عباد الله عليكم بتقوى الله، فإن تقواه عروة ما لها انفصام وقدوة يأتم بها الكرام، وسراج يضيء للأفهام، من تعلق بها حمته بإذن الله محذور العاقبة، ومن تحقق بحملها وقته بإذن الله شرور كل نائبة والحذر من دار فرقة مالها أسلاف، وقرار حرقة مالها انصراف، وأنى رجعة مالها إسعاف، فانهضوا عباد الله في استعمال ما يقربكم من دار القرار، واتركوا كل ما يدنيكم من دار البوار فإنها المصيبة الجامعة والعقوبة الواقعة، يا لها دار انقطع من الرجاء انحلالها وامتنع من الفناء بقاء نكالها، وشعار أهلها الويل الطويل، ودثارهم البكاء والعويل، وسرابيل الخزي الوبيل، ومقيلهم الهاوية، وبئس المقيل، يقطع منهم الحميم أمعاء طالما ولعت بأكل الحرام، وتضعضع منهم الجحيم أعضاء طالما أسرعت إلى اكتساب الآثام قد كثر منهم الأنين، وحلت بهم المثلات فجلودهم كلما نضجت بدلت جلودًا غيرها، وكرر عليهم العذاب، ووجوههم مسودة لسوء الحساب، والزبانية تقمعهم فيذوقون أليم العقاب، ينادون إلها ضيعوا أوامره وارتكبوا نواهيه ونسوه، وحق عليهم في الآجلة حكمه لما أغضبوه يقولون "ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون" (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ( [الأنعام: : 28] فيجيبهم بعد حين إجابة دعوة ذي قوة متين (اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ( [المؤمنون: 108] فحينئذ ينقطع عندها والله تأميل المذنبين ويجتمع التنكيل على المذنبين ويرتفع في جهنم عويل المجرمين المعذبين (فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ( [فصلت: 24] فيا لها من حسرة ويا لها من ندامة لا تشبهها ندامة ويا لها من خسارة لا تعادلها خسارة (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ( [الزمر: 15](3/43)
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وانصر الإسلام والمسلمين، واجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين واخذل الكفرة وأعوانهم والملحدين والمبتدعين وأصلح من في صلاحه صلاح الإسلام والمسلمين وأهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين وول على المسلمين خيارهم يا رب العالمين ولم شعثهم واجمع شملهم ووحد كلمتهم وانصرهم على من خالفهم وأحفظ بلادنا من الفسقة والمجرمين وأصلح أولادنا واشف مرضانا وعاف مبتلانا وارحم موتانا وخذ بأيدينا إلى كل خير واعصمنا من كل شر واحفظنا من كل ضر واغفر اللهم للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ولا تسلب نعمتك عنا وكن معنا حيثما كنا يا حي يا قيوم اللهم صلى على محمد وآله وصحبه أجمعين.
96- "موعظة"
الحمد لله غافر الذنوب وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا الله إليه المصير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أولي الجد في العبادة والتشمير.
عباد الله، إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل فمن كان منكم أحسن فعليه بالتمام، ومن كان منكم فرط فيه فليختمه بالحسنى، فالعمل بالختام، وبادروا رحمكم الله أوقات شهركم الباقية، واستدركوا ما مضى منه بالحسرة والندم، واختموه بالتوبة النصوح والرجوع إلى صالح العمل.
عباد الله، كم أناس صلوا في هذا الشهر صلاة التراويح وأوقدوا في المساجد طلبًا للأجر المصابيح، ونسخوا بإحسانهم كل فعل قبيح، وقبل التمام سكنوا الضريح، ولم ينفعهم المال والآمال لما نقلوا، رحلوا عن الدنيا قدمًا قدمًا ونقص ما بنوه هدمًا هدمًا، أدارت عليهم المنون رحاها وأحلت وجوههم في الثرى فمحاها.(3/44)
وهذا حالك عن قريب فتيقظ يا قليل الزاد، وحادي رحيله قد حدى تأهب للتلف وتهيأ للردى، ذهب عنك شهر الصيام وودعك، وسارت فيه قوافل الصالحين، وجهلك منعك والتوبيخ متوفر، فما أرجعك ولا أزعجك وأنت تؤمل منازل العاملين بأفعال الغافلين فما أطعمك.
يا من أصبح ساعيًا إلى ما يضره ستعلم من يأتي غدًا حزينًا متندمًا، كم من صائم يفضحه الحساب والعرض، وكم من عاص في هذا الشهر تستغيث منه الأرض، فيا ليت شعري من المقبول منا فنهنيه على توفيق الله له بحسن عمله ويا ليت شعري من المطرود فنعزيه بسوء عمله، فيا أيها المقبول هنيئًا لك بثواب الله عز وجل ورضوانه ورحمته وغفرانه وقبوله وإحسانه وعفوه وامتنانه.
ويا أيها المطرود بإصراره، وطغيانه وظلمه وغفلته وخسرانه وتماديه في عصيانه، لقد عظمت مصيبتك وخسرت تجارتك، وطالت ندامتك، فيا لها من خسارة لا تشبهها خسارة، لله در أقوام حرسوا بالتقى أوقاتهم، وتدرعوا دروع المراقبة في صبرهم وجمعوا بين الصدق والإخلاص في ذكرهم، صبروا باليقين على ظمأ الهواجر، وبسطوا أقدامهم على بساط الدياجر وعملوا ليوم فيه القلوب لدي الحناجر.
أقبلوا على خدمة ربهم إقبال عالم، وما سلكوا إلا الطريق السالم تذكروا ذنوبهم القدائم، فجددوا التوبة بصدق العزائم، وعدوا التقصير من العظائم، وبذلوا المهج الكرائم، فإذا جن الليل فساجد وقائم، ولا يخافون في الله لومة لائم، أين أنت وهم؟ فهل ترى الساهر كالنائم؟ كلا، ولا المفطر كالصائم.
قال ابن القيم رحمه الله من أراد الله به خيرًا فتح له باب الذل والانكسار ودوام اللجوء إلى الله تعالى والافتقار إليه ورؤية عيوب نفسه وجهلها وعدوانها ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته وجوده وبره وغناه وحمده. فالعارف: سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين لا يمكنه أن يسير إلا بهما فمتى فاته واحد منهما فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه.(3/45)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح من حديث بريدة رضي الله عنه سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء لك بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فجمع في قوله - صلى الله عليه وسلم - أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل.
فمشاهدة المنة توجب المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت وأن لا يرى نفسه إلا مفلسًا وأقرب باب يدخل منه العبد على الله تعالى هو باب الإفلاس فلا يرى لنفسه حالاً ولا مقامًا ولا سببًا يتعلق به ولا وسيلة منه يمن بها.
بل يدخل على الله من باب الافتقار الصرف والإفلاس المحض دخول من كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع وشملته الكسرة من كل جهاته وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل وكمال فاقته وفقره إليه وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة فاقة تامة وضرورة إلى ربه تبارك وتعالى وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تجبر إلا أن يعود إلى الله تعالى ويتداركه برحمته انتهى.(3/46)
اللهم يا حي يا قيوم يا من لا تأخذه سنة ولا نوم يا ذا الجلال والإكرام يا واحد احد يا فرد صمد يا بديع السموات والأرض نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين وأن تعلى كلمة الحق والدين وأن تشمل بعنايتك وتوفيقك كل من نصر الدين وان تملأ قلوبنا بمحبتك ومحبة رسلك وأوليائك وأن تلهمنا ذكرك وشكرك وأن تأخذ بنواصينا إلى ما ترضاه وأن ترزقنا الاستعداد لما أمامنا وأن تهون أمر الدنيا علينا وأن تغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل في ذكر بعض الأدعية الواردة
عباد الله اغتنموا هذه الأوقات الشريفة وأكثروا فيها من الدعاء فإن الدعاء له أثر عظيم وموقع جسيم.
وهو مخ العبادة ولا سيما إذا كان بقلب حاضر وصادف إخباتًا وخشوعًا وانكسارًا وتضرعًا ورقة وخشية واستقبل القبلة حال دعائه وكان على طهارة.
وجدد توبة وأكثر من الاستغفار وبدأ بحمد الله وتنزيهه وتمجيده وتقديسه والثناء عليه وشكره ثم صلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك.
ودعا بدعاء مشروع باسم من أسماء الله الحسنى مناسب لمطلوبه.
فإن كان يريد علمًا قال يا عليم علمني.
وغن كان يطلب رحمة قال يا رحمن ارحمني.
وإن كان يطلب رزقًا قال يا رزاق ارزقني ونحو ذلك.
ولم يمنع من الدعاء مانع كأكل الحرام وقطيعة رحم وعقوق ونحو ذلك.
وتحرى أوقات الإجابة وأتى بأسبابها وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره والانتهاء عن ما نهى عنه.
فالله أصدق القائلين وأوفى الواعدين قال تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ( [غافر: 60]
وقال عز من قال: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ( [البقرة: 186]
وقال جل وعلا: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً( [الأعراف: 55](3/47)
وقال تبارك وتعالى: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ( [النمل62]
وقال تعالى: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ( [الروم6]
وقال: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً( [النساء: 122]
ومن أوقات إجابة الدعاء إذا اجتمعت الشروط وانتفت الموانع ثلث الليل الأخير.
ويوم الجمعة عند صعود الإمام المنبر أو في آخر ساعة من يومها.
وعند الآذان.
وبين الآذان والإقامة.
وعند نزول الغيث.
وعند فطر الصائم.
وعشية عرفة.
وفي حالة السجود.
وفي ليلة القدر.
وفي أدبار الصلوات.
وفي أدبار النوافل.
وعند ختم القرآن.
وعند البكاء والخشية من الله.
شعرًا:
دَعِ البُكاءَ عَلَى الأَطْلالِ وَالدَّار ... واذْكُرْ لِمَنْ بَانَ مِنْ خِلِّ وَمِنْ جَارِ
واذْرِ الدُّمُوعَ نَحِيْبًا وَابْكِ مِن أَسَفٍ ... عَلَى فِرَاقِ لَيْالٍ ذَاتِ أَنْوَارِ
عَلَى لَيْالٍ لِشَهْرِ الصَّوْمِ مَا جُعِلَتْ ... إِلا لِتَمْحِيْصِ آثَامٍ وَأَوْزَارِ
يَا لائِمي في البُكَاءِ زِدْنِي بِهِ كَلَفًا ... وَاسْمَعْ غَرِيْبَ أَحَادِيثِي وَأَخْبَارِي
مَا كَانَ أَحْسَنَنَا وَالشَّمْلُ مُجْتَمِعٌ ... مِنَّا المُصَلِّي وَمِنَّا القَانِتُ القَارِي
وَفِي التَّرَاوِيْحِ لِلَّرَاحَاتِ جَامِعَةٌ ... فِيْهَا المَصَابِيْحُ تَزْهُو مِثْلَ أَزْهَارِي
في لَيْلِهِ لَيْلَةُ القَدْرِ التِي شَرُفَتْ ... حَقًّا عَلَى كُلِّ شَهْرٍ ذَاتِ أَسْرَارِ
تَنَزَّلُ الرُوْحُ والأَمْلاكُ قَاطِبَةً ... بِإِذْنِ رَبٍّ غَفُوْرٍ خَالِقٍ بَارِي
شَهْرٌ بِهِ يُعْتِقُ اللهُ العُصَاةَ وَقَدْ ... أَشْفَوا على جُرْفٍ مِن خُطَّةِ النَّارِ
نَرْجُوا الإِلَهَ مُحِبَ العَفْو يُعْتِقُنَا ... وَيَحْفَظُ الكُلَّ مِن شَرٍّ وَأَكْدَارِ
وَيَشْمَلُ العَفْوُ وََالرِّضْوَانُ أَجْمَعَنا ... بِفَضْلِكَ الجَمِّ لا تَهْتِكْ لأَسْتَارِ(3/48)
فَابْكُوا عَلَى مَا مَضَى في الشَّهْرِ وَاغْتَنِمُوا ... مَا قَدْ بَقِىَ فَهُوَ حَقٌّ عَنْكُمُ جَارِي
اللهم اجعل قلوبنا مملؤة بحبك وألسنتنا رطبة بذكرك ونفوسنا مطيعة لأمرك وأمنا من سطوتك ومكرك، اللهم إنا نسألك العافية في ديننا ودنيانا وأخرانا وأهلنا وما لنا اللهم استر عوراتنا وأمن روعاتنا واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
97- "موعظة"(3/49)
عباد الله يجب عليكم أن تعلموا أنكم ما دمتم في هذه الدار فأنت في دار المعاملات، وأن لكم دارًا أخرى أبدية، فيها تستوفون ما لكم على هذه المعاملات من جزاءات، فإن أحسنتم هنا أو أسأتم، كان جزاؤكم هناك إحسانًا أو إساءات، هكذا وعدكم ربكم، وهو عليم بكل الأعمال، وعلى جزائكم عليها قدير، قال الله تعالى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ( [المجادلة6] وقال: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ( [الأنبياء: 47] وقال: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ( [النحل: 111] من هذا قطعًا تعلم أن شأن هذه المعاملات عظيم، عظمًا لا يعرف قدره إلا الرجل العاقل، البعيد النظر الحكيم، فإن عليها يترتب غضب الله، وعقابه أو رضاه، والنعيم المقيم، وشيء هذا قدره لا يتوقف ولا يتردد في بذل العناية به رجل بصير، وهذه المعاملات تارة تكون بينكم وبين الله، وتارة تكون مع عباد الله، فأما المعاملة مع الله جل وعلا فبأن تسمع وتطيع فيما أمر ونهى، وأما معاملتك مع عباد الله المؤمنين، فبأن تحب لهم ما تحب لنفسك وذلك بأن تجعل نفسك ميزانًا في معاملة كبيرهم وصغيرهم، أنت تكره إساءتهم لك وتحب إحسانهم، فاحذر إساءتهم، وعاملهم بالإحسان، وكما تكره أن يمسوا مالك بسوء، فلتكن أموالهم منك في أمان، وكما تكره أن يتعرضوا لأولادك وأهلك وشخصك بشر، فكن لهم خير حفيظ ونصير وكما تحب أن يريحوك إذا جاوروك، فأرحهم عند مجاورتك لهم، وكما تحب أن ينصحوك ويصدقوك في وعودهم وعقودهم وأخبارهم، فاسبقهم أنت إلى ذلك، وكما تحب أن يفرحوا لفرحك، ويحزنوا لحزنك، فكن أنت كذلك معهم، وكما تحب أن لا(3/50)
يتكلموا فيك إلا بخير، فلا تكن أنت معهم بضد ذلك، وقس علي ذلك ما يتعلق بالموضوع، وأما معاملتك مع نفسك، فهي أن تعودها دائمًا على الخير بلا ضجر.
اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكى بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين.
اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين.
اللهم يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير.
نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين، وأرأف الرائفين وأكرم الأكرمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
98- "موعظة"
إعلموا رحمنا الله وإياكم أن في الجنائز عبرة للمعتبرين وفكرة للمتفكرين وإيقاظًا للنائمين والساهين.
بينما الإنسان في قيام وقعود، ونزول وصعود، وخذ هذا واترك هذا واشتر هذا وبع هذا، وابن هذا واهدم هذا، وقد كان وما كان، وتقدم هذا وتأخر هذا، وعين فلان وفصل فلان، وربح فلان وخسر فلان.
إذ فاجأه الأمر الإلهي والحادث السماوي والحكم الرباني فسكنت حركته وطفئت شعلته، وذهبت نظرته وصار كالخشبة المنبوذة والحجر المرمي.
إن نودي لم يسمع وإن دعي لم يجب وإن قطع أو سحب أو حرق لم يمانع ولم يتكلم، عبرة لمن اعتبر وذكرى لمن كان له قلب ولكن حب الدنيا وزينتها وشهواتها وحجاب الهوى غطى القلوب وأعمى البصائر بمنع التفكر في الجنائز والاعتبار بها.
فصارت لا تزيد رؤيتها عند كثير من الناس إلا غفلة ولا مشاهدتها إلا قسوة حتى كأن الميت نائم يستيقظ بعد ساعة أو كأن الذي يرى الجنازة لا يكون مثلها وكأن الميت نزل به الموت وحده وقصده خاصة.(3/51)
ولذلك تجد كثيرًا من المشيعين يبحث في مخلفاته نعم يعلم كل إنسان أنه سيموت لقول الله جل جلاله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ( [الأنبياء: 35] .
وقد تخالف الناس إلا في الموت فهم متفقون، ولكن لا يظنون ذلك من قريب قد فسحوا لأنفسهم في المدة ومدوا لها في المهلة بدليل. ما ينشئونه من الأعمال والقصور والشركات ونحو ذلك.
وإن دار على لسانه ذكر الموت عن قريب فهو قول ضعيف بدليل عدم تحركه من قبل الآخرة وحالته قبل رؤية الجنائز كحالته بعد تشييعها أكبر برهان على ذلك وربما تحدثوا بحديث الدنيا وضحكوا والميت يدفن.
وقلما يبكي على الجنازة إلا أهلها وذلك لفراقها، لا لنفس الموت، كبكاء الطفل والمرأة الذين لا يعقلان ولا يعلمان، ولو كانوا يعلمون لكان بكاؤهم على أنفسهم لا على ميتهم لأنه مات وهم ينتظرون الموت.
بَكَى لأنْ مَاتَ مَيْتٌ من عَشيْرَتِهِ
وَقَالَ وَاحرَبَا وَصَاحَ يَا هَرَبَا ... وَقَالَ وَاحْرَبَا وَصَاحَ يَا هَرَبَا
وَبَاتََ فَوْقَ حَشاهُ لِلأَسَىَ لَهَبٌ ... إِذَا أَرَادَ خُبُوا فارَ وَالتَهَبَا
وَلَو رَآى بِصَحِيْحِ العَقْلِ حَيْنَ رَأى ... وَكَشَّفَ اللهُ عَنْهُ لِلْهَوى حُجُبَا
لَمَّا رَأَى الدَّهْرَ مَيْتاً أَوْ أَحَسَّ بِهِ ... إِلا بَكَى نَفْسَهُ المِسْكِيْنُ وَانْتَحَبَا
وَمَنْ رَأى السُّمْرَ في جَنْبَيْهِ شَارِعَةٌ ... أنَّى يَرَاهَا بِجَنْب ناءَ أو قَرُبَا
وَطَلْعَةُُ الموتِ إِنْ تَطْلَعْ عَلَى أَحَدٍ ... أَرَتْهُ في نَفْسِهِ مِنْ هَولِهَا عَجَبَا
اللهم اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا وحقق بفضلك آمالنا وسهل لبلوغ رضاك سبلنا وحسن في جميع الأحوال أعمالنا يا منقذ الغرقى ويا منجي الهلكى ويا دائم الإحسان أذقنا برد عفوك وأنلنا من كرمك وجودك ما تقر به عيوننا من رؤيتك في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/52)
99- "موعظة"
عباد الله إن مكارم الأخلاق التي هي آداب الإسلام جمال لا يوازنه جمال وحظ الإنسان منها يكون بقدر ما تخلق به من تلك الأخلاق ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - متخلقًا بجميعها كان أجمل خلق الله أجمعين.
وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وجاء في حديث مرسل أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله ما الدين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حسن الخُلُق».
وهذا يدل على أن حسن الخلق ركن الإسلام العظيم الذي لا قيام للدين بدونه كالوقوف بعرفات بالنسبة للحج فقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الحج عرفة» أي إنه ركن الحج العظيم الذي لا يكون الحج إلا به الوقوف بعرفات.
ومما يدل على أن للأخلاق مكانة عظيمة أن المؤمنين يتفاضلون في الإيمان وأن أفضلهم فيه أحسنهم خلقًا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث أنه قال لما قيل له يا رسول الله أي المؤمنين أفضل إيمانًا قال: «أحسنهم خلقًا».
ومن ذلك أن المؤمنين يتفاوتون في الظفر بحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقرب منه يوم القيامة وأكثرهم ظفرًا بحبه والقرب منه الذين حسنت أخلاقهم جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا».
ومن ذلك أن حسن الخلق أمر لازم وشرط لا بد منه للنجاة من النار والفوز بالجنة وأن إهمال هذا الشرط لا يغني عنه الصلاة والصيام جاء في الحديث أن أحد المسلمين قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيئة الخُلُق تؤذي جيرانها بلسانها قال: «لا خير فيها هي في النار».(3/53)
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه بأن يحسن خُلُقهُ وهو أحسن الناس خُلُقًا وكان يقول في دعائه: «اللهم حسنت خَلْقي فحسن خُلُقي» ويقول: «اللهم أهدني لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت» ومعلوم أنه لا يدعو إلا بما يحبه الله ويقربه منه.
ومن ذلك مدح الله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم - بحسن الخُلُق فقد جاء في القرآن (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ( [القلم4] والله لا يمدح إلا على الشيء العظيم، ومن ذلك كثرة الآيات القرآنية بموضوع الأخلاق أمرًا بالجيد منها ومدحًا للمتصفين به ومع المدح الثواب، ونهيًا عن الردئ منها وذماً للمتصفين به ومع الذم العقاب ولا شك أن كثرة الآيات في موضوع الأخلاق دليل على أهميتها.
وبالتالي فالإكثار من الأخلاق الفاضلة والإقلال منها يكون جمال الإنسان بنسبة ذلك الإكثار أو الإقلال وكذلك ترك مكارم الأخلاق شين لتاركها كبير وعلى قدر ما تركه يكون شينه عند الكبير منا والصغير فمهما أكثرت أو أقللت من تركها يكون شينك بنسبة ذلك التقدير.
ولذلك انظر إلى الكفار حيث أنهم تركوها كلها ولم يكن عندهم من مكارم الأخلاق شيء تجدهم في قبح لا نهاية له وليس ذلك الحسن والجمال فيمن اتصف بمكارم الأخلاق عندنا فقط بل عند الله به يمدح الله المؤمنين المتصفين بذلك ويدخلهم الجنة فانظر أي نصيب نصيبك من تلك الخلال الحسان لتعرف قدرك وقيمتك عند الله وعند خلقه إن الألم ليملأ الجوانح على الأخلاق الفاضلة وعلى عشاقها الفضلاء النبلاء ماتت وماتوا، أين أهل الإخلاص الذين يرون الموت خيرًا من حياة الرياء.
أين أهل الصدق الذين يرون قطع ألسنتهم أخف عندهم من أن يكذبوا أو يتملقوا أو يداهنوا أو ينافقوا أو ينموا أو يغتابوا أو يتجسسوا على المؤمنين ليزجونهم بالسجون.
أين الذين إذا وعدوا صدقوا وإذا عاهدوا وفوا أين أهل العفو عند المقدرة أين أهل العدل والإنصاف.(3/54)
الذين حلمهم مثل الجبال الراسيات أين الذين يلتمسون الكرب ليفرجوها، أين الذين يبتعدون عن الربا ومعامليه أين الذين يعرفون الولاء والبراء ولا يألفون ولا يجالسون إلا أهل الصلاح ويبتعدون كل البعد عن أهل المعاصي.
أين الذين يبحثون عن الفقراء الذين لا مورد لهم فينعشوهم بما تيسر من زكاة أو صدقة تطوع دراهم أو طعام أو كسوة. أو يتسببون لهم في وظائف يكفون بها وجوههم عن النظر لما في أيدي الناس.
أين الذين يؤدون الزكاة مكملة لمن يستحقها لا يحابون بها ويبحثون عن أهل العوائد فإذا وجدوهم غير مستحقين لم يبالوا بهم ولم يعطوهم لعلمهم أنها لا تبرأ ذممهم بذلك.
أين الذين يبحثون عن الأرامل والأيتام ليجبروا قلوبهم بما من الله عليهم به، أين الذين يهجرون الفسقة والظلمة والمجرمين حتى ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم.
أين الرجل المهذب الذي لا يتلبس في سره ولا في علانيته بحال يستحي من اطلاع العقلاء عليه ولا يعمل عملاً لا يرفعه عند الله درجة ولا يقول قولاً غير مفيد لسامعه فائدة في دينه ولا يضمر لعدوه سوءًا إذا سالمه ولا يتخلق إلا بكل خلق جميل.
أين الذين لا يعرفون إلا النصح للمسلمين يبعدون عن الغش كل البعد، بعث أبو حنيفة بمتاع إلى شريكه في التجارة حفص بن عبد الرحمن وأعلمه أن في ثوب منه عيبًا واستوفى الثمن كاملاً لثوب غير كامل وقيل ثمن المتاع الذي بيع ثلاثون ألفًا أو خمسة وثلاثون ألفًا فأبى أبو حنيفة إلا أن يبعث لشريكه في التجارة يكلفه أن يبحث عن المشتري ولكن لم يجده بعد البحث عنه.
فأبى أبو حنيفة إلا انفصالاً من شريكه وتتاركا بل أبى أبو حنيفة أن يضيف الثمن إلى حر ماله وتصدق به كاملاً من شدة الورع.(3/55)
ويروى أنه كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان ضرب قيمة كل حلة منه أربعمائة وضرب كل حلة قيمتها مائتان فمر إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها واشتراها ومضى بها وهي على يديه.
فاستقبله يونس فعرف حلته فقال للأعرابي بكم اشتريت فقال بأربعمائة فقال لا تساوي أكثر من مائتين فارجع حتى تردها فقال هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا ارتضيتها فقال يونس انصرف فإن النصح في الدين خير من الدنيا وما فيها.
ثم رده إلى الدكان ورد عليه مائتي درهم وخاصم ابن أخيه في ذلك وقال أما استحيت أما اتقيت الله تربح مثل ثمنها وتترك النصح للمسلمين فقال والله ما أخذها إلا وهو راضٍ بها قال فهل رضيت له بما ترضاه لنفسك.
وروي عن محمد بن المنكدر أن غلامه باع لأعرابي في غيبته من الخمسيات بعشرة فلم يزل يطلب ذلك الأعرابي طول النهار ليرد عليه خمسة حتى وجده فقال له إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة.
فقال يا هذا قد رضيت فقال وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا ورد عليه خمسة، ومثل هذا كثير يوجد من الورعين الناصحين الذين يحبون لإخوانهم المؤمنين ما يحبون لأنفسهم نسأل الله أن يكثر أمثالهم وأن يقلل الغشاشين السراقين المنافقين الكذابين، أين الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم.
أين الذين يحنون إلى بيوت الله حنين الإلف فارقه الإلف.
أين الذين لا يطيب لهم مجلس إلا عند كتاب الله والبخاري ومسلم وسائر السنن أو ما أخذ منها أو ما هو وسيلة إليها.
أين الذين إذا فاتهم قيام الليل جلسوا يبكون على ما فات.
أين الذين درسوا سيرة المصطفى وأصحابه فكأنهم بينهم يترددون.
أين الذين يتقدمون إلى بيوت الله قبل الوقت ويسبحون ويهللون مات هؤلاء وبلية من أكبر البلاء أن نفقد هذا الطراز فهل لك يا أخي أن تسلك سبيل هؤلاء لتكون قدوة ومثلاً للعاملين.(3/56)
وتفوز برضا رب العالمين فتحظى بالفوز بسكنى جنات النعيم التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من الحور العين والفواكه وغير ذلك فإن رغبت في ذلك فاجتهد في تحسين عملك الذي هو المهر لذلك.
فَإِنْ كُنْتَ لِلْمَهْرِ الذِي عَزَّ قَادَرًا ... فَنَافِسْ وَسَابِقْ نَحْوهَا كُلَّ سَابِقِ
وَإِنْ كُنْتَ مِثْلِي عَاجِزًا فَارْضَ بالدُّنَا ... فَبَالدُوْنِ يَرْضَى الدُّوْنُ عِنْدَ العَلائِقِ
رَعَى اللهُ مَنْ أَضْحَى وَأَمْسَى مُشَمِّرًا ... لِنَيْلِ المَعَالِي قَاطِعًا كُلَّ عَائِقِ
إِلى أَنْ عَلا فَوْقَ المَقَامَاتِ في العُلا ... وَنَالَ المُنى مِنْ قُرْبِ مَوْلَى الخَلائِقِ
الله انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإيمان واليقين وخصنا منك بالتوفيق المبين ووفقنا لقول الحق واتباعه وخلصنا من الباطل وابتداعه وكن لنا مؤيداً، ولا تجعل لفاجر علينا يدًا واجعل لنا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا وارزقنا علمًا نافعًا وعملاً متقبلاً وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفاءً من كل داء واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
100- "موعظة"
عباد الله إن الإنسان منا كما علمتم معرض للأذى والإساءة والاهانة وعرضة للأخطار، والمهلكات، فمنحه الله قوة يدفع بها الإهانة،ويدفع بها الخطر، وينجو بها بإذن الله من الهلاك، هي قوة الغضب والحمية.
وخلق الغضب من النار، فتسلط الشيطان علينا من هذا الطريق وركبنا وقت الغضب، حتى صار الناس في غضبهم حمقى متهورين، وسفهاء طائشين.
فكره الناس الغضب لذلك، واصطلحوا على ذمه مطلقًا، وهذا خطأ فظيع وخلط لا يجوز، فليس كل غضب مذموم ولا كل حلم بممدوح، والله جل وعلا لا يخلق لنا طبعًا إلا لحكمة، ولا يركب فينا قوة الحمية والغضب إلا لسبب وحكمة.(3/57)
فالأذى إذا جاءنا لا يدفع إلا بالغضب، والشر إذا نالنا لا يدفع إلا بالغضب، وحماية الدين والأعراض والشرف والكرامة لا تدفع إلا بالغضب للحق فمن فقد قوة الغضب بالكلية، أو ضعفت فيه الحمية فهو ناقص محلول العزم، مفقود الحزم، معدوم الرجولة.
وقد امتدح الله غضب المؤمنين على الكفار، وحميتهم الدينية، لما له من أثر في إعلاء كلمة الله، فقال تعالى: (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ( [الفتح29]
وقال: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ( [المائدة: 54] وقال: (وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً( [التوبة: 123]
وأمرنا بالغضب إذا انتهكت حرمة الدين، والغيرة على حدود الله. فقال في الزناة: (وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ( [النور: 2]
فمن فقد قوة الغضب، يصبح جبانًا، ضعيفًا، وذليلاً حقيرًا لا يأنف من العار ولا يهمه، ولا يتألم لأذى السفهاء، يتطاول السفهاء والفسقة على حرمه، فلا يغار لعرض، ولا يغضب لشرف، فيكون تيسًا في صورة إنسان، وجمادًا لا إحساس له، ولا شعور.
وليس من الحلم في شيء، وإنما هو جبن، وخور، وذلة وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لن يدخل الجنة ديوث، قالوا وما الديوث يا رسول الله قال: الذي لا يغار على أهله».
وقال سعد رضي الله عنه يا رسول الله لو وجدت مع أهلي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء فقال - صلى الله عليه وسلم - نعم، فقال كلا والذي بعثك بالحق، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «اسمعوا على ما يقول سيدكم، إنه لغيور وأنا أغير منه والله أغير مني».(3/58)
وإذا لم يغضب الإنسان لعرضه، ضاعت الأنساب، واختلطت الأولاد، وكل أمة تموت الغيرة فيهم لا بد وأن تضيع العفة، والصيانة من نسائها، وهذا هو الضعف، والخور، والعجز، والجبن، الذي استعاذ منه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكيف تذم رجلاً يغضب لدينه إذا رأى المنكرات، وقد أمر بمحاربتها وكيف يصلح المرء عيوب نفسه، إذا لم يغضب عليها، ويشتد في ردها عن هواها.
أما الغضب المذموم فهو الذي يعمي صاحبه عن الحق، ويفقده بصر البصيرة، والفكر فتأخذه العزة بالإثم، ويعرض عن النصح إذا نصح، وربما زاد هيجانًا، وإذا روجع في قول ازداد سخطًا ولجاجًا.
وقد يحدث منه ضرر على من حوله، وتجده متغيرًا لونه، مرتعشة أعضاؤه، زائغًا بصره، وكالأعمى يسب الجماد، والحيوان، ويبطش بكل ما يصادفه، حتى إنه يتلف الأثاث، والرياش، وربما لا يشفي غلة، وقد يحدث منه طلاق، ولعن وسب، وشتم، فهذا غضب مذموم قبيح مرذول ينتصر فيه إبليس على هذا الذي لا يملك نفسه عند الغضب كما قيل:
وَمَا غَضَبُ الإِنْسَانِ إِلا حَمَاقَةٌُ ... إِذَا كَانَ فِيْمَا لَيْسَ للهِ يَغْضَبُ
ومثل هذا الغضب يهدم الجسم، ويتلف الصحة، ويحرم صاحبه الراحة والهناء ويجعل نظرته إلى الحياة مظلمة سوداء فالتفريط في الغضب ضعف، والإفراط تهور وجنون، والمحمود منه الوسط والاعتدال والقصد المحمود منه أن يكون غضبك للدين فإذا اعتدى قوم على الإسلام بالطعن والتشهير أو التشكيك في العقائد كما يحاول الملحدون وكما يفعل المبشرون فيجب أن تغضب عليهم انتصارًا لديننا ودفاعًا عن شرعنا.(3/59)
ومن الغضب المحمود الغضب على من تعدى على بلاد إسلامية أو تعدى على مسلم أو مدح غير الدين الإسلامي أو ذكر الله أو كتابه أو ملائكته أو رسله بسوء أو سب صحابيًا أو إمامًا مشهورًا بالتقي والورع والاستقامة أو طعن في رجال الدين لأجل دينهم أو كذب على الله أو على رسله أو أحل شيئًا من المحرمات أو حرم شيئًا مما حلله الله أو استهان بكتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو كتب أهل العلم المحققين مثل الإمام أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة والموفق والمجد وابن أبي عمر وشيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وابن رجب وابن مفلح ونحوهم من العلماء المشهورين بالاستقامة والبعد عن البدع وكأئمة الدعوة.
ومن الغضب المحمود الغضب على من مدح الكفرة والمنافقين وأئمة الضلال والحيارى كابن عربي وابن رشد والفارابي وابن سينا وابن كلاب والعفيف التلمساني وابن سبعين وابن الفارض وابن الراوندي والكوثري والبوصيري والمعري ونحو هؤلاء من الملاحدة والزنادقة والمبتدعة والفسقة والظلمة وأعوانهم.
ومن الغضب المحمود الغضب على من ابتدع في الدين بدعًا أو نشرها أو دعا إليها أو مدح محلليها أو مدح الكفار أو مدح الملاهي والمنكرات التي حطمت الأخلاق وقضت عليها وأتلفت الأموال وقتلت الأوقات وأورثت الخلق أفانين العداوات وأحدثت التفرق في البيوت والقلوب.
شعرًا:
إِنْْ المَلاهِي أَلْقَتْ بِيْنَنَا إِحَنًا ... وَأَوْرَثَتْنَا أَفَانِيْنَ العَدَاوَاتِ
وَهَلْ أُصِيْْبَ شَبَابُ اليْومِ وَانْحَرَفُوا ... إِلا بِتَقْلِيْدِ أَصْحَابِ الضَلالاتِ
مِنْ كُلِّ أَهْوَجَ لا دِيْنٌ وَلا أَدَبٌ ... وَلا حَيَاءٌ وَمَعْدُوْمُ المُرُوءاتِ
يَرَى التَّمَدُّنِ في تَطْْوِيْلِ شَارِبِهِ ... وَحَلْقِ لِحْيَتِهِ مِثْلَ الخَواجَاتِ
يُقَلِّدُ الكُفْرَ في تَطْوِيْلِ أَظْفُرِهِ ... أَقْبَحْ بِهِ مِنْ سَفِيْهٍ سَاقِطٍ عَاتِ(3/60)
اللهم قوي إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره اللهم وفقنا للهداية وجنبنا أسباب الجهالة والغواية اللهم ثبتنا على الإسلام والسنة ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
101- موعظة
عباد الله أن الله اختار نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وخصه بمزايا لم تكن لأحد من العالمين واختار له أصحابًا خيرة الناس من خلقه، وخصهم بمزايا لم تكن لسواهم من الناس أجمعين، حاشا الأنبياء والمرسلين، وأثنى عليهم، سبحانه في غير موضع من القرآن الكريم تنبيهًا على جلالة قدرهم، وعلو منزلتهم، وعظم فضلهم، وشرفهم. قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ( [التوبة: : 100].
وقال تعالى يصفهم بشدة الرحمة ولين الجانب لبعضهم بعضًا وشدتهم على الكفار المعاندين (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ( [الفتح: 29].(3/61)
وقال تعالى يصف المهاجرين والأنصار بأفضل ما يصف به إنسانًا (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( [الحشر: : 9].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم»، ولقد كان الصحابة أصبر الناس بعد الرسل على الأذى في الله فلقد أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله وصب عليهم الأذى من كل صوب، فلم يزدهم ذلك إلا إيمانًا. قال تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ( [آل عمران: 174].
وإذا كان الصحابة رضي الله عنهم أرفع الناس بعد النبيين والمرسلين درجة وأعلاهم مكانًا بشهادة الله ورسوله فلا عجب أن يعلن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بفضلهم ويحذر من سبهم ومقتهم، ويقول فيما روى الترمذي: «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضًا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله يوشك أن يأخذه».(3/62)
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم انفق مثل أحدٍ ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه». فأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشك عاقل أنهم هم الذين حازوا قصبات السبق، واستولوا على معالي الأمور من الفضل والمعروف والصدق والعفة، والكرم والإحسان، والقناعة، وعلو الهمة، والنزاهة، والشجاعة، والتقى والتواضع، ونحو ذلك.
فالسعيد من اتبع طريقهم، واقتفى منهجهم القويم، والشقي من عدل عن طريقهم، ولم يتحقق بتحقيقهم، فأي خطة رشد هم لم يستولوا عليها، وأي خصلة خير لم يسبقوا إليها، لقد وردوا ينبوع الحياة عذبًا صافيًا زلالاً. ووطدوا قواعد الدين، والمعروف فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالاً.
فتحوا القلوب بالقرآن، والذكر والإيمان، والقرى بالسيف والسنان، وبذلوا النفوس النفيسة في مرضاة ربهم، فلا معروف إلا ما عرف عنهم، ولا برهان إلا ما بعلومهم كشف، ولا سبيل نجاة إلا ما سلكوه ولا خير سعادة إلا ما حققوه وحلوه فرضوان الله عليهم، ما تحلت المجالس بنشر ذكرهم، وما تنمقت الطروس بعرف مدحهم وشكرهم:
وَلَيْسَ فِي الأُمَّةِ كالصَّحَابَة ... بِالفَضْلِ وَالمَعْرُوفِ وَالإِصَابَة
فَإِنَّهُم قَدْ شَاهَدُوا المُخْتَارَ ... وَعَايَنَوا الأسْرَارَ وَالأَنْوَارَ
وَجَاهَدُوا في اللهِ حَتَّى بَانَا ... دِيْنُ الهُدَى وَقََدْ سَمَا الأَدْيَانَا
وَقَدْ تُلِي في مُحْكِمَ التَّنُزِيْلِ ... مِنْ فَضْلِهِم مَا يَشْفِي مِنْ غَلِيْلِ
وَفِي الأَحَادِيْثِ وَفِي الأَخْبَارِ ... وَفِي كَلامِ القَوْمِ وَالأَشْعَارِ
مَا قَدْرَ بِي مِنْ أَنْ يُحِيْطَ نَظْمِي ... بِبَعْضِهِ فَاسْمَعْ وَخُذْ مِنْ عِلْمِي(3/63)
اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان وثبت محبتك فيها وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا حب أوليائك وبغض أعدائك وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
102- "موعظة"
عباد الله اعتاد الناس أن من طلب شيئًا من نفائس الدنيا لا يهدأ ولا ينام، بل يسعى للوصول إليه، ليله، ونهاره، سعي النشيط الهمام، وكلما سد في وجهه باب، قرع بابًا آخر، وإن تعدد الأبواب، كما هو دأب الحريص المقدام، وكلما نظر إلى قدر ما يطلب هان عليه السعي، وما يلقاه من مصاعب ومتاعب وآلام والعجيب أنه لا يمل ولا يسأم، وإن واصل السعي سنين، وأعجب من ذا أنه لا ينثني عن مطلوبه، وإن مس شرفه وأهين، وإن استصعب عليه الوصول، استعان بذوي الوجاهة المحترمين، ولا يزال هذا يواصل السعي حتى يصل مبتهجًا إلى ماله من مرام. أنت تطلب الجنة يا هذا وهي نفيسة جدًا لأنها لا تفنى ولا تبيد، ولأن لك فيها ما اشتهت نفسك، ولذت عينك دون أي تقييد، ولأنك خالد فيها أبدًا دون أن يكدر، بأي مكدر، ذلك العيش الرغيد فهل شمرت عن ساق وسعيت للوصول إليها، كما تسعى فقط لذلك الفاني من الحطام، المشاهد أنك لا تسعى لتلك الجنة ولا يخطر لك السعي إليها على بال، ولو أنك ساويتها في السعي إليها بأي مطلوب دنيوي لكنت من عظماء الرجال، ولكن يا للأسف لم يكن من ذلك شيء، والسعي للجنة لا يكون بالكلام، ولا بالأماني والأحلام، ولكن بصالحات الأعمال، وهل تزهدت أنت في شيء كما تزهدت في تلك الأعمال الفخام، ولذلك أجرى الله العادة أن من خاف شيئًا من مؤلمات الدنيا يبعد عنه ويفر كل الفرار، ويذهب هدوءه وطمأنينته، وربما ذهب نومه اضطرارًا لا اختيارًا ولا يطمئن بعض الاطمئنان إلا إذا احترس منه بكل ما يقدر عليه من أعوان، وأنصار، يفعل كل ذلك لئلا يصل إليه من الأذى ما يكدر عليه حياته، وصفوها جهنم يا(3/64)
هذا أعظم مخوف فهل عملت الاحتياط لها كما تحتاط لمخوفات هذه الدار.
الذي يتبادر منك ويظهر أن إيمانك بها ضعيف، وأنك لم تعمل أي احتياط لها، فلو كان إيمانك قوي في قوله تعالى: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى( [الفجر::23]. لسعيت جهدك في الأعمال الصالحات، التي تحول بينك وبينها ولأزعجك وأقلقك ولم تهنأ بنوم ولا طعام وشراب، وأمامك تلك العقبات.
اللهم قوي إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره اللهم وفقنا للهداية وجنبنا أسباب الجهالة والغواية اللهم ثبتنا على الإسلام والسنة ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
103- "موعظة"
عباد الله مضى رجال من هذه الأمة كانوا يخشون ربهم خشية العارفين الموقنين لذلك كانت أقوالهم وأفعالهم موزونة بما للشرع من موازين كانوا يزنون كلامهم قبل أن يلفظوا به لأنهم يوقنون أن خالقهم سمعها وشهد عليها وهو تعالى خير شاهد.
كانوا إذا اظلم الليل يقفون في محاريبهم باكين متضرعين لهم أنين كأنين المرضى ولهم حنين كحنين الثكلى وكانوا ربما مروا بالآية من كتاب الله فجعلوا يرددونها بقلب حزين فأثرت عليهم ومرضوا بعدها، مات أولئك السلف الصالح الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا.
وماتت تلك الخشية وأعقبها قسوة أذهلت العباد عن طاعة الله فصاروا يأتون ويذرون ما يذرون دون سؤال عن سخط الله ورضاه.(3/65)
وغدت جوارحهم مطلقة في كل ما يغضب الله وصارت أفعالهم فوضى ليس لها ضوابط ولا قيود العين تجول في المناظر المحرمة من نساء سافرات إلى سينماء إلى تلفزيون إلى الفديو معلم الفساد إلى كورة إلى مجلات في طيها الشرور إلى صورة مجسدة وغير مجسدة إلى كتب هدامة للأخلاق إلى غير ذلك من المحرمات التي تجرح القلوب.
والفَرْجُ يسرح كما شاء إلى الفواحش، الدين ضعيف والخُلُق فاسد والأذن لا تشبع من سماع ما يسخط ربها والبطن يستزيد من سحت الأقوات.
وأما اليد فحدث ولا حرج في تعدي الحدود وأما اللسان فليله ونهاره يتحرك ويتقلب في منكر القول وزوره ولا كأن ربه السميع البصير العليم. موجود وتراه يطعن في أعراض الغوافل ويمزق جلودهم في السب والغيبة والبهت والكذب ولا يعف عن عرض أي بشر.
ويحلف بالله العلي العظيم كل يوم مرات ولا يهمه أبر في يمينه أم فجر وأما وعوده وعهوده وعقوده فتهمل ولا كأنه مكلف باحترامها فهذا وأمثاله قد انهمكوا في المعاصي وتوغلوا فيها وصارت عندهم عادات وشيء طبيعي مألوف لهم.
ولذلك إذا مررت بهم أو مررت حول بيوتهم استوحشت من سماع الأغاني والرقص والمطربين والسب واللعن والقذف والاستهزاء بالدين وأخذت في العجب بين هؤلاء وأولئك الذين في أوقات التجليات في حنادس الظلم يناجون ربهم راغبين في رضوان العزيز الجبار خائفين من سخط المنتقم القهار متفكرين في سرعة حلول المنايا التي تسارع الأيام والليالي في اقترابها وموقنين بأنهم محاسبون على الفتيل والنقير والقطمير عالمين بأنهم مكلفون بواجبات عبودية ما قاموا بالقليل منها وهم عنها مسئولون وعلى ما قدموه من خير وشر قادمون.(3/66)
وهل حال هؤلاء السعداء في جانب أولئك التعساء الأشقياء إلا كحال المصاب بالجنون في جانب أوفر الناس عقلاً وأكملهم وقارًا فأكثر يا أخي من قولك الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم الله يعافيهم ولا يبلانا قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ( [الزمر: 15].
وَكُل كَسْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَجْبُرُهُ ... وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّيْنِ جُبْرَانُ
فتنبه أيها المؤمن واعلم أنك مسئول عن كل ما تعمل لا مهمل كالأنعام فانهج نهج الاستقامة وراقب ربك في مصادرك ومواردك لتقف عند الحدود قال بعض المرشدين إلى معالم الرشد ضاربًا لذلك مثلاً.
واعلم أن الإنسان في تقلبه في أطوار حياته كمثل غريب ألقت به المقادير إلى قوم استقبلوه بترحاب وتكريم وكان ذلك النازل فاقد القوى غير عالم بما عليه القوم من الشئون ولا يدري من أين أتى ولا إلى أين يذهب.
فقام القوم بواجبات خدمته وإكرامه حتى قويت حواسه وجوارحه ومداركه وأخذ يعمل كما يعمل القوم فجاء رجل من عقلائهم قائلاً يا هذا إن هذه الدار التي توطنها مكرموك ما هي دار إقامة ولا هي مملوكة لأحد من الخلق ولكنهم أمثالك نزلاء من كانوا يعمرون هذه الدار قبلهم ثم رحلوا وتركوها وما كان رحيلهم إلى مكان بعيد ولكنه كان إلى سجن ضيق ومكان مظلم لو أرسلت ببصرك لرأيته وقد فقدوا تلك القوى وتناسوا ذلك النعيم.
ثم أخذ بيده إلى مكان قفر وأعني به المقبرة وقال له هذا مراح القوم ومسقط رءوسهم وإن الطريق التي توصلك إلى هؤلاء القوم هي الطريق التي سلكها مكرموك وإنها لطريق ذات عقبات مهلكة ولها أوحال من تورطها هلك ولا مخلص من تلك الأوحال إلا بتجنب تلك العقبات أو تجاوزها عدوًا.(3/67)
فإن رمت السلامة فسر فريدًا متحفظًا من تخاصم القوم وتنازعهم ومن ملاهيهم وألعابهم ولا تصغ لمن يناديك من خلفك فإن الذي يناديك من خلفك في طريق النجاة هو أجهل منك بها ولا تخالف من ناداك من الأمام فإنهم أدرى منك بمفاوز الطريق.
وإياك أن تشتبه عليك الطرق وأصوات المنادين فإن طريق السلامة لها أعلام ومصابيح نيرة على رأس كل مرحلة من مراحلها وأما باقي الطرق فإنها مظلمة موحشة مهلكة وما هي إلا طريق واحدة ولكنها ذات شعب ومسارب كثيرة.
فاحذر أن تتهاون بنفسك كما تهاون القوم بنفوسهم فهلكوا وهم لا يشعرون فإن كان النازل الغريب على استعداد لتعقل النصائح وذا قابلية تقبل الإرشاد وقف على أفواه الطريق وفتح عينيه واستعمل فكره وتبصر في أمره وتدبر عواقب ما عليه القوم وأخذ لنفسه بأحوط الأحوال وأقربها إلى السلامة وجعل عينه متجهة للنظر إلى منازل الراحلين التي لا أنيس بها ولا جليس.
وتأمل سرعة الرحيل وقصر أوقات الإقامة وتجنب الألعاب والملاهي وسلك سبيل المهتدين وإن كان ضيق الحضيرة قاصر النظر ضعيف الهمة ضائع العقل سيء التصور فاقد الفكر خبيث الاستعداد لئيم الطبع لا يجد بدًا من منازعة اللاعبين ومسابقة اللاهين وتغافل عن عاقبة أمره وسوء مصيره وتباعد عن صياح الناصحين وأصغى إلى مداهنة الغاوين أصبح من النادمين.
وما ضربنا لك هذا المثل إلا لتعلم أنك أنت الغريب الذي نزلت يوم ولدتك أمك بقومك وأنت ضعيف القوى لا تعلم شيئًا كما قال تعالى: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( [النحل: 78]. ففرح بك قومك وأكرموك إلى أن قويت آلات أعمالك وصرت تحسن الرحيل وحدك.(3/68)
ونريد بالرحيل هنا سلوك إحدى الطريقين إما طريق الكمالات وإما طريق النقائص لأنهما مسارب المكلفين الذين لا بد لهم من السير فيها للوصول إلى أحد الغايتين فإنه ما من طريق إلا ولها غاية ينتهي إليها مسير سالكها.
وما نريد بالرجل العاقل المرشد إلا صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام أو النائب عنه في تبليغها وما نريد بمن يناديك من الأمام إلا السلف الصالح الذين سبقونا بالإيمان وبينوا لنا طريق النجاة أو الأتقياء المقتفون لآثارهم الذين ثبتت استقامتهم.
وما نريد بالذين ينادونك من خلفك إلا الذين لا قدم لهم في طريق النبوة فلم يسلكوا سبيل المهتدين بل اعتمدوا في إرشادهم على مقال لا حال معه ولا عمل وهذا لا تصلح متابعته لأنهم أجهل الناس بطريق الاستقامة.
وما أهل الاستقامة إلا الذين راقبوا قلوبهم وأمسكوا ألسنتهم وطهروا أقلامهم فلا عزم لهم إلا على أعمال البر والمواساة ولا يقولون إلا الحق المنجي ولا يكتبون إلا ما لو سئلوا عنه يوم القيامة لأحسنوا الإجابة والذين يذكرون الله كثيرًا وإذا ذكر الله وجلت قلوبهم والبكاؤون من خشية الله المقتفون لآثاره - صلى الله عليه وسلم -.
شعرًا:
نُورُ الحَدِيْثِ مُبِيْنٌ فادْنُ وَاقْتَبِسْ ... وَاحْدُ الرِّكَابَ لَهُ نَحْوَ الرِّضَا النَّدُسِ
مَا العِلْمُ إِلا كِتَابُ اللهِ أَوْ أَثَرٌ ... يَجْلُو بِنُورِ هُدَاهُ كُلَّ مُلْتَبِسِ
نُوْرٌ لِمُقْتَبِسٍ خَيْرٌ لِمُلْتَمِسِ ... حِمى لِمُحْتَرِسٍ نُعْمَى لِمُبْتَئِسِ
فَاعْكُفْ بِبَابِهِمَا عَلَى طِلابِهِمَا ... تَمْحُو العَمَى بِهِمَا عَنْ كُلِّ مُلْتَبِسِ
وَرِدْ بِقَلْبِكَ عَذْبًا مِنْ حِيَاضِهِمَا ... تَغْسِلْ بِمَائِهِمَا مَا فِيْهِ مِنْ دَنَسِ
وَاقْفُ النَّبِيَّ وَأَتْبَاعَ النَّبِي وَكُنْ ... مِنْ هَدْيِهِم أَبَدًا تَدْنُو إِلى قَبَسِ(3/69)
وَالْْزَمْ مَجَالِسَهُمْ وَاحْفَظْ مَجَالِسَهُم ... وَانْدُبْ مَدَارِسَهُم بِالأَرْبَعِ الدُّرُسِ
وَاسْلُكْ طَرِيْقَهُمْ وَاتْبَعْ فَرِيقَهُمْ ... تَكُنْ رَفِيْقَهُمُ فِي حَضْرَةِ القُدُسِ
تِلْكَ السَّعَادَةُ إِنْ تُلْمِمْ بِسَاحَتِهَا ... فَحُطَّ رَحْلَكَ قَدْ عُوْفِيْتَ مِنْ تَعَسِ
وما نريد بمراحل حياتك إلا الأطوار التي تتقلب بك فيها الشمس كلما غربت أو أشرقت وتنتقل بك إليها الليالي وأنت لا تشعر فما أسرع مرور الشمس بك إلى نهاية أجلك وما أغفلك عن عملها فيك.
وما نريد بأوحال حياتك إلا متابعة شهواتك عند بلوغ الحلم فإن لطور الشبوبية أوحال مهلكة وهي الشهوات البهيمية التي تضطر الشباب الذي غلبت شهوته عقله إلى مغازلة الغانيات ومعانقة الملاهي وتعاطي المحرمات فيصير في أوحال تناسبه.
وما من أحد يستطيع تجنب تلك الأوحال إلا الذي وفقه الله فتباعد عن ظلمات الزيغ وتنور بنور العلم الديني الذي علمه العليم الخبير لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وأمره بتعليمه للناس لأنه جل شأنه هو الحكيم العليم الذي علم الداء ودبر الدواء قال تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ( [الملك: 14]. انتهى بتصرف يسير.
شعرًا:
مَثِّلْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا المَغْرُوْرُ ... يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُورُ
قَدْ كُوِّرَتْ شَمْسُ النَّهَارِ وَأُضْعِفَتْ ... حَرًّا عَلَى رُءُوسِ العِبَادِ تَفُوْرُ
وَإِذَا الجِبَالُ تَعَلَّقَتْ بِأَصُولِهَا ... فَرَأَيْتَهَا مِثْلَ السَّحَابِ تَسِيْرُ
وَإِذَا النُّجُومُ تَسَاقََطَتْ وَتَنَاثَرَتْ ... وَتَبَدَّلَتْ بَعْدَ الضِّيَاءِ كُدُوْرُ
وَإِذَا العِشَارُ تَعَطَّلَتْ عَنْ أَهْلِهَا ... خَلَتِ الدِّيَارُ فَمََا بِهَا مَعْمُوْرُ
وَإِذَا الوُحُوشُ لَدَى القِيَامَةِ أُحْضِرَتْ ... وَتَقُوْلُ لِلأمْلاكِ أَيْنَ نَسِيْرُ(3/70)
فَيُقَالُ سِيْرُوا تَشْهَدُوْنَ فَضَائِحًا ... وَعَجَائِبًا قَدْ أُحْضِرَتْ وَأُمُوْرُ
وَإِذَا الجَنِيْنُ بِأُمِّهِ مُتَعَلِّقٌ ... خَوْفَ الحِسابِ وَقَلْبَهُ مَذْعُوْرُ
هَذَا بِلا ذَنْبٍ يَخَافُ لِهَولِهِ ... كَيْفَ المُقِيْمُ عَلَى الذُّنُوْبِ دُهُوْرُ
اللهم وفقنا للعمل بما يرضيك وجنبنا أسباب سخطك ومعاصيك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
104- "موعظة"
عباد الله نحن في عصر بارك الله فيه بركة عمت المشارق والمغارب وكل ما للأرض من أنحاء مما نعلمه وجه بقدرته وإرادته أفكار بني آدم إلى ما أودعه في خلقه من أسرار تفوت الإحصاء ويسر لهم السبيل فوصلوا من التراقي في الاختراع والإطلاع إلى ما يدهش الأفكار وتزداد به عقيدة المؤمن قوة فلا يعتريه أدنى شك في ما أخبر الله به ورسوله.
أصبحت الدنيا كلها كأنها بيت واحد يكلم الناس بعضهم بعضًا مع بعد المسافة ويسافرون برًا وبحرًا فيقطعون بالمراكب البرية والبحرية في مدة يسيرة ما يحتاج إلى مدة طويلة فيما مضى وتنقل تلك المراكب التي خلقها الله لنا من الأثقال بقوة وسرعة تقف أمامها الألباب حائرات بل لو أرادوا مسابقة الطير في السماء لسبقوه بالطائرات.
فسبحان من أرشد عباده إلى صنع هذه المخترعات قال تعالى: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( [النحل: 78].
وانظر إلى الكهرباء وفائدتها العظيمة في الليل والنهار فقد صار الليل بأنواره وكأنه نهار وما فيه من أسباب الراحة والمنافع العظيمة التي لم تحصل لمن قبلنا أليس هذا من أعظم البراهين والأدلة على صدق ما أخبر الله به بقوله: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ( [فصلت: 53].(3/71)
وعلى صدق ما أخبر به الصادق المصدوق من أن الزمان يتقارب وها أنت لا تمشي شرقًا ولا غربًا إلا وأنت ترى وتسمع من تلك الأسرار ما تحار به الأفكار فنحن اليوم نتقلب في كل أحوالنا في نعيم لم يظفر به عصر من الأعصار حتى إنك ترى حيوان هذا العصر في راحة وإكرام لم تتمتع بها بنو العصور الماضيات إن حقًا علينا إزاء كل هذا أن نكون أسبق الأجيال في ميدان شكر الله ليبرهن كل منا أنه يحس ويشعر بما اختصه به مولاه اهـ.
ولكن يا للأسف لم يكن منا شكر هذه النعم واستعمالها في طاعة الله ومراضيه ودليل ذلك ما ترى وتسمع من المعاصي والمنكرات التي تكاد أن تبكي من فشوها وازديادها الجمادات.
فيا لله للمسلمين إنها لتجرح قلب المؤمن السالم منها جرحًا يوشك أن يوصله إلى القبر اللهم وفق ولاتنا لإزالة هذه المنكرات ولتأييد الإسلام والمسلمين في جميع الجهات ووفقهم للرفق في رعاياهم والنصح لهم وسدد خطاهم.
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ». رواه البخاري والترمذي والنسائي وأحمد وابن ماجه.
لقد صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قاله في هذا الحديث العظيم فإن كثيرًا من الناس يهمل واجب النعم عليه فلا يستقبل النعم بما يجب لها من الشكر ولا يحاول استبقاءها بأداء حق الله فيها بل يعرض عن الله وينأى بجانبه ولا يذكر هذه النعمة من نعم الله على عظمها إلا حين يعدو عليها المرض فيذبل نضرة العافية ويخطو بقوة الشباب على غير موعد إلى ضعف الشيخوخة.
أما حين ينعم الإنسان بسلامة أعضائه وقوة بنيته وحين يحس الحيوية تسري في عروقه فهو ينطلق في شهواته خاضعًا لها، وهو يظن نفسه الآمر الناهي، وخاسرًا بها وهو يحسب نفسه قد ربح كل شيء.(3/72)
وتمضي به أيامه ولياليه وهو يرتع كالحيوان في ملذاته من مأكولات ومشروبات دون تفرقة بين حلال وحرام ومن غير تمييز بين طيب وخبيث فيسيء إلى نفسه ويبخسها حقها إذ يضيع طاقتها على العمل النافع وعلى الطاعة الواجبة في اللهو واللعب.
وبلا شك أن الصحة عرض لا يدوم بل يمر مر السحاب وأن المرض يفقد الإنسان معظم طاقته على العمل بل ربما فقدها كلها وعجز، فمن السفه والحمق إذاً أن لا يغتنم الإنسان فرصة الصحة والفراغ من الشواغل للطاعة والعبادة.
وكل إنسان يعلم أن كل يوم يتقدم به الزمن يقصر عمره ومقدرته على العمل تضعف كلما خطا به الزمن ومحصوله من الأعمال الصالحة يقل كلما أقعده المرض أو أثقلته السنون فالعاقل اليقظ يحافظ على وقته أكثر من محافظته على ماله ولا يضيع منه شيئًا بل يستعمله فيما يقربه إلى الله والدار الآخرة أو ما هو سبب إلى ذلك فإن فاته شيء أو نسى شيئًا من أعماله بالليل قضاه بالنهار وبالعكس.
ولله آيات كونية وآيات قرآنية يتمشى المسلم النشيط المبتعد عن الكسل والعجز على ضوئها. قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً( [الفرقان: 62]. وقال: (إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ( [يونس: 6].
وقال تعالى: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً( [الأعراف: 54]. فالله سبحانه لم يخلق هذه عبثًا فالذاهلون عن معاني هذه الآيات، الهائمون وراء منافعهم المعجلة حمقى لا ينتصحون من حكمة ولا يستفيدون من درس تجدهم لا يبالون بإضاعة أوقاتهم في غير فائدة وربما أضاعوها في المعاصي.(3/73)
ثم أعلم أن أهل الضياع للوقت الذين كان أمرهم فرطًا وأعمارهم سبهللاً لا يفيقون من قتل أوقاتهم في البطالة وعند المنكرات من كورة وفديو وتلفزيون ومذياع وسينما وورق وغيبة ونميمة وتجسس على المسلمين ونحو ذلك.
ربما أضافوا إلى ذلك الجناية على أوقات الآخرين فشغلوهم عن أعمالهم بشئون تافهة أو فيما يعود عليهم بالخسران فهؤلاء أساءوا من جهتين على أنفسهم إذ يمضون أيامهم في غير عمل وعلى غيرهم حيث شغلوهم عن العمل والعجب أن هؤلاء الذين اعتادوا قتل الوقت إذا ما تبين فشلهم في نوبة يقظة راحوا يتساءلون عن سر هذا الفشل ويتهمون الأيام تارة والحظ تارة أخرى، كأنهم عند أنفسهم مطبوعون على النجاح دون عمل وأن يجنوا ثمار مواهبهم بعد أن قتلوا هذه المواهب.
أما السبب الحقيقي لفشلهم فهو لا يخطر لهم ببال ولا يفكرون فيه وذلك لضعف عقولهم.
فعلى العاقل أن يبتعد عن هؤلاء الكسالى كل البعد لئلا يؤثروا عليه فيصيبه ما أصابهم من ضياع العمر سدى ويجتهد في صحبته ضد هؤلاء أناسًا أتقياء محافظين على أوقاتهم لا يمضونها إلا في طاعة الله وما أحسن ما قيل:
فَصَاحِبْ تَقِيًّا عَالِمًا تَنْتَفِعُ بِهِ ... فَصُحْبَةُ أَهْل الخَيْرِ تُرْجَى وَتُطْلَبُ
وَإِيَّاكَ والفُسَّاقَ لا تَصْحَبَنَّهُم ... فَقُرْبُهُم يُعْدِي وَهَذَا مُجَرَّبُ
فَإِنَّا رَأَيْنَا المَرْءَ يَسْرِقُ طَبْعَهُ ... مِن الإِلْفِ ثُمَّ الشَّرُّ للنَّاسِ أَغْلَبُ
وَجَانِبْ ذَوِي الأَوْزَارِ لا تَقَرَبَنَّهُم ... فَقُرْبُهُم يُرْدي وَلِلْعِرْضِ يَثْلِبُ
وبالتالي فالذي يرشدنا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أنه يقرر أولاً أن صحة البدن نعمة من أعظم نعم الله علينا ليربي فينا الوعي بقيمة الطاقة الإنسانية التي خلقها الله فينا. فنستغلها فيما يعود علينا أفرادًا وجماعة بالخير والنفع.(3/74)
ويقرر لنا - صلى الله عليه وسلم - ثانيًا: أن الوقت هو الحياة، وأن ما نحسبه فراغًا فتتفنن في وسائل قتله هو الطريق إلى التقدم فالحقيقة أن الحي الذي يقدر حياته يبخل في الوقت أن يكون فيه فارغًا ويجتهد فيه في العمل الذي يقربه إلى الله وإلى مرضاته من صلاة وصدقه وتهليل وتسبيح وتكبير وتحميد.
ومن استغلال الوقت بأنفع الوسائل المداومة على العمل وإن كان قليلاً. وذلك أن استدامة العمل القليل على توالي الزمان واستمراره يكون من القليل كثيرًا من حيث لا يجد الإنسان مشقة ولا ضجرًا.
وفي الحديث «إن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل» وفي الحديث الآخر «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة والقصد القصد».
فقد ختم - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث بوصية خفيفة على النفوس، نافعة ترشد إلى المحافظة على الوقت، حيث حث فيها على التبكير ورغب أن يبدأ المسلم أعمال يومه نشيطًا طيب النفس مكتمل العزم فإن الحرص على الانتفاع من أول اليوم يستبتع الرغبة القوية في أن لا يضيع سائره سدى.
فهذه الأوقات الثلاثة المذكورة في الحديث، كما أنها السبب الوحيد لقطع المسافات القريبة والبعيدة في الأسفار الحسية مع راحة المسافر وراحة راحلته ووصوله براحة وسهولة فهي السبب الوحيد لقطع السفر الأخروي وسلوك الصراط المستقيم والسير إلى الله سيرًا جميلاً.
فمتى أخذ العامل نفسه وشغلها بالخير والأعمال الصالحة المناسبة لوقته أول نهاره وآخر نهاره وشيئًا من ليله وخصوصًا آخر الليل حصل له من الخير ومن الباقيات الصالحات أكمل حظ وأوفر نصيب ونال السعادة والفوز والفلاح وتم له النجاح بإذن الله في راحة وطمأنينة مع حصول مقصده الدنيوي وأغراضه النفسية.(3/75)
ومما ورد في الحث على صيانة الوقت ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك».
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة» وروي عن فاطمة رضي الله عنها قالت مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مضطجعة متصبحة فحركني برجله ثم قال: «يا بنية قومي اشهدي رزق ربك ولا تكوني من الغافلين فإن الله يقسم أرزاق الناس ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس». إذ أن الجادين أو الكسالى يتميزون في هذا الوقت فيعطي كل أمرء حسب استعداده من خير الدنيا والآخرة.
وختامًا فينبغي للعاقل اللبيب أن لا يضيع أيام صحته وفراغ وقته بالتقصير في طاعة الله، وأن لا يثق بسالف عمل ويجعل الاجتهاد غنيمة صحته، ويجعل العمل فرصة فراغه. فليس الزمان كله مستعدًا ولا ما فات مستدركًا. اللهم وفقنا لصالح الأعمال وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
105- موعظة
عباد الله نحن في زمن كله عجائب يعجب العاقل اللبيب ومن أعجب ما فيه أن الرجال أصبحوا لا سلطان لهم على النساء إلا النادر القليل، نعم أصبحنا في زمن للنساء فيه جبروت أمامه الرجال في حال ضئيل انعكس الأمر فصار القوي ضعيفًا والضعيف قويًا فإن كنت في شك من ذلك فاخرج وانظر في الشوارع ترى النساء تجول في الشوارع ذاهبات آيبات ويتثنين في تبخترهن عليهن من الزينة ما يرغم على النظر إليهن كل من له عينان.(3/76)
ولا تسأل عما يحدثه ذلك النظر في نفوس الشبان وأشباه الشبان تراه إذا لمحها أتبعها نظره ثم جرى وراءها لأنه يفهم من هيئتها وتثنيها وتلفتها فهمًا لا يقال له إنه فيه غلطان، إنه يفهم أنها إذا لم تكن تريد منه ما تريد ما عرضت نفسها في الشارع بذلك التهتك وذلك الازديان وهي في بيتها أمام زوجها الذي ينبغي أن تتجمل له تكون بحالة تشمئز من رؤيتها نفس الإنسان، تلبس له أردى الملابس ولا تمس طيبًا ولا تعتني له، فإذا أرادت الخروج بذلت من العناية في تجميل نفسها ما يلهب نار الشوق إليها في نفوس الناظرين.
وهذه حالة تجعل العيون وقفًا على النظر إلى تلك الأجسام وتشغل القلوب شغلاً به تنسى كل شيء حتى نفسها وربها وما له عليها من واجبات، وتوجه الأفكار إلى أمور دنيئة يقصدها من أولئك النساء أرباب النفوس الدنيئات، بل وتدفع النفوس دفعًا تستغيث منه الفضيلة ويغضب له الواحد القهار.
إن أولئك النساء زوجات وبنات وأخوات رجال يرونهن بأعينهم في الشوارع بتلك الحال يرونهن وليس لهم من الغيرة ما يفهم أنهم من صنف الرجال، وأمامهم يجرين الزينة التي يخرجن بها إلى تلك الميادين الملأى بالأنذال، وبعضهم يستصحب زوجته معه سافرة في الشوارع وربما فهم بعض الفساق أنه يتصيد لها وذلك يجري على ألسنة كثير منهم.
أيها الأخ عصمنا الله وإياك وجميع المسلمين أنت أقوى عقلاً وأقوى دينًا من المرأة لا خلاف في ذلك إن لم يعصمك الله تتمنى أن يكون منك مع المرأة ما يكون إذا وقع نظرك على ما لها من بهاء وجمال فتأكد كل التأكد أن تمني المرأة أقوى من تمني الرجل إذا وقع نظرها على جميل من الرجال ولا تشك أنها بعد رؤيتها الجميل تتمنى فراقك إليه وربما دعت عليك نحن في جو موبوء بفساد الأخلاق، من تعرض له أصابه من ذلك الوباء ما يضيعه في دنياه وفي الدين.(3/77)
فصن نساءك عن الخروج إليه إن أردت العافية وإلا فلا تلم إلا نفسك إذا أصبحت في عداد الضائعين والضائعات أنت ترى كل يوم ما يكون في الطرق لنساء غيرك فلا تشك أن نساءك يلاقين مثله وأشد منه وأي رجل يرضى أن تخرج نساؤه ليلعب بعفافهن وشرفهن من لا دين له ولا شرف ولا أخلاق، إن البهيم يغار ومعارك ذكور البهائم على إناثها معروفة، فلا تكن أقل غيرة من البهيم، ولولا أننا نرى بأعيننا مبلغ ضعف رجالنا أمام النساء ما صدقنا أن يستصحب الرجل زوجته سافرة راكبة أو غير راكبة تقدمه.
أيها الأخ أنت الذي تلقى المشاق من حر وبرد وأنت مشغول بالكد لأجل جلب الرزق، يكون منك ذلك لتطعم المرأة وتكسوها وتنعم عليها ففضلك عليها كبير كما قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ( [النساء: 34]. وأنت أرجح منها عقلاً وأكمل دينًا، فمن الغلط أن تكون معها كالعبد المملوك يصرفه مولاه كيف شاء. وإذا كنت كما ذكر الله قوامًا عليها فأنت مسئول عنها لأنك راعيها والراعي مسئول عن رعيته، فأنت مثاب إن وجهتها إلى عمل الخير وآثم إن سكت عنها وهي تعمل أعمالاً ليست مرضية، فانظر ماذا عليك من الإثم في خروج زوجتك وما يترتب عليه من بلايا مرئية وغير مرئية، فحل بينها وبين ما تعلم أن فيه ضرر عليها وكل عمل يغضب ربك، وإلا فأنت شريك لها في كل ما لها من أوزار. اهـ.
كل هذا سببه مخالطة ربائب الاستعمار الذين تشبهوا به وقلدوه في الأقوال والأفعال، وقلدهم كثير من نسائنا، وصدق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: «لتركبن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه»، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل» اهـ.(3/78)
اللهم احفظنا من المخالفة والعصيان ولا تؤاخذنا بجرائمنا وما وقع منا من الخطأ والنسيان واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
106- "موعظة"
إخواني إن الغفلة عن الله مصيبة عظيمة قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ( [الحشر: 19]. فمن غفل عن ذكر الله وألهته الدنيا عن العمل للدار الآخرة أنساه العمل لمصالح نفسه فلا يسعى لها بما فيه نفعها ولا يأخذ في أسباب سعادتها وإصلاحها وما يكملها وينسى كذلك أمراض نفسه وقلبه وآلامه فلا يخطر بباله معالجتها ولا السعي في إزالة عللها وأمراضها التي تؤول إلى الهلاك والدمار وهذا من أعظم العقوبات فأي عقوبة أعظم من عقوبة من أهمل نفسه وضيعها ونسي مصالحها وداءها ودواءها وأسباب سعادتها وفلاحها وحياتها الأبدية في النعيم المقيم ومن تأمل هذا الموضع تبين له أن كثيرًا من الخلق قد نسوا أنفسهم وضيعوها وأضاعوا حظها وباعوها بثمن بخس بيع المغبون ويظهر ذلك عند الموت ويتجلى ذلك كله يوم التغابن (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ( [الشعراء: 88].
يوم (لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ( [الأنعام: 158] إنها لحسرة على كل ذي غفلة دونها كل حسرة، هؤلاء هم الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
107- "موعظة"(3/79)
عباد الله إن المؤمن بالله حقًا يبتعد عن المعاصي كما يبتعد عن النار فإذا زل مرة من المرات اضطربت أعصابه وجعل قلبه يخفق وأصابه ندم عظيم وكلما تذكر تلك الهفوة احمر وجهه خجلاً وهاجت عليه أحزانه وتذكر عصيانه لسيده ومولاه ولا يزال موجع القلب منكسره حتى يفارق الدنيا ويوارى في التراب.
هذا هو المعروف عن المؤمن، ولا يعرف سواه في أهل الإيمان لأنهم يدركون تمامًا أنهم إن عصوا خالقهم ورازقهم أنهم سيندمون ويعاقبون إن لم يتوبوا إلى مولاهم، هذا ما كان عليه السلف الصالح ومن تبعهم، وانظر ما عليه أكثر الناس اليوم في هذا العصر المظلم من الجرأة على انتهاك محارم الله تتمثل أمامك حالهم بحالة قوم لا يؤمنون بثواب ولا عقاب تراهم قد أضاعوا الصلاة وأصروا على منع الزكاة إلا النوادر منهم تراهم يطاردون النساء في الأسواق ويشربون الدخان علنًا ويحلقون اللحا كذلك ويغشون في معاملاتهم تراهم أمام الملاهي والمنكرات ليلاً ونهارًا، تراهم يوالون أعداء الله ويعظمونهم تراهم لم يكتفوا بالمعاصي في بلادهم بل يذهبون إلى البلاد الأخرى، بلاد الفسق والفجور والحرية وينفقون فيها الأموال الطائلة في ما يغضب الله الذي أغنى وأقنى ولكن ليعلم هؤلاء الفسقة أن الله لا يغفل عن أعمالهم السيئة وسوف تشهد عليهم بها الأرض والسماوات، ولا تبكي عليهم لا هذه ولا هذه يوم يتجرعون كأس الممات، ويشهد بها عليهم الملكان كاتب الحسنات، وكاتب السيئات، ويشهد بها عليهم الحفظة الذين يتعاقبون على حفظهم تعاقب الحراس ويشهد بها عليهم جوارحهم التي باشرت فعل المعاصي ويشهد بها خير شاهد وهو مولاهم جل وعلا الذي تستوي الشهادة عنده والغيوب، ويشهد بذلك عليهم كتب أعمالهم التي كل ما فعلوا بها مكتوب حتى إذا رأوها يوم القيامة وبدا لهم ما لم يكن لهم في حساب فزعوا وقالوا يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربك أحد، كل(3/80)
هؤلاء يشهدون على العاصين بالمعاصي فيسجلون عليهم ما قدمته أيديهم وليس لذلك نتيجة إن لم يتوبوا إلا غضب الرب عليهم، وإلقاؤهم في دار المجرمين الجانين جهنم، وإذا كان الأمر هكذا فلماذا يفرح العصاة، ومن ورائهم جهنم التي لا تبقي ولا تذر. التي ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر.
اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان وثبت محبتك فيها وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وأرزقنا حب أوليائك وبغض أعدائك وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
108- "موعظة"
عباد الله أخرج البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة»، عباد الله إن هذا الحديث على إيجازه ليحتوي على وصية ثمينة من أبلغ الوصايا وأقيمها وأجلها وأنفعها فقد اشتمل على الأمر بحفظ عضوين عليهما مدار عظيم حقيقين بتعاهدهما بالرعاية والاستقامة والرقابة والصاينة ألا وهما اللسان والفرج ولا شك أنهما إن أطلق سراحهما في الشهوات واللذات وطرق الغي والفساد كانا أصلاً للبلاء والفتنة والشر والهلاك.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من وقي شر قبقبه وذبذبه ولقلقه فقد وجبت له الجنة»، الحديث أخرجه منصور الديلمي من حديث أنس رضي الله عنه والقبقب البطن والذبذب الفرج واللقلق اللسان.
فهذه الشهوات بها يهلك أكثر الخلق وسئل - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل النار فقال: «الأجوفان الفم والفرج».
فالعاقل من يبصر مواقع الكلام ويحفظ لسانه من الفضول والهذيان ولا يتعدى بفرحه زوجته وما ملكت يمينه.(3/81)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» إذا فهمت ذلك فاعلم أن زلات اللسان عظيمة فزلة من زلاته قد تؤدي بالإنسان إلى الهلاك والعطب ومفارقة أهله وولده وأصدقائه وجيرانه فليحذر الإنسان مما يجري به لسانه.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه»الحديث.
وعن سعيد بن جبير مرفوعًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلها تذكر اللسان أي تقول اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا».
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو يمد لسانه بيده فقال له ما تصنع يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: هذا أوردني الموارد إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس شيء من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدته».
وعن ابن مسعود أنه كان على الصفا يلبي ويقول يا لسان قل خيرًا تغنم واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم فقيل يا أبا عبد الرحمن أهذا شيء تقوله أو شيء سمعته فقال لا بل شيء سمعته، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه».
وقال ابن عمر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كف لسانه ستر الله عورته ومن ملك غضبه وقاه الله عذابه ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره».
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إخزن لسانك إلا من خير فإنك بذلك تغلب الشيطان». وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأيتم المؤمن صموتًا وقورًا فادنوا منه فإنه يلقن الحكمة».
وأخرجه ابن ماجه من حديث خلاد بلفظ «إذا رأيت الرجل قد أعطى زهدًا في الدنيا وقلة منطقة فاقتربوا منه فإنه يلقى الحكمة».(3/82)
ولا تحسبن حفظ اللسان قاصرًا على الصمت في موضعه أو الكلام بل يتعدى إلى حفظه من طعام مشبوه أو حرام وإن من المعلوم أن اللسان هو الوسيلة لمضغ ما يأكله المرء وقذفه في المعدة بيت الطعام ومستقره وليصنه من الزلل والحرام فهو خير له في عاقبة أمره.
وأما حفظ الفرج فبترك التعدي على أعراض الناس وحرماتهم ووضعه في الحلال في الطرق المشروعة وكفه عن الزنا والحرام والزنا آفة وبيلة على المجتمع الإنساني وقد بينا مضاره في الجزء الثاني والله أعلم.
نسأل الله أن يوقظ ولاتنا فيأخذوا على أيدي السفهاء منا ويزيل ما حدث من هذه المنكرات، وأن يوفقنا وجميع المسلمين لطاعته، ويتوفانا مسلمين، ويلحقنا بعباده الصالحين، ويغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، ويرحمنا برحمته إنه أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
109- "موعظة"
عباد الله تغير الناس في أحوالهم الدينية تغيرًا يدهش الناظرين في زمن قليل، هذه الصلاة التي هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين وهي عمود الإسلام قد أعرض عنها الكثير من الناس غير مبالين بذلك جهلوًا ما هي الصلاة وأي قيمة قيمتها وما منزلتها بين الطاعات، وما علموا أنها الصلة بين العبد وبين ربه ولذلك هي تطهر المصلي من جميع ذنوبه إذا اجتنبت الكبائر. كالزنا واللواط وأكل الربا.
ويزيدك معرفة بها أن تعرف ما لها من متعلقات. ذلك أنه إذا توضأ لها ذهبت ذنوب أعضاء وضوئه مع ذهاب الماء فإذا تشهد بعد الوضوء فتحت له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء فإذا مشى إلى المسجد كان له بكل خطوة يخطوها تحط عنه خطيئة ورفع له درجة فإذا انتظر الصلاة فإنه لا يزال في صلاة.
وأما المؤذنون فهم أطول الناس أعناقًا يوم القيامة ويشهد لهم كل ما يسمعهم حتى الأشجار والأحجار.(3/83)
ومن قال مثل ما يقول المؤذن ثم دعا عقبه وجبت له شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما قم المسجد وتنظيفه فهو مهر الحور العين في الجنات ومن بنى له مسجدًا ولو كمفحص قطاة بني الله له بيتًا في الجنة.
والخلاصة أن المؤمن بصلاته أبعد الناس من المحرمات والفواحش والزنا واللواط وشرب الخمر والدخان والميسر وقول الزور والسرقة والقتل والقذف وحضور آلات اللهو المذياع والتلفزيون والسينماء والبكمات وأبعد الناس عن الغش والربا والبخس والمكر والخداع وغيرهما مما يخل بالدين أو ينقص المروءة والشرف، إذ من غير المعقول أن من بلغ به حبه في الاستقامة أن يقف أمام سيده ومولاه الذي رباه وربى جميع العالمين بنعمه ويستهديه طريق الهداية وقد قدر ربه وركع له وسجد وحمده وأثنى عليه بما هو أهله وشكر له أن يرى بعد ذلك جوالاً في طرق الغواية والمآثم التي ينتابها الفساق الذين مردوا على الفجور وتفننوا فيه...صدق الله العظيم.
(إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ( [العنكبوت: 45] هذه من ثمرات الصلاة.
اللهم انظمنا في سلك عبادك المفلحين ونجنا من لفحات الجحيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
110- "موعظة"
إعلموا وفقنا الله وإياكم وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أنه شرع لهذه الأمة الاجتماع للعبادة في أوقات معلومة، فمنها ما هو في اليوم والليلة للمكتوبات ومنها ما هو في الأسبوع وهو صلاة الجمعة ومنها ما هو في السنة متكرر وهو صلاة العيدين لجماعة كل بلد ومنها ما هو عام في السنة وهو الوقوف بعرفة، وذلك لأجل التواصل والتوادد والتعاون والتآخي والتآلف والتعارف والتعاطف والتراحم، وقوة للرابطة بين المسلمين، ومضاعفة الأجر بالاجتماع، وكثرة الخطى، ولتعليم الجاهل لأحكام الصلاة.(3/84)
فصلاة الجماعة هي المتكرر يوميًا الاجتماع لها في المساجد وهي واجبة وجوب عين على الرجال القادرين حضرًا وسفرًا حتى في شدة الخوف لقوله تعالى: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ( [النساء: 102]. وقال تعالى: (فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا( [البقرة: 239].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا. ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم في النار». متفق عليه.
وعن أبي هريرة أن رجلاً أعمى قال يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال هل تسمع النداء قال: نعم قال: فأجب. رواه مسلم والنسائي.
وروى أبو داود عن عمرو ابن أم مكتوم أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن المدينة كثيرة الهوام والسباع وأنا ضرير البصر شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هل تسمع النداء قال نعم. قال فأجب فإني لا أجد لك رخصة» فهذا رجل ضرير شكا ما يجد من المشقة في مجيئه إلى المسجد وليس له قائد يقوده إليه ومع هذا لم يرخص له النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة في بيته فكيف بمن يكون صحيح البصر متوفرة الأنوار في طريقه وهو آمن على نفسه وأهله وماله.
ومع ذلك لا يجيب داعي الله الذي خلقه ورزقه وأعطاه وأقناه ووعده إن أطاعه بجميع ما تطلبه نفسه وتمناه، وهدد وتوعد من عصاه واتبع هواه.(3/85)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر». وأخرج الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لعنهم الله، من تقدم قومًا وهم له كارهون وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط ورجل سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب». وحديث «لا صلاة لجار المسجد إلا بالمسجد» روي مرفوعًا وموقوفًا.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سمع النداء فلم يمنعه من إتباعه عذر قالوا وما العذر قال خوف أو مرض لم تقبل منه الصلاة التي صلى».
وعن معاذ بن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الجفاء كل الجفاء والكفر والنفاق من سمع منادي الله ينادي إلى الصلاة فلا يجيبه» رواه أحمد والطبراني.
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية». رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «ما بال أقوال يتخلفون عن الصلاة فيتخلف لتخلفهم آخرون لأن يحضروا الصلاة أو لأبعثن عليهم من يجافي رقابهم». وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث يُنادى بهن فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق».(3/86)
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «لأن تمتلئ أذن ابن آدم رصاصًا مذابًا خير له من أن يسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب». وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل يقوم الليل ويصوم النهار وهو لا يشهد الجمعة والجماعة فقال هو في النار ولما كان عتاب بن أسيد رضي الله عنه واليًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل مكة فسمع برجال يتخلفون عن الصلاة في المساجد جماعة فقال يا أهل مكة والله لا أسمع برجال يتخلفون عن الصلاة في الجماعة في المساجد إلا ضربت أعناقهم فعلم الصحابة رضي الله عنهم بذلك فزاده رفعة عندهم وارتفع قدره.
وصلاة العشاء والفجر في جماعة أشد تأكيدًا لما ورد عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله» رواه مسلم.
وفي رواية الترمذي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة ومن شهد العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة» قال الترمذي حديث حسن صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا» متفق عليه. وعنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة الفجر والعشاء ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا» متفق عليه.
وروي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى العشاء في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر» رواه الطبراني في الكبير.
وعن جندب القسري قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم» رواه مسلم.(3/87)
اللهم اعطنا من الخير فوق ما نرجو واصرف عنا من السوء فوق ما نحذر. اللهم علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللهم إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجاتنا فاقضها كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا يا رب العالمين اللهم وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
111- "موعظة"
عباد الله ما أحسن أن يعيش المرء قانعًا بما رزقه الله في هذه الحياة فلا يمد بصره إلى ما في أيدي الناس ولا تتطلع نفسه إلى سلب حقوق الناس أو ظلمهم والاعتداء على ما وهب الله لهم من نعم جسام فإن القانع يشعر ويحس بسكينة وطمأنينة كما يشعر بأنه غني عن كل الخلق قال الشاعر:
إِذَا كُنْتَ في الدُّنْيَا قَنُوعًا ... فَأَنْتَ وَمَالِكُ الدُّنْيَا سَوَاءُ
وذلك أن له نفسًا راضية بما قسم الله آمنة مطمئنة لم يتسرب إليها الجشع والطمع اللذان هما من أقبح القبائح وأسوأ الشمائل ولا يزال صاحب هذين أو أحدهما إلا وهو مذموم وبأقبح الصفات موسوم لا تعرض له القناعة ولو كانت الدنيا بأسرها له. قد ملأ حبها قلبه وغمر محبتها والتفاني في طلبها قلبه وصار لا يرضى منها باليسير ولا يقنع بالكثير وقلما تجد متصفًا بهذا الوصف إلا وهو متشتت الفكر قليل الراحة عنده من الحسد والهلع وضعف التوكل على الله الشيء الكثير الذي يخشى عليه مع استدامته معه من سوء الخاتمة.
أما القانع ذو النفس الأبية الراضية المطمئنة المتوكلة على الله فيرجى لها أن تنالها الآية الكريمة: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً( [الفجر: 28].
قال - صلى الله عليه وسلم -: «من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه معه قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها».(3/88)
وقال ابن مسعود –رضي الله عنه- ما من يوم إلا ينادي فيه ملك من تحت العرش يا ابن آدم قليل يكفيك خير من كثير يطغيك.
وقال بعض العلماء: أطيب العيش القناعة وأنكد العيش الجشع ومن الأخلاق الذميمة التي تجعل الإنسان بخيلاً بما في يده متطلعًا لما في أيدي الناس الحرص والإفراط في حب الدنيا وجمعها ولو أدى ذلك إلى إهدار الكرامة وإراقة ماء الوجه فالحذر عباد الله من الحرص على الدنيا فإن حبها رأس كل خطيئة.
112- "موعظة"
عباد الله إن الدنيا قد آذنت بفراق فيا ويح من كان بها جل اشتغاله، كيف يطمئن العاقل إليها مع تحققه بدنو ارتحاله. كيف ينخدع اليوم ببوارقها من هو غدًا مرتهن بأعماله كيف يغتر فيها بإمهاله، وإمهاله لم ينشأ إلا عن إهماله.
كيف يبيت آمنًا في توسع آماله. وهو لا يدري ما يطرق من بغتة آجاله.
فما ترون طيف الشبيبة قد رحل كثيرًا ما حل بالشباب المنون.
أما ترون الشيب قد نزل وقبيح مع الشيب المجون. أما ترون سيف الأجل قد قطع الأمل فإلى متى تؤملون في البقاء وتطمعون.
أما ترون رياح الرحيل تهب في كل منزل وسبيل فلم لا تركبون سفن التوبة وتقلعون.
أما ترون أشراط الساعة في كل حال تنادي بفصيح المقال يا أهل الدنيا لا مقام لكم فإلى متى لا ترجعون. هل الأعمار في الاعتبار إلا أعوام. وهل الأعوام إلا أيام، وهل الأيام إلا ساعات كالسفن ينادي لسان سيرها يا أهل الدنيا لا مقام. وهل الساعة إلا أنفاس تحصيها الحفظة بأمر الملك العلام.
فمن كان هذا أساسه كيف يفرح بدار عمارها في الحقيقة خراب.
فالسعيد من أضمر نفسه من المحو وأخف ظهره من الأوزار والتبعات واعتبر بمن مضى من الأمم الماضية أولي النجدة والهمم العالية.
نثر والله سلكهم بعد انتظامه. وتفرق شملهم بعد التئامه وعادوا كمن مضى من الأقران كأنما يقظتهم كانت منام. هكذا الدنيا (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ( [الرحمن: 27].(3/89)
فرحم الله عبدًا أقبل على الباقي وأعرض عن الفاني من الحطام. وجعل لشارد النفس من التقوى أقوى زمام. واجتنب الظلم فإن الظلم يخرج من النور إلى الظلام. فنسألك اللهم توفيقًا يقربنا من الحلال ويبعدنا عن الحرام. وطريقًا إلى الخيرات لنتمسك بالزمام. وأمنا يوم الفزع الأكبر يبلغنا غاية المنى. قال الله جل وعلا: (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ( [إبراهيم: 23]. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فائدة جليلة
إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده يحمل الله سبحانه حوائجه كلها وحمل عنه كل ما أهمه، وفرغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره وجوارحه لطاعته وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله إلى نفسه فشغل محبته بمحبة الخلق ولسانه عن ذكره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم.
فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته قال تعالى: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ( [الزخرف: 36]. اهـ.
اللهم ثبت قلوبنا على الإيمان ووفقنا لصالح الأعمال، اللهم تفضل علينا بالقبول والإجابة وارزقنا صدق التوبة وحسن الإنابة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
113- خطبة
توسيد الأمر إلى غير أهله(3/90)
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله ناصر الأمناء المتقين، ومؤيد الأوفياء المخلصين، أحمده سبحانه لا أحصي ثناء عليه، وأستغفره وأتوب إليه، وأسأله تعالى أن يجعلنا ممن إذا سمعوا القول عقلوه واتبعوا أحسنه، وبلغوه كما سمعوه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له. قال في كتابه الكريم مخاطبًا ولاة الأمور خصوصًا، وسائر الأمة عمومًا: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ( [النساء: 58]. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد – فيا عباد الله- لقد أرسل الله محمدًا بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه، هاديًا ومبينًا للناس ما نزل إليهم، أرسله إكرامًا لهذه الأمة، ورحمة للعالمين، أرسله ليعلم الناس شرع الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.(3/91)
وإن مما جاء به شرع الله، ونادت بمراعاته والاهتمام به رسل الله تحرى الأفضل والأمثل والأرضى لله في أمر الولاية أيا كان من إمامة عظمى، أو وزارة، أو رئاسة، أو إمارة، أو قضاء، أو إدارة أعمال، أو نظارة وقف، أو إمامة صلاة ونحو ذلكم، ومن تتبع وقائع التاريخ قديمًا وحديثًا، وما جاء به الإسلام في أمر الولاية، علم علم اليقين أن راحة الأمة وسعادتها واستقرارها، بل وضمان بقاء مُثُلها العالية، ومبادئها السامية، متوقف على أن يلي أمرها خيارها، وخيار أهل الإسلام أقواهم إيمانًا، وأرضاهم لله، وأبعدهم عن الخيانة والغش والمحاباة، وأن شقاءها واضطرابها وفقدان الثقة بها مقرون بإسناد أمورها، وتحميل أعبائها إلى من لا يصلح لحملها، ولا غرو فإعطاء المناصب الهامة لأمناء أكفاء، ذوي غيرة للحق، وحماية للعقائد، وإخلاص للأمة، يؤمن الناس على دمائهم وأموالهم، ومحارمهم وأعراضهم وجميع شئونهم، ويجعل صاحب الحق يطمع في عدل بلاده، وذا الكفاءة يخلص في عمله، وذا الشر ينقبع في مكمنه.
وإن تولية من لم يراقب الله، ولم يعهد منه غيرة ظاهرة للعقيدة السلفية، والأخلاق الفاضلة، أو من علم فيه ضُعف أو خور أو خيانة أو غش أو محاباة، أو عدم اهتمام واكتراث بما أنيط به من عمل على ثغر من ثغور أهل الإسلام، ولا سيما ما له صلة بالعقيدة كالتعليم، أو بصلب الحكم كالقضاء ونحوه.
إنما ذلكم غش للأمة، وخيانة لهان وإجرام في حقها، وسعي في إضاعة مصالحها، بل وغرس للأحقاد والضغائن والبغض في نفوس مفكريها، وذوي الغيرة لها، إن لم تكن الطامة الكبرى وهي القضاء على مقوماتها الروحية، ومثلها العليا؛ عياذًا لأمة الإسلام –بالله- من ذلك.(3/92)
فاتقوا الله، عباد الله، ليتقوا الله من ائتمنهم الله على شيء من ثُغور المسلمين، فإنهم بولايتهم، صغار الولاة أو كبار، إن صلحوا ووفوا واستعملوا في مهام الأمور الأقوياء الأمناء، عزت البلاد واستقام أمرها، وعظم سلطان ولاتها على النفوس، ومشي الناس من ورائهم سعيًا إلى الخير، إذ أن صلاح الوالي من أقوى العوامل في صلاح من تحته؛ فتأثير الرؤساء على المرؤوسين له خطره الأكبر وأثره العظيم في حياة الأمة، فالناس –كما في المثل- "على دين ملوكهم" وفي الحكم: "الولاة كالسوق يجلب له ما نفق فيه" فإن نفق الخير عند الوالي، أيا كان مقامه، سعى من حوله في فعل الخير تأسيًا به؛ وإن كانت الثانية وهي فساد الولاة وتولية غير الأكفاء فعلى أمة الإسلام السلام والويل كل الويل لقوم تحلوا بهذه الصفة. يُروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من استعمل رجلاً على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين». ويروى عن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو بكر –رضي الله عنه- حين بعثني إلى الشام: يا يزيد إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة وذلك أكثر ما أخاف عليك بعدما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ولي من أمر المسلمين شيئًا فأمر عليهم أحدًا محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً حتى يدخله جهنم». وروى البخاري ومسلم عن معقل بين يسار قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة». وروى البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأله رجل عن الساعة؟ فقال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: ومتى تضيع؟ قال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة». ويقول أصدق القائلين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *(3/93)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ( [الأنفال: : 27، 28].
أقول قولي هذا، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصر ولاة أمور المسلمين وأن يصلحهم ويصلح بطانتهم ويرزقهم الأعوان المخلصين. إنه تعالى نعم المولى ونعم النصير.
114- (خطبة)
ما لولاة الأمور وما عليهم من حق
الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضالون، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله صلى الله وبارك عليه وعلى آل وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد –فيا عباد الله- لقد جاء دين الإسلام إكرامًا للبشرية ورحمة بها، جاء ليرتب وينظم أمور الناس، مادية وروحية، ويقيمها على أسس إصلاحية وقواعد ثابتة، جاء ليبين أسباب العطب. وإن مما أوضحه وأبانه الإسلام علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بنبيه -- صلى الله عليه وسلم --، وعلاقته بأميره ورئيسه، يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ( [النساء: 59]، والمراد بأولي الأمر كل من له ولاية شرعية، سواء كان الإمام العام، أو العالم الروحي، أو الأمير، أو الرئيس الخاص بالإنسان.(3/94)
عباد الله؛ إن الله جلت قدرته قد أوجب لولاة الأمور الشرعيين بهذه الآية، وما في معناها، حقًا عظيمًا؛ بالقيام به تسعد الأمة الإسلامية، ويستتب لها الأمن، ويسود السلام، أوجبه من هو عالم بأسرار الكون، وطبائع البشر التي لا تصلح ولن تصلح بدون إمام أو مع إمام منازع؛ أوجبه حفاظًا على الحياة الاجتماعية ورعاية، وحماية لها من فوضى الجاهلين، وطيش المفسدين، إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، أوجبه وجعله طاعة له سبحانه وقربه إليه، طاعة مؤكدة معروفة يجب الإتيان بها في العسر واليسر، والمنشط والمكره والاستبداد، إلا إذا أمر الإنسان بمعصية الله، أو فوق المستطاع، فلا سمع ولا طاعة إذًا لمخلوق في معصية الخالق، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»، وإن شيئًا –يا عباد الله- أمر الله به ورتب عليه سبحانه مصلحة عظمى في الدنيا، وأجرًا مضاعفًا في الآخرة، لجدير بأن يكون موضع رعاية المؤمن واهتمامه.(3/95)
فاتقوا الله – أيها المسلمون – وتقربوا إلى الله بما أمركم به من طاعة ولاة الأمور، ومن الدعاء لهم، والتعاون معهم، والصبر عليهم، ما أطاعوا الله ورسوله وأقاموا شعائر دينه، فما نزعت يد من طاعة إلا صافحها الشيطان وعرضها لفتنة عمياء، وحوت جاهلية جهلاء، والعاقل يدرك خطورة عصيان الأئمة الشرعيين، وما تأتي به منازعتهم أو الخروج عليهم من شر، وما يترتب على ذلك من مفاسد عظمى لا يعلم مداها – على الحقيقة- إلا الله سبحانه، وتفاديًا لهذا الشر، ودرءًا له عن الأمة الإسلامية، قال هادي البشرية عليه الصلاة والسلام: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، فميتته جاهلية» وقال: «اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة». وروي البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت –رضي الله عنه- قال: "بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله". قال –يعني رسول الله- «إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان».
يا عباد الله، يا من في أيديهم شيء من ولاية، إن الحكم العدل سبحانه، كما أوجب لكم حقًا على من لكم عليه ولاية، وأمره باحترامه والقيام به، فكذلكم أوجب عليكم حقًا لمرؤوسيكم ومن في سلطانكم، ومن تحت رعايتكم، وآذنكم بخطورته، وعظم مسؤوليته على لسان رسوله بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته». فاتقوا الله فيما استرعاكم الله فيه، وأدوا ما أوجبه الله عليكم من حقوق مرؤوسيكم ورعاياكم تكونوا من خير الأمة الذين قال الرسول فيهم - صلى الله عليه وسلم -: «إن خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم » وتبتعدوا عمن عناهم - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم».(3/96)
وإن أعظم تلكم الحقوق إقامة العدل بينهم، والإحسان بهم، وخفض الجناح لمؤمنهم؛ يقول تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ( [النساء: 58]. ويقول: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ( [النحل: 90]. ويقول: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ( [الشعراء: 215]. كما وأن من حق الرعية عليكم أن تحوطوهم بالنصح، وأن تسعوا بإخلاص وجد فيما يجلب لهم النفع، ويدرأ عنهم الضرر، وأن تتجنبوا كل ما يثير نفوس أفراد الرعية، ويعرضهم للحقد والمنازعة كالاستئثار بالمصالح، ومعاملتهم بالشدة والقسوة، وتكليفهم ما يعنتهم ويشق عليهم ونحو ذلك، مما يسبب بغض الرعية للراعي، ويعرضه للمنازعة في الدنيا، وللعذاب الأليم في الآخرة. يقول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري ومسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة».
وفي رواية لمسلم: «ما من أمير يلي أمور المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة».
وروي عن عائذ بن عمرو، رضي الله عنه أنه دخل على عبيد الله بن زياد، فقال: أي بني: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن شر الرعاة الحطمة، وإياك ان تكون منهم»، والحطمة هو الشديد الغليظ القاسي، قليل الرحمة والشفقة والحنان، ويقول مستجاب الدعوة -- صلى الله عليه وسلم -- «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فأشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فأرفق به».
أقول قولي هذا، وأسأل الله تعالى أن يوفق ولاة أمور المسلمين، حماة الإسلام لما فيه صلاح دينهم ورعاياهم. إنه تعالى مسئول، غفور رحيم.
115- موعظة وذكرى(3/97)
الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، أحمده سبحانه وأتوكل على الحي الذي لا يموت وأسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيقول الله سبحانه وتعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ( [الروم40].
عباد الله لقد أوجدنا الله تبارك وتعالى في هذه الدنيا من عدم وأسدى إلينا تعالى فيها ألوانًا شتى من أنواع النعم وأبلغنا فيها بأوامر وزواجر، وأخبرنا أننا سنموت بعد الميتة التي كتبها تعالى علينا ثم سيحيينا بعد حياة البعث والنشور والجزاء والحساب والثواب والعقاب على ما كان لتلكم الأوامر والنواهي من أصداء وآثار في نفوسنا وواقع حياتنا (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ( [الملك: 2].(3/98)
ولقد أنذرنا بذلكم، أنذر الزمان ووعظتنا به من قبل مواعظ القرآن التي كثيرًا ما تقرع أسماعنا قرعًا والتي لو أنزلت على جبل لرأيتموه خاشعًا متصدعًا يقول سبحانه: (الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ *( [القارعة: 1-11]. ويقول: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ( [الأنبياء: 3]. فهل من مذكر أيها الأخوة فلقد جاءنا – وايم الله- من الأنباء ما فيه مزدجر، جاءنا ما ينذر بتصرم الأيام وتقصم الأعمار قيد المنون كما تشاهدون مرسلة آناء الليل وآناء النهار –جاءنا ما ينذر ويذكر بنهاية كل منا، ورجوعه إلى الله ومساءلة الله له عما ولاه فيه مهما طال عمره أو كان أمره (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ( [العنكبوت: 57]، (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ( [الصافات: 26]. ولا عجب أيها الأخوة، فلكم شهدت الدنيا كثيرًا وكثيرًا ممن عمروها أكثر مما عمرناها نحن من كانوا فيها أعزة أقوياء أغنياء قادرين على كثير مما يشاءون من إصلاح وأمر ونهي فتعجلتهم أحداثها قبل ذلك، أو طوتهم المنون فحيل بينهم وبين ما يشتهون لا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون وأصبحوا مرتهنين ينتظرون وضع الموازين من لدن أحكم الحاكمين وأعدل العادلين الذي لا يظلم مثقال ذرة (وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ(3/99)
مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً( [النساء: 40]. والذي يقول وقوله الحق: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ( [الأنبياء: 47].
وكم شهدنا نحن وفقدنا من أقران كانوا بالأمس معنا زينة المجالس وبهجة القلوب وأنس النفوس، يذكروننا بالله وأيامه قد ضمتهم اللحود وخلت منهم ثغر الإصلاح ومواطن الدعوة ومواقع الركوع والسجود، ولو نطقوا لقالوا إخواننا تزودوا فإن خير الزاد التقوى فنحن سلفكم وأنتم في الأثر ولقد جاءكم من الأنباء ما فيه مزدجر.(3/100)
فاتقوا الله –عباد الله- وتذكروا يوم النقلة والرجوع إلى الله وماذا ستقدمون عليه به، يوم أن تودعوا الثرى ويتخلى عنكم الأهل والأصدقاء يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون، يوم يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي تذكروا ذلكم دائمًا تذكر من يريد إصلاح ما به من فساد، والاستزادة كثيرًا مما هو فيه من خير وبر وهدى ورشاد. وخذوا من قوتكم وعزكم لضعفكم وذلكم خذوا من سعتكم وغناكم لضيقكم وفقركم خذوا من عافيتكم وحياتكم لبلائكم وموتكم، خذوا ليوم تعنو فيه الوجوه للحي القيوم، ويخيب فيه من حمل ظلمًا فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار يقول تعالى وقوله الحق: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ( [الزمر: 61]. ونستغفرك اللهم ونتوب إليك.
116- موعظة وتذكير بحاجة المسلم إلى ما يقدمه لغيره(3/101)
الحمد لله الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء والظاهر الذي ليس فوقه شيء والباطن الذي ليس دونه شيء، أحمده سبحانه خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإن الله جلت قدرته وتعالت أسماؤه بحكمة بالغة وقدرة باهرة أوجدنا في هذه الدنيا من عدم أوجدنا فيها لا للدوام والبقاء ولكن للموت والفناء (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ( [الرحمن: 27].
لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلكم يصير إلى تباب(3/102)
فما من نفس في هذه الدنيا إلا وهي ذائقة الموت مهما طال عمرها أو عظم شأنها أو كثر مالها وولدها (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ( [العنكبوت: 57]. وإن الله سبحانه وتعالى قد أعلمنا بسر هذا الإيجاد وحكمته في هذه الدنيا الفانية وما يتطلبه الانتقال منها بعد إلى الآخرة الباقية بقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ( [الذاريات: 58]. وقوله في الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه تبارك وتعالى قال: يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي لو أن أو لكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».(3/103)
وإنه ليجدر بالعاقل الذي علم أنه أوجد في هذا الكون لحكمة وأنه سيموت بعد هذا الإيجاد ولا يدري في أي أرض أو في أي ساعة يموت، وأنه سوف لا ينفعه ويصحبه إذا انتقل من هذا العالم الدنيوي الفاني إلى ذلكم العالم الأخروي الباقي إلا ما قدمه في حياته من أعمال بر وخير وهدى، أن ينظر دائمًا نظر المستزيد إلى ما قدمه لغده، إلى ما ينفعه عند الله ما دام حيًا سويًا قادرًا صحيحًا شحيحًا يخشى الفقر ويأمل الغنى امتثالاً لأمر الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ( [الحشر: 18]. (يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ( [النبأ: 40]. (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى( [البقرة: 197]. وقول رسول - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات ابن آدم تبعه ثلاثة ماله وأهله وعمله فيرجع اثنان المال والأهل ويبقى واحد وهو العمل»، «إذا مات ابن آدم قالت الملائكة: ما قدم وقال الناس: ما أخر».
وقوله: «من ماله أحب إليه من مال وارثه» قالوا: "كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه قال: «مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر».(3/104)
فاتقوا الله أيها المسلمون، وأطيعوا الله فيما أمركم به من تقواه، أطيعوه فيما أمركم به من النظر إلى ما قدمت وتقدمونه لغدكم أطيعوا الله فيما أمركم به من المسارعة والمسابقة في الأعمال الصالحة والاستزادة منها، ووجهوا أنفسكم دائمًا لذلك وألزموها وعظوها وذكروها بآثارها ونفعها عند الله سبحانه ذكروها بأن الموت قد لا يمهلها لتعمل ما تنوي عمله فقد يكون أقرب إليها وقت التفكير فيه من شراك نعلها أو حبل وريدها، وأنها سوف لا تنقل معها إذا انتقلت إلى الآخرة بما شيدته في هذه الدنيا من قصور ولا بما جمعته فيها من أموال ولا بما ولته فيها من ولاية ولا بشيء مما التذت به فيها من متع الحياة ولو جمع لها فيها ما ذكر في قول الله سبحانه: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ( [آل عمران: 14]. ولكنها ستنتقل وحيدة بالحالة التي خرجت على الدنيا بها من بطن أمها، مخلفة لما جمعت فيها من أموال مكدسًا وراءها، يتقدمها إلى الآخرة حسابه وإثمه إن كانت آثمة فيه (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ( [الأنعام: 94]. وإن الشأن في هذه الدنيا ليس هو تحصيل شيء من متع الحياة حتى ولو جمع للإنسان فيها ما جمع في قول الله: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ( [آل عمران: 14]. ولكن الشأن كل الشأن والأمر الهام الذي ينبغي أن تمتزج العناية به والحرص عليه بلحم الإنسان ودمه، هو أن يوفق الإنسان في هذه الحياة لعمل صالح يكون سببًا لنجاته وزحزحته من النار وفوزه برضى الله ورضوانه، يوم أن توافيه المنية التي كتبها الله عليه بقوله سبحانه (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ(3/105)
الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ( [آل عمران: 185].
117- (موعظة)
عباد الله إن العجب كل العجب من إنسان عاقل أخبر أنه سيسلك طريقًا شائكًا وعرًا مليئًا بالمخاوف والمزعجات والمهالك وأن عليه أن يتصور هذه المخاوف والمخاطر والمهالك ويتصور آثارها على مستقبله الأبدي والذي أخبره أصدق القائلين وأوفى الواعدين الذي أحاط بكل شيء علمًا.
ومع ذلك تراه غافلاً لا اهتمام له بذلك منصرفًا عن الابتعاد عن هذه المهالك والمزلات الفظيعة ومشتغلاً بالدنايا والأمور التافهة من شئون الدنيا الملعونة الملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه.
وما أصيب الإنسان بمرض أشد من الغفلة الذي ربما تحول إلى جمود وقسوة ثم إلى لجاج وعناد ثم إلى كفر وجحود نسال الله تعالى العافية.
ومن أكبر الأدلة على حمق الإنسان وغباوته وجهله أنه يكد ويشقى من أجل مستقبل مهما طال فلن يجاوز الثمانين غالبًا وإن تجاوزها فهو كالمعدوم.
ومع هذا فيهمل إهمالاً كليًا أو جزئيًا العمل من أجل مستقبل لا نهاية له مستقبل الأبد مستقبل الخلود فيا لها من خسارة لا عوض لها ولا جبر منها ولا أمل في تلافيها.
فيا أيها الغافل انتبه واستعد لما أمامك وتصوره تصورًا صحيحًا يظهر أثره في جدك واجتهادك فيما يقربك إلى الله لا يفاجئك الأمر وأنت غافل فيفوتك زمن الإمكان وتندم وتحسر قال تعالى وتقدس: (أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ( [النحل: 1].
وقال الله جل وعلا: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ( [الأنبياء: 1]. وقال تعالى: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ( [مريم: 39]. وقال تعالى: (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ( [يونس: 30]. وقال تعالى: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ( [الزمر: 56].(3/106)
إن الذين غمر الإيمان قلوبهم واستحوذت معرفتهم على مشاعرهم ووجدانهم هم الذين أيقنوا بلقاء ربهم وسماع الحكم منه في مصائرهم، هؤلاء هم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقهم الله ينفقون.
الذين قال الله تعالى مخبرًا عنهم: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( [القصص: 54]. (الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ( إلى قوله: (أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ( [المؤمنون: 57 - 61].
الذين إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق الآية: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ( [الأنفال: 2].
(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً( [الفرقان: 64]. هؤلاء هم الذين رعوا للدين حرمته واحترموا آدميتهم وكرامتهم ووفقهم الله جل وعلا فبنوا لأنفسهم صروح المجد الخالد والعز الباقي والسعادة الأبدية.
ولا يبعد أن يكون من هؤلاء المذكورين الموصوفين بالصفات الحميدة القائل لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف ومنهم الباكي حين حضرته الوفاة القائل إني لم أبك جزعًا من الموت حرصًا على الدنيا ولكن أبكي على عدم قضاء وطري من طاعة ربي وقيام الليل أيام الشتاء.
ومنهم الباكي عند ما تفوته تكبيرة الإحرام مع الجماعة ومنهم الذي يمرض إذا فاتته الصلاة مع الجماعة.(3/107)
ومنهم القائل لم أصل الفريضة منفردًا إلا مرتين وكأني لم أصلهما مع أنه قارب التسعين سنة.
ومنهم لم تفته صلاة الجماعة أربعين سنة إلا مرة واحدة حين ماتت والدته اشتغل بتجهيزها.
والقائل حين ما قال له رجل أراك تكثر من حمد الله وشكره مع أنه ابتلاك ببلاء ما ابتلى أحدًا بمثله الجذام في أطرافك وتمزقت الثياب على جسدك ولا زوجة لك ولا ولد ولا دار ولا أهل فما شأنك فقال المبتلى:
شعرًا:
حَمِدْتُ اللهَ رَبِّي إِذْ هَدَانِي ... إِلى الإِسْلامِ وَالدِّيْن الحَنِيْفِ
فَيذكُرهُ لِسَانِي كُلَّ وَقْتٍ ... وَيَعْرفُه فُؤادِي بِاللطَيْفِ
وكان بعض الموفقين المحاسبين لأنفسهم يكتب الصلوات الخمس في قرطاس ويدع بين كل صلاتين بياضًا.
وكلما ارتكب خطيئةً من كلمة غيبة أو استهزاء أو كذب كذبة أو تكلم فيما لا يعنيه أو نظر إلى ما لا يحل نظره إليه أو استمع إلى ما لا يحل الاستماع إليه أو أكل مشتبها أو مشى إلى ما لا يحل أو مد يده إلى ما لا يجوز مدها إليه ذكره في هذا البياض ليعتبر ذنوبه ويحصيها حسب قدرته لتضيق المحاسبة مجاري الشيطان والنفس الأمارة بالسوء.
ومقام محاسبة النفس يقلل الكلام فيما لا يعني ويحمل الإنسان على تقليل الذنوب وعلى الإكثار من الطاعات لمقابلة ما صدر منه ولكن هذا الطراز يعز وجوده في زماننا هذا.
نقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر على الله (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ( [الحاقة: 18].
فالمحاسبة تكون بضبط الحواس ورعاية الأوقات وإيثار المهمات وحفظ الأنفاس والحرص على أداء العبادات كاملة وبالأخص الصلاة فيكملها بشروطها المذكورة وأركانها وواجباتها وسننها بخشوع وخضوع وطمأنينة وسكون.(3/108)
والعبد يحتاج إلى السنن الرواتب لتكميل الفرائض ويحتاج إلى النوافل لتكميل السنن ويحتاج إلى الآداب لتكميل النوافل ومن الآداب ترك ما يشغل عن الآخرة.
قال بعضهم إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام وما أكمل لله صلاة، قيل وكيف ذاك؟ قال لا يتم خشوعها وتواضعها وإقباله على الله فيها.
روي عن بعض أهل العلم في قول الله جل جلاله (وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ( [البقرة: 238] قال القنوت الخشوع في الركوع والسجود وغض البصر وخفض الجناح من رهبة الله عز وجل.
وكان العلماء إذا قام أحدهم للصلاة هاب أن يلتفت أو يعبث أو يحدث نفسه بشيء من شئون الدنيا إلا ناسيًا.
وبلغنا عن بعض أهل العلم أنه قال: ركعتان خفيفتان مقتصدتان في تفكر وتدبر وتفهم لما يقوله ويفعله خير من قيام ليلة والقلب ساه في أودية الدنيا.
فالواجب على الإنسان إذا كان في الصلاة أن يجعلها همه ويقبل عليها مفرغًا قلبه وفكره من كل ما يشتته ليؤديها كاملة مكملة.
فإنه ليس له منها إلا ما عقل منها من معاني الفاتحة وما يقرأ من القرآن ومعاني الركوع والسجود والقيام بين يدي الله ومعاني العبودية والمناجاة ومعاني التحيات والتكبيرات.
فكم بين رجلين أحدهما قد أشعر قلبه عظمة خالقه الذي هو واقف بين يديه فامتلأ قلبه من هيبته وذلت له عنقه واستحي من ربه أن يقبل على غيره أو يلتفت عنه.
وآخر قد انصرف قلبه إلى الدنيا يفكر فيها ملتفتًا يمينًا وشمالاً ولا يفهم ما يخاطب به لأن قلبه ليس حاضرًا معه فبين صلاتيهما كما قال بعض أهل العلم: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض وذلك أن أحدهما مقبل على الله عز وجل بقلبه والآخر ساه غافل يفكر في البيوع والخصومات والأماني والخسارات قد ذهب قلبه كل مذهب في أودية الدنيا.(3/109)
وروي أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يصلي في نخل له فشغل بالنظر إلى النخل فسها في صلاته فاستعظم ذلك وقال أصابني في مالي فتنة فجعل النخيل في الأرض صدقة في سبيل الله فبلغ ثمن النخيل خمسين ألفًا.
فلو أن الواحد منا إذا فاتته الصلاة مع الجماعة تصدق في عشرة فقط لما فاتتنا الصلاة مع الجماعة إلا نادرًا ورأيت ما يسرك من المحافظة على الصلاة وكثرة الجماعة وهذا علاج من أحسن العلاجات.
وينبغي استعماله عندما يصدر كذب أو غيبة أو نظر محرم أو سماع محرم أو نحو ذلك مما يقوله الإنسان أو يفعله عمدًا أو سهوًا ليتأدب ويستقيم ويقتدي به. اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة اغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
118- آخر: (موعظة نصيحة)
يسمو قدر الإنسان وتعلو درجته ومنزلته عند الله جل وعلا وعند خلقه بقدر ما يكون له من استقامة وطهارة قلب وسلامة صدر وحب للخير لجميع المسلمين وبعد عن الشر والأذى وتضحية بالنفس والمال في سبيل الله وما يقرب إلى الله وقد امتدح الله إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام على ما وهبه له من سلامة قلب وعزة نفس وصدق عزيمة وقوة إيمان.
قال تعالى لما ذكر نوحًا عليه السلام وأثنى عليه أعقبه بذكر الخليل فقال: (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ( [الصافات: 84] ومن دعاء إبراهيم عليه السلام: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ( [الشعراء: 89]
وسلامة القلب خلوصه من الشرك وقيل هو القلب الصحيح وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض وقيل هو القلب السالم من البدعة المطمئن إلى السنة انتهى.(3/110)
قلت والذي أرى أن السلامة الكاملة للقلب هي خلوصه من الشرك والشك والنفاق والرياء وخلوه من الكبر والحقد والحسد والعجب والمكر السيئ والغل والخيلاء.
ونقاؤه من الأمراض التي تكدر الصفو وتشتت الشمل وتخل بالأمن وتقطع الروابط والصلات بين المسلمين وتورث الضغائن والأحقاد وتولد العداوة والبغضاء بين المؤمنين.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه: «اللهم إني أسألك قلبًا سليمًا» فالقلب السليم هو السالم من الآفات والمكروهات كلها وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله وخشيته وخشية ما يباعد عنه.
وقد اكتفى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذكر سلامة القلب لأن القلب إذا صلح صلح الجسد كله كما في الحديث وإذا فسد فسد الجسد كله.
ولأن القلوب إذا سلمت سلمت الجوارح اليد واللسان من الأذى والشرور وسلمت أموال الناس وأرواحهم وأعراضهم وقلت الشرور والجرائم والآثام وقيل إن لقمان كان عبدًا حبشيًا فدفع إليه سيده شاة وقال اذبحها وائتني بأطيب مضعتين منها فأتاه بالقلب واللسان ثم بعد أيام أتاه بشاة أخرى.
وقال له اذبحها وائتني بأخبث مضغتين منها فأتاه بالقلب واللسان فسأله سيده عن ذلك فقال هما أطيب شيء إذا طابا وأخبث شيء إذا خبثا.
وذكر العلماء أن صلاح القلب:
(1) في قراءة القرآن بالتدبر والتفكر فيه وفيما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(2) في تقليل الأكل.
(3) قيام الليل وإحياؤه بالعبادة.
(4) التضرع عند السحر.
(5) مجالسة الصالحين.
(6) الصمت عما لا يعني.
(7) العزلة عن أهل الجهل والسفه ومن فرطت أعمارهم.
(8) ترك الخوض مع الناس فيما لا يعني.
(9) أكل الحلال وهو رأسها فإنه ينور القلب ويصلحه فتزكوا بذلك الجوارح وتدرأ المفاسد وتكثر المصالح فأكل الحرام والمشتبه يصدي القلب ويظلمه ويقسيه وهو من موانع قبول الدعاء.(3/111)
وقد قيل يخاف على آكل الحرام والشبهة أن لا يقبل له عمل ولا يرفع له دعاء لقوله تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ( [المائدة: 27] وآكل الحرام والمسترسل مع المشتبهات ليس بمتق على الإطلاق.
روى عن بعض أهل العلم أن الشيطان يقول خصلة من ابن آدم أريدها ثم أخلي بينه وبين ما يريد من العبادة أجعل كسبه من غير حل إن تزوج تزوج من حرام وإن أفطر أفطر على حرام، وإن حج حج من حرام اهـ.
فالحذر الحذر من الحرام في طلب القوت، فقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً( [المؤمنون: 51] وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ( [البقرة: 172].
ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء ويقول: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنى يستجاب لذلك.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال تليت هذه الآية عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً( [البقرة: 168].
فقام سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه فقال يا رسول الله أدع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يومًا وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به». رواه الطبراني في الصغير.(3/112)
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال من اشترى ثوبًا بعشرة دراهم وفيه درهم من حرام لم يقبل الله عز وجل له صلاة ما دام عليه قال ثم أدخل أصبعيه في أذنيه ثم قال صُمنَّا إن لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمعته يقوله. رواه أحمد.
وروى أبو داود في المراسيل عن القاسم بن مخيمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من اكتسب مالاً من إثم فوصل به رحمه أو تصدق به أو أنفقه في سبيل الله جمع ذلك كله جميعًا فقذف به في جهنم».
وروي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اشترى سرقة وهو يعلم أنها سرقة فقد اشترك في عارها وإثمها». وراه البيهقي.
اللهم يا عالم الخفيات ويا سامع الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يا خالق الأرض والسموات أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يكن له كفوًا أحد الوهاب الذي لا يبخل والحليم الذي لا يعجل لا راد لأمرك ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر ذنوبنا وتنور قلوبنا وتثبت محبتك في قلوبنا وتسكننا دار كرامتك إنك على كل شيء قدير وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
119- موعظة
قال الله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ( [الذاريات: 55]. وقال: (فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى( [الأعلى: 9]. وقال تعالى: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ( [ق: : 45]. فيا عباد الله لقد خاطب الله المؤمنين بقوله: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ( [آل عمران: 110]. خاطبهم بهذا الخطاب الرائع ووصفهم بهذا الوصف العظيم، بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وأن مجتمعهم أعلا وأعز مجتمع في لعالم حاضره وماضيه لما اتصفوا به من الصفات الفاضلة، والأخلاق العالية، والغيرة الصادقة، على حدوده.(3/113)
وهذا الوصف وقت إن كانوا متمسكين بتعاليم دينهم، وكان الإسلام وبهاؤه يلوح في أعمالهم، ومعاملاتهم، وأخلاقهم فلا غش ولا خداع ولا كذب، ولا خيانة ولا غدر، ولا نميمة، ولا غيبة، ولا ظلم ولا نفاق ولا رشا ولا ملق ولا رياء ولا بهت ولا سخرية ولا عقوق ولا قطيعة.
هدفهم القضاء على المنكرات وإماتتها، وإعزاز المعروف ونشره بين المسلمين، وهذا يدل على قوة إيمانهم، وشدة تمسكهم به ورغبة في النجاة التي وعد الله بها الناهي عن السوء، قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ( [الأعراف: 165].
فيا عباد الله تأملوا حالتنا الحاضرة، وحالة سلفنا الكرام الذين كانوا كل منهم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويرحم كبيرهم الصغير ويوقر الصغير الكبير، يتآمرون بالمعروف، ويتناهون عن المنكر، ينصفون حتى الأعداء من أنفسهم وأولادهم.
فالقوي عندهم ضعيف، حتى يستوفى منه الحق، والضعيف عندهم قوي حتى يؤخذ حقه إذا فقدوا أخاهم بحثوا عنه فإن كان مريضًا عادوه وساووه وإذا مات شيعوه، وإن احتاج أقرضوه، وواسوه وإن نزل عليهم أكرموه.
عاملين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، وحديث: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا».
أما نحن فحالتنا حالة مخيفة جدًا لأننا على ضد ما ذكرنا من حالة سلفنا ولا حاجة إلى تكرار، ألق سمعك وقلب نظرك، وأحضر قلبك ترى ذلك بعين بصيرتك وترى ما يخيفك ويقلق راحتك ويقض مضجعك من المنكرات في البيوت والأسواق والبر والبحر.(3/114)
وإن شككت ففتش على نفسك تجد ذلك، فالمنكر نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا بل وفي بيوتنا فهل بيتك خال من صور ذوات الأرواح هل هو خال من المذياع، هل هو خال من التلفزيون، والسينماء والبكمات ومسجلات الأغاني، هل هو خال من شراب المسكرات، هل ما يأتي لبيتك إلا أناس طيبين طاهري الأخلاق، هل هو خال من حالقي اللحى هل هو خالي من المخنفسين ومطيلي أظفارهم تشبهًا باليهود، وهل هو خال من المتشبهين بالمجوس والمتشبهين بالإفرنج، هل هو خال ممن لا يشهدون صلاة الجماعة أو لا يصلون أبدًا، هل هو خال من النساء القاصات لرءوسهن المطيلات لأظفارهن، هل هو خال من شراب أبي الخبائث الدخان، ونحوه من المنكرات وأما في الأسواق فحدث عن كثرة المنكرات ولا حرج على حد قول المتنبي:
وَقَدْ وَجَدَتُ مَكَانَ القَوْلِ ذا سَعةٍ ... فَإِنْ وَجَدْتَ لِسَانًا قَائِلاً فَقُلِ
ومع ذلك فلا ألسنة تنطق ولا وجوه تتمعر إلا النوادر، الموجود هو التلاوم والقيل والقال، والمداهنة، والجلوس مع أهل المعاصي، ومحادثتهم ومباشرتهم وإظهار البشر لهم وتعظيمهم وتقليدهم في الأقوال والأفعال.
فيا عباد الله اتقوا الله واسلكوا طريق سلفكم واصدعوا بالحق وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، قيل أن يحل بكم ما حل بمن قبلكم، وتضرب قلوب بعضكم على بعض، قبل فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، قبل أن تلعنوا كما لعن الذين من قبلكم، بسبب عدم تناهيهم عن المنكر.
قال الله تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ( [المائدة: 79](3/115)
فيا عباد الله إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن أعظم الشعائر الإسلامية، وأقوى الأسس التي يقوم عليها بناء المجتمعات النزيهة الراقية، فإذا لم يكن أمر ولا نهي أو كان ولكن كالمعدوم، فعلى الأخلاق والمثل العليا السلام، ويل يومئذ للفضيلة من الرذيلة، وللمتدينين من الفاسقين والمنافقين.
فيا عباد الله تداركوا الأمر قبل أن يفوت الأوان وتعضوا على البنان فقد قال لكم سيد ولد عدنان من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.
عباد الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نأمن بإذن الله على الدين من الاضمحلال والتلاشي، ونأمن بإذن الله على الأخلاق الفاضلة من الذهاب والانحلال، والحذر الحذر من مخالفة القول للفعل، فتأثير الدعوة بالفعل أقوى بكثير من الأقوال المجردة من الأفعال.
وفي المسند وغيره من حديث عروة عن عائشة قالت دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد حفزه النفس فعرفت في وجهه أن قد حفزه شيء، فما تكلم حتى توضأ وخرج فلصقت بالحجرة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال أيها الناس إن الله عز وجل يقول لكم مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم.
وقال العمري الزاهد إن من غفلتك عن نفسك وإعراضك عن الله أن ترى ما يسخط الله فتجاوزه، ولا تنهى عنه، خوفًا ممن لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، قلت وما أكثر المدلسين الساكتين الذين يمرون بالجالسين أمام التلفزيون وعند المذياع والكورة بل ولا يأمرونهم بالتي هي أحسن ويمرون بأولادهم في فرشهم ولا يوقظونهم للصلاة وكأن أمرهم أمر مباح إن شاء أنكر وإن شاء ترك وقال من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخافة من المخلوقين نزعت منه الطاعة، ولو أمر ولده أو بعض مواليه لا استخف بحقه.(3/116)
وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب: توشك القرى أن تخرب وهي عامرة قيل وكيف تخرب وهي عامرة، قال إذا علا فجارها أبرارها وساد القبيلة منافقوها قلت ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا( [الإسراء: 16].
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين اللهم وعافنا من محن الزمان وعوارض الفتن فإنا ضعفاء، عن حملها وإن كنا من أهلها فعافيتك أوسع يا واسع يا عليم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
آخر:
120- موعظة
إخواني: إن قيام الليل كما علمتم فيه فضل عظيم وثواب جزيل لمن وفقه الله جل وعلا، وهو من أثقل شيء على النفس ولا سيما بعد أن يرقد الإنسان، وإنما يكون خفيفًا بالاعتياد، وتوطين النفس وتمرينها عليه والمداومة والصبر على المشقة والمجاهدة في الابتداء، ثم بعد ذلك ينشرح وينفتح باب الأنس بالله وتلذ له المناجاة والخلوة، وعند ذلك لا يشبع الإنسان من قيام الليل، فضلاً عن أن يستثقله أو يكسل عنه كما وقع لكثير من السلف. قال بعضهم: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم ويا بُعد ما بين الحالتين، فسبحان من وفق أقوامًا فتقربوا إليه بالنوافل، وأبعد بحكمته وعدله آخرين فهم عن ما ينفعهم في حاضرهم ومآلهم غافلون.
شعرًا:
ذُنُوْبُكَ يَا مَغْرُورُ تُحْصَى وَتُحْسَبُ ... وَتُجمَعُ في لَوْحٍ حَفِيْظٍ وَتُكْتَبُ
وَقَلْبُكَ في سَهْوٍ وَلَهْوٍ وَغَفْلةٍ ... وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا حَرِيْصٌ مُعَذَّبُ
تُبَاهِيْ بِجَمْيِع المَالِ مِنْ غَيْرِ حِلَّهِ ... وَتَسْعَى حَثِيْثًا فِي المَعَاصِيْ وَتُذْنِبُ
أَمَّا تَذْكُرُ المَوْتَ المُفَاجِيْكَ فِي غَدٍ ... أَمَا أَنْتَ مِنْ بَعْدِ السَّلامَةِ تَعْطَبُ(3/117)
أَمَا تَذْكُرُ القَبْرَ الوَحِيْشَ وَلَحْدَهُ ... بِهِ الجُسْمُ مِن بَعْدِ العَمَارَةِ يَخْرُبُ
أَمَا تَذْكُرُ اليَوْمَ الطَّوِيْلَ وَهُو لَهُ ... وَمِيْزانَ قِسْطٍ لِلْوَفَاءِ سَيُنْصَبُ
تَرُوْحُ وَتَغْدُو فِي مَرَاحِكَ لاهِيًا ... وَسَوْفَ بِأَشْرَاكِ المَنِيَّةِ تَنْشَبُ
تُعَالِجُ نَزْعَ الرُّوْحِ مِنْ كُلِّ مَفْصِلٍ ... فَلا رَاحِمٍ يُنْجِي وَلا ثَمَّ مَهْرَبُ
وَغُمضَتِ العَيْنَانِ بَعْدَ خُرُوجِهَا ... وَبُسِّطَتْ الرِّجْلانِ وَالرَّأَسُ يُعْصَبُ
وَقَامُوا سِرَاعًا فِي جَهَازِكَ أَحْضَرُوا ... حَنُوطًا وَأَكْفَانًا وِلِلْمَاءِ قَرَّبُوا
وَغَاسِلُكَ المَحْزُونُ تَبْكِي عُيُونُهُ ... بِدَمْعٍ غَزِيْرٍ وَاكِفٍ يَتَصَبَّبُ
وَكُلُّ حَبِيْبٍ لُبُّهُ مُتَحَرِّقٌ ... يُحَرِّكُ كَفَّيْهِ عَلَيْكَ وَيََنْدُبُ
وَقَدْ نَشَرُوا الأَكْفَانَ مِنْ بَعْدِ طَيِّهَا ... وَقَدْ بَخَّرُوا مَنْشُورَهُنَّ وَطَيَّبُوا
وَأَلْقَوْكَ فِيْمَا بَيْنَهُنَّ وَأَدْرَجُوا ... عَلَيْكَ مَثَانِي طَيَّهُنَّ وَعَصَّبُوا
وَفِي حُفْرَةٍ أَلْقَوكَ حَيْرانَ مُفْرَدًا ... تَضُمَّكَ بَيْدَاءٌ مِنَ الأَرْضِ سَبْسَبُ
إِذَا كَانَ هَذَا حَالُنَا بَعْدَ مَوْتِنَا ... فَكَيْفَ يَطِيْبُ اليَومَ أَكْلٌ وَمَشْرَبُ؟!
وَكَيْفَ يَطِيْبُ العَيْشُ وَالقَبْرُ مَسْكنٌ ... بِهِ ظُلُمَاتٌ غَيْهَبٌ ثُُمَّ غَيْهَبُ
وَهَوْلٌ وَدِيْدَانٌ وَرَوْعٌ وَوَحْشَةٌ ... وَكُلُّ جَدِيْدٍ سَوْفَ يُبْلَى وَيَذْهَبُ
فَيَا نَفْسُ خَافِي اللهَ وَارْجِي ثَوَابَهُ ... فَهَادِمُ لَذَّاتِ الفَتَى سَوْفَ يَقْرُبُ
وَقُولِي إِلَهي أَوْلِنِي مِنْكَ رَحْمَةً ... وَعَفْوًا فَإِنَّ اللهَ لِلْذَنْبِ يُذْهِبُ
وَلا تُحْرِقَنْ جِسْمِي بِنَارِكَ سَيِّدِيْ ... فَجِسْمِيْ ضَعِيفٌ وَالرَّجَا مِنْكَ أَقْرَبُ(3/118)
فَمَا لِي إِلا أَنْتَ يَا خَالِقَ الوَرَى ... عَلَيْكَ إِتِّكَالِي أَنْتَ لِلْخَلْقِ مَهْرَبُ
وَصِلِّي إِلهي كُلَّمَا ذَرَّ شَارِقٌ ... عَلَى أَحْمَدَ المُخْتَارِ مَا لاح كَوْكَبُ
اللهم إنا نعوذ بك من الشك بعد اليقين، ومن الشيطان الرجيم، ومن شدائد يوم الدين، ونسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم ارحمنا إذا عرق الجبين واشتد الكرب والأنين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله أجمعين.
121- "موعظة"
فيا أيها المهملون الغافلون تيقظوا فإليكم يوجه الخطاب ويا أيها النائمون انتبهوا قبل أن تناخ للرحيل الركاب قبل هجوم هادم اللذات ومفرق الجماعات ومذل الرقاب ومشتت الأحباب فيا له من زائر لا يعوقه عائق ولا يضرب دونه حجاب، ويا له من نازل لا يستأذن على الملوك ولا يلح من الأبواب، ولا يرحم صغيرًا ولا يوقر كبيرًا ولا يخاف عظيمًا ولا يهاب، ألا وإن بعده ما هو أعظم منه من السؤال والجواب، ووراءه هول البعث والحشر وأحوال الصعاب من طول المقام والازدحام في الأجسام والميزان والصراط والحساب، اللهم أيقظ قلوبنا ونورها بنور الإيمان وثبت محبتك في قلوبنا وقوها وارزقنا المعرفة بك عن بصيرة وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لطاعتك وامتثال أمرك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
122- "موعظة"(3/119)
عباد الله: تصرمت الأعوام عامًا بعد عام، وأنتم في غفلتكم ساهون نيام. أما تشاهدون مواقع المنايا، وحلول الآفات والرزايا. وكيف فاز وأفلح المتقون، وكيف خاب وخسر المبطلون المفرطون فيا ليت شعري على أي شيء تطوى صحائف الأعمال أعلى أعمال صالحة وتوبة نصوح تُمحى بها الآثام، أم على ضدها فليتب الجاني إلى ربه، فالعمل بالختام. فاتقوا الله عباد الله واستدركوا عمرًا ضيعتم أوله، فإن بقية عمر المؤمن لا قيمة له. فرحم الله عبدًا اغتنم أيام القوة والشباب، وأسرع بالتوبة والإنابة قبل طي الكتاب، وأخذ نصيبًا من الباقيات الصالحات، قبل أن يتمنى ساعة واحدة من ساعات الحياة. أين من كان قبلكم في الأوقات الماضية، أما وافتهم المنايا وقضت عليهم القاضية، أين آباؤنا وأين أمهاتنا أين أقاربنا، وأين جيراننا أين معارفنا وأين أصدقاؤنا. رحلوا إلى القبور وقل والله بعدهم بقاؤنا. هذه دورهم فيها سواهم، هذا صديقهم قد نسيهم وجفاهم. أخبارهم السالفة تزعج الألباب، وادِّكارهم يصدع قلوب الأحباب. وأحوالهم عبرة للمعتبرين. فتأملوا أحوال الراحلين، واتعظوا بالأمم الماضين، علل القلب القاسي يلين. وانظروا لأنفسكم ما دمتم في زمن الإمهال، واغتنموا في حياتكم صالح الأعمال، قبل أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله، فيقال هيهات فات زمن الإمكان، وحصل الإنسان على عمله من خير أو عصيان. فنسألك اللهم يا كريم يا منان، أن تختم أعمالنا بالعفو والغفران، والرحمة والجود والامتنان، وأن تجعل وقتنا مباركًا حميدًا، وترزقنا فيه رزقًا واسعًا وتوفيقًا وتسديدًا. الله اختم بالصالحات أعمالنا، وأصلح لنا جميع أحوالنا.
اللهم يا من عم البرية جوده وإنعامه نسألك أن تتفضل علينا بعفوك وغفرانك، وجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
123- "موعظة"(3/120)
عباد الله إن الناس في هذا الزمن لم يعرفوا ربهم المعرفة التي تليق بجلاله وعظمته ولو عرفوه حق المعرفة لم يكونوا بهذه الحال لأنه من كان بالله أعرف كان منه أخوف إن العارف بالله يخشاه فتعقله هذه الخشية بإذن الله عما لا ينبغي من الأقوال والأفعال قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء( [فاطر: 28]
العارف بالله لا يجرؤ أن يحرك لسانه بكلمة من المنكرات أفعال أو أقوال كالغيبة والنميمة والكذب والقذف والفسق والسخرية والاستهزاء ونحو ذلك ولا يستعمل عضوًا من أعضائه في عمل ليس بحلال بل يكف بصره وسمعه ويده ورجله عن المحرمات لأنه يؤمن حق الإيمان بأن الله جل وعلا مهما تخفى وتستر العبد عنه فإنه يراه.
والعارف بالله لا ينطوي على رذيلة كالكبر والحقد والحسد وسوء الظن وغير ذلك من الرذائل الممقوتات لأنه يصدق أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وأنه يعلم ما تكنه الصدور، كما يعلم العلانية، فلا يستريح العارف حتى يكون باطنه كظاهره مطهرًا من كل فحشاء وكذلك لا تسمع من فم العارف عند نزول المصائب والبلايا والشدائد إلا الحسن الجميل فلا يغضب لموت عزيز أو فقد مال أو مرض شديد طويل لأنه يعلم أن غضبه وتسخطه يفوت عليه أجره ولا يرد ما فات كما قيل:
لا تَلْقَ دَهْرَكَ إِلا غَيْرَ مُكْْتَرِثٍ ... مَا دَامَ يَصْحَبُ فِيهِ رُوْحَكَ البَدَنُ
فَمَا يَدُومُ سُرورٌ مَا سُرِرتَ بِهِ ... وَلا يَرَدُّ عَلَيْكَ الفَائِتَ الحَزَنُ(3/121)
ولا ييأس العارف من زوال شدة مهما استحكمت فإن الفرج بيد الله الذي قال وقوله الحق إن معل العسر يسرا إن مع العسر يسرا ولا ييأس من حصول خير مهما سما وابتعد لأنه يؤمن أن المر بيد من إذا أراد شيئًا قال له كن فكان وإن بدا محالاً في نظر الجهلاء ولا يقنُط العارف ولا يقنُط مؤمنًا من رحمة الله التي وسعت كل شيء وإن كانت ذنوبه أمثال الجبال والرمال ولا يؤمن العارفُ مستقيمًا من العذاب مهما كان العمل من الصالحات لأنه يصدق أنه يغفر الذنوب جميعًا وأنه له الحجة البالغة وأن القلوب بين أصبعين من أصابعه جل وعلا فلا تغفل عن ذلك وإن أهمله الكثير من الناس.
اللهم ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا ذنوبنا وهب لنا تقواك وأهدنا بهداك ولا تكلنا إلى أحد سواك واجعل لنا من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا اللهم اعذنا بمعافاتك من عقوبتك وبرضاك من سخطك واحفظ جوارحنا من مخالفة أمرك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
124- "موعظة"
عباد الله أن من تعظيم ربنا جل وعلا تعظيم كتبه ورسله وذلك من أصول الإيمان فمن استخف بكتاب الله أو آية منه أو استخف برسله خسر كل الخسران عباد الله أين الغيرة الدينية كل يوم نجد الكتب التي تحتوي على التوحيد وعلى الآيات من كتاب الله وعلى الأحاديث الشريفة ملقات مع القمائم وفي الحفر القذرة تداس بالنعال وتلوث بالأقذار تلوث تلويثًا تستغيث منه العواطف الإيمانية أليس هذا من المنكرات لماذا لا تصان وترفع أو تقبر في محل طاهر.
قولوا لمن يلقيها ولمن يقدر على منعهم من إلقائها اتقوا الله هذه حالة والله تؤلم النفوس وتشمت بنا الأعداء قولوا لهم كيف تسمح نفوسكم تلقونها هذا الإلقاء الحقير وكذلك كتب فقه وإن لم يكن فيها آيات ولا أحاديث ينبغي احترامها ورفعها.(3/122)
وكذلك ينبغي التنبيه على بعض الكتب التي جمع والعياذ بالله بها مع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية صور ذوات الأرواح وقد تكون فوق الآية خصوصًا إذا أطبق الكتاب وهذا والله استهانة عظيمة واستخفاف بالآيات والأحاديث والكتب الدينية لا يجوز السكوت على هذه الحالة المزرية.
ومما ينبغي التنبيه عليه هو عدم وضع الآيات والأحاديث في الجرائد بل يشار إلى محلاتها وأرقامها لأن الجرائد صارت قسم كبير من قمامة المحلات وفيها صور ذوات الأرواح وهذه حالة مخيفة إن دامت مع ما انتشر من المنكرات والمعاصي التي ملأت البر والبحر يخشى أن تحيط بهم عقوبتها.
نسأل الله أن ينجينا من عقوبتها وأن يوقظ ولاتنا وينبههم لإزالتها وتطهير الأرض منها إنه القادر على ذلك ولا أرى مخلصًا للإنسان الذي قد ابتلى بشراء الجريدة حمالة الكذب قتالة الوقت إلا أنه يحرقها من حين يخلص من قراءتها ليسلم من باقي شرورها وأوزارها.
وسوف يناقش عنها يوم القيامة عن الوقت الذي ضيعه فيها والمال الذي أنفقه فيها وما حصل بسببه على الآيات والأحاديث التي فيها من الاستهانة والامتهان وإخراج الملائكة عن المحل التي وضعها فيه إذا كان فيها صور ذوات الأرواح حيث أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة.
اللهم أنظمنا في سلك حزبك المفلحين، واجعلنا من عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
125- "موعظة"
عباد الله لا شيء أغلى عليكم من أعماركم وأنتم تضيعونها فيما لا فائدة فيه. ولا عدو أعدى لكم من إبليس وأنتم تطيعونه، ولا أضر عليكم من موافقة النفس الأمارة بالسوء وأنت تصادقونها، لقد مضى من أعماركم الأطايب، فما بقي بعد شيب الذوائب.(3/123)
يا حاضر الجسم والقلب غائب، اجتماع العيب مع الشيب من أعظم المصائب، يمضي زمن الصبا في لعب وسهو وغفلة، يا لها من مصائب، كفى زاجرًا واعظًا تشيب منه الذوائب، يا غافلاً فاته الأرباح وأفضل المناقب، أين البكاء والحزن والقلق لخوف العظيم الطالب أين الزمان الذي فرطت فيه ولم تخش العواقب، أين البكاء دمًا على أوقات قتلت عند التلفزيون والمذياع والكرة والسينماء والفيديو والخمر والدخان والملاعب.
كم في يوم الحسرة والندامة من دمع ساكب على ذنوب قد حواها كتاب الكاتب، من لك يوم ينكشف عنك غطاؤك في موقف المحاسب، إذا قيل لك ما صنعت في كل واجب، كيف ترجو النجاة وأنت تلهو بأسر الملاعب، لقد ضيعتك الأماني بالظن الكاذب، أما علمت أن الموت صعب شديد المشارب، يلقي شره بكأس صدور الكتائب، وأنه لا مفر منه لهارب فانظر لنفسك واتق الله أن تبقى سليمًا من النوائب فقد بنيت كنسج العنكبوت بيتًا أين الذين علوا فوق السفن والمراكب أين الذين علو على متون النجائب، هجمت عليهم المنايا فأصبحوا تحت النصائب وأنت في أثرهم عن قريب عاطب، فانظر وتفكر واعتبر وتدبر قبل هجوم من لا يمنع عنه حرس ولا باب ولا يفوته هرب هارب.
شعرًا:
وَكَيْفَ قَرَّتْ لأَهْل العِلْمِ أَعْيُنُهم ... أَوْ اسْتَلَذَوا لَذيذَ النَّومِ أَو هَجَعَوا
وَالمَوتُ يُنْذِرُهُم جَهْرًا عَلانِيَةً ... لَوْ كانَ لِلْقَومِ أَسْمَاعٌ لَقْد سَمِعُوا
وَالنَّارُ ضَاحِيَةٌ لا بُدَّ مَوْرِدُهُمْ ... وَلَيْسَ يَدْرُونَ مَنْ يَنْجُو وَمَنْ يَقَعُ
قَدْ أَمْسَتْ الطَّيرُ وَالأَنْعَامُ آمِنةً ... وَالنُّونُ في البَحْرِ لا يَخْشَى لَهَا فَزَعُ
وَالآدِمي بِهَذَا الكَسْبِ مُرْتَهَنٌ ... لَهُ رَقِيْبٌ عَلَى الأَسْرَارِ يَطَّلِعُ
حَتَّى يُرَى فِيْهِ يَوْمَ الجَمْعِ مُنْفَرِدًا ... وَخَصْمُهُ الجِلْدُ وَالأَبْصَارُ وَالسَّمَعُ(3/124)
وَإِذْ يَقُومُونَ والأَشْهَادُ قَائِمَةٌ ... وَالجِنُّ وَالإِنْسُ وَالأَمْلاكُ قَدْ خَشعُوا
وَطَارتْ الصُّحْفُ في الأَيْدِي مُنْشَّرَةً ... فِيْهَا السَّرَائرُ وَالأَخْبَارُ تُطَّلَعُ
فَكَيْفَ بِالنَّاسِ وَالأَنْبَاءُ وَاقعَةٌ ... عَمَّا قَلِيْلٍ وَمَا تَدْرِي بِمَا تَقَعُ
أَفِي الجِنَانِِ وَفَوزٍ لا انْقِطَاعَ لَهُ ... أَمْ فِي الجَحِيْمِ فَلا تُبْقِي وَلا تَدَعُ
تَهْوِي بُسُكَّانِهَا طَوْرًا وَتَرْفُعُهُمْ ... إِذَا رَجَوا مَخْرَجًا مِنْ غَمِّهَا قُمِعُوا
طَالَ البُكاءُ فَلَم يَنْفَعْ تَضرُّعُهُم ... هَيْهَاتَ لا رِقّةٌ تُغْنِي وَلا جَزَعُ
اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها ونور قلوبنا بنور الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
126- "موعظة"
كتب عمر بن عبد العزيز إلى القرضي أما بعد فقد بلغني كتابك تعظني وتذكر ما هو لي حظ وعليك حق وقد أصبت بذلك أفضل الأجر أن الموعظة كالصدقة بل هي أعظم أجرًا وأبقى نفعًا وأحسن ذخرًا وأوجب على المؤمن حقًا، لكلمة يعظ بها الرجل أخاه ليزداد بها في هدى رغبة خير من مال يتصدق به عليه وإن كان به إليه حاجة ولما يدرك أخوك بموعظتك من الهدى خير مما ينال بصدقتك من الدنيا ولأن ينجو رجل بموعظتك من هلكة خير من أن ينجو بصدقتك من فقر.(3/125)
فعظ من تعظ لقضاء حق عليك واستعمل كذلك نفسك حين تعظ وكن كالطبيب المجرب العالم الذي قد علم أنه إذا وضع الدواء حيث لا ينبغي أعنت نفسه وإذا أمسك من حيث ينبغي جهل وأثم وإذا أراد أن يداوي مجنونًا لم يداوه وهو مرسل حتى يستوثق منه ويوثق له خشية أن لا يبلغ منه من الخير ما يتقى منه من الشر وكان طبه وتجربته مفتاح عمله وأعلم أنه لم يجعل المفتاح على الباب لكيما يغلق فلا يفتح أو ليفتح فلا يغلق ولكن ليغلق في حينه ويفتح فيه حينه. المهم الإخلاص في النصح.
وَكُنْ نَاصِِحًا لِلْمُسْلِمِيْنَ جَمِعْيِهِمْ ... بِإرْشَادِهِمْ لِلْْحَقِّ عِنْدَ خَفَائِهِ
وَمُرْهُمْ بمَعْرُوفِ الشَّرِيْعَةِ وَاَنْهَهُم ... عَنْ السُّوءِ وَازْجُرْ ذَا الخَنَا عَنْ خَنَائِهِ
وَعِظْهُمْ بِآيَاتِ الكِتَابِ بِحِكْمَةٍ ... لَعَلَّكَ تُبْرِىْ دَاءَهُمْ بِدَوَائِهِ
فَإِنْ يَهْدِ مَوْلانَا بِوَعْظِكَ وَاحِدًا ... تَنَلْ مِنْهُ يَوْمَ الحَشْرِ خَيْرَ عَطَائِهِ
وَإِلا فَقَدْ أَدَّيْتَ مَا كَانَ وَاجِبًا ... عَلَيْكَ وَمَا مُلكْتَ أَمْرَ اهْتِدَائِهِ
اللهم أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا توآخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
127- "موعظة"
عباد الله تزودوا للرحيل فقد دنت الآجال واجتهدوا واستعدوا للرحيل فقد قرب الارتحال ومهدوا لأنفسكم صالح الأعمال فإن الدنيا قد آذنت بالفراق وإن الآخرة قد أشرفت للتلاق فتزودوا من دار الانتقال إلى دار القرار.
واستشعروا التقوى في الأقوال والأفعال واحذروا التفاخر والتكاثر في الدنيا بجمع الحطام واكتساب الآثام وإياكم والاغترار بالآمال فوراءكم المقابر ذات الوحشة والهموم والغموم والكربات وتضايق الأنفاس والأهوال المفظعات.(3/126)
فسوف ترون ما لم يكن لكم في حساب إذا نوديتم من الأجداث حفاة عراة غرلاً مهطعين إلى الداعي وتعلق المظلومون بالظالمين ووقفتم بين يدي رب العالمين وحل بكم كرب المقام واشتد بالخلق في ذلك الموقف الزحام وأخذ المجرمون بالنواصي والأقدام وبرزت جهنم تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها والخزنة حولها غلاظ شداد.
وينادي عند ذلك العزيز الحميد الجبار فيقول هل امتلأت وتقول هل من مزيد هنالك ينخلع قلبك وتتذكر ما فرطت فيه من الأوقات وتتندم ولات ساعة مندم وتتمنى أن لو زيد في الحسنات وخفف من السيئات ولكن أنى لك بهذا وهيهات (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ( [يونس: 30]
اللهم وفقنا للاستعداد لما أمامنا، اللهم وقوي إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، اللهم نور قلوبنا واشرح صدورنا ووفقنا لما تحبه وترضاه وألهمنا ذكرك وشكرك وأعذنا من عدوك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
128- (خطبة)
الحمد لله الذي أبدع الكائنات المتنوعات على غير نظير ومثال وأتقن جميع المصنوعات فما يرى فيها تفاوت ولا إخلال وجعلها على قدرته ووحدانيته آيات دوال ألا له الخلق والأمر لا إله إلا هو الكبير المتعال جواد لا يبخل وغني لا يفقر وكريم يبتدئ بالإحسان قبل السؤال.
بيده الخير كله فله الحمد على كل حال وفي كل حال أحمده سبحانه على نعمه الجزال وأشكره والشكر لشوارد النعم أوثق عقال وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته ولا ألوهيته وما له من صفات الكمال ونعوت الجلال.
شهادة تنفي الشرك وتنافي الضلال أرجوه أن يختم بها حياتي يوم الرحيل من الدنيا والانتقال وأن يؤمنني بها من كربات ذلك اليوم وما بعده من الشدائد والأهوال.(3/127)
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله أفضل من تطوع وقال وأشرف من خص بأشرف مقامات الإرسال أرسله والكفر قد اشتد فزال وظلام الضلال متراكم فانجال فأضحت به الحقيقة مشرقة لا لبس فيها ولا إشكال، اللهم صلى وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل الذين اعتدل بهم قوام هذا الدين أتم اعتدال صلاة وسلامًا يبلغانهم من ربهم نهاية الآمال.
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى فإن تقواه عليها المعول وعليكم بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول واشكروه على ما أولاكم من الإنعام والإحسان وخول وصرف عنكم المكروه وزول وتهيئوا للرحيل فقد شدت لكم الرحال.
واجتهدوا في أسباب التحويل قبل أن يدهمكم يوم الارتحال وازهدوا في هذه الدنيا فمتاعها قليل ووعدها غرور ومآلها إلى الزوال واعلموا أنكم لم تخلقوا لجمع المال ولا لعمران دار الفناء والتطاول في الآمال.
وإنما خلقكم الله لتعبدوه وركب فيكم العقول لتوحدوه وأنزل عليكم القرآن لتتبعوه وأرسل إليكم الرسول لتطيعوه فانهضوا لما خلقكم الله له واعملوا صالحًا فسيجزي كل عامل ما عمله.
واعلموا أن مع كل شباب هرمًا ومع كل صحة سقمًا ومع كل حياة موتًا فخذوا من شبابكم لهرمكم ومن صحتكم لسقمكم ومن وجودكم لعدمكم قبل أن تقطع عنكم الأسباب ويختم على ما فيها من حسن أو قبيح الكتاب ويصبح عامر الدنيا منكم وهو خراب وتستبدلوا بمشيد البنيان حفرًا مظلمة تحت التراب.
فقد قصر سعي من كانت خطاه معدودة وسفه رأي من كان هواه معبوده وقل حاصل من جمع الحطام وورثه الأكال بينما أحدكم يلهو في أسبابه ويخط في سرباله ويزهو بإعجابه ولا يخطر الموت بباله إذ صدع المرض هامته وأحال الدهر قامته ذات الاعتدال ففتت الوجع في أعضاده وقطعت الصحة حبل وداده وأصبح يندب ما يسفر عنه من الأهوال.(3/128)
والنفوس لسوء منظره تجزع والقلوب للفكر في مصرعه تخشع وعيون أهله على فرقته في انهمال. هذا وهو بين يدي ربه محضر والروح تتصعد في حلقومه وتتحدر والأرض قد استعدت لدفن جثته إلى يوم المآل فاتقوا الله ونبهوا من غفل ولهى.
واستعدوا لهذه النازلة فالسعيد من استعد لها وودعوا شهركم هذا بما ينفعه من صالح الأعمال فقد مضى شهركم المحرم وأنت عنه في المقال فليت شعري هل فيكم من تجافى جنبه عن المضاجع في تلك الليال أو تذكر ما يعود نفعه عليه في يوم تشيب فيه الأطفال.
فتداركوا رحمكم الله ما فات في هذه الخصة وتجرعوا مياه الندم عسى أن تسيغوا بها ما للذنوب من غصة فعسى أن يمن الكريم بالمسامحة والقبول والإقبال وسلوه سبحانه العفو العافية واللطف بكم في السر والعلانية فإنه لا يخفى عليه شيء من الأقوال والأفعال والأعمال.
وفقني الله وإياكم لعمل الساعين الأبرار وجنبنا طريق أهل التباب والخسار إن أحسن القصص والاعتبار كلام الملك العزيز الغفار والله تعالى يقول وبقوله يهتدي المهتدون (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( [الأعراف: 204].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ( [إبراهيم: 52]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم(3/129)
أقول قولي هذا … إلخ.
129- (خطبة)
الحمد لله الذي جاد على العباد وتكرم وأغنى وأفقر وأهان وأكرم وأوجد الأشياء كما شاء ثم أعدم وأشقى وأسعد وأخر وقدم وأمات وأحيا وعافى وأسقم وأحب وكره ورضي وسخط وعفا وانتقم وقدر ودبر وقسم وأقسم واطلع على ما يسر وعلم ما يكتم وخاطب أولى الألباب من يعقل ويفهم وأمر ونهي وأباح وحرم وجعل مبدأ كل عام الشهر المحرم.
أحمده على أن شرفنا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - على سائر العرب والعجم وأشكره على أن جعلنا من خير امة أخرجت للناس فهي خير الأمم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله عز فحكم وأحصى كل شيء عددًا وأحاط به علمًا وأجرى به القلم.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله بنور ساطع وحق قاطع وعلم نافع فرفع الله به عمود الإسلام فاستتم وأذل به عباد الأصنام وقصم وضعضع به همة كل كافر وهدم. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وسلم وشرف وكرم وعظم.
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى وأطيعوه فإن تقوى الله شعار المؤمنين ودثار المتقين ووصية الله في وفيكم أجمعين أيها الناس إن أملكم البقاء في هذه الدار لمن أوضح وجوه الاغترار وإن عملكم فيها لغير ذي العزة والجلال لقاضٍ بالهلكة والبوار.
ألا فالحظوها كما لحظها العارفون والفظوها كما لفظها الخائفون وشدوا للرحلة أكوار الاعتزام وجدوا للنقلة فكأن قد هجم الحمام، فاعتبروا بما تدور به الليالي والأيام وما تجول به الساعات والأعوام.
فهذا شهر المحرم قد أناخ بربوعكم وخيم بجموعكم يستحثكم على الاعتبار ويحملكم على النحيب والاستغفار هو أول شهور السنة في التحريم وأحقها بالتفضيل والتكريم وعاشره خصه الله بالصيام والتعظيم.(3/130)
فاستقيلوا الله فيه لعثراتكم واستغفروه لسيئاتكم واسألوه أن يوفر لكم من بركة سنتكم أقسامكم وقد مضت من مدة الحياة سنة تدني إلى ورود الوفاة فتداركوا أنفسكم بالتوبة قبل الفوات وتعرفوا إلى الله في الرخاء يعرفكم في الشدات ويدفع عنكم البليات فالسعيد من استودع مدة عمره صالحًا من عمله والشقي من شهدت عليه بقبيح زلله وإن امرءًا تنقضي بالبطالة أوقاته وتمضي بالجهالة ساعاته لجدير أن يطول على نفسه بكاؤه ويدوم في طلب التخلص عناؤه ويكثر ممن أمهله حياؤه.
فانتبه أيها العبد لأيام شبابك قبل فراق أحبابك وأحفظ أيام عمرك قبل حلول قبرك واغتنم أيام حياتك قبل أوان وفاتك فإن العمر بالسنين ينهب والأجل بمرور الليل والنهار يذهب أين من أمل أن يرى هذا العام ويشاهد هذه الأيام.
ذهبوا والله سراعًا لدار البقاء وسلبهم مرير الموت لذيذ العيش فما وقى ولا نفع عنهم ما ادخر من المال واقتنى ونودي مطمئنهم فأسرع وما ونى وأصبح عاصيهم أسير الغني وبقي مجرمهم رهين ما جني وهذا أمر يبعده الأمل عليك وهو والله قد دنا.
فإلى متى أيها الغافل تشتغل بفنون تعليلك وأنت في قرب نقلتك ورحيلك أما الأيام والليالي تسرع بك إلى مصيرك فبادر عمرك فإنه ينتهب في بكورك وأصيلك أين الذي طلبه الموت فأعجزه وأين الذي تحصن في قصره المشيد فما أخرجه وأبرزه وأي متكثر بالجنود والأعوان ما وحده وأي متعزز بالعشائر والقبائل ما أفرده.
أما أخذ الآباء والأجداد أما سلب الشباب والأولاد أما ملأ القبور والألحاد أما حال بين المريد والمراد أما فرق بين الأحبة وقطع الوداد أما أرمل النساء وأيتم الأولاد أما تتبع قوم تبع وعاد على عاد.(3/131)
فاحذر يا مسكين أن يأتيك وأنت على الفساد يا قليل التفكر في مصيره ومآله يا مستأنسًا بداره مغترًا بماله يا ناسيًا عيبه معرضًا عن إصلاح حاله يا من سيطول سفره ولم يتزود لارتحاله يا حاملاً لوزره راضيًا بأثقاله أسفًا لك لم تتزود غير الكفن إلى قبرك ولم يصحبك ما اعتمدته من عزك وكثرك.
وأصبحت أسيرًا بعد نهيك وأمرك. وقدمت على ضياع أيامك وساعات عمرك وأخرجت ذليلاً من حرمك وقصرك وبعد عنك من كنت ترجوه عند الشدائد لنصرك. أخي لقد نصحتك والمولى لا يخفاه سرك وجهرك جعلني الله وإياكم ممن سابق إلى رضاه فاستقاله مما جناه فلم يؤثر على لزوم طاعته شيئًا سواه.
إن أحسن ما نطق به متكلم وأبلغ ما أصغى إليه مستفهم كلام من لا يقع في ربوبيته توهم والله تعالى يقول وبقوله يهتدي المهتدون: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( [الأعراف: 204].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ( [البقرة: 281]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر والحكيم … إلخ.
130- (خطبة)
الحمد الله الذي حدد الأعوام عامًا فعامًا. وحددها شهورًا وجمعًا وأيامًا. وأجرى على حسب ذلك الآجال والأرزاق على مقتضى الحكمة والتدبير وافتتح كل عام بهذا الشهر المحرم وجمله بيوم عاشوراء المبجل المعظم الذي فضله في الجاهلية والإسلام شهير.
أحمده سبحانه على نعمه التي لا تحصى وأشكره على مننه التي لا تستقصى وأسأله تعالى اللطف فيما جرت به المقادير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتعالي عن المشاركة والمشاكلة المنزه عن كل ما يخطر بالبال والضمير.(3/132)
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه وحبيبه وخليله الذي هدى الله الأمة بسراجِ هَدِيِهِ المنير اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد الكريم المصطفى المختار الممجد وعلى آله وأصحابه ذوي المقام الرفيع والفضل الكبير.
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى فقد دارت الأيام بتجدد الأعوام وأنتم في مهاد الأيام قعود وسارت الركبان إلى رضا الرحمن وأنتم عن موجبات الغفران قعود وتسابقت الفرسان إلى ميدان الإحسان وعاقكم الشيطان عن المسير.
فما هذه السهوة عن الدار الآخرة وهي المآب والمقر وما هذه الشهوة والتجارة خاسرة ولا محيص عن الحساب ولا مفر وما هذه الغفلة وقد فاز المتيقظون أهل التشمير؟ أتعتقدون أن لا موت ولا قيامة أم تظنون أن الله ينسى ذنبًا أو ظلامه؟
كلا بل هو القاهر المحصي العليم الخبير ألا تعلمون أن تعاقب الأيام على فناء الأنام أمارة وإن تناوب الآلام ولقاء الأسقام دليل على أن الحياة معارة وإن كل نفس تساق إلى أجلها وتسير.
وهذا عام جديد نزل بكم فأكرموا نزله وحل فيكم بحلل الايقاط فالبسوا حلله وظل يوميء إليكم ببيان الإنذار ويشير ما من يوم يمر إلا وهو يناديكم بلسان حاله ها أنا مؤذن كلاً منكم بقرب ارتحاله فليتأهب للمسير إلى دار المصير.
فيا أيها المسرور بتجدد الأعوام المغرور بقدوم الأهلة وتتابع الأيام أما علمت أنها تقصر من عمرك القصير فانتبه يا مسكين فالدنيا أضغاث أحلام ودار فناء لا تصلح للمقام.
فكأنك بها وقد خسف بدرها المنير واغتنم في شهرك هذا بصالح الأعمال وأكثر فيه من الصوم وأخلصوا النية في الأقوال والأفعال واحذر من التخليط فإن الناقد بصير ورافق إخوان الإخلاص والتقى والصفا وفارق أعوان الغفلة والشقاء.
وتخلق بأحسن الأخلاق في كل كبير وصغير ولا تركن إلى دار متاعها غرور وغاية أمرها الوبال وسرورها شرور ونهاية نعيمها الزوال فما صفا لأحد منها وقت إلا اتصل به التكدير.(3/133)
أين من أنس بها ونسي انتقاله إلى دار البقاء وأين من عمر القصور وجمع الأموال وفي عزه ارتقى تقلبت بهم أحوال الأهوال فأصبحوا تحت الثرى والحفير وقريبًا ترحلون عن المنازل كما رحلوا ووشيكًا تحملون إلى المقابر كما حملوا.
فإما إلى روضة من رياض الجنة وإما إلى حفرة من السعير أهّلني الله وإياكم لاجتلاء غرائس هدايته وطاعته ووفقنا للقيام بامتثال أوامره واجتناء ثمرات مرضاته، إن أعظم ما اتعظ به أولوا الألباب وأبلغ ما اهتدى به حكيم أواب كلام الله الذي من اعتصم به ما خاب والله تعالى يقول وبقوله يهتدي المهتدون (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( [الأعراف: 204].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ( [التوبة: 36].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
131- (خطبة)
الحمد لله الذي بأمره تقوم السماء وبعدله ينصف المظلوم من الظالم يوم الجزاء وبلطفه أعطى الكثير وطلب اليسير ونمى فهو المعروف بالمعروف وإغاثة الملهوف وهو أهل المنع والعطاء أحمده على السراء والضراء وأشكره على نعمه وشكره يقبل على من شكر الشوارد من النعماء فسبحانه من إله لا يخاف من آمن به وعمل صالحًا ظلمًا ولا هضمًا.(3/134)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رحيم بعباده وسع كل شيء رحمة وعلمًا وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي هدى به من الضلالة وبصر به من العمى اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الأعلام والعلماء.
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى وطهروا السرائر لمن هو بها عالم وتوجهوا إلى الله بالانكفاف عن المآثم والخروج من الغصوب والمظالم والإقلاع عن الصغائر والعظائم فإن أحدكم يعصي وهو غافل هائم فيعود وبال معصيته على الأطفال والبهائم.
فيا حسرة المفرط بنفسه صاحب الشيبة البيضاء والصحيفة السوداء والبصيرة العمياء عن الهدى ويا ندامته يوم اللقاء على اتباعه الهوى وإعراضه عن الهدى ويا خسارته حين غفل ولهى عن مجالس الأذكار ومباحثة العلماء.
يا قوم اعتبروا بمن قبلكم واقبلوا نصائح الفصحاء قبل أن يصبح أحدكم منبوذًا في أرض بيداء جسمه الناعم قد كان طُعمًا للدود والبلاء وماله قسمًا بين الورثة والأقرباء ينفقونه على ما تهوى أنفسهم وترى وصاحبه المسكين مطلوب بالحساب والجزاء بعيد عن الأصحاب والأولاد وحيد فريد قد لهى عن الأهل والأقرباء في قبر موحش مظلم ضيق الأرجاء.
إلى يوم يشفق فيه حتى الأولياء والملائكة والأنبياء يوم الحساب والقصاص بالاعتدال لا بالاعتداء يوم يقتص للجماء من القرناء ويؤخذ للآباء من الأبناء وللأبناء من الآباء بين يدي ديان الأرض والسماء يوم الجزاء بأعمال القلوب والجوارح لا بالأموال ولا بالأولاد ولا بالأسماء.
فيا أهل الغفلة أفيقوا بالله من سنة الإغفاء وطهروا القلوب من دنس الأهواء فإن القلب المدنس بالذنوب يعد من داء القلب لأعظم الداء وصلاح القلب هو الأصل الذي تثبت عليه قواعد البناء.(3/135)
كيف تصلح للعالم معرفته وهو يعمل أعمال الجهلاء كيف تصلح للعابد عبادته وهو يرتدي برداء الرياء والكبرياء كيف تصلح للفتى حريته وهو لا يغضب لله بل يغضب ويرضى لأجل البيضاء والصفراء فهذا بأخبث المنازل لتقديمه الهوى على الهدى كيف تصلح للفقير سلامته وهو لا يصبر ولا يسلم لله في أمر القضاء.
كل هذه علل وأمراض في الدين أسأل الله لي ولكم منها العافية والشفا إذا فسدت البواطن فحق للظواهر بتهدم البناء أي فساد أعظم من المعاصي وإن شؤمها يعم ضرر أهل المدن والقرى فاجتنبوا رحمكم الله الربا والزنا والغيبة والنميمة والكذب والحسد فإن ذلك سبب نزول البلاء.
ألا وإن أقل المعاصي يكفي في نزول الوباء فكيف بكم إذا اجتمعت على الولاء والحق تعالى غيور يغار على ملكه من المعاصي وفعل الفحشاء فإذا ظهرت في البلاد والعياذ بالله من ذلك غار جل جلاله فطهرها إما بالسيف وإما بالقحط وإما بالوباء هذه سنة الله نافذة في خلقه فاسألوا عنها في المبتدأ والمنتهى فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ألا ترون أنكم كل يوم تشيعون غاديًا إلى الله ورايحاً وقد أسرع الموت بخياركم انتقالاً ورحلاً.
فالله الله انتبهوا قبل أن يتقطع من أيديكم حبل الرجاء فباب الإجابة مفتوح لصاحب التضرع والابتهال والدعاء ويد الرحمن مبسوطة لقبول التوبة والاستغفار ممن عصى فبادروا رحمكم الله فالأمر عظيم وحققوا بالجد والإخلاص في الدعاء اللهم يا سامع الدعاء يا من أوجب على خلقه الفناء واختار لنفسه البقاء عافنا وجميع المسلمين والمسلمات من كل وبال وبلاء أيقظني الله وإياكم من رقدات الغافلين وجعلنا يوم الجزاء من الشاكرين.(3/136)
إن أبلغ الوعظ للمعتبرين كلام الله الملك الحق المبين والله تعالى يقول وبقوله يهتدي المهتدوين (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( [الأعراف: 204]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً( [الإسراء: 17]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
132- (خطبة)
الحمد لله الذي يجود على عباده بسوابغ النعم ويعود عليهم بالمزيد ويبالغ بالكرم ويتطول على الطالبين وإن قصرت منهم الهمم ويتفضل على الراغبين مما لا تنتهي إليه آمالهم ولا جرم جواد لا يحصر جوده جنان ولا لسان ولا قلم فمن بعض إحسانه يكشف غياهب الظلم رحمن رحيم يعم ويخص برحمته من يشاء من الأمم مجيد عظيم من زعم أنه عرفه حق معرفته فهو مدع متهم.
أحمده حمد مكثر ومستزيد للنعم وأشكره على كل ما منح وأعطى وقدر وقسم وأستغفره وأتوب إليه من كل هفوة وزلة قدم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته والربوبية والبقاء والقدم وإنها لشهادة حق وصدق ما خاب من استمسك بها واعتصم وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله سيد العرب والعجم الذي أرسله الله تتمة للمرسلين ونعمة للمتقين ورحمة للعالمين وشفيعًا وشهيدًا لسائر الأمم.
نبي لم يزل يطالع شواهد الحق ويدعم ملاحظة المراقبة حتى كان إذا نامت عيناه فقلبه لم ينم - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والكرم صلاة وسلامًا دائمين متلازمين بدوام تعلق علمه بكل مخدوم وخدم.(3/137)
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى سرًا وجهرًا وتوبوا إليه من الذنوب فالتوبة تجب ما قبلها ولو كان كفرًا ولا تكونوا ممن يخالف لله أمرًا وطهروا نفوسكم من الغل والحقد والحسد والبغضاء وكل خلق ذميم وأصلحوا أعمالكم فإنها معروضة على رب العزة الذي هو بكل شيء عليم.
واعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم فطالما أسبغ الله عليكم من النعم حلة بعد حلة وأوجدكم من العدم جملة بعد جملة وأمهلكم في الوجود مهلة بعد مهلة وكثيرًا ما قللكم الموت فكثركم بعد تلك القلة وكم أعزكم في كل موطن بعزته بعد ذلة وكم كشف عنكم همًا وغمًا وسقمًا وعلة وكم تفضل عليكم في السر والجهر من الإحسان ما لم تكونوا أهلاً له.
فما شكرتم من ذلك إلا اليسير ولا ذكرتم منه إلا أقلة ولا أحدثتم لكل ما أحدثه الله من النعم إلا غفلة بعد غفلة ولا قابلتم ما أمركم الله به من الاستقالة إلا زلة بعد زلة تستقلون الطاعات حتى كأن أمرها عليكم أثقل من الظلة وتستخفون الذنوب حتى إن أكبرها عندكم أهون من قرص نحلة.
تجاهرون الله بالمعاصي وهو معكم يعلم ضمير أحدكم وفعله والله لولا حلمه لخسف بنا ونزل علنيا من العذاب ما لا نطيق حمله ولكنه يمهل ولا يهمل والحذر من الأخذ بعد المهلة فكأني بكم وقد نزل بكم الحمام وصارت أولادكم تدعى بالأيتام وقد شاهدتم ذلك من غيركم وكأنكم في مسكرة أو نيام هل الأعمار في الاعتبار إلا أعوام وهل الأعوام إلا أيام. وهل الأيام إلا ساعات كالسفن ينادي لسان سيرها أهل الدنيا لا مقام لكم وهل الساعات إلا أنفاس تحصيها الحفظة بأمر الملك العلام.
فمن كان هذا أصله كيف لا يسرع بالمتاب ومن كان هذا أساسه فكيف يفرح بدار عمرها في الحقيقة خراب فرحم الله عبدًا أقبل على الباقي وأعرض عن الفاني من الحطام وجعل لشارد النفس من التقوى أقوى زمام واجتنب الظلم فإن الظلم يخرج من النور إلى الظلام.(3/138)
فنسألك اللهم توفيقًا يقرب من الحلال ويبعدنا عن الحرام وطريقًا إلى سبيل الخيرات لنتمسك بالزمام وأمنا يوم الفزع الأكبر تبلغنا به غاية المنى والمرام وأدخلنا مع الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام.
إن أحسن الكلام وأبلغ الأحكام كلام الله الملك العلام والله تعالى يقول وقوله الحق المبين (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( [الأعراف: 204]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( [العنكبوت: 64].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم.
133- خطبة في التحذير من المعاصي
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله وخليله وصفيه، أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(3/139)
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه في السر والعلن ولا تعصوه، واعلموا أن الذنوب والمعاصي تضر في الحال والمآل، وأن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها، وما في الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي، فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه وبدل بالقرب بعدًا وبالرحمة لعنة وبالجمال قبحًا وبالجنة نارًا تلظى؟ وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم، حتى علا الماء فوق رءوس الجبال؟ وما الذي سلط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمرت ما مرت عليه من ديارهم حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟ وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها فأهلكهم جميعًا وأرسل عليهم حجارة من سجيل؟ وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فلما صارت فوق رءوسهم أمطرت عليهم نارًا تلظى؟ وما الذي بعث على بني إسرائيل قومًا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وقتلوا الرجال واحرقوا الديار ونهبوا الأموال، ثم بعث عليهم مرة ثانية فأهلكوا ما قدروا عليه وتبروا ما علوا تتبيرا؟ وما الذي سلط عليهم أنواع العقوبات مرة بالقتل والسبي وخراب البلاد ومرة بجور الملوك ومرة بمسخهم قردة وخنازير، وآخر ذلك أقسم الرب تبارك وتعالى ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب أقوام كثيرة جاءت أخبار هلاكهم في القرآن الكريم بسبب كفرهم وعصيانهم وعنادهم وتكبرهم عن طاعة الله تعالى وطاعة رسله عليهم الصلاة والسلام؟ فاعتبروا يا أولي الأبصار.(3/140)
والمعاصي ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا في قلوب إلا أعمتها، ولا في أجساد إلا عذبتها، ولا في أمة إلا أذلتها، ولا في نفوس إلا أفسدتها، ولو لم يكن من المعاصي إلا أنها سبب لهوان العبد على الله وسقوطه من عينه لكفى، وإذا هان العبد على الله تعالى لم يكرمه أحد، كما قال عز وجل: (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ( [الحج: 18]. ومن عقوبات الذنوب أيضًا أنها تزيل النعم، وتحل النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب، كما قال علي بن أبي طالب –رضي الله عنه: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، وقد قال الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( [الأنفال: 53]. فأخبر تعالى أنه لا يغير نعمة أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه، فيغير طاعة الله بمعصيته وشكره بكفره وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غَير غُير عليه جزاء وفاقًا، وما ربك بظلام للعبيد، فإن غير المعصية بالطاعة غير الله عليه العقوبة بالعافية والذل بالعز، قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ( [الرعد: 11]. وفي بعض الآثار الالهية عن الرب –تبارك وتعالى- أنه قال: «وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب ثم ينتقل عنه إلى ما أكره إلا انتقلت له مما يحب إلى ما يكره، ولا يكون عبد من عبيدي على ما اكره ثم ينتقل عنه على ما أحب إلا انتقلت له مما يكره إلى ما يحب»(3/141)
فاتقوا الله عباد الله في السر والعلن، وتوبوا إليه واستغفروه، وحاذروا غضبه ولا تعصوه، فالمعاصي تمحق بركة العمر وبركة الزرق والعلم والطاعة، وبالجملة تمحق بركة الدين والدنيا فلا تجدون أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله تعالى، وما مُحقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق، قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ( [الأعراف: 96]. وقال تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً( [الجن: 17].
وفي الحديث: «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها».(3/142)
فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإنه ما ينال ما عند الله تعالى إلا بطاعته، وليست سعة الرزق والعمل بكثرته، ولا طولُ العمر بكثرة الشهور والأعوام، ولكن سعة الرزق والعمر بالبركة فيهما، ومعلوم أن عمر العبد هو مدة حياته، ولا حياة لمن أعرض عن الله واشتغل بغير ذكره، بل حياة البهائم خير من حياته، فإن حياة الإنسان بحياة قلبه وروحه، ولا حياة لقلبه إلا بمعرفة فاطره ومحبته وذكره وعبادته وحده والإنابة إليه والطمأنينة بطاعته والأنس بقربه، ومن فقد هذه الحياة فقد الخير كله، ولو تعوض عنها بما تعوض بل ليست الدنيا بأجمعها عوضًا عن هذه الحياة، فمن كل شيء يفوت العبد عوض، وإذا فاته الله –عز وجل- لم يعوض عنه شيء ألبتة، وإنما كانت معصية الله سببًا لمحق بركة الرزق والعمر، لأن الشيطان وكل بها وبأصحابها، وكل شيء يتصل به الشيطان ويقارنه فبركته ممحوقة، ولهذا شرع اسم الله تعالى عند الأكل والشرب واللبس والركوب والجماع لما في مقارنة اسم الله تعالى من البركة، وكل شيء لا يكون لله فبركته منزوعة، فإن الرب –جل جلاله- هو الذي يبارك وحده، والبركة كلها منه، وكل ما نسب إليه مبارك، فكلامه مبارك، ورسوله مبارك، وعبده المؤمن النافع لخلقه مبارك، وبيته الحرام مبارك، فلا مبارك إلا هو وحده لا شريك له، وكل ما باعده الله من نفسه المقدسة من الأعيان والأقوال والأعمال فلا بركة فيه، ولا خير فيه، وكل ما كان منه –تعالى- قريب ففيه من البركة على قدر قربه منه، وضد البركة اللعنة، فأرض لعنها الله أو شخص لعنه الله أو عمل لعنه الله أبعد شيء من الخير والبركة، وكل ما اتصل بذلك وارتبط به وكان منه بسبيل فلا بركة فيه ألبتة، فمن ههنا كان للمعاصي أعظم تأثير في محق بركة العمر والرزق والعلم والعمل، وكل وقت عصيت الله فيه أو مال عصي الله به أو بدن أو جاه أو علم أو عمل فهو على صاحبه ليس له، فليس له من عمره وماله وقوته وجاهه وعلمه وعمله إلا ما أطاع(3/143)
الله تعالى به، ولهذا فمن الناس من يعيش في هذه الدار مائة سنة أو نحوها ولا يبلغ عمره في الحقيقة عشر سنين أو نحوها، كما أن منهم من يملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ولا يبلغ ما له في الحقيقة ألف درهم أو نحوها...وهكذا الجاه والعلم.
فبادروا –رحمكم الله تعالى- بالتوبة والأعمال الصالحة قبل فوات الأوان، فالفرصة ها هي ذي سانحة، ووسائل الهدى ما تزال حاضرة، وباب التوبة ها هو ذا مفتوح، وليس على بابه من يمنع، ولا يحتاج من يلجه إلى استئذان، وهي أمنية لا ينالها إلا الموفقون، فإذا انتهت هذه الحياة فلا كرة ولا رجوع، فهيا وأنتم أولاء في دار العمل، وهي فرصة واحدة، فإذا انتهت لا تعود، هيا إلى التوبة قبل فوات الأوان، هيا من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال، هيا فالوقت غير مضمون، وقد يفصل في الأمر، وتغلق الأبواب في أية لحظة من لحظات الليل والنهار، هيا واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم، وهو هذا القرآن الذي بين أيديكم، واهتدوا بهدي نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - (مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ( [البقرة: 254]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً( [النساء: 18].(3/144)
اللهم اجعلنا من التوابين، واجعلنا من المتطهرين الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
134- خطبة في أصول الدين
الحمد لله المعروف بأسمائه وصفاته، المتحبب إلى خلقه بجزيل هباته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتفرد بالألوهية والوحدانية، المتوحد في العظمة والكبرياء والمجد والربوبية.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أكمل الخلق في مراتب العبودية، وأعلاه في كل خصلة حميدة فهو خير البرية.
اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه الأخيار. وعلى التابعين لهم بالأقوال والأفعال والإقرار.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. فهو الغني المطلق ومن سواه إليه فقير، وهو القوي العزيز ومن سواه عاجز ذليل. وهو الجواد الكريم، فلا غنى لأحد عن كرمه طرفة عين (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( [القصص: 70]. ونؤمن أن الله الذي لا إله إلا هو فهو ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين.
فكما أنه لا رب ولا خالق ولا منعم سواه، فليس للعباد إله ومعبود إلا الله. فمن أخلص له الدين في ظاهره وباطنه فهو الموحد حقًا. ومن صرف شيئًا من العبادة لغيره فهو المشرك صرفًا قال تعالى: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ( [المائدة: 72]. وقال: (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( [غافر: 65].(3/145)
فليس لنا معبود سواه فلا نستعين إلا به ولا نعبد إلا إياه فهو الإله المقصود بالتأله والحب والتعظيم. وهو المقصود لقضاء الحاجات وتفريج الكربات وكل أمر عظيم، خلقكم وأمركم بمعرفته وعبادته، وحثكم على إخلاص الدين وتحقيق طاعته. قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ( [الذاريات: 56]. وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( [البقرة: 21]. وقال: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً( [الطلاق: 12]. وقال: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ( [محمد: 19].
وذلك أنه يجب علينا أن نؤمن ونعترف أن الله هو الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور، المتفضل على عباده بالنعم الظاهرة والباطنة نعم الدنيا ونعم الدين. وأنه الموصوف بسعة الرحمة وشمول الحكمة والعلم المحيط الشامل. المنعوت بالعظمة والكبرياء والعز الكامل. الحي القيوم الذي لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار. وعمل النهار قبل عمل الليل على الكمال والتمام. (يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ( [الرحمن: 29]. (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ( [النمل62].(3/146)
ونؤمن بنزول ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا كما أخبر به الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى. مع أنه العلي الأعلى. الذي على العرش استوى. وعلى الملك احتوى (وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى( [طه: 8] .
ونؤمن أن المؤمنين يرون ربهم في جنة المأوى، فرؤيته ورضوانه أكبر نعيم يجزله لهم المولى.
ونشهد أن القرآن تنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب النبي الكريم بلسان عربي مبين، فهو كلام الله حقًا منزل غير مخلوق. فهو الهدى والرحمة والشفاء والنور، وعليه المدار في الأصول والفروع والأحكام كلها وجميع الأمور.
ونشهد أن الله حق، وقوله حق، ووعده حق، ولقاؤه حق، والنبيون حق، ومحمد حق (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ( [الحج: 7]. فيجازيهم بأعمالهم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فيثيب الطائعين بفضله، ويعاقب العاصين بحكمته وعدله (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ( [الأعراف: 9].
ونؤمن بجميع ما جاء به الكتاب والسنة من أحوال اليوم الآخر، والشفاعة، والحوض، والميزان، والصراط، وصحائف الأعمال. وما ذكر من صفات الجنة والنار. وصفات أهلهما كل ذلك حق لا ريب فيه. وكله داخل في الإيمان باليوم الآخر.
والحاصل أننا نؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. والقدر خيره وشره. إيمانًا مجملاً شاملاً وإيمانًا مفصلاً في كتاب ربنا وسنة نبينا.
ونسأله تعالى أن يثبتنا على ذلك ويميتنا. ويحيينا عليه. إنه جواد كريم.(3/147)
اللهم ألحقنا بعبادك الأبرار وأسكنا الجنة دار القرار واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
135- "موعظة"
عباد الله قد كثر في زمننا اليوم أناس يرى أحدهم قدر نفسه فوق ما تتصوره الأفهام ويجزم كل الجزم أنه رفيع المقام، رفعة كل رفيع معها تحت الأقدام، لا تذكر أمامه فاضلاً إلا ضحك وهز رأسه متهكمًا ساخرًا بما له من مقام وقديمًا قيل:
وَمَنْ جَهِلَتْ نَفْسُهُ قَدْرَهُ ... رَأَى غَيْرُهُ مِنْهُ مَالا يَرَى
وتجد هذا المتكبر المعجب بنفسه شرسًا أحمقًا ذا إباء واستعصاء حتى على خالقه القدير الكبير المتعالي وتراه ناري المزاج يلتهب التهابًا وينفجر لأدنى كلمة لا ترضيه ولو لم يقصد قائلها إلا الحسنى.
ومن علاماته أنك تجده حريصًا على أن يكون أمام الناس وأن يصغوا إلى كلامه ويؤلمه كلام غيره ولو كان حقًا وتجد ثيابه مسبلة وفي مشيه يتبختر مصعرًا خده وإن كان عليه عقال تجده مميلاً له وتجد بعضهم قد وفر شاربه وفتله وسوى شنباته كالقرون قال بعضهم:
إِنَّ الكَمَالَ الذِيْ سَادَ الرِّجَالُ بِهِ ... هُوَ الوَقَارُ وَقَرْنُ العِلْمِ بِالعَمَلِ
فَقُلْ لِمَنْ يَزْدَهِيْ عُجْبًا بِمَنطِقِهِ ... وَقَلْبُهُ فِي قُيُوْدِ الحِرْصِ وَالأَمَلِ
مَهْلاً فَمَا اللهُ سَاهٍ عَنْ تَلاعُبِكُم ... لَكِنَّ مَوْعِدُكُمْ فِي مُنْتَهَى الأَجَلِ
وَقُلْ لِمَنْ فَخْرُه فِي فَتْلِ شَارِبِهِ ... أَضَعْتَ عُمْرَكَ بَيْنَ الكِبْرِ وَالكَسَلِ
حَتَّامَ تُبْرِمُ يَا وَافِيْ القَفَا شَنَبًا ... مَا فِي طَوَايَاهُ إِلا خَيْبَةُ الأَمَلِ
أَصْبَحْتَ بُعْبُعَ مَنْ فِي البَيْتِ تُزْعِجُهُمْ ... هَلا أَخَفْتَ العِدَا يَا مُعْرَضَ الخَجَلِ(3/148)
ومن علاماته أنك تجد صاحب الكبر لا يرغب قرب الفقراء منه ولا يألف إلا الأغنياء فالمتكبر لا يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه لأنه لا يقدر على ذلك بسبب كبره وعجبه ولا يقدر على التواضع وهو رأس أخلاق الأصفياء.
ولا يقدر المتكبر على ترك الحقد ولا يقدر أن يدوم على الصدق ولا يقدر على ترك الغضب ولا على كظم الغيظ ولا يسلم من احتقاره للناس ولا يسلم من الغيبة والبهت لأنه فيه من العظمة والعزة والكبرياء ما يحول بينه وبين ذلك.
فما من خلق ذميم وقبيح إلا وصاحب الكبر مضطر إليه ليحفظ به عزه وعظمته ولذلك ورد في الحديث: «أنه لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر». وفي وصية لقمان لابنه يقول: « (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(».
ومن تعاليم ربنا لهذه الأمة ونبيها عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً( [الإسراء: 37].
وبالحقيقة إن المتكبر مسكين ثم مسكين إلى حد يستحق معه الرثاء فإنك بينما تراه بهذا الكبرياء والعظمة تراه غارقًا في بحر المعاصي وذلها يُلقي نفسه في جهنم.
أيظن هذا المسكين أنه عزيز والله عليه غضبان أو يظن أنه رفيع وهو في قاذورات المعاصي إن العزة والرفعة لا يحصلان بالدعوى وليس حصولهما بيد مخلوق ولكنهما بيد الله وحده يمنحهما إلى من يسارعون إلى طاعة مولاهم جل وعلا وتقدس.(3/149)
فيا عباد الله انصحوا من وقع في ورطة الكبر وقولوا له تدبر كلام رب العالمين مثل قوله تعالى: (إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ( [النحل: 23]. وقوله تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ( [الأعراف: 146].
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يحشر المتكبرون أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال». رواه النسائي والترمذي واللفظ له وقال حديث حسن.
اللهم يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه أجمع بيننا وبين الصدق والنية الصالحة والإخلاص والخشوع والمراقبة واليقين والعلم والمعرفة والفصاحة والبيان والفهم في القرآن وخصنا منك بالمحبة والاصطفائية ووفقنا للعمل الصالح الرشيد والرزق الهنيء الذي لا حجاب به في الدنيا ولا حساب ولا سؤال ولا عقاب عليه في الدنيا والآخرة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
136- "موعظة"
عباد الله من كان الموت يطلبه كيف يقر له قرار ومن كان الدهر يجاريه فكيف يطيق الانتصار، ومن كان راحلاً عن الدنيا إلى الآخرة كيف يلذ له قرار، عجبًا لمن يملأ عينه بالنوم وهو لا يدري أيساق إلى الجنة أو إلى النار. ولقد أحسن من قال:
وَكَيْفَ تَنَامُ العَيْنُ وَهِي قَرِيْرَةٌ ... وَلَمْ تَدْرِ في أَيْ المَكَانِيْنِ تَنْزِلُ(3/150)
إن هي إلا غفلة وأمنية عاجلة وسجية عادلة جرى بها القلم ومضى عليها سالف الأمم، فيا فرائس الأحداث ويا عرائس الأجداث، لقد صعق الموت في دياركم فنعب، وصدقكم صرف الزمان وما كذب، فكأنه قد أعاد عليكم الكرة وسلب، ونغص عليكم المسرة، وانتهز فيكم الغرة، فما أقالكم عثرة.
عن كعب أو عن قتادة قال: يوم يقوم الناس لرب العالمين قال: يقومون مقدار ثلاثمائة عام قال: سمعت الحسن يقول: ما ظنك بأقوام قاموا لله عز وجل على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة حتى إذا انقطعت أعناقهم من العطش واحترقت أجوافهم من الجوع انصرف بهم إلى النار فسقوا من عين قد آن حرها واشتد نفحها.
فلما بلغ المجهود منهم ما لا طاقة لهم به كلَّم بعضهم بعضًا في طلب من يكرم على مولاه أن يشفع لهم في الراحة من مقامهم وموقفهم لينصرفوا إلى الجنة أو إلى النار من وقوفهم ففزعوا إلى آدم ونوح ومن بعده إبراهيم وموسى وعيسى كلهم يقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب مثله قبله ولا يغضب بعده مثله فكلهم يذكر شدة غضب الرب عز وجل وينادي بالشغل بنفسه فيقول نفسي نفسي فيشتغل بنفسه عن الشفاعة لهم إلى ربهم لاهتمامه بنفسه وخلاصها.
وكذلك يقول الله عز وجل: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ( [النحل: 111]. فبادروا رحمكم الله وأنتم في مكان الإمكان، قبل ضيق الأوطان، وتقلص اللسان واصفرار البنان، والتقلب من جهة إلى جهة من شدة الآلام.
ورفع يد ووضع الأخرى من شدة السكرات، لجذب الروح من العروق والعصب والعظام، قبل شخوص البصر، وبرودة البدن، ونقله لبيت الدود والظلمة والوحشة والإنفراد وسؤال منكر ونكير، وما يعقبه من كل أمر خطير في يوم يشيب من أهواله الولدان.(3/151)
اللهم نجنا برحمتك من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك الجنة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
137- "موعظة"
ابن آدم كأنك بالموت وقد فجأك وألحقك بمن قد سبقك من الأمم ونقلك من الفلل والعمائر إلى بيت الوحدة والوحشة والظلم ومن ذلك إلى عسكر الموتى مخيمة بين الخيم مفرقًا من مالك ما اجتمع ومن شملك ما انتظم وليس لك قدرة فتدفعه بكثرة الأموال ولا بقوة الخدم وندمت على التفريط ولات ساعة ندم.
فيا عجبًا لعين تنام وطالبها مجد في طلبها لم ينم، متى تحذر مما توعد وتهدد، ومتى تضرم نار الخوف في قلبك وتتوقد، إلى متى حسناتك تضمحل وسيئاتك تتجدد، وإلى متى لا يهولك زجر الواعظ وإن شدد وإلى متى وأنت بين الفتور والتواني تردد متى تحذر يومًا تنطق فيه الجلود وتشهد ومتى تقبل على ما يبقى وتترك ما يفنى وينفد.
متى تهب بك في بحر الوجد ريح الخوف والرجا متى تكون في الليل قائمًا إذا سجى أين الذين عاملوا مولاهم بالإخلاص وانفردوا وقاموا في الدجى فركعوا وسجدوا وقدموا إلى بابه في الأسحار ووفدوا وصاموا هواجر النهار فصبروا واجتهدوا، لقد ساروا وتخلفت وفاتك ما وجدوا وبقيت في أعقابهم وإن لم تسرع وتجتهد بعدوا.
فتنبه وتيقظ يا مسكين قبل أن يفاجئك هادم اللذات فلا تقدر على استدراك لما فات، قال الله جلا وعلا: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( [طه: 11].(3/152)
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ونسألك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقًا ونسألك من خير ما تعلم ونعوذ بك من شر ما تعلم ونستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
138- "موعظة"
عباد الله لقد تغير أكثر أهل هذا الزمن في أحوالهم الدينية تغيرًا يدهش ذوي العقول تغيرًا من أمعن النظر فيهم ظن أنهم ليسوا من فريق المؤمنين.
هذه الصلاة وهي عمود الإسلام آكد أركانه بعد الشهادتين، أعرضوا عنها، ولم يبالوا فيها جهلوا ما هي الصلاة، وأي قيمة قيمتها وما منزلتها بين سائر الطاعات.
أما علموا أنها أول ما ينظر فيه من عمل العبد يوم القيامة، فإن وجدت تامة صالحة قبلت منه، وسائر عمله، وإن وجدت ناقصة ردت إليه وسائر عمله، ثم تكون كالثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها.
عباد الله إن الصلاة عبادة، ومناجاة، وقربى، نظامها الركوع والسجود، مع التذلل، والخضوع، وأقوالها القراءة، والتسبيح، والابتهال، إلى الله، وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم وروحها الإخلاص لله، وسرها إظهار العبودية، والاستكانة، لعظمة الرب جل وعلا.
إنها خمس صلوات في اليوم والليلة، خمس وقفات يقفها العبد أما سيده ومولاه، خالقه، ومدبر أمره، ولها عند الله ثواب خمسين صلاة.
شُرعت لها الجماعة، وأمر ببناء المساجد لأجلها، وشرع لها الأذان، لينتبه الغافل، ويتذكر الناسي، والجاهل، إعلامًا لوقتها ليجتمع المسلمون إليها، ويؤدوها في جو يسوده الإخاء والمحبة والألفة.
وهي خير العبادات، وكانت قرة عين النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما في الحديث: «وجعلت قرة عيني في الصلاة»، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أرحنا يا بلال بالصلاة».(3/153)
عباد الله إن الصلاة كما علمتم عماد الدين، ونور اليقين ومصدر البر، ومبعث الخير، العميم، وعصمة لمن وفقه الله عن الفحشاء والمنكر، ونجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وقد جاء في الحديث: «الصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء» وذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فقال: «من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة».
عباد الله إن الصلاة من أجلّ الشعائر الدينية وأعظم المظاهر الإسلامية ومن أشرف العبادات وهي خير ما يتقرب به العبد إلى الله وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي حتى تورمت قدماه.
عباد الله إذا فهمتم ما سبق من عظم شأن الصلاة فما بال قوم يهملونها ويتهاونون بها ويتكاسلون عنها عند حلول وقتها وما بال أقوام يؤدونها على عجل وعلى غير وجهها وينقرونها نقر الغراب كأنهم مكرهون عليها وينسون أنها وقفة أمام بديع السموات والأرض فمن الخير أن تطول هذه الوقفة قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة».
ومن المؤسف أن أكثر الخطباء اليوم عملوا بخلاف ذلك فأطالوا الخطبة وقصروا الصلاة فلا حول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله إن بعض الناس يؤدي الصلاة تعودًا لا تعبدًا وهذا ما جعلها لا تنهاه عن فحشاء ولا منكر لسان حالهم يقول يا إمام أرحنا من الصلاة.
عباد الله إن الله جل وعلا أنعم علينا بنعم عظيمة لا تعد ولا تحصى جعلنا من بني آدم وجعل لنا سمعًا وأبصارًا وأفئدة ومنحنا النشاط والقوة وشد أسرنا. ووهبنا الصحة والعافية والرزق وسهل علينا الحركة والسعي.
هذا البعض اليسير من نعمه كله كرمًا منه وتفضلاً ولم يطلب منا إلا دقائق من يوم طويل نشكره فيها ونحمده ونسأله أن يعفو عنا ويرزقنا ويرحمنا ويحفظنا وأولادنا وأهلنا وهذه لا تخرج عن كونها لخيرنا في الدنيا والآخرة.(3/154)
فما لنا لا نقوم بهذه الدقائق بجد واجتهاد وإخلاص ورغبة ونشاط ونسعى إلى مناجاة مولانا وسيدنا راغبين ونحافظ على أوقات الصلاة ونقيمها على الوجه الأكمل لا شك أن العبد عندما يحاسب نفسه يخجل ويستجي جدًا ويتذكر أن الصلاة التي هي صلة بينه وبين مولاه لا تأخذ من يومه إلا دقائق بينما له باقي اليوم كله.
اللهم ارزقنا المعرفة على بصيرة بك وبأسمائك وصفاتك ووفقنا لما تحبه وترضاه من الأعمال وجنبنا ما تكرهه ولا ترضاه من الأقوال والأعمال وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار يا عزيز ويا غفار اغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
139- خطبة في "ذكر صفة الجنة وأهلها"
الحمد لله البر الكريم. الرءوف الرحيم. ذي الفضل العظيم والإحسان الشامل الكامل العميم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العظيم. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى الكريم. اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه السالكين للصراط المستقيم.(3/155)
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى فإن الله أعد الجنة للمتقين. (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلوب العالمين، فيها أنهار من ماء غير آسنٍ وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى، ولههم فيها من كل الثمرات والفواكه المتنوعة لذيذة الطعم سهلة المنار على المتناولين، وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون، ظلها ممدود وخيرها غزير غير محدود، وأنهارها تجري في غير أخدود، فتبارك الرب المعبود، دار جل من سوها وبناها، دار طابت للأبرار منازلها المزخرفة وسكناها دار تبلغ النفوس فيها منيتها ومناها، رياضها الناضرة مجمع الأصفياء المتحابين، وبساتينها الزاهرة نزهة المشتاقين، وخيام اللؤلؤ والدر على شواطئ أنهارها بهجة للناظرين، فيها خيرات الأخلاق حسان الوجوه قد جمع الله لهن الجمال الباطن والظاهر من جميع الوجوه، أبكارًا عربًا أترابًا كأنهن اللؤلؤ المكنون، قاصرات الطرف من حسنهن الذي قصر عن وصفه الواصفون، مقصورات في خيام اللؤلؤ والزبر جد عن رؤية العيون، يتمتع أهلها في كرم الرب الرحيم، وينظرون بأبصارهم إلى وجهه الكريم. فإذا رأوا ربهم تعالى نسوا ما هم فيه من النعيم، ينادي المنادي في أرجاء الجنة مبشرًا لأهلها بدوام النعيم سرمدًا، إن لكم إن لكم إن تحيوا فلا تموتوا أبدًا،(3/156)
وإن لكم أن تصحوا فلا تمرضوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، إن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدًا، وإن لكم أن يحل الكريم عليكم رضوانه فلا يسخط عليكم أبدًا يتزاور فيها الأصحاب والأقارب والأحباب ويجتمعون في ظلها الظليل، ويتعاطون فيها كؤوس الرحيق والتسنيم والسلسبيل، ويتنادمون بأطيب الأحاديث متحدثين بنعم المولى الجليل، قد نزع من قلوبهم الغل والهم والأحزان، وتوالت عليهم المسرات والخيرات والكرم والإحسان، لمثل هذه الدار فيعمل العاملون، وفي أعمالها الموصلة إليها فليتنافس المتنافسون، فوا عجبًا كيف نام طالبها، وكيف لم يسمح بمهرها خاطبها وكيف طاب القرار في هذه الدار بعد سماع أخبارها، وكيف قر للمشتاقين القرار دون معانقة أبكارها طريقها يسر على من يسره الله عليه، وهو امتثال الأوامر واجتناب النواهي والتوبة والإنابة إليه.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل واعتقاد ونعوذ بك من النار وما يقربنا إليها من قول وعمل واعتقاد إنك أنت الكريم الجواد.
140- خطبة في "النار وصفتها وأهلها"
الحمد لله الذي جعل النار مثوى للكافرين وعاقبة المجرمين والمتكبرين والمتجبرين فهو الحكم العدل شديد العقاب وأحكم الحاكمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي حذر وأنذر وأخبر أن جهنم مثوى للظالمين. اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أئمة المتقين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.(3/157)
أما بعد: أيها الناس اتقوا ربكم واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، فإن الله أخبر انه لا يُصلي النار إلا الأشقى الذي كذب وتولى وجمع فأوعى، ونسى المبتدأ والمنتهى، فهي دار من طغى وبغى، وتجبر على الخلق وآثر الحياة الدنيا، دار الشقاء الأبدي والعذاب الشديد السرمدي، دار جمع الله فيها للطاغين أصناف العذاب، وأحل على أهلها السخط والسعير والحجاب، دار اشتد غيظها وزفيرها، وتفاقمت فظاعتها وحمي سعيرها، قعرها بعيد، وعذابها شديد، ولباس أهلها القطران والحديد، وطعامهم الغسلين وشرابهم الصديد، يتجرعه المجرم ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت فيستريح من التنكيد، يتردد أهلها بين الزمهرير المفرط برده وبين السعير، ويلاقون فيها العنا والشقا فيا بئس المثوى ويا بئس المصير، ويُلقى عليهم الجوع الشديد المفظع، والعطش العظيم الموجع، فيستغيثون للطعام والشراب، فيغاثون من هذا العذاب بأفظع عذاب، يغاثون بماء كالمهل وهو الرصاص المذاب، خبيث الطعم منتن الريح حره قد تناهى، إذا قرب من وجوههم اسقط جلدها ولحمها وشواها وإذا وقع في بطونهم صهرها وقطع معاها، يغلي طعام الزقوم في بطونهم كغلي الحميم فشاربون عليه من الحميم. فشاربون شرب الإبل العطاش الهيم. هذا نزلهم فبئس النزل غير الكريم. ينادون مالكًا خازن النار: (لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ( [الزخرف: 77]. فيقول: (إِنَّكُم مَّاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ( [الزخرف: 78]. وينادون مستغيثين بربهم: "ربنا غلبت علينا شوقتنا وكنا قومًا ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال: اخسوا فيها ولا تكلمون فحينئذ ييأسون من كل خير ويأخذون في الزفير والشهيق، وكلما رفعهم اللهب وأرادوا أن يخرجوا منها : أعيدوا فيها وقيل لهم: ذوقوا عذاب الحريق ، لا يفتر عنهم من عذابها وهم فيه مبلسون ويبكون(3/158)
دما بعد الدموع فلا يرحمون جزاء بما كانوا يكسبون. قد فاتهم مرادهم ومطلوبهم، واعترفوا بذنوبهم وأحاطت بهم ذنوبهم يدعون بالويل والثبور يا ثبوراه يا حسرتنا على ما فرطنا في جنب الله ، وا حزننا من فظيعة العذاب والشقا، وا كربنا من دار العقاب وتجدد العنا وا فجيعتنا من الخلود في الجحيم ويا عظم البلاء ، فما لنا من شافعين ، ولا أولياء وأخلاء دافعين قد نسينا الرحمن في العذاب كما نسيناه، وكما جحدنا آياته وجزاءه ولقاء، فوالله أن أفئدتنا لتفتت من قوة العقاب ، وإن قلوبنا لتتقطع من الكروب وعظم المصاب ، سواء علينا أجزعنا أم صبرنا فالعذاب دائم وسواء دعونا أو سكتنا فليس لنا مشفق ولا ولي ولا راحم. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
141- "موعظة"
عباد الله إن الحياء كما علمتم من الإيمان وإنه لا يأتي إلا بخير وأنه خلق الإسلام وذلك أنه يجر إلى الكمالات وإلى الفضائل فمن لم يكن من أهل الحياء حقيقة فليقتدي بهم وليتشبه بهم لأنهم خاصة الفضلاء.
فذو الحياء الخُلُقي يمنعه حياؤه من العدوان على المخلوقات، ذو الحياء لا تبدر منه بادرة بينها وبين الفضائل تنافي، ذو الحياء لا يقدم على الزنا بل ولا على مغازلة النساء التي هي مفتاح الفسوق ولا يقدم على معاملة في الربا لعلمه أن متعاطي الربا العالم بتحريمه محارب لله ورسوله.
ذو الحياء لا يغش أخاه المؤمن لعلمه بتحريم الغش وأن من غشنا فليس منا. ذو الحياء لا يعثو في لحوم الغوافل، ذو الحياء لا ينقل كلام مؤمن إلى أخيه لقصد الإفساد بينهم، ذو الحياء لا يعق والديه ولا يقطع ما أمر الله به أن يوصل ولا يشهد بالزور ولا يؤذ جيرانه.(3/159)
صاحب الحياء يبتعد عن أكل الحرام وعن المجاهرة بالمعاصي فلا يحلق لحيته لأنه يعلم أنه بذلك عاص لله ولرسوله ولا يخنفس ولا يجعل تواليت لعلمه أن ذلك تشبه بالإفرنج ولا يستعمل الملاهي بأنواعها من تلفزيون أو سينماء أو مذياع أو كرة أو بكم أو عود أو فديو أو نحو ذلك من البدع المحرمات التي حدثت في زمننا كالمذكورات.
صاحب الحياء لا يشرب الدخان أو إن بلي به فلا يشربه في الأسواق ومجامع الناس لعلمه أنه إذا جاهر به في ذلك ازداد إثمه وعظم جرمه. ذو الحياء لا يخلو بامرأة لا محرم معها لا في بيت ولا في سيارة ولا في أي محل لعلمه أن خلوة بالأجنبية محرم للأحاديث الواردة في ذلك.
صاحب الحياء لا يبيع ويشتري في صور ذوات الأرواح مجسدة أو غير مجسدة ولا يبيع آلات اللهو كالتلفزيون والسينما والمذياع لعلمه أن ذلك محرم وأنه بتعاطيه ذلك يكون معينًا على نشر المعاصي في أرض الله بل ولا يصلحها لأن ذلك مساعدة على المعاصي.
والأجرة حرام التي تأتي مقابل تصليح آلات اللهو والفسوق وقس على ذلك باقي المحرمات فصاحب الحياء الخُلُقي يستحي من الله ومن استحيا من الله لم يغضبه.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أراد الله أن يهلك عبدًا نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلفه إلا مقيتًا ممقتًا فإذا لم تلفه إلا مقيتًا ممقتًا نزعت منه الأمانة فإذا نزعت منه الأمانة لم تلفه إلا خائنًا مخونًا فإذا لم تلفه إلا خائنًا مخونًا نزعت منه الرحمة فإذا نزعت منه الرحمة لم تلفه إلا رجيمًا ملعنًا نزعت منه ربقة الإسلام». رواه ابن ماجه.
قال العلماء على هذا الحديث، وهذا تريب دقيق في وصفه لأمراض النفوس وتتبعه لأطوارها وكيف تسلم كل مرحلة خبيثة إلى أخرى أشد نكرًا فإن الرجل إذا مزق جلباب الحياء عن وجهه ولم يتهيب على عمله حسابًا ولم يخش في سلوكه لومة لائم مد يد الأذى للناس وطغى على كل من يقع في سلطانه.(3/160)
ومثل هذا الشخص الشرس لن تجد له قلبًا يعطف عليه بل يغرس الضغائن في القلوب وينميها وأي شخص جريء على الله وعلى الناس ولا يرده عن الآثام حياء فإذا صار الشخص بهذه المثابة لم يؤتمن على شيء قط إذ كيف يؤتمن على أموال لا يخجل من أكلها أو على أعراض لا يستحي من فضحها أو على موعد لا يهمه أن يخلفه أو على واجب لا يبالي أن يفرط فيه أو على بضاعة لا يتنزه عن الغش فيها.
فإذا فقد الشخص حياءه وفقد أمانته أصبح وحشيًا كاسرًا ينطلق معربدًا وراء شهواته ويدوس في سبيلها أزكى العواطف فهو يغتال أموال الفقراء غير شاعر نحوهم برقة وينظر إلى المنكوبين والمستضعفين فلا يهتز فؤاده بشفقة فهو لا يعرف إلا ما يغويه ويغريه بالمزيد.
ويوم يبلغ امرؤ هذا الحضيض فقد أفلت من قيود الدين وانخلع من ربقة الإسلام، وللحياء مواضع يستحب فيها فالحياء في الكلام يتطلب من المسلم أن يطهر فمه من الفحش وأن ينزه لسانه عن العيب وأن يخجل من ذكر العورات فإن من سوء الأدب أن تفلت الألفاظ البذيئة من المرء غير عابئ بمواقعها وآثارها ومن الحياء أن يقتصد المسلم من الكلام في تحدثه في المجالس.
اللهم طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وآذاننا عن الاستماع إلى ما لا يرضيك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
142- خطبة
في الحث على تقوى الله عز وجل
عباد الله عليكم بتقوى الله فإنها وصية الله للأولين والآخرين، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ( [النساء: 131].(3/161)
فما من خير عاجل ولا آجل ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله سبيل موصل إليه، ووسيلة مبلغة له، وما من شر عاجل ولا آجل ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله عز وجل حرز متين وحصن حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره.
وكم علق الله العظيم في كتابه العزيز على التقوى من خيرات عظيمة وسعادات جسيمة من ذلك المعية الخاصة المقتضية للحفظ والعناية والنصر والتأييد، قال تعالى: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ( [البقرة: 194]. ومن ذلك المحبة لمن اتقى الله، قال الله تعالى: (فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ( [التوبة: 7].
ومن ذلك التوفيق للعلم قال تعالى: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ( [البقرة: 282]. ومن ذلك نفي الخوف والحزن عن المتقي المصلح قال الله تعالى: (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( [الأعراف: 35]. ومن ذلك الفرقان عند الاشتباه ووقوع الإشكال والكفارة للسيئات والمغفرة للذنوب قال الله تعالى: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ( [الأنفال: 29].
ومن ذلك النجاة من النار قال الله تعالى: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا( [مريم: 72]. وقال تعالى: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ( [الزمر: 61]. ومن ذلك المخرج من الشدائد والرزق من حيث لا يحتسب قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ( [الطلاق: 3].(3/162)
ومن ذلك اليسر قال الله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً( [الطلاق: 4]. ومن ذلك عظم الأجر قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً( [الطلاق: 5]. ومن ذلك الوعد من الله بالجنة قال تعالى: (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ( [مريم: 61] الآيات إلى قوله من كان تقيًا.
وقال تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ( [الشعراء: 90]. وقال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ( [القمر55]. وقال تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ( [المائدة: 27]. وقال تعالى: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ( [الزخرف: 67].
ومن ذلك الكرامة عند الله بالتقوى قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ( [الحجرات: 13]. إذا فهمت ذلك فاعلم أن التقوى هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، فالمتقون هم الذين يراهم الله حيث أمرهم ولا يقدمون على ما نهاهم عنه.
المتقون هم الذين يعترفون بالحق قبل أن يشهد عليهم ويعرفونه ويؤدونه، وينكرون الباطل ويجتنبونه ويخافون الرب الجليل الذي لا تخفى عليه خافية، المتقون يعملون بكتاب الله فيرحمون ما حرمه ويحلون ما أحله.
ولا يخونون في أمانة ولا يرضون بالذل والاهانة ولا يعقون ولا يقطعون، ولا يؤذون جيرانهم ولا يضربون إخوانهم، يصلون من قطعهم، ويعطون من حرمهم، ويعفون عمن ظلمهم الخير عندهم مأمول، والشر من جانبهم مأمون لا يغتابون ولا يكذبون ولا ينافقون ولا ينمون ولا يحسدون ولا يراءون ولا يرابون ولا يقذفون ولا يأمرون بمنكر ولا ينهون عن معروف، بل يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، تلك صفات المتقين حقًا الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون.(3/163)
إخواني، لو تحلى كل منا بالتقوى لحسن عمله، وخلصت نيته، واستقام على الهدى، وابتعد عن المعاصي والردى، وكان يوم القيامة من الناجين.
وصف المؤمن المتقي
للإمام علي رضي الله عنه
المتقون هم أهل الفضائل منطقهم الصواب وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم نزلت أنفسهم منهم في البلاء كما نزلت في الرخاء ولولا الأجل الذي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقًا إلى الثواب وخوفًا من العقاب.
عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة وأجسادهم نحيفة وحاجاتهم خفيفة وأنفسهم عفيفة صبروا أيامًا قصيرة أعقبتهم راحة طويلة وتجارة مُربحة يسرها لهم ربهم.
أرادتهم الدنيا فلم يريدوها وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً يحزنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم.
فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعًا وتطلعت نفوسهم إليها شوقًا وظنوا أنها نصب أعينهم وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زئير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم فهم حانون على أوساطهم مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم وأما النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء.
قد برهم الخوف بري القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض ويقول قد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم لا يرضون من أعمالهم القليل ولا يستكثرون الكثير فهم لأنفسهم متهمون ومن أعمالهم مشفقون إذا زُكي أحدهم خاف مما يقال فيقول أنا أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم بي من نفسي اللهم لا تؤآخذني بما يقولون واجعلني أفضل مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون.(3/164)
فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين وحزمًا في لين وإيمانًا في يقين، وحرصًا في علم، وعلمًا في حلم وقصدًا في غنى وخشوعًا في عبادة وتحملاً في فاقة وصبرًا في شدة وطلبًا في حلال ونشاطًا في هدى وتحرجًا عن طمع.
يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل، يمسي وهمه الشكر ويصبح وهمه الذكر يبيت حذرًا ويصبح فرحًا، حذرًا لما حذر من الغفلة، وفرحًا بما أصاب من الفضل والرحمة، إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره، لم يعطها سؤلها فيما تحب.
قرة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل، تراه قريبًا أمله، قليلاً زلله، خاشعًا قلبه، قانعة نفسه، منزورًا أكله سهلاً أمره، حريزًا دينه، ميتة شهوته مكظومًا غيظه، الخير منه مأمول، والشر منه مأمون.
إن كان في الغافلين كتب في الذاكرين وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين يعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ويصل من قطعه، بعيدًا فحشه، لينًا قوله، غائبًا منكره، حاضرًا معروفه، مقبلاً خيره، مدبرًا شره، في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور وفي الرخاء شكور.
لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب، يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه، لا يضيع ما استحفظ، ولا ينسى ما ذكر، ولا ينابز بالألقاب، ولا يضار بالجار، ولا يشمت بالمصاب، ولا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحق.
إن صمت لم يغمه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته، وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له، نفسه منه في عناء والناس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه.
بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة، ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة، ليس تباعده بكبر وعظمة، ولا دنوه بمكر وخديعة.(3/165)
قال فصعق همام صعقةً كانت نفسه فيها. فقال أمير المؤمنين عليه السلام أما والله لقد كنت أخافها عليه، ثم قال هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها فقال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين فقال: ويحك، إن لكل أجل وقتًا لا يعدوه وسببًا لا يتجاوزه اهـ.
اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وألهمنا ذكرك وشكرك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم يا عالم الخفيات ويا سامع الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يا خالق الأرض والسموات أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد الوهاب الذي لا يبخل والحليم الذي لا يعجل لا راد لأمرك ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر ذنوبنا وتنور قلوبنا وتثبت محبتك في قلوبنا وتسكننا دار كرامتك إنك على كل شيء قدير وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
143- خطبة
في ذم الدنيا والتحذير من فتنتها
الحمد لله جعل الدنيا دار ممر والآخرة دار المقر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له على رغم أنف من جحد به وكفر. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المبعوث إلى جميع البشر. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحابته الذين جاهدوا في سبيل الله فما وهن عزمهم عن الجهاد وما فتر.
أما بعد: فقد قال الله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً( [الكهف: 46].(3/166)
أيها المسلمون إن من الناس من يكد ويكدح وينصب للمال يجمعه بعرقه وسهره وتعبه وتفكيره وهو المنقطع الفاني والمضمحل، ويعرض عن الأعمال الصالحة والباقية والسارة والنافعة عند الله تعالى. وإن جاءها فبالقليل من الجد والنشاط والإخلاص. وفي هذه الآية الكريمة نص صريح إلى أن المال والبنين زينة دنيوية تخلق وتبلى وتفنى. وأن الذي يبقى للإنسان نفعه وأثره مضاعفًا عند الله تعالى هي الباقيات الصالحات. من صلاة وصدقة وصوم وحج وعمرة وقراءة قرآن وذكر وتسبيح وتهليل وطلب علم وتعليم نافعين وأمر بمعروف ونهي عن منكر وبر وإحسان وصلة رحم وغير ذلك. وقد ذم الله الدنيا وحذر من خضرتها وضرب لها الأمثال الكثيرة وعراها من زينتها وزخرفها في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -. ليتصورها الناس حق التصور ويعرفوا باطنها وظاهرها فيقارنوا بينها وبين الدار الباقية ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار. فقال تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ( [يونس: 24].
وقال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ولمن قام على الأمة من بعده: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً( [الكهف: 45].(3/167)
وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مر بجديٍ ميت فأخذ بأُذنه فقال أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا ما نحب انه لنا بشيء فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: للدنيا أهون على الله من هذا عليكم».
ذلك مثل الحياة الدنيا التي انشغل بها الكثير من الناس عن الآخرة كالمطر ينزل على الأرض فاختلط به نباتها أو تنبت من كل زوج بهيج. فبينما خضرتها ناعمة زاهرة تأخذ بالقلوب، وزهرتها فاقعة تسر الناظرين وتأخذ بالألباب، إذ أصبحت هشيمًا تذروه الرياح فذهب ذلك النبات الناظر والزهر الزاهر، والمنظر البهي، فأصبحت غبراء موحشة قد صدف عنها البصر وأنحرف عنها النظر، كذلك هذه الدنيا بينما صاحبها قد أعجب بشبابه وفاق فيها على أقرانه وأترابه وحصل الدرهم والدينار، واقتطف من لذاتها الأزهار، وخاض في اللذات والشهوات أيامه، وظن أنه لا يزال في الدنيا سائرًا، وعلى تصريف أحوالها قادرًا إذ أتاه الموت فذهب عنه سروره وزالت لذته وحبوره واشتدت آلامه وفارق قوته وماله وجاءت سكرة الموت بالحق ونقل إلى قبره لا مال ولا ولد ولا خدم ولا حشم مجردًا ضعيفًا وحيدًا فريدًا فمن يا ترى ينجيه من بأس الله ويخفف من كربته ويؤنسه في وحدته ودار غربته. اللهم لا شيء إلا عمل صالح قدمه في دنياه فهو أنيسه في قبره ورفيقه في حشره ونشره (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ( [الطور: 21].
فمن زرع الذنوب والآثام في الدنيا فلن يحصد إلا الشوك والضريع والمهل في الآخرة منها طعامه (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ( [الدخان46].(3/168)
ومنها شرابه (وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً( [الكهف: 29]. ومن زرع الباقيات الصالحات وهو مؤمن أثمرت له الجنان الخالدة والثمار اليانعة والحور الناعمة والأنهار الجارية والقصور العالية التي لا يستطيع الإنسان وصف نعيمها فضلاً عن عده أو حده قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً( [الكهف: 108].
وفي الحديث القدسي يقول الرب سبحانه: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر». ومصداق ذلك في القرآن المجيد: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( [السجدة: 17].
وقد ضرب الله تعالى للقيم الزائلة والباقية مثلاً بين رجلين أحدهما شاكر لنعمة الله والآخر كافر بها. وما صدر من كل منهما من الأقوال والأفعال وما حصل بسبب ذلك من العقوبات والثواب العاجل والآجل ليعتبر الناس بحالهما ويتعظوا بما وقع عليهما، فقال سبحانه: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً( [الكهف: 33].(3/169)
هذه هي المقدمة للقصة تبدأ بذكر القيم الزائلة وتعريفها بجنتين مثمرتين من أعناب يحف بهما النخل ويتوسطهما الزرع وتتفجر بينهما الأنهار، وإنه لمنظر بهيج حقًا حين تكون الحديقتان بهذا الشكل والتناسق البديع وخاصة إذا توافرت الثمار وارجحنت الأشجار واطردت الأنهار فلا نقص في ثمر ولا عوز في ماء ولا وجع في شجر ولا تعب في ري كما يؤخذ من الآية الكريمة الآنفة الذكر. ومع ذلك النعيم لم يشكر صاحب الجنتين ربه الذي أنعم عليه بأصناف النعم بل بطر وانتفش وركن إلى الدنيا وافتخر بماله وولده وأنصاره وأنكر البعث كما أخبر الله تعالى عنه بقوله: (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً( [الكهف: 34- 36]. فلما سمع الرجل الشاكر مقالته لم يتجه إلى المتاع والزخرف يسأله ربه فالدنيا عنده حقيرة صغيرة وإنما اتجه إلى القيم الباقية إلى تحقيق الحق وإزهاق الباطل. فغضب لربه وانتفض الإيمان في قلبه فلم يبال المال ولم يدار النفر ولم يتلعثم في الحق ولم يجامل فيه وقال معتزًا بعقيدته وإيمانه معتزًا بالله الذي تعنو له الوجوه منكرًا على صاحبه بطره وكبره مذكرًا له بمنشئه من ماء وطين موجها له إلى الأدب الواجب في حق النعمة وشكر المنعم بها منكرًا عليه طغيانه وكفره راجيًا عند ربه ما هو خير وأبقى من حديقتيه وثماره كما أخبر الله تعالى عنه أنه: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ(3/170)
مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا( [الكهف: 37 - 41]. فاستجاب الله دعوة الرجل المؤمن وحقق ما توقعه على جنة هذا المغرور المتبجح فما هي إلا ساعة من نهار أو ليل فإذا الثمر كله مدمر كأنما أخذ من كل جانب فلم يسلم منه شيء وإذا الجنة خاوية على عروشها مهشمة محطمة وإذا المغرور المنتفش بالأمس يقلب كفيه أسفًا وحزنًا على ماله الضائع وجهده الذاهب وإذا كل شيء في الحديقتين ينقلب من مشهد النماء والازدهار إلى مشهد الدمار والبوار ومن هيئة البطر والافتخار إلى هيئة الندم والانكسار كما قال الله تعالى: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا( [الكهف: 42].
وهذا جزاء كل من تكبر ونافق وجحد فضل الله وكفر نعمته وتجبر على عباده بالأمس واليوم وبعد اليوم وفي الغد (وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً( [الكهف: 43]. نعم وما كان منتصرًا (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً( [الكهف: 44].
فاتقوا الله عباد الله. واتقوا الدنيا فإنها كما علمتم دار غرور وعن قريب تخرب ويموت أهلها وشمروا إلى دار لا يخرب بنيانها ولا يموت سكانها ولا يهرم شبابها هوائها النسيم يتقلب أهلها في رحمة.
144- خطبة أخيرة تابعة لما قبلها وصالحة بعد كل خطبة(3/171)
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الغني الصبور الشكور. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله القائل كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل. اللهم صلى وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين صانوا أنفسهم عن فتنة الدنيا وغرورها فأعزهم الله وأعلى ذكرهم في العالمين.
أما بعد. فقد قال الله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ( [الأنبياء: 35].
أيها المسلمون إن الموت كأس لا بد من شربه وإن طال الزمن لا ديمومة إلا لله وحده. والابتلاء سنة ملازمة للحياة الدنيا فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يفتن عباده بما به يتميز الخبيث من الطيب كما قال سبحانه: (مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ( [آل عمران: 179]. والفتن أنواع متعددة فقد يفتن المؤمن بالخير والشر وبالغنى والفقر وقد يفتن بأنواع أخرى كثيرة غير هذه وتلك ليعرف أشاكر أم كافر أصادق أم كاذب أصابر أم قانط (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ( [آل عمران: 14]. (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً( [الفرقان: 20].
وإن من أعظم الفتن وأقواها على النفوس المؤمنة فتنة المال، وكان يقال من العصمة أن لا تجد. وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ( [التغابن: 15].(3/172)
وعن كعب بن عياظ رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال». رواه الترمذي. وصدق رسول الله فكم من أناس يصبرون على الشدائد والفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم في الأوحال ولا تذل. ولكن قليلون هم الذين يصبرون على الثراء والمنصب والوجدان وما يغريان به من لذة ومتاع وما يثيرانه من شهوة وأطماع. وهذه عادة الإنسان في عمومه إلا من عصمه الله بالإيمان، لا يشكر الله تعالى لجهله وظلمه. وإذا رأى نفسه غنيًا طغى وبغى وتجبر على الهدى ونسى أن إلى ربه الرجعى. قال الله عز وجل: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى( [العلق: 7].
والمال إما نعمة يسبغها الله على من يشاء من عباده حين يوفقه إلى طاعته والشكر على نعمته والإصلاح بها في الأرض والتوجه بها إلى الله على منهج الخير والبر والإحسان فلا يرغب في غير ما أمر الله به ولا يتعدى حدود ما أنزل الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
وفي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «نعم المال الصالح للرجل الصالح».
وإما نقمة يصيب الله بها من يشاء من عباده لما يعلم من فساده وسوء نيته وأخلاقه فإذا المال في حقه شقاء وتعب وفتنة وعذاب كما قال تعالى في مثل هذا الصنف من الناس: (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ( [التوبة: 55].(3/173)
فاتقوا الله عباد الله فيما عليكم وراقبوه جل وعلا فيما لديكم واعرفوا حقيقة الدنيا وما هي صائرة إليه واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( [طه: 11].
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً( [الأحزاب: 56]. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرًا».(3/174)
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين وأصحابه الطيبين، اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، اللهم ارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، اللهم انصر جيوش المسلمين وعساكر الموحدين على اليهود والشيوعيين وعلى الكفار والملحدين واجعلهم على الحق ظاهرين وفي سبيلك مجاهدين يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا وأعف عنا، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء، اللهم اجعل ألسنتنا رطبة بذكرك ونفوسنا سمعة مطيعة لأمرك وجوارحنا ساعية في خدمتك، اللهم ارزقنا زهدًا في الدنيا ورغبة في الآخرة إنك على كل شيء قدير، اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة والنجاة من النار، اللهم آمنا في أوطاننا واستعمل علينا خيارنا واكفنا شر شرارنا واجعل ولايتنا وولاية جميع المسلمين في من يخافك ويتقيك ويتبع رضاك يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. عباد الله (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ( [النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ( [العنكبوت: 45].
145- (خطبة)
في التحذير من حلق اللحى
الحمد لله الذي جمل الرجال باللحى. أحمده تعالى وأشكره وأتوب إليه واستغفره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فالق الحب والنوى. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله القائل: «أعفو اللحى وأحفوا الشوارب ولا تشبهوا بالمجوس واليهود والنصارى».(3/175)
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تمسك بهديه سرًا وجهرًا.
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى فيما أمر وانتهوا عما عنه نهى وزجر وتمسكوا بهدي نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - خير البشر. واعلموا أن من أقبح البدع التي عم وطم البلاء بها ما اعتاده بعض الناس من حلق اللحية وتوفير الشارب. وهذه البدعة المشينة سرت إلى المسلمين وانتشرت بينهم من مخالطة الأجانب واستحسان عاداتهم حتى تمكنت من نفوس الكثير منهم وصار لها السلطان القوي على أفئدتهم وعقولهم فاستقبحوا بذلك حسنة من محاسن دينهم ورجولتهم وتشبهوا بالمشركين والمجوس وقد أمروا بمخالفتهم فيما ليس من دين الإسلام. وتركوا سنة نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل مخلوق وأكمله على الإطلاق. ولا شك أن هذا من ضعف الإيمان وقلة البصيرة.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: «ومن رغب عن سنتي فليس مني»، ولقد كان من هديه صلوات الله وسلامه عليه وهدي النبيين قبله وهدي أصحابه إعفاء اللحية وإحفاء الشارب ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير شعر اللحية. وللترمذي عن ابن عمر كث اللحية وفي رواية كثيف اللحية وفي أخرى عظيم اللحية. وعن أنس كانت لحيته قد ملأت من ها هنا إلى هاهنا وأمر بيده على عارضيه. هذه بعض من أخبار أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه الوارد في توفير اللحية. وما خرج أحد عن أمره وطريقته التي كان عليها إلا سلك أحد طريقين. إما جفاء وإعراض. وإما غلو وإفراط. وهذه مصائد الشيطان التي يصطاد بها بني آدم كما قال عز من قائل: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( [النور: 63].(3/176)
وصح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبه: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة». وكما كان صلوات الله وسلامه عليه يعفى لحيته ويحفي شاربه فقد أمر أمته بذلك والأمر بالشيء نهي عن ضده.
ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب». وفي رواية عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى وإعفاء الشيء تركه حتى يكثر».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى وخالفوا المجوس».
والأحاديث في هذا الباب كثيرة وكلها نص في وجوب توفير اللحية وحرمة حلقها، ويدخل في مسمى اللحية شعر الوجه واللحيين والخدين. واللحية لها مكان بارز في الإسلام وحق كبير بين المسلمين. فلقد قرر العلماء أن من جنى على لحية غيره فأزالها أو أزال جمالها على وجه لا يعود فعليه الدية كاملة.
ومن نظر في أقوال علماء المذاهب الأربعة وجد أنهم مجمعون على وجوب توفير اللحية وحرمة حلقها والأخذ القريب منه. ولا يخفى أن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آنفًا خالفوا المشركين. وقوله خالفوا المجوس يؤيدان الحرمة، ولا شك أن حلق اللحية وإعفاء الشارب موافقة للمشركين والمجوس في شبههم الذي يختصون به لأنهم كانوا ولا زالوا يعفون شواربهم ويحلقون لحاهم ومخالفتهم أمر مقصود للشارع الحكيم، ومشابهتهم فيما ليس من شرعنا يبلغ التحريم في بعضه.(3/177)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من تشبه بقوم فهو منهم». ليس منا من تشبه بغيرنا. وهذا غاية في الزجر عن التشبه بالكفار والمجوس في أي شيء مما يختصون به من ملبوس أو هيئة. وقد يظن بعض الناس أن توفير اللحية من الأمور العادية التي يتبع الناس فيها عادة أهل زمانهم أو بلدهم وهو ليس كذلك وإنما هو من الأمور الشرعية التي أمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأصل في أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - التعبد حتى يقوم الدليل على خلافه ولهذا فحالق اللحية واقع بين خطرين عظيمين فإن كان حلقها استهزاء وتنقيصًا لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الوارد فيها فقد قيل بكفره. وإن كان حلقها تهاونًا بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو فاسق عاص لله تعالى ولرسوله، وكلا الأمرين خطير قال الله تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً( [النساء: 65]. وقال سبحانه: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا( [الحشر: 7]. ولقد كان من شرف اللحية وفظاعة حلقها عند المسلمين قبل مخالطة الأجانب أن المذنب تقيده الدولة بالحديد وتحلق لحيته لما في حلقها من خزي ومذلة، ثم يصبغ وجهه بالسواد ويطاف به في الأسواق ليراه الناس على تلك الحال المخزية نكالا ً وعبرة. أما بعد مخالطة الأجانب فالأمر تغير كثيرًا. فمن الناس من يحلق لحيته بيده إمعانًا في الكراهية لها ومنهم من يحلقها بماله تماديًا في الإثم والغرور، ناسين أو متناسين الأوامر النبوية بتوفيرها. فيا ويحهم وقد كرهوا خير الهدي ورغبوا في شره وحلقوا لحاهم بأيديهم وصار حلقها بدعة عار وضلال في وجوههم. أيظن هؤلاء أن حلقها يكسوهم نضرة وبهاء. كلا. والله إنه ليكسبهم قبحًا وضلالاً. انظر إلى وجوه الحالقين لها كيف(3/178)
يذهب جمالها وبهاؤها وخاصة عند المشيب فتكون أشبه بوجوه العجائز. وانظر إلى وجوه الموفرين لها شبابًا وشيبًا كيف نضرت وازدانت باللحية حسنًا وجمالاً.
وإذا كان من المشركين في هذا الزمن من يعفي لحيته فلا يجوز لنا أن نترك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعفاء اللحية من أجل أن بعض المشركين يعفيها. فالمشرك إذا أعفى لحيته فهو لأمر دنيوي وحسب، أما نحن فنعفيها لأمر شرعي ولهذا فهو المتشبه بنا ولسنا نحن المتشبهين به. ومن نظر إلى ما عليه المسلمون اليوم وجد أن إعفاء اللحية غريب بينهم وأهلها قلة فيهم وتوفيرها شاق على أنفس الكثير منهم وخاصة من له نظراء يحلقونها أو رؤساء جهلة يكرهونها. ولكن هل نترك طاعة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي عين صلاحنا وفلاحنا ورفعتنا عند الله تعالى من أجل إنسان لا يملك لنفسه فضلاً عن غيره نفعًا ولا ضرًا. هل نترك التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمل صح أنه عمله وأمر به، من أجل أغراض دنيوية حقيرة، هل نترك هدي الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي شهد له الرب جل جلاله بالاستقامة والسير على الصراط السوي. ونأخذ بهدي المجوس واليهود والنصارى الفاسد المدمر. لا، ثم لا. أيها الأخوة في الإسلام فالمؤمن يتبع الحق ويعمل به ويدعو إليه من يستطيع دعوته ويجتنب الباطل فلا يعمل به ولا ينجذب إليه، فالحق أحق أن يتبع ويطاع ولو تركه الناس، وليس بعد الحق إلا الضلال (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ( [التوبة: 13].(3/179)
فاتقوا الله عباد الله واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم واهتدوا بهدي نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - تنجوا وتسعدوا في الدنيا وتفلحوا في الآخرة (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( [التحريم: 8].
اللهم اهدنا صراطك المستقيم، اللهم ثبتنا على منهج نبيك الكريم، اللهم أعذنا من مضلات الهوى والنفس والشيطان الرجيم، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
146- خطبة تابعة لما قبلها
الحمد لله الذي خلق العباد حنفاء وفطرهم على الخير وكراهة الشر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وإليه المرجع يوم الحشر والنشر.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله أرسله إلى الناس كافة فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة في السر والجهر، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه صلاة وسلامًا دائمين متلازمين طول الدهر.
أما بعد. فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وعليكم بالجماعة المسلمة الموحدة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ عنهم شذ في النار. واعلموا أن من حلق لحيته من غير إكراه ولا علة وأعفى شاربه مهما كان عليه من العبادة والإخلاص لله فإنه قد ارتكب عدة مخالفات للإسلام خطيرة، نوردها فيما يلي.
الأولى: أنه خالف الفطرة التي فطر الله الناس عليها فهو رجل وأبرز مميزات الرجال الظاهرة اللحية ولكنه خالف فطرته ومال إلى ما لم يفطر عليه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك وتقليم الأظافر وحلق العانة ونتف الإبط إلى آخر الحديث».(3/180)
الثانية: أنه عصى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أمره بطاعته ونهاه عن معصيته في القرآن الكريم. ومن ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ( [النساء: 59]، (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ( [النساء: 80]، (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ( [النور: 54].
وقد أمر صلوات الله وسلامه عليه كما سمعتم آنفًا بتوفير اللحى وإحفاء الشوارب وهو لا ينطق ولا يفعل عن الهوى، بل عن وحي وتنزيل (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً( [الأحزاب: 36].
الثالثة: أنه جانب التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إعفاء اللحية وإحفاء الشارب وهو القدوة والأسوة المرضية للمسلمين فلو كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثله الأعلى لتأسى به في إعفاء اللحية وقص الشارب حيث صح عنه أنه فعلهما وأمر بهما وداوم عليهما قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً( [الأحزاب: 21]. وقال سبحانه: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( [آل عمران: 31].
الرابعة: أنه خالف هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في توفير اللحية وإحفاء الشارب واتبع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في توفير اللحية وإحفاء الشارب واتبع هدي المشركين والمجوس الذي هو شر الهدي فلو كمل حبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عدل عن هديه ذلك لأن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر ولا بد. كما أن المشابهة في الظاهر تورث المحبة والموالاة في الباطن. وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة.(3/181)
وفي الحديث المتفق عليه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين». فهل يعتبر المسلم التارك لهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - في توفير اللحية وإحفاء الشارب وهما من أهون الأشياء عليه محبًا للرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا القدر الوارد في هذا الحديث. لا أظن أحدًا يقول نعم. وقد قيل إذا شابه الزي الزي فقد طابق القلب القلب.
فاتقوا الله عباد الله وأطيعوا أمره وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا تتبعوا الهوى فيضلكم عن سبيل الله (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ( [ص: 26]. (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً( [الأحزاب: 56]. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا».(3/182)
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، الله ارض عن أصحاب نبيك أجمعين وعن زوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين، اللهم ارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وأهلك الكفرة والملحدين ودمر اليهود والشيوعيين واجعل دائرة السوء عليهم يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك في الدنيا طاعتك وطاعة رسولك محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي الآخرة رضاك وجنتك والنظر إلى وجهك الكريم، اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل. يا كريم يا رحيم يا عظيم، اللهم أصلح قلوبنا واستر عيوبنا، اللهم امنن علينا بالهداية والتوبة الصادقة والمغفرة والتوفيق الدائم لما تحب وترضى يا ذا الجلال والإكرام.
خطبة أخرى
الحمد لله الذي لم يزل بالنعم منعمًا، وبالمعروف معروفًا، وبالإحسان محسنًا، وبالكرم موصوفًا، كل يوم هو في شأن، يكشف كربًا، ويغفر ذنبًا ويغيث ملهوفًا، ويجبر كسيرًا، ويجير خائفًا، ويرسل بالآيات تخويفًا، نحمده ونستغفره، ونسأله السلامة من حمل العصيان، وإن كان الحمل خفيفًا.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة خالصة للذي فطر السموات والأرض حنيفًا، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، خلقه الله سيدًا كريمًا صادقًا، أمينًا شريفًا عفيفًا. اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه صلاة وسلامًا تزيدهم بهما تفضيلاً وتشريفًا.(3/183)
أما بعد: أيها الناس فأوصيكم ونفسي تقوى الله العزيز الحميد، فاتقوه حق تقاته، واحذروا بطشه الشديد، واعلموا أنه معكم حيثما كنتم فلازموا أدب العبيد، وتدبروا كتابه القرآن المجيد، وما أودعه من الزواجر والوعد والوعيد، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وانظروا في مخلوقات ربكم بعين الاعتبار، وتفكروا في أسمائه وصفاته يا أولي الأفكار، فهو العظيم الذي خضعت لعظمته الرقاب، والحكيم الذي حار في حكمته أولو الألباب. والرحيم الذي يرحم من عباده الرحماء، والكريم الذي يستمد من إفضاله الكرماء، تقدست أسماؤه وصفاته عن الأشباه، وجلت محامده، وتمت كلماته التي لا يحيط بها سواه، وتذكروا بره كيف بدأكم بالنعم قبل الاستحقاق، ومنحكم ما لا يحصى من أنواع الأرزاق.
وكم كشف ضرًا وستر عاصيًا، وقد بارزه بأنواع الفساد، ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد، فاستعدوا للقاء هذا الرب الجليل، وأعدوا للقدوم عليه من صالح العمل كل جميل، وفكروا في أنفسكم، وما اشتملت عليه من العيوب، وحاسبوها على ما اكتسبته من الذنوب، فأي نفس منكم لم تحمل ظلمًا، وأي جارحة من جوارحكم لم تقترف إثمًا؟ وأي عمل من أعمالكم يليق بذلك المقام؟ وأي وقت من أوقاتكم تمحض للطاعة وخلا عن الآثام؟ لقد جنيتم على أنفسكم بالذنوب جناية عظمى، وهضمتم بالمعاصي قدرها عند الله هضمًا، فلينوا قلوبكم بذكر الموت عساها أن تلين، وعظوها بذكر القبر وفتنته فإنهما لحق اليقين، وذكروها يوم القيامة يقوم الناس لرب العالمين، يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا، والأمر يومئذ لله.(3/184)
جعلني الله وإياكم من الفائزين بثوابه، الآمنين من غضبه وعقابه، ألا وإن أفضل الكلام كلام الملك الديان، والله يقول، وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ( [فاطر: 6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
147- (خطبة)
الحمد لله الذي تفرد بكل كمال، وتفضل على عباده بجزيل النوال، بيده الخير كله، فله الحمد على كل حال، وفي كل حال. نحمده على ما منح من النعماء، ونشكره في البكر والآصال، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله تقدس عن الأشباه والأمثال، وجل عن صفات المحدثين من الفناء والزوال المستحق للتعظيم والإجلال جواد لا يبخل، وغنيٌ لا يفتقر، وكريم يبتدئ بالإحسان قبل السؤال.
ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله المنعوت بالخلق العظيم، وشرف الخلال، اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل.(3/185)
أما بعد: يا أيها الناس ما للعيون إلى زهرة الدنيا قد مدت؟ وما للنفوس في طلب العاجلة قد جدت؟ وما للآذان عن سماع المواعظ قد سدت؟ وما للقلوب لكثرة المعاصي قد أظلمت واسودت؟ إن في كتاب الله لأعظم زاجر، وإن في مواعظ الأيام والليالي لعبرة لذوي البصائر، ركائب أموات تزعج عن مقصورات القصور، ثم تحمل إلى مضائق القبور. فكم قد شاهدتم من جثث أعيان في بقاع القاع قد صفت، وكم عاينتم من نواعم أبدان في مدارج الأكفان قد لفت، وكم أبصرتم من عرائس أجساد إلى الألحاد قد زفت، فيا لها غاية يستبق إليها العباد، ومضمارًا يتناوبه منهم جواد بعد جواد، ويا له من هول شديد بعده أهوال شداد، فتنة قبور، ونفخ في الصور، وبعثرة القبور، وحشر إلى موقف جثي على الركب، وموقف السلامة والعطب وموقف قطيعة الأنساب وضيعة الأحساب، وخضوع الرقاب، وانسكاب العبرات، وتصاعد الزفرات. ذلك موقف ينشر فيه الديوان، وينصب فيه الميزان، ويمد الصراط على النيران. وحينئذ يقع الامتياز فبين ناج قد فاز، وهالك قد انقطع به المجاز. فريق في الجنة، وفريق في السعير. فاستعدوا رحمكم الله وإياي لهذه الأهوال، ولا تغرنكم كواذب الآمال، فإن ما توعدون لآت، وليس بين العبد وبين القيامة إلا الممات فأكثروا رحمكم الله ذكر هادم اللذات، واستعدوا للآخرة قبل الممات. فعنه - صلى الله عليه وسلم -: «كفى بالموت واعظًا» و "كفى بالموت مزهدًا في الدنيا، ومرغبًا في الآخرة" جعلني الله وإياكم ممن قضى في الطاعة الأوقات، وغفر لي ولكم ما فرط من السيئات.
إن أنفع الكلام كلام الملك العلام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم(3/186)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ( [الحج: 2].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم. أقول قولي واستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين إنه الغفور الرحيم، فاستغفروه.
148- (خطبة)
الحمد لله الذي افتتح بحمده الكتاب، والحمد لله الذي ينال بحمده الثواب، نحمده على ما منح فهو المنعم الوهاب، ونستغفره ونتوب إليه، فإنه غافر الذنب، وقابل التوب شديد العقاب.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عليه توكلت، وإليه متاب، شهادة شهد الله بها لنفسه في محكم الكتاب، شهادة أرغم بها أنف كل جاحد مرتاب.
ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله جاء بالحق، وفصل الخطاب، نبي شق له القمر، وردت له الشمس، وقد كادت تتوارى بالحجاب، اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه ما أفل شهاب، وطلع شهاب.(3/187)
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله حق تقاته كما أمركم في محكم الكتاب، وأكثروا ذكره فإن ذكره يعدل عتق الرقاب، واحذروا كما حذركم نفسه، فإنه شديد البطش سريع الحساب، وتأدبوا بآداب نبيكم، فإنها أكمل الآداب، وتخلقوا بمحاسن أخلاقه، فأحسنكم أخلاقًا أقربكم من رب الأرباب، وراقبوا الله فهو المطلع على ما ظهر، وما أرخيت عليه الستور، وأوصدت دونه الأبواب. واحذروا الدنيا فإنها كظل زائل أو طود مائل، وكلمح سراب. وبادروا بالأعمال الصالحة، فإن الأوقات تمر بكم مر السحاب. ابن آدم والله إن أمرك لشيء عجاب، وحالك إذا حققت كثير الخطأ قليل الصواب، تقارف المعصية، وتؤخر المتاب، وتسوف بالعمل تنتظر المشيب، وقد أضعت الشباب، وتفرح بمضي الأيام، وذهابهن لك ذهاب، وتعمر الدنيا، وإنما خلقت للخراب، وتنسى الموت وقد أزعج عنك كثيرًا من الأحباب، وتذكر فلا تتذكر وإنما يتذكر أولوا الألباب، فوا أسفًا لقلوب ضرب عليها من الغفلة باب، ونفوس مشغولة بلذات الطعام والشراب، وعقول ذاهلة عن المعاد وأهواله الصعاب، لاهية عن أمر لا شك في لقائه ولا ارتياب، وخطب لا يدفع بالعشائر ولا يمنع بالحجاب، وقبر مظلم وساده اللبن، وفراشه التراب، وموقف تشخص فيه الأبصار وتخضع الرقاب، وعرض عظيم تظهر فيه الخطايا وينكشف الحجاب، وجزاء لا محالة على الحسنات بالثواب، وعلى المعاصي بالعفو والعقاب، جعلني الله وإياكم من الفائزين الآمنين، وجنبنا وإياكم موارد الظالمين، إن أنفع ما عولج به داء الشك والارتياب كلام ربنا الذين أنزل على عبده الكتاب، والله يقول، وقوله الحق المبين:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ( [الزلزلة: 8].(3/188)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين إنه هو الغفور الرحيم. فاستغفروه.
149- (خطبة)
الحمد لله الذي تعاظم ملكوته فاقتدر، وتعالى جبروته فقهر، الذي أعز من شاء ونصر، ورفع أقوامًا بحكمته، وخفض أقوامًا آخر، نحمده على نعمه التي تربو على ذرات الرمل، وقطرات المطر، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العليم بما بطن وما ظهر، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله ومجتباه من البشر، نبي شق عن صدره وشق له القمر، نبي ظللته الغمام، وأجابت لدعوته الشجر، نبي أيده الله بمعجزات الآيات والسور، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه القادات الخير.(3/189)
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله في الورود والصدر، وراقبوه فيما بطن من الأمور وظهر، واعبدوه حق عبادته في الآصال والبكر واذكروه على كل حال، فإنه يذكر من له ذكر، واشكروا نعمه، فقد تكفل بالمزيد لمن له شكر، وخافوا مقامه، واحذروا بطشه كل الحذر، وارجوا بره فهو أرحم بكم من كل رحيم وأبر، واستغفروه لذنوبكم فإن كل صغير وكبير مستطر، واستقيلوه عثراتكم، فإنه يقيل بفضله من عثر، وارغبوا فيما أعد للطائعين من جنات ونهر، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وارهبوا ما رهبكم من النار التي لا تبقي ولا تذر، وازهدوا في الدنيا التي نفعها مشوب بالضرر وفرحها مقرون بالترح، وصفوها ممزوج بالكدر، وانظروا لأنفسكم فيها حق النظر، واتعظوا بمواعظ الحوادث والغير، وتأملوا ما فيها من الآيات والعبر، فقد شاهدتم من آياتها ما فيه مزدجر، وقد عاينتم وقائعها بأهلها وليس العيان كالخبر، كم حضرتم فيها عند محتضر، وكم شيعتم من الراحلين عن قصورها إلى بطون الحفر، ونقلتموه من الفرش الوثيرة إلى خشونة المدر، فتأهبوا لمثل ما حل بهم، فإنكم على الأثر، وتزودوا زاد التقى فأنتم على سفر، وبادروا بالأعمال الصالحة فالأعمار في قصر، وما أمر الساعة إلا كلمح البصر، وتذكروا مرارة الموت والساعة أدهى وأمر، وجاهدوا أنفسكم بسلاح التقوى، فإنه قرين الظفر، وجاهدوا أعداءكم من الشياطين والأهواء بصدق اللجأ إلى رب البشر، وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم فيما بطن وظهر، وشمروا لإعلاء كلمة الله فيما نهى وأمر (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ( [محمد: 7].(3/190)
وكفى به لمن اعتبر، جعلني الله وإياكم ممن خلص له فيما أعلن وأسر، ووفقنا لما يحبه من العمل، فإنه خالق القوى والقدر، إن أرفع الكلام الذي يدهش الألباب والفكر كلام ربنا الذي أنزل على نبيه محكم السور، والله يقول، وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( [آل عمران: 102، 103].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم.
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم، فاستغفروه.
150- (خطبة)
الحمد لله رب العالمين الذي أعاد وأبدى، نحمده على ما منح من الإنعام وأسدى، ونستهديه، فإنه لا يضل من هداه، ومن أضله فلن يهدى، ونستغفره لذنوبنا التي لا تحصى عدًا.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهًا واحدًا أحدًا فردًا، شهادة ترغم بها أنف من كفر عنادًا وجحدًا، شهادة ندخرها للمعاد ونتخذ بها عنده عهداً.
ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله أكرم به رسولاً وعبدًا، نبي أمده الله بإمداداته الربانية مدًا، صلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله الذين أكسبهم شرفًا ومجدًا، وعلى أصحابه الذين جعلهم أمثل طريقة وأقوم سبيلاً وأهدى.(3/191)
أما بعد فيا ابن آدم هذا أوان جدك إن كنت مجدًا، وهذا زمان استعدادك إن كنت مستعدًا، فتأهب لنفسك فإنك لا تستطيع للموت ردًا، وبادر بصالح عملك، فإن الساعات تقد الأعمار قدًا، وأعد الزاد، فإن السفر طويل إن كنت معدًا، يا لاهيًا والحمام إليه مجدًا، يا مشغوفًا بالدنيا التي لا يجد من فراقها بدًا، يا راكنًا إليها وقد أهلكت قبله أبًا وجدًا، يا مهملاً للتزود وركائب الرحيل به تحدى، يا من حدت له الحدود فلم يختر حدًا، يا من يضيع عمره وأنفاسه تعد عليه عدًا، يا منهمكًا في جمع المال، وهو يموت فرداً فيبعث فردًا، يا من جعلت الذنوب بين قلبه وبين الموعظة سدًا، يا قاسي القلب فما نفعه وعظ الواعظ ولا أجدى، يا من يبارز مولاه الذي يعلم ما أسر وما أبدى، يا كسلاً عن الطاعات ولم يأل في المعاصي جهدًا، يا ناظمًا خرزات الأمل في سلك المنى عقد، يا متعبًا في جمع المال بدنه كدحًا وكدًا. من لك إذا سافرت سفرًا بعيدًا، واستبدلت عن القصور لحدًا؟ وافترشت بعد لين فراشك تربًا خشنًا وحجرًا صلدًا؟ وكيف بك إذا سألك الملكان فلم تستطع جوابًا وردًا؟ ما حيلتك إذا بعثت من قبرك إلى ربك فردًا؟ ومن لك إذا طال المقام وامتد يوم القيامة مدًا؟ أم من لك إذا دعيت للعرض عليه يا من لحدوده طالما تعدى.
جعلني الله وإياكم من الآمنين وأدخلنا بفضله في عباده الصالحين، إن أشرف الكلام كلام الملك العلام، والله يقول، وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً( [مريم: 76].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم.(3/192)
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم. فاستغفروه.
151- (خطبة)
الحمد لله على ما منح من أفضاله الكامل الوافر، الخالق الرازق الأول الآخر. نحمده بجميع محامده على أفضاله البسيط المتواتر، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المبدع الناظر. ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله المنتقى من أشرف العناصر، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله قرناء الكتاب إلى يوم الآخر وعلى أصحابه نجوم الاهتداء للمنهج الظاهر.
أما بعد فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله في الموارد والمصادر، وأحضكم على الطاعة، فإنها خير ما أعد لليوم الآخر، وأحذركم الدنيا فإنها عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، وإنما أيامها ولياليها مراحل إلى المقابر، وأحثكم على مراقبة مولاكم فإنه علام السرائر، وأنهاكم عن مخالفته باقتراف الجرائر، وملابسة كبائر الذنوب والصغائر.
فاستحيوا من الله الذي تحبب إليكم بإنعامه المتكاثر، وتعرف إليكم بما رادفه من أفضاله الوافر، فإن نعمه تعالى قد عمت الباطن والظاهر، وإن نعمه قد شملت البادي والحاضر، ولا يحصر أقلها حاصر كيف وهي مع صعدات الأنفاس، وهجس الخواطر، ومع حركات الألسن ولمحات النواظر، وما بكم من نعمة فمن الله فهل من حامد شاكر؟ وهل من خائف لله وذاكر؟ وهل من معظم لنواهي الله والأوامر؟ وهل من معتبر بالمواعظ والزواجر؟ وهل من ناظر في آيات الله البواهر؟ وهل من متعظ بكتاب الله فإنه أعظم زاجر؟ إن في ذلك لذكرى لمن كان يرجو الله واليوم الآخر. وهل من صابر على الطاعات فطوبى للصابر؟ وهل من مستعد للقائه يوم تبلى السرائر يوم ذبول الشفاه وظمأ الهواجر، يوم الآزفة إذا القلوب لدي الحناجر يوم لا تنفع الأموال ولها الذخائر. جعلني الله وإياكم من الفائزين الآمنين، وجنبنا موارد الظالمين.(3/193)
إن أحسن الكلام كلام الملك العلام، والله يقول وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ( [العصر: 3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من العذاب الأليم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين. إنه هو الغفور الرحيم. فاستغفروه.
152- (خطبة)
الحمد لله الذي يسبح بحمده من في الأرض والسموات، والحمد لله بكل حمد حمد به نفسه، أو علمه أحدًا من المخلوقات. نحمده على ما منح من نعمه السابغات.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ترفع قائلها أعلى الدرجات. ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله المؤيد بالمعجزات، اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الأئمة الثقات.
أما بعد فيا أيها الناس إن ما توعدون من الآخرة لآت، وإنكم في دار هي محل العبر والآفات، وأنتم على سفر، والطريق كثيرة المخافات. فتزودوا من دنياكم قبل الممات، وتداركوا هفواتكم قبل الفوات، وحاسبوا أنفسكم وراقبوا الله في الخلوات. وتفكروا فيما أراكم من الآيات، وبادروا بالأعمال الصالحات، واستكثروا في أعماركم القصيرة من الحسنات قبل أن ينادي منادي الشتات، قبل أن يفجأكم هاذم اللذات، قبل أن يتصاعد منكم الأنين والزفرات، قبل أن تتقطع قلوبكم عند فراق الدنيا حسرات، قبل أن يغشاكم من غم الموت الغمرات، قبل أن تزعجوا من القصور إلى بطون الفلوات، قبل أن يحال بينكم وبين ما تشتهون من هذه الحياة، قبل أن تتمنوا رجوعكم إلى الدنيا لتعملوا وهيهات.(3/194)
فاتقوا الله حق تقاته، فإن فيها النجاة قبل الممات، وتعرضوا لنفحات ربكم، فإن له تعالى في أيام دهركم نفحات، وتوبوا إليه فإنه يقبل التوبة، ويعفو عن السيئات. فرحم الله أقوامًا بادروا الأوقات، وتداركوا الهفوات، عيونهم مشغولة بالدمع، وألسنتهم مسجونة بالصمت عن فضول الكلمات، وأكفهم مكفوفة بالخوف عن تناول الشهوات، وأقدامهم مقيدة بقيود المحاسبات، فتيقظوا رحمكم الله للحاقهم من سنة الغفلات، واعملوا مثل أعمالهم تناولوا الدرجات.
فيا من لم يتصف بهذه الصفات، كيف ترجوا لحاقهم وأنت كثير المخالفات؟ أما قرع سمعك قول الله في محكم الآيات (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ( [الجاثية: 21]. جعلني الله وإياكم ممن بادر الأوقات، وسارع إلى الخيرات، إن أكمل المواعظ نفعًا، وأعظمها في القلوب وقعًا كلام من شق لكل منا بصرًا وسمعًا، والله يقول وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ( [يونس: 24].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
153- (خطبة)(3/195)
الحمد لله المرتفع عن إدراك الأبصار الناظرة، المنزه عن التخيلات، والأوهام الخاطرة، العالم بما تحت أمواج البحار الزاخرة، كعلمه بحركات خلقه الظاهرة، الذي جعل الموت أول منازل الآخرة، فأقام به القوي والضعيف تحت قدرته القاهرة. أحمده على نعمه وآلائه المتواترة، وآياته الباهرة المتظاهرة، حمدًا أدفع به حلول كل فاقرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة صادرة عن طوية غير مرتابة ولا فاترة. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالآيات الباهرة، والمفضل بالمقامات الفاخرة، الذي ألف بين القلوب المتنافرة. اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وعترته الطاهرة، وعلى أصاحبه الأنجم الزاهرة.(3/196)
أما بعد فيها أيها الناس إن سبيل العافية عافية لقلة سُلاكها، وإن علل القلوب القاسية مؤذنة بهلاكها، وإن حلل الذنوب بادية على سوقة الأمة وأملاكها، وإن رسل المنون قانصة لا تفلت أحدًا من شباكها. فما للعيون ناظرة ولا تبصر؟ وما للقلوب قاسية ولا تفكر؟ وما للعقول طائشة ولا تشعر؟ وما للنفوس ناسية ولا تذكر؟ أغرها إنظارها وإمهالها؟ أم بشرها بالنجاة أعمالها؟ أم لم يتحقق عندها من الدنيا زوالها؟ كلا ولكن شملت الغفلة، فاستحكم على القلوب أقفالها فكأن قد كشف الموت لأهل الغفلة قناعه، وأطلق على صحاح الأجسام أوجاعه، وحقق بكل الأنام إيقاعه، ولم يملك أحد منكم دفاعه، فخفق من المنزول به فؤاده، وانمحق من ناظره سواده، وقلق لهول مصرعه عواده ورحمه أعداؤه وحساده، وأزف عن أهله ووطنه بعاده، والتحق بذل اليتم أولاده، فيا له من واقع في كرب الحشارج حتى أدرج في تلك المدارج، وقدم على الله ذي المعارج، في منزل لا يبرح منه من نزله حتى يلحق آخر الخلق أوله. أفيظن ظان أن الله خلق الخلق ليهمله؟! كلا والله ليبعثنه من أماته. ليسأله عن الرسول ومن أرسله، وعن القرآن ومن أنزله، وعن الحرام الذي أكله، وعما اجترحه في دنياه وفعله، ثم ليوفين كل عامل منكم عمله، ويقابل كل بما عليه وله، علم ذلك من علمه وجهله من جهله. جعلني الله وإياكم ممن إذا أمر قبل، وإذا زجر وجل. إن أحسن الكلام على الإطلاق كلام ربنا الرحيم الخلاق، والله يقول وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم (المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ( [الأعراف:(3/197)
1 - 3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين. إنه هو الغفور الرحيم، فاستغفروه.
154- (خطبة)
الحمد لله الكريم الرءوف الرحيم المجيد، والحمد لله الذي بحمده تستفتح أبواب المزيد، نحمده كما يجب لجلاله، وكما ينبغي له من التحميد، ونشهد أن لا إله إلا الله العزيز الحميد، شهادة ننجو بها من الفزع الأكبر يوم العيد. ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله البشير النذير الشهيد، اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أئمة العدل والتوحيد.
أما بعد أيها الناس فأوصيكم ونفسي بتقوى الله فاتقوه، وأحثكم على مراقبته فإنكم ملاقوه، واحذروه كما حذركم نفسه في الكتاب، واذكروه كما أمركم يا أولي الألباب، واستغفروه؛ فإنه غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، واشكروه فكم أفاض عليكم من جزيل نعمه، وإياكم والمعاصي، فإنها مفاتح غضب الله ونقمه، ولا تشغلنكم دنياكم عن أداء المسنون والمفروض، ولا تغرنكم، فإنها لا تساوي عند الله جناح بعوض. كيف يغتر بها، ويطمئن إليها من تنصرم أيامه ولياليه؟ أم كيف يطيب فيها عيش من لا يدري متى الموت والله مفاجيه.(3/198)
فيا واقفون والأيام والليالي بكم سائرة، إن فيما تشاهدون من العبر لموعظة زاجرة، فما للقلوب عن قبول المواعظ نافرة، وما للنفوس معرضة عن التذكرة كأنها بها ساخرة؟ وما للهمم عن العمل الصالح فاترة، أغرتكم الأماني، والآمال الحاضرة؟ أما علمتم أن كل جزء من الزمان يذهب بمثله من الأعمار؟ أما تحققتم أن العمر رأس مال الإنسان وأن ربحه العمل؟ أما تبين لكم أن ما فات لا عوض عنه ولا بدل؟ فوا عجبًا لواقف هو في حال وقوفه يرحل، ولمن يسار به ولا يدري إلى أي الدارين يحمل، ولمن وعظ بالمواعظ الصادقة فلم يقبل، ولمن نودي بالرحيل وأمر بالتزود فأهمل، ولمن يسيء عمله، وقد علم أنه سيجازى بما يعمل، والعجب أيضًا ممن يرى فعل الموت بالأتراب، ثم لا يمهد لنفسه في بيوت التراب.
فاستيقظوا رحمكم الله من الغفلة والسنة، وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وبادروا وأنتم في مكان الإمكان وفسح المهل، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل. واجتنبوا المعاصي فالفائز من كان لها مجانبًا، ولازموا التوبة إلى الله، فالسعيد من لم يزل إليه تائبًا.
جعلني الله وإياكم من الفائزين الآمنين، وجنبني وإياكم موارد الظالمين، إن أحسن الكلام كلام الملك العلام، والله يقول وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ( [التوبة: 105].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.(3/199)
155- (خطبة)
الحمد لله المنتقم ممن خالفه، المهلك من آسفه، المتوحد في قهره، والمنفرد بعز أمره، أحمده حمد شاكر لما أولاه، مستقيل مما جناه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة يقين لا شك فيه، وقول إخلاص عما يقول الكافر ويفتريه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي استأمنه على علم الغيب، وبرأه من كل دنس وعيب، اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أفضل الصلوات وأزكاها، وأنزلهم من منازل الكرامة أعلاها.
أما بعد فيا أيها الناس إنه ليس أحد أكرم على الله من نبيه، ولا أشرف عنده من محمد نجيه وحبيبه وصفيه، ولن يؤخر عند انقضاء مدته، ولن يعمر عند حضور منيته، ولقد أتاه في مثل شهركم هذا من رسل ربه الكرام، الموكلين بقبض نفوس الأنام، فجذبوا روحه الزكية لينقلوها، وعاجلوها ليرحلوها إلى رحمة ورضوان، وروح وريحان، وروضات الجنان، وخيرات حسان، فاشتد لذلك كربه وأنينه، وترادف قلقه وحنينه، واختلف بالانقباض والانبساط شماله ويمينه، وعرق لهول مصرعه جبينه، فبكى لمنظره من حضره، وانتحب لمصرعه من أبصره، فلم يدفع الجزع عنه مقدورًا، ولا راقب الملك فيه أهلاً ولا عشيرًا، بل امتثل ما كان به مأمورًا، واتبع ما وجد في اللوح مسطورًا. هذا وهو أول من تنشق عنه الأرض، وصاحب الشفاعة يوم العرض، وأكرم أهل السماء وأهل الأرض، وعلى يقين من السلامة في المعاد، وثقة بالكرامة يوم الأشهاد. فكيف من لا يعلم متى الرحيل؟ ولا يتحقق أين المقيل؟ ولا يدري على ما يقدم، ولا بما عليه في القيام يحكم.(3/200)
فيا خلف من قد دبر، ويا بقية من قد غبر، ويا جدد الآجال، وعبيد الآمال. أما تتعظون بمصرع سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحبيب رب العالمين. أتظنون أنكم في الدنيا مخلدون؟ أم تحسبون أنكم من الموت محصنون؟ ساء ما تتوهمون، هيهات هيهات إنكم إذا لمغرورون وجدوا لله والرحيل، فاحتقبوا زادًا كافيًا، ووجب السؤال فأعدوا جوابًا شافيًا، فكأن قد نعق بكم ناعق الشتات، ودارت عليكم رحى الآفات، وعصفت فيكم ريح الممات، فلن تستطيعوا نقصًا من السيئات، ولا زيادة في الحسنات.
جعلني الله وإياكم من الفائزين الآمنين، وجنبني وإياكم موارد الظالمين. إن أحسن الكلام كلام الملك العلام، والله يقول وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ( [الأنبياء: 35].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم،
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
156- (خطبة)
الحمد لله الذي يسبح بحمده من في الأرض والسموات، والحمد لله بكل حمد حمد به نفسه، أو علمه أحدًا من المخلوقات. نحمده على ما منح من نعمه السابغات.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ترفع قائلها أعلى الدرجات. ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله المؤيد بالمعجزات، اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الأئمة الثقات.(3/201)
(أما بعد) فيا أيها الناس إن ما توعدون من الآخرة لآت، وإنكم في دار هي محل العبر والآفات، وأنتم على سفر، والطريق كثيرة المخافات. فتزودوا من دنياكم قبل الممات، وتداركوا هفواتكم قبل الفوات، وحاسبوا أنفسكم وراقبوا الله في الخلوات، وتفكروا فيما أراكم من الآيات، وبادروا بالأعمال الصالحات، واستكثروا في أعماركم القصيرة من الحسنات قبل أن ينادي بكم منادي الشتات، قبل أن يفجأكم هاذم اللذات، قبل أن يتصاعد منكم الأنين والزفرات، قبل أن تتقطع قلوبكم عند فراق الدنيا حسرات، قبل أن يغشاكم من غم الموت الغمرات، قبل أن تزعجوا من القصور إلى بطون الفلوات، قبل أن يحال بينكم وبين ما تشتهون من هذه الحياة، قبل أن تتمنوا رجوعكم إلى الدنيا لتعملوا وهيهات.
فاتقوا الله حق تقاته، فإن فيها النجاة قبل الممات، وتعرضوا لنفحات ربكم، فإن له تعالى في أيام دهر كم نفحات، وتوبوا إليه فإنه يقبل التوبة، ويعفو عن السيئات. فرحم الله أقوامًا بادروا الوقات، وتداركوا الهفوات، عيونهم مشغولة بالدمع، وألسنتهم مسجونة بالصمت عن فضول الكلمات، وأكفهم مكفوفة بالخوف عن تناول الشهوات، وأقدامهم مقيدة بقيود المحاسبات، فتيقظوا رحمكم الله للحاقهم من سنة الغفلات، واعملوا مثل أعمالهم تناولوا الدرجات.(3/202)
فيا من لم يتصل بهذه الصفات، كيف ترجوا لحاقكم كثير المخالفات؟ أما قرع سمعك قول الله في محكم الآيات (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ( [الجاثية: 21] جعلني الله وإياكم ممن بادر الأوقات، وسارع إلى الخيرات، إن أكمل المواعظ نفعًا، وأعظمها في القلوب وقعًا كلام من شق لكل منا بصرًا وسمعًا، والله يقول؟ وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98] أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ( [يونس: 24]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.(3/203)
الحمد لله المرتفع عن إدراك الأبصار الناظرة، المنزه عن التخيلات، والأوهام الخاطرة، العالم بما تحت أمواج البحار الزاهرة، كعلمه بحركات خلقه الظاهرة، الذي جعل الموت أول منازل الآخرة، فأقام به القوي والضعيف تحت قدرته القاهرة. أحمده على نعمه وآلائه المتواترة، وآياته الباهرة المتظاهرة، حمدًا أدفع به حلول كل فاقرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة صادرة عن طوية غير مرتابة ولا فاترة. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالآيات الباهرة، والمفضل بالمقامات الفاخرة، الذي ألف بين القلوب المتنافرة. اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وعزته الطاهرة، وعلى أصاحبه الأنجم الزاهرة.(3/204)
(أما بعد) فيها أيها الناس إن سبيل العافية عافية لقلة سُلاكها، وإن علل القلوب القاسية مؤذنة بهلاكها، وإن حلل الذنوب بادية على سوقة الأمة وأملاكها، وإن رسل المنون قانصة لا تفلت أحدًا من شباكها. فما للعيون ناظرة ولا تبصر؟ وما للقلوب قاسية ولا تفكر؟ وما للعقول طائشة ولا تشعر؟ وما للنفوس ناسية ولا تذكر؟ أغرها أنظارها وإمهالها؟ أم بشرها بالنجاة أعمالها؟ أم لم يتحقق عندها من الدنيا زوالها؟ كلا ولكن شملت الغفلة، فاستحكم على القلوب أقفالها فكأن قد كشف الموت لأهل الغفلة قناعه، وأطلق على صحاح الأجسام أوجاعه، وحقق بكل الأنام إيقاعه، ولم يملك احد منكم دفاعه، فخفق من المنزول به فؤاده، وانمحق من ناظره سواده، وقلق لهول مصرعه عوادهن ورحمه أعداؤه وحساده، وأزف عن أهله ووطنه بعاده، والتحق بذلك اليتم أولاده، فيا له من واقع في كرب الحشارج حتى أدرج في تلك المدارج، وقدم على الله ذي المعارج، في منزل لا يبرح منه من نزله حتى يلحق آخر الخلق أوله. أفيظن ظان أن الله خلق الخلق ليهمله؟! كلا والله ليبعثنه من أماته. ليسأله عن الرسول ومن أرسله، وعن القرآن ومن أنزله، وعن الحرام الذي أكله، وعما اجترحه فيدنياه وفعله، ثم ليوفين كل عامل منكم عمله، ويقابل كل بما عليه وله، علم ذلك من علمه وجهله من جهله. جعلني الله وإياكم ممن إذا أمر قبل، وإذا زجر وجل. إن أحسن الكلام على الإطلاق كلام ربنا الرحيم الخلاق، والله يقول وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98] أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم (المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ( [الأعراف: 3](3/205)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين. إنه هو الغفور الرحيم، فاستغفروه.
157- (خطبة)
الحمد لله الكريم الرؤوف الرحيم المجيد، والحمد لله الذي بحمده تستفتح أبواب المزيد، نحمده كما يجب لجلاله، وكما ينبغي له من التحميد، ونشهد أن لا إله إلا الله العزيز الحميد، شهادة ننجو بها من الفزع الأكبر يوم العيد. ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله البشير النذير الشهيد، اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أئمة العدل والتوحيد.
(أما بعد) أيها الناس فأوصيكم ونفسي بتقوى الله فاتقوه، وأحثكم على مراقبته فإنكم ملاقوه، واحذروه كما حذركم نفسه في الكتاب، واذكروه كما أمركم يا أولي الألباب، واستغفروه؛ فإنه غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، واشكروه فكم أفاض عليكم من جزيل نعمه، وإياكم والمعاصي، فإنها مفاتح غضب الله ونقمه، ولا تشغلنكم دنياكم عن أساء المسنون والمفروض، ولا تغرنكم، فإنها لا تساوي عند الله جناح بعوض. كيف يغتر بها، ويطمئن إليها من تنصرم أيامه ولياليه؟ أم كييف يطيب فيها عيش من لا يدري متى الموت والله مفاجيه.(3/206)
فيا واقفون والأيام والليالي بكم سائرة، إن فيما تشاهدون من العبر لموعظة زاجرة، فما للقلوب عن قبول المواعظ نافرة، وما للنفوس معرضة عن التذكرة كأنها بها ساخرة؟ وما للهمم عن العمل الصالح فاترة، أغرتكم الأماني، والآمال الحاضرة؟ أما علمتم أن كل جزء من الزمان يذهب بمثله من الأعمار؟ أما تحققتم أن العمر رأس مال الإنسان وأن ربحه العمل؟ أما تبين لكم أن ما فات لا عوض عنه ولا بدل؟ فوا عجبًا لواقف هو في حال وقوفه يرحل، ولمن يساربه ولا يدري إلى أي الدارين يحمل، ولمن وعظ بالمواعظ الصادقة فلم يقبل، ولمن نودي بالرحيل وأمر بالتزود فأهمل، ولمن يسيء عمله، وقد علم أنه سيجازى بما يعمل، والعجب أيضًا ممن يرى فعل الموت بالأتراب، ثم لا يمهد لنفسه في بيوت التراب.
فاستيقظوا رحمكم الله من الغفلة والسنة، وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وبادروا وأنتم في مكان الإمكان وفسح المهل، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل. واجتنبوا المعاصي فالفائز من كان لها مجانبًا، ولازموا التوبة إلى الله، فالسعيد من لم يزل إليه تائبًا.
جعلني الله وإياكم من الفائزين الآمنين، وجنبني وإياكم موارد الظالمين، إن أحسن الكلام كلام الملك العلام، والله يقول وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98] أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ( [التوبة: 105]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.(3/207)
158- (خطبة)
الحمد لله المنتقم ممن خالفه، المهلك من آسفه، المتوحد في قهره، والمنفرد بعز أمره، احمده حمد شاكر لما أولاه، مسقيل مما جناه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة يقين لا شك فيه، وقول إخلاص عما يقول الكافر ويفتريه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي استأمنه على علم الغيب، وبرأه من كل دنس وعيب، اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أفضل الصلوات وأزكاها، وأنزلهم من منازل الكرامة أعلاها.
(أما بعد) فيا أيها الناس إنه ليس أحد أكرم على الله من نبيه، ولا أشرف عنده من محمد نجيه وحبيبه وصفيه، ولن يؤخر عند انقضاء مدته، ولن يعمر عند حضور منيته، ولقد أتاه في مثل شهركم هذا من رسل ربه الكرام، الموكلين بقبض نفوس الأنام، فجذبوا روحه الزكية لينقلوها، وعاجلوها ليرحلوها إلى رحمة ورضوان، وروح وريحان، وروضات الجنان، وخيرات حسان، فاشتد لذلك كربه وأنينه، وترادف قلقه وحنينه، واختلف بالانقباض والانبساط شماله ويمينه، وعرق لهول مصرعه جبينه، فبكى لمنظره من حضره، وانتحب لمصرعه من أبصره، فلم يدفع الجزع عنه مقدورًا، ولا راقب الملك فيه أهلاً ولا عشيرًا، بل امتثل ما كان به مأمورًا، واتبع ما وجد في اللوح مسطورًا. هذا وهو أول من تنشق عنه الأرض، وصاحب الشفاعة يوم العرض، وأكرم أهل السماء وأهل الأرض، وعلى يقين من السلامة في المعاد، وثقة بالكرامة يوم الأشهاد. فكيف من لا يعلم متى الرحيل؟ ولا يتحقق أين المقبل؟ ولا يدري على ما يقدمن ولا بما عليه في القيام يحكم.(3/208)
فيا خلف من قد دبر، ويا بقية من قد غبر، ويا جدد الآجال، وعبيد الآمال. أما تتعظون بمصرع سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحبيب رب العالمين. أتظنون أنكم في الدنيا مخلدون؟ أم تحسبون أنكم من الموت محصنون؟ ساء ما تتوهمون، هيهات هيهات إنكم إذا لمغرورون وجدوا لله والرحيل، فاحتقبوا زادًا كافيًا، ووجب السؤال فأعدوا جوابًا شافيًا، فكأن قد نعق بكم ناعق الشتات، ودارت عليكم رحى الآفات، وعصفت فيكم ريح الممات، فلن تستطيعوا نقصًا من السيئات، ولا زيادة في الحسنات.
جعلني الله وإياكم من الفائزين الآمنين، وجنبني وإياكم موارد الظالمين. إن أحسن الكلام كلام الملك العلام، والله يقول وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98] أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ( [الأنبياء: 35]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم،
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
159- (خطبة)(3/209)
الحمد لله مجلي السماء بديع المصابيح، ومغذي الملائكة بحلاوة التسبيح، الذي شهدت بتوحيده عجائب المصنوعات، ونطقت بتحميده غرائب المبدوعات، وسبح له الخلق باختلاف اللغات، فسبحان من لا يساويه أحد في الأرض والسموات، أحمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة باسقة الفروع، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله من أرجح العرب ميزانًا، وأوضحها بيانًا، وأعلاها مقامًا وأحلاها كلامًا، وأوفاها ذمامًا، فأوضح الطريقة ونصح الخليقة، وشهر الإسلام، وكسر الأصنام، وأظهر الأحكام، وحذر الحرام، وعم بالإنعام. اللهم فصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه البررة الكرام وعلى أزواجه وذريته في كل محفل ومقام.(3/210)
أما بعد أيها الناس ارمقوا العواقب بعقل الفكر، وانظروا لأنفسكم أجمل النظر، وادرعوا لأهوالكم مدارع الحذر واحتقبوا زادًا كافيًا لبعد السفر. فما لكم عن الرشد ناكبين، وفي مواطن الجد لاعبين، وأحلام المنايا بكم صادقة، وسهام الرزايا بكم واثقة؟ ألا غاسلاً قلبه بفيض مدمعه، ألا موقظًا قلبه بذكر مرجعه، إلا مشفقًا من مفاجأة هجوم مصرعه، ألا متأهبًا لركوب هول فزعه، ألا ممهدًا لطود وحشة مضجعه، قبل أن تخلو المنازل من أربابها، وتؤذن الديار بخرابها، وتهتك الحلائل لعظم مصابها، وتندب على فراق أحبابها، وتلتحق الأجساد بترابها، قبل أن تقبل الساعة فجائعها وتنشر الخلائق لحسابها، وترتهن باكتسابها، وتنكر القبائل معارف أنسابها. يومئذ تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتجازى كل عاملة بما صنعت، ذلك يوم زال غشه ونفاقه، وطال الشر ووثاقه، وعسر على المذنبين مساقه، وتجلى للحكومة فيه خلاقه؛ فيا فوز من عامله بأحسن المعاملات، ويا خسارة من بارزه بالخطايا والسيئات، فإلى كم تتماطلون عباد الله بالعمل، وتطمعون في بلوغ الأمل! وتغترون بفسحة المهل! ولا تذكرون هجوم الأجل فرحم الله امرءًا أقدم الحذر، وأمعن النظر قبل أن يفارق الأوطان، ويعدم الإمكان، ويدرج في مدارج الكفان، ويدخل في خبر كان، جعلني الله وإياكم من الفائزين، وجنبني وإياكم موارد الظالمين. إن أحسن الكلام كلام الله الملك العلام، والله يقول وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ( [آل عمران: 185].(3/211)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من العذاب الأليم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
160- (خطبة)
الحمد لله الذي عمت رحمته كل شيء ووسعت، وتمت نعمته على العباد وعظمت، ملك ذلت لعزته الرقاب وخضعت، وهابت لسطوته الصعاب وخشعت، وارتاعت من خشيته أرواح الخائفين وجزعت، كريم تعلقت برحمته قلوب الراجين فطمعت، بصير بعباده يعلم ما كنت الصدور وأودعت، عظيم عجزت العقول عن إدراك ذاته فتحيرت.
نحمده على نعم توالت علينا واتسعت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها من النار يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده حتى علت كلمة التوحيد وارتفعت، اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ما ابتهلت الوفود بالمشاعر العظام ودعت.
أما بعد أيها الناس تأهبوا للانتقال من دار الرحيل والزوال، وتنافسوا في اكتساب ما يوصل إلى دار المقيل والظلال، وارغبوا في صالح الأعمال، واعلموا أنكم عما قليل راحلون، وإلى الله صائرون، ولا يغني هنالك عمل إلا صالح قدمتموه، أو حسن ثواب أحرزتموه، فإنكم تقدمون على ما قدمتم، وتجازون على ما أسفلتم، فلا تصدنكم زخارف دنيا دنية عن مراتب جنات علية، واكتسبوا مراضي الرحمن فإنها أربح المكاسب، واجتنبوا موارد العصيان، فإنها وخيمة العواقب، وحاذروا مواعيد الآمال فإنها آمال كواذب.(3/212)
ألا وإن الدنيا قد خطمتكم بخطامها وأنتم عليها مقبلون، وصدقتكم حوادث أيامها وأنتم لها مكذبون، كم تحذرون من الغفلة فلا تحذرون، وتذكرون بالآخرة ولا تذكرون، ويوضح لكم الصواب ولا تبصرون، ويفصح لكم في الخطاب ولكن لا تشعرون. إلى كم للدنيا تعدون؟ وأنتم عما قليل في الموتى تعدون ولا تتأهبون للآخرة ولا تستعدون (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ( [الطور: 15]. فرحم الله امرءًا تأهب للقدوم على الله في يوم يفوز فيه الأبرار، ويسعدون ويشقى فيه الفجار ويبعدون، ذلك يوم يخسر فيه المبطلون، وينجو فيه الأبرار الصادقون، ويفرح فيه المتقون، ويربح فيه المخلصون، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولا هم يستعتبون.
جعلني الله وإياكم ممن أخلص لله في الأعمال، وأسعدني وإياكم في الدارين بحسن النوال. إن أحسن الكلام كلام الملك العلام، والله يقول وقوله الحق المبين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( [الأعراف: 204]. وقال عز من قائل عليك: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98]. أعوذ الله من الشيطان الرجيم (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( [التغابن: 16].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من العذاب الأليم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
161- (خطبة)
الحمد لله الذي يجب أن تشكر نعمته، ويتعين أن تحذر نقمته ويحتم أن يخاف عذابه وسطوته، من قابل إحسانه بالإساءة نادت عليه شقوته.(3/213)
أحمده حمدًا تقتضيه قدرته، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا لعل أن تعمنا رحمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وكيف يشاركه شيء وكل الأشياء خليقته؟ وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي ختمت النبوة والرسالة بنبوته ورسالته، ودمر الله به المعتدين، وأنذر به العاصين حتى قامت على الخلائق حجته. ولم يزل - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويحرض على ذلك لتمتثل أمته. اللهم فصل وسلم على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه، وأدم ذلك بمدد لم تنقض مدته.
أما بعد أيها الناس اقترب للناس حسابهم، وكأن الجهول قد نسخت رجعته، وحق على العصاة عذابهم، وكأنها هانت على الجريء مهجته، وأزف والله مآبهم، وقد استولت على الشقي غفلته، واشتغل المغرور بالدنيا شغل من لا تأتيه آخرته، واحتفل باللهو واللعب، ولم يشعر أن لذته تستهلكه، وأهمل حقوق المولى حتى كأن لم تجب عليه طاعته، وأسدل المذنب حجاب الستر من السوء وقد كشفه علم الله ومراقبته.
أيها النائم سيوقظك الموت وسكرته، ويضمك القبر وتوحشك ظلمته، ويسألك إلهك وتشغلك مسألته، وتلتئم أعضاؤك فتظهر من كل عضو زلته، وتطوى صحيفتك، ويا ويح من تطوى على المساوئ صحيفته، وتعرض روحك على الله وقد حفت به الملائكة، وأحضرت النار، وأعتبرت الأوزار، وشخصت الأبصار، وضمت الأولين والآخرين حضرته. ويقال للعاصي: يا ناقض العهد أين عظمة الله وحرمته؟ من ذا الذي يجترئ على الله وقد حقت عليه كلمته؟ فا لله الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بحسب ما تطيقه قوة أحدكم وقدرته. وتوبوا إلى الله قبل أن يغلق باب التوبة، وترد على العبد توبته. جعلني الله وإياكم ممن أعطي مسألته وغفر لكل عبد منا زلته.(3/214)
إن أحسن الكلام المنظوم، وأبين اللفظ المرقوم، كلام ربنا الحي القيوم، والله تعالى يقول وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ( [الأنبياء: 3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم، فاستغفروه.
162- (خطبة)
الحمد لله الذي أحاط بحوادث الدنيا والآخرة خبرًا، وجعل لكل شيء قدرًا، وأسبل على الخلائق رعايته سترًا.
أحمده على نعمائه شكرًا، وأسلم لقضائه صبرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أعدها ليوم القيامة ذخرًا، وأستمدها على الأعداء نصرًا، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أرسله إلى البرية عذرًا ونذرًا، فدعا إلى الله سرًا وجهرًا، ونشر رحمته على العالمين نشرًا، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وأدم لهم أجرًا.(3/215)
أما بعد فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله، فإن تقواه عروة ما لها انفصام، وقدوة يأتم بها الكرام، وجذوة تضيء بها الأفهام، من تعلق بها حمته محذور العاقبة، ومن تحقق بحملها وقته شرور كل نائبة، وأحذركم دار فرقة ما لها أسلاف وقرار حرقة ما لها انصراف، وأماني رجعة ما لها إسعاف. فانهضوا عباد الله في استعمال ما يقربكم من دار القرار، وارفضوا من الأعمال ما يدنيكم لدار البوار، فإنها المصيبة الجامعة، والعقوبة الواقعة. يا لها دارًا انقطع من الرجال رجاء حلالها، وامتنع من الفناء بقاء نكالها، وشعار أهلها الويل الطويل، ودثارهم البكاء والعويل، وسرابيلهم الخزي الوبيل، ومقيلهم الهاوية وبئس المقيل، يقطع منهم الحميم أمعاء، طالما ولعت بأكل الحرام، وتضعضع منهم الجحيم أعضاء طالما أسرعت إلى اكتساب الآثام قد أنهلت عليهم الأنات، وحلت بهم المثلات. فجلودهم محددة بالعذاب، ووجوههم مسودة لسوء الحساب، والزبانية يدخلون عليهم من كل باب، ويقولون: لا مرحبًا بكم إن لكم لشر مآب، ينادون إلها غرهم في العاجلة حلمه فخالفوه، وحق عليهم في الآجلة حكمه لما آسفوه، يقولون: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ( [المؤمنون: 107]. (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ( [الأنعام: : 28]. فيجيبهم بعد حين إجابة دعوة ذي قوة متين (اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ( [المؤمنون: 108]. فحينئذ ينقطع عندها والله تأميل المذنبين، ويجتمع التنكيل على المكذبين، ويرتفع في النار عويل المعذبين، فإن يصبروا فالنار مثوى لهم، وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين.(3/216)
أبعدني الله وإياكم عن دار غضبه، وأسعدني وإياكم بإتيان ما أمر به. إن أحلى ما أنضت لترديده، وأولى ما أخذ بوعده ووعيده كلام مبديء الخلق ومعيده، والله يقول، وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ( [الجاثية: 21]. (وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ( [الجاثية: 22].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم. فاستغفروه.
163- (خطبة)
الحمد لله مثيب الطائعين على صالح العمل أجزل الثواب، ومجيب الداعين فهو أكرم من أجاب، يغفر الزلات، ويقيل العثرات، ويجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من أناب، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، فإلى متى يؤخر المتاب؟!.
أحمده على نعمه التي فاضت على ذرات التراب، وقطرات السحاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة لا يحجبها عن الإخلاص حجاب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أرسله بأسمح دين وأفصح كتاب، فرض الفرائض وسنن السنن، وبين الآداب. اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه خير آل وأكرم أصحاب.(3/217)
أما بعد أيها الناس جد بكم الرحيل وأنتم للإقامة عاملون وندبكم ربكم إلى الآخرة وأنتم عنها غافلون، وحذركم عن التهافت في الدنيا وأنتم مع الآمال مائلون، وطلبكم لوليمة دار السلام وأنتم عن الإجابة متشاغلون. يا لها دارًا تشوقت إلى طالبيها، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين لمن جد فيها، فيها من الخير المدخر ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، حصباؤها اللؤلؤ والجوهر وترابها الزعفران والعنبر، سقفها عرش الرحمن، فظلها ممدود، وماؤها جار في غير أخدود، سررها عالية الرتب، وبناؤها لبنة من فضة، ولبنة من ذهب، فيها أنهار ذكر الله لها في كتابه العزيز نعتًا ووصفًا من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، فتحت منها الأبواب، وزخرفت للمتقين فيها القباب، وغردت الأطيار، واطردت الأنهار. وأصبح، أهلها في روضة يحبرون، على الأرائك ينظرون، لمثل هذا فليعمل العاملون.(3/218)
فيا أهل العقول تدبروا القرآن ببصائر الإيمان، واشتروا الأمان بمرضاة الرحمن، وتقربوا بالصالحات إلى الجنان تفوزوا بالقبول والغفران، وامحوا سوابق العصيان بلواحق الإحسان، وتخلصوا عن الهوان واندبوا أعمالاً ماضية، ونفوسًا عاتية طاغية، ألا آذان واعية ألا أقدام في طاعة الله ساعية، ألا نفوس لحقوق الله مراعية، ألا قلوب إلى قبول المواعظ داعية، قبل هجوم الداهية، يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية، جعلني الله وإياكم من الفائزين، وأدخلنا برحمته في عباده الصالحين. إن أحسن الكلام كلام الملك العلام والله يقول وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ( [فاطر: 30].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من العذاب الأليم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم،
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
164- (خطبة)
الحمد لله الذي خلق الخليقة وأعمالها، وردها بنور الهداية عن الغواية وأمالها، وأمدها بالعناية الربانية فقصر آمالها. أحمده حمد من احتسى من النعم زلالها، واكتسى سربالها. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده شريك له، شهادة تثبت الأقدام إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الإنسان ما لها.(3/219)
ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أرسله والجاهلية تشرع ضلالها، فلم يزل - صلى الله عليه وسلم - يكثر جدالها ويضيق مجالها، ويعرف خيلها ورجالها، حتى عرفت حرامها وعافت الدنيا إذا عرفت زوالها. اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ما خالفت الجنوب في الهبوب شمالها.
أما بعد أيها الناس ما لأمواه العيون غائضة؟ وما لأفواه الذنوب فائضة؟ وما للهمم عن طلب النجاة رابضة، وما للنفوس في ميدان الشهوات راكضة؟ وما للأهواء في مجاري الزلات خائضة؟ وما للعزائم إلى مقابل التوبة ناهضة؟ أذهب الصواب عن السلاك، أم عظم المصاب ووقع الهلاك؟.
لقد أفصحت الرسل لولا صمم القلوب، ووضحت السبل لولا كدر الذنوب، ألا وإن الطريق سحيق فاشتملوا زادًا فاضلاً، وإن الحساب دقيق فاعملوا عملاً مناضلاً وإن العذاب حريق فأعدوا ولاء شاملاً، وإن السؤال حقيق فأسيلوا دمعًا سائلاً، واغتنموا نفائس أوقات تسير بكم سيرًا حثيثًا، وأيامًا وليالي طالما أرتكم عبرة وأسمعتكم مواعظها حديثًا، لقد أخبرتكم بما أخلت من الديار، وما أحلت بالقرون من قبلكم، وأعفت من الآثار. ألم تركم كيف أوردت الأتراب مصارع المنايا، ألم توصل إليكم من الأخبار قوارع الرزايا؟ أما دهتكم في أنفسكم بكثير من الآلام؟ أما أذاقتكم في أنفسكم مرارة الأسقام؟ فلو فكرتم في الدنيا لعلمتم أنكم في إدبارٍ منها حثيث، وإقبال من الآخرة غير بطيء ولا مكيث. فكأن الليل والنهار وقد وقفا بكم على الآجال، وأزالا عنكم غرور الآمال، وكشفا عنكم أغطية الأبصار، ووصلا بكم إلى دار القرار، فيا حسرة منتقل إلى دار لم يتخذ بها منزلاً، ولم يقدم إليها من الصالح عملاً، فرحم الله امرءًا وسع من القبور مضيقًا، واتخذ من العمل الصالح صديقًا، وصدق ربه فبعثه صديقًا، فطيبوا نفسًا بمعاملة الله فإنكم تربحون، وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون.(3/220)
جعلني الله وإياكم من الفائزين الآمنين، وجنبني وإياكم موارد الظالمين. إن أحسن الكلام كلام الملك العلام والله يقول وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً( [الكهف: 46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من العذاب الأليم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم،
أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم، فاستغفروه.
الخطبة الرابعة من شهر ربيع الثاني
الحمد لله الملك القهار العظيم الجليل، والحمد لله الذي أنفذ قضاءه في مخلوقاته، وحسبنا الله ونعم الوكيل، سبحان من جعل الدنيا دار زوال ورحيل، والآخرة دار نعيم أو عذاب وبيل، وكل ميسر لما خلق له، وعلى الله قصد السبيل.
أحمده على إحسانه الشامل الجزيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا وزير ولا عديل، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المؤيد بمعجزات التنزيل، والمصون دينه عن التحريف والتبديل، اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه صلاة وسلامًا يبلغان قائلهما نهاية التأميل.(3/221)
أما بعد أيها الناس ما هذا الانتظار وقد قرب الرحيل؟ وما هذا الاغترار وقد أزف التحويل؟ أما ترون المنايا كيف أنشبت الأظفار؟ واستلبت من الأمة الخيار، وأن الرزايا قد طبقت أرجاء الأرض والأقطار، فمحت من المجالس الآثار، فأصبحت عرى الإيمان منفصمة، وقوى التقوى منقصمة، فاتقوا الله عباد الله حق تقاته، وبادروا بالسعي إلى مرضاته، وأقلقوا القلوب من مراقد غفلاتها، واعدلوا بالنفوس عن موارد شهواتها، وذللوا جموحها بذكر هجوم مماتها، وتخيلوا فضائحها يوم تعرف بسماتها، وترقبوا داعيًا من جو السماء تنشر به الرمم، وتزول معه التهم، ويطول عنده الأسف والندم، يا له من داع يسمع العظام البالية، ومناد يجمع الأجسام المتلاشية من حواصل الطيور وبطون السباع، وقرار الوهاد، ومتون البقاع، حتى يستقيم كل عضو في موضعه، ويقوم كل شخص من مصرعه، فتقومون أيها الناس ليوم الكرة بوجوه من الثرى مغبرة وألوان من هول ما ترون مصفرة، حفاة عراة كما بدأكم أول مرة، فيسمعكم الداعي، وينفذكم البصر، قد ألجمكم العرق وغشيكم القتر، ومادت الأرض فهي بما عليها ترجف، وبست الجبال فهي برياح القامة تنسف، وشخصت الأبصار، فما ترى من عين تطرف وغص بأهل السموات والأرض الموقف. فبينما الخلائق متطلعو أنبائها، وقوفًا صفوفًا والملائكة على أرجائها، إذ أحاطت بهم ظلمات ذات شعب، وغشيهم منها شواظ ولهب، وسمعوا لها جرجرة زفير وصخب، فعند ذلك يجثو الظالمون على الركب، ويشفق المراؤون من سوء المنقلب وتطرق الأنبياء لسلطان الرهب، وينادى أين عبد الله وابن أمته، وأين المسرف على نفسه بخطيئته؟ فيعرف من بين الخلائق بسمته، ويحضر مطالبًا بإقامة حجته. فخاب والله هناك من كان على نفسه مسرفًا، ولم يجد من خلطائه وأخلائه ناصرًا ولا مسعفًا، بل يجد الحاكم له وعليه عدلاً ومنصفًا (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً( [الكهف:(3/222)
53]. زحزحنا الله وإياكم عن النار وأدخلنا بفضله ورحمته دار القرار. إن أحسن ما فاه به اللسان كلام من خلق الإنسان وعلمه البيان. والله يقول وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ( [الرعد: 42].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم. فاستغفروه.
خطبة في الاستعداد للموت وما بعده
الحمد لله العالم المريد، الخالق الرازق الغني الحميد، ذو العرش المجيد، فعال لما يريد، عفوه عظيم وبطشه شديد، وهو الله الباعث الوارث المبدئ المعيد (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ( [ق: : 15]. (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى( [النجم: 47].(3/223)
نحمده تعالى حمدًا يليق بجلاله، ونشكره عز وجل على أفضاله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عم الوجود بجوده وشمل العالمين بنواله، وجعل الحياة لابن آدم مزرعة لأعماله، يحصد ما زرع فيها عند مآله، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المعروف بكماله، القائل - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أعرفكم بالله وأتقاكم له»، لما شاهد من جلال ربه وجماله (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى( [النجم: 12].
اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد بن عبد الله، سيد خلق الله، وخاتم رسل الله، والقائل - صلى الله عليه وسلم -: «عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشيت الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله»، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى التابعين لهم بإحسان في شرائع الله. ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا.
عباد الله: شغلتكم الدنيا عن الآخرة وصرفكم العاجل عن الآجل، وغرتكم الحياة الدنيا وما ينبغي ذلك لعاقل، فكم ترون من هالك بعد هالك، وراحل بعد راحل، وكم تشاهدون من ملك عظيم وملكه عنه زائل، ولم تغن عنه من الله شيئًا معداته والجحافل، وكم من غني كبير ذهب عنه ماله الكثير الطائل، وأقبل كل على الله بما هو عامل، والتحق الأواخر بالأوائل، ولقيت خزاعة بكر بن وائل، وسيحكم الله بين عباده ويجازي كلاً بما عمل وهو الكريم العادل (فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى( [الأعلى: 12].(3/224)
هذه الدار خداعة مكارة، ساخرة بأهلها غرارة، ونفسك أيها الإنسان بالسوء أمارة، والشيطان يأتيك من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك، ويأمرك بالسوء والفحشاء ويدعوك إلى الخسارة، فيا لك من ثلاثة أعداء تآمروا عليك وبحسن العبارة قد صرفوك عن كل بشارة ونذارة، وزينوا لك الشر وأطواره، وحسنوا لك الذنوب بكل مهارة، ودعوك إلى الفساد بالتصريح والتلميح والإشارة، وأنت بهم واثق وإليهم راكن، لا تنفعك الموعظة ولا تسمع من الخطيب إنكاره، وإسهابه في التحذير وإكثاره، فاتقوا الله وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا، وقودها الناس والحجارة (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً( [الطلاق: 3].
تمكن والله حب الدنيا من قلوب الكفار والمسلمين، فأصبحوا لا يبالون في سبيلها بمروءة ولا دين، وتحكمت في بني آدم الشياطين فزينوا لهم ما كانا يعملون، وقالوا لهم ما أنتم بميتين إلا الموتة الأولى وما أنت بمعذبين، وما هذه الآيات والمواعظ إلا أساطير الأولين، فأصبح الناس بالأديان مستهزئين، وبالتعاليم السماوية مستخفين وقال الآباء للبنين، كونوا كما شئتم فما نحن عنكم بمسئولين، وقال الصغار للكبار لولا أنتم أيها الجامدون لكنا قومًا صالحين، فليتهم يسمعون الكتاب المبين، وهو يتحدث عن القرون الغابرين بقوله عز وجل (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى( [النجم: 55].(3/225)
أملك يا ابن آدم طويل وأجلك قصير، وخير هذه الحياة قليل وشرها كثير، فأنت تبني وتهدم، وتنقض وتبرم، وتقدر فتخطى التقدير، وتقول وتفعل وتترك وتدبر، فتأتي الأمور مخالفة للتدبير، وتسيء الاكتساب وتسوف بالمتاب، وتستبعد الموت لأنك صحيح وصغير، وإنما يموت المريض والكبير، فهلا تذكرت من مات فجأة وأخذ بغتة واستسلم كالأسير، فأمسى أميرًا وأصبح غير أمير، وتم أجله، وانقطع عمله، وأسلمه إلى الله أهله، وانقطعت عنه المعاذير، وفي القبر يسأله منكر ونكير وإذ ذاك يعلم المصير، أفي الجنة أم في السعير (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً( [طه: 103].
إذا وقف الناس بين يدي الله، ونظر كل امرئ ما قدمت يداه، واجتمع الناس في عرصات القيامة وهم حفاة عراة، يسمعهم الصيت ويبصرهم الناظر من أبعد الموقف وأدناه، فثم تذهل العقول وتتبلبل الألسنة ويستغرق الإنسان في بكاه، وقد ألجمه العرق وتغشاه، وخشعت الأصوات للرحمن فلا يتكلم إلا من أذن له الله من ملائكته وأنبياءه وتطايرت الصحف ونصب الميزان وتجلى الله، لفصل القضاء بين عباده الطائعين والعصاة، فظهرت الجرائم، وأنصف الحاكم وأمر بالظالم إلى مقره ومثواه فكيف الخلاص وأين النجاة، يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله (قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً( [الكهف: 88].
فهل ينبغي لمن آمن بالله واليوم الآخر، وهل يليق بمن عرف مصير الأوائل والأواخر، ورأى أن الموت يأخذ الأصاغر والأكابر.
"خطبة"(3/226)
الحمد لله الذي لا تدركه الأوهام والظنون، ولا تحويه الأفكار والعيون خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون، إنما أمره أذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون، يرحم من يشاء ويعذب من يشاء وإليه تقلبون (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ( [الروم20].
أحمده حمدًا يتقرب به المتقون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنفع قائلها يوم لا ينفع مال ولا بنون، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، النبي العربي الأمين المأمون. اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.(3/227)
أما بعد عباد الله رحل الأحباب إلى القبور وسترحلون، وتركوا الأموال والأوطان وستتركون، وتجرعوا كأس الفراق وستجرعون وقدموا على ما قدموا من الحسنات والسيئات وستقدمون، وتأسفوا على زمان الإمهال وستأسفون، وشاهدوا ما لهم عند المنون وستشاهدون، ووقفوا ببصائرهم وستقفون، وسئلوا عما عملوا وستسألون، ويود احدهم لو يفتدي بالمال وستودون، فبادروا بالمتاعب قبل يوم الحساب وخيبة الظنون، فكأنكم بأيام الشباب قد استلبتها أيدي المنون، وقد أظلمكم من فجأة الموت ما كنتم توعدون (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ( [الزمر: 68]. فكيف بك يا ابن آدم إذا نفخ في الصور، وبعث ما في القبور، وحصل ما في الصدور، وضاقت الأمور، وظهر المستور، وخرج الخلائق من بطون القبور، فإذا هم قيام ينظرون؛ يا له من يوم عظيم! عظم الله فيه الزلزال، وسيرت فيه الجبال، وترادفت الأهوال، وتقطعت الآمال، وقل الاحتيال، وخسر أصحاب الشمال، وخرجوا من القبور بنفخة الصور؛ فإذا هم قيام ينظرون، فذلك يوم تزل فيه الأقدام؛ وتتبلد فيه الأفهام؛ ويطول فيه القيام؛ وتظهر الآثام؛ وتخرج الخلائق من اللحود أحياء بعد شرب كأس المنون فإذا هم قيام ينظرون، فهو يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، ويوم الزلزلة وأخذ الظلامة وفيه يشاهد العاصي ذنوبه وآثامه.(3/228)
يوم يخرجون من الأجداث بالانبعاث إلى ما يوعدون فإذا هم قيام ينظرون، يوم تبلى السرائر، وتكشف الضمائر، وتظهر الجرائر، وتعمى البصائر، ويفتضح أهل الكبائر، ويبعث من في القبور فيخرج البر والفاجر، إلى الموقف يهرعون، فإذا هم قيام ينظرون! جعلني الله وإياكم من الفائزين الآمنين، وجنبنا موارد الظالمين. إن أحسن الكلام كلام الملك العلام، والله يقول وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ( [التوبة: 105].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم،
أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
165- خطبة أيضًا
الحمد لله الكريم الودود. المعروف بالكرم والجود. المحيط علمه بالحد والمحدود. أحمده سبحانه وهو الرب المعبود. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها من هول اليوم الموعود. وتدخله جنات تجري أنهارها بغير أخدود. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صاحب اللواء المعقود والحوض المورود والمقام المحمود. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ما أضاءت البروق وسبحت الرعود. وسلم تسليمًا كثيرًا.(3/229)
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى عباد الله، هبوا من هذه الرقدة والمنام. واهجروا الفواحش والآثام. وارجعوا إلى طاعة الملك العلام. من قبل أن يأتي يوم تشقق السماء فيه بالغمام. فيا له من يوم ما أطوله. ومن حساب ما أثقله. يوم عظيم جمعت فيه القيامة أهوالها. ووضعت فيه الحوامل أحمالها. وزلزلت الأرض زلزالها. وأخرجت الأرض أثقالها.وقال الإنسان ما لها. يومئذ تحدث أخبارها. بأن ربك أوحى لها. وشاب الوليد. وحق الوعيد. وعظم الهول الشديد (وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ( [ق: 22]. وخضعت الرقاب لرب الأرباب. وذل كل فاجر كذاب، فالسعيد من استعمل نفسه في طاعة المعبود. وخاف أن لا ينجو من النار بعد الورود. فانتبهوا رحمكم الله واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ( [الحج: 2].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الأخيرة تصلح للكل
الحمد لله على إحسانه. والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليمًا كثيرًا.(3/230)
أما بعد أيها الناس اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي فإن أقدامكم على النار لا تقوى. واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة. وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار. واعلموا أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال تعالى قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً( [الأحزاب: 56]. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون. وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
166- خطبة أولى أيضًا(3/231)
الحمد لله الذي خلق كل نفس وسواها، وألهمها فجورها وتقواها، وأحاط علمه بالكائنات وأحصاها، وحرم على العباد أن يتخذوا من دونه إلهًا، أحمده سبحانه حمد من ارتقى من رتب الإخلاص إلى أعلاها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من طهر نفسه من درن الشرك وزكاها، وكفر بما يعبد من دون الله ولم يجعل له أندادًا ولا أشباها، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث بأحسن الطرائق وأسناها، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه الذين قاموا بملة الإسلام وحموا حماها، وعضوا بالنواجذ على سنته وتمسكوا بعراها، وجاهدوا في الله حق جهاده حتى بلغت دعوتهم أقصى المشارق والمغارب وأدناها، وسلم تسليمًا كثيرًا.(3/232)
أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى عباد الله كم تسمعون الذكرى ولا تذكرون. وتوعظون ولا تتعظون، وتنبهون من سنة الغفلة ولا تنتبهون، كأنكم بهذا الحديث مكذبون، أو كأنكم على الله لا تعرضون (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ( [الأنبياء: 2]. عباد الله أتظنون هذا الإمهال إهمالاً، أم تحسبون أن هذا الإملاء إغفالاً، (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ( [الزخرف: 80]. فعليكم عباد الله بالفقه في الدين، وإتباع سبيل المؤمنين (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً( [النساء: 115]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ( [الأنفال: 20 - 25].(3/233)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
خطبة أولى
الحمد لله اللطيف الكريم، الرءوف الرحيم، العزيز الحكيم، الذي هدانا لدين الإسلام. وجنبنا طريق الغواية والتأثيم. فضلاً منه ونعمة والله ذو الفضل العظيم. أحمده سبحانه وأستغفره وأتوب إليه وأسأله المزيد من فضله العميم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبوئ من حققها جنات النعيم. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل من دعا إلى الدين القويم. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم على المنهج السليم. وسلم تسليما كثيرًا. أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وعظموا أمره ولا تعصوه، وعاملوه معاملة من يخافه ويرجوه. واحذروا أسباب سخطه وغضبه فإن ذلك مما يوجب حلول العقوبات والمثلات. وزوال النعم ومحق البركات كما وقعت بمن مضى من الأمم الخاليات. واعلموا أن ما عملتم من خير وشر فإنكم ملاقوه. وسيجازيكم عليه يوم تلاقوه. فاستيقظوا من غفلتكم، وانتبهوا من رقدتكم، قبل أن لا تقال عثرتكم، ولا تقبل معذرتكم. وذلك يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، ولا يرحمه إلا خالقه ومربيه. فاتقوا الله فإن بتقواه تحصل السعادة والنجاة. ولا تغرنكم الحياة الدنيا بما فيها من الزهرة واللذات فإن لذاتها تبعات وراحاتها حسرات وندامات. فالله الله فيما يخلصكم وينجيكم بعد الممات. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ( [آل عمران: 185].(3/234)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
167- خطبة
في صفات المؤمنين
الحمد لله الكريم المنان، أحمده سبحانه! وهو البر الرحيم عظيم الشأن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أوضح فضل المؤمنين، وامتدح فعالهم في محكم القرآن. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى، وأظهر دينه على عموم الأديان. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد الله؛ مثل الإيمان في قلب المؤمن، كمثل الشجرة الطيبة: تنبت أطيب الثمار. وإن العمل الصالح هو ثمرة الإيمان الذي انغرست جذوره في قلب المؤمن، يبلغ به أقصى درجات الفلاح. قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ( [المؤمنون: 1]. ثم فسر إيمانهم بجليل ما يعملون، وعظيم ما يسكبون؛ مما تتحقق لهم به الغاية التي إليها يسعون وفيها يؤملون؛ قال تعالى: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ( [المؤمنون: 2 - 9].(3/235)
فذكر سبحانه في طليعة أعمالهم الصالحة، خشوعهم في الصلاة. قال الحسن البصري رحمه الله: "كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا لذلك أبصارهم". وقال غيره: "هو أن لا يعبث المرء بشيء من جسده في الصلاة". ومن هذا الوجه، قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة: «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه». وكان فيهم من لو قطعت أوصاله وهو في الصلاة، لما وجد منه حراك. كل ذلك من خشوع القلب، والتلذذ بمناجاة الرب جل وعلا، والشعور بعظمته.
ثم ذكر سبحانه، من صفات المؤمنين المفلحين، إعراضهم عن اللغو، وهو الباطل في مختلف ألوانه، يصل إلى درجة الشرك بالله، وينخفض إلى إتيان كل قول أو فعل لا فائدة فيه، أو على الإنسان منه نقص في دينه. يدخل في ذلك اللعن والشتائم القذرة، ويدخل فيه اللهو في كل صوره وأشكاله.
وذكر سبحانه، من صفات المؤمنين، قيامهم بإخراج زكاة أموالهم، كيفما كانت الأموال ذهبًا أو فضة، عروض تجارة أو سائمة من الأنعام، أو ما يخرج من الأرض من حبوب وثمار. فالزكاة حق المال، وفريضة لا فضل في إخراجها لصاحب المال؛ وهي طهرة ونماء للمال، وخير وبركة لصاحبه، وصلاح وفلاح لمجتمعه.
وذكر سبحانه، من صفات المؤمنين، عفتهم عن الحرام، وحفظ فروجهم عن الوقوع في جريمة الزنا أخطر مرض اجتماعي منيت به الإنسانية؛ فهو إلى جانب جريمته على الأنساب، يفتك بالبشرية فتكًا ذريعًا: حيث يفشو فيها الزهري والسيلان، ومضاعفاتهما المهلكة. وكفى بالمرء زاجرًا عنه، قول العليم الخبير: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً( [الإسراء: 32]. وقوله: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ( [المؤمنون: 7]؛ أي: من تطلع إلى غير ما أحله الله له، من الزوجات والإماء من ملك اليمين –كأن تورط في الزنا- فقد اعتدى وتجاوز الحلال إلى الحرام.(3/236)
وذكر سبحانه، من صفات المؤمنين، أداءهم للأمانات إذا ائتمنوا، ووفاءهم بالعهد إذا عاهدوا. وأعظم الأمانات فرائض الله التي افترضها على العباد؛ فهي كالودائع: عليهم أن يؤدوها حق الأداء.
وختم سبحانه صفات المؤمنين المفلحين بمحافظتهم على الصلاة، كما بدأها بذلك -: توجيهًا للأنظار إليها، وإلى ضرورة المحافظة عليها؛ فهي أعظم وسائل الفلاح والنجاح.
ثم ذكر عظيم أجرهم، وحسن جزائهم؛ فقال: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( [المؤمنون: 10 - 11]. ذلكم –يا عباد الله- فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
فاتقوا الله عباد الله، وترسموا نهج الصالحين، واصرفوا الجهود في طاعة الله تكونوا من المؤمنين المفلحين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( [هود: 23].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين، من كل ذنب. فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
168- (الخطبة الثانية)
الحمد لله العزيز الغفار؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيد البررة الأخيار. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.(3/237)
أما بعد: فيا عباد الله؛ يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «كان إذا نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي، يسمع عند وجهه كدوى النحل؛ فلبثنا ساعة، فاستقبل القبلة – يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وقال: «اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا. ثم قال: لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة. ثم قرأ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ( [المؤمنون: 1]، إلى عشر آيات». فيا لسعادة من أقامهن فحظى بكرامة الله في دار الكرامة والنعيم، ويا لشقاء من أعرض عن هديها فباء بالخيبة يوم يفوز المفلحون!!.
وصلوا –عباد الله- على الهادي البشير، محمد أكرم رسول وخير نذير؛ فقد أمركم بذلك اللطيف الخبير: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً( [الأحزاب: 56]. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه المنير. وارض اللهم عن خلفائه الأربعة –أبي بكر وعمر وعثمان وعلي- وعن الآل والصحب ومن على نهجهم إلى الله يسير؛ وعنا معهم بعفوك وكرمك يا عزيز يا قدير.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر اليهود ومن شايعهم من المستعمرين الغاصبين، وألف بين قلوب المسلمين، وأصلح قادتهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا؛ واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا أرحم الراحمين. ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.(3/238)
عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى؛ وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون. فاذكروا الله على نعمه، واشكروه على آلائه؛ ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
169- (خطبة)
في التحذير من طغيان المادة ومن التشاؤم
الحمد لله كاشف البلاء، ومسدي النعماء؛ الحكيم في صنعه، العليم بمصالح عباده؛ أحمده سبحانه، قدر الأقدار، وحدد الآجال؛ فجرت على ما قضى وقدر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تكفل برزق العباد، فلا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيد المتوكلين، وقوة البررة الصالحين. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد الله، ظاهرتان فاشيتان، ونزعتان ملتويتان؛ من واجب المسلم أن يترفع عنهما، ويبتعد عن مزالقهما، ويحذر الوقوع في شباكهما؛ صيانة لإسلامه، وحرصًا على مرضاة ربه. الظاهرة الأولى: مادية طاغية، تُضعف في النفوس عقيدة التوكل على الله، وتنحرف بالمسلم عن المثل الكريمة، وتحمله على الشح البغيض، والجشع المذموم؛ تحمله على هذه الرذائل بدعوى تأمين المستقبل، والخوف من الفقر، والاحتياط لليالي السود. وإن المستقبل – يا عباد الله- بيد الله، والله وحده هو المتصرف فيه وكم من مستكثر في جميع حطام الدنيا يمنع فيه حق الله، ولا يجعل فيه قسطًا لسائل ومحروم؛ دهمته صروف الليالي، أو ارتحل عن الدنيا، فذهب تقديره هباءً، وأضحت ثروته أثرًا بعد عين، وصارت حسابًا ووبالاً عليه. وكم من مقل تجرع البؤس ألوانًا، أبدله الله بعد البؤس رخاء، وبعد الفقر نعمة وثراء. (وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( [العنكبوت: 60].(3/239)
الظاهرة الأخرى: تشاؤم ببعض الأيام والشهور: كيوم الأربعاء، وشهر صفر. وتطير ببعض الطيور كالغربان والبوم؛ وبغير ذلك مما لا تحصره الأمثلة. وهو ما يزعزع الثقة بالله، وتنصرف به القلوب عن الله. هو –يا عباد الله- خرافة لا يقرها عقل ولا دين، وهي مما يغضب رب العالمين. وليس التشاؤم بالذي يغير من القدر المكتوب شيئًا. قال الله تعالى: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ( [الأنعام: : 17]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر». وأرشد - صلى الله عليه وسلم - إلى علاج يجتث جذور التشاؤم، ويوجه، القلوب إلى الله؛ وهو: أن يدعو من يجد في نفسه شيئًا من ذلك بقوله: «اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك»؛ وبقوله: «اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يصرف السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك».
فاتقوا الله عباد الله، وعلقوا القلوب والآمال بالله، وابتعدوا عن مزالق المادة والتفكير بوحيها؛ وحاربوا الخرافة والتضليل؛ واعتصموا بالله هو مولاكم، فنعم المولى، ونعم النصير. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( [يونس: 107].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين، من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
***(3/240)
الحمد لله ذي العزة والسلطان، أحمده سبحانه! من توكل عليه كفاه، ومن تعلق بغيره وكله إليه وأقصاه؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: أفضل من دعا إلى الاعتصام بربه ومولاه. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد الله؛ إن الأمور كلها بيد الله: يرفع ويخفض، ويعز ويذل، ويعطي ويمنع؛ لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه؛ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فأخلصوا –يا عباد الله- له القصد والنية، وتوكلوا عليه حق التوكل، يكفكم كل ما أهمكم، ويغفر لكم من ذنوبكم.
170- (خطبة)
في الحث على بر الوالدين، ومجانبة العقوق
الحمد لله، أحمده وأشكره، وهو البر الرحيم؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كتب على نفسه الرحمة، وتجاوز عن الذنب العظيم؛ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وهاديًا إلى الصراط المستقيم. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.(3/241)
أما بعد: فيا عباد الله؛ جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وتعلقت القلوب بصاحب الطول والمتفضل عليها؛ وليس أعظم إحسانًا، ولا أكبر تطولاً –بعد الله- من الوالدين. من أجل ذلك، قرن الله تعالى حقهم –في الإحسان إليهم، وحسن الرعاية بهم- بحقه في العبادة والإخلاص. قال تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً( [النساء: 36]. فأمر بالعبادة له وحده دون سواه، وخص الوالدين بالوصية في الإحسان إليهما، والعطف عليهما، والبر بهما؛ فقد أحسنا منذ البداية في كل وجوه الإحسان؛ وكان لإحسانهما الأثر البارز، إلى أن بدأ النضوج، وتفتح الوعي، وبلغ الولد أشده، وبلغا نهاية مرحلة الحياة؛ فتطلعا لرد الجميل إلى البر والإحسان من ولدهما، إلى الصلة والمعروف، إلى تنفيذ وصية الله تعالى ورسوله فيهما. ولكنهما فوجئا من البعض بما لم يكن منتظرًا؛ فوجئا بالعقوق والتنكر للجميل، ومقابلة الإحسان بالإساءة؛ فوجئا بالتهكم والاستهزاء والسخرية، توجه إليهما من ولدهما المرتجى؛ فوجئا بالضرب من حبيبهما، وقد تناسى ماضيه، واعتز بحاضره، وأعجب بشبابه؛ وشمخ بثقافته وتعليمه، أو بماله وجاهه، أو بسلطانه وسعة نفوذه. وما علم المسكين أنه مخدوع، وأن هذا التصرف الطائش سوف يلقى جزاءه عاجلاً في الدنيا فيعقه ولده، وتضيق عليه مسالك الرزق، ويقضي حياته خاملاً مكدودًا.(3/242)
صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل الذنوب يغفر الله منها ما شاء، إلا عقوق الوالدين: فإنه يعجل لصاحبه في الحياة قبل الممات. أما عقوبته في الآخرة: فالنار وغضب الجبار. ألا وإن نار الآخرة لتزيد عن نار الدنيا بتسعة وستين جزءًا. ألا وإن غضب الجبار عاقبته: المحق، وخسارة الدنيا والآخرة». وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رضا الرب في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين». وعنه أيضًا، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «ثلاث لا ينظر الله إليهم يوم القيامة» وعد منهم العاق لوالديه. وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «يا معشر المسلمين؛ إياكم وعقوق الوالدين، فإن ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام، والله لا يجد ريحها عاق». يا لطول العناء، ويا لسوء المصير؛ نكد في الدنيا، وعذاب في الآخرة، وسخط من الله تعالى؛ إنها ثالوث الانتقام العادل، يا عباد الله، جزاءً وفاقًا. جاء رجل إلى ابن عمر يحمل أمه، ويقول: هل جازيتها؟ قال له ابن عمر: «لا ولا بزفرة واحدة؛ إنها كانت تتمنى لك الحياة، وأنت تتمنى لها الموت».
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا جاهدين لرد بعض الجميل، واستجيبوا لأمر الله ورسوله في الوصية بالوالدين؛ فهما –كما صح في الحديث- جنة العبد وناره. فمن أحسن فعليه بمتابعة الإحسان، ومن فرط فعليه بالتكفير والتماس الغفران. جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم؛ الصلاة عليهما - أي: الدعاء والاستغفار لهما. – وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما».(3/243)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا( [الإسراء: 23 - 24].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، من كل ذنب. فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
171- (خطبة)
في الحث على التوجه إلى الله، والتماس رضاه
الحمد لله الولي الحميد، الفعال لما يريد؛ أحمده سبحانه من التمس رضاه نجا، ومن تعلق بغيره خاب، ولم يغن عنه من الله شيئًا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ قدوة أصحاب اليقين، وسيد العارفين بربه، فيا لسعادة من سار على نهجه واقتفى. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.(3/244)
أما بعد: فيا عباد الله؛ إن خير ما أُلقي في القلب، يقين بالله يرسخ في القلوب رسوخ الرواسي؛ وإيمان صادق بكفاية الله لعبده، يدفعه إلى إيثار مرضاة ربه على رضاء خلقه، وتقديم طاعته على طاعة عبيده. وتلك هي مرتبة العارفين بالله، الذين امتلأت قلوبهم بنور الله، فعرفوا الله حق معرفته، والتمسوا رضوانه، وتخلصوا من مجالب سخطه. أولئكم –يا عباد الله- هم خير البرية؛ جزاءهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا؛ رضي الله عنهم ورضوا عنه. وعلى النقيض منهم، من اتصف بعكس صفاتهم؛ فضعف فيهم اليقين بالله، فأرضوا الناس بسخط الله، وجاملوهم في معاصي الله، وتعلقوا بهم واشتغلوا عن الله؛ رغبة في نوال حطام الدنيا، أو خوفًا من سخطهم؛ فوكلهم الله إلى من تعلقوا بهم ورجوهم، أو خافوا سخطهم؛ فلم يغنوا عنهم من الله شيئًا. أولئكم –يا عباد الله- ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا. فحذار من مثل صنيعهم حذار.
روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أرضى الله بسخط الناس: كفاه الله مؤونة الناس؛ ومن أرضى الناس بسخط الله: لم يغنوا عنه من الله شيئًا»؛ وفي رواية أخرى: «من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس؛ ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس». وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -ن قال: «إن من ضعف اليقين: أن ترضى الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله. إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره». وإنها –يا عباد الله- لإرشادات نبوية كريمة، من شأنها أن توجه النفوس للفعال الحقيقي. فالمنعم في الحقيقة هو الله، والمتفرد بالمنع هو رب الأرباب؛ لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع؛ ومن الناس إلا أسباب ووسائل لإيصال الخير والنعمة، أو الشر والنقمة.(3/245)
فاتقوا الله عباد الله، واملئوا قلوبكم باليقين الصادق والإيمان بالله، وعلقوا القلوب والآمال به وحده دون سواه؛ واذكروا على الدوام قول رسول الله: «من التمس رضا الله بسخط الناس: رضي الله عنه وأرضى عنه الناس؛ ومن التمس رضا الناس بسخط الله: سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس».
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ( [آل عمران: 173 - 174].
172- (أول الخطبة الثانية)
الحمد لله الذي يعلم السر والنجوى؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفات العلا؛ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، النبي المجتبي. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد الله؛ إن مما أثر عن صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قوله: «إن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه؛ فيلقى الرجل وله إليه حاجة، فيقول له أنت كيت وكيت – يُثنى عليه- لعله أن يقضى من حاجته شيئًا؛ فيسخط الله عليه، فيرجع وما معه من دينه شيء». وفي ذلك – يا عباد الله- ما يحمل على الاعتدال، والكف عن التغالي في مدح المرء بما ليس فيه: مما لعله أن يكون في ذلك سخط الجبار؛ وفيه توجيه لتعلق القلوب بالخالق دون المخلوق، في قضاء الحوائج والمهمات؛ فهو سبحانه المهيء للأسباب، وبيده وحده تفريج الكربات.
173- الخطبة الثامنة
في بوادر الخير، ومصائر الشر(3/246)
الحمد لله رب المنن الضافية والإحسان، أحمده سبحانه! وهو الواحد الديان؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الرب الكريم قديم الإحسان؛ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الهدى الراشد، الصالح لكل زمان ومكان. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد الله؛ إن للخير بوادر، وإن للشر مصائر؛ فبوادر الخير توصل إلى الغاية الحميدة، ومصائر الشر تورث الحسرة، وتبعث على الندم. وإن من بوادر الخير، مسلك السلف في الصدر الأول – رضوان الله عليهم- حيث كانوا يتجهون إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - -وهو بين أظهرهم- يسألونه عن سبل الهدى، ويبحثون عن طريق النجاة والسلامة، ويسترشدون عن أوجه الخير؛ فوصلوا بذلك إلى الغاية المحمودة، وكانوا هداة مهديين. يقول حذيفة رضي الله عنه: «كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه». ويقول أحد الأنصار رضي الله عنهم: يا رسول الله؛ قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك. قال له: «قل: آمنت بالله، ثم استقم». ويقول صحابي آخر: يا رسول الله؛ دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس. قال: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس». ويقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: يا رسول الله؛ أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار. قال: «لقد سألت عن عظيم؛ وإنه ليسير على من يسره الله عليه؛ تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت». أرشده في الطليعة إلى عبادة الله وحده، ونفى الشرك عنه. لأن العبادة توحيد وإخلاص، ولأن الشرك منقصة للرب وإسفاف؛ توحيد يرتفع به العبد إلى أعلا درجات القرب والرضوان. قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ( [الأنعام: : 82]. أي:(3/247)
الذين أخلصوا توحيدهم لله، هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة. وشرك يهوي به المرء إلى الحضيض: (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ( [الحج: 31]. ثم أرشده إلى بقية أركان الإسلام؛ وهي جزء لا يتجزأ، من فرط في جزء منها: فقد فرط في الجميع. ثم أرشده إلى الإزلاف إلى الله بالنوافل، بعد أداء الفرائض؛ فقال: «ألا أدلك على أبواب الخير؛ الصوم جنة» - أي: ستر ووقاية للعبد من النار. يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله، إلا باعد الله بذلك الصوم وجهه عن النار سبعين خريفًا» - «والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل»؛ ثم تلا قوله تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( [السجدة: 17]؛ ثم قال: «ألا أخبرك برأس الأمر وعموده، وذروة سنامه»؛ قلت: بلى يا رسول الله. قال: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله»؛ ثم قال: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله»؛ قلت: بلى يا رسول الله. فأخذ بلسانه، وقال: «أمسك عليك هذا»؛ قلت: يا نبي الله؛ وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: «ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم»؛ أي: ما تجنيه من الذنوب، كالغيبة والنميمة، والوقوع في أعراض الناس، والاستهزاء بآيات الله كل ذلك إذا اجتنبه العبد: ملك زمام نفسه، وبلغ نهاية قصده. أما مصائر الشر، فلن تحد بحدث، ولن تنحصر في شيء معين؛ فكل معصية لله، وكل تفريط في جانب الله –فإنه يجر أسوأ العواقب، ويكون له أسوأ المصائر. وحسبنا أن نستعرض في كتاب(3/248)
الله أخبار الأمم الهالكة بسبب تفريطها، وما تحدث الله به عن إهلاكها؛ حيث يقول: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ( [القصص: 58]. (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ( [غافر: 21].
تلكم –يا عباد الله- هي مصائر الشر، وعواقب المعاصي. فاتقوا الله، واسألوه النجاة منها. إنها تورث الحسرة والندامة، وتجلب الغم والأحزان، وتبعد المرء عن درجات القرب والرضوان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ( [النمل90].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، من كل ذنب. فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
174- الخطبة التاسعة
في الحث على التأدب بآداب الدين
الحمد لله، فتح لأرباب البصائر أنوار الهدى، ووعد المحسنين خير الجزا؛ أحمده سبحانه تنزه عن كل النقائص وعلى العرش استوى؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فالق الحب والنوى؛ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أدبه ربه فأحسن تأديبه، وانتهت إليه الفضائل؛ فأعظم بشمائل المصطفى. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.(3/249)
أما بعد: فيا عباد الله؛ إن أعظم وسيلة تحفظ التوازن بين الجماعة الإسلامية، هي آداب الدين؛ إنها تصقل النفوس، وترتفع بها إلى درجات الصالحين؛ وأنها لتجمع للمتأدب بها بين سعادتي الدنيا والدين. وإن من أدب الدين، كف اللسان عن الإثم والأذى، وعن الانطلاق في أعراض الناس، وعن السخرية بهم، أو لمزهم وتنقص أحوالهم، أو رميهم بما هم منه بريئون. إذن أن ذلك –يا عباد الله- مما يقطع الألفة بين المسلمين، ويهدم الأخوة في الدين، وسيؤاخذ العباد عليه أحكم الحاكمين؛ (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ( [ق: : 18]. ولقد عجب معاذ بن جبل صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عجب من أن يؤاخذ العبد بما يتكلم به، وقد أوصاه رسول الله بأن يكف لسانه، فقال معاذ رضي الله عنه: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم، إلا حصائد ألسنتهم»: ما يكسبونه من الإثم عن طريق اللسان. وإن في الناس من لا يردعه دينه أو ورعه عن أن يُطلق للسانه العنان، فيسرف في التجني على عباد الله بالسخرية واللمز؛ فهذا طويل، وذاك قصير، وهذا أحمق، وذاك أرعن، وهذا سخيف، وذاك فظيع. وكأنه وكل إليهم تشريح عباد الله وتجريحهم، وتسقطهم، وتتبع عوراتهم، وأكل لحومهم! ولكل الناس عورات ومعائب، وزلات ومثالب. فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، أو –كما جاء في الحديث-: «طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله؛ طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته». ومن وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطويلة، لأبي ذر: «وليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك». وقتل رجل يوم أحد فبكت عليه باكية قائلة: واشهيداه! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما يدريك أنه شهيد؟ لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه، أو يبخل بما لا ينقصه».(3/250)
أما رمى المسلم بما هو منه برئ، فهو أفظع وسائل النيل والوقيعة، وهو البهت. لأنه يجمع بين الكذب والغيبة، وكلاهما رذيلة وكبيرة من كبائر الذنوب. يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -في حديث طويل-: «وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار». ويقول في الغيبة: «هي ذكرك أخاك بما يكره»؛ قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟. قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته؛ وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته». وقال أيضًا: «أيما رجل أشاع على مسلم بكلمة هو منها برئ – ليشينه بها في الدنيا - كان حقًا على الله أن يدنيه يوم القيامة في النار، حتى يأتي بإنفاذ ما قال»؛ ومن أين له أن يأتي بهذا الإنفاذ؟
فاتقوا الله عباد الله، وتأدبوا بآداب الإسلام، وكفوا ألسنتكم عن كل قول يغضب الله. واذكروا على الدوام قول رسول الله: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده؛ والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه».
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ( [الحجرات: 11 - 12].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، من كل ذنب. فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
175- (خطبة)(3/251)
الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون. وبعدله ضل الضالون. لا يُسئل عما يفعل وهم يسئلون. أحمده سبحانه حمد عبد نزه ربه عما يقول الظالمون. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وسبحان الله رب العرش عما يصفون.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخليله الصادق المأمون. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين هم بهديه مستمسكون. وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله حق تقاته. وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته. وأجيبوا الداعي إلى دار كرامته وجناته. ولا تغرنكم الحياة الدنيا بما فيها من زهرة العيش ولذاته. فقد قرب الرحيل وذهب بساعات العمر وأوقاته. واعلموا أن الخير كله بحذافيره في الجنة، فأدلجوا في السير إليها. والشر كله بحذافيره في النار، فاجتهدوا في الهرب منها. أ لا وأن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، والمؤمن والكافر. والآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قاهر. فلا تغرنكم الحياة الدنيا فإنها دار بلاء، ومنزل ترحة وعناء. نزعت عنها نفوس السعداء. وانتزعت بالكره من أيدي الأشقياء، وحال بينهم وبين ما أملوه القدر والقضاء. ضربت لكم بها المقاييس والأمثال. وقربت لكم الحقيقة بالشبه والمثال، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما لي وللدنيا. إنما مثل الدنيا كراكب قال في ظل دوحة».(3/252)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( [يونس: 25 - 27].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
176- الخطبة الثانية لعيد الفطر
الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرة وأصيلاً الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد الله أكبر كلما هطل الغمام وناح الحمام وارتفعت الأعلام وأفطر الصوام الله أكبر كلما ارتقى فوق منبر إمام وكلما ختم بالأمس شهر الصيام الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الحمد لله معيد الجمع والأعياد ومبيد الجموع والأجناد رافع السبع الشداد عالية بغير عماد وماد الأرض ومرسيها بالأطواد وجامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد أحمده على نعم لا يحصى لها تعداد وأشكره وكلما شكر زاد وأسأله أن يصرف عني المثقلات الشداد.(3/253)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نفاد شهادة صادرة من صميم الفؤاد أرجو بها النجاة في يوم التناد أشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي شرع الشرائع وسن الأعياد وقرر قواعد الله ورفع العماد اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه البررة الأنجاب الذائدين عن شرعه بالمرهفات الحداد الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى فإن تقواه تبلغ دار النعيم وتنجي من درك الجحيم واعلموا أنه من عاش مات ومن مات فات فاغتنموا أيام الحياة، وأكثروا من ذكر هادم اللذات وزينوا بواطنكم بالتوبة النصوح كما زينتم ظواهركم بالملابس المجملات فمن لم يطهر قلبه من الأدناس لم ينفعه التزين بالطيب واللباس فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى القلوب العامرة المكملات.
واعلموا أن الله يبعث الأموات ويجمعهم ليوم الميقات ويزن أعمالهم وزنًا ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
واعلموا أن الله نهى عن محدثات الأمور وحذر من الكذب والغيبة والنميمة وشهادة الزور وأوجب الإيمان به وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره وبيوم البعث والنشور وعذاب القبر وفتنته وسؤال الملكين وقوته ويوم الحشر وشدته ولقاء الله ورؤيته والصراط وزلته والحساب وشهوده والحوض ووروده والشفاعة وقبولها والجنة وثوابها والنار وعقابها.
وعليكم بقضاء الدين وبر الوالدين وإصلاح ذات البين وإعانة المعسر وإغاثة الملهوف والنهي عن المنكر والأمر بالمعروف والنصح للعباد وتأديب الأهل والأولاد وهجر أصحاب الفساد وصلة الأرحام والصبر لله عند فجائع الأيام والشفقة على الأرامل والأيتام وإفشاء السلام وطيب الكلام والعدل في الأحكام والتجافي عن الجور في الولايات وأداء الشهادات ورفع السيئات بالحسنات. ومراقبة عالم الخفيات.(3/254)
واحترام العلماء والصالحين وطلب العلم ولو بالصين والحنو على الغرباء والمستضعفين وحب الخير لكافة المسلمين والاستغفار للسلف الماضين ووفاء المكاييل والموازين والتعطف على الأقرباء والجيران وأبناء السبيل والمساكين وكظم الغيظ والإحسان إلى الناس كافة إن الله يحب المحسنين وإذا تداينتم بدين فليحسن الطالب الاقتضاء والمطلوب القضاء فإن مطل الغني ظلم وإنظار المعسر فيه فضل عظيم.
فهذه شعائر الله أدعوكم ونفسي إليها وأستعين الله لي ولكم عليها واقصدوا وجه الله في كل عمل يثاب عليه العبد ويؤجر وراقبوا مولاكم في السر والعلانية فإنه يعلم ما أظهر العبد وما أضمر والذي يقصد بعمله غير القادر القاهر ينادي عليه يوم القيامة يا كاذب يا فاجر يا غادر يا خاسر. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
واحذروا مقارفة الذنوب ومقاربة ما يسخط علام الغيوب من الشرك بالله وموادة أعداء الله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وقذف المحصنات بالافتراء والجدال في الدين والمراء وشرب المسكرات والربا في المعاملات فإن ربحه بوار وعلى صاحبه تلف ونار وصاحبه حرب الرحمن وحرب رسوله المبعوث بالسنة والقرآن.
وإن أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه ولو كان الذي قاله فيه، وإياكم وعقوق الوالدين ومنع الحق الواجب من وصية أو دين وإياكم وقطيعة الأرحام وعدم العدل بين الناس في الأحكام والحذر من ظلم المسلمين في الدماء والأموال والأعراض.
وإياكم والحسد فإنه شر ما حوى الجسد ويأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب واحذروا الزنا ففيه هلاك المال والديار وفناء الأعمار.
وفي الحديث: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته وأيما رجل تبرأ من ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رءوس الخلائق من الأولين والآخرين».(3/255)
وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فإن المنكرات لها عواقب لا بد أن تحظر وتنظر وإن شؤمها يعم البلدان والأبدان والقرى والأمصار والبر والبحر والأخضر واجتنبوا مصافحة النساء الأجنبيات والدخول عليهن فإنهن أعظم فتنة وذلك من المحرمات.
وغضوا أبصاركم عن المحرمات فكم فتنة حدثت من البصر وقفوا عند حدود الله في كل ما نهى عنه وأمر وجملوا عيدكم بالطاعات وترك الخطايا وجانبوا المعاصي وركوب الدنايا.
واحذروا أكل الأوقاف وأموال الأرامل والأيتام والضعاف وإياكم وتطفيف المكيال والميزان فما بخسهما قوم إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان وتذكروا بهذا الاجتماع ما وراءكم من الأهوال والأفزاع إذا حشرتم بأقدام حفاة وأجسام عراة وأفئدة وجلات وأبصار خاشعات ونساء بالرجال مختلطات والكتب باليمين أو الشمال معطاة.
ثم وضع الميزان ونشر الديوان ومد الصراط على متون النيران ونادى المنادي لقد سعد فلان وشقي فلان واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة فعليكم بالجماعة فإن الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته المُسبحةَ بقدسه وثَلَّثَ بكم أيها المؤمنون من جِنِهِ وإِنْسِهِ فقال عز من قائلٍ عليم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا( [الأحزاب: 56] فأكثروا عليه من الصلاة يعظم الله لكم بها أجرًا فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا». اللهم صل على عبدك ورسولك محمد النبي الهاشمي المصطفى.(3/256)
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء السادة الحنفاء أهل البر والوفاء ذوي القدر العلي والفخر الواضح الجلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الستة الباقين من العشرة المفضلين وعن بقية الصحابة أجمعين وعن التابعين لهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وعمنا معهم بعفوك ومنك وكرمك وجودك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين واجعل هذا البلد آمنًا وسائر بلاد المسلمين اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح سلطاننا وول علينا أخيارنا واكفنا شر أشرارنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك يا رب العالمين.
اللهم أقم علم الجهاد وأصلح سبل الفساد واقمع أهل الشرك والبدع والغي والبغي والعناد وانشر رحمتك على هؤلاء العباد يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد اللهم فك أسر المأسورين ونفس كرب المكروبين وفرج هم المهمومين واقض الدين عن المدينين واشف بلطفك مرضانا ومرضى المسلمين واكتب الصحة والعافية علينا وعلى الغزاة والحجاج والمسافرين في برك وبحرك من أمة محمد المسلمين.
اللهم عُم بالتوفيق والصلاح رعايا المسلمين ورعاتهم وأكثر علماءهم وسدد قضاتهم وجلل برحمتك أحياءهم وأمواتهم ومُنَّ عليهم بالاجتماع والائتلاف وأعذهم من التفرق والاختلاف وجازهم بالإحسان إحسانًا وبالسيئات غفرانًا.
اللهم ادفع عنا البلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن بلاد المسلمين عامة يا أكرم المكرمين اللهم إن عبادك قد خرجوا إليك وابتكروا وقصدوا لوجهك وانتظروا.(3/257)
اللهم فاغفر ذنوبهم ونفس كربهم وفرج همهم واكشف غمهم واجمع شملهم وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. اللهم نور على أهل القبور قبورهم واغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم، عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، إن الله يعلم ما تفعلون فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم وأشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
177- الخطبة الأولى لشهر شوال
الحمد لله الذي افتتح أشهر الحج بهذا الشهر فاكتسب بذلك بركة وشرفًا وندب لصيام ستة أيام منه وجعلها بعد صيام رمضان كصيام العام على الوفاء وسمى أول يوم منه يوم الجوائز وجعله للمؤمنين عيدًا وأهدى لهم فيه من الثواب تحفًا.
أحمده سبحانه حمد عبد خبره سيده وأجراه على عادته وأنجز له وعده ووفى وأشكره شكر من لم يزل غارقًا في بحار نعمه مقرًا بشكرها ومعترفًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي شرع الحج إلى بيته وضاعف ثوابه وجعله جهادًا للضعفاء وجذب إليه أقوامًا بأزمة الغرم فقطعوا المهامة وجدوا اشتياقًا إليه وشغفًا.
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي فضله على كافة البرية سلفًا وخلفًا أنطق له الجمادات فحن له الجذع حين ترك الخطبة إليه حزنًا على فراقه وأسفًا اللهم فصل وسلم على محمد الذي لم يزل يتلو من الآيات البينات سورًا وصحفًا وعلى آله وأصحابه الذين اجتهدوا في الحج إلى البيت الحرام وأقاموا الصلاة طرفي النهار وزلفى صلاة وسلامًا من لازمهما كشف الله عنه وطاب وقته وصفا.(3/258)
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى فقد فاز المتقون ولازموا طاعة الله ورسوله في كل وقت لعلكم تفلحون واشكروا الله فالرابح من شكره وأشغلوا ألسنتكم بذكره فالسعيد من ذكره واتقوا يومًا يؤخذ فيه بالنواصي والأقدام ولا تقولوا ذهب رمضان فتستحلوا فعل الحرام فإن الله يكره أن يعصى في أي شهر كان ويجب أن يطاع في كل وقت وزمان.
واستقبلوا هذا الشهر بما يرضي الملك الخلاق وتقربوا إليه بالصدقة والإنفاق ولا تبطلوا ما أسلفتم في شهر الصيام من صالح الأعمال ولا تكدروا ما صفا لكم فيه من الأوقات والأحوال ولا تغيروا ما عذب لكم من لذة المناجاة والإقبال فكما أن الحسنات يذهبن السيئات فكذلك السيئات يبطلن صالح الأعمال.
ألا وإن علامة قبول الحسنة عمل الحسنة بعدها على التوال وإن علامة ردها أن تتبع بقبيح الأفعال وقد قيل ذنب بعد توبة أقبح من سبعين قبلها على التوال.
روى مسلم عن أبي أيوب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر» وفي معاودة الصيام دلالة على الإيمان والرغبة في الخيرات.
قيل لبشر الحافي أن قومًا يتعبدون في رمضان ويجتهدون في الأعمال فإذا انسلخ تركوا قال: بئس القوم قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان وقال الحسن البصري: لا يكون لعمل المؤمن أجل دون الموت ثم قرأ «واعبد ربك حتى يأتيك اليقين» فكأنكم بالحال وقد حال وبالمال قد مال وبالملك وقد زال وبملك الموت وقد هال وبالملك الحافظ وقد طوى صحيفة الأعمال وبأحدكم وقد نزل به ما لم يخطر له ببال ولا مخلص ولا حول ولا احتيال.
فاتقوا الله عباد الله ومهدوا لأنفسكم في زمن الإمهال فإنما هي أيام معدودات وليال واعلموا أنه قد عم الفناء فما إلى البقاء سبيل وتم القضاء فلا تغيير فيه ولا تبديل وطم بحر الموت فحار فيه الدليل فلو نجا منه شريف أو أصيل أو صاحب قدر ووجه جميل لكان أول ناج منه محمد صاحب التنزيل.(3/259)
فيا ابن آدم كيف لا تتقي مولاك وقد والى عليك النعم وأولاك وكيف لا تطيع من أوجدك وبراك وأنت تعلم أنه يسمعك ويراك وكيف نسيت من خلقك وسواك وتغافلت كأن المخاطب سواك وكيف أقبلت على الهوى إذ دعاك وأعرضت عمن يرحم افتقارك ويستجيب دعاك وكيف بارزت من لطف بك ورباك وهو الذي عَطَّفَ عليك أمك وأباك.
فما أعذرك يا مغرور وألهاك وما أضجرك عند اضطرارك وبلواك وما أجدرك بالتوبيخ والزجر وأولاك وما أجهلك بما ينفعك في آخرتك ودنياك وما أغفلك عن الموت وهو والله لا يغفل عنك ولا ينساك فدارك نفسك بالتقوى قبل فراق دارك وتب إلى الله من ذنوبك وأوزارك قبل بعد دارك وشطوط مزارك وتفطن لنفسك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة منجية لمن حققها من العذاب وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أفضل الفضلاء وأكرم الأحباب اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل محمد وأصحابه الأفاضل الأنجاب صلاة وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الحشر والمآب وسلم تسليمًا.
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتمسكوا من التقوى بالسبب الأقوى وتقربوا إلى الله بمجانبة ما تدعو إليه الأهواء واغتنموا فرصة العمر فكأنكم ببساط الأجل وقد انطوى وطهروا مقاصد القلوب فإن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى واعلموا أنه لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص من الشوايب ولا يرفع منها إلا ما يقع من الإخلاص بأعلى المراتب فلا تطمعوا في الرواج المزيف فالناقد بصير ولا تبطنوا خفيات القبائح فالعرض على العليم الخبير.
واستفتحوا باب الرحمة فيد الكريم مبسوطة وبابه مفتوح للمستجير فالله الله عباد الله إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور واعلموا أن شهر شوال شهر بركة واحترام جعله الله بين شهر صيام وشهر حرام فله حرمة هذا الجار والجار مكرم بالجار وقد جعل الله أوله لهذه الأمة عيدًا وآخره لحج بيته من كان بعيدًا فألزموا فيه طاعة ربكم واتقوا عار ذنبكم.(3/260)
واعلموا أن الله تعالى قد عظم هذا الشهر فمن صام رمضان وأتبعه ستًا منه فكأنما صام الدهر قد استفتحه الله بعيد يملأ القلوب سرورًا فلا تعصوا فيه ربكم فيعود سرور العيد ثبورًا فالمعاصي تخرب الديار العامرة وتورث الخزي في الدنيا والآخرة ولا تبطلوا ما أسلفتم في شهر الصيام من صالح الأعمال ولا تكدروا ما صفا لكم فيه من الأوقات والأحوال ولا تغيروا ما عَذَب لكم فيه من لذة المناجاة والإقبال.
فكما أن الحسنات يذهبن السيئات فكذلك السيئات يبطلن صالح الأعمال وإن علامة قبول الحسنة عمل الحسنة بعدها على التوال وإن علامة ردها أن تتبع بقبيح الأفعال.
وقد قيل: ذنب بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها على الفعال ولا تغتروا بدار الغرور فإنها قبل إشعارك أن التقصير والزلل من شعارك، وكن لمعاصي الله أول تارك قبل أن يصول عليك الزمان وتعجز عن أخذ ثأرك واجهد في اعتدال اعوجاجك وأوزارك ما دام الاستدراك طوع اقتدارك وابك يا مسكين لما بك وتزود بالعمل الصالح ليوم مآبك وتأهب لسيف المنون فقد علق الشبايك وقد بذلت لك النصح وأنت باختيارك فإن شئت فاترك ما أنت فيه وإن شئت استمر في تبارك.
فقد ورد في صحيح المقال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» من الله علي وعليكم بالخشية والمتاب ولطف بنا عند الممات ويوم الحشر والحساب.
إن أعظم الكلام منزلة ورتبة كلام من أرسل محمد وافترض على الخلق حبه والله تعالى يقول وبقوله يهتدي المهتدون (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( [الأعراف: 204].(3/261)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى( [طه: 82].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...الخ.
178- خطبة عيد الفطر
يكبر تسعًا نسقًا ثم يقول الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرة وأصيلاً الله أكبر ما نطق بذكره ناطق الله أكبر ما صدق في توحيده صادق الله أكبر ما وثق بوعده واثق الله أكبر ما أقيمت شعائر المسلمين وعظم منار الدين الله أكبر ما لاح صباح عيد وأسفر الله أكبر ما هلل مهلل وكبر الله أكبر ما صام صائم وأفطر الله أكبر كلما تذكر تائب ذنبه فاستغفر وكلما هل هلال وأقمر وكلما سبح رعد وهدر وكلما أعشب روض وأزهر.
سبحان خالق الحركة والسكون سبحان من فجر الأرض اليابسة بالعيون سبحان من أوجب فطر هذا اليوم بعد أن كان بالأمس حرامًا سبحان موفي الطائعين بالحسنة الواحدة عشرًا تمامًا سبحان ذي القدرة والهيبة والقوة التي لا تنكر كل ملك وإن تعاظم ملكه فهو له عبد ذليل أصغر، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد...الخ.
الحمد لله الذي لم يجعلنا ممن يغدو إلى بيعة يتقرب فيها إلى الله بالشرك والإفك وقول الزور ولا إلى كنيسة يتقرب فيها إلى الله بشرب المسكرات من الخمور ولا إلى أصنام وأوثان وقبور وبيوت يعبد فيها النار والنور بل جعل لنا بفضله دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا وسنة محمد صراطًا مستقيمًا فيه الهدى والشفا والنور.(3/262)
ثبتت ربوبيته وألوهيته وقد كذب من ادعى له شريكًا أو نظيرًا أو مثيلاً أو عديلاً فقد زلت في الدنيا والآخرة قدمه صنع الأشياء كلها فظهر فيما صنع بدائع حكمه الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. الحمد لله الذي سهل لعباده طريق العبادة ويسر ووفاهم أجور أعمالهم من خزائن جوده التي لا تحصر وجعل لهم يوم عيد يعود عليهم في كل سنة ويتكرر وأهل الأوقات كلها لأن تشيد بالعبادة وتعمر.
فما مضى شهر الصيام إلا وأعقبه شهر حج بيته المطهر أحمده على نعمه التي لا تحصر وأشكره وحق له أن يشكر وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي جعل لكل شيء وقتًا وأجلاً مقدر وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد البشر الشافع المشفع في المحشر الذي انشق له القمر وسلم عليه الحجر اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد الطاهر المطهر الذي غفرت له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ومع ذلك قام على قدمه الشريف حتى تفطر وعلى له الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهر وعلى أصحابه الذي لا يبلغ مد حدهم من أنفق مثل أحد ذهبًا أو أكثر.
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى سرًا وجهرًا فقد منَّ علينا وعليكم بنعم سابغة وآلاء وأياد بالغة فالشكر مني ومنكم واجب على ما أولاكم به ربكم والذكر على ما هداكم والثناء على ما أعطاكم والطاعة فيما أمركم به والانتهاء عما عنه نهاكم ولا ترتكبوا ما نهى الله عنه ولا تعصوا الله أمرًا فكم لله عليكم من نعمة ترفلون في أعطافها وكم له من منة أسبل عليكم جلبابها.
فاستعملوا نعم الله بلزوم طاعته واحذروا استعمالها بالعصيان ولا تقولوا ذهب رمضان فهيا وثوبًا لعصيان فرب الزمانين واحد وقد حرم العصيان في أي شهر كان ولا تعتقدوا أن الأعياد جعلت للعب واللهو وإنما هي لإقامة ذكر الله والإعراض عن اللغو.(3/263)
واعرفوا قدر نعمة الله عليكم في هذا العيد الأنور المعروف الأشهر عيد الإفطار عيد البركة والمسار مشهور في جميع النواحي والأقطار عيدنا أهل الإسلام ليس عيدًا من أعياد الكفار توج الله به شهر الصيام وافتتح به شهور حج بيته الحرام وأجزل فيه للصائمين جوائز الإكرام.
فإذا لاحت غرة هذا اليوم السعيد وخرج المسلمون فيه لصلاة العيد قال الله تعالى وهو أعلم بأسرار العبيد لملائكته ذوي التسبيح والتمجيد ما جزاء الأجير إذا فرغ من عمله فيقولون جزاؤه توفيته أجره ولديك المزيد فيقول جل ثناؤه أشهدكم يا ملائكتي أني جعلت ثوابهم من صيام شهر رمضان وقيامه مغفرة ذنوبهم وإجابة دعواتهم فأكثروا فيه من ذكر الله وتوحيده وتكبيره وتحميده واستغفاره وتمجيده والصلاة والسلام على نبيه أكرم خلقه وأشرف عبيده.
واعلموا أنه ليس السعيد من أدرك العيد ولبس الجديد ولا من ركب الخيل المسومة وخدمته العبيد ولا من كانت الدنيا تأتيه على ما يشتهي ويريد ولا من جمع المال وبلغ الآمال وخيف بأسه الشديد ولا من تأمر وساد وتجبر على العباد وتطاول في البناء وأشاد كل قصر مشيد إنما السعيد من خاف يوم الوعيد وراقب الله فيما يبدئ ويعيد وفاز بجنة عرضها السموات والأرض لا ينفد نعيمها ولا يبيد.
واعلموا أن النفوس على مطايا الأيام سائرة وأن السنين مراحل تنتهي بكم إلى الآخرة واذكروا باجتماعكم هذا جمعه الأمم وبعثه الرمم إذا جثوا على الركب بين يديه حفاة عراة غرلاً وحكم بينهم في الحقوق التي أسلفوا عدلاً هنالك يعض الظالم على يديه إذا تبين للحقيقة ما كان في هذه الدار عليه الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.(3/264)
وأدوا ما أوجب الله عليكم من زكاة الفطر فإنها طهرة لصيامكم ومواساة للفقراء من إخوانكم وكفارة لآثامكم عن أنفسكم وعن كل من تمونون من صغير وكبير وحر وعبد وذكر وأنثى وذلك على من وجدها فاضلة عن نفقته يوم العيد وليلته فأدوها كما أمركم نبيكم صاعًا من تمر أو صاعًا من بر أو صاعًا من شعير أو صاعًا من زبيب أو صاعًا من أقط.
فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات الله أكبر الله أكبر ولا إله إلا الله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد...الخ وقد ندبكم الله لشرائع الإسلام لتحكموها وقواعد الإسلام لتعلموها فأعظمها بعد الشهادتين الصلوات الخمس معشر المسلمين فحافظوا عليها في أوقاتها مع الجماعة فإنها عماد الدين وشعار الموحدين.
وأدوا ما أوجب الله عليكم من الزكاة فقد قرنها الله بالتوحيد والصلاة فصلاتنا وزكاتنا أختان فبادروا رحمكم الله، بدفعها وإيصالها إلى مستحقيها وخالفوا النفس والشيطان في منعها وحجوا البيت الحرام إن استطعتم إليه سبيلاً وراقبوا الله تعالى في السر والعلن لتنالوا أجرًا جزيلاً ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
ولا تغضبوا الخالق برضى الخلق ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تشربوا الخمر فمن شربها فقد حرم الله عليه خمر الجنة ومن استحلها فقد خرج من الإسلام والسنة واحذروا الزنا والربا وقول الزور ولا تلبسوا الحرير فإنه حل للإناث حرام على الذكور الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
واذكروا من كان معكم في مثل هذا العيد حاضرًا وبما تفاخرون به من زينة الدنيا مفاخرًا وقد صار بعد العز لابثًا في اللحود يتمنى أن يعود إلى الدنيا وهيهات له أن يعود تجردوا عن ثياب الحياة والتحفوا بالتراب وحبسوا في بطون ألحاد مظلمة بغير أبواب وسكنوا بعد القصور العالية القبور الواهية وحيل بينهم وبين ما يشتهون من تعاطي الأسباب.(3/265)
وشاهدوا ما أخرج به الرسل ونطق به الكتاب وسئلوا عما فعلوا فعجزوا عن رد الجواب وودوا لو ردوا وأنى لهم الرجعة وداعيهم غير مجاب فلو رأيتم تحت التراب أحوالهم لرأيتم أمورًا هائلة وألوانًا حائلة وأعناقًا عن الأبدان مايلة وعيونًا سايلة قد غير البلاء حسنها وأخلق التراب رسمها انفردوا بأعمالهم دون أموالهم عن الولد والوالد والآل ووردوا صدعًا من الأرض إلى يوم المآل.
فو الله ما نغصوا لتسروا ولا رحلوا لتستقروا ولا بد أن تمروا حيث مروا فلا تركنوا إلى الدنيا ولا تغتروا عباد الله كم مؤمل أمل ما أملتموه وراج رجا ما رجوتموه فلم يبلغ من الدنيا ما أبلغتموه ولم يستكمل من رجائه ما استكملتموه قد قطع لعيده أثوابًا وهيأ لفطره أسبابًا واعتد الفاخر من لباسه وطيبه ونوى فرحًا بحبيبه ونسيبه واستعد للخروج معكم إلى المصلى فأصبح من سكان الثرى ومجاورة المولى قد أصبح منزله خاليًا وجسده باليًا وولده حزينًا باكيًا.
جاور جيرانًا لا يتزاورون وآخى إخوانًا لا يتعاشرون فسيروا بقلوبكم إلى الفلوات ترون أهليكم وغيرهم في القبور الموحشات فقد كانوا قبلكم يتفاخرون في الملابس الفاخرات ولربما أن منهم من اشتغل بالدنيا وأهمل نفسه من الأعمال الصالحات.
فأمضى عليهم القدر حكمه وأدار عليهم الموت سهمه وأناخ بهم الحدثان ولم يبق منهم إلا كان فلان وكان أبادهم الملك الجبار وكانوا عبرة من العبر وخبرًا من الأخبار.
قد نسيهم أولادهم واشتغلت بغيرهم نساؤهم واقتسمت أموالهم فلم يبق لهم أنيس ولا جليس إلا أعمالهم رحلوا من الدور العامرة والقصور وأسكنوا بيت الوحشة والظلمة أسافل القبور وأنتم إلى ما صاروا إليه صائرون وبالكأس الذي شربوا منها شاربون وستزار قبوركم كما أنتم لقبورهم زائرون ثم من الأجداث إلى ربكم تنسلون وبين يديه توقفون وعما قدمتم مسئولون وبأعمالكم مجزيون.(3/266)
أفبهذا أيها المؤمنون تمترون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون فأيقظوا أنفسكم من سنة الغفلة واجتهدوا ما دمتم في زمن المهلة وعاملوا الله إذا عاملتموه لن تضيعوا واتقوا الله واسمعوا وأطيعوا وأنيبوا إلى ربكم ولأسلموا له ولكم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ومن جاء من طريق فالسنة أن يرجع من طريق أخرى وصوموا بعد هذا اليوم ستة أيام من هذا الشهر يكتب لكم بذلك صيام الدهر وابتهلوا في الدعاء في هذا اليوم معشر الإخوان وبالتضرع في هذه الساعة إلى المولى الكريم الرحمن.
روى البيهقي من حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا كان غداة عيد الفطر بعث الله عز وجل ملائكته فيهبطون إلى الأرض فينادى بصوت يسمعه جميع من خلق الله إلا الإنس والجن فيقولون يا أمة محمد أخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل ويغفر الذنب العظيم».
ورأى وهيب بن الوردي قومًا يضحكون في يوم عيد فقال إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين وإن كان لم يتقبل فما هذا فعل الخائفين وخرج عمر بن عبد العزيز رحمه الله في يوم عيد فقال في خطبته: أيها الناس إنكم صمتم لله ثلاثين يومًا وقمتم لله ثلاثين ليلة وخرجتم تطلبون من الله أن يتقبل منكم.
وقال في آخر خطبته: أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثًا ولم تتركوا سدى إن لكم معادًا ينزل الله فيه للفصل بين عباده فقد خاب وخسر من خرج من رحمته التي وسعت كل شيء وحرم جنة عرضها السموات والأرض ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وسيرثها بعدكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين.
وفي كل يوم تشيعون غاديًا ورائحًا إلى الله تعالى وقد قضى نحبه وانقضى أجله فتودعونه وتدعونه في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد قد خلع الأسباب وفارق الأحباب وسكن التراب وواجه الحساب غنيًا عما خلف فقيرًا إلى ما أسلف.(3/267)
فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقيته وإني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي ولكن استغفر الله وأتوب إليه ثم رفع طرف ردائه وبكى حتى شهق ثم نزل عن المنبر فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله عليه.
أعاد الله علي وعليكم من بركات هذا العيد وأمنني وإياكم من سطوات يوم الوعيد إن أحسن ما كرر وأعيد ووعظ به في كل جمعة وعيد كلام المبديء المعيد والله تعالى يقول وبقوله يهتدي المهتدون.
(وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( [الأعراف: 204]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ(، إلى قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ( [ق: 37].
بارك الله لي ولكم في القرآن ... الخ.
179- خطبة أيضًا
الحمد لله الذي ظهر لأوليائه بنعوت جلاله. وأنار قلوب أصفيائه بمشاهدة صفات كماله. وتحبب إلى عباده بما أسداه إليهم من إنعامه وإفضاله. أحمده سبحانه حمد عبد أخلص لله في أقواله وأفعاله. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نبي أنعم الله على جميع أهل الأرض ببعثه وإرساله. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى جميع أصحابه وآله وسلم تسليما كثيرًا.(3/268)
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى فإن تقواه عليها المعول. واشكروه على ما أولاكم من الإنعام والخير الكثير وخول. وعليكم بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول. وتدبروا ما جاء به نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - من الحكمة والكتاب المنزل. واعتبروا بمن كان قبلكم ممن علا في الأرض وأمل وتمول. فجاءهم هاذم اللذات وكان الأجل مما أملوه أعجل. وسطا بهم ريب المنون مسرعًا فما توانى في أخذهم وما أمهل. فاستحال النعيم عذابًا، وانعكس القصد وتحول. فاتقوا الله عباد الله وحاسبوا أنفسكم قبل القدوم على الله. قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ( [المؤمنون: 101 - 111].(3/269)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
180- خطبة أيضًا
الحمد لله المحمود على كل حال. الموصوف بصفات الجلال والكمال. المعروف بمزيد الإنعام والإفضال. أحمده سبحانه وهو المحمود على كل حال، وفي كل حال. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والجلال.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخليله الصادق المقال. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل. وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله حق تقاته. وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته. وأجيبوا الداعي إلى دار كرامته وجناته. ولا تغرنكم الحياة الدنيا بما فيها من زهرة العيش ولذاته. فقد قرب الرحيل، وذهب بساعات العمر وأوقاته. ألا وإن المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقى لا يدري ما الله قاض فيه. فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن صحته لمرضه، ومن حياته لموته، ومن غناه لفقره، فوا الله ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الموت من دار إلا الجنة أو النار.
وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني». أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً( [النساء: 124].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.(3/270)
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل. لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
181- خطبة أيضًا
الحمد لله العلي العظيم القادر، هو الأول والآخر والباطن والظاهر، عالم الغيب والشهادة المطلع على السرائر والضمائر. خلق فقدر، ودبر فيسر، فكل عبد إلى ما قدره عليه وقضاه صائر. أحمده سبحانه على خفى لطفه، وجزيل بره المتظاهر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ولد ولا مظاهر. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صاحب الآيات والمعجزات والبصائر. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن على سبيله إلى الله سائر. وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى، واعملوا ليوم تنكشف فيه السرائر، وتظهر فيه مخبآت الصدور والضمائر، وتدور فيه على المجرمين الدوائر. وتحصى فيه الصغائر والكبائر. يرفع فيه لواء الخزي لكل ناكث للعهد غادر. تنصب فيه موازين الأعمال وتنشر الصحائف، فكل عبد إلى ما قدمه لنفسه صائر. فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله يا خيبة الظالم والفاجر، ويا سعادة من استجاب لله ورسوله من ذوي الإيمان والبصائر. فاتقوا الله عباد الله فإن تقواه أنفع الوسائل والذخائر، ولا تكونوا كالذين بدلوا نعمة الله كفرًا ولم يلتفتوا إلى ما أمامهم من الموارد والمصادر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً( [الإسراء: 14].(3/271)
من أن يطمئن إلى هذه الحياة أو يركن إلى دنياه وقد امتلأت المقابر بالمأمور والآمر، فيا من بماله وولده يفاخر، ويا من بملكه يباهي وبعلمه يناظر، ويا مترفعًا عن التراب الثائر أن يمس جسمك أو ثوبك النظيف الطاهر، كيف بك إذا دس أنفك بالتراب وعافتك العشائر وفارقك الأنيس والصاحب والجليس، ولم يبق معك إلا عملك فأنت الرابح أو الخاسر، فالله يمن علينا بحسن الختام، ويتوفانا جميعًا على ملة الإسلام ويقبل العاثر، ونسأله عز وجل أن يرزقنا التقوى وأن يوفقنا للحسنى وهو الكريم القادر (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى( [الليل: 10].
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كفى بالموت واعظًا، وكفى باليقين غنى» وجلس - صلى الله عليه وسلم - على شفير قبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال: «يا إخواني لمثل هذا فأعدوا». وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أربعة من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا». وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسئل عن أربع: عن عمره فيما أفناه وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه».
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا». (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ( [النجم: 59 - 61]، (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا( [الطلاق: 10]. 182- خطبة في مرض القلب وعلاجه(3/272)
الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم. وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا. ووهب له العقل الذي امتاز به عن البهائم ليعرف به ربه ويدرك به مصالحه – فإن أحسن العمل في هذه الدنيا كان تكريمه موصولا في الدنيا والآخرة (وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً( [الإسراء: 21]. وإن أساء العمل وألغى عقله رده الله أسفل سافلين (وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً( [الإسراء: 72].
أحمده على نعمه التي لا تحصى. وأشكره. وحقه أن يطاع فلا يعصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله كان يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.(3/273)
عباد الله: اتقوا الله تعالى، هو الذي خلقكم وصوركم فأحسن صوركم: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ( [الانفطار8]. نعم إنك أيها الإنسان مركب من أعضاء وكل عضو منك خلق لفعل خاص فإذا مرض ذلك العضو تعطل عمله أو اختل. فإذا مرضت اليد تعذر منها البطش. وإذا مرضت العين تعذر منها الإبصار. وإذا مرض القلب بالمعاصي تعذر منه فعله الخاص الذي خلق من أجله وهو العلم والحكمة والمعرفة وحب الله وعبادته. ومرض القلب هو الداء العضال وهو مرض خفي قد لا يعرفه صاحبه فلذلك يغفل عنه وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه لأن دواءه مخالفة الهوى... إن القلب هو ملك الأعضاء ومصدر سعادتها أو شقائها. ومصدر صلاحها أو فسادها –قال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب». ففي هذا الحديث دليل على أن صلاح أعمال العبد بحسب صلاح قلبه. وأن فساد أعمال العبد بحسب فساد قلبه فالقلب الصالح هو القلب السليم الذي لا ينفع عند الله غيره قال تعالى: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ( [الشعراء: 89]. فالقلوب على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: قلب سليم وهو السالم من الآفات والمكروهات كلها وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله وخشيته وخشية ما يباعد عنه.
النوع الثاني: القلب الميت الذي لا حياة به فهو لا يعرف ربه ولا يعبده فهو واقف مع شهواته ولذاته ولو كان فيها سخط ربه وغضبه فلا يستجيب للناصح بل يتبع كل شيطان مريد.
النوع الثالث: القلب المريض وهو قلب له حياة وبه علة فالقلب الأول قلب مخبت واع لين حي. والقلب الثاني قلب يابس ميت. والقلب الثالث قلب مريض. فإما إلى السلامة أدنى وإما إلى العطب أدنى.(3/274)
عباد الله: ولحياة القلوب وموتها ومرضها أسباب يفعلها الإنسان –فمن أسباب حياتها الإقبال على الله وتلاوة كتابه وتدبره والاشتغال بذكره قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ( [الرعد: 28]. وقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ( [الأنفال: 2]. وقال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ( [الحديد: 16]. ومن أسباب حياة القلوب الاستماع إلى المواعظ والتذكير والمحافظة على صلاة الجمعة والجماعة.
ومن أسباب حياة القلوب النظر والتفكر في مخلوقات الله وما فيها من الحكم. قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ( [آل عمران: 190].
ومن أسباب حياة القلوب النظر في عواقب الظلمة والمفسدين وما أحل الله بهم من العقوبات قال تعالى: (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ( [الحج: 46].(3/275)
أما أسباب موت القلوب فمنها إعراضها عن قبول الحق بعد معرفتها له قال تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ( [الصف: 5]. وقال تعالى: (ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون( [التوبة: 127]. وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ( [الأنفال: 24]. والقلب الميت يكون صاحبه أحط من البهائم ويكون مآله إلى جهنم قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ( [الأعراف: 179]. فيصبح هذا القلب مطموسًا منكوسًا مختومًا عليه لا ينتفع به صاحبه بسبب أنه أعرض عن الحق ورضي بالباطل فصار الباطل غذاءه. والضلال طريقه والجحيم مصيره نعوذ بالله من الخذلان.
وأما أسباب مرض القلوب فمنها أكل الحرام فإن المطعم الخبيث يغذي تغذية خبيثة. قال - صلى الله عليه وسلم - في الذي يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك. وما أكثر أكل الحرام في وقتنا هذا مما سبب مرض القلوب وفساد التصرفات وانحطاط الأخلاق كما ترون ذلك ظاهرًا في مجتمعنا.
ومن أسباب مرض القلوب فعل المعاصي فإن المعاصي تؤثر في القلوب وتمرضها قال تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ( [المطففين14].(3/276)
وقد ورد في الحديث أن العبد إذا أذنب ذنبًا نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب صقلت تلك النكتة وإلا تزايدت وعظم خطرها على القلب. ومن أسباب مرض القلوب استماع ما لا يجوز استماعه من الكلام المحرم. واستماع الملاهي من الأغاني والمزامير وقد كثر هذا البلاء في هذا الزمان وتنوعت مفاسده وتعددت طرق ترويجه بيننا في الإذاعات والتلفاز والأشرطة. فظهر أثر هذا السماع المحرم فأفسد سلوك كثير من النساء والصبيان بل وكثير من الرجال. فالأغاني من أكبر ما تطرق به إبليس إلى فساد القلوب وقد فسر قوله تعالى لإبليس (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ( [الإسراء: 64]. بأن المراد بصوته الغناء. ومفاسد الغناء كثيرة لا يتسع هذا المقام لشرحها وقد بينها العلماء في كتبهم وشخصوها فعلى المسلم أن يراجع تلك الكتب خصوصًا ما كتبه شمس الدين ابن القيم في إغاثة اللهفان ليعرف إلى أي مدى تنتهي تلك الأغاني بأصحابها.
ومن أسباب مرض القلوب النظر المحرم - قال -- صلى الله عليه وسلم -- «النظر سهم مسموم من سهام إبليس». وقال تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ( [النور: 31]. فالنظرة المحرمة تورث شهوة في القلب تمرضه. ومن أسباب مرض القلوب مطالعة الكتب الفاسدة التي انتشرت في هذا الزمان فشغلت كثيرًا من الناس عن مطالعة الكتب النافعة وكذلك مطالعة الصحف والمجلات الخليعة وما أكثرها في أسواقنا وبيوتنا ومكاتبنا وقد رتع فيها الناس رجالاً ونساء وأطفالاً... فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(3/277)
عباد الله: إنه لا شفاء لأمراض القلوب إلا بالدواء الذي أنزله الله في كتابه وسنة نبيه قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ( [يونس: 57]. وقال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ( [الإسراء: 82]. (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء( [فصلت: 44]. فأقبلوا على كتاب الله وسنة رسوله لتداووا قلوبكم منهما ففيهما الشفاء والرحمة. وفيهما النور والهداية. وفيهما الروح والحياة. وفيهما العصمة من الشيطان ووساوسه. وليأخذ كل منا بنفسه فيبعدها عن مواطن الفتن ويقطع عنها وسائل الشر. وكذلك أبعدوا أولادكم وبيوتكم عن وسائل الشر ودواعي الفساد إن كنتم تريدون الشفاء لقلوبكم والخير لمجتمعكم وأكثروا من هذا الدعاء الذي كان يدعو به النبي -- صلى الله عليه وسلم --: «يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك».
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ( [الشورى53].
بسم الله الرحمن الرحيم
183- خطبة
في النهي عن الإسبال في اللباس
الحمد لله الذي امتن على عباده بلباس يواري سوءاتهم. ويجمل هيئاتهم. وحث على لباس التقوى وأخبر أنه خير لباس. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له ملك السموات والأرض. وإليه المصير يوم العرض. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ما ترك خيرًا إلا دل أمته عليه ولا شرًا إلا حذرها منه. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته وسلم تسليمًا كثيرًا.(3/278)
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى. قال الله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ( [الأعراف: 26].
يمتن تعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش. واللباس المراد به ستر العورات وهي السوءات. والريش ما يتجمل به ظاهرًا. فاللباس من الضروريات. والريش من التكميليات.
روى الإمام أحمد قال: لبس أبو أمامة ثوبًا جديدًا. فلما بلغ ترقوته قال: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي. ثم قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أستجد ثوبًا فلبسه فقال حين يبلغ ترقوته الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي ثم عمد إلى الثوب الخلق فتصدق به كان في ذمة الله وفي جوار الله وفي كنف الله حيًا وميتًا». ولما أمتن سبحانه باللباس الحسي الذي يتخذ لستر العورة وتدفئة الجسم وتجميل الهيئة. نبه على لباس أحسن منه وأكثر فائدة وهو لباس التقوى الذي هو التحلي بالفضائل. والتخلي عن الرذائل. ولباس التقوى هو الغاية وهو المقصود. ولباس الثياب معونة عليه. ومن فقد لباس التقوى لم ينفعه لباس الثياب.
إذا المرء لم يلبس ثيابًا من التقى ... تقلب عريانًا وإن كان كاسيًا
ولباس التقوى يستمر مع العبد لا يبلى ولا يبيد. وهو جمال القلب والروح. ولباس الثياب إنما يستر العورة الظاهرة في وقت من الأوقات ثم يبلي ويبيد. وقوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ( [الأعراف: 26]. أي ذلك المذكور لكم من اللباس مما تتذكرون به نعمة الله عليكم فتشكرونه. وتتذكرون بحاجتكم إلى اللباس الظاهر حاجتكم إلى اللباس الباطن. وتعرفون من فوائد اللباس الظاهر ما هو أعظم منها من فوائد اللباس الباطن الذي هو لباس التقوى.(3/279)
عباد الله: إن اللباس من نعم الله على عباده التي يجب شكرها والثناء عليه بها. وإن اللباس له أحكام شرعية تجب معرفتها والتقيد بها. فالرجال لهم لباس يختص بهم في نوعه وكيفيته. وللنساء لباس يختص بهن في نوعه وكيفيته. ولا يجوز لأحد الجنسين أن يشارك الآخر في لباسه، فقد لعن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله المرأة تلبس لبسة الرجل والرجل يلبس لبسة المرأة». رواه أحمد وأبو داود. ويحرم على الرجال إسبال الإزار والثوب والبشت والسراويل. وهو من الكبائر والإسبال هو نزول الملبوس عن الكعبين. قال الله تعالى: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ( [لقمان: 18].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة». رواه البخاري وغيره.
وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإسبال في الإزار والقميص والعمامة. من جر شيئًا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة». رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.
وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرًا». متفق عليه ولأحمد والبخاري: «ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار». وقال عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب».(3/280)
عباد الله: مع هذا الوعيد العظيم الوارد في حق المسبل نرى بعض المسلمين لا يهتم بهذا الأمر فيترك ثوبه أو بشته أو سراويله تنزل عن الكعبين وربما تلامس الأرض وهذا منكر ظاهر ومحرم شنيع وكبيرة من كبائر الذنوب. فيجب على من فعل ذلك أن يتوب إلى الله ويرفع ثيابه على الصفة المشروعة. قال عليه الصلاة والسلام: «إزرة المؤمن إلى نصف ساقيه ولا حرج عليه فيما بينه وبين الكعبين. ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار». وبجانب أولئك المسبلين فريق من المستهترين الذين يرفعون لباسهم فوق الركبتين فتبدوا أفخاذهم أو بعضها كما يفعله بعض الفرق الرياضية في الملاعب ويفعله بعض العمال. والفخذان من العورة التي يجب سترها ويحرم كشفها. عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت». رواه أبو داود وابن ماجه.
عباد الله: ومما يحرم على الرجال لبسه الحرير
ففي الصحيحين: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» وهذا وعيد شديد يدل على شدة تحريم لبس الحرير في حق الرجال وأن من لبسه منهم في الدنيا حرم لبسه في الآخرة حينما يلبسه أهل الجنة قال تعالى: (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ( [فاطر: 33].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة». متفق عليه. ويحرم على الرجال لبس الذهب أو شيء فيه ذهب سواء كان خاتمًا أو حزامًا أو سلسلة أو في النظارتين أو الساعة .
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه وقال: «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده». فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذ خاتمك انتفع به. قال: لا والله لا أخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(3/281)
وقد صار بعض المسلمين يتساهل في هذا الأمر الخطير فيلبس خاتم الذهب ولا يبالي أنه بفعله هذا قد عصى الله ورسوله وحمل في يده جمرة من النار طيلة لبسه لهذا الخاتم. نعم لا يبالي بذلك ما دام أنه أتبع نفسه هواها وقلد من لا خلاق لهم من أوباش الناس وطغامهم. وبعض الشباب يتحلون بسلاسل الذهب تقليدًا للنساء وإغراقًا في الميوعة. ومتجاهلين ما في ذلك من فقد الرجولة وتعريض أنفسهم للوعيد الشديد بالعذاب الأليم لمن فعل ذلك.
عباد الله: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما حذرنا من هذه الأشياء. الإسبال في اللباس والتشبه بالنساء ولبس الحرير والتحلي بالذهب إنما نهانا عن هذه الأشياء لنتخلق بكل معاني الرجولة ونتصف بكامل المروءة –إذ العادة أنه لا يبالغ في الزينة والعناية بجسمه وثوبه ومركوبه وفراشه وأثاثه إلى درجة الإفراط إلا مترف لين- والرجل خشن بطبعه وكل ما تلين خفت رجولته ونقصت ذكورته. وعجز عن الكفاح والكد وما خلق له في معترك الحياة. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبس البرد الغليظ الحاشية ويفترش الحصير ويتوسد الجلد حشوه الليف. ويركب البعير والفرس والحمار والبغلة مرة بسرج ومرة بلا سرج ويردف خلفه وبين يديه ويمشي المسافة الطويلة على رجليه. ويأكل ما تيسر من الطعام ويأتدم بما تيسر من الإدام. وقد قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً( [الأحزاب: 21].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ( [الحشر: 7].
بسم الله الرحمن الرحيم
184- (خطبة)
في التحذير من التشبه بالكفار في عاداتهم وتقاليدهم(3/282)
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين. وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا. وحذرنا من تقليد الكفار والركون إلى الأشرار. لنكون أمة واحدة متماسكة. لها مكانتها وعزتها. وأشهد أن لا إله إلا الله لا رب لنا سواه. ولا نعبد إلا إياه. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله رحمة للعالمين، فأغنى به بعد عيلة. وكثر به بعد قلة. وأعز به بعد ذلة. واستقامت ببعثته الملة، نبي شرح الله له صدره. ورفع له ذكره. وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره. –- صلى الله عليه وسلم -- وعلى آله وأصحابه ومن تمسك بسنته وسار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.(3/283)
أما بعد: أيها المسلمون اتقوا الله تعالى –يقول الله لنبيه -- صلى الله عليه وسلم --: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ( [الجاثية: 18]. ويقول سبحانه لنبيه -- صلى الله عليه وسلم --: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ( [الزخرف: 44]. ويأمرنا سبحانه بمثل ما أمر به نبينا فيقول: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( [الأنعام: : 153]. أجل إن هذا الدين هو صراط الله المستقيم من صار عليه نجا. ومن حاد عنه هلك. وقد وفر الله في هذا الدين كل أسباب الفلاح والرقي والتقدم. فلو تمسكنا به حق التمسك لصرنا أرقى الناس. ولأصبح كل العالم يحتاج إلى ما عندنا ولسنا بحاجة إلى أحد غير الله...ولكننا ضيعنا ديننا فضعنا وصرنا نستورد من أعدائنا كل عادة سيئة. وكل خلق ذميم. وكل سنة جاهلية. فننشر ذلك في مجتمعنا ونربي عليه أولادنا ونساءنا دون تفكير في عواقبه. وتقدير لنتائجه. لنساير ركب الحضارة ونمشي مع الركب العالمي –ولو كان يسير إلى الهاوية- ولو كان يسعى إلى الهلاك- المهم أن لا نتخلف عنهم. وهم يخططون لنا أسباب هلاكنا ونحن ننفذها بكل اعتزاز وافتخار. وهم يحاولون القضاء على ديننا أو إبعادنا عنه. ونحن نساعدهم على ذلك ففي كل يوم ندفن جزءًا من ديننا ونحل محله عادة غريبة. أو سنة من سنن الجاهلية...وصدق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث يقول: (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية). إن ديننا لا يحرم علينا أن نستورد من الكفار المدفع والدبابة وسلاح القتال بأنواعه. وأن نستفيد من(3/284)
خبراتهم في مجال التقنية وخطط الصناعة. وديننا لا يحرم علينا التعامل مع الكفار في مجال التجارة المباحة وتبادل المنافع المفيدة. إنما الذي يحرمه ديننا أن نستورد منهم العادات السيئة والخصال الذميمة والتقاليد الفاسدة. ويحرم ديننا كذلك التشبه بهم فيما هو من خصائصهم. لما في ذلك من المفاسد العاجلة والآجلة. فلا نتشبه بهم في أعيادهم وعاداتهم. ولا نتشبه بهم في لباسهم وهيئاتهم..ومن ذلك ما نسمعه دائمًا من جعل أسبوع للشجرة وعام للطفل وأسبوع للنظافة وعيد للأم وما إلى ذلك مما يمليه أعداؤنا ويتلقفه سفهاؤنا لينشروه بيننا –إن ديننا لا يخصص يومًا من الأيام لعمل من هذه الأعمال فهو يحث على غرس الأشجار النافعة والزراعة المفيدة في كل وقت مناسب. وديننا يحث على تربية الأطفال والعناية بهم والإحسان إلى الأيتام منهم في كل الأوقات وفي جميع الساعات.
يقول - صلى الله عليه وسلم -: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع».
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته». والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ( [التحريم: 6].(3/285)
وإن ديننا يأمر بالنظافة في كل وقت ويحث على التجمل في الثياب والهيئة ويرغب في استعمال الطيب. ويوجب الوضوء للصلاة والاغتسال من الجنابة ويأمر بتجنب الأنجاس والقاذورات. وديننا يأمر بالإحسان إلى الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء والأيتام في كل وقت وفي كل فرصة حسب الإمكان... إن ديننا كمال كله. وخير كله. لو تمسك به المسلمون ونفذوه على وجهه الصحيح لأصبح العالم كله بحاجة إليهم وليسوا بحاجة إلى أحد سوى الله (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ( [طه: 8]. (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ( [آل عمران: 139]. (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ( [الإسراء: 9].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ثم إن الله شرع على لسان خاتم النبيين من الأعمال ما فيه صلاح الخلق على أتم الوجوه وهو الكمال المذكور في قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ( [المائدة: 3]. ولهذا أنزل الله هذه الآية في أعظم أعياد الأمة الحنيفية فإنه لا عيد أعظم من العيد الذي يجتمع فيه شرف المكان والزمان وهو عيد النحر ولا عين من أعيان هذا النوع أعظم من يوم كان قد أقامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعامة المسلمين وقد نفى الله الكفر وأهله. والشرائع هي غذاء القلوب وقوتها. كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ويروى مرفوعًا: «إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته وإن مأدبة الله هي القرآن».(3/286)
ومن شأن الجسد إذا كان جائعًا فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر...فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض عنه من غيره –بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع فإنه تعظم محبته له ومنفعته به ويتم دينه به ويكمل إسلامه. ولهذا تجد من أكثر من سماع الأغاني تنقص رغبته في سماع القرآن حتى ربما يكرهه. ومن أكثر من السفر إلى زيارة المشاهد ونحوها لا يبقى لحج البيت المحرم في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة. ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع. ومن أدمن على قصص الملوك وسيرهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام –ونظائر هذا كثيرة.
ولهذا جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها» رواه الإمام أحمد –إلى أن قال: فالمشابهة والمشاكلة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي...والمشاركة في الهدى الظاهر توجب أيضًا مناسبة وائتلافًا وإن بعد المكان والزمان...فمشابهتهم في أعيادهم ولو بالقليل هي سبب لنوع ما من اكتساب أخلا قهم التي هي ملعونة.
وقال رحمه الله على قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم». وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم. وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ( [المائدة: 51]. وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال: من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة. انتهى كلامه رحمه الله.(3/287)
فانتبهوا لأنفسكم أيها المسلمون. واشكروا الله على ما هداكم إليه من هذا الدين وتمسكوا به ولا تبتغوا به بديلا إن كنتم تريدون السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة –أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ( [المائدة: 51].
بسم الله الرحمن الرحيم
185- (خطبة)
التحذير من الثقة بالكفار
الحمد لله الذي حذرنا من الركون إلى الكفار. لما فيه من الأضرار. وأشهد أن لا إله إلا الله يخلق ما يشاء ويختار. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأبرار. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المهاجرين منهم والأنصار. وسلم تسليمًا كثيرًا. ما اختلف الليل والنهار. أما بعد أيها الناس اتقوا الله واعلموا أن الله سبحانه وتعالى حذرنا من الثقة بالكفار والاطمئنان إليهم. وبين لنا أنهم لا يريدون لنا الخير. وأنهم يبغضوننا أشد البغض. ويحسدوننا أشد الحسد. وأنهم لا يألون جهدًا في إنزال الضرر بنا والقضاء على ديننا وإرجاعنا إلى الكفر.(3/288)
قال تعالى: (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ( [البقرة: 105]. وقال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم( [البقرة: 109]. وقال تعالى: (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء( [النساء: 89]. وقال تعالى: (إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ( [الممتحنة: 2]. إلى غير ذلك من الآيات التي تحذر من وضع الثقة بالكفار وتبين مكائدهم. فما زال الكفار منذ بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزول القرآن يخططون للقضاء على الإسلام والمسلمين (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ( [التوبة: 32]. فهم تارة يحاولون القضاء على الإسلام بالغزو المسلح. وتارية ببث الدسائس في صفوف المسلمين. وتارة بالمكر والخديعة وإظهار النصح والصداقة وهكذا كلما عجزوا من باب جاءوا من باب آخر وإذا لم يتمكنوا من إنزال الضرر بجماعة المسلمين حاولوا إنزاله بأفرادهم. هذا وديننا واضح كل الوضوح ببيان مكائدهم وفضح دسائسهم. لكن قد يصيبون من المسلمين غرة ويهتبلون منهم غفلة فيقذفون سمومهم في جسم الأمة الإسلامية فإذا تنبه المسلمون لهم ورجعوا إلى دينهم رد الله كيدهم في نحورهم وكفى المسلمين شرهم.
أيها المسلمون: وإن كيد الكفار للمسلمين في هذا الزمان قد تزايد. وتأثيرهم عليهم قد تضاعف نتيجة لغفلة المسلمين عنهم وتساهلهم في شأنهم ووضع الثقة فيهم.(3/289)
وهذا مصداق ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها. قالوا أمن قلة نحن يا رسول الله. قال لا. أنتم يومئذ كثير. ولكنكم غثاء كغثاء السيل» ومن تمام الابتلاء ما أُعطيّ الكفار في زماننا هذا من مهارة في الاختراع والصناعة ومعرفة بنظام الحياة الدنيا مما حرم منه المسلمون نتيجة لتكاسلهم وتفككهم مع أن الأجدر أن يكون المسلمون هم السابقين في كل مجال لأن دينهم يأمرهم بذلك ويريد منهم أن يكونوا هم القادة ويكون الكفار تابعين لهم –كما كان أسلافهم كذلك. لكن حينما تخلى المسلمون عن مكانتهم في العالم وضيعوا دينهم ضاعوا وصاروا عالة على الكفار في كل شيء. فانتهز الكفار حاجة المسلمين إليهم فصاروا لا يعطونهم شيئًا مما بأيديهم إلا بدفع الثمن غاليًا من دينهم وأموالهم وأوطانهم. وصار المسلمون يدفعون أولادهم إلى بلاد الكفار ليكسبوا من خبراتهم ويتعلموا في مدارسهم ما به يدفعون حاجة بلادهم في مجال الصناعة والتنظيم. هذا قصد المسلمين من إرسال أولادهم إلى الكفار. ولكن الكفار لهم مقصد يخالف قصد المسلمين من إرسال أولادهم إلى الكفار. وهو إفساد أولاد المسلمين وسلخهم من دينهم وتلقينهم الإلحاد والزندقة وإغراقهم في الشهوات المحرمة. حتى يرجع كثير منهم إلى بلادهم بلا دين ولا خلق. وبالتالي بلا تعلم مفيد –وهذا ما يريده الكفار بالمسلمين يريدون أن يبقوا بحاجة إليهم دائمًا ويريدون أن يفسدوا أولاد المسلمين حتى يصبحوا حربة في نحور المسلمين- وقد سنحت لهم الفرصة.(3/290)
وصدق الله العظيم (لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ( [آل عمران: 118]. كم أرسل المسلمون أولادهم الأفواج تلو الأفواج فماذا استفادوا من تلك البعثات – لقد خسروا أولادهم ولم تسدد حاجتهم ولم يستغنوا عن الكفار...أيها المسلمون: والأدهى من ذلك أن بعض المسلمين قد بلغ من ثقتهم بالكفار وإحسان الظن بهم أن استقدموا منهم مربين ومربيات لأولادهم وأدخلوهم في بيوتهم وسلموهم أولادهم الصغار فانتهز هؤلاء المربون الفرصة ليغيروا فطرتهم وينشئوهم على دين الكفر أو يفسدوا أخلاقهم. وقد حصلت وقائع ومواقف لأولئك المربين مع أولاد المسلمين يلقنونهم دين النصارى ويحذرونهم من دين المسلمين ويغرسون فيهم عقائد الإلحاد، وفريق آخر من المسلمين يستقدمون سائقين من الكفار لعوائلهم يدخلون بيوتهم ويخلون بنسائهم وأولادهم فما ظنكم بنتائج هذا العمل حينما مكنوا أعداءهم من أنفسهم وأطلعوهم على سرائرهم. والفريق الآخر من المسلمين يستقدم الكفار للعمل في متجره أو مؤسسته. حتى كثر عدد الكفار في بلاد المسلمين مصطحبين معهم عوائدهم وتقاليدهم الكفرية –أيها المسلمون تنبهوا لأنفسكم واتقوا الله في دينكم وأولادكم وبلادكم. من اضطر إلى استقدام مربيات أو خلدمات أو استقدام عمال فليستقدم من المسلمين الصالحين وهم كثير. وخطرهم مأمون وعندهم من الخبرة والنصح ما ليس عند الكفار. واعلموا أنه لا يجوز استقدام النساء إلا مع محارمهن ولا يجوز للمسلم أن يخلو بامرأة وهو ليس محرمًا لها سواء كانت خادمة أو غير خادمة. فلا تتساهلوا في هذا الأمر فإنه خطير على أنفسكم وأولادكم وكفوا عن استقدام الأجانب إلا بقدر الضرورة مع الضوابط والضمانات التي تقي المسلمين خطرهم وضررهم. واسمعوا قول الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ(3/291)
قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ( [آل عمران: 118].
بسم الله الرحمن الرحيم
186- خطبة
في التحذير من مخالطة الأشرار
الحمد لله الذي أمر بمصاحبة الأخيار ونهى عن مصاحبة الأشرار. فقال: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا( [الكهف: 28].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بَيَّنَ لعباده طرق الخير ليسلكوها. وبين لهم طرق الشر ليجتنبوها. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله رغب في اختيار الجليس الصالح وحذر من جليس السوء –صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله اتقوا الله واعلموا أن الإنسان في هذه الحياة لا يستطيع أن يعيش وحده في عزلة تامة عن الناس فهو بحاجة إلى مخالطتهم ومجالستهم. وهذا الاختلاط لا بد أن تكون له آثار حسنة أو قبيحة –حسب نوعية الجلساء والخلطاء. ومن هنا تظافرت نصوص الكتاب والسنة على الحث على اختيار الجليس الصالح والابتعاد عن الجليس السيء- قال الله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ( [الكهف: 28]. وقال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ( [الأنعام: : 68].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير – فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة». متفق عليه.(3/292)
أيها المسلم: اجعل هذا الحديث الشريف دائمًا على بالك وأنت تخالط الناس في الأسواق والمجالس. وفي البيوت والمدارس. وفي المكاتب والدوائر. وفي كل مجال تخالط فيه الناس فاختر لصحبتك ومجالستك ومشاركتك في مزاولة أي عمل. اختر الصالحين من الناس ليكونوا لك جلساء وزملاء وشركاء وحاشية ومستشارين. فهذا الحديث الشريف يفيد أن الجليس الصالح جميع أحوال صديقه معه خير وبركة ونفع ومغنم. مثل حامل المسك الذي تنتفع بما معه إما بهبة أو ببيع أو أقل شيء تكون مدة جلوسك معه قرير العين منشرح الصدر برائحة المسك –جليسك الصالح يأمرك بالخير وينهاك عن الشر ويسمعك العلم النافع والقول الصادق والحكمة البالغة. ويعرفك عيوب نفسك ويشغلك عما لا يعنيك. يجهد نفسه في تعليمك وتفهيمك. وإصلاحك وتقويمك. إذا غفلت ذكرك. وإذا أهملت أو مللت بشرك وأنذرك. يحمي عرضك في مغيبك وحضرتك. أولئك القوم لا يشقى بهم جليسهم. تنزل عليهم الرحمة فتشاركهم فيها –وأقل ما تستفيده من الجليس الصالح- وهي فائدة لا يستهان بها- أن تنكف بسببه عن السيئات والمعاصي رعاية للصحبة ومنافسة في الخير وترفعًا عن الشر- وفوائد الأصحاب الصالحين لا تعد ولا تحصى وحسب المرء أن يعتبر بقرينه، وأن يكون على دين خليله.(3/293)
وصحبة الصالحين ينتفع بها حتى البهائم –كما حصل للكلب الذي كان مع أصحاب الكهف فقد شملته بركتهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال العجيبة وصار له ذكر وخبر وشأن. أما صحبة الأشرار فإنها السم الناقع. والبلاء الواقع. فهم يشجعون على فعل المعاصي والمنكرات ويرغبون فيها ويفتحون لمن جالسهم وخالطهم أبواب الشرور. ويسهلون له سبل المعاصي. فقرين السوء إن لم تشاركه في إساءته أخذت بنصيب وافر من الرضا بما يصنع. والسكوت على شره –فهو كنافخ الكير على الفحم الملوث. وأنت جليسه القريب منه يحرق بدنك وثيابك ويملأ أنفك بالروائح الكريهة. وفي مجالس الشر تقع الغيبة والنميمة والكذب والشتم والكلام الفاحش ويقع اللهو واللعب وممالأة الفساق على الخوض في الباطل فهي ضارة من جميع الوجوه لمن صاحبهم. وشر على من خالطهم. فكم هلك بسببهم أقوام. وكم قادوا أصحابهم إلى المهالك من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون.(3/294)
وإليكم: واقعتين ومأساتين حصلتا بسبب صحبة الأشرار –الواقعة الأولى: ورد أن عقبة بن أبي معيط كان يجلس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة ولا يؤذيه وكان بقية قريش إذا جلسوا معه يؤذونه عليه الصلاة والسلام. وكان لابن أبي معيط خليل كافر غائب في الشام. فظنت قريش أن ابن أبي معيط قد أسلم فلما قدم خليله من الشام وبلغه ذلك غضب عليه غضبًا شديدًا وأبى أن يكلمه حتى يؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم - فنفذ ما طلب منه خليله الكافر وآذى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت عاقبته أن قتل يوم بدر كافرًا. وأنزل الله فيه قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً َقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً( [الفرقان: 29]. وهي عامة في كل من صاحب الظلمة فأضلوه عن سبيل الله فإنه سيندم يوم القيامة على مصاحبتهم وعلى الإعراض عن طريق الهدى الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -.(3/295)
الواقعة الثانية: روى البخاري ومسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل. فقال له يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله فقالا له أترغب عن ملة عبد المطلب فأعادا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعاد فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لاستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله عز وجل: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى( [التوبة: 113]. وأنزل الله في أبي طالب: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ( [القصص: 56]. ففي هذه الواقعة التحذير الشديد من مصاحبة الأشرار وجلساء السوء –وفي يوم القيامة يقول القرين لقرينه من هذا الصنف: (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ( [الزخرف: 38]. ألا فانتبهوا يا عباد الله لأنفسكم وجالسوا أهل البر والتقوى وخالطوا أهل الصلاح والاستقامة. وابتعدوا وأبعدوا أولادكم عن مخالطة الأشرار ومصاحبة الفجار –خصوصًا في هذا الزمن الذي قل فيه الصالحون وتلاطمت فيه أمواج الفتن. فإن الخطر عظيم. والمتمسك بدينه غريب بين الناس وقد وقع ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله قال الذين يصلحون إذا فسد الناس» - وفي رواية يصلحون ما أفسد الناس- وفي رواية هم النزاع من القبائل. فتنبهوا لذلك وفقكم الله.(3/296)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ( [الزخرف: 66 - 73].
بسم الله الرحمن الرحيم
187- خطبة
في التحذير من التشبه بالكفار
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا وجعلنا خير أمة أخرجت للناس إن تمسكنا بشرعه وسرنا على نهجه وابتعدنا عما يخالفه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في عبادته كما أنه ليس له شريك في ملكه.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله حذر من التشبه بالكفار لما فيه من الضرر في الدين والدنيا فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته إلى يوم الدين.(3/297)
أما بعد: أيها المسلمون اتقوا الله واعلموا أن الواجب على المسلم أن يعتز بإسلامه ويشرف بدينه لأن دينه الإسلام الذي يعلو ولا يعلى عليه وقد أظهره الله على الدين كله. تعاليمه رشد وآدابه كمال (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ( [الإسراء: 9]. فلا بد أن يعرف المسلم نبيه حق المعرفة وما جاء به ويصدقه فيما أخبر به ويطيعه فيما أمر فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة إلا على أيدي الرسل ولا سبيل إلى معرفة الطيب من الخبيث على التفصيل إلا من جهتهم ولا ينال رضا الله إلا على أيديهم فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق كله في هديهم وما جاءوا به. فهم الميزان الذي توزن به الأعمال والأقوال والأخلاق، قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ( [الشورى13].
فما بال أقوام ينتسبون إلى هذا الدين ثم يخالفونه في أخلاقهم وعاداتهم فيتشبهون بالكفار في شتى المجالات عن عمدٍ وإصرار. وقد روى أبو داود الحاكم في المستدرك عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم». وفي الترمذي عنه - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من تشبه بقوم غيرنا». إن التشبه بالكفار في الظاهر يدل على مودتهم في القلب وذلك ينافي الإيمان قال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ( [المجادلة22] إن التشبه بالكفار تنكر للإسلام واستبدال لتعاليمه بغيرها وكفى بذلك ذمًا وإثمًا.(3/298)
أيها المسلمون: إن مما يندى له الجبين ويحزن له القلب ما تفشى في مجتمعنا من أنواع التشبه بالكفار بين الرجال والنساء والشباب.
فمن أنواع التشبه بالكفار الفاشية بين الرجال حلق اللحى وتوفير الشوارب فرارًا من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه فلقد كان من هديه الكامل وأخلاقه إعفاء اللحية وجز الشارب أو قصه. قال جابر ابن سمرة رضي الله عنه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير شعر اللحية لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعفي لحيته. وكذلك الأنبياء الكرام قبله فقد ذكر الله تعالى عن هارون أنه قال لموسى: (يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي( [طه: 94]. وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتوفير اللحية واحفاء الشوارب.
ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وفروا اللحى وأحفوا الشوارب». فتمسكوا أيها المسلمون بهدي نبيكم - صلى الله عليه وسلم - فهو خير لكم في الدنيا والآخرة.
يا من تحلقون لحاكم وتوفرون شواربكم اعلموا أنكم قد عصيتم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - فبادروا بالتوبة فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل –إنكم ربما تنظرون إلى أناس يحلقون لحاهم فتريدون مجاراتهم- وهذا استسلام للهوى وضعف في الإيمان لأن الذي يجب الاقتداء به وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه سنته في اللحية واضحة وضوح الشمس فلا عذر لمن تركها. ربما يظن بعض الناس أن قضية توفير اللحية أو حلقها من الأمور العادية التي يتبع فيها عادة الناس وهذا ظن باطل –لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -- أمر بتوفير اللحي- وأمره واجب الامتثال وأن خالفه عادات الناس. وإن التمسك بالسنة مع كثرة المخالفين لها دليل على صدق الإيمان وقوة العزيمة. وشهامة الرجولة. ومن استبانت له سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لأجل الناس.(3/299)
ومن أنواع التشبه بالكفار ما ابتلى به كثير من شباب المسلمين من إبقاء الشعور وإطالة الأظافر وغيرها تقليدًا لسفلة العالم المسمين الهيبيين والخنافس؛ وجماعة من الشباب ابتلوا بالميوعة وتقليد النساء في النعومة ولبس خواتيم الذهب المحرمة والتحلي بالسلاسل وغيرها.
فيا شباب المسلمين لا يجرفنكم سيل المدنية الحديثة الخبيثة. ولا يصرفنكم الشيطان عن صفات الرجولة والشجاعة لا تشبّهوا بالنساء في تصفيف الشعر. وتنسيق الثياب. إنه لا يبالغ في الزينة والعناية بجسمه وثوبه ومركوبه وفراشه إلا مترف لين. لأن الرجل خشن بطبعه وكل ما تلين خفت رجولته ونقصت ذكورته وعجز عن الكفاح والقيام بما خلق له في معترك الحياة. فرجل العمل لا يشغل وقته بما أصيب به كثير من شباب اليوم الذين لا يخرجون إلى أعمالهم –إن كانت لهم أعمال- إلا بعد أن يمضي ساعة تحت المرآة يخلي وجهه من اللحية ويسرح شاربه وشعر رأسه فيا لله أين الرجولة والشهامة. وأين الدين والاستقامة، ومن لنا بشباب الصحابة الذين هم عُبّادٌ في الليلِ أسودٌ في النهار.
أيها الشباب خلقتم لتخلفوا آباءكم في الذود عن الدين والجهاد في سبيل الله والحفاظ على المحارم وحماية الذمار والدفاع عن الديار –فكونوا خير خلف لخير سلف. وتسلموا مسئوليتكم بقوة. فلستم كشباب الكفار الضائع الذي لا دين له يدافع عنه ولا عرض له يصونه، ولا كرامة يحافظ عليها.
ومن أنواع التشبه بالكفار ما ابتُلي به كثير من نساء المسلمين من التشبه بالكافرات في لباسهن وسمتهن فيلبسن ثيابًا لا تسترهن إما لقصرها بحيث تظهر السيقان والأذرع والأعضاء والنحور والصدور. أو ثيابًا ضيقة تصف حجم الجسم وتقاطيعه وتظهر مفاتنه. يضاف إلى ذلك التساهل في كشف الوجوه أو سترها بساتر خفيف لا يخفي لونها ولا يستر جلدها. وكذلك ما يفعلن برءوسهن من جمع شعورهن وربطها من فوق متدلية إلى القفا.(3/300)
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «صنفان من أهل النار لم أرهما بعد قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء مائلات مميلات رؤسهن كأسنة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا».
أيها المسلمون: قال الله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء( [النساء: 34] . فقوموا على نساءكم من زوجات وبنات وأخوات وسائر الموليات امنعوهن مما حرم الله وألزموهن بما أمر الله (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ( [التحريم: 6].
أيها المسلمون: تجنبوا مشابهة الكفار واقتدوا بنبيكم فهو القدوة الحسنة ولا تتساهلوا في هذا الأمر –ادرسوا سيرة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -- وقلدوه فيها فإنها طريق السعادة الرقي والفلاح.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً( [الأحزاب: 21].
بسم الله الرحمن الرحيم
188- خطبة
في خطر السفر إلى بلاد الكفر
الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام. وأمرنا التمسك به حتى نصل إلى دار السلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. حذرنا عن كل ما يضر بديننا أو يمسس كرامته من الأقوال والأفعال. ليكون لنا هذا الدين عزًا في الدنيا وسعادة في الآخرة. فصل الله وسلم على هذا النبي الكريم الذي لم يترك خيرًا إلا دل الأمة عليه. ولا شرًا إلا حذرها منه رحمة بها ونصحًا لها. فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير ما يجزى به نبيًا عن أمته ودينه.(3/301)
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله واحتفظوا بدينكم. أيها المسلمون: إنكم تعلمون اليوم ما تموج به البلاد الخارجية الكافرة من كفر وإلحاد وانحطاط في الأخلاق والسلوك. فالإلحاد فيها ظاهر. والفساد فيها منتشر. فالخمور والزنا والإباحية وسائر المحرمات مبذولة بلا رادع ولا وازع. وإذا كان الحال كذلك وأكثر منه فالسفر إلى هذه البلاد فيه من الخطورة على الدين ما فيه. وأعز شيء لدي المسلم دينه فكيف يعرضه لهذا الخطر الشديد –إن الإنسان لو كان معه مال وسمع أنه سيعترضه خطر يهدده بضياع هذا المال لرأيته يعمل أعظم الاحتياطات لحفظه. فكيف يعظم في عينه المال ويهون عليه الدين.
قال بعض السلف: إذا عرض بلاء فقدم مالك دون نفسك. فإن تجاوز البلاء فقدم نفسك دون دينك... نعم يجب تقديم النفس دون الدين. ولذلك شرع الجهاد الذي فيه القتل حفاظًا على الدين. لأن الإنسان إذا فقد الدين فقد فقد كل شيء. وإذا أُعطي الدين فقد أُعطي السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.(3/302)
أيها المسلمون: إن السفر إلى بلاد الكفار خصوصًا في هذا الزمان الذي عظمت فيه الفتنة وتنوعت –إن السفر إلى تلك البلاد لا يجوز إلا في حالات محدودة تصل إلى حد الضرورة مع التحفظ والحذر والابتعاد عن مواطن الفساد. وتكون إقامة المسلم هناك بقدر الضرورة مع اعتزازه بدينه وإظهاره. ومحافظته على الصلوات في أوقاتها... واعتزاله عن مجمعات الفساد. وجلساء السوء. فاعتزاز المسلم بدينه يزيده عزًا ورفعة حتى في أعين الكفار. إن المسلم يحمل دينًا عظيمًا يشتمل على كل معاني الخير وحميد الخصال. صحة في الاعتقاد. ونزاهة في العرض. واستقامة في السلوك. وصدقًا في المعاملة. وترفعًا عن الدنايا. وكمالاً في الأخلاق. إن المسلم يحمل الدين الكامل الذي اختاره الله لأهل الأرض كلهم إلى أن تقوم الساعة – إن المسلم هو المثال الصحيح للكمال الإنساني...وإن ما عدا الإسلام فهو انحطاط وهبوط ورجوع بالإنسانية إلى مهاوي الرذيلة ومواطن الهلاك. فيجب على المسلم إذا اضطر إلى السفر إلى تلك البلاد الكافرة أن يحمل هذا الدين بقوة وأن يظهره بشجاعة أمام أعدائه والذين يجهلون حقيقته بالمظهر اللائق حتى يكون قدوة صالحة لغيره. إن كثيرًا ممن يذهبون إلى تلك البلاد يشوهون الإسلام بأفعالهم وتصرفاتهم. يشوهونه عند من لا يعرف حقيقته. ويصدون عنه من يتطلع إليه. ويريد الدخول فيه. فحينما يرى تصرفات هؤلاء ينفر عن الإسلام ظنًا منه أنهم يمثلونه.(3/303)
أيها المسلمون: إن بلاد الكفار فيها من مظاهر الحضارة الزائفة ودواعي الفتنة ما يخدع ضعاف الإيمان فتعظم تلك البلاد وأهلها في صدورهم وتهون في أنظارهم بلاد الإسلام. ويحتقرون المسلمين. لأنهم ينظرون إلى المظاهر ولا ينظرون إلى الحقائق –فبلاد الكفر وإن كانت تُكسى بالمظاهر البراقة الخادعة إلا أن أهلها يفقدون أعز شيء وهو الدين الصحيح الذي به تطمئن قلوبهم وتزكوا به نفوسهم وتصان بع أعراضهم وتحقن به دماؤهم وتحفظ به أموالهم- إنهم يفتقدون كل تلك المقومات فماذا تفيدهم تلك المظاهر الخادعة. عقائدهم باطلة. وأعراضهم ضائعة. وأسرهم متفككة. فماذا يفيد جمال البنيان مع فساد الإنسان.(3/304)
أيها المسلمون: إن أعداءكم يخططون الخطط لسلب أموالكم وإفساد دينكم والقضاء عليكم. قال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ( [البقرة: 109]. وقال تعالى: (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ( [البقرة: 105]. وقال تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ( [البقرة: 217]. وقال تعالى: (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء( [النساء: 89]. إنكم إذا سافرتم إليهم في بلادهم تمكنوا من إغوائكم وإغرائكم بشتى الوسائل حتى يسلبوكم دينكم أو يضعفوه في نفوسكم... إنهم بثوا دعوة لشباب المسلمين في الصحف أعلنوا لهم فيها عن تسهيل رحلات سياحية إلى بلادهم ووعدوهم أني يبذلوا لهم كثيرًا من المغريات...وغرضهم من ذلك إفساد هؤلاء الشباب وإغراقهم في بحار الشهوات البهيمية حتى يرجعوا إلى بلاد المسلمين معاول هدم وتخريب فيتمكن هؤلاء الكفار من القضاء على المسلمين بأيدي أولادهم.(3/305)
أيها المسلمون: إنه لمن المحزن أن أصبح السفر إلى بلاد الكفار موضع افتخار بعض المخدوعين من المسلمين فيفتخر أحدهم بأنه ابتعث أو سيبتعث إلى أمريكا أو أن له ولدًا يدرس في أمريكا أو في لندن أو فرنسا. إنه يفتخر بذلك دون تفكير في العواقب أو تقدير للنتائج. ودون تحسب لتلك الأخطار التي تهدد دينه...وبعض المسلمين يسافرون بعوائلهم للمصيف هناك أو للسياحة. دون اعتبار لحكم الشرع في ذلك السفر هل يجوز أولا... ثم إذا ذهبوا هناك ذابت شخصيتهم مع الكفار فلبسوا لباسهم واقتدوا بأخلاقهم حتى نساؤهم يخلعن لباس الستر ويلبسن لباس الكافرات..وإذا كان هذا تحول الظاهر فما بالك بتحول الباطن. إن المسلم مطلوب منه أن يتقي الله في أي مكان. وأن يتمسك بدينه ولا يخاف في الله لومة لائم. لماذا يعطي الدنية في دينه. إنه دين العزة والكرامة والشرف في الدنيا والآخرة. (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ( [المنافقون: 8]. وإن أخلاق الكفار وتقاليدهم ذلة ومهانة ونقص. فكيف يستبدل المسلم الذي هو أدنى بالذي هو خير. كيف يتنازل من عليائه إلى الحضيض... ومن العجيب أن الكفار إذا جاءوا إلى بلاد المسلمين لا يغيرون أزياءهم ولا يتحولون عما هم عليه. ونحن على العكس إذا ذهبنا إليهم فالكثير منا يتحول إلى عاداتهم في لباسهم وغيره...والبعض يتعلل بأنه لو لم يفعل ذلك لخشي على نفسه أو ماله أن يتعدى عليه. وهذا اعتذار غير مقبول. لأننا نرى الذين يبقون بلباسهم ويعتزون بدينهم يرجعون وهم موفورو الكرامة لا ينالهم أي أذى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً( [الطلاق: 2]. ولئن قبلت هذه المعذرة من بعض الأفراد الذين لا يحسب لهم حساب. فلن تقبل ممن هم على مستوى المسئولية ومن يكونون محل اهتمام الدول التي يقدمون عليها ومع هذا يغيرون لباسهم من غير مبرر...إنه التقليد الأعمى وعدم المبالاة فلا(3/306)
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها المسلمون: إن خطر السفر إلى بلاد الكفار عظيم وضرره جسيم وإن من سافر إلى تلك البلاد من غير ضرورة. بل بدافع الهوى وميل النفس الأمارة بالسوء. واقتداء بمن لا يصلحون للقدوة فهذا حري أن يعاقب وأن يصاب في دينه. وبعض الناس يرسل أولاده الصغار أو بعضهم أو يسمح بابتعاثهم إلى بلاد الكفار ليتعلموا اللغة أو غيرها هناك دون تفكير في العواقب ولا تقدير للنتائج ودون خوف من الله الذي حمله مسئولية هؤلاء الأولاد. وإذا كان الأولاد الصغار على خطر وهم في بلادنا وبين المسلمين فكيف إذا أرسلوا إلى بلاد كافرة منحلة وعاشوا في أوكار الفساد. ومواطن الإلحاد. إن الشاب من أولادنا المبتعثين يغمس في وسط عائلة كافرة ليعيش معهم طيلة بقائه هناك. فماذا تتصورون من شاب غريب في وسطٍ كافرٍ منحل ماذا سيبقى معه من الدين والخلق. فاتقوا الله في أولادكم لا تهلكوهم بحجة أنهم سيتعلمون. إن التعلم ميسور هنا. فاللغة يمكن تعلمها هنا بدون مخاطرة. وبقية التخصصات لا يبتعث لها إلا من كبار السن ومن الذين رسخت عقيدتهم وقويت عقليتهم. مع الرقابة الشديدة عليهم. فالدين رأس المال. وماذا بعد ذهاب الدين. واتقوا الله أيها المسلمون وأشكروه على ما أعطاكم من النعم العظيمة التي أجلها نعمة الإسلام فلا تعرضوا هذا النعمة للزوال. حافظوا على دينكم الذي هو عصمة أمركم (وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( [المائدة: 8].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ( [هود: 113].
حكم ومواعظ توجب شكر رب العالمين
مختار من كلام أحد العلماء رحمه الله تعالى
باب
في حكمة خلق الماء(3/307)
قال الله تبارك وتعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ( [الأنبياء: 30]. وقال سبحانه: (فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ( [النمل60].
انظر وفقك الله إلى ما مَنَّ به سبحانه وتعالى على عباده بوجود الماء العذب الذي به حياة كل ما على وجه الأرض من حيوان ونبات، فلو اضطر الإنسان إلى شربِه منه ومنع لهان عليه أن يبذل فيها جميع ما يمكنه من خزائن الدنيا. والعجب ما غفله العباد عن هذه النعمة العظيمة، وانظر مع شدة الحاجة إليها كيف وسع سبحانه على العباد فيها؟ ولو جعلها بقدر لضاق الأمر فيها. وعظم الحرج على كل من سكن الدنيا.
ثم انظر لطافة الماء ورقته حتى ينزل من الأرض ويخلخل أجزاءها فتتغذى عروق الشجر، ويصعد بلطافته بواسطة حرارة الشمس إلى أعالي الشجر والنبات، وهو من طبعه الهبوط. ولما كانت الضرورة تدعو إلى شربه لإماعة الأغذية في أجواف الحيوان ليتصرف الغذاء إلى موضعه جعل لشاربه في شربه لذة عند حاجته إليه وقبوله له، ويجد شاربه فيه نعيمًا وراحة وجعله مزيلاً للأدران عن الأبدان، والأوساخ عن الثياب وغيرها، وبالماء يبل التراب فيصلح للبناء والأعمال، وبه يرطب كل يابس مما لا يمكن استعماله يابسًا، وبه ترق الأشربة فيسوغ شربها، وبه تطفأ عاذبة النار إذا وقعت فيها، فلا تلتهب فيه، وأشرف الناس منها على ما يكرهون، وبه تزول الغصة إذا أشرف صاحبها على الموت، وبه يغتسل التعب الكل فيجد الراحة لوقته، وبه تستقيم المطوبخات وجميع الأشياء التي لا تستعمل ولا تصلح إلا رطبة، إلى غير ذلك من مآرب العباد التي لا غنى لهم عنها.(3/308)
فانظر إلى عموم هذه النعمة وسهولة تناولها مع الغفلة عن قدرها مع شدة الحاجة إليها، فلو ضاقت لكدرت الحياة في الدنيا، فعلم بهذا أن الله تبارك وتعالى أراد بإنزاله وتيسيره عمارة الدنيا بما فيها من حيوان ونبات ومعدن إلى غير ذلك من المنافع التي يقصر عنها الوصف لمن يروم حصرها، فسبحان المتفضل العظيم.
باب
الحكمة في خلق الهواء
قال الله تعالى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ( [الحجر: 22].
اعلم رحمك الله أن الهواء في خلقه تتخلله الرياح، ولولا ذلك لهلك جميع حيوان البر، وباستنشاقه تعتدل الحرارة في أجسام جميع الحيوانات لأنه لها مثل الماء لحيوان البحر، فلو انقطع عن الحيوان استنشاقه انصرفت الحرارة التي فيها إلى قلبها، فكان هلاكها بسبب ذلك.
ثم انظر إلى الحكمة في سوق السحاب به، فيقطع المطر بانتقال السحاب في موضع يحتاج إلى المطر فيها للزراعة، فلولا لطف الباري بخلق الرياح لثقلت السحاب وبقيت راكدة في أماكنها، وامتنع انتفاع الأرض بها.
ثم انظر كيف تسير السفن بها وتنتقل بحدوثها وهبوبها فتحمل فيها من أقاليم إلى أقاليم مما لا يخلق تلك الأشياء فيها فينتفع أهلها، فلولا تنقلها بالهواء لم تكن تلك الأشياء إلا بمواضعها التي خلقت فيها خاصة، ولعسر نقلها بالدواب إلى غيرها من الأقاليم، وللعباد ضرورات تدعو إلى ما ينقل إليهم مما ليس يخلق عندهم، ومنافع يكثر تعدادها من طلب أرباح لمن يحلها ويعلم فوائدها. ثم انظر إلى ما في الهواء من الطاقة والحركة التي تتخلل أجزاء العالم فينفي بحركته عفن الأرض، فلولاه لعفنت المساكن وهلك الحيوان بالوباء والعلل.(3/309)
ثم انظر إلى ما يحصل منه من النفع في نقل السوافي والرمال إلى البساتين وتقوية أشجارها بما ينتقل إليها من التراب بسبب حركة الهواء وتستر وجوه جبال بالسافي، فيمكن الزراعة فيها وما فصل إلى السواحل مما ينتفع الناس بسببه، وكل ذلك بحركة البحر بالهواء، فيقذف البحر العنبر وغيره مما ينتفع به العباد في أمورهم.
ثم انظر كيف يتفرق المطر بسبب حركة الهواء فيقع على الأرض قطرات، فلولا حركة الهواء لكان الماء عند نزوله ينزل انصبابة واحدة فيهلك ما يقع عليه، ثم يجتمع بلل القطرات فيجتمع أنهارًا وبحارًا على وجه الأرض من غير تضرر ويحصل بذلك مقصودهم على أحسن وجه.
فانظر إلى أثر رحمة الله، فسبحان اللطيف بخلقه المدبر لملكه.
ثم انظر عموم هذه الرحمة وعظيم نفعها، وشمول هذه النعمة وجليل قدرها كما نبه العقول عليها بقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ( [النحل: 11].
ثم من تمام النعمة وعظيم الحكمة أن جعل سبحانه الصحو يتخلل نزول الغيث، فصارا يتعاقبان لما فيه صلاح هذا العالم، فلو دام واحد منهما عليه لكان فسادًا.(3/310)
ألا ترى إلى الأمطار إذا توالت وكثرت عفنت البقول والخضروات، وهدمت المساكن والبيوت، وقطعت السبل، ومنعت من الأسفار وكثير من الحرف والصناعات، ولو دام الصحو لجفت الأبدان والنبات، وعفن الماء الذي في العيون والأودية، فأضر ذلك بالعباد، وغلب اليبس على الهواء فأحدث ضررًا آخر من الأمراض، وغلت بسببه الأسعار من الأقوات، وبطل المرعى، وتعذر على النحل ما يجده من الرطوبة التي يرعاها على الأزهار، وإذا تعاقبا على العالم اعتدل الهواء، ودفع كل واحد منهما ضرر الآخر، فصلحت الأشياء واستقامت، وهذا هو الغالب من مشيئة الله.
فإن قيل: قد يقع من أحدهما ضرر في بعض الأوقات.
قلنا: قد يكون ذلك لتنبيه الإنسان بتضاد الأشياء على نعمة الله تعالى وفضله ورحمته أنه هو الغالب، فيحصل لهم بتلك انزجار عن الظلم والعصيان، ألا ترى من سقم جسمه احتاج إلى ما يلائمه من الأدوية البشعة الكريهة ليصلح جسمه ويصح ما فسد منه، قال الله: (وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ( [الشورى27].
شعرًا:
رَفَعْتَ عَرْشَكَ فِي الدُّنْيَا وَتُهْتَ بِهِ ... وَمَا بِهَا لِلَبِيْب تُرْفَعُ العُرُشُ
وَبِتَّ فِيها عَلَى فُرْشٍ مُلَيَّنَةٍ ... وَلَو عَقَلْتَ لِمَا لانَتْ لَكَ الفُرشُ
وَظِلْتَ تَسْعَى لآمَالٍ وَتَفْرشُهَا ... وَلِلْمَوَارِيْثِ مَا تَسْعَى وتَفْتَرِشُ
كَمْ كَانَ قَبْلَكَ مِنْ مَأْسُوْرِ رَغْبَتِهِ ... باِلحِرْصِ تُلْدََغُ جَنْبَاهُ وَتَنْتَهَشُ
يُمْسِي وَيُصْبَحُ في حِلٍ وَفِي ظَعْنِ ... يَضُمُّ هَذَا إلى هَذَا وَيَحْتَوِشُ
عَطْشَانَ لِلْمَالِ مُحْمَاةٌ جَوَانِحُهُ ... أَلْقَى على صَدْرِهِ لِسَانَهُ العَطَشُ
حَتَّى إِذَا قِيْلَ قَدْ تَمَّتْ مَطَالِبُهُ ... وَطَافَ مِنْ حَوْلِهِ أَهْلُوهُ واحْتَوشُوا
مَدَّتْ إِلَيْهِ يَدٌ لِلْمَوتِ بَاطِشَةٌ ... خَشْنَاءُ لا دَهَشَ فِيْهَا وَلا رَعَشُ(3/311)
فَقَصَّعَتهُ وَقِدْمًا كَانَ ذَا جيَدٍ ... وَأَجْهَشتْهُ وَلَمَّا يَدْرِ مَا الجَهَشُ
فَبَاتَ مُسْتِلَبًا وَبَاتَ وَارِثُهُ ... وَقَدْ تَغَطَوْا بِِذَاكَ المَالِ وَافْتَرَشُوا
أَمَا سَمِعَتْ بَأَمْلاكٍ مَضَوا قِدَمًا ... شُمُّو الأُنْوفِ بِرَوْضِ المُلْكِ قَدْ عَرَشُوا
إِنْ دُوفِعُوا دَفَعُوا أو زُوحِمُوا زَحَمُوا ... أَوْ غُوْلِبُوا غَلبُوْا أَوْ بُوْطِشُوا بَطشُوا
جَاءَتْهُمُوا وَجُنُودُ اللهِ غالبِةٌ ... كَتَائِبٌ للمَنَايَا كُلُّهَا حَبَشُ
فَضَعْضَعَتْ جَنَبَاتِ عِزِّهمِ وَرَمَتْ ... مَنَارَهُم بِظَلامِ مَا بِهِ غَبَشُ
لِطَالَمَا أَكْلُوا وَطَالَ مَا شَرَبُوا ... وَطَالَ مَا رَفَعُوا الآجامَ وَاعْتَرَشُوا
مَرُوا وَلا أَثَر مِنْهُم بِدَارِهمُوا ... وَلا حَسِيْسٌ ولا رِكْزٌ وَلا وَقَشُ
قَدْ كَانَ لِلْقَوْمِ آمَالٌ مَبَسِّطةٌ ... فَأَصْبَحُوا قَبضُوا الآمَالِ وَانْكَشُموا
باب
في حكمة خلق النار
قال الله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ( [الواقعة: 74].
اعلم وفقنا الله وإياك، أن الله خلق النار، وهي من أعظم النعم على عباده، ولما علم الله سبحانه وتعالى أن كثرتها وبثها في العالم مفسدة جعلها الله بحكمته محصورة، حتى إذا احتيج إليها وجدت واستعملت في كل أمر يحتاج إليها فيه، فهي مخزونة في الأجسام، ومنافعها كثيرة لا تحصى: فمنها ما تصلحه من الطبائخ والأشربة التي لولاها لم يحصل فيها نضج ولا تركيب ولا اختلاط، ولا صحة هضم لمن يستعملها في أكل وشرب.(3/312)
فانظر لطف الباري سبحانه في هذا الأمر المهم، ثم انظر فيما يحتاج الناس إليه من الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والقصدير وغير ذلك فلولاها لم يكن شيء من الانتفاع من هذه الأشياء، فيها يذاب النحاس، فتعمل منه الأواني وغيرها، وقد نبه الله تعالى على مثل ذلك بأنها نعمة توجب الشكر، فقال تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً( [سبأ: 13].
وبه يلين الحديد فيعملون به أنواعًا من المنافع والآلات للحروب، مثل الدروع، والسيوف إلى غير ذلك مما يطول تعداده، وقد نبه الله تعالى على مثل هذا فقال: (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ( [الحديد: 25]
وقال تعالى: (لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ( [الأنبياء: 80].
ومنه يعمل آلات للحرث والحصاد وآلات تتأثر بها النار، وآلات يطرق بها، وآلات لقطع الجبال الصم، وآلات لنجارة الأخشاب مما يكثر تعدادها، فلولا لطف الله سبحانه بخلق النار لم يحصل من ذلك شيء من المنافع، ولولاها لما كان يتهيأ للخلق من الذهب والفضة نقود ولا زينة ولا منفعة، وكانت هذه الجواهر معدودة من جملة الأتربة.
ثم انظر إلى ما جعل الله تعالى في النار من الفرح والتروح عندما تغشى الناس، ظلمة الليل، كيف يستضيئون بها، ويهتدون بنورها في جميع أحوالهم من أكل وشرب، وتمهيد مراقد، ورؤية ما يؤذيهم، ومؤانسة مرضاهم، وقصدها، والعمل عليها برًا وبحرًان فيجدون بوجودها أنسًا، حتى كأن الشمس لم تغب عن أفقهم، ويدفعون بها ضرر الثلوج والرياح الباردة، ويستعينون بها في الحروب ومقاومة حصون لا تملك إلا بها.
فانظر ما أعظم قدر هذه النعمة التي جعل سبحانه حكمها بأيديهم إن شاءوا خزنوها، وإن شاءوا أبرزوها.
باب
في حكمة خلق الإنسان
قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ( [المؤمنون: 12]. إلى آخر ما وصفه سبحانه.(3/313)
اعلم وفقك الله تعالى، أن الله عز وجل لما سبق في علمه خلق الخلق وجعلهم في هذا الدار، وتكليفهم فيها للبلوى والاختيار، خلقهم سبحانه متناسلين بعضهم من بعض، فخلق سبحانه الذكر والأنثى، وألقى في قلوبهم المحبة والدواعي حتى عجزوا عن الصبر وعدم الحيلة في اجتناب الشهوة، فساقتهم الشهوة المفطورة في خلقهم إلى الاجتماع، وجعل الفكرة تحرك عضوًا مخصوصًا به إلى إيداع الماء في القرار المكين الذي يخلق في الجنين، فاجتمعت فيه النطفة من سائر البدن، وخرجت ماء دافقًا مندفعًا من بين الصلب والترائب بحركة مخصوصة، فانتقلت بسبب الإيلاج من باطن إلى باطن، فكانت مع انتقالها باقية على أصلها، لأنها ماء مهين، أدنى شيء يباشرها يفسدها ويغير مزاجها، فهي ماء يختلط جميعه، مستوية أجزاؤه، لا تفاوت فيها بحال، فخلق سبحانه منه الذكر والأنثى بعد نقلها من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام.
ثم كساها اللحم، وشدها بالأعصاب والأوتار ونسجها بالعروق، وخلق الأعضاء وركبها، فدور سبحانه الرأس، وشق فيها السمع والبصر والأنف والفم وسائر المنافذ.
جعل العين للبصر:
ومن العجائب سر كونها مبصرة للأشياء، وهو أمر يعجز عن شرح سره وركبها من سبع طبقات، لكل طبقة صفة وهيئة مخصوصة بها، فلو فقدت طبقة منها أو زالت لتعطلت عن الإبصار.(3/314)
وانظر إلى هيئة الأشفار التي تحيط بها، وما خلق فيها من سرعة الحركة لتقي العين مما يصل إليها بما يؤذيها من غبار وغيره، فكانت الأشفار بمنزلة باب يفتح وقت الحاجة ويغلق في غير وقتها، ولما كان المقصود من الأشفار جمال العين والوجه جعل شعرها على قدر لا يزيد زيادة تضر بالعين ولا تنقص نقصًا يضر بها، وخلق في مائها ملوحة لتطهير ما يقع فيها، وجعل طرفيهما منخفضين عن وسطهما قليلاً لينصرف ما يقع في العين لأحد الجانبين، وجعل الحاجبين جمالاً للوجه، وسترًا للعينين وشعرهما يشبه الأهداب في الزيادة المشوهة، وجعل شعر الرأس واللحية قابلاً للزيادة والنقص، فيفعل فيهما ما يقصد به الجمال من غير تشويه.
ثم انظر إلى الفم واللسان وما في ذلك من الحكم، فجعل الشفتين سترًا للفم، كأنهما باب يغلق وقت ارتفاع الحاجة إلى فتحه، وهو ستر على اللثة والأسنان مفيد للجمال، فلولاهما لتشوهت الخلق، وهما معينان على الكلام، واللسان للنطق والتعبير عما في ضمير الإنسان، وتقليب الطعام، وإلقائه تحت الأضراس حتى يستحكم مضغه، ويسهل ابتلاعه.
ثم جعل الأسنان أعدادًا متفرقة، ولم تكن عظمًا واحدًا، فإن أصاب بعضها ثلم انتفع بالباقي، وجمع فيها بين النفع والجمال، وجعل ما كان معكوسًا زائد العب حتى تطول مدته مع الصف الذي تحته، وجعلها صلبة ليست كعظام البدن لدعاء الحاجة إليها على الدوام، وفي الأضراس كبر بلا تسريف لأجل الحاجة إلى درس الغذاء، فإن المضغ هو الهضم الأول، وجعلت الثنايا والأنياب لتقطيع الطعام وجمالاً للفم، فأحكم أصولها، وحدد دروسها، وبيض لونها مع حمرة ما حولها، متساوية الرءوس متناسبة التركيب، كأنها الدر المنظوم.(3/315)
ثم انظر كيف خلق في الفم نداوة محبوسة لا تظهر إلا في وقت الحاجة إليها، فلو ظهرت وسالت قبل ذلك لكان تشويهًا للإنسان، فجعلت ليبل بها ما يمضغ من الطعام حتى يسهل تسويفه من غير عنت ولا ألم، فإذا فقد الأكل عدمت تلك النداوة الزائدة التي خلقت للترطيب، وبقي منها ما يبل اللهوات والحلق لتصوير الكلام ولئلا يجف، فإن جفافه مهلك للإنسان.
ثم انظر إلى رحمة الله ولطفه، إذ جعل للآكل لذة الأكل، فجعل الذوق في اللسان وغيره من أجزاء الفم، ليعرف بالذوق ما يوافقه ويلائمه من الملذوذ، فيجد في ذلك راحة في الطعام والشراب إذا دعت حاجة إلى تناوله، وليجتنب الشيء الذي لا يوافقه، ويعرف بذلك حد ما تصل الأشياء إليه في الحرارة والبرودة.
ثم إن الله تعالى شق السمع، وأودعه رطوبة مرة يحفظ بها السمع من ضرر الدود، ويقتل أكثر الهوام التي تلج الأذن، وحفظ الأذن بصدفة لتجمع الصوت فترده إلى صماخها، وجعل فيها زيادة حس لتحس بما يصل إليها مما يؤذيها من هوام وغيرها، وجعل تعويجات ليطرد فيها الصوت، ولتكثر حركة ما يدب فيها ويطول طريقه، فيتأثر ويتنبه صاحبها من النوم.
ثم انظر إلى إدراكه للشمومات بواسطة ولوج الهواء، وذلك سر لا يعلم حقيقته إلا الباري سبحانه، إلى غير ذلك.
ثم انظر كيف رفع الأنف في وسط الوجه، فأحسن شكله، وفتح منخريه، وجعل فيهما حاسة الشم ليستدل باستنشاقه على روائح مطاعمه ومشاربه، وليتنعم بالروائح العطرة، ويجتنب الخبائث القذرة، وليستنشق أيضًا روح الحياة غذاء لقلبه وترويحًا لحرارة باطنه.(3/316)
ثم خلق الحنجرة وهيأها لخروج الأصوات، ودور اللسان في الحركات والتقطيعات، فيقطع الصوت في مجار مختلفة تختلف بها الحروف ليسع طرق النطق، وجعل الحنجرة مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة وصلابة الجوهر ورخاوته والطول والقصر، حتى اختلفت بسبب ذلك الأصوات، فلم يتشابه صوتان، كما خلق بين كل صورتين اختلافًا فلم تشتبه صورتان، بل يظهر بين كل صورتين فرقان، حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت، وكذلك يظهر بين كل شخصين فرقان، وذلك لسر التعارف.
فإن الله تعالى لما خلق آدم وحواء خالف بين صورتيهما، فخلق منهما خلقًا جعله مخالفًا لخلق أبيه وأمه، ثم توالى الخلق كذلك لسر التعارف.
ثم انظر لخلق اليدين تهديان إلى جلب المقاصد ودفع المضار، وكيف عرض الكف وقسم الأصابع الخمس، وقسم الأصابع بأنامل، وجعل الأربعة في جانب والإبهام في جانب، فيدور الإبهام على الجميع، فلو اجتمع الأولون والآخرون على أن يستطيعوا بتدقيق الفكر خلقها على وجه آخر بوضع الأصابع على غير ما وضعت عليه من بُعد الإبهام عن الأربعة، وتفاوت الأربعة في الطول وترتيبها في صف واحد لم يقدروا على ذلك، وبهذا الوضع صلح بها القبض والإعطاء فإن بسطها كانت طبقًا يضع عليه ما يريد، وإن جمعها كانت آلة يضرب بها. وإن ضمها ضمًا غير تام كانت مغرفة له، وإن بسطها وضم أصابعه كانت مجرفة.
ثم خلق الأظفار على رءوسها زينة للأنامل وعمادًا لها من ورائها حتى لا تضعف، ويلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تتناولها الأنامل لولاها، وليحك بها جسمه عند الحاجة إلى ذلك.
فانظر أقل الأشياء في جسمه لو عدمها وظهرت به حكة لكان أضعف الخلق وأعجزهم عن دفع ما يؤلمه، وجلب ما ينتفع به في ذلك ولم يقم له غير الظفر مقامه في حك جسده، لأنه مخلوق لذلك ولغيره، فهو لا صلب كصلابة العظام، ولا رخو كرخاوة الجلد، يطول ويحلق ويقص ويقصر لمثل ذلك.(3/317)
ثم جعله يهتدي به إلى الحك في حالة نومه ويقظته ويقصد المواضع إلى جهتها من جسده، ولو احتاج إلى غيره واستعان به في حكها لم يعثر الغير على مواضع الحاجة إلا بعد طوْل وتعب.
ثم انظر كيف مد منه الفخذين والساقين وبسط القدمين ليتمكن بذلك من السعي، وزين القدمين بالأصابع، وجعلها زينة وقوة على السعي، وزين الأصابع أيضًا بالأظفار وقواها بها.
ثم انظر كيف خلق هذا كله من نطفة مهينة، ثم خلق منها عظام جسده فجعلها أجسامًا قوية صلبة لتكون قوامًا للبدن وعمادًا له، وقدرها تبارك وتعالى بمقادير مختلفة وأشكال متناسبة، فمنها صغير، وطويل، ومستدير، ومجوف ومصمت، وعريض ودقيق.
ثم أودع في أنابيب هذه العظام المخ الرقيق مصانًا لمصلحتها وتقويتها ولما كان الإنسان محتاجًا إلى جملة جسمه، وبعض أعضائها لتردده في حاجاته لم يجعل الله سبحانه عظامه عظامًا واحدًا، بل عظامًا كثيرة، وبينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة فقدر شكل كل واحد منها على قدر وفق الحركة المطلوبة بها، ثم وصل مفاصلها وربط بعضها ببعض بأوتاد أثبتها بأحد طرفي العظم وألصق الطرف الآخر كالرباط.
ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة منها، ومن الآخر نقرًا غائصه فيها توافق لأشكال الزوائد لتدخل فيها وتنطبق، فصار الإنسان إذا أراد أن يحرك شيئًا من جسده دون غيره لم يمتنع عليه، فلولا حكمة خلق المفاصل لتعذر عليه ذلك.
ثم انظر كيف جعل الرأس مركبًا من خمسة وخمسين عظمًا مختلفة الأشكال والصور، وألف بعضها إلى بعض بحيث استوت كرة الرأس كما ترى، فمنها ستة تختص بالقحف، وأربعة وعشرون للحي العلى، وأثنان للحي الأسفل، والبقية من الأسنان بعضها عريض يصلح للطحن، وبعضها حاد يصلح للقطع، ثم جعل الرقبة مركز الرأس، فركبها من سبع خرزات مجوفات مستديرات وزيادات ونقصان، لينطبق بعضها على بعض ويطول ذكر الحكمة فيها.(3/318)
ثم ركب الرقبة على الظهر من أسفل الرقبة إلى منتهى عظم العجز من أربعة وعشرين خرزة، وعظم العجز ثلاثة أخرى مختلفة، ووصل به من أسفله عظم العصعص، وهو مؤلف من ثلاثة أخرى.
ثم وصل عظام الظهر بعظام الصدر، وعظام الكتف، وعظام اليدين، وعظام العانة، وعظام العجز، وعظام الفخذين، والساقين، وأصابع الرجلين، فجملة عدد العظام من بدن الإنسان مائتا عظم وثمانية وأربعون عظمًا، سوى العظام الصغيرة التي حشى بها خلل المفاصل.
فانظر كيف خلق الباري سبحانه وتعالى ذلك كله من نطفة رقيقة سخيفة، والمقصود من ذكر أعدادها تعظيم مدبرها وخالقها، وكيف خلقها وخالف بين أشكالها وخصها بهذا القدر المخصوص، بحيث لو ازدا فيها واحد كان وبالاً واحتاج الإنسان إلى قلعه ولو نقص منها واحد لاحتاج الإنسان إلى جبره، جعل سبحانه وتعالى في هذا الخلق عبرة لأولي الأبصار وآيات بينات على عظمته وجلاله بتقديرها وتصويرها.
ثم انظر كيف خلق سبحانه آلات لتحريك العظام وهي العضلات، فخلق في بدن الإنسان خمسمائة وتسع وعشرين عضلة، والعضلة مركبة من لحم وعصب ورباط وأغشية، وهي مختلفة المقادير والأشكال بحسب اختلاف مواضعها وحاجاتها. فأربعة وعشرون منها لحركة العين وأجفانها، بحيث لو نقصت منها واحدة اختل أمر العين، وهكذا لكل عضو عضلات بعدد يخصه وقدر يوافقه.
وأما أمر الأعصاب والعروق والأوردة والشرايين ومنابتها وسعتها، فأعجب من هذا وشرحه يطول.
ثم عجائب ما فيه من المعاني والصفات التي لا تدرك بالحواس أعظم.
ثم انظر إلى ما شرف به وخص في خلقه بأنه خلق ينتصب قائمًا، ويستوي جالسًا، ويستقبل الأمور بيديه وجوارحه، ويمكنه العلاج والعمل، ولم يخلق مكبوبًا على وجهه كعدة من الحيوانات، إذ لو كان كذلك لما استطاع هذه الأعمال.(3/319)
ثم انظر من حيث الجملة إلى ظاهر هذا الإنسان وباطنه. فتجده مصنوعًا صنعة بحكمة تقضي منها العجب، وقد جعل سبحانه أعضاءه تامة بالغذاء، والغذاء متوال عليها. لكنه تبارك وتعالى قدرها بمقادير لا يتعداها، بل يقف عندها ولا يزيد عليها، فإنها لو تزايدت بتوالي الغذاء عليها لعظمت أبدان بني آدم، وثقلت عن الحركة، وعطلت عن الصناعات اللطيفة ولا تناولت من الغذاء ما يناسبها، ومن اللباس كذلك، ومن المساكن مثل ذلك، وكان من بليغ الحكمة وحسن التدبير وقوفها على هذا الحد المقدر رحمة من الله ورفقًا بخلقه، فإذا وجدت هذا كله صنعة الله تعالى من قطرة ماء، فما ظنك بصنعته في ملكوت السموات والأرض وشمسها وقمرها وكواكبها، وما حكمته في أقدارها وأشكالها وأعدادها وأوضاعها، واجتمع بعضها وافتراق بعضها، واختلاف صورها وتفاوت مشارقها ومغاربها، فلا تظن أن ذرة في السموات والأرض وسائر عالم الله ينفك عن حكم، بل ذلك مشتمل على عجائب وحكم لا يحيط بجمعها إلا الله سبحانه وتعالى، ألم تسمع قوله سبحانه وتعالى: (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا( [النازعات27]، إلى آخر ما نبه به.
وتأمل لو اجتمع الإنس والجن على أن يخلقوا للنطفة سمعًا وبصرًا وحياة لم يقدروا على ذلك.
فانظر كيف خلقها سبحانه في الأرحام، وشكلها فأحسن تشكيلها، وقدرها فأحسن تقديرها، وصورها فأحسن تصويرها، وقسم أجزاءها المتشابهة إلى أجزاء مختلفة، فأحكم العظام في أرجائها، وحسن أشكال أعضائها، ورتب عروقها وأعصابها، ودبر ظاهرها وباطنها، وجعل فيها مجرى لغذائها، ليكون ذلك سببًا لبقائها مدة حياتها.(3/320)
ثم كيف رتب الأعضاء الباطنة –من القلب، والكبد، والمعدة، والطحال، والرئة، والرحم، والمثانة، والأمعاء- كل عضو بشكل مخصوص ومقدار مخصوص لعمل مخصوص، فجعل في المعدة لنضج الغذاء عصبًا معينًا شديدًا لحاجتها، وبذلك يمكن تقطيعه وطحنه، وجعل طحن الأضراس أولاً معينًا للمعدة على جودة طحنه وهضمه، وجعل الكبد لإحالة الغذاء إلى الدم فيجذب منه إلى عضو من الغذاء ما يناسبه، فغذاء العظم خلاف غذاء اللحم، وغذاء العروق خلاف غذاء الأعصاب، وغذاء الشعر خلاف غذاء غيره، وجعل الطحال والمرارة والكلية لخدمة الكبد، فالطحال لجذب السوداء، والمرارة لجذب الصفراء، والكلية المائية عنه، والمثانة لقبول الماء عن الكلية، ثم يخرجه في مجرى الإحليل والعروق والكبد في اتصال الدم منه إلى سائر أطراف البدن، وجعل جوهرها أنقى من جوهر اللحم ليصونه ويحصره، فهي بمنزلة الظروف والأوعية.
ثم انظر كيف دبره في الرحم ولطف به ألطافًا يطول شرحها، ولا يستكمل العلم بجملتها إلا خالقها، ويعجز الواصف عن وصف ما وصل إليه نظره من ذلك، فمن ذلك جعله فيها لا يحتاج إلى استدعاء، ولا يحتاج المولود إلى ما بين ذلك لا بوعظ ولا تنبيه، بل ذلك في الطباع إلى وقت حاجة المولود إلى الإغاثة في غذائه، ولولا ذلك لنفرت الأمهات عنه من شدة التعب وكلفة التربية حتى اشتد جسمه وقويت أعضاؤه الظاهرة والباطنة لهضم الغذاء، فحينئذ أنبت له الأسنان عند الحاجة إليها لا قبل ذلك ولا بعده.
ثم انظر كيف خلق الله فيه التمييز والعقل على التدريج إلى حين كماله وبلوغه، وانظر وفكر في سر كونه يولد جاهلاً غير ذي عقل وفهم، فإنه لو كان ولد عاقلاً فيهما لأنكر الوجود عند خروجه إليه حتى يبقى حيران تائه العقل، إذ رأى ما لا يعرف، وورد عليه ما لم يره ولم يعهد مثله، ثم كان يجد غضاضة أن يرى نفسه محمولاً وموضوعًا معصبًا بالخرق، ومسجى في المهد مع كونه لا يستغنى عن هذا كله لرقة بدنه ورطوبته حين يولد.(3/321)
ثم كان لا يوجد له من الرقة له، والحلاوة والمحبة في القلوب ما يوجد للصغير لكثرة اعتراضه بعقله واختياره لنفسه، فتبين أن ازدياد العقل والفهم فيه على التدريج أصلح به.
أفلا يرى كيف أقام كل شيء من الخلقة على غاية الحكمة وطريق الصواب وأعلمه تقلب الخطأ في دقيقة وجليلة؟
ثم انظر فيما إذا اشتد خلق فيه طريقًا وسببًا للتناسل، وخلق في وجهه شعرًا ليميزه عن شبه الصبيان والنسوان، ويجمله ويستر به غضون وجهه عند شيخوخته، وإن كانت أنثى أبقى وجهها نقيًا من الشعر لتبقى لها بهجة ونضارة تحرك الرجال لما في ذلك من بقاء النسل.
فكر الآن فيما ذكرناه ودبره سبحانه في هذه الأحوال المختلفة، هل ترى مثل هذا يمكن أن يكون مهملاً؟
أرأيت لو لم يجر له الدم غذاء وهو في الرحم، ألم يكن يذوي ويهلك ويجف كما يجف النبات إذا انقطع عنه الماء.
ولو لم يزعجه المخاض عند استكماله، ألم يكن يهلك ببقائه في الرحم هو وأمه؟ ولو لم يوافه اللبن عند ولادته، ألم يكن يموت جوعًا وعطشًا أو يغذى بما لا يوافق ولا يصلح عليه بدنه؟
ولو لم يخلق له الأسنان في وقتها، ألم يكن يمتنع عليه مضغ الطعام وازدراده ويقيم على الرضاع ولا يشتد جسمه؟
ولو لم يخرج له شعر الوجه لبقي في هيئة النساء والصبيان، فلا ترى له هيبة ولا جلالاً ولا وقارًا، ومن ذا الذي يرصده حتى يوفيه بكل هذه المآرب في وقتها، إلا الذي أنشأه بعد أن لم يكن شيئًا مذكورًا وتفضل عليه ومن عليه بكل هذه النعم.
فكر في شهوة الجماع الداعية لإحيائه، والآلة الموصلة إلى الرحم النطفة، والحركة الموجبة لاستخراج النطفة، وما في ذلك من التدبير المحكم.(3/322)
ثم فكر في جملة أعضاء البدن وتهيئة كل عضو منها للإرب الذي أريد منها، فالعينان للاهتداء بالنظر، واليدان للعلاج والحذف والدفع، والرجلان للسعي، والمعدة لهضم الطعام، والكبد للتخليص والتمييز، والفم للكلام ودخول الغذاء، والمنافذ لدفع الفضلات، وإذا تأملت كذلك مع سائر ما في الإنسان وجدته قد وضع على غاية الحكمة والصواب.
فكر في وصول الغذاء إلى المعدة حتى ينضجه ويبعث صفوه إلى الكبد في عروق دقاق قد جعلت كالمصفاة للغذاء، ولكيلا يصل إلى الكبد منه شيء غليظ خشن فينكؤها، فإنها خلقت دقيقة لا تحمل الغث فتقلبه بإذن الله دمًا، وتنفذ إلى سائر البدن في مجار مهيأة لذلك، فيصل إلى كل شيء من ذلك ما يناسبه من يابس ورخو وغير ذلك –فتبارك الله رب العالمين- ثم ينفذ ما يكون من خبث وفضول إلى أعضاء أعدت لذلك –كما ذكرنا قبل هذا- فكونها كالأوعية تحمل هذه الفضلات، لكيلا تنتشر في البدن فتسقمه.
ثم انظر هل تجد في خلق البدن شيئًا لا معنى له؟ هل خلق البصر إلا ليدرك الأشياء والألوان؟ فلو كانت الألوان ولم يكن بصر يدركها، هل كان في الألوان منفعة؟ ولو لم يكن لخلق الأبصار نور خارج عن نورها ما كان ينتفع بالبصر؟ وهل خلق السمع إلا ليدرك الأصوات، فلو كانت الأصوات، ولم يكن سمع يدركها لم يكن في الأصوات منفعة، وكذلك سائر الحواس والله اعلم وصلى الله على محمد.
(قواعد وضوابط وأصول)
اخترناها من طريق الوصول إلى العلم المأمول
1) الشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور له وحبه له واعترافه بنعمته والثناء عليه بها، وأن لا يستعملها فيما يكره.
2) الحياء خلق ناشئ عن حياة القلب ورؤية الآلاء الغزيرة ورؤية التقصير في حقوق ربه، ويثمر اجتناب المحرمات والقيام بالواجبات، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «الحياء لا يأتي إلا بخير».(3/323)
3) قال تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ( [الزمر: 33]، فالذي جاء بالصدق هو من شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله وأعلى مراتب الصدق مرتبة الصديقية وهي كمال الانقياد للرسول - صلى الله عليه وسلم - مع كمال الإخلاص للمرسل.
4) البخل (وهو منع الحقوق الواجبة) ثمرة الشح، والإيثار ثمرة الجود والجود عشر مراتب: الجود بالنفس، والجود بالراحة، والجود بالعلم، والجود بالمال، والجود بالجاه، والجود بنفع البدن، والجود بالعرض، والجود بالعفو عن جنايات الخلق، والجود بالخلق والبشر والبسطة، والجود بتركه ما في أيدي الناس وهذا غير الجود بالمال، ولكل واحدة من هذه ثمرات جليلة طيبة.
5) الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين، وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان: الصبر والعفة والشجاعة والعدل، فالصبر يحمله على الاحتمال، وكظم الغيظ والحلم والاناة والرفق وعدم الطيش والعجلة والعفة تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل. والشجاعة تحمله على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته وتحمله على كظم الغيظ والحلم، فإنه بقوة نفسه وشجاعتها، أمسك عنائها عن النزع والبطش، وحقيقة الشجاعة ملكة يقتدر بها على قهر خصمه، والعدل يحمله على اعتدال أخلاقه وتوسطه بين طرفي الإفراط والتفريط، فمنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة. ومنشأ جميع الأخلاق السافلة وبناؤها على أربعة أركان: الجهل والظلم والشهوة والغضب.(3/324)
6) في النفس ثلاثة دواع متجاذبة: داع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الشياطين من الكبر والحسد والعلو والبغي والشر والأذى والفساد والغش، وداع يدعوها إلى أخلاق الحيوان وهي داعي الشهوة، وداع يدعوها إلى أخلاق الملك من الإحسان والنصح والبر والعلم والطاعة، فحقيقة المروءة بغض الداعيين الأولين وإجابة الداعي الثالث، وقلة المروءة أو عدمها هو الاسترسال مع ذينك الداعيين والتوجه لدعوتهما.
7) الأدب اجتماع خصال الخير في العبد وهو ثلاثة أنواع: أدب مع الله بأن يصون قلبه أن يلتفت إلى غيره أو تتعلق إرادته بما يمقته عليه ويصون معاملته أن يشوبها بنقيضه. وأدب مع الرسول بكمال الانقياد وتلقي خبره بالقبول والتصديق وأن لا يعارضه بغيره بوجه من الوجوه، وأدب مع الخلق بمعاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم ويناسب حالتهم.
8) الغنى نوعان: غنى بالله وغنى عن غير الله، وحقيقة الغنى غنى القلب وهو تعلقه بالله وحده، وحقيقة فقره المذموم تعلقه بغيره.
9) والحكمة نوعان: علمية وعملية، فالعلمية الإطلاع على بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقًا وأمرًا، قدرًا وشرعًا، والعملية وضع الشيء في موضعه.
10) وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا خلى أحدهما عن الآخر فسدت العبودية، فإذا أقترن بهذين الثناء على المحبوب المعظم فذلك حقيقة الحمد.
11) وأصل السكينة هو الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف. فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان وقوة اليقين والثبات، والطمأنينة سكون القلب إلى الشيء وعدم اضطرابه وقلقه فالطمأنينة أثر السكينة.
12) المحبة لله هي روح العبودية والأسباب الجالبة لها عشرة:
1- قراءة القرآن بالتدبر.
2- التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض.
3- دوام ذكره على كل حال.
4- إيثاره على محاب النفس عند غلبات الهوى.
5- مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومعرفتها.(3/325)
6- مشاهدة بره ونعمه الظاهرة والباطنة.
7- انكسار القلب بين يديه.
8- الخلوة به وقت النزول الإلهي.
9- مجالسة المحبين الصادقين.
10- مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله ومراتبها عشر:
1- العلاقة. ... ... 2- الإرادة. ... ... 3- الصبابة.
4- الغرام. ... ... 5- الوداد. ... ... 6- الشغف.
7- العشق. ... ... 8- التتيم. ... ... 9- التعبد.
10- الخلة، ولها آثار وثمرات جليلة جميلة كثيرة: كالشوق والإنس واليقين والرغبة في الطاعة وكراهة المعصية ونحوها.
13) كل من التوحيد والذكر والصلاة وسائر القرب نوعان: خاصي، وهو ما بذل فيه العامل نصحه وقصده، بحيث يوقعها على أحسن الوجوه وأكملها، والعامية ما لم يكن كذلك، فالمسلمون كلهم مشتركون في إتيانهم بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتفاوتهم في معرفتهم بمضمون هذه الشهادة وقيامهم بحقها ظاهرًا وباطنًا أمر لا يحصيه إلا الله.
14) قاعدة شريفة نافعة: اعلم أن كل حي سوى الله فهو فقير إلى جلب ما ينفعه في دينه ودنياه وإلى دفع ما يضره فيهما، فلابد من أمرين أحدهما هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع به ويتلذذ به، والثاني هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع لحصول المكروه والدافع له بعد وقوعه، فها هنا أربعة أمور: أمر محبوب مطلوب الوجود، وأمر مكروه مطلوب العدم ووسيلة إلى حصول المطلوب، ووسيلة إلى دفع المكروه. فالله هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له وهو المعين للعبد على حصول مطلوبه، فلا معبود سواه ولا معين على المطلوب غيره وما سواه هو المكروه المطلوب بعده وهو المعين على دفعه، فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قول العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، فإن العبادة تتضمن المقصود المطلوب على أكمل الوجوه والمستعان هو الذي يستعان به على حصول المطلوب ودفع المكروه.
15) وهذا مبني على أصلين:(3/326)
أحدهما: إن نفس الإيمان بالله والتقرب إليه هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، لا كما يقوله المتكلفون إنه تكليف ومشقة على خلاف مقصود القلب ولذته، بل لمجرد الامتحان والابتلاء، بل أوامر المحبوب قرة العيون وسرور القلوب.
الأصل الثاني: كمال النعيم في الدار الآخرة أيضًا برؤيته وسماع كلامه وقربه ورضوانه، فلذتهم ونعيمهم في حظهم من الخالق أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال، وهذان الأصلان ثابتان بالكتاب والسنة وعليهما أهل العلم والإيمان، ويتكلم عليهما العارفون وهما من فطرة الله التي فطر الناس عليها.
16) قاعدة كمال العبد وصلاحه يتخلف عنه من أحد جهتين: إما أن تكون طبيعته قاسية غير لينة ولا منقادة ولا قابلة لما به كمالها وفلاحها وإما أن تكون لينة منقادة سلسة الانقياد لكن غير ثابتة، بل سريعة الانتقال عنه كثيرة التقلب، فمتى رزق العبد انقيادًا للحق وثباتًا عليه فليبشر فقد بشر بكل خير وذلك فضل الله.
17) قاعدة: إذا ابتلى الله عبده بشيء من أنواع البلاء فإن رده إلى ربه وصار سببًا لصلاح دينه فهو علامة سعادته وإرادة الخير بهن ولا بد أن تقلع الشدة وقد عوض عنها أجل عوض، وإن لم يرده ذلك البلاء إليه بل شرد قلبه عنه ورده إلى الخلق وأنساه ذكر ربه فهو علامة الشقاء وإذا أقلع عنه البلاء رده إلى طبيعته وسلطان شهوته، فبلية هذا وبال، وبلية الأول رحمة وتكميل والله الموفق.
18) قاعدة في الإنابة التي تكرر ذكرها في القرآن أمرًا ومدحًا وترغيبًا وآثارًا جميلة، وهي الرجوع إلى الله، وانصراف دواعي القلب وجواذبه إليه، وهي تتضمن المحبة والخشية، والناس في إنابتهم درجات متفاوتة، فمنهم المنيب إلى الله بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصي والحامل عليها الخوف والعلم.(3/327)
ومنهم المنيب إلى الله في أنواع العبادات، فهو ساع بجهده ومصدرها الرجاء ومطالعة الوعد والثواب، وهؤلاء أبسط نفوسًا من الأولين وكل منهما منيب بالأمرين، ولكن يغلب الخوف على الأولين والرجاء على الآخرين، ومنهم المنيب إليه بالتضرع والدعاء وكثرة الافتقار وسؤال الحاجات كلها مع قيامهم بالأمر والنهي، ومنهم المنيب إلى الله عند الشدائد فقط إنابة اضطرار لا إنابة اختيار.
وأعلى أنواع الإنابات إنابة الروح بجملتها إليه لشدة المحبة الخالصة المغنية لهما عما سوى محبوبهم، وحين أنابت إليه لم يتخلف منهم شيء عن الإنابة، فإن الأعضاء كلها رعيتها وأدت وظائفها كاملة، فساعة من إنابة هذا أعظم من إنابة سنين من غيره وذلك فضل الله.
19) تكليف ما لا يطاق على وجهين. الأول ما لا يطاق للعجز عنه، كتكليف الزمنى المشي، وتكليف الإنسان الطيران ونحو ذلك، فهذا غير واقع في الشريعة، والثاني ما لا يطاق للاشتغال بضده كاشتغال الكافر بالكفر، وهذا واقع ولا ينبغي أن يعبر عنه أنه لا يطاق.
20) أهل السنة يقولون إن العبد له قدرة وإرادة وفعل وهو فاعلن حقيقة الله خالق ذلك كله كما هو خالق كل شيء، كما دل على هذين الأصلين نصوص الكتاب والسنة وهو الواقع.(3/328)
21) وفعل العبد حادث ممكن فيدخل في عموم خلق الله للحوادث واتفق أهل السنة أن الله أخص المؤمنين بنعمة دون الكافرين بأن هداهم للإيمان، ولو كانت نعمته على المؤمنين مثل نعمته على الكافرين لم يكن المؤمن مؤمنًا كما قال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ( [الحجرات: 7] . والله خالق الملائكة والأنبياء وخالق الشياطين والحيات والعقارب وغيرها من الفواسق، فهذا محمود معظم، وهذا فاسق يقتل في الحل والحرام، وهو سبحانه خالق في هذا طبيعة كريمة تقتضي الخير والإحسان، وفي هذا طبيعة خبيثة توجب الشر والعدوان.
22) الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة تتعلق بالأمر وإرادة تتعلق بالخلق فالإرادة المتعلقة بالأمر أن يريد من العبد فعل ما أمره، وأما إرادة الخلق فأن يريد ما يفعله هو، فإرادة الأمر هي المتضمنة للمحبة والرضا وهي الإرادة الدينية، والإرادة المتعلقة بالخلق هي المشيئة وهي الإرادة الكونية القدرية، فالكفر والفسوق والعصيان ليس مرادًا للرب بالاعتبار الأول والطاعة موافقة لتلك الإرادة أو موافقة للأمر المستلزم لتلك الإرادة، فأما موافقة مجرد النوع الثاني فلا يكون به مطيعًا.
23) وكما على العبد أن يؤمن بقدر الله وقضائه فعليه أن يوافق الله في حبه وبغضه، فقضاء الشرور من جهة خلقة الرب لها محبوبة مرضية لأن الله خلقها لما له في ذلك من الحكمة، والعبد فعلها وهي ضارة له موجبة له العذاب، فنحن ننكرها ونكرهها وننأى عنها، وإذا أرسل الله الكافرين على المسلمين، فعلينا أن نرضى بقضاء الله في إرسالهم، وعلينا أن نجتهد في دفعهم وقتالهم، وأحد الأمرين لا ينافي الآخر.(3/329)
24) أهل السنة متفقون على أن الأنبياء معصومون في تبليغ الرسالة، ولا يجوز أن يستقر في شيء من الشريعة خطأ باتفاق المسلمين، وكل ما يبلغونه عن الله من الأمر والنهي فهم مطاعون فيه باتفاق المسلمين، وما أخبروا به وجب تصديقهم فيه بإجماع المسلمين، وما أمروهم به ونهوهم عنه فهم مطاعون فيه عند جميع فرق الأمة، والجمهور الذي يجوزون عليهم الصغائر ومن يجوز الكبائر يقولون إنهم لا يقرون عليها، بل يحصل لهم بالتوبة منها من المنزلة أعظم مما كان قبل ذلك.
25) القياس نوعان: مذموم إما لفوات شرطه وهو عدم المساواة في مناط الحكم، وإما لوجود مانعه وهو النص الذي يجب تقديمه عليه. وصحيح محمود وهو الذي يستوي فيه الأصل والفرع في مناط الحكم، ولم يعارضه ما هو أرجح منه.
26) الصديق قد يراد به الكامل في الصدق، وقد يراد به الكامل في التصديق، وكمال ذلك علم ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة وتفصيلا وتصديق ذلك تصديقًا كاملاً في العلم والقصد والقول والعمل، وأكمل الناس في هذا الوصف أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
27) فمن تكلم في هذا الباب، أي مدح الصحابة أو القدح فيهم بجهل أو بخلاف ما يعلم كان مستوجبًا للوعيد، ولو تكلم بحق لقصد الهوى لا لوجه الله أو ليعارض به حقًا آخر لكان أيضًا مستوجبًا للذم والعقاب ومن علم ما دل عليه القرآن والسنة من الثناء على القوم ورضي الله عنهم واستحقاقهم الجنة، وإنهم خير هذه الأمة التي أُخرجت للناس لم يعارض هذا المتيقن المعلوم بأمور مشتبهة، منها ما لا يعلم صحته، ومنها ما يتبين كذبه، ومنها ما لا يعلم كيف وقع، ومنها ما يعلم عذر القوم فيه، ومنها ما يعلم توبتهم منه، ومنها ما يعلم أن لهم من الحسنات ما يغمره، فمن سلك سبيل أهل السنة استقام قوله، وكان من أهل الحق والاستقامة والاعتدال وإلا حصل في جهل ونقض وتناقض كحال هؤلاء الرافضة الضلال.(3/330)
28) والرجل الصالح المشهود له بالجنة قد يكون له سيئات يتوب منها أو تمحوها حسناته أو تكفر عنه بالمصائب أو غير ذلك، فإن العبد إذا أذنب كان لدفع عقوبة النار عنه عشرة أسباب، ثلاثة منه وثلاثة من الناس وباقيها من الله: التوبة والاستغفار والحسنات الماحية ودعاء المؤمنين وإهداؤهم له العمل الصالح وشفاعة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، والمصائب المكفرة في الدنيا وفي البرزخ وفي عرصات القيامة ومغفرة الله له بفضل رحمته.
29) الفرقان والسلطان يكون بالحجة والعلم ويكون بالنصر والتأييد كقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ( [التوبة: 33].
30) من أمره الشارع بعبادة وطاعة يفعلها فهو أفضل من هذا الوجه ممن لم يؤمر بها دينًا وإيمانًا وإن لم يكن الآخر عاصيًا ولا معاقبًا، وذلك أن أصل أهل السنة والجماعة أن الإيمان يتفاضل من وجهين: من جهة أمر الله ومن جهة فعل العبد الواقع منه.
31) فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعًا لما جاء به الرسول، ولا يتقدم بين يديه بل ينظر ما قال فيكون قوله تبعًا لقوله وعمله تبعًا لأمره، فمن قول الله وقول رسوله يتعلم وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر وبه يستدل فهذا أصل أهل السنة، وأهل البدع بخلاف ذلك، وكل من خالف ما جاء به الرسول لم يكن عنده علم بذلك ولا عدل بل لا يكون عنده إلا جهل وظلم وظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى فإن ما أخبر به الرسول حق ظاهرًا أو باطنًا فلا يناقضه إلا الباطل والضلال.
الوحي وحيان: وحي رحماني وهو إلهام الخير والواردات الموافقة للحق ووحي شيطاني وهي الواردات والأذواق المنافية لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -.(3/331)
32) ومما ينبغي أن يعلم أن الأمة يقع فيها أمور بالتأويل في دمائها وأموالها وأعراضها، كالقتال واللعن والتكفير وجماهير العلماء يقولون: إن أهل العدل والبغاة إذا اقتتلوا بالتأويل لم يضمن هؤلاء ما أتلفوا لهؤلاء ولا هؤلاء ما أتلفوا لهؤلاء، كما قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب محمد متوافرون فأجمعوا أن كل دم أو مال أصيب بتأويل القرآن، فإنه هدر أنزلوهم منزلة الجاهلية في الدماء والأموال، فكيف بالإعراض كاللعن والتكفير والتفسيق.
33) ومما ينبغي أن يعلم أن أسباب الفتن تكون مشتركة فيرد على القلوب من الواردات ما يمنع القلوب عن معرفة الحق وقصده، ولهذا تكون بمنزلة الجاهلية، والجاهلية ليس فيها معرفة الحق وقصده والإسلام جاء بالعلم النافع والعمل الصالح بمعرفة الحق وقصده.
34) ويترتب على هذا الأصل أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونًا بالظن ونوع من الهوى الخفي فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه وإن كان من أولياء المتقين ويصير فتنة لطائفتين. طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحًا في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه من الإيمان، وكل هذين الطرفين فاسد، ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب ويحب من وجه ويبغض من وجه هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافًا لأهل البدع.(3/332)
35) فالدين الذي شرعه الله ورسوله توحيد وعدل وإحسان وإخلاص وصلاح للعباد في المعاش والمعاد، وما لم يشرعه الله ورسوله من العبادات المبتدعة فيه شرك وإساءة وفساد العباد في المعاش والمعاد، فإن الله أمر بعبادته والإحسان إلى عباده كما قال: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً( [النساء: 36].
36) فالصراط المستقيم هو ما بعث الله به رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بفعل ما أمر وترك ما حظر، وتصديقه فيما أخبر. لا طريق إلى الله إلا ذلك، وهذا سبيل أولياء الله المتقين.(3/333)
37) وبين الخالق والمخلوق من الفروق ما لا يخفى على ذي بصيرة منها أن الرب غني بنفسه عما سواه ويمتنع أن يكون مفتقرًا إلى غيره بوجه من الوجوه، والملوك وسادة العبيد محتاجون إلى غيرهم حاجة ضرورية، ومنها أن الرب وإن كان يحب الأعمال الصالحة ويرضى ويفرح بتوبة التائبين فهو الذي يخلق ذلك وييسره، فلم يحصل ما يحبه ويرضاه إلا بقدرته ومشيئته، والمخلوق قد يحصل له ما يحبه بفعل غيره. ومنها أن الرب أمر العباد بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم، بخلاف المخلوق الذي يأمر غيره بما يحتاج إليه وينهاه عما ينهاه عنه بخلاً عليه، ومنها أنه سبحانه هو المنعم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وهو المنعم بالقدرة والحواس، وغير ذلك مما يحصل به العلم والعمل الصالح، وهو الهادي لعباده فلا حول ولا قوة إلا به، ولهذا قال أهل الجنة (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ( [الأعراف: 43]. وليس يقدر المخلوق على شيء من ذلك. ومنها أن نعمه على عباده أعظم من أن تحصى، فلو قدر أن العبادة جزاء النعمة لم تقم العبادة بشكر القليل منها، فكيف والعبادة من نعمته أيضًا. ومنها أن العباد لا يزالون مقصرين محتاجين إلى عفوه ومغفرته. فلن يدخل أحد الجنة بعمله، وما من أحد إلا وله ذنوب يحتاج فيها إلى مغفرة الله.(3/334)
38) وفي ذكر الله أكثر من مائة فائدة يرضي الرحمن ويطرد الشيطان ويزيل الهم ويجلب السرور ويقوي القلب والبدن وينور القلب والوجه ويجلب الرزق ويكسب المهابة والحلاوة ويورث محبة الله التي هي روح الإسلام ويورث المعرفة والإنابة والقرب وحياة القلب وذكر الله للعبد وهو قوت القلب وروحه ويجلو صدأه ويحط الخطايا ويرفع الدرجات ويحدث الأنس ويزيل الوحشة ويذكر بصاحبه وينجي من عذاب الله. ويوجب تنزل السكينة وغشيان الرحمة وحفوف الملائكة بالذاكر ويشغل عن الكلام الضار ويسعد الذاكر ويسعد به جليسه ويؤمن الحسرة يوم القيامة وهو مع البكاء سبب إظلال الله للذاكر وبه تحصل العطايا والثواب المتنوع من الله وهو أيسر العبادات وأفضلها وهو غراس الجنة ويؤمن العبد من نسيان ربه وانفراط أمور العبد ويسير بصاحبه في كل حال من أحواله وهو نور للعبد في دنياه وقبره ويوم حشره وبه تخرج أعمال العبد وأقواله ولها نور وهو رأس الولاية وطريقها ويزيل خلة القلب ويفرق غمومه وهمومه وينبه القلب من نومه ويثمر المعارف والأحوال الجليلة والذاكر قريب من مذكوره والله معه.(3/335)
وأكرم الخلق على الله من لا يزال لسانه رطبًا من ذكر الله ويزيل قسوة القلب وما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمه بمثل ذكره ويوجب صلاة الله وملائكته على الذاكر ومجالس الذكر مجالس الملائكة ورياض الجنة وجميع الأعمال إنما شرعت لإقامة ذكر الله. وأفضل كل عامل أكثرهم لله ذكرًا وإدامة الذكر تنوب مناب كثير من الطاعات البدنية والمالية والمركبة منهما وهو يعين على طاعة الله ويسهل كل صعب وييسر الأمور ويعطي الذاكر قوة في قلبه وبدنه والذاكرون أسبق العمال وهو سد بين العبد وبين نار جهنم وتستغفر الملائكة للذاكر وتتباهى الجبال وبقاع الأرض بمن يذكر الله عليها وتشهد له، والذكر أمان من النفاق، ويدخل في ذكر الله ذكر أسمائه وصفاته والثناء عليه بهما وتنزيهه عما لا يليق به، والخبر عن أحكام ذلك وذكر أمره ونهيه، ويكون الذكر بالقلب واللسان وهو الأكمل ثم القلب وحده ثم اللسان وحده.
39) وأفضل أنواع الذكر القرآن، ثم الذكر والثناء على الله، ثم أنواع الأدعية.
40) وأسماء الله تتضمن صفاته ليست أعلامًا محضة وهو مستحق للكمال المطلق لأنه واجب الوجود بنفسه يمتنع العدم عليه ويمتنع أن يكون مفتقرًا إلى غيره بوجه من الوجوه إذ لو افتقر إلى غيره بوجه من الوجوه لكان مفتقرًا إلى ذلك الغير، والحاجة إما إلى حصول كمال له وإما إلى دفع ما ينقص كماله، ومن أحتاج في شيء من كماله إلى غيره لم يكن كماله موجودًا بنفسه بل بذلك الغير، وهو بدون ذلك الكمال ناقص، والناقص لا يكون واجبًا بنفسه بل ممكنًا مفتقرًا إلى غيره.(3/336)
41) فأي شيء اعتبرته من العالم وجدته مفتقرًا إلى شيء آخر من العالم، فيدلك ذلك مع كونه ممكنًا مفتقرًا ليس بواجب بنفسه إلى أنه مفتقر إلى فاعل ذلك الآخر حتى ينتهي الأمر إلى الرب الخالق لكل شيء، ويمتنع أن يكون للعالم فاعلان مفعول كل منهما مستغن عن مفعول الآخر كما قال تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ( [المؤمنون: 91]. ويمتنع أن يكونا مستقلين، لأنه جمع بين النقيضين، ويمتنع أن يكونا متعاونين متشاركين كما يوجد ذلك في المخلوقين لاستلزام ذلك العجز والحاجة إلى الآخر.
45) وهو تعالى مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، إذ كل غاية تفرض كمالا إما أن تكون واجبة له أو ممكنة أو ممتنعة، والقسمان الأخيران باطلان فوجب الأول، فهو منزه عن النقص وعن مساواة شيء من الأشياء له في صفات الكمال، بل هذه المساواة هي من النقص أيضًا، وذلك لأن المتماثلين يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، فلو قدر أنه ماثل شيئًا في شيء من الأشياء للزم اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع على ذلك الشيء وكل ما سواه ممكن قابل للعدم، بل معدوم مفتقر إلى فاعل، وهو مصنوع مربوب محدث، فلو ماثله لزم اشتراكهما في هذه الأمور، وقد تبين أن كماله من لوازم ذاته لا يمكن أن يكون مفتقرًا فيه إلى غيره، فضلاً عن أن يكون ممكنًا أو مصنوعًا أو محدثًا.
46) وأما المخالفون للرسل من المشركين والصابئة ومن اتبعهم من الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ونحوهم، فطريقتهم نفي مفصل وإثبات مجمل ينفون صفات الكمال ويثبتون مالا يوجد إلا في الخيال، فيقولون ليس بكذا ولا بكذا إلى آخر ما يقولون.(3/337)
47) والله سبحانه ضرب الأمثال في كتابه لما في ذلك من البيان والإنسان لا يرى نفسه وأعماله إلا إذا مثلت له نفسه بأن يراه في مرآة وتمثل له أعماله بأعمال غيره، ولهذا ضرب الملكان المثل لداود، وضرب الأمثال مما يظهر به الحال، وهو القياس العقلي الذي يهدي به الله من يشاء من عباده.
48) العبد كماله في حاجته إلى ربه وعبوديته وفقره وفاقته، فكلما كانت عبوديته أكمل كان أفضل، وصدور ما يحوجه إلى التوبة والاستغفار مما يزيده عبودية وفقرًا وتواضعًا.
49) ومن أراد أن يمدح أو يذم فعليه أن يبين دخول الممدوح والمذموم في الأسماء التي علق الله ورسوله عليها المدح والذم، فأما إذا كان الاسم ليس له أصل في الشرع ودخول الداخل فيه مما ينازع فيه المدخل بطلت كل من المقدمتين.
50) فعل الحسنات له آثار محمودة في النفس وفي الخارج، وكذلك السيئات، والله تعالى جعل الحسنات سببًا لهذا والسيئات سببًا لهذا، كما جعل أكل السم سببًا للمرض والموت، وأسباب الشر لها أسباب تدفع بمقتضاها، فالتوبة والأعمال الصالحة يمحى بها السيئات، والمصاب في الدنيا تكفر بها السيئات.
51) ومن العلوم علوم لو علمها كثير من الناس لضرهم ذلك، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وليس إطلاع كثير من الناس بل أكثرهم على حكمة الله في كل شيء نافعًا لهم، بل قد يكون ضارًا قال تعالى: (لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ( [المائدة: 101].(3/338)
52) والاحتجاج بالقدر حجة داحضة باطلة باتفاق كل ذي عقل ودين من جميع العاملين، والمحتج به لا يقبل من غيره هذه الحجة إذا احتج به في ظلم ظلمه إياه وترك ما يجب عليه من حقوقه، بل يطلب منه ما له عليه ويعاقبه على عدوانه عليه، وإنما هو من جنس شبه "السوفسطائية" التي تعرض في العلوم، ولا يحتج به أحد إلا مع عدم علمه بالحجة بما فعله، فإذا كان معه علم بأن ما فعله هو المصلحة وهو المأمور وهو الذي ينبغي فعله لم يحتج بالقدر، وكذلك إذا كان معه علم بأن الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله أو ليس بمصلحة أو ليس هو مأمورًا به لم يحتج بالقدر، بل إذا كان متبعًا لهواه بغير علم احتج بالقدر.
فالرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فأتباع الرسل أكمل الناس في ذلك والمكذبين للرسل انعكس الأمر في حقهم فصاروا يتبعون المفاسد ويعطلون المصالح، فهم شر الناس.
53) تفاضل الأعمال عند الله بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها، فهذا العمل الكامل يكفر تكفيرًا كاملا والناقص بحسبه.
54) المقبول من العمل قسمان:
أحدهما: أن يصلي العبد ويعمل سائر الطاعات وقلبه متعلق بالله عز وجل ذاكرًا لله على الدوام فعمله في أعلى المراتب.
الثاني: أن يعمل العبد الأعمال على العادة والغفلة وينوي بها الطاعة والتقرب إلى الله، فأركانه مشغولة بالطاعة وقلبه لاه عن ذكر الله وكذلك سائر أعماله. فهذا عمله مقبول ومثاب عليه بحسبه.
55) وفي ذكر الله أكثر من مائة فائدة يرضى الرحمن ويطرد الشيطان ويزيل الهم ويجلب السرور ويقوي القلب والبدن وينور القلوب.(3/339)
56) ومما ينبغي أن يعلم أن القرآن والحديث إذا عرف تفسيره من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولهذا قال الفقهاء الأسماء ثلاثة أنواع نوع يعرف حده بالشرع كالصلاة والزكاة ونوع يعرف حده باللغة كالشمس والقمر. ونوع يعرف حده بالعرف كلفظ القبض ولفظ المعروف في قوله: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ( [النساء: 19] وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن لا برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده، فإنه ثبت عندهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم.
57) فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعًا لما جاء به الرسول ولا يتقدم بين يديه، بل ينظر ما قال فيكون قوله تبعًا لقوله وعمله تبعًا لأمره، فهكذا كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين، فلهذا لم يكن فيهم من يعارض النصوص بمعقوله ولا يؤسس دينًا غير ما جاء به الرسول، وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه نظر فيما قاله الله والرسول، فمنه يتعلم وبه يتكلم وفيه ينظر ويتفكر وبه يستدل، فهذا أصل أهل السنة، وهذا هو الفرقان بين أهل الإيمان والسنة وأهل النفاق والبدعة فإنهم يخالفون هذا الأصل كل المخالفة.(3/340)
58) فلما طال الزمان خفي على كثير من الناس ما كان ظاهرًا لهم، ودق على كثير من الناس ما كان جليًا لهم، فكثر من المتأخرين مخالفة الكتاب والسنة ما لم يكن مثل هذا في السلف، وإن كانوا مع هذا مجتهدين معذورين يغفر الله لهم خطاياهم ويثيبهم على اجتهادهم، وقد يكون لهم من الحسنات ما يكون للعامل منهم أجر خمسين رجلاً يعملون في ذلك الزمان لأنهم يجدون من يعينهم على ذلك، وهؤلاء المتأخرون لم يجدوا من يعينهم على ذلك، لكن تضعيف الأجر في أمور لم يضعف للصحابة لا يلزم أن يكونوا أفضل من الصحابة، ولا يكون فاضلهم كفاضل الصحابة فإن الذي سبق إليه الصحابة من الإيمان والجهاد ومعاداة أهل الأرض في موالاة الرسول وطاعته فيما يخبر به ويوجبه قبل أن تنتشر دعوته، وتظهر كلمته، وتكثر أعوانه وأنصاره، وتنتشر دلائل نبوته، بل مع قلة المؤمنين وكثرة الكافرين والمنافقين، وإنفاق المؤمنين أموالهم في سبيل الله ابتغاء وجهه في مثل تلك الحال أمر ما بقى يحصل مثله لأحد.
59) جمهور مسائل الفقه التي يحتاج الناس إليها ويفتون بها ثابتة بالنص أو الإجماع، وإنما يقع الظن والنزاع في قليل مما يحتاج إليه، وهذا موجود في سائر العلوم.
60) العلم ما جاء به الدليل والنافع منه ما جاء به الرسول، وقد يكون علم من غير الرسول، لكن في أمور دنيوية مثل الطب والحساب والفلاحة والتجارة، وأما الأمور الإلهية فهذه العلم فيها ما أخذ عن الرسول، فالرسول أعلم الخلق بها وأرغبهم في تعريف الخلق بها وأقدرهم على بيانها وتعريفها، فهو فوق كل أحد في العلم والقدرة والإرادة، وهذه الثلاثة بها يتم المقصود، وغير الرسول لا يقاربه. في شيء من ذلك، وبيان الرسول على وجهين، تارة يبين الأدلة العقلية الدالة عليها والقرآن مملوء من ذلك وتارة يخبر بها خبرًا مجردًا.(3/341)
61) دل الكتاب والسنة وأقوال الصحابة أن السيئات تحبط الحسنات، كما أن الحسنات يذهبن السيئات. والحبوط نوعان: عام وخاص فالعام حبوط الحسنات كلها بالردة والسيئات كلها بالتوبة، والخاص حبوط السيئات والحسنات بعضها ببعض، وهذا حبوط مقيد جزئي.
62) وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، وكراماتهم ثمرة إيمانهم وتقواهم لا ثمرة الشرك والبدعة والفسق، وأكابر الأولياء إنما يستعملون هذه الكرامات بحجة للدين أو حاجة للمسلمين والمقتصدين قد يستعملونها في المباحات، وأما من استعان بها على المعاصي فهو ظالم لنفسه متعدٍ حدَّ ربه وإن كان سببها الإيمان والتقوى.
63) فكل عمل لا يراد به وجه الله فهو حابط باطل لا ينفع صاحبه وقت الحاجة إليه، فكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل لأن ما لم يرد به وجهه، إما أن لا ينفع بحال، وإما أن ينفع في الدنيا دون الآخرة فالأول ظاهر والثاني قد يحصل للإنسان في الدنيا لذات وسرور، وقد يُجزى بأعماله في الدنيا لكن تلك اللذات إذا كانت تعقب ضررًا أعظم منها أو تفوت أنفع منها وأبقى فهي باطلة أيضًا فثبت أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل وإن كان فيه لذة ما.
64) والله تعالى لم يأمر عباده لحاجته إلى خدمتهم ولا هو محتاج إلى أمرهم وإنما أمرهم إحسانًا منه ونعمة أنعم بها عليهم، فأمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم وإرسال الرسل وإنزال الكتب من أعظم نعمه على خلقه.(3/342)
65) ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة وجدها في غاية الإحكام والإتقان، وأنها مشتملة على التقديس لله عن كل نقص والإثبات لكل كمال وإنه تعالى ليس له كمال ينتظر بحيث يكون قبله ناقصًا بل من الكمال أنه يفعل ما يفعله بعد أن لم يكن فاعله وإنه إذا كان كاملاً بذاته وصفاته وأفعاله، لم يكن كاملاً بغيره ولا مفتقرًا إلى سواه، بل هو الغني ونحن الفقراء وهو سبحانه في محبته ورضاه ومقته وسخطه وفرحه وأسفه وصبره وعفوه ورأفته له الكمال الذي لا تدركه الخلائق وفوق الكمال، إذ كل كمال فمن كماله يستفاد، وله الثناء الحسن الذي لا يحصيه العباد، وإنما هو كما أثنى على نفسه له الغنى الذي لا يفتقر إلى سواه (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا( [مريم: 93 - 95].
66) يجب أن يعلم أن الكمال ثابت لله بل الثابت له أقصى ما يمكن من الأكملية بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى يستحقه بنفسه المقدسة وثبوث ذلك مستلزم نفي نقيضه، فثبوت الحياة يستلزم نفي الموت، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز وأن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية مع دلالة السمع على ذلك.
67) ودلالة القرآن على الأمور نوعان:
أحدهما: خبر الله الصادق، فما أخبر الله ورسوله به فهو حق كما أخبر الله به.
والثاني: دلالة القرآن بضرب الأمثال وبيان الأدلة العقلية الدالة على المطلوب فهذه دلالة شرعية عقلية، فهي شرعية لأن الشرع دل عليها وأرشد إليها. وعقلية لأنها تعلم صحتها بالعقل.(3/343)
وثبوت معنى الكمال لله قد دل عليه القرآن بعبارات متنوعة دالة على معاني متضمنة لهذا المعنى فما في القرآن من إثبات الحمد له وتفصيل محامده وأن له المثل الأعلى، وإثبات معاني أسمائه ونحو ذلك دال على هذا المعنى وقد ثبت لفظ الكامل في تفسير ابن عباس للصمد، أن الصمد المستحق للكمال وهو السيد الذي كمل في سؤدده والعليم الذي كمل في علمه والعظيم الذي قد كمل في عظمته، وهكذا سائر أسمائه الحسنى على هذا المنوال، وهذا المعنى هو المستقر في فطر الناس، فكما أنهم مفطورون على الإقرار بالخالق فإنهم مفطورون على أنه أجل وأكبر وأعلى وأعلم وأكمل من كل شيء.
68) ومن ثبوت الكمال لله بالعقل أنه قد ثبت وجوب وجوده وقيوميته وقدمه وسائر أوصافه وأن له المثل الأعلى، وبيان نقص ما عبد من دونه من المخلوقات وتفضيل حمده الذي يستحقه من صفات كماله وحمده الذي فيه الإحسان المتنوع على خلقه وعلى كمال حكمته وسعة علمه ورحمته وبيان كمال ألوهيته واستحقاقه الجلال والإكرام فله صفات الجلال والعظمة ويستحق من عباده أن يكون مألوهًا معظمًا أعظم من كل شيء وأحب إليهم من كل شيء تبارك وتعالى.
69) وإذا علم العبد من حيث الجملة أن لله فيما خلقه وما أمر به حكمة عظيمة كفاه ذلك ثم كلما ازداد علمًا وإيمانًا ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله ويتبين له تصديق ما أخبر الله به في كتابه حيث قال: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ( [فصلت: 53].(3/344)
70) والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها قلوبهم واحدة موالية لله ولرسوله ولعباده المؤمنين، معادية لأعداء الله ورسوله وأعداء الدين فما دام هذا وصفهم فقلوبهم الصادقة وأدعيتهم الخالصة هن العسكر الذي لا يغلب والجند الذي لا يخذل، فإنهم هم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل، كيف مكنهم الله وأيدهم وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء لما قاموا بذلك بما قاموا به من الدين، وليعتبر بسيرة من والى النصارى كيف أذله الله وكبته.
71) جعل الدين قسمين: أصولاً وفروعًا لم يكن معروفًا في الصحابة والتابعين ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين أن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم لا في الأصول ولا في الفروع، ولكن هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة، وأدخله في أصول الفقه من نقل ذلك عنهم، وكل مجتهد لا يأثم عند عامة الأئمة أبي حنيفة والشافعي وأحمد ومالك وغيرهم، والذين فرقوا بين الأصول والفروع لم يذكروا ضابطًا يعتمد عليه.
72) والسلف لم يذموا جنس الكلام فإن كل آدمي يتكلم ولا ذموا الاستدلال والنظر والجدل الذي أمر الله به ورسوله، والاستدلال بما بينه الله ورسوله، بل ولا ذموا كلامًا هو حق، بل ذموا الكلام الباطل وهو المخالف للكتاب والسنة، وهو المخالف للعقل أيضًا وهو الباطل.
73) الطرق الباطلة توصل إلى الجهل والضلال لمن اعتقد صحتها، وإلى الحيرة والشك لمن تبين له تناقضها من حذاق أهلها، وإلى اليقين لمن عرف الحق وسلكه بالطرق الصحيحة فإنه بمعرفته الباطل يزداد بصيرة بالحق، وبضدها تتبين الأشياء.
74) من ضيع الأصول حرم الوصول، والأصول إتباع ما جاء به الرسول.
75) والدليل يدل ويقوم على أن كلام الله صفة ذات وصفة فعل، صفة ذات يقوم بذات الرب والله متصف به، وصفة فعل يتكلم بمشيئته وقدرته متى شاء وحيث شاء أزلا وأبدًا.(3/345)
76) الفرق بين الرجاء وبين التمني أن التمني يكون مع الكسل ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد والرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل، فالأول كحال من يتمنى أن يكون له أرض يبذرها ويأخذ زرعها، والثاني كحال من يشق أرضه ويفلحها ويبذرها ويرجو طلوع الزرع، فمن عمل بطاعة الله ورجا ثوابه أو تاب من الذنوب ورجا مغفرته فهو الراجي، ومن رجا الرحمة والمغفرة بلا طاعة ولا توبة فهو متمني ورجاؤه كاذب، وللسالك إلى ربه نظران: نظر إلى نفسه وعيوبه وآفات عمله يفتح عليه باب الخوف، ونظر إلى سعة رحمة الله وفضله العام والخاص به يفتح عليه باب الرجا، وقال شيخ الإسلام: الخوف المحمود ما حجز العبد عن محارم الله.
77) ومراتب العلم والعمل ثلاثة: رواية وهي مجرد النقل وحمل المروى، ودراية وهي فهمه وتعقل معناه، ورعاية وهي العمل بموجب ما علمه.
78) مراقبة الرب علم العبد وتيقنه بإطلاع الحق على ظاهره وباطنه، فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه وتعالى رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله ومطلع على عمله كل وقت وكل لحظة ونفس وكل طرفة.
79) المعترضون على الله ثلاثة أقسام، معترضون على أسمائه وصفاته، ومعترضون على شرعه ودينه، ومعترضون على قضائه وقدره، ولا يتم للعبد دين وإيمان إلا بترك هذا الاعتراض والتسليم لحكمه الديني والقدري.
80) تعظيم حرمات الله ما يجب احترامه وحفظه من الحقوق والأشخاص والأزمنة والأماكن، فتعظيمها توفيتها حقها وحفظها عن الإضاعة.
81) حقيقة الإخلاص توحيد المطلوب، وحقيقة الصدق توحيد الطلب والإرداء ولا يثمران إلا بالاستسلام المحض للمتابعة، فهذه الأركان الثلاثة هي أصول الطريق التي من لم يبن عليها سيره، فهو مقطوع، ومن اجتمعت له فهو السابق الذي لا يجارى، وذلك فضل الله.
82) المطلوب من العبد الاستقامة على عبودية الله، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة، فإن نزل عنها فالتفريط والإضاعة.(3/346)
83) ولا يتم التوكل الكامل إلا بمعرفة الله وصفاته وأفعاله وإثبات الأسباب والاجتهاد فيها، وقوة الاعتماد على الله والاستناد إليه والسكون، بحيث لا يبقى القلب مضطربًا من تشويش الأسباب، ولا بد من حسن الظن والثقة بالله في نيل ما توكل العبد على الله فيه، والتفويض إلى الله واستسلام القلب له، ويتوكل على الله في كل مطلوب حصوله أو دفع مكروه، وأفضل التوكل ما كان في حصول خير ديني خاص أو عام.
84) الصبر ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر على معصية الله، وصبر على امتحان الله، فالأول صبر على ما يتعلق بالكسب، والثالث صبر على ما لا كسب للعبد فيه، وصبر الاختيار أكمل من صبر الاضطرار، وتمام الصبر أن يكون كما قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ( [الرعد: 22]. وأقواه أن يكون بالله معتمدًا فيه عليه لا على نفسه ولا على غيره من الخلق.
سمعت شيخ الإسلام يقول: الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه.
85) قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً»، وقال: «من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا غفرت له ذنوبه». وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين وإليهما ينتهي، وقد تضمنها الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته، والرضا برسوله والرضا بدينه والتسليم له، ومن اجتمعت له فهو الصديق حقًا.
86) من أراد أن يحصل له الرضا عن الله الذي هو من أفضل الدرجات فليلزم ما جعل الله رضاه فيه، فإنه يوصله إلى مقام الرضا.(3/347)
87) والله تعالى أخبر أنه ينصر رسله في الحياة الدنيا وفي الآخرة والله سبحانه يجزي الإنسان من جنس عمله، فالجزاء من جنس العمل، فمن خالف الرسل عوقب بمثل ذنبه وأرى عباده ذلك عيانًا، وإذا ظهرت البدع التي تخالف الرسل انتقم الله ممن خالف الرسل وانتصر لرسله.
88) والإيمان بالرسول والجهاد عن دينه سبب لخير الدنيا والآخرة وبالعكس البدع والإلحاد ومخالفة ما جاء به سبب لشر الدنيا والآخرة.
89) التوحيد وتصديق الرسل جماع الإيمان، والشرك وتكذيب الرسل جماع الكفر.
90) فمن دفع النصوص التي يحتج بها غيره لم يؤمن بها بل آمن بما يحتج هو به صار ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض.
91) وإذا ترك الناس بعض ما أنزل الله وقعت بينهم العداوة والبغضاء إذ لم يبق هنا جامع يشتركون فيه، بل تقطعوا أمرهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون.
92) ودين الأنبياء كلهم الإسلام وهو الاستسلام لله وحده، وذلك إنما يكون بطاعته فيما أمر به في ذلك الوقت، فطاعة كل نبي هي من دين الإسلام إذ ذاك، وكل مبتدع خالف سنة الرسول لا يتبع إلا دينًا مبدلا أو منسوخًا.
انتهى ما اخترناه مما جمعه شيخنا عبد الرحمن الناصر السعدي من كُتب شيخ الإسلام رحمهما الله وصلى الله على محمد وآله وسلم
فوائد ومواعظ وحكم وأحكام
قال بعض العلماء:-
(1) أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا منك عنها ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خيراً لك من أن تصحب عالمًا يرضى عن نفسه، فأي علم لعالم يرضى عن نفسه، وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه.
(2) لا تستغرب وقوع الأكدار، ما دمت في هذه الدار، فإنها ما أبرزت إلا ما هو مستحق وصفها وواجب نعتها.(3/348)
(3) لا يكن تأخر العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجبًا ليأسك فهو ضمن لك الإجابة فيما يختاره لك، لا فيما تختار لنفسك، وفي الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريده، قال تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ( [البقرة: 216].
(4) إحالتك الأعمال إلى وجود الفراغ من رعونات النفس.
(5) لا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله.
(6) من علامات موت القلب، عدم الحزن على ما فاتك من الطاعات، وترك الندم على ما فعلته من المعاصي والزلات.
(7) لا تترك ذكر الله لعدم حضور قلبك لمعاني الذكر، لأن غفلتك عن وجود ذكر الله أشد من غفلتك مع وجود ذكره وأسأله أن يوقظ قلبك ويوفقك لحضوره، وفهم ما تلفظ من ذكره.
(8) لا يعظم الذنب عندك عظمة تصدك عن حسن الظن بالله وتوقعك في القنوط من رحمته فإن من عرف ربه وكرمه وجوده استصغر في جنب كرمه وعفوه ذنبه. وقال الله جل وعلا: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً( [الزمر: 53].
(9) لا صغيرة إذا قابلك عدله ولا كبيرة إذا واجهك جوده وكرمه وفضله. وبعبارة أخرى لا كبيرة مع التوبة والندم والاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار وعدم التوبة والاستغفار.
(10) من لم يشكر الله على ما تفضل به من النعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالها ووعد بالمزيد.
(11) خَفْ من وجود إحسان الله إليك مع وجود إساءتك معه، أن يكون ذالك استدراجًا. قال تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ( [الأعراف: 182].
(12) الرجاء ما قارنه عمل، وإلا فهو أمنية إنما يؤلمك المنع لعدم فهمك عن الله فيه.(3/349)
(13) متى أعطاك فقد أشهدك بره وإحسانه، ومتى منعك أشهدك حكمته وقهره، فهو في كل ذلك متعرف إليك ومقبل بوجود لطفه عليك.
(14) نعمتان ما خرج موجود عنهما، ولا بد بكل مكون منهما، نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد أنعم عليك أولاً بالإيجاد وثانيًا بتوالي الإمداد.
(15) خير أوقاتك وقت تعمل فيه بطاعة الله وتشهد فيه وجود فاقتك إلى رضا الله وعفوه وإحسانه.
(16) لا تطالب بتأخر مطلبك، ولكن طالب نفسك بتأخر أدبك، فهل أديت الواجبات وتركت المحرمات.
(17) لا يخاف عليك من التباس الطرق، وإنما يخاف عليك من غلبة الهوى والنفس والشيطان والدنيا.
(18) الغافل إذا أصبح ينظر في أمور دنياه ماذا يفعل، والعاقل الموفق ينظر ماذا أوجب الله عليه فيعمله، ويحفظ وقته من الضياع فيما لا يعود إلى أمور الآخرة، وما يحتاج إليه في دنياه.
(19) الستر على قسمين ستر عن المعصية وستر فيها، فالعامة يطلبون من الله الستر فيها خشية سقوط مرتبتهم عند الخلق، والخاصة يطلبون من الله الستر عنها خشية سقوطهم من نظر الله.
(20) الناس الذي يمدحونك إما كذب وإما لما يظنونه فيك فكن ذامًا لنفسك لما تعلمه منها. قال تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ( [النجم: 32]. وقال (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ( [يوسف: 53].
(21) المؤمن العاقل الموفق إذا مدح استحيا من الله أن يثنى عليه بوصف لا يعلمه من نفسه.
(22) من أجهل الناس من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس. إذا وقع منك ذنب فلا يكن سببًا ليأسك من حصول الاستقامة فقد يكون ذلك آخر ذنب قدر عليك.
(23) حظ النفس في المعصية ظاهر جلي وحظها في الطاعة باطن خفي، ومداواة ما يخفى صعب علاجه.
(24) استشرافك أن يعلم الخلق بأعمالك دليل على عدم صدقك في عبوديتك وأنك عندك رياء فانتبه من عرف الله حقيقة ورأى نعمه عليه - وإن نعمه جل وعلا لا تحصى - ولا تعد أحبه ولم يؤثر عليه شيئًا.(3/350)
(25) إذا التبس عليك أمران فانظر أثقلهما على النفس فإنه لا يثقل عليها إلا ما كان حقًا.
(26) من علامات إتباع الهوى والنفس الأمارة بالسوء المسارعة إلى النوافل والتكاسل عن القيام بالواجبات.
(27) من لم يعرف النعم بوجدانها عرفها بوجود فقدانها.
(28) لا تدهشك واردات النعم عن القيام بحقوق شكرها فإن ذلك مما يحط من وجود قدرك.
(29) تمكن حلاوة الهوى من القلب هو الداء العضال.
(30) لا يخرج الشهوة من القلب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق.
(31) لا تستبطئ من النوال ولكن استبطئ من نفسك وجود الإقبال.
(32) ما فات من عمرك لا عوض له وما حصل لك منه لا قيمة له.
(33) الرب جل وعلا لا تنفعه طاعتك ولا تضره معصيتك وإنما أمرك بهذه ونهاك عن هذه لما يعود عليك.
(34) الرب جل وعلا لا يزيد في عزه إقبال من أقبل عليه ولا ينقص من عزه إذبار من أدبر عنه.
(35) من تمام النعمة عليك أن يرزقك الله ما يكفيك ويمنعك ما يطغيك.
(36) إن أردت ألا تعزل فلا تتولى ولاية لا تدوم لك.
(37) خير العلم ما كانت خشية الله معه.
(38) إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده (مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا( [هود: 56].
(39) من أثبت لنفسه تواضعًا فهو متكبر إذ ليس التواضع إلا عن رفعة.
(40) ليس المتواضع الذي إذا تواضع رأى أنه فوق ما صنع ولكن المتواضع الذي إذا تواضع رأى أنه دون ما صنع.
(41) المؤمن يشغله الثناء على الله عن أن يكون لنفسه شاكرًا وتشغله حقوق الله عن أن يكون لحظوظه ذاكرا.
(42) الآيات القرآنية التي يفهم منها بعض الناس التعارض يجب حمل كل نوع منها على ما يليق ويناسب المقام.(3/351)
من ذلك الإخبار في بعض الآيات أن الكفار لا ينطقون ولا يتكلمون في يوم القيامة، وفي بعض الآيات أنهم ينطقون ويحاجون ويعتذرون، ثم إذا ختم على أفواههم، تكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون ثم يخرسوا فلم ينطقوا قال الله جل وعلا: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ( [المرسلات: 36].
(43) ومن ذلك أن الله جل وعلا أخبر أنه لا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة، وأثبت الكلام لهم معه، فالنفي المراد به الكلام الذي يسرهم، وكذلك النظر والإثبات واقع على الكلام الواقع بين الله وبينهم على وجه التوبيخ لهم والتقريع، فالنفي يدل على أن الله ساخط عليهم، والإثبات يوضح أحوالهم ويبين للعباد كمال عدل الله بهم إذ هو يضع العقوبة موضعها.
(44) ونظير ذلك أنه في بعض الآيات أخبر أنه لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان وفي بعض الآيات أنه جل وعلا يسألهم، قال تعالى: (ماذا كنتم تعبدون( وقال تعالى: (ماذا أجبتم المرسلين( [فالسؤال المنفي سؤال الاستعلام والاستفهام عن الأمور المجهولة، فإنه لا حاجة إلى سؤالهم مع كمال علم الله وإطلاعه قال تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا( [الطلاق: 12]. والسؤال المثبت واقع على تقريرهم بأعمالهم وتوبيخهم وبيان أن الله حكم فيهم بعدله وحكمته.
(45) ومن ذلك الإخبار أنه لا أنساب بين الناس يوم القيامة وفي آيات أخرى أثبت لهم ذلك فالمثبت هو الأمر الواقع والنسب الحاصل بين الناس كقوله (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ( [عبس: 34 - 35]. والمنفي هو الانتفاع بها فإن الكفار يدعون أن أنسابهم تنفعهم يوم القيامة فأخبر تعالى أن لا ينفع مال ولا بنون (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ( [الشعراء: 89].(3/352)
(46) ومن ذلك الشفاعة فإنه أثبتها في عدة مواضع ونفاها في مواضع من القرآن وقيدها في بعض المواضع بإذن ولمن ارتضى من خلقه فتعين حمل المطلق على المقيد وأنها حيث نفيت فهي الشفاعة التي بغير إذنه ولغير من رضي الله قوله وعمله وحيث أثبتت فهي الشفاعة التي بإذنه لمن رضي الله عنه وأذن فيه.
(47) ومن ذلك أن الله جل وعلا أخبر في آيات كثيرة أنه لا يهدي القوم الكافرين والفاسقين والظالمين وفي آيات أخرى أنه يهديهم ويوفقهم فتعين حمل المنفيات على من حقت عليه كلمة الله. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ( [يونس: 96 - 97]. وحمل المثبتات على من لم تحق عليهم الكلمة وإنما حقت عليهم كلمة الله بالعذاب والطرد والإبعاد على من ارتكسوا في حمأة التقليد وغرقوا في بحر الغفلة وأبوا أن يستجيبوا لداعي آيات الله الكونية والعلمية. قال الله جل وعلا: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ( [الصف: 5]. (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى( [محمد: 17]. وهذا هو الحق الذي لا ريب فيه.
(48) ومن ذلك الإخبار في بعض الآيات أنه العلي الأعلى. قال تعالى: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ( [البقرة: 255]. وقال تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى( [طه: 5]. وقال: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ( [غافر: 15]. وقال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ( [الأنعام: : 18].
وفي آيات أخرى أخبر أنه مع العبد.(3/353)
قال تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ( [الحديد: 4] وقال تعالى: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ( [النحل: 128]. وقال: (وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ( [البقرة: 249]. فعلوه سبحانه أمر ثابت له وهو من لوازم ذاته ودنوه ومعيته لعباده لأنه أقرب إلى كل أحد من حبل الوريد فهو سبحانه على عرشه عليٌ على خلقه ومع ذلك فهو معهم في كل أحوالهم ولا منافاة بين الأمرين لأن الله جل وعلا: ليس كمثله شيء في جميع نعوته وما يتوهم بخلاف ذلك فإنه في حق المخلوقين قال ابن القيم رحمه الله:
وَلَهُ العُلو من الوُجُوه جَمِيعَهَا ... ذاتًا وَقَدرًا مَعْ عُلُو الشَّانِ
والمعية تنقسم قسمين: عامة تأتي في سياق التخويف والتحذير والتراغيب والترهيب وتقدمت الآيات للعامة والخاصة والمعية الخاصة بالمحسنين والمتقين والصابرين والصادقين ونحوهم وهذه تتضمن محبتهم وتوفيقهم وكلاءتهم وإعانتهم فحيث وقعت في سياق التحذير والتخويف والترهيب فهي من النوع الأول.(3/354)
(49) ومن ذلك النهي في كثير من الآيات عن موالات الكفار وعن موادتهم وفي بعض الآيات الأمر بالإحسان إلى من له حق على الإنسان منهم ومصاحبته بالمعروف كالوالدين والجار ونحوهم فالآيات العامة من الطرفين قد وضحها الله في قوله (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( [الممتحنة: 8]. (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ( [الممتحنة: 9]. فالنهي واقع على التولي والأمر بالإحسان والبر واقع على الإحسان لأجل القرابة والجيرة، ومن ذلك أنه أخبر أنه خلق الأرض ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، وفي آية أخرى لما أخبر عن خلق السموات أخبر أن الأرض بعد ذلك دحاها، فهذه الآية تفسر المراد وأن خلق الأرض متقدم على السموات ثم بعد خلق السموات دحا الأرض فأودع فيها جميع المصالح التي يحتاج إليها سكانها.
(50) ومن ذلك أنه تعالى أخبر أنه بكل شيء عليم وأخبر تارة بتعلق علمه ببعض أعمال العباد وبعض أحوالهم وهذا الأخير فيه زيادة معنى وهو يدل على المجازات على ذلك العمل سواء كان خيرًا أو شرًا فيتضمن مع إحاطة علمه الترغيب والترهيب.(3/355)
(51) مبنى الدين على قاعدتين الذكر والشكر وليس المراد بالذكر مجرد ذكر اللسان بل الذكر القلبي واللساني وذلك يستلزم معرفته والإيمان به وبصفات كماله ونعوت جلاله والثناء عليه بأنواع المدح وذلك لا يتم إلا بتوحيده فذكره الحقيقي يستلزم ذلك كله ويستلزم ذكر نعمه وآلائه وإحسانه إلى خلقه. وأما الشكر فهو القيام بطاعته فذكره جل وعلا مستلزم لمعرفته وشكره متضمن لطاعته وهذان هما الغاية التي خلق لأجلها الجن والإنس.
قال أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال من عبادة المغترين وهذا من جواهر الكلام وأدله على كمال فقه الصحابة وتقدمهم على من بعدهم في كل خير رضي الله عنهم.
(52) لا شيء أفسد للأعمال من العجب ورؤية النفس ولا شيء أصلح لها من شهود العبد منة الله وتوفيقه والاستعانة به والافتقار إليه وإخلاص العمل له.
(53) أصول المعاصي كلها كبارها وصغارها ثلاثة تعلق القلب بغير الله، وطاعة القوة الغضبية، والقوة الشهوانية، وهي الشرك، والظلم والفواحش فغاية التعلق بغير الله شرك، وغاية القوة الغضبية القتل، وغاية القوة الشهوانية الزنا، ولهذا جمع الله الثلاثة في قوله: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ( [الفرقان: 68].
(54) هجر القرآن أنواع، هجر سماعه والإيمان به وهجر العمل به وهجر تحكيمة وهجر تدبره وهجر الاستشفاء به في أمراض القلوب والأبدان وكل هذا داخل في قول الله تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً( [الفرقان: 30].
(55) للقلب ستة مواطن يجول فيها ثلاثة سافلة دنيا تتزين له، ونفس تحدثه، وعدو يوسوس له وثلاثة عالية، علم يبين له، وعقل يرشده ورب يعبده، والقلوب جوالة في هذه المواطن.(3/356)
(56) إنما يجد المشقة في ترك المألوفات من تركها لغير الله فأما من تركها صادقًا مخلصًا من قلبه، فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة، ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب، فإن صبر على ترك المشقة استحالت لذة، من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، والعوض أنواع مختلفة وأجل ما يعوض به الأنس بالله ومحبته وطمأنينة القلب به وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه.
(57) العبد يترقى من معرفة أفعال الله إلى الصفات ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات فإذا شاهد شيئًا من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال وستر بنعوت العظمة والجلال ولهذا كان له الحمد كله من جميع الوجوه.
(58) أنفع الناس لك من نفعك في دينك وحذرك من قطع وقتك في غير طاعة الله.
(59) للعبد موقفان بين يدي الله موقف بين يديه في الصلاة وموقف بين يديه يوم لقائه فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه شدد عليه ذلك الموقف.
(60) العارف لا يأمر الناس بترك الدنيا فإنهم لا يقدرون على تركها ولكن يأمرهم بأن لا يصرفوا كل أوقاتهم في طلبها، ويجعلوا جل أوقاتهم للآخرة فيما يقربهم إلى الله ويأمرهم بترك الذنوب مع إقامتهم على ما يحصل لهم به الكفاف من طلب المعاش، فإن صعب عليهم ترك الذنوب فليجتهد في أن يحبب إليهم ربهم الذي رباهم وربى جميع العالمين بنعمه، ويذكرهم بآلائه وصفات كماله، فإن القلوب مفطورة على محبته، فإذا تعلقت بحبه هان عليها ترك الذنوب والإقلال منها.(3/357)
(61) الإيمان له ظاهر وباطن فظاهره قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له، ولا يجزي باطن لا ظاهر له، إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه أو خوف هلاك، فتخلف العمل ظاهرًا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان، ونقصه دليل نقصه وقوته دليل قوته فالإيمان قلب الإسلام ولبه، واليقين قلب الإيمان ولبه، وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول.
(62) جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين تقوى الله وحسن الخلق لأن تقوى الله يصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته، وجمع - صلى الله عليه وسلم - بين الاستعاذة من المأثم والمغرم، لأن المأثم يوجب خسارة الآخرة، والمغرم يوجب خسارة الدنيا وجمع - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «فاتقوا الله وأجملوا الطلب» بين مصالح الدنيا والآخرة، فإن من اتقى الله أدرك نعيم الآخرة، ومن أجمل في الطلب استراح من نكد الدنيا وهمومها.
قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك في الاعتقادات والإرادات فإذا كان القلب ممتلئًا بالباطل اعتقادًا ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع كما أن اللسان إذا اشتغل بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا أفرغ لسانه من النطق بالباطل وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكنها شغلها بالطاعة إلا إذا أفرغها من ضدها. انتهى.
"مواعظ وفوائد"
ما أقبح الغفلة عن طاعة من لا يغفل عن برك وعن ذكر من أمرك بذكره.
قال أبو حازم: يسير الدنيا يشغل عن كثير الآخرة، وقال: ما أحببت أن يكون معك في الآخرة فقدمه اليوم، وما كرهت أن يكون معك في الآخرة فاتركه اليوم.(3/358)
وقال بعضهم يوصي ابنه: إنه من قنع بما قسم الله له استغنى، ومن داخل السفهاء حقر، ومن خالط العلماء وقر.
ومن دخل مداخل السوء اتُهم، يا بني قل الحق لك أو عليك، وإياك والنميمة فإنها تزرع الشحناء.
وعنه رضي الله عنه أنه قال: من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات ومن أشفق من النار انتهى عن الشهوات ومن تيقن بالموت انهدمت عليه اللذات ومن عرف الدنيا هانت عليه المصيبات.
وقال: بديل العقيلي من أراد بعمله وجه الله عز وجل أقبل الله عليه بوجهه وأقبل بقلوب العباد إليه، ومن عمل لغير الله عز وجل صرف الله عز وجل عنه وجهه وصرف قلوب العباد عنه.
وقال محمد بن واسع: إذا أقبل العبد بقلبه إلى الله عز وجل أقبل الله عز وجل إليه بقلوب المؤمنين.
نصائح وفوائد وحكم وقواعد ومواعظ وأحكام
7- بادر بالعمل الصالح الذي يرضي الله مهما أمكنك فإن الأجل يأتي بغتة، فكن على أهبة الاستعداد له.
8- تلاوة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتفهمهما، ومطالعة كتب السلف وسيرتهم منفعة في الدنيا والآخرة ومسلاة عن الهموم والأحزان والمنغصات والمكدرات.
9- العطف والتودد إلى عباد الله المستقيمين على اتباع الكتب والسنة من علامات رجاحة العقل.
10- أمسك لسانك عن ما يضرك يسلم بدنك وجنانك وأشغله بتلاوة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
11- إن قدرت أن لا تسمع أذنك إلا ما ينفعك في الدنيا والآخرة من كلام الله وكلام رسوله أو ما هو مستمد منهما فلا تدخر واجتهد في ذلك.
اجعل جليسك قرآنًا تَفْهَمَهُ ... وَمَا أَتَى عن رسول الله من كَلِم
واتْرُكْ مَجَالِِسَ قَوْم لَيْسَ عِندهُم ... سِوَى المآثِمِ مِنْ قولٍ وَمِن كَلِمِ(3/359)
قال بعض العلماء على سبيل النصح والإرشاد: يا هذا إنما خلقت الدنيا لتجوزها لا لتحوزها ولتعبرها لا لتعمرها فاقتل هواك المائل إليها ولا تعول عليها واعلم أن الدنيا مزرعة النوائب ومشرعة المصائب ومفرقة المجامع ومجرية المدامع.
نَبْكِي عَلَى الدُّنْيَا وَمَا مِنْ مَعْشِرٍ ... جَمَعَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَم يَتَفَرَّقُوا
أين الأَكَاسِرَةُ الجَبَابِرةُ الأَوْلى ... كَنَزوا الكنُوزَ فَمَا بَقينَ وَلا بَقُوا
مِنْ كُل مَن ضَاقََ الفضاءُ بِجَيشِهِ ... حَتَّى ثوى فَحواهُ لِحْدٌ ضَيِّقُ
خُرُسٌ إذَا نُودُوْا كَأَنْ لَم يَفْهَمُوا ... أَنَّ الكلامَ لَهُم حَلالٌ مُطْلَقُ
فَالموتُ آتٍ وَالنُفوسُ نَفََائِسٌ ... وَالمُسْتَغِر بِمَا لَدَيْهِ الأَحْمَقُ
وقال بعض العلماء من تفرد بالعلم لم توحشه الخلوة ومن تسلى بالكتب لم تفته سلوة وإن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة.
والحكمة موقظة للقلوب من سنة الغفلة ومنقذة للبصائر من سنة الحيرة ومحيية لها بإذن الله من موت الجهالة ومستخرجة لها من ضيق الضلالة لمن وفقه الله تعالى. والله أعلم وصلى الله على محمد.
12- روضة العلم النافع وهو ما جاء من الكتاب والسنة أحسن روضة وأنفع روضة وأرفع روضة.
13- الفكر في المعاد ينسي أمور العباد ويحث على الاستعداد والتأهب ليوم المعاد فعليك به.
14- حسن التدبير مع الكفاف خير من التبذير مع اليسار، قال الله جل وعلا: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً( [الإسراء: 29]. وقال تبارك وتعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ( [الإسراء: 27]. وقال جل وعلا وتقدس: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً( [الفرقان: 67].(3/360)
بَيْنَ تَبْذيرٍ وَبُخْلٍ رُتْبَةٌ ... وَكِلا هَذَيْنِ إِنْ زَادَ قَتَلْ
15- أشرف الأوقات التي يعمرها الإنسان ما تقضي بطاعة الله، ومن أراد حفظ أوقات عمره فليجعل كلامه ذكرًا وصمته تفكرًا ونظره عبرة وعمله برًا وذهابه وإيابه فيما يرضي الله.
16- وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه من جمع ست خصال لم يدع للجنة مطلبا، من عرف الله فأطاعه، وعرف الشيطان فعصاه، وعرف الحق فاتبعه، وعرف الباطل فاتقاه وعرف الدنيا فرفضها وعرف الآخرة فطلبها، لما عرف القوم قدر الحياة أما توافيها الهوى فعاشوا فانتهبوا بأكف الجد ما نثر في زمن البطالة.
وَرَكبٌ سَرَوا وَالليل مُلقِ رُوَاقُه ... عَلََى كُلِّ مُغْبَرِ الطَّوالعِ قَاتِمُ
حَدَوا عَزَماتٍ ضَاقَت الأَرضُ بَيْنها ... فَصَارَ سُرَاهُم في ظُهُورَ العَزَائمِ
تُرِيْهم نُجُومُ اللَّيلِ مَا يَبْتَغُونَهُ ... عَلَى عَاتِقِ الشِّعْرى وَهَامِ النَّعَائِمِ
إِذَا طَردُوُا في مَعْرك الجَدِّ قَصَّفُوا ... رِمَاحَ العَطَايا في صُدُورِ المَكَارِمِ
اللهم اعطنا من الخير فوق ما نرجو واصرف عنا من السوء فوق ما نحذر. اللهم علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللهم إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجاتنا فاقضها كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا يا رب العالمين اللهم وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/361)
17- قال بعضهم بعظ أخاه في الله ويخوفه في الله فقال: يا أخي إن الدنيا دحض مزلة، ودار مذلة عمرانها إلى خراب صائر وعامرها إلى القبور زائر، شملها على الفرقة موقوف، وغناها إلى الفقر مصروف الإكثار فيها إعسار، والإعسار فيها يسار، فافزع إلى الله وارض برزق الله، لا تتسلف من دار فنائك إلى دار بقائك، فإن عيشك في الدنيا فيء زائل وجدار مائل فأكثر من عملك واقلل من أملك. وأكثر من ذكر الله والاستغفار.
18- وقال آخر: العقلاء ثلاثة من ترك الدنيا قبل أن تتركه وبنى قبره قبل أن يسكنه، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه واستعد للموت قبل أن يصله. وأكثر من ذكر الله وحمده وشكره.
19- وقال لقمان لابنه يا بني إنك استدبرت الدنيا من يوم نزلتها واستقبلت الآخرة فأنت إلى دار تقرب منها أقرب من دار تباعدت منها.
20- وقال آخر: الدنيا جيفة فمن أراد منها شيئًا فليصبر على معاشرة الكلاب ونحوها.
وقال الشافعي:
وَمَا هي إلا جيفَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ ... عَليها كِلابٌ هَمُّهنَّ إِجِتِذابُها
آخر:
أيها المُغْتَرُ بِالدُّنْيَا كَم خَدعَتْ ... مَا وَاصَل وَصْلِها مُحبٌّ إِلا قطَّّعت
يَا مُحِبَّ الدُّنْيَا الغَرُوْر اغْتِرارًا ... رَاكِبًا في طِلابِهَا الأَخْطَارَا
يَبْتغي وَصْلَهَا فَتَأبَى عَلِيهِ ... وَترى أُنْسَهُ فَتُبْدِي نِفَارَا
خَابَ مَنْ يَبْتَغِي الوصَالَ لَدَيهَا ... جَارَةٌ لَمْ تَزَلْ تُسِيء الجِوَارَا
كَم مُحِب أَرَتْهُ أُنْسًا فَلَّمَا ... حَاوَلَ الزَّوْر صَيَّرَتْهُ ازْوِرَارَا
شِيْبَ حُلْوُ اللَّذَاتِ مِنْهَا بِمُرِّ ... إِنْ حَلَتْ مَرَّةٌ أَمَرَّتْ مِرَارًا
فِي اكْتِسَابِ الحَلالِ مِنْهَا حِسَابٌ ... وَاكْتِسَابِ الحرامِ يُصْلي النَّارَا
وَلِبَاغِي الأَوْطَارِ مِنْهَا عَناءٌ ... سَوْفَ يَقْضِي وَمَا قَضَى الأَوْطَارَا
كُلُّ لَذَّاتِهَا مُنَغَصَةُ العَيْشِ ... وَأَرْبَاحُهَا تَعُودُ خُسَارَا(3/362)
وَلَيالي الهُمُومِ فِيْهَا طِوَالٌ ... وَلَيَالِي السُّرُورِ تمضي قِصَارَا
وَكَفَى أَنَّهَا تَظُنُ وإنْ جَادَتْ ... بِنَزْرٍ أَفْنَتْ بِهِ الأَعْمَارَا
وَإِذَا مَا سَقَتْ خُمُورَ الأَمَانِي ... صَيَّرَتْ بَعْدَها المَنَايَا خِمارَا
كَم مَلِيْكٍ مُسَلَّطٍ ذَلَّلتْهُ ... بَعْدَ عِزٍّ فَمَا أَطَاقَ انْتِصَارَا
وَنَعيمٍ قَدْ أَعْقَبَتْهُ بُؤوسٌ ... وَمَغَانٍ قَدْ غَادَرَتْهَا قِفَارَا
أَيُّهَا المُسْتَعِيرُ مِنْهَا مَتَاعًا ... عَنْ قَليلِ تَسْترجِّعُ المُستَعَارَا
عُدِّ عَنْ وَصْلَ مَنْ يُعْيرُكَ مَا ... يَفْْنَى وَيَبْقى إِثمًا وَيَكْسَبُ عَارَا
قَدْ أَرَتْكَ الأَمْثَالُ فِي سَالِفِِِ الدَّ ... هْرِ وَمَا قَدْ أَرَتْكَ فِيكَ اعْتِبَارًا
اللهم نجنا برحمتك من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك الجنة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
21- قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه بنيت الفتنة على ثلاث، النساء وهن فخ إبليس المنصوب، والشراب وهو سيفه المرهف، والدينار والدرهم وهما سهماه المسمومان، فمن مال إلى النساء لم يصف له عيشه، ومن أحب الشراب لم يمتع بعقله، ومن أحب الدرهم والدينار كان عبدًا لهما.
شعراً:
تَفَكَّرْتُ فِي الدُّنْيَا فَأَبْصَرتُ رُشدها ... وَذَلَّلتُ بِالتَّقَوى مِن اللهِ حَدَّها
أَسَأْتُ بِهَا ظَنًّا فَأَخْلَفْتُ وَعْدَهَا ... وَأَصْبَحْتُ مَوْلاهَا وَقَدْ كُنْتُ عَبْدَهَا
آخر:
سُرُورُ الوَقْتِ مَقْرُونٌ بِحُزنٍ ... فَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذرٍ شَدِيْدِ
فَفِي يُمْنَاهُ تَاجٌ مِنْ نِضَارٍ ... وَفِي يُسْراهُ قَيْدٌ مِنْ حَدِيْدِ(3/363)
26- ألأم الخلق وأخسهم وأرذلهم وأكفرهم للإحسان والمعروف من نسي الله جل وعلا واستهان بأوامره واقتحم نواهيه ولم يبال بعلمه به وإطلاعه عليه وقدرته عليه نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
27- ثلاثة من أقل الأشياء ولا يزددن إلا قلة، درهم حلال تنفقه في طاعة الله وأخ مستقيم على إتباع الكتاب والسنة تأنس به وتسكن إليه وأمين مخلص تطمئن إليه وتستريح إلى الثقة به.
قُلْ لَمَنْ فَاخَرَ بِالدُّنْيَا وَحَامَى ... قَتَلََتْ قَبْلَكَ سَامَا وَحَامَا
نَدْفُنُ الخِلَّ وما في دَفْنِنَا ... بَعْدَهُ شَكٌّ وَلَكِنْ نَتَعَامَى
إِنَّ قُدَّامَكَ يَومًا لَوْ بِهِ ... هُدَّدَتْ شَمْسُ الضُّحَى عادَتْ ظَلامَا
فَانْتَبِهْ مِنْ رَقْدَةِ اللَّهْوِ وَقُمْ ... وَانْفِ عَنْ عَيْنِ تَمَادِيْكَ المَنَامَا
صَاحِ صَحْ بالقَبْرِ يُخْبركَ بِمَا ... قَدْ حَوَى وَاقْرأ عَلَى القَوْمِ السَلامَا
فَالعَظِيْمُ القَدْرِ لَوْ شَاهَدْتَهُ ... لَمْ تَجِدْ فِي قَبْرِه إِلا العِظَامَا
اللهم وفقنا لصالح الأعمال وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
28- روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال يؤتي بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء زرقا، أنيابها بادية مشوهة الخلقة لا يراها أحد إلا كرهها فتشرف على الخلائق فيقال لهم أتعرفون هذه فيقال لهم هذه التي تفاخرتم وتحاربتم عليها ثم يؤمر بها إلى النار فتقول يا رب أين أتباعي وأصحابي وأحبابي فيلحقونها. ووجه إلقائها في النار لينظر إليها أهلها فيرون هوانها على الله جل وعلا.(3/364)
29- وذكر في الخبر عن عيسى عليه السلام أنه كان ذات يوم ماشيًا إذ نظر إلى امرأة عليها من كل زينة فذهب ليغطي وجهه عنها فقالت اكشف عن وجهك فلست بامرأة أنا الدنيا، فقال لها ألك زوج فقالت لي أزواج كثير فقال أكل طلقك أم كلاً قتلت فقالت بل كلاً قتلت فقال حزنت على أحد منهم فقالت هم يحزنون علي ولا أحزن عليهم ويبكون علي ولا أبكي عليهم.
يُسِيء امْرُؤ مِنَّا فَيُبْغَضُ دَائِمًا ... وَدُنْيَاكَ مَا زَالَتْ تُسيء وَتُومَقُ
أَسَر هَواهَا الشَّيْخُ وَالكَهْلُ وَالفَتَى ... بِجَهْلٍ فَمِنْ النَّواظِرِ تُرْمَقُ
وَمَا هِي أَهْلٌ أَنْ يُؤهَّلَ مِثْلها ... لِود وَلَكِنْ ابن آدم أَحْمَقُ
آخر: مثل الدنيا وانخداع الجهال والحمقى بها كمثل الصبي في المهد ترضعه أمه وتسدل عليه ذالك الغطاء وتهدهده وتغني له حتى ينام فكذلك الدنيا ترضعه حلاوتها ولذاتها وتغطي عليه الهوى وتتابع عليه الأماني وتطول له في الأمل حتى ينام عن الآخرة فكلما ازداد أمله طولاً كان أثقل نومًا ثم سقته شربه في نومه من ذلك السم النافع وهو حب الدنيا ففي ذلك هلاكه ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حبك الشيء يعمي ويصم». فما ظنك بمن أعماه وأصمه حب الدنيا عن الله تعالى وقال آخر: كم تنذر الدنيا وما تسمع وكم تؤنس محبها من وصلها ويطمع فالعجب من ذكي فطن غره سراب يلمع.
شعر:
خَسِسْتِ يَا دَارُ دُنْيَانَا وَرُبَّما ... يَرْضَى الخَسِيسَةَ أَوباشٌ أَخسَّاءُ
إِذَا تَعَطَّفْتِ يَوْمًا كُنْتِ قاسيةً ... وَإِن نَظَرْتِ بِعَيْنٍ فَهِي شَوْسَاءُ
وَقَدْ نَطَقْتِ بِأَصْنَافِ العِظَاتِ لَنَا ... وَأَنْتِ فِيْمَا يَرَاكِ النَّاسُ خَرْسَاءُ
أَيْن الملوكُ وَأَبْنَاءُ المُلُوكِ وَمَنْ ... كَانَتْ لَهُم عِزَّةً في المُلْكِ قَعْسَاءُ
نَالُوا يَسِيْرًا مِنْ اللَّذَاتِ وَارْتَحَلُوا ... بِرغْمِهِم فَإِذَا النَّعْمَاءُ بَاسَاءُ(3/365)
30- التلفاز وأفلام السينماء والفيديو والمذياع والدخان والكورة وأوراق اللعب والمجلات الخليعة والجرائد وصور ذوات الأرواح قتالات للأوقات ومفسدات للأموال والأخلاق والجاه والأديان والعقول والأولاد والأهل والأقارب والأصدقاء والجيران ونحو ذلك.
شعرًا:
اجْعَلْ قَريْنَك قُرآنًا تَفَهْمَهُ ... وَمَا أَتَى عَنْ رَسُولِ اللهِ مِنْ كَلم
وَاتْرُكْ مَجَالِسَ قَوْم لَيْسَ عِنْدهُمُ ... سِوَى المَآثِم مِنْ فعْلٍ وَمِن كَلِمِ
آخر:
لَوْ يَعْلَمُ العَبْدُ مَا في الذِّكْرِ من شَرَفٍ ... أَمْضَى الحَيَاةَ بِتَسْبِِيْحٍ وَتَهْلِيْلِ
31- الزور يشمل كل منكر ويدخل في ذلك الشرك والكفر وأعياد المشركين والاجتماع على شرب الخمور، وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق وهذا هو الواقع من أهل الباطل فإنهم يحسنون المنكرات بوصفها بغير حقيقتها حتى يرغب فيها الناس وحتى لا ينفروا منها فيكون على فاعل ذلك إثم ما عمل وإثم الدعوة إليه وأعظم من ذلك الدعوة إلى المنكر بالقول فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا».
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن علينا يا مولانا بتوبة تمحو بها عنا كل ذنب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)(3/366)
32- قال بعضهم يا هذا مثل لنفسك صرعة الموت وما قد عزمت أن تفعل حينئذ وقت الأسر فافعله وقت الإطلاق ومثل نفسك في زاوية من زوايا جهنم وأنت تبكي أبدًا وأبوابها مغلقة، وسقوفها مطبقة وهي سوداء مظلمة لا رفيق تأنس به، ولا صديق تشكو إليه، ولا نوم يريح ولا نفس ولا طعام إلا الزقوم ولا شراب إلا الحميم والصديد قال كعب إن أهل النار ليأكلون أيديهم إلى المناكب من الندامة على تفريطهم وما يشعرون بذلك، فانتبه يا غافل لاغتنام عمرك وازرع في ربيع حياتك قبل جدوبة أرض شخصك، وادخر من وقت قدراتك لزمن عجزك، واعتبر رحلك قبل رحيلك، فكأنك بحرب التلف قد قامت على ساق وانهزمت جيوش الأمل، وإذا ملك الموت قد بارز الروح.
قال أحد العلماء في موعظة له أحذرك يا أخي ونفسي يومًا آل الله فيه على نفسه أن لا يترك عبدًا أمره في الدنيا ونهاه حتى يسأله عن عمله كله دقيقه وجليله سره وعلانيته فانظر بأي بدن تقف بين يديه وبأي لسان تجيبه، فأعد للسؤال جوابًا، وللجواب صوابًا فتفكر الآن وانظر بأي قدم تقف في ذلك المقام، وبأي أذن تسمع ذلك الكلام، فكم من قلب ينخلع، وكم من كبد تتصدع وكم من لسان يتلجلج وكم من أحشاء تتموج، وكم من نفس تريد أن تخرج فلا تترك أن تخرج فانظر ما أشأم تلك الأرباح التي ربحتها وأخسر تلك المعاملات التي عاملت بها انظر كيف ذهبت مسرتها وبقيت حسراتها والشهوات التي في ظلم العباد أنفذتها كيف ذهب عنك الفرح بها وبقيت تبعتها وانظر الآن بكم تفتدي من ذلك الموقف وبكم تتخلص من ذلك السؤال هيهات أن يقبل منك شيء في ذلك الموقف حتى لو بذلت ملء الأرض ذهبًا.
أَلَيْسَ إلى الآجَالِ نَهْوَى وَخَلْفَنَا ... مِن المَوْتِ حَادٍ لا يَغِيْبُ عَجُوْلُ
دَعِ الفِكْرَ في حُبَّ البقاءِ وَطُوْلِهِ ... فَهَمُّكَ لا العُمْر القصيرُ يَطُوْلُ
وَمَنْ نَظَر الدُّنيا بِعَيْنِ حَقِيْقَةٍ ... تَيَقَنِ أَنَّّ العَيْشَ سَوْفَ يَزُوْلُ(3/367)
وما هذه الأيام إلا فوارس ... تُطارِدُنا والنائِبَاتُ خُيُولُ
33- قال بعض الوعاظ: أيا راحلين بالإقامة يا هالكين بالسلامة أين من أخذ صفو ما أنتم في كدره، أما وعظكم في سيره بسيره، بل قد حمل بريد الإنذار أخبارهم وأراكم تصفح الآثار آثارهم. وقال: العمر يسير وهو يسير فاقصر عن التقصير في القصير مر العمر والغمر مشغول عن ما ذهب بالذهب.
شعرًا:
تَفوز بِنَا المَنُون وَتَسْتَبِدُ ... وَنَهْلِكُ في الزَّمَانِ وَنُسْتَرَدُّ
وَنَنْظُرُ مَاضِيًا فِي إِثْرِ ماضِ ... لَقَدْ أَيْقَنْتُ أَنَّ الأَمْرَ جَدُّ
رُوَيْدًا بِالغِرَار مِن المَنَايَا ... فَلَيْسَ يَفُوتُها السِّارِي المُجِدُّ
فَأَيْنَ مُلُوكُنَا المَاضِيْنَ قِدْمَا ... أَعَدُّوْا لِلَّنَوائِبِ وَاسْتَعَدُّوا
أَصَابُوا في الزَّمَانِ نَعِيْمِ عَيْشٍ ... فيا سَرَعَانِ مَا اسْتَلِبُوا وَرَدُّوا
هُمُوا فَرَطٌ لنا في كُلِّ يَوْمٍ ... نَمُدُّهُم وَإِنْ لم يَسْتَمِدُّوا
34- وقال رحمه الله:
يا طالبًا ما لا يدرك تمنى البقاء وما تترك وهل غير الحصاد لزرع قد استوى وأفرك.
وَكَيْفَ أَشيْدُ في يَوْمِي بِنَاءً ... وَأَعْلَمِ أَنَّ في غَدٍ عنه ارْتَحالِي
فَلا تَنْصِبْ خِيَامَكَ في مَحَلٍ ... فَإِنَّ القَاطِنِيْنَ عَلَى احْتِمَالِي
اسمع يا من أعماله رياء وسمعة يا من أعمى الهوى بصره وأصم سمعه. يا من إذا قام إلى الصلاة لم يخلص ركعة، يا نائمًا في انتباهه إلى متى هذه الهجعة، يا غافلاً عن الموت كم قلع الموت من قلعة، وكم دخل دارك فأخذ غيرك، وإن له لرجعة وكم طرق جبارًا فشتت شمله، وخرب ربعه.
شعرًا:
كَمْ لِمَنَايَا فِي بَني آدَمَ ... تَوسُّعٌ مِنْهُ تَضِيْقُ الصُّدُور
فَالوقْتُ لا يَحْدُثُ بِسَاعَاتِهِ ... إِلا الرَّدَى المَحْضُ بِوَشْكِ المُرُور
أَيَّامُنا السَّبعةُ أَيْسَارُنا ... وَكُلُنا فِيْهَا شَبيْهَ الجَزُور(3/368)
طَهَّرْتَ ثَوْبًا وَاهِيًا ثُمَّ مَا ... قَلْبُكَ إِلا عَادِمًا لِلْطُّهُور
لَوْ فَطِنَ النَّاسُ لِدُنْيَا هُمُوا ... لاقْتَنَعُوا مِنْهَا اقْتِنَاعَ الطُّيُور
نصائح ومواعظ وفوائد وحكم
35- من بذل لك نصحه في الدين فاحتمل غضبه.
36- لن يذهب من مالك ما وعظك وحثك على طاعة الله وابتغاء مرضاته.
37- من اجترأ على معاصي الله تعرض للهوان والخزي عند الله وعند خلقه وابتعد الناس الصالحون عنه.
38- فقد الدين الإسلامي والصبر على فقده أعظم المصائب في الدنيا والآخرة.
39- أشد الأشياء تأييدًا للعقل سؤال الله التوفيق والسداد واستخارة الله ومشاورة العلماء المخلصين لله في أعمالهم المستقيمين على طاعته الناصحين لعباده المؤمنين.
40- من أضر الأشياء على الإنسان كثرة الاتصال بأعداء الله ورسوله والمؤمنين والتذلل لهم والسكنى حولهم أو معهم.
41- موت الولد المنحرف عن الدين والعاق لوالديه والمرأة غير المستقيمة نعمة سابغة على الإنسان أن يشكر الله إذا حصل لهما موت أو فراق.
42- الدخان والخمر والفساد سوس المال والأبدان والجاه والأخلاق والأولاد والأهل والأصحاب والجيران.
43- شفاء الصدور في طاعة الله وتلاوة كتابه وتدبره، والعمل به وبسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
44- الكذب قبيح وعار في الدنيا والآخرة وربما نفع إذا قصد به إنقاذ مسلم أوماله أو أهله من ظالم أو في حرب الكفار أو في الإصلاح بين الناس.
45- فقد الدين الإسلامي والصبر على فقده أعظم المصائب.
وَكُلُّ كَسْرٍ فَإِنَّ الله يَجْبُرهُ ... وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدَّيْن جُبْرَانُ
46- أصدق الناس المخلص لله في أقواله وأفعاله الثابت على توبته من الذنوب.
47- الإصرار على الذنوب وعاء الذنوب فاحذره.
وَتَرْجِعُ لِلذُنُوبِ إِذَا بَرِيْتَا ... تَثُوبُ من الذُّنُوبِ إِذَا مَرِضْتَا
وَأَخْبَثُ ما تَكُونُ إِذَا قَويتَا ... إِذَا مَا الضُّرُّ مَسَّكَ أَنْتَ بَاكٍ(3/369)
وَكَمْ كَشَفَ البَلاءَ إِذا بُلِيْتَا ... فَكَم مِنْ كُرْبَةٍ نَجَّاكَ مِنْهَا
مَدَى الأيامِ جَهْرًا قَدْ نُهِيتَا ... وَكَمْ غطَّاكَ فِي ذَنْبٍ وَعَنْهُ
وَأَنْتَ على الخَطَايَا قَدْ دُهِيْتَا ... أَمَا تَخْشَى بِأَنْ تَأَتِي المَنَايَا
وَأَنْتَ لِكُلِّ مَعْرُوفٍ نَسِيْتَا ... وَكَمْ عَاهَدْتَ ثُمَّ نَقَضْتَ عَهْدًا
إِلى قَبْرٍ تَصِيْرُ وَقَدْ نُعِيْتَا ... فَدَارِكَ قَبْلَ نَقْلِكَ مِنْ دِيَارِكَ
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
48- قال أحد العلماء رحمه الله تعالى إخواني ذهبت الأيام وكتبت الآثام، وإنما ينفع الكلام متيقظًا والسلام اسمع يا من صحيفته بالذنوب قد خفت، وموازينه لكثرة العيوب قد حفت، والمزعجات عليه قد التفت لا تغتر بأغصان المنى وإن أورقت ورفت، فكأنك بها قد صوحت وذبلت وجفت أما رأيت أكفًا عن مطالبها قد كفت، أما شاهدت عرائس الأجساد إلى الألحاد زفت.
شعرًا:
رَأَيْتُكَ فِي النُّقصانِ مُذْ أَنْتَ في المَهْدِ ... تُقَرِّبُكَ السَّاعَاتُ مِنْ سَاعَةِ اللَّحْدِ
نظر شاب إلى شيخ كبير السن ضعيف الحركة فقال له يا شيخ من الذي قيدك فقال الذي خلفته يفتل قيدك.
مَنْ أَخْطَأتْهُ سِهَامُ المَوتِ قَيَّدَهُ ... طُولُ السِّنِيْنِ فَلا لَهْوٌ وَلا غَزَلُ
وَضَاقَ مِنْ نَفْسِهِ مَا كَانَ مُتْسِعًا ... حَتَّى الرَّجَاءُ وَحَتَّى العَزْمُ وَالأَمَلُ
49- المرأة الصالحة العفيفة ذات الدين الموافقة جنة الدنيا فمن وفقه الله لها فليستمسك بها.
وَخَيْرُ النِّسَا مَنْ سَرَّتْ الزَّوجَ مَنْظَرًا ... وَمَنْ حَفِظَتْهُ في مَغِيبٍ وَمَشْهَدِ
قَصِيرةُ أَلْفاظٍ قَصِيرةُ بَيْتِها ... قَصيرةُ طَرْفِ العَيْنِ عَن كُلِّ أَبْعَدِ(3/370)
عَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّيْنِ تَظْفَر بِالمنى الـ ... وَدُوْدِ الوَلُودِ الأَصْلِ ذاتِ التَّعَبُدِ
50- الكتاب المستمد من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مفيد للإنسان في الدنيا ونافع للإنسان في الدنيا والآخرة وهو الذي يستمر نفعه في الدنيا والآخرة.
51- أمحض أخاك النصيحة وإن كانت عنده قبيحة.
52- لا شيء أحلى وأحسن وألذ من سماع كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
أَعِدْ ذِكْرَ قال الله قال رَسُولُهُ ... هُمَا المِسْكُ مَا كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ
آخر:
عَلَيْكَ بِذِكْرِ الله في كلِّ لَحْظَةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَذْكُرُ
53- أحسن القول ما وافق العمل قال الله تبارك وتعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ( [فصلت: 33].
54- من التواني ما يكون سببًا للحرمان وعرضة للآفات، والغالب فيه السلامة وهو ضد العجلة.
55- ما أحق من غدر ألا يوفى له.
56- من نظر أبصر ومن فكر اعتبر.
57- في الوجوه تظهر المودات غالبًا.
58- لا ترسل الكسلان في حاجتك فتندم.
59- الذي يكثر الكلام على المائدة يستنقل ويستكره ويدعو الناس إلى غيبته في الغالب.
60- من حفظ سره ملك أمره وصار الخيار له في كتمه أو نشره ولا يكتم السر إلا العاقل.
61- الكريم يواسي إخوانه المستقيمين بما يقدر عليه.
62- من لم تقدر على مكافأته فادع له وانصح له.
63- من لم يصبر على البلاء وتسخط لم يرض بالقضاء.
64- الغريب والبعيد الناصحان خير من القريب والصديق الغاش فتأمل وتدبر.
65- من لم يرض برزقه عذب نفسه وضرها.
66- فقد الصبر عن المعاصي وفقده على الطاعات وفقده على أقدار الله من أعظم المصائب.
(فصل)
67- احذر عدوك في الدين وإن أحسنت إليه.
68- الخسران المبين تضييع ما فرضه رب العالمين.
69- ساعات السرور قد تكون جالبة للمحذور.(3/371)
70- الهم ظلمة جلاؤها الفرج من الله جل وعلا.
71- من تسلط على الناس ظلمًا وعدوانًا لم يسلم من الهوان.
72- من لم ينلك البر في حياته لم تبك عيناك على وفاته في الغالب.
73- من جهل شيئًا عاداه في الغالب ومن أحب شيئًا استعبده في الغالب.
74- من مأمنه قد يؤتى الحذر.
75- رب بزة وهيئة ظاهرة تحتها حاجة باطنة.
الاجتهاد في طاعة الله ورسوله أربح بضاعة.
76- اجعل سرك لواحد تثق به ومشورتك لمن شئت ممن يوثق بدينهم وأمانتهم.
77- اجعل لدنياك نصيبًا ولدينك النصيب الأوفر من وقتك ومالك حتى تربح الدنيا والآخرة.
قال بعض العلماء تأملت أمر الدنيا والآخرة فوجدت حوادث الدنيا حسية طبيعية وحوادث الآخرة إيمانية يقينية والحسيات أقوى جذبًا لمن لم يقو علمه ويقينه والحوادث إنما تبقى بكثرت أسبابها، فمخالطة الناس ورؤية المستحسنات والتعرض بالملذوذات يقوي حوادث الحس، والعزلة والفكر والنظر في العلم يقوي حوادث الآخرة، ويبين هذا بأن الإنسان إذا خرج يمشي في الأسواق ويبصر زينة الدنيا ثم دخل إلى المقابر فتفكر ورق قلبه فإنه يحس بين الحالتين فرقًا بينًا وسبب ذلك التعرض بأسباب الحوادث فعليك بالعزلة والذكر والنظر في العلم فإن العزلة حمية والفكر والعلم أدوية والدواء مع التخليط لا ينفع اهـ.
مِنْ وَاجبِ النَّاسِ أَنْ يَتُوبُوا ... لَكِنْ تَركَ الذُّنوبِ أَوْجَبْ
وَالدَّهْرُ في صَرفِهِ عَجيبَ ... وَغَفْلَةُ الناسِ عَنْهُ أَعْجَبْ
وَالصَّبرُ في النَائِبَاتِ صَعْبٌ ... لَكِنْ فَوَاتَ الثَّوابِ أَصْعَبْ
وَكُلُّ مَا تَرتَجِي قَريبُ ... وَالوقتُ مِنْ دُوْنِ ذَاكَ أَقْرَبْ
وقال بعضهم:(3/372)
إخواني السنون مراحل والشهور فراسخ والأيام أميال والأنفاس خطوات والطاعات رءوس الأموال والمعاصي قطاع الطريق والربح الجنة والخسران النار لهذا الخطب شمر المتقون عن سوق الجد في سوق المعاملة كلما رأوا مراكب الحياة تخطف في بحر العمر شغلهم هول ما هم فيه عن التنزه في عجائب البحر فما كان إلا قليل حتى قدموا من السفر فاعتنقتهم الراحة في طريق التلقي فدخلوا بلد الوصل وقد حازوا الربح.
وَصِلُوا إِلى مَوْلاهُمُ وبَقِيْنَا ... وَتَنَعَّمُوا ِبِوصَالِهِ وَشَقِيْنَا
ذَهَبَتْ شَبِيْبَتُنَا وَضَاعَ زَمَانُنَا ... وَدَنَتْ مَنِيِّتُنَا فمن يُنْجِيْنَا
فَتَجمَّعُوا أَهْلَ القَطِيْعَةِ وَالجَفَا ... نَبْكِي شُهُورًا قَدْ مَضَتْ وَسِنينا
آخر:
تَراُهْم وَأَمْلاكُ الرِّضَا يَقْدُمُونَهِم ... إلى جَنَّةٍ طَابَتْ وَطَابَ نَعِيْمُهَا
يَسيرُونَ في أَمْنٍ إِذَا الخَلْقُ فُزَّعٌ ... وَقَدْ بَرَزَتْ نارٌ وَشَبَّ جَحِيْمُها
آخر:
فَلِلَّهِ كَمْ مِنْ خَيْرةٍ قَدْ تَهَيَّئَتْ ... لِقَوْمٍ عَلَى الأَقْدَامِ بِاللَّيْلِ قُوَّمُ
يُنَاجُونَ رَبَّ العالمينَ إِلَهَهُم ... فَتَسْري هُمُومُ القَوْمِ وَالنَّاسُ نُوَّمُ
آخر:
وَلله أَلْطَافٌ بطيِّ قَضَائِهِ ... أَخُو الفَهْمِ في أَسْرَارِها يَتَفَهَّمُ
فَمُوسَى بِقَذْفِ اليمٍ تمَّ عُلُوُّهُ ... تَرَقَّى إلى أَعْلَى الذُّرى وَهو مُكَرَّمُ
وَبِالصَّبْرِ والتَّقْوى تُنالُ هِبَاتُهُ ... وَأَتْْقَى الوَرَى عِنْدَ المُهَيْمِنِ أَكْرَمُ
وقال رحمه الله:
السنة شجرة والشهور فروعها والأيام أغصانها والساعات أوراقها والأنفاس ثمرها فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة ومن كانت في معصية فثمرته حنضل وإنما يكون الجداد يوم المعاد فعند ذلك يتبين حلو الثمار من مرها.(3/373)
والإخلاص والتوحيد شجرة في القلب فروعها الأعمال وثمرها طيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك.
والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب ثمرها في الدنيا الخوف والهم والغم وضيق الصدر وظلمة القلب وثمرها في الآخرة الزقوم والعذاب الأليم المقيم وقد ذكر الله هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم.
وقال رحمه الله: اشتر نفسك فالسوق قائمة والثمن موجود ولا بد من سنة الغفلة ورقاد الهوى ولكن كن خفيف النوم فحراس البلد يصيحون دنا الصباح، نور العقل يضيء في ليل الهوى فتلوح جادة الصواب فيتلمح البصير في ذلك النور عواقب الأمور اخرج بالعزم من هذا الفناء الضيق المحشو بالآفات إلى ذلك الفناء الرحب الذي فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فهناك لا يتعذر مطلوب ولا يفقد محبوب يا بائعًا نفسه بهوى من حبه ضنا ووصله أذى وحسنه إلى فناء لقد بعت أنفس الأشياء بثمن بخس كأنك لم تعرق قدر السلعة حتى إذا قدمت يوم التغابن تبين لك الغبن في عقد التبايع لا إله إلا الله سلعة الله مشتريها، وثمنها الجنة.
اللهم ثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة اللهم وأيدنا بنصرك وارزقنا من فضلك ونجنا من عذابك يوم تبعث عبادك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وسلم.
77- من أجهل الناس من يفعل الشر ويتوقع الخير.
78- احذر التلون في الدين لأنه صفة المنافقين.
79- احذر الكبر والغضب والحسد والطمع والبخل.
80- الذكر لله له شرطان حضور القلب في تحريره وبذل الجسد في تكثيره.
81- من أحسن الأشياء العفو عن مقدرة.
82- أحسن إلى إخوانك من المسلمين ما استطعت.
83- أحسن ما صان الرجل أمر دينه عما يضره أو ينقصه.
84- احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك.(3/374)
85- أحق الناس بالبر والديك وبعدهم قرابتك أهل الدين الأقرب ثم الأصدقاء في الله ثم الجيران الأقرب فالأقرب.
86- إخوان هذا الزمان جواسيس العيوب في الغالب.
87- أخوك من واساك في الشدة والرخاء.
88- أدب نفسك بما كرهته من غيرك تكن حكيمًا.
89- اختلاف القوم يمكن عدوهم منهم في الغالب.
90- إذا استعنت فاستعن بالله وحده.
91- عند انتهاء الشدة يكون الفرج بإذن الله تعالى.
فمن نزلت به بلية فأراد تخفيفها وتمحيقها فليتصور أكثر مما هي تهن وليرجو ثوابها وليتصور أعظم منها يرى الربح في الاقتصار عليها وليتلمح سرعة زوالها، فإنه كرب الشدة ما رجيت ساعات الراحة وليعلم أن مقامها عنده كمدة مقام الضيف يتفقد حوائجه في كل ساعة فيا سرعة انقضاء مقامه فكذالك المؤمن في الشدة ينبغي أن يراعى الساعات ويتفقد فيها أحوال النفس، ويتلمح الجوارح مخافة أن يبد من اللسان كلمة تسخط أومن القلب تسخط فكأن قد لاح فجر الأجر فانجاب ليل البلا ومدح الساري بقطع الدجى فما طلعت شمس الجزاء إلا وقد وصل إلى منزل السلامة اهـ.
92- إذا قويت فاقوا على طاعة الله يعينك ربك.
93- إذا كرمت السجية حسنت الطوية في الغالب.
94- إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
95- إذا غلب الهوى بطل الرأي.
96- أرج من الله أن يقبل أحسن عملك، ويتجاوز عن سيئاتك، ويجعلك من أصحاب الجنة.
97- أخسر الناس صفقة من باع دينه بالدرهم والدينار أو نحوهما وأخسر منه من باع دينه بدنيا غيره.
98- أستر عيب أخيك المسلم لما تعلم من عيوبك.
99- استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(فصل)
يحتوي على حكم ومواعظ وآداب
100- استشيروا ذوي العقول النيرة بطاعة الله.
101- الاستقامة عين الهداية بإذن الله.
102- أشقى الولاة من شقيت به رعيته.
103- أصدق الناس المخلص لله الثابت على توبته.
104- الإصرار على الذنوب وعاء الذنوب فاحذره.(3/375)
105- اطلب الرحمة بالرحمة (إنما يرحم الله من عباده الرحماء( [.
106- إظهار النعم والتحدث بها من الشكر لله.
107- الاعتبار منذر ناصح. قال تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ( [الحشر: 2].
108- أصل المحاسن طاعة الله ثم الكرم وفق الشرع.
109- أطع أخاك فيما يرضي الله وإن عصاك.
110- أطلب واستعن بالله تظفر بإذن الله.
111- الإعتراف بالذنوب سبيل إلى التوبة بإذن الله.
إِلَهٌ لا إِلَه لَنَا سِوَاهُ ... رَءوفٌ بِالبَرِيَّةِ ذُو امْتِنانِ
أَوَحِّدُهُ بِإِخْلاصٍ وَحَمدٍ ... وَشُكْرٍ بالضَّميرِ وَبِاللَّسَانِ
وَأَفْنَيْتُ الحَيَاةَ وَلَم أَصُنَهَا ... وَزُغْتُ إِلى البَطَالَةِ والتَّوانِي
وَأَسْألُهُ الرِّضا عَنِّي فَإِنِّي ... ظَلَمْتُ النَّفْسَ في طَلَبِ الأَمَانِي
إِلَيهِ أَتُوبُ مِنْ ذَنْبِي وَجَهْلِي ... وَإِسْرَافِي وَخَلْْْعِي لِلْعِنَانِ
112- الاعتبار يهديك إلى الرشاد بإذن الله.
113- الإعجاب ضد الصواب ويمنع الازدياد.
114- مخالفة الأمر توجب سخط الأمر والإصرار على المعصية أعظم.
115- اعص هواك وأطع مولاك تغنم الفلاح.
116- إذا تم عقل المرء قل كلامه إلا بذكر الله وما والاه.
117- إخزن لسانك عن الكلام إلا بذكر الله وتلاوة كتابه وما ورد عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -:
عَلَيكَ بِذِكرِ اللهِ فِي كُلِّ سَاعِةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَذْكُرُ
آخر:
أَعِدْ ذِكْرَ قال الله قال رَسُولهُ ... هُمُا المِسْكُ مَا كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ
118- من صنع إليك معروفًا فكافئه فإن لم تجد فادع له للحديث.
119- إذا استشارك أحد المسلمين صديق أو عدو فجرد له النصيحة.
120- إذا اصطنعت المعروف فاستره.
121- إذا تناهت الشدة قرب الفرج بإذن الله.
122- أعقل الناس المعظم لله الممتثل لأوامره المجتنب لما نهى عنه.
123- اغتنم أيام صحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وحياتك قبل موتك.(3/376)
124- ألأم الناس وأخسهم وأرذلهم أفسقهم.
125- من نسي الله فاستهان بأوامره واقتحم نواهيه ولم يبال بقدرته عليه ونظره إليه وعلمه بسره وعلانيته.
126- الأصحاب المخلصون لله المحبون فيه الداعون إليه قليلون في هذا الزمان.
127- ارج من الله أن يقبل محاسن عملك.
128- الاستماع أسلم من القول لأن القول يخطئ ويصيب.
129- آفة الجود السرف والتبذير.
130- آفة السماحة المنة.
131- آفة الشجاعة البغي والتهور والعجب.
132- آفة العقل العجب والكبر.
133- آفة بعض العلماء الكبر وحب الرياسة والدنيا.
134- أفضل العمل الصالح أدومه وإن قل والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فصل)
135- أعف عن الناس عملاً بقوله تعالى: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ( [آل عمران: 134].
136- الاقتصاد سبيل الرشاد.
137- الاقتصاد ينمي اليسير بإذن الله.
138- اغتنم الفرصة في طاعة الله فالوقت لا يعود.
139- أكثر محادثة من يخبرك عن عيوبك إن كان ناصحًا.
140- أكرم الأخلاق التواضع لرب العالمين.
141- من اللؤم البغي عند المقدرة على من لم يبغ.
142- الإلحاح على المخلوق سبب الحرمان.
143- الآلف للدنيا المطمئن إليها مغرور.
144- الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
145- من أمارات الكذب والغش كثرة الإيمان.
146- الأمانة جالبة للرزق بإذن الله تعالى.
147- أملك الناس لنفسه أكتمهم لسره في الغالب.
148- إمساك المال خير من سؤال الناس.
149- إخلاص الأعمال لله من أكبر الأسباب لحصول كل خير واندفاع كل شر قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ( [يوسف: 24]. في قراءة بكسر اللام.
150- الاعتماد على الله والتوكل عليه أفضل عدة. قال تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ( [الطلاق: 3].(3/377)
قال أحد العلماء: من المتزهدين أقوام يرون التوكل قطع الأسباب كلها وهذا جهل بالعلم فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الغار وشاور الطبيب ولبس الدرع وحفر الخندق ودخل مكة في جوار المطعم بن عدي وكان كافرًا وقال لسعد لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فالوقوف مع الأسباب مع نسيان المسبب غلط والعمل على الأسباب مع تعلق القلب بالمسبب هو المشروع اهـ.
قُنُوعِيْ بِدُونِ الدُوْنِ لا نَقْص هِمَّةٍ ... وَلَكنَّه شَيءٌ أَصُوْنُ بِهِ نَفْسِي
إِذَا كَانَ لِي في مَنْزلي قُوت ساعةٍ ... فَمَا دُوْنَمَا قَدَّرْتُ أَنِّي في عُرْسِ
151- الإنصاف راحة وعنوان على الذكاء والنبل.
152- الانفراد بكتب العلم للتعلم والتفهم والتأليف راحة ومنفعة ومسلاة عن الهموم والغموم.
153- الانتقام ممن ظلم عدل والتجاوز فضل.
154- الأناة في الأمور وحسن التودد للمسلمين يمن.
155- الأمين آمن والخائن قلق وخائف.
156- الآمال لا نهاية لها ما دام الإنسان في قيد الحياة.
157- من أفضل المعروف إغاثة الملهوف من المسلمين.
158- إفشاء السر ممن استأمنك خيانة.
159- أفضل الزهد إخفاء الزهد.
160- أنفع الكنوز العمل الصالح.
161- أنفق في حق ولا تكن خازيًا لغيرك.
162- إذا غلا عليك الشيء فاتركه يكون رخيصًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تعز الإسلام والمسلمين وأن تذل الشرك والمشركين وإن تدمر أعداء الدين اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.(3/378)
اللهم إني أسألك علمًا نافعًا رزقًا طيبًا وعملاً متقبلاً يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارحم في الدنيا غربتي وارحم في القبر وحشتي وارحم في الآخرة وقوفي بين يديك.
اللهم اعتق رقبتي من النار وأوسع لي من الرزق الحلال واصرف عني فسقة الجن والإنس.
اللهم إني أسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه وظاهره وباطنه وأوله وآخره وعلانيته وسره اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والعزيمة على الرشد والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم والفوز بالجنة والنجاة من النار يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.
ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غرامًا.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماته الأعداء.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك.
اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الدين وشماتة الأعداء.
اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.(3/379)
اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير والموت راحة لي من كل شر. اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها أمري وتلهمني بها رشدي وتعصمني بها من كل سوء.
اللهم طهر قلبي من النفاق ولساني من الكذب وعملي من الرياء وعيني من الخيانة إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم. وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون وأعوذ بك من شر ما استعاذ بك منه عبدك ورسولك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك الصالحون.
رب قني عذابك يوم تبعث عبادك.
اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا. رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري رب اغفر خطيئتي يوم الدين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.
رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحًا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين. وادخلني برحمتك في عبادك الصالحين.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. آمين.(3/380)
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(خاتمة، وصية، نصيحة)
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه الله ويرضاه أن مما يجب الاعتناء به حفظًا وعملاً كلام الله جل وعلا وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وأنه ينبغي لمن وفقه الله تعالى أن يحث أولاده على حفظ القرآن وما تيسر من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - المتفق على صحتها عنه كالبخاري ومسلم.
ومن الفقه مختصر المقنع ليتيسر له استخراج المسائل ويجعل لأولاده ما يحثهم على ذلك.
فمثلاً يجعل لمن يحفظ القرآن على صدره حفظًا صحيحًا عشرة آلاف أو أزيد أو أقل حسب حاله في الغنى.
ومن الأحاديث عقود اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الإمامان البخاري ومسلم، يجعل لمن يحفظ ذلك ستة آلاف من الريالات.
فإن عجزوا عن حفظها فالعمدة في الحديث يجعل لمن حفظها ثلاثة آلاف أو الأربعين النووية ويجعل لمن يحفظها ألفًا من الريالات.
ويجعل لمن يحفظ مختصر المقنع في الفقه ألفين من الريالات فالغيب سبب لحفظ المسائل وسبب لسرعة استخراج ما أريد من ذلك وما أشكل معناه أو يدخلهم في مدارس تحفيظ القرآن فمدارس تعليم القرآن والسنة هي مدارس التعليم العالي الممتاز الباقي النافع في الدنيا والآخرة.
فمن وفقه الله لذلك وعمل أولاده بذلك كان سببًا لحصول الأجر من الله وسببًا لبرهم به ودعائهم له إذا ذكروا ذلك منه، ولعله أن يكون سببًا مباركًا يعمل به أولاده مع أولادهم فيزيد الأجر له ولهم نسأل الله أن يوفق الجميع لحسن النية إنه القادر على ذلك وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(3/381)
تم هذا الجزء الثاني بعون الله وتوفيقه ونسأل الله الحي القيوم العلي العظيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد أن يعز الإسلام والمسلمين أن يخذل الكفرة والمشركين وأعوانهم وأن يصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين ويهلك من في هلاكه عز وصلاح للإسلام والمسلمين وأن يلم شعث المسلمين ويجمع شملهم ويوحد كلمتهم وأن يحفظ بلادهم ويصلح أولادهم ويشف مرضاهم ويعافي متبلاهم ويرحم موتاهم ويأخذ بأيدينا إلى كل خير ويعصمنا وإياهم من كل شر ويحفظنا وإياهم من كل ضر وأن يغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والله المسئول أن يجعل عملنا هذا خالصًا لوجهه الكريم وأن ينفع به نفعًا عامًا إنه سميع قريب مجيب على كل شيء قدير.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
عبد العزيز المحمد السلمان
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض
سابقاً(3/382)