دروس الحرم [1](9/1)
السبق(9/2)
مشروعية السبق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي ضمرت من الحفياء وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق ).
مسجد بني زريق كان وراء مسجد الغمامة من الجنوب الشرقي، وكان موجوداً إلى عهد قريب وشاهدناه، والحيفاء إلى الشمال جهة بئر عثمان، والمسافة ستة أميال.
ما معنى الخيل المضمرة؟ العرب تضمر الخيل للسبق وللحرب، وتضميرها من الضمور، وهو أن تعلف مدة طويلة علفاً زائداً عن حاجتها لتسمن سمناً وافياً، ثم تشمس في مكان قليل الهواء، وتجلل، أي: توضع عليها الجلال ومع ضيق المكان، وعدم وجود الهواء، وكثرة الجلال يكثر عرقها، والعرق يخرج بفضلات الجسم، وتبقى عضلاتها، فهم يسمنونها، ثم يخففون سمنها بإخراج العرق منها، فتكون قد اجتمعت قواها وتخلصت من ثقلها الذي هو رطوبة الجسم، وغير المضمرة تأكل وتنام كعادتها.
فهم يضمرون الخيل ويعدونها للجري؛ لأنها تكون أخف جسماً وأقوى، وتكون أدعى إلى السبق، وفي الحرب تكون أدعى إلى الصبر على الكر والفر، فهي أمسك من غيرها.(9/3)
ما يشترط في المسابقة
ومن هنا قال العلماء: يجب في السبق أن يكون الفرسان من نوع واحد، فلا يصح السباق بفرس عربية أصيلة مع فرس غير عربية، ولا مضمرة مع غير مضمرة؛ لأن هذا فيه تفاوت، لكن تكون حقيقة القوة والمعادلة والسبق إذا كانا متساويين.
وكذلك الفارسان اللذان يركبان يجب أن يكونا متقاربين في الوزن والثقل، وبهذا يتم لنا تحديد المسافة ونوعية الخيل، فإذا اختلف واحد من هذا فسد عقد السبق، ولا يجوز ذلك، والإبل ليس فيها تضمير.
وبعض العلماء ألحق بالفرس كل ما له حافر، ويذكرون ذلك عن الشافعية، ويلحقون بالبعير كل ذي خف كالفيلة، ولكن المعهود عند العرب أنهم لا يقاتلون على فيلة، ولا يقاتلون على كل ذي حافر؛ لأن كل ذي حافر لا يصلح للكر والفر كالخيل، قال عليه الصلاة والسلام: ( الخيل معقود بنواصيها الخير ) .(9/4)
شروط جواز الجعل للمتسابقين
فإذا كان نوع الخيل واحداً، والمسافة محددة في كل عقد مع الجنس، فهنا تبقى عملية السبق بينهما إذا جعل أحدهما الجُعل للسابق ولم يدفع الثاني شيئاً، فنفترض أن السبق بين اثنين، فالمال الذي يدفع جائزة للسابق، من أين يأتي؟ إن كان من واحد منهما على أن من سبق منهما أخذه، فلا مانع، فإن سبق الدافع استرجع حقه، وإن سبق الآخر أخذه.
أما إذا دفع كل منهما جزءاً، وقالا: الجميع لمن يسبق، فلا يجوز؛ لأنه قمار! وإذا جاء ثالث غيرهما وقال: تسابقا فمن سبق منكما فجائزته عليَّ، فلا مانع؛ لأنه ليس بين المتسابقين مقامرة إذا كان الأمر كذلك بإيجاد الجائزة من ثالث غير مشترك.
الأئمة الثلاثة يقولون: أي واحد تدخل بينهم وتبرع بجائزة فلا مانع، و مالك يقول: لا يصح هذا التبرع إلا من ولي الأمر؛ لأنه هو الذي من حقه أن يأخذ من بيت مال المسلمين ويعطي، والجمهور يقولون: هو متبرع، وليس في ذلك غضاضة عليه.
إذا لم يكن هناك ثالث تبرع بالجائزة، ولم يقبل واحد من الاثنين أن يدفع الجائزة بمفرده، وقالا: لا بد من مشاركة في الجائزة أنت تدفع النصف وأنا النصف، يقولون: إن جعلا محللاً بينهما جاز، ومن هو المحلل؟ المسابقة الآن على خيل، وكلا الفرسين في الطرفين من جنس واحد، والمحلل شخص ثالث يدخل معهما بفرس من نوع فرسيهما ويكون من عادته السبق، وكلا المتسابقين يظنان أنه قد يسبق، ويعتقدان أنه يمكن أن يسبق، لا أن يكون عاجزاً وهما يعلمان أنه لن يسبق، لأن دخوله حينئذ سيكون شكلياً ما له قيمة؛ لأن السبق سيكون بينهما فقط، والثالث معروف أنه لا يسبق، فهذه حيلة لا تصح.
فيشترط في المحلل الذي يدخل بينهما أن يكون نظيرهما تماماً، فإذا دفع أحد المتسابقين النصف، ودفع الثاني النصف الآخر، ودخل هذا المحلل على أساس أنه لو سبق أخذ الجائزة التي دفعها الطرفان، وإذا سبق واحد من الاثنين أخذها؛ لأنه يوجد ثالث يمكن أن يفوز بالجائزة، فهنا سلمت من المقامرة، هذا ما يتعلق بالسبق في الخيل والإبل.
أما النصل، وهي: الرمي بالسهام، فيكون بين اثنين أو بين فريقين، خمسة مع خمسة، أو عشرة مع عشرة، أو أكثر أو أقل، فإن كان الرمي بين اثنين فبعض العلماء يقول: يوضع لكل واحد هدفاً مستقلاً، هذا يقف هنا وهدفه أمامه هناك، والثاني هدفه أمامه هناك، وبعضهم يقول: يبقى الهدف واحداً، ويرميان تباعاً لا في وقت واحد، فإذا حددت مسافة الهدف بين أطراف أصابع القدمين وهدف الإصابة؛ كذا قدماً أو كذا متراً تحددت.
كم يكون الرمي مثلاً؟ قال: الرمي عشر مرات، كل واحد منهما يرمي عشرة أسهم، ثم يقولون: من أصاب بأكثر العشرة فهو الفائز، فكل واحد منهما يرمي عشرة أسهم.
وننظر الأول كم أصاب من العشرة، والثاني كم أصاب، فمن كانت إصابته أكثر فهو الفائز.
أو يقولون: الرمي من عشرة أسهم ولكن الفوز من إصابة خمسة، الذي يصيب خمسة من عشرة فهو فائز، فهنا يبدأ الفريق الأول يرمي إذا كان الهدف واحداً، وإن كانا هدفين فيرميان معاً، فإن أصاب أحد الفريقين الخمسة التي هي نصاب الفوز فاز، وإن أصاب الفريق الثاني الخمسة أيضاً تساويا، فلا جائزة، ولا يقال: نصلح بينهما، فالقرعة لا تدخل هنا، وإن كان الهدف واحداً فالأول يرمي إلى أن يصل إلى الخمسة، ثم يأتي الثاني ويرمي إلى أن يصل إلى الخمسة، ومن لم يصب خمسة أسهم من العشرة فليس بفائز، ومن أصاب خمسة فأكثر من العشرة فهو الفائز.
وهكذا إذا كانوا جماعة، فريق من عشرة أشخاص، وفريق من عشرة أشخاص، والرمي من عشرة سهام، فكل فريق سيرمي مائة سهم، كم مجموع الفوز من مجموع الفريقين؟ نقول: الفوز بإصابة خمسين، سواء كان الفريق الأول شخصين أو خمسة أو أكثر، على حسب العدد المتفق عليه.
إذا وصل الفريق الأول بإصابة خمسين سهم وصل إلى الفوز بالجائزة، وإذا وصل الفريق الثاني بمجموعه إلى أربعين أو إلى تسعة وأربعين، وليس بلازم أن يكون كل واحد من العشرة يصيب مثل بعض، ولو اثنين أصابوا الخمسين فهذا الفريق قد فاز، هذا ما يتعلق بعموم موضوع السبق بين المتسابقين.
نعود إلى متن الحديث، وهو الحديث الأول: ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل المضمرة من ثنية الوداع إلى الحيفاء ستة أميال )، إذاً: لا مانع من أن يكون هذا المقدار على هذا النوع من الخيل في المسابقة، وسابق بين الخيل غير المضمرة من الثنية إلى مسجد بني زريق، ومسافتها ميل واحد، والله تعالى أعلم.
[وعنه رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سبق بين الخيل وفضل القرّح في الغاية )].
سابق صلى الله عليه وسلم بين الخيل، وفضل القرّح أي: الخالصة الأصيلة، يقال: ماء قراح، أي: صاف، وكذلك الخيل القرّح هي الأصيلة.
ولأصالة الخيل عند العرب تاريخ، وهواة الخيل يجعلون سجلاً لولادة خيلهم، فإن كان عنده ثلاثون رأساً من الخيل من ذكور وإناث للتناسل، فعنده سجل يسجل فيه مواليد الإنتاج، ويسجل فيه سلالة الأم وسلالة الأب، الأم هذه من أين؟ أمها ما نوعها؟ وأم أمها من أين؟ ويتبع تاريخها إلى مدى بعيد، فإذا لم يدخلها هجين قيل عنها: قرّح، أي أنها من سلالة خيل صافية، وكذلك الأب، ويغلون أثمانها إذا استوفت الشروط، وهو أن تكون من سلالة خيل صالحة لم يدخل في نسلها هجن، فكان يفاضل صلى الله عليه وسلم بينها وبين غيرها؛ لأنها أقوى وأزهى وأنسب للسباق.(9/5)
لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر
[قال: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر )].
فـ(لا سبق إلا)، هذا الأسلوب عند البلاغيين يسمى: النفي والإثبات، وهو أقوى أنواع الحصر.
(لا سبق): نفي جميع أنواع السبق، (إلا): إثبات للمطلوب: نصل، حافر، خف، فـ(لا) نفت جميع صور وأفراد وأنواع السبق، ولو قيل: (لا سبق) ولم يستثن لنفي كل سبق في أي نوع من الأنواع؛ لكن لما جاءت إلا وهي من أدوات الاستثناء، وقع الاستثناء، ويشترط أن يكون متصلاً وألا يفصل بين المستثنى والمستثنى منه بزمن طويل أو أو إلى آخره، فـ(إلا) تثبت بعض أفراد المنفي.
وهذا الأسلوب أقوى أنواع الحصر، كما في كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، فلو أن إنساناً يقول: لا إله، فإنه يكون قد نفى جميع الألوهية، حتى نفى الألوهية عن رب العزة، أي: إذا قال: لا إله، فمعناه أنه لا يعترف حتى بألوهية رب العالمين، لأنه نفى جميع الألوهية، ثم تأتي (إلا) وتثبت الألوهية لله وحده.
فـ(لا) نفي لجميع الآلهة، و(إلا) أثبتت المطلوب، وهو الله الواحد.
فكذلك هنا، والحصر ينفي ما قبل إلا، ويثبت ما بعد إلا، وقد يكون هناك أدوات حصر أخرى مثل: (إنما) كان يقول: إنما السبق في كذا وكذا، والتقديم والتأخير، مثل: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة:5] يعني: لا نعبد غيرك، ولا نستعين بغيرك.
فهنا جاء الحديث بأسلوب النفي والإثبات وهو أقوى أنواع الحصر، فنفى السبق في كل شيء واستثنى من ذلك هذه الثلاث.
إذاً: لا يجوز لأحد أن يدخل مع صاحبه في سباق لم يأت به نص، والنص إنما جاء بهذه الثلاث، فلا سبق في غيرها.
كلمة: (لا سبق) عامة، بجعل وبغير جعل، لكن المراد هنا ما فيه المحظور وهو الذي بالجعل، أي: لا يجوز السبق بجعل إلا في هذه الثلاثة، وأما بدون الجعل في السباحة، أو في الجري، وفي جميع أنواع الرياضيات؛ فلا مانع في ذلك.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد.(9/6)
دروس الحرم [2](10/1)
الجزية والفيء والغنائم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فمن الموارد المالية للدولة الإسلامية الجزية التي تؤخذ من الكفار إذا لم يسلموا، واختاروا دفع الجزية بدلاً من قتال المسلمين، وقد اختلف العلماء هل تؤخذ الجزية بغير اسمها؟ فأجاز ذلك كثير من العلماء واستدلوا بقصة نصارى بني تغلب مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنهم قالوا له: فرضت علينا الجزية، واعترفنا بها، وصالحنا عليها، إلا أننا نأنف من تقديمها؛ لأن تقديمها كما قال تعالى: { عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة:29] ، والعرب تأنف من ذلك؛ قالوا: فخذ منا كما تأخذ من المسلمين، لأن ما يأخذه من المسلمين في الزكاة أكثر مما يأخذه من أهل الذمة في الجزية.
فامتنع عمر ، فزادوه، فقالوا: خذ منا ضعف ما تأخذه من المسلمين من أموالهم، فأرادوا أن يدفعوا ضعف الجزية باسم الزكاة ولا تكون باسم الجزية، قالوا: وإلا فدعنا نرحل إلى أرض الشرق، ونخرج من الجزيرة، فشاور عمر من حضره، فقالوا له: يا عمر ! اقبل منهم، وأبقهم تحت يدك بدلاً من أن يخرجوا عن طاعتك فيكونون عليك بعد أن كانوا لك وفي قبضتك، فقبل منهم، وأضعف عليهم العشر كما يقال، وأبقاهم على ما هم عليه، باتفاق بينهم وبينه.
هذه هي الجزية على الكفار، والزكاة تكون على المسلمين في الأموال .(10/2)
اجتهاد عمر رضي الله عنه بعدم قسمة الأراضي المغنومة
ومن الموارد: الخراج، والعشر، والخراج مختص بالأرض المزروعة، ولا علاقة له بالأشخاص، والجزية مختصة بالرقاب والأشخاص ولا علاقة لها بالأراضي.
وقد تقدم أن عمر رضي الله تعالى عنه أوقف قسمة الأراضي المغنومة على الغانمين، ولما عارضه بلال و ابن الزبير وقالا له: اقسم علينا كما قسم رسول الله خيبر وبني النضير، قال: إن الرسول فتح مكة ولم يقسمها.
وقال: إنني رأيت رأياً وأستشيركم فيه، إننا لو قسمنا كل ما فتحه المسلمون على الغازين، فسيأتي وقت ويأتي أجيال فيما بعد فلا يجدون من الغنائم شيئاً، وإننا في الوقت الحاضر في حاجة إلى المال بصفة مستمرة للمصالح العامة، لنمون الثغور، ونجهز الجيوش، ونطعم الأيتام والأرامل والمحتاجين، فمن أين نأتي بالمال لهذا كله إذا كنا نقسم كل قرية فتحت على الغانمين؟ ولو فعلنا ذلك لم يبق عندنا شيء، فإني أرى أن نقسم ما كان منقولاً من الثياب والأموال والحيوانات على الغانمين قسمة غنيمة، ونبقي الأرض ونجعل عليها خراجاً لمن هي تحت أيديهم.
وهذا الخراج بمعنى أجرة، جزية، جُعل، غرامة، وكل هذا يقول به بعض العلماء، وإذا جئنا إلى استعمال القرآن لكلمة خراج أو خرج لوجدنا أنها تدور بين الجُعل وبين الإجارة، كما في قصة أصحاب السد: { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا } [الكهف:94] فـ(خرجاً) هنا بمعنى: أجرة على هذا العمل، وبعضهم يقول: إن هذا الخراج الذي فرض على الأراضي أجرة تؤخذ ممن هي تحت أيديهم.
وكيف يقدر الخراج على الأراضي المختلفة في النتاج والغلة؟ قالوا: أرسل عمر رضي الله تعالى عنه خبيراً، فجعل على النخل ثمانين درهماً، والعنب ستين درهماً، وما عداهما من الأرض البيضاء والحبوب والخضروات عشرين درهماً، أي أنه وضع نسباً مختلفة لأرض النخيل ولأرض الأعناب، وعلى الأرض البيضاء كذلك.
قيل: وجعل الخراج على الأرض البيضاء والسوداء أيضاً، والبيضاء هي: التي لم تزرع، والسوداء هي: المزروعة المسودة بخضرة الزرع الذي هو فيها، قيل: جعل الخراج على السوداء والبيضاء ليهتم أصحاب القرية بإحياء الموات، ولا يبقى بياض في الأرض.
وهناك من يقول: إنما جعل الخراج على الأراضي السوداء التي تنتج، وترك الأرض البيضاء لولي الأمر ليمنح منها، ويقطع الإقطاع منها لمن يريد، أو تركها لمن يحيي مواتاً منها فهي له، وهكذا كان الخراج على الأرض تختلف النسبة فيه بنوع الثمرة والغلة، فعلى النخيل أكثر مما على العنب، وعلى العنب أكثر مما على الخضروات.(10/3)
إرسال عمر رضي الله عنه للمعشرين
وكان عمر رضي الله تعالى عنه يرسل إلى الحدود وإلى ثغور بلاد الإسلام المعشرين، فإذا مر بهم تاجر يريد أن يدخل أرض الإسلام لتجارة نظر المعشر لشخصيته، سواء كان مسلماً جاء من أرض أخرى إلى أرض جوار أرضه، أو كان ذمياً أتى بتجارة إلى أرض المسلمين، أو كان حربياً له عهد أو في وقت هدنة وأتى بمال إلى أرض المسملين.
كل هؤلاء يسمح لهم بدخول بلاد المسلمين، فالمسلم يدخل الأرض الإسلامية، والذمي يدخل الأرض الإسلامية، والحربي بالمعاهدة وبالصلح يدخل الأرض الإسلامية، فكان المعشر يأخذ من المسلم ربع العشر على تجارته، ومن الذمي نصف العشر، ومن الحربي العشر، وهكذا تحصل الأموال بالتعشير على اختلاف الأشخاص بصرف النظر عن نوعية التجارة التي أتى بها، والتي يريد أن يروجها في أرض المسلمين.
ثم كان يقع الظلم على أهل الأموال عند تعشيرها، فكان أحدهم يمر على هذا المعشر فيأخذ منه، ثم في طريقه يمر على غيره فيأخذ ولا يصدقه بأنه قد دفع، فأنشئت السندات؛ ففي أول معشر يمر به ويدفع له العشر أو نصفه أو ربعه يعطيه سنداً على أنه عشر ماله، بحيث لو مر على عدة معشرين لا يكرر عليه أخذ مال منه.
واتفقوا على أن من تكرر مجيئه في السنة الواحدة لا يكرر عليه العشر قبل الحول، إلا الحربي، فإذا أتى وباع تجارته، ثم رجع إلى بلده، ثم جاء مرة أخرى عُشِّر ماله ولو كان قبل الحول.
واتفقوا على أنه لا يعشر مال أقل من نصاب الزكاة، وهو مائتا درهم من الفضة، وعشرون مثقالاً من الذهب.
هذا ما يتعلق بالأموال التي تدخل على المسلمين بطريق المعشرات.
والغنيمة هي: المال المأخوذ بغلبة السيف، فما فتح عنوة من القرى فهي وما فيها غنيمة، والغنيمة تخمس ثم يقسم ما عدا الخمس على المجاهدين، إلا أن عمر أوقف قسمة الأراضي على المجاهدين وقال لهم: أوقف قسمة تلك الأراضي من أجل أن يستمر خراجها لسد حاجة المسلمين الآن ولمن يأتي بعد ذلك، ثم أعلن لهم وقال: وجدت حجته من كتاب الله، وذكر قوله تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ } [الحشر:8]، ثم { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ } [الحشر:9]، ثم { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } [الحشر:10]، واستقر الأمر على ذلك.
فالفيء طريقه مثل طريق الغنيمة، ولكنه ما أخذ بدون قتال كما قال تعالى: { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ } [الحشر:6].(10/4)
مشروعية النفل من الغنيمة
النّفل: النفل جزء من الغنيمة ينفله قائد الجيش لمن رآه أهلاً لذلك، فمثلاً: أرسل سرية من جيشه إلى جهة من الجهات أو كما يقولون: إلى جيب من جيوب العدو، فذهبت السرية وانتصروا، وغنموا منهم غنائم، فلقائد الجيش أن ينفل تلك السرية مما غنموه زيادة لهم، والباقي يضمه إلى أموال غنيمة الجيش؛ لأن عموم الجيش يشاركهم في غنيمتهم، وهم يشاركون عموم الجيش في غنائمه.
والخراج هو: ما جعل على الأرض.
والجزية هي: ما جعلت على الأشخاص.
هذا ما يتعلق بالأموال التي تؤخذ من غير المسلمين عند القتال في سبيل الله.(10/5)
مقدار الجزية
الجزية مصدرها الأشخاص، وكم مقدارها؟ هناك من يقول: هي محددة بدينار على كل محتلم، وهناك من يقول: أربعة دنانير، وهناك من يقول: على الموسر ثمانية وأربعون درهماً، وعلى المتوسط: أربعة وعشرون، وعلى العامل: اثنا عشر درهماً.
والظاهر أنه حسب اجتهاد الإمام وحالة من يدفع الجزية، وهذا محل اجتهاد، وليس توقيفاً.
هذه الأموال تساق إلى بيت مال المسلمين لتصرف في مرافق المسلمين بصفة عامة.(10/6)
أخذ الجزية من المجوسي
[عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها -يعني: الجزية- من مجوس هجر ) ]: قال عبد الرحمن رضي الله تعالى عنه هذا حينما توقف عمر في أمرهم، وقال: ما أدري ماذا أفعل بهم؟ فقال قائل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) أي: في الجزية، و ابن عوف يقول: إن الرسول أخذها من مجوس هجر، فالرسول أخذها وخفي ذلك على عمر ، أو نسي عمر ، المهم أن الجزية أخذها رسول الله وفعلها عمر مع وجود الصحابة، وكانت الجزية موجودة من قديم، وجاء الإسلام وعدل فيها بالرفق والشفقة.
عرفنا أن أهل الكتاب هم: اليهود والنصارى، فمن المجوس؟ عرف العلماء المجوس كما في كتاب الملل والنحل للشهرستاني أو لـ ابن حزم ، وكذلك عرّفهم الشوكاني في نيل الأوطار.
المجوس: أمة كان لها كتاب، سئل علي رضي الله تعالى عنه عنهم فقال: أنا أعرف الناس بهم، كانوا أمة لهم كتاب، لكن كتابهم رفع!! نزع الله كتابهم منهم، فأصبح الكتاب ورقاً أبيض ليس فيه كتابة، وانتزع من صدروهم ما كان محفوظاً منه من صدورهم، والذي كان مكتوباً محاه الله من صحفهم، وأصبحوا بدون كتاب.
ومن هنا كان فيهم شبه بأهل الكتاب؛ لأنهم باعتبار ما كان أهل كتاب، فقال: ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ).
إذاً: الجزية من أهل الكتاب مفروغ منها؛ لأنها بنص القرآن الكريم، والجزية من غيرهم ثبتت بالسنة، أعني بالحديث الفعلي والقولي من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الجزية تكون على الأشخاص، والخراج يكون على الأرض.
والخراج يكون باجتهاد الإمام على حسب إنتاج الأرض، والآن هناك الأراضي التي فيها القطن أو القصب، وفيها مزروعات ما كانت موجوة من قبل، فيكون خراجها على حسب رأي الإمام.
هل مقدار الجزية بالتوقيف أو باجتهاد؟ باجتهاد، وقيل: على الغني ثمانية وأربعون درهماً، وعلى المتوسط أربعة وعشرون، وعلى العامل بيده اثنا عشر درهماً.
وقد بينا نظام العشر على التجارة، وممن يؤخذ، وكم مقدار المأخوذ، سواء كان المال من الحديد أو الحبوب أو القماش.
والتجار ثلاثة أصناف: مسلم، وذمي، وحربي، فالمسلم يدفع ربع العشر زكاة، والذمي: نصف العشر ضعف ما يدفعه المسلم، والحربي: العشر كاملاً.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد.(10/7)
دروس الحرم [4](11/1)
كتاب الأيمان والنذور
باسم الله ، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: كتاب الأيمان والنذور عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها؛ فكفر عن يمنيك وائت الذي هو خير )، متفق عليه، وفي لفظ للبخاري : ( فائت الذي هو خير وكفّر عن يمينك )، وفي رواية لـ أبي داود : ( فكفّر عن يمنيك ثم ائت الذي هو خير ) ، وإسنادما صحيح.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من حلف على يمين فقال: إن شاء الله؛ فلا حنث عليه ) رواه أحمد والأربعة، وصححه ابن حبان ] .(11/2)
من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأتِ الذي هو خير
الشرح: قال رحمه الله: عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمنيك وائت الذي هو خير ) متفق عليه.
هذا الحديث يعتبر باباً بذاته، وهو كيف يخرج الإنسان من عهدة اليمين ويسلم الحنث فيما بينه وبين الله؟ أي: ليس يتعلق بها حقوق للآخرين، وليست في معرض القضاء والدعاوى، وليست في معرض الصلح والإصلاح، ولكن في حلف الإنسان نفسه ومنهجه في تعامله، كما لو قال: والله! لا أكلم فلاناً.
فهذا يمين، ولكن قوله: لا أكلم فلاناً.
إن التزم بهذا اليمين وطال به المدى؛ فقد يؤدي ذلك إلى قطيعته لأخيه المسلم ونحو ذلك، فقد يكون سبب اليمين مشكلة بينه وبين هذا الشخص، أو عللاً قائمة، أو مزاحمة ومنافسة، أو خصومة، أو حسداً، أو أي شيء آخر سَبَّبَ هذه اليمين فحلف على أن لا يكلمه، ثم بعد مدة ذهبت تلك العلة، وصفا الجو، ورأى أن يكلمه، فلأن يكلم أخاه خير من أن يبقى على خصومته، كما جاء في الحديث: ( لا يحق لامرئ مسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام ).
وهذا الحالف أراد أن يخرج من عهدة هذه اليمين، ويعود إلى كلامه مع صاحبه، ماذا يفعل؟ أعرض مسألة عرضت على بالي، وأنا أتهيب من المسائل التي لا أجد لي فيها سلفاً ذكرها واعتمدها في هذا الموضوع.
إذا جئنا إلى كتاب الله، وجئنا إلى كفارة الظهار، ماذا نجد؟ { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ } [المجادلة:2] ماذا؟ { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } [المجادلة:3]، (يعودون) أي: يريدون العودة إلى الحياة الزوجية فيعود المظاهر إلى زوجته بإمساكها، لأن المظاهر هو بين أحد أمرين: إما أن يمضي ويتركها في ظهارها ولا تحل له بعد ذلك، أو أنه يَحلُّ يمين الظهار، وجاء القرآن فماذا قال؟ { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّاِ } [المجادلة:3].
ما معنى الظهار؟ معناه: أن يقول لزوجته: (أنت عليّ حرام كظهر أمي).
إذاً الظهار يُحرِّم وطء الزوجة.
وهنا: { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } [المجادلة:3] ولكن الله حييٌ يكني ولا يصرّح، كقوله في سورة أخرى: { أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } [النساء:43].
وقوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) فهنا نص صريح بأن يكفّر عن يمين الظهار من قبل أن يطأها، ولم يقل: يتماسا ثم يكفر، فنجد هنا أن النص القرآني الكريم يقدم الكفارة على المماسة { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } [المجادلة:4]، فيصوم شهرين حتى تتم الكفارة بالصيام، ولا يقرب زوجته حتى تتم الكفارة، ومن لم يطق الصيام فليطعم ستين مسكيناً، وهذا فيه تفصيلات لا يتسع المجال لذكرها.
والذي يهمنا: التنصيص على أنه يكفّر (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا)، فلو أخذنا هذه الآية الكريمة وجعلناها شاهداً أو قرينة لا نقول: نصاً، فذاك موضوع وهذا موضوع، لكن التنصيص على تقديم الكفارة في نظيرها، ويستأنس به في تقديم الفعل -تقديم الكفارة- ووجدنا القرآن يقدم الكفارة على الفعل، ووجدنا (ثم) ترجح تقديم الكفارة على الفعل.
يقول القرطبي رحمه الله: لا يجوز له أن يعود في الظهار قبل أن يكفر، فإن عاد قبل أن يكفر عصى الله.
وعليه أن يكفر خلافاً لمن يقول: سقطت الكفارة؛ لأن الله قال: { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } [المجادلة:3]، أفإذا وطأها من قبل أن يتماسا سقطت الكفارة؟ يعني: أعتدي وتسقط الكفارة؟ لا، بل يكون قد ارتكب إثماً وعليه الكفارة قضاء؛ لأن محلها قبل المجيء، إذا حلفت على يمين ووجدت غيرها خيراً منها، فلا تكن عنيداً مصرّاً على القطيعة، فهذا صديقك وهو أخوك وبينكما عشرة و(عيش وملح) وصداقة.
وهذا الحلف له ما يفكه، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى أن جعل للإنسان من كل ضيق مخرجاً، وكنت -منذ زمن- أقول: لا يوجد في الإسلام طريق مسدود.
افرض أنه في ساعة غضب، حلف هذه اليمين، ثم بعد ذلك تأسف وندم، فهل يظل حبيس يمينه أو نجد له مخرجاً؟ الجواب: نجد له مخرجاً.
والثانية أيضاً: قضية اللعان، رجلٌ رأى بعينه ما لا يصبر عليه الحيوان، ولكن السيف على رأسه، إن أتى ببينة أربعة شهود، وإلا جُلد ظهره، إن سكت سكتَ على غيظ، وإن تكلم خاف السوط على ظهره فماذا يفعل؟ قال سعد بن عبادة : (أتركه وأمضي وأذهب وآتي بالشهود؟! -ويعود وقد حاجته ومضى- والله لئن رأيت لأضربن بسيفي)، وبعض الروايات: (بين فخذيها)، والذي يكون هناك يحصل السيف.
إذاً: الطريق -فعلاً- مسدود، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل للزوج الذي شاهد المكروه من أهله مخرجاً، ولهذا لا يكون اللعان إلا بين الزوجين، أما إنسان اتهم بالزنا وقال: أنا ألاعن! لا، أو امرأة ادعت الزنا وقالت: أنا ألاعن، لا؛ لأنه لا يلحق الزاني أو الزانية معرة ما يلحق الزوج في زوجته.
إذاً في هذا الحديث: إيجاد نافذة يخرج منها الإنسان فيما عليه في يمين ووجد ما هو خير له، ولا يحرم من الخير ولا يلزم بتلك اليمين، بل يأتي بما يفكها ويكفر عنها، وبهذا يكون قد تحلل منها، والله تعالى أعلم.(11/3)
الاستثناء في اليمين بقول: (إن شاء الله)
قال رحمه الله: وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من حلف على يمين فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه )، رواه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان .
الشرح هذا الحديث جار على أسلوب العربية؛ لأن القرآن -وهو أصل هذا الدين الكريم- عربي، فأسلوبه يتمشى مع الأساليب العربية، وكذلك السنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( أنا أفصح العرب والعجم بيد أني من قريش، واسترضعت في بني سعد بن بكر )، يعني: جمع أطراف الفصاحة في أفصح قبائل العرب.
كلمة (إن شاء الله) عند علماء اللغة دالة على الاستثناء، { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } [الكهف:23-24]، لأنك لا تدري ما الذي سيحصل؟ والاستثناء عند علماء العربية له شروط: أولاً: أن يكون وقوع الاستثناء متصلاً بالكلام، كما لو قال شخص: والله لا أكلم فلاناً إن شاء الله.
وإذا كان الفصل بشيء لا يؤثر غالباً، كأن يأخذ نفساً، أو يبلع ريقه، أو كحة، أو عطاس وغيرها من الأمور التي لا تأثير لها، ولا تعتبر فاصلة بين حديث وحديث، فهذا الاستثناء يظل معتبراً.
لكن إن دخل حديث أجنبي عن موضوع المستثنى والمستثنى منه وفصل بين المستثنى والمستثنى منه؛ كقول أحدهم: والله! لا أكلم زيداً، أتدرون لماذا؟ لأنه فعل كذا وفعل كذا، وحاولت معه ووسّطت فلاناً، وكذا وكذا إن شاء الله، هل جاء هذا الاستثناء متصلاً بالمستثنى منه، أم أن بينهما فاصلاً أجنبياً عنه؟ فصل بينهما بأجنبي عنه، هذا واحد.
الثاني: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه.
إذا قال: عليّ لزيد، مائة دينار إلا خمسة دنانير، فالمستثنى من جنس المستثنى منه.
ولو قال: عليَّ لزيد ألف دينار إلا إردباً من التمر، فالمستثنى ليس من جنس المستثنى منه، وجمهور علماء اللغة يقولون: هذا الاستثناء باطل ويلزم بالمائة كاملة؛ لأنه استثنى ما ليس من جنس الذي اعترض به، وبعض مُنصفي علماء العربية يقول: يصح ونقدر قيمة ما استثناه ونخصمه مما اعترف به، فلو قال: له عليّ مائة دينار إلا بعيراً، فالبعير ليس من الدنانير، فيقول هذا القائل من أهل اللغة: نقدر كم قيمة البعير؟ فمثلاً: قيمة البعير خمسة دنانير، فيكون استثنى خمسة دنانير من المائة، لكن جمهور علماء العربية يقولون: لا، لأن المستثنى من غير جنس المستثنى منه.
الشرط الثالث: ألاّ يكون المستثنى أكثر من الباقي من المستثنى منه، كما لو قال له: علي مائة إلا ستين، فاستثنى من المائة ستين وصار الباقي أربعين، وهذا لا يصح؛ لأن الاستثناء وضع لرفع الأقل تداركاً.
وعلى هذا: إذا تمت شروط الاستثناء كان صحيحاً واعتبر وعمل به، هذا من حيث الناحية اللغوية، والكتاب والسنة على هذا المبدأ، وإذا قال شخص: والله! لأعطين زيداً كذا أو لآخذن منه كذا إن شاء الله، فكلمة: (إن شاء الله) هنا أعطته مفتاح الباب، إن شاء بقي على ما حلف، وإن شاء فتح، وخرج من عهدة هذا اليمين؛ لأنه استثنى وعلقه على المشيئة، وهذا راجع لعلم الله وراجع لذات الله سبحانه ونحن ما عرفنا: شاء الله أو لم يشأ الله؟! لكن هل حنث في يمينه أو لم يحنث؟ فإذا شاء الله أن يفعل وقع الفعل بالذات، وعرفنا أن الله قد شاء الفعل، وإذا طالت المدة ولم يفعل، عرفنا أن الله لم يشأ له أن يفعل.
فعلى كل لا يهمنا في هذا الحديث أن الاستثناء في اليمين إذا استوفى شروطه نفعه، إلا أن بعض العلماء يقول: لا يصح الاستثناء في اليمين إلا بالمشيئة، لكن في بقية الحقوق لا مانع، فإن قال: له عليّ كذا إلا كذا، فهذا معتبر في المعاملات وفي الحقوق، لكن في الأيمان التعبدية والمنعقدة بين العبد وبين ربه تختص بالمشيئة .
والله سبحانه وتعالى أعلم.(11/4)
صفة يمينه صلى الله عليه وسلم
قال رحمه الله: وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ( كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم لا ومقلب القلوب )، رواه البخاري .
الشرح: هذا بحث في صحة اليمين بصفات الله؛ لأنه مقلب القلوب هو الله سبحانه وتعالى، ومعنى تقليب القلب، هل هو مثل ما تقلب السلعة أو تقلب الحبل أو تقلب المروحة؟ لا، وإنما هو تصريفه؛ لأن القلب كما يقولون عضو صنوبري معلق في الصدر، فليس هناك تقليب، وإن كان لديه حركة لكن في محله لا ينقلب، ولكن الغرض من تقليب القلوب هنا، إنما هو التصريف المعنوي.
وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/5)
دروس الحرم [6](12/1)
الجزية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال ابن حجر رحمه الله في بلوغ المرام: باب الجزية والهدنة: [ عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها -يعني الجزية- من مجوس هجر ) رواه البخاري ، وله طريق في الموطأ فيها انقطاع.
وعن عاصم بن عمر عن أنس و عثمان بن أبي سليمان رضي الله عنهم: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة فأخذوه، فأتوا به فحقن له دمه وصالحه على الجزية ) رواه أبو داود .
قال: وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: ( بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً ) أخرجه الثلاثة، وصححه ابن حبان و الحاكم .
وعن عائذ بن عمرو المزني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الإسلام يعلو ولا يعلى ) أخرجه الدارقطني .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه ) رواه مسلم .
وعن المسور بن مخرمة و مروان رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عام الحديبية، فذكر الحديث بطوله، وفيه: ( هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض ) أخرجه أبو داود وأصله في البخاري .
وأخرج مسلم بعضه من حديث أنس ، وفيه: ( أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا، فقالوا: أتكتب هذا يا رسول الله؟! قال: نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً ) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً ) ].
أشرنا إلى تداخل هذا الباب مع أبواب عديدة فيما يتعلق بالأموال التي يحصل عليها المسلمون من غيرهم، سواء كانوا مشركين أو أهل كتاب أو ممن ألحق بأهل الكتاب.
ومجموع هذه الأموال قد ذكرنا الفرق بينها.(12/2)
ممن تؤخذ الجزية
الجزية: فعلة من الاجتزاء، قال بعض العلماء: إنها تجزئ صاحبها عن الدخول في الإسلام، وعن تسليم جميع ماله، وتعصم دمه.
وهي تؤخذ ممن أبى الدخول في الإسلام، قيل: من عموم غير المسلمين، وقيل: تؤخذ من أهل الكتاب فقط، فلا تؤخذ جزية من وثني مشرك، وإنما تؤخذ من أهل الكتاب ومن ألحق بهم، وهم المجوس، لأنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم: ( أنه أخذها من مجوس هجر ) ، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب )، وهذه السنة فيما يتعلق بقبول الجزية منهم، وعصمة أموالهم ودمائهم، بخلاف ذبائحهم، وحل نسائهم، فإن فيهم وجهاً من الشرك وفيهم وجهاً من أهل الكتاب، فمن وجه أهل الكتاب قبلت الجزية، ومن وجه الشرك لا تحل نساؤهم، فلا تحل حرائرهم بعقد كما تحل اليهودية والنصرانية، ولا تحل إمائهم بملك يمين كما تحل النصرانية واليهودية.
وفي مسألتي الذبائح والنساء خلاف، أما الحرائر فبإجماع المسلمين أنه لا يجوز لمسلم أن يعقد عقد نكاح على مجوسية.
وهل يجوز له أن يستمتع بإمائهم بملك اليمين كالكتابيات؟ قال الجمهور: لا، وشذ بعض العلماء من غير الأئمة الأربعة وقال: يجوز.
الجزية مقابلة لفرض الزكاة، فالمسلم يدفع زكاة ماله، وغير المسلم يدفع الجزية، إلا أن الزكاة على الأموال، والجزية على الرقاب، أي: على الأشخاص.
ولو قارنا بين الزكاة وبين الجزية لوجدناهما وفق الحكمة والرحمة، فأهل الجزية يخفف عنهم، كما جاء في حديث معاذ أنه أخذ على الحالم ديناراً، وكانت الجزية تقدر على الأثرياء: ثمانية وأربعون درهماً، وعلى الوسطاء: أربعة وعشرون درهماً، وعلى العمال الذين لا مال لهم وإنما يتكسبون بأبدانهم كالأجراء أو الفلاحين أو الصناع اثنا عشر درهماً.
والزكاة في الإسلام ربع العشر، وتكثر الزكاة مع وفرة المال وتنزل مع قلته، فقد يدفع المسلم من زكاة ماله ما يعادل جزية عشرين أو ثلاثين أو خمسين واحداً من أهل الذمة.
لكن الجزية على من تؤخذ؟ العلماء يتفقون على أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب، أما الوثنيون فلا تقبل منهم إما الإسلام وإما القتل، وبعضهم يلحقهم بأهل الكتاب، ولكن الجمهور على عدم أخذها منهم.(12/3)
شروط من تؤخذ منه الجزية
تؤخذ الجزية من كل حالم بالغ صحيح معافى ذكر حر، فلا تؤخذ من النساء، ولا من الصبيان، ولا من الشيوخ الكبار، فكل هؤلاء تسقط عنهم الجزية في الإسلام.
وكانت الجزية يفرضها الفرس على من كان بالعراق قبلهم عندما غلبوهم، وفرضوها على الصغير والكبير والغني والفقير والذكر والأنثى على السواء، وأجحفوا عليهم في ذلك، فلما وجدوا هذا التخفيف في الإسلام بادروا إليها، وكانوا يجمعونها ويقدمونها للمسلمين.
ومن دفع الجزية في شبابه وغناه وكسبه وقوته، ثم تقدمت به السن وعجز عن العمل ولم يستطع أن يدفع الجزية سقطت عنه، وجاء ذلك عن كل من عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه و خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه.
فعن عمر أنه رأى رجلاً شيخاً كبيراً يتكفف ويسأل الناس، فقال: (ما شأنك يا رجل؟! قال: أنا رجل من أهل الجزية عجزت عنها، فأنا أتكفف الناس لأجمعها، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: والله ما أنصفناك إن أكلنا شبابك وأفنيناك، ثم أضعنا كبرك وشيخوختك)، وأسقط عنه الجزية، وفرض له رزقاً من بيت مال المسلمين.
وذكر أبو يوسف في كتاب الخراج أن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه رأى رجلاً كبيراً ومعه أولاده، وهو يتكفف الناس ويسألهم، فقال: (ما بالك يا رجل؟! قال: أنا من أهل الجزية وعجزت عنها، فأنا أسأل الناس لأقدمها، فقال كلمة عمر : والله! ما أنصفناك )، وأسقط عنه الجزية، وفرض له من بيت مال المسلمين ما يكفيه ويكفي أولاده، لأنه كان معه عياله، ففرض له ولعياله من بيت مال المسلمين ما يكفيهم.
فالذين تفرض عليهم الجزية من أهل الكتاب هم: الأحرار الذكور البالغون أصحاب الثراء.(12/4)
مقدار الجزية
وهل تكون الجزية ديناراً على كل حال أو ينظر إلى حال اليسار؟ جاء أن أهل الشام كان يؤخذ منهم الجزية أربعة دنانير، وأهل اليمن دينار واحد، فقيل لـ معاذ : ما بال أهل الشام يدفعون أربعة دنانير وأنت تأخذ من أهل اليمن ديناراً واحداً؟ قال: إنما الجزية حسب اليسار، وكان أهل الشام أهل يسار، وهو أوسع وأكثر من أهل اليمن، ومنهم من يقول: يرجع في هذا إلى اجتهاد الإمام بشرط ألا يكلفهم فوق ما يطيقون.
عمر رضي الله تعالى عنه لما أتى الجابية مر بأشخاص وقوف في الشمس، فقال: ما هؤلاء؟! قيل: قوم لم يدفعوا الجزية، فقال لهم: لِم لم تدفعوها؟ قالوا: ليس عندنا ما ندفع، فقال: لا توقفوهم في الشمس، ولا تضربوهم عليها، ولا تضيقوا عليهم، من عجز عنها فاتركوه.
ما هو المال الذي يدفعه من عليه الجزية؟ أهل الكتاب يستبيحون أشياء هي محرمة في الإسلام، وقد يستبيحون الميتة ويتداولونها بيعاً وشراء، ويتناولون الخمر والخنزير، ولهم ذلك في بيوتهم، وقد تقدم قوم بالعراق إلى عامل الجزية، وقدموا له خمراً بقيمة ما عندهم من الجزية، فكتب عامله إلى عمر ، فقال عمر : (لا، لا تأخذوا منهم خمراً ولا خنزيراً ولا ميتة، ولكن ولوهم بيعها، ثم خذوا منهم الجزية).
هنا نقطة: ربما يظن إنسان أن هذا العمل من الحيلة، هم قدموا خمراً فردها العامل فباعوها وجاءوا بثمنها ودفعوه إليه، فدفعوا ثمن الخمر، وهل يجوز للمسلم أن يأكل ثمن الخمر؟ أول ما حرمت الخمر؛ وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، فجاء رجل كان من عادته كل سنة أن يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم زقاق خمر والرسول ما كان يشرب المسكر، ولا كان يشرب النبيذ إذا عليه أيام، فكانت الخمر آنذاك مباحة، وكان قد نزل تحريمها قبل أن يأتي هذا الرجل، فلما قدمها قال: ( يا أخا العرب! إن الله قد حرم الخمر ) فقام رجل فأسر إلى صاحب الخمر وقال: اذهب فبعها، فقال له رسول الله: ماذا قلت له؟! قال: قلت له: اذهب فبعها، فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه ) ، ففتح الرجل وكاء الزقاق، وترك الخمر يسيح في الأرض.
وأيضاً في الحديث: ( لعن الله اليهود حرم الله عليهم الشحوم فجملوها -أي فأذابوها- فأكلوا ثمنها )؛ هو محرم فاحتالوا وباعوه فاستحقوا اللعن!.
إذاً: كيف يقول عمر : ولوهم بيعها؟ لو باعها أمام العامل وأخذ الثمن وأعطاه للعامل، فالعامل قبض نقداً، ولكن من أين هذا النقد؟ هو ثمن للخمر، لكن يقول العلماء: ننظر إلى جهة أخذنا وتملكنا لهذا المال، فهو وجه صحيح، هو حق الجزية من الكتابي، فمادام أخذ المال من الكتابي بوجه مشروع فلسنا مسئولين من أين أتى هذا المال؟ نحن نعلم أنهم يتاجرون بالخمر والخنزير، ويربون الخنازير كما تربون الأغنام، ويبيعونها فيدخرون الأموال، ويدفعون لكم الجزية منها، وهم حينما يبيعون ويشترون ذلك يظنونه حلالاً بحسابهم، فليس عندهم في بيع الخمر وأخذ ثمنها حساب؛ لأنها مباحة عندهم، ونحن حينما نأخذ منهم الجزية أخذناها بوجه حلال مسموح لنا به، فلا حرج علينا في ذلك.
هذا ما يتعلق بالمال، ومن تؤخذ منهم الجزية.
كيف كانوا يعاملون من دفع الجزية؟ كانوا في سابق الأمر إذا جمعوا أهل الكتاب في مدينة أو في قرية ودفع الواحد منهم ما عليه من الجزية، ختموا في عنقه علامة على أنه دفعها حتى لا تؤخذ منه مرة ثانية، حتى إذا تم جمع الجزية من هذه القرية أو المدينة وعلم أنه لم يبق أحد؛ كسرت تلك الأختام التي في أعناقهم.
وكان هناك علامات لأهل الذمة يتميزون بها عن المسلمين، منها منعهم من ركوب الخيل، ومنعهم من بعض الأعمال، ومنعهم من حمل السلاح، هذه أمور اصطلاحية في الدولة، والذي يهمنا أنه يدفع الجزية بوجه مشروع.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.(12/5)
دروس الحرم [7](13/1)
اللغو في الأيمان
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال ابن حجر رحمه الله في بلوغ المرام في كتاب الأيمان والنذور: [ وعن عائشة رضي الله تعالى عنها في قوله تعالى: { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } [البقرة:225] قالت: هو قول الرجل: لا والله! وبلى والله! ].
هذا تفسير أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لقوله سبحانه: { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } [البقرة:225]، قالت: هي قول الرجل: لا والله! بلى والله! إيجاباً ونفياً.
وهذه -نسأل الله السلامة- بعض الناس يسرف فيها، فيقال له: تعال نشرب شاي، فيقول: لا والله! ولماذا حلف؟! يعتذر، وعلى أخيه أن يقبل عذره، فيقول الآخر: بلى والله! وقد قال الله: { وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ } [البقرة:224]، لكن من قالها في معرض الحديث، ولم يرد انعقاد القلب عليها صدقاً أو كذباً، فلا حرج عليه.
وبعضهم يقول: لغو اليمين هو أن يحلف على شيء يظن صدقه فيه فيظهر خلافه، فهذا لغو من حيث إنه حلف على غلبة ظنه، وهو لغو من حيث إنه انكشف على غير الظن الذي ظنه.
ولكن تفسير أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أصح، وكما يقولون: قول الصحابي في تفسير الآية مقدم على غيره ما لم يوجد له معارض، وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها اشتهر عنها من الفقه والعربية، ومن الورع والعبادة أشياء كثيرة.
لما قيل لها: السعي ليس لازماً، قالت: لماذا؟ قيل: لأن الله أسقط الجناح عمن ترك الطواف بهما فقال: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [البقرة:158]، فقالت: لا -يا ابن أختي- لو كان الأمر كذلك لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما، وإنما الآية جاءت رداً على اعتقادهم؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يسعون بين الصفا والمروة، ووضعوا على كلٍ منهما صنماً، وكانوا يسعون بين الصنمين على الجبلين، فلما أراد المسلمون أن يسعوا بين الصفا والمروة خافوا أن يشابهوا المشركين في سعيهم لأصنامهم، فتحرج المسلمون أن يسعوا بين الصفا والمروة؛ لأن المشركين كانوا يسعون بينهما وعليهما الصنمان، فأنزل الله الآية لأنهم تأثموا، فقال: (فلا جناح) والجناح: الإثم.
فهم تأثموا أن يسعوا؛ نظراً لما كان عليه أهل الجاهلية من السعي بين الصنمين، فقالوا: كيف نفعل مثلما كانوا يفعلون؟! مع أن الأصنام قد حطمت وأزيلت، لكن محله محل فعل المشركين، فجاء: (لا جناح) فقد أزيلت الأصنام، والصفا والمروة من شعائر الله، فلا جناح على من سعى بينهما.
انظر إلى فقهها في اللغة، قالت: لو كان الأمر كذلك لقال: (فلا جناح عليه ألا يطوف).
إذاً المطلوب السعي وهو الطواف بينهما، فحينما تفسر عائشة رضي الله تعالى عنها آية من كتاب الله، ولا يوجد ما يعارضها؛ فتفسيرها مقبول كالحديث المرفوع.(13/2)
أسماء الله الحسنى
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة ) متفق عليه، وساق الترمذي و ابن حبان الأسماء، والتحقيق أن سردها إدراج من بعض الرواة].
هذا الحديث أكثر العلماء من البحث فيه، وأفرده البعض بتآليف مختصة، ونتكلم عليه من نقطتين: هذا الحصر العددي من أين؟ أهو اجتهاد وتلمس أو هو توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل لهذا العدد مفهوم أو لا مفهوم له؟ وما المراد بأحصاها؟ هل المراد جمعها؟ فقد يجمعها يهودي أو نصراني أو بوذي!! وقد يحفظها شريط مسجل، وتسجل عليه، وتكون محفوظة فيه! هل حفظها عن التغيير فيها؟ هل حفظها بالعمل بمقتضاها؟ كل ذلك فيه مباحث متشعبة وعديدة.
وهناك من يتعمق نوعاً ما فيقول: كيف يكون لذات واحدة أسماء متعددة؟! وبعضهم نفى تلك الأسماء، وأثبت اسماً واحداً وهو الله.
وهل الاسم هو عين المسمى؟ ودخلوا في أشياء لا نقدر أن نمشي وراءهم فيها.
ولكن نتناول الحديث بقدر المستطاع وبقدر الحاجة في إيراده في باب الأيمان والنذور.
قوله: (لله): لفظ الجلالة علم على الذات، ولم يسم به غير الله، حتى الذين ادعوا الألوهية والربوبية ما قال واحد منهم: (أنا الله) أبداً، قال فرعون فيما حكى الله عنه: { أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى } [النازعات:24]، { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [القصص:38] لكن هل قال: أنا الله؟ لا.
وقالوا: لفظ الله هو الأصل، وجميع الأسماء والصفات راجعة إليه، يقال: الرحمن الرحيم اسمان من أسماء الله، الحي القيوم اسمان من أسماء الله؛ فكلها ترجع إلى لفظ الجلالة.
وعند العرب كلما عظمت الذات كثرت أسماؤها، انظر الرسول صلى الله عليه وسلم كم له من الأسماء؟ بعض الناس جعلها مثل أسماء الله الحسنى مائة، وبعضهم زادها قليلاً عن المائة.(13/3)
الاختلاف في مأخذ الأسماء الحسنى
قوله:(اسماً): أصل الاسم من السمو والسمة، والسمة في اللغة: العلامة، أنت علي، وهذا حسن، وهذا محمد، إذا أطلق هذا اللفظ كان علامة لهذا، يقال: يا علي! فيقول: نعم، أو يا حسن! نعم؛ لأن هذا اللفظ وسم له.
وسمي اسماً لسموه أيضاً؛ لأنه يعلو ويشمخ به.
فالاسم علم على الشخص، والعلم: العلامة.
التسعة والتسعون اسماً من أين جاءت؟ لا يوجد حديث في الصحيحين والسنن والمعاجم، وكل دواوين السنة لا يوجد فيها حديث صحيح مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: التسعة والتسعون هي: كذا كذا.
فلم تأت في كتاب الله مرتبة ولا محصورة، ولم تأت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتبة محصورة.
إذاً من أين نأخذها؟ ومن أين نعرفها؟ اجتهد العلماء في جمعها، حتى أن بعضهم تتبع سور القرآن، كم في كل سورة من أسماء الله؟ وأوصلوها إلى تسعة وتسعين، وبعضهم وقف عند سبعين، وبعضهم وصل إلى الثمانين، وبعضهم أخذ الثمانين وكمَّل من السنة، وبعضهم قال: التسعة وتسعين اسماً كلها كتاب الله.
ولكنهم يعدون الأسماء والصفات، وصاحب استنباطها من سور القرآن يقول: الفاتحة فيها: الله، الرحمن، الرحيم، الملك، أربعة أسماء من أسماء الله، { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [الفاتحة:1-4] أو: ((ملك يوم الدين))، قراءتان، فالفاتحة فيها خمسة من أسماء الله الحسنى.
ويأتي إلى البقرة فيسرد ما وقف عليه منها، إلى أن ينتهي إلى سورة الناس، { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ } [الناس:1-3] وهذه مكررة فيما تقدم، وينتهي حسابه في { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص:1] فيها الأحد والصمد؛ فهذه أسماء من أسماء الله.
إذاً: الأسماء الحسنى اجتهد العلماء فيها، وأكثر من توسع في جمعها -كما قالوا- الترمذي رحمه الله.
ونحن نجد بعض المصاحف خاصة التي تطبع في باكستان في نهايتها صفحة بأسماء الله الحسنى، والناس يختلفون في لفظ مكان لفظ، وينتهون إلى تسعة وتسعين، لكن قد يستبدلون اسماً مكان اسم.(13/4)
لا يجوز اشتقاق أسماء الله من صفاته
قالوا: نثبت كل ما سمّى الله به نفسه أو سماه به رسوله، أو وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، وهل نشتق من الوصف اسماً؟ اتفقوا أن هناك صفات لله لا يجوز اشتقاق الاسم منها؛ لأنها ما جاءت ابتداء ولكن جاءت في معرض المقابلة، كما جاء في قوله سبحانه: { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [الأنفال:30] هل تقول: الله من أسمائه: الماكر؟! لا؛ لأن إفراد هذا اللفظ ذم، لكن لما يأتي في مقابلة إبطال مكرهم، وأن مكره أقوى، يكون مدحاً، فنقول: هم يمكرون والله يمكر بهم.
قوله تعالى: { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ } [البقرة:9]، مكرهم أنهم نافقوا، وأظهروا الإيمان، وخالطوا المؤمنين، وناكحوهم، وتوارثوا معهم، واقتسموا سهام الغنيمة معهم بظاهر عملهم، والله كأنه يقول: اتركهم على هذا إلى أن يأتي يوم القيامة: ( تحشر أمتي غراً محجلين من أثر الوضوء )، فيبعثون كالمسلمين عليهم أثر الوضوء، ويمشون معهم، حتى وقت المرور على الصراط، فيضرب بينهم وبين المؤمنين: { بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } [الحديد:13].
فتطفأ أنوار الوضوء عنهم، ويبقون في الظلام، يستغيثون بالمسلمين ذرونا نقتبس منكم، ذرونا نقتبس منكم نوراً، فضرب بينهم بسور، في هذه الحالة ظهر بطلان مكرهم وخداعهم، وجاء نصر الله.
فإذا كانوا في الدنيا يمكرون ويتحايلون، فعندما يمرون على الجسر يجدون مكر الله أمامهم، فهو خير الماكرين وهناك يقول المؤمنون: { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } [التحريم:8]، { يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ } [الحديد:12] فأولئك أطفئت أنوارهم التي كانت من آثار الوضوء، وهؤلاء ثبتت أنوارهم، ثم كانت نهاية الفريقين معلومة.
كل صفة في كتاب الله لك أن تأخذ لله اسماً من تلك الصفة إلا ما أشعر بنقص، وهو ما أتى على سبيل المقابلة، تقول: يمكرون ويمكر الله، ولا يصح أن تقول: الله يمكر، وتسكت، بل: يمكر في مقابل مكرهم.
وقالوا: لا يسمى الله أنه زارع، { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } [الواقعة:63-64]، لا تقل: الله زارع؟ أو فلاح!! هو قادر، هو خالق، هو على كل شيء قدير، لكن لا تسمه بهذا الاسم.
هل قولك: رب العرش العظيم كقولك: رب الذبابة والبعوضة؟ ليسا سواء.
أما ما يدل على قدرة الله كقول الله سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } [البقرة:26] أي: ولا فوقها في الصغر؛ فإنه أدل على العظمة والقدرة، المخلوقات الحقيرة من آيات الله، البعوض يطير في الهواء فمن يحرك عضلاته؟ بماذا يتغذى؟ أين معدته؟ أين قلبه؟ تعجز أن تتصور ذلك.
والكل خلق الله! الصفات المذكورة في المقابلة لا يجوز أن تشتق له منها اسماً سبحانه وتعالى، أما ما جاء في كتاب الله على سبيل المدح وعلى سبيل التذكير، فلا مانع من ذلك، والعلماء بحثوا في كتاب الله عما جاء من اسم صريح، أو صفة من الصفات توحي بقداسة لله، وإجلال لله، فأخذوا منها اسماً من أسمائه سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.(13/5)
دروس الحرم [8](14/1)
شرح حديث: (من صنع إليه معروف فقال ) الحديث
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيراً، فقد أبلغ في الثناء ) أخرجه الترمذي وصححه ابن حبان .
] أيها الإخوة الكرام! هذا الحديث في منطوقه ودلالته استوقف كثيراً من العلماء، فهو في ذاته لا إشكال فيه، ولكن إدخال المؤلف إياه هنا في الأيمان والنذور، هو الذي جعل العلماء يتساءلون: ما علاقته بهذا الباب؟! ومن المعلوم أن من الواجب على الإنسان شكر النعمة، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، فأي إنسان صنع لك معروفاً أياً كان، استحق أن تثني عليه أو أن تحمده أو أن تشكره.(14/2)
الفرق بين الحمد والثناء والشكر
فالحمد: هو الثناء على المحمود لكمال ذاته وصفاته، ولو لم يصلك منه شيء، وليس هذا الحمد المطلق إلا لله؛ لأن كمال الذات خاص بالله سبحانه، وهو منزه عن النقص: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11] ، ولهذا يقول العلماء: (ال) في قولك: (الحمد) للاستغراق، فاستغرقت جميع المحامد، وأضافتها لله سبحانه.
والثناء: هو امتداحك الشخص لحسن فعاله، هناك لكمال ذاته ولو لم يأتك ولا غيرك منه خير، ولو لم يصدر منه فعل، وهنا لحسن فعاله تثني عليه، فمثلاً: إنسان برز في مهمته واختصاصه، طبيب برع في مجال طبه وأجرى عمليات ناجحة، فسمعت به ولم تره، ولم يصنع لك شيئاً، فأنت تثني عليه لتفوقه؛ لأنه صدر منه للغير فعل حسن جميل، ولو لم يصلك من جميله شيء.
فمثلاً: نحن في هذا العصر نثني ونذم، نثني على غير المسلم لأنه اخترع ما ينفع الناس، فهذا الهاتف أنت في آسيا تخاطب شخصاً في أوروبا وكأنه وراء الحائط، فنثني عليه لأنه سهّل اتصال العالم، ويسر الكلام عن بعد.
ونذم من اخترع تفجير الذرة؛ لأنه سلاح فتاك، وإن كان قد يستعمل في الأغراض السلمية.
إذا جنح في جانب السلم أثنينا عليه، وإذا ذهب إلى التدمير العام ذممناه، ولهذا قالوا: جائزة نوبل تكفيراً عن ذنب.
أيضاً: من قام بإعادة إعمار الحرم المكي، ومن خطط لذلك من المهندسين؛ نثني عليهم.
وأما الشكر: فيكون لمن صنع لك معروفاً، ولو لم يصل لغيرك منه شيء، فمثلاً: مقاول اتفقت معه على بناء مسكن لك، ونصح في بنائه وأخلص في عمله وقدمه إليك على أحسن ما يكون، فتشكره على حسن صنيعه وعلى الوفاء بوعده معك.
عندك مريض أدخلته المستشفى، فجاء طبيب غير مسلم وعمل كما يقولون عندهم: بشرف المهنة؛ لأن الأطباء يعترفون بأن مهنة الطب شريفة وهي إنسانية وليست إقليمية ولا تعصبية، فالطبيب يعالج خصمه وعدوه كما يعالج صديقه، هذا مبدأ الطب، إلا إذا غير في مبدأه.
فإذا قدمت طفلاً أو شخصاً آخر إلى المستشفى وتولى طبيب علاجه وأحسن معه وتماثل للشفاء، فيكون قد أسدى إليك معروفاً تشكره عليه، فإذا ما قلت لهذا الذي استحق عليك الشكر: جزاك الله خيراً، فقد أضعفت المثوبة والجزاء؛ لأنه إذا تولى الله جزاءه بالخير لا يكون مثل ما تعطيه حفنة تمر أو مائة ريال؛ لأن هذا القول يجعل الجزاء من الله، فيتولى الله جزاءه بالخير على هذا الفعل، وسيكون عطاء جزلاً.(14/3)
علاقة الحديث بكتاب الأيمان والنذور
هذا موضوع الحديث، ونفس الشارح يتساءل: ما علاقة هذا الحديث بالأيمان والنذور؟ وقد يكون الحديث أقرب إلى كتاب مكارم الأخلاق وحسن الآداب والفعال منه إلى كتاب الأيمان والنذور.
ووجه الجمع بين هذا الحديث وإنزاله في هذاالباب أنه حينما ينذر الإنسان نذراً لشخص فقال: يا فلان، إن لي حاجةً، فنذر عليّ لله إن أنت قضيتها لي لأجازينك جزاءً ولأكافأنك مكافأة عظيمة.
فإن عجز عن الوفاء بنذره لهذا الشخص، فلا بأس بأن يلحق جزاءه على عمله بالله عز وجل، ويكون بذلك قد وفاه.
ولنرجع إلى الحديث: ( من صنع له معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيراً )، أي: كنت وعدتك على صنعك المعروف لي ما هو واسع جداً، ولكنني عجزت عنه، فأسأل الله أن يجزيك عني خيراً، فأكون بهذا قد وفيت بنذري.
وأرى أننا لو حاولنا وتلمسنا علاقة ولو كانت واهية؛ أنه أولى من أن نخطئ المؤلف في إيراده الحديث في كتاب مخصص للأحكام، وهذا في نظري هو أولى.
ومن المعلوم أن الإنسان قد تأخذه العاطفة والانفعال وينذر بشيء ليس في وسعه، والرسول صلى الله عليه وسلم في باب القضاء إذا وجد إنساناً سيطرت عليه العاطفة لا يتركه، بل ينبهه.
فهذان الخصمان اللذان أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتكمان إليه في مواريث بينهما، وهي تركة لا حجة عندهما ولا معالم عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: ( ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع ) قد كان الله قدراً أن يأتيه الوحي؛ ولكن إذا جاء الوحي لرسول الله في خصومات القضاء فكيف يصنع من بعده، فكان المنهج للجميع: ( ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض )، يعني: أبلغ وأفصح في البيان، وإن من البيان لسحراً ( فأقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم )،هذا تحذير، ( فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار يأتي بها إسطاما في عنقه يوم القيامة ).
فلما سمع الطرفان هذا القول قال كل منهما: حقي للآخر.
فقال عليه الصلاة والسلام: ( أما إذا فعلتما فاذهبا واقتسما وتوخيا الحق، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه ).
لماذا وجههم هذا التوجه المستغرق: (اقتسما وتوخيا)؟ فالقسمة يجب أن تكون عادلة، فإذا قسمتما فتوخيا الحق، وليأخذ كل منكما قسمه، وذلك يكون بالقرعة.
(ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه) أي: يتسامحا بعد القسمة وبعد التحري وبعد القرعة، ونرضى ويرضي كل منا بقسمه مخافة أن يتركوا إلى سلطان العاطفة والعاطفة أمدها قريب، فبعد انطفاء جذوتها تعود الخصومات -عياذاً بالله-.
والشاهد هنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما تركهما تحت تأثير العاطفة، بل نبههما إلى ما ينبغي أن يكون قطعاً للنزاع فيما بعد.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(14/4)
دروس الحرم [9](15/1)
النذر
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال ابن حجر رحمه الله في بلوغ المرام: [وعن ابن عمر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل ) متفق عليه].
ما علاقة الأيمان بالنذور؟ اليمين ملزم، وكذلك النذر، ومن حنث في يمينه فعليه أن يكفر، وبعض أقسام النذر حكمها كفارة اليمين.
إذاً: اقتران الأيمان بالنذور هو لقوة الصلة بين البابين، وقد ساق المؤلف في خصوص النذر حوالي ثمانية أحاديث.(15/2)
معنى النذر
ما هو النذر؟ وما مشروعيته؟ النذر هو: أن يلزم الإنسان نفسه لله بشيء، يقول: لله عليّ نذر أن أصوم يوماً، ألزم نفسه لله بشيء وهو صوم يوم، أو بصدقة كذا، أو بصلاة كذا، أو بتلاوة كذا، أو بحج، أو بعمرة؛ فهو ألزم نفسه بما لم يكن لازماً عليه.
حديث: ( من مات وعليه صوم صام عنه وليه )، الجمهور على أن الصوم عام، كالصوم الواجب من فرض الشرع أو بالإلزام الشخصي؛ بأن ألزم نفسه بصوم يوم لم يكن لازماً عليه، وبعضهم قالوا: المعنى: إذا كان صوماً لازماً بالشرع فلا قضاء عليه، لأن الذي أوجب عليه الصوم هو الذي أماته.
فلو كان مريضاً وعليه صيام وعجز عنه، وكان هذا الصوم مما أوجبه على نفسه فعليه الوفاء؛ لأن الله ما ألزمه وإنما ألزم نفسه فعليه الوفاء، إذاً: فرق بين ما التزم به الإنسان بنفسه وبين ما ألزمه الشارع به، وقيل: المعنى صوم النذر خاصة.
إذاً: النذر هو أن يلزم المرء نفسه لله بشيء.(15/3)
مشروعية النذر
النذر ثابت بالكتاب وبالسنة وبالإجماع.
يستدل العلماء بقوله تعالى: { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } [الإنسان:7] امتدح الله الموفين بالنذر، وأصرح من هذه الآية قوله تعالى: { إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا } [آل عمران:35]، نذرت به، وهو لا يزال في الغيب ما وضعته بعد.
ومريم عليها السلام ماذا قالت؟ بأمر من الله وبتعليم من الله: { فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا } [مريم:26].
إذاً: هذا نص في مشروعية النذر في كتاب الله.
وفي السنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه )، وأقر صلى الله عليه وسلم من نذر نذر طاعة، وأورد عليه حالة فيها نذر يشتمل على حلال وحرام ومعصية وطاعة، فألغى ما لا يجوز، وأقر ما يجوز، وذلك في حديث الرجل الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم في الشمس، فسأل عنه، فقالوا: نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال: ( مره فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه )؛ لأن الصوم عبادة، وبقية تلك الأشياء ليست عبادة، وفي الحديث: ( إن الله لغني عن أن يعذب أحدكم نفسه ).
ولما سئل عن امرأة نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام، فطلبت من أخيها أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ( لتمش ولتركب ).
إذاً: السنة جاءت بتقرير النذر، والقرآن الكريم يذكر لنا قضايا نذر في الأمم الماضية، وما ذكرها لنا إلا لأنها مشروعة، وشرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يأت في شرعنا ما يخالفه.(15/4)
ما ينعقد به النذر
بم ينعقد النذر؟ وفيم ينعقد؟ ينص ابن قدامة في المغني بأن النذر لا ينعقد إلا باللفظ، أما لو نوى في نفسه وحدث نفسه بنذر ولم يتلفظ به فلا ينعقد.(15/5)
أقسام النذر
واستخلص العلماء من مجموع الأحاديث الواردة في باب النذر أقسامه، قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: النذر خمسة أقسام: الأول: نذر مطلق أي: لم يذكر فيه المنذور، يقول: لله عليّ نذر، ولم يسم هذا النذر، فهذا نذر مطلق عن تسمية المنذور.
الثاني: نذر لجاج، وهو قول الإنسان في الخصومة والغضب: لله علي نذر كذا، إذا تخاصم مع إنسان ولج معه في الخصومة وغضب قال: إن كلمتك فلله علي أن أحبو في الشارع، فهذا نذر غضب، ونذر لجاج، واللجاج هو المخاصمة.
الثالث: نذر مباح، يقول: لله عليّ أن ألبس ثوبي، أو أركب دابتي.
الرابع: نذر معصية.
الخامس: نذر تبرر، أي: فعل البر.
النذر المطلق هو الذي لم يعين فيه ما هو المنذور، ترك أن يسمي شيئاً مخافة أن يعجز عن الوفاء به مثلاً، فكفارته كفارة يمين.
نذر اللجاج هو مخير فيه بين أن يأتي بنذره على ما فيه من مشقة وثقل، وبين أن يخرج منه بكفارة؛ لأنه خرج في ساعة الغضب وفي خصومة.
النذر المباح كذلك، إن شاء فعل الأمر المباح، وإن شاء أعرض عنه وعليه كفارة.
نذر المعصية يحرم الوفاء به، وهل عليه كفارة أم لا؟ يرجع هذا إلى مسألة نذر المعصية هل ينعقد أو لا ينعقد؟ فقد جاء في الحديث كما تقدم: ( مره فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه ) وجاء الحديث الصريح: ( من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) وقوله: (فلا يعصه) هل انعقد النذر وانحل بكفارة أم لم ينعقد فلا كفارة فيه؟ اختلفت وجهة النظر عند العلماء، فقيل: إنه لم ينعقد أصلاً، وقيل: انعقد وعليه كفارة يمين، وهناك بعض التفصيلات والتفريعات التي تدخل في هذا، وكل مباحث النذر ترجع إلى هذه الأمور.
إذا نذر مكروهاً فلا ينبغي أن يأتي به، كما لو نذر بطلاق زوجته، فالطلاق مكروه، فلا يفي به، ويخرج منه بكفارة.
نذر التبرر هو نذر عبادة، يقول مثلاً: لله عليّ أن أصوم يوماً، هذا النذر إما أن يكون خالياً عن الشرط، ابتداءً من نفسه، مثلاً كان كسلان عن الصيام، يرى الناس يصومون الإثنين والخميس والأيام البيض وكذا وكذا، وهو لا يصوم، فيقول: لله علي نذر أن أصوم يوم الإثنين، فهذا نذر تبرر مطلق عن شرط، فعليه أن يأتي به إلا إذا عجز فينتقل إلى الكفارة.
وإما أن يكون مشروطاً، يقول مثلاً: لله علي نذر إن شفى الله مريضي أن أصوم عشرة أيام، فهذا نذر تبرر بصيام عشرة أيام لكنه مشروط بشرط، فكأنه معاوضة بيع وشراء، فإن أعطاه الله ما اشترطه عليه وفى بنذره، وإذا لم يعطه الله ما شرط كان في حل؛ لأن المشروط لم يحصل، وليس عليه كفارة وليس عليه أي شيء.
هذه أقسام النذر فيما يتعلق بالمنذور، والأحاديث التي ساقها المؤلف رحمه الله كلها تدور حول هذه النقاط وحول هذه المباحث، إلا أن تفريعات الفقهاء واستنتاجاتهم وسعت الباب إلى حد بعيد، فمثلاً عند نذر المعصية قالوا: لو نذر أن يذبح ولده، كما نذر عبد المطلب أن يذبح ولده، فماذا يفعل؟ لأن ذبح الولد معصية! قالوا: يكفر بذبح شاة: { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [الصافات:107]، و عبد المطلب نحر مائة بدنة كما حكمت الكاهنة في فداء عبد الله بعشرة إبل ثم عشرة عشرة حتى بلغت المائة، فكانت هي الدية عند العرب، ثم جاء الإسلام فأقرها.
فإذا نذر أن يتبرع بجميع ماله، فيتصدق بالثلث، كما في حديث أبي لبابة لما وقع منه ما وقع، وجاء وربط نفسه في سارية المسجد وجعل على نفسه إن تاب الله عليه أن يخرج من ماله كله في سبيل الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: ( يكفيك الثلث، تصدق بالثلث والثلث كثير ).
ومن العلماء من يقول: إن عين ألفاً فعليه الوفاء، وإن كان مائة ألف أو شيئاً كثيراً يعجز عنه فكفارة.
وتوسعوا في الجزئيات في باب النذر وفرعوا على ما تقدم من الأقسام الخمسة.
هذا مجمل مباحث النذر، وسنمر على الأحاديث التي ساقها المؤلف رحمه الله لنطبق هذه المبادئ وهذه الأقسام على تلك النصوص إن شاء الله.(15/6)
كراهة النذر المشروط
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه نهى عن النذر وقال:إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل ) متفق عليه].
القرآن ينص على النذر، والسنة تنص على النذر، والرسول يقرر الكثيرين على النذر، وفي هذا الحديث نهى عن النذر، فهذا النهي نحمله على التحريم أم على الكراهة؟ على الكراهة؛ لأن الأصل الإباحة، والأصل الجواز، فإذا جاء النهي عن الجائز فيبقى النهي للكراهة، لأن الإنسان قد يمد في نذره ثم يعجز عنه.
ثم ما قيمة النذر في حياتك؟ هل قولك: لله عليّ نذر إن شفى الله مريضي أن أفعل كذا، فهل سيشفيه من أجل أن تفعل؟! إذا قلت: إن شفى الله مريضي ذبحت شاة، فإذا كان الله قد قدر وفاته، فهل قولك هذا سيجعل الله سبحانه وتعالى يشافيه؟! النذر لا يأتي بخير، ولكن قد يصادف نذرك إرادة الله فيقع ما طلبت، الله يريد الشفاء ذبحت أو لم تذبح، فقد قضى الله أنه يشفيه، حتى لو لم تنذر أن تذبح الشاة، إذا نذرت إن شفى الله مريضك أن تذبح شاة، والحال أن الله قدر شفاءه، فإنك لو لم تقدم النذر هل ستذبح الشاة؟ لا.
إذاً: النذر لا يغير إرادة الله، ولا يقدر على جلب ما لم يرده الله.
إذاً: فما الفائدة منه؟ (يستخرج من البخيل) لو قيل له: اذبح أرنباً أو اذبح دجاجة يقول: لا، لكن بالنذر استخرجنا منه شاة، وهذا نهي عن المباح، فهو نهي تنزيه لئلا يقع الإنسان فيما لا يقدر عليه أو يعجز عنه.
قال رحمه الله: [وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كفارة النذر كفارة يمين ) رواه مسلم ، وزاد الترمذي فيه: ( إذا لم يسم )].
أي: فإن أطلق النذر ولم يعلقه بشيء فكفارته كفارة يمين، ومفهوم المخالفة من قولنا: (ما لم يعلقه بشيء) أنه إن علقه يكون حكمه حكم النذر المسمى، وعليه أن يأتي بما سماه إن كان في استطاعته، والعلماء يقولون: لا نذر في مستحيل، ولا في معصية.
معنى: (لا نذر في مستحيل ولا في واجب في أصل الشرع) أنه لو قال: لله علي أن أصوم يوم الخميس الأخير من الشهر الماضي، هل يمكن صومه؟ لا، فلا نذر في مستحيل.
وإذا قال: لله علي نذر أن أصوم رمضان الآتي إن أحياني الله!! وهل صوم رمضان متوقف على النذر أو مفروض في أصل الشرع على الناذر وغير الناذر؟ إذاً لا ينعقد هذا النذر؛ لأنه في واجب في الشرع.
إذاً: لا نذر في مستحيل ولا في واجب في الشرع، ولا فيما لا يملك، كأن يقول: لله علي نذر إن شفى الله ولدي أن أعتق عبد فلان، لكنه ليس ملكه، وبعضهم يقول: ينعقد، وعليه أن يشتري عبد فلان ويعتقه.
ومن مباحث نذر المعصية أنه لو نذر صوم يوم العيد، فصوم يوم العيد محرم والجمهور أنه لا ينعقد، والإمام أبو حنيفة يقول: ينعقد، ولكن يخرج منه بكفارة يمين؛ لأنه ممنوع من صومه، فإذا كان ممنوعاً من صومه فلا يذهب نذره بدون شيء، بل عليه كفارة يمين، وهناك من يقول: لا كفارة عليه ولكن يقضي يوماً مكانه، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(15/7)
دروس الحرم [10](16/1)
باب النفقات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصبحه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب النفقات.(16/2)
أدلة وجوب النفقة من السنة
وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول )، رواه النسائي .
وهو عند مسلم بلفظ: ( أن يحبس عمن يملك قوته ).
قال: وعن جابر يرفعه في الحامل المتوفى عنها زوجها، قال: ( لا نفقه لها ) أخرجه البيهقي ورجاله ثقات، لكن قال: المحفوظ وقفه.
وثبت نفي النفقة في حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها كما تقدم، رواه مسلم .
قال: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اليد العليا خير من اليد السفلى، ويبدأ أحدكم بمن يعول، تقول المرأة: أطعمني أو طلقني ) رواه الدارقطني ، وإسناده حسن.
وعن سعيد بن المسيب : ( في الرجل لا يجد ما يمسك على أهله؟ قال: يفرق بينهما ) أخرجه سعيد بن منصور عن سفيان عن أبي الزناد عنه قال: قلت لـ سعيد بن المسيب : سنة؟ فقال: سنة.
وهذا مرسل قوي ].
سيتكلم المؤلف رحمه الله تعالى في هذا المبحث عن إعسار الزوج بالنفقة، وما يترتب على ذلك من حق الزوجة بالمطالبة بالفسخ، وهذا الموضوع له أهميته في الحياة الزوجية ولا سيما في هذه الآونة التي نعيشها.(16/3)
معنى الحديث
فبدأ رحمه الله بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول ).
كفى: تشعر بأن هذا الفعل هو بذاته وحده إثمه يكفي في هلاك صاحبه، ما هو هذا الشيء الوحيد الذي يكفي إثمه في إهلاك فاعله؟ هو أن يضيع المرء من يعول، يعول: من عال يعول، وعال يعيل، فَعَال يعيل: من العيال، وعال يعول: من الزيادة، ويعول أي: ينفق.
( كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول )، أي: من تلزمه نفقته.
وقد جاء نظير ذلك لكن في أعمال الخير، جاء عن عثمان رضي الله تعالى عنه، أنه حينما جهز جيش العسرة، قال له صلى الله عليه وسلم: ( ما ضر عثمان ما صنع بعد اليوم ).
وكذلك الحارس الذي أرسله في غزوة حنين يستطلع له خبر هوازن في بطن الوادي، فمكث من بعد صلاة العشاء إلى ما بعد صلاة الفجر على صهوة جواده، وما طلع عليهم إلا وهم في مجلسهم من صلاة الصبح، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( ماذا فعلت؟ قال: والله يا رسول الله ما نزلت عن جوادي إلا مصلياً أو لقضاء حاجة، قال: لا عليك أن تعمل بعد اليوم ).
وكما جاء في عموم أهل بدر، كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة لما أرسل خطاباً إلى المشركين وكان من شأنه أنَّ عمر استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ).
أي: أن هذه الأعمال وحدها يكفي ثوابها لنجاة العبد، وليس معنى ذلك أنه يبيح له المعاصي، أو يبيح له ترك الواجبات، ولكن المراد: تعظيم وتفخيم هذا الأمر الذي قام به هذا الشخص، فهنا كفى في الخير كذا، وهناك كفى في الشر كذا.
يعني أن الأعمال تتباين وتتفاوت، وأعمال الخير تتفاوت في تعاظم الأجر، وأعمال الشر تتفاوت في عظم الإثم، وهذا ذهب إليه بعض المفسرين في قوله سبحانه: { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ } [فصلت:34]، الجمهور يقولون: (ولا تستوي الحسنة) أي: جنس الحسنات، (ولا السيئة) أي: جنس السيئات، الحسنة ما هي مثل السيئات، الحسنة أحسن، { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [فصلت:34] هذا رأي الجمهور، وبعض المفسرين يقولون: لا تستوي الحسنات في أفرادها، بل تتفاوت الحسنات بعضها على بعض.
ولا تستوي السيئة، أي: لا تستوي السيئات بعضها مع بعض، ولكن هناك سيئة وهناك أسوء، وهناك حسنة وهناك أحسن.
فهنا تحذير من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (كفى بالمرء)، والمرء مذكر، ومثله امرؤ، ومؤنثه امرأة.
(كفى بالمرء) أي: الإنسان مطلقاً، ويشمل المرأة.
(إثماً) أي: ذنباً عظيماً، (أن يضيع): يكون ذلك بأحد وجهين: الوجه الأول: أن يكون غنياً ويمسك النفقة بخلاً أو تغافلاً أو سهواً، أو يقدم غير من يعولهم على من يعولهم، أو لكون العائل ينفق ماله في مباحات يسرف على نفسه بها، ويترك النفقة على من يعولهم.
الوجه الثاني: كونه لا يجد النفقة ولم يتصرف معهم تصرف المعذور المعسر، وإذا كان الأمر كذلك، إذاً: من وجبت نفقة إنسان عليه فعليه أن يبادر وأن يقدم له ما يعوله، وهل يدفع له نفقته يومياً أو إسبوعياً أو شهرياً أو سنوياً؟ كل ذلك بحسب الاتفاق، وإن تنازعوا فيوم بيوم؛ لأن كل يوم له نفقة مستقلة.(16/4)
هل يدخل العبيد والخدم والحيوان في معنى الحديث
واللفظ الثاني: (أن يحبس عمن يملك قوته).
في الرواية الأولى: (من يعول)، وفي هذه الرواية: (عمن يملك).
يدخل في الملك أولياً: الخدم، أي: المماليك؛ سواء كن الجواري أو العبيد، ويتبع ذلك كل ما يدخل في ملكه وحوزته حتى الحيوان، وقد أشرنا سابقاً إلى ما تنص عليه كتب الحنابلة: بأن الإنسان إذا كان عنده حيوان يستخدمه ثم عجز الحيوان عن الخدمة، فلا يحق له أن يحبسه حتى يموت بل ينفق عليه، وإن عجز عن النفقة عليه أخرجه إلى أرض مخصبة منبتة يرعى فيها.
أما إذا كان مأكول اللحم ذبحه وانتفع بلحمه وبرئ من إثمه، وإن كان غير مأكول اللحم لا ينفع ذبحه، فإنما يرسله إلى ما يمكن أن يجد قوته أو طعامه أو مرعاه هناك.
وبهذه المناسبة ننبه على هؤلاء الذين يستخدمون الخدم، بأن طعامهم وشرابهم ومنامهم على الكفيل؛ لأنهم في ملكه للخدمة؛ ولأنهم من ضمن من يعول.
وهنا تأتي المروءة، ويأتي حسن الخلق، ويأتي حسن الصحبة، فمن الناس من يجلس خادمه معه ليأكل، المرأة مع المرأة، والرجل مع الرجل، ومنهم من يغرف له قبل عياله، ومنهم من يحبس ويتحفظ على حصته من الطعام، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بهذا الصنف من الناس، إذا قدم لك خادمك الطعام فإما أن تجلسه معك و إلا أطعمته منه، فقد عالجه وأنضجه وقدمه إليك.
هذه ناحية نفسية عجيبة يا إخوان، الخادم والطباخ يعالج الطعام، وبرائحته، بلونه، بشهيته، بكل نفسيته، ثم أنت تأخذ الطعام ولا يذوق منه شيئاً، ألا تخشى من عينه، ألا تخشى من حقده عليك، بل المفروض أن الإنسان إذا كان يأكل طعاماً وجاءه طفل أو جاءه خادم أو جاءه إنسان أن يدعوه لمخالطته ما دام قد رأى الطعام بين يديه، ولعل نفسه تعلقت به! سئل رجل من السلف وكان لا يأكل مع والديه، عن سبب ذلك، فقال: أخشى أن تسبق يدي إلى شيء تتعلق به نفوسهما.
فمعنى ذلك أن العين تسبق إلى الطعام، حتى العامة يقولون: الناس تأكل بعيونها لا ببطونها.
فإذا كان الأمر كذلك، فينبغي أن نلاحظ حقوق الخدم الذين يكونون معنا في البيت، ومما يمكن أن نضيفه إلى ذلك -نبين مدى سعة رحمة الله وعناية الإسلام بالمملوك- الذين يقتنون الطيور ويجعلونها في أقفاص، فلا بد من توفير الماء والطعام لها، وتغيير الماء وغسل آنيته كلما دعت إلى ذلك حاجة.
وبعض الناس يدعه ولا يسأل عنه وقد ينساه، وينتهي ما معه من ماء، فيموت عطشاً، فهذا يخشى عليه من حديث المرأة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: ( دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ).
فإن لم ترد إطعامها فاتركها تأكل من خشاش الأرض.(16/5)
بيان مدى عظم أجر الإحسان إلى خلق الله
يقابل هذا في الجانب الآخر أنه دخل رجل الجنة في كلب -هرة وكلب! سبحان الله- وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: ( بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش )، الثرى: التراب المبلل بالماء، طلباً لأثر الماء الموجود في ذلك التراب.
( فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي )، وليس عنده دلو، ولا عنده ماعون، فماذا فعل؟ ( فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له )، وجاء في لفظ الجلالة الرفع والنصب.
فأما على النصب: (فشكر اللهَ) أي: أن الكلب شكر الله لهذا الرجل الذي أحسن إليه.
وعلى رواية الرفع على الفاعلية: شكر اللهُ له صنيعه في مخلوق.
قالوا يا رسول الله: ألنا في الحيوانات أجر، قال: ( في كل كبد رطبة أجر ).
على هذا: إذا كان الإنسان يقتني كلباً مما تجوز قنيته؛ ككلب الماشية، وكلب الزرع، وكلب الحراسة، وما عدا ذلك من اقتنى كلباً لغير هذه الأسباب الثلاثة نقص من أجره كل يوم قيراط؛ فواجب على من اقتنى كلباً عليه أن يوفر له المأكل والمشرب، وإلا تركه لحال سبيله يأكل من خشاش هذه الأرض.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(16/6)
دروس الحرم [11](17/1)
وجوب العدل والمساواة بين الضعيف والقوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [ وعن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( كيف تُقدّس أمة لا يؤخذ من شريفهم لضعيفهم؟! ) رواه ابن حبان ، وله شاهد من حديث بريدة عند البزار ، وآخر من حديث أبي سعيد عند ابن ماجة .
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( يدعى بالقاضي العادل يوم القيامة، فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره ) رواه ابن حبان ، وأخرجه البيهقي ، ولفظه: ( في تمرة ).
وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) رواه البخاري ].(17/2)
هلاك الأمم بسبب ترك العدل
يأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث في هذا الموطن ليبين أن العدالة في القضاء بها تقدّس الأمة، فإذا ما ضاعت العدالة في الأمة لم تكن أهلاً لأن تقدس.
وكيف تقدّس؟ أي: تنزه وتطهر ويكون لها قيمة عند الله وعند الناس.
فالتقديس هو: التنزيه، والرسول صلى الله عليه وسلم بسؤال التعجب هذا: ( كيف تقدس أمة؟! ) كأنه يقول: لا يمكن أن تقدس أمة لا يؤخذ من شريفها لوضيعها؛ لأنه إذا لم يؤخذ من الشريف للوضيع حقه فحينئذ تسود الفوضى، ويختل النظام، وتصبح تلك الأمة في عداد الأمم التي لا قيمة لها؛ لأنها لم تنصف بين أفرادها، ولم تحسن أن تقيم العدالة بين الجميع.
وكما قيل سابقاً: العدل أساس الملك، فالعدالة لا بد أن تكون عامة شاملة، وقد سمعنا في هذا الموضوع من بعض المعاني، وقرأنا كذلك فيما يتعلق بمساواة الشريف بالوضيع في الخصومة، وفي أخذ الحق.
وقد أحسن الصديق رضي الله تعالى عنه حين أعلنها مدوية في خطابه الذي يسمى اليوم بخطاب العرش، أي: الخطاب الذي يرسم فيه رئيس الدولة خطته في الحكم، ومنهجه في السياسة، فمما قاله الصديق رضي الله تعالى عنه: ( ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه ) فالحق أعطى الضعيف قوة، والحق حط من قوة القوي حتى يتعادلا ويتساويا في الحقوق وفي الحكم.
ومما سمعنا ولم نقرأه: أن جبلة بن الأيهم كان يطوف بمكة، وكان عمر رضي الله تعالى عنه آنذاك موجوداً في وقت الطواف، فوطئ رجل على إزار جبلة بن الأيهم ، فأساءه، فالتفت إليه فصفعه على وجهه، فاستعدى عليه عمر وقال: القصاص يا أمير المؤمنين! فقال عمر لـ جبلة : القصاص يا جبلة !، قال: كيف تقتص مني لأعرابي يبول على فخذيه! -يعني: استخف به واستضعفه واستهان بأمره، ورأى في نفسه أنه لا يقتص من مثله لأعرابي- فقال له عمر : شرع الله القصاص، فلا بد من القصاص، فقال: إن كان ولا بد فأمهلني حتى أنهي عمرتي، فأمهله، فلما أنهى العمرة شرد إلى الشام، فأوى إلى الغساسنة هناك.
هنا استعظم في نفسه أن يقتص منه لمن هو دونه، فهو من سادة العرب، وهذا الذي وطئ على إزاره فرد من الأفراد وشخص دونه، فتعاظم في نفسه وامتنع أن يعطي من نفسه القصاص لصاحب الحق؛ لأنه أضعف منه.(17/3)
بنو إسرائيل ومفاضلتهم بين الشريف والوضيع في الحكم:
وقد سُجل لنا في بني إسرائيل كما جاء في الحديث: ( كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ).
ولما جاءت قضية الزانية والزاني اليهوديين، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم، لأنهم قالوا فيما بينهم: امضوا إلى محمد لعلكم تجدون عنده أهون وأسهل مما عندكم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم سألهم عما في كتابهم، فقالوا: إن عندنا في التوراة أن نسخم وجوههما ونرسلهما على حمار مقلوبين ونطوف بهما ونشهر.
فقال: هذا حكمها؟ قالوا: بلى، فقال شاب حاذق: لا والله أخبروا رسول الله عن الحقيقة، والله إن فيها الرجم، فلما جيء بالتوراة أخذ القارئ يقرأ من موضع آخر ووضع يده على نص الرجم، وقرأ ما قبله وما بعده، فقال عبد الله بن سلام : ارفع يدك؛ فرفع يده فإذا فيها نص الرجم، فقال: سبحان الله! ما الذي حملكم على هذا؟ قالوا: لقد فشا الزنا في بني إسرائيل -النساء جميلات، والرجال متوفرو الشهوة، والاختلاط موجود- وكثر القتل فيهم بسبب ذلك عند الرجم، فقالوا: لو استمر الرجم على ذلك لقتل أشراف بني إسرائيل، فهلم نجتمع على رأي نطبقه على الصغير والكبير، على الشريف والوضيع، فاتفق رأيهم أنهم يسخمون وجوههم، أي: يسودونها بالفحم، ويركبونهم على دابة، ووجوهما إلى قفاها، ويطوفون بهما في الطرقات معلنين أن هؤلاء زناة، ثم حكم صلى الله عليه وسلم بالرجم.
وهل حكم بالرجم على ما يوجد في التوراة لأهل التوراة، أو حكم بالرجم على ما في كتاب الله؟ قال تعالى: { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ } [المائدة:48].
كذلك قضية العسيف والرجل اللذين أتيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقضيتهم في الموطأ مطولة فقال الرجل: ( إن ابني كان عسيفاً عند هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله )، ثم قضى بينهما أن على ولده -أي: العسيف- جلد مائة لأنه أعزب، ولم يكن أُحصن، فقال: ( الوليدة والغنم رَد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ).
الكلام على إثبات موضوع الرجم هذا محله غير هذا المكان، وهو أمر مفروغ منه، وبإجماع جميع الملل أو النحل السماوية، فإن الزنا محرم وفيه الرجم.(17/4)
أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وعدلهم بين الرعية
فلذلك لا تقدس أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها، وهكذا بنو إسرائيل حينما لم يأخذوا حق الضعيف من القوي آل أمرهم إلى التمزق، وآل أمرهم إلى السقوط والضياع، وقد فطن لذلك الصديق رضي الله تعالى عنه فأعلنها مبدئياًَ: (ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه) يعني: لا يعتصم أحد مني بقوته، ولا ييأس أحد مني لضعفه، الكل سواء في حكم العدالة.
وهذا هو ما ينبغي، فإذا ما ضيع هذا الجانب، وروعي الأشراف أو السادة أو الكبار أو ذوو الجاه، فهودنوا فيما يتعلق بحدود الله، وجيء إلى الضعفاء المساكين فنفذ عليهم حق الله، فهذه الأمة لا تستحق التقديس، وهي إلى الضياع أقرب، نسأل الله تعالى العافية والتوفيق.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( الناس سواسية كأسنان المشط )، وكما تقدم في كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى رضي الله عنه : (سوِّ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك)، وأمره أن يسوي بين الخصمين أمامه، وألا يميل إلى واحد منهما بلحظه أو بنظره، لئلا يطمع الشريف في حيفه، ولا ييأس الضعيف من عدله.
لأن الشريف إذا وجد القاضي يحابيه أو يصانعه أو يميل إليه، أو يلين له الحديث عند المناقشة؛ فإنه يطمع في المجاملة، والضعيف إذا وجد ذلك من القاضي في نبرات صوته، وفي كلماته وعباراته؛ فحينئذ يدخله كسر الخاطر، ويدخله الرعب والخوف من القاضي.
ولهذا ينبغي على القاضي أن يسوي بين الخصوم في خصومتهم، وبين مفاهمته معهم، حتى قال بعض القضاة: لو أغضب أحد الخصوم القاضي فرفع صوته عليه، وتكلم القاضي على هذا الذي أغضبه أو أثاره؛ فإنه ينبغي أن ينتهز فرصة من الطرف الثاني ولو كانت أقل من خطأ صاحبه، ويصيح عليه كما صاح على الأول، ليشعر بالمساواة.
وهكذا تبدأ العدالة من مجلس القاضي: (أجلسهم بين يديك، وأصغ إليهما، ولا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر ) إلى آخر تلك الإرشادات التي جاءت في خطاب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه.
كيف تقدس أمة لم يؤخذ الحق من شريفها لضعيفها؟ لا يمكن، فإذا ما تساوى الجميع وأخذ الحق من القوي للضعيف، شعر الضعيف أنه قوي بالحق، وشعر القوي أنه ضعيف بمصادرته ومصادمته للحق، فيكون الحق هو حق النصر، وحق الاعتدال بين الطرفين كما قيل: الفضيلة وسط بين طرفين.
وبالله تعالى التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(17/5)
دروس الحرم [12](18/1)
باب الولاية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الخلق أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:(18/2)
أدلة منع المرأة من الولاية
قال المصنف رحمه الله: [ وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) رواه البخاري .
وعن أبي مريم الأسدي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين فاحتجب عن حاجتهم وفقيرهم؛ احتجب الله دون حاجته ) أخرجه أبو داود و الترمذي .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي في الحكم ) رواه أحمد ، وحسنه الترمذي ، وصححه ابن حبان ، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو عند الأربعة إلا النسائي .
عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) رواه البخاري .
الذين قالوا بعدم صحة تولية المرأة القضاء، قالوا: لأن القضاء مبناه على العقل والفهم، والفهم هو مقياس نجاح القاضي، والرسول صلى الله عليه وسلم نفى عنهن تمام العقل والفهم، ونفى عنهن تمام الدين، وقال: ( إنكن ناقصات عقل ودين )، ولما ذكر الله الشهادة قال: { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } [البقرة:282] ، وكأن المرأتين معاً صيغا وسبكا فجعل منهما رجل.
وعلى هذا يكون نقص العقل في المرأة لا بد أن يكون نقصاً في التفكير ونقصاً في الفهم.
ثم إذا نظرنا إلى وصف المرأة في معاتبة المشركين في ادعائهم بأن لله البنات ولهم الذكور فقال: { أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } [الزخرف:18]، أي: عاش على النعيم والترف، لم يذق شظف العيش، ولم يقف مواقف اضطرارية في حياته فيصبر عليها، ويفكك المشاكل، بل ينشأ في الحلية، وقد أشرنا إلى قضية اليهودي مع الجارية أنه وجدها ووجد على رأسها أوضاحاً من ذهب، فأخذ الأوضاح ورض رأسها، وكنا كتبنا عن ذلك مطولاً، وقلنا: إن أولياء هذه الطفلة وكل طفلة يكثرون عليها من الحلي فاعتدي على الطفلة لحليها، فإن أهلها شركاء في قلتها مع القاتل المعتدي؛ لأنهم علقوا عليها أسباب القتل والاعتداء، فإذا رآها مجرم ورأى الذهب سال لعابه أمام بريق الذهب، فارتكب جريمة القتل وأخذ ذهبها.
فقوله: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) دليل على ضعف القوى في مواجهة الخطوب والصعوبات، (وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) أي: ضعيف البيان، وكما قالوا: المرأة إذا حزبها أمر فزعت إلى البكاء، وإذا ضاقت حيلتها وعجزت قوتها عمدت إلى الضعف وبكت، فإذا كانت القضية حازمة، وكانت دلالاتها خفية، وحزبها الأمر، أتجلس تبكي أمام الخصوم، أم ماذا تفعل؟ لأنها بتركيبها التكويني جبلت على هذا الأمر، ومن يطلب من الماء ذهباً فقد كلف الماء ما لا يطيق، وعلى هذا لم يكن تكوينها الذاتي يعطيها الصلاحية للولاية.(18/3)
ندرة صلاح المرأة للتدبير
ومن أعجب ما قرأت أن الزبّاء وكانت ملكة بعد أن آل إليها حكم زوجها، وكان جذيمة ينافس زوجها فخافت منه، فأرادت أن تحتال عليه لتقتله لتأمن غيلته، فكتبت إليه، ومما قالت: إن تنصيب المرأة ملكة ثقيل في الأسماع -تتظاهر بعدم رضاها عن توليتها الملك- وضعف في السلطان، يطمع فيها الخصوم، فأت إلي لنتفق معاً ويتم الزواج وأكون بك قوية، فاستشار جذيمة أصحابه، فأشاروا عليه بذلك إلا رجلاً يسمى قصير ، قال: لا أرى ذلك إلا خدعة، فلو كانت صادقة فلتأت هي إلى آخر أمرها، وذهب برجاله، فقال له قصير : إذا رأيت الخيل مشت أمامك فاعلم بأنها صادقة، وإذا رأيت الخيل قد أحاطت بك فاحذر.
وكان لـ جذيمة فرس لا تدرك، فقال له قصير : فإن رأيت الغدر فاركب فرسك وانج بنفسك، فلما ساروا معه في الطريق وكان قصير معه، لقيتهم خيل الزبّاء وأحاطت به، فنبهه قصير فأبى، فحالاً بادر قصير وركب فرس الملك ونجا بنفسه، ثم لما دخل جذيمة عليها وجد المكيدة مدبرة وقُتل، وكان له أخ أو ابن أخ يدعى عمرو ، فقال له قصير : قم واثأر لأخيك، قال عمرو : وكيف ذلك؟ قال قصير : اجدع أنفي واكسر ظهري، ففعل، فرجع إليها يبكي، فقالت له: ما بالك؟ قال: إن عمراً اتهمني أنني مالأتك على أخيه فقتلتيه، فلم أجد لي مهرباً إلا عندك، وأخذ يتقرب منها إلى أن وثقت به، إلى أن دبر المكيدة لقتلها الذي يهمنا: أنها كتبت إليه وقالت: إن تملك المرأة ثقيل في السمع ضعف في السلطان، فإذا كان هذا اعتراف ملكة بوضع المرأة في الولاية، فنحن لسنا في حاجة إلى ذلك، ولكن نقول: إن الذين ناصروا جانب تولية المرأة استشهدوا بهذه وبغيرها، وقالوا: بلقيس كانت ملكة سبأ، كيلو بترا كانت ملكة مصر، وملكة بريطانيا، وملكة إيطاليا، وملكة فرنسا، كلهن نساء، فكيف نوفق بين ذلك وبين هذا الحديث : ( لن يفلح قوم ) وهؤلاء نسوة قد تملكن في بلادهن، وسارت بلادهن على ما يرام؟ والجواب عن ذلك: أننا لو قرأنا تاريخ تلك النسوة في ملكهن، لوجدناهن جميعاً قد قتلن، واضطرب الملك تحت أيديهن، ولم تفلح دولة تحت ولاية امرأة خلفت زوجها أو أباها أو أخاها.
ولا يهمنا تاريخ تملك النساء، ونتائج ذلك، ومن أراد التوسع في هذا فليرجع إلى كتاب: الدر المنثور في أخبار صاحبات القصور؛ ففيه من الأخبار العجائب.
ومن المعلوم أنه لم تتول امرأة حكماً في العرب إلا بلقيس ، ثم إذا وجد هناك نسوة حصيفات العقول، حكيمات السياسة، فيكون ذلك من الندرة بمكان، كما فعلت بلقيس حينما بلغها أمر نبي الله سليمان، وقالت: { إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ } [النمل:29-31].
ثم قالت: ماذا تشيرون علي؟ فكان رأيهم رأياً عسكرياً { نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ } [النمل:33]، لكن بحصافة عقلها ورجحان فقهها ما رأت أن تبدأ بالقتال لمن تجهل قوته، ولم تعرف حقيقة ملكه، قالت: لا أنا سأبدأ باللين أولاً { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } [النمل:35]، وكانت تلك المهاداة، وهذا النظر اللين، كما يقال: الحرب الباردة، فكانت موفقة، ورجع الهدهد سفيراً إليها، وجاء الله بها مسلمة، فأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.
فهذه استعملت عقلها وحصافتها في قضية تأزمت، وقد صدر من بعض نساء المسلمين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، أو فيما بعد ذلك من هذا شيء كثير.(18/4)
موقف أم سلمة الحكيم في الحديبية
ففي الحديبية لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتحللوا وأن ينحروا هديهم، فلم يقم أحد، فدخل على أم سلمة مغضباً، فقال: ( يا أم سلمة : ما شأن الناس؟ قالت: يا رسول الله! قد دخلهم ما قد رأيت، فلا تكلمن منهم إنساناً، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره واحلق، فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك )، لأنهم خرجوا لا يظنون إلا أنهم آتون البيت، وما صدر في فكرهم أن يمنعوا منه، فهم متحمسون، وينتظرون فرجاً من الله بأن يهيئ لهم دخول مكة وإتمام عمرتهم.
وقالت له: اخرج عليهم ولا تكلمن أحداً منهم؛ لأن النفوس مشحونة ليس فيها سعة لتتحمل شيئاً، وأصبح الآن القدوة الفعلية أولى من الكلام والبلاغة والخطابة، واعمد إلى هديك فانحره، وادع الحلاق يحلق لك، والزم خيمتك.
نحن هناك نجد عمر حينما أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بالتحلل وبنحر الهدي وقف وقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فـ عمر يريد أن ينهي القضية بالسيف كأصحاب بلقيس : { نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ } [النمل:33] ، بينما أم سلمة رضي الله تعالى عنها ليست من أهل القوة والسيف، ولكن من أهل الفطنة وبعد النظر والتريث، فحلت القضية بالحكمة؛ فما أن رأى المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر هديه وحلق شعره إلا تبادر الجميع وتسابقوا إلى الحلق والنحر، وانتهت القضية.
ونجد التطبيق العملي في تاريخ المسلمين منذ أن أعلن النبي صلى الله عليه وسلم رسالته، وبلغ وحي الله، ومدة مكثه في مكة، وعند مجيئه إلى المدينة، وفي زمن الخلفاء الراشدين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ومن تبعهم، إلى أن جاءت الخلافة العثمانية، لم نجد خلال هذه المدة الطويلة أن امرأة تولت القضاء أبداً.
إذاً: حينئذ لا ينبغي أن نجعل تولية المرأة القضاء قضية، ونناقش فيها، ونأتي بأدلة من هنا أو هناك، ونجرح من يقول بولايتها لا وكلا، ويهمني تصحيح المفهوم عن الأحناف أنهم يجيزون ولايتها بالإطلاق، ولكن التحقيق عندهم أنهم لا يجيزونها إلا عند الضرورة.
والله تعالى أعلم.(18/5)
التركيب الخلقي في المرأة لا يناسب القضاء
هناك أيضاً الذين يمنعون تولية المرأة القضاء، يوردون على الموضوع لوازم القضاء، ومن لوازم القضاء: أن القاضي يستقبل الخصوم، ويجلسهم بين يديه ويناقشهم، فهل المرأة تتحمل هذا في كل الظروف؟ قد يتقوى عليها الخصوم، وقد يسمعانها ما لا تطيق، وقد تعجز في مجاراتهما، فحينئذ يضيق صدرها ويعتريها الغضب، فتأتي إلى المحظور: ( لا يقضين أحد بين اثنين وهو غضبان ).
ثم سيأتيها مواطن تضطر فيها إلى المشاهدة والمعاينة لواقع هذه القضية أو تلك، أو إنابة من ينوب عنه ليرى وينقل إليها الواقع، فإذا تولت المرأة ذلك كان شاقاً عليها، كما قالوا الآن في تولي المرأة النيابة في البلاد النيابية، وتقف وتذهب وتناقش وتعمل محاضر معاينة، ويكون في ذلك مشقة عليها، وهي امرأة ضعيفة.
بل إن المرأة تعتريها لخلقتها ما يعتري النساء، وهذا قد يسيء إليها نفسياً، وقد تعجز معه أن تسع الخصومة بحلم وعفو وعقل، بل هي من نفسها تتضايق؛ فكيف تتحمل غيرها.
وعلى هذا ذكروا أشياء عديدة في أن المرأة لا تصلح خلقياً أن تكون قاضية.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(18/6)
دروس الحرم [13](19/1)
أحكام الظهار
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، وبعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً ظاهر من امرأته، ثم وقع عليها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني وقعت عليها قبل أن أكفر، قال: ( فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به )، رواه الأربعة وصححه الترمذي ورجح النسائي إرساله، ورواه البزار من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما وزاد فيه ( كفر ولا تعد ).
وعن سلمة بن صخر رضي الله عنه قال: ( دخل رمضان فخفت أن أصيب امرأتي فظاهرت منها، فانكشف لي شيء منها ليلة، فوقعت عليها، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرر رقبة، فقلت: ما أملك إلا رقبتي، قال: فصم شهرين متتابعين، قلت: وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟ قال: أطعم فرقاً من تمر ستين مسكيناً )، أخرجه أحمد والأربعة إلا النسائي وصححه ابن خزيمة و ابن الجارود .(19/2)
الظهار وكفارته
تقدم لنا أن الظهار هو تشبيه الرجل زوجته بظهر أمه، وكان هذا معروفاً في الجاهلية، وكانوا يعتبرونه طلاقاً، يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، أي: في المحرمية، وتصبح امرأته حراماً عليه لا يصح له أن يطأها، وهذا معروف عند الجميع.
وجاءت قضية خولة مع زوجها أوس بن الصامت الذي نزل في شأنها وشأنه سورة المجادلة: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا } [المجادلة:1-2]، إلى آخر السياق.
تقول خولة : كنت تحت ابن عمي أوس بن الصامت ، وكان رجلاً كبيراً فيه غضب، فغضب مرةً ثم قال: أنت عليّ كظهر أمي.
فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: ( ما أراكِ إلا حرمت عليه )، فتجادلت مع النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله ما ذكر طلاقا، ويقول لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أراك إلا حرمت عليه )، إلى آخره، فأنزل الله سبحانه وتعالى آية الظهار.
وفي هذا تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات! هذه خولة تجادل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا معها في الغرفة، أسمع بعض حديثها ويخفى عليّ بعضه، والله يسمعه من فوق سبع سماوات.
هذا مبدأ الظهار في الإسلام، فجعل الله سبحانه وتعالى على الذين يعودون لما قالوا: تحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.
فأما الحديث الأول: قال: وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ( أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم وقع عليها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني وقعت عليها قبل أن أكفر، قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به ).
ولكن جاءت قصة سلمة بن صخر قال: ( كنت رجلاً قد أوتيت من جماع النساء مالم يؤت غيري -أي كان به نهم على الجماع- فلما دخل رمضان تظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقاً من أن أصيب منها في ليلتي، فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا لا أقدر أن أنزع، فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري فقلت: انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بأمري، فقالوا: لا والله لا نفعل! نتخوف أن ينزل فينا قرآن، أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك.
قال: فخرجت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبري، فقال: أنت بذاك؟ قلت: أنا بذاك، قال: أنت بذاك؟ قلت: أنا بذاك، قال: أنت بذاك؟ قلت: أنا بذاك، وهأنذا فامض في حكم الله فإني صابر لذلك.
قال: أعتق رقبة، قال: فضربت صفحة عنقي بيدي، فقلت: لا والذي بعثك بالحق لا أملك غيرها، قال: صم شهرين متتابعين، قلت: يا رسول الله! وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام، قال: فأطعم ستين مسكيناً، قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه مالنا عشاء ).
فلما عرف للنبي صلى الله عليه وسلم من حاله أنه لا يملك رقبة، ولا يستطيع صيام شهرين متتابعين، ولا يجد ما يطعم ستين مسكيناً، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقا ستين مسكيناً، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك ).
والمعنى: أنها أكثر من المطلوب.(19/3)
مقدار كفارة الظهار
وجاء في بعض الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم: أتي بعرق تمر، والعرق: هو ما يسمونه المكتل، واختلفوا في مساحة هذا المكتل، وبعضهم يذكر أنه يسع وسقاً والوسق ستون صاعاً، لكل مسكين صاع.
وفي بعض الروايات: فيه خمسة عشر صاعاً، فيكون الصاع لأربعة أشخاص.
وفي قصة خولة التي نزلت فيها سورة المجادلة، قال صلى الله عليه وسلم لما أخبرها: ( ليعتق رقبة قالت: لا يملك، قال: يصوم شهرين متتابعين، قالت: شيخ كبير لا يستطيع، قال: يطعم ستين مسكيناً، قالت: والله ليس عنده ما يتصدق به، فأتي بمكتل تمر فقال: خذي هذا ليطعمه، قالت: وأنا سأعينه بمثله )، فيكون المكتل خمسة عشر صاعاً، ومكتل آخر من زوجته خمسة عشر صاعاً، فيصير ثلاثين صاعاً، إذن يعطى للشخص الواحد نصف صاع.
وعلى هذا: اختلفت الأقوال في مقدار الكفارة للشخص الواحد من صاع إلى نصف إلى ربع، وهو المد النبوي.
وقد وقع بين الإمام مالك رحمه الله وشخصٌ من غير أهل المدينة مناظرة، فقال للإمام مالك : إن الإطعام على الشبع، يعني: أطعم ستين مسكيناً كل واحد ما يشبعه، فقال مالك : نعم على الشبع، فقال: لا يشبع الواحد عندنا إلا الصاع، فقال مالك : ونحن يشبع الواحد عندنا نصف الصاع؛ لأننا قد دعا لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبارك لنا في صاعنا ومدنا، وأنتم لم يدع لكم: ( اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا )، فالإمام مالك رحمه الله استعمل هذه الدعوة المباركة في مقدار ما يشبع الشخص من الكفارة.(19/4)
أقوال العلماء في صور الظهار
وصور الظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي؛ هذا هو الأصل.
وفرعوا على ذلك مسائل: منها لو ذكر عضواً غير الظهر، كالفخذ والبطن ونحوها، والراجح أن كل عضو في الأم يحرم عليه من أجنبية، فإن شبه زوجته بهذا العضو فهو ظهار، فلو قال: أنت علي ككتف أمي كذراع أمي كفخذ أمي أي: في المحرمية؛ فهو ظهار.
ومعلوم أن الكتاب والسنة ذكرا الأم، فإذا شبه زوجته بغير أمه كالأخت أو البنت أو الخالة أو العمة، فهل يكون ظهاراً أو لا؟ القول الأول: قول ابن حزم فقد قصر الظهار على ظهر الأم، وما سوى ذلك فليس بظهار.
القول الثاني: أن من شبه زوجته بمن تحرم عليه تحريماً مؤبداً أو مؤقتاً فهو ظهار.
ومن هنا تأتي قضية تقدمت لنا في تحريم المرأة قبل أن يتزوجها، كقول القائل: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، هنا في الظهار: هل يصح الظهار من امرأة لم يتزوجها إن تزوجها؟ أو هل يصح تعليق الظهار على زواجه بامرأةٍ معينة أو بامرأة مطلقة؟ كما تقدم لنا في الطلاق، كأن يقول: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، أو إن تزوجت فلانة أو امرأة من القبيلة الفلانية أو البلد الفلاني أو الأسرة الفلانية؛ فهي طالق.
فرق بين التعميم والتخصيص، ويقولون: التفريق استحسان، والحنابلة الذين يقولون بالتفريق في الطلاق، يقولون: لا يصح الظهار معلقاً على امرأة إن تزوجها؛ لأن الله قال: { يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } [المجادلة:3]، ومن كانت غير زوجة فليست من نسائهم.
ومن هنا أيضاً: ذهب العلماء إلى عدم صحة الظهار من الأمة.
ومباحث الظهار عند الفقهاء متعددة، يذكر ابن رشد وغيره في بداية المجتهد مسألة: هل للمرأة أن تظاهر من زوجها؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب، فمنهم من يقول: لها أن تظاهر، وإذا مكنته من نفسها فعليها كفارة ظهار، وهو خلاف ما عليه أصحاب المذاهب الأربعة الذين لا يقولون بصحة ظهار المرأة من زوجها، لأنها أصلاً لا تملك حق منع نفسها عنه، وبعضهم يوجب عليها كفارة يمين قبل أن تمكنه من نفسها.
ثم الظهار يكون مؤقتاً بوقت أو مطلقاً، فإن كان مؤقتاً بأقل من أربعة أشهر -كالذي ظاهر من امرأته شهر رمضان- فتنتظر الزوجة حتى تنتهي المدة، وإن كان الظهار مؤقتاً بأكثر من أربعة أشهر؛ فإن مضت مدة أربعة أشهر ولم يكفر، فالمرأة لها أن تصبر أو أن ترفع أمرها للحاكم، وكذا إن كان الظهار مطلقاً.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(19/5)
دروس الحرم [14](20/1)
الدلالة العامة لقوله تعالى:(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا)
باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد: السؤال: فضيلة الشيخ! رأينا في بعض الكتب قول الله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } [النساء:64] في ضمن الأدعية المسنونة عند زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، فهل هذا من السنة؟ وإن كان من السنة، فما المقصود بها؟ الجواب: أيها الإخوة الكرام: لعلها من ساعات التوفيق من الله سبحانه وتعالى أن نجتمع في هذا المسجد النبوي الشريف، وأن نستمع إلى هذا السؤال من الأخ السائل الكريم الذي عبرنا عنه بحسن الظن إن شاء الله.
ونحن أولاً نتناول صيغة السؤال، ثم نأتي إلى القضية في كتاب الله على منهج التفسير الموضوعي وليس الموضعي.
يقول الأخ الكريم: وجدنا في بعض الكتب.
أعتقد أن هذه الصيغة صيغة مجهول، ولو سألنا كل إنسان -سواء الأخ السائل أو غيره- في أيِّ الكتب؟! أهي العلمية التي هي مراجع المسلمين في الفقه والأحكام، أم هي الكتب التجارية التي تطبع وتباع للزوار بقصد الربح والتجارة؟! هذا أول ما يلزمنا معرفته؛ لأن هذه دعوى تتعلق بمعتقد، وتتعلق بحق المسلم وبهذه القضية، وهي: استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لمن جاءه، وكنت أود لو أن الأخ السائل الكريم أو غيره حتى لا يكون هناك إحراج أن يسمي لنا كتاباً من تلك الكتب لنعرفها جميعاً، ونحن نريد أن نبحث هذه المسألة بحثاً علمياً هادئاً إلى أبعد حد، من غضون سياق الآية أو جزء الآية في كتاب الله سبحانه وتعالى.
فإذا كنا لا نعلم عن هذه الكتب التي قرأ فيها، فأنا أقول له ولغيره: قد ذكر ابن كثير في تفسيره هذا القول، ولم يعقب عليه، ولكن قال: وقال شيخنا ابن الصائغ وقيل أو وذكر .
وهي قضية مشهورة عند الناس قديماً وحديثاً، وتناولها المتأخرون بالنقض والنفي وإبطالها بالكلية.
نحن نترك كلام الناس أولاً -ولا غنى لنا عنه- ونأتي إلى كتب التفسير المعتمدة كـ ابن جرير و الشوكاني و أبو السعود وغيرهم من كتب التفسير المعتبرة.
نأخذ سياق هذا النص، ما موضوعه لكي نتصور هيكل القضية؟ لا نأخذ النص من حيث هو فقرة، فنقطعه عما قبله ونقطع ما بعده عنه، ولكن نأخذ السياق كاملاً، ونأخذ المصحف الشريف ونقرأ من سورة النساء.(20/2)
الأمر بأداء الأمانات
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } [النساء:58].
الشيخ: انظروا يا إخوان وتأملوا هذا التنبيه، فقبل قوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ } [النساء:64] بثماني آيات متضمنة مسار تمجيد وخطاب، قال: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ } [النساء:58] أي: المسلمين.
(وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ): ولفظ (الناس) هنا عام يدخل فيه المسلم والكافر، لأن المسلمين واجب عليهم فيمن يتحاكم إليهم ممن تحت رعايتهم أن يحكموا فيهم بكتاب الله.
وإذا تحاكم غير المسلمين فيما بينهم فلا دخل لنا فيهم، أما إذا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى الحاكم المسلم الموجود، أو إلى قاضي المسلمين ليقضي بينهم؛ حكم بينهم بكتاب الله.
(يأمركم أن تؤدوا الأمانات) جمع أمانة، نزلت في مفتاح الكعبة ولكنها عامة، والحكم أمانة.(20/3)
وجوب طاعة الله ورسوله وطاعة أولي الأمر بالمعروف
ثم قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء:59].
من جانب ولي الأمر: إذا حكمت بين الناس فاحكم بالعدل، ومن جانب الرعية: واجبهم ما دام ولي الأمر يحكم بالعدل؛ فأنتم يا أيها المحكومون: يجب عليكم الطاعة.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)) ، طبعاً طاعة الله في طاعة رسوله، ((وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ))؛ لأنهم نواب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذان نصان مقترنان: الأول: في حق الحكام أن يأمروا بالعدل.
والثاني: في حق المحكومين أن يسمعوا ويطيعوا، لمن يحكم بالعدل.(20/4)
العودة إلى الكتاب والسنة حال الاختلاف
ثم قال تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [النساء:59].
نادى المؤمنين أن يطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر.
ولاحظوا هنا في بلاغة القرآن وإعجازه اللفظي، فعل الطاعة: (( أطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )) (أولى الأمر)، هل قال: (وأطيعوا أولي الأمر) أم وردت بدون لفظ الفعل؟ (أطيعوا الله) (وأطيعوا الرسول)؛ لأن لله على خلقه حق الطاعة، وللرسول على الأمة حق الطاعة مستقلاً ابتداءً؛ لأنه مشرعٌ عن الله ومبلغ عنه.
أما أولو الأمر فليست لهم طاعة مستقلة ذاتية، ولكنها طاعة بطاعة الله ورسوله، ولهذا لم يقل في أولي الأمر: (وأطيعوا أولي الأمر)؛ لأنه لو قال: (وأطيعوا أولي الأمر)، لكان لهم حق الطاعة الذاتية، ولكن لا؛ لأنه لا طاعة لأولي الأمر في معصية الله، ولا طاعة لأولي الأمر إلا إذا كانت في طاعة الله.
إذاً: طاعة أولي الأمر تبع لطاعة الله ورسوله ماذا إذا وقع النزاع؟ (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)، فإذا حصل نزاع فيما بينكم، أو بينكم وبين أولي الأمر، كما لو أمروكم بأمر لم يأمر الله به، أو أمروكم بأمر فيه معصية لله، وتنازعتم في الأمر؛ فالمرد لمن؟ أولو الأمر لهم السلطة، لكن السلطة العليا هنا لمن؟ (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)، وتأمل أداة الشرط، (إن كنتم).
قال تعالى: { ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [النساء:59].(20/5)
حال المنافقين واليهود إزاء التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
لاحظ، بعد ذلك التمهيد وبيان حق ولي الأمر في الحكم بالعدل، وبيان واجب الأمة في السمع والطاعة، وبيان مرد النزاع إلى الله ورسوله، يعجب الله رسوله من قوم خرجوا عن هذا كله، وهنا مبدأ القضية: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ } [النساء:60] (ألم تر) يا محمد رؤيا تعجب (إلى الذين) من هم؟ { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } [النساء:60]، يقولون: الزعم أخو الظن، إذا قوي الزعم وصل إلى الظن، وليس بيقين ولا بحقيقة، (يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) وهذا الخلق في بعضٍ من المنافقين، (وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) ، وهذا في بعض اليهود؛ لأن اليهود آمنوا بما أنزل من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، والمنافقون آمنوا ظاهراً بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
فالمنافق يزعم أنه آمن بما أنزل إليك، واليهودي يزعم أنه آمن بما أنزل من التوراة والإنجيل.
مع هذا الزعم { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ } [النساء:60]، يريدون أن يتحاكموا إلى من أمروا أن يكفروا به، ويبقى السؤال: هل هم في هذا موافقون لمنهج الحكم السليم في الإسلام أم أنهم خرجوا عنه؟ لا شك أنهم خارجون عنه.
{ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا } [النساء:60]، يبين سبحانه العلة، وأن من وراء ذلك الشيطان.
(أن يضلهم):، أي: يغويهم ويضلهم ضلالاً بعيداً عن الحق والهدى.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } [النساء:61].
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ)، أي: هؤلاء الذين يزعمون الإيمان بالحاضر والسابق، وهم المنافقون واليهود، (تَعَالَوْا) في الحكم والتحاكم (إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ)، أي: تعالوا إلى ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
{ وَإِلَى الرَّسُولِ } [النساء:61]، أي: تعالوا إلى الكتاب المنزل من عند الله ومن الرسول، لماذا؟ ليحكم بينكم.
(رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا)، فهل هؤلاء مؤمنون بما أنزل إليك، وهل هم صادقون في زعمهم أنهم آمنوا بما أنزل إليك، كيف يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك؛ وهم إذا دعوا إليك يصدون عنك.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ)، وهو محمد صلى الله عليه وسلم (رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ)، (يَصُدُّونَ)، أي: يعرضون عنك، ويصدون صدوداً بعيداً، وفعلهم هذا وصدهم موجه ضد الرسول صلى الله عليه وسلم.
لم يقل: يصدون عما أنزل الله، وإنما قال: (عنك)، أي: يصدون عن شخصك يا محمد استثقالاً لما جئت ولعدم الرضا به.
(صُدُودًا)، يقول العلماء: يؤتى بالمصدر بعد الفعل؛ لتأكيد معنى الفعل، كما سيأتي { وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء:65] وكما جاء في قوله سبحانه: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [النساء:164]، تأكيداً للفعل الذي جاء قبل المصدر، فهم يصدون عنك صدوداً حقيقياً أكيداً مقصوداً.
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا } [النساء:63].
(أُوْلَئِكَ)؛ أي: هؤلاء الموصوفون بالصد عنك، الزاعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، الله يعلم ما في قلوبهم، والقلوب هي محل الإيمان والتصديق؛ فهل في قلوبهم ما زعموه من الإيمان، أو في قلوبهم غير ذلك؟! ما أسباب الصدود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ المانع لديهم هو النفاق.
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) وهذا فيه خسارة، ولا يهم ذلك؛ لأنهم لا يستحقون التقدير وليسوا أهلاً له.
(وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ)، (في أنفسهم) يعني: في مسلكهم، وصدودهم عنك ونفاقهم بين المسلمين، أو في أنفسهم: بينك وبينهم لا تفضحهم (قولاً بليغاً).
فهذا السياق من الآيات الدالة على معنى ومفهوم قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } [النساء:64]، ومنه يتضح سبب هذا الخطاب الإلهي لنبينا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(20/6)
دروس الحرم [15](21/1)
التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فيقول الله تعالى: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ } [النساء:65] ، أي: لا يحكمونك بقوة القانون غصباً عنهم، بل يحكمونك طواعية، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً ولا ضيقاً ولا مضاضة، بل إيماناً وتصديقاً، يحكمونك ولا يجدون في صدورهم حرجاً، { وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء:65].
قد يأتي المدعى عليه عند القاضي فيحكم عليه ويسلم رغماً عن أنفه، فهل هو رضي وسلّم بالحكم عن رضا؟ لا، بل مخافة العقاب ومخافة السلطان، أما التحاكم إلى رسول الله لا يتم إلا إذا كان عن رضا، ولا يقع أي حرج منه، وأن يسلم تسليماً كاملاً، لأنه بإيمانه بأنه يحكم بالعدل، { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } [النساء:58]، فالمؤمن يؤمن بذلك، ولهذا يرضى ويسلم كل التسليم.
{ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } [النساء:66] هذا موضوع آخر راجع إلى المنافقين، وهم يعرضون عن حكم رسول الله، والله يحكم ما يشاء، { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ } [النساء:66] اليهود كان من توبتهم أن يقتلوا أنفسهم فتاب الله عليهم، فالله لم يأمرنا بذلك، فهذا معنى هذا السياق.
أعتقد -يا إخوان- أن هذا العرض قد يكون كافياً، ولكن بعض الإخوة يحب أن يطمئن أكثر، ويقف على نصوص أئمة التفسير في هذه الآية، وقد حاولت نقل ذلك عن بعض كتب التفسير ليسمعها الأخ السائل الكريم، وكل من تحوك في نفسه هذه الشبهة، ليعرف أن الأمر بعيد كل البعد عما ظن، وأنها من سنة أدعية السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أجد الكتب التي ذكرت مسألة السلام على النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر ذلك .(21/2)
تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم)
ابن جرير شيخ المفسرين، لما سئل الإمام ابن تيمية : أي التفاسير أولى؟ قال: ابن جرير أصحها سنداً، ثم ابن عطية أسلمها بدعة، و ابن جرير عليه مآخذ، لكن يهمنا في موضوعنا تفسيره لقوله سبحانه: { فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } [النساء:62] إلى آخر الآية.
قال: وهذا خبر من الله تعالى عن هؤلاء المنافقين أنهم لا تردعهم عن النفاق العبر والنقم، وأنهم إن تأتهم عقوبة من الله على تحاكمهم إلى الطاغوت لم يثوبوا ولم يتوبوا.(21/3)
تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله)
ثم ذكر تفسير قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ } [النساء:64]، أي: ولو أن هؤلاء المنافقين الذين وصفت صفتهم في هاتين الآيتين، وهم الذين دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله فصدوا وأعرضوا؛ لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم باكتسابهم الخطايا، لاحتكامهم إلى الطاغوت وإعراضهم عن كتاب الله وسنة رسوله إذا دعوا إليها.
ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك -يا محمد- حين فعلوا ما فعلوا من تحاكمهم إلى الطاغوت ورضائهم بحكمه دون حكمك، فجاءوك تائبين منيبين، فسألوا الله أن يصفح عنهم، وسأل الله لهم رسول الله مثل ذلك، وهذا معنى قوله: { فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ } [النساء:64].
نقل أبو حيان و الفخر الرازي ما ملخصه: فائدة ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم في قوله { فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ } [النساء:64] أنهم بتحاكمهم إلى الطاغوت خالفوا حكم الله وأساءوا إلى رسول الله، أي: بالإعراض عنه والصدود عنه، فوجب عليهم أن يعتذروا ويطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم الاستغفار لحقه الخاص، أو لأنهم لما لم يرضوا بحكم رسول الله ظهر منهم التمرد، فإذا تابوا وجب أن يظهر منهم ما يخالف التمرد، وذلك بأن يذهبوا إلى الرسول ويطلبوا منه الاستغفار.
وقال الزمخشري في الكشاف: { فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ } [النساء:62] الآية، أي: بسبب التحاكم إلى غيرك، واتهامهم لك في الحكم، ولو أنهم جاءوك تائبين من النفاق متنصلين عما ارتكبوا، فاستغفروا الله، وبالغوا في الاعتذار إليك من إيذائك برد قضائك حتى انتصبت شفيعاً لهم.
ويقول أبو السعود : { فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ } [النساء:62] بظهور نفاقهم وبما قدمت أيديهم وبسبب ما عملوا من الجنايات التي من جملتها التحاكم إلى الطاغوت والإعراض عن حكمك، وظلموا أنفسهم بتركهم طاعتك، والتحاكم إلى غيرك، ولو أنهم جاءوك من غير تأخير متوسلين بك في التنصل من خيانتهم، ولم يعتذروا بالباطل، ولم يحلفوا كما قال الله: { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } [النساء:62]، وهذا إثم ومعصية، فكيف إذا أصابتهم مصيبة، مثل الرجل المنافق الذي لم يرض بحكم رسول الله فقتله عمر ، والمعنى: فكيف بهم إذا أصابتهم مصيبة في قتل قريبهم بسبب تحاكمهم إلى غير رسول الله.
وفي قصة أن جبريل جاء -حينما طالبوا بدية القتيل- إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ( يا محمد! إن عمر قد فرق بين الحق والباطل )، فسمي فاروقاً من ذلك الوقت.
هذه النصوص من كتب التفسير المعتبرة، التي تبين ما هي المصيبة التي أصابتهم، والتي تبين أنهم ظلموا أنفسهم في قضية التحاكم إلى غير رسول الله والإعراض والصدود عن رسول الله، فيكون مجيئهم إلى رسول الله لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر ابن كثير في تفسيره قصة، وقال: ذكر الشيخ السباط -ومن هو الشيخ السباط ؟- في كتابه الشامل، ولا يعرف كتابه هذا؟ وما هو سند هذه القصة؟ وهي لا يوجد لها ذكر في كتب السنة ودواوينها، ولا في كتب الفقه وأصوله، وقد بحث الإمام ابن تيمية رحمه الله عن هذه القصة، وأكد جازماً بأنها كذب موضوعة لا أصل لها.
والقصة مشهورة وهي: أن أعرابياً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم على يديه، فوجده قد توفي ودفن، فجلس عند قبره، وقال يا رسول الله! الله تعالى يقول: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ } [النساء:64]، وقد جئتك ظالماً لنفسي فاستغفر لي، ثم ذهب، فقال العتبي : فأخذتني عيني بالنوم، فرأيت في نومي أن رسول الله يقول: أدرك الأعرابي وأخبره أن الله قد غفر له.
هذه قصة لا سند لها ولا أصل لها، ولا توجد في الكتب المعتبرة، والمنامات مهما كانت لا تؤخذ منها الأحكام، لا في المندوب، ولا في المفروض، ولا في المحرم، ولكنها من باب البشرى.
إذاً: قول هذا عند الزيارة لا أصل له، وأود أن الجميع قد فهم هذا البحث، والحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أنى شاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم عن الشيطان: ( صدقك وهو كذوب ) لما قال لـ أبي هريرة : إذا أردت أن تحفظ مالك من الشياطين فاقرأ آية الكرسي، فقبل الحكمة من الشيطان؛ لأنه صادق فيها.
فمن وجد هذه القصة في كتاب من كتب المسلمين سواء كانت أصول الفقه على مذاهب الأئمة الأربعة، أو كانت في كتب الحديث ولو الضعيفة، فليطلعنا عليها، وجزاه الله خيراً.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(21/4)
دروس الحرم [16](22/1)
باب اللعان
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله أجمعين.
قال المؤلف رحمه الله: [كتاب: النكاح.(22/2)
سبب مشروعية اللعان
باب: اللعان.
عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ( سأل فلان فقال: يا رسول الله! أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك، فلم يجبه، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به، فأنزل الله الآيات في سورة النور، فتلاهن عليه ووعظه، وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قال: لا، والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها، ثم دعاها فوعظها كذلك، قالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، فبدأ بالرجل، فشهد أربع شهادات بالله، ثم ثنّى بالمرأة، ثم فرق بينهما ) رواه مسلم ].
قال: وعنه رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين: ( حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها، قال: يا رسول الله! مالي؟ فقال: إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها ) متفق عليه ].(22/3)
تعريف اللعان
وهو في الاصطلاح: أن يرمي الزوج زوجته وليس عنده بينة إلا نفسه، فلتعذر إحضار الشهود، ولصعوبة سكوته على ما رأى، ولئلا يكون في حرج وضيق، فله أن يلاعن، كما جاء في قصة اللعان: (إن تكلم ضرب ظهره -أي: لأنه قذف مسلمة محصنة- وإن قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على أمر عظيم).
وجاء في بعض الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرجل: ( قد جعل الله لك مخرجاً ) ، وذلك أن اللعان وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا شخصياً لم أقف على صورة لعان بعد زمن النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولا أدري إن كان الإخوة قد وقف أحدهم على صورة لعان في عهد الخلفاء الراشدين أو ما بعدهم، أم لا.
وهذه القصة التي ساقها المؤلف يتفق العلماء أنها أول لعان في الإسلام، وذلك أن عويمر العجلاني أو هلال بن أمية ، ورواية عويمر أنه قال لابن عمه عاصم العجلاني : ماذا يفعل الرجل لو وجد رجلاً مع أهله، إن قتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه الحد، وإن سكت سكت على مكروه؟ سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأتى عاصم النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فأعرض عنه ولم يجبه، وكره المسألة؛ كره أن يقع السؤال عن الشيء المكروه قبل وقوعه-.
وقد كان ابن مسعود حينما يسأل عن مسألة يقول: أوقعت؟ فإن قيل: نعم وقعت أفتى فيها، وإن قيل: لم تقع، يقول: دعوها حتى تقع، وليس معنى هذا منع السؤال عن الأمور المستقبلية إذا كانت مظنة الوقوع، ولكن عندما يكون السؤال متعلقاً بالفاحشة، فإن الآذان تكره ذلك وتمج سماعه والرسول سكت ولم يجبه؛ لأنه لم يكن نزل في حكم ذلك شيء من قبل.
فرجع عاصم إلى عويمر فقال: ماذا قال لك رسول الله؟ قال: ما وجدت منك خيراً، لقد سكت عني ولم يجبني، فقال عويمر : والله لا أتركها، وذهب بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي بعض الروايات لما سأل رسول الله صلى الله قال له: قد نزلت فيك وفي صاحبتك آيات فاذهب فأت بها )، هذا ما يتعلق برواية عويمر .
فنزلت الآية الكريمة: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ } [النور:6] الآيات إلى آخر آيات اللعان، فقال: ( قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن فاذهب فأت بها ) فجاءت -وفي بعض الروايات- أن عويمراً لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حد في ظهرك وإلا بينة) أي: بينة على ما أخبرت ورميتها به، وفي بعض الروايات: ( يا رسول الله! أحدنا يجد الرجل على أهله، ثم يتركه ويذهب ويأتي بالبينة، فيكون قد قضى حاجته ومضى )، وفي بعض الروايات: ( بأن عويمراً رجع من مزرعته بعد العشاء فوجد عند أهله رجلاً، فلم يهجه وتركه، وفي الصباح أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر ) كل ذلك مقدمات يسوقها العلماء في ملابسات وظروف اللعان.
وأجمع العلماء أنه لا لعان إلا بين الزوجين، واختلفوا: هل كل زوجين يمكن أن يقع بينهما لعان؟ فالبعض كـ أبي حنيفة رحمه الله ومن وافقه يقول: لا لعان إلا بين مسلمين حرين بالغين.(22/4)
من يصح لعانه
و مالك ومن وافقه يقول: يقع اللعان بين كل زوجين مسلمين، أو ذميين، أو أحدهما مسلم والآخر ذمي، فاسقين أو عدلين، حرين أو مملوكين، فكل زوجين يصح منهما اللعان.
والسبب في هذا الخلاف كما يقول ابن رشد في بداية المجتهد: هل أيمان اللعان أيمان، أو هي شهادات؟ فإن كانت أيماناً فاليمين يصح من الحر ومن العبد، وإن كانت شهادات فالشهادة لا تصح من العبد، فليس للعبد ملاعنة، وهذه تفصيلات فيمن يصح منه اللعان.
إذاً: اللعان مبدئياً ثابت بالكتاب والسنة، وموجبه أن الأصل في رمي النساء المؤمنات المحصنات بالزنا أحد أمرين، فإما أن يأتي الرامي بأربعة شهود على صدقه، وإلا يثبت عليه حد القذف.
وهذا في الأجنبي مع الأجنبية، ولكن في الزوجين كما قال عويمر في بعض الروايات، وكما قال سعد رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله أمهله حتى أذهب وآتي بأربعة شهداء؟! يكون لكع قد قضى حاجته ومضى، والله لأضربن -أي: بسيفي- بين الفخذين، فقال صلى الله عليه وسلم ( أتعجبون من غيرة سعد ؟ فوالله لأنا أغير منه والله أغير مني ).
فهنا كما يقال: العقل والعاطفة، العاطفة تنجلي حينما يرى الزوج إنساناً أجنبياً يغشى زوجته، فإذا كان في هذه الحالة لا يتمالك، ولا يصبر ولا يقوى على ذلك إلا فحول الرجال، فهنا العقل في جانب، والعاطفة في جانب آخر، العقل يقول: تريث، وأثبت هذه الواقعة وأحضر الشهود، لأنك إن قتلته قتلت به، ولذا لما سأل رجل علياً رضي الله تعالى عنه قال: أتركه وآتي بأربعة شهود؟ قال: بلى، قال: وإن قتلته؟ قال: قتلناك.
وهذا أيها الإخوة سد للذريعة، بمعنى: أنه لا يتسلط الناس بعضهم على بعض، وأن يكون كل من أراد أن يقتل إنساناً، يحتال عليه ويأتي به إلى بيته، ثم يحتال أيضاً على زوجته وهي لا تعلم، ثم يلفق بينهما لقاء فيقتله فيقول: وجدته مع امرأتي، فتضيع الدماء.
الذي يهمنا: أن الإسلام احتاط للدماء، واحتاط أيضاً للفروج، فإذا ابتلي إنسان بمثل هذه الصورة، فماذا يفعل؟ بين لنا هذا الصحابي الجليل تفصيل الأمر: إن سكت سكت على أمر عظيم، وإن تكلم حد ظهره، وإن قتل قُتل، فلما قال له رسول الله: بينة وإلا حد في ظهرك، قال: والذي بعثك بالحق يا رسول الله إني لصادق ما كذبت عليها، وإن الله لمنزل عليك ما يبرأ ظهري من الحد؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ } [النور:6] والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(22/5)
دروس الحرم [18](23/1)
رسالة عمر إلى أبي موسى الأشعري في أمور القضاء
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:(23/2)
النظر إلى الأشباه والنظائر عند القضاء
انظروا إلى أي مدى يسطر عمر منهج القضاء، وانظروا أيضاً ماذا يتعين على القاضي! (الفهم الفهم! وانظر الأشباه والنظائر) يعني: كن محيطاً بغالب القضايا المتقدمة، وبآراء سلف الأمة، وهذه حصيلة ليست بسيطة، ثم ينظر أيها أقرب إلى كتاب الله وسنة رسوله، هذه مسئوليات ليست بالهينة، وأي القضاة يدرك ويجمع ذلك كله؟ وكما قال مالك رحمه الله: لو أننا أخذنا بكلام العلماء فيما يشترط في القاضي أن يكون عليه، لما وجدنا أحداً يصلح للقضاء! أي: لا يوجد أحد تجتمع فيه هذه الأمور، مع ما يذكرون في ذاته من الورع والتقى والصلاح والأمانة وذكر الله إلى آخره، ولكن يقضي بين الناس الأشبه فالأشبه، والأمثل فالأمثل، فمهما كانوا على حد من المعرفة أو من التقى، فلا بد أن نأخذ الأمثل فيهم وننصبه قاضياً عليهم، ولو لم يصل إلى درجة القضاة الذين يقول عنهم السلف.(23/3)
المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا ما استثني من ذلك
(المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد).
والأصل في المسلم العدالة ما لم يجرح، فلو جاءنا شاهد مسلم لا نعرف ماضيه ولا حاضره وقال: أنا رجل مسلم وأشهد بأني سمعت أو رأيت كذا وجب على القاضي أن يسمع شهادته، حملاً على البراءة الأصلية (عدول بعضهم على بعض).
أما إذا كان يعلم فيه شيء، أو طعن الخصم فيه بشيء، فعلى القاضي أن يسمع الطعن، فإن كان طعناً يجرح في عدالته قال: ائتني بشاهد آخر، ولا ينبغي أن يقول: اذهب فشهادتك غير مقبولة، وإنما يقول لمن طعن فيه: ائتني بشاهد آخر.
(إلا مجلوداً في حد): هنا استثناء، فممن لا تصح شهادته المجلود في حد إذا ثبت عليه حد ونفذ؛ لأنه قد يدعى عليه بحد ولا يثبت، وقد يدرأ الحد بالشبهة، لكن إذا ادعي عليه الحد وثبت عند القاضي، وأقيم عليه الحد، فحينئذ ترد شهادته.
(أو مجرباً عليه زور): أي: إذا عرف في اليوم الفلاني أو في السنة الفلانية أنه شهد زوراً وشهر به، فيبقى أنه شهد زوراً وشهر به، فلا تقبل شهادته.
(أو ظنيناً في ولاءٍ أو نسب): أي: عتق ولكن ولاؤه مظنون فيه، كذلك إذا كان مظنوناً في نسبه إلى أبيه، فلا تقبل شهادته؛ لأن الشاهد حين يشهد، يترتب على شهادته إثبات الحق على المدعى عليه.
فالشاهد له ولاية على المدعى عليه، ولا ينبغي أن يكون لمظنون النسب ولاية على إنسان غير مظنون؛ لأنه ليس من أهل الولاية.
(أو نسب أو قرابة).
فلا تصح شهادة القريب لقريبه، ولكن أي القرابة؟ جميع الحاضرين توجد قرابة بينهم، كما قال الأعرابي لـ معاوية : سألتك بالرحم التي بيني وبينك إلا أعطيتني، قال: ومن أنت يا أخا العرب حتى أعرف هذه الرحم؟ قال: أنسيت؟ قال: لا بأس ذكرني، قال: الرحم التي بيني وبينك في آدم وحواء.
فقال: والله صحيح! هذه رحم لا يمكن لأحد أن يجحدها، وهذه رحم تستحق الصلة، فأخذ وكتب له بدرهم، فأخذ الخطاب إلى بيت المال وقال له: خذ هذا عطاء معاوية ، فتأمل! أنت متأكد، قال له: نعم، فقام وأعطى له درهماً، فوضع الدرهم وقال: ما هذا؟ قال: هذا ما كتب لك في خطابك؛ إن كان لك اعتراض فارجع إليه، فرجع إلى معاوية وقال: ما هذا يا معاوية ؟! تصل رحم آدم وحواء بدرهم! قال: والله يا أخا العرب لو أني وصلت هذه الرحم مع كل الموجودين ما بقي في بيت المال درهم.
فهنا القرابة ثلاث درجات: قرابة ذوي رحم من ذوي الميراث، وقرابة ذوي رحم ليسوا من ذوي الميراث، كابن خالته وابن خاله وخاله وخالته، فليسوا من أهل الميراث ولكن الرحم موجودة، لكن أخوه وعمه وابن أخيه وابن عمه هذه الرحم موجودة، والميراث موجود عصبة.
وقرابة ليست ذات رحم ولكنها أخوة الإسلام، فعندما نتفق معه في الجد العاشر، أو يكون هذا من قبيلة وهذا من قبيلة وليس بينهما اشتراك في ولادة ولا في شيء؛ فهذه -كما يقولون- أخوة في الدرجة النهائية.
إذاً: ما هي القرابة التي تمنع الشاهد أن يشهد؟ قالوا: كل قريب كانت في شهادته مظنة نفع للشاهد عن طريق المشهود له، فالزوج إذا شهد لزوجته فأين سيذهب المحكوم به؟ الولد لأبيه، والأب لولده، هل يشهد له؟ هناك من يقول: يشهد عليه ولا يشهد له، لكن الكل مرفوض؛ لأنه مظنة أن يجر النفع إليه.
إذاً: القريب الذي هو في الدرجة الأولى أو الدرجة الثانية من ذوي الرحم لا يرث؛ فهؤلاء لا تصح شهادتهم للإنسان، وكذلك لا يحق للقاضي أن يقضي بين اثنين أحدهما من هذه الطبقة في القرابة، فلا يقضي لأبيه ولا لولده ولا لزوجه.
والأخ مختلف فيه، فحينئذ القرابة مظنة جر النفع للمشهود له، فتمنع قبول شهادته.
(فإن الله تعالى تولى منكم السرائر) هنا يجب أن يسمع القاضي الظاهر من الكلام، فإن الله تعالى تولى منكم معشر القضاة السرائر، لأن السرائر لا يعلمها الخصوم، ولا يعلمها عامة الناس.
إذاً: من الرقيب على القاضي؟ الله، ولهذا يقول أهل العلم: القضاء مستقل لا سلطة لأحد في الدولة على القاضي، ولا لرئيس الدولة ملكاً كان أو رئيساً، فلا يحق له أن يتدخل في الحكم، ولا أن يملي رأيه في توجيهه وإلا بطل الحكم، فإن الله تولى منكم السرائر فليتق الله معشر القضاة؛ لأن الرقيب عليهم والمحاسب لهم إنما هو الله، وكما يقولون: لا واسطة بين القاضي وربه.(23/4)
العمل بالبينات والأيمان
(وادرء بالبينات والأيمان) وادرء بالبينات والأيمان يعني: اقبلها واعمل بمقتضاها.(23/5)
الغضب والقلق من المؤثرات على القاضي
(وإياك والغضب والقلق والضجر!) أي: وإياك والغضب والقلق والضجر! فكل هذا منقصة في عدالة القاضي، وليس الغضب مخلاً بالعدالة، والأمور الغريزية والجبلية لا يقوى الإنسان على دفعها، ولما جاء الرجل وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوصيه فقال له: ( لا تغضب )، هل معنى هذا أن تنزع غريزة الغضب من ذهنك وأعصابك؟ لا، فإنك تغضب غصباً عنك، ولكن النهي ليس منصباً على ذات الغضب، ولكنه منصب على نتائج الغضب؛ لأن الغضبان يبطش، ويسب، ويؤذي ويتعدى، فلأجل هذا منع القاضي من أن يقضي وهو غضبان، وسيأتي الحديث بعد هذا في هذا الموضوع.
(والضجر) إذا جاء خصم وصاح عليك، ومن الناس من يدخل المحكمة في خصومة تافهة، ولا يريد القضاء بها بقدر ما يريد أن يثير القاضي ويغضبه ليتكلم عليه، أي: أن بعض الناس قد يتعمد إثارة القاضي، والقاضي العاقل إذا عرف مراد هذا الخصم يمكنه من ذلك ولا يفوت عليه، ما لم يخل بحرمة مجلس القضاء، فإذا أخل بحرمة مجلس القضاء فللقاضي الحكم ابتداءً بسجنه إلى ثلاثة أيام، لأنه انتهك حرمة مجلس القضاء، ولا أحد يسأله عن ذلك.
إذاً: لا تضجر من الخصوم؛ لأنك إذا كنت في حالة الضجر هل تفهم ما يقال لك؟! وإذا كنت في حالة الغضب هل تفهم فهماً كاملاً ما يلقى إليك؟! ولكن الغضب درجات، الطفل الصغير يغضب، والرجل يغضب، والمرأة تغضب، والحيوان يغضب، والقاضي إذا لم يكن عنده استعداد للغضب لا يصلح قاضياً؛ لأنه تنتهك عنده حرمات الله، أو يرى انتهاك حرمات الله في الدعوى ولا يغضب لها! لكن إذا غضب فليجعل الغضب في فعله ولا يجعله في لسانه ولا في عقله، ولهذا كنت أقول في مذكرة القضاء: على القاضي أن يجعل نفسه في فانوس من زجاج، يرى ويسمع، ولا يتعدى الفانوس الذي هو فيه، لكنه في زجاج يستطيع أن يرى أحوال الخصوم ويسمعها.
لكن إذا كان الغضب مطبقاً، فلا يحق للحاكم أن يحكم في وقته، والغضب المطبق هو الذي يبحثونه في باب الطلاق، ومثاله أن يقول: أنا كنت غضبان، وتكلمت وما شعرت، هذه هي محل الدعوى.
والأدباء يقسمون الغضب إلى أقسام: غضب أسود، وغضب أحمر، وغضب أخضر، وهذه اصطلاحات! فالغضب الأسود الذي يسيطر على الغضبان بحيث لا يرى أمامه شيئاً، ولا يفرق بين رجل وامرأة، ويتكلم بمقتضى الغضب وهو لا يدري ما يقول، والأحمر دون ذلك بقليل، والأخضر يكون في الأمور العادية، مثاله: أن تكون ماشياً في الطريق ورأيت رجلاً يضرب ولده، فأنت تتأذى وتغضب، لكن لا تملك شيئاً فهذا أب وهذا ابنه، وكما تغضب إذا لم يقدم لك الطعام على العادة المعلومة.
إذاً: الغضب المنهي عنه هو الذي يأخذ على الإنسان عقله ويصرفه عن مراده؛ لأنه في هذه الحال لا يدري ماذا يقول، ولا يعقل ما يحكم به.(23/6)
الحذر من التأذي بالناس عند الخصومة
(والتأذي بالناس عند الخصومة) أي: إياك أن تتأذى من الناس عند الخصومة، وذلك إذا تكلموا على بعض، إذا رأيت من فحوى المدعي أن خصمه ظالم، فلا تظهر التأذي منه وتظهر أنه ظالم، ومن أول وهلة تعلن ميولك أو عطفك على الطرف الثاني، فلا تتأذ بين يدي الخصوم، فلربما حمل أحد الخصمين تأذيك منه فييأس من عدلك.
(والتنكر عند الخصومات) إياك والتنكر عند الخصومات! بأن تتنكر للطرفين، فلا ينبغي هذا، ولا بد أن تكون حليماً بشوشاً واسع الصدر، وأن تسمع من الطرفين، وكما تسمع من هذا تسمع من ذاك، ولو كنت تعلم من فحوى خطاب المدعي وبيناته أن المدعى عليه لم يأت بشيء، فعليك أن تسمع بهذا الذي ليس بشيء؛ لأنك توفيه حقه وتعطيه فرصة الدفاع عن نفسه.
(فإن القضاء عند مواطن الحق يوجب الله تعالى به الأجر ويحسن به الذكر) فإن القضاء في مواطن الحق يوجب الله تعالى به للقاضي الأجر -وهذه من المحسنات أو الملطفات لتولي القضاء- ويحسن به الذكر بعد ذلك أو بعد تركك القضاء، فيثني عليك حتى الخصوم الذين حكمت عليهم، لأنه في قرارة نفسه يعلم بأن الحكم صحيح.
(ومن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس) إلى آخر ما جاء في هذا الخطاب.
ويكفينا ما تقدم من القواعد والأصول والتوجيهات والإرشاد في هذا الكتاب المبارك، والذي أشرنا إلى أنه اختير في جامعات بعض الدول الأوروبية، وترجم وقرر في الدراسات القضائية، فعلى كل قاض قبل أن يجلس على منصة القضاء أن يحفظ هذا الكتاب.
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(23/7)
دروس الحرم [19](24/1)
غزوة بدر وقضية الأسرى
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: تقدم الحديث عما تيسر فيما يتعلق بغزوة بدر الكبرى، إلى أن وصلنا إلى نهاية المعركة، وتوجه النبي صلى الله عليه وسلم بالأسرى إلى المدينة، وهناك أتاه جبريل عليه السلام، وقال: ( يا محمد! إن الله أرسلني إليك، وأمرني أن أكون معك حتى ترضى، فهل رضيت يا محمد؟ قال: نعم رضيت ).(24/2)
قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم
وخبر الملائكة في غزوة بدر خبر طويل، ولم نعرّج عليه، وقد نوّه القرآن الكريم بأمره، وجاء الواقع المشاهد يصف حالهم، فبيّن الله سبحانه وتعالى بقوله: { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } [الأنفال:12]، وكان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى عليه: علمهم الله تعاليم ميدانية، ما كانوا يعرفون القتال من قبل؛ ولأن الملائكة لم تقاتل في معركة قبل معركة بدر.
وقوله تعالى: { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [الأنفال:12]قال: الضرب فوق الأعناق للقتل، والضرب فوق البنان -وهي الأصابع- لتعطيل الحركة.
وهذا نص قرآني كريم بأن الله بعث الملائكة تثبت الذين آمنوا وتشارك بالقتال معهم، وجاءت الآية الأخرى في معرض التأييد: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } [فصلت:30-31] ، ومن تلك الموالاة في الحياة الدنيا أن يأتوا عوناً ومدداً ونصرةً للمسلمين في غزوهم.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما قام في العريش، واجتهد يدعو ربه ضارعاً يستنصره، أخذته إغفاءة فانتبه متبسماً، وقال: ( أبشر يا أبا بكر ! هذا جبريل في ألف من الملائكة قد أقبل ) .
وأخبار أخرى، يقول رجل من الأنصار وكان قد ذهب بصره -نسيت اسمه- : لو كنت في بدر ورد عليّ بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة.
ويقول آخر: خرجت أنا وابن عم لي يوم بدر -وهم آنذاك على شركهم- فجلسنا على كثيب، ننظر لمن تكون الدائرة فننهب من الغنائم، وبينما نحن على تلك الحال، إذ جاءت غمامة، وسمعنا فيها من يقول: أقدم حيزوم، أما صاحبي فقد تصدع صدره فمات، أما أنا فقد غشي عليّ، فلما أفقت وجدت المعركة قد انتهت والغنائم في أيدي أصحابها.
هذا ومن آثار الملائكة في المعركة أن الرجل كان يسعى وراء المشرك ليضرب عنقه، فإذا به يرى الرأس قد انفصل عن سائر الجسد، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: ( علامة قتلى الملائكة وقتلاكم أنكم تجدون في أثر الضربة كأنه وسم بنار )، وهكذا ميّز النبي صلى الله عليه وسلم ما كان من إصابة المسلمين وما كان من إصابة الملائكة، وأنهم فعلاً قاتلوا وضربوا وقتلوا.
وجاء رجل فوجد أسيراً موثقاً فوقف وقال: ( أسير من هذا؟! من الذي أسر هذا؟! فلم يجبه أحد، ففك وثاقه وذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وجدته موثقاً وناديت فلم يعرفه أحد، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أسرك؟ قال: رجل طوال بثياب بيض على فرس أبلق، قال: صدقت، هذا من ملائكة السماء الثالثة )، إلى غير ذلك من الأخبار التي وردت تدل بواقعها على أن الله سبحانه وتعالى أرسل الملائكة نصرة للمسلمين.
وهنا نقول: إن المولى سبحانه هو الذي أخرج رسوله من بيته بالحق، وهو الذي تولى أمره، وهو الذي أيده بنصره، وسخر العوامل من أرض وسماء، ومن جنود المسلمين والملائكة، لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم(24/3)
دور إبليس اللعين في معركة بدر
لقد ساهم في هذه المعركة حتى إبليس، وكانت مساهمة إبليس من الطرف الآخر، لما أرادت قريش أن تخرج تذكروا أنه كان بينهم وبين بني كنانة ثأر، فخافوا إن هم خرجوا أن يخلفوهم في ديارهم، فجاء إبليس وتصور في صورة سراقة بن مالك ، وقال لهم: لا تخافوا منهم، أنا جار لكم لن يأتيكم منهم شر، وخرج معهم ويقول ابن كثير : خرج إبليس برايته، وبجند معه بالرايات ومشوا حتى قاربوا أرض بدر، وكان مع عمرو بن مالك النضري ، فلما رأى نزول الملائكة إذا به يسُلّ يده منه، ويقول: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله رب العالمين، فجعل عمرو بن مالك يناديه: يا سراقة ! يا سراقة ! ألم تعاهدنا أنك تكون معنا؟! ألم تعاهدنا على النصرة؟! فلم يجبه ومر في طريقه حتى نزل البحر، فلما سمع بذلك أبو جهل قال: لا يضرنكم انسحاب سراقة ، لقد كان على موعد مع محمد.
هكذا ساهم في إخراجهم، وتكثير عددهم ليكون ذلك أنكى على قريش وأكثر لغنائم المسلمين، وها هي الملائكة تنزل، وها هي السماء تمطر، وها هي الأرض تتلبد، وها هو النعاس يأتي عوامل نصر متعددة من جميع الجوانب(24/4)
حال المشركين قبل المعركة ووقعة نخلة
وصدق قولنا: إن غزوة نخلة كانت هي سابقة لغزوة بدر.
فقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عتبة ، وكان من سادات القوم، وما جاء مع القوم إلا كمشجع وما كان يريد أن يصل إلى بدر ولما رأوا تلك الرؤيا أن رجلاً نحر بعيراً فسال دم البعير وانتشر في خيام المشركين، ولم تبقَ خيمة إلا ودخلها من دم ذلك الجزور، فخافوا من هذه الرؤيا.
وكذلك رؤيا عاتكة من قبل، فجاء حكيم بن حزام ، إلى عتبة ، وقال: يا عتبة ! أنت سيد الوادي هل لك أن تذكر بخير مدى الدهر، قال: وما ذلك؟! قال: أن ترجع بالناس.
لأنهم قبل ذلك أيضاً كانوا أرسلوا شخصاً ينظر كم عدد المسلمين، فذهب ونظر من بعيد ورجع، وقال: القوم نحو الثلاثمائة يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، ولكن أمهلوني حتى أنظر هل هناك مدد وكمين لهم؟ قال: فذهب فأبعد في الوادي ثم رجع، فقال: يا معشر قريش! والله ليس لهم مدد ولا كمين، والله! إني رأيت المطايا تحمل المنايا، والله إنهم يتلمظون كما تتلمظ الأفاعي بأنيابها، والله يا معشر قريش لن يقتل واحد منهم حتى يقتل واحداً منا، ولئن قتل منا بعددهم؛ فما قيمة الحياة بعد ذلك؟! هناك حكيم بن حزام جمع هذا كله، وجاء عتبة فقال: هل لك أن تحمد ويثنى عليك وتشكر الدهر كله، قال: وما ذاك؟ قال: ترجع بالناس، وهذا ابن الحضرمي الذي قتل في غزوة نخلة حليفك تحمل ديته، قال: هي لك عندي فاذهب بها، ولكني أخشى ابن فلانة -وسمى أم أبي جهل - على الناس، اذهب إليه.
فذهب إليه، وقال: إن عتبة يقول كذا وكذا، قال: ما وجد رسولاً إلا أنت، قال: نعم، ولا أكون رسولاً لغيره، فقال: انتفخ سَحَره، لقد خشي المسلمين على ولده، وكان ولده سبق إلى الإسلام، فرجع إلى عتبة ، وأخبره الخبر، ثم جاء أبو جهل وأتبعه، ووقف على عتبة ، وقال: خشيت على نفسك؟! والله! لا نرجعنّ حتى نقتل ونفعل ونفعل، وقال لأصحابه: لا تقتلوا أصحاب محمد وخذوهم بالأيدي لنعلمهم كيف يخرجون على آلهتنا، ثم أخذ سيفه، وضرب فرسه على متنه فقطعه، فقال الحاضرون: بئس الفأل والله.
ثم كان من شأنه أن قال: ونادى ابن الحضرمي أخاه قال: إن حليفك يريد أن يضيع عليك ثأرك، فقم في الناس واسأل الثأر، فقام وفسخ ثيابه، ونادى: و ابن حضرماه ، وقام واشتعل القتال.
وهذا مما يدل على أن غزوة نخلة قبيل غزوة بدر.
بينما النبي صلى الله عليه وسلم قال -قبل أن يقوم حكيم لـ عتبة -: يا علي ! سل حمزة -وكان حمزة أقرب المسلمين إلى المشركين-: من ذاك الرجل الذي على جمل أحمر، فسأله علي ، فجاء حمزة وقال: ذاك عتبة ، فقال: إن يطيعوا هذا الرجل يرشدوا، إنه يدعوهم إلى خير، فقام عتبة فعلاً، يدعوهم إلى الرجوع، ولكن كان أبو جهل على خلاف ذلك، ولم تنجح خطة حكيم بن حزام ، فشبت المعركة، وجاءت الملائكة وانتهت المعركة على ما تقدم لنا.(24/5)
من قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسرى
وفي أثناء الطريق مع الأسارى إلى المدينة النبوية هناك في عرق الظبية، نزل صلى الله عليه وسلم وأمر بقتل أشخاص من الأسارى صبراً، منهم رجل اسمه عقبة بن أبي معيط ، قال: أتقتلني دون قريش يا محمد! قال: نعم.
ثم التفت إلى أصحابه وقال: أتدرون ماذا فعل هذا؟! لقد أتاني وأنا ساجد خلف المقام، فوضع قدمه على عنقي، وغمزها، حتى ظننت أن عيني ستبرزان، وجاء مرة أخرى بسلا شاة فألقاه على رأسي، فجاءت فاطمة فأزالته.
فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إلى المدينة مع الأسارى، وقتل واحداً معه.(24/6)
الاختلاف في شأن الأسرى
ولما وصلوا إلى المدينة، وكان بعض أهل المدينة غير مصدق بما سمعوا من قتل صناديد قريش، وبما سمعوا من العدد الكبير الذي لقي المسلمين، فلما جاء الأسارى وشاهدوا بأعينهم اطمأنوا، ووزع النبي صلى الله عليه وسلم الأسارى على أهل المدينة.
لنرجع إلى أهل مكة عقب الغزوة حينما أتاهم الخبر، فإنهم أقاموا المحازن وأكثروا البكاء، وجمعوا مال تلك العير، وقالوا: ولا تبكوا قتلاكم؛ حتى لا يتشفى فيكم محمد والمسلمون، ومنعوا الناس من البكاء والصياح، ولكن عواطف الناس لا يملكها أحد، ومنعوا قسمة المال، وقالوا: أرصدوه لقتال محمد، ولأخذ الثأر، وكانت غزوة أحد بعدها في السنة الثالثة مباشرة، هذا شأن أهل مكة هناك.
أما الأسارى في المدينة فقد جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزعهم، وبعد ذلك جمع أصحابه، وسألهم: ماذا تقولون في شأن الأسارى؛ فسأل أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فقال: يا رسول الله! هؤلاء القوم والعشير، فاقبل منهم الفداء، ونحن بحاجة إلى المال نستفيد به، ولعل الله أن ينعم عليهم بالإسلام، فيكونوا لنا عضداً، قال: ما تقول يا ابن الخطاب ؟ قال: أرى ما لا يرى أبو بكر ، أرى أن تعطي عمر فلاناً -لقريب له- أضرب عنقه، وتعطي عقيلاً لـ علي يضرب عنقه، وتعطي فلاناً لـ حمزة ، وتعطي كل قريب لقريبه يضرب عنقه، حتى يعلم المشركون أن لا هوادة بيننا وبينهم.
وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله! انظر وادياً كثير الحطب، وأدخلهم فيه، وأجج عليهم الوادي ناراً، ثم تركهم صلى الله عليه وسلم ودخل؛ فقال قوم: يأخذ بقول أبي بكر ، وقال قوم بقول عمر ، وآخرون: بقول عبد الله بن رواحة ، ثم خرج عليهم، فقال: ( إن الله يليّن قلوب أقوام فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوباً حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم؛ قال: { مَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [إبراهيم:36] وإن مثلك يا أبا بكر مثل عيسى؛ قال: (( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ))[المائدة:118] الآية، ومثلك يا عمر كمثل نوح، قال: { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } [نوح:26] ومثلك مثل موسى قال: { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ } [يونس:88] ) ثم أخبرهم بأنه يرى الفداء.
وبالله تعالى التوفيق، والله تعالى أعلم.(24/7)