ، ولا يوجد مصرع أقرب من مصرع من يبغي أعوذ بالله من ذلك كله والله جل وعلا قال { وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } وقال { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم} مرد ضرر الباغي دائماً على نفسه ، والبغي أحد الذنوب التي يعجل الله جل وعلا بها العقاب على من يصنعها، والبغي أحد الذنوب التي يعجل الله جل وعلا بها العقاب على من يصنعها والإنسان إذا أدرك كما سيأتي وقوفه بين يدي الله حرَّم على نفسه وعرف أن البغي مرتعه وخيم ولم تدعه قدرته على ظلم الناس إلى أن يظلمهم ، ومن تذكر قدرة الله عليه أحجم على أن يظلم غيره ، وقد يكون البغي بكلمة تنقل عنك فتشاع فتثبت على أخٍ لك في الله هو بريء كل البراءة مما قلت ، وقد يكون البغي بسفك دمٍ وقد يكون كما قلت باقتطاع أرض أو بغير ذلك ، أموره شتى يدخل في كل شيء ، لكنه والعياذ بالله من أعظم مانهى الله جل وعلا عنه { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } والله جل وعلا يعظ عباده ويؤدب خلقه ويرشدهم إلى ما فيه الأمثل هذا الوقفة الأولى فيما تبقى من آيات سورة النحل .(1/5)
الوقفة الثانية: عند قوله تعالى { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } القائلون أنك مفتر هم من ؟ الكفار والمخاطب بلغة الكفار بقول الكفار هو نبينا صلى الله عليه وسلم ، والنبي في سائر أمره ممتثل لله ينزل عليه القرآن ينزل عليه الشرع فهو يبلغه صلى الله عليه وسلم كما جاء إليه فعندما يحدث نسخ يظن أولئك الكفار أن محمد صلى الله عليه وسلم يفعل ما يريد ويقول بعضهم لبعض ما رأينا أعجب من هذا يأمرهم الليل بشيء ثم ينهاهم عنه في الصباح ، فالله جل وعلا يخاطب هؤلاء الكفرة ويثبت نبيه قائلاً { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } وهذا يسوقنا من حيث التأصيل العلمي إلى مسالة النسخ في كلام الرب جل وعلا أو في كلام الله تعال في قرآنه العظيم ، وسبق أن تكلمنا عن هذا في الدرس الأول أو الثاني عند قول الله جل وعلا { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وذكرنا تفاصيل النسخ لكن نقول هنا مالم نقوله في الأول من باب الفوائد العلمية فنقول:(1/6)
ـ اتفق العلماء على جواز نسخ القرآن بالقرآن ، اتفق العلماء على جواز نسخ القرآن بالقرآن وهذا ظاهر لا يمكن رده إلا لرجل متكبر ، الله جل وعلا يقول { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } ماهو؟ صيام رمضان ، الله جل وعلا يقول في القرآن ، هذه آية تقرأ { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي الصيام { فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } يعني الإنسان الذي يقدر على الصيام ولا يريد أن يصوم يطعم مسكيناً ، الآن هل يجوز هذا ؟ لا يجوز ، هذا منسوخ ، منسوخة حكماً لكنها غير منسوخة تلاوته ، منسوخة حكماً لكنها غير منسوخة تلاوته أين الدليل على نسخها؟ الله قال { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فقول الله جل وعلا { َفَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } نسخ لقوله تبارك و تعالى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } وهذا كثير كآية المصابرة وآية المرأة التي توفى عنها زوجها وغير ذلك ، هذا الاتفاق على نسخ القرآن بماذا؟ بالقرآن .(1/7)
ـ وإنما اختلف العلماء رحمهم الله في نسخ القرآن بالسنة ، وإنما اختلف العلماء رحمهم الله في نسخ القرآن بالسنة فبعض العلماء يثبته وبعض العلماء ينفيه ، ولكلٍ حجته ، لكن الذي ندين الله جل وعلا به والذي عليه أكثر العلماء من المحققين أنه يجوز نسخ القرآن بالسنة ، وهذا الأمر نسخ القرآن بالسنة كما قلت ، قلنا اختلف العلماء رحمهم فيه نأتي بدليل لمن قال إن القرآن لا ينسخ بالسنة ، القائلون بهذا حتى تعلم أن العلماء لا يمكن أن يقولون بقولٍ جزافا وإنما لهم أدلتهم هو قول الله جل وعلا { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فقالوا أي القائلون بالمنع قالوا فالسنة ليست خيرا من القرآن وليست؟ وليست مثله والله يقول ( بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) واضح ؟! هذه حجة من حجج من قال إن القرآن لا ينسخ بالسنة ، قالوا إن الله يقول { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } والسنة ليست خيرا من القرآن وليست مثله ، أجاب عنها القائلون بجواز نسخ القرآن بالسنة بأن الله قال { نَأْتِ } من الذي يأتي ؟ الله ، فقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يأتي بحكم شرعي من السنة ينسخ به القرآن لا يأتيه من عند من ؟ من عند نفسه وإنما يأتي به من عند الله فلا تعارض ما بين قول الله جل وعلا { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وما بين نسخ القرآن بماذا ؟ بالسنة ، وقلنا هذا الذي عليه محققوا العلماء وإن كان قول قوي جداً أن يقال أنه لا ينسخ القرآن بالسنة وهذا درس علمي .(1/8)
ـ من الفوائد في الباب: أنه يجوز أو فلنقل بتعبير أصح وقع نسخ الفعل قبل وقوعه ، نسخ الحكم قبل وقوعه وجد في النقل الصحيح نسخ الحكم ، حكم شرعي نُسخ قبل أن يفعل ، فأنا سأتي بواحد من السنة وأنتم أتوا بواحد من القرآن ، فمما وقع في السنة الصلوات الخمس فإنها فرضت في الأول كم ؟ خمسون صلاة ثم مازال صلى الله عليه وسلم يراجع ربه حتى أصبحت خمس ، كم نُسخ ، نسخت خمس وأربعون صلاة هذه نُسخت حكماً من قبل أن ماذا ؟ من قبل أن يصليها الناس ، من قبل الفعل ، نُسخ حكمها قبل فعلها ، قبل أن يفعلوها الناس واضح فنسخت وأصبحت خمس صلوات قبل أن يفعلها الناس ، هاتوا بضربها من القرآن ، فعل طلب لكنه لم يقع الفعل ثم نسخ قبل أن يقع هو إلى التاريخ أقرب منه إلى الأحكام التي مطالبون بها أنتم قصة إبراهيم عليه السلام فإن الله جل وعلا فدى إسماعيل ونسخ الحكم بتكليف إبراهيم بقتل إسماعيل قبل أن يقتل إبراهيم من ؟ إسماعيل واضح ؟ فإن الله رفع الحكم عن إبراهيم قبل أن يقتل إسماعيل نُسخ الحكم ‘ الله جل وعلا قال { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ{104} قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ{105} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ{106} وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ{107} } فالذبح العظيم وقع نسخا لماذا ؟ لقتل من ؟ لذبح من ؟ إسماعيل مع أن إبراهيم قطعاً لم ماذا ؟ أجيبوا لم يذبح ابنه طيب الآن تأتي الحكمة. قال العلماء هنا يُسأل إذاً :
ـ ما الحكمة من نسخ الحكم قبل وقوعه:(1/9)
التسليم وجود التسليم والامتثال في قلب المؤمن وجود التسليم والامتثال في قلب المؤمن وقد وقع من خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام الاستسلام والانقياد والخضوع لكلام ربه جل وعلا وأمره وهم بأن يذبح ولده ولم يبقى له إلا إراقة دمه ، لكن الله جل وعلا نسخ هذا الحكم قبل وقوعه ،هذا ما يتعلق بالنسخ ، وقلنا إن مسائل النسخ هذه من أعظم ما يمكن أن يتعلم به كتاب الله جل وعلا ويستطيع الإنسان أن يفسر القرآن ويعرفه ، أن يعرف أبواب أحكام النسخ والمنسوخ في كلام الرب جل وعلا .
ومن القرآن: ما ينسخ حكماً ويبقى تلاوةً ومنه ما ينسخ تلاوةً ويبقى حكماً ومنه ما نسخ تلاوةً وحكماً وهذا فصلناه من غير إعادة في الدرس الثاني إن لم أنسى في سورة البقرة عند قول الله جل وعلا { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } هذه الآية الثانية.(1/10)
الآية الثالثة: قول الله جل وعلا { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } هذه من أعظم آيات العظات في كلام الرب تبارك وتعالى ، وذلك أن الموقف بين يدي الله جل وعلا موقف عظيم إلى أبعد حد لا يمكن أن يتصور مثله ، والله جل وعلا أعلم بما سيكون في عرصات يوم القيامة ، وأعلم بحال خلقه حال وقوفهم بين يديه ، وهو تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن هداية ورحمة وإشفاقاً منه جل وعلا على خلقه فكان بدهياً أن يضمن في القرآن أعظم ما يعظ الناس والله جل وعلا أخبر أن هذا القرآن تشقق له الحجارة الصماء والجبال الصلداء وانه لو أنزل عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وهو هنا جل وعلا يحذر خلقه ويخوف عباده قائلا سبحانه { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } أحياناً يكون الموقف لا يستطيع معه الإنسان من عظمته وخوفه على نفسه وإشفاقه مما قدمت يداه أن ينصرف جاهه أو ماله أو فضله أو إحسانه أو لسانه أو بيانه إلى أحد من الخلق ممن حوله لا أمه ولا أباه ولا إخوته ولا من نصره في الدنيا حتى قال بعض المفسرين إن إبراهيم خليل الله وهو الذي نعته الله جل وعلا بأنه كان أمة قانتاً لله حنيفاً هو نفسه عليه السلام كما صح بذلك الخبر يقول يوم القيامة نفسي نفسي فإذا كان مثل هذا في صلاحه وتقواه وإمامته للناس وفضل الله جل وعلا عليه وقول الله تبارك وتعالى عنه { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } يقول يوم القيامة نفسي نفسي فما عسى أن يقول غيره ، والمقصود من هذا أننا جميعاً ما زالت أرواحنا في أجسادنا وباب التوبة إلى الرب تبارك وتعالى مفتوح ، ولن يخلو أحد من خطأ أو زلل أو أمر يقوم به بينه وبين الله جل وعلا لكن الله تبارك وتعالى أرحم من سئل وأكرم من أجاب وأفضل(1/11)
من قبل دعوة من يتوب إليه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار الليل ليتوب مسيء الليل يقبل العفو ويعفو عن الجريرة ويقبل التوبة من عباده وهو يقول هنا عن ذلك اليوم { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } تبحث عن ما يخلصها تبحث عن ما ينجيها والله يقول { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } والإنسان العاقل الفاهم المدرك لخطاب الرب تبارك تعالى يدرك أن هذا سيقع لا محالة لابد أن يقع هذا اليوم ، لابد أن يخرج الناس حفاة عراة غرلاً بهما لايملكون من حطام الدنيا ولا متاعها شيء يخرجون كما بدأ الله جل وعلا خلقهم أول مرة لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً يلجمهم العرق وتدنو منهم الشمس وتنصب الموازين وتوزع الصحائف ويقف الخلق جميعاً بين يدي الله جل وعلا يتذكر المرء آنذاك ماضي أيامه وغابر أزمانه ثم يعطى صحيفة يرى فيها كل ماقدمت يداه كما حكى الله جل وعلا عن أهل الظلم { وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } وصوره الله جل وعلا بأعظم الصور يوم أن قال { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً{111} وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً{112} } فمن لجأ إلى الله جل وعلا مادامت روحه في جسده ، أكثر من الاستغفار والله جل وعلا { لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أكثر من التوبة والله جل وعلا يقول { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } ومن أكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وخف ظهره من مظالم الناس لا في دينار ولا في درهم ولا في دم ولا في قول ولا في فعل ولم يكن له خصومة بينه وبين أحد(1/12)
من الخلق يوم القيامة وإنما تخلص من ذلك كله ، هؤلاء سيكونون أسعد من غيرهم يوم القيامة وإن كان قول الله {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } واقع لا محالة مهما كان عمل المرء مهما كان فضله مهما كان إحسانه سيجادل عن نفسه وينافح عنها لأن الإنسان لا يملك شيء أعظم من نفسه ينافح عنه وهذا أمر مغروس في الصدور جبل الله جل وعلا عليه الخلق ويوم القيامة من كرباته أعاذنا الله وإياكم من تلك الكربات لا ينظر المرء إلى من حوله لما قالت عائشة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن الناس يحشرون حفاة عراة قالت يارسول الله : الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ، قال :يا عائشة ، المر أعظم من ذلك ، والله جل وعلا يقول { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ{34} وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ{35} وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ{36} لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } اللهم إننا نسألك بعز جلالك وكمال جمالك أن ترحم وقوفنا بين يديك .
ـ ثم قال جل ذكره: { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى } أي تعطى { كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } كاملاً {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي لا يمكن أن يظلم الله جل وعلا أحدٍ من خلقه والرب تبارك وتعالى منزه عن الظلم إن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة بل إن الله جل وعلا لو لم يرحمنا لدخل الخلق كلهم النار ، لو لم يرحم عباده لدخل الخلق كلهم النار ، لأننا لو عبدنا الله جل وعلا ليلاً ونهاراً لما أدينا شكر أي نعمة من نعمه تبارك وتعالى علينا، نسأل الله جل وعلا أن يستر الحال ويصلح المآل ويغفر لنا ولكم إنه جل وعلا الكبير المتعال.(1/13)
ـ ثم قال جل شأنه وعظم ذكره: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ{126} وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ{127} إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ{128} } هذه الثلاث آيات مدنية في قول أكثر علماء التفسير و......(1/14)
العلماء أي جمهور العلماء من المفسرين على أن هذه الآيات نزلت يوم أحد في منصرفه صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وذلك أن الدائرة كانت أول الأمر لإهل الإسلام ثم كان ما كان من تصرف الرماة رضي الله عنهم وأرضاهم وعصيانهم لإمر النبي صلى الله عليه وسلم فكان تسلط خالد قبل إسلامه على الجبل ووقع في المسلمين من القتل ما وقع ، هناك في تلك المعركة شفت قريش غليلها من قتل المسلمين ، وكان ممن مُثل به في أرض المعركة حمزة ابن عبدالمطلب عم نبينا صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة ، حتى وردت أمور لا تنقل ولا يحسن قولها في قضية ماذا فعل به أهل الكفر آنذاك بقروا بطنه وأشياء أخر ، وفعلوا مع حمزة وفعلوا مع غيره ، فلما انتهت المعركة وانصرف أبو سفيان بالجيش إلى مكة جاء صلى الله عليه وسلم يتفقد شهداء المعركة وكانوا رضي الله عنهم وأرضاهم سبعين منتشرين أشلاءهم ودماءهم في أرض المعركة ، فوقف صلى الله عليه وسلم يستغفر لهم ويشهد لهم بالجنة ، ويقول :" إنهم سيبعثون يوم القيامة اللون دم والريح ريح مسك ، وذكر أمور عظيمة في فضلهم رضي الله عنهم وأرضاهم ثم ما زال يمشي صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة حتى وقف على حمزة وقد مُثل به رضي الله عنه وأرضاه تمثيلاً شنيعاً ، وكان حبيباً جداً إلى النبي عليه الصلاة والسلام عمه وأخوه من الرضاعة في نفس الوقت ، فوقف عليه صلى الله عليه وسلم وحمزة مغطىً بثوبه الذي مات فيه ، فغطى رجليه فكُشف رأسه ، فغطى صلى الله عليه وسلم رأس حمزة وغطى قدميه بالإذخر النبات المعروف ، ثم وقف صلى الله عليه وسلم يبكي حتى شنق به البكاء وكاد أن يُغشى عليه رغم أن الدم كان ينزف منه وصلى صلى الله عليه وسلم بأصحابه بعد منصرفه من أحد وهو قاعد جالس وصلى الصحابة وراءه قعوداً لإنه إنما جعل الإمام ليؤتم به،ولم يطق صلى الله عليه وسلم من الجراح التي به أن يصلي بالناس واقفاً ، قبل ذلك وقف على حمزة ، فقال عليه الصلاة(1/15)
والسلام : لولا أن تنهاني صفية ويكون سنة بعدي لتركته هكذا حتى يحشر في حواصل الطير وبطون السباع ، ثم أمر به فدفنوا من غير أن يغسلوا .
ـ واختلف العلماء في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم هل صلى عليهم أو لم يصلّى عليهم؟
وكلا النقلين وارد ، نُقل أنه لم يصلي ، ونُقل أنه صلى على حمزة سبعين صلاة ، سبعين مرة يصلي عليه مع كل مقتول يضع حمزة ويضع معه شخص آخر ، ثم يدفن الثاني وهكذا ، هذا نُقل ونُقل غيره وقلنا المسألة فيها خلاف طويل بين العلماء ليس هذا موضع بسطتها ، وإن كان استقر الرأي في أكثر المتأخرين من المعاصرين أنه لا يصلى على شهيد المعركة مع الإتفاق على أنه لا يغسل ، والمقصود أنه وقف صلى الله عليه وسلم ثم قال بعد أن أصابه الحنق ، لما فعلوا بعمه ، قال : لإن ظفرتم بهم أي قريش لأمثلن في رواية بثلاثين منهم ، وفي رواية بسبعين "، ولما رأى الصحابة ما أصاب نبيهم صلى الله عليه وسلم من الشنق بالدمع والبكاء والحزن على حمزة والتمثيل به ، قالوا مثل ما قال نبيهم قالوا : لإن أظفرنا الله بهم لنفعل ونفعل ونمثل ، فأنزل الله جل وعلا،والله جل وعلا يربي العباد ويدلهم على الأرشد ولا يوجد في دين الله شيء تريده الجماهير ولاَّ شيء يثير الحماس ولاَّ شيء يثير العاطفة فلا أحد في الخلق اليوم أشرف من حمزة ومثل به قل تمثيل قبيح لا يقال ومع ذلك قال الله جل وعلا لنبيه ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ) ثم قال { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} فاختار صلى الله عليه وسلم أن يصبر وكان ينهى عن المثلة ، ونهى أصحابه في سائر حروبه رغم ما ظفر به من أهل الإشراك الذين نكلوا به بأصحابه ونكلوا بحمزة أو بغيره نهاهم صلى الله عليه وسلم على أن يمثلوا بأحد من أهل الإشراك ، لأن الإنسان يُقدم دين الله في الصورة التي نزل بها الدين ، لا بالصورة التي نريدها نحن للدين فإن هذا تقدم بين يدي(1/16)
الله وبين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم ونحن ننقل دين الله كما أنزله الله للناس ولا نخلطه بأمزجتنا وأهوائنا وآرائنا ورغباتنا وأحناقنا الشخصية هذا أمر يبعد الشرع أن يطالب به أتباعه ، والمقصود لأجل هذا نزلت الآية { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ{126} وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ{127} إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ{128} }.
ـ يتفرع على هذه مسائل عدة :(1/17)
أولها: مسألة لغوية ، وهو أن الأمر الثاني ، هنا الأمر الأول هنا لا يسمى عقوبة واضح ؟ الله يقول (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ) و لاريب أن ما فعله المشركون بالمسلمين لا يسمى ماذا ؟ لا يسمى عقوبة العقوبة في الرد وإنما يسمى إيذاء وبغي وإنما أسماه الله عقوبة من باب كلام العرب ، ويسمى هذا في كلام العرب حمل الأول على الثاني والثاني على الأول بالمشابة بالألفاظ ،يسمى عند البلاغيين بالمشاكلة ومثله قول الله جل وعلا { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} الثانية ماهي سيئة وإنما رد لكن الله جل وعلا سماها سيئة من باب المشاكلة بالألفاظ وقال الله جل وعلا {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } و لايسمى الثاني اعتداء لأنه رد لكنه سمي هنا اعتداء في باب اللفظ فقط وقلنا إن هذا عند البلاغيين يسمى مشاكلة قال الله { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } يُفرِّع العلماء عليها أي هذه الآية مسألة الظفر ، مسألة ماذا؟ مسألة الظفر ، مامعنى مسألة الظفر؟ أحياناً الإنسان يقع عليه ظلم من شخص ما ، فمثلاً رجل وضعت عنده مال ، فخانك في مالك وأخذه ، جاء موقف غدر بك ، لنفرض نتكلم من حياة الناس الواقعية اليوم ، أخذت من رجل بطاقته العائلية واكتتبت فيها بها في البنك ، في البنك أو في شركة ما ، ودفعت الأموال رجاء أن تقتسما المال عند الربح بعقد شفهي بينك وبينه ولا يوجد شيء محرر ، ثم لما علا السهم في السوق ، طبعاً هو الذي يملك البيع لأنه هو الذي بيده البطاقة ، باعه قال : مالك عندي شيء ، لا ربح ولا رأس مال ، وأنت لا تستطيع أن تثبت عليه شيئاً ، فأخذ مالك ، لو قدِّر أن هذا الرجل ذات يوم لإمر ما وقع في يدك ماله ، هل لك أن تأخذه منه أو لا ،،
ـ هل لك أن تأخذه منه أو لا؟(1/18)
قال بعض العلماء كابن سيرين وأظنه إبراهيم النخعي وبعض الفضلاء أنه يجوز ، لإن هذا ظاهر النصوص واحتجوا بهذه الآية وبقول الله تعالى { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }.
ومنعه مالك رحمه الله وقال إنه لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم [ ولا تخن من خانك ] على فرض صحة الحديث [ أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ].
ونحن نقول والله أعلم إن هذا فيه تفصيل:
ـ فإن كان وصل إليك المال من غير طريقه هو يعني ليس هو الذي ائتمنك عليه ، وإنما استطعت أن تصل إليه بطريقتك الخاصة ، جاز لك أن تأخذ بمقدار حقك.
ـ أما إذا هو نسي الموضوع وائتمنك أمانة على المال ونسي الأمر الأول ، فلا يحسن بك أن تخونه في مثل هذه الحالة واضح ؟ إذا استطعت أن تصل إلى المال بطريقتك الخاصة وأخذت المال فلا حرج إن أخذت على قدر ما أُخذ منك ، والحالة الثانية قلنا أنه يعطيك المال هو نفسه ينسى الموضوع يعني مثال الأول الحدث بالعكس بعد فترة فهل يجوز لك ؟ نقول الأفضل أن لا تفعل لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول [ ولا تخن من خانك ] وقد بينتُ الظاهر في الدرس الماضي ، قلت إن الله جل وعلا ذكر ماذا ؟ الخديعة والمكر والخيانة قلت هذا ؟ طيب نقوله الآن هذا من فرائد العلم الله جل وعلا ذكر الخديعة والمكر والخيانة في كلامه جل وعلا فنسب الخديعة إلى نفسه قال جل وعلا { يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } فالله يخدع من يخدعه ، وذكر الله جل وعلا المكر في كتابه ونسبه جل وعلا إلى نفسه قال سبحانه ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ ) لمن يمكر به لكنه ذكر الخيانة جل وعلا ولم ينسبها إلى نفسه قال { فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } ولم يقل جل وعلا فخانهم قال {فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } ونحن نقول الأمر في الخيانة مسألة عظيمة.(1/19)
ـ ومعنى الخيانة: أن الإنسان يستأمنك على شيء بصرف النظر عن سبب الاستئمان فتقلب له ظهر المجن هذا لا يمكن أن يقبل شرعاً في نظرنا لايمكن أن يقبل ولذلك عند المالكية رحمهم الله أن الشخص إذا قتل أحداً غيلة على وجه الاستئمان لا يجوز لأولياء الدم أن يطالبوا بالدية أو بالعفو ، لابد من القصاص حتى ولي أمر المسلمين الإمام الأعظم لا يجوز له أن يعفو في قضية كهذه ، وحتى تتضح الصورة ، إنسان ليس بينه وبين أحد بين رجل آخر خصومة على وجه الأمان فيُقتل هذا لا ينبغي أن يكون فيه دية ولا عفو أبداً لا من الإمام ولا من أولياء الدم،ومن أظهر أمثلته شخص مثلاً لديه صديق ليس بينهما عداوة صديق شخصي حبيب إليه فجاء يبيت عنده مستأمنه ، فغدر به في بيته وهو نائم بعد أن أدخله بيته ورحب به فقتله مثل هذا قلنا يذهب مالك رحمه الله وهو الحق إن شاء الله أنه ليس فيها عفو ، لأن هذا ما تقع من إنسان سوي أبداً ، ومثله الزوجة التي تقتل زوجها لأن الله قال { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } وجعلها أمان وسكن والإنسان أين يجد الأمن إن لم يجده في بيته ، فلو نام رجل في بيته عند زوجته في مخدعه في مضجعه في مستقر بيته مكان طمأنينته ، ثم انقلبت عليه زوجته وقتلته ، لاينبغي أن يكون هناك عفو في مثل هذه القضية ، وإن كان جمهور العلماء على خلافه ، لكن كما قلت هذا قول مالك وأنا استطردت في الحديث في الكلام عن قضية الخيانة ، كما أن الآية مشكلة في مسائل الأخلاق واضح ؟ الآية مشكلة بكثرة في مسائل الأخلاق ، فإطلاق ابن سيرين رحمه الله وإبراهيم النخعي وغيرهما على الآية على إطلاقها أمراً نراه صعباً جداً ، فقد يوجد إنسان يسافر ثم أنه يقع منه أن جاره وقع على زوجته ظلماً وعدواناً وتبين له هذا عرف بطريقة خاصة مثلاً أو أخبره أحد الجيران أو عرف أن هذا الجار بعد سفره اغتصب زوجته كمثال ، فهل نقول بنص الآية لو أن هذا الجار الفاعل سافر ، هل يجوز للرجل أن يغدر بالمرأة(1/20)
باعتبار نفس القضية أمر غير مقبول واضح ؟ فإن كان قد يأتي إنسان يقول أن المرأة مسألة أخرى لأنها ليست وقع عليها الفعل ، لكن المقصود أن القرآن لابد أن يفهم قبل الاستشهاد به ، والعاقل لا يعرض رأيه وكلامه للناس حتى لا يقع تضارب فيما يقول { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } ولا يوجد شيء يدني المرء من عظيم المنازل ورفيع الدرجات أعظم من الصبر ، لا يوجد شيء يدني المرء من عظيم المنازل ورفيع الدرجات أعظم من الصبر صبر يوسف عليه الصلاة والسلام على مكر إخوانه ، وعلى ظلم امرأة العزيز ، وعلى سجن العزيز فأورثه الله جل وعلا ما أورثه
مراء مضيق الخوف متسع الأمن *** وأول مفروح به غاية الحزن
فلا تيأسن فالله ملك يوسف *** خزائنه بعد الخلاص من السجن(1/21)
والله جل وعلا يبتلي قبل أن يمكِّن ، فإذا صبر العبد وأظهر لله جل وعلا الرضا بالمقدور وأذعن لله ولأمره ونهيه بوأه الله جل وعلا منزلة أعلى ودرجة أرفع ، ولهذا دعا الله نبيه ونصحه وندبه إلى الصبر قال { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } { وَاصْبِرْ } يقول لنبيه { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ } وحتى الصبر يطلب من الله يستعين المرء في كل أحواله ، في تربيته لأبنائه ، في صبره على أذى زوجته ، في غير ذلك يصبر لله جل وعلا ، مستعيناً بالله، وقد مرَّ معنا مراراً في هذا الدرس المبارك وفي غيره ، قلنا : إن رجلا من الصالحين جاءه رجل فطلب منه أن يتزوج ابنته وهو لا يعرفها فوافق فلما أدخلت عليه المرأة فإذا هي عوراء عرجاء فيها شلل ، فيها من كل العاهات فصبر وسكت خمسة عشر عاما لا يكلم أحد أن في زوجته شيء ، فكانت من شدة أن ما بها من الأمراض والعاهات و الأمور تتعلق به لأنه كامل الخلق ، فصارت تمنعه من حبها له وتعلقها به تمنعه حتى أن يذهب إلى أصحابه ثم قليلاً تمنعه حتى من صلاة الجماعة من فرط شغفها به فصلاة يحضر وصلاة لا يحضر وهو يخشى أن يخرج خوفاً أن يجرح مشاعرها لضعفها وأنها محرومة من كل شيء ، فصبر عليها خمسة عشر عاماً، ثم ماتت ، فلما ماتت كان الناس أهل جيله ، أهل حيه يحبونه حباً جماً وهم لا يدرون عن هذه القضية كلها ، لكن الله أورث قلوبهم محبته ، فذات يومٍ انفرد به رجل ، واسم هذا الصابر أبو عثمان ، قال : يا أبا عثمان إني سائلك عن مسألة وأخذ عليه الأيمان المغلظة أن يجيبه فوافق ، قال : إنني أرى الله أورثك حب الناس، فما السريرة التي بينك وبين الله حتى أورثك الله هذا الحب ؟ فاعتذر عن الإجابة فلما أقسم عليه وافق ، قال : إنني تزوجت امرأة وذكر له القصة ، فقال : صبرت عليها خمسة عشر عاماً ما كلمت في أمرها أحد من الخلق ، حتى أهلي لا يعرفونها ، فصبرت عليها خشية من أنني لو طلقتها لن يتزوجها أحد ،(1/22)
فرحمة بها ، ما دام ما فيها شيء في أمر دينها يخل بها في أمر الدين يصبر عليها ، ولا تفسد عليه خلقه ثم ماتت ، بمثل هذه الأحوال وهو غير ملزم شرعاً بالطبع ، لكن بمثل هذا الصبر في أمور كثيرة بالتجلد على أذى الناس ومكر الحاقدين وحسد الأعداء وغير ذلك ينال الإنسان رفيع الدرجات قال الله { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } لماذا لا يكن في ضيق ؟ لأن الآية التي بعدها تقول{ إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ }.(1/23)
ـ وهذه معية عامة أو خاصة ؟ خاصة قطعاً ، معية الله العامة لكل خلقه باطلاعه جل وعلا على ما يصنعون وعلمه تبارك وتعالى وقدرته عليهم وإحاطته بهم هذه لكل الخلق ، لكن هذه معية ، معية خاصة { إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ} بتأييده ونصره وفضله وإحسانه تبارك وتعالى وغير ذلك مما هم هؤلاء العباد ، وكل عبد في فقر ملحٍ إلى نصرة الرب تبارك وتعالى { إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } والتقوى والإحسان كلاهما درجتان في العبادة ، والتقوى لا تكون إلا من قلب يعرف الله أولاً ويحب الله ثانياً ، ثم يرجو الله ويخافه ، فمن عرف الله ولابد من معرفة الله ثم أحب الله ثم رجاه ثم خافه . رُزق التقوى ، قال العلماء :التقوى:أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله ، فإذا رُزق الإنسان التقوى أمنه الله جل وعلا مما يخاف ، وآتاه الرزق من حيث لا يحتسب وكفاه الله جل وعلا شر ما يهتم {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً{2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً{3} } هذا أيها الأفاضل ماتيسر إيراده وتهيأ قوله حول سورة النحل نسأل الله جل وعلا لنا ولكم النفع والله أعلم ، وأجيب الآن على أسألتكم :
س ــ ماحكم الاستنجاء باليد اليمنى ؟
ج ــ ظاهر الأمر أنه محرم ، إذا اضطر إليه أرجو الله أن لا يكون به بأس .
س ــ هل سيرى الإنسان ذنباً الذي فعله ثم اتبعه بالحسنة لقوله صلى الله عليه وسلم [ واتبع السيئة الحسنة تمحها ] ؟
ج ــ هذا لا أستطيع أن أجزم به ، لكن ظاهر الأمر أنه يعرض عليه ، لكن لا يحاسب يعني لا يعاتب عليه لكنه يعرض .
س ــ هل يجوز للإنسان أن يلعن كافراً معيناً ؟(1/24)
ج ــ هذا فصلنا فيه ، وقلنا إن الأظهر أنه لا يجوز لعن الكافر المعين .
س ــ إن كان لي مال عند شخص فيوعدني أن يعطيني المال فيكذب ، هل لي أن آخذ مالي إن استطعت أخذه بدون رضاه ؟
ج ــ نعم يجوز أخذ بدون رضاه ما دام لم يستأمنك عليه ، الأمر واسع .
س ــ هل يجوز الدعاء لرجل مات وأنا لا أعلم أكان يصلي أم لا يصلي ؟ وأنا أذكر أنه لا يصلي .
ج ــ من مات من أهل القبلة من المسلمين ، الذين يعيشون في هذه البلاد أو في أي مكان مكتوب في بطاقته أنه مسلم يُصلَّى عليه ، يدعى له ، كان لا يصلي أو ما كان يصلي .
س ــ يقول لقد سمعت من شيخ كلمة في أحد المساجد أنه يوجد مخلوقات غيرنا في هذا الكون فهل هذا صحيح؟
ج ــ هذه غيرنا تحتمل الجن إن قصد الجن ؟ نعم ، وإن قصد غير الجن يعني مخلوقات إنسية غيرنا ، لا أدري ما المقصود ؟ لكن العموم الذي يريد أن يقول أنه في مخلوقات هذا يحتاج إلى إثبات ، إما بالمشاهدة وإما بالوحي.
س ــ يقول إذا كان الشخص لابس جزمة ـ طبعاً مؤدب يعني قال الله يكرمك والسامعين ـ فهل الأفضل أن ينزع الجزمة والجوارب إذا أراد الوضوء أو يمسح عليهما ؟
ج ــ إذا كانت الجزمة مما ينزع عادة مثل جزم الناس الرسمية هذه تنزع ويمسح على الجوارب أما إذا كانت مثل جزم العسكريين ذات الحبال فهذه يمسح عليها .
س ــ هذا يقول هل يعتبر من يصل بعض أرحامه والبعض لا يصلهم إما نسياناً أو كثرتهم قاطعاً ؟
ج ــ هو يحاول أن يسدد أويقارب ولو بالهاتف .
س ــ هل يجوز حلق شعر الصدر إذا كان كثيفاً ؟
ج ــ لا بأس .
س ــ هل هناك محاضرات قريبة ؟
ج ــ والله الظاهر أنه في محاضرة في صفر .
س ــ يقول صليت في جماعة وامتلأ المسجد فصلى عن يميني مصليين ثم جاء وصلى عن يساري مصليين أخريين فهل هذا صحيح المصليين الذين كانوا عن يساري ؟
ج ــ نعم يصح إنه حالة اضطرار .
س ــ يقول استغفار الرسول (صلى الله عليه وسلم)
ج ـ ورد بعدة صيغ .(1/25)
س ــ يقول لو تعيدون التدليل على جواز نسخ القرآن بالسنة .
ج ــ قلنا إن الله جل وعلا قال { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } قلنا القائلون بالجواز يقولون إن { نَأْتِ } يعني عائدة إلى الله والنبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى إنما هذا الله جل وعلا يوحيه إليه.
س ــ هذا يطلبون درس آخر في قصص الأنبياء .
ج ــ تكلمنا عن قصص الأنبياء وأنا أريد أن يكون درس علمي قدر الإمكان .
س ــ هذا يقول ، يسأل عن صحة الإيقاف في الخطابة والإمامة ـ هو كاتب والمحاضرات ـ ؟
ج ـ أنا أوقفت عن الإمامة والخطابة ، أما المحاضرات لم نوقف عنها ، إنما القضية قضية أن اللجنة مرت على هذا المسجد اللجنة المكونة إدارية الظاهر ، يقولون إنهم مروا سبع مرات ، أنا ما أدري السبع مرات هذي متوالية متعاقبة المهم أن الأخوة كتبوا تقريراً ثم رفع إلى مقام الوزارة ، ثم جاء الأمر بالإيقاف عن الإمامة والخطابة ، الإمامة في المسجد هذا ، والخطابة في جامع الملك عبد العزيز ، فأنا لا أؤم ، لا أؤم أحد ولا أخطب جمعة لكن الدروس نسأل الله أن لا يتعرض لها أحد إلى الآن باقي على حالها ، هذا والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين .
أسئلة على الشريط
س1/ اختلف العلماء رحمهم الله في المراد بقول الله جل وعلا: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ }.على أقوال عدة..فما هي هذه الأقوال كما ذكرها الشيخ ؟
س2/ ماهي حجة من قال بأن القرآن لا ينسخ بالسنة ؟
س3/ ما الحكمة من نسخ الحكم قبل وقوعه ؟
س4/ قال تعالى{ إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } هل معية الله جل وعلا هنا عامة أو خاصة ؟
س5/ مامعنى التقوى ؟
تم بحمد الله وتوفيقه
سائلين المولى عز وجل الإخلاص والقبول(1/26)
تأملات تربوية – سورة مريم
د: عثمان قدري مكانسي
صيد الفوائد http://www.saaid.net/aldawah/240.htm
( 1 )
هذه بداية تأملات تربوية في كتاب الله تعالى ، أقدمها على حلقات أسبوعية إن شاء الله ، ليس فيها من التفسير إلا ما يخدم الفكرة التربوية في القرآن الكريم ،
أجلّي فيها الأسلوب التربوي ، وأشير إليه دون الخوض في المعاني إلا بما يناسب الهدف التربوي نفسه .وقد أشير إلى هدف بلاغيّ أو تعبير لغويّ أو توجيه نحوي يخدم الهدف التربوي الذي أريد تجليته .... والله ولي التوفيق .
1- أسلوب التنبيه : أساليب التنبيه في القرآن الكريم كثيرة كلما مررنا على واحد منها ذكرناه –إن شاء الله تعالى – في موقعه .. وهنا نجد السورة تبدأ مثل كثير من سور القرآن الكريم بالحروف المقطعة ، ك.ه. ي. ع .ص . فالأول والرابع والخامس منها ممدودة والثاني والثالث غيرذلك ، مما يشد انتباه السامع والقارئ على حد سواء بطريقتين مجتمعتين قبل البدء بقراءة الجمل والمعاني ، هما " الحروف المبهمة " و " الأداء الموسيقي "
والمفسرون يوردون تفسير هذه الحروف منسوبة إلى ابن عباس رضي الله عنهما وغيره ، فالكاف " كريم " والهاء " هادٍ " والياء " قوي ، ذوالأيدِ " والعين " عليم " والصاد " صادق الوعد " .... إن البدء بحروف متقطعة ذات جرس موسيقيّ مختلف يجعل المتلقي يرهف السمع ، إليها لغرابتها فلا يضيع عليه مابعدها .... ومن ناحية أخرى نجد المتلقي يتساءل في قرارة نفسه عن معناها وطريقة أدائها ليصل إلى تأويلات عدّة ، منها : أن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف وأخواتها ، فإن استطعت أن تأتي بمثلها فافعل . وإلا ثبت أنها من لدن عليم خبير .
2- التأمل والتدبر : إن كلمة " ذكر " في قوله تعالى " ذكر رحمة ربك عبدَه زكريا " توحي بأمور كثيرة يتفاعل بها المتلقي سامعاً وقارئاً . منها :(1/1)
- إعمال الفكر ، وتقليب المعاني في ذكر الله تعالى عبده الصالح زكريا ، وسبب تخصيصه بهذا الفضل العظيم حين ذكره
- وأن التذكر ليس ضد النسيان دائماً، فالله سبحانه وتعالى منزه عن النقائص ، والنسيان نقيصة . " لا يضل ربي ولا ينسى " " وما كان ربك نسيّا " " أحصاه الله ونسوه " . إنما التذكر هنا رفع لمقام زكريا عليه السلام ، واستجابةٌ لدعوته ، وخصُّه بالرحمة .
- وأن ذكر الله عز وجل يرفع مقام صاحبه في عليين " فاذكروني أذكرْكم " " ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأً ذكرته في ملأٍ خير من ملئه " ...
- وانظر معي إلى هذا الربط الرائع بين النبيين الكريمين ، فهما أخوان كريمان يستقيان من نبع واحد ، ويستضيئان من مشكاة واحدة ، فكلمة " ربك" خطاب لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام تدل على أعلى مراتب الإنسان : العبودية لله تعالى ، فمادام اللهُ ربَّه فهو عليه الصلاة والسلام عبدُه . وزكريا عليه الصلاة والسلام عبده ، فاجتمعا في هذه المكانة العلية . وبما أنهما مثال يُحتذى كانت الدعوة لنا من الله تعالى أن نكون من عباده .
3 - إغاثة الملهوف : فزكريا عليه السلام لجأ إلى الله تعالى ،واتجه إليه في دعائه وسأله من فضله ، " إذ نادى ربه نداء خفيّا " ، فأجابه الله إذ رحمه ووهبه غلاماً زكياً . وهذه لفتة كريمة تحض على مساعدة الآخرين وتقديم العون لهم إن استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
4 – أدب الخطاب : ويتجلى ذلك في أمور عدّة :
أولها : التحبب : من أحب شيئاً أكثر من ذكره . وأنت حين تخاطب من تحب يتكرر اسمه على لسانك . فزكريا عليه السلام ذكر ربه خمس مرات في جمل قليلة : " رب إني وهن العظم مني " " ولم أكن بدعائك رب شقيا " " واجعله رب رضياً " " قال رب أنى يكون لي غلام .." " قال رب اجعل لي آية " . وعلى هذا قبل الله تعالى ربوبيته لعبده زكريا حين قال سبحانه : " إذ نادى ربه نداء خفيّاً " .(1/2)
ثانيها : النداء الخافت : فالله تعالى يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء . وحين سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً ينادي الله بصوت عالٍ ،قال : له إنك لا تنادي أصمّ بل سميعا بصيراً . وحين سأله رجل : هل ربك قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ نزل قوله تعالى : " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ، أجيب دعوة الداعي إذا دعانِ .." . " نداء خفياً " . لأنه معه ، " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " .
ثالثها : التذلل إلى الله قبل الطلب : فقد عرض الحال بتسلسل منطقي ، وأدب جم ، فبدأ بذاته الداخلية " إني وهن العظم مني " ولم يقل وهن عظمي فكان صادقاً فليس كل عظمه واهناً وإلا لم يستطع الحركة ، وإنما أراد أن يقول : إنه ضعف وشاخ . وثنّى بجزء منه لكنه الإطار الخارجي منه " واشتعل الرأس شيباً . فلئن كان شعره منه إلا أن بعضه خارج جسمه ، أما العظم فمختلط بلحمه وشحمه . ثم التمس تقبل الدعاء وإجابة الرجاء مادحاً ربه : " ولم أكن بدعائك رب شقيّاً " فأنت يا رب سميع الدعاء ، ولن تردني خائباً .
رابعها : الحرص عل الدعوة حين خاف على الدعوة إلى الله أن تضعف و لم يجد من حوله من يقوم بأدائها ويحمل عبئها ،" وإني خفت الموالي من ورائي " فلا بد من خلف يكمل عمل السلف . وأمرأته عقيم " وكانت امرأتي عاقراً " فليس لي ذرية يتمون ما أمرتني بالقيام به .(1/3)
خامسها : البوح بالطلب أن يرزقه الله ولداً صالحاً تقر به عينه حين يراه حاملاً أمانة الرسالة وهم الدعوة إلى الله عز وجل بين اليهود قساة القلوب . " فهب لي من لدنك وليّاً ،وقد لا يكون الولد وليّاً . فالولي الذي يسير على هديك وخطاك ، ويكمل ما بنيته ، لا الذي يهدم ما تعبت في بنائه وإقامته . فهو لن يكون ولياً ولو كان من لحمك ودمك . وكم من شوكة تخلف وردة ! " ما مهمته ؟ " يرثني ، ويرث من آل يعقوب " ... وهنا نجد الدقة في بيان السبب : أن يرثه في كل شيء كان يقوم به ، ويرث الصالحين من آل يعقوب في المهمة نفسها .
سادسها : أن يكمل المنة ، فيجعله رضياً . وهنا نجد الأسلوب البلاغي الرائع في قوله تعالى " رضياً " فالغلام راض بما قسم الله له شاكر لله فضله ، والله راض عنه مكمل عليه نعمته . فـ" رضيٌّ " أدت معنى اسمي الفاعل والمفعول معاً ، ولن تكون " راضٍ " و" مرضِيٌّ " لتغني إحداهما عن الأخرى !.... وكم يتمنى الناس الذرية دون أن يقوموا بواجبهم في تربية النشء ، ويهتمون بجني المال لأولادهم من حل وحرام ، وقد كفل الله لهم الرزق ،وكفاهم مؤونته ويتناسون أن الله أمرهم بحسن التربية ، وسيحاسبهم على ذلك ، أحسنوا أو أساءوا ؟ .
5- الإجابة السريعة : فإن استطعت أخي الحبيب أن تلبي أخاك فلا تتكاسل . إن الله تعالى أجاب عبده المطيع بسرعة فلا نجد حرف عطف ولا حرف استفهام ،ولا الفعل " قال" : ... إنما قرأنا مباشرة : " يازكريا ، إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى ، لم نجعل له من قبل سمياً " . وتجلت الإجابة السريعة بما يلي :
أولاً : النداء ، ما إن نادى ربه حتى سمع نداء ربه : " يازكريا " فعرف أنه المقصود لا سواه فأصاخ السمع ، خافق القلب راغب الخير .(1/4)
ثانياً : البشرى وهذا أسلوب رائع في طمأنة الفؤاد وإراحة النفس قبل زف البشرى نفسها . ولعل الإنسان يظل مستوفز الأعصاب لا يدري أيسمع بشرى أم إنذاراً حتى يقال له ما يُقال . لكنه حين يسمع كلمة البشرى قبل إلقائها ترتاح نفسه ، ويكون أكثر وعياً لتلقّيها . ومما زاد في جمال البشرى أنها جاءت بعد التأكيد " إنا " والفعل المضارع الذي يسمعه، فثبت حصولها .
ثالثاً: تحقيق المطلوب : فهو غلام سيبلغ الحلم وتقر به العينان . وقد نذرت امرأة عمران ما في بطنها محرراً وهي ترغب في الولد ، ففوجئت بأنثى ، خيبت في البدء أملها في الوفاء بالنذرف " قالت رب إني وضعتها أنثى " " وليس الذكر كالأنثى " ، لكنها حزمت أمرها ووفت بنذرها . لكنه هنا ذكر يافع . وزاد في تمام الفضل أن الله سماه يحيى من فوق سبع سماوات . ولم يجعل له من قبل سمياً .
6- الضعف البشري : المخلوق ضعيف.. ضعيف مهما علا شأنه ، ورسخ إيمانه . ولو كان نبياً إلا من عصمه الله تعالى. لكن أخطاء الأنبياء ليست كأخطاء الآخرين ، إنما هي هَنات تدل على بشريتهم . لكنهو يظلون مثال الكمال الإنساني ومما يدل على ذلك في قصة سيدنا زكريا ما يلي :
أولاً : أنه ذكر ضعفه وهرمه ، وعرف أن زوجته لا تنجب لسببين اثنين أحدهما شيخوختها ، وثانيهما عقمها . ومع ذلك فأمله بالله أن يرزقهما ولداً صالحاً كبير. .. فلما أجاب الله سؤله تعجب من ذلك .
ثانياً : انه حين سأل الله تعالى الولد قدّم شيخوخته على عقم زوجته . وكأنه السبب الأول في عدم الإنجاب . فلما تعجب من البشرى نأى بنفسه أن يكون السبب الأول لعدم الإنجاب ، فقدم زوجته عليه . وهنا نلحظ الرغبة في الكمال وتفضيل النفس على الآخرين... . ولعله تعجب أن تلد امرأة عقيم بلغت سن الشيخوخة ، فنبهه المولى سبحانه أنه على كل شيء قدير ، فقد خلقه من العدم .(1/5)
7- تصحيح الخطأ مع التعليل : إذا ترك الإنسان لنفسه فقد يزل ويقع في المحظور ، فإدراك العقل محدود ، وفهمه قاصر ، ولا بد من تصويب الأخطاء كي يبقى الصحيح فقط ، فيتمثله القلب والعقل . مع التعليل لدواعٍ عديدة . منها : أن يكون الحكم واضحا بيناً ، والدليل ساطعاً فينقطع الشك ، وليكون الجواب شافياً . فلما تساءل زكريا عليه السلام عن إمكانية حمل زوجته ، وبشرى الله لهما بالغلام قيل له : ".. كذلك قال ربك هو علي ّ هين ، وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً ".
فبين له أن الله تعالى خلقه من عدم . وهو سبحانه قادر على كل شيء .
8- الاستيثاق من الأمر : وهو أسلوب تربوي ذو فوائد جمة ، منها : التأكد ، والاطمئنان ، والمتابعة . لكن الله هو الذي وعده بالغلام ، فهل يطلب منه إثباتاً؟ ! وهو سبحانه إن شاء وهب ، ويمنع إن شاء . فهل أخطأ زكريا حين سأل ربه العلامة فـ " قال رب اجعل لي آية " ؟!
لو كان هذا السؤال من قبيل الشك فهو الكفر بعينه ، وهو قلة الأدب ذاتها . لكنه نبي الله فوق الشبهات ، وقد أرادها ليعلم وقت حدوثها . هذا من ناحية . ثم لا بد من الاطمئنان فهذه هي الطبيعة البشرية السوية . والدليل على ذلك ما قاله إبراهيم عليه السلام لربه : " رب أرني كيف تحيي الموتى ! قال : أولم تؤمن ؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي " والقصة معروفة . كما أن قصة عزير تسير على هذا النسق حين قال وهو في طريقه إذ رأى القدس هدمها الآشوريون :" أنى يحيي هذه الله بعد موتها ؟! فأماته الله مئة عام ثم بعثه . قال : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوماً أو بعض يوم . قال : بل لبثت مئة عام ...."فلما رأى قدرة الله في بديع صنعه قال :" أعلم أن الله على كل شيئ قدير " . ومثله قول مريم : " أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ، ولم أك بغيّا " فهي تتساءل للتأكد والتثبت .(1/6)
9- الدعوة إلى الله في كل الظروف : فإذا مرض الإنسان أو امتنع أن يقوم بواجبه المعتاد بالطريقة التي اعتادها لأمر طارئ اتخذ ذلك ذريعة للتفلت أو الراحة – ومن حقه أن يرتاح فترة ليشحذ همته – لكن النفس الطموح للنبي الكريم زكريا أبت أن تبتعد عن طريقها المرسوم . فحين حملت زوجته بيحيى و ما عاد يتكلم ثلاثة أيام – كما أعلمه ربه بذلك – لم يتوانَ عن دعوته ، ولم يتخل عن مهمته ، إنما التزم المحراب يصلي ويجتهد في عبادة ربه شاكراً فضله ، معترفاً بنعمته عليه . وأوحى لأتباعه بالإشارة أن " سبحوا بكرة وعشيّاً "
10- اختيار زمان الذكر ومكانه : أما المكان فالمحراب لمقابلة المليك العظيم ، فينبغي أن يكون أفضل مكان في البيت أو المسجد . والمحراب في العربية ( صدر البيت ، أو المسجد ، وأشرف موضع فيه، ومجلس الملوك الذي ينفردون به عن العامة ) . وأما الزمان فالذي يدل على قدرة الله عز وجل في بديع صنعه ، حين يتداخل الليل والنهار في الفجر والمغرب هذا التداخل بين الظلام والضياء ، وبين الموت والحياة " وسبّح بالعشي والإبكار ".
11- الاهتمام بالجوهر والبعد عن الحشو : يختصر القرآن المسافات التي لا يغني ذكرها . فلم يحدثنا عن طفولة يحيى عليه السلام ، إنما فاجأنا باللب والمراد من القصة ، فإذا هو فتى ذكي الفؤاد قويّ العزيمة ، ذو حكمة وفهم، يحمل رسالة ربه بكل ما أوتي من صبر واجتهاد .
12- بر الوالدين : ولن يرضى الله تعالى عن الإنسان ما لم يكن الوالدان راضيين عنه . ولن يستطيع حمل رسالة ربه مالم يحمل في قلبه حباً لهما وتقديراً ووفاءً . ولهذا شمله الله تعالى بالسلام والطمأنينة يوم ولد ، ويوم مات وبالسلام يوم القيامة والنجاة من النار في ذلك اليوم المهول . حين تبعث الخلائق ، فمنهم شقيّ وسعيد ....
( 2 )
الناظر في هذه السورة الكريمة يجدها تتحدث في التربية الأسرية . وعلاقة أفراد الأسرة بعضهم ببعض :(1/7)
فالمقطع الأول بتحدث عن سيدنا زكريا وابنه يحيى عليهما السلام ... وهمّ الدعوة ، وحمل الأمانة ، وبر الولد بأبويه .
والمقطع الثاني يتحدث عن العلاقة الحميمة بين الأم وولدها ، الأم الطاهرة النقية مريم العذراء التي وهبت نفسها لدين الله ودعوته ، والولد الصالح عيسى عليه السلام الذي دافع عن طهر أمه وشرفها ، وحمل الدعوة إلى الله عز وجل .
والمقطع الثالث يتحدث عن الصدّيق إبراهيم عليه السلام الذي هداه الله إليه ، وعلاقته بوالده حين دعا الولد أباه بأدب جم إلى عبادة الله الواحد ، ثم اعتزله وقومه إذ أصروا على الكفر ، وتحمل المشاق في سبيل الدعوة إلى ربه ، فأكرمه الله تعالى بالذرية الصالحة التي رباها فأحسن تربيتها . فكان بذلك قدوة للعالمين جميعاً .
والمقطع الرابع يتحدث عن النبي العظيم موسى صاحب العزم القوي في الدعوة إلى الله ،إذ أكرمه ربه فجعله مُخْلَصاً ورسولاً كريماً ، ومنّ عليه في أخيه هارون فوهبه أعلى درجات الإنسان في الوصول إلى ربه " النبوة " . فكان موسى لهارون أكرم منّةٍ لأخ على أخيه مرّ الدهور وكرّ العصور .
والمقطع الخامس يتحدث عن دور رب الأسرة في تربية أهله – زوجةً وأولاداً ومواليَ – فهذا إسماعيل عليه السلام كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة ، وكان عند ربه مرضياً بسبب تربيته إياهم . فكان قدوة لمن بعده في الاعتناء بالأسرة ووصلها بالله .. فمن كان بحبل الله موصولاً سعد وأُكرم ، وحاز القبول .
وقد كنا الأسبوع الماضي نتأمل في رياض المقطع الأول ، في رحاب النبيين الكريمين الأب زكريا وابنه يحيى .. فهلمّ إلى الروضة الغناء في رحاب العذراء البتول وابنها السيد الكريم عيسى عليهما السلام .
1- تقييد العلم : العلم في الصدور ، وتقييده في السطور ، وكلمة " اذكر في الكتاب " ترددت خمس مرات في هذه السورة الكريمة :
" واذكر في الكتاب مريم "
" واذكر في الكتاب إبراهيم "
" واذكر في الكتاب موسى "(1/8)
" واذكر في الكتاب إسماعيل "
" واذكر في الكتاب إدريس "
والفائدة التربوية الأولى من كلمة " اذكر " العلم : فالعلم بالشيء ومعرفته أمر لا بد منه لأهل الدعوة ( ففاقد الشيء لا يعطيه ) .
والفائدة الثانية الكتابة : إن تقييد العلم في كتاب يحفظه من الضياع ، ويثبته في الذاكرة بين الحين والحين .
والفائدة الثالثة التعليم : وهذه رسالة الأنبياء والدعاة والمعلمين ، لا ينبغي التفريط فيها ، " فمن كتم علماً لجمه الله بلجام من نار" .
2- شفافية التبتل إلى الله : من كان مع الله كان الله معه ، ومن أخلص في عبادته اجتباه الله وأدناه . فقد انقطعت مريم عن اقرب الناس إليها وعن الدنيا، واجتهدت في التقرب إلى مولاها ، فاستقلت عنهم بأدب جم دون أن تسيء إليهم " فانتبذت " منهم ولم يقل : " نبذتهم " ففي الأولى ابتعاد وانقطاع مع احترام وتوقير ، وفي الثانية احتقار واستعلاء . فالانتباذ بالنفس ، والنبذ للآخرين !... أرأيتم جمال التعبير ؟! ...إلى أين ؟ " مكاناً شرقياً " ...إلى مصدر النور عند إشراق الشمس . ومن كان قصده خالق النور والضياء احتجب عن الناس " فاتخذت من دونهم حجاباً" .
3- الجزاء من جنس العمل : حين انقطعت إلى الله تعالى ورغبت فيما عنده ورجت رضاه لم يخيب أملها ... وصلها حين وصلته . وقبلها حين قصدته . " وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها . وإن سألني أعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنّه " . لقد أرسل إليها كبير الملائكة " جبريل " عليه السلام . ليكرمها بسيد من سادات البشر .(1/9)
4- المنطقية في التعامل : لجبريل عليه السلام ست مئة جناح ، كما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام . وكان يملأ السماء حين رآه النبي عليه الصلاة والسلام مرتين على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها . فلو أنه دخل على مريم بهذه الهيئة لسقطت ميتة أو مغمىً عليها . فلم يكن تباسط ، ولا حديث ، ولما عرفت سبب دخوله عليها ولا ماهيته . إذاً دخل عليها على هيئة رجل " فتمثل لها بشراً سويّاً " لتفهم منه ، فيخاطبها وتخاطبه .. وقد نبه المولى سبحانه وتعالى إلى المثليّة فقال رادّاً على الذين رغبوا أن يكون الرسول ملكاً حتى يؤمنوا به : " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا : أبعث الله بشراً رسولاً ؟! قل : لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزّلنا عليهم من السماء ملَكاً رسولاً".
5- الحوار : هو أسلوب راق في التربية ، له فوائد كثيرة . منها :
1- أنك تسمع حديثاً فيه آراء وحجج يدلي بها المتحاورون ، ليبرهن كل منهم على صواب ما يرتئيه .
2- ان الحوار يثري السامع والقارئ والرائي بأفكار تطرح أمامهم ، بالحجة والبرهان ، فيعتادون التفكير السليم والأسلوب القويم .
3- أن الحوار أثبت في النفس لأن السامع يُعمل أكثر من حاسّة في تفهّم أ بعاد الحوار ومراميه
وعلى هذا تعال معي إلى متابعة الحوار بين الملَك ومريم :
" قالت : إني أعوذ بالرحمن منك إن كنتَ تقيّاً "
" قال : إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيّاً "
" قالت : أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ، ولم أكُ بغيّاً "
" قال : كذلك قال ربك : هو عليّ هين ، ولنجعله آية للناس ورحمةً منّا ،
وكان أمراً مَقضيّاً".
وفي هذا الحوار فوائد جمة ، نذكر منها :
1- اللجوء إلى الله تعالى في الملمات ، فهو حصن حصين وركن ركين .
2- الرجل التقي لا يقتحم مخادع النساء ، وينأى بنفسه عن الشبهات .(1/10)
3- لا بد من تعليل يبعد هذه الشبهات ، ولو كان المشبوه به تقيّاً فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لرجلين رأياه مع صفية ليلاً : هذه أمكم صفية . كي لا يبوءا بالكفر حين يظنان السوء بنبيهم ... فقال الملَك : لأهب لك غلاماً زكيّاً .
4- المرأة المسلمة الشريفة لا تزني ، ولا يكون الحمل إلا بالزواج أو الزنا.
5- إذا أراد الله شيئاً قال له : كن فيكون . ومريم تعلم أن الله تعالى قادر على كل شيء لكنها أبدت تعجبها أن يختارها الله لهذا الشرف العظيم
6- توخي الحذر والستر : يعلمنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم التستر . فيقول : إذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا " ونعى القرآن تساهل اليهود في السكوت عن المنكر " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " ووبخ لوط عليه السلام قومه الذين استحلوا اللواط وجهروا به " إنكم لتأتون الفاحشة ،ما سبقكم بها من أحد من العالمين ، أإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل ، وتأتون في ناديكم المنكر .." اما الطاهرة العفيفة مريم فقد استترت في مكان قصي وهي لم تفعل المنكر ، فكانت مثالاً للشرف المصون والفتاة التقية .حتى إنها تألمت ألماً شديداً ، وتمنت أنها لم تخلق ، ولم يعرفها أحد . بل لو كانت شيئا لا قيمة له .
7- الدعم والتأييد : إذا كلفت أحدهم بمهمة فلتكن قدر استطاعته " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " وإذا لم يستطع القيام بها لكونها فوق طاقته أو كانت ثقيلة فأعنه عليها ، وسهّلْ له سبلها وهذا ما وجدناه في قصة مريم فقد :
- سمعت من يكلمها في وحدتها ويشد من أزرها .
- جرى إلى جانبها جدول ماء عذب شربت منه .
- هزت جذع النخلة فتساقط عليها رطب لذيذة سهلت الطلق والولادة .
- الامتناع عن إجابة المتطفلين ..فهي صائمة عن الكلام . ومن الذي سيتكفل بالإجابة ؟ إنه ولدها الذي يدافع عنها بإذن الله .وسينطقه الله بما يبرئ أمه ويرفع قدرها بين الناس .(1/11)
وعلى هذا استمدّت قوة وشجاعة ، وعادت إلى قومها تحمل وليدها . وكان ما كان من أمر الناس ، وحق لهم أن يسألوها ، فهي ابنة سيدهم المعروف بدينه وخلقه وأمها مثال الصون والعفاف ، كما أنهم يعرفونها شديدة التدين مشهورة بالعفة والطهارة .
8- الرد المفحم : قد يكون الإنسان صاحب حق ، إلا أنه عيي أو أحمق أو غبي ساذج لا يعرف كيف يستخرج حقه أو يحتفظ به أو يدافع عنه ، فيضيع منه كلّه أو جلّه ، وقد يكون أحدهم مبطلاً لكن لسانه طليق وحجته حاضرة وأساليبه ذكية ، فيسلب حق غيره ويحتال على الضعفاء فيغمطهم نصيبهم .
لكن الله تعالى لقّن الوليد حجته ، فكان قوله الفصل وبيانه الفصل
أولاً :عرّف بنفسه . فهو عبد الله . ومن أعلن عبوديته لله فقد عرف ربه وهذه أسمى المراتب
ثانياً : ومن كان عبداً لله تعالى فتح عليه ينابيع العلم وكنوز المعرفة ، وآفاق الحكمة .
ثالثاً : ثم خصه الله بمرتبة النبوة الكريمة ، وهذه قمة الإنعام والفضل .
رابعاً : افاض عليه الخيرات والبركات ، فكان مع الله قلباً وقالباً في حله وترحاله ، ونومه ويقظته ،
خامساً: وأوصاه أن لا يفتر عن ذكر الله وأن يكثر من الصلاة – وهي الصلة بالله – والزكاة – الإحسان إلى عباد الله – وكأنه سبحانه يقول : عبدي أحسنت إليك فأحسن إلى عبادي ، وأحب عباد الله إليه أنفعهم لعياله .
سادساً : والأقربون أولى بالمعروف . وفضل الأم لا يدانى . وقد قرن الله تعالى عبادته بالإحسان إلى الوالدين . ثم يكتمل الإحسان بتعميمه على الناس أجمعين .
سابعاً : ويتوج ذلك كله بسلام الله عليه في حياته وفي موته ، وحين يبعث يوم القيامة .
ومن الطريف أن المفسرين يوردون حواراً بين ابني الخالتين ، عيسى ويحيى .
فيقول عيسى : أنت خير مني يا يحيى .
فيقول يحيى : بل أنت خير مني ، أنت من الخمسة أولي العزم .(1/12)
فيقول عيسى : بل أنت خير مني ، فقد سلمت على نفسي ، فقلت : والسلام عليّ وأنت سلم الله عليك فقال : وسلام عليه .... صلى الله عليهما وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعلى سيدنا محمد سيد الخلق أجمعين .
( 3 )
1- الداعية مؤتمن :
تفيد كلمة " اذكر " ذلك الخطاب – خطاب التكليف – من الله تعالى لنبيه الكريم يأمره أن لا يغفل شيئاً مما أمره الله به ، فالرسول عليه الصلاة والسلام مؤتمن على الدعوة . وعليه أن يبلغها كاملة . فهي أمانة في عنقه. كما أن كل مسلم داعية في محيطه ، كبر هذا المحيط أم صغر ... وبما أنه صلى الله عليه وسلم مخاطب في القرآن الكريم من أوله إلى آخره فهذا دليل على أن القرآن ليس من عنده . فالإنسان لا يأمر نفسه أمام السامعين أو القارئين .. صحيح أنه يفكر أحياناً بصوت عال إلا أن كثرة الأوامر والتعليمات في القرآن تدل على أن الرسول المعلم ينفذ تعليمات خالق سيد آمر.
2 – المديح : أسلوب راق يستعمله المربون :
ا – للتعبير عن الرضا بما يصدر من أعمال أو أقوال تسر وتُحمد .
2 – لدفع الممدوح إلى التزام ما يرفعه في أعين الناس .
3 – يوحون به للآخرين أن يكونوا مثل الممدوحين في شمائلهم .
وقد مدح المولى عبده إبراهيم عليه السلام بصفتين لا يتصف بهما إلا من كان في القمة البشرية " كثرة الصدق والنبوة " . مع تعليل الوصول إلى هاتين المرتبتين العظيمتين . فقد كان داعية مخلصاً لدعوته لا يمالئ فيها أحداً أبداً . وهذا أبوه أقرب الناس إليه يفاتحه بها ويدعوه إليها بأكثر من طريقة تربوية رائعة .
نذكر أولاهما متسلسلة بعد اسلوب المديح :
3- التحبب : يدخلك القلب دون استئذان ، ويبوئك المكانة العالية في صدور السامعين ونفوسهم . أما المتعالى فعلى العكس من ذلك ينفر الناس منه ، ويجدونه ثقيلاً على قلوبهم ... وكرر كلمة " ياأبت " متحبباً إلى أبيه ، محاولاً دخول قلبه :
يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً ؟(1/13)
يا أبت : إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك ، فاتبعني أهدك صراطاً سوياً .
يا أبت لا تعبد الشيطان ، إن الشيطان كان للرحمن عصياً .
يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليّاً .
ولعل
4- التكرار : وهو أسلوب أصيل في التربية أفاد هنا بالإضافة إلى التحبب التأكيد والتفصيل والتنبيه غلى خطر عظيم وأمر مهم . إن الطرق يلين الحديد لكن قلب الأب الكافرأقسى من الحديد ،أو قد من صخر فلم ينفع معه الاستعطاف واللطف .
5- الترتيب والتتابع في العرض : ففي الآية الأولى من كلام إبراهيم عليه السلام
لوم لطيف لوالده وعتاب : فكيف يعبد آلهة ضعيفة ليس لها سمع ولا بصر، ولا تنفع؟! ويقدم السمع على البصر لأنه أوسع فجعل له الأولوية ، وهذا شأن القرآن الكريم في تقديم الأهم ويتجلى هذا الترتيب من حيث الأهمية في قوله تعالى " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث " الآية 14 من سورة آل عمران . فالمرء يبذل المال ليتزوج فينجب البنين .. فالنساء أولاً ثم إنجاب البنين ،والمال في خدمتهما فهو الثالث من حيث الأهمية . وقدم من المال الذهب على الفضة ، وتأتي الخيل ثالث المال والأنعام رابعها من إبل وبقر وغنم .. ثم أخيراً دور الزرع ....
وبعد اللوم على الضلال يدعوه إلى اتباعه على علم : وعلى الجاهل مهما كبر أن يتبع العالم مهما صغر . فالحق أحق أن يُتبع والعلم يهدي إلى الصراط السوي - فليس سواء عالم وجهول –
ثم يأتي التحذير من الشيطان : لأنه عدو للرحمن ، يحيد بمن اتبعه عن الحق ويغويه فيغضب الله تعالى عليه ومن عصى الله كان إلى النار نهايته .(1/14)
ثم يأتي التخويف من الله الذي يعاقب بالنار الشيطان ومن تبعه ، فإبراهيم عليه السلام يخاف على أبيه لأنه يحبه . وقد جاء في تفسير قوله تعالى : " ولا تخزني يوم يبعثون " في سورة الشعراء أن إبراهيم يلقى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة ، فيقول : يارب : إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون . فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين . وفي رواية أخرى : يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجهه قترة وغبرة ، فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك : لا تعصني ؟ ، فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك . فيقول إبراهيم : يارب إن وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون ، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ . فيقول الله تعال : إني حرمت الجنة على الكافرين . ثم يقول : يا إبراهيم ، انظر تحت رجلك . فينظر ، فإذا بذبح متلطخ فيؤخذ بقوائمه، فيُلقى في النار . نعوذ بالله من سوء المصير ...
وهذا الأسلوب التدرجي من اللوم إلى الدعوة إلى التحذير إلى التخويف – أسلوب تربوي ينتقل بالمدعوّ خطوة خطوة .
6- الحلم : ولا بد للداعية أن يكون في دعوته للآخرين حليما واسع الصدر يحتوي المدعوين وإن أساءوا إليه . هذا ما نراه من سيدنا إبراهيم حين جبهه أبوه بقوله : " أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ؟ " وهدده بالرجم والطرد : " لئن لم تنته لأرجمنك ، واهجرني مليا " فرد عبه بألطف كلام يدل على الحلم والروية:
" سلام عليك ، سأستغفر لك ربي ، إنه كان بي حفياً"
أسلوب يدل على اهتمام الداعية بدعوته ومن يدعوهم إليها وعلى اهتمام المربي ومن يربيهم . إن الإجابة بالعنف والارتجال القائم على ردة الفعل يضر ولا ينفع ، فهو إن حصل لم يعد للتفاهم مكان ، ولا للنصح قبول ، وضيع الداعية الفرصة في اكتساب الناس .(1/15)
وهذا ما فعله الصالحون في كل زمان ومكان وقالوه : " سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين " . وهذه صفات عباد الرحمن الذين مدحهم الله عز وجل : " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً "
7- والشفاعة : وهي طلب الخير للغير والوساطة لهم عند من يرجونهم . وهذا ماعناه النبي الكريم إبراهيم حين قال : " سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً " إن المدعو حين يرى من الداعية اهتماماً واعتناءً يلين قلبه ثم يتقبل منه ما يقول ، ثم يؤمن بما يقول ، ثم يعتنق ذلك ويكون منافحاً عن هذه الدعوة " ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك " .. كان الصحابة متحلقين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل رجل من بعيد إلى مجلسه صلى الله عليه وسلم ، فالتفت إليهم صلى الله عليه وسلم ، وقال : " هذا الرجل قادم يريد مني مسألة ، وإني معطيه إياها إن شاء الله ، ولكن إذا سألنيها فاشفعوا له ، والله يُؤجركم على شفاعتكم ، وليقض الله على لسان نبيه ما يشاء " . جاء الرجل وجلس ولم ينبس ببنت شفة . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألك حاجة يا رجل؟." قال : نعم يا رسول الله ، صلى الله عليك وسلم . وذكر حاجته . فكان أصحاب رسول الله يقولون :
- هو أهلٌ لفضلك يا رسول الله .
- ما علمنا عنه إلا خيراً يا رسول الله .
أحسن إليه يا رسول الله . فما عهدناك إلا محسناً .
كان الرجل ينظر إليهم مسروراً من شفاعتهم ، وقد أحبهم وشعر أنه منهم وأنهم منه . ... يا لهذا المجتمع المتحاب المتكافل ... وابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقد اكتسب إلى المسلمين واحداً آخر ، وعلم أصحابه أن يناصر بعضهم بعضاً .... وقضى للرجل حاجته .(1/16)
8- اعتزال الجاهلين : المسلم داعية . فكيف يدعو الناس إذا اعتزلهم؟ .. إنه يعيش بينهم ليؤثر فيهم لا ليتأثر ، يعيش بينهم مادة لكنه مع ربه قلباً وروحاً وفكراً . يعاملهم بالحسنى ويتحملهم ، ويشاركهم حياتهم إلا أنه ينأى عن مفاسدهم وكيف يعتزلهم منقطعاً عنهم تماماً والرسول الكريم يقول : " المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم " ؟! فإبراهيم عليه السلام قال : " واعتزلكم وما تدعون من دون الله " هو اعتزال المسلم للمنكر والجهالة , إلا أنه حاضر بينهم يعمل على هدايتهم ، يقوم بخدمتهم والسهر على مصالحهم . وتنبيههم إلى الصواب وحضهم عليه
9- ثواب الصالحين : " فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق علياً " وهبه الله تعالى بعد العقم ولداً صالحاً وحفيداً صالحاً ، وزاده نعمة أن جعلهما نبيين كريمين ، وأكرمهم ببقاء ذكرهم مكرما وذريتهم على مر الدهور وكر العصور ، فكل المسلمين وغيرهم من اهل الأديان يكبرونهم ويجلونهم . بل إن الله تعالى أخبرنا أنه أكرم الأولاد بسبب صلاح الآباء ، " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك ." سورة الكهف . وقد قتل الرجل الصالح في سورة الكهف الغلام السيء وأبدله فتاة صالحة لأن الأبوين كانا صالحين . فالله لا يضيع أجر من أحسن عملا .
(4)
قوله تعالى عن الذكر فيه معان كثيرة منها :(1/17)
1- التشريف والتكريم : في قوله تعالى " وإنه لذكر لك ولقومك " . إن قدْرَ الإنسان يعلو بانتمائه إلى ربه وإرضائه ، والعمل بما أمر والانتهاء عما نهى . وفي قوله جل شأنه " ص، والقرآن ذي الذكر " فمن عاش في ظلاله وحَيّ به ارتفعت مكانته ، ومن أبى ذل وخاب " بل الذين كفروا في عزة وشقاق " والعزة هنا استكبار وعناد ، يوضحه قوله تعالى " وإذا قيل له : اتق الله أخذته العزة بالإثم " والشقاق : الخلاف والإنكار . ونعود إلى " الذكر في القسم الرابع من تأملاتنا في قوله تعالى " واذكر في الكتاب موسى " .. فبماذا وصف هذا النبيَّ الكريم ؟ .. لو عدنا إلى السورة نفسها في بداية الذكر لرأينا كل نبي ذكر بصفة اختص بها :
زكريا عليه السلام وصف مثل نبينا محمد صلى الله عليه وسل بالعبودية " ذكر رحمة ربك عبده زكريا ".
وعيسى عليه السلام خص بهذه الصفة " قال إني عبد الله "
وإبراهيم وإدريس عليهما السلام خصا بالصدّيقيّة : " واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صدّيقاً نبيا " " واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صدّيقاً نبيا " .
وموسى عليه السلام خُص بالقرب والتكليم " وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياً " .
وإسماعيل عليه السلام وُصِف بصدق الوعد والرضا " إنه كان صادق الوعد ..... وكان عند ربه مرضياً "
وداوود عليه السلام وُصف بأنه وُهب القوة وكثرة التوبة " واذكر عبدنا داوود ذا الإيد إنه أواب . كما كرر ذكر الأنبياء مرة بأنهم " أخيار " ومرة بـ " الذكر الحسن " ومرة بـ " الصبر " وكل ذلك تكريم وتشريف لهم ودعوة إلى الاقتداء بهم . فهؤلاء قلوبهم متصلة بربهم ، وحياتهم وقفوها على رضاه " إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجّداً وبكيّا". .. فالله تعالى شرفهم ،وهم شكروه بسجودهم مقرين بفضله عليهم ومنته سبحانه.(1/18)
2- الترهيب والترغيب: أسلوب تربوي مؤثر. ففي الإنسان بذرة خير . إن تعهدها بالعناية والرعاية زكت ونمت فنال صاحبها الأمن والأمان والسعادة والهناء . وفيه بذرة شر ، إن أهملها ولم يلق لها بالاً زاحمت بذرة الخير ودافعتها ، فإذا ساعدتها نوازع فاسدة كامنة في حنايا الإنسان اشتدت واستفحلت ، وبدا خطرها على صاحبها ومن حوله ، فدبت الفوضى وضربت أطنابها في المجتمع ..... ومن طبع الإنسان أن يفعل الخير . لأن الله فطره على الهدى والصلاح ، ودله على طريقه .... ومن طبعه أيضاً أن يقع في الخطأ والتفلت والتهاون لأن الله تعالى خلقه من عجل . وخلقه ضعيفاً يصيب الذنوب والآثام ... لذلك كانت الجنة للتائبين العائدين إلى ربهم ، والنار للعاصين المتنكبين سبيل الهدى والرشاد .
ونرى القرآن العظيم يستعمل أسلوب الترغيب وأسلوب الترهيب بمقدار ما يقوّم سلوك الإنسان ليمضي على ما يرضي الله تعالى .
وليس في القرآن – على الغالب الأعم- آية ترغيب إلا تبعتها آية ترهيب . ولا آية ترهيب إلا تبعتها آية ترغيب فهما – الترغيب والترهيب - متلازمان .. والحكمة في ذلك : أولاًالتذكير بالثواب والعقاب ليظل الإنسان حريصاً على نيل المثوبة واتقاء العقوبة . وثانياً أن من لا يؤثر فيه الترغيب وثوابه يؤثر فيه الترهيب وعقابه .(1/19)
ومثال هذين الأسلوبين في هذه السورة الكريمة قوله تعالى " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّاً " فبدأ بالترهيب مبينا السبب ( إضاعة الصلاة واتباع الشهوات ) ثم النتيجة ( فسوف يلقون غياً ) فاختزل التهديد في هذه الآية التي فجأت السامع فارتجف لها قلبه، وتزلزل لها كيانه فأصبح مهيأ لأن يميل نحو الثواب الذي جاء بعد صيغة الاستثناء في الآيات 59- 64 فأراحت القلب وهدّأت الأعصاب بعد تلك الفجأة المخيفة ... فمن تاب وآمن وعمل صالحاً نال حقه كاملاً ودخل الجنة التي وعده الله بها في الحياة الدنيا وفي هذه الجنة الطمأنينة والسلام والرزق الهنيئ ا لرغيد الدائم الذي لا ينقطع ، يناله العبد التقي الصالح . جعلنا الله أتقياء صالحين(1/20)
3- الحجة المنطقية : ينكر الكافر أن يبعث بعد الموت مرة أخرى :" ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أبعث حيّاً؟! " .. إنه سؤال استنكاري لا يريد صاحبه جواباً لاقتناعه أنْ لا بعث ولا نشور بعد الموت . فيأتي التحدي المنطقي : الذي يدمغ بالحجة البينة والمنطق الساطع : إن الله خلقك ابتداء من لا شيء أفلا يستطيع إعادتك من شيء؟!! فإذا كان المولى سبحانه قد أوجدنا من العدم ولم نك شيئا ؟ أفلا يستطيع سبحانه أن يعيدنا إلى الحياة من وجود؟.. .. بلى إنه قادر على كل شيء بقوله : كن فيكون . والتحدي يجْبَهُ المنكِر، فيخرسه ويوقفه عند حده ، ويكسر حدته ويجرده من قوته الكاذبة . أو قلْ يعريه مما يدّعيه ، ويظهر ضعفه ، ويعيده إلى حجمه الحقيقي . ثم انظر معي إلى مقولة الكافر الجاهل الذي ليس له من الأمر شيء يدعي أنه سيُؤتى من الأولاد والبنين والأموال ما يشاء ، وكأن له قدرة على ذلك، فيهرف بما لا يعرف " أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال : لأوتين مالاً وولداً " فهنا يسأله العليم القدير مَن بيده مقاليد الأمور : " أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً " فلا هو اطلع على الغيب فعرف ، ولا هو أخذ من الله سبحانه الوعد والعهد على ذلك . فكيف يدعي من لا يقدر أنه يقدر ومن لا يعلم أنه يعلم؟! حجة منطقية تعلمنا أن على الإنسان أن يلزم حده ، فيقف عنده .
4- التهويل : اسلوب تربوي مخيف ، يزلزل النفوس ، ويحرق الأعصاب ، ويخضد شوكة الخصم، ويزرع الرعب في أوصاله ، فيستسلم صاغراً ذليلاً ، منكسر الفؤاد مستسلما ,وهو أسلوب إذا تمكن منه من يستعمله كما استعمله القرأن فقد كسب الجولة بكل تأكيد . ومثاله قوله تعالى : " وقالوا اتخذ الرحمن ولداً ، لقد جئتم شيئاً إدّاً ( عظيماً ) تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض و وتخر الجبال هداً أن دعوا للرحمن ولداً وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً، " فالله واحد أحد ، فرد صمد ، ليس له زوجة ، ولا شريك ، ولا ولد .(1/21)
وكثيراً ما يدخل في التهويل :
5- التصوير الحسي المتسلسل :
" فوربك لنحشرنهم والشياطين "
" ثم لنحضرنهم حول جهنم جثياً "
" ثم لننزِعَنّ من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيّا "
" ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليّاً "
" وإن منكم إلا واردها ، كان على ربك حتماً مقضيّاً "
" ثم ننجي الذي اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيّاً "
فتصور معي كيف يُحشَر العتاولة والمجرمون مع الشياطين أذلاء صاغرين ، ومقيدين يسحبهم الزبانية إلى جهنم ، ثم هم يجثون على ركبهم ، لا يملكون من أمرهم شيئاً ، ولا ينتظرون عوناً من أحد . وقد أيقنوا بالهلاك فنكسوا رؤوسهم خوفاً ورعباً . ثم ترى العتاة المتجبرين المتكبرين ُينزعون من بينهم ويُلقَون في جهنم دون حساب ، فليس لهم عند الله تعالى قيمة ، وكان تجبرُهم في الدنيا وبالاً عليهم في الآخرة . فهم أهلها الذين يخلدون في النار أبد الآبدين .
وهناك حقيقة لا بد منها .. فالجميع - صالحين وطالحين - يردون جهنم والعياذ بالله " وإن منكم إلا واردها " . قال أهل العربية : ليس من شرط ورودها الدخول فيها . إن أهل الجنة يجوزونها على الصراط دون أن يشعروا بها بإذن الله وفضله . .. اللهم اجعلنا منهم بفضلك وكرمك ورحمتك ...أما أهلها فيسقطون فيها ، نعوذ بالله منها ومن مصير أهلها ... لقوله تعالى " ثم ننجي الذين اتقوا ، ونذر الظالمين فيها جثيّاً " .. والسورة مليئة بالصور المتحركة التي تخلع القلوب وتزلزل الأوصال
6--.الجمل الموسيقية : انقسمت الفاصلة القرآنية في هذه السورة إلى قسمين :(1/22)
من أول السورة إلى الآية 74 نجد - غالباً - الياء المشددة بعدها ألف ممدودة تمد الأنفاس راحة وتمنح الصدر والروح هدوءاً في الحديث عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم . فهناك مناجاة ودعاء ورحمَات ( خفياً ولياً رضياً سمياً سوياً عشياً نبياً علياً ...) موسيقا تفتح القلوب وتنشط الأعصاب وتنشر الأنس ونسمات الاسترواح .. ثم هي نفسها تنقلب إلى إصرار وعزم وتهديد حين تتحدث عن مصير المجرمين في جهنم ( جثياً عتياً صلياً مقضياً ) ، فتجد التهديد والوعيد القويين .
ومن الآية 75 إلى آخر السور نجد - غالباً - حرف الدال المشدد الذي يناسب التهديد والوعيد والعقاب أو السكون قبل حرف الدال..( مدّاً مردّاً إدّاً هدّاً ودّاً لدّاً ضدّاً.. عهداً عبداً فرداً )
ونجد الزاي المشددة الدالة على الغضب الشديد ( أزّا عزّا ) .. هذه الفواصل أسلوب تربوي لما فيها من إيحاءات معبرة عن العاطفة الهادئة حينا والمائجة حينا آخر ، العاطفة مرة والعاصفة مرة ثانية . تؤثر في القارئ والسامع على حد سواء . فتراه يلين مع الأنبياء في الحديث عنهم ، وينشط لحديث الجنة ، ويرتجف لذكر النار وأهلها . ويجتهد ليكون ممن يحشر في وفد الرحمن ويهفو لذلك . ويخاف أن يساق مع العصاة العتاة فينأى عنهم . ويرضى لرضاء الله . ويغضب لغضبه سبحانه .(1/23)
7- مخاطبة الناس بما يناسبهم : لو دعاك أحدهم بلغة جميلة وصوت عذب ، لكنك لا تعرف هذه اللغة فهل تستجيب ؟ طبعا لن تكون هناك استجابة لانك لم تفهم ما يقول ، ولم تتفاعل معه : " ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين " ... أما إذا خاطبك بلغتك ، بل بلهجتك التي اعتدت عليها ، بل بدقائق هذه اللهجة ومفرداتها فسوف تُشد إليه ، وتنزع إلى ما يقول بلهفة .. وهكذا نزل القرآن " فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين ، وتنذر به قوما لدّاً " . فتُفهم هؤلاء وتقيم الحجة على هؤلاء . وعلى هذا أمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الصحابي الشاب زيد بن ثابت أن يتعلم لغة يهود ، وقال : " من تعلم لغة قوم أمن مكرهم " ولن يدخل أحد قلوب الآخرين إذا لم يملك مقاليد اللسان الذي يترجم أحاسيسه وأفكاره .(1/24)
(تأملات في سورة الجن)
الحمد لله الذي خلق خلقه أطوارا،وصرفهم كيفما شاء عزة واقتدارا،وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له لارب غيره ولا إله سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هداه، أما بعد:أقول قبل الشروع في درس الليلة إن المحاضر في مثل هذه الدروس العلميه يتنازعه في الغالب أمران:ـ
الأمر الأول:ـ الجنوح إلى الوعظ.
الأمرالثاني:ـ الإبقاء على محظية الدرس العلمي.
وتفصيلا للقول يقال إنه لايمكن الفرق التام والانفكاك مابين الوعظ والعلم لأنه لايحسن أن يعظ الناس من ليس بعالم،لكن كذلك إذا كان الدرس العلمي يغلب عليه الوعظ الذي يخاطب به معشر العصاة غالبا فهذا يحرم طالب العلم من النتف العلمية والفوائد التي جاء من أجلها في المقام الأول ومن حسن الصنيع الذي قام به المشايخ الفضلاء القائمون على هذه الدورة أنهم زاوجوا مابين الدروس العلميه ومابين إقامة محاضرات عامه، مابين أسبوع وآخر يتخللها وعظ ، فهذا التخلل الوعظي يخفف الوطأ عن الشيخ المحاضر في الدرس العلمي، فالفضلاء من الأخيار الذين كلمونا وأرادوا أن نكثر من جانب الوعظ نرجوا أن يعذرونا في أننا المقام الأول مقام درس علمي فعلى هذا إن لم يكن في درس الليله شيء من الوعظ نرجوا أن نكون قد قدمنا شيئا من العذر لأنفسنا، هذا الأمر الأول .(1/1)
الأمر الثاني:ـ كنت قد أزمعت البارحه أن يكون درس الليلة خاصا بتفسيري سورتي الواقعه والحديد،لكننا أرجئنا هذا خوفا من أن الوقت لايكفي لتفسير السورتين وتفسير أحدهما يعني أننا لم نكمل الجزء ولأجل ذلك أرجئنا تفسيرهما أي الواقعه والحديد إلى وقت آخر، وسنشرع الليلة إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الجن وأخترنا سورة الجن لأنه قد وصلتنا بعض الرسائل من الطلاب تطلب أن نفسر سورة الجن لأن البعض يرى أن فيها شيئا من الغموض أو أن بعضهم يرى أنها سورة جرت العاده أنه لم يسمع تفسيرها.... إذن فدرس الليلة إن شاء الله تعالى خاص بسورة الجن. مما يساعد على هذا أن سورة الواقعه مثلا قريبة معنى من سورة الرحمن فقد ذكر الله جل وعلا في سورة الرحمن أصحاب الجنان وكذلك ذكر في سورة الواقعة المقربين وأصحاب اليمين وعلى هذا سنشرع إن شاء الله تعالى في سورة الجن من باب الإلمام العام بالسورة قدر الإمكان.(1/2)
قال الله تعالى"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم""بسم الله الرحمن الرحيم"(قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرءآنا عجبا*يهدي إلى الرشد فأمنا به ولن نشرك بربنا أحدا*وأنه تعالى جد ربنا مااتخذ صاحبة ولا ولدا) توضيحاً للصورة يقال:جمهور المفسرين على أن هذه الأيات أو سورة الجن:سورة مكية نزلت بعد سورة الأعراف ومناسبتها أو مايتعلق الحديث بها/أن نبيكم صلى الله عليه وسلم خرج إلى الطائف فبعض الروايات تقول: أنها جاءت وهو الأظهر في منقلبه عليه الصلاة والسلام من الطائف وفيها ما يقول أنه خارجا عامدا مع نفر من أصحابه إلى سوق عكاظ يقرأ القرآن فصلى صلى الله عليه وسلم الفجر أو قام الليل أيا كان الأمر أنه كان يقرأ القرآن فلما قرأ القرآن كانت الجن من قبل لها مقاعد في السماء من خلال هذه المقاعد تسترق السمع فلما تسترق السمع تسمع الكلمه الحق فتزيدها من الباطل أضعافا مضاعفه ثم تعطيها الكهنه من الإنس فهذا نوع من التعامل ما بين الجن وكهنه الإنس فتعودوا الجن على هذا وكانوا يرجمون لكنه رجماً يسيراً قال الله جل وعلا:ـ لما ذكر في سورة تبارك عن النجوم : قال:(رجوماً للشياطين) فكانوا يسترقون السمع فينالون حظاً ويعطونه الكهنه فبينما هم في أيام بعثته الأولى صلى الله عليه وسلم يسترقون السمع وجدوا أنهم حيل بينهم وبين خبر السماء فعلموا فطنة أن هناك شيء وقع أوسيقع فأخذوا يتساءلون فتقسموا فرق كل فرقة تبحث عن السبب الذي من أجله حيل بينهم وبين خبر السماء فالفرقه التي جاءت في وادي نخله رأت النبي صلى الله عليه يقرأ القرآن سمعته وهو يقرأ القرآن فاستمعوا إليه صلى الله عليه وسلم فلما استمعوا إليه كتب الله لهم الإيمان باستماعهم لقراءة نبينا صلوات الله وسلامه عليه فلما وقع هذا القرآن فيهم موقعاًعظيما وهذا يدل ولا حاجه للتأكيد لأنه مرمعنا كثيراً على عظم القرآن أنه حتى الجن الذين خلقوا من نار السموم تفطرت قلوبهم(1/3)
لما سمعوا كلام رب العزة جلاله وأجمل شيء أنهم سمعوه من في رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعت حلاوة التلاوة مع عظمة التنزيل فلما قدموا إليه اجتمعوا الجن بعضهم على بعض ينادي بعضهم بعضاً في أظهر الأقوال يجتمعون يستمعون القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم ثم لما فرغ عليه الصلاة والسلام من القراءه انصرفوا يدعون قومهم إلى دعوة نبينا عليه الصلاة والسلام وهذا قاله الله في سورة الأحقاف:( وإذصرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرءآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين* قالواياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم* يا قومنا أجيبوا داعي...) فقاموا بالدعوة هؤلاء مؤمنوا الجن الذين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم حدث ذلك كله ياأخي والنبي صلى الله عليه وسلم على ماتدل عليه ظاهر الآية لم يرهم،فلما لم يرهم وانصرفوا وهو عليه الصلاة والسلام بشر لايعلم الغيب أوحى الله إليه بعد انصرافهم أن الجن استمعت إليه وهذا الوحي من الله جاء مرتين المرة الأولى في قوله جل وعلا:(وإذصرفنا إليك نفراً من الجن) والمرة الثانيه قوله تبارك وتعالى:(قل أوحي إلى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرءاناً عجباً) هذا المقصود والمدخل لسورة الجن هذا أصل القصة ومبناها ومعنى قول ربنا تبارك وتعالى:( وإذصرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القران) سندخل الآن في مفهوم السوره عموماً سنقططف مايمكن الفائده منها..
الفائده الأولى:ـ أن الجن موجدون وفي هذا رد لمن أنكر وجودالجن من الملاحده أو بعض الفلاسفه ة والدليل على وجودهم ظاهر بين ماحكاه الله جل وعلا عنهم أنهم يستمعون القرآن وأن الله صرفهم لاستماع القرآن إلى نبينا صلى الله عليه وسلم وأن الله خاطبهم بالقرآن في قوله تعالى :ـ (فبأي ألاء ربكما تكذبان ).(1/4)
الفائده الثانيه:ـ حفظ الله لوحي نبيه صلوات الله وسلامه عليه فإن هذا الوحي الذي أنزل على خير نبي صلوات الله وسلامه عليه كان من ارهاصاته العظمى أن مقاعد الجن التي كانت لهم في السماء حبسوا وحيل بينهم وبينها قالت الجن :(وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) فقولهم (يستمع الآن ) يدل على أن الوقتين متغايران ففي الأول كان بإمكانهم أن يسمعون أمابعد بعثته صلى الله عليه وسلم فقد حيل بينهم وبين السماع (فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) وهذا من عناية الله تبارك وتعالى برسولنا صلوات الله وسلامه عليه.دلت السورة جمله على أن الجن منهم مؤمنون ومنهم كفار ودليلها من السورة نفسها(أنهم قالوا وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا) طرائق قددا:ـ كلمة طريق إذا جمعتها وأنت تقصد الطريق المعبد الذي تمشي عليه اجمعها على كلمة (طرق) وإن جمعتها وأنت تقصد الطريق المعنوي (طريق الخير،طريق الشر،طريق الهدى،طريق الضلاله) فاجمعها على كلمة(طرائق) وهنا قالت الجن(كنا طرائق قددا)أي جماعات وأهواء وأحزاب وفرق وملل ونحل متفرقه ولايسلم منها إلا فرقه واحدة من أرادت الحق(وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك)وكل أمه فيها صالحون وفيها غير صالحين تتفاوت أحوالهم و درجاتهم ومكانهم عند الرب تبارك وتعالى.الفائده الرابعه:ـ العرب في لسانها تسمي الجن على خمسة أشياء:ـ قبل الشروع في هذه الخمسه،الجن يسمون جن لاستتارهم بمعنى أنهم لايرون بالعين والجذر اللغوي لكلمة(جن) يدل على الاستتار ولذلك يسمى الطفل في بطن أمه عندما لا يُرى يسمى"جنين"وجنة عدن أدخلنا الله وإياكم لم نراها تسما جنه والله قال عن خليله إبراهيم:(فلما جن عليه الليل رءا كوكبا) يعني أظلم عليه الليل ولم يعد يرى.(1/5)
فالجن مأخوذ اسمهم من هذه الماده لأنهم لا يرون بالعين بقدرة الله (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) ثم اختلف في أصلهم مع الإتفاق على أن الجن مخلوقون من نار وأقدم خلقا الجن بنص القرآن (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) أي من قبل خلقكم فلما قطعت الإضافه بني قبل على الضم الذي يعنينا هذه الأمر الثالث/ العرب قلت في لسانها تسمي الجن بخمسة أسماء:ـ إذا كان جني خالص يعني لا يقصدون وصفه يقولون له/جني مثل مايقال إنسان دون وصف.
*فإذاهذا الجني سكن البيوت يسمى/عامر."أن يعمر البيوت على شكل حيايا أوشكل عقارب أو على أي هيئة أخرى ويجمع على عُمّار.
*إذا تعرض للصبيان وأفزعهم تسميه العرب "أرواح"
*فإذا كان ذا خبث وقوة وتمرد وأخذ يضل أسموه "شيطان"
*فاذا زادت قوته الشيطانية أسموه "عفريت".أما كلمة"مارد" هذه وصف تأتي إما للعفريت أو الشيطان. هذه قالها الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى.وابن عبد البر إمام مالكي شهير،وهو من أكثر علماء الأمة قدرا، وله كتابان في العلم شهيران جدا:
1/التمهيد.
2/الاستيعاب.(1/6)
وله الإستذكار لكن هذه من أشهر كتبه رحمه الله تعالى نعود إلى الدرس/ وهذه العوامر الذين يسكنون البيوت جاء في موطأ مالك بسند صحيح أن رجلا من الصحابه كان حديث عهد بعرس ــ شاب حديث عهد بالزواج ــ فخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في جهة الخندق ما يسمى اليوم بالسبع المساجد كانوا هناك فكان يستأذن من النبي عليه الصلاة والسلام يرجع إلى بيته ولا يرابط في الخندق لأنه حديث عهد بعرس فستأذن ذات مره ورجع فوجد زوجته خارج البيت فأصابته الغيره فسل السيف فشارت إليه أن ادخل الدار فدخل الدار فلما دخل الدار وجد حيه عظيمه قد التفت على فراشه مطويه على فراشه فأخرج رمحا أو سيفا أيا كانت الروايه لا تفرق فضربها به قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه راوي الحديث قال: فلا يدرى أيهما أسبق موتا ماتت الحيه ومات الشاب في نفس الوقت فلما علم صلى الله عليه وسلم قال:(إن في المدينه عُمَّاراً) أي إخوان لكم من الجن يعمرونها وشرع لهم صلى الله عليه وسلم التحريج أي أن يحرج على الجني إذا وجد في البيت أو غلب على الظن أنه موجود يحرج عليه أن يخرج ثلاثا ثم بعد ذلك إن لم يخرج يمكن قتله .(1/7)
المقصود من هذا قضية الجن والعُمَّار ثم اختلف العلماء في قضية أصل الجن فالأكثرون واختاره شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله :على أن الجن من نسل الشيطان من نسل إبليس والإنس من نسل آدم أما كون الإنس من نسل آدم فهذا لا نزاع فيه لكن النزاع هل الجان من نسل إبليس أولا على قولين: والأشهر والذي عليه الجمهور واختاره شيخ الإسلام ابن تيميه/ أنهم من نسل إبليس وإبليس نفسه اختلف فيه هل هو من الملائكه أو هو من الجن والقرآن يدل صراحة على أنه من الجن قال الله تعالى في سورة الكهف (إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) فالذين قالوا أنه من الملائكه كيف يردون على هذا؟ الله يقول(إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) لكن لما يأتي عالم ويقول كانوا من الملائكه فنقول له الله يقول (كان من الجن) هو يستطيع أن يرد وهذا هو العلم وقلنا إن العلم ثلاثة أقسام:1/ منزل 2/ومبدل 3/ومؤول .وقلت إن مضمار العلماء الذي يجرون فيه هو العلم المؤول (إلاإبليس كان من الجن)أنا قلت أن الجن بمعنى الاستتار وهم هؤلاء ماذا أجابوا؟ قالوا: إن الجن هنا المقصود بها الملائكه أين الدليل؟ على أن كلمة جن تطلق على الملائكه وهذا العلم تتدرج... (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنه إنهم لمحضرون) والجنه هنا الملائكه لأن العرب ماقالت أنه فيه بين الله وبين الجن الأرضين نسبه قالوا إن النسبه بين الملائكه نسبوا لله البنات قالوا: إن الملائكه بنات الله فالنسبه التي وضعتها العرب نسبة البنات عياذا بالله" نسبة الملائكه بنات الله" (...(1/8)
ليسمون الملائكه تسمية الأنثى) قال الله تعالى (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا)الجنه هنا بمعنى/ الملائكه فالذين قالوا إن إبليس الآيه(إلا إبليس كان من الجن)قالوا إن الجن تطلق على الملائكه والدليل من القرآن نفسه لماذا أنا أقول هذا حتى إذا سمعت قولا لأحد العلماء لا تسارع في ذمه حتى تعلم دليله ول اتستعجل في الحكم فأنت يظهر لك العلم من وجه ويظهر للعالم من وجه آخر وهذا الذي ينبغي لطالب العلم أن يعرفه وأنا أعيد قصه أقولها مرارا تربيه لطلاب قلنا إن أباحنيفه رحمه الله كان له تلاميذ فكان كل فتره يعطي أحد التلاميذ إذناً أن يدرس يقول قم يافلان درس قم أنت ....قم أنت ...كان له تلميذ من أنجب طلابه يسمى أبو يوسف قاضي القضاه رحمه الله فيما بعد هذا أبويوسف كان يجلس في الحلقه وكان أفضل ممن يأذن لهم أبوحنيفه فكان يتعجب كيف أن الإمام يأذن لغيره أن يدرس ولا يأذن له ذات يوم مرض أبويوسف هذا فزاره أبوحنيفه في بيته فوافقت زيارة أبي حنيفه أن أبايوسف كان مريض جدا فغلب الظن عند أبي حنيفه أنا أبايوسف سيموت فلما خرج قال أبوحنيفه للطلاب: لئن مات أبايوسف ليفقدن العلم أحد رجالاته والله لقد كنت أعده للناس من بعدي فرجع الطلاب وقالوا إن الإمام قال... فلما برئ أبويوسف جلس أبوحنيفه في الحلقه فقال مافعل الله بأبي يوسف قالوا :يا أباحنيفه برئ قال:أين هو قالوا:فتح حلقه لماذا فتح حلقه؟لأن الإمام قال:إنني أعده للناس من بعدي وجلس يدرس هنا أراد أبوحنيفه أن يؤدبه ويبين له العلم فأنا جئت بها لأقول:إن العلم"الدليل" تنظر له من عدة زوايا.فقال أبوحنيفه لرجل من الطلاب اذهب إلى أبايوسف وقل له إن رجلا أخذ ثوبه وأعطاه الغسال ليغسله له فلما رجع ليأخذ الثوب أنكر الغسال أنه أخذ ثوبا قال:أنت ماجئتني ولاأعرفك ولم يكن عند صاحب الثوب دليل فخرج ثم إن الغسال بعد فتره بعد أسبوع... أسبوعين...(1/9)
بتعبير الناس اليوم (التزم) فأراد أن يرد الثوب لصاحبه فأبوحنيفه يقول إن الرجل رد الثوب مغسولا لصاحبه فهل له أجره أوليس له أجره؟ وقال للطالب الذي بعثه إن قال لك له أجره قل له أخطأت،وإن قال ليس له أجره قل له أخطأت! فخرج الرجل وذهب إلى أبي يوسف جلس في الحلقه انتهى الدرس بدأت الأسئله قام ورفع يده وقال السؤال؟ فتفكر أبويوسف رحمه الله قليلا ثم قال ليس له أجره قال له: خطأ فتفكر أخرى نعم له أجره فقال الطالب:خطأ.(1/10)
وخرج فلما خرج فطن أبويوسف أن الذي بعثه أبوحنيفه فرجع وجلس في الحلقه مرة ثانيه فأبوحنيفه بدأ الدرس ونظر إليه وقال يا أبويوسف أعادتك إلينا مسألة الغسال ثم انظر فقه أباحنيفه قال له:كان ينبغي لك أن تسأل من سألك إن كان الغسال سرق الثوب قبل أن يغسله يعني نوى سرقته قبل أن يغسله فليس له أجره لأنه عندما غسله غسله لنفسه وإن كان غسل الثوب ثم بعد أن غسله نظر إليه فأعجبه فنوى سرقته فله أجره لأنه غسله لصاحب الثوب ثم قال رحمه الله :شاب لا يحسن مسألة في الإجاره يريد أن يجلس ليعلم المسلمين وقال له: مَثل قد لايحسن قوله في السجد تأديبا له رحمه الله والمقصود من هذا الذي أنا أردته موضع الشاهد من اسرادنا للقصه أنك لاتدري حجة من قال ولذلك قال العلماء كلما كان الإنسان أكثر علما كان أقل انكارا لأنه يعرف أن للمسأله عدة أوجه فيقل انكاره للناس أما الذي لايعرف إلاشيء واحد ينكر كل شيء يراه وأنا لا أتكلم فيما اتفق العلماء على أنه منكر، اتفق في المسائل التي يخوض فيها الناس نرجع إلى سورة الجن دلت السورة كذلك أن المساجد لله وهذه (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) من اليقين أنها من كلام الله التي قالها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وليست من كلام الجن لكن أنت كطالب علم وأنا قلت اليوم سأكد على قضايا علميه غير القضايا الإيمانيه هذا المسجد الذي نحن فيه لو جاءك سائل وقال لك ما اسم هذا المسجد؟ ماذا ستجيب ؟ مسجد "الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ" يقول لك كيف الله يقول (وأن المساجد لله) وأنت تقول مسجد "الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ" الجواب أن يقال/ أن المساجد تضاف لله تشريفا وتضاف لغيره تعريفا أين الدليل من السنه على أن المساجد تضاف لغيره ؟ (مسجدي هذا) و(من أتى مسجد قباء) وفي الصحيح أنه أجرى الخيل من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق فهذا كله على أن المساجد تضاف إلى غير الله لكن كما قلت المساجد تضاف لله تشريفا وتضاف(1/11)
لغيرالله تعريفا قد ذكروا أن هارون الرشيد الخليفة العباسي المعروف غضب يوما على رجل فأقسم بالله أن امرأته طالق إن بات هذا الرجل في ملكه وطبعا خلافة هارون الرشيد كانت خلافة عامرة فأين يذهب هذا كل البلاد بلاد اسلاميه تبع لهارون الرشيد فسأل أحد العلماء أين يبيت هذا وأنا قد حلفت أنه لا يبيت الليلة في ملكي وأنا أملك من المشرق إلى المغرب ـ أيام الخلافه العباسيةـ فأشار إليه أن يبيت الرجل في المسجد لأن الله يقول (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) قال عليه الصلاة والسلام (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)إما أن يبنى القبر أولا ثم يبنى عليه المسجد وإما أن يبنى المسجد ثم يوجد فيه القبر وإما أن يبنى المسجد ولايوجد فيه قبر لكن يصل بتوسعته إلى القبر. نأتي إلى المسألة الأولى :ـ إذا بني القبر أولا فلا يجوز بأي حال من الأحوال بناء مسجد عليه فإن بني مسجد لاتجوز الصلاه فيه لأن الأصل أنه قبر وإن بني مسجد ثم وضع فيه قبر فهذا يختلف بالقدره إن كنت تقدر على إزالة القبر حسب جاهك يجب أن يزال القبر وإن كنت لاتقدر تجوز الصلاه وتركها أولى .الحاله الثالثه :ـ أن يكون هناك مسجد ويوسع حتى يصل إلى قبر فلا يدخل في المسجد دخولا أوليا ولكن يبقى محجوزا كحال قبر نبينا صلى الله عليه وسلم في مسجده فهذا لاشك أن الصلاة في مسجده لايوجد مؤمن يقول أنها لاتجوز وإنما أدخلت حجرات أمهات المؤمنين في عهد الوليد بن عبد الملك على أيام عامله على المدينه عمر بن عبد العزيز . المساجد لله المساجد مكان تعظيم ولايعظم فيها إلا الله .(1/12)
فلايجوز لأحد أن يجعل من المساجد طريقا لتعظيم أحد كائنا من كان ومن تعظيم الله فيها أن يقرأ القرآن والدعاء وذكر الله والصلاة في المقام الأول وحضور الجمعه وحضور الجماعات هذا المعنى الحرفي بقول الله تعالى(وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا)وقال عليه الصلاة والسلام كما قلت (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وقد شاع في الأمه وللأسف عياذا بالله أنه اتخذت بعض القبور على أنها مساجد فتؤم وتقصد كما تؤم المساجد سأتكلم أنا الآن تاريخيا لن أتكلم في حلال وحرام الحرام واضح .نسمع بالذات في هذه الأيام بما يسمى بالنجف الأشرف النجف أصلا أرض خارجه عن الكوفه.بظاهر الكوفه مثل مانقول الآن الفريش ظاهر المدينه .الكوفه كانت معقل لعلي رضي الله تعالى عنه وأرضاه.ترك العاصمه من المدينه إلى الكوفه وقتل علي رضي الله عنه شهيدا على يد عبد الرحمن بن ملجم المرادي في الكوفه ثم لايوجد ثبت تاريخي يؤكد أين دفن علي رضي الله عنه فيما نعلم لكن من الروايات التي نقلت إحدى الروايات أنه دفن بظاهر الكوفه هذا منقول حتى عند أهل السنة ولم يكن يعلم قبره رضي الله عنه وأرضاه مده من الزمن ثم يقولون إن هارون الرشيد الخليفه العباسي المعروف خرج للصيد وكانت عاصمته بغداد وبغداد في العراق ـ فك الله أسرهاـ فخرج هذا الخليفه فيما يزعمون حتى وصل إلى ظاهر الكوفه وهناك اكتشف قبر علي بظاهر الكوفه في المنطقه التي تسمى النجف.(1/13)
فأخذ يتردد عليه ويزوره ثم بدأ أحفاد علي رضي الله عنه من الأئمه الذين يقال لهم الأئمه في مذهب الشيعه من أحفاده مثل:ـ موسى الكاظم وغيره كجعفر الصادق يدفنون غير بعيد عنه في العراق ثم مع الأيام جاءت دول فيها وزراء يتبنون المذهب الشيعي فبني على القبر قبه ثم بعد ذلك بني مسجد ثم مازال يتطور الأمر تاريخيا بحسب قوة نفوذ الشيعه أو بحسب عدم قوة نفوذهم ثم بني مبنا محاط بالقبر أشبه ببناء البناء الذي بنته الدوله على الحرم المكي فما عند الكعبه الآن مابين الكعبه ومابين المسجد يسمى صحن الكعبه وأنت تذهب إلى مكه تقول أريد أن أصلي في السطح... أريد أن أصلي في الصحن... يقصد بالصحن المسافه التي بين الكعبه ومابين البناء (المسجد)طبعا هذا البناء المسجد لم يكن موجودا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم ولافي عهد أبي بكر وإنما بني في عهد عمر أول من أحاط المسجد بالبناء عمر. هؤلاء الشيعه بنوا على قبر علي مثل الحائط مثل البناء وجعلوه دورين جعلوا الدور الأعلى يسمى عندهم حوزه علميه يدرسون فيه فأصبحت المنطقه المساحه التي مابين القبر نفسه ومابين البناء المبني أصبحت أرضين... صحن فسموها بالصحن ثم سميت بالصحن الحيدري نسبة إلى علي رضي الله عنه لأن علمياً من أسمائه حيدر وهو القائل يوم خيبر :ـ
أنا الذي سمتني أمي حيدرا(1/14)
أكيلهم .........إلى آخر الأبيات.فالمقصود هذا ماتسمعه الآن تاريخيا بالصحن الحيدري وما يسمى بالنجف ثم جاءت كلمة (الأشرف)اعتقادا منهم أن هذا المكان يشرف بوجود علي رضي الله تعالى عنه فمع الأيام أصبح يسمى (بالنجف الأشرف) طبعا هذا حتى تفقهه إذا سمعت أخبار تفهم ما الوضع بصرف النظر عما يكون الأمريكون عدو ظاهر لاجدال فيه لايفرقون لابين سنه ولاشيعه وليس هذا مجال الكلام.لكن الذي أريد أن أقوله:ـ إن الأصل أن الأمه ينبغي عليها أن توحد ربها ولاتعظم إلاخالقها ولو قدر أن عليا رضي الله عنه وأرضاه وحشرنا معه مع نبينا صلى الله عليه وسلم لوقدر أنه قام من قبره لكان أول من ينكر هذا الصنيع على قبره .وهذا مقصودنا من قول الله تعالى (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) ثم قال تعالى (قل إنه لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا) اختلف في سبب النزول لكن قبل إن جمعا من الجن أوجمعا من أهل الإشراك قالوا لنبينا صلى الله عليه وسلم اترك الدعوة ونحن نجيرك فقال عليه الصلاة والسلام (قل إنني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا *إلابلاغا من الله ورسالاته)ومعنى الآيه:ـ أنني إذا بلغت رسالة الله يجيرني الله وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الأمانه وأداها على أكمل وجه.(1/15)
واستشهد أصحابه على هذا قال عليه الصلاة والسلام:"أما وإنكم ستسألون عني فما أنتم قائلون؟قالوا: نشهد أنك قد بلغت الرساله وأديت الأمانه "بقي آيه تجاوزناها نسيانا(وأنه تعالى جد ربنا ماتخذ صاحبة ولاولدا)الجد / هنا بمعنى : الجلال والعظمه وهو أحد معانيها ومن معاني الجد الحظ والغنى ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (ولاينفع ذا الجد منك الجد)يعني :ولاينفع ذا الحظ العظيم منك الحظ لأن الأمور بين الله وبين عباده حسب الأعمال الصالحه وقول الله جل وعلا (وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا)أي أن الجن تقول إن السفهاء منا كانوا يقولون جورا على الله(وأنا ظننا ألن تقول الإنس والجن على الله كذبا)معناها/ أن هؤلاء المؤمنين من الجن يقولون نحن في السابق كنا نصدق من يقول أن لله صاحبه ولله ولد فلما سمعنا القرآن من محمد صلى الله عليه وسلم تبين لنا ضلال قومنا ولكن الذي جعلنا في الأول نتبعهم لم نكن نتوقع أن يجرأ أحد على الله وهذا معنى قولهم(وأنا ظننا) والظن هنا بمعنى / العلم (وأنا ظننا ألن تقول الإنس والجن على الله كذبا)أما قولهم (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ) رهقا هنا بمعنى /اجتراءا وطغيانا لأن بعض الإنس من العرب كانوا يستغيثون بزعماء الجن فأكبر ذلك في أنفس الجن وتعاظموا وزادوا طغيانا على ماهم فيه وهو أظهر الأقوال في الآيه هذا ماأردت بيانه حول سورة الجن. بقيت الموعظه الخاتمة :(1/16)
أولا:الذين كتبوا بأنهم يحبوننا في الله والذين لم يكتبوا كذلك فأنا والله أشهد الله على حبي لكم جميعا بلا استثناء والله من رحمته بنا وبكم أن جمعنا في بيت من بيوته وهذا فضل عظيم من الرب تبارك وتعالى نسأل الله أن يعيننا على شكر نعمته وأنا أقول لنفسي ثم لكم ولأخواتي المؤمنات الذين يستمعونني إنه لانعمه أعظم من الهدايه ولاموقف أخوف من الوقوف بين يدي الرب تبارك وتعالى ولامنصرف أعظم من الإنصراف بين يدي الله فريق في الجنه وفريق في السعير ولا ازدحام أمتع من الزحام على أبواب الجنه ولا نعيم تقر به العين أعظم من نعيم الجنه ولاعطاء أعظم من رؤية وجه الله تبارك وتعالى وهذه كلها تتحقق إذا رحمك الله جل وعلا ويسر لك الأمر وتحقيق هذه الرحمه ربنا يقول (إن رحمة الله قريب من المحسنين) وأعظم درجات الإحسان أن تعظم الله جل وعلا في قلبك تعظيما جليلا فلا تجعل مع الله كائنا من كان ومعلوم أن مثلك لن يدعوا غير الله فيما نحسب لكن قد يتعلق قلبه بأحد تعلقا يوازي تعلقه بالله وأنا أقول مرارا إن العلماء يقولون:إن قلب المؤمن ينبغي أن يكون كالكعبه فالكعبه لاتعلق فيها صور ولا أزلام وكذلك قلب المؤمن ينبغي أن لايكون فيه إلا الله أو ماكان داخلا في محبة الرب تبارك وتعالى وإن حفظ البصر من النظر إلى المحرمات من أعظم مايمكن أن تصرف به القلوب إلى طاعة الله لأن البصر إذا أدمن النظر عياذا بالله تعلق بالصور والوجوه التي يراها وقد يفتن بها إن كانت وجوه رجال أو وجوه نساء ومن التعلق حب الإنسان للشهره والظهور ومن التعلق حب الإنسان للمال ومن التعلق حب الإنسان للإنتقام ومن التعلق حب الإنسان للشهوات والسهر وماأشبه ذلك هذا كلها صوارف تصرف القلب عن الرب تبارك وتعالى ومما يثبت به قلبك على طريق الله ألا يكون في قلبك غل ولاحقد على مؤمن كائنا من كان(والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولاتجعل في(1/17)
قلوبنا غلا للذين ءامنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) ومن أخطأ من علماء الأمه غفر الله لنا ولهم فالتمس لهم العذر ولست ملزما بأخذ قوله يرد عليه القول ويبقى له إيمانه بربه تبارك وتعالى وأنت في طلب العلم لاتشتغل بالناس ولا تشتغل بقول فلان ولا جماعة فلان ولا حزب فلان (هو سماكم المسلمين من قبل) فنحن مسلمون فقط ولانريد اسما زائدا على هذا الاسم بعد أن سمانا الله جل وعلا مسلمين ،وكفى به فخرا وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على المهاجرين والأنصار لما قال أحدهم يا للمهاجرين وقال الآخر يا للإنصار قال عليه الصلاة والسلام (ابدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) مع أن المهاجرين والأنصار اسمان قرآنيان قال الله(والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) كما أن من سلامة الصدر قال عليه الصلاة والسلام (ثلاث لايغل عليهن قلب مسلم وذكر منهن لزوم جماعة المسلمين والنصح لهم)فنحن في بلاد ولله الحمد آمنه مستقره مطمئنه مباركه والمنصف يعلم والله الذي لا إله إلا هو لا نعلم بلادا أكثر منها إيمانا وقد يوجد الإيمان في كل مكان وأنا أتكلم من حيث الجمله لا من حيث الأفراد فيها ولله الحمد يحكم الشرع وتعظم الحدود وفيها الحرمان ويأتيها المسلمون من كل مكان وبقاؤها مجتمعة الكلمة موحدة ءامنة مطمئنه فيه خير لكل مسلم ولا يريد هدم هذا الكيان وتوزيعه و تشتيته إلا شخص جاهل أو حاقد لا يعرف أن مصلحة المسلمين إن كان جاهلا أو حاقدا لا يريد للمسلمين مصلحة وليكن في قلبك الحب للحكام وللعلماء والدعاة والأمراء والجيران والأهل والوالدين كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم في حياته مع أصحابه رضي الله عنهم (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) والكمال عزيز كما أنه ينبغي عليك أن تسعى أيها الأخ المبارك في تزكية نفسك اجعل لنفسك حظا من الليل تقوم فيه بين يدي ربك جل وعلا تتلوا القرآن وتسمعه وتقرأه وتسجد لله وتتوسل إلى الله(1/18)
بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ليكن بينك وبين الله أعمال في السرائر لايعلم عنها أحد كائنا من كان تجعلها ذخرا لك بين يدي رب العالمين جل جلاله الشباب الذين يحضرون الدرس وأكثرهم في مقتبل العمر نؤكد عليهم أكثر مما نؤكد على غيرهم ما أنتم فيه طلبه عم النبي صلى الله عليه وسلم أبو طالب فلم يناله وتمناه إبراهيم فلم يناله وتمناه نوح لأحد أبنائه فلم يناله وكتب الله جل وعلا لكم وقد أتى الله بكم من المدينه أو من غيرها إلى بيت من بيوت الله تطلبون العلم فلا تنشغل عن العلم بشيء آخر اسهر ليلك في تدوين المسائل وقراءة القرآن وحفظ المتون ولاتشغلها بزيد أفضل وزيد أقل وفلان أحبه وفلان ابغضه اشغل نفسك بطاعة الله أكثر من الإستغفار قال الله جل وعلا (لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون) فأعظم مايجلب الرحمه كثرة استغفار الله ومن الرحمه أن توفق لطلب العلم والبلوغ فيه ونفع الناس بعد ذلك إذا مكنت منه.(1/19)
كذلك حريصا على بر والديك فلا ينال خير من عند الله بعد الصلاة والشهادتين بأعظم من بر الوالدين ولن يدرك عاق من الله جل وعلا خير لأنه فطرة من وصاك الله به فجعلته وراء ظهرك لن يمكن يعطيك الله خيرا أمامك والله جل وعلا يقول (وبالوالدين إحسانا)وقال (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولاتنهرهما) وإن برك بأمك أوبرك بأبيك خير من ألف محاضره تحضرها لأن ذلك أمر أوجبه الله المهم منك أن تحتسب العمل عند الرب تبارك وتعالى أن تحتسب الصنيع عند الله جل وعلا مما يقربك من الله تبارك وتعالى زلفى كثرة ذكره جل وعلا "سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان خفيفتان على اللسان " ومن أعظم مايحبه الرب تبارك وتعالى هذا وجملة أيها الأخ المبارك يعينك على السير على طريق الله لاتشمت بأحد كائنا من كان فإن القلوب بين يدي الله يقلبها كيف يشاء اسأل الله الثبات على الهدايه (يامقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) وانظر رحمة الله عليك كم في هذه الساعه التي هي ليلة الجمعه من الآن في هذا الصيف واقف على الشواطيء شواطيء العراه ينظر ميمنة وميسرة يملى قلبه بسخط الله جل وعلا وغضبه كم في هذه اللحظه من هوعاكف في زاوية يتناول مخدرا أو يشم مسكرا أو يشرب ماحرم الله جل وعلا كم في هذه اللحظه من هو في بارات الشرق وحانات الغرب يزني وكم في هذه اللحظه من هو واقف أمام الشاشات أو مع ساحات الإنترنت يفعل من المعاصي مالله به عليم هل تعتقد أن الله الحكم العدل يساوي بينهم وبين من ترك كل شيء وقدم إلى بيت من بيوته يلتمس علما وأجرا من الله وفضلا من الرحمه المهم الصبر ....الصبر ....(1/20)
الصبر حتى تبلغ الجنه وطريق الجنه عال صعب يحتاج إلى جهد يحتاج تواصي بالحق يحتاج إلى صبر لاتتكلم في أحد أحسن الظن بالمسلمين وانشغل بذنوبك عن ذنوب الناس حتى تلقى الله جل وعلا وقد غفر ذنبك وقبل توبتك ورد عليك أمرك وأعانك أدخلك جنته .
(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )
(ثم أورثنا الكتاب الذين صطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير*جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير*وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور*الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولايمسنا فيها لغوب)اللهم إن نسألك رضوانك والجنه ونعوذ بك ربنا من سخطك والنار اللهم اختم لنا بخير واجعل مآلنا إلى خير وعافنا اللهم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا (سبحان ربك رب الغزة عما يصفون*وسلام على المرسلين*والحمد لله رب العلمين).
تم بحمد الله..(1/21)
... ... (تأملات في سورة الرحمن)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجدله ولياً مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداًعبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ماجزى به نبياً عن أمته" اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى أله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين . أمابعد.....(1/1)
أيها المؤمنون فإننا نستعين الرب تبارك وتعالى كما استعناه من قبل في تفسير ووقفات مع بعض كلامه جلا وعلا والسورة التي نحن بصدد تفسيرها الليلة هي سورة الرحمن أيها المؤمنون إن المؤمنين يدركون بلا شك أن لهم رب لا رب غيره ولا إله سواه إليه يفزعون في الشدائد وإياه يشكرون في السراء يعبدونه تبارك وتعالى ليلا ونهارا يعبدونه بقلوبهم وجوارحهم ويعلمون أن من أعظم الجور والظلم أن يجعلوا لله تبارك وتعالى ندا ثم إن هؤلاء المؤمنين سلك الله بنا وبكم سبيلهم وجعلنا وإياكم منهم يعملون يقيناً أن لربهم تبارك وتعالى أسماء حسنى وصفات على قال الله جل وعلا (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه) والرب تبارك وتعالى كما أن وجهه أكرم الوجوه فإن أسمائه أعظم الأسماء وأحسنها وأكملها تدل على صفات عظيمة وجليلة لا يلحقها نقص أبدا له تبارك وتعالى ومن أسمائه العلى وأسمائه الحسنى تبارك وتعالى الرحمن ومن صفاته العليا جل وعلا الرحمة وهذه السورة الكريمة التي بين أيديكم صدرها الله جل وعلا بقوله (الرحمن*علم القرءان*خلق الإنسان*علمه البيان*الشمس والقمر بحسبان*والنجم والشجر يسجدان*والسماء رفعها ووضع الميزان*ألاتطغوا في الميزان*وأقيموا الوزن بالقسط ولاتخسروا الميزان) إلى أخر ما ذكر الله من آيات عظيمة تدل على عظيم قدرته وكمال رحمته وجليل فضله تبارك وتعالى و(الرحمن) اسم من أسماء الله الحسنى وبعض أسماء الله الحسنى قد يشترك معه المخلوق في إطلاقها عليه مع الفارق بين إطلاقها على المخلوق وإطلاقها على الخالق يقال: إن الله رحيم ويقال: عن أحد رجال الناس أو أحد رجال الدنيا إنه رحيم كما قال الله جل وعلا في نعت نبينا صلى الله عليه وسلم. ((1/2)
بالمؤمنين رؤوف رحيم) ويقال فلان راحم ويقال إن الرب تبارك وتعالى راحم لخلقه لكن الرحمن اسم مختص بالرب تبارك وتعالى لا يسمى به ولا يطلق على أحد من خلقه أبدا والرحمن معناه/ كمال اتساع رحمته وجليل فضله وإحسانه تبارك وتعالى على خلقه أوجدهم من العدم ورباهم بالنعم وبين لهم طريق النجدين وأبان الله لهم تبارك وتعالى معالم الحق ومعالم الهدى وأظهر لهم على الوجه الآخر معالم الضلالة ومعالم الزيغ والفساد قال الله جل وعلا (وهديناه النجدين) ولرحمة الله جل وعلا حد لا ينتهي قال الرب تبارك وتعالى (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون) وهذه الرحمة العظيمة بها يعيش الخلائق أجمعون فرحمة الله تبارك وتعالى منها ما هو عامه ومنها ما هو خاص فأما رحمته تبارك وتعالى العامة /فهذه ينالها المؤمن والكافر والبر والفاجر ومن مظاهر هذه الرحمة التي لا تختص بإيمان أو بكفر إنزال الغيث فإن الغيث وإنزاله أعظم مظاهر رحمة الرب تبارك وتعالى ويستفيد منه البر والفاجر والمؤمن والكافر والذكر والأنثى والعربي والعجمي وغير ذلك مما هو معروف قال الله جل وعلا عن الرياح التي تحمله (يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته) وقال الله تبارك وتعالى عن النبت الذي ينبت والأرض عندما تخضر بعد نزول رحمته قال (فانظر إلى ءاثار رحمت الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى) ومن مظاهر رحمته تبارك وتعالى إطعامه للجائع بصرف النظر عن حاله جاء في الحديث القدسي (إني والجن والإنس في نبأ عظيم خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد أتقرب إليهم بالنعم ويتقربون إلي بالمعاصي أخلق ويعبد غيري أرزق ويشكر غيري) فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يعبده وحده دون سواه ويشكره تبارك وتعالى ءاناء الليل وأطراف النهار على فضله وإنعامه أما مظاهر رحمته الخاصه جل وعلا فهذه نصيبها المؤمنون المتقون الذين يعرفون ربهم تبارك وتعالى فتأتيهم رحمة الله الخاصه بهم وهذه الرحمه واسعه(1/3)
الأرجاء متعدده المظاهر من مظاهرها ستره تبارك وتعالى على من يعصيه وفي الحديث (إن الله حيي سِتِّير) كما أن من مظاهر رحمته جل وعلا على عباده قبول التوبه وقد جاء في الحديث القدسي (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم) نستغفر الله العظيم ونتوب إليه كما أن من مظاهر رحمته الخاصه توفيقه تبارك وتعالى لعباده للعمل الصالح والعلم النافع فإن هذا من رحمة الرب بعبده جل وعلا كما أن من رحمته الخاصه ومعيته الخاصه لبعض عباده استجابته لدعائهم وغوثهم عند النوازل وقد ذكر الله جل وعلا جما غفيرا ممن عبدوه ولجؤا إليه واستغاثوا به كيف أعطاهم وأغاثهم وأعانهم وأكرم سؤلهم جل وعلا قال الله جل وعلا (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين*فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وءاتينه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين*وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين*وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين*فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) اختلفت حوائجهم ولم يختلف أنهم لا يسألون إلا الله ثم قال الله جل وعلا (وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين*فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) وغير ما قصه الله في كتابه فإن الناظر بين البصيرة والإنصاف إلى ما حوله يرى من مظاهر رحمة الله جل وعلا بخلقه ما لا يمكن أن يحصى أو يعد والله جل وعلا أعظم مما تراه بعينك رحمه فإن الله جل وعلا كتب كتابا عنده تحت العرش" أن رحمتي غلبت غضبي".(1/4)
كان رجل من الصالحين يقال له حاتم يسكن في خرسان كلما عزم على الحج خاف على بناته من بعده فقالت له ابنته الكبرى: يا أبنتي إنما الرازق الله فحج فعزم على الحج وترك الصغار في عهدة أختهم الكبرى فرعتهم فلما أمسى الليل إذا هم يتضاغون عند قدميها يسألونها الطعام ولم يكن في البيت شيء فبينما هم على تلك الحال وإذا بأمير يدخل القريه ويسألهم الماء ويطرق الباب ومعه حشمه وخدمه وماله ولكن لاماء معه والماء يوجد في بيوت الأغنياء كما يوجد في بيوت الفقراء فلما سألهم الماء أخرجوا له جرة ماء كانت عندهم فلما شربها جال بطرفه في البيت فعرف رقة حالهم ومسكنتهم وفقرهم فلما هم بالخروج أخرج لهم صرة فيها مئات الدنانير فقالت المرأة العارفة بربها هذا مخلوق نظر إلينا فاستغنينا فكيف بنظر أرحم الراحمين إلينا. نسأل الله أن يكلنا وإياكم إلى رحمته أيها المؤمنون: ومن أعظم رحمة الله الهدايه ولما كانت الهداية لاتتم إلا بالوحي لأنها لابد أن تكون على بينه عن طريق رسول ،والرسول يكون موحى إليه وأعظم الوحي الكتب السماوية وأعظم الكتب السماوية القرآن قال الله بعد أن ذكر اسمه الكريم(الرحمن)ذكر أعظم رحمة أعطاها الله جل وعلا لخلقه قال(الرحمن*علم القرءان) فالقرءان أعظم رحمة موجدة في الأرض لأن من سلك منهج القرآن قاده القرآن برحمة الله إلى جنات النعيم ورضوان رب العالمين جل جلاله. وكان القرشيون يزعمون أن مايقوله النبي صلى الله عليه وسلم ومايتلوه عليهم إنما هي أمور اكتتبها قال الله حكاية عنهم(وقالوا أساطيرالأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) فأجابهم الله (قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض)وهذه السورة سورة الرحمن أحد الأجوبه على كفار قريش أن القرآن من عند الله فلذا لك قال الله جل وعلا(الرحمن*علم القرآن )وقد قلنا في درس سابق إن النعم يمكن تقسيم أعلاها إلى قسمين..
القسم الأول:ـ نعمة خلق وإيجاد...(1/5)
القسم الثاني:ـ ونعمة هداية وإرشاد ونعمة الهداية والإرشاد أعظم من نعمة الخلق والإيجاد لأن نعمة الخلق الإيجاد يشترك فيها بنوا آدم مع البهائم فكلهم مخلوقون موجودون لكن نعمة الهدايه والإرشاد اختص الله بها المؤمنين المتقين الأصفياء الأولياء الصالحين من عباده خص الله جل وعل بهم بعضا من خلقه من بني أدم ولم تؤتى لكل أحد .
نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على دينه . لذلك قال الرب جل وعلا (الرحمن * علم القرءآن ) و(علم القرءان ) اتفق النحاة على أن (علَّم ) تأخذ مفعولين وقد ذكر الله جل وعلا .أحدهما هنا والصواب أن المفعول المحذوف هو المفعول الأول وأما تقديره فالعلماء اختلفوا فيه .لكن أظهر الأقوال أن يقال "الرحمن*علم نبيه القرءآن"فيكون في هذا المعنى ردٌ على من قال أن محمداً جاء بالقرآن من عنده "الرحمن*علم القرءآن"وقلنا إن في هذا القرءآن الطريق إلى جنة عدن قال عليه الصلاة والسلام :"تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي"وقال كما في صحيح مسلم"تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي"فالمقصود من هذا أن كتاب الله جل وعلا الطريق الوحيد إلى رضوان الله عن طريق كتا به المتضمن الأمر باتباع نبينا صلى الله عليه وسلم"إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشرالمؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا" قال جل وعلا"الرحمن *علم القرءان"وهذه السورة تضمنت مواقف إيمانية عظيمة نبدأ بها على هيئة قضايا ...(1/6)
القضية الأولى:تكرر في هذه السورة قول الرب جل وعلا :"فبأي آلاء ربكما تكذبان "والمخاطب بهذه الأية الثقلين الجن والأنس وقد وردت هذه الآية مكررة في السورة نفسها إحدى وثلاثين مرة وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي من حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الصحابة فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى أخرها فلما قضى سكتوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد قرأتها على إخوانكم من الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم قالوا: وما ذاك يا رسول الله.قال:إنني لما قرأتها على الجن كنت كلما تلوت "فبأي آلاء ربكما تكذبان" قال الجن: لا نكذب بأي من نعم ربنا فلربنا الحمد. فهذا الحديث حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع وقلت من قبل رواه الترمذي من حديث جابر والمقصود منه فيه دلائل على أدب الجن مع ربهم تبارك وتعالى ،إذاً من السنة أن الإنسان إذا تليت عليه هذه السورة في غير القرآن أن يقول ولا نكذب بأي من آلاء ربنا ولربنا الحمد،أو يقول ما يقرب من هذه العبارة... وهذه السورة كما قلت تزخر في الكثير من القضايا الإيمانية أولها كما بينا معنى كلمة الرحمن وقلنا إنها مختصة بالرب تبارك وتعالى ولا يصح إطلاقها على كل أحد.
"الرحمن*علم القرآن*خلق الإنسان" فانظر أن الله قدم نعمة الهداية على نعمة الإيجاد ولم يقل"الرحمن*خلق الإنسان*علم القرءآن" لأن نعمة الهداية و الإرشاد كما بينا مرارا أعظم من نعمة الخلق والإيجاد .(1/7)
"الشمس والقمر بحسبان" هذه الألف والنون:زائدتان والمعنى:بحسابٍ متقنٍ مقنن.وعلى ذلك جريانهما ينظر إليه الناس كيف أنهما يجريان بأمر ربهما قال الله جل وعلا :"لاالشمس ينبغي لها أن تدرك القمر والليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون" وفي ذلك من المصالح الدنيوية والدينيه ماالله به عليم قال الله جل وعلا (فمحونا ءاية الليل وجعلنا ءاية النهار مبصره لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا) فالله بعد أن ذكر نعمة الإنسان وهدايته ذكر جل وعلا ءالاءه وفضله وماأعطاه للخلق حتى يستدلون بتلك الآيات على عظمة الرب جل وعلا
تأمل في نبات الأرض
وانظر إلى ءاثرماصنع المليك
عيونا من لجين شاخصات
على ورق هو الذهب السفيك
على كثب الزبرجد شاهدات
بأن الله ليس له شريك
فكل مافي الخلق كل ماهو مخلوق يدل على عظمة الخالق جل جلاله يراه من يراه ويغيب عنه من يغيب عنه وليس يصح في الإفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل.
((1/8)
والنجم والشجر يسجدان) المبحث الأول اختلف العلماء في المقصود بالنجم في هذه الآية على قولين قول يقول: إن النجم قرين الشجر أن الشجر هو النبات الذي له ساق والنجم هو النبات الذي لا ساق له فيصبح المعنى /أن النبات الذي له ساق والنبات الذي ليس له ساق كلاهما يسجدان لله هذا على القول أن النجم هو النبات الذي لاساق له في هذه الآيه .والحجة عند من قال بهذه الحجة القرينه وهو أن الله عطف النجم على الشجر والشجر بالاتفاق هو النبات الذي له ساق . وقال آخرون من العلماء إن النجم هنا هو النجم المعروف الذي في السماء وقالوا: وجه الإقتران مابين النجم والشجر أن المزارعين الذين يزرعون الشجر إنما يزرعون توقيتا على مطالع البروج والنجوم.فشيء يزرع في الخريف ،شيء يزرع في الشتاء،شيء يزرع في الصيف بحسب أحواله وهذا أمر يعرفه المزارعون بالإتفاق فقالوا /إن النجم هنا هو النجم الذي في السماء ولهم حجة في القرآن قالوا من حججنا في القرآن أن الله جل وعلا ذكر السجود فقرن مابين سجود النجم وسجود الشجر في قوله جل وعلا في سورة الحج (ألم ترأن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وكثيرمن الناس وكثير حق عليه العذاب) فقالوا: إن الله هنا أثبت في هذه الآيه سجود النجم الذي في السماء وسجود الشجر فقالوا هذه قرينه على أن المقصود بقول ربنا جل وعلا(والنجم والشجر يسجدان)أنه النجم الذي في السماء والله أعلم بالصواب .وقد سقنا كلا القولين الذي قالهما العلماء .(1/9)
الذي يهمنا بصورة أكبرأن الله جل وعلا فطر الخلق على السجود له والسجود للرب تبارك وتعالى من أعظم القربات ومن أن تلدك أمك إلى أن تحمل على النعش لن تكون في حال أنت فيها أقرب من الله هيئة من هيئتك وأنت ساجد قال عليه الصلاة والسلام: (أما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فإنه أقرب مايكون العبد من ربه وهو ساجد ) وقال: (فأما السجود فأكثروا فيه الدعاء فقمن أن يستجاب لكم ) أي جدير أن يستجاب لكم وهذا السجود من كرمته على الله أن الله حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أعضاء السجود هذا طبعا إذا كان مؤمنا فإن الشفعاء يوم القيامه عندما يأتون ليخرجوا عصاة المؤمنين من النار يجدون أنهم أن النار أحرقت منهم كل شيء إلامواضع السجود وقد قال الله جل وعلا في الرعد(ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والأصال ) وقال جل وعلا في النحل (أولم يروا إلى ماخلق الله من شيء يتفيؤظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون *ولله يسجد مافي السماوات ومافي الأرض من دآبة والملائكة وهم لايستكبرون ) والمقصود من هذا /أن نبين مفهوم ءاية الرعد (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والأصال)أن حتى الكافر يسجد ونحن نرى أن الكافر لايسجد فتحمل الآيه على أن المعنى إن لم يكن يسجد بذاته فهو يسجد بظله فالله جل وعلا يقول العلماء/ يهب الظل إدراكا الله يهب الظل ظل العبد إدراكا يسجد من خلاله فإذا انتفى سجود الكافر ذاته فإن ظله يسجد لله تحقيقا للآيه قال الله تعالى (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا)هذا سجود المؤمنين (وكرها)هذا سجود الكافرين (وظلالهم بالغدووالأصال) والمقصود من هذا عظيم فضيلة السجود .(1/10)
ثم قال جل وعلا (والسماء رفعها ووضع الميزان*ألاتطغوافي الميزان*وأقيموا الوزن بالقسط ولاتخسرواالميزان*والأرض وضعها للأنام)هذه دعوة للعدل بين العباد والله جل وعلا حرم على نفسه الظلم وجعله بين عباده محرما ومن أعظم صفات المتقين العدل وقد قيل بالعدل قامت السماوات والأرض فلا يجوز للحاكم أن يظلم ويجور في رعيته ولايجوز للزوج أن لايعدل بين زوجاته ولايجوز للمعلم أن لايعدل بين طلابه ولايجوز للأب أن لايعدل بين أبنائه ومن صفات خوف الله ومراقبته والإطمئنان إلى الوقوف بين يديه أن يعدل الإنسان فيما ولاه الله تبارك وتعالى عليه.ولهذا قال الله نهى عن الطغيان ونهى عن الخسران قال جل وعلا(والسماء رفعها ووضع الميزان)أي نصب العدل (ألاتطغوا في الميزان)أي لا تزيد فيه إذا كان الكيل لك.ثم قال(ولاتخسروا الميزان)أي لاتنقص منه إذا كان الكيل عليك.لاتطغوا فيه إذا كان الكيل لكم ولاتنقصوا ولاتبخسوا الناس شيئا إذا كان الكيل عليكم وكما يزن الإنسان في بيعه وشرائه يعدل في بيعه وشرائه يجب عليه أن يعدل حتى في قوله فلا يقل مايعلم أنه جور وظلم إن كان من غيبه أو نميمة أو قدح في رجل أو ماأشبه ذلك .هذا كله من عدم إقامة العدل بين الناس وفي ذات الإنسان نفسه قال الله جل وعلا(فاعدلوا ولو كان ذا قربى)والمؤمن الحق الذي يرجوا ماعند الله يعدل في كل ماولاه الله تبارك وتعالى إياه.قال جل وعلا(والأرض وضعها للأنام*فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام)هذا كله ذكر لبعض نعم الله تبارك وتعالى على عباده وقد مر معنا كثير من هذا في سور ودروس سابقه.(1/11)
ثم قال جل وعلا(مرج البحرين يلتقيان*بينهما برزخ لايبغيان)المقصود الأنهار والبحار العذب والمالح لايطغى بعضهم على بعض أي لايختلطان فرق الله جل وعلا مابين مجرى البحار ومجرى الأنهار وهذا الذي ذكره الله في الرحمن بينه جل وعلا في سورة الفرقان قال تبارك وتعالى(وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا)أي مانعا وهذا كله من دلائل كمال قدرته ورحمته تبارك وتعالى لعباده ثم ذكر الله جل وعلا بعد ذلك القضية التي لا مفر منها وهي قضية الموت وأن هؤلاء الخلق أجمعين كلهم يموت (إنك ميت وإنهم ميتون)(كل نفس ذائقة الموت)والله جل وعلا أذل بالموت القياصره والملوك والأكاسره والأمراء والأغنياء والجبابره والفقراء ولايسلم فيما نعلم من الموت أحد قال الله جل وعلا(كل من عليها فان*ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) ولاريب أن وجه ربنا تبارك وتعالى كما قلنا مرارا أعظم الوجوه وأكرمها وقد نعت الله وجه هنا جل وعلا بأنه ذو جلال وذو إكرام أي هو جل وعلا أجل من أن يعصى وأكرم من أن يخالف ولايلجأ إلى ذلك إلا من غلبت عليه الضلاله وظهرت عليه الشقاوه وحاد عن صراط الله المستقيم قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه (ألظوا)أي إلزموا(ألظوا بياذا الجلال والإكرام)أي في دعائكم أكثروا من قول ياذا الجلال والإكرام ووجه الله تبارك وتعالى يثبته أهل السنه له على مايليق بجلاله وعظمته دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنه وهو مقصد المؤمنين ومبتغى عباد الله الصالحين.(1/12)
قال الله عن الأخيار من عباده (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا*إنما نطعمكم لوجه الله لانريد منكم جزاء ولاشكور) وقال الله جل وعلا يحث نبيه ويأدبه (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي يريدون وجهه ولاتعد عيناك عنهم تريد زينة الحيوة الدنيا) ورؤية وجه الله الأكرم متحققة برحمة الله وإذنه للمؤمنين في جنة عدن كما قلنا مرارا إن الدنيا لاتطيب إلابذكر الله ولاتطيب الآخره إلابعفوالله ولاتطيب الجنة إلا برؤية وجه الله وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم في الصحيح أنه قال عليه الصلاة والسلام (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى منادي يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: وماهو ألم يثقل موازيننا ألم يبيض وجوهنا ألم يدخلنا الجنه ويجرنا من النار فيكشف الحجاب فيرون وجه ربهم تبارك وتعالى فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم هو أعظم ولا أجل من رؤية وجه الله) قال الله جل وعلا(وجوه يومئذ ناضره) أي أحاطت بها النضره من كل مكان ثم ذكر سبب أنها نضره قال (وجوه يومئذ ناضره*إلى ربها ناظره)أن تنظربعينيها التي يعطيها الله التمكين آنذاك أن ترى وجه العلي الأعلى جل جلاله "اللهم إنا نسألك لذة النضر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضره ولافتنة مضله".(1/13)
ثم ذكر الرب جل وعلا بعد هذه القضيه بعد أن قال (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام*فبأي ءالاء ربكما تكذبان) ذكر الله قضية هي حقيقة العبوديه قال: (يسئله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن) فمن كمال ربوبيته وكمال ألوهيته وكمال أسمائه وصفاته أنه مامن عبد في السماء ومامن عبد في الأرض إلاوهو فقير إلى الله جل وعلا كل الفقر ويسأل الله جل وعلا حوائجه ومقتضيات أمره سواء كان سألها بلسانه مقاله أو سألها بلسان حاله فكل الناس فقراء إلى الله تبارك وتعالى ترى الشاب لايعرف المسجد ولايعرف الصلاة فإذا أراد أن يدخل قاعة الإمتحان يجد نفسه دون أن يشعر مضطرا دون أن يدري يرفع بصره إلى السماء ويرفع يديه يعلم بالفطره أن هناك رب يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن. ولذلك الدعاء من أعظم العباده قال عليه الصلاة والسلام (الدعاء هو العباده) فالإنسان الذي يكثر من دعاء الرب جل وعلا وحده ويلجأ إليه جل وعلا في كل أمر يصير إليه هذا من دلال كمال محبة الله ودلال معرفة الله جل وعلا. كان موسى عليه السلام يستحيي أن يسأل الله بعض حاجته فأوحى الرب جل وعلا إليه (ياموسى سلني ملح عجينتك ياموسى سلني شأص نعلك ياموسى سلني... وسلني... فإن الله جل وعلا يحب أن يسأل)الرب تبارك وتعالى يحب أن يسأل.
لاتسألنَّ بُنَي آدم حاجةً
واسألِ الذي كنوزُه لاتنفدُ
فاللهُ يَغضب إن تركت سؤَالهُ
وبُنَي آدم إن سألته يغضبُ(1/14)
ولم أقل البيت بتمامه لكن المقصود أن المراد أن سؤال الرب جل وعلا من أعظم مامنه به عليك حتى جاء في الحديث أن الله يوحي لجبريل (ياجبريل أخر حاجت عبدي فإني أحب أن أسمع صوته) ومن ذلك السعيد الذي يحب الرب جل وعلا أن يسمع دعائه وخشوعه وتضرعه ومسكنته بين يدي ربه جل وعلا هذا من أعظم النعم وأجل العطايا ولكن بني آدم طبعوا على العجل طبعوا على حب الأشياء العاجله كما قال ربنا(خلق الإنسان من عجل) ثم قال الله جل وعلا (كل يوم هو في شأن) يغفر ذنبا،ويفرج كربا،يفك أسيرا،يغني فقيرا،يشفي مريضا،يطعم جائعا،إلى غير ذلك ممالايحصى ،يقيم دول ويذهب أخرى،يقيم ملكا،وينزع ملكا، يفعل تبارك وتعالى مايشاء .لكن هذا القول (كل يوم هو في شأن)الحسن أن تفهمه بالإيمان والقضاء والقدر.فإن الرب جل وعلا في أمور يبديها لافي أمور يبتدئها .(1/15)
جاء الوليد ابن عباده إلى أبيه عباده ابن الصامت رضي الله تعالىعنه وأرضاه وعباده في مرض الموت فقال الإبن: يا أبتي أوصني واجتهد لي أي ابحث لي عن وصية عظيمه فقال يابني: إنك لن تبلغ العلم لن تذق طعم الإيمان ولن تعرف حقيقة العلم حتى تؤمن بالقدر خيره وشره قال ياأبتي: وكيف أدري خيره من شره قال يابني: أن تعلم أن ماأصابك لم يكن ليخطئك وماأخطأك لم يكن ليصيبك ثم قال يابني: إنني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (إن الله أول ماخلق القلم ثم قال له اكتب فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامه) ثم قال له يابني: إنك إن مت على ذلك دخلت النار أي إن مت على غير الإيمان بالقدر خيره وشره والرضى بقضاء الله خيره وشره من أعظم مناقب الصالحين قال الله عنهم (فلنحيينه حياة طيبة) فالحياة الطيبه مدارها على الرضى بقضاء الله تبارك وتعالى وقدره ثم قال تبارك وتعالى (يمعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لاتنفذون إلابسلطان) هذه الآيه ربما توسع العلماء فيها كثيراًوالصواب إن شاء الله في تفسيرها أن يقال/ إن هذه الآيه تتكلم عن أهوال يوم الآخره وحتى تفقه معناها اعلم أن الناس يحشرون من القبور فيخرجون من القبور كما بينا (في سورة القمر) فإذا حشروا على الأرض البيضاء النقيه تشققت السموات قال الله جل وعلا(ويوم تشقق الساء بالغمام ونزل الملا ئكة تنزيلا ) فإذا رأى الكفار تشقق السماء وتنزل الملائكة أحاط بهم الخوف فإذا أحاط بهم الخوف فروا فإذا فروا ورأوا الملائكة على الجانبين رجعوا على ماهم عليه فالله يقول هنا"يا معشر الجن والإنس إن استطعتو أن تنفذوا"أي تخترقوا( من أقطار السموات والأرض فانفذوا) الأمر متروك لكم إن كان لديكم قدرة ثم قال جل وعلا:"لاتنفذون إلا بسلطان" أي بقوة وقدره تغلبون بها قهرنا وقدرتنا ومعلوم أن هذا من تعليق الأمر بالمحال لأنه لا أحد له قدره على الله.(1/16)
ودليل هذا التفسير من قول الله جل وعلا جاء على لسان العبد الصالح مؤمن آل فرعون (ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد* يوم تولون مدبرين) متى تولون مدبرين ؟ في يوم التناد ( مالكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد) هذا من شواهد تفسير الآية كما قلناه فهذا من تعليق الامر بالمحال. ثم قال الرب جل وعلا وأنا أختار من السورة قال جل وعلا"فيؤمئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جآن"يرد الإشكال هنا لطالب العلم ولمن يقرأ القرآن أن الله قال في هذه السورة"فيومئذ لايسئل عن ذنبه إنس ولا جآن"وقال تبارك وتعالى في سورة القصص :"ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون" فنفى تبارك وتعالى هنا السؤال وأثبت الله السؤال في مواطن أُخر قال الله جل وعلا "فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين"وقال جل وعلا"وقفوهم إنهم مسؤولون" وهذا وارد كثير في القرآن قال الله "وإذا المؤودة سئلت" والجواب عن هذا علمياً أن يقال:
قال بعض العلماء إن القيامة مواطن يسأل فيها ومواطن لايسأل وهذا وإن قال به بعض العلماء الأجلاء إلا إنه في ظننا بعيد والصواب إن شاء الله أن يقال إن السؤال قسمان :ـ
ـ قسم أثبته الله.
ـوقسم نفاه الله.(1/17)
فالقسم الذي أثبته الله هو سؤال التقريع والتوبيخ.أي يسأل الناس، لمافعلت هذا...أما السؤال المنفي" فيومئذ لايسئل عن ذنبه إنس ولا جآن"فهو سؤال الإستعلام والإستفهام أي لا يسأل الناس هل فعلتم أو لم تفعلوا لأن الله أعلم بما فعل الناس من أنفسهم. قال الله عز وجل:"أحصاه الله ونسوه"إذا تحرر من هذا أن هناك سؤال منفي وسؤال مثبت قد يأتي على هذا الأشكال إشكال آخر، أن يقال إذا كان السؤال المثبت هو سؤال التقريع والتوبيخ فكيف يسأل المرسلون وكيف تسأل المؤودة ؟ فالجواب عن هذا أن يقال إن سؤال المؤوده تقريع وتوبيخ لقاتلها وسؤال الرسل تقريع وتوبيخ لأممهم الذين كذبوا بهم.وبهذا يجتمع ما جاء في القرآن من نفي السؤال وماجاء في القرآن من إثبات السؤال.ثم قال الله جل وعلا بعد ذلك عن الجرمين"يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام"يعرفون من علامات معرفة المجرمين :ـ زرقة العيون قال الله جل وعلا"ونحشر المجرمين يومئذ زرقا"وهذا عند البلاغيين:إيجاز حذف ومعنى الآية ونحشر المجرمين يومئذ أعينهم زرقا(هذا إيجاز الحذف)كما قال الله جل وعلا"وءاتينا ثمود الناقة مبصرة"ليس المقصود أن الناقة ترى ،تبصر لكن المقصود :إيجاز الحذف والمعنى:"وءاتينا ثمود الناقة ءاية مبصرة"أي آية واضحة.(1/18)
هذا بعض مايعرف به المجرمون أما المؤمنون بماذا يعرفون؟ بالغر أثر الوضوء الغر والتحجيل الناجم عن أثر الوضوء وأنا أقول بعض مايعرف به الكفار وبعض ما يعرف به المؤمنين لأن الآيات لم تأت على سبيل الحصر(يعرف المجرمون بسيماهم)أي بعلاماتهم(فيؤخذ بالنواصي والأقدام)ثم قال جل وعلا(ولمن خاف مقام ربه جنتان*فبأى ءالاءربكما تكذبان) وهذه مر معنا بعض تفسيرها لكن نفسر إجمالا ذكر الله هنا أربع جنان وجعلهما قسمين، قال في الأولى (ولمن خاف مقام ربه جنتان) ثم قال بعدها(ومن دونهما جنتان) وهنا من دونهما يعني أقل منهما وليس في الجنة أقل يقال أقل منهما تأدبا تقول وليس في الجنة أقل أوليس في الجنة قليل.(1/19)
هاتان الجنتان أنت بنظرك في القرآن ماهو ظاهر يعقد النظرة قال عن الأولى(ذواتا أفنان) وقال في الثانيه (مدهامتان)مدهامتان أي أنهما خضروان تميلان إلى السواد أما ذواتا أفنان متنوعة الأفانين فأيهما أفضل؟ المتنوعه ثم قال جل وعلا في الأولى (فيهما عينان تجريان) وقال في الثانيه(فيهماعينان نضاختان)والجري جري الماء أعظم من كونه ينضخ ويفور شيئا يسيرا قال في الأولى (فيهما من كل فاكهة زوجان) وقال في الثانيه جل وعلا(فيهما فاكهة ونخل ورمان) في الأولى أطلق وفي الثانيه قيد وقال جل وعلا في الثانيه (فيهن خيرات حسان)وقال في الأولى (متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان)الجنى ماهو؟ الثمار جنى الجنتين المذكورتين وهذه تسمى ألف لام العهد (دان) بمعنى قريب بحيث أن الإنسان لايتكلف أيا كلفه حتى يصل إليها بل ورد أنه إذا قطفها جاءت أختها بدلا منها فلا يدري أهو قطفها أولا قال الله جل وعلا (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون) ثم ذكر الله بعض مامن به على أهل الجنه فقال (فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولاجان) قاصرات الطرف:ـ أفضل خصلة في المرأة أن يكون طرفها مقصورا على زوجها ولا تتشوف إلى غيره من الرجال، هذه أعظم خصلة في النساء وهذه لأنها أعظم خصلة في النساء يحبها الأزواج جميعا جعلها الله جل وعلا أول نعت للحور العين فقال(فيهن قاصرات الطرف)أي تقصر طرفها وعينها ورؤيتها وتشوفها على زوجها فقط ولا تتعداه إلى غيره (فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولاجان)وفي الآيه إشارة واضحه على أن مؤمن الجن يدخلون الجنه. على هذا ماوقع فيه النساء بعض النساء اليوم عياذا بالله من كثرة النظر الناجم عن كثرة الخروج إما نظر إلى الشاشات إذا كن في البيوت أو نظر إلى الرجال إذا كن في الأسواق أو في دور الملاهي أوماشابه ذلك...(1/20)
هذا إثم ومعصيه وفي نفس الوقت منقصة في المرأه في حيائها ومنقصة في دينها ومنقصة في تشوف الرجال إليها فإن الرجل الحر الأبي عادة لايمكن أن يتعلق قلبه بإمرأة فيها هذا الوصف ولو وافقها في زمن غفلته فإنه لايمكن أن يقبلها في زمن أوبته ويقظته وإدراكه وهذا ظاهر لكل من يعقل العلاقه بين الرجال والنساء.ثم قال جل وعلا في الأولى(هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) وهذا من قواعد القرآن وقد أفرد لها العلامه ابن سعدي قاعدة خاصه في كتابه" القواعد الحسان في فهم القرآن" أو كلمة نحوها... وهوأن القرآن قد دل على أن الجزاء من جنس العمل فسر الإحسان هنا بأنه لاإله إلا الله وفسر بأنه كل عمل صالح والأفضل أن يفسر بأن المقصود به الإيمان والعمل الصالح جزاءه الإحسان من الله وأعظم إحسان من الله الجنه وأعظم مافي الجنه رؤية وجه رب العالمين تبارك وتعالى، ثم ختم الله جل وعلا هذه السورة الكريمة بقوله (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام)وقد مر معنا في دروس سابقة أن (تبارك)فعل جامد لايتصرف لايأتي منه مضارع ولا يأتي منه أمر وأعظم مافيه أنه لايقال لأحد غير الله تبارك كائنا من كان هذا من الأفعال الخاصه بالتعامل والنعت للرب العظيم جل جلاله (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام) بدأها الله بإسم عظيم هو" الرحمن" وختمها بوصف عظيم (تبارك اسم ربك ذى الجلال والإكرام)هذا ماتيسر إيراده وتهيأ إعداده سائلين الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم العمل بما نقول.(1/21)
(تأملات في سورة الطور)
الحمد الله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعاراً ودثاراً ولواء أهل التقوى ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله .صفيه من خلقه، وأمينه على وحيه . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .......أمابعد .أيها الأخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات هذا هو اللقاء الثاني في هذه الدورة العلميه نٍسأل الله جل وعلا أن يبارك فيها وفيما يلقى فيها من دروس نافعه وهذا اللقاء خاص اليوم بتأملات في سورة الطور وهي سورة مكيه تناولت أصول العقيده الثلاث .....
ـ الوحدانيه
ـ إثبات الرساله
ـ البعث والجزاء(1/1)
وهذه السوره السورة بدأت بقسم على صدق البعث والجزاء وانتهت بالأمر لنبينا صلى الله عليه وسلم بأن يصبر وأن يقرن ذلك الصبر بالتسبيح كما أن هذه السوره الكريمه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بها في صلاة المغرب كما في حديث جبير ابن مطعم رضي الله تعالى عنه وأرضاه لما قدم المدينه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فسمع النبي علية الصلاة والسلام يقرأ بها أي بسورة الطور في صلاة المغرب فكأنما كاد أن ينصدع قلبه كما أخبر بعد ذلك رضي الله عنه وأرضاه أما تفسيرها فإننا نقول ومن الله نستمد العون نستعدفع نقمته ونستجدي رحمته قال ربنا جل جلاله (والطور* وكتاب مسطور *في رق منشور * والبيت المعمور *والسقف المرفوع *والبحر المسجور *إن عذاب ربك لواقع *ماله من دافع )هذا قسم من الله جل وعلا كما مر معنا في ليلة أمس في قسم الله تبارك وتعالى ببعض مخلوقاته فأقسم ربناجل وعلا بالأمس في سورة الذاريات"بالذاريات" وأتبعها بقسم هذه الألف واللام في الطور إما أن تكون للجنس. أخروفي هذه السورة يقسم الله جل وعلا بالطور والطور أيها الأخ المؤمن في الأصل في اللغه هو الجبل الذي فيه نبت وشجر يسمى طور فكل شجر أنبت فهو طور وكل شجر لم ينبت فليس بطور لكن وإما أن تكون للعهد فإذا قلنا إنها للجنس فشاملة للجميع الجبال التي عليها نبت عليها شجر وإن قلنا إنها للعهد فإن المعهود هنا معهود ذهني وليس معهود لفظي ولماذا قلنا ليس معهودا لفظيا؟ لأنه ليس قبل هذه الآيه شيء . وإنما هو معهود ذهني مستقر في الأذهان والمعهود الذهني المستقر في الأذهان المتعلق بالطور هو الجبل الذي كلم الله جل وعلا عنده عبده ونبيه وصفيه موسى ابن عمران عليه السلام.(1/2)
قال الله جل وعلا (وناديناه من جانب الطور الأيمن*وقربناه نجيا) وقال الله تبارك وتعالى (وماكنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسي الأمر) وقال تبارك وتعالى في ءايات أخر سماه الله جل وعلا البقعه المباركه وسماه الله تبارك وتعالى الوادي الذي فيه هذا الجبل قال الله جل وعلا (واخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى ) هذا كله إخبار بأن الأرض التي فيها الجبل أرض مقدسه وهي طور سيناء وأن الجبل نفسه جبل مبارك كما أخبر الله جل وعلا لأن عند هذا الجبل نزل الوحي على رسول من أولي العزم من الرسل هو موسى ابن عمران وكلمه الله جل وعلا ونال موسى لذلك المكان المبارك مانال من فيض الله جل وعلا ورحمته وبركاته على ذلك النبي والصفي والكريم صلوات الله وسلامه عليه... إذاً يتحرر أن الطور في قول أكثر العلماء المقصود به هنا/ الجبل الذي كلم الله عنده موسى فهذا القسم الأول .. ثم قال جل وعلا (وكتاب مسطور* في رق منشور) جاءت كتاب منكره نكره فليست معرفه حتى نقول هل هي للعهد أو نقول هل هي للجنس لذلك اختلف العلماء رحمهم الله في المقصود بالكتاب هنا وأظهر الأقوال ينصرف إلى قولين .
القول الأول :ـ قول أن المقصود بالكتاب اللوح المحفوظ .(1/3)
القول الثاني :ـ هو الأشهر أن المقصود به كتاب الله القرآن الكريم الذي بين أيدينا (وكتاب مسطور ) أي مكتوب سطِّّّّّّّّّّّّر بمعنى كتب (في رق منشور ) الرق بفتح الراء مايكتب عليه والأصل أنه في الغالب يؤخذ من الجلد وكل شيء كتبت عليه من الصحف أو الورق يسمى رق أما الرق بكسر الراء فهذه في العبوديه واللمك ويؤخذ ويكتب عند الفقهاء في قضية الرقيق وما أشبه ذلك. أما رق بمعنى شيء مكتوب وسواء قلنا إنه اللوح المحفوظ أوقلنا إنه القرآن الكريم كلاهما مكتوب كما هو معلوم أن الله أول ماخلق خلق القلم فقال له اكتب كما في الحديث الصحيح . والمقصود من هذا الأظهر أن المقسم به هنا هو كلام الله (وكتاب مسطور*في رق منشور) ثم قال جل وعلا(والبيت المعمور) وهذا القسم الثالث البيت المعمور: هو بيت في السماء السابعه على أظهر الأقوال.قال العلماء فيما نقل من آثار يعضد بعضها بعضا أن هذا البيت موازي على الكعبه لو سقط منه شيء سقط منه شيء على الكعبه والعلماء منهم من يقول إن البيت المعمور :ـ المقصود به هنا الكعبه نفسها لأنها تعمر بالطائفين والعباد والراكعين والساجدين وما يكون حولها لكن في هذا السياق نرجح أنه البيت المعمور في السماء السابعه.لأن البيت المعمور بهذا النص بهذه التسميه وردت في الحديث قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح في قضية الإسراء والمعراج (فإذا أنا برجل قد أسند ظهره إلى البيت المعمور) يقصد خليل الله إبراهيم،فلما ورد في السنه أن البيت المعمور هو بيت في السماء السابعه وجاء في أثر آخر أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يسبحون الله لا يعودون إليه إلى يوم القيامه. قلنا إن الأرجح أن يكون المقصود بالبيت المعمور هنا هو البيت الذي في السماء السابعه وقلنا ثمت رأي يقول أن البيت المعمور المقصود به الكعبه وكلا القولين وجيه لكن الأول فيما نعلم والله أعلم هو أرجح وهو قول أكثر المفسرين رحمهم الله .(1/4)
والذي يعنيننا أن الرب تبارك وتعالى لا رب غيره ولا إله سواه يعبد في الأرض ويعبد في السماء. وهذا معنى قول الله جل وعلا(وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض،وأنت إذا قرأت مثل هذه الآيات وعلمت أن الله يقسم بالبيت المعمور وأن هذا البيت يدخله كل يوم سبعون ألف ملك وأنه في السماء السابعه وأن الله جل وعلا يعبد تعلم يقينا أنه كم من عبد صالح غيرك يعبد الله لكن ليس لك ولا لغيرك إلا الله.فاالله جل وعلا غني عن كل خلقه بلا استثناء وكل خلقه بلا استثناء فقير إلى الله شاء أم أبى. فكل الخلق فقراء إلى ربهم تبارك وتعالى (ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد)وهذا الذي يتركه أثر القرآن إذا تلوناه وقرءناه في نفوسنا.(والسقف المرفوع) السقف المرفوع:ـ أظهر الأقوال أن المقصود به السماء وهي مرفوعة عن الأرض وقد زينها الله جل وعلا بالنجوم وقد مر معنا في دروس سابقه أن الله جعل لها أبواب وجعل لها طرائق وجعل لها خزنه. قال عليه الصلاة والسلام(وطئت السماء وحق لها أن تئط والله مامن موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله تعالى لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصعدات تجئرون إلى الله) جعلنا الله وإياكم ممن يخاف رغبا ورهبا.فالمقصود أن السقف المرفوع هو السماء وقد قال الله جل وعلا في آية أخرى(وجعلنا السماء سقفا محفوظا) والآيه إذا أردت أن تفسرها ووجدت لها قرائن تعضدها في كتاب الله فهذا دلاله وقرينه على أنك أقرب إلى الصواب لكننا لانجزم بشيء في الغالب إلا ماثبت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم أوأجمع عليه الصحابه أوأجمعت عليه الأمة جمعاء.((1/5)
والبحر المسجور)ثم أقسم الله تبارك وتعالى بخلق عظيم من خلقه هو البحر, والبحر من أعظم مخلوقات الله تبارك وتعالى بلاشك إذا رأه الرائي يتذكر عظيم قدرة الجبار تبارك وتعالى وقد نعت الله البحر هنا بأنه مسجور وكلمة مسجور تحتمل معنيين .
المعنى الأول:ـ أن يكون المملوء وهذا ظاهر المسجور بمعنى المملوء أي مملوء ماء وهذا ظاهر لاارتياب فيه.(1/6)
والمعنى الثاني:ـ أن يكون المسجور بمعنى الموقد الذي يشتعل نارا .فإذا اخترنا الرأي الثاني وقد اختاره كثير من العلماء يكون المعنى أنه مسجور متى؟ يوم القيامه لأنه الآن ليس بمسجور فيما نرى وقد قال الله جل وعلا(وإذا البحار سجرت) أي أوقدت وقول الله جل وعلا إذا البحار سجرت قرينه على أن المقصود بالبحرالمسجور/البحر الموقد. لكن قلنا لانجزم به. البحر الموقد،واللغة تحتمل المعنيين،والمقصود من هذا كله قسم من الرب تبارك وتعالى ببعض مخلوقاته جل وعلا ببيان أن البعث والجزاء حق وبيان على وجه الأخص أن ما وعد به الكفار من العذاب كائن لا محاله ولهذا كان كثير من العصاه يخوف بصدر سورة الطور . كان كثير من العصاه يخوف ويرقق قلبه ويدعى إلى الله بقراءة سورة الطور عليه لأن الله يقول (والطور*وكتاب مسطور*في رق منشور*والبيت المعمور*والسقف المرفوع* والبحر المسجور*إن عذاب ربك لواقع*ماله من دافع) فأي أحد يعصي الله جل وعلا لن يحول بينه وبين عذاب الله شيء إلا أن تتداركه رحمة الرب تبارك وتعالى .ولذلك جبير ابن مطعم هذا لم يكن مسلما كان قرشيا كافرا في أول الأمر فلما قدم إلى المدينه للنظر في أسارى بدر والتفاوض دخل المدينه فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور والنبي عليه الصلاة والسلام أندى الناس صوتا بقراءة القرآن فلما سمعه يقرأ القرآن فاجتمع صوت النبي مع مايتلوه فلما قال:(إن عذاب ربك لواقع) قال خفت أن ينصدع قلبي وءامنت خوفا من أن يقع علي العذاب والمؤمن يعلم أن وعد الله حق فمن عصى الله يبقى في خوف إذا كان الله نعت المؤمنين بأنهم خائفون من ربهم فما بالك بالعصاه أعاذنا الله وإياكم من ذلك كله .(إن عذاب ربك لواقع* ماله من دافع) والعصاه يوم القيامه لا يمكن أن يدفع عنهم عذاب الله جل وعلا أحد كائنا من كان لا شفيع ولا قريب ولا مال ولا ذو سلطان مماهو مقرر شرعا لايكاد يجهله مؤمن.((1/7)
إن عذاب ربك لواقع*ماله من دافع)متى يكون هذا؟قال الله بعدها والقرآن محكم ءاياته يمهد بعضها لبعض قال الله جل وعلا(يوم تمور السماء مورا*وتسير الجبال سيرا)تمور السماء:ـ تضطرب...تموج...تتحرك...والسماء تأخذ طبقات ثلاث في يوم القيامه .أول الأمر:ـ تضطرب،تتحرك،ثم بعد ذلك يموج بعضها في بعض ثم بعد ذلك تتبدل كما قال الله جل وعلا (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات) وكذلك الجبال فإنها أول الأمر تسير كما يسير السحاب قال الله جل وعلا (وترى الجبال تحسبها جامده وهي تمر مر السحاب)في الحاله الثانيه:ـ يتغير لونها أخبر الله جل وعلا أنها تصبح كالعهن المنفوش ثم بعد ذلك تصبح منبثه كما قال الله جل وعلا (فكانت هباء منبثا)تضمحل تنتهي تدك كما قال تبارك وتعالى (ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا*فيذرها قاعا صفصفا* لاترى فيها عوجا ولاأمتا) وهذا كله هذه الأحداث تقديم بين يدي يوم عظيم يوم لايوم من جنسه مثله أبدا يجيء فيه الجبارجل جلاله مجيئا يليق بجلاله وعظمته ويحشر الناس على أرض بيضاء نقيه لم يعص الله جل وعلا فيها طرفة عين ويخرج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلا بهما غير ممولين لا يملكون من متاع الدنيا شيء يلجمهم العرق.. تدنوا منهم الشمس، ويزدحم بعضهم من بعض، ومنهم من خصه الله بأن يظله الله تحت ظل عرشه جعلني الله وإياكم من أهلها.(1/8)
ذلك كله أخبر الله جل وعلا عنه بالتمهيد الذي كان ينكره المشركون (يوم تمور السماء مورا*وتسير الجبال سيراً) ثم أخبر الله جل وعلا في ءايات متتابعة أن الويل لأهل التكذيب وأنهم يساقون إلى جهنم في ءايات ظاهرة البيان حتى قال الله جل وعلا في سلوب تهكم بهم "أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون"والحق أنه ليس بسحر وهم يبصرون فلما انتفى الاثنان بقي الثالث وهو أنهم مايرونه حق عندما يواجه الكفارالنار يوم القيامة يقال لهم "أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون"وكلا الأمرين منتف فلا النار سحر ولا هم لايبصرون بل يبصرون النار ولذلك بقي الأمر الثالث وأنهم يبصرون النار عياذاً بالله .فيصيبهم من الكرب مالله به عليم حفظنا الله وإياكم وأجارنا من حرها وشررها ثم يقال لهم:"اصلوها"أي ذوقوا حرها "فاصبروا أولاتصبروا سواء عليكم إنما تجزون ماكنتم تعملون"واستوى الصبر و الجزع هنا لأنه قد تقرر عقلا ونقلا وشرعاً أن الإنسان إذا ابتلي بشيء فهو إما أن يصبر وإما أن يجزع، فإذا جزع خسرالعاقبه وإذا صبر نال العاقبه نال عاقبة الخير هذا إذا كان مؤمناً وإن كنا كافراً فإنه إذا جزع خسر وإذا صبر فإن صبره يهون عليه الأمر حتى إن أعداءه لايستطعيون أن يشمتوابه إذا كان صابراً لأنهم يرون أن هذا الكرب لم يغير فيه ولأن لهذا الصبر إذا تحلى به الإنسان مؤمناً أوكافر يعينه على قهر ما أصابه من بلاء ولو نسبياً. أصبح الصبر ذا فضل على الجزع لكن يوم القيامه إذا دخل أولئك النار فالصبر والجزع بالنسبة لهم سواء فلاهم إن جزعوا يخرجون ولاهم إن صبروا يخرجون ولاهم إن جزعوا يخفف عنهم العذاب ولا إن صبروا يخفف عنهم العذاب ولذلك قال الله عنهم في آيه أخرى (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص) مايوجد مفر... مايوجد مخرج ...(1/9)
لايوجد لهم ملجأ، فالصبر والجزع يستويان في نار جهنم أعاذنا الله وإياكم منها ثم ذكر الله تبارك وتعالى بعدها مايكون لأهل الطاعه والنعيم حتى قال فيما قال ربنا جل وعلا قال ( والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتنا هم من عملهم من شىء كل امرئ بما كسب رهين ) للعلماء رحمهم الله في معنى هذه الآيه قولان.......(1/10)
القول الأول :ـ وهو الأظهر وعليه الجمهور أن يكون المعنى أن الله جل وعلا يكرم من علت درجاتهم من أهل الجنة بأن يلحق بهم من ذريتهم من قلت درجته عنهم فيرفع الله درجة الأدنى- وليس في الجنة دانٍ- إلى درجة الأعلى لتقرعينه دون أن يبخس من درجة الأعلى شيء فلو أن إنساناً دخل هو وأبنائه الجنة وكانت درجة الوالد أعلى من درجة الولد فإن الله يرفع الولد إلى مقام أبيه لتقرعين الوالد بولده دون أن يبخس شيء من حق الوالد. قال الله (وما ألتنهم من عملهم من شيء ) والعكس إذا كان الابن في الأعلى والأب في الأدنى هذا القول الأول وهو الأظهر. القول الثاني :ـ أن معنى الآيه أن من المؤمنين من كان لهم أبناء ماتوا قبل البلوغ فليس لهم أعمال إلا الإيمان فلتقربهم أعين والديهم يرفعون إلى درجة أبائهم وأمهاتهم وليس القولين بعضهم عن بعض ببعيد ويمكن أن تحتوي الأيه كلا المعنيين ..(1/11)
والذي نريد أن نصل إليه إن من أعظم السعاده أن تدخل أنت وأهلك الجنة أنت ومن تحبهم في الدنيا وإن الله جل وعلا ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب وإنما هي الأعمال الرجل وزوجته وأبناءه وأمه وأبوه وإخوانه وإخوته وعماته وخالاته ومن حوله إذا كان بعضهم يحب بعضاً ويتمنوا أن يكونوا مجتمعين في الجنة كماهم مجتمعون في الدنيا فإن من أعظم ماينال به جميعاً تقوى الرب تبارك وتعالى فالذي يسعى في حيه أو في أسرته أوفي عائلته أو في مجتمعه الخاص يسعى لهدا يتهم إنما يسعى حقيقة لأن يجتمع بهم في الجنة ولقد قال الله (قوا أنفسكم وأهليكم نارا) فكون الإنسان يجهد أولاً في نجاة نفسه ثم في نجاة من يحب هذا من أعظم القربات التي يتوصل بها إلى رحمة الرب تبارك وتعالى (والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان الحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ) بعض العلماء يقول تقف هنا وتأتي ءايه (كل امرىء بما كسب رهين ) قال بعضهم هذه "كل امرئ بما كسب رهين" ليست خاصة بأهل الإيمان وإنما المقصود بها أهل الكفر ومعنى الآيه عندهم أي عند من قال هذا من العلماء قالوا: إن الإنسان قد يقرأ هذه الأيه فيتوهم أن مايجري من أحكام على أهل الجنه يجري على النار فقول الرب تبارك وتعالى (كل امرئ بما كسب رهين ) يدفع هذا الوهم والمعنى أن أهل الجنه لايبخسون شيئاً لكن ينالهم فضل الله فقد يعطى رجل من أهل الجنه مالا يستحقه بعمله كأن يرفع الولد إلى منزلة والده أويرفع الوالد إلى منزلة ولده لكن في النار لايجري هذا الحكم فلايعذب أحد إلا بمقدار مايستحق وهذا معنى قول الله (كل امرئ بما كسب رهين ) أي مرتهن بعمله، وقالوا إن الرهن لايأتي للمؤمنين والدليل أن الله جل وعلا قال (كل نفس بما كسبت رهينه * إلا أصحاب اليمين *في جنات يتسآءلون) وأياً كان المعنى فإنه معناً قوي يقصد به أن هذه التغير أريد به دفع الوهم (كل امرئ بما كسب رهين ) ثم قال الرب تبارك وتعالى عن أهل(1/12)
جنته ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون*قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين*فمن الله علينا و وقنا عذاب السموم*إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم) هذا يخبر الله فيه أن أهل الجنة يتذاكرون مجالسهم التي كانت في الدنيا وإنني أسأل الله بكمال جماله وعز جلاله أن يجعلنا وإياكم ممن يتذكر هذا المجلس في جنات النعيم فالله يقول (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) مؤمنون قد كساهم الله جل وعلا أعظم الحلل وأنزلهم الله جل وعلا أجل المنازل وأفاء الله تبارك وتعالى عليهم من رحمته ودفع الله جل وعلا عنهم كل نقمته يتسابقون بعضهم إلى بعض يتجاورون... يتخاطبون... فإذا جلسوا في مجلس لا لغو فيه ولا تأثيم يتذاكرون برحمة من الله وفضل مامنَّ الله به عليهم في الدنيا فنقل الله جل وعلا وهو أصدق القائلين نقل كلامهم الذي سيكون يوم القيامه جعلني الله وإيكم منهم فقال عنهم (وأقبل بعضهم ) وهذا إقبال فرح (على بعض يتساءلون) فمما تذاكروه في الدنيا ( قالوا إنا كنا ) في الماضي ( إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ) خائفين... وجلين...(1/13)
من عذاب الله تبارك وتعالى والله جل وعلا لايأمن مكره إلا القوم الخاسرون والله جل وعلا لايقنط من رحمته إلا الضالون فالمؤمن/ الخوف والرجاء بالنسبة له كجناح الطائر والله جل وعلا لو أوكلنا إلى أعمالنا لهلكنا ولكننا نسأل الله أن يكلنا إلى رحمته وفضله وعفوه فإن الدنيا لاتطيب إلا بذكره جل وعلا، الدنيا لاتطيب إلابذكره والأخرة لاتطيب إلابعفوه والجنه لاتطيب إلا برؤيته سبحانه وتعالى،فالله يقول عنهم أنهم يقولون: ( إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين) هذا الخوف الذي يعتريك ويتعري قلبك ويعتري قلب أختك المؤمنه في الدنيا هو سبب الأ من يوم القيامه أما من مشى ،انكب على ظهره ومشى يبحث عن الشهوات، وينقلب في الشبهات ويؤذي هذا، ويحارب هذا ويكفر بالله ويخرج من بار إلى بار، ومن حان إلى حانه ،ومن شاطئ عراة، ومن قناة إلى قناة ،ومن فضائيات إلى فضائيات إلى غيرها... يتلبس بالزنا واللواط والفواحش وغيبة العلماء أو غيبة الحكام أو أذية المسلمين أو أخذ الرشوه أو السرقه أو الزنا أو ما شابه ذلك من المعاصي ولا يخشى أحدا ولا يخاف ولا يرهب ومطمئن أن أحدا لن يتسلط عليه هذا لايمكن أن يأمن عند الرب تبارك وتعالى. الربيع ابن خثيم رضي الله عنه وقام الليل كله يقوم الليل يتلوا آيه واحده (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) وثبت في حديث صحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قام ليلة واحده ليلة يقرأ آيه واحده من كتاب الله (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) ما زال نبينا صلى الله عليه وسلم يقرأها حتى قام الليل بها إلى أن طلع الفجر صلوات الله وسلامه عليه.(1/14)
فهذا الخوف الذي يملأ قلوبنا نفرح به لأن الخوف من الله جل وعلا أعظم وسائل نيل الأمن يوم القيامه قال سبحانه (ولمن خاف مقام ربه جنتان) وقال جل ذكره (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى) ثم ذكر الجنه ونعيمها ثم قال (ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد) أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن يخافه سرا وإعلانا وغيبا وشهاده (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون*قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين*فمن الله علينا...) رحمه منه وفضلا وإحسانا ليس لنا فيه نصيب (فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم) لماذا؟ (إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم) فدلت الآيه على أن الدعاء من أرجى الأعمال عند الرب تبارك وتعالى وكانت أم المؤمنين عائشه رضي الله عنها وعن أبيها وعن أمها تتأول القرآن فتدعوا فتقول:" اللهم قنا برحمتك عذاب السموم إنك أنت البر الرحيم. لأن الله قال عن أوليائه (فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم*إن كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم) لما فرغ الرب جل وعلا في هذه السورة الكريمه من ذكر إثبات التوحيد وذكر مآل البعث والنشور بدأ جل وعلا يدافع عن نبيه صلى الله عليه وسلم فالقضية هنا قضية إثبات الرساله فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون) وهذا من أعظم دلائل تناقض الكفار فالمجنون هو الذي لا يفكر أبدا والكاهن صنعة تحتاج إلى نوع من الذكاء وإلى دقه وفطنه وهي كفر بالله لكن لا يجتمع إنسان مجنون وفي النفس الوقت يكون كاهن يستحيل هذا. ومن تناقض أهل الكفر أنهم نعتوا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كاهن ومجنون وهاذان ضدان لا يمكن أن يجتمعان في إنسان واحد تقول إنسان بليد في الدراسه وأتى بالأول على زملائه هذا لايعقل على هذا الله جل وعلا يقول لنبيه فذكر... استمر في الدعوة إلى ربك والتذكير بآيات ربك...(1/15)
ولا تلتفت إلى ما يقول هؤلاء الكفار عنك (فما أنت بنعمة ربك) أي بفضل الله عليك ونعمته وإحسانه عليك ما أنت بكاهن ولا أنت بمجنون (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون) وكيف يكون كاهنا أو مجنونا من يدعوا إلى الواحد الأحد جل جلاله هذا يستحيل عقلا ونقلا (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) كل كلمة "ريب" وردت في القرآن بمعنى الشك إلا في هذه الآيه فهي بمعنى حوادث الدهر كل كلمة "ريب" وردت في القرآن فهي بمعنى الشك (الم*ذلك الكتاب لا ريب...) أي لا شك فيه ولكنها هنا بمعنى حوادث الدهر ومنه قول أبو ذؤيب الهذلي.
أَمِنَ المَنُون ورَيبِها تَتَفجعُ
والدهر ليس بُمعتبِ من يجزعُ
وقول الأعشى:ـ
أأرت رجلاً أعشى أَضربه
ريب المنونَ ودهرٌ مفندٌ خَبِلُ(1/16)
فريب هنا بمعنى: حوادث الدهر.جملة من القرشيين يقولون هذا شاعر والحل فيه أن نصبر عليه نتربص به حوادث الأيام إما أن يموت وإما أن يهلك وإما أن يصيبه تلف فيعجز كما عجز من قبله من الشعراء، هذا ظنهم والعياذ بالله. ثم أخذ الرب تبارك وتعالى يحاكم أهل الإشراك بإسلوب منطقي عقلي كما سيأتي وسنأخذه آية آيه لنبينه بجلاء (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون*قل تربصوا فإني معكم من المتربصين*أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون) بدأ الله الآن جل وعلا يسوق الإعتراضات ثم يذكرها وتفند واحدة واحدة.فيه فرق يأخي مابين العقل ومابين الذهن.لاتسألني أين العقل وأين الذهن أنا لست طبيب لكن يوجد شيء اسمه ذهن وشيء اسمه عقل،فالذهن الشيء الذي تفهم به،والعقل هو الشيء الذي تتصرف من خلاله.وسنأتي بمثال واضح.قد يأتي إنسان يقول له العامه ذهين،ذهين بمعنى ذكي فطين فيستطيع أن يجري عمليه سرقه دون أن يكتشفه أحد فهذا يدل على ذكائه أو على عقله؟على ذكائه.لكن لايدل على عقل لأنه لوكان عاقلا لم يعص الله ولم يرمي نفسه في المهالك . فيوجد من القرشيين منهم أذكياء لكن لايمكن أن يكون هناك كافر يوصف بأنهم عاقل يستحيل ،لأنه من أعظم دلائل عدم عقله أنه كافر بالله.ولوكان له عقل لآمن بالله . فقد يكون كافر ذكيا فطنا كمن يصنع قنبله ،يصنع طائره... لكن لا يوصف بأنه عاقل .لكن لايمكن أن يوصف شخص كفر بالله وأنكر وجود الله يوصف بأنه عاقل هذا يستحيل أبدا.لأن العقل يدل على الرب تبارك وتعالى .فالله يقول هنا (أم تأمرهم أحلامهم بهذا) أحلام هنا بمعنى عقول .ومنه قول حسان رضي الله عنه وأرضاه
لابأس بالقوم من طول ومن عظم
جسم البغال وأحلام العصافير
أحلام العصافير:ـ أي عقول العصافير.(1/17)
فالله يقول إن كانت عقولهم تأمرهم بهذا فبئس العقل عقلهم إن كانوا يجعلون من يؤمن بالله واليوم الآخر ويدعوا إلى التوحيد شاعرا أو كاهنا أو مجنون (أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون) قيل (أم)هنا بمعنى(بل) يعني(بل هم قوم طاغون) طغوا وتجاوزالحد فيما يقولونه . ثم قال جل وعلا (أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون) (أم يقولون تقوله) معناها:ـ أمامهم خيار آخر أن يقولوا إن هذا الحديث الذي جئت به يامحمد صلى الله عليه وسلم أنت أتيت به من نفسك فيكون الرد عليهم إن كان هذا القول جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم من عنده فأنتم أبناء عمومه كلكم عرب كلكم فصحاء بلغاء فإن كنتم تزعمون أن محمدا جاء به من عنده فأتوا أنتم بمثله من عندكم.ولذلك قال جل وعلا(أم يقولون تقوله بل لايؤمنون*فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) لوكان جهدا بشريا لأمكنكم أن تأتوا بمثله (فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) بقي ذكر الله خيارا آخر قال الله عندما ينكرون عليك أنك تقول لهم أن الله لارب غيره ولاإله سواه فسألهم(أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) فإنه ليس ثمت إلاافتراضات ثلاث .أولاً:ـ أن يكونوا خلقوا من غير شيء .ثانيا:ـ أو أن يكونوا هم خلقوا أنفسهم.ثالثا:ـ أو أن يكون خلقهم خالق هو الله .فأنت اسألهم هل هم خلقوا أنفسهم؟ هم يعترفون القرشيون أنهم لم يخلقوا أنفسهم ويعترفون أنهم ليسوا وجدوا هكذا وجدوا أنفسهم في الأحياء والشوارع والطرقات والمدن.وإنما نشؤا عن خلق من بعد خلق من آباء وأمهات .إذا لم يبقى من حيث التقسيم إلا الثالث وهو أن الله جل وعلا خالقهم (أم خلقوا السماوات والأرض) معنى الآيه هل هم خلقوا السماوات والأرض؟ فإذا كانوا هم خلقوا السماوات والأرض لهم الحق أن يمنعوا النبوة منك لأنهم أصبحوا شركاء لله لكنهم هم يعترفون أنهم لم يخلقوا لا أرضا ولا سماء.((1/18)
أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون) ذكر الله افتراضاً بعده قال (أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون ) هل هم يملكون خزائن الله التي ينفق جل وعلا منها على عباده فيتسلط عليها فيمنعونك يامحمد ما أعطيناك من النبوة وهذا أيضاً ينكرونه هم يعلمون أنهم لايملكون خزائن الرب جل وعلا (أم هم المصيطرون) أي هل هم جبارون بحيث أنهم تسلطوا على رحمة الله فيصرفونها كيف يشاءون وهذا أيضاً غير واقع (أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين ) بقيت فرضية وهو أن يكونوا لديهم طريق لديهم سبب إلى السماء، فصعدوا إلى السماء فثبت لهم من الوحي الذي فوق أنك لست بنبي فلذلك ينكرون عليك الأمر(أم له البنت ولكم البنون ) أي أنهم هل الأمر كما يزعمون ؟ القرشيون نسبوا إلى الله البنات فرتكبوا بذلك محذورين....(1/19)
المحذور الأول:ـ أنهم نسبوا إلى الله الولد،والولد يطلق على الذكر والأنثى والله منزه عن الولد والمحذور الثاني:ـ أنهم مع إجرامهم وإفكهم نسبوا إلى الله الولد لم يردوا بأن ينسبوا إلى الله أفضل الولدين نسبوا إلى الله أدنى الصنفين فخصوا أنفسهم بالبنين وخصوا الله جل وعلا بالبنات فلهذا صار في الآية محذوران "أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون"أنت لاتطلب أجراًعلى دعوتك ولا على تبليغ رسالة الله حتى يصبح ذلك عائقاً لهم عن استجابة الدعوة إلى الله "أم عندهم الغيب"اطلعوا على اللوح المحفوظ فعلموا أنك لست بنبي وهذا أيضا محال "أم يريدون كيدا"هل يريد بذلك أن يكيدوا لك؟هذا إن فعلوه فإن الله يقول"ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله"ولذلك قال الله جل وعلا"أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون "وقد وقع هذا أنهم كادوا النبي فقتلوا يوم بدر."أم لهم إله غير الله"وهذه أجاب الله تبارك وتعالى عنها فنزه الله تبارك وتعالى ذاته العلية أن يكون له شريك أو أن يكون له ندا أوأن يكون له نظير أو أن يكون هناك إله يدبر الأمر ويصرفه غيره جل وعلا فقال تبارك وتعالى"أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون"والمؤمن لا يفزع قلبه لشيء إلا أعظم من فزعته من أحد يتخذ من دون الله تبارك وتعالى نداً ويدعى أو يرجى أو يهاب أو يخاف من غير الله أو شخص يتوسل إلى أحد يظن أن بيديه نفعا وضرا أو أن يكون في قلبك ناس ترجوهم تتمنى أن يكثروا سوادا أو جماهير أو محبين تجعلهم أحب إلى قلبك من حب ربك تبارك وتعالى إليك أو قوما تخاف بطشتهم أو همزهم أو لمزهم تخافهم أكثر من الله، المؤمن الحق ليس في قلبه أحد يهابه ويخافه ويرجوه ويأمن عليه ويعتمد عليه ويتوكل عليه ويؤمن به ويستعين به ويستغفره يرجوه لرحمته... يرجوه لرهبته...(1/20)
ويرجوه لرغبته غير ربه تبارك وتعالى، فالله لما ذكر هنا في رده على أهل الإشراك (أم لهم إله غير الله) لم يقل الله ليس لهم جاء بإجابة أعظم فقال الله تبارك وتعالى(سبحان الله عما يشركون) فنزه الله ذاته العليه أن يكون له شريك لارب غيره ولا إله سواه، ولهذا كان التوحيد من أعظم ماينجي العبد يوم القيامه فمن عظم توحيده عظمت نجاته يوم القيامه قال صلى الله عليه وسلم (إن الله سيخلص رجلا من أمتي يوم القيامه على رؤوس الخلائق ينشرله تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر فيقول له الرب أظلمك كتبتي الحافظون فيقول لا يا رب فيقول الله له أتنكر مما ترى شيئا فيقول لا يا رب فيقول الله جل وعلا إن لك عندنا بطاقه فيقول يارب فيها أشهد أن لاإله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فيقول يا رب وما تغني هذه البطاقه أمام هذه السجلات فتوضع البطاقه في كفه والسجلات في كفه قال صلى الله عليه وسلم فرجحت البطاقه وطاشت السجلات ولايثقل مع اسم الله جل وعلا شيء )وهذا عبد قال العلماء رغم معاصيه ملأ قلبه توحيدا لله وخوفا ورجاء ومحبتا منه جعلنا الله وإياكم ممن يملأ قلبه بتوحيد ربه تبارك وتعالى.بعد هذه القضايا التي أخبر عنها ربنا جل وعلا قال الله تعالى في ختام الآيه (وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم) من كتبت عليه الضلاله لايمكن أن يهتدي والشخص والعياذ بالله إذا طبع على العناد لايقبل الحق وإن كان جليا لأن من الناس من يسأل وهو يريد إجابة معينة قبل أن يسألك فإذا أجبته أنت بخلاف مايريد لم يقبلها فالله جل وعلا يقول عن أمثال هؤلاء (وإيرواكسفا) قطعة من العذاب نازله عليهم ساقطه من السماء ماذا يقولوا؟يخرجونها يؤلونها ميمنة وميسره يقولوا سحاب مركوم هذا سحاب تراكم بعضه على بعض فنزل إلى الأرض لأنهم طبعوا على العناد. ((1/21)
وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم )فقال الله لنبيه (فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون ) وهذه الآيه منسوخة بآية السيف في براءة. (يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ) كيدهم في الدنيا قد يغني عنهم شيئا بسيطا بأنهم يمتعون إلى حين إلى أن يأتي العذاب . لكن يوم القيامه قال الله (يوم لايغني عنهم كيدهم شيئا ولاهم ينصرون ) ثم قال سبحانه (وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك) هذه (دون) تحتمل أمرين.أولا:ـ زماني .ثانيا:ـ ونوعي. والآية تحتمل الأمرين لاتعارض بينهما زماني ونوعي . أما معنى زماني ونوعي .الله تكلم عن عذاب الآخره ثم قال (وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ) (دون ذلك) يعني قبل ذلك أي قبل يوم الآخره وأقل من ذلك أقل من عذاب؟ أقل من عذاب الآخره. متى يقع هذا؟ يقع زمنا قبل الموت وفي عذاب القبر ويقع نوعا أن تصيبهم الأوجاع والأسقام وتشريد المؤمنين لهم وعذاب القبر هذا كله يقع زمنا قبل القيامه وهو في نفس الوقت أقل من عذاب يوم القيامه (وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لايعلمون ) فلما أنهى الله جل وعلا دمغ حجج أهل الكفر. بشر نبيه وأمره بالاستعانة بأمرين قال له (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم*ومن اليل فسبحه وإدبار النجوم ) فأمر الله نبيه بأمرين حتى يعان على الدعوه ....
الأول منهما:ـ الصبر.(1/22)
والثاني:ـ التسبيح بحمد الله . فأما الصبر فإنه قلما أولا يمكن أن يدعوا أحد إلى الله حتى يؤذى فأمره الله جل وعلا باالصبر على مايناله من أذى المشركين وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم صابراً ولذلك عد من أول أولى العزم من الرسل الذين كانت لهم مواقف صبر غلبت على غيرهم من الأنبياء عليهم السلام جميعاً وهو عليه الصلاة والسلام أوذي فقال رحم الله أخي موسى أوذي أكثر من هذا فصبر وأراد الله أن يبين لنبيه قربه منه ونصرته إياه فقال (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا )ومعنى الأيه أي على منظر ومرأى من الله فإن الله يراك ويسمعك ويؤيدك وينصرك ويحفظك ويحرسك ويعينك ويوفقك. (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم * ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم ) ذكر الله ثلاثة مواضع ....
الموضع الأول:ـ إدبار النجوم ..
الموضع الثاني:ـ ومن الليل أي بعض الليل ..
الموضع الثالث:ـ وحين تقوم ..(1/23)
أما حين تقوم فاختلف العلماء فيها . فذهب ابن مسعود رضي الله عنه إلى عند ما تقوم من مجلسك .وبعضهم قال عند ما تقوم من النوم والذين قالوا عندما تقوم من النوم يؤيده ما روى البخارى في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال (من تعار من الليل ـ أي أوقظ إما بصوت أو بغيره قام من الليل يسميه الناس الأن أصابه قلق ـ من تعار من الليل فقال لاإله إلاالله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على شيء قدير الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولاحول ولاقوة إلا با لله ثم قال اللهم اغفرلي أودعى أستجيب له فإذا توضأ وصلى قلبت صلاته ) والحديث كما قلت في البخاري هذا معنى حين تقوم وقلنا ومن الليل وإدبار النجوم اختلف العلماء فيها وأظهر الأقوال أن القصود بها ركعتي الصبح القبليه التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهما ( ركعتا الفجرـ أي سنة الفجرـ خير من الدنيا وما فيها ) هذا أيها المؤمنون ماتهيأ إيراده وقوله حول سورة الطور نفعنا الله وإياكم بما قلناه وجعلنا الله وإياكم ممن يستمعوا القول فيتبعوا أحسنه..
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .(1/24)
تأملات في سورة الزخرف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشهدُ أن لا إله إلا هو وحدهُ لا شريك لهُ أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهُم لما خالفوه ولو شاء أن يُطيعُوهُ جميعاً لأطاعوه وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمداً عبدهُ ورسولهُ صلى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابهِ وعلى سائرِ من اقتفى أثرهُ واتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين*
أما بعد
في هذا اللقاء المُبارك سنشرعُ في تفسير سورة الزخرف وقبل أن نستفتح تفسيرها نُعرج إجمالاً على هذه السورة المباركة .
السورةُ مكية داخلةٌ فيما يُسمّى سور آل حم وسُور آل حم تُسمّى ديباج القرآن وسُميت بديباج القرآن لأنهُنّ حملن مواعظ ورقائق وأخبار وليس فيهنّ أحكام وكُلّهُنّ آل حم المبدوءة بغافر والمنتهية بالأحقاف بدأت بقول الله جل وعلا (حم ) ولهذا تُسمّى آل حم .
وسورة الزخرف هي إحدى هذهِ السور المُباركات قُلنا أنها سورةٌ مكية ، و الزخرف في اللُغة كمال الزينة والحُسن كمالُ الزينة والحُسن وهذهِ اللفظة المُباركة وردت في القرآن في مواضع أُخر :
// وردت في الإسراء ({أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} الإسراء 93).
// ووردت ({زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} الأنعام 112) أظُنّها في الإنعام .
// ووردت كذلك ({حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} يونس 24) .
فهذا الموضع الرابع لذكرها في القرآن وبها سُميت السورة .
قال الله جل وعلا في فاتحة السورة بسم الله الرحمن (حم )
وبيّنّا أن هذه فواتح القرآن وذكرنا أقوال العُلماء فيها في حلقاتٍ قد مضت .
قال ربُنا (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ)
هذا قسم والمُقسم به كلامُ الله جل وعلا و(الْمُبِينِ) الواضح البيّن .
سنقف إلى الآية الخامسة سُنُعرج على جملة من القضايا نبدأ بالأُولى :
قال اللهُ جل وعلا : (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ما الذي جعلناهُ قرآناً عربياً ؟ القرآن .(1/1)
تمسُك المُعتزلة بهذهِ الآية و أضرابها في أن القرآن مخلوق ، وليس التغافُل عن الرد على أهل الشُبهات مما يُردُ به شُبههُم ،، في مجالس العلم يُحرر الخطاب .
هم يقولون إنّ جعل في القرآن جاءت بمعنى خلق قال الله ({جَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } الأنعام 1) بمعنى خلق الظُلمات والنور .
وقال هُنا (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فيقولُ رؤساءُ المعتزلةِ وأئمتهم لماذا هذا الكبر هذا نصٌ صريحٌ في أنّ جعل بمعنى خلق ، وقُلنا إنّ الزمخشري لمّا ألّف تفسيرهُ قال في مُقدّمتهِ [ الحمدُ للهِ الذي خلق القرآن ] فقيل لهُ أن أحداً لن يقرأهُ فقال [ الحمدُ للهِ الذي جعل القرآن] باعتبار أن الخلق بمعنى الجعل عند المُعتزلة.
حتى يستقيم الأمر نُنيخ المطايا بهدوء .نأتي بنظائر ـ هذا منهجنا في التعليم ـ ثم نُطبق تلك النظائر على ما نحنُ فيهِ حتى يكون هُناك حياديةٌ في الطرح .
الأفعال أحياناً لا تظهر إلا من سياقها وتحتملُ أكثر من معنى ـ وأحبُ إلي أن لا تكتُب اليوم نحاول أن نفهم أنا كفيلٌ أن أُمليكُم بعد الدرس المهم أن تفهم ـ الله جل وعلا قال على لسان أهل النفاق ({ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} الحديد13 ) وكُلنا نحنُ والمعتزلة نفهم أن انظرونا هنا بمعنى تمهّلوا .
والفعلُ نفسهُ قال الله جل وعلا : ( { انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} الأنعام 99) تعدى بحرف الجر إلى فتغير المعنى لا يأتي أحدٌ ويقول إن نظر هنا بمعنى تمهّل وإنّما المعنى النظر بعين الباصرة.(1/2)
ويقولُ الرجلُ منّا نظرتُ في الأمر وليس المقصود أنني أبصرتهُ بعيني فقد يكون الأمر معنوي لكنني نظرتُ في الأمر معنى تدبّرتهُ وتأملتُهُ ومنهُ قول الله ({أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }الأعراف 185) أي يتدبروا ويتأملُ فاختلف المعنى مع أنّ الفعل واحد لاختلاف الاستعمال لكن هذا الاستعمال لابُد لهُ من ضوابط وقرائن تدلُ على كُل معنى.
فعلمنّا أنّ الفعل نظرَ لمّا كان لازماً أصبح بمعنى تمهّل ،، ولمّا تعدى بحرف الجر إلى أصبح بمعنى النظر بعين الباصرة ،، ولمّا تعدى بحرف الجرّ في أصبح النظر بعين البصيرة وهو التروي والتمهُل أو التفكُر في الشيء والتدبرُ فيهِ .
قال الله جل وعلا (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) الزخرف 13} أي ارتفعتُم .
وقال ربُنا (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء) أي انصرف وقصد .
ثم قال ربُنا ({وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} القصص 14) و لم يتعدى والأفعالُ متفقون نحنُ جميعاً على أن الفعل استوى في كُل آيةِ هنا بمعنى مختلفٍ عن الآخر ، والفعلُ جعل يُسمّى من أُمهات الأفعال ــ من أُمهات الأفعال أي التي تُستخدم في مواطن كثيرة مثل عَمِلَ ، فَعَلَ ، طفقَ ، وأخذَ ومنها جعلَ ــ . فنقول إن جَعَلَ في القرآن يأتي على معانٍ بحسب السياق مُستصحبين شيئاً لابُد منه وهو أنّا نفيء بالمُتشابهة إلى المُحكم ولا نفيءُ بالمُحكم إلى المُتشابهة .
فلّما نص الله جل وعلا في مواطن كثيرة على لفظ التنزيل ما كان لنا أن نفرّ عن لفظ التنزيل ونحنُ نجدُ معنىً لجعل في غير الخلق فنقول نعم جاءت جعلَ بمعنى خلق في القرآن قال الله (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} الأعراف189 ) وقال ( وخلق منها زوجها ) وهذا من المُترادف لأنُ لا يُمكن التبديل هنا جعل هنا بمعنى خلق.(1/3)
لكنّك تلاحظ ({وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ} الأنعام 1) ، (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) تعدى الفعل جعل إلى مفعول واحد فإذا تعدى الفعل جعل إلى مفعولٍ واحد فهو بمعنى خلق .
ويأتي جعل بمعنى التسمية قال الله جل وعلا ( وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ) أي سمّوهُم إناث أين الدليل ؟ الله يقول ({إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى }النجم27 ) فقول الله جل وعلا (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً) أي سمّوهم إناثاً .
فإذا تعدى إلى مفعولين أصبح لا يعني معنى الخلق وإنّما يعني معنى التصيير يعني صيرهُ الله جل وعلا يقول عن لسان العرب الفُصحاء في كتابهِ الفصيح قال عنهم (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً) تعدت لمفعولين آلهةً ، إلهً لأن واحداً صفة ({أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }ص5 ) ومعلومٌ أن القرشيين لم يريدوا أن يقولُوا أبداً أن النبي صلى الله عليه وسلم خلق ربهُ وخلق الآلهة هذا غير وارد أصلاً في الخطاب لأن الله أصلاً غير مخلوق فهو خالق .
والأمر الثاني : أن قُريش لم تزعُم أن النبي هو خالقُ آلهتُهم ، فليست جعلَ هنا بمعنى خلق واضح ليست جعل هنا بمعنى خلق إنّما بمعنى صيّر فالتصييرُ غيرُ الخلق قد يكون المُصير مخلوق وقد يكون غير مخلوق قد يكون مخلوقاً وقد يكون غير مخلوق (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً }الفرقان47) أي صيّرناهُ لباسا مع أنهُ في أصلهِ مخلوق لكنّها لوحدها لا تدلُ على أنهُ مخلوق لابُد من دليلٍ آخر واضح .
هُنا نقول لهُم ولمن سار على نهجهِم لأن المعتزلة تأثرت بها بعض الفرق في هذا المعنى نقول :
إنّ جعلَ هنا ليست بمعنى خلق لأمرين تأباهُ اللُغة تعدت إلى مفعولين ، والسياق القرآني يأباه .(1/4)
ثم إنّ القرآن في مواطن كثيرة ذكر الله جل وعلا فيها التنزيل والإنزال والنزول بعدة طرائق ({وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ }الإسراء105) ،،، ({تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }فصلت2) إلى غيرها من الآيات ({إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }الحجر9) وهذهِ المُحكمات لا يُمكن أن نهدمها جميعاً ليس هذهِ القاعدة علمية لفعلٍ يحتمل أن يكون معنى الخلق مع أنّنا بيّنا إذا تعدى إلى مفعولين لا يُمكن أن يكون بمعنى الخلق واضح ــ هذه مهمة ـ (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
ثم قال الله وأنا قُلت أقف على القضايا (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)
الأصل في كلمة أُم تأتي أيُها المُبارك بإزاء الأب بإزاء الأب هذا الأصل إذاً لفظة خرجت عن أصلها وأدت إلى شيءٍ آخر ودلت قرينة على أنّنا لا نُريد الأصل هذا ما يُسمّيه البلاغيُون استعارة هذا ما يُسمّيه البلاغيُن استعارة.
سأُقرب المعنى حفاظاً على فهم المُشاهدين . عندما تذهب إلى رجُلٍ لديهِ فرح وتُشاهد هذا الفرح بجوار دارك لا نقول في قصر بجوار دارك ثم أعجبك ذالك الفرش الذي أنت جالسٌ عليه فظننت أن هذا الفرش ملكٌ لصاحب الدار ثم لم تلبث أن قلّبت الفراش فوجدت عليه علامةً أو ختماً أو أمارةً مكتوبٌ عليها مفروشات كذا وكذا أو محلات كذا وكذا لتأجير ماذا تفهم؟ تفهم أن هذا الفرش ماذا ؟ مُستعار ليس لصاحب الدار إنّما استعارة من صاحبة الأصلي ما القرينة ؟ تلك الورقة أو الختم أو الإشارة أو العلامة وضحٌ هذا .
كذلك في اللُغة الكلمة يكون لها أصل فإذا وجدناها استخدمت استخداماً غير الذي هو أصلُها وجدنا من خلال القرينة ما يدلُ على أنها استعارة ثم عاد تأتي استعارة تصريحية ، استعارة تبعية استعارة ، مكنية هذا بابٌ آخر لكن هذا نبدأ تدريجياً هذا معنى الاستعارة .(1/5)
فالأصلُ في كلمة (أُمِّ) :هي التي تلد. قال الله: ({فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ} طه40)
هل هناك استعار ة هنا ؟ ليست هناك استعارة, لأن أم موسى هي التي ولدته، هي التي ولدته.
لكن قول الله عز وجل (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ) المقصود أم الكتاب: أي أصل الكتب, أصل ما خط في اللوح المحفوظ, (أُمِّ الْكِتَابِ) اللوح المحفوظ , فهذا ما يسمى بالاستعارة, يسمى بالاستعارة .
قد تقولُ بمعنى يعني واسع هنا ولا أُريدُ أن أدخُل في حولها إشكال المهم المعنى,وأظنه ابن قُدامه أو ابن قُتيبه ألتبس علي الآن لأنهُ من الحفظ القديم يُعبر تعبيرات, يقول يعني: لا عبرة بالمصطلح الذي يتنازع عليه الناس, هذا كلام جيد، العبرة المعنى.
فكلمة أم في القرآن وردت على عدة معانٍ:
• وردت بمعنى الوالدة,( فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ ).
• ووردت بمعنى المرضعة, ({وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} النساء 23), وتسمى في اللغة المرضعة ظئر, تسمى ظئر . تسمى ماذا ؟ الأم المرضعة تسمى: ظئر. فنعود فنقول: وردت بمعنى: المرضعة.
• ووردت بمعنى: المآل, قال الله جل وعلا: ({فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} القارعة 9), أي مآله أن يهوي في جهنم.
وورد في معان عدة: منها قول الله جل وهلا هنا: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ ( وأطلقت على مكة أنها أم القرى.
وفي بمعنى الأصل ومنه قول الله تعالى في آل عمران: (أُمِّ الْكِتَابِ) أي أصل الكتاب. وغير ذلك مما هو مشهور.
الذي يعنينا أن (أُمِّ ) هنا اُستعير لها المعنى. (أُمِّ الْكِتَابِ) هو اللوح المحفوظ ، والفرق بينه وبين غيره من الكتب ما هو ؟
أن ما في أم الكتاب لا يمكن أن يبدل أعيد:ما في أم الكتاب لا يمكن أن يبدل,(1/6)
قال الله تعالى في سورة الرعد: ({يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ }الرعد39 ) – جل وعلا) – أُمُّ الْكِتَابِ), فقول الله تبارك وتعالى: ({يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ }) ما يمحى و يثبت خارج أم الكتاب إنما يمحى ويثبت ليطابق أم الكتاب. ( وَإِنَّهُ) الهاء في (إِنَّهُ ) عائدة على من ؟ على القرآن.
(فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)
أي: مذكور بالعلو والحكمة, ورفيع و رفيع المقام ولا شك هذا أصل القرآن
ثم قال الله: (أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ)
هذهِ نختم بها. الهمزة للاستفهام
والضرب في اللغة يُطلق على معانٍ:
• يطلق على الصنف من الأشياء, الصنف والنوع من الأشياء.
• ويطلق على الرجل الخفيف اللحم. الرجل الخفيف اللحم, قال طَرَفة:
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونني *** خشاش كرأس الحية المتوقد
أنا الرجل الضرب – أي الرجل الخفيف البدن ،، هذا من حيث اللغة.
أما في القرآن فقد ورد الضرب على معانٍ عدة:
• ورد بمعنى السير في الأرض, قال الله جل وعلا: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ ) أي يسيرون في الأرض (يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ) الزمر 20} .
وقال: ({لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ} البقرة 273) أي لا يستطيعون سيرا في الأرض.
• وجاء الضرب بمعنى الضرب المعروف سواء كان بالسيف كقوله جل وعلا : ({فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ }الأنفال12) ويأتي بمعنى الضرب باليد كقوله جل وعلا: ( فاضربوهن ) في حق في حق ماذا؟ في حق النساء.
أما قول الله جل وعلا: (أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ)
نحرر كلمة صفح : الصفح التغافل عن الشيء. إما كبرا: تقول لويت لفلان صفحة عنقي.،، أو أن يكون تجاهلاً بحيث يمر بك دون أن تدري عنه,.
أما الثاني فمنه قول الشاعر:(1/7)
تمر الصَّبا صفحاً بساكنة الغضا *//* و يصدع قلبي أن يهب هبوبها
قريبة عهد بالحبيب وإنما *//* هوى كل نفس حيث حل حبيبها
ماذا قصد؟ الصبا ريح معروفة, فيقول هذه الصبا تأتي من ديار من أحب, فتمر على بني قومي الذين أعيش معهم صفحا: أي يتغافلون عنها, ليس كبرا, لأنه لا يوجد كبر مع الرياح لكن لأنها لا تعنيهم, أما أنا – يتكلم عن نفسه – ويصدع قلبي أن يهب هبوبها. فهذا الصفح: هو الإعراض عن الشيء إما كبرا, وإما تغافلا.
(أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ )
اتفقوا على أن المعنى: ليس إعراضكم بسبب مقنع لأن نترك إنذاركم ،، ليس إعراضكم بسبب مقنع أن نترك إنذاركم. لكن اختلفوا في معنى الذكر:
** فذهب ابن عباس في رواية عنه وبعض العلماء إلى أن الذكر هنا المقصود به: ذكرُ العذاب, فيصبح المعنى: أفيعقل أن نترك عذابكم لمجرد أنكم أعرضتم عن ذكر الله!
** وقال آخرون إن الذكر هنا بمعنى الوعظ والإرشاد, وهذا الذي أُرجحه, فيصبح المعنى: أنه كيف يسوّغ لكم أن تطالبون بأن نترك وعظكم وإرشادكم وبيان الحق لكم بسبب أنكم قوم بسبب أنكم قوم معرضون.
وهذه الآية قريبة من قول الرب تبارك وتعالى: ({أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى }القيامة36) قريبة من قول الله جل وعلا: (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ). هذان المعنيان رجحنا الآخر منهما.
(أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ).
ثم قال الله: (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ{6} وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)
هذه (كَمْ) خبرية. وقد مرت معنا كثيرا. والمراد بها: التكثير(كَمْ ( هنا خبرية, وهي مضادة لـ (كَمْ ) الاستفهامية. ،، والفرق الجلي بينهما: أن الثانية تحتاج إلى جواب.(1/8)
الأولى – أي الاستفهامية – تحتاج إلى جواب, أما (كَمْ) الخبرية لا تحتاج إلى جواب.
قال الفرزدق يهجو جريرا:
كم عمة لك يا جرير وخالة *//* فدعاء قد حلبت عليَّ عشارِ
أراد الكثرة
(وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ)
(مِن) هنا: لبيان الجنس. (فِي الْأَوَّلِينَ ) أي في الأمم التي سبقت.
(وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) هذه الآية و أضرابها داخلةٌ في باب التسلية والتعزية لنبينا صلى الله عليه وسلم.
جملة نقول:
هذه هي فواتح سورة الزخرف, تحدثت عن صدق القرآن وأنه منزل من عند الله جل وعلا, وقد أجبنا في الحديث, في حديثنا عن مسائل عدة, منها قضية الأساسية العقدية وهي قضية قول من كذب أن القرآن مخلوق.
و المعتزلة- من باب الاستطراد- بعض أهل الفرق أخذوا عنهم شيئا مما تبنوه. والخوارج الأولون أقرب الناس إلى عقائد المعتزلة, فهم متفقون بأكثرهم على القول بخلق, بخلق القرآن, وبعض الخوارج الباقون في زماننا كذلك ما زالوا ينفون قضية أن الله يُرى يوم القيامة ويقولون بخلق القرآن, وأن مرتكب الكبيرة مخلد في النار.
أما المعتزلة فيقولون أنه في الدنيا بمنزلة بين المنزلتين, وفي هناك كتاب لأحد الخوارج الفرق المعاصرة تبنّى رأي الخوارج للسابقين اسمه: ( الحق الدامغ ) هذا الكتاب يقوم على ثلاثة مبادئ:
- إثبات أن القرآن مخلوق.
- وإثبات أن مرتكب الكبيرة كافر.
- وإثبات أن الله لا يُرى يوم لا يُرى يوم القيامة.
فأما الرد على أن القرآن مخلوق: حررنا كثيرا منه الآن.
وأما الرد على أن مرتكب الكبيرة تحت المشيئة الذي هو قول أهلُ السُنة هذا بيّناه في دروس سلفت, كذلك بيّنا قضية أن الله تبارك وتعالى يُرى يوم القيامة, ورددنا على ما يسمى بـ " لن "الزمخشرية.
هذه بعض ما يسر الله إعداده, وأعان الله على قوله حول فواتح سورة الزخرف.
نفعنا الله وإياكم بما نقول, وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه..(1/9)
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده, وأعان الله على قوله..
وصلى الله على محمد وعلى آله..
والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
تفريغ سورة الزخرف 2من الآية ( 6 ) إلى (18 )
بسم الله الرحمن الرحيم
أن الحمد لله نحمدهُ و نستعينه ونستغفرُه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اعترافا بفضله وإذعاناً لأمرهِ
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
نتفيأ في هذا اللقاء المبارك دوحة سورة الزخرف , وكنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى الآية الخامسة منها إلى قوله ((أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ)) اليوم بإذن الله تعالى نبدأ ونشرع مع قول ربنا جل وعلا ((وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ{6} وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون{7} فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ))
هذه الآيات تلونها الثلاثة مع بعضها البعض لارتباطها مع بعضها البعض .
النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بدعا من الرسل كانت رُسُل قبله كما قال الله ({قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ }الأحقاف9) وسنن الله جلا وعلا مع رسله التي آتها أقوامهم واحدة فأراد الله جلا وعلا في هذا المقطع من هذه السورة المباركة تسلية وتعزية نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال مخاطب إياه ( وكم ) وهي هنا خبرية ليست استفهامية المقصود بها الكثرة , وقد مر معنا أن كم تأتي خبرية وتأتي استفهامية وهي هنا خبرية لا تحتاج إلى جواب ، والفيصل في الفرق بينهما أن الخبرية لا تحتاج إلى جواب .
(((1/10)
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ )) في الأمم التي غبرت والقرون التي سلفت ((وَمَا يَأْتِيهِم )) وما هنا نافيه قطعا ((مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ))
أي تلك الأمم ((يَسْتَهْزِئُون)) أي يصدون دعوته ويردون رسالته ولا يؤمنون به .
وهذه الآيات ولله الحمد ظاهرة المعنى مندرجة تحت قول ابن عباس رضي الله عنهما (إن من القرآن ما يفهمه كل أحد ) .
فقال الله ((فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ))
فما قريش إذا ما قرنت بالأمم التي سلفت , والقرون التي غبرت وكلهم عند الله واحدة . لكن من باب إظهار ضعف القرشين , وأن الله جل وعلا جعل من قبلهم عبرة وعظة وأخبار وأحاديث وأقاصيص يتحدث بها الناس في مجالسهم بعد أن أهلكهم الله جلا وعلا .
قال ربنا ((وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون{7} فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ))
ثم قال الله جلا وعلا وهذا التفاتٌ في الكلام
((وَلَئِن سَأَلْتَهُم)) أي يا نبينا واللام هنا ممهدة للقسم.
) وَلَئِن سَأَلْتَهُم) هؤلاء الذين يجادلونك (مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) ظاهر الأمر والعلم عند الله أنهم سيقولون: خلقهن الله, لكن الله جل وعلا ذكر جوابهم بالمعنى لا باللفظ , ذكر جوابهم بالمعنى لا باللفظ, يبعد أن يقول القرشيون: (خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ), لكنهم معترفون بأن الله جل وعلا الخالق الرازق.
وقد مر معنا أن القرآن يقوم على إثبات أن الله جل وعلا وحده هو هو الخالق, وبمقتضى هذا الإثبات يجب ألا تُصرف العبادة لغيره تبارك وتعالى.
(وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (
ثم قال ربنا: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً)(1/11)
وهذا القول: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) صلة الاسم الموصول (الَّذِي), هذا من كلام الله, ليس من جواب ليس من جواب القرشيين, ليس من جواب القرشيين, وإنما حكا الله الجواب بالمعنى دون اللفظ في قوله سبحانه: (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) تمهيدا لما سيأتي بعدها, تمهيدا لما سيأتي بعدها, وهذا الصنف من الآيات من أعظم ما في القرآن, وقد مر معنا أن القرآن كله عظيم, لكن أعظم ما في القرآن حديث الله عن ذاته العلية. فهذا مندرج في حديث الله عن ذاته العلية.
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً)
المهد في الأصل: ما يوضع فيه الصبي, فجعل الله الأرض بالنسبة للناس كالمهد بالنسبة للصبي, وهذا – يا بني – من حيث الصناعة البلاغية يسميه البلاغيون: تشبيه بليغ. تشبيهٌ بليغ.
ومعلومٌ أنه لا بد من مشبه, ومشبه به ، وأداة تشبيه, ووجه شبه. ووجه شبه.
ذكر الله هنا المشبه والمشبه به. المشبه والمشبه به.
) الْأَرْضَ) بالمهد ،، شبه الأرض بالمهد... لم يذكر الله الأداة. ؟
لم يقل الذي جعل لكم الأرض كالمهد, حذف الكاف, وحذف وجه الشبه وهي إيواؤها للناس كما أن المهد يأوي الرضيع ويحويه, فلما حذف ربنا في كلامه أداة التشبيه, ووجه الشبه؛ وفق منطق البلاغيين هذا يسمى تشبيها بليغا، يسمى تشبيها بليغا.
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً) أي: طرائق,
(لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي: من خلال هذه الطرائق لعلكم تهتدون بالمقدورات على القادر.
بالمقدورات المسخرة , المخلوقات المدبرة لكم تهتدون بها للدلالة على ماذا؟ على القادر.
وقد عرفوا ربهم لكنهم ما صرفوا العبادة له, فأتوا بتوحيد الربوبية وتوقفوا عنده فلم ينفعهم شيء بل ازدادت الحجة عليهم.
ثم مضت الآيات وهذا النوع يسمى إطناب, وقد مر معنا تقسيم الكلام إلى: - إيجاز – ومساواة ـ وإطناب, في حديث الله عن الله.
((1/12)
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) الماء الذي جعله الله في الأرض على ضربين:
ماء عذب فرات. وماء ملح أجاج.
فجعل الله الماء المستقر: مالح . لماذا؟ حتى لا ينتن.
لو أن ماء البحار ليس مالحا لأنتن وظهرت ريحته.
وجعل الله الماء المتحرك الذي ينزل من السماء عذبا.
قال تعالى: ({هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} الفرقان 53), فجعل المياه الراكدة الثابتة على الدوام التي لا يحتاجها الناس شربا جعلها مالحة حتى لا تنتن.
وجعل الماء المتحرك الذي يحتاجه الناس سواء متحركا في أصله بنزوله من السماء أو في العيون والآبار جعله عذبا فراتا تبارك وتعالى بنعمته ورحمته بعباده.
) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً )
هذا وفق الصناعة البلاغية يسمى استعارة تبعية ، استعارة تبعية.
استعارة : لأن لفظ { نشر} إنما يقال في الميت إذا أُحيي ، في الميت إذا أُحيي. فجعل الله جل وعلا الأرض التي لا نبت فيها كالجسد الذي هو ميت لا روح فيه، كالجسد الذي لا روح فيه.
) فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ):
الذي استعصى على القرشيين فهمه؛ أن الله يحيي الموتى.أعيد؛ الذي استعصى على القرشيين فهمه وإدراكه أن الله يحيي يحيي الموتى.
انظر! كيف عالج القرآن هذه القضية.
قال ربنا: (فَأَنشَرْنَا ): والنون هنا؛ الـ { نا } { نا } الدالة على الفاعلين, جيء بها للعظمة, في الحديث عن الشيء الذي يرونه بأعينهم,
أما الشيء الخفي الذي هم مطالبون بالإيمان به لم يقرنه الله بـ { نا } الدالة على الفاعلين ليبين لهم أنه أمر هين عليه, لم يعظمه الله, لم يعظمه الله, عظم الله جل وعلا المقيس¸ولم يعظم المقيس عليه.(1/13)
عظم الله جل وعلا ما يرونه (فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ), فلما أُلقموا في أفواههم حجرا وسقط ما في أيديهم قال لهم ربهم: (كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ), (كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ), ولم يقل كذلك أخرجنا, كذلك نخرجكم, قال: (كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ) لبيان أن هذا من حيث مفهوم خطابكم أهون وإلا عند الله الأمر سواء.
(فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ{11} وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ )
الأزواج: مفردها زوج, وهي في التعبير اللغوي: كل ما صار به الواحد ثانيا. الزوج: هو كل ما صار به الواحد ثانيا.
وبعض العلماء يجعلها في المعنويات،، .وبعضهم يجعل الأزواج في المحسوسات.
والصواب جعلها هنا في المحسوسات والمعنويات. في المحسوسات والمعنويات, مثلا: جعلها الله جل وعلا في:
الفقر والغنى ،،،. والجسد والروح. ،،، والذكر والأنثى. ،،، والصحة والمرض ،،،. والليل والنهار. ،،، والفرح والحزن.
وكلاهما بعضهن معنويات وبعضهن محسوسات, وخالقهن جميعا واحد: هو الله تبارك وتعالى.
(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ)
الفلك تركب كلها, أما الأنعام محدد ما يركب منها.الفلك تركب كلها, و الأنعام محدد ما يركب منها, مقيد .
ولهذا جاء في الحديث: أن الرجل الذي ركب البقر اعترضت عليه,
قالت له: ما خُلقنا لهذا, مع أن البقر من بهيمة الأنعام,
لكن الله قال – والقرآن ضمائم إذا ضممت بعضه إلى بعض تبين لك –
قال ربنا: ({وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا }النحل8) ولم يذكر الله بعض الدواب الأخرى.
نعود هنا فنقول: لماذا قدم الله الفلك على الأنعام؟ قدم الله الفلك على الأنعام: لأن إظهار القدرة يتضح هنا أكثر.(1/14)
فالفلك على ماذا تجري؟ على الماء. والجريان على الماء أعظم إظهارا لقدرة الله من مشي الأنعام على أرض مستقرة.
فإن الأنعام تمشي على أرض مستقرة وإن ظهرت فيها القدرات, لكن ظهورها في الفلك أقوى من ظهورها على من مشي الأنعام على الأرض المستقرة, ولهذا قدم الله الفلك.
ثم قال ربنا – والقرآن يزاوج ما سلبه من لفظة يعطيها بدلا منها – قال الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ{12} لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ )
جاءت المزاوجة هنا الظهور من علائق الأنعام أكثر منها أن تكون من علائق الفلك. أعيد. الظهور من علائق الأنعام أكثر منها من علائق الفلك, لأن الفلك في الغالب يسمى بطن, لا يسمى لا يسمى ظهر, وإن ظهر في الصناعات الحديثة فلكاً لها ظهر, لكن ذكرها الله من باب التغليب, ذكر الله الظهور هنا من باب التغليب.
قال ربنا: (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ) وقد مر معنا أن الفعل استوى إما أن يتعدى بحرف الجر على, أو بحرف الجر إلى, أو لا يتعدى بحرف جر.
فإن تعدى بحرف الجر على معناه العلو والارتفاع ومنه هذه الآية(ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ) أي إذا ارتفعتم.
وإذا تعدى بحرف الجر إلى يصبح المعنى: القصد, (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء) أي قصدها.
وإذا لم يتعد بحرف جر لا على ولا إلى واكتفى بعدم التعدية وأصبح لازما دل على الكمال والتمام والنضج, قال ربنا عن كليمه وصفيه موسى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} القصص14 ) أي كمل ونضج وتم أمره.
) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ )
بلسانكم أو بجارحتكم؟ بلسانكم وبقلوبكم؟
بقلوبكم. فيقع في قلبك أولا تعظيم هذا الرب الجليل الذي سخر لك هذا.(1/15)
والتسخير في اللغة: التذليل والتطويع. فإذا وقع في القلب الاعتراف بفضل الله, وأن القوة الجسدية التي نملكها ليست هي التي سخرت لنا الفلك وليست هي التي سخرت لنا الأنعام واستقر هذا في القلب, جاء الأمر الإلهي بأن يُترجم ما وقع في القلب من يقين إلى أن يكون نطقا باللسان منصوصا عليه قال ربنا: (وَتَقُولُوا ) – أي بألسنتكم – (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي مطيِّعين, (مُقْرِنِينَ ( أي مطيِّعين,مقرنين أي مطيّعين ليست مطِيْعِين, مُطَيِّعين. طوَّع الأمر بمعنى ذلله.
فنعود فنقول: قال الله: (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) وقد كان هذا يقال على ظهور الدواب, واليوم يقال على مقاعد السيارات والطائرات.
أما استخدامه أو قوله عند المصاعد فليس له دليل, لأن المصاعد حلت بديلا عن السلالم, ولم تحل بديلا عن الدواب, وأما السيارات والطائرات حلت بديلا عن عن الدواب, والتقيد بالنصوص أمر محمود وإن كان كل هذا سخر الله جل وعلا لنا.
(لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ{13} وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ) الانقلاب في اللغة: عودة الإنسان إلى المكان الذي فارقه.
الانقلاب في اللغة: عودة الإنسان إلى المكان الذي فارقه.
وأين كان بدء خلق أبينا آدم؟ في السماء. , عند ربه فلا بد من العودة إلى الله. فيستقيم هنا المعنى الشرعي مع المعنى مع المعنى اللغوي.
الانقلاب عودة الإنسان إلى المكان الذي فارقه والأمر نسبي انقلبت إلى داري انقلب إلى بيته, أي عاد إلى بيته لأنه لتوه فارقه.(1/16)
أما الانقلاب العام هو الأوبة والرجوع إلى الله, قال ربنا: ({إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى }العلق8) (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى), (وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ)
وتذكر الإنسان للآخرة منهج قرآني, منهج قرآني عظيم, يجعله الله جل وعلا مطردا في كل أمر, أن يتذكر الإنسان اليوم الآخر.
حتى لما ذكر الله الطلاق, وذكر الرضاع وذكر غيرها كانت الآيات تأتي مقيدة ({ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} البقرة 232)
من أعظم البواعث على العمل الصالح تذكر الآخرة, قال الله جل وعلا في حق بعض من اصطفاهم من رسله: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ) جاءت منونة حتى تشرئب الأعناق إلى معرفتها وأتت منقطعة عن الإضافة
({إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ }ص46) والتقدير: هي ذكرى الدار. والتقدير: هي ذكرى الدار.
قال ربنا: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ (
مازال الخطاب متوجها لكفار قريش.
(جُزْءاً ) هنا الصواب أنها بمعنى حظا ونصيبا. حظا ونصيبا وقسما. حظا, ونصيبا, وقسْما.
إلا أنه ورد عن إمامين من أئمة اللغة, هما المبرد والزجاج, المبرد والزجاج, لماذا قدمنا المبرد؟ لأنه أقدم ظهوراً يعني حياة المبرد كانت قبل حياة الزجاج, وله كتاب مشهور اسمه الكامل في الأدب, واسمه محمد بن يزيد, وكان له حُساد, وقد قيل فيه أبيات يراد بها منقصته أيًّا كان هذان العلمان من علماء اللغة قالوا: إن ( جزءا ) في اللغة: بمعنى بنت, وأتوا بشاهد شعري.
ومن رد عليهم لم يطعن في إمامتهم في اللغة, لأن إمامتهم لا تقبل القدح, فهم متفق على إمامتهم في اللغة, فيكون الطعن ليس في ذاتهم لكن فيما قالوه, أو فيما نقلوه. كيف يكون الطعن في مثل هذا؟
يقال: إن البيت مصنوع وليس قديما. إن البيت الذي استشهدوا به مصنوع, متقوّل, وليس قديما.(1/17)
فإذا كان مصنوعا وليس قديما ما صح الاحتجاجُ ما صح الاحتجاج به.
وممن حمل راية إبطال ما زعماه الزمخشري في كشافه, أبطل ما زعموه أن (جُزْءاً) بمعنى بنات.
والحق – بحسب دراية الإنسان البسيطة في علم اللغة – بعيد جدا أن يكون جزءا بمعنى بمعنى بنات, بعيد جدا أن يكون جزءا بمعنى بنات.
أما المعنى فصحيح – سيأتي – لكن اللفظ (جُزْءاً ) بمعنى بنات غير وارد.
ورد في القرآن (جُزْءاً ) و ( بعض)
الجزء: شيء يمكن تحديده, يمكن إخراجه, يمكن انفكاكه.
أما البعض: لا يمكن تحديده لا يمكن تحديده.
فمثلا القرشيون زعموا أن الملائكة بنات الله, فسهلٌ جدا أن نميز الملائكة عن الإنس والجن لكن كلمة بعض تأتي في الأشياء الممزوجة, التي يصعب تحديد الفوارق بينها.
قال الله: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً) - أنا أتوقف هنا في قضية الملائكة بنات الله لأن سيأتي التفصيل فيها –
(إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ)
قال بعض أهل التفسير: إن الإنسان هنا عام أريد به الخاص, وهم كفار قريش, لكن الصواب إبقاؤه على ما هو عليه فنقول إن الإنسان في أصله كفور مبين, لأن الله جل وعلا ذكر هذا في أكثر من موضع وأكثر من آية .
لكن نُبقي على أن أول المخاطبين به, وأول ما ينصرف به هذا الوصف على كفار إلى كفار قريش, أول ما ينصرف هذا الأمر إلى كفار قريش.
) إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ{15} أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ)
هناك مصطلحات أحيان يستخدمها أهل التفسير, مصطلحات يستخدمها أهل النحو.
أهل التفسير يتأدبون أكثر لأنهم يتعاملون مع ألفاظ قرآنية.
أما النحاة فلا يتوخون الأدب لأنهم يتعاملون مع أقرانهم مع أئمة في اللغة, أو مع شعراء, أو مع خطباء, فلا يكونوا مطالبين بالتأدب كما يطالب به أئمة التفسير.
(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ)
أهل التفسير يقولون إن الميم هنا صلة, يقولون ماذا؟ صلة.
((1/18)
أَمِ اتَّخَذَ) تأدبا مع الله, لأن النحويين يقولون إن الميم هنا زائدة, يقولون زائدة.
إن أسميناها زائدة كما قال النحويون أو أسميناها صلة كما قال المفسرون فالمعنى واحد في مقصودهم يراد بها التوكيد. يراد بها التوكيد. والاستفهام للاستنكار.
) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ) نكر البنات وعرف البنين ليطابق حال البنين والبنات عند العرب.
) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ) وأنا هنا أؤكد على اللغويات أما المعاني سيأتي لها في قول الله تعالى (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً) في نفس السورة حتى لا يتكرر الأمر.
) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ (
ثم قال الله (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ{17} أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ)
هنا الله جل وعلا لما نقم عليهم أنهم جعلوا الملائكة بنات الله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ذكر شيئا لا يرتضوه لأنفسهم ومع ذلك نسبوه إلى إلى ربهم لا يرتضوه لأنفسهم ونسبوه إلى ربهم فحكا عن بعض طوائف من العرب, (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً) هنا ذكرها بالكناية, أو بغير التصريح, وصرح بها في النحل ) {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ }النحل58) الكظيم: هو من يكظم كربه وحزنه.
(وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً) { ظَلَّ } هنا بمعنى صار, (وَهُوَ كَظِيمٌ)
قال الله: (أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ)(1/19)
هنا نسيح لغويا, نسيح يعني من السياحة, لغويا معرفيا في هذه الآية التي نختم بها حلقة الليلة.
(أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ)
يستفاد من هذه الآية أن الأصل في النساء أنهن يتجملن, والأصل في الرجل ألا ألا يتجملون.
فالزينة أليق بربات الحجال وأبعد عن الرجال وأبعد عن الرجال. هذه واحدة .
قول الله جل وعلا: (أَوَمَن يُنَشَّأُ) يعني يربى (فِي الْحِلْيَةِ)
أي في الزينة) وَهُوَ فِي الْخِصَامِ) هذا قيد في ظني لا بد منه (وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ)
متى يكون غير مبين؟ في الخصام ليس على إطلاقه، ليس على إطلاقه.
لا يقدح في المرأة على إطلاقه لكن المقصود من الآية أنكم نسبتم إلى الله من لو خاصم بقوله لما غلب, فكيف يغلب في الحروب.
فإذا كان لا ينفع لا في حرب ولا في خصام قولي كيف تكون هناك منفعة من اتخاذه ولد؟!
ونحن نعلم أن الله غني عن هذا كله لكن نتكلم من باب الفرض الجدلي, فإن الله يخاطبهم على فرضهم الجدلي, فإذا كانت الفتاة أو البنت جنسا نوعا لا تقوى على أن تظهر خصومتها القولية, فهي من باب أولى أن تضعف في المخاصمة الحربية العسكرية في ميادين القتال, فإذا كانت لا تُجدي نفعا في دفع ضر أو أذى عمن تتولاه, لا بلسانها ولا بسنانها, فلا منفعة إذا من اتخاذها ولدا, فإذا كانت ليس هناك منفعة أبدا في اتخاذها ولدا فكيف تنسبونها إلى ربنا جل جلاله! فالله منزه عن هذا كله.
نعود فنقول: إنه (وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) وهو في الخصام قلنا قيد لابد منه. لماذا قلنا قيد لا بد منه؟(1/20)
لأننا نعلم ضرورة أن في النساء فصيحات بليغات شاعرات, والقرآن لا يمكن أن يخالف الواقع فالواقع أعظم الشهود وقد قال معاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه في حق أم المؤمنين عائشة أنها كانت فصيحة أنها كانت فصيحة بليغة, وأنها ما فتحت بابا وشاءت أن تغلقه خطابا إلا فعلت, ولا أغلقت بابا وشاءت أن تفتحه خطابا إلا فعلت.
ولئن قلنا إن المرأة لا تبين ولا تفصح ولا تُفهم , فكيف نقول في كثير من الأحاديث التي روتها صحابيات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا ينجم عن هذا القول وحمل هذا الراية رد كثير من السنة . لكن نقول أن التعبير القرآني جاء مقيدا.
قال الله جلا وعلا ((أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ))
أما في غير الخصام قد يكون مبين .
مثلا :أحيانا قد يكون الحديث – إن كان هذا في الأفراد - الإمام مسلم رحمة الله عليه روى في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لا إله إلا الله ويل لعرب من شر قد اقترب فتح اليوم ..." إلى آخر الحديث المراد به يأجوج ومأجوج هذا الحديث من الذي سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ زينب بنت جحش . من زينب بنت جحش ؟ زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي طلقها من ...؟ من زيد
زينب أخبرت بهذا الحديث الذي أخذته من فيّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ؟
أخبرت به أم حبيبة من أم حبيبة ؟ زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم -
بنت من ؟ بنت أبي سفيان
أم حبيبة أخذته عن زينب,
وزينب أخذته عن من ؟ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
من أخبرت به أم حبيبة ؟ أخبرت به ابنتها حبيبة .
من حبيبة ؟ربيبة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج أمها فأصبحت من ربائبه
من أخبرت به حبيبة ؟ أخبرت به زينب بنت سلمة من زينب بنت سلمه ؟بنت أم سلمة التي هي زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - . إذن حتى زينب (ماذا) ربيبة .(1/21)
هذا حديث اجتمع في سنده أربع صحابيات ، حديث اجتمع في سنده أربع صحابيات اثنتان زوجتان للنبي - صلى الله عليه وسلم - من هما ؟ أم حبيبة و زينب بنت جحش ،،، واثنتان من ربائب - صلى الله عليه وسلم - من هما؟
حبيبة وزينب بنت سلمة .. حتى الأسماء تدور في فلك زينب وحبيبة
زينب بنت جحش , أم حبيبة ,حبيبة,وزينب بنت أبي سلمة
وهذا حديث مثلا في سنده أربع صحابيات .
لو قلنا أن الآية على إطلاقها لوقفنا ضعفاء في قبول هذا الحديث
لكن نقول أن الله قيد ويجب اعتبار قيد القرآن قال الله جلا وعلا ((أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ))
ينجم من هذا الأمر فقهيا أن الأصل في زينة النساء الإباحة . ينجم من هذه الآية فقهيا أن الأصل في زينة النساء الإباحة إلا ما استثناه الشرع نصا ، إلا ما استثناه الشرع نصا..
ما استثناه الشرع نصا في زينة النساء يُترك ويجتنب للنهي الشرعي
وما لم يأتي نص شرعي فيه يبقى على أصله ويأخذ بعموم هذه الآية
وهي قول الله جلا وعلا ((أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ))
جعلني الله وإيّاكم من إذا خاصم أبان ولا يفجر فيدافع عن حقه ولا يقع فيما وقع فيه أهل النفاق .
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وما أعان الله على قوله وفي اللقاء المقبل نبدأ - بإذن الله تعالى – نبدأ بقول الله :
((وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ))
وصلى الله على محمد وعلى آله ،،، والحمد لله ربع العالمين ....
تفريغ سورة الزخرف3 ( من الآية 19_ 29(
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً(1/22)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد *
فنستأنف في هذا اللقاء المبارك دوحة سورة الزخرف وكنا قد انتهينا إلى قول الله جل وعلا " أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين " والآية التي بعدها شديدة الارتباط بها قال الله " وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ "
كل من نازع الله مغلوب .. والله يظهر ضعف عدوه وتناقضه قولاً أو عملاً
ما الذي صنعهُ القرشيون ؟ زعموا أمرين : الأمر الأول : زعموا أن الملائكة بنات لله .
والأمر الثاني : بهذا الزعم ينجمُ عنهُ أنهم جعلوا الملائكة شركاء لله لماذا ؟ لأن الابن جزءٌ من والدة قال صلى الله عليه وسلم " إنّما فاطمةٌ بضعةٌ مني يُريبُني ما رابها " على هذا جمع هؤلاء القرشيون النقيضين أين النقيضان في قولهم : أنهم رفعوا أولاً الملائكة من مقام العبودية ولهذا قال الله (الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ) إلى مقام أنهم جعلوهم بوصفهم بنات لله جعلوهم شُركاء مع الله وهذا ارتفاع وارتقاء بمقام الملائكة وفي نفس الوقت جعلوُهم بنات والذكرُ أفضلُ من الأُنثى فرفعُوهم من وجه ووضعوهم من وجه آخر وهذا قمة التناقض .
قال الله جل وعلا (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) الشهادة هنا بمعنى الحضور(سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ)
وهذا فيه تخويف لناس لأن الله علم من غير تدوين شهادتهم أن مآلهم إلى النار ومع ذالك حاكمهم الله على هذا الأمر فالكُفار جُرماً حتى لو لم يقولُوا هذا الأمر هم من أهل النار ومع ذالك قال الله (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ)
((1/23)
وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذالك من علمٍ إن هم إلا يخرصون أم آتيناهم كتاب من قبله فهم بهِ مستمسكون )
احتج القرشيون بالقدر ومن احتج بالقدر يبطُل احتجاجهُ عقلاً ونقلاً كيف يبطلُ احتجاجهُ عقلاً ؟
كلُ من احتج بدليلٍ عقلي نُلزمهُ بالبقاء عليه في كل أحوالهِ وقد تبين عقلاً أن أي أحد لا يستطيعُ أن يحتج بالقدر في كل أحوالهِ وهم يقولون لو كان هذا الدين حقاً لما شاء الله أن نعبُد غيره قال الله جل وعلا عنهم (قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ) احتجوا بالقدر ، فنقول لهم من الناحية العقلية الآن : لو سلّمنا لكم بصحة هذا الاحتجاج هل تقبلون بهِ في كل أحوالكم ؟ لا يقبلون ، فلا يُمكن أن تأتي أعراضهم فتنتهكها أو أموالهم فتسرقها ويقبلون احتجاجك بأنك انتهكت أعراضهم وسرقت أموالهم بقدر الله ـ واضح ـ سيُعاقبُك ويثأرون لأنفُسهم فهذا يبطلُ بهِ الاحتجاجُ بالقدر ماذا ؟ عقلاً يبطلُ بهِ الاحتجاجُ بالقدر عقلاً .
أمّا إبطاله نقلاً فهو في الآية التي بعدها قال الله جل وعلا (أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ)...
وقطعاً ليس لهم كتاب من قبلهِ قال الله جل وعلا ({وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ }سبأ44)
على أن هذهِ الآية عُض عليها النواجذ وأعقد عليها خٌنصرك سيأتي الحاجة لها ملّحة فيما بعد ستأتي الحاجة إليها فيما بعد لكنّ الله ساقها لبيان رد دليلهم نقلياً فهم لا يملكون دليلاً نقلياً ولا دليلاً عقلياً لكن لديهم شُبهة والقرآن إذا حاكم يُحاكم بالتفصيل.(1/24)
أين الشُبهة ؟ هي قولُ اللهُ جل وعلا كما حكا الله عنهم : ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) فشُبهتهم التي تمسكوا بها بعد أن أبطل الله احتجاجهم بالقدر ذكر الشُبهة التي تمسكوا بها وهي أنهم وجدوا آبائهم على أُمة وقالوا كما قال الله (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) قبل أن أعود ونخوض فيها معرفياً نُكمل مُرادفها أو ما جاء في سياقها ثم نعودُ إليها .
قال الله (} وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ)
إذاً الاحتجاج بالقدر فيما يبدوا خصيصة قُرشية ، أمّا الاحتجاج بأنهم وجدوا آبائهم على أُمة ليست خصيصة قُرشية وإنما مضت في مللٍ وأُممٍ وأقوامٍ ماذا ؟ قبلهم وهذا أين الدليلُ عليهِ ؟ الدليلُ أن ألله لمّا حكا احتجاجهم بالقدر لم يقُل سُبحانهُ أنهُ كان موجوداً في الأُمم التي سلفت ولّما ذكر احتجاجهم في أنهم وجدوا آبائهم على أُمة قال سُبحانهُ وهو أصدقُ القائلين (} وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ {23} قَالَ ) من الذي قال ؟ قال كُل رسولٍ لأُمتهِ ، ماذا قال ؟ (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا) أي كُل أُمةٍ لرسولها (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ) قال الله (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)...
الآن نعود للآية الماضية ونُنيخ المطايا فيما يجملُ عنها من فوائد :(1/25)
أعظم الفوائدُ الدالة عليها : أن الله نهى عن التبعية بغير علم لأن الله قال (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ) على هذا فبابُ الاجتهادُ في الشرعِ مفتوح ولا يلزمُوا والناسُ عندما فتحوا لأنفُسهم بابُ الاجتهاد ظنّوا أن الطريقة المُثلى إليهِ حفظُ المتون وهذا خطأً منهجيً عظيم فإن الحفظ وإن كان حسناً إلا أن الذي ينبغي في المجتهد أن يعرف مواضع الأحكام ويفهمها أمّا حفظها فليس لهُ علاقة بالاجتهاد أعيد..
الذي ينبغي على المجتهد أن يعرف مواطن الأحكام فيفهما أما حفظها فليس لهُ علاقة بالاجتهاد فإذا كان يسهلُ عليه أن يعرف موطن الحُكم ويفقههُ ويفهمهُ ويُنزّلهُ التنزيل الصحيح فهذا مُجتهد ، أما الحفظُ فلا علاقة لهُ لماذا ؟ لأننا لو قُلنا أن الحفظ رُكنٌ من أركان الاجتهاد لوصل إلى تلك المنزلة أو إلى نصفها أو قارب منها مئاتُ الحُفّاظ وأنت كما ترى كثيرٌ منهُم لا يملكُ الآلة العلمية وحسبُك مثلاً على ابنك في المرحلة الدراسية قد يكونُ في الثانية عشرة من عُمرة وحفظ القرآن أو حفظ الصحيين ولا يُمكنُ أن يكون قد خطى خطوةً واحدة في طريق الاجتهاد ـ واضح ـ ولا يكون قد خطى خطوةً واحدة في طريق الاجتهاد قال الناظم:
وموضعِ الأحكام دون شرطِ *//* حفظ المتون عند أهل الضبطِ
أعيد وموضعِ ـ هاذي معطوف على منصوب ـ
والمعنى أن يعرف المجتهد موضع الأحكام دون أن يشترط حفظ المتون عند ماذا ؟ عند أهل الإتقان والصنعة .
وموضعِ الأحكام دون شرطِ *//* حفظ المتون عند أهل الضبطِ
واضح فنجم عن هذا كُلهِ أن التقليد والإتباع من غير دليل أمرٌ مندوبٌ شرعاً دلّ قولُ الله جل وعلا إذا ضُمّ إلى غيرها (وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ)
ما معنى أُمة هنا ؟ طريقة ومسلك يسيرون عليهِ وهديً كان عليهِ آبائهم مع أن كلمة أُمة جاءت في القرآن على معانٍ عدة لكن كيف عرفنها ؟ ممّا يُسمّى السياق .(1/26)
قال الله جل وعلا ({وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} هود8 ) أي إلى أجل إلى زمن ، وقال الله جل وعلا ({وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ} القصص 23) أي جماعة قال بعضهُم دون الرجال .
({وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ }فاطر24) جماعة يدخُل فيها الرجال والنساء .
({إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} النحل 120) أي رجُلاً جامعاً لصفاتِ الخير .
إذاً يا من تُفسّر القرآن ثمّة ألفاظ تتفقُ في أحرُفها وتختلفُ في معناها وإن كان الجرم الأول لمعناها واحد لكن تأتي لها دلالات مثلاً قال الله جل وعلا ({فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ }المائدة30) من أخوة ؟ أخوه لأبيهِ وأُمهِ لأن الحديث عن قابيل وهابيل .
وقال الله في هود (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً) وهو ليس أخوهم لأُمهم وأبيهم لكن أخوهم في القبيلة.
وقال الله تبارك وتعالى ({كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} الأعراف 38 ) ما معنى أُختها هُنا ؟ أي شبيهتها مثيلتها في الجُرم .
وقال الله جل وعلا ({إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الحجرات 10) أخوة الدين .
وقال الله تبارك وتعالى ({إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} ص 23) أي شريكي وصاحبي .
وقال الله جل وعلا ({وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ }الأعراف202) أي أوليائهم .
فاللفظُ واحد والمعاني مختلفة ونظائر أُخر كلمة آية قال الله جل وعلا ({إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ} هود 103 ) ما معنى آية هنا ؟ عبرة (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ) ما معناها ؟عظةٌ وعبرة .
وقال الله جل وعلا ({وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ }الروم20) هنا آية بمعنى برهان ودليل .(1/27)
وقال الله تعالى يُنبأ عن آية بأنها معنى البناء الرفيع ({أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ }الشعراء128) .
وتأتي آية بمعناها في المصحف قال الله ({وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ }النحل101) فندخُل هنا نُعرّج في علم التفسير على معنى آية في القرآن على معنى آية في الاصطلاح الشرعي إحنا أخذنا نماذج على معنى آية في الاصطلاح اللُغوي وقُلنا تأتي بمعنى عظة تأتي بمعنى برهان تأتي بمعنى بناء رفيع وتأتي في المصطلح الشرعي وأنت تُفسر القرآن الآية ـ أكتُب ـ جملةٌ من الكلام ذاتُ مبدأً ولها مطلعٌ ومقطع جملةٌ من الكلام ذاتُ مبدأً ــ أي بداية يعني ـ ولها مطلعٌ ومقطع مختومةٌ بفاصلة موجودةٌ في سورة . هذهِ الآية .
قُلنا في ضمن كلامنا كلمة مختومةٌ بماذا ؟ بفاصلة ما الفاصلة ؟
ـ نكتُب ـ الفاصلة جملةٌ من الكلام تختمُ بهِ الآية وهي قرينة القافية في الشعر واللازمة في السجع إلا أنا الفارق الأعظم أن الفاصلة في القرآن يُؤتى بها لمعنىً وقد قال أهلُ الصناعة ـ أي صناعة التفسير الذين لديهم حظٌ في الُلغة ـ: إنّ الفاصلة سرُ من أسرار القرآن ، و يُمكنُ تقسيمُ الفاصلة إلى أربعة أقسام :
الأول : التمكين . ويُقصد بها تلك الفاصلة التي يكونُ ما قبلها ممُهداً لها مثل قولهِ تعالى (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً) طبعاً أنت أُكتب صدر الآية والفاصلة ({وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً }الأحزاب25) أين الفاصلة ؟ ـ أجيبوا ؟(1/28)
جملة (وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً) هي الفاصلة ، ما قبلها كان مُمهداً لها فحتى لا يُفهم أن ردّ الذين كفروا كان قدراً واتفاقاً جاءت الفاصلة لتُبين التمكين فظهر من لفظها قُدرةُ الله جل وعلا ليطمئن المؤمن ويُغاظ الكافر هذا أولُ أقسام مدلولات الفاصلة وهو التمكين .
الثاني : التصديق.. وهو أن يكون صدرُ الآية دالاً على أخرها فتُصبحُ أيها الأخُ المُبارك هذهِ الفاصلة مأخوذةٌ لفظاً من أين ؟ من صدر الآية أُعيد فتكون هذهِ الفاصلة الجُملة التي خُتمت بها الآية مأخوذة لفظاً من صدر الآية (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ ) هذهِ الآية ، أين فاصلتُها ؟ (إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً) مأخوذٌ لفظاً من صدر الآية ، أن تكون الفاصلة مأخوذةٌ لفظاً من صدر الآية مثل قول الله تعالى ({فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً }نوح10) .
الثالث : أيُها المبارك التوشيح ما التوشيح نظير التصديق لكنّ التصديق مأخوذٌ لفظا أما التوشيح مأخوذٌ معنى مأخوذٌ ماذا معنى لكنّ التوشيح مأخوذٌ معنىً قال الله تعالى ({وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ }الملك13) ـ ماذا قُلتُ لك ـ (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) فالمعنى غيرُ اللفظ المعنى هنا مُستسقى من أول الآية مُستسقى من صدر الآية .(1/29)
الرابعة : الإيغال .... طيب أنت الآن تسمع هذا المُصطلح أوغل فلانٌ في الأمر ما معنى أوغل ؟ دخل أو زاد تعمّق كُلها تدور في فلك الزيادة إذاً الإيغال في الفاصلة أن تتضمن الفاصلةُ معنىً زائداً على صدر الآية قال ربُنا مثلاً وهو أصدق القائلين (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ) الآن انتهت الآية من حيث المعنى تمّ معنى الآية ({قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }الإسراء88 ) انتهى المعنى ثم قال اللهُ بعدها في فاصلةً خُتمت بها هذهِ الآية (وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) هذهِ الفاصلة زادت معنى هو أنهم ولا يأتون بمثلهِ مُجتمعين أي حتى لو اجتمعوا لا يُمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن فهذهِ الفاصلة زادت معنىً عن صدر الآية يُسمّى إيغال يُسمّى ماذا ؟ إيغال ـ طيب هذا اليوم الدرس قد يكون في فنون التفسير ، هذا الإيغال جاء جزءٌ من أربعة وهو التوشيح والتصديق والتمكين فهنا لهُ علاقة ـ أنا أتكلم عن ماذا عن الفاصلة واضح ـ فهو نوعٌ من أنواع تقسيم الفاصلة لكن يأتي الإيغال أيُها المُبارك لهُ جُرم آخر وموضع آخر عند البيانيين وأهل البديع ضمن الإيجاز والإيغال أُمور أُخر غير علاقتهِ بماذا ؟ غير علاقتهِ بالفاصلة يأتي في الآية ؟ إذاً الإيغال وأنت تُفسر يأتي على كم ضرب ؟ على ضربين :
يأتي جُزءً من أقسام الفواصل ، ويأتي مُحسناً بديعياً في الآية نفسها .
كيف يأتي مُحسناً بديعياً في الآية نفسها ؟(1/30)
إنّ الآية تقطعُ على من يسمعها الزيادة فبعضُ الشُعراء وهذا ظهر عند ابنُ المعتز كثيراً يأتي بأبياتٍ تتضمنُ معانٍ تُلجمُك ألا تسأل ، كُل ما خطر ببالك سؤال ألجمك الكلام الذي تسمع ـ نأتي بمثال ـ يقول الله جل وعلا ({أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} البقرة 266) معلوم أن الجنة لا بُد أن يكون فيها نخيل وأعناب فهذهِ (مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) زيادة على أنها جنة قال الله تعالى (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) تجري من تحتها الأنهار أصلاً من لوازم كلمة جنة لكنّ هذا إيغال زاد إيغالاً آخر قال (ولََهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ) هذا إيغال آخر تكفي عنهُ كلمة جنّة لكنّ المقصود والمقصود غير الوصف يعني وصف هذا الأسلوب يُسمّى إيغال أمّا المقصودُ منه هنا إظهار شدة التأسُف والتحسُر على جنّة بهذا الوصف قال الله (لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ) لمّا قال وأصابهُ الكبر يأتي السؤال أهم شي ترك ذُرية وإلا ما ترك ذرية قال الله (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ) يأتي السؤال ضُعفاء وإلا أقوياء يأتي الإيغال (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء) قال الله (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ) ولم يكتفي (أَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ ) وكلمة فيهِ نار من لوازمها الاحتراق لكن قد يقول قائل ربُما لا تحترق يأتي السؤال هل احترقت قال (فَاحْتَرَقَتْ ) هذا الإطناب الذي يُجيب عن كُل سؤال ربُما يخطرُ في على بال في الصانعة الشعرية يُسمّى إيغال والقرآن قُرآنٌ عربي فما يُقال من أساليب العرب في كلامها في الشعر يُنزّل على أساليب ماذا ؟ القرآن لكن لا يُقال في القرآن شعراً .(1/31)
وقد قُلتُ مراراً أن طه حُسين الأديب المعروف على ما فيهِ وليس هذا مقام القضاء بين عباد الله المقام استفادة من الكلام المقام استشهاد طه حُسين يقول عرّف الشعر والنثر قيل لهُ والقرآن شعر أو نثر ؟ أجاب بكلمة بريئة قال القرآن قرآن ليس لهُ اسم إلا قرآن القرآن ماذا ؟ قرآن لا يُسمّى شعراً ولا يُسمّى نثراً لكنك إذا كُنت قوياً في معرفة أساليب العرب في كلامها تُعطيك مفتاح من مفاتيح عدة لتدبُر كلام الله جل وعلا وأن تكون فارساً مُقدماً فيهِ واضح . نعود لما بدأناها ...
(بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ{22} وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ{23} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ{24} فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ{25} وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ{26} إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ{27} وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{28} بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ )(1/32)
إبراهيم خليلُ الله المعروف والمعنى واذكُر إذ قال إبراهيم لأبيهِ قيل اسمهُ تارخ أو تارح بالحاء وهذا قولُ أهل التاريخ ، وقال الله في القرآن أنهُ آزر واضبطُ الأقوال عندي أن يُقال أن اسمهُ تارخ ويُعرف بأزر خروجاً من الإشكال لأنّ جمهرة المؤرخين اتفقوا على أنهُ تارخ وهو قولُ ابنُ عباس والقرآن يقول ( وإذ قال إبراهيم لأبيهِ آزر ) ويُمكنُ الجمعُ بأنّ اسمهُ تارخ ويُعرف بأزر (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ{26} إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) هذا استثناء منقطع بمعنى لكن الذي فطرني أتولاه كما أتبرأ ممّا تعبدون أتولى من فطرني (الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ{27} وَجَعَلَهَا ) الفاعلُ من ؟
جمهورُ أهل العلم على أنهُ إبراهيم ، وبعضُ العلماء على أنهُ عائدٌ على لفظ الجلالة .
ومن قال أنهُ يعودُ على لفظ الجلالة يُغلب بأنها جاء في آخر الآية (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ) وكلمة لعلّ هنا لا تُناسب أن تُسند إلى رب العزة فنُرجّح أنّ (جَعَلَهَا) فاعلُها عائدٌ على إبراهيم ولها مفعولان الهاء في جعل وكلمةً مفعول ثاني أما باقيةً فهي حال أو فهي صفة أنا أسف فهي ماذا ؟ صفة .
(وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) العقب في الُلغة مُؤخّر الرجل ، وفي الاصطلاح كُلُ قومٍ ليس بينهم وبين أبيهم أُنثى الرجُل إذا اتصل بأجدادهِ من غير أُنثى يُسمّى عقب .
(وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الكلمة هي كلمة التوحيد والبراءة مما يُعبد من دون الله ـ أنا الآن أُفسّر حرفياً سأجمع شتات هذا كلهُ لأن هذهِ الآية تهُمّنا جداً في فهمها ـ
(بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ)
سنقول ما قال المُفسرون ثم نقولُ رأينا :(1/33)
أهل التفسير يقولن أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام تبرأ من أهل الأوثان وهذا حق وتولى ربهُ وهذا حقٌ وظاهر وجعل هذهِ الكلمة في عقبهِ باقية يرجعون إليها إذا حادوا علامة إشعارٍ لهم (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) وقالوا من الدلائل أن الله قال ({وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} 132) معنى الكلام عندهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي أن على هذا قالوا أن هذا الأمر الذي رجاهُ إبراهيم لم يتحقق كلهُ فأمن بعضُ ذُريتهِ ولم يُؤمن بعضهم قال الله جل وعلا (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }البقرة124 ) في خطابهِ لمن ؟ لإبراهيم .
ثم قال الله : (بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ)
أي أنّ هؤلاء الآباء الذين هم أبناء آباء قريش لم ينتفعوا بكلمة من ؟ بكلمة إبراهيم باعتبار أن إبراهيم أبوً لمن ؟ لإسماعيل وإسماعيل أبوً لعدنان وهؤلاءِ عربٌ عدنانيون لأن نسب النبي مثلاً ينتهي إلى معد ابن عدنان اتفاقً على وجودهِ ، على هذا ينجم أنهُم فهموا أن ثمّة شيء من الدين كانت قريشٌ مُطالبةً بهِ حتى توسّعوا فقال الطاهر بن عاشور غفر الله له ورحمه [ ومّما يُستروح من الآيات من قول الله (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ إلى قولهِ (بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ) أنهُ لم يكن هناك في عمود نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنّ أجدادهُ كان يَُضمرون الإيمان ويُخفونهُ ولم يُصرحوا بهِ مخافة الفتنة من قومهم](1/34)
وهذا أمرٌ عندي في غاية الغرابة والبُعد وقد قلتُ في درسٍ خلا لا أدري إن كان هذا أو غيرهُ تنبّه لقول الله ({أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ }الزخرف21) وقُلنا أنّ هذا استفهام استنكاري أنه لم يأتيهم كتاب ولأن كان الأمر ينطبقُ عليهم كما قال الطاهر بن عاشور أو غيرهُ فهذا يكونون مُطالبين بالصُحف التي أُنزلت على إبراهيم واللهُ قد نفاها عنهم وبيّن أنهم لا يملكون دليلاً نقلياً ، والعلماء يربطون ما بين قول الله جل وعلا (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) وبين قولهِ (بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ).
والذي أراه والعلم عند الله أن قول الله جل وعلا (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) لا علاقة لها بقول الله (بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ) في انفكاك تام .
والمعنى أن إبراهيم جعل هذهِ الكلمة في ذُريتهِ التي كانت على مقربة ممّن كفر به لعلّها إذا شاعت في ذُريتهِ يرجع من لم يُؤمن به يرجع عن الكفر من لم يُؤمن به ، ومن أعظم القرائن على ذالك أن قوم إبراهيم لم ماذا ؟ لم يُهلكوا . وبقي الأمور مُعلقة في أذهانكم لكن الوقت انتهى وسأُبينها تفصيلاً في أول اللقاء القادم .
هذا ما تيسر إيرادُه وتهيأ إعدادهُ وأعان الله على قولهِ وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آلهِ والحمدُ للهِ رب العالمين ..
تفريغ سورة الزخرف من الآية ( 26) إلى ( 39 )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يُحبُ ربُنا ويرضى وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له شعُارُ ودثارُ ولواءُ أهل التقوى وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبدهُ ورسولهُ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثرهُ واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين .
أما بعد.......(1/35)
كنّا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ) ووافقت أن كان ذلك في آخر الحلقة مما أنهُ نجم عنهُ أن المعنى لم يتحرر تحرُراً كاملاً فكان لزاماً أن نستفتح به لقاءنا هذا .
فنقول أولاً: مسلك لغوي فإذا انتهينا من المسلك اللُغوي نُعيد إجمال معنى الآية ونُحرّر ما قاله المُفسّرون ثم نذكرُ رأينا إن كان لنا رأيٌ غيرُ ما قالُوا .
الله يقول (وَإِذْ قَالَ)
أي أذكُر ما قالوا لأن إذ هنا ظرفية تحتوي الحدث ، إبراهيم أبو الأنبياء وأفضلُ خلق الله بعد نبينا صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام " فأقومُ مقاماً يرغبُ إلي فيهِ الخلقُ كُلهُم حتى إبراهيم " فقولهُ عليه الصلاة والسلام حتى إبراهيم قرينة ظاهرة على أن إبراهيم أفضلُ الخلق بعد نبينا صلى الله عليه وسلم .
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ)(1/36)
قدّم ذكر الأب ليُبين عظيم تبُرُأ إبراهيم من الأصنام والخطابُ لمن ؟ لقومٍ يعبدون الأصنام فنسبهم الله جل وعلا أو أخبرهم عن خليل الله إبراهيم ، أمّا القول بأن إبراهيم أبوٌ لهم فيحتاج إلى إعادة نظر أما من حيث أصلهِ فنعم لكن ليس صحيحاً تاريخياً أن ننسب الناس لكُل أبٍ لهم بمعنى لابُد من شخصيةٍ ما فاصلة تكون فاصلة ما بين ما بعد وما قبل أو وما أعلى ما دون ولهذا قال صلى الله عليه وسلم " أرموا بني إسماعيل " ولم يقُل أرموا بني إبراهيم لأنهُ لو قُلنا أرموا بني إبراهيم لدخل بنو إسرائيل معنا وصرنا وإياهم لسنا أبناء عمومة لكن قال صلى الله عليه وسلم " أرموا بني إسماعيل " حتى يخرُج بنو إسحاق لأنّ بني إسحاق منهم يعقوب ويعقوب منهُ بني إسرائيل ومن إسحاق كان العيص ومن العيص كان الروم فلو نسبنا الناس إلى إبراهيم كما جرى عليه بعضُ المُفسرين دون أن يلحظ هذا في معنى الآية يقع الخطأ والخلط في فهم الآية وهذا لا يتضحُ لك الآن إلا إذا أكملنا تحرير المعنى وأنا قُلت سأبدأ بداية تروي في قضية الُلغة .
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء)
براءٌ لُغةٌ في بريء كانُ أهلُ عاريةٍ في نجد آنذاك يستخدمون هذا كما يقولون طويلٌ وطِوال يقولون بريءُ وبراء .
(إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ) مّما هذهِ مكونة من (من وما ) أُدغمت في بعضهما البعض فأمّا من فحرفُ جر لكن ما تحتملُ هاهنا إمّا أن تكون مصدرة وإمّا أن تكون موصولةً كيف يُحرّر المعنى ؟
إذا قُلنا إنها مصدرية فيُصبح المعنى أنني براءُ من عبادتكُم لغير الله لأن عبادة مصدرٌ من الفعل عبد وهنا ما تصبح مصدرية ، وإن قُلنا إنها موصولة يُصبح المعنى إنني براءٌ من معبوداتكم موصولة أي من الذي تعبدونه ولا يتحررُ من هذا كبيرُ اختلاف فإبراهيم بريءٌ منهم بسبب عبادتهم لغير الله .
(إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ{26} إِلَّا الَّذِي)(1/37)
هذا استثناءٌ منقطع في قول الجمهور وهو الحق بمعنى لكن لكن الذي فطرني ـ أي خلقني ـ فإنهُ سيهدين يبقى إشكال هنا أن السين جاءت هنا ولم تأتي في آية الشُعراء ({الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ }الشعراء78) قال الشيخُ الهرري أمتع اللهُ بهِ حي ما زال موجود في مكة قال بعد عنايةٍ ودراسةٍ فيها الذي يظهر أن هنا جيء بالسين لا لتسويف لكن لتأكيد لأنهُ هناك في آية الشُعراء ذُكر أن الأصنام عدوةٌ لهُ قال ( أفرئيتُم ما كُنتم تعبدون أنتُم وآباءكم الأقدمون فإنهم عدوٌ لي ) أمّا هنا فأراد إبراهيم أن يُخبر بالبراءة من قومه ومن آلهتهم فجيء بالسين لماذا ؟ لتأكيد لا لتسويف ثم قال كلمةً نُرددها الآن والله أعلم بأسرار كتابه .
نقول (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ)
إلى الآن لا يوجد خلاف بين العُلماء في المعنى لأنهُ ظاهر .
(وَجَعَلَهَا ) الجاعلُ إبراهيم على الصحيح وقد ذكرنا في اللقاء الماضي أن الخلاف قائم في الفاعل جعل هل هو عائدٌ على لفظ الجلالة أو عائدٌ على إبراهيم .
(وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
هنا يأتي الخلاف الاختلاف في المعنى : المفسرون من حيث الجملة يقولون إنّ هذه الكلمة العظيمة وهي البراءةُ من الشرك وأهلهِ وتولي مولاة الله رب العالمين جلّ جلالهُ التي هي كلمةُ التوحيد التي دل علّيها وقيلت بمعنى لا إله إلا الله هذهِ الكلمة جعلها إبراهيم علامةً وشعاراً لدينه وجعلها باقية في عقبه رجاءً أن قومه إذا حادوا عن الطريق رجعوا إلى تلك الكلمة رجاء أنهم إذا حادوا عن الطريق رجعوا إلى تلك الكلمة .
(وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{28} بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ)
(هؤلاء) أي المعاصرون لنبي صلى الله عليه وسلم (وَآبَاءهُمْ ) أي الذين لم يشهدوا نبُوتهُ من أباء من كان حياً زمن النبي صلى الله عليه وسلم .
((1/38)
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ) أي بالنعم والعطاء ومن كثرُت عليه النعم وطول الأمد يقسو قلبهُ فحادوا عن الكلمة التي جعلها إبراهيم باقيةً في العقب .
(حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ) أي القرآن (وَرَسُولٌ مُّبِينٌ) أي مُحمدٌ صلى الله عليه وسلم .
(وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ) هذهِ ستأتي.
نعود إلى قول الله جل وعلا: ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
هذا الذي عليه أهل التفسير ، ونقول : إن المعنى هنا غير واضح لأننا نؤصل بأن هناك انفكاك وانقطاع تام بنص القرآن مابين نبوة إبراهيم ورسالته وما بين كفار مكة ، ولا يمكن أن يؤخذ بالقول هذا وجعل الأمر كالطريق الواحد ـ محال ـ لأن الله جل وعلا قال في آيات محكمة : {وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ }سبأ44)
ومر معنا في اللقاء الذي قبله أن الله تبارك وتعالى قال ) {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } ( وقلنا أن هذا دليلا نقلياً على أنه ليس لديهم كتاب يخبرهم عن شيء فنفى الله عنهم النذارة ونفى الله عنهم الكتب انقطع اتصالهم الديني بإبراهيم ، فيكون قول الله جل وعلا فيما يبدو لي :
((1/39)
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أي في خواص عقبه في أقرب أهله إليه في إسماعيل وإسحاق ومن كان آنذاك معاصراً له في العراق وبلاد الشام ، حتى يكون سببا في نشوء هذه البيئة الصالحة في تكون سبباً ومؤثرة في من جاورهم ، وقلت في اللقاء الماضي أن من القرائن على صحة هذا الرأي أن الله لم يذكر أنه استأصل من كفر بإبراهيم بالكلية ، لم يرد في القرآن فيما نعلم ولا في السنة فيما نحفظ أنه جاء ذكر أن الله استأصل خصوم آل إبراهيم بالكلية ، فالله ذكر أنهم لما حاولوا حرقه ذكر أنه سبحانه نجاه ولم يذكر هلاكهم ، ولما ذكر النمرود ـ والنمرود فرد ـ وإبراهيم أصلا مر على العراق مر على الشام ، ومر على مكة وعلى مصر كل هذه الديار طافها فلم يكن له بيضة معينة ـ بيضة بمعنى حوزة بمعنى مكان مستقر واحد ـ يستأصل أهله بينما كان طوافاً ولذلك تبنته الأمم كلها.
فنقول على هذا إن قول ربنا : (بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء) أن ( بل ) هنا ـ نعم للإضراب الانتقالي متفقون ـ لكنها ليست للإبطال ، لأننا إذا قلنا أنها لإبطال أصبح هناك اتصال فهو يبطل المعنى ، لكن ( بل ) هنا للانتقال بمعنى يصبح الكلام بعد أن ذكر الله خبر إبراهيم يقول لنبيه أما هؤلاء وآباؤهم فقد متعتهم ما شئتُ أن أمتعهم دون نبي أو رسول ولا علاقة لهم بإبراهيم .
(حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ) أي القرآن .
(وَرَسُولٌ مُّبِينٌ) أي أنت يا محمد .ثم قال الله ـ تعالى ـ ) وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ ( الكلام الآن عن كفار قريش ، ولا علاقة لإبراهيم بالمسألة .
(وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ)
وهذا مر معنا بأنهم وصفوا القرآن بأنه سحر بما ينجم عنه ـ بزعمهم ـ من التفريق بين الرجل وزوجته ، والوالد وولده ...
ثم قال الله عنهم ) وَقَالُوا ( أي القرشيون .
) لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ((1/40)
الجار والمجرور ـ نحويا ـ تملك قوة في ضعفها ،
الآن المرأة أين قوتها ؟ في ضعفها ، بعض الضعفاء قوتهم في ضعفهم كما يأتيك مكان لا يوجد فيه مقعد وتأتي معك بصبي صغير أين قوة الصبي الصغير ؟ في ضعفه ، لأنه من السهل أن تجد له مكانا .
مثلها الجار والمجرور ، فهم قالوا : ( لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) فلو سألت : ما إعراب كلمة عظيم ؟؟ تقول : صفة لكلمة رجل ، . والمعنى ) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( ومعلوم قطعا وجوب الاتصال ما بين الصفة والموصوف.
ما الذي فصل بينهما ؟ الجار والمجرور (مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ) فالضعف لأنه شبه جملة أقحمها هنا ويعطي من الصياغة اللفظية والسبك لما لا مزيد عليه ...
(وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم من القريتين )
القريتان المقصودتان هنا مكة والطائف بالاتفاق .
وكل لفظ قرية أيها المبارك في القرآن يعني مدينة ، وقول الجغرافيين ليس له علاقة برب العالمين ، قول الجغرافيين القرية كذا وكذا تقل عن المدينة في وصف معدود هذا اصطلاح لا مشاحة فيه ، لكن القرية في اللفظ القرآني المدينة قال الله تعالى : (لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) كانوا يزعمون ـ في قول جمهور أهل العلم ـ أن القرشيين كانوا يزعمون أن القرآن هذا أحق به رجلان
:الأول : عروة بن مسعود من أهل الطائف.
والثاني : والوليد بن المغيرة من أهل مكة.
وأيا كان من قصدوا هم ـ حتى بهذه الطريقة التي قالوها وهي باطلة في أصلها ـ أخطئوا في أنهم لم يعرفوا كيف أو ما هو المعيار في قدر الرجال ، وألا النبي صلى الله عليه وسلم حتى بالمقاييس غير الشرعية غير مقياسهم هو كان أفضلهم صلوات الله وسلامه عليه .(1/41)
نعود فنقول : إنهم قالوا (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) مر معنا أن الجواب الإلهي يتحرى ويتوخى إقحام الخصم ، وبينا في قضية (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ ) أنهم جمعوا بين نقيضين أنهم ارتقوا بالملائكة وفي نفس الوقت وصفوهم بأنهم إناث .
هنا يقول الله لهم ) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) معنى الآية ـ مباشرة ـ : أن الله يقول لهم : أنتم تعترفون الأرزاق إنما يقسمها الله وهذا لا خلاف فيه عندهم ، ومعلوم أن عطاء النبوة أعظم من عطاء الأرزاق ، فإذا كنا لم نسند إلى أحد من الخلق تقسيم الأرزاق فكيف نسند إليه تقسيم النبوة ؟! واضح فهذا هو المعنى المقصود من الآية .
فإذا كُنّا لم نُسند إلى أحدٍ من الخلق تقسيم الأرزاق وهي دون النبوة فكيف تزعمون أنّنا أسندنا إليكم تقسيم النبوة .
إذا كلمة ) رحمة ( في الأول بمعنى النبوة ) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ) هنا المقصود بها النبوة (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ) اللام للتعليل ، ولهذا نصب الفعل ..
(لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً)
أي أن الله جل وعلا لم يجعل الناس على منزلة واحدة ، خادم ومخدوم أمير ومأمور ملك ومملوك عبد وحُر ، حتى تستقيم الحياة ، وعلى هذا طُبعت الدنيا وجُبل الكون حتى يستقيم الأمر وينتفع الناس جميعا ..
(لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)
أما الرحمة هنا فالصواب ـ عندنا ـ أنها بمعنى الجنة . الرحمة الأولى بمعنى النبوة ورحمة الثانية بمعنى الجنّة قال الله تعالى (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)(1/42)
ثم هذه الآية ممهدة للآيات لمقاطع التي بعدها وهي قضية إظهار حقارة الدنيا.
فلما أراد الله أن يظهر حقارة الدنيا قال مخاطبا عباده:
(وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ{33} وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ{34} وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ )
لابد من تقدير شيء ما في المسألة و التقدير( َلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) التقدير لولا كراهة أن يأتي الناس الكفر لجعلنا لمن يكفر بالرحمن .
المعنى : الله جل وعلا يبين أن الدنيا إعطاؤها للكافر يدل على حقارتها عنده مجرد أن الله جل وعلا أذن للكافر أن ينعم في الدنيا هذا دلالة على أنها حقيرة عند الله لأن الكُفار ليس أولياء لله فتنعمهم في الدنيا يدل على أن الدنيا ليست بشيء.
فالله جلا وعلا يقول مخافة أن الناس يظنوا أن الكفر هو سبب في النعيم لو كان هذا الأمر صنعته لظن الناس أنه السبب بأنهم كفار فأصبح الناس لذلك كلهم كفار رجاء أن ينعم لهم .
لكن كراهة أن يظن الناس ذلك منعنا جريان الأمر على إطلاقه بدون تقيد .
(وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ)
(وَمَعَارِجَ) بيّنا جمع معراج بمعنى السلالم مرت معنى قبل في آيات سابقة
(عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) يصعدون .
(وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ * وَزُخْرُفاً (هذا كله المقصود منه إظهار المتاع الذي يعيشه الناس في حياتهم .(1/43)
) وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ( ثم بين الله جل وعلا أن الحقيقة التي لامناص منها أن المتاع الباقي هو متاع الآخرة
فقال ربنا ) وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ ( وليس هذا محل خلاف لكن يأتي محل تساؤل لمن ؟فجاء الجواب القرآني ) وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (
ثم قال الله (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (
(يَعْشُ) هنا جملة شرطية بمعنى يعرض ويصد .
جواب الشرط (نُقَيِّضْ) أي نهيأ (نقيض) بمعنى نهيأ وهو فعل مستقى من اسم جامع ... وأصل التقدير ذلك الذي يحيط بغشاء مخ البيضة
) وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ{36} وَإِنَّهُمْ)
أي الشياطين (لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) عن الهدى
(وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ) وهذا قمة البلاغة ،، فإن قال قائل ألا يكون هذا عذرا لهم أنه يتأول على جهل
يقال في الجواب على هذا لا يعد هذا عذرا لأن جهلهم هنا بسبب إعراضهم عن ذكر الله لأن سبب جهلهم إعراضهم عن ذكر الله
(حَتَّى إِذَا جَاءنَا) وفي قراءة ابن نافع ( حتى إذا جاءانا )
(قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ)
لماذا قال بيني ويبنك ؟ولماذا قال بعد المشرقين ؟
أما ( بيني وبينك( كان يغني عنها أن يقول بيننا ..
لكن أراد قمة البراءة منه ويسعى حثيثا لتخلص منه ففصل حتى في الألفاظ
(قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) معلوم أن هناك مشرقان ومغربان
والأمر لتغليب ومر معنا نظائره .
لكن لماذا اختار المشرقين دون المغربين ؟! قال بعض أهل العلم من اللطائف أن المشرق يكون منه ظهور قرن الشيطان ، يكون منه ظهور قرن الشيطان .(1/44)
فلهذا قال(يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) أسلوب ذم لأن بئس فعل ماضي جامد لا تستطيع .
(وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ)هذا من أعظم ما عذب الله به أهل النار أن الله قطع عنهم حتى التأسي بغيرهم
فإن المصائب في الدنيا يهونها أن تجد أحدا مثلك أو أعظم منك في المصيبة
لكن أهل النار حرمهم الله جل وعلا من التأسي الذي يخفف عنه بهم العذاب
وهذا له نظائر في كلام الناس وأحوالهم فإنكم تقرؤون تسمعون عن الخنساء
صحابية يقال لها تماضر كان لها أخ غير شقيق يسمى صخر
وكان بارا ًبها وكانت وفية له.
وقد جرت عادت الفضلاء والعقلاء أنا الإنسان إذا أحسن إليهم سبقا دون نعمة يريدها فقد طوق أعناقهم وتقول العوام في أمثالها الأول لا يلحقه شيء صاحب النعمة الأولى لا يدرك
وهذا صخر أثنى على أخته الخنساء قبل أن يعرف قدرتها الشعرية
وقبل أن يموت قطعا وقبل أن ينال منها فضلا وهو غير شقيق فلما وقع من قلبها هذه المكانة ببره لها مات في حروبه فلما جاءت ترثيه قالت فيه رثاء جماً :
قذى بعينيك أم بالعين عوار *//* أم ذرفت إذ خلت من أهله الدار
ثم أطنبت في ذكره إلى يومنا هذا والناس تردد
هباط أودية شهاد أندية *//* حمال ألوية للجيش جرار
إلى آخر القصيدة ما العلاقة بين الآيات والأبيات ؟ العلاقة التأسي قالت في مقطوعة لها
يذكرني طلوع الشمس صخرا *//* وأذكره لكل مغيب شمسي
ولولا كثرت الباكين حولي *//* على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن *//* أعزي نفسي بتأسي
فالتأسي بمن ترى حولها من أخوات وقريبات وجارات فقدن أخوانهن كما فقدت أخاها جعلها تتأسى فالتأسي بالغير نوع مما يخفف به الكلء والمصيبة والجرح هذا محروم منه أهل النار .
قال الله جل وعلا (وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ)(1/45)
اشتركتم في الظلم لكن خفف عنكم تحملتم الأعباء بعضكم عن بعض فما قمتم به من ظلم ربما أصبح بينكم تعاون في تحمل أعبائه لكن ليس ثمة تعاون في تحمل البلاء .
قال الله جل وعلا :
(وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (نعوذ بالله من ظلالٍ في جهنم وحرها بالكلية
هذا ما تيسر حول هذه الآيات ذات المقاطع الواحدة الآن نعيد الكره في قراءتها تاريخيا بعد أن قرأناها تفسيريا لأن ما بعدها منفك عنها
نعود لقضية إبراهيم عليه الصلاة والسلام هذا ينفعنا تاريخا في أن نقول
أنك تسمع بأن الله جل وعلا قال في القرآن ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ) الأنعام 74(
ولقد رجحت في اللقاء الماضي بأن آزر لقب له وأن اسمه تارخ
لماذا اختلف العلماء ؟من حيث الصناعة العلمية يجب أن تعلم أنه في الغالب لا يمكن أن يكون هناك اختلاف إلا في وجود سبب قوي له .
فمن سبق كان أتقى منا وأشد علما وأعلم باللغة فلا يمكن أن يكون حملهم على الأقوال مجرد هوى عندما لا يكون لك إلا خال واحد فإنك لا حاجة أن تسميه إذا تحدثت عن خالك
أما إذا كان من يحيط بك يعرف أن لك عدة أخوال فلابد أن تعينه باسمه حتى تميزه عن باقي أخوالك .
فالذين قالوا إن آزر ليس أبا لإبراهيم بل هو عم له قالوا إن الله قال ) ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ ( قالوا لو لم يكن لو كان أبوه لصلبه لا حاجة لأن يسميه لأنه ليس للإنسان إلا أب واحد ،،،
وأما الذين قالوا أن اسمه آزر قالوا هذا صريح القرآن ولا انفكاك عنه ومن أعظم الأدلة على أنه أبوه لصلبه أن الله ذكره في عدة مواضع ولم يقل أنه عمه ولم يقل أنه عمه ،،
فلو قال أنه عمه لأمكن القول يصبح لقولهم حجة قوية لكن كون الله جل وعلا ذكر أبا إبراهيم في مواطن عدة ولم يقل في واحدة منها أنه عم دل على أنه أب له لصلبه هذه واحدة .(1/46)
إبراهيم عليه الصلاة والسلام ترك إسماعيل وهو الأكبر وإسحاق وترك العيص .. من ذرية إسماعيل جاء نسل ينسب إلى عدنان من عدنان إلى إبراهيم مات آباء وأجداد قطعا لكن لا يوجد دليل ثبت على أسمائهم .
أما من عدنان إلى هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم فهذا متفق عليه بين علماء النسب .
أحيانا يمر معك في تكرار التاريخ كلمة معد وكلمة عدنان وتطلق أحيانا بمعنى واحد .. لماذا ؟! لأن ليس بين معد وعدنان أحد فمعد هو الابن المباشر لعدنان فيقال معدي ويقال عدناني والمعنى واحد والمعنى واحد .
قال روح بن زباع
يوم يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن *//* وإن لقيت معدياـ فماذاـ فعدناني
أعيد هذا روح بن زباع هرب روح من عبد الملك بن مروان فأهدر دمه فأصابه خوف قال :
ما أدرك الناس من خوف ابن مروان
أي عبد الملك واضح !
لما أصابه خوف يقول أنا إذا قابلت رجلا من أهل اليمن قلت أنا يمني
أي قحطاني من العرب العاربة .فإذا لقيت رجل عدنانيا قلت أنا عدناني أي من العرب المستعربة ، موضع الشاهد أنه قال
يوم يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن *// * وإن لقيت معديا ما قال فمعديا قال فعدناني لأن معد هو ابن عدنان ،، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول الخطباء والكتاب في مدحه الصلاة والسلام على سيد ولد عدنان هذه اللفظة تنبه إليها الشعراء .
أحيانا أيها المبارك تكون المعلومة والمعنى مطروح من يستله ويصوغه هذا هو العاقل.
الخامة واحده لكن التعامل مع الخامة هو الذي يفرق الناس هو الذي يفرق الناس ويفاضل بينهم التعامل مع ماذا ؟ مع الخامة
إن كانت في العلم كمعلومة أو كانت في اللفظ . فالنبي صلى الله عليه وسلم أطبق الناس على أنه من ولد عدنان .
فجاء ابن الرومي الشاعر العباسي فقال : إن الناس إذا انتسبوا يفتخرون بمن ؟ بآبائهم فيقول فلان أنا من قبيلة قريش أنا هاشمي أنا قرشي(1/47)
أنا من بني سهم كل بحسبه . فقال أما عدنان ففخرت بأن النبي صلى الله عليه وسلم منها فهذا فخر والد بولد لا ولد بوالد
كما علت برسول الله عدنان
فالذي جعل مزية عدنان على قحطان هو أن النبي صلى الله عليه وسلم منهم .
وهذا إن أطنبت في الفهم يريك الله جل وعلا أن رحمته مقسمة فالعدنانيون ليسو عرب عاربة عُوضوا بأن منهم محمد صلى الله عليه وسلم والقحطانيون ليس منهم النبي صلى الله عليه وسلم فعوضوا بأنهم عرب عاربة فعوضوا بأنهم عرب عاربة ومثل هذا قد تظنه ليس كثير علم لكن هذا إذا كان متوقدا في ذهنك وأنت تسير في الحياة يجعلك تقل الطمع
لماذا تقل الطمع ؟ تعلم أنه من الصعب أن تجمع الحسنيين
إذا الله قال لنبيه{ ) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ } الأنفال 7(
) {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ } التوبة 52 (
هذا يجعلك حتى في مسيرتك لا تحاول أن تكون كل شيء محال
فاتخذ شيئا جرماً وامضي عليه وتقلده واجعل ما بقي فروعا وحواشي لا تهدم ذلك الحلم الذي تريده فمن الذي يريد كل شيء لن يحصل على شيء .
خرج حسين ابن علي ينشد الخلافة والحسين إذا تكلم يقول جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمي يقول عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم "بضعة مني"من فقه المسألة ؟ ابن عمر قال له وهو يودعه إنك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولن يعطيكم الله الملك والنبوة لن يعطيكم الله النبوة والملك .لن يكون لك حظ فيها فوقع كما قال ابن عمر حُرم الحسين باستشهاده في العاشر من محرم من الوصول إلى الحكم ،، فيأتي استثناء الاستثناءات تكون في الخواتيم لأن الأمور إذا تمت ماذا ؟ انتهت.
فالمهدي من ذرية نبينا صلى الله عليه وسلم لكنه علامة من علامات الساعة يكون بها الخواتيم وهذا من سنة الله في خلقه كم تفضل المشرق على المغرب في أن الشمس تشرق منه فإذا جاءت الشمس من المغرب ماذا يحصل ؟؟ تقوم الساعة(1/48)
هذا ما تيسر إيراده و تهيأ إعداده وأعان الله على قوله
وصلى الله على محمد وعلى آله
والحمد الله رب العالمين(1/49)
بسم الله الرحمن الرحيم
تأملات في سورة العنكبوت
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وسع الخلائق خيره ولم يسع الناس غيره ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ما جزى نبيا عن أمته ، صلى الله والصالحون من خلقه عليه كما وحد الله وعرف به ودعا إليه،اللهم وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين ... أما بعد :
أيها المباركون هذه وقفات مع سورة العنكبوت ، وهي سورة مكية في أظهر أقوال العلماء وإن كانت آياتها التسعة والستون لا تخلوا من بعض الآيات المدنية على الأظهر .
سنقف وقفات مع آيات منها نؤمل بها ـ إن شاء الله تعالى ـ أن ننهل وإياكم من معين القرآن وأن يزدنا الله ـ تعالى ـ علما به ويقينا بتعبده ـ تبارك وتعالى ـ فنقول والله المستعان وعليه البلاغ :
افتتح ربنا ـ جل وعلا ـ هذه السورة الكريمة بقوله : { ألم ، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } تنوعت الطرائق التي تفتتح بها سور القران الكريم فمنها ـ كما في هذه السورة المباركة ـ ما يسمى الافتتاح بالحروف المتقطعة مثل سورة البقرة ،وآل عمران ،ومريم ،والحاميم ونظائرها في القرآن ، وبعضا من السور افتتحت بالقسم قال الله ـ جل وعلا ـ :{والطور } وقال ـ جل ذكره ـ :{والفجر} وقال سبحانه :{والضحى}وغير ذلك من السور .
وافتتحت بعض السور بأداة الشرط كقوله تعالى :{إذا الشمس كورت}وقال ربنا :{إذا السماء انفطرت} وقال تبارك وتعالى:{إذا زلزلت الأرض زلزالها}وهذا يصل إلى عشر طرائق ..(1/1)
هذه السورة افتتحت بالحروف المتقطعة ، والآيتان الكريمتان اللتان بعد ذلك قال فيهما ربنا ـ جل ذكره ـ :{ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين }أخبر الله ـ جل وعلا ـ فيها بأمرين عظيمين :
الأول : أنه لابد من الفتنة والاختبار .
والأمر الثاني : أنه لا نجاة إلا بالصدق .
فما من أحد لن يخلص إلى عرصات يوم القيامة حتى يبتلى ، وأنبياء الله ورسله هم الصالحون من خلقه هؤلاء أشد الناس ابتلاء ، لكن لاسبيل للإنسان أن يقف على عرصات يوم القيامة حتى يبتلى ،في الحياة الدنيا حين الاختبار يكون الإنسان ـ عياذا بالله ـ كاذبا ، أو أن يكون ـ نرجوا الله من ذلك ـ صادقا ..
ولكن الخلق الذين حولك لا يتأتى لهم أن يعلموا صدقك من كذبك حتى تلقى الله ، فإذا لقي العباد جميعهم ربهم ـ تبارك وتعالى ـ حصل ما في الصدور بعد أن يبعثر ما في القبور ويميز الصادق من الكاذب ولا ينفع بين يدي الله شيء أعظم من الصدق قال جل وعلا : { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } وقال تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } ..
والفتن تختلف ، فقد كانت في الأمم التي قبلنا أعظم فتنة في الدين بأن يحال بينهم وبين العبادة لتسلط الأشرار عليهم ، وأما في زماننا فقل أن يفتن الإنسان بأن يحال بينه وبين الطاعة لكن جاءت فتنة الشهوات من كل حدب وصوب فأحزبت في كثير من الخلق عن الرب تبارك وتعالى والمسابقة في الخيرات لطاعته والمسارعة إلى مرضاته ، فهذا ما دل عليه افتتاح السورة وقد تكلمنا عن نظائر هذا في دروس قد خلت ..
نقف بعد ذلك وقفات أخرى في آيات متفرقة منها ..(1/2)
قال الله ـ جل وعلا ـ :{ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون ، فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين ، وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه }هذه الآيات أراد الله بها تثبيت قلب نبيه ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ، ونبينا ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ آخر الرسل وقد مضت سنة الله في رسل من قبله فقص الله ـ جل وعلا ـ عليه أخبار أولئك الرسل من قبله فقد قال الله في هود :{ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين } فلما بدأ القرآن يقص على نبينا ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أخبار من سبق جاء القرآن عظيما جليلا لأنه كلام الله في ترتيب سياق أخبار رسل الله من قبل .
قال ربنا ـ وهو أصدق القائلين ـ :{ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه } ولم يكن على وجه الأرض أحد إلا قومه ، فلهذا لما جاء الطوفان لم يبق على الأرض أحدا ، لكن الفرق مابين علوية رسالة نوح ونبينا ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أن نوحا وإن وافقت رسالته ـ الأظهر من أقوال العلماء ـ أن جميع الأرض كانوا مخاطبين برسالته إلا أنه مرسول لأهل زمانه،أما نبينا ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فمبعوث لأهل زمانه ولمن جاء بعده إلى قيام الساعة ، ثم إن نوحا وافق قدرا أن الأرض لم يكن عليها كثير ناس فكان ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أهل الأرض كلهم بناحية منها ومنهم نوح ـ عليه السلام ـ .
قال الله :{ولقد أرسلنا نوحا } وهو أول رسل الله إلى الأرض ، فقد سماه الله ـ جل وعلا ـ في القرآن بالعبد الشكور قال الله تعالى :{ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا}.
{(1/3)
فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } السنة والعام من حيث الوقت واحد فهي مرور حول إن كان سنة أو كان عاما ، كلاهما اثنا عشر شهرا إلا أن اللغة ـ وجاء به القرآن ـ يقال السنة في حق ما هو مجدب ومضر قال تعالى :{ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات }وقال جل وعلا حكاية عن يوسف ـ عليه السلام ـ :{قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله } وقال ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في دعائه على مضر : ( اللهم سنينا كسنين يوسف ) وعبر بالسنين ولم يعبر بالأعوام ، واشتهر في اللغة وجاء في القرآن أن العام يطلق على ما أخصب ورفع الناس .. قال الله ـ جل وعلا ـ في خبر يوسف:{ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون }
قال الله ـ جل وعلا ـ هنا : {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم}أي يدعو {ألف سنة إلا خمسين عاما}وفائدة الاستثناء هنا أن الله لم يقل ـ ولا ملزم على الله ـ لبث فيهم تسع مئة وخمسين عاما لأن العرب تقول في كلامها على التقريب وعلى التحقيق ، فإن قالوا : إن زيدا عاش مئة سنة أو عمرا عاش تسعين عاما أو تقريبا فقد يكون عاش تسعين عاما تماما وقد يكون قاربها ، وقد يكون عاش مئة عام وقد يكون قاربها ، فإذا وجد الاستثناء انقطع التقريب وثبت التحقيق .
فمعنى قول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ:{فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما }
أراد الله ـ جل وعلا ـ تحديد الوقت والزمن الذي عاشه نوح ـ عليه السلام ـ داعيا في قومه تماما تحقيقا لا تقريبا .
{فأخذهم الطوفان وهم ظالمون }(1/4)
الطوفان في اللغة:كل شيء أحاط بك من ماء أو غيره يسمى طوفان ،فإذا أحاط بالأرض كلها كان ذلك الطوفان أعظم وإلا قد قال الله ـ جل وعلا ـ عن قوم موسى:{ وقالوا مهما تأتنا بآية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع } فذكر الله الطوفان هنا كما ذكر في خبر نوح لكنه في خبر موسى أقل وأخص وكان محدودا على أرض مصر ، ولم يكن محيطا على الأرض جميعا كما هو حاصل في زمن نوح .
وقال الله ـ جل وعلا ـ عن جنة أولئك الأبناء :{فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون } فسماه الله ـ جل وعلا ـ طائف لأنه أحاط بالجنة كلها ..
والمقصود : أن هذا الطوفان مختلف عن غيره ، قال الله ـ جل وعلا ـ :{فأخذهم الطوفان وهم ظالمون } والواو هنا واو الحال أي حال كونهم ظالمين لأنفسهم مع ربهم ـ تبارك وتعالى ـ .
ثم قال الله بعد ذلك :{فأنجيناه وأصحاب السفينة } أي أنجينا نوحا ومن معه من المؤمنين ـ كما ورد مفصلا في سور أخر ـ .
قال ربنا بعدها :{وجعلناها آية للعالمين } أي أن هذه السفينة بقيتن ، وقد روى البخاري في صحيحه أن قتادة ـ أحد أئمة السلف رحمه الله ـ يقول: (الحمد لله الذي أبقى هذه السفينة حتى رآها أوائل هذه الأمة ) وهي ـ على المشهور ـ كانت في الموصل في نهر الفرات من أرض العراق .
وأيا كان الأمر سبق قول أصدق القائلين ربنا :{فجعلناها آية للعالمين } فأخبر الله نبيه عن خبر نوح ، والمقصود : أنه تمهل في الدعوة ولا تستعجل في الإجابة ، وليس لك إلا أعوام في دعوتك لقومك ، وقد دعا نوح من قبلك ألف سنة إلا خمسين عاما فصبر ، وأنت أولى بالصبر من نوح لأنك أفضل من نوح {فاصبر كما صبر أولو اعزم من الرسل } والإنسان لابد له ـ وإن شرفت مراتبه وارتفع قدره ـ من أئمة يقتدي بهم يصيبون في أشياء ويخطئون في أشياء إلا الرسل فإنهم محصونون ـ برحمة الله لهم ـ في أن يقعوا في خطأ ديني .(1/5)
قال الله ـ جل وعلا ـ بعدها :{ وإبراهيم إذ قال لقومه } فذكر الله ـ تعالى ـ خبر إبراهيم بعد خبر نوح لإن الله جمع ما بين إبراهيم ونوح في عطية عظيمة أن الله جعل النبوة والكتاب محصورة في ذرية هذين النبيين الكريمين قال تعالى :{وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب } ، فبعد أن تفرع الأنبياء من ذرية نوح ـ عليه السلام ـ قال تعالى في الصافات :{وجعلنا ذريتهم هم الباقين } فقال العلماء :( إن جميع من كان مع نوح في السفينة هلك ولم يبق إلا أبناؤه حام وسام ويافث ، وكنعان هلك ) فالبشرية كلها تنتسب إلى حام وسام ويافث وبالتالي ينتسبون إلى نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ .
ثم ذكر الله ـ جل وعلا بعد ذلك خبر خليل الله إبراهيم ..
إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أبو الأنبياء لأن أكثر الأنبياء من ذريته ـ عليه السلام ـ وسيأتي لماذا خصه الله ـ تعالى ـ بهذا ؟؟.
دعا إبراهيم قومه إلى عبادة الله وفي مقدمتهم أبيه في خبر معروف ومشهور .
قال الله ـ جل وعلا ـ بعد أن بين الطرائق التي دعا إبراهيم فيها قومه :{فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار }(1/6)
ذكر الله ـ جل وعلا ـ كيف قابل قوم إبراهيم خليل الله ـ عليه السلام ـ في دعوته إياه ، نجم عن هذا بعد أن اتفقوا على حرقه أن الله ـ جل وعلا ـ أنجاه من النار قال تعالى :{فأنجاه الله من النار } حينما أنجاه الله من النار ورأى تلك النعمة آمن هو ولوط فقط قال الله في نفس السورة :{ فآمن له لوط }ثم يأتي واو استئناف قال الله عن خليله إبراهيم:{ وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم} الهجرة إلى الله كثير من يصنعها بدنا وقل من يصنعها قلبا وهو المراد الأول من الهجرة ..،(1/7)
فلأبدان تابعة للقلوب ، وخليل الله ـ جل وعلا ـ إبراهيم من أعظم من مليء قلبه إيمانا بالله ، فلما اشتد عليه قومه قال لهم يخاطبهم بلسان الحال والمقال:{إني مهاجر إلى ربي } والتجارة مع الله تجارة رابحة بكل حال ، فلما هاجر إلى ربه وهو على ثقة بما عند الله قال :{إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم } قال الله ـ تبارك وتعالى ـ :{ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين }كما فر إلينا وحيدا بوحدته أكرمناه بالعطايا وكثرنا من ذريته ، ثم أن الله ـ جل وعلا ـ أكرمه بأن جعل النبوة مستمرة في عقبه ، فما من نبي أرسل إلا وهو من ذرية إبراهيم ، ولا كتاب أنزل إلا وهو على أحد ذرية إبراهيم إكراما له لأنه قال :{ إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم } ، وأنت أيها المبارك لا تملك إلا قلبا واحدا إما أن تهاجر به إلى الله أو أن تهاجر به إلى غير الله ، ولن تهاجر به إلى الله إلا إذا علمت يقينا أنه لا أحد يستطيع أن يثيبك إلا الله ، ولا أحد يستطيع أن يجازيك ويعاقبك إلا الله ، فإذا انقطعت العلائق عن الخلائق عرف المرء أن الله وحده من يملك الأرض يسهل على العباد بعد ذلك أن يهاجروا بقلوبهم إلى الله ، لكن إن بقي الإنسان يخاف من زيد أو عمر أو غيرهما من متاع الدنيا الزائل ثقلت عليه الهجرة إلى ربه ..
{ووهبنا له إسحاق ويعقوب } ومعلوم أن يعقوب ابنا لإسحاق ، فوهب الله ـ جل وعلا ـ له إسحاق ومن ورائه يعقوب وجعل النبوة والكتاب محصورة في ذريته إكراما له ..(1/8)
ثم حتى لا يقع في قلب أحد أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ نال حظه من العطايا في الدنيا قال الله ـ جل وعلا ـ :{ وآتيناه أجره في الدنيا } بأن الأمم كلها تمنت الانتساب إليه ، ولهذا قال الله :{ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين } فكل الملل تمنت الانتساب إليه ، ثم إن الله ـ تعالى ـ قال:{ وإنه في الآخرة لمن الصالحين } والألف واللام وإن جاءت هنا للتعريف فإن المقصود بها الأول بيان أنه أكمل الصالحين عليه السلام ..
بقيت رقيبة عظيمة في المسألة كلها وهي أنها : ما لمناسبة مابين ذكر خليل الله إبراهيم بعد أن ذكر نوح مع أن بينهما أنبياء كثر ؟؟
لأن الله ـ جل وعلا ـ قال :{ فأخذهم الطوفان وهم ظالمون فأنجيناه وأصحاب السفينة} وهذا في نوح ، وقال ـ تعالى ـ في إبراهيم :{ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه } فلما ذكر الله ـ تعالى ـ أنه نجا نوحا من الماء ذكر ـ جل وعلا ـ أنه بقدرته ورحمته نجا إبراهيم من النار ، والماء والنار ضدان حاط الأول بنوح فأنجاه الله وأحاطت الثانية بإبراهيم فنجاه الله ولا يقدر على هذا إلا رب العالمين ـ جل جلاله ـ .
قال الله ـ جل وعلا ـ بعدها بآيات :{ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ، إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم }..
كل أحد في الدنيا حتى ولو أنه أظهر للناس كبره يعلم أنه ضعيف وعلى يقين أنه بحاجة إلى من ينصره ، وكفار قريش على الكبر الذي كانوا يدعونه كانت هذه الغريزة في قلوبهم لا يستطيعون أن ينفكوا عنها ،ولهذا جعلوا من تلك الأصنام والأوثان ملاذا لهم عند الشعور بالضعف ، فلما جعلوها كذلك لم يزدهم ذلك إلا ضعفا لأنه لاسبيل إلى شيء إلا بحول الله وقوته .(1/9)
قال الله ـ تعالى ـ :{ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون }
العنكبوت اتخذت البيت واغترت به فالتشبيه من وجهين :
شبه الله الأصنام والأوثان ببيت العنكبوت ، وشبه الله ـ جل وعلا ـ من اتخذ الأوثان والأصنام وليا له بالعنكبوت نفسها ، ثم قال الله في جملة اعتراضية :{ وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت } وهنا يقف المرء لأن الله قال بعدها :{ لو كانوا يعلمون } وهو ليس متصلا بقوله ـ جل ذكره ـ :{ وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت } لأنه لا أحد يجهل أن بيت العنكبوت هين ، لكن آخر الآية مرتبط بأولها أي : لو كانوا يعلمون أن هذه الأولياء لا تنفع ، فقريش تعلم أن بيت العنكبوت لا ينفع لكنهم لا يعلمون أن أصنامهم وأوثانهم لا تنفع ولم يقروا بذلك .
وينجم عن هذا : أن الإنسان ينبغي عليه يعظم توكله على ربه ـ تبارك وتعالى ـ ، وهذه الأوثان رغم أن لها حقائق وجودية فكانت تعلق ويراها الناس ومع ذلك قال الله ـ تعالى ـ :{إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شي } ولو كانت موجودة حسا لكن لا أثر لها ، وكل أحد لا يمكن أن يملك لأحد حولا ولا طولا ولا قوة إلا بمشيئة الله ـ تعالى ـ فيما أذن الله أن يقع قدرا من الأحياء ، أما غير ذلك فلا يمكن لأحد أن ينفع أحدا كما قال ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في خطابه لابن عمه ابن عباس :( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشي لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، و واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ) فإذا تحرر هذا وتبين وجب على المؤمن أن يزدلف ويهاجر بقلبه ويتوكل على ربه ـ تبارك وتعالى ـ ويعلم أن كل شي بيد الله ـ جل وعلا ـ ..
والأمور ثلاثة :
1ـ ما كان لله فهذا يبقى أثره حتى زواله حسا .
2ـ وما لم يكن لله لا يبق له أثر بعد زواله حسا.(1/10)
3ـ وما لم يرده الله أن يكون لا يمكن أن يكون لا حسا ولا أثرا .
قال ربنا :{وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لا رتاب المبطلون ، بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ، وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الأيات عند الله وإنما أنا نذير مبين }
هذه الآيات وما بعدها تتكلم عن أمرين عظيمين :
** أن النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ نبي مجتبى وعبد مصطفى أراد الله أن يختم به الرسالات ويتم الله به النبوات ..
وحتى يتأتى هذا حفظه الله ـ جل وعلا ـ وعصمه في حياته من أن يقرأ ويكتب
حتى إذا جاء بهذا الكتاب العظيم لم يبق في قلب أحد شبهة أن هذا حصل في أيام الطلب عندما كان يأتي بلاد كسرى وقيصر ويلتقي بعلمائها ، فمنعه الله قدرا أن يصل إلى قراءة أو كتابة حتى تكون النية عليه أعظم والحجة به أقوى ..
قال تعالى :{ ولا تخطه بيمينك }
ثم قال الله ـ جل وعلا ـ بعدها مبينا ما هو القرآن :{ بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون }
لا يمكن لأحد أن يعطى عطية أعظم من أن يكون القرآن في قلبه ويعمل به ، فنبينا ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بشر وقد يلتفت ميمنة وميسرة لما يراه من أثرياء الناس و أغنيائهم على البغال والجمال في أيام حياته ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ، فقال الله ـ جل وعلا ـ له:{ ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } وبعد أن بين له ذلك قال له :{ لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا } فنهاه الله ـ تعالى ـ عن أن يمد عينيه ميمنة أو ميسرة وأن القرآن في قلبه ..(1/11)
وقال الله ـ تعالى ـ هنا :{ أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } فبين الله ـ جل وعلا ـ أن القرشيين طالبوا بالآيات وقالوا :{ لولا أنزل عليه آيات من ربه } فأخبر الله نبيه أن يقول لهم :{ أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى } فلا يمكن لأحد أن يرقى قلبه إلى عالم الملكوت ولا أن تستقيم طريقته ولا أن يخشع فؤاده ولا أن تذرف عينه إلا أذا كان يعلم أنه لا سبيل إلى الله إلا بالقرآن والسنة ، والسنة كلها في آية واحدة :{ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فمن عظم ما عظمه الله وقدم ما قدمه الله وقدر له أن يقوم ليله بالقرآن فهذا هو الذي أقرب إلى الله وأدنى من رحمته ، ولهذا قال ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ :( من قرأ عشر آيات لم يكتب من الغافلين ، ومن قام بمئة آية كتب كذا وكذا ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين ) فأخبر ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أن الناس في قراءتهم للقرآن يتفاوتون ، والمقصود من هذا أن الأمر كما قال الله :{ بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون }وحتى يتحقق هذا المعنى ـ والقرآن يعضد بعضه بعضا ـ ينظر الإنسان فيما أخبر الله ـ جل وعلا ـ به عن أنبيائه ورسله ممن كانت تتلوا عليهم آيات الله ، فالقرآن والتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى من حيث الإجمال كلها من لدن الكبير المتعال ..
فكما كان على بني إسرائيل أن يؤمنوا بالتوراة ، وأن يؤمن قوم عيسى بالإنجيل ، وقوم داؤود بالزبور وجب على أمة محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أن تؤمن بالقرآن ، والقرآن يعلم كل أحد أنه كتاب الله ، لكن في زماننا هذا قل التفات الناس إليه وتمسكوا بغيره على طريقين :
** إما من فتن بتدوين العلماء والكتب وقدمها على كلام الله .(1/12)
** وإما ـ والعياذ بالله ـ من نظر إلى عالم الشهوات الفسيح فأخذ يستمع إليها يرق لها قلبه وتصغي لها أذنه ، وجعل كتاب الله ـ جل وعلا ـ وراءه ظهريا .
والله ـ عز وجل ـ يقول :{ أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا }
وقال عن قوم سابقين :{ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون آمنا به }
ولما خاطب الله ـ جل وعلا ـ نبيه في سورة مكية ، والقرآن يعد جيلا سيهاجر إلى المدينة ويجاهد ويغزو ويدعو ويبذل المال والنفس كان لابد لهذا الجيل قبل أن يسكن المدينة أن يسكن الإيمان قلبه ، ولهذا قال الله ـ يخاطب القرشيين ـ :{قال آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتو العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا }
فلما قال الله في العنكبوت :{ بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم }
لا يسع مؤمن أن يسمع هذه الآيات إلا ويقف ويجعل لنفسه حظا من قيام الليل يقرأ القرآن ويناجي الله ـ جل وعلا ـ بكلامه وبآياته يعظم الله في ركوعه ويدعوه في سجوده ..وفي كل ذلك يستصحب كل نعمة الله عليه وفضله ـ تبارك وتعالى ـ بأن أوقفه الله بين يديه يناجي الله ـ جل وعلا ـ في كلامه وآياته كما فعل المعصوم ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ..
لما أتتك قم الليل استجبت لها
تنام عينك أما القلب لم ينم
الليل تسهره بالوحي تعمره
وشيبتك هود آية استقم
والمقصود من هذا الخصيصة الثانية :أن هذا النبي الذي أنزل عليه القرآن لم يكن يقرأ ولا يكتب فهو أمي قاد العلماء ..(1/13)
ثم بعد ذلك قال الله ـ جل وعلا ـ :{ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ }لا يمكن لأحد أن يفقه الدين حقا حتى يعلم أنه خلق لغاية أعظم وهي عبادة الله ، وهذا أمر لابد وأن يتأكد في قلب المؤمن ، فإذا انشغل بغير ذلك لم يفقه أصلا لماذا خلق !!
لم تخلق لتعمرها ولكن لتعبرها
فجد لما خلقت وناد إذا سجدت به اعترافا
كما ناداه ذي النون ابن متى
وأكثر ذكره في الأرض دأبا
لتذكر في السماء إذا ذكرت
نبي الله زكريا ـ عليه السلام ـ طلب الولد على كبر ، وطلب من ربه آية لما جاءته بشارة :{فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك } قبل البشارة :{ قال رب اجعلي آية } فآتاه الله آية أنه لا يتكلم إلا بالإشارة
{ ثلاث ليل سويا } سويا : حال من زكريا ، ليست حال من الليالي
أي أنت سوي الخلقة ليس بك عاهة ومع ذلك تخاطب الناس بالرمز ..
إلى هنا والقضية ظاهرة ، قال الله بعدها :{ واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار } فلم يأذن الله له أن يترك ذكر الله رغم أنه يعيش ثلاثة أيام آية للناس لأنه ما خلق إلا لعبادة الله ، ولا ينبغي ولو كان في حال كونه آية أن يشغل عن طاعة الله ..(1/14)
قال الله جل وعلا ({فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً }مريم11) فعبادة الله جل وعلا هي الغاية العظمى من خلق الثقلين ، هنا الله جل وعلا يُنادي عبادهُ الذين آمنوا نداء تشريف ({يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ }العنكبوت56) فإذا عزّ المقام في الأرض ولو وجدت بها الخيرات والعطايا وما أفاء الله عليك لكن حِيل بينك وبين أن تعبد الله فاترُك الأرض أياً كانت وإلا المهاجرون الأوائل الصديق ومن معه إنما تركوا مكة وبها بيتُ الله لكنهم تركوها لما لم يقدروا على أن يعبدوا الله فيها فمكة على شرفها ومكانتها وحُرمتها لم تعدُ مكاناً صالحاً لهم فتركوها لأن الله تعبدهم بأن يعبدوه أكثر مما تعبدهم بأن يُقيموا في مكة فتركوا مكة من أجل أن يتأتى لهم أن يعبدوا ربهم تبارك وتعالى قال الله (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) ثم قال ربُنا ({كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }العنكبوت57)(1/15)
كل وفق الصناعة اللغوية من ألفاظ العموم والروح إذا كانت في الجسد تُسمى نفس فإذا فارق الجسد تُسمى روح قال صلى الله عليه وسلم " إن الروح إذا صعد يتبعهُ البصر " وقد كتب الله جل وعلا الموت على كل أحد أذل الله به الجبابرة والقياصرة والأغنياء والفُقراء على سواء والأنبياء وأتباعهم والكفار ورؤسائهم (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) إلا أن أهل العلم يقولون : ثمانية لا يلحقها العدم :. العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار والروح وعجب الذنب فهذه الثمانية لا يلحقها عدم قال صلى الله عليه وسلم " كل جسد ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب " واتفق العلماء على السبعة الباقية في أكثر أقوالهم وهي العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار والروح وعجبُ الذنب هذه لا يلحقُها العدم .
وموت النفس بانفصالها عن جسدها قال ابن سيناء:
هبطت إليك من المحل الأرفعِِ *** ورقاء ذاتُ تعزُزٍ وتمنعُِ
هبطت على كُرهٍ إليك وإنما *** كرهت فراقك وهي ذاتُ توجُعِ(1/16)
الملك ـ أيُها المُبارك ـ إذا نفخ في الجنين الروح الروح تسري في الجسد كله ولا تختصُ بعضوٍ دون عضو فإذا جاء ملكٌ آخر يقبض الروح من أين ينتزُعها ؟ ينتزعُها من الجسدِ كلهِ فكما انتشرت في الجسد وقت أن نفخ الملك عندما كُنا أجنة تبقى منتشرة في الجسد إذا جاء الملك يقبضُها فيتأتى هنا الفارق في العمل الصالح فإذا كانت النفس مؤمنة وصاحبُها عمل صالحا خرجت روحهُ من فمه كما تخرجُ القطرةُ من فيّ السقاء قال الله (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) أي الروح (وَأَنتُمْ) أي من حول الميت (حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ) أي إلى الميت (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ) أي بملائكتنا (وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ{85} فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ{86} تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{87} الواقعة ) موضوعُ الشاهد منها أن الله أذل بالموت كل أحد (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) فاخبر الله جل وعلا أن الرُجعى إليه فمن أدرك أن الرُجعى إلى رب العالمين تبارك وتعالى لان قلبهُ وخشعت نفسهُ وذلّ لمولاه .
ثم قال الله جل وعلا بعد ذلك ({وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }العنكبوت60) هذه الآية لها مدلولاتٌ عظيمة نقفُ عند بعضٍ منها :
الأول : اثنتان تفرد الله بهما ولم يأذن لأحدٍ من خلقهِ أن يُؤتاها الخلق والرزق فكما أنهُ لا خالق إلا الله فإنهُ لا رازق إلا الله (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم }فاطر3) .(1/17)
الأمر الثاني : أن كثرة الرزق لا تدل إطلاقاً على صلاح العبد فإن القرشيين قالوا كما قال الله ({وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ }سبأ35) أجابهم الله بقوله ({قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }سبأ36 ) فأخبر الله جل وعلا أن وفرة العيش لا تدلُ بالضرورة على أنهم قومٍ متقون .
الأمر الثالث : أن الله جل وعلا فضل بعض عباده بالرزق وتحكم في تقسيم رزق عباده ولم يكل ذلك إلى أحدٍ من خلقهِ قال الله ({وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ }النحل71) .
الأمر الرابع : أن الرزق يُقال لهُ أحياناً رزق وأحياناً قوت فما يختصُ بالبدن من غذاء يُطلق عليه قوت ، وما هو أعم وأشمل يُسمى رزقا .
والأمر الخامس : أن الرزق قسمان :. رزق أبدان وهذا يؤتاه البر والفاجر والمؤمن والكافر ، ورزق معارف وعلوم بالله العلي القدير وهذا لا يُؤتاه إلا من وفقهُ الله جل وعلا لمرضاتهِ ورحمتهِ .
وكما سمّى الله جل وعلا ما ينالهُ العباد في الدُنيا رزقا سمّى الله جل وعلا الجنة رزق وهي أعظم الرزق فلما ذكر الله المؤمنين وخاتمة أعمالهم ودخولهم جنة ربهم قال جل شأنه (قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً }الطلاق11) وقال جل وعلا في ص ({إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ }ص54) فسمى الله جل وعلا كذلك نعيم الجنة رزقا وأخبر أنهُ لا نفاد له أي لا انقطاع لهُ ولا انتهاء .
إذا تبيّن هذا كلهُ وجب على المرء أن لا يتكل ولا يعول على أحدٍ أن يُؤتيهُ إلا ربُهُ تبارك وتعالى كما قال ربُنا (فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ }العنكبوت17) وهذا كذلك مثلُ الأول يحتاجُ إلى قلبٍ يعلمُ الله حقاً ويعرفًُ ربهُ حتى يعظم توكلهُ على خالقهِ جل شانهُ .(1/18)
قال ربُنا في خاتمة السورة : ({وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }العنكبوت69)
نختم أيها المؤمنون قبل أن نستمع إلى أسئلتكم بأن المرء في هذه الحياة الدُنيا بأن يُجاهد نفسهِ والنفسُ في الأصل أمارةُ بالسوء ومجاهدة النفس مرتبةٌ عالية لكنها من أعظم أسباب التوفيق أن يُجاهد الإنسانُ نفسهُ التي بين جنبيهِ وأن يُعرض عن هواه ويُقبل على مولاه يتأتى لهُ بعد ذلك الوصول إلى خيري الدُنيا والآخرة ويتأتى لهُ السيرُ على منهاج الله لأن الله تكفل بالهداية لمن سار على طريقهِ وجاهدوا نفسهُ وآمن بمولاه قال ربُنا (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) .
************
تأملات في سورة البلد
قال الله جل وعلا (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ{1} وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ{2}) ـ وأنا أُحاول هنا أن يكون درساً علمياً ليس وعظياً ـ (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ{1} وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ{2} وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ{3})
البلد المقصود به هنا مكة بإجماع وهي حرمها الله جل وعلا يوم خلق السماوات والأرض ولم تُحل إلا لنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار واختلف العلماء أيهم أفضل مكةُ او المدينة ؟
فذهب جمهور العلماء من السلف والخلف إلى أن مكة أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض " ولم يُحلها إلا لنبيهِ ساعة من نهار ولأن فيها بيت الله والله لم يتعبد الناس بالحج إلا إلى بيتهِ والصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة .(1/19)
وذهب بعضُ المالكية وهو قولٌ يُنسب إلى عُمر في أمير المؤمنين رضي الله عنه وابنه عبد الله وعليه بعض المتأخرين إلى أن المدينة أفضل وحُجة هؤلاء أن الله جل وعلا اختار لنبيهِ أن يموت فيها صلوات الله وسلامهُ عليه ، ومن حُججهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لموضعُ سوط أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها " وقال في حديثٍ آخر " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " فقالوا والروضةٌ أوسعُ من السوط والسوط قال فيه عليه الصلاة والسلام " لموضعُ سوط أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها " وهذا الدليل ردهُ ابن عبد البر رغم أنهُ مالكي المذهب وقال ليس المقصود من قول النبي صلى الله عليه وسلم " لموضعُ سوط أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها " إلا التقليل من رغبة الناس في الدنيا والدليل والحديث هنا في منأىً عن الاستدلال ، قلتُ المسألة خلافيهِ لكن أشكل على بعض المتأخرين كيف أن الله جل وعلا أختار لنبيهِ صلى الله عليه وسلم أن يموت فيها .
قال الله بعدها (وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) (وَأَنتَ حِلٌّ) تحتمل معنيين : حِل من حَلّ بالمكان بمعنى نزل فيه وسكن ، فيُصبح الآية قسمٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو مخلوق حال كونه ِساكناً أين ؟ في مكة .(1/20)
وآخرون يرون أن حلٌ هنا ضد حرام فيُصبح المعنى أن قومك استحلوا حُرمتك وأذاوك (وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) ، ثم قال الله (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) الأكثرون على أن الوالد آدم ويكاد يُجمع أهل التفسير على هذا (وَمَا وَلَدَ) أي وذُريتهِ قسم فيُصبح الآية أقسم الله بأصل القرى والمدن والأماكن وهي ماذا ؟ مكة ، وأقسم جل وعلا بأصل البشر وهو من ؟ أوبهم آدم فيُصبح القسم هنا بالأصول لأن الله قال (لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) وما هي أم القرى ؟ مكة ، فقال الله (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) هذا قسمٌ بأصل المكان وقال (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) قسمٌ بأبي البشر الأصلُ الذي نحنُ معشر البشر تفرعنا منه (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ{3} لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ{4} ) هذا جواب القسم أي خلقنا الإنسان يعيش يُكابد أهوال الدُنيا وشدائد الآخرة ،قال العلماء : أول ما يُكابدهُ المرءُ حال يُولد قطعُ سُرتهِ ثم تستمر المكابدة في طلب العيش والمرض وهموم تربية الأولاد وغيرها مما لا يخفى حتى يُكابد نزع روحهِ ثم يُكابد في القبر ضمة القبر " إن للقبر ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها هذا العبدُ الصالح " أي سعد ابن معاذ ، ثم يواجه ظُلمة القبر " إن هذه القبور مملوءةٌ ظُلمةً على أهلها وإن الله ينور عليها بصلاتي عليهم " صلوات الله وسلامهُ عليه يقول ويواجهُ الإنسانُ سؤال الملكين وهذا من المُكابدة ثم يواجه البعث والنشور ثم ينتهي بنا الأمرُ إلى دار القرار إما إلى جنة و إما إلى نار ، يُصبح من الحقائق الواقعة ـ أيُها المُبارك ـ أنهُ لا راحة للمؤمن دون لقاء الله ، لا يُمكن أن تكون هناك راحة حتى تلقى الله ، أما من حين ما ولدنا إلى أن نموت إلى أن نُبعث إلى أن نُعرض للحساب يبقى الإنسانُ خائفاً وجلاً حتى يُخلف جسر جهنم وراء ظهرهِ ـ أجاز الله بي وبكم الصراط ـ قال الله (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي(1/21)
كَبَدٍ{4} أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ{5} يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً{6}) أي مجتمع (أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ) قال جمهور العلماء نزلت في رجل يُقال لهُ أبو الأشد من بني جُمح أنفق مالهُ في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم قال الله يمتن على بني آدم (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ{8} وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ{9}) وهذا ظاهر فالله خلقنا في أحسن تقويم ولهذا قال بعضُ علماء الشافعية لو أن إنساناً قال لزوجتهِ أنت طالقٌ إن لم تكوني مثل القمر تطلُق أو لا تطلُق ؟ قالوا لا تطلقُ حتى لو لم تكن أجمل النساء لأن الله قال ({لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }التين4).
ثم قال الله (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) تأتي تُفسرها يتنازعك أمران :(1/22)
الأمر الأول : مكان الآية ، والأمر الثاني : اللفظ الذي بدأت به الآية ، فالآية بدأت بقوله جل ذكرهُ (هَدَيْنَاهُ) وكلمة هدى في القرآن استخدمت في طرائق الخير والشر في الأغلب قال الله ({وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى }فصلت17 ) وقال في سورة الإنسان ({إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }الإنسان3) من نزع هذا المنزع من العلماء قال معنى قولهِ تعالى (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) ما النجدين ؟ طريق الخير وطريق الشر ، ومن نظر إلى موضع الآية من السورة (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ{8} وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ{9}) وقال الله بعدها (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) ونظر إلى اللُغة المجردة فإنّ النجدين مُثنى نجد ونجد في اللُغة المكان المرتفع والآية تتكلم عن لسان وشفتين وبداية خلق فقال (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) أي ثديي أُمهِ لأنهما مرتفعان سُميا نجدان فالله جل وعلا هذا الرضيع الذي لا يملكُ لنفسهِ حولاً ولا طولاً ولا قوة هداه الله إلى أن يرتضع من ثديي أُمهِ حتى تستقيم حياتهُ وما كان لهُ أن يهتدي إلى هاذين لولا أن هداه الله ، (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) فلما بين الله منّتهُ على خلقهِ دعا خلقهُ على عبادتهِ قال ربُنا (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ{11} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ{12} ) إعادة الاستفهام للتهويل أي أن المقصود أن الأنفُس تسعى في تجاوز ما يحول بينها وبين الجنة هذا معنى العقبة ، ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ) قال ربُنا (فَكُّ رَقَبَةٍ) أي عتقُها وهذا قد لا يتأتى في زماننا لأن الأسر من الكُفار وهو أصل الرق قلّ لقلة الجهاد لكنه كان شائعاً ذائعاً أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعدهِ ن ثم قال ربُنا (فَكُّ رَقَبَةٍ{13} أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ{14} يَتِيماً) وفق الصناعة النحوية إطعامٌ(1/23)
مصدرٌ منون والنُحاة يقولون أن المصدر المنون يعمل عمل فعلهِ ولهذا نُصبت كلمة يتيماً وجاءت مفعولاً به للمصدر .
وفق الصناعة الشرعية الإيمانية فإن الله يقول إن من أعظم القُربات التي يتجاوز بها العقبة الكؤد أن يقتحم الإنسان العقبة بإطعامهِ لليتامى والمساكين فإطعام الطعام من أعظم ما يُقرب إلى الله قال صلى الله عليه وسلم " افشوا السلام واطعموا الطعام وصلوا بالليل والناسُ نيام تدخلوا الجنة بسلام " والإنفاقُ جاء في القرآن على ثلاث منازل : إنفاقٌ عام : مثل قوله جل اسمه وتبارك اسمه قال (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) .
وإنفاقٌ أعلى منه : وهو أن ينفُق الإنسان من مالٍ زائدٍ عندهُ لكنهُ يُحبهُ ومنه قول الله (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) وقوله جل وعلا ({وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً }الإنسان8)(1/24)
والمرحلة الثالثة : وهي أعلاها أن يُنفق مع حاجتهِ قال الله في وصف أهل المدينة الأولين قال (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }الحشر9) أي بهم حاجة وهذا أعلى المنازل قال الله ( أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) المسغبة يوم جوع ، فالإنسان في زماننا هذا مع اشتداد الغلاء لو توخا بيوتاً فقيرة أهلها ماسكين أرامل أيتام وإذا جئت تُعطي فالمنّة لمن أخذ منك لا لك ، من أعانك على أن يقبل منك قُربى إلى الله ، وثمّة أعمال أحب إلى الله أن تُباشرها بنفسك وأنت تقرأ السيرة فالنبي صلى الله عليه وسلم يبعثُ أُسامة يبعثُ بلالاً يبعثُ زيداً لكنهُ لما جاء ينحر نحر بنفسهِ صلى الله عليه وسلم قُربى إلى الله فالإنسان وإن كان ذا ثراء أو جاه أو منصب لو توخا أياماً ولحظات وليالي وساعات يخرُج فيها من دارهِ لا يعلمهُ أحد إلا الواحد الأحد فيخرُج ويتوخى بيوت وخيرٌ لك أن لا يعرفُك أصحاب البيت ثم تُعطيهم الطعام تكفيهم حتى مؤنة طبخة وهذا من باب التوسع لا من باب الإلزام ثم تعود وقد شعرت أنك فعلت شيئاً تدخرهُ مع الله ، وقد قُلنا قبل قليل أن التجارة مع الله تجارة رابحة بكل المقاييس إذا وقفت بين يدي الله بعد هذا وقرأت وأنت تقوم في الليل (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً{8} إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً{9} إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً{10} فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ ) تجد للقرآن لذة عظيمة في قلبك لأنك تقرأُ شيئاً عملته به هذا كمثال لقول الله (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ{14} يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ) والمؤمن يقدم من قدم الله ، ثم قال الله (أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ) أي التصق حالهُ بالتراب كناية عن شدة الفقر ، ثم قال الله في ترتيبٍِ(1/25)
ذكري لا ترتيبٍ زمني قال (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) ومعلوم أن الإيمان مُقدم على الإطعام ولا يُمكن أن يُقبل إطعام إن لم يكن يوجد إيمان فثُم هنا ليست كما يقول النُحاة للتعقيب والتراخي لكنهُ تعقيب وتراخي في الذكر لا في الزمن وإلا لا يقبل الله من أحدٍ عملاً ما لم يكن ذلك العمل خالصاً لوجههِ قال الله (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي بربهم (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) الإنسان أحياناً يجد مثبطات تحول بينه وبين طاعة الله فينبغي عليه أن يُصبر نفسهُ ويُصبر غيرهُ ويُصبرهُ غيرهُ على طاعة الله فيقوى تلاحُم المُجتمع والإنسان إذا كان لا يلقى إلا صالحين بقي على صراط الله المستقيم وركب الله المتقين لكنهُ إذا لقي أهل الفساد ثبطوا من عزائمهِ ولم يعينوهُ على طاعة ربهِ جل وعلا قال الله (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ) وأعظم من يجب عليك أن ترحمهُ والداك وإن كان الإنسان عياذاً بالله عاقاً لوالديهِ لا يُرجى منه رحمه لغيرهما إلا أن تكون رحمة كاذبة يُريد بها شيئاً من الدُنيا ، وحق الوالدة لا يحتاج مثلكم إلى تذكير لكن من تدبر القرآن علم أن من أعظم أسباب التوفيق أن يكون لك والده تُرزق برها تُحقق لها مقصودها قبل أن تطلبهُ لأنها إذا طلبت لم يعود لك خيار ولم يعُد لك منه أصبح الأمر واجباً إن لم يكن معصية لكن إن حققت رغائبها قبل أن تطلُب استصحب وأنت تبرهُها أنك لا تبرُها لأنها ولدتك ما يقولهُ من سطر كتُب الروايات والقصص وكُتب المطالعة والقراءة كلهُ يُستأنس به لكن المقام الأول أنت تبرُ أُمك تبرُ أباك تبرُ شيخك تبرُ جارك تبرُ كُل أحد لسببٍ واحد أن الله أمرك ببره ولو لم يأمرُني الله ببرهِ لما بررتهُ فتبرهُ لأن الله أمرك ببرهِ فلما تتذكر أن الله قال ({وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ(1/26)
بِوَالِدَيْهِ }العنكبوت8) فتبرُهما حياءً من ربك الذي وصاك وبقولهِ جل شانه (أَنِ اشْكُرْ لِي) أي بالعبادة (وَلِوَالِدَيْكَ ) أي بالبر فتفعل الطاعة لأن الله أمرك بها وتُسابق في الخيرات وتُقدم من قدم الله وتؤخر من أخر الله قال الله (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ{14} يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ{15} أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ{16} ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ{17}) قلنا إن الوالدين أحقُ الناس بالرحمة ، ثم يرحم الإنسان زوجتهُ وأولاده ولا ينبغي أن يكون الإنسان غليظ الكبد على زوجته وأولاده بل يرحمهم وقد قطع نبيكم صلى الله عليه وسلم خطبتهُ ونزل من المنبر من أجل أن يرفع الحسن والحُسين رضوان الله تعالى عليهما قال " إني وجدتُ ابني هاذين يمشيان فيعثرُان فلم أصبر حتى نزلتُ وحملتهُما " وأنا أعرف رجال إذا همّ بضرب ابنهِ أو ابنتهِ قال والله لو أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب الحسن أو الحُسين لضربتُهم لكنني أمتنع لأنني لا أعلم هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع أن ضربهما تأديباً جائزٌ باتفاق أهل الملة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الصلاة مثلا " واضربوهم لعشر " لكن لا تقطع العلائق بينك وبين ابنك وإنما كُن به رحيماً شفيقاً علّ الله جل وعلا أن يرحمك قال صلوات الله وسلامهُ عليه " من لا يرحم لا يُرحم " وقال " ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء "(1/27)
ثم قال الله (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ{17} أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ{18}) ثم بين رفيع درجاتهم وعلو منازلهم في الآخرة فلما ذكر الله الأخيار ذكر الله جل وعلا ما يُضادُ ذلك ممن كفر به جل وعلا وكذب بآيتهِ فقال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ{19} عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ{20}) بقي من هذه السورة كلها أن تعلم أن أي أحد ذكراً كان أو أُنثى إنما هو أحدُ شخصين :
إما شخص عرف الله ومنّ الله عليه في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح فلقي الله فأثابه .
وإما شخص ـ أعاذني الله وإياكم ـ لم يعرف الله ولم تسجُد جبهتهُ للهِ ولم يعقد أناملهُ تسبيحاً لله ولم يتذكر يوم نعمة لله فيحمدهُ ولا قضاءً لله فيصبر عليه ولا رفع يديهِ يُناجي ربهُ ولا ظن يوم أنهُ سيُبعث بين يدي الله فيُهيئ نفسهُ لهذا المقام العظيم ولم يقع في خلدهِ يوم أن الناس سينصرفون إلى جنه أو إلى نار فقسا قلبهُ وأبعد عن ربهِ وأعرض عنه فلما لقي الله جمع الله ذلك كلهُ في قولهِ (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ{36} رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ{37} لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ{38} النور ) هذا فريق جعلني الله وإياكم منهم .(1/28)