خُطَبْ وَحِكَم وَأَحْكَام وَقَوَاعِدْ وَمَواعِظْ وَآدَابْ وَأَخْلاَق حِسَان
تَأْلِيفُ الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ
عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض
سابقاً
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
(فائدة عظيمة النفع لمن وفقه الله)
ما أنعم الله على عبد نعمة أفضل من أن عرفه لا إله إلا الله، وفهمه معناها، ووفقه للعمل بمقتضاها، والدعوة إليها.
أشرف الأشياء قلبك ووقتك فإذا اهملت قلبك وضيعت وقتك، فما بقي معك؟ كل الفوائد ذهبت فانتبه لنفسك.
(فصل)
فائدة
وقف قوم على عالم فقالوا إنا سائلوك أفمجيبنا أنت قال: سلوا ولا تكثروا، فإن النهار لن يرجع والعمر لن يعود، والطالب حثيث في طلبه، قالوا: فأوصنا، قال: تزودوا على قدر سفركم فإن خير الزاد ما أبلغ البغية، ثم قال: الأيام صحائف الأعمار فخلدوها أحسن الأعمال، فإن الفرص تمر مر السحاب، والتواني من أخلاق الكسالى والخوالف، ومن استوطن مركب العجز عثر به، وتزوج التواني بالكسل فولد بينهما الخسران اهـ
قال بعضهم: شعرا:
تَزَوَجَتَ البَطَالَةُ بالتَّوَانِي ... فأَوْلَدَهَا غُلامًا مَعْ غُلامَهْ
فأَمَّا الإِبْنُ سَمَّوْهُ بفَقْرٍ ... وأمَّا البنْتُ سَمَّوهَا نَدَمَه
آخر:
الذِّكر أَصْدَقُ قَوْلٍ فَافْهَمْ الْخَبَرَا ... لأَنَّهُ قَوْلٌ مِن قَدْ أَنشأ البشرا
فاعمل به إن ترد فهما ومعرفة ... ياذا النهي كي تنال العز والفخرا
وتحمد الله في يوم المعاد إذا ... جاء الحساب وعم الخوف وانتشرا
لله در رجال عاملين به ... فيما يدق وما قد جل واشتهرا
بسم الله الرحمن الرحيم
ملاحظة: لا يسمح لأي إنسان أن يختصره أو يتعرض له بما يسمونه تحقيقا لأن الاختصار سبب لتعطيل الأصل والتحقيق أرى أنه اتهام للمؤلف، ولا يطبع إلا وقفا لله تعالى على من ينتفع به من المسلمين.
فوائد عظيمة النفع جدا لبعض العلماء رحمهم الله تعالى:(1/1)
(1) الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما أعمالا صالحة تربح وتحمد العاقبة الحميدة إن شاء الله تعالى.
(2) الملائكة يكتبان ما تلفظظ به فاحرص على أن لا تنطق إلا بما يسرك يوم القيامة من ذكر الله وما والاه.
(3) اعلم أن قصر الأمل عليه مدار عظيم وحصن قصر الأمل ذكر الموت، وحصن حصنه ذكر فجأة الموت وأخذ الإنسان على غرة وغفلة وهو في غرر وفتور عن العمل للآخرة، فاحفظ هذه الفوائد واعمل بها تفلح وتربح إن شاء الله.
ومن أراد طباعته ابتغاء وجه الله تعالى لا يريد به عرضاً من الدنيا، فقد أُذن له في ذلك وجزى الله خيراً من طبعه وقفاً لله، أو أعان على طبعه، أو تسبب لطبعه وتوزيعه على إخوانه المسلمين، فقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
«إن الله يدخل في السهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به، ومنبله» الحديث، رواه أبو داود.
وورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» الحديث رواه مسلم.
وعن زيد بن خالد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا» متفق عليه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونره وولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه أو بيتا لابن سبيل بناه أو نهرا أجراه او صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته» رواه ابن ماجه وابن خزيمة.
ورواه البزار من حديث أنس إلا أنه قال: «سبع تجري للعبد بعد موته وهو في قبره من علم علما أو كرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته».
بسم الله الرحمن الرحيم(1/2)
الحمد لله الواحد القهار العزيز الغفار مقدر الأقدار ومصرف الأمور على ما يشاء ويختار ومكور الليل على النهار.
الواحد الأحد الفرد العليم الحكيم الذي أيقظ من خلقه من اصطفاه فأدخله في جملة الأخيار ووفق من اختار من عبيده فجعله من الأبرار.
وبصر من أحبه من خلقه للحقائق فزهدوا في هذا الدار فاجتهدوا في مرضاته والتأهب لدار القرار.
وبعد فإني لما نظرت في غفلتي عن اكتساب الزاد المبلغ ليوم المعاد ورأيت أوقاتي قد ضاعت فيما لا ينفعني في معادي ورأيت استعصاء نفسي عما يؤنسني في رمسي لا سيما والشيطان والدنيا والهوى معها ظهير.
فعزمت إن شاء الله تعالى على أن أجمع في هذا الكتاب ما تيسر من المواعظ والنصائح والخطب والحكم والأحكام والفوائد والقواعد والآداب وفضائل الأخلاق المستمدة من الكتاب والسنة ومن كلام العلماء الأوائل والأواخر المستمد منهما ما أرجو من الله العلي أن يستغني به الواعظ والخطيب والمرشد وغيرهم راجيا من الله الحي القيوم ذي الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد القوي العزيز الرءوف الرحيم اللطيف الخبير أن ينفع به وأن يأجر من يطبعه وقفا لله تعالى أو يعين على طباعته أو يتسبب لها وسميته «مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار»
عبد العزيز بن محمد بن سلمان
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين(1/3)
قال تعالى: (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ( [البقرة: 281]. وقال تبارك وتعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا( [النحل: 111] الآية. وقال تبارك وتعالى: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(. وقال جل وعلا: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ( [الزمر: 58]. وقال تعالى: (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ( [يونس: 30] وقال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ( [آل عمران: 185] . وقال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ( [المؤمنون: 100] الآيات. وقال جل وعلا: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ( [مريم: 39]. وقال تعالى: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا(1/4)
وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون( [الزمر: 48]. وقال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ( [سبأ: 53]. وقال تعالى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ( [السجدة: 12].(1/5)
وقال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ( [يس: 53]. وقال تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين(. وقال تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ( [الأنبياء: 1] . وقال تعالى: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ( [غافر: 18]. وقال تعالى: (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ( [ق: 22]. وقال تعالى: (أَزِفَتْ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ( [النجم: 58]. وقال تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ( [النبأ: 40]. وقال تعالى: (فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى( [النازعات: 35]. وقال تعالى: (فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ( [عبس: 35]. وقال تعالى: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى( [الفجر: 23].(1/6)
الأحاديث
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده». متفق عليه، وعن ابن عمر قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك». رواه البخاري، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أكثروا ذكر هادم اللذات، يعني الموت» رواه الترمذي. وقال حديث حسن، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «بادروا بالأعمال سبعا، هل تنتظرون إلا فقرًا منسيا أو غنى مطغيًا أو مرضًا مفسدًان أو هرمًا مفندًا أو موتًا مجهزًا أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر». رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يتمنى أحدكم الموت إما محسنًا فلعله يزداد وإما مسيئًا فلعله يستعتب» متفق عليه. وفي رواية مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات ابن آدم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا». وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه فإن كان لا بد فاعلاً فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي». متفق عليه.
1- "موعظة"(1/7)
إخواني إن في مواعظ الأيام والليالي لعبرة لذوي البصائر ركائب أموات تزعج عن مقصورات القصور ثم تحمل إلى مضائق القبور، فكم قد شاهدتم من شخصيات في الأرض، قد وضعت، وكم قد عاينتم من أبدان ناعمة قد لفت وإلى مضيق الألحاد قد زفت فيا لها من غاية يستبق إليها العباد ويا له من مضمار يتناوبه جواد بعد جواد ويا له من هول شديد يعقبه أهوال شداد فتنة قبور وحشر في موقف مهيل موقف فيه تنقطع الأنساب وتخضع فيه الرقاب وتنسكب فيه العبرات وتتصاعد فيه الزفرات ذلك موقف تنشر فيه الدواوين، وتنصب فيه الموازين، ويمد فيه الصراط، وحينئذ يقع الامتياز فناج مسلم ومكردس في النار.
شعرًا:
قُمْ فِي ظَلامِ اللَّيْلِ وَاقْصُدْ مَهَيْمنًا ... يَرَاكَ إِليه في الدُّجَى تَتَوَسَّلُ
وَقُلْ يَا عَظْيْمَ العَفْوِ لاَ تَقْطَع الرَّجا ... فَأَنْتَ الْمُنَى يَا غَايِتِي وَالْمُؤَمَّلُ
فَيَا رَبَّ فاقْبَل تَوْبَتِي بِتَفَضُلٍ ... فَمَا زَلْتَ تَعْفُو عَنْ كَثِيْرٍ وَتَمْهَلُ
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَعْفُو وَأَنْتَ ذَخِيْرَتِي ... لِمَنْ أَشْتَكِى حَالِي وَمَنْ أَتَوَسَّلُ
حَقِيْقٌ لِمَنْ أَخْطَأَ وَعَادَ لِمَا مَضَى ... وَيَبْقَى عَلَى أَبْوَابِهِ يَتَذَلَّلُ
وَيَبْكِي عَلَى جِسْمٍ ضَعِيْفٍ مِن البِلَى ... لَعَلَّ يَجُودُ السَّيْدُ الْمُتَفَضِّلُ
رَجَوْتُ إِلَهِي رَحْمَةً وَتَفَضُّلاً ... لِمَنْ تَابَ مِن زَلاَّتِهِ يَتَقَبَّلُ
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.
(فصل)(1/8)
قال بعض العلماء: من عجيب ما نقدت من أحوال الناس كثرة ما ناحوا على خراب الديار وموت الأقارب والأسلاف والتحسر على الأرزاق بذم الزمان وأهله وذكر نكد العيش فيه.
وقد رأوا من انهدام الإسلام وموت السنن وظهور البدع وارتكاب المعاصي وتقضي العمر في الفارغ الذي لا يجدي والقبيح الذي يوبق ويؤذي. فلا أجد أحدًا منهم ناح على دينه ولا بكى على فارط عمره ولا آسى على فائت دهره.
وما أرى لذلك سببًا إلا قلة مبالاتهم في الأديان وعظم الدنيا في عيونهم.
ضد ما كان عليه السلف الصالح يرضون بالبلاغ وينوحون على الدين اهـ.
وكتب بعضهم إلى صديق له يشاوره في شيء من أمر الدنيا فكان الجواب: اطلب الدنيا على قدر مكثك فيها، واطلب الآخرة على قدر حاجتك إليها.
وقال يحيى بن معاذ: لست آمركم بترك الدنيا آمركم بترك الذنوب، ترك الدنيا فضيلة وترك الذنوب فريضة وأنتم إلى إقامة الفريضة أحوج منكم إلى الحسنات.
وقال: لا تكن ممن يفضحه يوم موته ميراثه ويوم حشره ميزانه.
وقال إبراهيم الخواص: دواء القلب في خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين.
وقال: على قدر إعزاز المرء لأمر الله يلبسه الله من عزه، ويقيم له العز في قلوب المؤمنين.
وقال في الفنون لقد عظم الله الحيوان لا سيما ابن آدم حيث أباحه الشرك عند الإكراه وخوف الضرر على نفسه فقال جل وعلا: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ( [النحل: 106].
من قدم حرمة نفسك على حرمته حتى أباحك أن تتوقى وتحامي عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه.
فحقيق أن تعظيم شعائره وتوقر أوامره وزواجره وعصم عرضك بإيجاب الحد بقذفك وعصم مالك بقطع مسلم في سرقته.(1/9)
وأسقط شطر الصلاة لأجل مشقتك وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل إشفاقًا عليك من مشقة الخلع واللبس وأباحك الميتة سدة لرمقك وحفظًا لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجل ووعيد آجل، وخرق العوائد لأجلك وأنزل الكتب إليك.
أيحسن بك مع هذا الإكرام أن تُرى على ما نهاك منهمكًا وعما أمرك متنكبًا وعن داعيه معرضًا ولسنته هاجرًا ولداعي عدوك فيه مطيعا.
يعظمك وهو هو وتهمل أمره وأنت أنت وهو حط رتب عباده لجلك وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجد لأبيك.
هل عاديت خادمًا طالت خدمته لك لترك صلاة، هل نفيته من دارك للإخلال بفرض أو لارتكاب نهي، اهـ.
قلت وفي وقتنا هل أخرجت الملاهي والمنكرات من بيتك؟ هل منعت الأجانب والأجنبيات سواقين وخدمات من بيتك؟
فائدة
وقف قوم على عالم فقالوا إنا سائلوك أفمجيبنا أنت قال سلوا ولا تكثروا، فإن النهار لن يرجع والعمر لن يعود، والطالب حثيث في طلبه، قالوا فأوصنا، قال تزودوا على قدر سفركم فإن خير الزاد ما أبلغ البغية، ثم قال الأيام صحائف الأعمار فخلدوها أحسن الأعمال، فإن الفرص تمر مر السحاب، والتواني من أخلاق الكسالى والخوالف، ومن استوطن مركب العجز عثر به، وتزوج التواني بالكسل فولد بينهما الخسران اهـ.
اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين.
اللهم يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير.
نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
[فصل في بعض ذكر فوائد ذكر الموت]
اعلم أن في ذكر الموت فوائد عديدة من ذلك أنه يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي.
ثانيًا: يذهب الفرح والسرور بالدنيا، ويزهد فيها، ويهون المصائب.(1/10)
ثالثًا: التأثر في مشاهدة المحتضرين الذين تخرج أرواحهم، فإن في النظر إليهم ومشاهدة سكراتهم عند نزع أرواحهم، وشخوص أبصارهم عند نزعها، وعجزهم عن الكلام، عند تسلل الروح من الجسد.
وتأمل صورهم بعد خروج الروح ما يقطع عن النفوس لذاتها ويطرد عن القلوب مسراتها ويمنع الجفون من النوم ويمنع الأبدان من الراحة، ويبعث على الجد والاجتهاد في العمل للآخرة.
فروي أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه وشدة ما نزل به فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم.
فقالوا له الطعام فلم يأكل:وقال: فو الله لقد رأيت مصرعًا لا أزال أعمل له حتى اللقاء.
الرابع: مما يلين القلوب القاسية زيارة القبور.
فإنها تبلغ من القلوب ما لا يبلغه الأول والثاني والثالث لأنها تذكر بالآخرة.
وَلَمْ أَرَى كَالْمَواتِ أَفْجَعَ مَنْظَرًا ... وَلاَ وَاعِظِي جُلاَّسِهم كَالْمَقَابِرِ
آخر:
وَعَظَتْكَ أَجْدَاثٌ وَهُنْ صُمُوْتُ ... وَأَصْحَابُهَا تَحْتَ التُرَابِ خُفُوْتُ
الخامس: زيارة المستشفيات والمستوصفات فإنها تلين القلوب وتحث الإنسان على حمد الله وشكره، وعلى الجد والاجتهاد فيما يعود نفعه على الإنسان في الآخرة.
وينبغي للإنسان أن يقوي ظنه بالله ويستحضر رحمته ورأفته ولطفه بعباده ولا سيما عند الاحتضار.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله». رواه مسلم وفي حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي». الحديث متفق عليه.
ولا ريب أن حسن الظن برب العالمين الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى الحليم الكريم الجواد الرحمن الرحيم الرءوف بالعباد الغني عنا وعن أعمالنا وعن تعذيبنا وعقابنا.
من أعظم ما نتقرب به إليه ومن أجزل ما نتوجه به عليه.
أي عبادة أعظم من حسن ظننا برب العالمين مع الخوف من معاملته إيانا بعدله.(1/11)
فالعاقل يكون بين الخوف والرجاء لكن يغلب الرجاء عند الاحتضار ويحسن الظن بالكريم الغفار ويستحضر أنه قادم على أكرم الأكرمين. وأجود الأجودين البر الرحيم.
وإن حصل أن يتلى عند المحتضر آيات الرجاء وأحاديث الرجاء ليقوي ظنه بالله تعالى أجود الأجودين وأكرم الأكرمين.
ومن آيات الرجاء قوله جل وعلا وتقدس: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( [الزمر: 53].
وقال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ( [الأعراف: 156]. وقوله: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً( [الفرقان: 70].
وقوله: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً( [النساء: 48] .
ومن أحاديث الرجاء ما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم على رسول الله بسبي فإذا امرأة من السبي تسعى إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فالزقته ببطنها فأرضعته.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار قلنا لا يا رسول الله فقال: الله أرحم بعباده من هذه بولدها». متفق عليه.
وورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله». متفق عليه.(1/12)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي وفي رواية غلبت غضبي وفي رواية سبقت غضبي». متفق عليه.
وروي عن الإمام أحمد أنه لما حضرته الوفاة قال لولده عبد الله: الق علي أحاديث الرجاء.
لأن المؤمن إذا سمع آيات الرجاء وأحاديث الرجاء قوي حسن ظنه بربه عز وجل واشتاق إلى لقاء سيده ومولاه الذي هو أرحم به من والديه وأولاده فعند ذلك تهون عليه سكرات الموت إذا أراد الله.
إِذَا اشْتَكَتْ مِنْ كَلالِ السَّيْرِ أَوْ عَدَهَا ... وَصْلَ الْمُحبِّ فَتَحْيَا عِنْدَ مِيْعَادِ
والمهم أنه يحرص كل الحرص على تقوية حسن ظنه برب العالمين ثم اعلم أن للموت سكرات قال الله جل وعلا وتقدس: (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ( [ق: 19] .
وقيل إن الأعضاء يسلم بعضها على بعض ففي تذكرة القرطبي عن أنس مرفوعًا «إن العبد ليعالج كرب الموت وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض يقول السلام عليك تُفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة».
أي يودع بعضها بعضًا.
خُلقْنَا لأِحْدَاث الليالي فَرائِسًا ... تُزَفُ إِلِى الأَجْدَاثِ مِنَّا عَرَائِسًا
تُجَهِّزُ مِنَّا لِلْقُبُورِ عَسَاكِرًا ... وَتُرْدِفُ أعوادَ الْمُنايَا فَوارِسًا
إِذَا أمَلٌ أرْخَى لَنَا مِنْ عِنَانِهِ ... غَدَا أَجَلٌ عَمَّا نُحَاوِلُ حَابِسًا
أَرَى الْغُصْنَ لَمَّا اجْتُثُّ وَهو بِمَائِهِ ... رَطيبًا وَمَا أنْ أَصْبَحَ الْغُصْن يَابِسًا
نَشِيدُ قُصورًا لِلْخُلُودِ سَفَاهَةً ... وَنَصْبِر مَا شِئْنَا فَتورًا دَوَارسًا
اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)(1/13)
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن كثرة ذكر الموت تردع عن المعاصي وتلين القلب القاسي، وتذهب الفرح بالدنيا وزينتها وزخارفها ولذاتها.
وتحثك على الجد والاجتهاد في الطاعات وإصلاح أحوالك وشئونك والتنسخ من حقوق الله وحقوق خلقه، وتنفيذ الوصايا وأداء الأمانات والديون.
قال بعضهم فضح الدنيا والله هذا الموت فلم يترك فيها لذي عقل فرحًا.
وقال آخر ما رأيت عاقلاً قط إلا وجدته حذرًا من الموت حزينًا من أجله.
وقال آخر من ذكر الموت هانت عليه مصائب الدنيا.
وقال آخر: من لم يخفه في هذه الدار ربما تمناه في الآخرة فلا يؤتاه.
وقال آخر يوصي أخًا له: يا أخي احذر الموت في هذه الدار من قبل أن تصير إلى دار تتمنى بها الموت فلا يوجد.
وقال آخر: وأما ذكر الموت والتفكر فيه، فإنه وإن كان أمرًا مقدرًا مفروغًا منه، فإنه يكسبك بتوفيق الله التجافي عن دار الغرور، والاستعداد والإنابة إلى دار الخلود، والتفكر والنظر فيما تقدم عليه وفيما يصير أمرك إليه.
ويهون عليك مصائب الدنيا ويصغر عندك نوائبها، فإن كان سبب موتك سهلاً وأمره قريبًا فهو ذاك، وإن كانت الأخرى كنت مأجورًا مع النية الصالحة فيما تقاسيه، مثابًا على ما تتحمله من المشاق.
واعلم أن ذكر الموت وغيره من الأذكار إنما يكون بالقلب وإقبالك على ما تذكره. قال الله جلا جلاله وتقدست أسماؤه: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ( [ق: 37]. فأي فائدة لك رحمك الله في تحريك لسانك إذا لم يخطر بقلبك.
وإنما مثل الذكر الذي يعقب التنبيه، ويكون معه النفع والإيقاظ من الغفلة والنوم أن تحضر المذكور قلبك وتجمع له ذهنك وتجعله نصب عينيك من ولد أو أهل أو مال أو غير ذلك، فتعلم علمًا لا يشوبه شك أنك مفارقة إما في الحياة أو في الممات، وهذه سنة الله الجارية في خلقه وحكمه المطرد.(1/14)
وتُشعْر هذا قلبك وتفرغ له نفسك فتمنعها بذلك عن الميل إلى ذلك المحبوب والتعلق به والهلكة بسببه.
فَعُقْبَى كَلِّ شَيءٍ نَحْنُ فِيِهِ ... مِن الْجَمْع الكثيفِ إِلَى شَتَاتِ
وَمَا حُزْنَاهُ مِن حِلِّ وَحُرْمٍ ... يُوَزَّعُ فِي البَنِيْنِ وَفِي البَنَاتِ
وَفِيْمَنْ لَمْ نَؤَهِّلْهُمْ بِفَلسٍ ... وقِيْمَةِ حَبّةٍ قَبْلَ الْمَمَاتِ
وَتَنْسَانَا الأَحِبَّةُ بَعْدَ عَشْر ... وَقَد صِرْنَا عِظامًا بَالِيَاتِ
كَأَنَّا لَمْ نُعَاشِرهُم بِوُدِّ ... وَلَمْ يَكُ فيهِمُ خِلِّ مُؤاتِ
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(فصل)
واعلم رحمك الله أن مما يعنيك على الفكرة في الموت ويفرغك له ويكثر اشتغال فكرك به تذكر من مضى من إخوانك وخلانك وأصحابك وأقرانك وزملائك وأساتذتك ومشايخك الذين مضوا قبلك وتقدموا أمامك.
كانوا يحرصون حرصك ويسعون سعيك، ويأملون أملك، ويعملون في هذه الدنيا عملك وقصت المنون أعناقهم وقصمت ظهورهم وأصلابهم، وفجعت فيهم أهليهم وأحباءهم وأقرباءهم وجيرانهم فأصبحوا آية للمتوسمين وعبرة للمعتبرين.
ويتذكر أيضًا ما كانوا عليه من الاعتناء بالملابس ونظافتها ونضرة بشرتهم، وما كانوا يسحبونه من أردية الشباب وأنهم كانوا في نعيم يتقلبون، وعلى الأسرة يتكئون، وبما شاءوا من محابهم يتنعمون.
وفي أمانيهم يقومون ويقعدون، لا يفكرون بالزوال، ولا يهمون بانتقال، ولا يخطر الموت لهم على بال، قد خدعتهم الدنيا بزخارفها، وخلبتهم وخدعتهم برونقها، وحدثتهم بأحاديثها الكاذبة، ووعدتهم بمواعيدها المخلفة الغرارة.
فلم تزل تقرب لهم بعيدها، وترفع لهم مشيدها، وتلبسهم غضها وجديدها، حتى إذا تمكنت منهم علائقها، وتحكمت فيهم رواشقها، وتكشفت لهم حقائقها، ورمقتهم من المنية روامقها.(1/15)
فوثبت عليهم وثبة الحنق وأغصتهم غصة الشرق، وقتلتهم قتلة المختنق، فحكم عليهم من عيون باكية، ودموع جارية، وخدود دامية، وقلوب من الفرح والسرور لفقدهم خالية. وأنشدوا في هذا المعنى:
وَرَيَّانَ مِن مَاءِ الشَّبَابِ إِذَا مَشَىْ ... يَمِيْدُ عَلَى حُكْم الصِّبَا وَيَمِيْدُ
تَعَلْقَ مِن دُنْيَاهُ إِذَا عَرَضَتْ لَهُ ... خَلوبًا لألْبابِ الرِّجَالِ تَصِيْدُ
فَأَصْبَحَ مِنْهَا فِي حَصِيْدٍ وَقَائِم ... وَلِلْمَرْءِ مِنْهَا قَائمٌ وَحَصِيْدُ
خَلاَ بِالأمانِي واسْتَطَابَ حَدِيْثَها ... فَيَنْقُصُ مِن أَطْمَاعِهِ وَيَزِيْدُ
وَأدْنَتْ لَهُ الأَشْيَاءَ وَهيَ بَعَيْدَةٌ ... وَتَفْعَلُ تُدْنِي الشَّيءَ وَهْوَ بَعَيِْدُ
أتِيْحَتْ لَهُ مِن جَانِب الْمَوتِ رَمْيَةً ... فَراحَ بِهَا الْمَغْرُوْرُ وَهْوَ حَصِيْدُ
وَصَارَ هَشِيْمًا بَعْدَمَا كَانَ يَانِعًا ... وَعَادَ حَدِيْثا يَنْقَضِيْ وَيَبِيْدُ
كَأَنْ لَمْ يَنَلْ يَومًا مِن الدَّهْرِ لَذَّةً ... وَلاَ طَلَعَتْ فِيْهِ عَلَيْه سُعُوْدُ
تَبَارَكَ مَن يُجْرِيْ عَلَى الْخَلْقِ حُكْمَهُ ... فَلَيْسَ لِشَيءٍ مِنْهُ عنه مَجِيْدُ
انتهى
اللهم اسلك بنا مسلك الصادقين الأبرار، وألحقنا بعبادك المصطفين الأخيار، وأتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم أحي قلوبًا أماتها البعد عن بابك، ولا تعذبنا بأليم عقابك يا أكرم من سمح بالنوال وجاد بالإفضال، اللهم أيقظنا من غفلتنا بلطفك وإحسانك، وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
ثم اعلم أيها الأخ أنه ما من ساعة تمر على العبد لا يذكر الله فيها إلا تأسف وتحسر على فواتها بغير ذكر الله ولذلك ينبغي للعاقل أن يجعل معه شيئًا يذكره لذكر الله كلما غفل عنه.(1/16)
ويُقال إن العبد تعرض عليه ساعات عمره في اليوم والليلة فيراها خزائن مصفوفة أربع وعشرين خزانة فيرى في كل خزانة أمضاها في طاعة الله ما يسره. فإذا مرت به الساعات التي غفل فيها عن ذكر الله رآها فارغة ساءه ذلك وتندم حين لا يفيده الندم.
وأما الساعات التي كان يذكر الله فيها فلا تسأل عن سروره فيها وفرحه بها حتى يكاد أن يقتله الفرح والسرور. قال بعضهم أوقات الإنسان أربعة لا خامس لها النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية.
ولله عليك في كل وقت منها سهم من العبودية.
فمن كان وقته الطاعة لله فسبيله شهود المنة من الله عليه أن هداه ووفقه للقيام بها.
ومن كان وقته المعصية فعليه بالتوبة والندم والاستغفار.
ومن كان وقته النعمة فسبيله الشكر والحمد لله والثناء عليه.
ومن كان وقته البلية فسبيله الرضا بالقضاء والصبر والرضا رضى النفس عن الله، والصبر ثبات القلب بين يدي الرب. اهـ.
العمر إذا مضى لا عوض وما حصل لك منه لا قيمة له. فعمر الإنسان هو ميدانه للأعمال الصالحة المقربة من الله تعالى والموجبة له جزيل الثواب في الآخرة. ولكن ما يعرف قدر العمر إلا نوادر العلماء.
قال الله جل وعلا وتقدس: (ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ( [النحل: 32]. وقال تبارك وتعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ( [الحاقة: 24]. وقال: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ( [الذاريات: 16].
وهذه هي السعادة التي يكدح العبد ويسعى من أجلها وليس له منها إلا ما سعى كما قال جل وعلا وتقدس: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى( [النجم: 39].
فكل جزء يفوته من العمر خاليًا من عمل صالح.
يفوته من السعادة بقدره ولا عوض له منه.(1/17)
فالوقت لا يستدرك وليس شيء أعز منه وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من العمل الصالح يتوصل به إلى ملك كبير لا يفني ولا قيمة لما يوصل إلى ذلك لأنه في غاية الشرف والنفاسة.
ولأجل هذا عظمت مراعاة السلف الصالح رضي الله عنهم لأنفاسهم ولحظاتهم وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير ولم يقنعوا لأنفسهم إلا بالجد والتشمير فلله درهم ما أبصرهم بتصريف أوقاتهم.
تَبْغِي الوُصُولَ بِسَيْرٍ فِيِهِ تَقْصِيْرُ ... لاَ شَكَّ أَنَّكَ فِيْمَا رُمْتَ مَغْرُوْرُ
قَدْ سَارَ قَبْلَكَ أَبْطَالٌ فَمَا وَصِلُوا ... هَذَا وَفِي سَيْرِهم جَدُّ وَتَشْمِيْرُ
قال بعضهم أدركت أقوامًا كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهمكم فكما لا يخرج أحدكم دينارًا ولا درهمًا إلا فيما يعود نفعه عليه فكذلك السلف لا يحبون أن تخرج ساعة بل ولا دقيقة من أعمارهم إلا فيما يعود نفعه عليهم ضد ما عليه أهل هذا الزمان من قتل الوقت عند المنكرات.
تَبًا لِطَالِبِ دُنْيَا لاَ بَقَاءَ لَهَا ... كَأَنَّمَا هِي فِي تَعْرِيْفَهَا حُلمُ
صَفَاؤُهَا كَدَرٌ سُرُوْرُهَا ضَرَرٌ ... أَمَانُهَا غَرَرٌ أَنْوَارُهُا ظُلَمُ
شَبَابُهَا هَرَمٌ رَاحَاتُهَا سَقَمٌ ... لَذَّاتُهَا نَدَمٌ وُجْدَانُهَا عَدَمُ
لاَ يَسْتَفِيْقُ مِن الأَنْكَادِ صَاحِبُهَا ... لَوْ كَانَ يَمْلِكُ مَا قَد ضُمِّنَتْ إِرْمُ
فَخَلِّ عَنْهَا وَلاَ تَرْكَنْ لِزَهْرَتِهَا ... فَإِنَّهَا نِعَمٌ فِي طَيِّها نِقَمُ
وَاعْمَلْ لِدَارِ نَعِيْمٍ لاَ نَفَادَ لَهَا ... وَلاَ يُخَافُ بِهَا مَوْتٌ وَلا هَرَمُ
انتهى
آخر:
رَفَعْتَ عَرْشَكَ فِي الدَّنْيَا وَتُهْتَ بِهِ ... وَمَا بِهَا لِلَبيْب تُرْفَعُ العُرُشُ
وَبِتّ فِيْهَا عَلَى فُرْشٍ مُلَيَّنَةٍ ... وَلَوْ عَقَلْتَ لَمَا لاَنَتْ لَكَ الفُرشُ(1/18)
وَظِلْتَ تَسْعَى لآِمال وَتَفْرشُهَا ... وَلِلْمَوَارِيْثِ مَا تَسْعَى وَتَفْتَرِشُ
كَمْ كَانَ قَبْلَكَ مِنْ مَأسُوْرِ رَغْبَتِهِ ... بِالحِرْصِ تُلْدَغُ جَنْبَاهُ وَتُنَتَهشُ
يَمسِي وَيُصْبَحُ فِي حِلٍّ وَفِي ظَعْنٍ ... يَضُمُّ هَذَا إِلَى هَذَا وَيَحْتَوِشُ
عَطْشَان لِلْمَالِ مُحْمَاة جَوَانِحُهُ ... أَلْقَى عَلَى صَدْرِهِ لِسَانِهُ العَطَشُ
حَتَّى إِذَا قِيْلَ قَد تَمَّتْ مَطَالِبُهُ ... وَطَافَ مِن حَوْلِهِ أَهْلُوْه وَاْحَتوشُوا
مَدَّتْ إِليه يَدٌ لِلْمَوْتِ بِاطِشَةٌ ... خَشْنَاءُ لاَ دَهَشَ فِيْهَا وَلاَ رَعَشُ
فَقصَّعَتْهُ وَقِدْمًا كَانَ ذَا جَيْدٍ ... وَأجْهَشَتْهُ وَلَمَّا يَدْرِ مَا الْجَهَشُ
فَبَاتَ مُسْتَلَبًا وَبَاتَ وَارثُهُ ... وَقَدْ تَغَطَوْا بِذَاكَ الْمَالِ وَافْتَرَشُوا
أَمَا سَمِعَتَ بِأَمْلاَكٍ مَضَوا قِدَمًا ... شُمُّو الأنْوفِ بِرَوض الملك قَد عَرَشُوا
إِنْ دُوفِعُوا دَفَعُوا أَوْ زُوحِمُوا زَحَمُوا ... أَوْ غُوْلِبُوا غَلبُوا أَوْ بُوْطِشُوا بَطشُوا
جَاءَتْهُمُوا وَجُنُودُ اللهِ غَالِبَةٌ ... كَتَائِبٌ لِلْمَنَايَا كِلُهَا حَبَشُ
فَضَعْضَعَتْ جَنَبَاتٍ عِزِّهمِ وَرَمَتْ ... مَنَارَهُم بِظَلاِمِ مَا بِهِ غَبَشُ
لَطَالَمَا أَكلُوا وَطَالَمَا شَرَبُوا ... وَطَالَمَا رَفَعُوا الآجَامَ واعْتَرشُوا
مَرُوا وَلا أَثَر مِنْهم بِدَارِ همُوا ... وَلا حَسِيْسَ وَلا رِكْزٌ وَلا وَقَشُ
قَدْ كَانَ لِلْقَوْمِ آمالٌ مَبَسَّطةٌ ... فَأَصْبَحُوا قبضُوا الآمال وَانكَمَشُوا
اللهم اشف قلوبنا من أمراض المعاصي والآثام وأملأها من خشيتك وأقبل بها إلى طاعتك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
اعلم أنه ينبغي للإنسان المبادرة إلى الأعمال الصالحة، وأن ينتهز فرصة الإمكان قبل هجوم هادم اللذات.(1/19)
وأن يستعين بالله ويتوكل عليه ويسأله العون في تيسير الأعمال الصالحة وصرف الموانع الحائلة بينه وبينها.
وليحرص على حفظ القرآن، وتدبره وتفهمه، والعمل به، وكذلك السنة، ويحرص على أداء الصلاة في جماعة.
ويحرص على مجالس الذكر، ويحفظ لسانه عن الغيبة والنميمة والسعاية والكذب وجميع الأعمال والأخلاق السيئة.
ويتهيأ للرحيل، ويتفقد نفسه بما عليه، وما له فإن كان عنده حقوق لله كزكاة أو لخلقه كأمانات أو عواري أو وصايا أداها بسرعة خشية أن يفجاءه الموت وهي عنده.
فإذا لم تؤدها أنت في حياتك، فمن بعدك من أولاد أو إخوان يبعد اهتمامهم بذلك، لأنهم يهتمون ويشتغلون بما خلفته لهم وضيعت بسببه نفسك.
فالله الله البدار بالتفتيش على النفس، والمبادرة بالتوبة والإكثار من الاستغفار.
ومما يحثك على ذلك ذكر مرارة الموت الذي سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هادم اللذات، وتذكر شدة النزع والتفكر في الموتى الذي حبسوا على أعمالهم ليجازوا بها فليس فيهم من يقدر على محو خطيئة، ولا على زيادة حسنة.
وعاد بعضهم مريضًا فقال له كيف تجدك؟
قال: هو الموت. قال له: وكيف علمت انه الموت؟ قال: أجدني اجتذب اجتذابًا، وكأن الخناجر في جوفي، وكأن جوفي تنور محمى يتلهب:
قال له: فاعهد (أي أوصى)، قال: أرى الأمر أعجل من ذلك فدعا بدواة وصحيفة قال: فو الله ما أتى بها حتى شخص بصره فمات.
وقال إبراهيم بن يزيد العبدي: أتاني رياح القيسي فقال: يا أبا إسحاق انطلق بنا إلى أهل الآخرة نحدث بقربهم عهدًا.
فانطلقت معه، فأتى المقابر فجلسنا إلى بعض تلك القبور، فقال: يا أبا إسحاق ما ترى هذا متمنيًا لو مُنيَّ، قلت: أن يرد والله إلى الدنيا فيستمتع من طاعة الله ويصلح.
قال: فها نحن ثم نهض فجد واجتهد، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى مات.
(فصل)(1/20)
أعلم رحمنا الله وإياك وجميع المسلمين أن في القبر وظلمته، وضيقه ووحشته وطرح الميت فيه غير ممهد ولا موسد قد باشر التراب وواجه البلى وترك الدنيا وزينتها للورى.
ونبذ منها ما كان في يديه في العراء مع حبيب تركه وقريب أسلمه، ونصير أفرده، وترك كل ما كان عهده إن ذلك لما يفطم النفوس عن الشهوات، وإن كانت صعبة الفطام، ويقطعها عن اللذات، وإن كان قطعها بعيد المرام، إذا بحث عن الحقيقة ونظر بعين البصيرة وسمع النداء من قريب فبينما الإنسان في رخاء العيش مسرورًا فيما بين يديه غافلاً عن يوم صرعته قد فتح للهوى بابه، وأرسل عليه حجابه، ولم يبال بمن لامه في ذلك أو عابه، إذ هجمت عليه المنية، فهتكت أستاره، وكسفت أنواره، وشتت شمله وطمست أعلامه وآثاره.
فأخرجته من ذلك القصر المشيد، والمنزل المنجد والمتاع المزخرف المنضد، إلى حفرة من الأرض ظلماء ضيقة الجوانب مملوءة من الرعب والفزع والخوف والقلق والذعر.
فحذار حذار وبدار بدار قبل أن تصرع هذا المصرع فيفت في عضدك ويسقط في يدك وترمى بك عن أهلك وولدك في مهواة تزدحم فيها الأهوال، وتنقطع فيها الآمال.
قد جمعت فيها جمعًا ورصعت فيها رصعًا وتركت فيه للهوام والديدان طعمًا، ومرعى.
ولعلك ممن يرغب في تبديل المنازل وإن كانت حسانًا، ولا ترى لربك عز وجل فيها تفضلاً وامتنانًا.
فانظر الآن كم بين المنزلتين وكم قدر ما بين الوحشتين إلا أن يدركك الله برحمته فتتسع من القبر أقطاره وتمتد فيه أنواره وأنشدوا في هذا المعنى:
مَنْ كَانَ يُوْحِشُهُ تَبْدِيْلُ مَنْزِلِه ... وَأَنْ يُبَدِّلَ مِنْهَا مَنْزِلاً حَسَنًا
مَاذَا يَقُولُ إِذَا ضَمَّتْ جَوَانِبَهَا ... عَلَيْهِ وَاجْتَمَعَتْ مِن هَاهُنَا وَهُنَا
مَاذَا يَقُوْلُ إِذَا أَمْسَى بِحُفْرَتِهِ ... فَرْدًا وَقَد فَارَقَ الأهْلِيْنَ وَالسَّكَنَا(1/21)
هُنَاكَ يَعْلَمُ قَدْرَ الوَحْشَتَيْنِ وَمَا ... يَلْقَاهُ مَن بَاتَ بِالَّلْذَاتِ مُرْتَهِنًا
يَا غَفْلَةً وَرِمَاحُ الْمَوْتِ شَارِعَةٌ ... وَالشَّيْبُ أَلْقَى بِرَأْسِي نَحْوَه الرَّسَنَا
وَلَمْ أُعِدْ مَكَانًا لِلَّنِزَالِ وَلا ... أَعْدَدْتُ زَادًا وَلَكِنْ غَرَّةُ ومُنَا
إَنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ تَوالَى جُوْدُهُ أَبَدًا ... وَيَعْفُ مَن عَفْوُهُ مِن طَالِبِيْهِ دَنَا
فَيَا إِلَهِي وَمُزْنُ الْجُودِ وَاكِفَهٌ ... سَحًا فَتُمْطِرُنَا الإِفْضَالُ وَالْمِنَنَا
آنِسْ هُنَالِكَ يَا رَحْمَنُ وَحْشَتَنَا ... وَالْطُفْ بِنَا وَتَرَفَّقْ عِنْدَ ذَاكَ بِنَا
نَحْنُ العُصَاةُ وَأَنْتَ اللهُ مَلْجَؤُنَا ... وَأَنْتَ مَقْصَدُنَا الأَسْنَى وَمَطْلَبُنَا
فَكُنْ لَنَا عِنْدَ بَأْسَاهَا وَشِدَّتَها ... أَوْلَى فَمَنْ ذَا الَّذِي فِيْهَا يَكُوُن لَنَا
اللهم اسلك بنا مناهج السلامة وعافنا من موجبات الحسرة والندامة ووفقنا للاستعداد لما وعدتنا وأدم لنا إحسانك ولطفك كما عودتنا وأتمم علينا ما به أكرمتنا برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شعرًا
تَذَكَّرْ وَلاَ تَنْسَ الْمِعَادَ وَلا تَكُنْ ... كَأَنَّكَ مُخْلَى لِلمَلاعِبِ مُمْرَجُ
وَلاَ تَنْسَ إِذْ أَنْتَ المُوَلْوَلُ حَوْلَهُ ... ونَفْسُكَ مِن بَيْنَ الْجَوَانِحُ تَخْرُجُ
وَلاَ تَنْسَ إِذْا أَنْتَ الْمُسَجَّى بِثَوْبِهِ ... وَإِذْ أَنْتَ فِي كَرْبِ السِّيَاقِ تُحَشْرجُ
وَلاَ تَنْسَ إِذْ أَنْتَ الْمُعَزَّى قَرِيْبُهُ ... وَإِذْ أَنْتَ فِي بِيْضٍ مِن الرَّيْطِ مُدْرَجُ
وَلاَ تَنْسَ إِذْ يَهْدِيْكَ قَوْمٌ إِلَى الثَّرَى ... إِذْا مَا هَدَوْكَاهُ انْثَنَوا لَمْ يُعَرِّجُوا
وَلاَ تَنْسَ إِذْ قَبْرٌ وإِذْ مِن تُرَابِه ... عَلَيْكَ بِه رَدْمٌ وَلِبْنٌ مُشَرَّجُ(1/22)
وَلاَ تَنْسَ إِذْ تُكْسَى غَدًا مِنْهُ وَحْشَةً ... مَجَالِسُ فِيْهِنَّ العَنَاكِبُ تَنْسِجُ
وَلاَ بُدَّ مِنْ بَيْتِ انقطاعٍ وَوَحْدَةٍ ... وَإنْ سَرَّكَ البَيْتُ العَتِيْقُ الْمُدَبَّجُ
أَلاَ رُبَّ ذِيْ طِمْرٍ غَدًا فِي كَرَامَةٍ ... وَمَلْكٍ بِتِيْجَانِ الْهَوَانِ مُتَوَّجُ
لَعَمْرُكَ مَا الدَّنْيَا بِدَارِ إِقَامَةٍ ... وَإنْ زَخْرَفَ الغَاوُوْنَ فِيْهَا وَزَبْرَجُوا
اللهم وفقنا توفيقًا يقينا عن معاصيك وأرشدنا إلى السعي فيما يرضيك وأجرنا يا مولانا من خزيك وعذابك وهب لنا ما وهبته لأوليائك وأحبابك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
فائدة – قال ابن القيم رحمه الله:
لشهادة أن لا إله إلا الله عند الموت تأثير عظيم في تكفير السيئات وإحباطها لأنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها قد ماتت منه الشهوات ولانت نفسه المتمردة وانقادت بعد إبائها، وأقبلت بعد إعراضها.
وذلت بعد عزها وخرج منها حرصها على الدنيا فضولها واستخذت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق أذل ما كانت له وأرجى ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته، وتجرد منها التوحيد بانقطاع أسباب الشرك وتحقق بطلانه.
فزالت منها تلك المنازعات التي كانت مشغولة بها، واجتمع همها على من أيقنت بالقدوم عليه والمصير إليه، فوجه العبد وجهه بكليته إليه، وأقبل بقلبه وروحه وهمه عليه، فاستسلم لله وحده ظاهرًا وباطنًا واستوى سره وعلانيته.
فقال لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه، وقد تخلص من التعلق بغيره والالتفات إلى ما سواه، قد خرجت الدنيا كلها من قلبه وشارف القدوم على ربه، وخمدت نيران شهوته، وامتلأ قلبه من الآخرة، فصارت نصب عينيه، وصارت الدنيا وراء ظهره.(1/23)
فكانت تلك الشهادة الخالصة خاتمة عمله فطهرته من ذنوبه وأدخلته على ربه لأنه لقي ربه بشهادة صادقة خالصة وافق ظاهرها باطنها وسرها علانيتها فلو حصلت له الشهادة على هذا الوجه في أيام الصحة لاستوحش من الدنيا، وأهلها وفر إلى الله من الناس وأنس به دون من سواه. لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحياة وأنس بها ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات إلى غير الله فلو تجردت كتجردها عند الموت لكان لها نبأ آخر وعيش آخر سوى عيشها البهيمي والله المستعان.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وعن أنس بن مالك أن معاذ بن جبل رضي الله عنه دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال كيف أصبحت، يا معاذ قال أصبحت مؤمنا بالله حقًا – قال: «إن لكل قول مصداقا ولكل حق حقيقة فما مصداق ما تقول؟».
قال: يا نبي الله ما أصبحت صباحًا قط إلا ظننت أني لا أصبح، ولا خطوة خطوة إلا ظننت إني لا أتبعها أخرى وكأني أنظر إلى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها معها نبيها وأوثانها التي كانت تعبد من دون الله، وكأني أنظر إلى عقوبة أهل النار وثواب أهل الجنة، قال عليه الصلاة والسلام "عرفت فألزم".
وبلغ زين العابدين من الدنيا أفضل ما تسعى إليه همةُ رجل، فرفضها ونبذها قائلاً «هذا سرور لولا أنه غرور، ونعيم لولا أنه عن قريب عديم، وملك لولا أنه هلك، وغنى لولا أنه فنى، وأمر جسيم لولا أنه ذميم، وارتفاع لولا أنه اتضاع وحسب امرئ من الدنيا لقيمات يقيم بها صلبه، وثوب يستر به عورته، وصحة يستقوي بها على طاعة الله».(1/24)
واعلم يا أخي أن الأجل قريب وهو مستور عنك وهو في يد غيرك، يسوقه حثيث الليل والنهار، وإذا انتهت المدة حيل بينك وبين العدة، فاحتل قبل المنتهى وأكرم أجلك بحسن صحبة الصادقين، وإذا آنستك السلامة فاستوحش بالعطب، فإنه الغاية وإذا فرحت بالعافية فاحسب حسابًا للبلاء، وإذا بسطك الأمل فاقبض نفسك عنه بذكر الأجل، فهو الموعد وإليه المورد.
كتب بعضُ الحكماء إلى رجل من إخوانه: يا أخي أحذر الموت في هذه الدار قبل أن تصير إلى دار تتمنى فيها الموت فلا تجده.
وكان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.
وقال إبراهيم التيمي: شيئان قطعًا عني لذة الدنيا ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله عز وجل.
وقال كعب من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا وهمومها.
وقال شريح: إني أصاب بالمصيبة فأحمد الله تعالى أربع مرات أحمده إذ لم تكن أعظم منها، وأحمده إذا رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني لاسترجاع ما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني.
وقال حاتم الأصم: مصيبة الدين أعظم من مصيبة الدنيا، ولقد ماتت لي بنت فعزاني أكثر من عشرة آلاف وفاتتني صلاة الجماعة فلم يعزني أحد.
وقال آخر: كن حذرًا من أربع غارات، الأولى: غارة ملك الموت على روحك، الثانية: غارة الورثة على مالك، الثالثة: غارة الدود على جسمك في قبرك، والرابعة: غارة الخمصاء على حسناتك، فعليك في الاستعداد والاحتياط والإكثار من الباقيات الصالحات والمداومة على ذكر الله ليلاً ونهارًا وسرًا وجهارًا.
كان محمد بن سيرين يدخل السوق نصف النهار يُكبر ويسبح ويذكر الله، فقال له رجل: يا أبا بكر في هذه الساعة، قال: إنها ساعة غفلة ينبغي الذكر والتذكير فيها.(1/25)
وقال بعض العلماء: إني لأقرأ القرآن فأنظر في آية فيحار عقلي فيها وأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم وهم يتلون كلام الرحمن، أما لو فهموا ما يتلون وعرفوا حقه وتلذذوا به واستحلوا المناجة به لذهب عنهم النوم فرحًا وسروا بما رزقهم الله ووفقهم له.
شعرًا:
فَشَمِّرْ وَلُذْ بِاللهِ وَاحْفَظْ كِتَابَهُ ... فَفِيْهِ الْهُدَى حَقًا وَلِلخَيْرِ جَامِعُ
هو الذُّخْرُ لِلمَلْهُوفِ وَالكَنْزُ وَالرَّجَا ... وَمْنْهُ بِلا شَكِّ تُنَالُ الْمَنَافِعُ
بِهِ يَهْتَدِي مَن تَاهَ فِي مَهْمَهِ الْهَوَى ... بِه يَتَسَلَّى مَنْ دَهَتهُ الفَجَائِعُ
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(فائدة)
إذا علم العبد أن الله تعالى رحيم به ورءوف به وناظر إليه فكل ما يرد عليه من أنواع البلايا والرزايا والمصائب ينبغي له أن يصبر ويحتسب ولا يكترث بذلك فإنه لم يتعود من الله إلا خيرًا له.
فليحسن ظنه بربه وليعتقد أن ذلك خيرًا له وأن له في ذلك مصالح خفية لا يعلمها إلا الله كما قال تعالى: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ( [البقرة: 216] فقد يحب الإنسان الشهرة والعافية والغناء ويكون شرًا له كما في قصة قارون وثعلبة:
وَخَفَّفَ عَنِّي مَا أَلاقِي من العَنَا ... بِأَنَّكَ أَنْتَ الْمُبْتَلي وَالْمُقَدِّرُ
وَمَا لاِمْرِءٍ عَمَّا قَضَى اللهُ مَعْدِلٌ ... وَلَيْسَ لَهُ مِنْهُ الَّذِي يَتَخَيَّرُ
(فائدة)
قيل من علامات التوفيق دخول أعمال البر عليك من غير قصد لها، وصرف المعاصي عنك مع السعي إليها، وفتح باب اللجاء والافتقار إلى الله تعالى في كل الأحوال، واتباع السيئة الحسنة، وعظم الذنب في قلبك وإن كان من صغائر الذنوب والإكثار من ذكر الله وشكره وحمده والاستغفار.(1/26)
ومن علامات الخذلان تعسر الطاعات عليك مع السعي فيها، ودخول المعاصي عليك مع هربك منها، وغلق باب الالتجاء إلى الله وترك التضرع له وترك الدعاء، وإتباع الحسنة بالسيئات، واحتقارك لذنوبك وعدم الاهتمام بها وإهمال التوبة منها والاستغفار ونسيانك لربك.
ذم الإنسان نفسه واحتقاره لها لما يتحققه من عيوبها وآفاتها مطلوب منه لأنه يؤديه إلى التفتيش عليها ومحاسبتها بدقة ويؤديه أيضًا إلى الحذر من غرورها وشرورها،
فتصلح بسبب ذلك أعماله وتصدق أحواله وتستقيم، بإذن الله أموره وإلا فسدت عليه واعتلت لدخول الآفات عليها ولا يصدنه عن ذلك مدح المادحين وثناء المتملقين؛ لأنه يعلم من عيوب نفسه ما لا يعمله غيره.
المؤمن الحقيقي هو الذي إذا مدح وأثنى عليه وذكر طرفًا من محاسنه استحيا من الله تعالى استحيا تعظيم وإجلال أن يثنى عليه بصفة ليست فيه.
فيزداد بذلك مقتًا لنفسه واستحقارًا لها ونفورًا عنها ويقوى عنده رؤية إحسان الله تعالى إليه وشهوده فضله عليه ومنته في إظهار المحاسن عليه ويشكر الله ويحمده على ما أولاه من نعمه التي لا تعد ولا تحصى.
قيل إن رجلاً أخرج من السجن وفي رجله قيد وهو يسأل الناس فقال لإنسان عاقل أعطني كسرة خُبزة فقال لو قنعت بالكسرة لما وضع القيد في رجلك، ورأى رجل رجلاً من الحكماء يأكل ما تساقط من البقل على رأس الماء.
فقال لو خدمت السلطان لم تحتج إلى أكل هذا، فقال الحكيم وأنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى خدمة السلطان، وقال رجل لآخر كيف حالكم مع السلطان، فقال كما قال الله جل وعلا: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ( [المائدة: 42].
(فائدة)
الأسباب الجالية لمحبة الله لعبده المؤمن نذكر ما تيسر منها إن شاء الله:
(1) قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه والتفطن لمراد الله منه.
(2) الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله، قال الله تعالى: (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ( [آل عمران: 134].(1/27)
(3) التقوى، قال الله تعالى: (واللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(.
(4) طهارة الباطن والظاهر، قال الله تعالى: (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ( [التوبة: 108].
(5) التقرب إلى الله بالنوافل بعد أداء الفرائض فإنها توصل إلى محبة الله لعبده كما في الحديث: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه». الحديث.
(6) دوام ذكر الله على كل حال في كل مكان إلا في المحلات المستقذرة كالخلاء ونحوه ويكون ذلك باللسان والقلب والعمل.
(7) إيثار محبة على محابه عند غلبات الهوى.
(8) مطالعة القلب لأسمائه وصفاته وأفعاله ومشاهدتها وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومباديها فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة.
(9) مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة.
(10) إنكسار القلب بين يديه والتضرع والتذلل له وإظهار الافتقار إليه وإظهارالعجز والمسكنة والتلهف إلى رحمته ورأفته ولطفه.
(11) مجالسة التالين للقرآن العاملين به والذاكرين الله كثيرًا.
(12) القتال في سبيل الله، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ( [الصف: 4].
(13) إتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الله جل وعلا: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ( [آل عمران: 31].
(14) الصبر، قال تعالى: (وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ( [آل عمران: 146].
(15) الخلوة به سبحانه وقت النزول الإلهي أي وقت التجلي الإلهي، وهو في الاسحار قبل الفجر لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والقالب بين يديه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
(16) مباعدة العوائق والحوائل وكل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.(1/28)
قال رجل لطاوس: أوصني قال أوصيك أن تحب الله حبًا حتى لا يكون شيء أحب إليك منه، وخفه خوفًا حتى لا يكون شيء أخوف إليك منه، وارج الله رجاء يحول بينك وبين ذلك الخوف وارض للناس ما ترضى لنفسك.
اللهم يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصبحه أجمعين.
(فصل)
المراقبة في ثلاثة أشياء: مراقبة الله في طاعته بالعمل الذي يرضيه ومراقبة الله عند ورود المعصية بتركها ومراقبة الله في الهم والخواطر والسر والإعلان قال تعالى: (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ( [القصص: 69] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن تعبد الله كَأَنَّكَ تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
قالت أسماء بنت عميس: إنا لعند علي بن أبي طالب بعد ما ضربه ابن ملجم، إذ شهق ثم أغمى عليه ثم أفاق فقال: مرحبًا مرحبًا، الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الجنة فقيل له ما ترى، قال هذا رسول الله وأخي جعفر وعمي حمزة وأبواب السماء مفتحة والملائكة ينزلون يسلمون علي ويبشرون وهذه فاطمة قد طاف بها وصائفها من الحور وهذه منازلي في الجنة "لمثل هذا فليعمل العاملون".
عن كثير بن زيد قال: كبر حكيم بن حزام حتى ذهب بصره ثم اشتكى فاشتد وجعه فقلت لأحضرنه ولأنظرن ما يتكلم به فإذا هو يهمهم ويقول لا إله إلا الله أحبك وأخشاك حتى مات. انتهى.
ولما حضرت أبا هريرة الوفاة بكى قالوا ما يبكيك، قال: بعد السفر وقلة الزاد وضعف اليقين وخوف الوقوع من الصراط في النار.
ولما حضرت معاذ بن جبل الوفاة قال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار ثم قال مرحبًا بالموت زائر مغيب وحبيب جاء على فاقة اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك.(1/29)
اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لطول ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر ثم قبض -رحمه الله-.
ولما حضرت أبا الدرداء الوفاة جعل يجود بنفسه ويقول ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه ثم قبض -رحمه الله-.
ثم أعلم: أن الألم المصيب للبدن إنما يدرك بواسطة الروح، وإذا وصل الألم إلى نفس الروح فلا تسأل عن كربه وألمه حتى قالوا إنه أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض.
والسبب في أنه لا يقدر على الصياح مع شدة الألم لزيادة الوجع والكرب حتى قهر كل قوة وضعف كل جارحة فلم يبق له قوة الاستغاثة والاستعانة.
أما العقل فقد غشيه وشوشه وأما اللسان فقد أبكمه وأما الأطراف فقد خدرها وضعفها فإن بقيت فيه قوة سمعت له خوارًا وغرغرة من صدره وحلقه حتى يبلغ بها إلى الحلقوم.
فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها وتغلق أبواب التوبة قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» رواه الترمذي وقال حديث حسن.
فالموفق من يكون الموت نصب عينيه لا يغفل عنه ساعة فيستعد للموت.
ويفتش على نفسه ويتفقدها من قبل الصلوات ومن قبل حقوق الله وحقوق خلقه هل أقام الصلاة على الوجه الأكمل؟ هل أدى الزكاة كاملة مكملة؟ هل أبرأ ذمته من حقوق الآدميين؟.
هل أدى الأمانات إلى أهلها؟ هل نفد ما عنده من وصايا ووكالات؟ هل عنده أشياء معارة كتب أو نحوها يرجعها؟ هل عنده كتب زائدة يفرقها على طلبة العلم العاملين بعلمهم؟ ويتلف إن كان عنده آلات لهو لا تقبض روحه وهي عنده. قال بعضهم إن علامة قصر الأمل! المبادرة في العمل قبل حلول الأجل ومن ادعى قصر الأمل وهو يعتني بالدنيا فهو كاذب في دعواه.(1/30)
فالتوفيق أن يكون الموت أمامه في كل لحظة لا يغفل عنه أبدًا إن أصبح أضمر أنه لا يمس وإن أمسى قدر أنه لا يصبح.
مديم العمل بطاعة الله شاكرًا له على توفيقه لذلك ملازمًا لذكر الله ليلاً ونهارًا سرًا وجهارًا.
ولكن لا يتيسر هذا إلا لمن فرغ قلبه عن الغد وما يكون فيه وعن الدنيا وأشغالها وزخارفها وجميع متعلقاتها.
إلا ما كان عونًا على الآخرة وأداء لما وجب عليه من حقوق نسال الله الإعانة والتوفيق والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فصل)
فيا أيها الغافل المهمل المفرط وكلنا كذلك، انتبه وتصور صرعة الموت لنفسك وتصور نزعه لروحك وتصور كربه وسكراته وغصصه وغمه وقلقه.
وتصور بدو الملك لجذب روحك من قدميك ثم الاستمرار لجذب الروح من جميع بدنك فنشطت من أسفلك متصاعدة إلى أعلاك حتى إذا بلغ منك الكرب والوجع والألم منتهاه وعمت الآلام جميع بدنك وقلبك وجل محزون منتظر إما البشرى من الله بالرضا وإما بالغضب.
فبينما أنت في كربك وغمومك وشدة حزنك لارتقا بك إحدى البشريين إذ سمعت صوته إما بما يسرك وإما بما يغمك فيلزم حينئذ غاية الهم والحزن أو الفرح والأنس والسرور قلبك حين انقضت من الدنيا مدتك وانقطع منها أثرك وحملت إلى دار من سلف من الأمم قبلك.
وتصور نفسك حين استطار قلبك فرحًا وسرورًا أو مليء رعبًا وحزنًا وعبرة وبزيارة القبر وهول مطلعه وروعة الملكين منكر ونكير وسؤالهما لك في القبر عن ثلاثة أسئلة ما فيها تخيير، الأول من ربك، والثاني ما دينك، والثالث من نبيك؟
فتصور أصواتهما عند ندائهما لك لتجلس لسؤالهما لك فيه فتصور جلستك في ضيق قبرك وقد سقط كفنك عن حقويك والقطن من عينيك.
ثم تصور شخوصك ببصرك إليهما وتأملك لصورتيهما فإن رأيتهما بأحسن صورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة والسرور وإن رأيتهما بأقبح صورة أيقنت بالعطب والهلاك.
شعرًا:(1/31)
وَلِلمَرْءِ يَوْمٌ يَنْقَضِي فِيْهِ عُمْرُهُ ... وَمَوْت وَقَبْرُ ضَيْقٌ فِيْهِ يُوْلَجُ
وَيَلْقَى نَكِيرًا فِي السُّؤَالِ وَمُنْكَرًا ... يَسُومَانِ بِالتَّنْكِيلِ مِن يَتَلَجْلجُ
آخر:
تَفَكَّرْ فِي مَشِيْبِكَ وَالْمَآبِ ... وَدَفْنِكَ بَعْدَ عِزِّكَ فِي التُّرَابِ
إِذَا وَافَيْتَ قَبْرًا أَنْتَ فِيْهِ ... تُقِيْمُ بِه إلى يَوم الْحِسَابِ
وَفِي أَوْصَالِ جِسْمِكَ حِيْنَ تَبْقَى ... مُقَطَّعَةً مُمُزَّقَةً الإِهَابِ
فَلولاَ القَبْرُ صَارَ عَلَيْكَ سِتْرًا ... لأَنْتَنَتِ الأَبَاطِحُ وَالرَّوَّابِي
خلقْتَ مِن التُّرَابِ فَصِرْتَ حَيًا ... وَعُلَّمْتَ الفَصِيْحَ مِن الْخِطَابِ
فَطَلَّقْ هَذه الدُّنْيَا ثَلاثًا ... وَبَادْر قَبلَ مَوْتِكَ بِالْمَتَابِ
نَصَحْتُكَ فَاسْتَمَعْ قَوْلِي وَنُصْحِي ... فَمِثْلُكَ قَدْ يُدَلُّ عَلَى الصَّوابِ
خُلِقْنَا لِلْمَاتِ وَلَو تُرِكْنَا ... لَضَاقَ بِنَا الفِسْيحُ مِن الرِّحَابِ
يُنَادى فِي صَبِيْحَةِ كل يَوم ... لِدُوْا لِلمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ
ثم تصور كيف يكون شعورك إن ثبتك الله جل وعلا ونظرت إلى ما أعد الله لك وقولهما لك هذا منزلك ومصيرك فتصور فرحك وسرورك بما تعاينه من النعيم وبهجة الملك وإيقانك بالسلامة مما يسوؤك.
وإن كانت الأخرى فتصور ضد ذلك من إنتهارك ومعاينتك جهنم وقولهما لك هذا منزلك ومصيرك فيا لها من حسرة ويا لها من ندامة ويا لها من عثرة لا تقال.
ثم بعد ذلك الفناء والبلاء حتى تنقطع الأوصال وتتفتت العظام ويبلى جسدك ويستمر حزنك فيا حسرة روحك وغمومها وهمومها.
حتى إذا تكاملت عدة الأموات وقد بقي الجبار الأعلى منفردًا بعظمته وجلاله وكبريائه ثم لم يفجاك إلا نداء المنادي للخلائق للعرض على الله جل وعلا.(1/32)
قال تعالى: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ( [ق: 42] يأمر الله ملكًا أن ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.
فتصور وقوع الصوت في سمعك ودعائك إلى العرض على مالك الملك فيطير فؤادك ويشيب رأسك للنداء لأنها صيحة واحدة للعرض على الرب جل وعلا قال تعالى: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ( [النازعات: 14].
فبينما أنت في فزع من الصوت إذ سمعت بانشقاق الأرض فخرجت مغبرًا من غبار قبرك قائمًا على قدميك شاخصًا ببصرك نحو النداء قال تعالى: (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً( [ق: 44] وقال: (خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ( [القمر: 7].
فتصور تعريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وهمومك وغمومك في زحمة الخلائق خاشعة أبصارهم وأصواتهم ترهقهم الذلة قال تعالى: (وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً( [طه: 108]. وقال تعالى: (خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ( [القمر: 7].
اللهم ثبتنا على قولك الثابت في الحياة وفي الآخرة وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
ثم تصور إقبال الوحوش من البراري منكسة رءوسها لهول يوم القيامة فبعد توحشها وإنفرادها من الخلائق ذلت ليوم النشور قال تعالى: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ( [التكوير: 5].
وتصور تكوير الشمس وتناثر النجوم وانشقاق السماء من فوق الخلائق مع كثافة سمكها فيا هول صوت ذلك الانشقاق.(1/33)
والملائكة على حافات ما يتفطر من السماء قال الله تعالى: (وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا( [الحاقة: 17]. وقال تعالى: (فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ( [الرحمن: 37] وقال تعالى: (إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ( [الانشقاق: 1].
قيل تذوب كما تذوب الفضة في السبك وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء وتارة صفراء وزرقاء وخضراء وذلك من شدة الأمر وهول يوم القيامة وقال تعالى: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ( [المعارج: 8] قيل كالفضة المذابة أو الرصاص المذاب وقال تعالى: (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً( [المزمل: 17].
فتصور وقوفك مفردًا عريانًا حافيًا وقد أدنيت الشمس من رءوس الخلائق ولا ظل لأحد إلا ظل عرش رب العالمين، فبينما أنت على تلك الحال المزعجة اشتد الكرب والوهج من حر الشمس ثم ازدحمت الأمم وتدافعت وتضايقت واختلفت الأقدام وانقطعت الأعناق من شدة العطش والخوف العظيم.
وانضاف إلى حر الشمس كثرة الأنفاس وازدحام الأجسام والعطش تضاعف ولا نوم ولا راحة وفاض عرقهم على الأرض حتى استنقع ثم ارتفع على الأبدان على قدر مراتبهم ومنازلهم عند ربهم بالسعادة والشقاوة.
ثم تصور مجيء جهنم تقاد ولها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها قال تعالى: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى( [الفجر: 23].
فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبته يقول يا رب نفسي نفسي فتصور ذلك الموقف المهيل المفزع الذي قد ملأ القلوب رعبًا وخوفًا وقلقًا وذعرًا يا له من موقف ومنظر مزعج.(1/34)
وأنت لا محالة أحدهم فتوهم نفسك لكربك وقد علاك العرق والفزع والرعب الشديد والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى دار السعادة أو إلى دار الشقاء، قال تعالى: (وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ( [الشورى: 7].
فتصور أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم منفرد كل واحد بنفسه ينادي نفسي نفسي قال الله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا( [النحل: 111]. وقال تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ( [عبس: 35].
فتصور نفسك وحالتك عندما يتبرأ منك الولد والوالد والأخ والصاحب لما في ذلك اليوم من المزعجات والقلاقل والأهوال التي ملأت القلوب من الخوف والفزع والرعب والذعر.
ولولا عظم هول ذلك اليوم ما كان من الكرم والمروءة والحفاظ أن تفر من أمك وأبيك وأخيك وبنيك ولكن عظم الخطر وشدة الكرب والهول اضطرك إلى ذلك فلا تلام على فرارك منهم ولا لوم عليهم إذا فروا منك قال الله تعالى: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ( [عبس: 37]. وقال تعالى: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ( [الحج: 1].
فبينما أنت في تلك الحالة مملوء رعبًا قد بلغت القلوب الحناجر من شدة الأهوال والمزعجات والخوف العظيم إذ ارتفع عنق من النار يلتقط من أمر بأخذه فينطوي عليهم ويلقيهم في النار فتبتلعهم ثم تصور الميزان وعظمته وقد نصب لوزن الأعمال وتصور الكتب المتطايرة في الأيمان والشمائل وقلبك واجف مملوءًا خوفًا متوقع أين يقع كتابك في يمينك أو في شمالك أو وراء ظهرك.(1/35)
اللهم وفقنا لصالح الأعمال وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
فالأتقياء يعطون كتبهم بأيمانهم والأشقياء بالشمال أو من وراء الظهر، قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً( [الانشقاق: 9]، وقال: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً( [الانشقاق: 12].
وقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ( [الحاقة: 19]، وقال: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ( [الحاقة: 26]. الآيات.
فيا لها من مواقف ويا لها من أهوال ويا لها من خطوب مجرد تصورها يبكي المؤمن بها حقًا.
عن الحسن: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان رأسه في حجر عائشة فنعس فتذكرت الآخرة فبكت فسالت دموعها على خد النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستيقظ بدموعها فرفع رأسه فقال: ما يبكيك فقالت يا رسول الله ذكرت الآخرة هل تذكرون أهليكم يوم القيامة قال: والذي نفسي بيده في ثلاثة مواطن فإن أحدًا لا يذكر إلا نفسه: إذا وضعت الموازين ووزنت الأعمال حتى ينظر ابن آدم أيخف ميزانه أم يثقل، وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله، وعند الصراط".
وعن أنس بن مالك قال: يُؤتى بابن آدم يوم القيامة حتى يوقف بين كفتي الميزان ويوكل به ملك فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يُسْمع الخلائق سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا وإن خف ميزانه نادى بصوت يسمع الخلائق شقي فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا.(1/36)
وتصور بينما أنت واقف مع الخلائق الذين لا يعلم عددهم إلا الله جل وعلا وتقدس إذ نودي باسمك على رءوس الخلائق من الأولين والآخرين أين فلان بن فلان هلم إلى العرض على الله عز وجل.
فقمت أنت لا يقوم غيرك لما لزم قلبك من العلم من أنك المطلوب فقمت ترتعد فرائصك وتضطرب رجلاك وجميع جوارحك وقلبك من شدة الخوف والذهول في أشد الخفقان مرتفعًا إلى الحنجرة.
قال الله جل وعلا وتقدس: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ( [غافر: 18].
فتصور خوفك وذلك وضعفك وانهيار أعصابك وقواك متغيرًا لونك مرعوبًا مذعورًا مرتكضًا مزعجًا قد حل بك الغم والهم والاضطراب والقلق والذهول لما أصابك ورأيت من الشدائد والكروب والمحزنات ما الله به عليم.
قال الله جل وعلا وتقدس: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ( [الحج: 2]. فيا له من يوم قال الله جل وعلا وتقدس: (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً( [المزمل: 17] والآية بعدها.
وتصور وقوفك بين يدي بديع السموات والأرض الذي الأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه، القوي العزيز وقلبك خائف مملوء من الرعب محزون وجل وطرفك خائف خفي خاشع ذليل.
وجوارحك مرتعدة، بيدك صحيفة محصًا فيها الدقيق والجليل لا تغادر صغيرة ولا كبيرة فقرأتها بلسان كليل وقلب منكسر وداخلك من الخجل والجبن والحياء من الله الذي لم يزل إليك محسنًا وعليك ساترًا.
فبأي لسان تجيبه حين يسألك عن قبيح فعلك وعظيم جرمك وبأي قدم تقف غدًا بين يديه وبأي طرف تنظر إليه وبأي قلب تحتمل كلامه العظيم الجليل ومساءلته وتوبيخه.(1/37)
وتصور نفسك بصغر جسمك بين يدي من السموات السبع والأرض كخردلة في كفه الكبير المتعالى شديد المحال الذي ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها وقلوب العباد بين إصبعين من أصابعه لا إله إلا هو القوي العزيز.
وتصور نفسك بهذه الهيئة والأهوال محدقة بك من جوانبك ومن خلفك فكم من كبيرة قد نسيتها أثبتها عليك الملك وكم من بلية أحدثتها فذكرتها وكم من سريرة قد كنت كتمتها قد ظهرت وبدت.
وكم من عمل قد كنت تظن أنه قد خلص لك وسلم فإذا هو بالرياء قد حبط بعد ما كان أملك فيه عظيمًا فيا حسرة قلبك وتأسفك على ما فرطت في طاعة ربك قال تعالى: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ( [الزمر: 56]. وقال تعالى: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ( [مريم: 39].
حتى إذا كرر عليك السؤال بذكر البلايا ونشرت مخبآتك التي طالما أخفيتها وسترتها عن مخلوق مثلك لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرًا ولا نفعًا وقد ظهرت قلة هيبتك لله وقلة حيائك منه وظهرت مبارزتك له بفعل ما نهاك عنه.
فما ظنك بسؤال من قد امتلأ سمعك من عظمته وجلاله وكبريائه وسائر صفات كماله وكيف بك إن ذكرك مخالفتك له وركوبك معاصيه وقلة اهتمامك بنهيه ونظره إليك وقلة اكتراثك في الدنيا بطاعته.
وماذا تقول إن قال لك يا عبدي ما أجللتني أما استحييت مني أما راقبتني؟ استخففت بنظري إليك ألم أحسن إليك ألم أنعم عليك ما غرك مني؟
شبابك فيما أبليته وعمرك فيما أفنيته ومالك من أين اكتسبته وفيم أنفقته وعلمك ماذا عملت فيه؟(1/38)
وورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ليقفن أحدكم بَيْنَ يدي الله تبارك وتعالى ليس بينه وبين حجاب يحجبه ولا بينه وبينه ترجمان يترجم عنه فيقول ألم أنعم ألم آتك مالا؟ فيقول بلى. فيقول ألم أرسل إليك رسولا؟ فيقول بلى، ثم ينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة فإن لم يجد فبكلمة طيبة». رواه البخاري.
فأعظم به موقفًا وأعظم به من سائل لا تخفى عليه خافية وأعظم بما يداخلك من الخجل والغم والحزن والأسف الشديد على ما فرطت في طاعته وعلى ركوبك معصيته وعلى أوقات ضاعت عند الملاهي والمنكرات، قال الله تعالى عن حال المجرمين المفرطين: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ( [السجدة: 12] وقال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ( [سبأ: 52]. الآية.
وكيف تثبت رجلاك عند الوقوف بين يديه وكيف يقدر على الكلام لسانك عندما يسألك الحي القيوم إلا أن يثبتك جل وعلا ويقدرك على ذلك، فإذا تبالغ فيك الجهد من الغم والحزن والحياء والخجل بدا لك منه أحد أمرين إما الغضب أو الرضا عنك.
فإما أن يقول يا عبدي أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فقد غفرت لك كبير جرمك وكثير سيئاتك وتقبلت منك يسير إحسانك فيستطير قلبك بالبهجة والفرح والسرور فيشرق ويستنير لذلك وجهك.
فتصور نفسك حين ما يقال لك وتهدأ نفسك ويطمئن قلبك وينور وجهك بعد كآبته وتكسفه من الحياء من السؤال.
وتصور رضاه عنك حينما تسمعه منه فثار في قلبك فامتلأ سرورًا وكدت أن تموت من الفرح فأي سرور أعظم من السرور والفرح برضا الله عز وجل.(1/39)
اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وتصور نفسك وقد بدا لك منه الرضا والرحمة والمغفرة فتكاد روحك أن تطير من بدنك فرحًا فكيف لو سمعت من الله عز وجل الرضا عنك والمغفرة لك فأمن خوفك وسكن حذرك وتحقق أملك ورجاؤك بخلود الأبد وأيقنت بفوزك ونعيمك أبدًا لا يفنى ولا يبيد وطار قلبك فرحًا وابيض وجهك وأشرق وأنار.
ثم خرجت إلى الخلائق مستنير الوجه قد حل بك أكمل الجمال والحسن كتابك بيمينك وقد شخصت أبصار الخلائق إليك غبطة لك وتأسفًا على أن ينالوا من الله عز وجل مثل ما نلت.
وتصور نفسك إن لم يعف عنك ربك وأيقنت بالهلاك وذهب بك إلى جهنم مسود الوجه تتخطى الخلائق بسواد وجهك وكتابك في شمالك أو من وراء ظهرك تنادي بالويل والثبور والملك آخذ بعضدك ينادي هذا فلان بن فلان قد شقي شقاء لا يسعد بعده أبدًا.
وتصور الصراط وهو الجسر المنصوب على متن جهنم قدامك وتصور ما يحل بك من الوجل والخوف الشديد حين رفعت طرفك فنظرت إليه بدقته وحوضه وجهنم تضطرب وتتغيض وتخفق بأمواجها من تحته.
فيا له من منظر ما أفظعه وأهوله وسماعك شهيقها وتغيظها وقصف أمواجها وجلبة ثورانها من أسفلها وقد اضطررت على المشي عليه وقد مرت عليك صفته.
ثم قيل لك وأنت تنظر إلى الجسر بفظاظته وفظاعته وقيل للخلق معك اركبوا الجسر الذي هو الصراط فتصور حالتك وخفقان قلبك ورجفان جسمك مما عاينت من المزعجات والكروب والشدائد والأهوال وعظائم الأمور وقلة المأكل والمشرب والراحة.(1/40)
ولما قيل اركب طار عقلك رعبًا وخوفًا ثم إذا رفعت رجلك وأنت تنتفض لتركب الجسر فوقع قدمك على حدته ودقته فازداد فزعك وازداد رجفان قلبك ورفعت رجلك الأخرى وأنت مضطرب تتمروج من شدة الخوف العظيم وقد أثقلتك الأوزار وأنت حاملها على ظهرك وأنت تنظر إلى الناس يتهافتون من بين يديك ومن ورائك.
فتصور مرورك عليه بضعفك وثقلك وأوزارك وقلة حيلتك وأنت مندهش مما تحتك وأمامك ممن يئنون ويزلون وقد تنكست هاماتهم وارتفعت أرجلهم وآخرون يختطفون بالكلاليب وتسمع العويل والبكاء والأصوات المزعجات المناديات بالويل والثبور.
فيا له من منظر فظيع ومرتقى ما أصعبه ومجاز ما أضيقه ومكان من أهوله وموقف ما أشقه وكأني بك مملوء من الذعر والرعب والقلق ملتفتًا يمينًا وشمالاً إلى من حولك من الخلق وهم يتهافتون قدامك في جهنم وأنت تخشى أن تتبعهم إلى قعر جهنم.
فتصور هذا بعقلك ما دمت في قيد الحياة قبل أن يحال بينك وبينه فلا يفيدك التفكير لعلك أن تتلافى تفريطك وتحاسب نفسك قبل أن يفوت الأوان فتبوء بالفشل والخيبة والحرمان.
وتصور حالتك إن بؤت بالخسران وزلت رجلك عن الصراط ووقعت فيما كنت تحاذر وتخاف وطار عقلك ثم زلت رجلك الأخرى فنكست على هامتك وعلت رجلاك فلم تشعر إلا والكلوب قد دخل في جلدك ولحمك.
فجذبت به وبادرت إليك النار ثائرة غضبانة لغضب مولاها وقد غلب على قلبك الندم والتأسف على أوقات ضيعتها فيما يسخط الله.
وتصور سماعك لنداء النار بقوله عز وجل: (هَلِ امْتَلَأْتِ( [ق: 30] وسمعت إجابتها له (هَلْ مِن مَّزِيدٍ( [ق: 30]. وهي تلتهب في بدنك لها قصيف في جسدك ثم لم تلبث أن تفطر جسمك وتساقط لحمك وبقيت عظامك محترق تطلب منهم ماء أو نحوه فأجابوك بالرد والخيبة فتقطع قلبك حسرة وأسفًا.(1/41)
قال الله جل وعلا وتقدس: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ( [الأعراف: 50] فيا خيبة من هذا حاله وهذا مآله.
لقد تقطع قلبك حزنًا إذ خيبوا أملك فيهم وبما رأيت من غضبهم عليك لغضب ربك عز وجل ففزعت إلى الله بالنداء بطلب الخروج منها فبعد مدة الله أعلم بها جاء الجواب: (اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ( [المؤمنون: 108].
فلما سمعت النداء بالتخسئة لك ولأمثالك بقي نفسك من شدة الضيق والألم والحسرة مترددًا في جوفك لا مخرج له فضاقت نفسك ضيقًا شديدًا لا يعلم مداه إلا الله.
وبقيت قلقًا تزفر ولا تطيق الكلام ثم أتاك زيادة حسرة وندامة حيث أطبق أبواب النار عليك وعلى أعدائه فيها فانقطع الأمل كليًا.
فيا إياسك ويا إياس سكان جهنم حين سمعوا وقع أبوابها تطبق عليهم قال الله جل وعلا وتقدس: (إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ( [الهمزة: 9].
فعلموا عند ذلك أن لا فرج أبدًا ولا مخرج ولا محيص لهم من عذاب الله خلود فلا موت وعذاب لا زوال له عن أبدانهم ودوام حرق قلوبهم.
أحزان لا تنقضي وهموم وغموم لا تنفد وسقم لا يبرأ وقيود لا تحل وأغلال لا تفك قال تعالى: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ( [غافر: 72].
وقال تعالى: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ( [الحج: 22].(1/42)
ثم أطلعت النار على ما في جوفك فأكلت ما فيه وأنت تنادي وتستغيث فلا ترحم حتى إذا طال فيها مكثك واشتد بك العطش.
فذكرت الشراب في الدنيا فزعت إلى الجحيم فتناولت الإناء من يد الخازن الموكل بعذابك فلما تناولته تمزعت كفك من تحته واحترقت من حرارته ثم قربته إلى فمك والألم بالغ منك كل مبلغ فشوى وجهك وتساقط لحمه.
ثم تجرعته فسلخ حلقك ثم وصل إلى جوفك فقطع أمعاءك قال الله جل وعلا: (وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ( [محمد: 15]. وقال جل وعلا وتقدس: (وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ( [إبراهيم: 17].
ثم ذكرت شراب الدنيا وبرده ولذته فبادرت إلى الحميم لتبرد به كبدك كما تعودت في الدنيا فسقيت فقطع أمعاءك والحميم شراب كالنحاس المذاب يقطع الأحشاء والأمعاء ثم بادرت إلى النار رجاء أن تكون أهون منه ثم اشتد عليك حريق النار فرجعت إلى الحميم قال الله تعالى: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ( [الرحمن: 44] وقال في الآية الأخرى: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ( [غافر: 72].
فقدر نفسك مع الضائعين والخاسرين لعلك أن تلحق بالأبرار والمقربين وتصور حالتك لما اشتد بك الكرب والعطش وبلغ منك كل مبلغ وذكرت الجنان وما فيها من النعيم المقيم والعيش السليم.
وهاجت الأحزان وهاجت غصة في فؤادك إلى حلقك أسفًا على ما فات من رضا الله عز وجل وحزنًا على نعيم الجنة.
ثم ذكرت شرابها وبرد مائها وذكرت أن فيها بعض القرابة من أب أو أم أو ابن أو أخ أو غيرهم من القرابة أو الأصدقاء في الدنيا فناديتهم بقلب محزون.(1/43)
لا يرحم بكاؤهم ولا يجاب دعاؤهم ولا يغاثون عند تضرعهم ولا تقبل توبتهم ولا تقال عثرتهم غضب الله عز وجل عليهم فلا يرضى عنهم أبدًا فمثل نفسك بهذا الوصف إن لم يعف عنك ربك لعلك أن تستيقظ فتستدرك.
فلو رأيت المعذبين وقد أكلت النار لحومهم ومحت محاسن وجوههم واندرس تخطيطهم فبقيت العظام محترقة مسودة وقد قلقوا من شدة تكرر العذاب الأليم قال تعالى: (وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ( [الحجر: 50].
وهم ينادون بالويل والثبور ويصرخون بالبكاء والعويل قال الله جل وعلا وتقدس: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ( [فاطر: 37]، وقال: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً( [الفرقان: 14].
فلو رأيتهم لذاب قلبك فزعًا ورعبًا من سوء خلقهم ولخرجت روحك من نتن رائحتهم فيكف لو نظرت نفسك وأنت فيهم وقد زال من قلبك الأمل والرجاء ولزمك القنوط والإياس فمثل نفسك لعلك أن تتأثر فتستعد للقاء الله.
ونظرت إلى النار وهي تشتعل في أجزاء بدنك فتدخل أذنيك وعينيك ولا تقدر على إبعادها عنك لملازمتها لك قال الله تعالى: (إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً( [الفرقان: 66]. فهناك يغلب على قلبك التأسف والحسرات والندامة قال جل وعلا وتقدس: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ( [مريم: 39].
فتصور تلك الأهوال والعظائم بعقل فارغ وعزيمة صادقة وراجع نفسك ما دمت في قيد الحياة وتب إلى الله توبة نصوحًا عن ما يكره مولاك وتضرع إليه وابك من خشيته لعله يرحمك ويقيل عثرتك فإن الخطر عظيم والبدن ضعيف والموت منك قريب.
انتهى بتصرف من كلام المحاسبي -رحمه الله-.(1/44)
مَثِّلْ وُقُوفَكَ يَوْمَ الْحَشْرِ عِريَانا ... مُسْتَعْطِفًا قَلِقَ الأحْشَاءِ حَيْرانَا
النَّارُ تَزْفُر مِنْ غَيْظٍ وَمِن حَنَقٍ ... عَلَى العُصَاةِ وَتَلْقَ الرَّبَ غَضْبَانَا
اقْرَأ كِتَابَكَ يَا عَبْدِي عَلَى مَهَلٍ ... وَانْظُرْ إِليه تَرَى هَل كَانَ مَا كَانا
لَمَّا قَرَأت كِتابًا لاَ يُغَادِر لِي ... حَرفًا وَمَا كَانَ فِي سِرٍّ وَإعْلانَا
قال الجليل خُذُوْهُ يَا مَلاَئِكَتِي ... مُرُوا بِعَبْدِي إِلَى النِّيْرَانِ عَطْشَانًا
يَا رَبِّ لاَ تَخْزِنَا يَوْمَ الْحِسَابِ وَلا ... تَجْعَلْ لَنَارِكَ فِيْنَا اليَوْمَ سُلْطَانَا
اللهم ارزقنا أنفسًا تقنع بعطائك، وترضى بقضائك، وتصبر على بلائك، وتوقن بلقائك وتشكر لنعمائك وتحب أوليائك وتبغض أعداءك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
2- [موعظة]
لله در أقوام تركوا الدنيا فأصابوا، وسمعوا منادي الله فأجابوا، وحضروا مشاهد التقى فما غابوا، واعتذروا مع التحقيق ثم تابوا وأنابوا، وقصدوا باب مولاهم فما ردوا ولا خابوا.
قال عمرو بن ذر لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم، ونظروا إلى أهل الغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم.
قاموا إلى الله سبحانه وتعالى فرحين مستبشرين بما قد وهب الله لهم من السهر وطول التهجد.
فاستقبلوا الليل بأبدانهم، وباشروا ظلمته بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليل، وما انقضت لذتهم من التلاوة، ولا ملت أبدانهم من طول العبادة، فأصبح الفريقان وقد ولى الليل بربح وغبن.
فاعملوا في هذا الليل وسواده، فإن المغبون من غبن الدنيا والآخرة، كم من قائم لله تعالى في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في ظلمة حفرته.
[فصل](1/45)
ويقابل دار الأشقياء التي تقدمت قريبًا دار أخرى دار قرار ونعيم وسرور وحبور وأمن وصحة وحياة أبدية فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
دار جعلها الكريم جل وعلا دار ضيافة، يُكرم فيها عباده الأخيار الذين وفقهم لخدمته والعمل بطاعته.
ولا تظن هذه الضيافة محدودة، ولا أن الكرامة فيها تنتهي بل كل ما تحبه وتتمناه أمامك إن كنت من أهل العفو والتجاوز فتوهم إن تفضل الله عليك بالعفو والتجاوز (أي تصور ممرك على الصراط).
ونورك يسعى بين يديك وعن يمينك، وكتابك بيمينك مبيض الوجه.
قال الله جل وعلا: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ( [آل عمران: 106] وقد أيقنت برضاه عنك وأنت على الصراط مع زمرة العابدين ووفود المتقين.
والملائكة تنادي: سلم سلم، والوجل مع ذلك لا يفارق قلبك ولا قلوب المؤمنين، تنادي وينادون: (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( [التحريم: 8].
فتدبر حين رأوا المنافقين طفئ نورهم، وهاج الوجل في قلوبهم، فدعوا بتمام النور والمغفرة.
فتوهم أي تصور وتخيل وتمثل نفسك، وأنت تمر خفيفًا مع الوجل وتصور ممرك على قدر خفة أوزارك وثقلها وقد انتهيت إلى آخره.
فغلب على قلبك النجاة، وقد عاينت نعيم الجنان وأنت على الصراط، فحن قلبك على جوار الله عز وجل، واشتاق إلى رضا الله.
حتى إذا صرت إلى آخره خطوات بأحد رجليك إلى العرصة (أي عرصة القيامة) التي بين آخر الجسر وبين باب الجنة، فوضعتها على العرصة التي بعد الصراط، وبقيت القدم الأخرى، على الصراط، والخوف والرجاء قد اعتليا في قلبك وغلبا عليك.
ثم ثنيت بالأخرى، فجزت الصراط كله واستقرت قدماك على تلك العرصة، وزلت عن الجسر ببدنك، وخلفته وراء ظهرك.
وجهنم تضطرب من تحت من يمر عليها، وتثب على من زل عنه مغتاظة تزفر عليه وتشهق إليه.(1/46)
ثم التفت إلى الجسر فنظرت إليه باضطرابه، ونظرت إلى الخلائق من فوقه، وإلى جهنم من تحته تثب وتزفر على الذين زلزلوا عن الصراط.
لها في رءوسهم وأنحائهم قصيف، فطار قلبك فرحًا إذ نجوت بضعفك من النار وخلفت النار وجسرها من وراء ظهرك متوجهًا إلى جوار ربك.
ثم خطوت آمنًا إلى باب الجنة امتلأ قلبك سرورًا وفرحًا، فلا تزال في ممرك بالفرح والسرور حتى توافي أبوابها.
فإذا وافيت بابها استقبلك بحسنه، فنظرت إلى حسنه ونوره وحسن صورة الجنة وجدرانها.
وقلبك مستطير فرح مسرور متعلق بدخول الجنة حين وافيت بابها أنت وأولياء الرحمن.
فتوهم –أي: تخيل وتصور- نفسك في ذلك الموكب، وهم أهل كرامة الله ورضوانه، مبيضة وجوههم، مشرقة برضا الله، مسرورون فرحون مستبشرون، وقد وافيت باب الجنة بغبار قبرك، وحر المقام ووهج ما مر بك.
فنظرت إلى العين التي أعدها الله لأوليائه وإلى حسن مائها، فانغمست فيها مسرورًا، لما وجدت من برد مائها وطيبه، فوجدت لها بردًا وطيبًا، فذهب عنك بحزن المقام.
وطهرك من كل دنس وغبار، وأنت مسرور لما وجدت من طيب مائها لما باشرته، وقد أفلت من وهج الصراط وحره، لأنه قد يوافي بابها من أحرقت النار بعض جسده بلفحها وقد بلغت منه.
فما ظنك وقد انفلت من حر المقام ووهج أنفاس الخلائق، ومن شدة توهج حر الصراط فوافيت باب الجنة بذلك، فلما نظرت إلى العين قذفت بنفسك فيها.
فتوهم –أي: تصور وتخيل- فرحة فؤادك لما باشر برد مائها بدنك بعد حر الصراط، ووهج القيامة، وأنت فرح لمعرفتك أنك إنما تغتسل لتتطهر لدخول الجنة والخلود فيها.(1/47)
فأنت تغتسل منها دائبًا، ولونك متغير حسنًا، وجسدك يزداد نضرة وبهجة ونعيمًا، ثم تخرج منها في أحسن الصور وأتم النور، اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها، اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا محبة أوليائك وبغض أعدائك وهجرانهم والابتعاد عنهم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
فتوهم –أي: تصور وتخيل- فرح قلبك حين خرجت منها فنظرت إلى كمال جمالك، ونضارة وجهك وحسنه، وأنت عالم موقن بأنك تتنظف للدخول إلى جوار ربك.
ثم تقصد إلى العين الأخرى، فتتناول من بعض آنيتها فتوهم نظرك إلى حسن الإناء، وإلى حسن الشراب، وأنت مسرور بمعرفتك أنك إنما تشرب هذا الشراب لتطهر جوفك من كل غل، وجسدك ناعم أبدًا.
حتى إذا وضعت الإناء على فيك ثم شربته، وجدت طعم شراب لم تذق مثله، ولم تعود شربه، فيسلس من فيك إلى جوفك، فطار قلبك سرورًا لما وجدت من لذته، ثم نقي جوفك من كل آفة.
فوجدت لذة طهارة صدرك من كل طبع كان فيه ينازعه إلى الغموم والهموم والحرص والشدة والغضب والغل، فيا برد طهارة صدرك، ويا روح ذلك على فؤادك.
حتى إذا استكملت طهارة القلب والبدن، واستكمل أحباء الله ذلك معك، والله مطلع يراك ويراهم.
أمر مولاك الجواد المتحنن خزان الجنة من الملائكة، الذين لم يزالوا مطيعين خائفين منه مشفقين وجلين من عقابه إعظامًا له وإجلالاً، وهيبة له، وحذرًا من نقمه، وأمرهم أن يفتحوا باب جنته لأوليائه.
فانحدروا من دارها، وبادروا من ساحاتها، وأتوا باب الجنة فمدوا أيديهم ليفتحوا أبوابها.
وأيقنت بذلك، فطار قلبك سرورًا، وامتلأت فرحًا وسمعت حسن صرير أبوابها، فعلاك السرور، وغلب على فؤادك، فيا سرور قلوب المفتوح لهم باب جنة رب العالمين.
فلما فتح لهم بابها، هاج نسيم طيب الجنان، وطيب جَرْى مائها، فنفح وجهك، وجميع بدنك وثارت أراييح الجنة العبقة الطيبة.(1/48)
وهاج ريح مسكها الأذفر، وزعفرانها المونع، وكافورها الأصفر، وعنبرها الأشهب، وأرياح طيب ثمارها وأشجارها، وما فيها من نسيمها.
فتداخلت تلك الأراييح في مشامك حتى وصلت إلى دماغك، وصار طيبها في قلبك، وفاض من جميع جوارحك.
ونظرت بعينك إلى حسن قصورها، وتأسيس بنيانها من طرائق الجندل الأخضر من الزمرد، والياقوت الأحمر، والدر الأبيض، قد سطع منه نوره وبهاؤه وصفاؤه.
فقد أكمله الله في الصفاء والنور، ومازجه نور ما في الجنان، ونظرت إلى حجب الله، وفرح فؤادك لمعرفتك أنك إذا دخلتها فإن لك فيها الزيادات، والنظر إلى وجه ربك، فاجتمع طيب أراييح الجنة وحسن بهجة منظرها، وطيب نسيمها، وبرد جوها.
فتصور نفسك إن تفضل الله عليك بهذه الهيئة، فلو مت فرحًا لكان ذلك يحق لك، حتى إذا فتحوا بابها، أقبلوا عليك ضاحكين في وجهك ووجوه أولياء الله معك.
ونادوكم (سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ( [الأنعام: 54] فتوهم حسن نغماتهم، وطيب كلامهم، وحسن تسليمهم، في كمال صورهم، وشدة نورهم.
ثم أتبعوا السلام بقولهم: (طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ( [الزمر: 73]، فأثنوا عليهم بالطيب والتهذيب من كل دنس ودرن وغل وغش، وكل آفة في دين أو دنيا، ثم أذنوا لهم على الله بالدخول في جواره.
ثم أخبروهم أنهم باقون فيها أبدًا، فقالوا: (طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ( [الزمر: 73]، فلما سمعت الأذن وأولياء الله معك بادرتم الباب بالدخول، فكظت الأبواب من الزحام.
فتصور نفسك إن عفا الله عنك في تلك الزحمة مبادرًا مع مبادرين، مسرورًا مع مسرورين، بأبدان قد طهرت ووجوه قد أشرقت وأنارت فهي كالبدر، قد سطع من أعراضهم كشعاع الشمس.
فلما جاوزت بابها، وضعت قدميك على تربتها، وهي مسك أذفر، ونبت الزعفران المونع، والمسك مصبوب على أرض من فضة، والزعفران نابت حولها.(1/49)
فذلك أول خطوة خطوتها في أرض البقاء بالأمن من العذاب والموت، فأنت تتخطى في تراب المسك، ورياض الزعفران، وعيناك ترمقان حسن بهجة الدر، من حسن أشجارها، وزينة تصويرها.
فبينما أنت تتخطى في عرصات الجنان، في رياض الزعفران، وكثبان المسك، إذ نودي في أزواجك وولدانك وخدامك وغلمانك وقهارمتك، أن فلانًا قد أقبل، فأجابوا واستبشروا لقدومك، كما يبشر أهل الغائب في الدنيا بقدومه.
اللهم أعطنا من الخير فوق ما نرجو وأصرف عنا من السوء فوق ما نحذر. اللهم علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللهم إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجاتنا فاقضها كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا يا رب العالمين اللهم وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
فبينما أنت تنظر إلى قصورك، إذ سمعت جلبتهم وتبشيشهم، فاستطرت لذلك فرحًا، فبينما أنت فرح مسرر بغبطتهم لقدومك لما سمعت إجلابهم فرحًا بك.
إذ ابتدرت القهارمة إليك وقامت الولدان صفوفًا لقدومك، فبينما أتت القهارمة مقبلة إليك، إذ استخف أزواجك للعجلة، فبعثت كل واحدة منهم بعض خدمها لينظر إليك مقبلاً.
ويسرع بالرجوع إليها بقدومك، لتطمئن إليه فرحًا، وتسكن إلى ذلك سرورًا، فنظر إليك الخدم قبل أن تلقاك قهارمتك.
ثم بادر رسول كل واحدة منهن إليها فلما أخبرها بقدومك، قالت كل واحدة لرسولها: أنت رأيته، من شدة فرحها بذلك، ثم أرسلت كل واحدة منهن رسولاً آخر.
فلما جاءت البشارات بقدومك إليهن، لم يتمالكن فرحًا، فأردن الخروج إليك مبادرات إلى لقائك لولا أن الله كتب القصر لهن في الخيام إلى قدومك، كما قال مليكك: (حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ( [الرحمن: 72].(1/50)
فوضعهن أيديهن على عضائد أبوابهن، وأذرعهن برءوسهن، ينظرن متى تبدو لهن صفحة وجهك؛ فيسكن طول حنينهن، وشدة شوقهن إليك، وينظرون إلى قرير أعينهن، ومعدن راحتهن، وأنسهن إلى ولي ربهن وحبيب مولاهن.
فتوهم ما عاينت، حين فتحت أبواب قصورك، ورفعت ستوره، من حسن بهجة مقاصيره، وزينة أشجاره، وحسن رياضه، وتلألؤ صحنه. ونور ساحاته.
فبينما أنت تنظر إلى ذلك، إذ بادرت البشرى من خدامك ينادون أزواجك هذا فلان بن فلان قد دخل من باب قصره، فلما سمعن نداء البشراء بقدومك ودخولك، توثبن من الفرش على الأسرة في الحجال.
وعينك ناظرة إليهن في جوف الخيام والقباب، فنظرت إلى وثوبهن مستعجلات، قد استخفهن الفرح، والشوق إلى رؤيتك.
فتخيل تلك الأبدان الرخيمة الرعبوبة الخريدة الناعمة، يتوثبن بالتهادي والتبختر.
فتصور كل واحدة منهن، حين وثبت في حسن حللها وحليتها بصباحة وجهها، وتثني بدنها بنعمته.
فتوهم إنحدارها مسرعة بكمال بدنها، نازلة عن سريرها إلى صحن قبتها، وقرار خيمتها، فوثبن حتى أتين أبواب خيامهن وقبابهن.
ثم أخذن بأيديهن عضائد أبواب خيامهن للقصر، الذي ضرب عليهن إلى قدومك، فقمن آخذات بعضائد أبوابهن.
ثم خرجن برءوسهن ووجوههن، ينحدرن من أبواب قبابهن، متطلعات، ينظرن إليك، مقبلات قد ملئن منك فرحًا وسرورًا.
وتخيل نفسك بسرور قلبك وفرحه، وقد رمقتهن على حسن وجوههن، وغنج أعينهن.
فلما قابلت وجوههن حار طرفك، وهاج قلبك بالسرور، فبقيت كالمبهوت الذاهل من عظيم ما هاج في قلبك من سرور ما رأت عيناك، وسكنت إليه نفسك.
فبينما أنت ترفل إليهن، إذ دنوت من أبواب الخيام، فأسرعن مبادرات قد استخفهن العشق، مسرعات يتثنين من نعيم الأبدان، ويتهادين من كمال الأجسام.
ثم نادتك كل واحدة منهن: يا حبيبي ما أبطأك علينا؟ فأجبتها بأن قلت: يا حبيبة ما زال الله عز وجل يوقفني على ذنب كذا وكذا حتى خشيت أن لا أصل إليكن.(1/51)
فمشين نحوك في السندس والحرير، يثرن المسك، وشوقًا وعشقًا لك.
فأول من تقدمت منهن مدت إليك بنانها ومعصمها وخاتمها وضمتك إلى نحرها فانثنيت عليها بكفك وساعدك حتى وضعته على قلائدها من حلقها، ثم ضممتها إليك وضمتك إليها.
فتوهم نعيم بدنها لما ضمتك إليها كاد أن يداخل بدنك بدنها من لينه ونعيمه.
فتوهم ما باشر صدرك من حسن نهودها، ولذة معانقتها ثم شممت طيب عوارضها، فذهب قلبك من كل شيء سواها حتى غرق في السرور، وامتلأ فرحًا، لما وصل إلى روحك من طيب مسيسها، ولذة روائح عوارضها.
فلما استمكنت خفة السرور من قلبك، وعمت لذة الفرح جميع بدنك، وموعد الله عز وجل في سرورك، فناديت بالحمد لله الذي صدقك الوعد، وأنجز لك الموعد. ثم ذكرت طلبك إلى ربك إياهن بالدءوب والتشمير.
فأين أنت في عاقبة ذلك العمل الذي استقبلته وأنت تلتثمهن وتشم عوارضهن (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ( [الصافات: 61].
اللهم إنا نعوذ بك من الشك بعد اليقين، ومن الشيطان الرجيم، ومن شدائد يوم الدين، ونسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم ارحمنا إذا عرق الجبين واشتد الكرب والأنين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله أجمعين.
(فصل)
فتوهم صعودها على السرير بعظيم بدنها ونعيمه، حتى استوت عليه جالسة، ثم ارتقيت على السرير، فاستويت عليه معها، فقابلتك وأنت مقابلها، فيا حسن منظرك إليها جالسة في حالها وحُليها بصباحة وجهها ونعيم جسمها! الأساور في معاصمها، والخواتم في أكفها، والخلاخيل في أسواقها، والقلائد في عنقها، والأكاليل من الدر والياقوت على قصتها وجبينها، والتاج من فوق ذلك على رأسها، والذوائب من تحت التاج، قد حل من مناكبها، وبلغ أردافها، ترى وجهك في نحرها، وهي تنظر إلى وجهها في نحرك.(1/52)
وقد تدلت الأشجار بثمارها من جوانب حجلتك، واطردت الأنهار حول قصرك، واستعلى الجداول على خيمتك بالخمر والعسل واللبن والسلسبيل.
وقد كمل حسنك وحسنها، وأنت لابس الحرير والسندس، وأساور الذهب واللؤلؤ على كل مفصل من مفاصلك، وتاج الدر والياقوت منتصف فوق رأسك، وأكاليل الدر مفصصة بالنور على جبينك.
وقد أضاءت الجنة وجميع قصورك من إشراق بدنك ونور وجهك، وأنت تعاين من صفاء قصورك جميع أزواجك وخدمك وجميع أبنية مقاصيرك.
وقد تدلت عليك ثمار أشجارك، واطردت أنهارك من الخمر واللبن من تحتك، والماء والعسل من فوقك، وأنت جالس مع زوجتك على أريكتك، وقد فتحت مصاريع أبوابك، وأرخيت عليك حجال خيمتك، وحفت الخدام والولدان بقبتك، وسمعت زجلهم بالتقديس لربك عز وجل.
وأنت وزوجك بأكمل الهيئة وأتم النعمة، وقد حار فيها طرفك تنظر إليها متعجبًا من جمالها وكمالها، طرب قلبك بملاحتها، وأنس قلبك بها من حسنها، فهي منادمة لك على أريكتك، تنازعك وتعاطيك الخمر والسلسبيل والتسنيم في كاسات الدر وأكاويب قوارير الفضلة.
فتوهم الكأس من الياقوت والدر في بنانها، وقد قربت إليك ضاحكة بحسن ثغرها، فسطع نور بنانها في الشراب، مع نور وجهها ونحرها، ونور الجنان، ونور وجهك وأنت مقابلها، واجتمع في الكأس الذي في بنانها نور الكأس، ونور الشراب، ونور وجهها، ونور نحرها، ونور ثغرها، انتهى بتصرف.
وقال ابن القيم:
فَاسْمَعْ صِفَاتِ عَرَائِس الْجَنَّاتِ ثُمَّ ... اخْتَر لنَفْسُكَ يَا أَخَا العِرْفَانِ
حُوْرٌ حِسَانٌ قَدْ كَمَلْنَ خَلائِقًا ... وَمَحَاسِنًا مِنْ أَجْمَلِ النِّسْوَانِ
حَتَّى يَحَارُ الطَّرْفِ فِي الْحُسْنِ الَّذِي ... قَدْ ألْبِسَتْ فَالطَّرْفُ كَالْحَيْرَانِ
وَيَقولُ لَمَّا أَنْ يُشَاهِدَ حُسْنَهَا ... سُبْحَان مُعْطِي الْحُسْنِ وَالإِحْسَانِ
وَالطَّرْفُ يَشْرَبُ مِن كِئوسِ جَمَالِهَا ... فَتَراهُ مِثْلَ الشَّارِب النَّشْوَانِ(1/53)
كملت خلائقها وأكمل حسنها ... كالبدر ليل الست بعد ثمان
والشمس تجري في محاسن وجهها ... والليل تحت ذوائب الأغصان
فتراه يعجب وهو موضع ذاك من ... ليل وشمس كيف يجتمعان
فيقول سبحان الذي ذا صنعه ... سبحان متقن صنعة الإنسان
وكلاهما مرآة صاحبه إذا ... ما شاء يبصر وجهه يريان
فيرى محاسن وجهه في وجهها ... وترى محاسنها به بعينان
حمر الخدود ثغورهن لآليء ... سود العيون فواتر الأجفان
والبدر يبدو حين يبسم ثغرها ... فيضيء سقف القصر بالجدران
ولقد روينا أن برقًا ساطعًا ... يبدو فيسأل عنه من بجنان
فيقال هذا ضوء ثغر ضاحك ... في الجنة العليا كما تريان
لله لاثم ذلك الثغر الذي ... في لثمه إدراك كل أمان
ريانة الأعطاف من ماء الشبا ... ب فغصنها بالماء ذو جريان
لما جرى ماء الشباب بغصنها ... حمل الثمار كثيرة الألوان
فَالوَرد والتُّفَاحُ والرُّمَان فِي ... غُصْنٍ تَعَالَى غَارِسُ البُسْتَانِ
وَالقَدُّ مِنْهَا كَالقَضِيْبِ اللذن في ... حُسْنِ القوام كأَوْسَطِ القُضْبَانِ
إلى أن قال -رحمه الله-:
وَإْذَا بَدتَ فِي حُلَّةٍ مِن لُبْسِهَا ... وَتَمَايَلَتْ كَتَمَايُلِ النَّشْوَانِ
تَهْتَزُّ كَالغْصَنِ الرَّطِيْبِ وَحَمْلُه ... وَرْدٌ وَتفَاحٌ عَلَى رُمَّانِ
وَتَبَخْتَرَتْ فِي مَشْيِهَا وَيَحقُ ذَا ... كَ لِمْثْلِهَا فِي جَنَّةِ الْحَيَوانِ
وَوَصَائِفٌ مِن خَلْفِهَا وَأَمَامِهَا ... وَعَلَى شَمَائِلهَا وَعَن أَيْمَانِ
كَالبَدْرِ لَيْلَةَ تِمِّهِ قَدْ حُفَّ فِي ... غَسَقِ الدُّجَى بِكَواكِبِ الْمِيزَانِ
فَلِسَانُهُ وَفُؤادُهُ والطَّرفُ فِي ... دَهَشٍ وَإِعْجَابٍ وَفِي سُبْحَانِ
فَالقَلبُ قَبْلَ زِفَافِهَا فِي عُرْسِهِ ... وَالعُرَسُ إثْرَ العُرْس مُتَّصِلانِ
حَتَّى إِذَا مَا وَاجَهَتْهُ تَقَابَلا ... أَرَأَيْتَ إِذْ يَتَقَابَلُ القَمَرَانِ(1/54)
فَسلِ الْمُتَيَّم أَيْنَ خَلَّفَ صَبْرَهُ ... فِي أَيْ وَادٍ أَمْ بِأيّ مَكَانِ
وَسَلِ الْمُتَيَّم كَيْفَ حَالَتُه وَقَدْ ... مُلِئَتْ لَهُ الأُذْنَانِ وَالعَيْنَانِ
مِن مَنِطقٍ رَقَّتْ حَوَاشِيْهِ وَوَجْـ ... ـه كَمْ بِهِ لِلشَّمْسِ مِن جَرَيَانِ
وَسَلْ الْمُتَيَّمَ كَيْفَ عِيْشَتَه إذًا ... وَهُمَا عَلَى فُرَشَيْهِمَا خَلَوَانِ
يَتَسَاقَطَانِ لَئِالئًا مَنْثُورَةً ... مِن بَيْنَ مَنْظُومٍ كَنَظْمِ جُمَانِ
وَسَلِ الْمُتَيَّم كَيْفَ مَجْلِسُه مَعَ الْـ ... مَحْبُوب فِي رَوْحٍ وَفِي رَيْحَانِ
وَتَدورُ كَاسَات الرَّحِيْقِ عَلَيْهِمَا ... بأكُفٍ أَقْمارٍ مِن الولْدَانِ
يَتَنَازَعَانِ الكَأسَ هَذا مَرَّةَ ... وَالْخُودُ أُخْرَى ثُمَّ يَتَكِئَانِ
فَيَضُمُّهَا وَتَضُمُّهُ أَرَأَيْتَ مَعْـ ... شُوْقَيْنِ بَعدَ البُعْدِ يَلْتَقِيَانِ
غَابَ الرَّقِيْبُ وَغَابَ كُلْ مَنْكَدٍ ... وَهُمَا بِثَوْبِ الوَصْلِ مُشْتَمِلانِ
أَتْرَاهُمَا ضَجرَيْنِ مِن ذَا العَيْشِ لاَ ... وَحَياةِ رِبِّكَ مَا هُمَا ضَجرَان
وَيزَيْدُ كُلُّ مِنْهُمَا حُبًا لِصَا ... حِبْهِ جَدِيْدًا سَائر الأَزْمَانِ
وَوَصَالُهُ يَكْسُوه حُبًّا بَعْدَهُ ... مُتَسَلْسِلاً لاَ يَنْتَهِي بِزَمَانِ
فَالوَصْلُ مَحْفُوف بحب سابق ... وبلاحق وكلاهما صنوان
فرق لطيف بَيْنَ ذاك وبين ذا ... يدريه ذو شغل بهذا الشان
ومزيدهم في كل وقت حاصل ... سبحان ذي الملكوت والسلطان
يا غافلاً عما خلقت له انتبه ... جد الرحيل ولست باليقظان
سار الرفاق وخلفوك مع الأولى ... قنعوا بذا الحظ الخسيس الفان
ورأيت أكثر من ترى متخلفًا ... فتبعهم فرضيت بالحرمان
لكن أتيت بخطتي عجز وجهـ ... ـل بعد ذا وصحبت كل أمان
منتك نَفْسُكَ بالحوق مع القعو ... د عن المسير وراحة الأبدان
ولسوف تعلم حين ينكشف الغطا ... ماذا صنعت وكنت ذا إمكان
وقال ابن القيم رحمه الله:(1/55)
فَيَا سَاهيًا فِي غَمْرِة الجَّهْلِ والْهَوَى ... صَرِيْعَ الأَمَانِي عَنْ قَرِيبٍ سَتَنْدَمُ
أَفِقْ قَدْ دَنَى الوَقْتُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ ... سِوَى جَنَّةٍ أَوْ حَرِّ نَارٍ تَضَرَّمُ
وَبِالسُّنَّةِ الغَرَّاءِ كُنْ مُتَمَسِّكًا ... هِي العُرْوَةُ الوُثْقَى الَّتِي لَيْسَ تُفْصَمُ
تَمَسَّكْ بِهَا مَسْكَ البَخِيْل بِمَالِهِ ... وَعَضَّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ تَسْلَمُ
وَدَعْ عَنْكَ مَا قَدْ أَحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَهَا ... فَمَرْتَعُ هَاتِيْكَ الْحَوَادثِ أَوْخَمُ
وَهَيِّئ جَوابًا عِنْدَمَا تَسْمَعُ النِّدَا ... مِنْ اللهِ يَوم العَرْضِ مَاذَا أَجَبْتُمُ
بِهِ رُسُلِيْ لَمَّا أَتَوْكُمْ فَمِنْ يَكُنْ ... أَجَابَ سوَاهُمْ سَوْفَ يُخْزَى وَيَنْدَمُ
وَخُذْ مِن تُقَى الرَّحْمَنِ أَعْظَمَ جُنَّةٍ ... لِيَوْمٍ بِهِ تَبْدُو عِيَانًا جَهَنَّمُ
وَيُنْصَبُ ذَاكَ الْجِسْرُ مِنْ فَوْقَ مَتْنِهَا ... فَهَاوٍ وَمَخْدُوْشٌ وَنَاجٍ مُسَلَّمُ
وَيَأْتِي إِلَهُ العَالَمِيْنَ لِوَعْدِهِ ... فَيَفْصِلُ مَا بَيْنَ العِبَادِ وَيَحْكُمُ
وَيَأْخُذُ لِلمَظْلُومِ رَبُّكَ حَقَّهُ ... فَيَا بُؤْسَ عَبْدٍ لِلْخَلائِقِ يَظْلِمُ
وَيَنْشُرُ دِيْوَانُ الْحِسَابِ وَتُوْضَعُ الْـ ... ـمَوازِيْنُ بِالقِسْط الَّذِي لَيْسَ يَظْلِمُ
فَلا مُجْرِمٌ يَخْشَى ظَلاَمَةَ ذَرَّةٍ ... وَلاَ مُحْسِنٌ مِن أَجْرِه ذَاكَ يَهْضَمُ
وَتَشْهَدُ أَعْضَاءُ الْمُسِيء بِمَا جَنَى ... كَذَاكَ عَلَى فِيْهِ الْمَهَيْمِنُ يَخْتُمُ
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ حَالُكَ عِنْدَمَا ... تَطَايَرُ كُتْبُ العَالَمِيْنَ وَتُقْسَمُ
أَتَأْخُذُ بِاليُمْنَى كَتَابَكَ أَمْ تَكُنْ ... بِالأُخْرَى وَرَاءَ الظَّهْرِ مِنْكَ تَسَلَّمُ
وَتَقْرَأ فِيْهَا كَلَّ شِيء عَمِلْتَهُ ... فَيْشْرَقُ مِنْكَ الوَجْهُ أَوْ هُوَ يَظْلِمُ(1/56)
تَقُوْلُ كِتَابِي فَاقْرَؤُهْ فَإِنَّهُ ... يُبَشِّرُ بِالفَوْزِ العَظِيْمِ وَيَعْلَمُ
وَإِنْ تَكُنْ الأُخْرَى فَإِنَّكَ قاَئِلٌ ... أَلا لَيْتَنِي لَمْ أوْتَه فَهُوَ مَغْرَمُ
فَبَادِرْ إذًا مَا دَامَ فِي العُمْرِ فُسْحَةٌ ... وَعَدْلُكَ مَقْبُوْلٌ وَصَرْفُكَ قَيِّمُ
وَجُدَّ وَسَارِعْ وَاغْتَنِمْ زَمَنَ الصِّبَا ... فَفِي زَمْن الإمْكَانِ تَسْعَى وَتَغْنَمُ
وَسِرْ مُسْرِعًا فَالْمَوتُ خَلْفَكَ مُسْرِعًا ... وَهَيْهَاتَ مَا مِنْهُ مَفَرٌ وَمَهْزَمٌ
اللهم ألهمنا القيام بحقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين خلقك، يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج يا قاضي الحاجات ويا مجيب الدعوات هب لنا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه وأملناه يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما في ضمائر الصامتين، أذقنا برد عفوك، وحلاوة مغفرتك، يا أرحم الراحمين وصل الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: الحذر الحذر من المعاصي فإنها سيئة العواقب، والحذر الحذر من الذنوب خصوصًا ذنوب الخلوات، فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه سبحانه ولا ينال لذة المعاصي إلا دائم الغفلة، فأما المؤمن اليقظان فإنه لا يلتذ بها، لأنه عند التذاذه يقف بإزائه علمه بتحريمها وحذره من عقوبتها، فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهي وهو الله فيتنغص عيشه في حال التذاذه فإن غلبه سكر الهوى كان القلب متنغصًا بهذه المراقبات وإن كان الطبع في شهوته فما هي إلا لحظة ثم خزي دائم وندم ملازم وبكاء متواصل وأسف على ما كان مع طول الزمان حتى إنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذار العتاب فأف للذنوب ما أقبح آثارها وأسوء أخبارها انتهى.
3- (موعظة)(1/57)
عباد الله اعتاد الناس أن من طلب شيئًا من نفائس الدنيا لا يهدأ ولا ينام، بل يسعى للوصول إليه، ليله ونهاره، سعي النشيط الهمام، وكلما سد في وجهه باب، قرع بابًا آخر، وإن تعدد الأبواب، كما هو دأب الحريص المقدام، وكلما نظر إلى قدر ما يطلب هان عليه السعي، وما يلقاه من مصاعب ومتاعب وآلام والعجيب أنه لا يمل ولا يسأم، وإن واصل السعي سنين، وأعجب من ذا أنه لا ينثني عن مطلوبه، وإن مس شرفه وأهين، وإن استصعب عليه الوصول، استعان بذوي الوجاهة المحترمين، ولا يزال هذا يواصل السعي حتى يصل مبتهجًا إلى ماله من مرام. أنت تطلب الجنة يا هذا ولا نفيس أنفس منها لأنها لا تفنى ولا تبيد، ولأن لك فيها ما اشتهت نفسك، ولذت عينك دون أي تقييد، ولأنك خالد فيها أبدًا دون أن يكدر، بأي مكدر، ذلك العيش الرغيد فهل شمرت عن ساق وسعيت للوصول إليها، كما تسعى فقط لذلك الفاني من الحطام، المشاهد أنك لا تسعى لتلك الجنة ولا يخطر لك السعي إليها على بال، ولو أنك ساويتها في السعي إليها بأي مطلوب دنيوي لكنت من عظماء الرجال، ولكن يا للأسف لم يكن من ذلك شيء، والسعي للجنة لا يكون بالكلام، ولا بالأماني والأحلام، ولكن بصالحات الأعمال، وهل تزهدت أنت في شيء كما تزهدت في تلك الأعمال الفخام، ولذلك أجرى الله العادة أن من خاف شيئًا من مؤلمات الدنيا يبعد عنه ويفر، كل الفرار، ويذهب هدوؤه وطمأنينته، وربما ذهب نومه اضطرارًا لا اختيارًا ولا يطمئن بعض الاطمئنان إلا إذا احترس منه بكل ما يقدر عليه من أعوان، وأنصار، يفعل كل ذلك لئلا يصل إليه من الأذى ما يكدر عليه حياته، وصفوها، جهنم يا هذا أعظم مخوف فهل عملت الاحتياط لها كما تحتاط لمخوفات هذه الدار.(1/58)
الذي يتبادر منك ويظهر أن إيمانك بها ضعيف، وأنك لم تعمل أي احتياط لها، فلو كان إيمانك قوي في قوله تعالى: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى( [الفجر: 23]. لسعيت جهدك في الأعمال الصالحات، التي تحول بينك وبينها ولأزعجك وأقلقك ولم تهنأ بنوم ولا طعام وشراب، وأمامك تلك العقبات، شعرًا:
وَكَيْْفَ تَنَامُ العَيْنَ وَهِيَ قَرِيْرَةٌ ... وَلَمْ تَدْرِ فِي أَيْ الْمَكَانَيْنَ تَنْزِلُ
اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصل الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
وصايا وفوائد ومواعظ وآداب
أوصى بعضهم، فقال إذا عصيت الله بموضع بأن حصل منك ذنب فاعمل في ذلك الموضع طاعة كاستغفار وذكر لله ونحو ذلك فكما يشهد عليك يشهد لك.
قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا( [الزلزلة: 5]. وكلما تذكرت ذنبًا صدر منك فتب عقب ذكرك إياه توبة نصوحًا وأكثر من الاستغفار.
قال الله جل وعلا: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ( [هود: 114].
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( [آل عمران: 135]. وقال تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً( [النساء: 110].
احرص على أن تنوي فعل الخير، وإذا حدثتك نفسك بشر فاعزم على تركه لله.(1/59)
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال: الله عز وجل: «إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها». ومما أوصى به بعضهم قال عليك بذكر الله قائمًا وقاعدًا وعلى جنبك في السر والعلانية وفي الملا.
قال الله جل وعلا: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ( [آل عمران: 191]. وقال: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً( [الأحزاب: 35]. وقال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ( [البقرة: 152].
وقال تعالى: (وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ( [الأنفال: 45].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الله عز وجل: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرًا، تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة».
احرص على صيانة الوقت وثابر على إتيان جميع ما يقربك إلى الله من الأعمال وبالأخص الإكثار من كلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله.
واعلم أنها كلمة التوحيد والتوحيد لا يماثله شيء، وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وهي كلمة الحق، ودعوة الحق.
وهي أعلا كلمة وأشرف كلمة وأحسن كلمة وأفضل كلمة وأنجى كلمة وما أنعم الله على عبد نعمة أفضل من أن عرفه لا إله إلا الله وفهمه معناها ووفقه للعمل بمقتضاها وعليك بالقيام بما افترض الله عليك وملازمته على الوجه الأكمل الذي أمرك الله جل وعلا أن تقوم به.(1/60)
قال الله جل وعلا: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ( [هود: 112]. وفي حديث سفيان بن عبد الله قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك قال: «قل آمنت بالله ثم استقم». رواه مسلم.
وفي حديث ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن». وفي رواية للإمام أحمد "سددوا وقاربوا ولا يحافظ على الصلاة إلا مؤمن". وعليك بمراعاة أقوالك كما تراعي أعمالك فإن أقوالك من جملة أعمالك قال الله جل وعلا: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ( [الانفطار: 12].
وقال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ( [ق: 18] واحذر الإقامة بين أظهر الكفار فإن ذلك تشجيعًا للكفار وإهانة لدين الإسلام وإعلاء لكلمة الكفر.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا برئ من كل مسلم يقيم بَيْنَ أظهر المشركين لا ترآءى ناراهما» رواه أبو داود والترمذي. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله». رواه أبو داود.
وعليك بتلاوة القرآن بتفهم وتدبر وتفكر ونظر فيما تتلوه إلى ما حمد فيه من النعوت والصفات التي وصف الله جل وعلا بها من أحبه من عباده فاتصف بها.
وما ذمه الله في القرآن من الصفات فاجتنبها فإن الله جل وعلا ما أنزلها في كتابه وذكرها لك وعرفك بها إلا لتعمل بها.
فإذا قرأت القرآن فاجمع قلبك وحضره وفكر فيما تتلو وما أشكل عليك فطالع معناه في التفسير إن كنت تحسن ذلك وإلا فأسأل أهل الذكر.
قال الله جل وعلا وتقدس: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ( [النحل: 43]. ولا أفضل من تلاوة كلام الله فأفضل الكلام كلام الملك العلام جل وعلا وتقدس.(1/61)
وكل ذكر ورد فضله في خبر أو أثر فهو بعد كلام الله فالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد بعد التلاوة وبعدهن الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعليك بمجالسة من تنتفع بمجالسته في دينك من علم تستفيده أو عمل يكون فيه أو خلق حسن يكون عليه تكسبه من صحبته.
وعليك بالبذاذة فإنها من الإيمان وهي ترك الزينة وعدم الترفه ورثاثة الهيئة والرضا بالدون من الثياب لما ورد في الحديث: «إن البذاذة من الإيمان» وفي الحديث الآخر: «إن الله عز وجل يحب المتبذل الذي لا يبالي ما لبس» وفي الحديث الآخر: «ومن ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه -أحسبه قال تواضعًا- كساه الله حلة الكرامة» رواه أبو داود. ومن يرتضي أدنى اللباس تواضعًا سيكسى الثياب العبقريات في غد.
اللهم يا حي يا قيوم طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وأغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[فائدة عظيمة النفع]
اعلم أن من كان داؤه المعصية، فشفاؤه الطاعة، ومن كان داؤه الغفلة، فشفاؤه اليقظة، ومن كان داؤه كثرة الأشغال، فشفاؤه في تفريغ المال.
فمن تفرغ من هموم الدنيا قلبه، قل تعبه، وتوفر من العبادة نصيبه، واتصل إلى الله مسيره، وارتفع في الجنة مصيره، وتمكن من الذكر والفكر والورع والزهد والاحتراس من وساوس الشيطان، وغوائل النفس.
ومن كثر في الدنيا همه، أظلم طريقه، ونصب بدنه، وضاع وقته، وتشتت شمله، وطاش عقله، وانعقد لسانه عن الذكر، لكثرة همومه وغمومه، وصار مقيد الجوارح عن الطاعة، من قلبه في كل واد شعبة، ومن عمره لكل شغل حصة.(1/62)
فاستعذ بالله من فضول الأعمال والهموم فكل ما شغل العبد عن الرب فهو مشئوم، ومن فاته رضى مولاه فهو محروم، كل العافية في الذكر والطاعة، وكل البلاء في الغفلة والمخالفة، وكل الشفاء في الإنابة والتوبة، وانظر أو أن طبيبًا نصرانيًا نهاك عن شرب الماء البارد لأجل مرض في جسدك لأطعته في ترك ما نهاك عنه، وأنت تعلم أن الطبيب قد يصدق وقد يكذب وقد يصيب وقد يخطئ وقد ينصح وقد يغش، فما بالك لا تترك ما نهاك عنه أنصح الناصحين وأصدق القائلين وأوفى الواعدين لأجل مرض القلب الذي إذا لم تشف منه فأنت من أهلك الهالكين.
تَْغِي الوُصُولَ بِسَيْرَ فِيه تَقْصِيْرُ ... لاَ شَكَّ أَنَّكَ فِيْمَا رُمْتَ مَغْرِوْرُ
قَدْ سَارَ قَبْلَكَ أَبْطَالُ فَمَا وَصَلُوا ... هَذا وَفِي سَيْرِهِم جِدٌ وَتَشْمِيْرُ
يَا مُدَّعِي الْحُبَّ فِي شَرْعِ الغَرامِ وَقَد ... أَقَامَ بَيِّنَةً لَكِنَّهَا زُوْرُ
أَفْنَيْتَ عُمْرَكَ فِي لَهْوٍ وَفِي لَعِبٍ ... هَذَا وَأَنْتَ بَعِيْدُ الدَّارِ مَهْجُوْرُ
لَوْ كَانَ قَلْبُكَ حَيًّا ذُبْتَ مِن كَمَدٍ ... مَا لِلْجِرَاحِ بِجِسْمِ الْمَيْتِ تَأْثِيْرُ
وقال ابن القيم رحمه الله إن الذي يحسم مادة رجاء المخلوقين من قلبك هو الرضى بحكم الله عز وجل وقسمه لك.
فمن رضي بحكم الله وقسمه لم يبق لرجاء الخلق في قلبه موضع.
والذي يحسم مادة الخوف هو التسليم لله فإن من سلم لله واستسلم له وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه.
وما أخطأه لم يكن ليصيبه وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له لم يبق لخوف المخلوقين في قلبه موضع أيضًا.
فإن نفسه التي يخاف عليها قد سلمها إلى وليها ومولاها وعلم أنه لا يصيبها إلا ما كتب لها.
وأن ما كتب لها لا بد أن يصيبها فلا معنى للخوف من غير الله.
والذي يحسم مادة المبالات بالناس شهود الحقيقة.
وهو رؤية الأشياء كلها من الله وبالله وفي قبضته وتحت قهره وسلطانه.(1/63)
لا يتحرك منها شيء إلا بحوله وقوته ولا ينفع ولا يضر شيء إلا بإذنه ومشيئته فما وجه المبالات بالخلق.
اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا وآخرتنا وأهلنا ومالنا اللهم استر عوراتنا وأمن روعاتنا واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال أحد العلماء: لا يكن هم أحدكم في كثرة العمل، ولكن ليكن همه في إحكامه وإتقانه، وتحسينه.
فإن العبد قد يصلي وهو يعصي الله في صلاته، وقد يصوم وهو يعصي الله في صيامه.
وقيل لآخر: كيف أصبحت فبكى، وقال أصبحت في غفلة عظيمة عن الموت مع ذنوب كثيرة قد أحاطت بي، وأجل يسرع كل يوم في عمري، وموئل لست أدري علاما أهجم ثم بكى.
وقال آخر: لا تغتم إلا من شيء يضرك غدًا (أي في الآخرة) ولا تفرح بشيء لا يسرك غدًا، وأنفع الخوف ما حجزك عن المعاصي، وأطال الحزن منك على ما فاتك من الطاعة، وألزمك الفكر في بقية عمرك.
وقال آخر: عليك بصحبة من تذكرك الله عز وجل رؤيته، وتقع هيبته على باطنك ويزيد في عملك منطقه.
ويزهدك في الدنيا عمله، ولا تعصي الله ما دمت في قربه، يعظك بلسان فعله ولا يعظك بلسان قوله.
قال إسرافيل: حضرت ذي النون المصري وهو في الحبس وقد دخل الشرطي بطعام له، فقام ذو النون فنفض يده (أي قبضها عن الطعام).
فقيل له: إن أخاك جاء به، فقال: إنه على يدي ظالم، قال: وسمعت رجلاً سأله ما الذي أتعب العباد وأضعفهم؟
فقال: ذكر المقام وقلة الزاد، وخوف الحساب، ولم لا تذوب أبدان العمال وتذهل عقولهم، والعرض على الله جل وعلا أمامهم، وقراءة كتبهم بين أيديهم.
والملائكة وقوف بين يدي الجبار ينتظرون أمره في الأخيار والأشرار، ثم مثلوا هذا في نفوسهم وجعلوه نصب أعينهم.(1/64)
وقال: سقم الجسد في الوجاع، وسقم القلوب في الذنوب، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمهن كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب.
وقال: من لم يعرف قدر النعم، سلبها من حيث لا يعلم.
ما خلع الله على عبد خلعة أحسن ولا أشرف من العقل ولا قلده قلادة أجمل من العلم ولا زينة بزينة أفضل من الحلم وكمال ذلك التقوى.
وقال آخر: أدركت أقوامًا يستحيون من الله في سواد الليل من طول الهجعة، إنما هو على الجنب فإذا تحرك قال لنفسه: ليس لك قومي خذي حظك من الآخرة.
وقال أبو هاشم الزاهد: إن الله عز وجل وسم الدنيا بالوحشة، ليكن أنس المريدين به دونها، وليقبل المطيعون له بالإعراض عنها، وأهل المعرفة بالله فيها مستوحشون، وإلى الآخرة مشتاقون.
فتفكر يا أخي في ذلك عسى الله أن ينفعنا وإياك واستعن بالله واصبر واجتهد وشمر وبادر بالأعمال الصالحة قبل أن يحال بينك وبينها فلا تجد إليها سبيلاً.
وكن حذرا من مفاجأة الأجل فإنك غرض للآفات وهدف منصوب لسهام المنايا وإنما رأس مالك الذي يمكنك إن وفقك الله أن تشتري به سعادة الأبد هذا العمر.
إخواني المؤمن يتقلب في الدنيا على جمرات الحذر في نيران الخوف، يرهب العاقبة، ويحذر المعاقبة، فالخوف من النار متمكن من سويداء قلبه.
فإن هفا بأن حصل منه زلة توقدت في قلبه نار الندم، وإن تذكر ذنبًا إضطرمت نار الحزن في باطنه، وإن تفكر في مصيره ومنقلبه التهبت نار الحذر في قلبهن وصار لا يهنؤه طعام ولا شراب.
خُذْ مَا صَفَا لَكَ فَالْحَيَاةُ غُروْرُ ... وَالْمَوتُ آَتٍ وَاللَّبِيْبُ خَبِيْرُ
لاَ تَعْتِبَنَّ عَلَى الزَّمَانِ فَإِنَّهُ ... فَلَكٌ عَلَى قُطْبِ الْهِلاكِ يَدورُ
تَعْفُو السُّطوْرُ إِذَا تَقَادَمَ عَهْدُهَا ... وَالْخَلْقُ فِي رِقِّ الْحَيَاةِ سُطُوْرُ
كُلّ يَفرُ مِن الرَّدَى لِيَفُوتَهُ ... وَلَه إِلَى مَا فَر مِنْهُ مَصِيْرُ(1/65)
فَانْظُرْ لنَفْسُكَ فَالسَّلاَمَة نُهْزَةٌ ... وَزَمَانُهَا ضَافِي الْجَنَاحِ يَطِيْرُ
مِرْآةُ عَيْشِكَ بِالشَّبَابِ صَقِيْلَةٌ ... وَجَناحُ عُمْرَك بِالْمَشِيْبِ كَسِيْرُ
بَادِرْ فَإِنَّ الوَقْتَ سَيْفٌ قَاطِعٌ ... وَالعُمْرُ جَيْشٌ وَالشَّبَابُ أَسِيْرُ
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[فائدة عظيمة النفع]
قال بعض العلماء: ذكر الله تعالى في ابتداء الأقوال والأفعال أنسة من الوحشة وهداية من الضلال.
وحمده جل وعلا فرض لازم لكل أحد على كل حال لأنه أهل أن يحمد إن ابتلى، وإن منع، وإن أنال.
ففضله جل وعلا عم النساء والرجال والكهول والأطفال.
ولطف في قدره وقضائه بأهل أرضه وسمائه فلم يخل من لطفه سافل ولا عال.
اللهم يا من لا تمد الأيدي بالرغبة والمسألة إلا إليه، ولا يعول في كشف الشدائد والكروب في الدنيا والآخرة إلا عليه.
يا من كل الرغائب والمطالب لديه، وجميع المواهب لديه، ليس لضرنا سواك كاشف ولا على ضعفنا سواك عاطف.
المعافى من عافيته، فعافنا يا مولانا من موجبات سخطك وعقابك، والمهدي من هديته فأهدنا يا ربنا سبل الواصلين إلى مرضاتك.
بذكر الله تحيا القلوب من موت غفلتها فالله الله بالمداومة على ذكر الله سرًا وجهارًا ليلاً ونهارًا قيامًا وقعودًا ماشين ومضطجعين.
ذاكر الله لا يستطيع الشيطان في ظله مقيلا، ذاكر الله لا يجد الشيطان إلى إغوائه سبيلا، ذاكر الله لا يزال شيطانه مدحورًا ذليلا، ذاكر الله قد تكفل الله بحفظه وكيف يضيع من كان الله به كفيلا، بذكر الله تطمئن القلوب وتحيا، قال الله تعالى: (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ( [الرعد: 28]. وقال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ( [البقرة: 152].
ذِكْرُ إِلَه الزَمْ هُدِيْتَ لِذِكْرِهِ ... فِيْهِ الْقُلوبُ تَطِيْبُ وَالأفْوَاهُ
آخر:(1/66)
وَالذِّكرُ فِيْهِ حَيَاةٌ لِلْقُلُوبِ كَمَا ... تَحْيَا البِلاَدُ إِذَا مَا جَاءَهَا الْمَطَرُ
اللهم إن نواصينا بيديك وأمورنا ترجع إليك وأحوالنا لا تخفي عليك، وأنت ملجؤنا وملاذنا، وإليك نرفع بثنا وحزننا وشكايتنا، يا من يعلم سرنا وعلانيتنا نسألك أن تجعلنا ممن توكل عليك فكفيته واستهداك فهديته وهب لنا من فضلك العظيم وجد علينا بإحسانك العميم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[فوائد ومواعظ]
أعلم يا أخي أن الناس عند الموت ثلاثة أقسام: الأول: ذو بصيرة علم أن الإنسان وإن طال عمره في الدنيا فهو كخطفة برق لمعت في السماء ثم عادت للاختفاء.
فلا يثقل على العاقل اللبيب الخروج من الدنيا إلا بقدر ما يفوته من خدمة ربه عز وجل، والازدياد من ما يقربه إليه، والإشفاق مما يقول أو يقال له.
كما قال بعضهم لما قيل له لم تجزع قال: لأني أسلك طريقًا لم أعهده، وأقدم على ربي جل وعلا ولا أدري ما أقول وما يقال لي.
ومثل هذا الشخص لا ينفر من الموت بل إذا عجز عن العبادة ربما اشتاق إليه.
وقال بعضهم في مناجاته: إلهي إن سألتك الحياة في دار الممات فقد رغبت في البعد عنك، وزهدت في القرب منك.
فقد قال نبيك وصفيك - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه».
الثاني: رجل رديء البصيرة متلطخ السريرة منهمك في الدنيا منكر للبعث، قد رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها ويئس من الآخرة.
فهذا مصيره كما ذكر الله: (إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ( [يونس: 7].(1/67)
القسم الثاني: من خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا واعترفوا بذنوبهم وهؤلاء أيضًا مصيرهم كما ذكر الله، قال الله جل وعلا وتقدس: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( [التوبة: 102].
ثم أعلم أن طول العمر محبوب ومطلوب إذا كان في طاعة الله، لقوله عليه الصلاة والسلام «خيركم من طال عمره وحسن عمله» وكلما كان العمر أطول في طاعة الله، كانت الحسنات أكثر والدرجات أرفع.
وأما طوله في غير طاعة، أو في المعاصي، فهو شر وبلاء، تكثر السيئات، وتضاعف الخطيئات.
ومن زعم أنه يحب طول البقاء في الدنيا ليستكثر من الأعمال الصالحة المقربة إلى الله تعالى فإن كان مع ذلك حريصًا عليها ومشمرًا فيها ومجانبًا لما يشغل عنها من أمور الدنيا فهو بالصادقين أشبه.
وإن كان متكاسلاً عنها ومسوفًا فيها أي الأعمال الصالحة فهو من الكاذبين المتعللين بما لا يغني عنه.
لأن من أحب أن يبقى لأجل شيء وجدته في غاية الحرص عليه مخافة أن يفوته ويحال بينه وبينه.
ولا سيما والعمل الصالح محله الدنيا ولا يمكن في غيرها لأن الآخرة دار جزاء وليست بدار عمل.
فتفكر يا أخي في ذلك عسى الله أن ينفعنا وإياك واستعن بالله واصبر واجتهد وشمر وبادر بالأعمال الصالحة قبل أن يحال بينك وبينها فلا تجد إليها سبيلا.
وكن حذرًا من مفاجأة الأجل فإنك غرض للآفات وهدف منصوب لسهام المنايا وإنما رأس مالك الذي يمكنك إن وفقك الله أن تشتري به سعادة الأبد هذا العمر.
قال الله جل وعلا: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ( [فاطر: 37]. فإياك أن تنفق أوقاته وأيامه وساعاته وأنفاسه فيما لا خير فيه ولا منفعة فيطول تحسرك وندمك وحزنك بعد الموت.
إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عُمْركَ فَاحْتَرِزْ ... عَلَيْهِ مِن الإِنْفَاقِ فِي غَيْرِ وَاجِبٍ(1/68)
قال محمد بن القاسم خادم محمد بن أسلم قال محمد بن أسلم:
مَا لِي وَلِهَذَا الْخَلْق كنت فِي صلب أبي وحدي ... ...
ثم صرت في بطن أمي وحدي ... ...
ثم دخلت الدنيا وحدي ... ...
ثم تقبض روحي وحدي ... ...
ثم أدخل في قبري وحدي ... ...
ثم يأتيني منكر ونكير فيسألاني وحدي ... ...
فإن صرت إلى خير صرت وحدي ... ...
ثم يوضع عملي وذنوبي في الميزان وحدي ... ...
وإن بعثت إلى الجنة بعثت وحدي ... ...
فما لي وللناس؟!! ... ...
ثم تفكر ساعة فوقعت عليه الرعدة حتى خشيت أن يسقط قال وسمعته يحلف كذا وكذا مرة يقول: لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت.
ولكني لا أستطيع ذلك خوفًا من الرياء.
وكان يدخل بيته ويغلق بابه ويدخل معه كوزًا من ماء فلم أدري ما يصنع.
حتى سمعت ابنًا له صغيرًا يحكى بكاءه فنهته أمه فقلت لها: ما هذا البكاء؟
فقالت: إن أبا الحسن يدخل هذا البيت فيقرأ القرآن ويبكي فيسمعه الصبي فيحكيه (أي يقلده).
وكان إذا أراد أن يخرج غسل وجهه واكتحل لئلا يرى عليه أثر البكاء.
بلغ يا أخي الذين يذكرون أعمالهم للناس من حج وصدقة وصيام رياء وسمعة.
وكان يصل قومًا ويعطيهم ويكسوهم فيبعث إليهم ويقول للرسول: انظر أن لا يعلموا من بعثه إليهم ويأتيهم هو بالليل فيذهب به إليهم ويخفي نفسه.
ولا يعلمون من الذي أعطاهم ولا أعلم أنه وصل أحدًا بأقل من مائة درهم إلا أن يمكنه ذلك.
ودخلت عليه قبل موته بأربعة أيام فقال: يا أبا عبد الله أبشر بما صنع الله بأخيك من الخير قد نزل بي الموت وقد من الله علي أنه ليس عندي درهم يحاسبني الله عليه.
وقد علم ضعفي فإني لا أطيق الحساب، فلم يدع عندي شيئًا يحاسبني الله عليه ثم أغلق الباب ولا تأذن لأحد علي حتى أموت.
واعلم أني أخرج من الدنيا وليس أدع ميراثًا غير كسائي، وإنائي الذي أتوضأ فيه وكتبي.(1/69)
وكانت معه صرة فيها نحو ثلاثين درهما، فقال: هذا لابني أهداه إليه قريب له ولا أعلم شيئًا أحل لي منه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنت ومالك لأبيك».
فكفنوني منها وابسطوا على جنازتي لبدي وغطوا علي بكسائي وتصدقوا بإنائي أعطوه مسكينًا يتوضأ منه ثم مات باليوم الرابع رحمه الله.
4- موعظة
كان السلف رحمهم الله ومن سار على نهجهم من الخلف احرص الناس على حفظ الوقت، وتعبيته بالأعمال الصالحة سواء في ذلك العالم، وطالب العلم، والعابد.
وكانوا يقتدي بعضهم ببعض ويوصي أحدهم الآخر على صيانته وملئه بالخير وكانوا يسابقون الساعات، ويبادرون اللحظات، حرصًا منهم على الوقت، وأن لا يذهب هدرًا.
لعلمهم أنه يمر مر السحاب ويجري جري الريح.
قيل إن نوحًا عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام جاء ملك الموت ليقبض روحه بعد ألف سنة أو أقل أو أكثر الله أعلم.
فسأله ملك الموت قال له يا أطول الأنبياء عمرًا كيف وجدت الدنيا فقال كدارٍ لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر.
قال الله جل وعلا وتقدس: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ( [الأحقاف: 35].
وقال تبارك وتعالى: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا( [النازعات: 46].
وقال تبارك وتعالى وتقدس: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ( [يونس: 45].
ومن خصائص الوقت أن كل ساعة أو يوم أو لحظة تمر ليس يمكن استرجاعها.
وقال الحسن البصري ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فتزود مني فإني إذا مضيت لا أعود.
وَمَا الْمَرْءُ إِلاَّ رَاكِبٌ ظَهْرَ عُمْرِه ... عَلَى سَفَرٍ يُفِنْيِه بِاليَوْمِ وَالشَّهْرِ(1/70)
يَبِيْتُ وَيُضْحِى كَل يَومٍ وَلَيْلَةٍ ... بَعِيْدًا عَنْ الدُّنْيَا قَرَيْبًا إِلَى القَبْرِ
فالذي ينبغي للإنسان أن يحافظ على وقته أعظم من محافظته على ماله، وأن يحرص على الاستفادة منه في كل لحظة فيما ينفعه في دينه وفي دنياه، مما هو وسيلة إلى الدار الآخرة.
قال عمر بن عبد العزيز إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما.
وقال حكيم من أمضى يومًا من عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه وظلم نفسه.
والذي يعين على اغتنام الزمان، العزلة مهما أمكن، إلا لضرورة، أو حاجة لمن يلقاه، أو يزوره، وقلة الكل.
لأن كثرته تكسل البدن، وسبب للنوم الطويل، وضياع الليل، وفوات التهجد، أو تقليله. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[فصل]
ولقد كانت همم السلف عالية يدل عليها كثرة مصنفاتهم التي هي خلاصة أعمارهم.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى باستباق الخيرات والمسارعة إليها قبل أن تشغل عنها الشواغل أو تعوق العوائق.
قال الله جلا وعلا: (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ( [البقرة: 148].
وقال عز من قائل: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ( [آل عمران: 133].
وقال جل وعلا: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ( [الحديد: 21].
ومدح الصالحين من أهل الكتاب بأنهم (يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ( [آل عمران: 114].
وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على المبادرة بالعمل قبل حلول العوائق والفتن.(1/71)
فقال: «هل تنتظرون إلا غنى مطغيًا أو فقر منسيًا أو مرضًا مفسدًا أو هرمًا مفندًا أو موتًا مجهزًا أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر». رواه الترمذي.
وقال ابن القيم رحمه الله وعمارة الوقت الاشتغال في جميع آنائه بما يقرب إلى الله تعالى أو يعين على ذلك من مأكل ومشرب أو منكح أو منام أو راحة.
فإن متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله وتجنب ما يسخطه كانت من عمارة الوقت.
وغن كان له فيها أتم لذة فلا تحسب عمارة الوقت بهجر اللذات والطيبات المباحة.
قال بعض العلماء أغلق باب التوفيق عن الخلق من ستة أشياء.
انشغالهم بالنعمة عن شكرها.
ورغبتهم في العلم وتركهم العمل.
وإقبال الآخرة وهم معرضون عنها.
والاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بفعالهم.
وإدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها.
والمسارعة إلى المعاصي والذنوب وتأخير التوبة.
وَكَمْ ذِيْ مَعَاصٍ نَالَ مِنْهُنَّ لَذَّةً ... وَمَاتَ وَخضلاَّهَا وَذَاقَ الدَّوَاهِيَا
تَصَرَّمُ لذات المعاصي وتنقضي ... وتبقى تباعات المعاصي كما هيا
فَيَا سَوْءَتَا وَاللهِ رَاءٍ وَسَامِعٌ ... لِعَبْدٍ بِعَيْنِ اللهِ يَغْشَى الْمَعَاصِيَا
آخر:
تَوَارَىْ بِجِدْرَانِ الْبِيوتِ عَن الوَرَى ... وَأَنْتَ بعَيْنِ اللهِ لاَ شَكَّ تُنْظَرُ
وقال آخر: إن لله عبادًا جعلوا ما كتب عليهم من الموت مثالاً بين أعينهم وقطعوا الأسباب المتصلة بقلوبهم من علائق الدنيا فهم أنضاء عبادته حلفاء طاعته.
قد أنضجوا خدودهم بوابل دموعهم وافترشوا جباههم في محاريبهم يناجون ذا الكبرياء والعظمة في فكاك رقابهم.
ومر إبراهيم بن أدهم برجل يتحدث فيما لا يعنيه فوقف عليه فقال كلامك هذا ترجو به الثواب.
قال لا فقال أفتأمن عليه العقاب قال لا.
قال فما تصنع بكلام لا ترجو عليه ثوابًا وتخاف منه عقابًا.
قال بعضهم لو بعت لحظة من إقبالك على الله بمقدار عمر نوح في ملك قارون لكنت مغبونًا في العقد.(1/72)
قال سفيان الثوري دخلت على جعفر الصادق فقلت له ما لي أراك سكنت دارك ولا تخالط الناس.
فقال نعم يا ابن سعيد في العزلة دعة وفي الدعة القناعة وما قدر لك يأتيك.
يا سفيان فسد أهل الزمان وتغير الأصدقاء فرأيت الانفراد أسكن للفؤاد. والله أعلم وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فصل)
أعلم أن قصر الأمل ديدن العلماء العاملون المتقون الورعون المبعدون عن التكالب على الدنيا الزاهدون في حطامها الفاني وكذلك أرباب القلوب الواعية وإن لم يكونوا علماء يقصرون أملهم ويحتقرون الدنيا ويعلمون أنها زائلة عكس ما عليه أكثر أهل الزمان عبيد الدنيا للبطون والفروج.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع». رواه مسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كَأَنَّكَ غريب أو عابر سبيل» وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك. رواه البخاري.
قالوا في شرح هذا الحديث معناه لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنًا ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها ولا تشتغل فيها إلا بما يشتغل به الغريب فقط الذي يريد الذهاب إلى أهله، وأحوال الإنسان ثلاث: حال لم يكن فيها شيئًا وهي قبل أن يوجد.
وحال أخرى وهي من ساعة موته إلى ما لا نهاية له في البقاء السرمدي فإن لنفسك وجود بعد خروج الروح من البدن إما في الجنة وإما في النار وهو الخلود الدائم وبين هاتين الحالتين حالة متوسطة وهي أيام حياته في الدنيا فانظر إلى مقدار ذلك بالنسبة إلى الحالتين يتبين لك أنه أقل من طرفة عين في مقدار عمر الدنيا.(1/73)
ومن رأى الدنيا بهذه الصفة وبهذا التفكير السليم لم يلتفت إليها ولم يبالي كيف انقضت أيامه بها في ضرر وضيق أو سعة ورخاء ورفاهية ولهذا لم يضع النبي - صلى الله عليه وسلم - لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة.
وقال عيسى عليه السلام الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها هذا مثل واضح فإن الدنيا معبر إلى الآخرة والمهد هو الركن الأول على أول القنطرة واللحد هو الركن الثاني على آخر القنطرة.
شعرًا:
يَا غَافِلَ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ الْمَنَيَّاتِ ... عَمَّا قَلِيْل سَتُلْقَى بَيْنَ أَمْوَاتِ
فَاذْكُر مَحَلَّكَ مِن قَبْل الْحُلُولِ بِهِ ... وَتُبْ إِلَى الله مِنْ لَهْوٍ وَلَذَّاتِ
إِنَّ الْحَمَامَ لَهُ وَقْتٌ إِلَى أَجَلٍ ... فَاذْكُرْ مَصَائِبَ أَيَّامٍ وَسَاعَاتِ
لاَ تَطْمَئِنَّ إِلَى الدُّنْيَا وَزِيْنَتَهَا ... قَدْ آنَ لِلمَوْتِ يَا ذَا اللَبِّ أَنْ يِأْتِي
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
ومن الناس من قطع نصف القنطرة ومنهم من قطع ثلثها ومن الناس من قطع الثلثين ومنهم من قطع ثلاثة أرباع المسافة ومنهم من لم يبق له إلا ثمن المسافة ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها وكيف ما كان فلابد من العبور فمن وقف يبني على القنطرة ويزينها وهو يستحث على العبور عليها فهو في غاية الجهل والحمق والسفه.(1/74)
وروي عن الحسن قال بلغني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنه قال إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أو ما بقي أنفذوا الزاد وخسروا الظهر وبقوا بَيْنَ ظهراني المفازة لا زاد ولا حمولة فأيقنوا بالهلكة فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رجل في حلة يقطر رأسه فقالوا أن هذا قريب عهد بريف وما جاء هذا إلا من قريب فلما انتهى إليهم قال يا هؤلاء علام أنتم قالوا على ما ترى قال أرأيتكم إن هديتكم إلى ماء رواء ورياض خضر ما تعملوا قالوا لا نعصيك شيئًا قال عهودكم ومواثقكم بالله فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئًا قال فأوردهم ماء ورياضًا خضراء فمكث فيهم ما شاء الله ثم قال يا هؤلاء الرحيل قالوا إلى أين قال إلى ماء ليس كمائكم وإلى رياض ليست كرياضكم فقال أكثر القوم والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده وما نصنع بعيش خير من هذا وقالت طائفة ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصوه وقد صدقكم في أول حديثه فو الله ليصدقنكم في آخره قال فراح فيمن اتبعه وتخلف بقيتهم فنزل بهم عدو فأصبحوا من بَيْنَ أسير وقتيل».
وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «ما حق امرء مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ». متفق عليه.
وعن أنس رضي الله عنه قال خط النبي - صلى الله عليه وسلم - خطًا مريعًا وخط خطًا في الوسط خارجًا منه وخط خططًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه فقال هذا الإنسان وهذا أجله محيط به –أو قد أحاط به. وهذا الذي هو خارج أمله وهذه الخطط الصغار الأعراض فإن أخطاه هذا نهشه هذا وإن أخطاه هذا نهشه هذا رواه البخاري.
وَالْمَرْءُ يَبْلَيِه فِي الدُّنْيَا وَيَخْلقُهُ ... حِرْصٌ طَوِيْلٌ وَعُمْرُ فِيْه تَقْصِيْرُ
يَطَوِّقُ النَّحْرِ بِالآمالِ كَاذِبَةً ... وَلَهْذَمُ الْمَوْتِ دُوْنَ الطَّوْق مَطْرُوْرُ(1/75)
جَذْلاَنَ يَبْسِمُ فِي أَشْرَاكِ مِيْتَتِه
ِ ... إِنْ أَفْلَتَ النَّابُ أَرْدَتْهُ الأَظَافِيْرُ
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء. رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وقال - صلى الله عليه وسلم - "مالي وللدنيا أنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها".
وفي صحيح مسلم من حديث المستورد بن شداد قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في أليم فلينظر بم يرجع" وأشار بالسبابة.
وليس العجب من انهماك الكفرة في حب الدنيا والمال فإن الدنيا جنتهم وإنما العجب أن يكون المسلمون يصل حب المال والدنيا في قلوبهم إلى حد أن تذهل عقولهم وأن تكون الدنيا هي شغلهم الشاغل ليلاً ونهارًا وهم يعرفون قدر الدنيا من كتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أليس كتاب الله هو الذي فيه (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ( [الشورى: 20].
ويقول: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً( [الإسراء: 19].
وتقدمت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المبينة لحقارة الدنيا وليس المعنى أن نترك الدنيا ونبقى جياعًا عارين محتاجين بل معناه أن لا نجعلها مقصدًا كما جعلها الكفار بل نجعل الدنيا وما فيها وسيلة إلى تلك الحياة الأبدية فنكون من الفريق الذي يحب المال لأجل الآخرة.(1/76)
وقد كان على هذا المبدأ الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وكذلك التابعون لهم اتخذوا الدنيا مطية للآخرة فسادوا بها أهل الدنيا ولما تخلفنا عنهم في هذا المبدأ وجعلنا المال هو المقصد سكنًا إلى الدنيا وأحببنا الحياة ولذائذها والداهية العظيمة هي أنا ضربنا بالذل.
ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض». رواه البخاري ومسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم». متفق عليه.
اللهم إنا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا ذنوبنا وهب لنا تقواك واهدنا بهداك، ولا تكلنا إلى أحد سواك، واجعل لنا من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا.
اللهم أعذنا بمعافاتك من عقوبتك، وبرضاك من سخطك، واحفظ جوارحنا من مخالفة أمرك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
فائدة نفيسة قال أحد العلماء رحمه الله تعالى أعلم أن الدنيا رأس كل خطيئة كما قال - صلى الله عليه وسلم - وقد صارت عدوة لله وعدوة لأوليائه وعدوة لأعدائه، أما عداوتها لله تعالى فلأنها قطعت الطريق بينه وبين أوليائه.
ولهذا فإنه لم ينظر إليها منذ خلقها، وأما عداوتها لأوليائه فلأنها تزينت لهم بزينتها وغمرتهم بزهرتها وتزهت لهم بنضارتها حتى تجرعوا مرارات الصبر في مقاطعتها وتحملوا المشاق في البعد منها.
وأما عداوتها لأعدائه فلأنها استدرجتم بمكرها ومكايدها واقتنصتهم بحبائلها وأقصدتهم بسهامها حتى وثقوا بها وعولوا عليها.
فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها وغدرت بهم أسكن ما كانوا إليها فاجتنوا منها حسرة تنقطع دونها الأكباد. وحرمتهم السعادة الأخروية على طول الآماد فانتبه يا من اغتر بها قبل أن يصيبك مثل ما أصاب المغترين بها.(1/77)
وقال بعض العارفين إذا كان أبونا آدم بعد ما قيل له أسكن أنت وزوجك الجنة صدر منه ذنب واحد فأمر بالخروج من الجنة فكيف نرجوا دخولها مع ما نحن مقيمون عليه من الذنوب المتتابعة والخطايا المتواترة.
كان أبو الفتح المنهى قد برع في الفقه وتقدم عند العوام وحصل له مال كثير ودخل بغداد وفوض إليه التدريس بالنظامية وأدركه الموت بهمدان.
فلما دنت وفاته قال لأصحابه أخرجوا فلما خرجوا عنه جعل يلطم وجهه ويقول "يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله" ويقول لنفسه موبخًا لها يا أبا الفتح ضيعت العمر في طلب الدنيا وتحصيل المال والجاه والتردد إلى السلاطين وينشد هذين البيتين:
عَجِبْتُ لأَهَلِ العِلم كَيْفَ تَغَافُلُوا ... يَجُرُوْنَ ثَوْبَ الْحَرْصِ حَوْلَ الْممالِكِ
يَدُوْرُوْنَ حَوْلَ الظَّالِمِيْنَ كَأَنَّهُم ... يَطُوْفُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَقْتَ الْمَنَاسِكِ
أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه مع عبد له كيسًا من الدراهم إلى أبي ذر رضي الله عنه وقال لعبده إن قبل هذا أبو ذر فأنت حر أي عتيق فأتى بالكيس إلى أبي ذر وألح عليه في قبوله فلم يقبل فقال الغلام لأبي ذر إنه علق عتقي على قبولك هذا الكيس فقالوا أبو لكن في قبوله رقي.
هذه القصيدة الشيبانية عدلنا فيها بعض أبيات وكان بعضها في شيء لا يصلح.
سَأَحْمِدُ رَبِّي طَاعَةً وَتَعَبُّدًا ... وَانْظِمُ عَقْدًا فِي العَقِيْدَةِ أَوْحَدَا
وَأَشْهَدُ أَنَّ اللهَ لاَ رَبَّ غَيْرَه ... تَعَزَّزَ قِدْمًا بِالْبَقَاء وَتَفرَّدًا
هُوَ الأَوَّلُ المُبْدِى بِغَيْرِ بِدَايَةٍ ... ولا بعده شَيْءٌ علا وتوحَدَا
سمِيعٌ بَصِيرٌ عَالِمٌ مُتَكَلِّمٌ ... قَدِيرٌ يُعِيدُ الْعَالَمِينِ كَمَا بَدَا
مُرِيدٌ أَرَادَ الْكَائِنَاتِ لِوَقْتِهَا ... قَدير فَأَنْشَا ما أَرَادَ وَأَوْجَدَا
إِلَه عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ قَدِ اسْتَوَى ... وَيَايَنَ مَخْلُوقاتِهِ وَتَوَحَّدَا(1/78)
إِذَا الْكَوْنُ مَخْلُوقٌ وَرَبي خَالِقٌ ... لَقَدْ كَانَ قَبْلَ الْكَوْنِ رَبًّا وَسَيِّدَا
وَلَيْسَ كَمِثْلِ الله شَيْءٌ وَلَا لَهُ ... شَبيهٌ تَعَالى رَبُّنَا وتَوحَّدَا
وَمَنْ قَالَ في الدُّنْيا يَرَاهُ بِعَيْنِهِ ... فَذَلِكَ زِنْديقٌ طَغى وَتَمَرَّدَا
وَخَالَفَ كُتْبَ الله وَالرُّسْلَ كُلَّهُمْ ... وَزَاغَ عَن الشَّرْعِ الشَّرِيف وَأَبْعَدَا
وَذَلِكَ مِمَّنْ قَالَ فِيهِ إِلهُنَا ... يَرَى وَجْهُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَسْوَدَا
وَلَكِنْ يَرَاهُ فِي الجِنَانِ عِبادُهُ ... كما صَحَّ فِي الأَخْبَارِ نَرْوِيهِ مُسْنَدَا
وَنَعْتَقِدُ الْقُرْآنَ تَنْزِيلَ رَبَّنَا ... بِهِ جاءَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ (مُحَمَّدَا)
وَأَنْزَلَهُ وَحْيًا إِليْهِ وَأَنَّهُ ... هُدَى الله يَا طُوبى بِهِ لِمَنْ اهْتَدَى
كلام كريم مُنْزَلٌ من إلهنا ... بِأَمْرٍ وَنَهْيٍ وَالدَّلِيلُ تَأَكَّدَا
كَلَامُ إِلهِ الْعَالَمِينَ حَقِيقَة ... فَمَنْ شَكَّ فِي هَذا فَقَدْ ضَلَّ وَاعْتَدَى
وَمِنْهُ بَدَا قَوْلاً وَلَا شَكَّ انهُ ... يَعُودُ إِلَى الْرَّحْمنِ حَقًا كما بَدَا
فَمنْ شَكَّ فِي تَنْزِيلِه فَهْوَ كافِرٌ ... وَمَْ زَادَ فِيْهِ قَدْ طَغَى وَتَمَرَّدَا
وَمَنْ قالَ مَخْلُوقُ كَلَامُ إِلهِنَا ... فَقَدْ خَالَفَ الإِجْمَاعَ جَهْلاً وَأَلْحَدَا
وَنُؤْمِنُ بِالْكُتُبِ الَّتِي هِيَ قَبْلَهُ ... وَبِالْرُّسُلِ حَقَّا لَا نُفَرِّقُ كالْعِدَا
وَإِيمَانُنَا قَوْلٌ وَفِعْلٌ وَنِيِّةٌ ... وَيَزْدَادُ بِالتَّقْوَى وَيَنْقُصُ بِالرَّدَى
فَلَا مَذْهَبَ التَّشْبِيِه نَرْضَاهُ مَذْهَبًا ... وَلَا مَقْصدَ التَّعْطِلِ نَرْضَاهُ مَقْصِدَا
وَلَكِنْ بِالقُرْآنِ نَهْدِي وَنَهْتَدِي ... وَقَدْ فَازَ بِالقُرْآنِ عَبْدٌ قَدْ اهْتَدَى
وَنُؤْمِنُ أَنْ الخَيرَ وَالشَّرَ كُلَّهُ ... مِنَ الله تَقْدِيرًا عَلَى العَبْدِ عُدِّدَا(1/79)
فَمَا شَاءَ رَبُّ العَرْشِ كَانَ كَمَا يَشَا ... وَمَا لَمْ يَشَا لَا كَانَ فِي الْخَلْقِ مَوْجُدَا
وَنُؤْمِنُ أَنَّ المَوْتَ حَقٌّ وَأَنَّنَا ... سَنُبْعَثُ حَقًّا بَعْدَ مَوْتِنَا غَدَا
وَأَنَّ عَذَابَ الْقَبْرَ حَقٌّ وَأَنَّهُ ... عَلَى الْجِسْمِ وَالرَّوحِ الذِّي فِيهِ أَلْحِدَا
وَمُنْكَرُهُ ثُمَّ النَّكِيرُ بِصُحْبَةِ ... هُما يَسْألَانِ الْعَبْدَ فِي الْقَبْرِ مَقْعَدَا
وَمِيْزَانُ رَبِّي وَالصِّرَاطُ حَقِيقَةً ... وَجََّتُهُ وَالنَّارُ لَمْ يُخْلَقَا سُدَى
وَأَنَّ حِسَابَ الخَلْقِ حَقٌّ أَعَدَّهُ ... كَمَا أَخْبَرَ القُرْآنُ عَنْهُ وَشَدَّدَا
وَحَوْضُ رَسُولِ الله حَقًّا أَعَدَّهُ ... لَهُ الله دُونَ الرُّسلِ مَاءً مُبَرْدَا
وَيَشْرَبُ مِنْهُ الْمُؤْمِنونَ وَكِلُّ مَنْ ... سُقِي مِنْهُ كَأَسًا لَمْ يَجِدْ بَعْدَهُ صدَا
أَبارِيقُهُ عَدُّ النُّجُومِ وَعَرْضُهُ ... كَبُصْرَى وَصَنْعًا فِي المَسَافَةِ حُدِّدَا
وَأَنَّ رَسُولَ الله أَفْضَلُ مَنْ مَشَى ... عَلَى الأَرْضِ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ أَو غَدَا
وَأَرْسَلَهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ رَحْمَةً ... إِلَى الثَّقَلَيْنِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ مُرْشَدَا
وَأْسَرى بِهِ لَيْلًاً إِلَى الْعَرْشِ رِفْعَةً ... وَأَدَْاهُ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنَ مُصْعِدَا
وَخَصَّصَ ُموسى رَبُّنَا بِكَلَامِهِ ... عَلَى الطورِ نَادَاهُ وَأَسْمَعَهُ النَّدَا
وَكِلُّ نَبِي خَصَّهُ بِفَضِيلَةٍ ... وَخَصَّصَ بالقرآن رَبِّي مُحَمَدَا
وَأَعْطَاهُ فِي الحَشْرِ الشَّفَاعَةَ مِثْلَ ما ... رُوِي في الصَّحِيحَيْنِ الحَدِيثُ وَأَسْنِدَا
فَمَنْ شَكَّ فيْهَا لَمْ يَنَلْهَا وَمَنْ يَكُنْ ... شَفِيْعًا لَهُ قَدْ فَازَ فَوْزًا وَأَسْعَدَا
وَيَشْفَعُ بَعْدَ المُصْطَفى كُلُّ مُرْسَلٍ ... لِمَن عَاشَ فِي الدُّنْيَا وَمَاتَ مُوَحدَا(1/80)
وَكِلُّّ نَبِيٍّ شَافِعٌ وَمُشَفَّعٌ ... وَكُلُّ وَلِيٍّ فِي جَمَاعَتِهِ غَدَا
وَيَغْفِرُ دُونَ الشَّرْكِ رَبِّي لِمَن يَشَا ... وَلَا مُؤْمِنٌ إِلَّا لَهُ كافِرٌ فِدَا
وَلَمْ يَبْقَ فِي نَارِ الجَحِيمِ مُوَحِّدٌ ... وَلَوْ قَتَلَ النَّفْسَ الحَرَامَ تَعَمُّدَا
وَنَشْهَدُ أَنَّ الله خَصَّ رَسُولَهُ ... بِأَصْحَابِهِ الأَبْرَارِ فَضْلاً وَأَيَّدَا
فَهُمْ خَيْرُ خَلْقِ الله بَعْدَ أَنْبِيَائِهِ ... بِهِم يَقْتدِي فِي الدَّينِ كُلُّ مَنِ اقْتَدَى
وَأَفْضَلُهُمْ بَعْدَ النَبِيِّ (مُحَمَّدٍ) ... أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ذُو الفضلِ والنَّدَى
لَقَدْ صَدَّقَ الْمُخْتَارَ في كُلِّ قَوْلِهِ ... وَآمَنَ قَبْلَ النَّاسِ حَقًّا وَوَحَّدَا
وَفادَاهُ يَوْمَ الْغَارِ طَوْعًا بِنَفْسِهِ ... وَوَاساهُ بِالأَمْوَالِ حَتَّى تَجَرَّدَا
وَمَنْ بَعْدِهِ الفَارُوقُ لَا تَنْسَ فَضْلَهُ ... لَقَدْ كَانَ لِلإِسْلَامِ حِصْنًا مُشَيَّدَا
لَقَدْ فَتَحَ الفَارُوقُ بَالسَّيْفِ عَنْوَةً ... كثير بِلَادِ المُسْلِمِينَ وَمَهَدَّا
وَأَظْهَرَ دِيْنَ الله بَعْدَ خَفَائِهِ ... وَأَطْفَأَ نَارَ المُشْرِكِينَ وَأَخْمَدَا
وَعُثْمَانُ ذُو النَّورَيْنِ قَدْ مَاتَ صَائِمًا ... وَقَدْ قَامَ بِالقُرْآنِ دَهْرًا تَهَجُّدَا
وَجَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرِ يَوْمًا بِمَالِهِ ... وَوَسَّعَ لِلْمُخْتارِ والصَّحْبِ مَسْجِدَا
وَبَايَعَ عَنْهُ المُصْطَفَى بِشِمَالِهِ ... مُبَايَعَةَ الرَّضْوَانِ حَقًّا وَأَشْهَدَا
وَلاَ تَنْسَ صِهْرَ المُصْطَفَى وَابْنَ عَمَّهِ ... فَقَدْ كَانَ حَبْرًا لِلْعُلُومِ وَسيدَّا
وَفادَى رَسُولَ الله طَوْعًا بِنَفْسِهِ ... عَشِيَّةَ لِمَا بالْفِرَاشِ تَوَسَّدَا
وَمَنْ كانَ مَوْلَاهُ النَّبِيُّ فَقَدْ غَدَا ... عَليُّ لَهُ بِالحَقِّ مَوْلًى وَمُنْجِدَا(1/81)
وَطَلْحَتُهُمْ ثُمَّ الزُّبَيْرُ وَسَعْدُهُمْ ... كَذا وَسَعِيدٌ بِالسَّعَادَةِ أُسْعِدَا
وكانَ ابْنُ عَوْفٍ باذِلَ المَالِ مُنْفِقًا ... وكانَ ابْنُ جَرَّاحٍ أَمينًا مؤيَّدًا
وَلاَ تَنْسَ بَاقِيَ صَحْبِهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ ... وَأَنْصَارَهُ وَالتَّابِعِينَ عَلَى الهُدَى
فَكُلَّهُمُ أَثْنَى الإِلَهُ عَلَيْهِمُ ... وَأَثْنَى رَسُولُ الله أَيْضًا وَأَكَّدَا
فَلَا تَكُ عَبْدًا رَافِضِيًا فَتَعْتَدِى ... فَوَيْلٌ وَوَيْلٌ فِي الْورَىَ لِمَنْ اعْتَدَى
وَنَسْكُتَ عَنْ حَرْبِ الصَّحَابَةِ فالَّذِي ... جَرَى بَيْنَهُمْ كانَ اجْتِهادًا مُجَرَّدَا
وَقَدْ صَحَّ فِي الأَخْبَارِ أَنَّ قَتِيلَهُمْ ... وَقَاتِلَهُمْ فِي جَنَّةِ الخُلْدِ خُلَّدَا
فَهذَا اعْتِقَادُ الشَّافِعِيِّ إِمامِنَا ... وَمالِك والنُّعْمانِ أَيْضًا وَأَحْمَدَا
فَمَنْ يَعْتَقِدْهُ كُلَّّهُ فَهْوَ مُؤْمِنٌ ... وَمَنْ زَاغَ عَنْهُ قَدْ طَغَى وَتَمَرَّدَا
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قصة
توجه عافية بن يزيد الأودي القاضي إلى المهدي يومًا في وقت الظهيرة لمقابلته على عجل.
فلما أذن له إذا به يحمل أوراقه بين يديه ويسأل المهدي أن يعفيه من القضاء ويستأذنه في تسليم الأوراق التي في حوزته إلى من يأمر الخليفة بتسليمها له.
وظن الخليفة أن القاضي عافية قد أقدم على طلب الاستعفاء من القضاء لأن أحد رجال حاشيته ومن هم محسوبون على الخليفة قد تطاول عليه أو نال منه أو أساء معاملته أو أبدى عدم احترام له أو تدخل في شأن من شؤون قضائه فأضعف سلطانه في تنفيذ أحكامه ولشد ما كانت دهشة الخليفة حينما عرف انه لم يقع شيء من ذلك.
فأحب الخليفة أن يتعرف من ذلك السبب الحقيقي الذي دفع القاضي إلى الاستعفاء على عجل في ذلك الوقت الذي يلجأ الناس فيه إلى الراحة وهو وقت الظهيرة.(1/82)
ولما أصر الخليفة على طلب معرفة السبب لم يجد القاضي بدًا من أن يروي له ما جرى له مما كان سببًا في طلب الإعفاء حرصًا على دينه وطهارة لنفسه.
فقال القاضي عافية منذ شهرية وأنا أتابع البحث في إحدى القضايا المعضلة محاولاً أن أصل فيها إلى وجه الحق فقد تقدم إلي خصمان موسران وجيهان في قضية معضلة مشكلة.
وكل منها يدعي بينة وشهودًا ويدلي بحجج تحتاج إلى تأمل وتثبت.
ولما لم يتبين لي وجه الحق رددت الخصوم رجاء أن يصلحوا أو يتبين لي وجه فصل بينهما.
وأثناء ذلك وقف أحد الخصمين من خبري على أني أحب الرطب السكري.
فعمد في وقتنا هذا وهو أول وقت الرطب وجمع رطبًا سكريًا لا يتهيأ في هذا الوقت لأحد جمع مثله إلا لأمير المؤمنين وحقًا ما رأيت أحسن منه.
ثم عمد إلى بوابي فرشاه جملة دراهم ليدخل الطبق إلي على أنه لا يبالي بعد ذلك أن أقبل الطبق أو أرده.
فلما أدخل الطبق إلي أنكرت أمره وطردت بوابي وأمرت برد الطبق فرده لساعته.
فلما كان اليوم تقدم إلي هذا الرجل مع خصمه فهالني أنهما لم يتساويا في قلبي ولا في عيني.
وهذا يا أمير المؤمنين وأنا لم أقبل فكيف يكون حالي لو قبلت ولا آمن أن يقع عليّ حيلة في ديني فأهلك وقد فسد الناس فأقلني أقالك الله واعفني.
ولم يسع الخليفة وهو يستمع إلى ذلك الكلام المنبى عن شدة الورع والحرص الخالص على نزاهة الحكم وبعد القاضي عن المؤثرات أيا كان نوعها إلا أن يستجيب لطلب القاضي النقي النبيل فأعفاه من القضاء.
فتأمل هذه القصة بدقة. وقارن بينه وبين كثير من قضاة هذا الزمن يتبين لك الفرق العظم والبون الشاسع نسأل الله العافية.
اللهم أحي قلوبنا ونورها بنور الإيمان وزينها بمحبتك وجمل ألسنتنا بذكرك وشكرك وحسن أعمالنا ووفقنا لحفظ أوقاتنا وأحيينا حياة طيبة وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
5 [موعظة](1/83)
عباد الله يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعدًا له ولا يغتر بشبابه وصحبته فإن أقل من يموت الشيوخ الطاعنين في السن.
وأكثر من يموت الشبان خصوصًا في زمننا الذي كثرت فيه الحوادث ولهذا يندر من يكبر وقد أنشدوا:
يَعَمَّرُ وَاحدٌ فَيَغُرُّ قَوْمًا ... وَيُنْسَى مَن يَمُوتُ مِن الشَّبَابِ
آخر:
لاَ تَغْتَرِرْ بِشَبَابٍ نَاعِمٍ خَضِلٍ ... فَكَمْ تَقَدَّمَ قَبْلَ الشَّيْبِ شُبَّانُ
ومما يعنيك على الجد والاجتهاد في الطاعة تصور قصر عمرك وكثرة الأشغال، وتصور قوة الندم على التفريط والإضاعة عند الموت، وطول الحسرة على البدار بعد الفوت.
وتصور عظم ثواب السابقين الكاملين وأنت ناقص، والمجتهدين وأنت متكاسل، واجعل نصب عينيك ما يلي: قوله تعالى: (تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ( [يونس: 30].
وقوله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً( [آل عمران: 30].
وقوله تعالى: (يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ( [النبأ: 40].
وقوله تعالى: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ( [الزمر: 56].
وقوله تعالى: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ( [مريم: 39]. فتصور الحسرة والندامة والحزن عندما ترى الفائزين.
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِن التُّقَى ... وَأَبْصَرْتَ بَعْدَ الْمَوتِ مَن قَد تَزَودَّا
نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لاَ تَكُونَ كَمِثْلِهِ ... وَأَنَّكَ لَمْ تُرْصَدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا
فالبدار البدار والحذر الحذر من الغفلة والتسويف وطول الأمل فإنه لولا طول الأمل ما وقع إهمال أصلاً.
وإنما يقدم على المعاصي ويؤخر التوبة لطول الأمل وتبادر الشهوات.
وتنسى التوبة والإنابة لطول الأمل وتفقد أوقاتك وما عملت فيها من الذنوب.(1/84)
وتنسى التوبة والإنابة لطول الأمل فيا أيها المهمل وكلنا كذلك انتهز فرصة الإمكان وتفقد أوقاتك وما عملت فيها من الذنوب.
فبادر في محوها بالتوبة النصوح وأكثر من الدعاء والاستغفار كل وقت خصوصًا أوقات الإجابة.
ومن أوقات الإجابة ثلث الليل الآخر. قال تعالى: (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ( [الذاريات: 18].
- ويوم الجمعة عند صعود الإمام المنبر للخطبة.
- وفي آخر ساعة من يوم الجمعة وعند دخول الإمام للخطبة وعندما تسمع الأذان إلى أن يفرغ.
- وبين الأذان والإقامة.
- وبعد الصلاة الفريضة وبعد النافلة.
- وعند الفطر للصائم وفي أيام رمضان ولياليه.
- وعند نزول الغيث.
- وعشية عرفة.
- وفي السجود.
- وعند ختم القرآن وفي ليلة القدر.
- وعند البكاء والخشية من الله.
فعلى الإنسان أن يكثر من الدعاء والإلحاح فيه، فإن الدعاء له أثر عظيم، وموقع جسيم، وهو مخ العبادة.
لا سيما مع حضور قلب، وإخبات، وخشوع وذل، وانكسار، ورقة، وتضرع وخشية، واستقبال القبلة حال دعائه، وعلى طهارة، ويجدد التوبة، ويكثر من الاستغفار، ويبدأ بحمد الله وتنزيهه، وتمجيده، وتقديسه، والثناء عليه، وشكره، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الثناء على الله.(1/85)
ويدعو بالدعاء المشروع باسم من أسماء الله الحسنى، مناسب لمطلوبه، فإن كان يريد علمًا قال يا عليم علمني، وإن كان يطلب رحمة قال يا رحمن ارحمني، وإن كان يسأل رزقًا قال يا رزاق ارزقني ونحو ذلكن ويوقن بالإجابة، فإن الله جل وعلا أصدق القائلين وقد قال سبحانه وتعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ( [غافر: 60]. وقال لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: «وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان». وقال عز من قائل: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً( [الأعراف: 55]. وقال: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ( [النمل: 62]. وهو سبحانه أوفى الواعدين. قال تعالى: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ( [الروم: 6]. وقال جل وعلا: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً( [النساء: 122]، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً( [النساء: 87]. وقال أهل الجنة: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ( [الزمر: 74].
وإذا وقعت في محنة يصعب الخلاص منها، فليس لك إلا الدعاء واللجوء إلى الله، بعد أن تقدم التوبة من الذنوب، فإن الزلل يوجب العقوبة، قال الله جل وعلا: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ( [الشورى: 30].
فإذا زال الذنب بالتوبة الصادقة النصوح، ارتفع السبب. فإذا أثبت ودعوت ولم تر لإجابة الدعاء أثرًا، فتفقد نفسك فربما كانت التوبة ما صحت فصححها.
ثم ادع ولا تضجر ولا تمل من الدعاء فإنه عبادة، وربما كانت المصلحة في تأخير الإجابة، وربما لم تكن المصلحة في الإجابة، قال تعالى: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ( [البقرة: 216].
فأنت تثاب وتجاب إلى منافعك ومن منافعك أن لا تعطى ما طلبت بل تعوض غيره.(1/86)
فإذا جاءك الشيطان فقال إلى متى تدعو ولا تجاب فقل: أنا أتعبد بالدعاء، الدعاء مخ العبادة وأنا واثق كل الثقة بالإجابة لأن الله أصدق القائلين.
وقد قال جل وعلا وتقدس لنبيه: «وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان». وقال تبارك وتعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ( [غافر: 60].
واعلم أنه ربما كان التأخير لبعض المصالح فهو يجيء في وقت مناسب وإذا سألت شيئًا فأقرنه بسؤال الخيرة فربما كان المطلوب سببًا للهلاك.
وإذا كنت قد أمرت بالمشاورة في أمور الدنيا ليبين لك صاحبك في بعض الآراء ما يعجز رأيك عنه ثم ترى أن ما وقع لك لا يصلح فكيف لا تسأل الخير ربك الذي أحاط بكل شيء علمًا، والاستخارة من حسن المشاورة.
كُلُّ الوُجُوِد لِعِزِّ قَهْرَكَ خَاضِعٌ ... وَالْكُلُّ فِي صَدقاتِ جُوْدِكَ طَامِعُ
يَا مَعْشَرَ الفُقَرَاءِ أَمُّوا بَابَهُ ... فَهُنَاكَ فَضْلٌ لِلْبَرِيَّةِ وَاسِعُ
يُعْطِي العَطَاءَ فَلاَ يَمَانِعُ مَانِعٌ ... يَقْضِي القَضَاءَ فَلا يُدَافِعُ دَافِعُ
مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ ... كَلاَّ وَلاَ سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ
إِنْ عُذِّبُوا فَبعَدْ له أَوْ نُعِّمُوا ... فَبِفَضْلِهِ وَهْوُ الكَرِيْمُ الوَاسِعُ
الزَمْ طَرِيْقَ الذِّكْرِ عُمْرَكَ دَائِبًا ... فَالذِكْرُ فِي القَلْبِ الْمَحبَّة زَارعُ
قال أحد الوعاظ هذا نذير الموت قد غدا يقول الرحيل غدا، كأنكم بالأمر وقد قرب ودنا، فطوبى لعبد استيقظ من غفلته ووعا.
كيف بكم إذا صاح إسرافيل ونفخ في الصور قال جل وعلا: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ( [يس: 51].
فتصور خروجك مذعورًا تسعى من تحت المدر وقد رجت الأرض وبست الجبال وشخصت الأبصار لتلك العظائم والأهوال والمزعجات (وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً( [طه: 108].(1/87)
فقلق الخائف، وشاب الصغير، وزفرت النار، وأحاطت الأوزار، ونصب الصراط، ووضع الميزان، وحضر الحساب.
وجيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، قال تعالى: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى( [الفجر: 23].
وشهد الكتاب وتقطعت الأسباب، فكم من كبير يقول واشيبتاه، وكم من كهل ينادي بأعلى صوته واخيبتاه، وكم من شاب يصيح واشباباه.
وبرزت النار، قال الله جل وعلا وتقدس: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ( [الشعراء: 91]. وقال جل وعلا وتقدس: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى( [النازعات: 36].
وسمع الخلائق حسيسها إلا من سبقت له الحسنى من الله. قال تعالى: ... (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ( [الأنبياء: 103].
وأيقن بالردى والهلاك كل فاجر، قال تعالى: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ( [غافر: 18]. وقامت ضوضاء الجدل، وأحاط بصاحبه العمل. قال جل وعلا وتقدس: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً( [الكهف: 53].
وحالت الألوان، وتوالت المحن على الإنسان، فأين عدتك يا غافل عن هذا الزمان، أين تصحيح اليقين والإيمان.
أترضى بالخسران والهوان، أما علمت أنك كما تدين تدان أما تخاف أن تقول: (يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ( [الزمر: 56]. أما علمت أعظم الخسران.(1/88)
قال جل وعلا وتقدس: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ( [الزمر: 15].
كم في كتابك من خطأ وزلل، وكم في عملك من سهو وخلل، هذا وشمس عمرك على أطراف الذوائب وقد قرب الأجل، كم ضيعت واجبًا وفرضًا، وكم نقضت عهدًا محكمًا نقضًا، وكم أتيت حرامًا صريحًا محضًا، يا أجسادًا صحاحًا فيها قلوب مرضى.
اللهم اجعل الإيمان هادمًا للسيئات، كما جعلت الكفر عادمًا للحسنات ووفقنا للأعمال الصالحات، واجعلنا ممن توكل عليك فكفيته، واستهداك فهديته ودعاك فأجبته، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
[فصل]
نبذة مما جرى لأولياء الله من المحن والقتل والضرب من الظلمة والطغاة والمجرمين جازاهم الله بما يستحقون.
لما قتل الحجاج بن يوسف عبد الله بن الزبير أمر بخشبة فصلبه عليها.
فلما أقبلت أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما إلى الخشبة فعانقتها وجلست تبكي وتقول واغوثاه.
يا لله ما أعظم ما نزل بنا بعدك يا محمد يا رسول الله لو تدرك ما نزل بعدك بأصهارك وأرحامك وأبناء المهاجرين لرأيت أمرًا عظيمًا.
اللهم فبلغ عنا نبيك - صلى الله عليه وسلم - في عظيم ما نزل فأخبر بمقالتها عبد الله بن عمر فبكى حتى كادت نفسه تفيض.
ثم قال لابنه قدني إليها وقد كبر وكان يرتعش من الكبر وكان قد عمر فقاده ابنه إليها فلما أشرف على الخشبة نظر إليه مصلوبًا.
قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ليقتلني أمير جائر على طاعة أحب إلي من أموت مجاهدًا في سبيل الله فأتى شقي من الأشقياء فبلغ ذلك إلى الحجاج فبلغ منه قول ابن عمر كل مبلغ.(1/89)
فركب إلى خشبة بن الزبير فأصاب أمه عندها تبكي وابن عمر وابنه سالمًا فقال ليس مثله يبكى عليه فقال ابن عمر قومي فقامت ولم تكلمه وانصرف ابن عمر إلى منزله.
فدعا الحجاج رجاله فقال إن ابن عمر بن خليفة وصاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخاف إن خرجنا أن يستحل منا ما استحل ابن الزبير وعلماء العراق.
قالوا فما ترى قال هذا أعظم مما كان منا إنما عمدنا إلى جبل الإسلام وحاجب محمد ومن عرضت عليه الخلافة فلم يقبلها ومن حج أربعين حجة ومن سمته قريش حمامة البيت يريد بن عمر.
وقدره في العرب كما علمتم وحب الأوس والخزرج لأبيه عمر بن الخطاب. نعوذ بالله من الظلمة وأعوانهم.
فبعث الحجاج غلامه أن يركب فرسًا جامحًا وأمره أن يطحنه بالفرس ويقتله.
فركب الغلام الفرس فنظر إلى ابن عمر وهو سائر يوم الجمعة فحمل عليه وصدمه ورضه.
فبادر الناس إليه وقالوا يا غلام أهلكت المسلمين في علمهم فطلبك الله وأقام الحجاج ينتظر موته.
فلما أبطأ عليه عمد إلى الحديدة التي في الرمح فسمها سمًا ناقعًا وجعلها في عصا وقال لأحد رجاله ضعه على ظهر قدمه واتكئ عليه حتى يدخل.
فإن قال أهلكتني فقل ما علمت أن رجلك ها هنا.
ففعل ذلك ثم خرج عنه فاشتعل جسد ابن عمر سمًا فأقام ثلاثة أيام فمات رحمة الله عليه.
ودخل الحجاج على ابن عمر يعوده قبل موته فقال ابن عمر أنت قتلتني، حسبنا الله ونعم الوكيل.
ومن الذين أوذوا في سبيل الله وقتلوا سعيد بن جبير وقصته أشهر من أن تذكر فلا نطيل بذكرها وكان قد دعا من قبل أن يذبحه الحجاج فقال اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي.
وقيل إنه عاش بعد قتله لسعيد ستة عشر يومًا فقط وقعت الآكلة في بطنه.
وكان ينادي في بقية حياته مالي ولسعيد بن جبير كلما أردت النوم أخذ برجلي.
وقيل دعا عليه بالزمهرير البرد العظيم فكانوا يجعلون حوله الكوانين تلتهب جمرًا مع ما عليه من الثياب التي يدثرونه بها.(1/90)
فما زال في العذاب الأليم ثم أرسل في طلب الحسن البصري التابعي المشهور فأتاه واشتكى إليه ما نزل به من الألم، فقال قد نهيتك مرة بعد أخرى لا تتعرض للصالحين، ولا تكن منهم إلا بسبيل خير فأبيت ولججت (ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً).
وذكر في كتاب المحن أن الحجاج أرسل إلى أبي صالح ماهان المسبح فلما أتاه قال: بلغني عنك صلاح وخير وإني أريد أن أوليك القضاء.
قال له: أنا قال: نعم قال: أنا لا أحسن أعد عشرة قال: يا مرائي علي تتباله.
قال والفرات قد مد فعدا من بين يديه وهو شيخ كبير يجنح حتى وقف على جرف الفرات.
فقال اللهم إن كنت مرائيًا كما زعم الحجاج فغرقني قال فرمى بنفسه. فقام على متن الماء فلم تغب قدماه قال فو الله ما نهنهه ذلك فأخذه وصلبه على بابه.
وممن ضرب مالك ابن أنس رضي الله عنه وذلك أن الحساد دسوا إلى أبي جعفر بن سليمان من قال له إن مالكًا يفتي الناس أن أيمان البيعة لا تلزمهم لمخالفتك واستكراهك إياهم عليها.
فدس عليه جعفر من يسأله عن ذلك فأفتاه مالك طمأنينة إليه وحسبة منه.
فجاءه رسول جعفر بن سليمان وأتى به منتهك الحرمة مهانا فأمر به جعفر فضربه سبعين سوطًا.
ومما جرى على عبد الله بن عون البصري الذي قيل ما كان بالعراق أعلم بالسنة منه.
وكان ورعًا تزوج امرأة عربية فضربه بلال بن أبي بردة عشرة أسواط وقال له انزل عنها قال لا أفعل فقال له بلال والله لا أبرح أضربك حتى تطلقها.
فقال ابن عون والله لا أبرح أصبر ولا أطلقها حتى أعجز قال وكان رجلاً نحيفًا لا يحتمل الضرب بالسوط قال فضربه أيضًا عشرة أسواط وقال بلال هو ما ترى.
قال فأمر به فضرب عشرة أسواط وقال يا ابن عون هو ما ترى حتى تطلقها قال هي طالق قال بتتها.(1/91)
وممن امتحن عطاء بن أبي رباح وذلك أن رجلاً أتى من الحجاج إلى مسجد مكة. فنام فكشفت الريح الثوب عن بطنه فظهر جراب الفلوس فمر به أصحابه فخافوا عليه فنزعوا الجراب. وبعد قليل انتبه الرجل فنظر فإذا جرابه مأخوذ فنظر يمينًا وشمالاً فلم يرى حوله إلا عطاء بن أبي رباح قائمًا يصلي. فجاءه فأخذ بتلابيبه وضيق عليه وقال له يا عدو الله فعلت الذي فعلت بي فلما رهقتك قمت تصلي.
فقال له ما بالك يا هذا قال منطقتي حللتها (أي الجراب) قال له وكم فيها قال مائتا دينار قال فهل سمع بهذا غيرك قال لا. قال فاذهب معي حتى أعطيك ما ذهب لك قال فذهب فعَدَّ له مائتي دينار فذهب إلى أصحابه فأخبرهم الخبر.
فقالوا له ظلمت والله الرجل كان من قصتنا كيت وكيت ثم حللنا عنك خوفًا عليها وها هي هذه.
فقاموا بأجمعهم إلى الرجل فوقفوا عليه فسألوا عنه فقيل لهم هو عطاء بن أبي رباح فقيه أهل مكة وسيدهم.
فاعتذروا إليه وسألوه أن يجعل الرجل في حل ويقبل الدنانير.
فقال لهم هيهات ما كانت بالتي ترجع إلي اذهب فأنت في حل وهي لك.
شَمَّر عَسَى أَنْ يَنْفَعَ التَّشْمِيرُ ... وانْظُرْ بِفْكركَ مَا إليْهِ تَصِيْرُ
طوَّلْتَ آمالاً تكَنَّفَهَا الهَوَى ... ونسِيتَ أنَّ العُمْرَ منكَ قصِيْرُ
قد أفْصَحَتْ دُنْيَاكَ عن غدَرَاتِها ... وأَتَى مَشِيْبُكَ وَالمشِيْبُ نَذِيْرُ
دَارٌ لَهَوْتَ بِزَهْوهَا مُتَمَتِّعًا ... تَرْجُوْ المقامَ بهَا وَأَنْتَ تسيْرُ
واعْلَمْ بأنكَ رَاحِلٌ عَنْهَا ولَوْ ... عُمِّرْت فيها مَا أقامَ ثَبِيْرُ
لَيْسَ الغِنَى في العَيشِ إلا بُلْغَةَ ... وَيسِيْر ما يَكْفِيْكَ منه كثيْرُ
لا يَشْغَلَنَّكَ عَاجلٌ عَن آجلٍ ... أبَدًا فَمُلْتَمِسُ الحَقِيْرِ حَقِيْرُ
وَلَقَدْ تَسَاوَى بَيْنَ أَطْبَاقِ الثَّرى ... في الأرْضِ مأمُوْرٌ بهَا وأمِيْرُ
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[فصل](1/92)
بعث أبو جعفر في طلب أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق فقيل له إن أمير المؤمنين متغيظ عليك فدخل وهو يحرك شفتيه.
فلما رآه أبو جعفر نهض إليه واعتنقه وأجلسه معه ثم عانقه.
وقال له يا أبا عبد الله ما هذا الذي يبلغني عنك لقد هممت.
فقال له إن أيوب ابتلى فصبر وإن سليمان أعطى فشكر وأنت من ذلك السنح.
قال، فيرفع إلي أن الأموال تجبى إليك بلا سوط ولا عصا ثم أمر بالرافع فأحضر.
فقال أبو عبد الله أحقًا رفعت إلى أمير المؤمنين قال نعم، قال فاستحلفه يا أمير المؤمنين قال أبو عبد الله رد اليمين عليه.
فقال له أبو جعفر احلف فقال والله الذي لا إله إلا هو فقال له أبو عبد الله ليس هو كذا إن العبد إذا مجد الله في يمينه أمهله في العقوبة.
ولكن قل أنا برئ من الله والله برئ مني وأنا خارج من حول الله وقوته راجع إلى حول نفسي وقوتها.
قال فحلف فو الله ما رُفع إلا ميتا فراع ذلك أبا جعفر وقال انصرف يا أبا عبد الله فلست أسألك بعدها.
وسئل عما حرك به شفتيه حينما دخل عليه فقال قلت اللهم بك أستفتح وبك أستنج اللهم ذلل حزونته وكل حزونة وسهل لي صعوبته وكل صعوبة.
اللهم أعطني منه من الخير ما أرجو واصرف عني منه من الشر ما أحذر فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كان صفوان بن سليم قد كف بصره في آخر عمره فبينما هو ذات يوم بالسوق يقاد إذ دخل بلال بن أبي بردة فسمع الطريق والجلاوزة بين يديه.
فقال ما هذا فقيل بلال فقال سحائب صيف عن قريب تقشع فسمعه بلال. فقال والله لأذيقنك من بردك شؤبونا فلما نزل بهيكله بعث في طلبه ثم ضربه بالسياط نعوذ بالله من الظلمة وأعوانهم.
عن مالك بن أنس أنه قال لو قيل لصفوان بن سليم غدًا يوم القيامة ما قدر على أن يزيد على ما هو فيه من العبادة شيئًا.(1/93)
ومن ذلك ما امتحن به أبو مسلم الخولاني لما ألقي في النار وذلك أن الأسود العنسي تنبأ باليمن فدعا أبا مسلم الخولاني فقال اشهد أني رسول الله.
قال لا أسمع قال اشهد أن محمدًا رسول الله قال نعم فأمر الأسود بنار فقذف فيها أبا مسلم فخرج يرشح عرقًا.
فقيل للأسود انفه عنك لا يفسد عليك الناس فأخرجوه ثم قدم المدينة وبها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
فقال له عمر من أين أقبل الرجل قال من اليمن قال ما فعل الرجل الذي أحرقه الكذاب قال ذلك عبد الله بن ثوب.
قال له عمر أنشدك بالله أنت هو قال نعم قال فأدخله وأجلسه بينه وبين أبي بكر.
وقال الحمد لله الذي أراني في هذه الأمة من فعل به مثل ما فعل بإبراهيم خليل الرحمن.
وممن قتل صبرًا كميل بن زياد النخعي الكوفي كان شجاعًا زاهدًا قتله الحجاج بن يوسف.
وذلك أن الحجاج نقم عليه لأنه طلب من عثمان بن عفان القصاص من لطمة لطمها إياه فلما مكنه عثمان من نفسه عفا عنه.
فقال له الحجاج أو مثلك يسأل من أمير المؤمنين القصاص ثم أمر به فضربت عنقه نسأل الله العافية.
وذكر أن رياح بن يزيد كان على أتانه في سفر إذا غشيته السلابة (أي قطاع الطريق) وهو يسير فأخذوا أتانه ونزعوا ثيابه إلا واحدًا ثم ذهبوا عنه.
فمال رياح إلى موضع فأحرم بتكبيرة ثم أقبل يصلي فبينما هو يصلي إذا أظلمت السماء فلم تدري السلابة أين يتوجهون.
فلما طوَّل في الصلاة قالوا أحسن صلاتك يا عبد الله أما ترى ما نزل بنا ولا نحسب ذلك إلا من أجلك.
فسلم ثم التفت إليهم فقال ما تريدون أخذتوا ثيابي وحماري فردوا عليه ثيابه ودابته فانجلت عنهم الظلمة.
فرغبوا عند ذلك إليه وسألوه من هو وأقسموا عليه فقال لهم رياح بن يزيد.
طَالِعْ تَوارِيخ مَن في الدهر قد وُجِدُوا ... تَجِدْ خُطُوْبًا تُسَلِّيْ عَنْكَ مَا تَجدُ
تجِدْ أَكَابِرَهُمْ قَدْ جُرِّعُُوا غُصَصًا ... مِنَ الرَّزَايا بِهَا قَدْ فُتِّتَتْ كُبُدُ(1/94)
عَزْلٌ ونَهْبٌ وضَرْبٌ بالسِّياط يَليْ ... حَبْسٌ وَقَتْلٌ وَتَشْرِيْدٌ لِمَنْ زَهِدُوْا
وإِنْ وُقِيْتَ بحَمْد الله شِرَّتَهُمْ ... فَلْتَحْمدِ الله في العُقْبَى كَمَنْ حَمِدُوْا
آخر:
إِنَّ الشَّدَائِدَ قَدْ تَغْشَى الكَرِيْمَ لِأنْ ... تُبيْنُ فَضْلَ سَجَيَاهُ وتُوْضِحُهُ
كَمُبْرِدَ القَيْن إِذْ يَعْلُوْ الحَدِيْدَ بِهِ ... وليْسَ يأكُلُه إلَّا لِيُصْلِحَهُ
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[فصل]
قال ابن القيم ومن تجريبات السالكين التي جربوها فألفوها صحيحة أن من أدمن (أي أكثر) من قول "يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت" أورثه ذلك حياة القلب والعقل.
وكان شيخ الإسلام شديد اللهج بها جدًا وقال لي يومًا لهذين الاسمين وهما "الحي القيوم" تأثير عظيم في حياة القلب.
وكأنه يشير إلى أنهما الاسم الأعظم وسمعته يقول من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر "يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث" حصلت له حياة القلب ولم يمت قلبه.
قال العلماء اعلم أنه لا يقف على الدواء من لا يقف على الداء إذ لا معنى للدواء إلا مناقضة أسباب الداء ولا يبطل الشيء إلا بضده.
وسبب الإصرار الغفلة والشهوة ولا تضاد الغفلة إلا بالعلم.
ذكر ابن القيم رحمه الله أن من كيده العجيب أنه يشام النفس حتى يعلم أي القوتين تغلب عليه قوة الإقدام والشجاعة أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة.
فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام أخذ في تثبيطه وإضعاف همته وإرادته عن المأمور به وثقله عليه فهون عليه تركه جملة أو يقصر فيه ويتهاون به.
وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة أخذ يقلل عنده المأمور ويوهمه أنه لا يكفيه وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة ينقص بالأول ويتجاوز بالثاني.(1/95)
كما قال بعض السلف: ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وعلو، ولا يبالي بأيهما ظفر.
وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين، وادي التقصير ووادي المجاوزة والتعدي.
والقليل منهم جدًا الثابت على الصراط المستقيم الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
فقوم قصر بهم عن واجبات الطهارة.
وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحد بالوسواس.
وقوم قصر بهم عن إخراج الواجب من المال.
وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما بأيديهم.
وقوم قصر بهم حتى عن تناول ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس حتى أضروا بأبدانهم وقلوبهم.
وقوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة فأضروا بقلوبهم وأبدانهم.
وقصر بقوم في حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم.
وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم.
وقصر بقوم في خلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلم العلم.
وتجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام.
وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفور أو شاة ليأكله.
وتجاوز بآخرين حتى جرّأهم على الدماء المعصومة.
وقصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم النافع.
وقصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم النافع.
وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به.
وقصر بقوم حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية دون غذاء بني آدم.
وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص.
وقصر بقوم حتى زين لهم ترك سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - من النكاح فرغبوا عنه بالكلية.
وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام.
وقصر بقوم حتى جفوا الشيوخ من أهل الدين والصلاح وأعرضوا عنهم ولم يقوموا بحقهم.
وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله.
وقصر بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم.(1/96)
وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حللوه والحرام ما حرموه وقدموا أقوالهم على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة الصريحة.
وعد رحمه الله أشياء كثيرة يطول ذكرها اقتصرنا على ذكر بعضها والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(موعظة)
قال الله جل ذكره: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ( [الذاريات: 55]. وقال جل وعلا: (فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى( [الأعلى: 9]. وقال عز من قائل: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ( [ق: 45]. وقال تبارك وتعالى: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ( [الطور: 29].
وقال تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ( [النحل: 125]. وقال جل وعلا: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ( [إبراهيم: 5]. وقال جل وعلا وتقدس: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً( [النور: 17].
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخول أصحابه بالموعظة فالوعظ والتذكير فريضتان واجبتان ماضيتان على أهلهما بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد أمر الله الموعوظين بالاستماع والإصغاء للموعظة لما فيها من المنافع العظيمة.
فعلى كل إنسان مهما جل قدره وعظم خطره أن يحرص ويجتهد على استماع الموعظة وقبول النصيحة لأنه إذا فعل ذلك فاز بقسطه الأوفر وحظه الأجزل واستحق من الله البشرى في العاجل والثواب في الآجل ومن عقلاء خلقه الثناء الحسن والمدح والإكرام والدعاء.
فإن الله جل ذكره يقول: (فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ( [الزمر: 17]، ثم قال: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ( [الزمر: 18].(1/97)
وقد شبه الله الكفرة المعرضين عن القرآن الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى والموعظة العظمى بالحمر قال تعالى: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ( [المدثر: 51]. فليحذر المسلم أن يتشبه بهم ويعرض عن الموعظة.
وقد جعل الله جل ذكره الخير في الاعتبار والاعتبار بالتفكير وحث عليه في عدة مواضع من كتابه قال تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ( [الحشر: 2]. وقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ( [النور: 44].
وقال جلا وعلا: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى( [الروم: 8]. وقال جل وعلا وتقدس: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ( [الرعد: 3].
وقال عز من قائل: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ( [آل عمران: 191]. وقال جل وعلا: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ( [الزمر: 42].
فمن قريب ما يجب أن يفكر فيه اللبيب ويتدبره أن يتذكر أحوال الأمم والقرون الماضية والملوك الأولين الذي كانوا من أشد خلق الله قوة وأكثر جمعًا وأبين آثارًا وأطول أعمارًا الذين بنوا المدائن وجمعوا الخزائن وحفروا الأنهار وعمروا الديار وشيدوا القصور.
ودبروا الأمور وجمعوا الجموع وقادوا الجيوش وساقوا الخيول ودوخوا البلاد وأذلوا العباد ومشوا في الأرض مرحًا واختالوا بما أوتوا فرحًا فأخذهم الله بما كانوا يكسبون.(1/98)
فأصبحوا بعد العز والمنعة والملك والرفعة والصيت والسطوة والذكر والصولة عظامًا رميمًا ورفاتًا هشيمًا وأصبحت منازلهم خاوية وقصورهم خالية وأجسادهم بالية وأصواتهم هادئة.
تخبرك آثارهم معاينة وتقرع سمعك أخبارهم مجاهرة فلم يصحبهم من الدنيا ما جمعوا ولم يدفع عنهم الردى ما كسبوا ولعلهم ندموا حيث لم تنفعهم الندامة وتلهفوا حيث لا يغني عنهم التلهف شيئًا.
وإن الباقي عما قليل كالفاني والغابر عما قليل كالماضي وما بينهما إلا أنفاس معلومة وأيام معدودة سريعة الانقضاء قريبة الانتهاء.
فليحذر المغتر بملكه والمتمتع بعزه هذه الصرعة وليستعد لهذه الوجبة ولينته لهذه الموعظة فإن الله جعلها في أوائل مواعظه.
وكررها في مواضع من كتابه حيث جل وعلا وتقدس يقول: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( [الروم: 9].
وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ( [غافر: 82].
وقال جل وعلا وتقدس: (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ( [غافر: 21].(1/99)
وعد جل وعلا كثيرًا منهم في كتابه ووصفهم وسماهم في خطابه حيث يقول: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد( [الفجر: 14].
وقال: (وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً( [الفرقان: 38]، هذا خبر أصدق القائلين وهذا قول حق وقد جعل الله بكل ما شوهد في أيامه وعوين في زمانه ممن رفعوا ثم وضعوا وعلوا ثم صرعوا ودارت عليهم الدوائر ونابتهم النوائب ما في بعضه مقنع لمعتبر وبلاغ لمدكر.
قالوا وأشرف أبو الدرداء صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل حمص فقال يا أهل حمص أتبنون ما لا تسكنون وتأملون ما لا تدركون وتجمعون ما لا تأكلون.
إن من كان قبلكم بنوا شديدًا وأملوا بعيدا وجمعوا كثيرا فأصبحت اليوم مساكنهم قبورًا وأملهم غرورا وجمعهم بورا.
وقد قال أحد فصحاء الملوك في خطبته: ألم تروا مصارع من كان قبلكم كيف استدرجتهم الدنيا بزخارفها ونفتهم ثم تركتهم وقد تخلت عنهم فهم في حيرة وظلمة مدلهمة تركوا الأهلين والأولاد والعيال والأموال.
مساكنهم القبور وقد خلت منهم الدور وتقطعت منهم الأوصال والصدور وصاروا ترابًا باليًا وكان الله لهم ناهيًا قال تعالى: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ( [فاطر: 6]( [فاطر: 5].
شعرًا:
نَبْكِي على الدنيا وما مِن مَعْشَرٍ ... جَمَعَتْهُم الدنيا فِلَمْ يَتفرَّقُوا
أَيْنَ الأكاسِرَةُ الجَبَابِرةُ الأُولى ... كَنُزوا الكُنوزَ فما بَقِينَ ولا بَقُوا(1/100)
مِن كُلِ مَن ضاقَ الفَضَاءُ بِجَيشِهِ ... حَتَّى ثَوى فَحَواهُ لَحْدٌ ضَيِّقُ
خُرُسٌ إذا نُوُدُوا كَأنْ لم يَفْهَمُوا ... أَنَّ الكلامَ لهُم حَلالٌ مُطْلَقُ
فالموتُ آتٍ والنفُوسُ نَفَائِسٌ ... والمُسْتَغِرُ بِمَا لَدَيْهِ الأَحْمَقُ
آخر:
أَجِدكَ مَا الدنيَا ومَاذا نَعِيْمُها ... وهَلْ هِيَ إِلَّا جَمْرَةً تَتَوقَدُ
لَعَمِري لَقَدْ شَاهَدتُ فِيهَا عَجَائِبًا ... وصَاحَبنَي فيها مَسوْدٌ وسَيدُ
رأيتُ بها أهْلَ المَواهِبِ مَرَّة ... وقد طَابَ عَيْشٌ والسُّرور يُجَدَّدُ
فما رَاعَهُم إلا الرَّزا يا ثَوابِتٌ ... عَلَيهِم وَقَامَت في أذاهم تُحَشَّدُ
وأَسْقَتْهُمُوا كأسًا مِن الذُلِ مُتْرَعًا ... وَكانَ لَهُم فَوقَ السِّمَاكَينِ مَقْعَدُ
وَدانَتْ لِمَنْ ناوَاهُمُ بَعْضَ بُرهَةٍ ... عَلَى نَكَدٍ فِي كُلَّ يَومٍ يُجَدَّدُ
اللهم وفقنا للزوم الطريق الذي يقربنا إليك وهب لنا نورًا نهتدي به إليك ويسر لنا ما يسرته لأهل محبتك وأيقظنا من غفلاتنا وألهمنا رشدنا واسترنا في الدنيا والآخرة واحشرنا في زمرة عبادك المتقين وألحقنا بعبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
قال علي بن أبي طالب من هوان الدنيا وحقارتها أن الله أخرج أطايبها من خسائسها فالدنيا سبعة أشياء: مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومنكوح ومسموع ومبصر.
أما المأكولات فأشرفها العسل وهو لعاب ذباب وأطيب المشروبات الماء ويستوي في شربه الآدمي والكلب والخنزير والحمار.
وأفضل الملبوسات الحرير والإبريسم وهو لعاب دودة وأشرف المناكح النساء وحقيقتها مبال في مبال وأشرف المشمومات المسك وهو دم غزال والمسموع والمبصر مشترك بين ذلك وبين البهائم.
قَدْ أوْلَعَ الناسُ في الدنيا بأرْبَعَةٍ ... أَكلٍ وشُرْبٍ ومَلْبُوسٍ وَمْنكُوحٍ(1/101)
وَغَايَةُ الكُلِّ إنْ فَكرتَ فِيهِ إِلى ... رَوْثٍ وبَولٍ وَمَطْرُوح ومَفضوحٍ
فإن قيل ما السبب في حب الدنيا والتعلق بها والتكالب عليها مع كثرة همومها وغمومها وأنكادها فالجواب قلة المعرفة بعيوبها فلو كشف الغطاء لهربوا منها فإن قيل ما سبب زهد الأمراء في أبواب العلماء ورغبة العلماء فيما عند الأمراء قيل سبب زهدهم لقلة رغبتهم ومعرفتهم بالعلم وأما رغبة العلماء فلمعرفتهم بفضيلة المال عند الحاجة إليه والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم (فائدة في معالجة حب الدنيا المستغرق للوقت)
أعلم أن حب الدنيا يندر من يسلم منه وهو ينبعث من طول الأمل لأن الإنسان يقول الأيام بين يدي وأفعل غدًا كذا وبعد غد سأفعل وأتمتع بالدنيا والتوبة مفتوح بابها وتتمادى به الأيام في جمع الأموال وبناء القصور ونحو ذلك وتشعب آماله إلى أن ينسى أن النفس الواحد يبعده من الدنيا ويدنيه من الآخرة.
وما نَفَسٌ إِلَّا يُباعِدُ مَوْلِدًا ... ويُدْنِي المَنَايَا لِلنُّفوسِ فَتَقْرُبُ
ولكن من العلاج النافع أن يقول الموت ليس بيدي فكيف اعتمد على الحياة فربنا قضى والموت لا يتأخر بكراهتي قال الله جل وعلا: (فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ( [النحل: 61]. وقال عز من قائل: (وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا( [المنافقون: 11].
ومن ذلك أن يقول هبني جمعت الدنيا أليس عند الموت أترك ذلك وأسأل عنه ويتمتع فيه غيري فلما لا أفكر في ذلك أجمع الدنيا لغيري وأبوء بحسابها وأضرارها. وأكون كما قال الشاعر:
كَدُوْدٌ كَدُودِ القَزِّ يَنْسِجُ دَائِمًا ... ويَهْلِكُ غَمًّا وَسْط ما هُوْ نَاسِجُ
آخر:
وذِي حِرصٍ تَرَاهُ يُلِمُّ وفرًا ... لِوَارِثِهِ وَيَدْفَعُ عَن حِمَاهُ
ككَلْبِ الصَّيِّد يُمْسِكُ وَهُو طَاوٍ ... فَرِيْسَتَهُ لِيَأَكَلَها سِوَاهُ(1/102)
ومن العلاج أن يعلم أن من كانت دنياه أكثر فحسرته أشد وخوفه أعظم بخلاف من كان أخف منه دنيا فأمره أسهل فصاحب الألفين أشد حسابًا من صاحب الألف وهلم جرا.
ومن العلاج زيارة المقابر والنظر في مصارع الآباء والأمهات والأخوة والأخوات وسائر القرابات والأقران والزملاء والأصدقاء ويزور المستشفيات والمرضى والسجون والمستوصفات ليشكر الله على نعمه العظيمة.
تَزَوَّدْ مِن الدُنَيا فِإِنكَ رَاحِلُ ... وَبَادِرْ فإنَّ الموتَ لا شَكَّ نَازِلُ
آخر:
خَلتْ دُورُهُم منهم وَأقْوَتْ عِراصُهُم ... وساقَهُمُ نَحْو المنايَا المَقَادِرُ
وَخَلَّوْا عَن الدُنَيا وما جَمَعُوا لَها ... وضَمَّهُمُ تَحْتَ التُرابِ الحَفائِرُ
آخر:
وعَضَتَكَ أجْدَاثٌ وهُنَّ صُمُوْت ... وَأَصْحَابُهَا تَحْتَ التُراب خُفُوْتُ
أيا جَامِعَ الدنيا ومُهْمِلَ نَفْسِهِ ... لِمَنْ تَجْمَعِ الدُنْيَا وَأَنْتَ تَمُوْتُ
ومن العلاج أن ينظر الإنسان إلى جسمه وانحلال قواه واشتعال الشيب الذي هو بريد الموت وضعف نظره وسمعه وتقارب خطاه وسقوط أسنانه.
تَسَاقَطُ أَسْنِانٌ وَيَضْعُفُ ناظِرٌ ... وتَقْصُرُ خُطْواتٌ ويَثْقُلُ مَسْمَعُ
ومن العلاج أن تقول الرسل أعلم مني قنعوا بالقوت ورضوا بالكفاف وما طلبوا الدنيا فلماذا أنهمك فيها وأحرق نفسي وأغفل عن ما قدامي من الأهوال والعظائم التي أنا مقبل عليها في الآخرة.
أين الملوك أين الجبابرة أين الطغاة وأعوانهم انظري يا نفس هل بقى منهم أحد قال تعالى: (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً( [مريم: 98].
ومن العلاج أن تقول نفرض أنك ملكتي الدنيا بأسرها وصفا لك عذبها وزلالها وأدركت الأماني أليس آخر ذلك الموت وعاقبته الفوت فلماذا تحرق نفسك في طلب ما هو عارية ووديعة ولا تذهب إلا بالكفن فقط.
فَقُلْ لِلِّذِي قد غَرَّهُ طُولُ عُمْرهِ ... وَمَا قَدْ حَوَاهُ مِن زَخَارِفَ تَخْدَعُ(1/103)
أفِقْ وانظُر الدُنيا بعَيْنِ بَصِيْرةٍ ... تَجِدْ كُلَّ ما فيها وَدَائعَ تَرْجِعُ
آخر:
وَمَا المالُ والأَهْلُوْنَ إِلا وَدَائعٌ ... وَلاَ بُدَّ يومًا أَنْ تُرَدَّ الوَدَائِعُ
آخر:
هَوِّنْ عَلَْيَك فما الدُنْيا بِدَائمةٍ ... ِ ... وَإِنَّمَا أَنْتَ مِثْلَ الناسِ مَغْرُوْرُ
وَلَو تَصَوَّرَ أَهْلُ الدهْرِ صُورَتَهُ ... لم يُمْسِ منهُمْ لَبيبٌ وَهْوَ مَسْرُورُ
آخر:
لَمَا تُؤْذِنُ الدُّنْيا به مِن صُرُوْفهَا ... يَكُونُ بُكَاءَ الطِفْلِ سَاعَةَ يُوْلَدُ
آخر:
نَصِيْبُكَ مِمَّا تَجْمَعَ الدَّهْرَ كُلَّهُ ... رِدَاآنِ تُطْويَ فِيْهمَا وحَنُوطُ
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم
(فصل)
عن إبراهيم التيمي قال ينبغي لمن لا يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار لأن أهل الجنة قالوا: "الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن" وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة لأنهم قالوا:"إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين".
وعن الفضيل بن عياض قال قيل لسليمان التيمي أنت وأنت أي يثنون عليه قال لا تقولوا هكذا فإني لا أدري ما يبدو لي من ربي عز وجل سمعت الله عز وجل يقول: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ( [الزمر: 47]. وإني أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن احتسب.
وعن عكرمة عن محمد بن المنكدر أنه جزع عند الموت فقيل له لم تجزع فقال أخشى آية من كتاب الله عز وجل قال الله تعالى: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ( [الزمر: 47]. وإني أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب.
قلت وفيه آيات أخرى ينبغي أن تكون نصب عيني العاقل اللبيب وذلك قوله تعالى: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ( [مريم: 39].(1/104)
وقوله تعالى: (يوم تبلوا كل نفس ما أسلفت( [وقوله: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ( [الزمر: 56].
وقوله جل وعلا وتقدس: (لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ( [المنافقون: 10].
وقال عبد الأعلى التيمي شيئان قطعا عني لذة الدنيا ذكر الموت والوقوف بين يدي الله عز وجل.
وعن أبي إسحاق قال أوى أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل إلى فراشه فقال يا ليت أمي لم تلدني فقالت له امرأته أبا ميسرة أليس الله قد أحسن إليك هداك للإسلام وفعل بك كذا قال بلى ولكن الله أخبرنا أنا واردون على النار ولم يبين لنا أنا صادرون عنها.
وقال الحسن إن المؤمن يصبح حزينًا ويمسي حزينًا وينقلب باليقين في الحزن ويكفيه ما يكفي العنيزة الكف من التمر والشربة من الماء.
وقال حبيب ابن أبي ثابت ما استقرضت من أحدٍ شيئًا أحب إلى من نفسي أقول لها أمهلي حتى يجئ من حيث أحب.
شعرًا:
إذا رُمتَ أنْ تَستَقْرِضَ المَالَ مُنْفِقًا ... على شهواتِ النَّفْسِ في زَمَنِ العُسْرِ
فَسَلْ نَفْسُكَ الإِنفاقَ مِن كَنْزِ صَبْرِها ... عَلَيْكَ وإِنْظَارًا إلى زَمَنِ اليُسْرِ
فإن فَعَلَتْ كُنْتَ الغَنيَّ وإن أَبَتْ ... فكُلَّ مَنَوُع بَعْدَها واسِعُ العُذْرِ
وقال الثوري ما ضرهم ما أصابهم في الدنيا جبر الله لهم كل مصيبة بالجنة، وسأل رجل سفيان الثوري فلم يكن معه ما يعطيه فبكى سفيان فقال له مسعر بن كدام ما يبكيك قال وأي مصيبة أعظم من أن يؤمل فيك رجل خيرًا فلا يصيبه عندك.
وبكى ثابت حتى كادت عينه تذهب فجاءوا برجل يعالجها فقال الرجل أعالجها على أن تطيعني قال وأي شيء قال على أن لا تبكي قال فما خيرهما إن لم تبكيا وأبى أن يعالجها.(1/105)
وكان شقيق بن سلمة إذا صلى في بيته ينشج –أي يخشع ويبكي- ولو جعلت له الدنيا على أن يفعله وأحد يسمعه أو يراه ما فعله- أي يخشى من الرياء.
روى شداد بن أوس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أخوف ما أخاف على أمتي الرياء».
وكان عمرو بن عتبة بن فرقد يخرج على فرسه ليلاً إلى المقبرة فيقف على القبور فيقول يا أهل القبور قد طويت الصحف وقد رفعت الأعمال ثم يبكي ويصف قدميه حتى يصبح فيرجع فيشهد صلاة الصبح.
وقالت امرأة حسان بن سنان كان يجئ فيدخل معي في فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها فإذا علم أني نمت سل نفسه فخرج ثم يقوم فيصلي قالت فقلت له يا أبا عبد الله كم تعذب نفسك ارفق بنفسك فقال اسكتي ويحك فيوشك أن أرقد رقدة لا أقوم منها زمانا.
عن عبد الله بن المبارك قال حدثنا وهيب قال ما اجتمع قوم في مجلس أو ملأ إلا كان أولاهم بالله الذي يفتتح بذكر الله حتى يفيضوا في ذكره وما اجتمع قوم في مجلس أو ملأ إلا كان أبعدهم من الله الذي يفتتح بالشر حتى يخوضوا فيه وفي الحديث طوبى لمن كان مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر وويل لمن كان مفتاحًا للشر مغلاقًا للخير.
(فصل)
كتب عمر بن عبد العزيز إلى سالم بن عبد الله أن اكتب إلي بشيء من رسائل عمر بن الخطاب فكتب أن يا عمر اذكر الملوك الذين تفقأت أعينهم الذين كانت لا تنقضي لذاتهم وانفقأت بطونهم التي كانوا لا يشبعون بها وصاروا جيفًا في الأرض وتحت أكنافها أن لو كانت إلى جنب مسكين لتأذى بريحهم.
وقال بلال بن سعد: رب مسرور مغبون ورب مغبون لا يشعر فويل لمن له الويل ولا يشعر يأكل ويشرب ويضحك ويلعب وقد حق عليه في قضاء الله أنه من أهل النار.
عن عون بن عبد الله بن عتبة أنه كان يقول: يا ويح نفسي كيف أغفل ولا يغفل عني أم كيف تهنيني معيشتي واليوم الثقيل ورائي أم كيف يشتد عجبي بدار في غيرها قراري.(1/106)
وكان داود الطائي في دار واسعة خربة ليس فيها إلا بيت وليس على بيته باب فقال بعض القوم أنت في دار وحشة فلو اتخذت لبيتك هذا بابًا أما تستوحش فقال حالت وحشة القبر بيني وبين وحشة الدنيا.
وقال محمد بن كعب: الدنيا دار فناء، منزل بلغة رغبت عنها السعداء وأسرعت من أيدي الأشقياء فأشقى الناس بها أرغب الناس فيها وأسعد الناس فيها أزهد الناس بها هي المعذبة لمن أطاعها المهلكة لمن اتبعها الخائنة لمن انقاد لها علمها جهل وغناؤها فقر وزيادتها نقصان وأيامها دول.
وعن بكر بن محمد قال: قلت لداود الطائي أوصني قال: عسكر الموتى ينتظرونك.
وقال أبو حازم: من عرف الدنيا لم يفرح فيها برخاء ولم يحزن على بلوى.
وقال ابن المبارك: أهل الدنيا خرجوا من الدنيا قبل أن يتطعموا أطيب ما فيها قيل له وما أطيب ما فيها قال المعرفة بالله عز وجل.
وقال شداد بن أوس رضي الله عنه: إنكم لم تروا من الخير إلا أسبابه ولم تروا من الشر إلا أسبابه، الخير كله بحذافيره في الجنة والشر كله بحذافيره في النار وإن الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر والآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قاهر ولكل بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا.
وقال عمر بن ذر اعملوا لأنفسكم رحمكم الله في هذا الليل وسواده فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار والمحروم من حرم خيرهما وإنما جعلا سبيلاً للمؤمنين إلى طاعة ربهم ووبالاً على الآخرين للغفلة عن أنفسهم فأحيوا لله أنفسكم بذكره فإنما تحيا القلوب بذكر الله كم من قائم في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في حفرته وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه عند ما يرى من كرامة الله عز وجل للعابدين غدًا فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام.(1/107)
وقال رجل لداود الطائي أوصني فدمعت عيناه ثم قال له يا أخي إنما الليل والنهار مراحل تنزل بالناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم فإن استطعت أن تقدم في كل يوم مرحلة زادًا لما بين يديك فافعل.
فإن انقطاع السفر عن قريب والأمر أعجل من ذلك فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك فكأنك بالأمر قد بغتك إني لأقول هذا وما أعلم أحدًا أشد تضييعًا مني لذلك ثم قام.
وجاء داود الطائي أحد أصحابه بألفي درهم وقال هذا شيء جاء الله به لم تطلبه ولم تشره له نفسك قال داود إنه لمن أمثل ما يأخذون قال فما يمنعك منه قال لعل تركه أن يكون أنجى.
وقال محمد بن واسع: لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه.
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث ضحكت من مؤمل الدنيا والموت يطلبه وغافل لا يغفل عنه وضاحك ملء فيه لا يدري أمُسخطٌ ربه أم مرضيه.
وأبكاني ثلاث فرقة الأحبة محمد وحزبه وهول المطلع عند غمرات الموت والوقوف بين يدي رب العالمين حين لا أدري إلى النار انصرافي أم إلى الجنة.
وقال أحد السلف لأن أعلم أن الله تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها لأن الله تعالى يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ( [المائدة: 27].
وقال إبراهيم التيمي مثلت نفسي في النار أعالج أغلالها وسعيرها وأكل من زقومها وأشرب من حميمها فقلت يا نفس أي شيء تشتهين قالت أرجع إلى الدنيا أعمل عملاً أنجو به من هذا العذاب.
ومثلت نفسي في الجنة مع حورها ألبس من سندسها واستبرقها وحريرها فقلت يا نفس أي شيء تشتهين قالت أرجع إلى الدنيا فأعمل عملاً أزداد به من هذا الثواب فقلت الآن أنت في الدنيا وفي الأمنية. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.(1/108)
7 - [موعظة]
عباد الله إن مفتاح سعادة المرء في دنياه وأخراه أن يراقب مولاه بحيث يكون في كل حال من أحواله مستحضرًا عظمة ربه وجلاله ولا ينساه مؤمنًا بأنه تعالى يراه أينما كان ويعلم سره ونجواه فمن كان هكذا أورثه ذلك خشية ربه في سره وعلانيته، فإذا خاف الإنسان ربه خوفًا صحيحًا وقف ولا بد عندما حد له من حدود يفعل أوامره ويجتنب نواهيه، لا يحمله على ذلك إلا إجلاله لربه، ومن أبعد البعد أن يقرب المعصية من كان هكذا، لأنه يستحضر أن الله تعالى يراه، ويوقن أن الله تعالى يجازيه على كل ما قدم من طاعة أو معصية فإذا وصل العبد إلى هذه الحالة كان مع توفيق الله له من صفوة خلق الله المتقين الذين لله تعالى بهم عناية فوق ما يتصوره المتصورون هو أنه تعالى أخبره عن مبلغ هذه العناية في الكتاب المبين أخبر تعالى أنه معهم لما هم عليه مما وفقهم له من تقوى وإحسان، وإذا كان الأمر هكذا. فمن يغلب التقي ومعه القاهر الغلاب ومن يذله ومعه من بيده ناصية كل مخلوق ومن يحوجه ومعه من كل العوالم تتقلب في بحبوحة جوده وكرمه الباهر، ومن يشقيه ومعه من لا سعادة إلا وهي من فيض كرمه وإحسانه. فعليك بلزوم تقوي الله وطاعته تنل السعادة في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت». رواه الطبراني.
شعرًا:
أَعَارَتْكَ دُنْيَا مُسْتَردٌ مُعارُهَا ... غَضَارَة عَيشِ سَوْفَ يَذْوِي اخْضِرَارُها
وهَلْ يَتَمَنَّى المُحْكَمُ الرأي عِيْشَةً ... وقد حَانَ مِن دُهم المَنايا مَزارُهَا
وكَيفَ تَلذُّ العَينُ هَجْعَةَ سَاعَةٍ ... وقد طَالَ فِيمَا عَايَنَتْهُ اعْتِبَارُهَا
وكَيفَ تَقِرُّ النَّفْسُ فِي دَارِ نُقْلَةٍ ... قَدْ اسْتَيقَنَتْ أَنْ لَيْسَ فِيهَا قَرَارُهَا
وأَنّىَ لهَا في الأَرضِ خَاطِرُ فِكْرَةٌ ... ولَمْ تَدْرِ بَعْدَ الموتِ أَيْنَ مَحَارُهَا(1/109)
أَلَيْسَ لَهَا فِي السَّعْي لِلْفَوزِ شَاغِلٌ ... أَمَا في تَوقِّيِهَا العَذابَ ازْدِجَارُهَا
فَخَابَتْ نُفُوسُ قَادَهَا لَهُو سَاعَةٍ ... إِلَى حَرِّ نَارٍ لَيْسَ يَطْفَى أُوَارُهَا
لَهَا سَائِقٌ حَادِ حَثِيْثٌ مُبَادِرٌ ... إِلَى غَيْرَ ما أضْحَى إليهِ مَدَارُهَا
تُرادُ لِأَمْرٍ وَهْيَ تَطْلُبُ غَيَرهُ ... وَتَقْصِدْ وَجْهًا فِي سِوَاهُ سِفَارُهَا
أَمُسْرِعَةٌ فِيمَا يَسُوءُ قِيامُهَا ... وَقَدْ أَيْقَنَتْ أنَّ العَذَابَ قُصَارُهَا
تُعَطِّلُ مَفُرُوْضًا وَتَعْنَى بِفَضْلَةٍ ... لَقَدْ شَفَّهَا طُغْيَانُها وَاغْترارُهَا
إِلَى مَا لهَا مِنْهُ البَلاءُ سُكُونُهَا ... وَعَمَّا لَهَا مِنْهُ النَّجَاحُ نِفَارُهَا
وتُعْرضُ عن رَبٍّ دَعَاهَا لِرُشْدِهَا ... وتَتَبعُ دُنْيًا جَدَّ عنها فِرَارُهَا
فيأَيُها المَغْرُوْرُ بادِرْ برَجْعَةٍ ... فِلِلَّهِ دَارٌ لَيْسَ تَخْمُدُ نَارُهَا
وَلا تَتَخيَّرْ فَانِيًا دُوْنَ خَالِدٍ ... دَلِيلٌ على مَحْضِ العُقولِ اخْتِيَارُهَا
أَتَعْلَمُ انَّ الحقَّ فِيْمَا تَركْتَهُ ... وتَسْلُكُ سُبْلاً لَيْسَ يَخْفَى عِوَارُهَا
وتَتْرُكَ بَيْضَاءَ المَنَاهِجَ ضِلَّةً ... لِبَهْمَاءَ يُؤْذِيْ الرِّجْلَ فيها عِثَارُهَا
تُسَرُّ بِلَهْوٍ مُعْقِبٍ بِنَدَامَةٍ ... إِذَا مَا انْقَضَى لَا يَنْقَضِيْ مُسْتَشَارُهَا
وتَفْنَى اللَّيالِي والمَسرَّاتُ كُلُّهَا ... وَتَبْقَى تِبَاعَاتُ الذُّنوبِ وَعَارُهَا
فَهَلْ أَنْتَ يَا مَغْبُونُ مُسْتَيْقِظٌ فَقَدْ ... تَبَّينَ مِن سِرّ الخُطُوبَ اسْتِتَارُهَا
فَعَجِّلْ إِلَى رِضْوانِ رَبِّكَ واجْتَنِبْ ... نَوَاهِيَهُ إِذْ قَدْ تَجَلَّى مَنَارُهَا
تَجدُّ مُرُوْرُ الدهر عَنْكَ بلَاعِب ... وتُغْرى بدُنيا سَاءَ فِيْكَ سِرَارُهَا
َفَكَمْ أُمَّةٍ قَدْ غَرَّهَا الدَّهْرُ قَبْلَنَا ... وَهَاتِيْكَ مِنْهَا مُقْفِرَاتٌ دِيَارُهَا(1/110)
إِذَا حَفُّهُمْ عَفْوُ الإِلهِ وفَضْلُهُ ... وَأَسْكَنَهُم دَارًا حَلَالاً عَقَارُهَا
يَفزُّ بَنُو الدنيا بِدُنُياهُم الَّتِي ... يَظُنُّ عَلَى أهل الحظوظِ اقْتِصَارُهَا
هِيَ الأُمُّ خَيرُ البرِّ فيها عقُوقُهَا ... وَلَيْسَ بِغَيْرِ البَذلِ يُحْمَى ذِمَارُهَا
فَمَا نَالَ مِنْهَا الحَظَّ إِلا مُهِيْنُهَا ... وَمَا الهُلْكُ إِلَّا قُرْبُها واعْتِمارُهَا
تَهَافَتَ فيها طَاِمعٌ بَعْدَ طَامِعٍ ... وقد بانَ لِلُّبِ الذَّكِيّ اخْتِبَارُهَا
تَطَامَنْ لِغَمْرٍ الحادِثاتِ ولا تَكُنْ ... لَهَا ذَا اعْتِمَارٍ يَجْتَنِبْكَ غِمَارُهَا
وَإِيَّاكَ اَنْ تَغْتَّرَ منها بما تَرَى ... فَقَدْ صَحَّ في العقل الجَلي عِيارُهَا
رَأَيْتُ مُلُوكَ الأرضِ يَبْغُونَ عُدَّةً ... وَلَذَّة نَفْسٍِ يُسْتَطابُ اجْتِرارُهَا
وَخَلَّوا طَرِيْقَ القَصْدِ في مُبْتَغَاهُمُ ... لِمُتْبِعَةِ الصِفارُ جَمٌ صِغَارُهَ
وإِن الَّتِي يَبغُون نَهْجَ بَقِيَّة ... مَكِيْن لِطُلاب الخَلاصِ اخْتِصَارُهَا
هَل العِزُّ إِلا هِمةٌ صَحَّ صَوْنُها ... إِذَا صَانَ هَمَّاتِ الرِجال انْكسَارُهَا
وهَلْ رَابحٌ إِلا امْرُؤٌ مُتَوكِّلٌ ... قَنُوعٌ غَنِيُّ النِّفْسِ بَادٍ وَقَارُهَا
ويَلْقَى وُلاةُ المُلْكِ خَوفًا وَفكرةً ... تَضِيْقُ بها ذَرْعًا وَيَفْنَى اصْطِبَارُهَا
عِيانًا نَرَى هَذا ولَكِنْ سَكْرَةً ... أَحَاطَتْ بِنَا مَا إِن يُفيْقُ خُمَارُهَا
تَدَبَّرْ مَن البانِي عَلَى الأَرْضَ سَقْفَهَا ... وَفِي عِلْمِهِ مَعْمُورُهَا وَقفِارُهَا
ومَن يُمْسِكُ الأَجرامَ والأَرضَ أَمْرُهُ ... بِلا عَمَدٍ يُبْنَي عَلَيهِ قَرارُهَا
ومَن قدَّرَ التَّدبِيْرَ فِيهَا بحِكْمَةٍ ... فَصَحَّ لَدَيْهَا لَيْلُها ونَهارُهَا
ومنَ فَتقَ الأَمواهَ في صَفْحِ وَجْهِهَا ... فَمِنها يُغَذَّي حَبُها وثمِارُهَا(1/111)
ومنَ صَيَّر الألوانَ في نَوْرِ نَبْتِها ... فأشرقَ فِيهَا وَرْدُهَا وَبَهَارُهَا
فَمِنْهنَّ مُخْضرٌّ يَرُوقُ بَصِيْصُهُ ... وَمِنْهنَّ مَا يَغْشَى اللِّحَاظَ احْمَرارُهَا
وَمَن حَفَرَ الأَنْهَارَ دُوْنَ تَكلُفِ ... فَثَارَ مِن الصُّمِّ الصِّلاب انْفِجَارُهَا
وَمَن رتَّبَ الشمسَ المنير ابْيِضَاضُهَا ... غُدوًّا وَيبْدُو بالعَشِيّ اصْفَرارُهَا
ومَن خَلقَ الأفلاكَ فامْتدَّ جَرْيُهَا ... وَأَحْكَمَهَا حتى اسْتَقَامَ مَدَارُهَا
تَذَكَّرْ عَلَى مَا قَدْ مَضَى واعْتِبَرْ بِهِ ... فإِنَّ المُذَكِّيْ لِلْعُقُولِ اعْتِبَارُهَا
تَحَامَى ذُراهَا كُلَّ بَاغٍ وَطَالِبٍ ... وَكَانَ ضَمَانًا في الأَعَادِي انْتِصَارُهَا
تَوَافَتْ بِبَطْنِ الأَرضِ وَانْشَتَّ شَمْلُهَا ... وَعَادَ إِلَى ذِي مُلكةِ مُسْتَعَارُهَا
وَكَمْ رَاقُدٍ في غَفَلَةٍ عَن مُنْيَّةٍ ... مُشَمَّرَةٍ في القَصْدِ وَهْوَ سِعَارُهَا
وَمَظْلَمَةٍ قَدْ نَالَهَا مُتَسِلِّطٌ ... مُدِلٌ بِأَيْدٍ عِنْدَ ذِي العَرشِ ثَارُهَا
أَرَاكَ إِذَا حَاوَلْتَ دُنْيَاكَ سَاعِيًا ... على أَنَّهَا بَادٍ إِليْكَ أَزْوُرَارُهَا
وَفي طَاعَةِ الرحمنِ يُقْعِدُكَ الوَنَى ... وتُبْدِيْ أَنَاةً لا يَصْحُّ اعْتِذَارُهَا
تُحَاذِرُ إِخْوَانًا سَتَفْنَى وَتَنْقَضِي ... وَتَنْسَى الَّتِي فَرْضٌ عَلَيْكَ حِذارُهَا
كَأَنَّي أَرَى مِنْكَ التَّبَّرمَ ظَاهِرًا ... مُبِيْنًا إِذَا الأَقْدَارُ حُلَّ اضْطِرَارَهُا
هُنَاكَ يَقُولُ المَرْءُ مَن لِي بَأَعْصُرٍ ... مَضَتْ كَانَ مِلْكًا في يَدَيَّ خِيَارُهَا
تَنَبَّهْ لِيَومٍ قَدْ أَظَلَّكَ وِرْدُهُ ... عَصِيْبٍ يُوافِي النَّفْسَ فِيْهِ احْتِضَارُهَا
تَبَرّا فِيْهِ مِنْكَ كُلُّ مُخَالِطٍ ... وَإِنَّ مِنْ الآمَالِ فِيْهِ انْهِيَارُهَا
فَأُوْدِعَتْ في ظَلْمًا ضَنْكٍ مَقَرُّهَا ... يَلُوْحُ عَلَيْهَا لِلْعُيُونِ اغْبِرَارُهَا(1/112)
تُنَادَى فَلا تَدرِي المُنادي مُفْردًا ... وقد حُطَّ عَن وَجْهِ الحَيَاةِ خِمَارُهَا
تُنَادَى إِلى يومٍ شَدِيْدٍ مُفَزّعٍ ... وَسَاعةِ حَشْرٍ لَيْسَ يَخْفَي اشْتَهَارُهَا
إِذَا حُشرتْ فيه الوُحُوشُ وَجُمّعَتْ ... صَحَائِفُنَا وانْثَالَ فِيْنَا انْتِثَارُهَا
وَزُيّنَتِ الجنَّاتُ فِيهِ وأُزْلفَتْ ... وأُذِكيَ مِن نَارِ الجحيمِ اسْتِعَارُهَا
وَكُوِّرتِ الشَّمْسُ المُنِيْرةُ بالضُّحَى ... وَأُسْرِعَ مِن زُهْرِ النُجُومِ انْكِدَارُهَا
لَقَدْ جَلَّ أَمْرٌ كَانَ مِنه انْتِظَامُهَا ... وَقَدْ عُطِّلَتْ مِن مَالِكِيْهَا عِشَارِهُا
فإِمَّا لِدَارٍ لَيْسَ يَفْنَى نَعِيْمُهَا ... وَإِمَّا لِدَارٍ لا يُفَكُّ إِسَارُهَا
بِحَضْرَةِ جَبّارٍ رَفِيْقٍ مُعَاقِبٍ ... فَتُحْصَى المَعَاصِي كُبْرُهَا وصِغَارُهَا
وَيَنْدَمُ يَوْمَ البَعْثِ جَانِي صِغَارهَا ... وَتُهْلِكَ أَهْلَيْهَا هُنَاكَ كِبَارُهَا
سَتُغْبَطُ اَجْسَادٌ وَتَحْيَا نُفُوسُهَا ... إِذَا ما اسْتَوى أَسْرَارُهَا وَجِهَارُهَا
وَمَن إِنْ أَلمتْ بِالعُقُولِ رَزِيَّةٌ ... فَلَيْسَ إِلَي حَيٍّ سِواهُ افْتِقَارُهَا
تَجِدْ كُلَّ هَذا رَاجِعٌ نَحْوَ خَالِقٍ ... لَهُ مُلْكُهَا مُنْقَادَةً وَائْتِمَارُهَا
أَبَانَ لَنَا الآيَاتِ فِي أَنْبِيَائِهِ ... فَأَمْكَنَ بَعْدَ العَجْز فيها اقْتِدَارُهَا
فَأَنْطَقَ أَفْواهًا بَأَلْفَاظِ حِكْمَةٍ ... وَمَا حَلها إِثْغَارُهَا وَاتِّغارُهَا
وأبرزَ مِن صُمٍّ الحِجَارةِ نَاقَةً ... وأَسْمَعمُ في الحِين منها حُوَارُهَا
لِيُوقِنَ أَقوامٌ وَتكفُر عُصبةٌ ... أَتَاهَا بِأسْبَابِ الهَلاكِ قَدَارُهَا
وشَقَّ لِمُوسَى البَحْرَ دُونَ تَكَلُّفُ ... وَبَانَ مِن الأَمواجِ فِيه انْحِسَارُهَا
وسَلَّم مِن نَارِ الأَنوق خَلِيْلَهُ ... فَلَمْ يُؤذهِ إِحراقُهَا واعْتِرَارُهَا(1/113)
ونَجَّىَ مِن الطُوفَانِ نُوحًا وقد هَدَتْ ... بِهِ أُمةٌ أَبْدَى الفُسُوقَ شِرارُهَا
وَمَكَّنَ دَاوُدًا بأَيْدٍِ وَابْنَهُ ... فَتَعْسِيرهَا مُلْقَى لَهُ وبِذَارُهَا
وذلَّلَ جبَّارَ البِلادِ بِأَمْرِهِ ... وَعَلَّمَ طَيْرًا فِي السَّمَاءِ حِوَارُهَا
وَفَضَّلَ بِالقُرْآنِ أُمَّةَ أَحْمدٍ ... وَمَكَّنَ فِي أَقْصَى البِلادِ مُغَارُهَا
وَشَقَّ لَهُ بَدْرَ السَّمَاءِ وَخَصَّهُ ... بآياتٍ حَقٍّ لا يُخَلُ مُعَارُهَا
وَأَنْقَذَنَا مِن كُفْرٍ أَربابِنَا بِهِ ... وَقَدْ كَانَ مِن قُطْبٍ الهَلاكِ مَنارُهَا
فَمَا بَالُنا لا نَتْرُكُ الجهلَ ويْحَنَا ... لِنُسْلَمُ مِن نارٍ تَرامَى شِرَارُهَا
اللهم تب علينا قبل أن تشهد علينا الجوارح ونبهنا من رقدات الغفلات وسامحنا فأنت الحليم المسامح وانفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا فمنك الفضل والمنائح واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله أجمعين.
[فصل]
قال الفضيل بن عياض الدخول في الدنيا هين ولكن الخروج منها شديد وقال آخر عجبًا لمن عرف أن الموت حق كيف يفرح وعجبًا لمن عرف النار وأنها حق كيف يضحك، وعجبًا لمن رأى تقلب الدنيا بأهلها كيف يطمئن إليها، وعجبًا لمن يعلم أن القدر حق كيف ينصب.
قال مالك بن دينار: اصطلحنا على حب الدنيا، فلا يأمر بعضنا بعضًا، ولا ينهى بعضنا بعضًا، ولا يدعنا الله على هذا فليت شعري أي عذاب الله ينزل علينا.
وقيل لبشر مات فلان فقال، جمع الدنيا وذهب إلى الآخرة وضيع نفسه.
وقال آخر: الدنيا تبغض إلينا ونحن نحبها فكيف لو تحببت إلينا.
وقال آخر: لا يصبر عن شهوات الدنيا إلا من كان في قلبه ما يشغله بالآخرة.(1/114)
وقال آخر: يعظ أخًا له في الله ويخوفه بالله، فقال يا أخي إن الدنيا دحض مزلة، ودار مذلة، عمرانها إلى الخراب صائر، وعامرها إلى القبور زائر، شملها على الفرقة موقوف، وغناها إلى الفقر مصروف، الإكثار فيها إعسار والإعسار فيها يسار.
فافزع إلى الله وارضى برزق الله، لا تتسلف من دار فنائك إلى دار بقائك فإن عيشك في الدنيا فيء زائل وجدار مائل أكثر من عملك وأقلل من أملك.
وقال يحيى بن معاذ العقلاء ثلاثة من ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله وأرضى خالقه قبل أن يلقاه.
وقال بندار إذا رأيت أبناء الدنيا يتكلمون بالزهد فاعلم أنهم في سخرية إبليس.
وذكر أناس الدنيا وأقبلوا على ذمها عند رابعة العدوية، فقالت اسكتوا عن ذكرها فلولا موقعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها، إن من أحب شيئًا أكثر من ذكره.
شعرًا:
أَلا إنما الدنيا كجيْفَة مَيْتَةٍ ... وَطُلابُهَا مِثْلُ الكِلاب الهَوامِسِ
وَأَعظمُهَمْ ذَمًّا لَهَا وأشدُهُمْ ... بهَا شَغَفًا قَومٌ طِوالُ القلانُسِ
وقال آخر: الدنيا مزبلة ومجمع كلاب وأقل من الكلاب من عكف عليها، فإن الكلب يأخذ من الجيفة حاجته وينصرف والمحب للدنيا لا يفارقها بحال.
وقيل لإبراهيم بن أدهم كيف أنت فقال:
نُرقِعُ دُنْيَانَا بِتَمْزِيْق دِيْنِنَا ... فَلا دِيْنُنَا يَبْقَى وَلا مَا نُرَقّعُ
فَطَوبَى لِعَبْدٍ آثَر الله وَحْدَهُ ... وَجَادَ بِدُنْيَاه لِمَا يُتَوَقْعُ
وقال آخر:
أَرَىَ طالبَ الدُّنْيَا وَإِن طَالَ عمْرُهُ ... ونالَ مِن الدُّنْيَا سُرورًا وَأَنْعُمَا
كَبَانٍ بَنَى بُنْيَانَهُ فَأقامَهُ ... فَلمَّا اسْتَوى ما قَدْ بَناه تَهَدَّمَا
وقال لقمان لابنه: يا بني بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعًا ولا تبع آخرتك بدنياك تخسرهما جميعًا.
وقال محمد بن الحسين لما علم أهل الفضل والعلم والمعرفة والأدب أن الله عز وجل قد أهان الدنيا وأنه لم يرضها لأوليائه وأنها عنده حقيرة ذليلة.(1/115)
وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زهد فيها، وحذر أصحابه من فتنتها أكلوا منها قصدا وقدموا فضلا وأخذوا منها ما يكفي، وتركوا ما يلهي، لبسوا من الثياب ما ستر العورة، وأكلوا من الطعام أدناه مما سد الجوعة.
ونظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية وإلى الآخرة أنها باقية، فتزودوا من الدنيا كزاد الراكب، فخربوا الدنيا وعمروا بها الآخرة.
ونظروا إلى الآخرة بقلوبهم فعلموا أنهم سينظرون إليها بقلوبهم وأعينهم، ولما علموا أنهم سيرتحلون إليها بأبدانهم تعبوا قليلاً وتنعموا طويلاً كل ذلك بتوفيق مولاهم الكريم أحبوا ما أحب لهم وكرهوا ما كره لهم.
قال عبد الله بن مسعود نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.
اعلم بأن طَرِيْقَ الحقِّ مُنْفَرِدٌ ... والسَّالِكُونَ طَرِيْقَ الحقِّ أَفْرَادُ
لا يَطْلُبُونَ ولا تُطْلَبْ مَسَاعِيْهُمْ ... فَهُمْ على مَهَلٍ يَمشُون قُصَّادُ
وَالنَّاسُ في غَفْلةٍ عَمَّا لهُ قَصَدُوا ... فَجُلْهُمْ عَن طَرِيْقِ الحَقِ رُقَّادُ
وخطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال: يا أيها الناس إنكم خلقتم لأمر إن كنتم تصدقون به وهذا عملكم فإنكم حمقى، وإن كنتم تكذبون به فإنكم هلكى فما خلقتم للأبد ولكنكم من دار إلى دار تنقلون.
عباد الله إنكم في دار لكم فيها من طعامكم غصص ومن شرابكم شرق لا تصفوا لكم نعمة تسرون بها إلا بفراق أخرى تكرهون فراقها، فاعملوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه ثم غلبه البكاء ونزل.
وقال بعضهم في وصف مراحل السلوك: إن المؤمن إذا آمن بالله واستحكم إيمانه خاف الله تعالى فإذا خاف الله تعالى تولد من الخوف الهيبة.
فإذا سكنت غلبة الهيبة دامت طاعته لربه، فإذا أطاع ربه تولد من الطاعة الرجاء.
فإذا سكنت درجة الرجاء في القلب تولد من الرجاء المحبة.(1/116)
فإذا استحكمت المحبة في قلب العبد سكن بعدها مقام الشوق، فإذا اشتاق أداه الشوق إلى الأنس بالله، فإذا أنس بالله اطمأن إلى الله، فإذا اطمأن إلى الله كان ليله في نعيم ونهاره في نعيم وسره في نعيم وعلانيته في نعيم.
وقال بعضهم يا ابن آدم ما أنصفت إذ يدعوك داعي الدنيا بكلمة واحدة لشيء ذاهب فتجيبه مسرعًا، ويدعوك داعي الآخرة لشيء باقي صافي ثابت فلا تجيبه مسرعًا، فليتك إذ لم تقدر الآخرة سويت بينهما.
وقال آخر: العلماء العاملون أرأف بأمة محمد من آبائهم وأمهاتهم وأشفق عليهم، قيل له كيف ذلك، قال لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة وأهوالها.
وقال آخر: من أقوى القوى أن تغلب نفسك، من عجز عن أدب نفسه كان عن أدب غيره أعجز، وقال: من علامات الاستدراج للعبد عماه عن عيبه، وتطلعه إلى عيوب الناس، وقال من النذالة أن يأكل العبد بدينه.
وقال آخر: وقد سئل عن الطريق إلى الله، فقال: توبة تحل الإصرار، وخوف يزيل الغرور ورجاء ينهض الخيرات، ثم مراقبة الله في خواطر القلوب.
قال أحمد بن عاصم: أنفع اليقين ما عظم في عينيك ما به أيقنت وأنفع الخوف ما حجزك عن المعاصي، وأطال منك الحزن على ما فات، وألزمك الفكر في بقية عمرك وخاتمة أمرك.
وأنفع الصدق أن تقر لله عز وجل بعيوب نفسكن وأنفع الحياء أن تستحي أن تسأله ما تحب وتأتي ما يكره.
وأنفع الصبر ما قواك على خلاف هواك وأفضل الجهاد مجاهدتك نفسك لتردها إلى قبول الحق.
وأوجب الأعداء منك مجاهدة أقربهم منك دنوا وأخفاهم عنك شخصًا وأعظمهم لك عداوة وهو إبليس.
قلت: فما ترى في الأنس بالناس؟ قال: إن وجدت عاقلاً مأمونًا فأنس به واهرب من سائرهم كهربك من السباع.
قلت: فما أفضل ما أتقرب به إلى الله عز وجل؟ قال: ترك معاصيه الباطنة.
قلت: فما بال الباطنة أولى من الظاهرة؟ قال: لأنك إذا أجتنبت الباطنة بطلت الظاهرة والباطنة.(1/117)
قلت: فما أضر الطاعات لي؟ قال: ما نسيت بها مساوئك، وجعلتها نصب عينيك إدلالاً بها وأمنًا.
قال: وسمعته يقول: استكثر من الله عز وجل لنفسك قليل الرزق تخلصًا إلى الشكر، واستقلل من نفسك لله عز وجل كثير الطاعة إزراء على النفس وتعرضًا للعفو.
واستجلب شدة التيقظ بشدة الخوف؛ وادفع عظيم الحرص بإيثار القناعة، واقطع أسباب الطمع بصحة اليأس؛ وسد سبيل العجب بمعرفة النفس.
واطلب راحة البدن بإجمام القلب، وتخلص إلى إجمام القلب بقلة الخلطاء، وتعرض لرقة القلب بدوام مجالسة أهل الذكرن وبادر بانتهاز البغية عند إمكان الفرصة وأحذرك "سوف".
وكُنْ صَارِمًا كَالْوَقْتِ فَالمَقْتُ في عَسَى ... وَإِيَّاكَ مَهْلاً فَهي أخْطَرُ عِلَّتِي
وَجُذَّ بسَيْف العَزْمِ سَوْفَ فإن تَجُدْ ... تَجِدْ نَفَسًا فَالنَّفْسُ إِن جُدْتَ جدَّتِ
عن الأوزاعي أنه وعظ فقال في موعظته: أيها الناس تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة.
فإنكم في دار الثواء فيها قليل وأنتم فيها مؤجلون خلائف من بعد القرون الذين استقبلوا من الدنيا أنفها وزهرتها.
فهم كانوا أطول منكم أعمارًا وأمد أجسامًا وأعظم آثارًا فخددوا الجبال وجابوا الصخور ونقبوا في البلاد مؤيدين ببطش شديد وأجسام كالعماد.
فما لبثت الأيام والليالي أن طوت مددهم وعفت آثارهم وأخوت منزلهم وأنست ذكرهم، فما تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزًا.
كانوا بلهو الأمل آمنين لبيات قوم غافلين أو لصباح قوم نادمين، ثم إنكم قد علمتم الذي نزل بساحتهم بياتًا من عقوبة الله عز وجل.
فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين وأصبح الباقون ينظرون في آثار نقمة وزوال نعمة ومساكن خاوية فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم وعبرة لمن يخشى.
وأصبحتم من بعدهم في أجل منقوص ودنيا مقبوضة في زمان قد ولى عفوه وذهب رخاؤه.(1/118)
فلم تبق منه إلا حمة شر وصبابة كدر، وأهاويل عبر، وعقوبات غير وأرسال فتن، وتتابع زلازل ورذلة خلف بهم ظهر الفساد في البر والبحر.
فلا تكونوا أشباهًا لمن خدعه الأمل وغر بطول الأجل وتبلغ بالأماني. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن وعى نذره، وعقل فمهد لنفسه.
اللهم انظمنا في سلك عبادك المفلحين واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
كتب بعضهم إلى أخ يوصيه: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله، والعمل بما علمك الله عز وجل، والمراقبة حيث لا يراك أحد إلا الله عز وجل والاستعداد لما ليس لأحد فيه حيلة، ولا تنفع الندامة عند نزوله.
فاحسر عن رأسك قناع الغافلين، وانتبه من رقدة الموتى، وشمر للسباق غدًا فإن الدنيا ميدان المسابقين، ولا تغتر بمن أظهر النسك، وتشاغل بالوصف، وترك العمل بالموصوف.
واعلم يا أخي أنه لا بد لي ولك من المقام بين يدي الله عز وجل، ولست آمن أن يسألني وإياك عن وساوس الصدور، ولحظات العيون، وإصغاء الأسماع، وما عسى أن يعجز مثلي عن صفته.
واعلم أنه مما وصف به منافقوا هذه الأمة أنهم خالطوا أهل الدنيا بأبدانهم وطابقوهم عليها بأهوائهم، وخضعوا لما طمعوا من نائلهم، وداهن بعضهم (بعضًا) في القول والفعل، فأشر وبطر قولهم، ومر خبيث فعلهم، تركوا باطن العمل بلا تصحيح فحرمهم الله تعالى بذلك الثمن الربيح.
وأعلم يا أخي أنه لا يجزى من العمل القول، ولا من البذل العدة، ولا من التقوى ولا من التوقى التلاوم.
وقد صرنا في زمان هذه صفة أهله فمن كان كذلك فقد تعرض للمقت وصد عن سواء السبيل. وفقنا الله عز وجل وإياك لما يحب ويرضى، انتهى والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[فائدة](1/119)
كلما قويت حاجة الناس إلى الشيء ومعرفته يسر الله أسبابه كما ييسر ما كانت حاجتهم إليه في أبدانهم أشد.
فلما كانت حاجتهم إلى النفس والهوى أعظم منها إلى الماء كان مبذولاً لكل احد في كل وقت.
ولما كانت حاجتهم إلى الماء أكثر من حاجتهم إلى القوت كان وجود الماء أكثر لذلك.
فلما كانت حاجتهم إلى معرفة الخالق أعظم كانت آياته ودلائل ربوبيته وقدرته وعلمه ومشيئته وحكمته أعظم من غيرها.
ولما كانت حاجتهم إلى معرفة صدق الرسل بعد ذلك أعظم من حاجتهم إلى غير ذلك.
أقام الله من دلائل صدقهم وشواهد نبوتهم وحسن حال من اتبعهم وسعادته ونجاته وبيان ما يحصل له من العلم النافع والعمل الصالح.
وقبح حال من خالفهم وشقاوتهم وجهله وظلمه ما يظهر لمن تدبر ذلك (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ( [النور: 40].
وختامًا فالواجب على الإنسان المبادرة إلى الأعمال الصالحة وأن ينتهز فرصة الإمكان قبل هجوم هادم اللذات.
وأن يستعين بالله ويتوكل عليه ويسأله العون في تيسير الأعمال الصالحة وصرف الموانع الحائلة بينه وبينها.
وليحرص على حفظ القرآن، وتدبره، وتفهمه، والعمل به، وكذلك السنة، ويحرص على أداء الصلاة في جماعة.
ويحرص على مجالس الذكر، ويحفظ لسانه عن الغيبة والنميمة والسعاية والكذب وجميع الأعمال والأخلاق السيئة.
ويتهيأ للرحيل، ويتفقد نفسه بما عليه وما له فإن كان عنده حقوق لله كزكاة أو لخلقه كأمانات أو عواري أو وصايا أداها بسرعة خشية أن يفجاءه الموت وهي عنده.
فإذا لم تؤدها أنت في حياتك، فمن بعدك من أولاد أو إخوان يبعد اهتمامهم بذلك، لأنهم يهتمون ويشتغلون بما خلفته لهم وضيعت بسببه نفسك.
فالله الله البدار بالتفتيش على النفس، والمبادرة بالتوبة والإكثار من الاستغفار.(1/120)
ومما يحثك على ذلك ذكر مرارة الموت الذي سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هادم اللذات، وتذكر شدة النزع والتفكر في الموتى الذي حبسوا على أعمالهم ليجازوا بها فليس فيهم من يقدر على محو خطيئة، ولا على زيادة حسنة.
وعاد بعضهم مريضًا فقال له كيف تجد؟\قال: هو الموت. قال له: وكيف علمت أنه الموت؟ قال: أجدني اجتذب اجتذابًا، وكأن الخناجر في جوفي، وكأن جوفي تنور محمى يتلهب.
قال له: فاعهد (أي أوصى)، قال: أرى الأمر أعجل من ذلك فدعا بدواة وصحيفة قال: فو الله ما أتى بها حتى شخص بصره فمات.
وقال إبراهيم بن يزيد العبدي: أتاني رياح القيسي فقال: يا أبا إسحاق انطلق بنا إلى أهل الآخرة نحدث بقربهم عهدًا.
فانطلقت معه، فأتى المقابر فجلسنا إلى بعض تلك القبور، فقال: يا أبا إسحاق ما ترى هذا متمنيًا لو منء، قلت: أن يرد والله إلى الدنيا فيستمتع من طاعة الله ويصلح.
قال: فها نحن، ثم نهض فجد واجتهد، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى مات.
ومما يحثك على التأهب والاستعداد لهادم اللذات أن تصور لنفسك عرضها على ربك وتخجيله إياك بمضيق العتاب على فعل ما نهاك عنه قال جل وعلا: (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً( [مريم: 95].
اللهم إنا نسألك نفسًا مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك، اللهم إنا نسألك باسمك الطاهر الطيب المبارك الأحب إليك الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت وإذا استرحمت به رحمتن وإذا استفرجت به فرجت أن تغفر سيئاتنا وتبدلها لنا بحسنات يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه تبارك وتعالى ليس بينه وبينه ترجمان».
وعن صفوان بن محرر قال: كنت آخذًا بيد ابن عمر إذ عرض له رجل، فقال كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى يوم القيامة.(1/121)
فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه. ويقول له أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك. قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم».
ومما يحثك على الاستعداد للموت والابتعاد عن المعاصي أن تتخايل وتتصور شهادة المكان الذي تعصي فيه عليك يوم القيامة.
فعن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا( [الزلزلة: 4]. فقال "أتدرون ما أخبارها، أن تشهد على كل عبد بما عمل على ظهرها، أن تقول عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فهو أخبارها".
ومما يحثك على التأهب والاستعداد للموت والابتعاد عن المعاصي أن تمثل نفسك عند بعض زللك كأنه يؤمر بك إلى النار التي لا طاقة لمخلوق بها.
وتصور نفاد اللذة وذهابها وبقاء العار والعذاب.
تَفنى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ شَهْوَتَهُ ... مِن الحَرَامِ ويَبْقَى الإِثم والعَارُ
تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوْءٍ في مَغَبَّتِهَا ... لا خَيْرَ في لَذَّةٍ مِن بَعْدِهَا النَّارُ
عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ناركم هذه ما يوقد بنوا آدم جزء واحد من سبعين جزءًا من حر جهنم» قالوا: والله إن كانت لكافية.
وقال بعض السلف: ربما مثل لي رأسي بين جبلين من نار وربما رأيتني أهوى فيها حتى أبلغ قعرها فكيف تهنا الدنيا من كانت هذه صفته.
وكان عمر رضي الله عنه ربما توقد له النار ثم يدني يديه منها ثم يقول: يا ابن الخطاب هل لك على هذا صبر.
ومما يحثك على الاستعداد وتفقد شئونك وأمرك ذكر أحوال كثير من السلف الصالح الذي أقلقهم خوف الحساب والعذاب في البرزخ والنار.
لما أهديت معاذة العدوية إلى زوجها صلة بن أشيم ادخله ابن أخيه الحمام ثم أدخله بيتًا مطيبًا فقام يصلي حتى أصبح وفعلت زوجته معاذة مثله.(1/122)
فلما أصبح عاتبه ابن أخيه على فعله ليلة الزواج فقال له: أدخلتني بالأمس بيتًا ذكرتني به النار ثم أدخلتني بيتًا ذكرتني به الجنة فما زالت فكرتي فيهما حتى أصبحت.
ونظر عمر بن عبد العزيز إلى رجل عنده متغير اللون، فقال له ما الذي بك؟ فقال: إني ذقت حلاوة الدنيا فصغر في عيني زهرتها وملاعبها، واستوى عندي حجارتها وذهبها.
ورأيت كأن الناس يساقون إلى الجنة، وأنا أساق إلى النار فأسهرت لذلك ليلي، وأظمأت نهاري، وكل ذلك صغير حقير في جنب عفو الله، وثوابه عز وجل وجب عقابه.
وقال إبراهيم التيمي مثلث نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها.
فقلت لنفسي أي شيء تريدين، قالت أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحًا، قال: فلت أنت في الأمنية فاعملي.
وسمع عمر بن الخطاب رجلاً يتهجد في الليل ويقرأ سورة الطور، فلما بلغ قوله تعالى: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِن دَافِعٍ( [الطور: 8].
قال عمر: قسم ورب الكعبة حق، ثم رجع إلى بيته فمرض شهرًا يعوده الناس، ولا يدرون ما سبب مرضه.
وكان جماعة من السلف مرضوا من الخوف ولزموا منازلهم وبعضهم صار صاحب فراش.
وكان الحسن يقول في وصف الخائفين: قد براهم الخوف فهم أمثال القداح ينظر إليهم الناظر فيقول مرضى وما بهم مرض ويقول قد خولطوا وقد خالط القوم من ذكر الآخرة أمر عظيم.
هذه القصيدة عدلنا فيها بعض الأبيات:
وحَقِّكَ ياذَ الجُودِ مَالي مَلْجَؤٌ ... وَلا لي إلى أبْوَابِ غَيركَ مَطْلَبُ
إِذَا لَم تَكُنْ لِي عِنْدَ غَيْرِكَ حَاجَةٌ ... فَكَيْفَ إلى أَبْوَابِ غَيْرَكَ أَذْهَبُ
إِذَا لَم يَكُنْ مُعْطٍ سِوَاكَ بِمَطْلَبِي ... فَكَيْفَ سِوَى مَعْرُوْفِ جُوْدِكَ أَطْلُبُ
عَذُوْ لِي فيهِ مَا يَرَى مَا رَأَيْتَهُ ... فَيُكْثِرُ مِن لَوْمِي عَلَيه ويُطْنِبُ
سَلَكْتُ سَبيْلاً مَا اهْتَدَى لسُلُوْكِهَا ... فَأَعْجَبُ مِنْهُ وَهْوَ مِنِّي يَعْجَبُ(1/123)
وَكَيْفَ سُلُّوٌ عَن جَمَالٍ مُحَجَّبٍ ... أَيَادِيْه عن كُلِ الوَرَى ليس تُحْجَبُ
إِذَا اسْتَأَنَسَ الحَادُوْنَ لِلرَكْبِ بِاسْمِه ... فكُلُّهُمُوْا حَتى الركائبِ تَطْرَبُ
يَطيْبُ وَيَحْلُوْ لِلْمُحِبِّيْنَ ذِكْرُهُ ... فَلا طَيِّبٌ إِلا وذكْرُكَ أَطْيبُ
فإِنْ قُلْتُ شَهْدًا فَهو أحْلَى مَذَاقَةً ... وَإِنْ قُلْتُ مَاءً فَهو أصْفَى وأعْذَبُ
سَأَلْتُكَ يَا حَادِي الرَكَائِبِ حَاجَةً ... إِذَا مَا بَدَتْ يَوْمًا لِعَيْنَيْكَ يَثْرِبُ
فَسَلِّم عَلى مَنْ قَدْ حَوَتْهُ قِبَابُهَا ... وَشِرْعَتُه في الكَونِ تُمْلَى وتُكْتَبُ
مُحَمَّدٌ المُخْتَارُ وَالمَاجِدُ الذي ... إلى فَخْرهِ كُلُّ المناسِبِ تُنْسَبُ
هو الصادِقُ الدَّاعِي إِلى الله وَحْدَهُ ... فَمَنْ لَم يُجِبْهُ فَهْوَ فِي الحَشْرِ يُنْدَبُ
فَصَلُّوا عَلَيْهِ دَائِمًا فَصَلاتِكُم ... ثَوابُكُمُوا فِيهَا مِن الله يُطْلَبُ
وختامًا فالواجب على العاقل المبادرة إلى الأعمال الصالحة ما دام في قيد الحياة وخصوصًا الصلاة التي فرضها الله جل وعلا على عباده آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين ومحلها من الدين محل الرأس من الجسد.
فكما أن لا حياة لمن لا رأس له فكذلك لا دين لمن لا صلاة له وهي خاتمة وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - عند آخر عهده من الدنيا.
فعن أنس رضي الله عنه قال:كانت عامة وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه «الصلاة وما ملكت أيمانكم». رواه أحمد وأبو داود.
وهي أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة كما ورد بذلك الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر». الحديث رواه الترمذي.(1/124)
والصلاة أكبر عون للعبد على مصالح دينه ودنياه قال الله تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ( [البقرة: 45].
فالصلاة سعادة وسرور للمؤمن الخاشع المحب لربه، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، فالصلاة جسد وروح.
أما جسدها فهو كلام اللسان وحركات الأعضاء وأما روحها فهو الخشوع، قال الله جل وعلا: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ( [المؤمنون: 2].
والخشوع حضور الذهن وأن يتصور الإنسان أن ربه أمامه يسمعه ويناجيه فلا يشغل فكره بشيء من الدنيا ما دام في صلاته ويجمع فكره إلى تأمل ما يتلو وما يسمع من الإمام ويحرص كل الحرص على طرد الهواجس.
قال أحد العلماء: إن من المعلوم أن المنتصب لخطاب ملك من ملوك الدنيا يجمع قلبه للإقبال عليه ويحسن التودد إليه ويتحرز التحرز الكلي عن أن تفرط منه كلمة مستهجنة أو التفاتة غير مستحسنة أو ذهول عما يخاطبه به أو يتلقاه من خطابه وإن كان لا يخاف نقمته ولا يرجو نعمته.
فيا عجبًا من منتصب لمناجات ملك السموات والأرض وهو يعلم أنه حاضر لديه ورقيب عليه وأنه محتاج في كل لحظة إليه غير مستغن عنه وإن إحسانه إليه فوق كل إحسان.
وعاقبة عصيانه إنه الخلود في قعر النيران وإن عظمته لا تدانيها عظمة سلطان ومع ذلك يترك الإقبال عليه ويعرض له الذهول عنه لخواطر دنيوية ووساوس غير نافعة ولا مرضية حتى لا يشعر بمعاني ما يتلوه في صلاته ولا يعقل ما المطلوب بها ويسهو عن أركانها وأذكارها هذا مما تحار فيه العقول.
ولعل السبيل إلى ذلك هو التحفظ عن تلك الشواغل في حالة الصلاة التي هي عماد الدين والفارقة بين الكفرة والمؤمنين التي فرضها الله ليتطهر بها عباده عما اقترفوه فيما بين أوقاتها من الذنوب ويغسلوا بها أبدانهم وأرواحهم عن درن الحوب.(1/125)
كما يشعر به قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار يمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات. وفي رواية فماذا ترون أيبقى عليه من الدرن بعد ذلك».
والمهم أن يصرف العبد ذهنه إلى أن قيامه للوضوء والصلاة إنما هو لخطاب ملك الملوك والاعتذار إليه من التقصير في الحياء منه في أحواله السابقة وليطلب منه العفو والمسامحة والإحسان ولداء ما كلفه من العبادة.
اللهم إنا نسألك نفسًا مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك، اللهم إنا نسألك باسمك الطاهر الطيب المبارك الأحب إليك الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت، وإذا استرحمت به رحمت، وإذا استفرجت به فرجت أن تغفر سيئاتنا وتبدلها لنا بحسنات يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
[فصل]
قال شيخ الإسلام:
القلب لا يصلح ولا يفلح ولا يسر ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه.
ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه.
وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة.
وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له ولا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله فهو دائمًا مفتقر إلى حقيقة إياك نعبد وإياك نستعين.
فهو مفتقر إليه من حيث هو المطلوب المحبوب المعبود ومن حيث هو المستعان به المتوكل عليه.
فهو إلهه لا إله له غيره وهو ربه لا رب له سواه ولا تتم عبوديته إلا بهذين.
وقال: إعراض القلب عن الطلب من الله والرجا له يوجب إنصراف قلبه عن العبودية لله لا سيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق.
بحيث يكون قلبه معتمدًا إما على رئاسته وجنوده وأتباعه وإما على أهله وأصدقائه وإما على أمواله أو غيرهم ممن مات أو يموت قال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ( [الفرقان: 58].(1/126)
وقال على كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعًا لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا يتقدم بين يديه.
بل ينظر ما قال فيكون قوله تبعًا لقوله وعمله تبعًا لأمره فمن قول الله وقول رسوله يتعلم به ويتكلم.
وكل من خالف ما جاء به الرسول لم يكن عند علم بذلك ولا عدل بل لا يكون عنده إلا جهل وظلم وظن وما تهوى الأنفس (وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى( [النجم: 23].
وقال رحمه الله: من ابتلي ببلاء قلبي أزعجه فأعظم دواء له قوة الالتجاء إلى الله ودوام التضرع والدعاء بأن يتعلم الأدعية المأثورة ويتوخى الدعاء في مظان الإجابة.
مثل آخر الليل وأوقات الأذان والإقامة وفي سجوده وأدبار الصلوات ويضم إلى ذلك الاستغفار.
وليتخذ وردًا من الأذكار طرفي النهار وعند النوم وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف.
فإنه لا بد أن يؤيده الله بروح منه ويكتب الإيمان في قلبه.
وليحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس بباطنه وظاهره فإنها عمود الدين.
وليكن هجيراه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فإنه بها يحمل الأثقال ويكابد الأهوال وينال رفيع الأحوال.
ولا يسأم من الدعاء والطلب فإن العبد يستجاب له ما لم يعجل.
وليعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا.
وقال ابن القيم: مراقبة الرب علم العبد وتيقنه باطلاع الله على ظاهره وباطنه فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة.
وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله ومطلع على عمله كل وقت وكل لحظة.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذاق طعم الإيمان من رضيّ بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولا».
وقال: من قال حين يسمع النداء رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا غفرت ذنوبه.
وهذا الحديثان عليهما مدار مقامات الدين وإليهما ينتهي.(1/127)
وقد تضمنها الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته والرضا برسوله والرضا بدينه والتسليم له.
ومن اجتمعت له فهو الصديق حقًا وقال: الأدب اجتماع خصال الخير في العبد وهي ثلاثة أنواع:
أدب مع الله بأن يصون قلبه أن يلتفت إلى غيره أو تتعلق إرادته بما يمقته عليه، ويصون معاملته أن يشوبها بنقيصه.
وأدب مع الرسول بكمال الانقياد، وتلقى خبره بالقبول والتصديق وأن لا يعارضه بغيره بوجه من الوجوه.
وأدب مع الخلق بمعاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم ويناسب حالتهم.
وقال رحمه الله: المقبول من العمل قسمان: أحدهما أن يصلى العبد ويعمل سائر الطاعات وقلبه متعلق بالله عز وجل ذاكر الله على الدوام فعمله في أعلى المراتب.
الثاني: أن يعمل العبد الأعمال على العادة والغفلة وينوي بها الطاعة والتقرب إلى الله.
فأركانه مشغولة بالطاعة وقلبه لاه عن ذكر الله وكذلك سائر أعماله فهذا عمله مقبول ومثاب عليه بحسبه.
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وآله أجمعين.
فوائد ومواعظ ونصائح
قال أحد العلماء اعلم أنه لا يسلم إنسان من النقص إلا من عصمه الله كالرسل قال الله جل وعلا عن الإنسان: (إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً( [الأحزاب: 72].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون». فمن خفيت عليه عيوبه فقد سقط.
وصار من السخف والرذالة والخسة وضعف التمييز والعقل وقلة الفهم بحيث لا يتخلف عنه متخلف من الرذائل.(1/128)
وعليه أن يتدارك نفسه بالبحث عن عيوبه والسؤال عنها بدقة وأكثر من يفهم عيوب الإنسان أعداؤه لأنهم دائمًا ينقبون عنها.
وكذلك الأصدقاء الناصحين الصادقين المنصفين يفهمونها غالبًا.
فالعاقل يشتغل بالبحث عنها والسعي في إزالتها ولا يتعرض لعيوب الناس التي لا تضره لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا من باب النصيحة.
كما لو رأى إنسانًا معجبًا بنفسه فيبدي له النصح وجهًا لوجه لا خلف ظهره.
واحذر أن تقارن بينك وبين من هو أكثر منك عيوبًا فتستهل الرذائل وتهاون بعيوبك.
لكن قارن بين نفسك ومن هو أفضل منك لتسلم من عجبك بنفسك وتفيق من داء الكبر والعجب الذي يولد عليك الاستحقار والاستخفاف بالناس مع العلم بأن فيهم من هو خير منك.
فإذا استخففت بهم بغير حق استخفوا بك بحق لأن الله جل وعلا وتقدس يقول: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا( [الشورى: 40].
فتسبب على نفسك أن تكون أهلاً للاستخفاف بك مع ما تجنيه من الذنوب وطمس ما فيك من فضيلة.
فإن كنت معجبًا بعقلك ففكر وتأمل في كل فكرة سوء تحل بخاطرك وفي أضاليل الأماني الطائفة بك فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ.
وإن أعجبت بآرائك فتأمل وفكر في غلطاتك وسقطاتك واحفظها وتذكرها ولا تنسها.
وفي رأي كنت تراه صوابًا فتبين لك خطؤك وصواب غيرك والغالب أن خطأك أكثر من الصواب.
وهكذا ترى الناس غير الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وإن أعجبت بعملك فتفكر في معاصيك هل بيتك خال من الملاهي والمنكرات مثل الصور والتلفاز والمذياع وأغانيه والمجلات والجرائد التي فيها صور ذوات الأرواح.
وهل هو خال من الأولاد الذين لا يشهدون الجماعة وهل أنت سالم من الغيبة وإخلاف الوعد والكذب والحسد والكبر والرياء.
والعقوق وقطيعة الرحم والظلم والرباء والدخان وحلق اللحية والغش وقول الزور وسوء الظن بالمسلمين والتجسس عليهم والاحتقار لهم ونحو ذلك.(1/129)
فأنت إذا تفقدت نفسك وبيتك وأولادك وجدت عندك من الشرور والآثام ما بعضه يغلب على ما أعجبت به من عملك الذي لا تدري هل هو مقبول أو مردود.
وإن أعجبت بعلمك أو عملك فاعلم أنه موهبة من العزيز العليم وهبك إياها فلا تقابلها بما يسخطه عليك.
قال الله جل وعلا: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ( [يوسف: 76]. وقال سبحانه وتعالى: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً( [الإسراء: 85].
وأسأل الله أن يزيد منه، وأن يجعله حجة لك لا عليك، قال تبارك وتعالى: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً( [طه: 114].
وتفكر فيما تحمله من العلم هل أنت عامل به أم لا واجعل مكان عجبك بنفسك استنقاصًا لها واستقصارًا فهو أولى بك.
وتفكر فيمن كان أعلم منك تجدهم كثيرًا، ثم أعلم أن العلم الذي تفتخر فيه ربما يكون وبالاً عليك.
فيكون الجاهل أحسن حالاً ومآلاً وأعذر منك فبذلك التفكير يزول العجب والكبر عنك وتهون نفسك عندك حينئذ.
وإن أعجبت بشجاعتك وقوتك فتكفر فيمن هو أشجع وأقوى منك ثم انظر في تلك النجدة التي منحك الله تعالى فيم صرفتها.
فإن كنت صرفتها في معصية الله فأنت جاهل آثم لأنك بذلك نفسك فيما ليس ثمنًا لها.
وإن كنت صرفتها في طاعة فقد أفسدتها بإعجابك بعملك.
ثم تفكر في زوالها عنك وقت الكبر عندما تنحل قوتك ويضعف جسمك.
نَساقَطُ أَسْنَانٌ وَيَضْعُفُ نَاظِرٌ ... وَتَقْصُرُ خُطْوَاتٌ وَيَثْقُل مَسْمَعُ
قال الله جل وعلا وتقدس: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ( [الروم: 54].
وقال وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره.
بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أينما كانت فمدار تعبده عليها فلا يزال متنقلاً في منازل العبودية كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها واشتغل بها.(1/130)
اللهم وفقنا لسلوك سبيل أهل الطاعة وارزقنا الثبات عليه والاستقامة وعافنا من موجبات الحسرة والندامة وأمنا من فزع يوم القيامة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
8- موعظة
اسمع يا غائب في صلاته، يا شتيت الهم في جهاته يا مشغولاً بآفاته عن ذكر وفاته، يا قليل الزاد مع قرب مماته.
يا من يرحل عن الدنيا في كل لحظة مرحلة، وكتابه قد حوى حتى مقدار الخردلة، وما ينتفع بالنذير والنذر متصلة.
وما يرعوي لنصيح وكم قد عذله، ودرعه متخرقة والسهام مرسلة، ونور الهدى قد يُرى وما رآه ولا تأمله وهو يأمل البقاء وقد رأى مصير من أمله.
وأجله قد دني ولكن أمله قد شغله، وقد عكف على العيب بعد الشيب بصبابة ووله، ويحضر بدنه في الصلاة وأما القلب فقد أهمله.
كن كيف شئت فبين يديك الحساب والزلزلة، ونعم جسمك فلا بد للدود أن يأكله.
يا عجبًا من فتور مؤمن بالجزاء والمسألة، أيقين بالنجاة أم غرور وبله، بادر ما بقي من عمرك واستدرك أوله، فبقية عمر المؤمن لا قيمة له.
وَمُسْنَدُوْنَ تَعاقَروا كَأْسَ الرَّدي ... وَدَعَا بِشُرْبهُم الحِمَامُ فَأسُرَعُوْا
بَرَكَ الزَّمانُ عَلَيْهُمُوْا بِجِرَانِهِ ... وَهَفَتْ بِهم رِيحُ الخُطُوب الزَّعْزَعُ
خُرُسٌ إِذَا نَادَيْتَ إِلَّا أَنَّهُمْ ... وعَظُوْا بِمَا يَزِعُ اللَّبِيْبَ فَأَسْمَعُوْا
والدَّهْرُ يَفْتِكُ بالنُفُوسِ حَمامُهُ ... فَلِمَنْ تُعَدُّ كَرِيْمَةٌ أَوْ تُجْمَعُ
عَجَبًا لِمَنْ يُبْقِي ذَخَائِرَ مَالِهِ ... وَيَظَلُّ يَحْفظُهُنَّ وهْوَ مُضَيَّعُ
وِلِغَافِلٍ وَيَرَى بِكُلِّ ثَنِيَّةٍ ... مُلْقًى لَه بَطْنُ الصَّحَائِفِ مَضْجَعُ
أَتَراهُ يحْسُب أنَّهُم مَا أسْأَرُوْا ... مِن كَأسِهِ أَضْعَافَ مَا يَتَجرَّعُ(1/131)
عباد الله كم أخلى الموت دارًا، وترك المعمور قفارًا، كم أوقد من الأسف في الجوانح نارا، وكم أذاق الغصص المرة مرارا.
لقد جال يمينًا ويسارًا فما حابى فقرًا ولا يسارًا، أين الجيش العرموم، أين الكبير المعظم، ألحق الأخير بمن تقدم.
قال محمد بن كعب القرظي إنما الدنيا سوق خرج الناس منها بما يضرهم وبما ينفعهم.
وكم اغتر ناس فخرجوا ملومين واقتسم ما جمعوا من لم يحمدهم وصاروا إلى من لا يعذرهم.
فيحق لنا أن ننظر إلى ما نغبطهم به من الأعمال فنعملها، وإلى ما نتخوف فنتجنبها.
ذَهَبَ الشَّبَابُ بِجْهلِهِ وَبعارِهِ ... وَأَتَى المَشِيْبُ بِحِلْمِهِ وَوَقَارِهِ
شَتَّانَ بَيْنَ مُبِعِّدٍ مِن رَبَّهِ ... بِغُرُورِهِ وَمُبَشِّرٍ بِجِوارِهِ
مَا زِلْت اَمُرَحُ بالشبابِ جَهَالَةً ... كَالطَّرْفِ يَمْرَحُ مُعْجَبًا بِعِذَارِهِ
وسَحَبْت أثواب البَطَالَةِ لاهِيًا ... وَجَررت مِن بَطَرٍ فُضولَ أَزارِهِ
حتى تَقَلْصَ ظِلُه فَتكشَفَتْ ... عَوْرَاتُه وبَدَا قبيحُ عَوَارِهِ
لَمْ أُحْظَ مِنْهُ بِطَائِلٍ غَيْرُ الأسَى ... وتَنَدمٌ مِنِّي عَلَى أَوْزَارِهِ
والآنَ قَدْ خَطَّ المشيبُ بِمَفْرقِي ... بِمَوَاعِظٍ والحقُّ في تَذْكَارِهِ
وَالنَّفْسُ تَرْكَبُ غيَّهَا لا تَرعَوي ... عنه ولا تُصْغِ إلى إِنْذَارِهِ
لَهْفِي عَلى عُمْر يَمُرُّ مُضَيَّعًا ... مُحْصًى على بلَيْلِهِ ونَهَارِهِ
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ميدانكم نفوسكم فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإن خذلتم فيها كنتم على غيرها أعجز، فجربوا معها الكفاح أولاً.
كان سفيان الثوري ما ينام إلا أول الليل، ثم ينتفض فزعًا مرعوبًا ينادي النار النار شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات.
ثم يتوضأ ويقول على أثر وضوئه، اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار.(1/132)
قال عمر بن عبد العزيز أيها الناس إنما يراد الطبيب للوجع الشديد، ألا فلا وجع أشد من الجهل ولا داء أخبث من الذنوب ولا خوف أخوف من الموت.
يروى عن الأصمعي قال قرأت «والسارق والسارقة قاطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله» والله غفور رحيم.
وبجنبي أعرابي فقال كلام من هذا فقلت كلام الله.
قال أعد فأعدت فقال ليس هذا كلام الله، فانتبهت فقرأت "والله عزيز حكيم".
فقال أصبت هذا كلام الله، فقلت أتقرأ القرآن، قال لا فقلت من أين علمت.
فقال يا هذا عز فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع.
كان أحد العلماء له وظيفة يأخذ عليها رابت جيد فاتفق أنه كان يأكل يومًا مع أصحابه طعامًا فجاء قط فرموا له شيئًا فأخذه وذهب سريعًا.
ثم رجع فرموا له أيضًا شيئًا فانطلق به سريعًا ثم جاء أيضًا فرموا له شيئًا فعلموا أنه لا يأكل هذا كله فتبعوه فإذا هو يذهب به إلى قط آخر أعمى في سطح هناك فتعجبوا من ذلك.
فقال الشيخ يا سبحان الله هذا حيوان بهيم قد ساق الله إليه رزقه على يد غيره أفلا يرزقني وأنا عبده وأعبده.
ثم ترك ما كان له من الراتب وجمع حواشيه.
وأقبل على العبادة والملازمة في غرفة في جامع عمرو بن العاص إلى أن مات.
وكتب بعضهم إلى أخ له إياك وتأمير التسويف على نفسك وإمكانه من قلبك، فإنه محل الكلال وموئل التلف وبه تنقطع الآمال وفيه تنقطع الآجال وبادر يا أخي فإنه مبادر بك وأسرع فإنه مسرع بك وجد فإن الأمر جد وتيقظ من رقدتك وانتبه من غفلتك.
وتذكر ما أسلفت وقصرت وفرطت وجنيت وعملت فإنه مثبت محصى فكأنك بالأمر قد بغتك فاغتبط بما قدمت أو ندمت على ما فرطت.
ثم اعلم أن في التسويف وتأخير الواجب آفات منها أنك لا تضمن أن تعيش إلى الغد ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه الحوادث برغم تقدم الطب وتوفر النعم وتقدم العلم.(1/133)
ولكن لا يمنع ذلك الموت بسبب الحوادث التي لا تحصى كل يوم من أسباب أدواب الحضارة: السيارات والطائرات والآلات والأجهزة الميكانيكية والكهربائية والقز والنفط وغيرها بل العلم هو الذي نشأت عنه هذه الأسباب بإذن الله حيث كان الإنسان قبل حصول هذه في أمان منها.
ثانيًا: إنك إن بقيت إلى الغد لا تأمن من المعوقات من مرض طارئ أو شغل عارض أو بلاء نازل به فلهذا ينبغي للعاقل الحازم أن يبادر إلى اغتنام الفرص وفعل الخيرات وأداء الواجبات وكان العجز أن تؤخر وتؤجل حتى تفوتك الفرصة وتشكو من الغصة وقد قيل:
ولا تُؤَخِّرْ إذَا مَا حَاجَةٌ عَرَضَتْ ... فَهُمْ يَقولُونَ لِلتَّأَخير آفَاتُ
آخر:
عَليكَ بَأَمْرِ اليومِ لا تَنْتَظِرْ غَدًا ... فَمَنْ لغَدٍ مِن حَادثٍ بِكَفِيْلٍ
آخر:
وَلا أُأَخِرُ شُغْل اليوم عن كَسَلٍ ... إلى غَدٍ إِنَّ يَوْمَ العَاجزينَ غَدُ
اللهم يا خالق الخلق يا قيوم نسألك بأسمائك الحسنى أن تنصر الإسلام والمسلمين وأن تعلي بفضلك كلمة الحق والدين وأن تشمل بعنايتك وتوفيقك كل من نصر الدين وأن تملأ قلوبنا بمحبتك ومحبة من يحبك وأن تأخذ بنواصينا إلى ما ترضاه وأن ترزقنا الاستعداد لما أمامنا وأن تهون أمر الدنيا علينا وأن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى أهله وصحبه أجمعين.
(فصل)
قال بعضهم أعجب حالات الإنسان أنه يحسب لكل شيء حسابًا ويستعد له يخشى الفقر فيدخر له المال ويخشى البرد فيستعد له والحر كذلك.
ويخشى الشيخوخة والكبر فيسعى في تحصيل الأولاد لعلهم يخدمونه عند العجز ويخلفونه في شؤونه الدنيوية والأخروية وهكذا.
لكنه لا يدخل الموت الذي ربما فاجأه في حسابه فلا يستعد له مع أنه يشاهد الموتى يذهبون ولا يعودون.
وهو مهدد بالموت في كل ساعة خصوصًا في زمننا الذي كثرت فيه أسباب موت الفجأة نسأل الله أن يوقظ قلوبنا للاستعداد له.(1/134)
وقال علي رضي الله عنه: أيها الناس اتقوا الله الذي إن قلتم سمع وإن أضمرتم علم، وبادروا الموت الذي إن هربتم عنه أدرككم، وإن أقمتم أخذكم، وإن نسيتموه ذكركم.
وقال رضي الله عنه: إذا كنت في إدبار الموت في إقبال فما أسرع الملتقى.
وقال آخر: الدنيا كطريق فيه شوك مغطى بالتراب يدوسه من لا يعرف مسلكه فينخسه ويضره ويؤلمه ويقف عنه من استراب به فيسلم من شره.
وقال من مال إلى الدنيا تعجل التعب فيها وكان على يقين من فنائه.
وقال ما أغفل من تيقن بالرحيل عن الدنيا وهو منهمك مجتهد في عمارتها والجدير بالعاقل أن يجعل جل أوقاته للآخرة ولا ينسى نصيبه من الدنيا.
فمن جعل همه كله للدنيا ضيع نفسه، وفعل السبب لا ينافي التوكل قال - صلى الله عليه وسلم -: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا». رواه الترمذي.
ففي الحديث دلالة على طلب الرزق الكفاف وعمارة الآخرة تفيد الراحة في الدنيا والنعيم في الآخرة وعمارة الدنيا تكسب التعب فيها والشقاء بعد مفارقتها.
والآخرة صبر قليل وسرور طويل.
وقال آخر: الموت راحة لمن كان عبد شهوته ومملوك هواه لأنه كلما طالت حياته كثرت سيئاته وانبثت في العالم جناياته.
وقال: الموت محمود على كل حال للبر والفاجر، فأما البر فيصل إلى ما قدم من صالح أعماله وجميل أفعاله، وأما الفاجر فيستريح العالم من فجوره وشروره ويقل تزيده من الأوزار.
وختامًا فإن الإنسان عند موته ينكشف له الحجاب فإن كان ممن رضي الله عنه ينكشف له من سعة رحمة الله وجلاله ما تكون الدنيا بالإضافة إليه كالسجن المضيق.
يفتح له باب إلى الجنة ويأتيه من روحها وريحانها ويوسع له قبره مد بصره.
وإن كان من أهل الشقاء فيرى نفسه محفوفة بالمخازي والفضائح والأنكال ويضيق عليه قبره. ويفتح له باب إلى النار ويأتيه من حرها وسمومها نعوذ بالله من ذلك.(1/135)
والعجب من غفلتنا وهذه العظائم بين أيدينا وأعجب من ذلك فرحنا بأموالنا وأهلينا وأولادنا وأصدقائنا مع العلم أننا سنفارق الجميع ولكننا في غفلة ولو لم يكن للعاقل هم ولا غم إلا التفكر والتأمل في خطر تلك الحالة وهول المطلع لكان كافيًا في استغراق جميع العمر ولكن ما عرف قدر العمر وعرف الدنيا حقيقة إلا أفراد من الآلاف الذي تمسكوا بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين جعلوا الدنيا مطية للآخرة نسأل الله العظيم أن يوفقنا لسلوك طريقهم وأن يجزيهم عنا وعن جميع المسلمين خيرًا، اللهم طهر قلوبنا من النفاق والحسد والكبر والعجب والرياء وأعيننا من الخيانة فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين وارحمنا برحمتك الواسعة يا رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال بعضهم موبخًا نفسه:
دَعِ التَّشَاغُلَ بالْغِزْلَانِ وَالغَزَلِ ... يَكْفِيكَ مَا ضَاعَ مِنْ أَيَّامِكَ الأَوَلِ
ضَيَّعْتَ عُمْرَكَ لا دُنْيَا ظَفْرِتَ بِهَا ... وَكُنْتَ عَنْ صَالِحٍ الأَعمَالِ في شُغُلِ
تَرَكْتَ طُرْقَ الهُدَى كالشمسِ واضِحَةٍ ... وَمِلْتَ عنها لِمُعْوَجٍّ مِنَ السُّبُلِ
وِلم تَكُنْ نَاظَرًا في أمْرِ عَاقَبَةٍ ... أَأنْتَ في غَفْلَةٍ أم أَنْتَ في خَبَلِ
يَا عَاجِزًا يَتَمَادَى في مُتَابَعَةِ النَّـ ... نَفْسِ اللجُوجِ ويَرْجُو أَكْرَمَ النُّزلِ
هِلا تَشَبَّهْتَ بالأكياسِ إِذْ فَطِنُوا ... فَقَدَّمُوا خَيْرَ مَا يُرْجَى مِنَ العَمَلِ
فَرَّطْتَ يَا صَاحِ فَاسْتَدْرِكْ عَلَى عَجَلٍ ... إِن المَنِيَّةَ لا تَأتِي عَلَى مَهَلِ
هَلْ أَنْذَرَتْكَ يَقِينًا وَقْتَ زَوْرَتِهَا ... أَوْ بَشَّرَتْكَ بِعُمْر غَيْرِ مُنْفَصِلِ
هَيْهَات هَيْهَاتَ مَا الدُّنْيَا بِبَاقِيَةٍ ... ولا الزَّمَانُ بِمَا أمَّلْتَ فيه مَلي(1/136)
لا تَحْسَبَنَّ الليَالِي سَالَمَت أَحَدًا ... صَفْوًا فَمَا سَالَمَتْ إِلا على دَخَلِ
ولا يَغُرَّنْكَ مَا أوِليتَ مِنْ نِعَمٍ ... فَهَلْ رَأَيْتَ نَعِيمًا غَيْرَ مُنْتَقِلِ
كَمْ مِن فَتَى جَبَرَتْهُ بَعْدَ كَسْرَتِهِ ... فَقَابَلَتْهُ بِجُرْحٍ غَيْرِ مُنْدَمِلِ
إِلَامَ تَرْفُلُ في ثَوْبِ الغُرُورِ عَلَى ... بُسَاطِ لَهْوَكَ بَيْنَ التِّيهِ والجَذَلِ
والشَّيْبُ وَافَاكَ مِنْهَ نَاصِحٌ حَذِرٌ ... فَمَا بِهِ كُنْتَ إِلا غَيْرَ مُهْتَبِلِ
وَلَمْ تُرَعْ مِنْهُ بَلْ أَصْبَحْتَ تَنْشُدُهُ ... إِنِّي أَتَّهَمْتُ نَصِيحَ الشَّيْبِ في عَذَلِ
وَسِرْتَ تَطْلُبُ حَظَّ النَّفْسِ مِنْ سَفَهٍ ... فَبَهْجَةُ العُمْرِ قدْ وَلَّتْ وَلَم تَصِلِ
وَمَالَ عَصْرُ التَّصَابِي مِنْكَ مُرْتَحِلاً ... وَحَالةٌ عَنْ طَرِيقِ الغَيِّ لَمْ تَحُلِ
أَقْسَمْتُ بِالله لو أَنْصَفْتَ نَفْسُكَ مَا ... تَرَكْتَهَا بِاكْتِسَابِ الوِزْرِ في ثِقَلِ
اَمَا عَلِمْتَ بأنَّ الله مُطَّلِعٌ ... عَلَى الضَّمَائِرِ وَالأَسْرَارِ والحِيَلِ
وكُلُّ خَيْرٍ وَشَرٍّ أَنْتَ فَاعِلُهُ ... يُحْصَى وَلَو كُنْتَ فِي الأَسْتَارِ وَالكَلَلِ
أَمَا اعْتَبَرْتَ بِتَرْدَادِ المَنُونِ إِلى ... هَذِي الخَلِيقَةِ في سَهْلٍ وَفِي جَبَلِ
وَسَوْفَ تَاتي بِلا شَكٍّ إِليكَ فَمَا ... أَخِّرْتَ عَمَّنْ مَضَى إِلا إِلى أَجَلِ
لكِنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَدَيْكَ فَخُذْ ... بالحزْمِ وانْهَضْ بِعَزْمٍ مِنْكَ مُكْتَمِلِ
دَعِ البَطَالَةَ وَالتَّفْرِيطَ وَابْكِ على ... شَرْخِ الشَّبَابِ الذي وَلَّى وَلَم يَطُلِ
وَلَم تُحَصِّلْ بِهِ عِلْمًا ولا عَمَلاً ... يُنْجِيكَ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الحَادِثِ الجَلِلِ
وَابْخَل بِدِينكَ لا تَبْغِي به عِوَضًا ... وَلَوْ تَعَاظَمْ وَاحْذَرْ بَيْعَةَ السِّفَلِ(1/137)
واتْلُ الكِتَابَ كِتِابَ الله مُنْتَهيًا ... عَمَّا نَهَى وتَدَبَّرْهُ بِلا مَلَلِ
وَكُلُّ مَا فِيْهِ مِن أَمْرٍ عَلَيْكَ بِهِ ... فَهْوَ النَّجَاةُ لتَاليهِ مِنَ الضُلَلِ
وَلازِمِ السُّنَّةَ الغَرَّاءَ تَحْظَ بِهَا ... وَعَدِّ عَنْ طُرُقِ الأَهْوَاءِ واعْتَزِلِ
وَجَانِبِ الخَوْضَ فِيمَا لَسْتَ تَعْلَمُهُ ... وَاحْفَظْ لِسَانَكَ واحْذَرْ فِتْنَةَ الجَدَلِ
وكُنْ حَريصًا على كَسْب الحَلَالِ وَلَوْ ... حَمَّلْتَ نَفْسُكَ فِيْه غَيْرَ مُحْتَملِ
واقنَعْ تَجدْ غُنْيَةً عن كل مَسْألَةٍ ... فَفِي القَنَاعَةِ عِزٍّ غَيْرُ مُرْتَحِلِ
واطْلُبْ مِنَ الله واتْرُكْ مَنْ سِوَاهُ تَجدْ ... مَا تَبْتَغِيهِ بِلا مَنٍّ وَلاَ بَدَلِ
ولا تُدَاهِنْ فَتىً مِنْ أَجْلِ نِعْمَتِهِ ... يَوْمًا وَلَوْ نِلْتَ مِنْهُ غَايَةَ الأمَلِ
واعْمَلْ بِعِلْمِكَ لا تَهْجُرْهُ تَشْقَ بِهِ ... وانْشُرْهُ تَسْعَدْ بِذِكْرٍ غَيْرِ مُنْخَذِلِ
وَمَن أَتَى لَكَ ذَنْبًا فَاعْفُ عَنْهُ وَلا ... تَحْقُدْ عَلَيْهِ وفي عُتْبَاهُ لا تَطُلِ
عَسَاكَ بِالعَفْوِ أَنْ تُجْزَى إذَا نُشِرَتْ ... صَحَائِفٌ لَكَ مِنْهَا صِرْتَ في خَجَلِ
وَلَا تَكُنْ مُضْمِرًا مَا لَسْتَ تُظْهُرُهُ ... فَذَاكَ يَقْبحُ بَيْنَ النَّاسِ بالرَّجُلِ
ولا تَكُنْ آيِسًا وارْجُ الكَرِيمَ لِمَا ... أَسْلَفْتَ مِنْ زَلَّةٍ لَكِنْ عَلَى وَجَلِ
وَقِفْ عَلَى بَابِهِ المَفْتُوحِ مُنْكَسِرًا ... تَجْزِمْ بِتَسْكِينِ مَا فِي النَّفْسِ مِن عِلَلِ
وارْفَعْ لَهُ قِصَّةَ الشَّكوَى وسَلْهُ إِذَا ... جُنَّ الظَّلامُ بِقَلْبٍ غَيْرِ مُشْتَغِلِ
ولازِمِ البَابَ واصْبِرْ لا تَكُنْ عَجِلاً ... واخْضَعْ لَهُ وتَذَلَّلْ وَادْعُ وابْتَهِلِ
وَنَادِ يَا مَالِكِي قَدْ جِئْتُ مُعْتَذِرًا ... عَسَاكَ بِالعَفْوِ والغُفْرَانِ تَسْمَحُ لِي(1/138)
فَإِنَّنِي عَبْدُ سِوْءٍ قَدْ جَنَى سَفَهًا ... وَضَيَّعَ العُمْرَ بَيْنَ النَّومِ والكَسَلِ
وغَرَّهُ الحِلْمُ والإِمْهَالُ مِنْكَ لَهُ ... حَتَّى غَدَا في المَعَاصِي غَايَةَ المُثُلِ
وَلَيْسَ لِي غَيْرُ حُسْنِ الظَّنِّ فِيكَ فَإِنْ ... رَدَدْتَنِي فَشَقَاءٌ كَانَ فِي الأَزَلِ
حَاشَاكَ مِنْ رَدِّ مِثْلِي خَائِبًا جَزِعًا ... والعَفْوُ أَوْسَعُ يَا مَوْلاي مِنْ زَلَلي
وَلَمْ أكُنْ بِكَ يَومًا مُشْركًا وإلى ... دينٍ سِوَى دينكَ الإِسْلامِ لَمْ أمِلِ
وكَانَ ذَلكَ فَضْلاً مِنْكَ جُدْتَ بِهِ ... وَلَيْسَ ذَاكَ بِسَعْي كَانَ مِنْ قِبَلي
الله اعتقنا من رق الذنوب، وخلصنا من أشر النفوس، وأذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذنوب، وباعد بيننا وبني الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم.
اللهم طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مع المرحومين من أوليائك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، واجعلنا من حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فوائد ومواعظ وإرشادات وأحكام
قال ابن مسعود رضي الله عنه إني لأكره أن أرى الرجل فارغًا لا في أمر دنياه ولا في أمر دينه.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة.
وكان محمد بن مسلمة يغرس في أرضه فقال عمر رضي الله عنه أصبت استغن عن الناس يكون أصون لدينك وأكرم لك عليهم.
وسئل إبراهيم النخعي عن التاجر الصدوق أهو أحب إليك أم المتفرغ للعبادة.
قال التاجر الصدوق أحب إلي لأنه في جهاد يأتيه الشيطان من طريق المكيال والميزان، ومن قبل الأخذ والعطا فيجاهده.(1/139)
وقيل للإمام أحمد ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده وقال لا اعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي.
فقال أحمد هذا رجل جهل العلم أما سمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي».
وقوله - صلى الله عليه وسلم - حين ذكر الطير: «تغدوا خماصًا وتروح بطانا» فذكر أنها تغدوا في طلب الرزق.
وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم والقدوة بهم.
وجاءت ريح عاصفة في البحر فقال أهل السفينة لإبراهيم بن أدهم رحمه الله وكان معهم في السفينة.
أما ترى هذه الشدة فقال ما هذه شدة إنما الشدة الحاجة إلى الناس.
وروي أن الأوزاعي لقي إبراهيم بن أدهم وعلى رأسه حزمة حطب فقال يا أبا إسحاق إلى متى هذا إخوانك يكفونك.
فقال دعني عن هذا يا أبا عمرو فإنه بلغني أنه من وقف موقف مذلة في طلب الحلال وجبت له الجنة.
وقال أبو سليمان الداراني ليس العبادة عندنا أن تصف قدميك، وغيرك يقوت لك، ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبد. اهـ.
فالإنسان البصير يتسبب ويسترزق الله ويبيع ويشتري بإخلاص ونصح لنفسه وللمسلمين.
كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان قسم منها قيمة الحلة أربعمائة، وقسم قيمة الحلة مئتان.
فذهب مبادرًا إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة.
فعرض عليه من حلل المئتين فاستحسنها ورضيها فاشتراها بأربعمائة وذهب بها.
فلقيه يونس فقال بكم اشتريت هذه فقال بأربع مائة فقال لا تساوي أكثر من مائتين فارجع حتى تردها.
فقال هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا ارتضيتها فقال له يونس انصرف فإن النصح في الدين خير من الدنيا وما فيها.
ثم رده إلى الدكان ورجع عليه مئتي درهم ووبخ ابن أخيه وقال له أما استحييت أما اتقيت الله تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين.
فقال والله ما أخذها إلا وهو راض بها قال فهلا رضيت له ما ترضاه لنفسك.(1/140)
وكان يونس بن عبيد المذكور التابعي خزازًا (أي يبيع الخز) فطلب منه المشتري خزًا للشراء.
فأخرج غلامه سفط الخز ونشره ونظر إليه وقال اللهم ارزقنا الجنة.
فقال لغلامه رده إلى موضعه ولم يبعه، لأنه خاف أن يكون كلام الغلام تعريضًا بالثناء على السلعة ومدحًا لها فيكون من باب الغش والخداع.
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعاتب التي تعلمها منا، وامنن علنيا يا مولانا بتوبة تمحو بها عنا كل ذنب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وكان لمحمد بن المنكدر قطع قماش بعضها بخمسة وبعضها بعشرة فباع غلامه قطعة من القطع التي على خمسة بعشرة.
فلما علم محمد بذلك ذهب يطلب الذي اشترى من غلامه ليرد عليه خمسة فلم يزل يطلبه طول النهار حتى وجده.
فقال له إن الغلام قد غلط باعك ما يساوي خمسة بعشرة.
فقال يا هذا أنا قد رضيت فقال له وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا.
فاختر إحدى ثلاث خصال إما أن تأخذ بدلها من القطع التي على عشرة بدراهمك وإما نرد عليك خمسة وإما أن ترد القطعة وتأخذ دراهمك.
فقال أعطني خمسة فرجع عليه خمسة وأخذها وانصرف.
فقال من هذا الرجل الناصح لنفسه وللمسلمين فقالوا هذا محمد بن المنكدر رحمه الله. هذا من رقم واحد في الزهد والورع.
وكان ليونس بن عبيد غلام يجهز إليه السكر فكتب إليه مرة أن قصب السكر قد أصابته آفة هذه السنة فاشتر السكر قال فاشترى سكرًا كثيرًا.
فلما جاء وقته ربح فيه ثلاثين ألفًا فانصرف إلى منزله، فأفكر ليلته وقال ربحت ثلاثين ألفًا وخسرت نصح رجل من المسلمين.(1/141)
فلما أصبح غدا إلى بائع السكر فدفع إليه ثلاثين ألفًا وقال بارك الله لك فيها فقال من أين صارت لي فقال إني كتمتك حقيقة الحال وكان السكر قد غلا في ذلك الوقت.
فقال رحمك الله قد أعلمتني الآن وقد طيبتها لك قال فرجع بها إلى منزله وتفكر وبات ساهرًا وقال ما نصحته فلعله استحيا مني فتركها لي.
فبكر إليه من الغد وقال عافاك الله خذ مالك إليك فهو أطيب لقلبي فأخذ منه ثلاثين ألفًا. هذا من رقم واحد في الورع والزهد.
ونقل عن بعض الورعين أنه اشترى كر لوز وهو ستون قفيزًا بستين دينارًا. وكتب في دفتره ثلاثة دنانير ربحه. وكأنه رأى أن يربح على العشرة نصف دينار فصار اللوز بتسعين.
فأتاه الدلال فطلب اللوز فقال خذه قال بكم قال بثلاثة وستين دينارًا.
فقال الدلال وكان من الصالحين الورعين قد صار اللوز بتسعين.
فقال قد عقدت عقدًا لا أحله لست أبيعه إلا بثلاث وستين.
فقال الدلال وأنا عقدت بيني وبين الله ألا أغش مسلمًا لست آخذه منك إلا بتسعين.
فتفرقا بدون بيع.
كل منهما ما يريد أن يفسد نيته وهذا من رقم واحد في الورع.
وباع ابن سيرين شاة فقال للمشتري إن فيها عيبًا "إنها تقلب العلف برجلها" قلت فعلى المسلم الناصح أن يبين لأخيه المسلم كل ما يعلمه في المبيع من العيوب ككون الدابة تأكل العذرة أو تأكل الخرق أو ما تحلب إلا على نوع من الطعام.
ويحكى أن واحدًا كان له بقرة يحلبها ويخلط لبنها بالماء ويبيعه فجاء سيل فغرق البقرة.
فقال أحد أولاده إن تلك المياه المتفرقة التي غشينا فيها اللبن اجتمعت دفعة واحدة فأغرقت البقرة.
وعن أحد التابعين أنه قال لو دخلت الجامع وهو غاص بأهله وقيل لي من خير هؤلاء لقلت أنصحهم لهم، فإذا قالوا هذا قلت هو خيرهم.
ولو قيل لي من شرهم قلت أغشهم لهم فإذا قيل هذا قلت هو شرهم.
وباع الحسن بن صالح وهو من رجال البخاري جارية فقال للمشتري إنها تنخمت عندنا دمًا.(1/142)
وختامًا فعلى المسلم أن يجتنب بيع المنكرات والملاهي كالصور والتلفاز والفيديو وجميع المحرمات والمنكرات وأواني الذهب والفضة لمن يستعملها.
والدخان وأوراق اللعب والطبول والمزامير وكل ما يشغل عن طاعة الله أو يعين على معاصي الله.
وينصح من يتعاطى هذه وأمثالها نسأل الله أن يعافينا وجميع المسلمين.
تَورَّعْ وَدَعْ مَا إِنْ يُريْبُكَ كُلَّهُ ... جَمِيْعًا إِلَى مَا لا يَرِيْبُكَ تَسْلَمِ
وَحَافِظْ عَلَى أَعْضائِكَ السَّبْعِ جُمْلَةً ... وَرَاعِ حُقُوقَ اللهِ فِي كُلِّ مُسْلِمِ
وَكُنْ رَاضِيًا بِاللهِ رَبًّا وَحَاكِمًا ... وَفَوِّضْ إِلَيْهِ في الأَمُوْر وَسَلِّمِ
اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
عن أبي برزة الأسلمي أن جليبيبا كان امرأ من الأنصار، وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان لأحدهم أيم (أي لا زوج لها) لم يزوجها حتى يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل له فيها حاجة أم لا؟
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم لرجل من الأنصار: يا فلان زوجني ابنتك. قال: نعم ونعمة عين. قال: إني لست لنفسي أريدها قال: لمن؟ قال: لجليبيب. قال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أستأمر (أي أشاورها) وأمها.
فأتاها فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب ابنتك. قالت: نعم ونعمة عين، زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال: إنه ليس لنفسه يريدها. قالت: فلمن؟ قال: لجليبيب. قالت: حلقى ألجليبيب؟ لا لعمر الله لا أزوج جليبيًا.(1/143)
فلما قام أبوها ليأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت الفتاة من خدرها لأبويها: من خطبني إليكما؟ قالا: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: أفتردون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره؟ ادفعوني إلى رسول الله فإنه لن يضيعني.
فذهب أبوها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: شأنك بها. فزوجها جليبيبا.
قال إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة لثابت: أتدري ما دعا لها به النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: وما دعا لها به النبي عليه السلام؟
قال: اللهم صب عليها الخير صبًا ولا تجعل عيشها كدًا كدًا.
قال ثابت: فزوجها إياه، فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مغزى له قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلانًا ونفقد فلانًا ونفقد فلانًا.
ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلانًا ونفقد فلانًا.
ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا.
قال: لكني أفقد جليبيبا فطلبوه في القتلى.
فنظروا فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا مني وأنا منه، أقتل سبعة ثم قتلوه هذا مني وأنا منه أقتل سبعة ثم قتلوه هذا مني وأنا منه.
فوضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ساعديه ثم حفروا له ما له سرير إلا ساعدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى وضعه في قبره.
لله در هذه الأنفس فما أعزها وهذه الهمم فما أرفعها؟
وَلَمَّا رَأوَا بَعْضَ الحَياةِ مَذلةً ... عليهم وعِز الموتِ غَيرَ مُحَرَّمِ
أَبْوا أنْ يَذُوقُو العَيْشَ والذَمُّ وَاقعُ ... عليه وماتُوا مِيْتَةً لَمْ تُذَمَّمِ
ولا عَجَبٌ لِلأَسْدِ إِنْ ظَفِرَتْ بِهَا ... كِلابُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعَجَمِ
فَحَرْبةُ وحْشِىٍّ سَقَتْ حَمزةَ الرَّدَى ... وَحَتْفُ عَلىٍّ في حُسَامِ ابن مُلْجَمِ(1/144)
روى مسلم في أفراده من حديث أنس بن مالك قال: انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى بدر حتى سبقوا المشركين، وجاء المشركون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض».
قال: عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟! قال: نعم. قال: بخ بخ يا رسول الله. فقال: ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال [لا] والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها.
قال: فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكلهن ثم قال: إن أنا حييت حتى أكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قُتل.
قال الواقدي: لما أراد عمرو بن الجموح الخروج إلى أحد، منعه بنوه، وقالوا: قد عذرك الله. فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن بني يريدون حبسي عن الخروج معك وإني لأرجو أن أطأ بعرجتي [هذه] في الجنة، فقال: "أما أنت فقد عذرك الله" ثم قال لبنيه: لا عليكم أن لا تمنعوه لعل الله عز وجل يرزقه الشهادة. فخلوا سبيله.
قالت امرأته هند بنت عمرو بن خزام: كأني أنظر إليه موليًا، قد أخذ درقته وهو يقول: اللهم لا تردني إلى خربي وهي منازل بني سلمة.
قال أبو طلحة: فنظرت إليه حين انكشف المسلمون ثم ثابوا، وهو في الرعيل الأول، لكأني أنظر إلى ضلع في رجله وهو يقول: أنا والله مشتاق إلى الجنة!.
ثم أنظر إلى ابنه خلاد [وهو] يعدو [معه] في أثره حتى قتلا جميعًا.
وفي الحديث أنه دفن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمر و أبو جابر في قبر واحد، فخرب السيل قبورهم، فحفر عنهم بعد ست وأربعين سنة فوجدوا لم يتغيروا كأنهم ماتوا بالأمس.
عن أنس بن مالك قال: كنا جلوسًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه بيده الشمال.(1/145)
فلما كان الغد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى. فلما كان اليوم الثالث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل مقالته أيضًا فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى فلما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - تبعه عبد الله بن عمرو، فقال: إني لاحيت أبي، فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت. قال: نعم".
قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئًا غير أنه إذا تعار تقلب على فراشه ذكر الله عز وجل، وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر.
قال عبد الله: غير أني لم أسمعه إلا خيرًا، فلما مضت الثلاث الليالي، وكدت أن احتقر عمله.
قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لك ثلاث مرات: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث المرات، فأردت أن آوى إليك.
فأنظر ما عملك، فأقتدى بك، فلم أرك عملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟.
قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه.
فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، رواه أحمد بإسناد على شرط البخاري ومسلم والنسائي.
عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث جيشًا فيهم رجل يقال له: حدير. وكانت تلك السنة قد أصابتهم سنة من قلة الطعام، فزودهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونسى أن يزود حديرًا.
فخرج حدير صابرًا محتسبًا وهو في آخر الركب يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ويقول: نعم الزاد هو يا رب. فهو يرددها وهو في آخر الركب.(1/146)
قال: فجاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: إن ربي أرسلني إليك يخبرك أنك زودت أصحابك ونسيت أن تزود حديرًا، وهو في آخر الركب يقول: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله.
فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فدفع إليه زاد حدير وأمره إذا انتهى إليه حفظ عليه ما يقول، وإذا دفع إليه الزاد حفظ عليه ما يقول، ويقول له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرئك السلام ورحمة الله، ويخبرك أنه كان نسي أن يزودك، وإن ربي تبارك وتعالى أرسل إلى جبريل يذكرني بك، فذكره جبريل وأعلمه مكانك.
فانتهى إليه وهو يقول: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول: نعم الزاد هذا يا رب. قال: فدنا منه ثم قال له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرئك السلام ورحمة الله وقد أرسلني إليك بزاد معي، ويقول: إني إنما نسيتك فأرسل إلى جبريل من السماء يذكرني بك. قال: فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثم قال: الحمد لله رب العالمين، ذكرني ربي من فوق سبع سموات، ومن فوق عرشه، ورحم جوعي وضعفي، يا رب كما لم تنس حديرًا فاجعل حديرًا لا ينساك.
قال: فحفظ ما قال ورجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما سمع منه حين أتاه، وبما قال حين أخبره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما إنك لو رفعت رأسك إلى السماء لرأيت لكلامه ذلك نورًا ساطعًا ما بين السماء والأرض.
وعن محمد بن سعد قال: كان ذو البجادين يتيمًا لا مال له. فمات أبوه ولم يورثه شيئًا، وكفله عمه حتى أيسر.
فلما قدم النبي المدينة جعلت نفسه تتوق إلى الإسلام ولا يقدر عليه من عمه حتى مضت السنون والمشاهد.
فقال لعمه: يا عم إني قد انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمدًا، فأذن لي في الإسلام.
فقال: والله لئن اتبعت محمدًا لا أترك بيدك شيئًا كنت أعطيتكه إلا نزعته منك، حتى ثوبيك.(1/147)
قال: فأنا والله متبع محمدًا وتارك عبادة الحجر، وها ما بيدي فخذه، فأخذ ما أعطاه حتى جرده من إزاره.
فأتى أمه فقطعت بجادًا لها باثنين فأتزر بواحد وارتدى بالآخر ثم أقبل إلى المدينة وكان بورقان فاضطجع في المسجد في السحر.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتصفح الناس إذا انصرف من الصبح فنظر إليه فقال: من أنت؟ فانتسب له، وكان اسمه عبد العزى. فقال: أنت عبد الله ذو البجادين.
ثم قال: انزل مني قريبًا. فكان يكون في أضيافه حتى قرأ قرآنًا كثيرًا.
فلما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك قال: ادع لي بالشهادة. فربط النبي - صلى الله عليه وسلم - على عضده لحى سمرة وقال: اللهم إني أحرم دمه على الكفار.
فقال: ليس هذا أردت.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنك إذا خرجت غازيًا فأخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد، أو وقصتك دابتك فأنت شهيد. فأقاموا بتبوك أيامًا ثم توفي.
قال بلال بن الحارث: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع بلال المؤذن شعلة من نار عند القبر واقفًا بها.
وإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "أدنيا إلي أخاكما. فلما هيأه لشقه في اللحد قال: اللهم إني قد أمسيت عنه راضيًا فارض عنه".
فقال ابن مسعود: ليتني كنت صاحب اللحد.
وعن أبي وائل، عن عبد الله قال: والله لكأني أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك وهو في قبر عبد الله ذي البجادين، وأبو بكر وعمر يقول: أدنيا إلى أخاكما.
وأخذه من القبلة حتى أسكنه في لحده ثم خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وولياهما العمل.
فلما فرغ من دفنه استقبل القبلة رافعًا يديه يقول: "اللهم إني أمسيت عنه راضيًا فارض عنه".
وكان ذلك ليلاً فو الله لوددت أني مكانه، ولقد أسلمت قبله بخمس عشر سنة.(1/148)
عن محمد بن سعد قال: أتى واثلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى معه الصبح. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى وانصرف تصفح أصحابه. فلما دنا من واثلة قال: من أنت؟ فأخبره.
فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت أبايع. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فيما أحببت وكرهت؟ قال: نعم. قال: فيما أطقت؟ قال: نعم. فأسلم وبايعه.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتجهز يومئذ إلى تبوك فخرج واثلة إلى أهله فلقي أباه الأسقع فلما رأى حاله قال: قد فعلتها؟ قال: نعم. قال أبوه: والله لا أكلمك أبدًا.
فأتى عمه فسلم عليه فقال: قد فعلتها؟ قال: نعم. قال: فلامه أيسر من ملامة أبيه وقال: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر.
فسمعت أخت واثلة كلامه فخرجت إليه وسلمت عليه بتحية الإسلام. فقال واثلة: أني لك هذا يا أخية؟ قالت: سمعت كلامك وكلام عمك فأسلمت.
فقال: جهزي أخاك جهاز غاز فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جناح سفر. فجهزته فلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تحمل إلى تبوك وبقي غبرات من الناس وهم على الشخوص.
فجعل ينادي بسوق بني قينقاع: من يحملني وله سهمي؟ قال: وكنت رجلا لا رحلة بي.
قال: فدعاني كعب بن عجرة فقال: أنا أحملك عقبة بالليل وعقبة بالنهار ويدك أسوة يدي وسهمك لي. قال واثلة: نعم.
قال واثلة: جزاه الله خيرًا لقد كان يحملني ويزيدني وآكل معه ويرفع لي حتى إذا بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل.
خرج كعب في جيش خالد وخرجت معه فأصبنا فيئًا كثيرًا فقسمه خالد بيننا فأصابني ست قلائص فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقلت: اخرج رحمك الله فانظر إلى قلائصك فاقبضها.
فخرج وهو يبتسم ويقول: بارك الله لك فيها ما حملتك وأنا أريد أن آخذ منك شيئًا.(1/149)
عن بشر بن عبد الله عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: كنا أصحاب الصفة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما فينا رجل له ثوب.
ولقد اتخذ العرق في جلودنا طرقًا من الغبار، إذ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ليبشر فقراء المهاجرين» ثلاثًا.
عن نعيم بن ربيعة بن كعب قال: كنت أخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع، حتى يصلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء الآخرة.
فأجلس على بابه إذا دخل بيته، أقول: لعلها أن تحدث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجة. فما أزال أسمعه سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله وبحمده حتى أمل فأرجع أو تغلبني عيني فأرقد.
فقال لي يومًا لما رأى من حفتي (أي العناية والخدمة) له وخدمتي إياه، يا ربيعة سلني أعطك. قال: فقلت: أنظر في أمري يا رسول الله ثم أعلمك ذلك.
فقال: ففكرت في نفسي فعلمت أن الدنيا منقطعة وزائلة وأن لي فيها رزقًا سيأتيني، قال: فقلت أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لآخرتي فإنه من الله عز وجل بالمنزل الذي هو به.
فجئته فقال: ما فعلت يا ربيعة؟ فقلت: أسألك يا رسول الله أن تشفع لي إلى ربك فيعتقني من النار.
فقال: من أمرك بهذا يا ربيعة؟ فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أمرني به أحد ولكنك لما قلت سلني أعطك وكنت من الله بالمنزل الذي أنت به نظرت في أمري فعرفت أن الدنيا منقطعة وزائلة وأن لي فيها رزقًا سيأتيني.
فقلت أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لآخرتي. قال: فصمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طويلاً ثم قال لي: إني فاعل فأعني على نفسك بكثرة السجود.
وأخرجا في الصحيحين، من حديث قيس بن عبادة قال: كنت جالسًا في مسجد المدينة في ناس فيهم بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.(1/150)
فجاء رجل في وجهه أثر خشوع، فقال بعض القوم: هذا رجل من أهل الجنة. فصلى ركعتين تجوز فيهما. ثم خرج فاتبعته فدخل منزله فدخلت فأخبرته.
فقال: لا ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدثك لم ذاك؟ رأيت رؤيا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقصصتها عليه.
رأيتني في روضة، وسط الروضة عمود من حديد، أسفله في الأرض وأعلاه عروة.
فقيل لي ارقه. فقلت: لا أستطيع. فجاءني منصف، يعني خادمًا، فقال بثيابي من خلفي، فأخذت بالعروة.
فقصصتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: تلك الروضة الإسلام، وذاك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة، العروة الوثقى، وأنت على الإسلام حتى تموت، والرجل عبد الله بن سلام.
وعن أبي بردة بن أبي موسى قال: قدمت المدينة فأتيت عبد الله بن سلام، فإذا رجل متخشع، فجلست إليه فقال: يا بن أخي إنك جلست إلينا وقد حان قيامنا، أفتأذن؟
اللهم ارحم غربتنا في القبور وأمنا يوم البعث والنشور واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذه قصيدة وعظية ألق لها سمعك
آخر:
انِسْتُ بِلأ واءِ الزمانِ وَذِلِهِ ... فيا عِزَّةَ الدنيا عليكِ سَلامُ
إلىَ كَمْ أُعَانِي تِيْهَهَا ودَلَالَهَا ... أَلَم يَأَنِ عَنْهَا سَلْوةُ وَسَآمُ
وقد أَخْلَقَ الأَيَامُ جِلْبِاب حُسْنِهَا ... وَأضْحَتْ وديبَاجُ البَهَاءِ مَسَامُ
عَلَى حِيْنَ شَيْبٌ قد أَلَمَّ بِمَفْرِقِي ... وعَادَ رُهَامُ الشَّعْرِ وهُوَ ثَغَامُ
طَلائِعُ ضَعْفٍ قَدْ أَغَارَتْ عَلَى القُوَى ... وَثَارَ بِمَيْدَانِ المِزَاجِ قَتَامُ
فَلا هِي في بُرْجِ الجَمَالِ مُقِيْمَةٌ ... ولا أَنَا في عَهْدِ المُجُونَ مُدَامُ
تَقَطَّعَتْ الأَسْبَابُ بَيْنِي وَبَيْنَها ... وَلَمْ يَبْقَ فِيْنَا نِسْبَةٌ وَلِئَامُ
وعادَتْ قَلُوصُ العَزْمِ عَنِّي كَلِيْلَةً ... وَقَدْ جُبَّ مِنْهَا غَارِبٌ وَسَنَامُ(1/151)
كأَنِي بِهَا وَالقَلْبُ زُمَّتْ رِكَابهُ ... وَقُوِّضَ أَبْيَاتٌ لَهُ وَخِيَامُ
وسِيْقَتْ إلى دَارِ الخُمُولِ حُمُولهُ ... يَحُنُّ إليها والدُمُوعُ رُهَامُ
حَنِيْنَ عُجُول غَرَّهَا البَوُّ فَانْثَنَتْ ... إِليْهِ وَفِيْهَا أَنَّةٌ وضُغَامُ
تَوَلَّتْ لَيَالٍ لِلْمَسَرَّاتِ وانْقَضَتْ ... لِكُلِ زَمَانٍ غَايَةٌ وَتَمَامُ
فَسَرْعَانَ مَا مَرَّتْ وَوَلَّتْ وَلَيْتَهَا ... تَدُوْمُ وَلَكِنْ مَا لَهُنَّ دَوَامُ
دُهُورٌ تَقَضَّتْ بِالمسَرَّاتِ سَاعَةً ... وَيَومٌ تَوَلَّى بِالمَسَاءَةِ عَامُ
فَلِلِّهِ دَرُّ الغَمِّ حَيْثُ أَمَدَّنِي ... بِطُولِ حَيَاةٍ وَالهُمُومُ سِهَامُ
أَسِيْرُ بِتَيْمَاءِ التَّحَيُرِ مُفْرَدًا ... وَلِي مَعَ صَحْبِيْ عِشْرَةٌ وَنَدَامُ
وَكَمْ عِشْرَةٍ مَا أوْرَثَتْ غَيْرَ عُسْرَةٍ ... وَرُبَّ كَلامِ في القُلُوبِ كُلامُ
فَمَا عِشْتُ لا أَنْسَى حُقُوقَ صَنِيْعِهِ ... وَهَيْهَاتَ أَنْ يُنْسَى لَدَيَّ ذِمَامُ
كَمَا اعْتَادَ أَبْنَاءُ الزَّمَانِ وَأَجْمَعَتْ ... عَلَيْهِ فِئَامٌ إِثْرَ ذَاكَ قِيَامُ
خَبَتْ نَارُ أَعْلامِ المَعَارِفِ والهُدَى ... وَشُبَّ لِنِيْرَانِ الضَّلالِ ضُرَامُ
وكَانَ سَرِيرَ العِلْمِ صَرْحًا مُمِرَّدًا ... يُنَاغِي القِبابَ السَّبْعَ وَهْيَ عِظامُ
مَتيْنًا رَفيْعًا لا يُطَارُ غُرابُهُ ... عَزيْزًا مَنِيْعًا لا يَكَادُ يُرَامُ
يَلوحُ سَنَا بَرْقِ الهُدَى مِن بُرُوْجِهِ ... كَبَرْقٍ بَدَا بَيْنَ السَّحَابِ يُشَامُ
فَجَرَّتْ عَلَيْهِ الراسِيَاتُ ذُيُولَهَا ... فَخَرَّتْ عُرُوشٌ مِنْهُ ثُمَّ دَعَامُ
وسِيْقَ إلىَ دَارِ المهَانَةِ أَهْلُهُ ... مَسَاقَ أَسَيْرٍ لا يَزَالُ يُضَامُ
كَذَا تَجْرِي الأَيْامُ بَيْنَ الوَرَى عَلَى ... طَرَائِقَ مِنْهَا جائِرٌ وقوامُ
فَما كُلُّ مَا قَدْ قِيْلَ عِلْمٌ وحِكْمَةٌ ... وما كُلُّ أَفْرَادِ الحَدِيْدِ حُسَامُ(1/152)
ولِلْدَّهْرِ ثاراتٌ تَمْرُّ عَلَى الفَتَى ... نَعِيْمٌ وَبُؤْسٌ، صِحَّةٌ وَسَقَامُ
ومَن يَكُ في الدُنيا فَلَا يَعْتِبَنَّهَا ... فَلَيْسَ عَلَيْهَا مُعْتَبٌ وَمَلامُ
أَجِدَّكَ مَا الدنيا وماذَا مَتَاعُهَا ... وَماذَا الذي تَبْغِيْهِ فَهْوَ حُطَامُ
تَشَكَّلَ فِيْهَا كُلُّ شَيءٍ بِشَكْلِ مَا ... يُعَانِدُهُ والنَّاسُ عَنْهُ نِيَامُ
تَرَى النَّقْصَ في زِيِ الكَمَالِ كَأَنَّمَا ... عَلَى رَأَسٍ رَبَّاتِ الحِجَالِ عِمَامُ
فَدَعْهَا ونَعْمَاهَا هَنِيْئًا لأَهِلْهَا ... وَلاتَكُ فِيْهَا رَاعيًا وسَوَامُ
تَعَافُ العَرانِيْنُ السِمَّاطَ عَلَى الخِوى ... إذَا ما تَصَدَّى لِلْطَّعَامِ طَغَامُ
عَلَى أَنَّهَا لا يُسْتَطَاعُ مَنَالُهَا ... لِمَا لَيْسَ فِيْهِ عُرْوَةٌ وَعِصَامُ
ولَوْ أَنْتَ تَسْعَى إِثْرَهَا أَلْفَ حَجَّةٍ ... وَقَدْ جَاوَزَ الطِبْيَيْنِ مِنْكَ حِزَامُ
رَجَعْتَ وَقَدْ ضَلَّتْ مَساعِيْكَ كَلُّها ... بِخُفَيْ حُنَينٍ لا تَزَالُ تُلامُ
هَبْ إِنَّ مَقَالِيْدَ الأُمُورِ مَلَكْتَهَا ... ودَانَتْ لَكَ الدُنْيا وَأَنْتَ هُمَامُ
ومُتِّعْتَ باللذاتِ دَهْرًا بِغِبْطَةٍ ... أَلَيْسَ بِحَتْمٍ بَعْدَ ذَاكَ حِمَامُ
فَبَيْنَ البَرايَا والخُلُودِ تَبَايُنٌ ... وَبَيْنَ المنايَا والنُّفُوسُ لِزَامُ
قَضيَّة انْقَادَ الأَنَامُ لِحكْمِهَا ... وما حَادَ عَنْهَا سَيِدٌ وَغُلامُ
ضرورية تقضي العقولُ بِصدْقها ... سَلْ إن كانَ فيها مِرْيَةٌ وخِصَامُ
سَل الأَرْضَ عن حالِ الملوكِ التي خَلَتْ ... لهم فَوقَ فَوقَ الفرقدين مَقَامُ
بأبوابهم لِلوافِدِين تَراكُم ... باعتابِهم للعاكِفين زِحامُ
تُجْبكَ عن أسرار السيوفِ التي جَرَتْ ... عَليْهم جَوابًا لَيْسَ فِيه كَلامُ
بِأَنَّ المنايَا أَقَصْدَتهُم نِبَالُها ... وما طَاشَ عن مَرْمَى لَهُنَّ سِهَامُ(1/153)
وَسِيقُوا مَسَاق الغابِرينَ إلى الردى ... وأقفرَ منهم مَنزَلٌ وَمَقَامُ
وحَلُوا محلاً غَيْرَ ما يَعهدُونه ... فَلَيْسَ لهم حتى القيام قِيَامُ
أَلَمَّ بِهم رَيبُ المنونِ فَغَالَهُم ... فهم بَيْنَ أَطباقِ الرُغَامِ رُغَامُ
انتهى
(فصل)
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن من رضي عن نفسه استحسن حالها وسكن إليها ومن استحسن حال نفسه وسكن إليها استولت عليه الغفلة.
وبالغفلة ينصرف قلبه عن التفقد والمراعاة لخواطره فتثور حينئذ دواعي الشهوة على العبد.
وليس عنده من المراقبة والملاحظة والتذكير ما يدفعها به ويقهرها.
فتصير الشهوة غالبة له بسب بذلك ومن غلبته شهوته وقع في المعاصي.
وأصل ذلك كله رضاه عن نفسه ومن لم يرض عن نفسه لم يستحسن حالها ولم يسكن إليها.
ومن كان بهذا الوصف كان متيقظًا متنبهًا للطوارئ وبالتيقظ والتنبه يتمكن من تفقد خواطره ومراعاتها.
وعند ذلك تخمد نيران الشهوة فلا يكون لها غلبة ولا قوة فيضعف العبد حينئذ بصفة العفة.
فإذا صار عفيفًا كان مجتنبًا لكل ما نهاه الله عنه محافظًا على جميع ما أمره به وهذا هو معنى الطاعة لله عز وجل وأصل هذا كله عدم الرضا عن نفسه.
فإذا يجب على الإنسان أن يعرف نفسه ويلزم من ذلك عدم الرضا عنها وبقدر تحقق العبد في معرفة نفسه يصلح له حاله ويعلوا مقامه.
وكان العلماء المخلصون يذمون نفوسهم ويتهمونها ولا يرضون عنها.
قال بعضهم من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها ولم يجرها إلى مكروهها فهو مغرور ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها.
وكيف يرضى عنها عاقل وهي الأمارة بالسوء وقال بعض العلماء لا تسكن إلى نفسك وإن دامت طاعتها لك في طاعة الله.
وقال آخر: ما رضيت عن نفسي طرفة عين.
وقال آخر: إن من الناس ناس لو مات نصف أحدهم ما انزجر النصف الآخر ولا أحسبني إلا منهم.(1/154)
وقال آخر: فائدة الصحبة إنما هي للزيادة في الحال وعدم النقصان فيها فإياك وصحبة من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله.
فصحبة من يرضى عن نفسه وإن كان عالمًا شر محض ولا فائدة فيها لأن علمه في الغالب غير نافع له.
وجهله الذي أوجب رضاه عن نفسه صار غاية الضرر لأنه فاته العلم الذي يريه عيبه حتى لا يرضى عن نفسه الأمارة بالسوء.
وقال ابن القيم رحمه الله لما ذكر النفس الأمارة بالسوء قال منها أن يعرف أنها جاهلة ظالمة وأن الجهل والظلم يصدر عنهما كل قول وعمل قبيح.
ومن وصفه الجهل والظلم لا مطمع في استقامته واعتداله البتة فيوجب له ذلك بذل الجهد في العلم النافع الذي يخرجها به عن وصف الجهل والعمل الصالح الذي يخرجها به عن وصف الظلم ومع هذا فجهلها أكثر من علمها وظلمها أعظم من عدلها.
فحقيق بمن هذا شأنه أن يرغب إلى خالقها وفاطرها أن يقيه شرها وأن يؤتيها تقواها ويزكيها فهو خير من زكاها وأن لا يكله إليها طرفة عين فإنه إن وكله إليها هلك فما هلك من هلك إلا حيث وكل إلى نفسه.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحصين بن المنذر: «قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي». وفي خطبة الحاجة: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا». وقد قال تعالى: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( [الحشر: 9]. وقال: (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ( [يوسف: 53].
فمن عرف حقيقة نفسه وما طبعت عليه علم أنها منبع كل شر ومأوى كل سوء وأن كل خير فيها ففضل من الله من به عليها لم يكن منها كما قال تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً( [النور: 21].
وقال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ( [الحجرات: 7]. فهذا الحب وهذه الكراهة لم يكونا في النفس ولا بها.(1/155)
ولكن هو الله الذي مَنَّ بهما فجعل العبد بسببهما من الراشدين (فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( [الحجرات: 8]. عليم بمن يصلح لهذا الفضل ويزكوا عليه وبه ويثمر عنده حكيم فلا يضعه عند غير أهله انتهى بتصرف يسير.
فعلى العاقل اللبيب محاسبة نفسه دائمًا والمحاسبة هي مطالعة القلب وأعمال اللسان وأعمال الجوارح.
فاجعل ذنوبك نصب عينيك فإن غفلت عنها اجتمعت بسرعة وكثرت.
وتأمل وفكر فلو أنك وضعت في كل معصية تحدثها حجرًا في دارك لامتلأ بيتك في مدة يسيرة.
فمثلاً عندك غيبة أو عندك كذب أو عندك رياء أو عندك عقوق أو قطيعة رحم أو ظلم لمسلم أو لنفسك أو لأهلك أو لأولادك أو لجيرانك أو تعامل معاملة لا تجوز.
أو عندك كفار خدام أو سواقين أو عندك ملاهي كالتلفاز والفيديو أو عندك صور أو تشرب الدخان أو حلق لحية أو إسبال أو تشبه بكفار أو سفر لبلادهم.
أو لك أولاد يدرسون عندهم برضا منك أو أكلك وشربك ولبسك من شركات تتعامل بالربا أو أن عملك لا تؤديه كاملاً مكملاً وتأخذ ما عليه كاملاً.
أو لا تتنسخ من الزكاة أو نحو ذلك مما لا يحصره العد.
فتيقظ وحاسب نفسك وفتش عليها بدقة وأسأل الله الحي القيوم أن يتجاوز عنك.
فإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِن ذِي عَظيمَةٍ ... وإِلَّا فِإنِّي لا إخَالُكَ نَاجِيًا
قال تبارك وتعالى: (وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ( [البقرة: 284]. قيل إن هذه الآية أعظم آية في المؤاخذة. ولما نزلت بكى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال ابن عباس يرحم الله أبا عبد الرحمن وإن الله تبارك وتعالى يقول: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا( [البقرة: 286].
وقال ابن القيم رحمه الله فمن له بصيرة بنفسه وبصيرة بحقوق الله وهو صادق في طلبه لم يبق له نظره في سيئاته حسنة البتة فلا يلقى الله إلا بالإفلاس المحض والفقر الصرف.(1/156)
لأنه إذا فتش عن عيوب نفسه وعيوب عمله علم أنها لا تصلح لله وأن تلك البضاعة لا تشترى بها النجاة من عذاب الله فضلاً عن الفوز بعظيم ثوابه.
فإن خلص له عمل وحال مع الله وصفا له معه وقت شاهد منة الله عليه به ومجرد فضله وأنه ليس من نفسه ولا هي أهل لذاك.
فهو دائمًا مشاهد لمنة الله عليه ولعيوب نفسه وعمله لأنه متى تطلبها رآها وهذا من أجل أنواع المعارف وأنفعها للعبد.
ولذلك كان سيد الاستغفار «اللهم أنت ربي لا إله إلا أَنْتَ خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».
فتضمن هذا الاستغفار الاعتراف من العبد بربوبية الله وإلهيته وتوحيده والاعتراف بأنه خالقه العالم به إذ أنشأه نشأة تستلزم عجزه عن أداء حقه وتقصيره فيه والاعتراف بأنه عبده الذي ناصيته بيده وفي قبضته لا مهرب له منه ولا ولي له سواه.
ثم التزم الدخول تحت عهده وهو أمره ونهيه الذي عهده إليه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإن ذلك بحسب استطاعتي لا بحسب أداء حقك فإنه غير مقدور للبشر إنما هو جهد المقل وقدر الطاقة.
ومع هذا فأنا مصدق بوعدك ثم أنزع إلى الاستعاذة والاعتصام بك من شر ما فرطت فيه من أمرك ونهيك فإنك إن لم تعذني من شره وإلا أحاطت بي الهلكة فإن إضاعة حقك سبب الهلاك وأنا أقر لك والتزم وأبخع بذنبي.
فمنك المنة والإحسان والفضل ومني الذنب والإساءة فأسألك أن تغفر لي بمحو ذنبي وأن تعفيني من شره إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فلهذا كان هذا الدعاء سيد الاستغفار.
وهو متضمن لمحض العبودية فأي حسنة تبقى للبصير الصادق مع مشاهدته عيوب نفسه وعمله ومنة الله عليه فهذا هو الذي يعطيه نظره إلى نفسه ونقصه اهـ.
قال بعض الزهاد لا يكون العبد من المتقين حين يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه والشريكان يتحاسبان بعد العمل.(1/157)
وقال الحسن المؤمن قوام على نفسه يحاسبها لله تعالى وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.
وفي حديث أبي طلحة أنه لما شغله الطين في صلاته فتدبر شغله فجعل حائطه صدقة لله تعالى ندمًا ورجاء لعوض مما فاته وتأديبًا لنفسه.
المهم أن يعلم العبد أن أعدى عدو له نفسه التي بين جنبيه وقد خلقت أمارة بالسوء أمارة بالشر فرارة من الخير.
والإنسان مأمور بتزكيتها وتقويمها وقودها بسلاسل العبر إلى عبادة ربها وخالقها ومنعها عن لذاتها وشهواتها المهلكة.
فإن أهملها شردت وجمحت ولم يظفر بها بعد ذلك وإن لازمها بالتوبيخ والتقريع والمعاتبة والعذل والملامة ولم يغفل عن تذكيرها وعتابها اعتدلت بإذن الله تعالى.
والنَّفْسُ كَالطِفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى ... حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ
ورَاعِهَا وَهي في الأعْمَالِ سَائمةً ... وَإِنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِمِ
كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّةً لِلْمَرْءِ قَاتِلَةً ... مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِي أَنَّ السُّم في الدَّسَمِ
فالعاقل اللبيب من يوبخ نفسه ويعاتبها ويوضح لها عيوبها كلها ويقرر عندها جهلها وحماقتها فإنها إذا أراد الله تعذر وترعوي وترجع.
فيقول لها ما أعظم جهلك تدعين الحكمة والفطنة وأنت من أجهل الناس وأحمقهم.
وأكبر برهان على ذلك إهمالك واستهانتك أما تعرفين ما بين يديك من الأهوال والعظائم والمزعجات والمخاوف.
أما تقرئين وتسمعين قول أصدق القائلين وأوفى الواعدين وأقدر القادرين (إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً( [المزمل: 14].(1/158)
وقوله تعالى: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي( [الفجر: 24].
وقوله عز من قائل: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً( [الفرقان: 13].
وقوله جل وعلا: (مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ( [إبراهيم: 17].
وقوله تبارك وتعالى: (فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى( [الليل: 14].
وقوله جل وعلا (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ( [المرسلات: 33].
ونحو هذه الآيات المخوفة ثم يقول لنفسه فمالك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو وأنت مطلوبة لهذا الأمر العظيم والخطب الجسيم وبين يديك إحدى منزلتين الجنة أو النار فكيف يهنؤك نوم أو يلذ لك مأكول أو مشروب وأنت لا تدرين في أي الفريقين تكونين "فريق في الجنة وفريق في السعير".
وكَيْفُ تَنَامُ العَينُ وهي قَريْرَةٌ ... وَلَمْ تَدْرِ في أيِّ المَكانيْنِ تَنْزلُ
وقل لها أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب وأن البعيد ما ليس آت.
أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول ومن غير مواعدة وأنه لا يأتي في شتاء دون صيف ولا في صيف دون شتاء ولا في نهار دون ليل ولا في ليل دون نهار ولا يأتي في الصبا دون الكبر ولا في الكبر دون الصبا.
بل كل نفس يمكن أن يأتيها الموت بغتة فإن لم يأت الموت بغتة جاءه المرض لا محالة ثم المرض يفضي إلى الموت.
فما لك يا نفس لا تستعدين والموت أقرب إليك من حبل الوريد.
فهكذا معاملة الزهاد والعباد في توبيخ أنفسهم وعتابها فإن مطلبهم من المناجاة الاسترضاء ومقصودهم من المعاتبة التنبيه والاسترعاء.(1/159)
فمن أهمل معاتبة نفسه وتوبيخها وأهمل مناجاتها لم يكن لنفسه مراعيًا فنسأل الله العظيم الحي القيوم معرفة حقيقة بأحوال أنفسنا وغرورها.
وختامًا فالعاقل من بذل وسعه في التفكر التام وعلم أن دار الدنيا رحلة فجمع للسفر رحله.
فمبدأ السفر من ظهور الآباء إلى بطون الأمهات ثم إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم الحشر ثم إلى دار الإقامة الأبدية.
فدار الإقامة للمؤمن هي دار السلام من جميع الآفات وهي دار الخلود والعدو سبانا منها إلى دار الدنيا.
فالواجب علينا الاجتهاد في فكاك أسرنا ثم في حث السير إلى الوصول إلى دارنا الأولى في مثل هذا قيل:
فحَيَّ على جَنَّاتِ عَدْنٍ فإنَّها ... مَنَازلُكَ الأُوْلَى وفيها المُخَيَّمُ
وَلَكِنَّنَا سَبْي العَدُوِّ فَهَل تَرَى ... نُرَدُّ إِلى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ
آخر:
تَرَكْتُ هَوَى لَيْلَى وَسُعْدَى بِمَعْزِل ... وعُدْتُ إلى تَصْحِيحِ أَوْلَ مَنْزِلِ
وَنَادَتْ بي الأشْوَاقُ مَهْلاً فَهَذِهِ ... مَنَازِلُ مَنْ تهوى رُوَيْدَكِ فَانْزلِ
ثم أعلم أن مقدار السير في الدنيا يسير ويقطع بالأنفاس كما قيل:
وما نَفَسٌ إِلَّا يُبَاعِدُ مَوْلِدًا ... ويُدْنِي المَنَايَا لِلنُّفوس فَتَقْرُبُ
ويسير الإنسان في هذه الدنيا سير السفينة لا يحس بسيرها وهو جالس فيها كما قيل:
وإنَّا لَفِي الدنيا كَرَكْبِ سَفِيْنَةٍ ... تَظُنُّ وقُوْفًا والزمانُ بها يَجْرِى
ويقول الآخر:
نَسِيْرُ إلى الآجالِ في كُلّ لَحْظَةٍ ... وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وهُنَّ مَرَاحِلُ
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
اعلم أيها الأخر أن جميع مصيبات الدنيا وشرورها وأحزانها كأحلام نوم أو كظل زائل.
إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرًا وإن سرت يومًا أو أيامًا ساءت أشهرًا أو أعوامًا وإن متعت قليلاً منعت طويلاً.
وما حصل للعبد فيها من سرور إلا أعقبه أحزان وشرور كما قيل: "من سره زمن ساءته أزمان".(1/160)
وقال بعض العلماء لبعض الملوك إن أحق الناس بذم الدنيا وقلاها من بسط له فيها وأعطي حاجته منها.
لأنه يتوقع آفة تعدو على ماله فتجتاحه، أو على جمعه فتفرقه، أو تأتي سلطانه فتهدمه من قواعده.
أو تدب إلى جسمه فتسقمه، أو تفجعه بشيء هو ضنين به من أحبابه.
فالدنيا أحق بالذم هي الآخذة لما أعطت، والراجعة لما وهبت.
بينما هي تضحك صاحبها إذا هي تضحك منه غيره.
وبينما هي تبكي له إذ بكت عليه.
وبينما هي تبسط كفه بالإعطاء إذ بسطتها بالاسترداد.
تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفره بالتراب غدًا.
سواء عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بقي تجد في الباقي من الذاهب خلفا وترضى بكل بدلاً.
شعرًا:
بأَمْرِ دُنْياك لا تَغْفُلْ وكُنْ حَذِرًا ... فَقَدْ أَبانَتْ لأَرْباب النُّهَي عِبَرًا
فأيُّ عَيْشٍ بِهَا ما شَابَهُ غِيَرٌ ... وَأَيُّ صَفْوٍ تَنَاهَى لَم يَصِرْ كَدِرًا
كَمْ سَالِم أَسْلَمَتْهُ لِلرَّدَى فَقَضَى ... حَتْفًا وَلَم يَقْضِ مِن لَذَّاتها وَطِرًا
ومُتْرَفٍ قَلَبَتْ ظَهْرَ المِجَنِّ لَهُ ... فَعَادَ بَعْدَ عُلوِّ القَدْرِ مُحْتِقَرًا
فابْعِدَنْهَا ولا تَحْفَلْ بِزخُرُفِهَا ... وَغُضَّ طَرْفَكَ عَنْهُ قَلَّ أو كَثُرًا
فَكُلُّ شَيءٍ تَرَاهُ العَيْنُ مِن حَسَنٍ ... كَرُ الأَهِلَّةِ لا يُبٍقي لَهُ أَثَرًا
واصْحَبْ وصَلّ وَوَاصِلْ كُلّ أَونَةٍ ... عَلَى النبي سَلامًا طَيِّبًا عَطِرًا
وَصَحْبِهِ ومَنِ اسْتَهْدَى بِهَدْيِهِمُوْا ... فَهُمْ أَئِمَّةُ مَن صَلَّى ومَن ذَكَرًا
ثم اعلم أيها الأخ أن من بورك له في عمره أدرك في يسير الزمن من منن الله ما لا يدخل تحت دوائر العبارة.
فبركة العمر أن يرزق الله العبد من الفطنة واليقظة ما يحمله على الجد والاجتهاد على اغتنام أوقات عمره وانتهاز فرصة إمكانه.
فيبادر إلى الأعمال القلبية والأعمال البدنية ويستفرغ في ذلك مجهوده بالكلية وكل ذلك في عمر قصير وزمن يسير.(1/161)
والخذلان كل الخذلان أن تتفرغ من الشواغل ثم لا تتوجه إلى الله جل وعلا.
ومن الخذلان أيضًا أن تصدك العوائق والشواغل عن التوجه إلى الله تعالى.
والواجب عليك أن تبادر إلى التوجه إلى الله بالأعمال الصالحة وأن ترمي بالعوائق والشواغل خلف ظهرك.
وقد قيل سيروا إلى الله عرجًا ومكاسير ولا تنتظروا الصحة فإن انتظار الصحة بطالة والعاقل من بادر إلى الأعمال الصالحة قال الشاعر حاثًا على اغتنام الوقت:
وخُذ مِن قَرِيْبٍ واسْتَجِبْ واجْتَنِبْ غَدًا ... وشَمِّرْ عن السَّاقِ اجْتِهَادًا بِنَهْضَةِ
وَكُنْ صَارِمًا كَالْوَقْتِ فالمَقْتُ في عَسَى ... وإيَّاكَ مَهْلاً فَهْيَ أَخْطَرُ عِلَّةِ
وسِرْ زَمنًا وانْهَضْ كَسِيْرًا فَحَظُّكَ الـ ... ـبَطَالَةُ مَا أَخَّرْتَ عَزْمًا لِصِحِّةِ
وَجُذَّ بسَيْفِ العَزْمِ سَوْفَ فإنْ تَجُدْ ... تَجِدْ نَفَسًا فَالنَّفْسُ إِنْ جُدْتَ جَدَّتِ
اللهم انظمنا في سلك عبادك المخلصين ووفقنا للقيام بأركان دينك القويم ونجنا من لفحات الجحيم وأسكنا في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
قال ابن الجوزي تباعد عن أهل السوء وباعد أولادك عنهم لا يعادونك بأفعالهم وأقوالهم وطباعهم ولا يزال يقسو قلبك حتى يستأنس بهم فهناك الهلاك.
والسوء يتفاوت فمن أهله أهل الفواحش ومنهم أهل اللهو ومنهم أهل الغيبة والنميمة ومنهم أهل الملاهي وآلات الطرب.
فإنهم يسبون أهل العقول عقولهم حتى ينحلوا عن دينهم ومروءتهم فيعسر عليهم الخلاص لما يجدونه من لذة النغمات والأصوات.
حتى يكون عادة وطبعًا فربما يجلس الرجل إليهم وهو كاره لسماع لغوهم مستوحش من نفسه ثم لا يزال على ذلك حتى يراه حسنًا.(1/162)
من كيد الشيطان أن يورد ابن آدم الموارد التي يخيل إليه أن فيها منفعته ثم يصدره المصادر التي فيها عطبه ويتخلى عنه ويسلمه للهلاك ويقف يتشمت به ويضحك منه.
فيأمره بالسرقة والقتل واللواط والزنا ويدل عليه ويفضحه قال الله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ( [الحشر: 16].
وقال تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ( [الأنفال: 48].
ذكر ابن القيم رحمه الله الأسباب التي يعتصم بها من الشيطان. الأول: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم. قال تعالى: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( [فصلت: 36]. والمراد بالسمع هنا سمع الإجابة لا السمع العام.
الثاني: قراءة المعوذتين فإن لهما تأثيرًا عجيبًا في الاستعاذة بالله من شر الشيطان ودفعه.
ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما تعوذ المتعوذون بمثلهما وكان - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم».
وأمر عقبة بن عامر أن يتعوذ بهما دبر كل صلاة وذكر - صلى الله عليه وسلم - أن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثًا حين يمسى وثلاثًا حين يصبح كفتاه من كل شر.
الثالث: قراءة آية الكرسي.
الرابع: قراءة سورة البقرة ففي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان»
الخامس: خاتمة سورة البقرة فقد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه».(1/163)
السادس: أول سورة حم المؤمن إلى قوله: (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ( [غافر: 3]، ففي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قرأ حم المؤمن إلى قوله: (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ( [غافر: 3]. وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح.
السابع: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة.
ففي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة. كانت عدل عشر رقاب وكتب له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكان حرزًا له من الشيطان».
يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل منه إلا رجل عمل أكثر من ذلك.
الثامن: وهو أنفع الحروز من الشيطان كثرة ذكر الله عز وجل وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة الناس.
فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس الذي إذا ذكر العبد ربه انخنس فإذا غفل عن ذكر الله ألتقم القلب وألقى إليه الوساوس.
فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل.
الحرز التاسع: الوضوء والصلاة وهذا من أعظم ما يحترز العبد به ولا سيما عند الغضب والشهوة فإنها نار تصلى في قلب ابن آدم.
كما روى الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم فما أطفأ العبد جمرة الغضب والشهوة بمثل الوضوء والصلاة.
فإن الصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال على الله فيها أذهبت أثر ذلك جملة وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل عليه.
الحرز العاشر: إمساك فضول الكلام فإنها تفتح أبوابًا من الشر كلها مداخل للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عنك تلك الأبواب.
والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/164)
فوائد ونصائح ومواعظ وحكم وآداب ووصايا
من أخلاق المؤمن حسن الحديث، وحسن الاستماع إذا حدث، وحسن البشر إذا لقي، ووفاء بالوعد إذا وعد ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
سوء الخلق سبب النكد في الحياة والشرور والآثام، فعلى العاقل اللبيب أن يعرف الأخلاق السيئة ليجتنبها، وهي كثيرة ولا يخلو أحد منها فتفقد نفسك وأزل ما فيها.
فمن ذلك المكر، والخديعة والخيانة والغش، والكذب، والغيبة، والنميمة، والسعاية، والظلم والرياء والعقوق، والقطيعة، والكبر، والعجب، والزهو، والأنفة من المسكنة.
والنفاق، والخيانة، والغدر، والحسد، والغل، والحقد، والشماتة، والبغضاء، وسوء الظن، والتجسس على المسلمين.
وإضمار السوء، والتربص بالدوائر ومساعدة الهوى، ومخالفة الحق والرضى بالهوى والحب والبغض بالهوى، والجفاء.
والقسوة، وقلة الرحمة، والحرص، والشره والطمع والطيرة، والطغيان بالمال، والفرح بإقبال الدنيا، واستقلال الرزق.
واحتقار النعم، والاحتقار بمصائب الدين، واستعظام الدنيا، والحزن على ما فات منها.
والاستهانة بعلم الله عز وجل عند فعلك للذنب والاستهانة بسماعه ما يصدر منك من المعاصي قولاً وفعلاً.
وقلة الحياء من اطلاع الله عليك ومن اطلاع من عن اليمين وعن الشمال قعيد.
وأنت لو أطلع عليك مخلوق ضعيف وأنت تعمل معصية الله لانزعجت.
فتنبه لذلك وراقب الله جل وعلا وتقدس وكن منه على حذر.
تَوَارَى بِجُدْرَانِ البُيُوتِ عَن الوَرَى ... وَأَنْتَ بِعَيْنِ الله لا شَك تُنْظَرُ
وقال ابن القيم رحمه الله:
وَهُوَ الحليمُ فَلا يُعَاجِلُ عَبْدَهُ ... بَعَقُوبِةٍ لِيَتُوبَ مِن عِصْيانِ
لَكِنَّهُ يُلْقِي عَليه سِتْرَهُ ... فَهو السَّتِيْرُ وَصَاحِبُ الغُفْرانِ
وهُوَ العَفَّوُ فعَفْوُهُ وسِعَ الوَرَى ... لَوْلاهُ غَارَ الأرْضُ بالسُّكَانِ
وَهُوَ الصَّبُورُ عَلَى أَذَى أَعْدَائِهِ ... شَتَمُوهُ بَلْ نَسَبُوهُ لِلْبُهْتَانِ(1/165)
قَالُوا لَهُ ولَدٌ وَلَيْسَ يُعِيْدُنَا ... شَتْمًا وَتَكْذِيْبًا مِن الإِنسانِ
هَذَا وَذَاكَ بِسَمْعِهِ وَبِعِلْمِهِ ... لَوْ شَاءَ عَاجَلهُم بِكُلِّ هَوَانِ
لَكِنْ يُعَافِيْهِم ويَرْزُقُهُم وَهُمْ ... يُؤْذُونَهُ بِالشِرْكِ وَالكُفْرانِ
قال بعض العلماء إخواني إذا تقرب الناس إلى الله عز وجل بأنواع البر الظاهرة مثل الجهاد والحج والصوم والزكاة والصدقة وتلاوة القرآن وغير ذلك.
فنافسوهم فيها واجعلوا أعظم الرغبة في طاعة القلوب التي لا يطلع عليها الإنس ولا الملائكة ولا الجن، ولا يعلمها إلا علام الغيوب.
فإن القليل من أعمال البر كثير لسلامته من الرياء وجميع المكدرات.
ألا فتقربوا إلى الله بطاعة القلوب فإن فيها المعرفة بعظمة الله وكبريائه وجلاله وقدرته وعظيم قدره سبحانه.
وتقربوا إليه بمحابه، وبغض مكارهه والرضا والغضب له وفيه، وتقربوا إليه بشدة الحب له.
والحب فيه والبغض من أجله، وتقربوا إلى الله بالمعرفة بأياديه الحسنة ونعمه الظاهرة والباطنة، وأفعاله الجميلة.
ومننه المتواترة على تواتر الإساءة منا، وهو جل وعلا وتقدس يعود بأنواع النعم علينا.
ألا فتقربوا إليه بالخوف من زوال النعم، وشدة الحياء من التقصير في الشكر.
وتقربوا بالوجل من مكر الله تعالى والإشفاق على إيمانكم.
وتقربوا إلى الله بشدة الخوف منه.
وحقيقة الرجاء فيه، والسرور بذكره، ومناجاته، والشوق إليه، والرغبة في جواره.
وتقربوا إلى الله بصدق اليقين والتوكل عليه والثقة به والطمأنينة إليه والأنس به والانقطاع إليه.
وتقربوا إليه بالوفاء ولين الجانب والجناح والتواضع والخشوع والخضوع.
وتقربوا إليه بالحلم والاحتمال وكظم الغيظ وتجرع المرارة.
وتقربوا إليه بسلامة الصدر وإرادة الخير للأمة وكراهة الشر لهم.
وتقربوا إلى الله بالرأفة والرحمة والشفقة والحوطة على المسلمين.
وتقربوا إليه بالجود والكرم والتفضل والإحسان وصدق الوفاء.(1/166)
وتقربوا إليه بالقناعة والعفاف والكفاف والرضى بالبلغة واليأس من نائل الناس.
وتقربوا إليه بالتدبر لكتابه وتفهمه والعمل به والإخلاص.
وتقربوا إليه بمجاهدة إبليس -لعنه الله- ومخالفة الهوى والنفس الأمارة بالسوء والتفقد لأحوالكم والتقوى في كل أموركم وتقربوا إلى الله بأداء الأمانات.
وتقربوا إليه بالإحسان إلى المسيء والإيثار على أنفسكم وإن كان بكم خصاصة.
وارغبوا في مكارم الأخلاق.
وتقربوا إلى الله بالتواضع والابتعاد عن الترفع على عباد الله المؤمنين.
وتقربوا إلى الله بالفرح بمصائب الدنيا، والرضا بقضاء الله وقدره.
وتقربوا إلى الله بالاستعداد للموت والبعث والنشور والحساب والميزان.
أَلَمْ تَر أنَّ المرء يِحبسُ ماله ... وَوَراثِةُ فيه غدًا يَتَمَتَّعُ
كَأَنَّ الحماة المشفقين عَلَيْكَ ... قَدْ غَدَوا بكَ أَوْ رَاحُوا رَوَاحًا فَأَسْرَعُوا
وما هُوَ إِلا النَّعْشُ لَوْ قَدْ أَتَوَا بِهِ ... تُقَلَّ فَتَلْقَى فوْقَهُ ثُم تُرْفَعُ
وَمَا هُوَ إلا حَادِث بَعْدَ حَادثٍ ... عَلَيْكَ فَمِنْ أَيِّ الحَوَادِثِ تَجْزِعُ
وَمَا هُوَ إِلا المَوْتُ يَأتِي لِوَقْتِهِ ... فَمَالكَ في تَأخِيْرهِ عَنْكَ مَدْفَعُ
أَلا وإذا وُدِّعْتَ تَوْدِيْعَ هَالِكٍ ... فَآخِرُ يَوْمٍ مِنْكَ يَوْمٌ تُوَدَّعُ
أَلا وَكَمَا شَعَّيْتَ يَوْمًا جَنَائِزًا ... فَأَنْتَ كَمَا شَيَّعْتَهُم سَتُشَيَّعُ
رَأَيْتُكَ في الدُنْيَا عَلَى ثِقَةٍ بِهَا ... وَإِنَّكَ في الدُنْيَا لأَنْتَ المُرَوَّعُ
وَصَفْتَ التُّقَى وَصْفًا كَأَنَّكَ ذُو تُقَى ... وَرِيْحُ الخَطَايَا مِنْ ثِيَابِكَ تَسْطَعُ
وَلَمْ تُعْنَ بِالأَمْرِ الذي هُوَ وَاقِعُ ... وَكُلُّ امْرئٍ يَعْنَي بِمَا يَتَوقَّعُ
وَإِنَّكَ لَلْمَنْقُوْصِ في كُلُّ حَالةٍ ... وَكلُّ بَني الدُّنْيَا عَلى النَّقْصِ يُطْبَعُ(1/167)
وَمَا زِلْتُ أَرْمى كُلُّ يَوْمٍ بِعْبِرَةٍ ... تَكادُ لَهَا صُمُّ الجِبَالِ تَصَدَّعُ
فَمَا بَالُ عَيْنِي لا تَجُوْدُ بِمَائِهَا ... وَمَا بَالُ قَلْبِي لا يَرِقُّ وَيَخْشَعُ
تَبَارَكَ مَنْ لا يَمْلِكُ المُلْكَ غَيْرُهُ ... مَتَى تَنْقَضي حَاجَاتُ مَنْ لَيْسَ يَقْنَعُ
وَأَيُّ امْرِءٍ في غَايَةٍ لَيْسَ نَفْسُهُ ... إِلى غَايَةٍ أُخْرَى سِوَاهَا تَطَلَّعُ
وَبَعُْض بَنِي الدُّنْيَا لِبَعْضٍ ذَرِيْعَةٌ ... َوَكُلٌّ بِكُل قَلَّمَا يَتَمَتَّعُ
يُحِبُّ السَّعِيْدُ العَدْلَ عِنْدَ احْتِجَاجِهِ ... َوَيَبْغِي الشَّقِيُّ البَغْيَ والبَغْيُ يَصْرَعُ
اللهم ثبتنا على نهج الاستقامة وأعذنا من موجبات الحسرة والندامة يوم القيامة وخفف عنا ثقل الأوزار، وارزقنا عيشة الابرار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
9- موعظة
عباد الله كلنا نعلم أن حياتنا مهما امتدت وصفت للزوال، وكذلك كل واحد منا يعلم أنه أتى للدنيا للاختبار بما كلفنا به من العبادات والمعاملات، وسيصبح الواحد منا عما قريب في حفرة وحيدًا ليس معه أولاد ولا أموال، وحينئذ تكون أيها الأخ كأنك ما رأيت الدنيا ولا هي رأتك لحظة من اللحظات.
ويا ليتك إذا زالت الحياة تزول دون أن يترتب عليها آثار لو كان ذلك لأحب بعضنا الموت، لأنه يكون بشيرًا بانتهاء الأمراض والمصائب والآلام، لكنك تعلم أنه يعقب ذلك الموت أهوال، وأمور مزعجات، تلاقي جزاء ما كان منك قبل الموت في الاختبار.
فإن كنت قد أحسنت، رأيت قبرك روضة نعيم، وإن كنت مسيئًا رأيته نيرانًا محرقات.(1/168)
عن البراء بن عازب قال كنا في جنازة رجل من الأنصار ومعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانتهينا إلى القبر ولم يلحد، ووضعت الجنازة، وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال «إن المؤمن إذا احتضر، أتاه ملك الموت في أحسن صورة، وأطيب ريحًان فجلس عنده، لقبض روحه، وأتاه ملكان بحنوط من الجنة وكانا منه على بعيد فاستخرج ملك الموت روحه من جسده رشحًا.
فإذا صارت إلى ملك الموت ابتدرها الملكان فأخذاها منه فحنطاها بحنوط من الجنة وكفناها بكفن من الجنة ثم عرجا بها إلى الجنة، فتفتح له أبواب السماء، وتستبشر الملائكة بها ويقولون لمن هذه الروح الطيبة التي فتحت لها أبواب السماء.
ويسمى بأحسن الأسماء التي كان يسمى بها في الدنيا، فيقال هذه روح فلان فإذا صعدا بها إلى السماء شيعها مقربو كل سماء، حتى توضع بَيْنَ يدي الله عند العرش، فيخرج عملها من عليين فيقول الله عز وجل للمقربين اشهدوا أني قد غفرت لصاحب هذا العمل، ويختم كتابه فيرد في عليين.
فيقول الله عز وجل ردوا روح عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أني أردهم فيها.
ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى( [طه: 55]. فإذا وضع المؤمن في لحده تقول له الأرض إن كنت لحبيبًا إلي وَأَنْتَ على ظهري، فكيف إذا صرت اليوم في بطني سأريك ما أصنع بك، فيفسح له في قبره مد بصره.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وضع الكافر في قبره أتاه منكر ونكير فيجلسانه فيقولان له من ربك، فيقول لا أدري، فيقولان له لا دريت، فيضربانه ضربة فيصير رمادًا، ثم يعاد فيجلس فيقال له ما قولك في هذا الرجل، فيقول أي رجل فيقولان محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقول قال الناس إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيضربانه ضربة فيصير رمادًا».(1/169)
ويا ليت الأمر ينتهي، ويقف عند هذا الحد، فتبقى في قبرك على الدوام، فإنه أخف مما بعده، فتكون آلامك فيه أخف إن كنت من أهل الشقاء والآثام، ولكن تعلم أن ما أخبر به الله سيقع، وهو القيام من القبور، قال الله تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ( [المطففين: 6].
وحينئذ تسوقك نتيجة اختبارك إما إلى الجنة وإما إلى السعير، من كان مكذبًا بهذا والعياذ بالله فلا كلام لنا معه، لأن مآله إلى جهنم وبئس المهاد لأنه من الكافرين، وإن كان مؤمنًا بذلك كما أخبر الله ورسوله فهو الذي تفيد فيه المواعظ وضرب الأمثال ويقال لماذا نراك متصفًا بما يخالف قولك:
يَا قَسْوةَ القَلْبِ مَالِي حِيْلةٌ فِيْكَ ... مَلَكْتِ قَلْبِي فأَضْحَى شَرَّ مَمْلُوكِ
حَجَبْتِ عَنِي إِفادَاتِ الخُشُوعِ فَلا ... يَشْفِيْكِ ذِكْرٌ وَلا وَعْظٌ يُدَاوِيْكِ
وَمَا تَمَادِيْكِ مِن كُثْفِ الذُنُوبِ وَلَـ ... ـكِنَّ الذُنُوبَ أَرَاهَا مِن تَمَادِيْكِ
لَكِن تَمَادِيْكِ مِن أَصْلِ نَشَأتِ بِهِ ... طَعام سُوْءٍ عَلَى ضَعْفٍ يُقَوِّيْكِ
وَأَنْتَ يا نَفسُ مَأْوَى كُلِّ مُعْضِلةٍ ... وَكُلُ دَاءٍ بِقلبِي مِن عَوادِيْكِ
أَنتِ الطَّلِيْعَةُ لِلشَّيْطَانِ في جَسَدِي ... فَلَيْسَ يَدْخُلُ إِلا مِن نَواحِيْكِ
لَمَا فَسَحْتِ بِتَوفِيْرِ الحظُوظِ لَهُ ... أَضْحَى مَعَ الدَّم يَجْرِيْ في مَجَارِيْكِ
وَالَيْتِهِ بِقَبُوْلِ الزُورِ مِنْكِ فَلَنْ ... يُوَالِي الله إِلا مَن يُعَادِيْكِ
ما زِلْتِ في أسْرِهِ تَهْوِيْنَ مَوْثقَةٌ ... حَتَّى تَلِفْتِ فَأَعيانِي تَلافِيْكِ
يَا نَفْسُ تُوبِي إلى الرحمنِ مُخْلِصَةً ... ثم اسْتَقِيْمِيْ عَلَى عَزْمٍ يُنَجِيْكِ
واسْتَدِركِي فَارِطَ الأوْقَاتِ واجْتَهِدِيْ ... عَسَاكِ بالصِدْقِ أنْ تَمْحَيْ مَسَاوِيْكِ
واسْعَيْ إِلَى البِرَّ والتَّقْوىَ مُسَارِعَةً ... فَرُبَّما شُكِرَتْ يَومًا مَسَاعِيْكِ(1/170)
وَلَنْ يَتِمْ لَكِ الأَعْمَالُ صَالِحةً ... إِلا بِتَركِكِ شَيْئًا شَرّ مَتْرُوْكِ
حُبُّ التَّكَاثُرِ في الدُّنْيَا وَزِيْنَتهَا ... فَهْيَ التِي عَن طِلابِ الخَيرِ تُلْهِيْكِ
لا تُكْثِريْ الحِرْصَ في تَطْلابِهَا فَلَكَمْ ... دَمٌ لَهَا بِسُيُوفِ الحِرْصِ مَسْفُوْكِ
بَل اقْنَعِي بِكَفَافِ الرِّزْقِ رَاضِيَةٌ ... فَكُلَّمَا جَاَز مَا يَكْفِيْكِ يُعْطِيْكِ
ثُمَّ اذْكُرِيْ غُصصَ الموتِ الفَظِيْع تَهُنْ ... عَلَيْكِ أَكْدَارُ دُنْيا لا تُصَافِيْكِ
وَظُلْمَةَ القَبُرِ لا تَخْشَيْ وَوَحْشَتَهُ ... عِنْدَ انْفِرَادِكِ عَن خِلِ يُوَالِيْكِ
والصَّالِحَاتِ لِيَوْمِ الفَاقَةِ ادَّخِرِيْ ... في مَوْقفٍ لَيْسَ فَيْهِ مِن يُوَاسِيْكِ
وأَحْسِنِي الظَّنَّ بِالرحمنِ مُسْلِمَةً ... فَحُسْنُ ظَنِّكِ بِالرحمنِ يَكْفِيْكِ
اللهم إنا نسألك نفسًا مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك، اللهم إنا نسألك باسمك الطاهر الطيب المبارك الأحب إليك الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت، وإذا استرحمت به رحمت، وإذا استفرجت به فرجت أن تغفر سيئاتنا وتبدلها لنا بحسنات يا أرحم الراحمين وصل الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
10- موعظة
كتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى ولده الحسين من عبد الله علي أمير المؤمنين الوالد الفاني الذام للدنيا الساكن مساكن الموتى، إلى الولد المؤمل ما لا يدرك السالك سبيل من قد هلك، عرضة الأسقام ورهينة الأيام وأسير المنايا وقرين الرزايا وصريع الشهوات ونصب الآفات وخليفة الأموات.
يا بني إن بقيت أو فنيت فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل وعمارة قلبك بذكره والاعتصام بحبله فإن الله يقول: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ( [آل عمران: 103]. وأي سبب يا بني أوثق من سبب بينك وبين الله عز وجل.(1/171)
أحي قلبك بالموعظة ونوره بالحكمة وقوه بالزهد وذلله بالموت وقرره بالفناء وحذره صولة الدهر وتقلب الليالي.
واعرض عليه أخبار الماضين وسر في ديارهم وآثارهم فانظر ما فعلوا وأين حلوا فأنك تجدهم قد انتقلوا من دار الغرور ونزلوا دار الغربة.
وكأنك عن قليل يا بني قد صرت كأحدهم فبع دنياك بآخرتك ولا تبع آخرتك بدنياك ودع القول فيما لا تعرف والأمر فيما لا تكلف ومر بالمعروف بيدك ولسانك وكن من أهله وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباين من فعله.
وخض الغمرات إلى الحق ولا تأخذك في الله لومة لائم وأحفظ وصيتي فلا خير في علم لا ينفع واعلم أنه لا غنى بك عن حسن الارتياد مع بلاغك من الزاد.
فإن أصبت من أهل الفاقة من يحتمل عنك زادك فيوافيك به في معادك فاغتنمه فإن أمامك عقبة كئودًا لا يجاوزها إلا أخف الناس حملاً.
وأجمل في الطلب وأحسن في المكسب فرب طلب قد جر إلى حرب وإنما المحروب من حرب دينه والمسلوب من سلب يقينه واعلم أنه لا غنى يعدل الجنة ولا فقر يعدل النار والسلام عليك ورحمة الله.
قال الناظم رحمه الله:
وكُنْ بَيْنَ خَوْفٍ والرَّجَا عَاملاً لِمَا ... تَخَافُ وَلا تَقْنَطْ وُثُوقًا بِمَوْعِدِ
تَذَكَّرْ ذُنوبًا قَدْ مَضَيْنَ وَتُبْ لَهَا ... وَتُبْ مُطْلقًا مَعْ فَقْدِ عِلْمِ التَّعَمُّدِ
وبادِرْ مَتَابًا قَبْلَ يُغْلَقُ بَابُه ... وَتُطوَى عَلَى الأَعْمَالِ صُحْفُ التزَوُّدِ
فحِيْنَئِذٍ لا يَنْفَعُ المَرْءَ تَوْبَةٌ ... إِذَا عايَنَ الأَمْلاكَ أو غَرْغَرْ الصَّدِي
وَلا تَجْعَلِ الآمَالَ حِصْنًا فَإِنَّها ... سَرَابٌ يَغُرُّ الغافلَ الجاهلَ الصَّدِي
ويستحب أن يقول لهم في وقت بعد وقت متى رأيتم مني تقصيرًا في شيء انهوني عنه برفق ولطف لأن النفس تضعف في ذلك الوقت وأدوا إلي النصيحة في ذلك فإني معرض للغفلة والسهو والكسل والإهمال فإذا قصرت فنشطوني وعاونوني على التأهب لهذا السفر البعيد والتغرب المخيف.(1/172)
وإذا حضره النزع فليكثر من قول لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه فيا له من ختام ويا له من طابع، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله».
ويستحضر أحاديث الرجل مثل حديث أبي ذر قال أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوب أبيض وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فقال: «ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق» الحديث متفق عليه.
وحديث ابن عباس أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فقالوا إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ( [الفرقان: 68] الآيتين – ونزل (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ( [الزمر: 53]. الآية ونحو هذه الآية والأحاديث التي سبقت.
شعرًا:
إِذَا أَتَى الله يَومَ الحَشْرِ في ظُلَلٍ ... وَجِيءَ بالأُمَمِ المَاضِينَ وَالرُّسُلِ
وَحاسَبَ الخَلْقَ مِنْ أَحْصَى بِقُدرَتِهِ ... أَنْفَاسَهُم وتَوفَّاهُم إلى أَجَلِ
وَلم أَجِدْ فِي كِتَابِي غَيْرَ سَيْئَةٍ ... تَسُوءنِي وَعَسَى الإِسْلامُ يَسْلَمُ لِي
رَجَوْتُ رَحْمَةَ رَبِّي وَهي وَاسِعُةٌ ... وَرَحْمَةُ الله أَرْجَى لِي مِنَ العَمَلِ(1/173)
اللهم اجعل في قلوبنا نورًا نهتدي به إليك وتولنا بحسن رعايتك حتى نتوكل عليك وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك فالعزيز من لاذ بعزك والسعيد من التجأ إلى حماك وجودك والذليل من لم تؤيده بعنايتك والشقي من رضي بالإعراض عن طاعتك اللهم نزه قلوبنا عن التعلق بمن دونك واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
11- موعظة
عباد الله لقد كان سلفنا في محبة بعضهم بعضًا آية من الآيات وكان التراحم بينهم بالغًا مبلغًا يعده أهل الأنصاف غاية الغايات لذلك كانوا في محبة الخير لبعضهم على أرقى ما يتصور في الدرجات.
وهل يتصور أن يكون أحدهم في أشد الجوع ويؤثر أخاه بماله من طعام عاملين بقوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ( [الحشر: 9]. وقوله (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً( [الإنسان: 8]. وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
وإن الخجل ليعلو وجوهنا إذا نحن قارنا بين هؤلاء وبين أبناء هذا الزمان، نحن في حالة تصور حقيقتها فقط يثير في قلوب المؤمنين الأحزان.
كيف ونحن إذا فتشنا ثم فتشنا لا نجد قلبين مع بعضهما معية الإخاء التام يكون الجار في نهاية الفقر ولا يلتفت إليه جاره المثري وينزل بالأخ الشقيق أو العم الشقيق أو نحوهما ما ينزل من الكوارث ولا أثر لنزولها عند أخيه ولا كأنه يرى تلك المصائب الفادحة ولعلك منتظر الجواب ما هو السبب في ذلك فألق سمعك وأحضر قلبك.
فأقول لكل الناس اليوم شغل واحد هو المال شغلهم عما عداه وأنساهم كل ما سواه ملأ القلوب حب هذا المال حتى لم يبق في القلوب متسع لسواه فمن أجله تستباح الأعراض ومن أجله تراق الدماء ومن أجله يكون الصفا والمعاداة هو القطب الذي تدور حوله أفعال العباد في هذا الزمان.(1/174)
فالقلوب في سرور ما دام المال سالمًا وإن أنهار بناء الشرف والدين والنفوس في هدوء وطمأنينة ما ابتعد عن المال فإذا قرب حوله هاجوا هيجان الجمال وهم في تواصل ما لم يتعرض للمال فإذا تعرض له انقطعت الصلات حتى بين الأقربين من آباء وأمهات وأولاد وإخوان.
وهذا من ثمرات البخل قال بعضهم البخيل يستعجل الفقر الذي هرب منه ويفوته الغنى الذي يطلبه فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ويحاسب حساب الأغنياء فالبخيل هو الوحيد الذي يستبشر ورثته بمرضه وموته وتجده ليله ونهاره مستغرق في جمع المال لا يفتر خوفًا من الفقر وهذا هو الفقر كما قيل:
ومَنْ يُنْفِقِ السَاعَاتِ فِي جَمْعِ مَالِهِ ... مَخَافةَ فَقْرٍ فالذي فَعَلَ الفَقْرُ
آخر:
يُفْنِي البَخِيْل بِجَمْعِ المَالِ مُدَّتَهُ ... وِلِلْحَوادِثِ وَالوُرَّاثِ مَا يَدَعُ
كَدُوْدَةِ القَزِّ مَا تَبْنِِيْهِ يَهْدِمُهَا ... وَغَيْرُهَا بِالذي تَبْنِيْهِ يَنْتَفِعُ
آخر:
وذِيْ حِرْصٍ تَرَاهُ يُلِمُّ وَفْرًا ... لِوَارِثِهِ وَيَدْفَعُ عَن حِمَاُه
كَكَلْبِ الصَّيْدِ يُمْسِكُ وهْوَ طَاوٍ ... فَرِيسَتَهُ لِيَأكُلَهَا سِوَاهُ
أما علم هؤلاء أن المال الذي كان بأيدينا كان قبلنا بيد إخواننا في الإنسانية الذين سبقونا إلى الدنيا ثم انتقل إلى من بعدهم ثم انتقل من جيل إلى جيل إلى أن وصل إلينا سعد به من صرفه في مراضي الله وشقي به من صرفه في ما يغضب الله.
ولعلك يا أخي تتكدر إذا علمت أنه سينتقل عنك في أسرع وقت فلا تفزع ولا تتكدر ووطن نفسك وأعلم أنك والله ميت وموروث عنك ما جمعت ومنعت رغم أنفك يتمتع به ذلك الوارث العاق أو البار وأنت تسأل عنه هللة وقرشًا قرشًا.(1/175)
وتكون النتيجة إن كنت جموعًا منوعًا شقاءً تستغيث منه فلا تغاث وتتمنى لو كانت الدنيا بأسرها بيدك وافتديت نفسك بها تكون النتيجة ذلك إن كنت من المغرورين الغافلين الذين ظنوا أن السعادة كلها تيسير جمع المال وتكديسه عندك آلافًا وملايين وعمائر وفلل وأراضي وبيوت كدأب أهل هذا العصر الغافل المظلم بالمعاصي والبدع والمنكرات.
الذي اعتاض أهله عن كتاب الله وسنة رسوله العكوف على الجرائد حمالة الكذب والمجلات الخليعات والكتب الهدامات والجلوس حول الملاهي والمنكرات فسوف تندم وتتحسر حينما ينكشف عنك الغطا ويتبين لك ذلك الخطأ وتتمنى أنك أمضيت أوقاتك في طاعة مولاك وهيهات أن يحصل لك مناك ذهب الأوان وبقي الندم والحرمان.
قال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ( [سبأ: 54].
لقد أنسى الناس حب هذا المال ما لهم من شرف ومروءة ودين وجعلهم حول حطام الدنيا كما وصفهم الشافعي رحمه الله:
وَمَا هِيَ إِلا جِيْفَةٌ مُسْتَحِيْلَةٌ ... عَلَيْهَا كِلابٌ هَمُّهِنَّ اجْتِذَابُهَا
فَإِنَّ تَجْتَنبهَا كُنْتَ سِلْمًا لِأَهْلِهَا ... وَإِنْ تَجْتَذبها نَازَعَتْكَ كِلابُهَا(1/176)
أما علموا أن المال من خدم الدين فإذا تجاوز ذلك كان نكبة على أصحابه وكذاك الأولاد إن كانوا غير صالحين فهم ضرر على أبيهم وعلى أنفسهم وكذلك الزوجة ولذلك ورد عن داود عليه السلام أنه كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من جار السوء ومن مال يكون علي عذابًا ومن ولد يكون وبالاً ومن زوجة تشيبني قبل المشيب ومن خليل ماكر عينه ترعاني وقلبه يشناني إن رأى خيرًا أخفاه وإن رأى شرًا أفشاه».
وقيل إنه سئل عيسى عليه السلام عن المال فقال لا خير فيه قيل ولم يا نبي الله قال لأنه يجمع من غير حل قيل فإن جمع من حل قال لا يؤدى حقه قيل فإن أدى حقه قال لا يسلم صاحبه من الكبر والخيلاء قيل فإن سلم قال يشغله عن ذكر الله قيل فإن لم يشغله قال يطيل عليه حسابه يوم القيامة.
فتأمل هذه العقبات الخمس وقليل من يتجاوزها سالمًا وورد عن عطاء ابن السائب عن أبي البختري قال كان بين عمار بن ياسر وبين رجل كلام في المسجد فقال عمار أسأل الله تعالى إن كنت كاذبًا أن لا يميتك حتى يكثر مالك وولدك ويوطئ عقبك. وورد عن حذيفة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خياركم في المائتين كل خفيف الحاذ» قالوا يا رسول الله وما الخفيف الحاذ قال: «الذي لا أهل له ولا ولد».
شعرًا:
يَقُولُ الذِيْ يَرْجُو مِن اللهِ عَفْوَهُ ... وَيَرْجُوهُ نَصْرًا عَاجِلاً غَيْرَ آجِلِ
لِمَنْ يَتَّقِيْ المَوْلَى وَيَرْجُو لِقَاءِهُ ... وَعَمَّا يَقُولُ النَّاسُ لَيْسَ بِسَائِلِ
أَقُولُ بِحَمْدِ اللهِ قَوْلاً مُنَقَّحًا ... وَلَوْ أَنَّ فَهْمِي قَاصِر في المَسَائِلِ
عَلَيْهِ مِن النَّصِّ الصَّرِيحِ شَوَاهِدٌ ... إِذَا قُلْتُهُ يَهْوَي لَهُ كُلُّ عَاقِلِ
أَسِرُّ بِمَا بِي وَالعُيُونُ عَوَابِرٌ ... بِدَمْعٍ عَلَى الخَدَّيْنِ ثَجَا بِوَابِلِ
وَفِي مُدَّعِي الإِسْلامِ قَلْبِي كَأَنَّهُ ... عَلَى المُهْلِ مِنْهُمْ لَيْسَ عَنْهُم بِذَاهِلِ(1/177)
فَمَا بَيْنَ دَهْرِيٍّ وَمَا بَيْنَ مُشْرِكٍ ... وَلَم يَعْرِفِ الإِسْلامَ غَيْرُ القَلائِلِ
وَلَو بَذَلُوا الأَمْوَالَ نَفْلاً لِرَبِّنَا ... إِذَا الفَرْضُ ضَاعَ لا غِنَى بِالنَّوَافِلِ
تَرَكْنَا الكِتَابَ وَالحَدِيثَ وَرَاءَنَا ... لِأَجْلِ مَجَلاتٍ أَتَتْ بِالتَّهَازِلِ
لَقَدْ حَصَّلَ المَقْصُودَ مِنَّا عَدُوُنَا ... وَمَقْصُودُنَا مِنْهُمْ فَلَيْسَ بِحَاصِلِ
مَشَيْنَا جَمِيْعًا في فَسَادِ صَلاحِنَا ... وَرُمْنَا مَرَامًا خَاسَرًا غَيْرَ طَائِلِ
وَتَسْتَعْجِبُ الأَعْدَاءُ مِنَّا لأَنَّنَا ... كَمِثْلِ القَطَا تَصْطَادُنَا بِالحَبَائِلِ
أَحَاطَتْ بِنَا الأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ... كَأَنَّا طَعَامٌ قَدَّمُوهُ لَأَكِلِ
وَصَارُوا بِحَارًا يُغْرِقُ الفُلْكَ مَوْجُهَا ... وَنَحنُ لَهُمْ صِرْنَا كَمِثْلِ الجَدَاوِلِ
وَتَخْتَرِعُ الأَعْدَاءُ لِلْحَرْبِ قُوَّةً ... وَقَدْ هَدَّدَتْ مَنْ لَمْ يُطِعْ بِالقَنَابِلِ
وَلَيْسَ لَنَا مِنَّا زَعِيْمٌ مُصَادِمٌ ... أَتَتْ تَتَمطَّى مَا لَهَا مِنْ مُقَابِلِ
وَنَحْنُ هَبَطْنَا لِلْتُّرَابِ تَوَاضُعًا ... نُرِيْدُ نَجَاحًا مِنْ خَفِيْفِ القَسَاطِلِ
فَتَبًّا لِعِبَادِ الدَّنَانِيْرِ كُلَّهِمْ ... وَتَبًّا لِخَبٍّ جَاهِلٍ مُتَعَاقِلِ
وَتَبًّا لِعَبْدٍ مُشْرِكٍ خَانَ رَبَّهُ ... وَضَيَّعَ دِيْنًا مَا لَهُ مِنْ مُمَاثِلِ
وَتَبًّا لِقَوْمٍ عَزَّ فِيْهِمْ سَفيْهُهُمْ ... وَصَارَ ذَلِيْلاً عِنْدَهُمْ كُلُّ فَاضِلِ
وَمِنْ أَعْظَمِ الخُسْرَانِ عِزُّ عَدُوِّهِمْ ... وَذُلِّهُم مِنْ بَعْدِ عِزِّ الأَوَائِلِ
فَيَا لَيْتَ للإِسْلامِ في الحَالِ شَوْكَةً ... ذَوْوا نَجْدَةٍ يَخْشاهُمُ كُلُّ جَاهِلِ
رُجَالٌ يَرَوْنَ المَوْتَ مَجْدًا وَجُنَّةً ... عَن الذُّلِّ مِنْ فِعْلِ الصُّقُوْرِ الحَلاحِلِ(1/178)
تَذُوْدُ عَنِ الدِّيْنِ القَوِيْمِ بِسَيْفِهَا ... وَمِنْ أَرْضِهَا تَنْفِي جَمِيْعَ الأَرَاذِلِ
اللهم اختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة أعمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى رحمتك مصيرنا ومآلنا واصبب سجال عفوك على ذنوبنا ومن بإصلاح عيوبنا واجعل التقوى زادنا وفي دينك اجتهادنا وعليك توكلنا واعتمادنا إلهنا ثبتنا على نهج الاستقامة وأعذنا من موجبات الندامة يوم القيامة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
12- موعظة
روى أبو الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تفرغوا من الدنيا، فإنه من كانت الدنيا أكبر همه، فرق الله عليه أمره وجعل فقره بَيْنَ عينيه ومن كانت الآخرة أكبر همه جمع الله له أموره وجعل غناه في قلبه وما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا جعل الله قلوب المؤمنين تفد إليه بالود والرحمة وكان الله عز وجل إليه بكل خير أسرع». ولما دخل أبو الدرداء الشام قال يا أهل الشام اسمعوا قول أخ ناصح فاجتمعوا إليه فقال ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون إن الذين كانوا قبلكم بنوا مشيدًا وأملوا بعيدًا وجمعوا عتيدًا فأصبح أملهم غرورا ومساكنهم قبورا. وقال بعضهم:
إن كل يوم يمر بكم يحمل ما ثبت فيه من خير أو شر ثم يمضي فلا يعود أبدًا فإن قدرتم أن تحظوا كل يوم بمكرمة وتثبتوا فيه حسنة فلا تؤخروا فإن الأيام صحائف فخلدوا فيها الجميل فقد رأيتم حفظها لما استودعت من المحامد والمحاسن والمكارم في قديم الدهر وحديثه.
شعرًا:
لَيْسَ الغَرِيْبُ غَرِيْبَ الشَّامِ وَاليَمَنِ ... إِنَّ الغَرِيْبَ غَرِيْبُ اللَّحْدِ والكَفَنِ
تَمُرُ سَاعَاتُ أَيَّامِيْ بِلَا نَدَمٍ ... وَلا بُكاءٍ ولا خَوفٍ ولا حَزَنِ(1/179)
سَفَرِيْ بَعِيْدٌ وَزَادِيْ لا يُبَلِّغُنِي ... وَقَسْمَي لم تَزَلْ وَالموتُ يَطْلُبُنِي
مَا أَحْلَمَ اللهَ عَني حَيْثُ أَمْهَلَنِي ... وَقَدْ تَمَادَيْتُ في ذَنْبِي وَيَسْتُرنِي
أَنَا الذِي أُغْلِقُ الأَبْوَابَ مُجْتَهِدًا ... عَلَى المعاصِي وَعَيْنُ اللهِ تَنْظُرُنِي
يا زَلةً كُتِبَتْ يا غَفْلَةً ذَهَبَتْ ... يَا حَسْرَةً بَقِيَتْ في القَلْبِ تَقْتُلُنِي
دَعْ عَنْكَ عَذْلِي يا مَن كَانَ يَعْذِلُنِي ... لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ مَا بِي كُنْتُ تَعْذُرُنِي
دَعْنِي أَنُوْحُ على نَفْسِي وَأَنْدِبُهَا ... وَأَقْطَعُ الدَّهْر بالتَّذْكَارِ وَالحَزَنِ
دَعْنِي أَسِحُّ دُمُوعًا لا انْقطاع لَهَا ... فَهَل عَسَى عَبْرَةٌ مِنْهَا تُخَلِّصُنِي
كَأَنَّنِي بَيْنَ تِلْكَ الأَهْلِ مُنْطَرِحًا ... عَلَى الفِرَاشِ وَأَيْدِيهِمْ تُقَلِّبُنِي
وَقَدْ أَتَوْا بِطَبِيْبٍ كَيْ يُعَالِجُنِي ... وَلَم أَرَ مِن طَبِيْبِ اليَومِ يَنْفَعُنِي
وَاشْتَدَّ نَزْعِي وَصَارَ الموتُ يَجْذِبُها ... مِن كُلِّ عِرقٍ بِلا رِفْقٍ وَلا هَوَنِ
وَاسْتَخْرَجَ الرُوْحُ مِنِّي في تَغَرْغُرِهَا ... وَصَارَ في الحَلْقَ مُرًا حِيْنَ غَرْغَرنِي
وَغَمَّضُونِي وَرَاحَ الكُلُّ وَانْصَرَفُوا ... بَعدَ الإِيَاسِ وَجَدُّوا في شِرَا كَفَنِي
وَقَامَ مَنْ كَانَ أَوْلَى الناسِ في عَجَلٍ ... إِلى المُغَسِّلِ يأتِيْنِي يُغَسِلُنِي
وَقَالَ يا قَوْمُ نَبْغِي غَاسِلاً حَذقًا ... حُرًّا أَدِيْبًا أَرِيْبًا عَارِفًا فَطِني
فَجَاءَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ فَجَردَنِي ... مِن الثِيَابِ وَأعْرَانِي وَأفردَنِي
واطَّرحُونِي عَلَى الأَلْواحِ مُنْفَرِدًا ... وَصَارَ فَوْقِي خَرِيْرُ المَاءِ يُنْظِفُنِي
وَأَسْكَبَ المَاءَ مِنْ فَوْقِي وَغَسَّلَنِي ... غُسْلاً ثَلاثًا وَنَادَى القَوْمَ بِالكَفَنِي(1/180)
وَأَلْبَسُونِي ثِيْابًا لا كُمُومَ لَهَا ... وَصَارَ زَادِي حَنُوْطًا حِيْنَ حَنَّطَنِي
وَقَدَّمُونِي إِلى المِحْرَابِ وانصرفُوا ... خَلْفَ الأمَامِ فَصَلَّى ثِم وَدَّعْنِي
صَلَّوا عَلَي صَلاةً لا رُكُوعَ لَهَا ... وَلا سُجُودَ لَعَلَّ اللهَ يَرْحَمُنِي
وَأَنْزَلُونِي في قَبْرِي عَلَى مَهَل ... وَأَنْزَلُوا وَاحِدًا مِنْهُم يُلَحِّدُنِي
وَكَشَّفَ الثَوْبَ عن وَجْهِي لِيْنَظُرنِي ... وَأَسْبَلَ الدَّمْعَ مِِن عَيْنَيْهِ أَغْرَقَنِي
فَقَامَ مُحْتَرِمًا بِالعَزْمِ مُشْتَمِلاً ... وَصَفَّفَ اللِّبنَ مِن فَوقِي وَفَارَقَنِي
وَقَالَ هُلُّوا عَلَيْهِ التُّرَبَ واغْتَنِمُوا ... حُسْنَ الثَّوَابِ مِن الرحمنِ ذِي المِنَنِ
في ظُلْمَةِ القَبْرِ لا أُمُّ هُنَاكَ وَلا ... أَبٌ شَفِيْقٌ وَلا أَخٌ يُؤَنِّسُنِي
وَأَوْدَعُونِي وَلَجُوا في سُؤالِهمُوا ... مَا لِي سِوَاكَ إِلهي مَن يُخَلِّصُنِي
وَهَالَنِي صُوْرةٌ في العَيْنِ إِذْ نَظَرَتْ ... مِن هَوْلِ مَطْلَعِ مَا قَدْ كَانَ أَدْهَشَنِي
من مُنْكَرٍ وَنَكِيْرٍ مَا أَقُولُ لَهُم ... إِذْ هَالَنِي مِنْهُمَا مَا كَانَ أَفْزَعَنِي
فامْنُن عَلَيَّ بِعَفْو مِنْكَ يَا أَمَلِي ... فَإِنَّنِي مُوثَقٌ بِالذَّنْبِ مُرْتَهَنِ
تَقَاسَمَ الأَهْلُ مالِيْ بَعْدَمَا انْصَرَفُوا ... وَصَارَ وزْرِي عَلى ظَهْرِي فَأثْقَلَنِي
فَلا تَغُرَّنَكَ الدُّنْيَا وَزِيْنَتُهَا ... وانْظُرْ إلى فِعْلِهَا في الأَهْلِ والوَطَنِ
وانْظُر إلى مَن حَوَى الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا ... هَلْ رَاحَ مِنْهَا بِغَيْرِ الزَّادِ وَالكَفَنِ
خُذْ القَنَاعَةَ مِنْ دُنْيَاكَ وَارْضَ بِها ... لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلا رَاحَةُ البَدَنِ
يَا نَفْسُ كَفِّيْ عَنِ العِصْيَانِ واكْتَسِبِي ... فِعْلاً جَمِيْلاً لَعَلَّ اللهَ يَرْحَمُنِي(1/181)
اللهم أيقظنا من غفلتنا بفضلك وإحسانك وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك وألحقنا بالذين أنعمت عليهم في دار رضوانك وارزقنا كما رزقتهم من لذيذ مناجاتك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
ثم أعلم أيها الأخ أنه ما من ساعة تمر على العبد لا يذكر الله فيها إلا تأسف وتحسر على فواتها بغير ذكر الله ولذلك ينبغي للعاقل أن يجعل معه شيئًا يذكره لذكر الله كلما غفل عنه.
ويقال إن العبد تعرض عليه ساعات عمره في اليوم والليلة فيراها خزائن مصفوفة أربع وعشرين خزانة فيرى في كل خزانة أمضاها في طاعة الله ما يسره. فإذا مرت به الساعات التي غفل فيها عن ذكر الله رآها فارغة ساءه ذلك وتندم حين لا يفيده الندم.
وأما الساعات التي كان يذكر الله فيها فلا تسأل عن سروره فيها وفرحه بها حتى يكاد أن يقتله الفرح والسرور. قال بعضهم أوقات الإنسان أربعة لا خامس لها النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية.
ولله عليك في كل وقت منها سهم من العبودية.
فمن كان وقته الطاعة لله فسبيله شهود المنة من الله عليه أن هداه ووفقه للقيام بها.
ومن كان وقته المعصية فعليه بالتوبة والندم والاستغفار.
ومن كان وقته النعمة فسبيله الشرك والحمد لله والثناء عليه.
ومن كان وقته البلية فسبيله الرضا بالقضاء والصبر والرضا رضى النفس عن الله، والصبر ثبات القلب بين يدي الرب. اهـ.
العمر إذا مضى لا عوض وما حصل لك منه لا قيمة له. فعمر الإنسان هو ميدانه للأعمال الصالحة المقربة من الله تعالى والموجبة له جزيل الثواب في الآخرة. ولكن ما يعرف قدر العمر إلا نوادر العلماء.(1/182)
قال الله جل وعلا وتقدس: (ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ( [النحل: 32]. وقال تبارك وتعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ( [الطور: 19]. وقال: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ( [الذاريات: 16]. الآيات.
وهذه هي السعادة التي يكدح العبد ويسعى من أجلها وليس لها منها إلا ما سعى كما قال جل وعلا وتقدس: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى( [النجم: 39].
فكل جزء يفوته من العمر خاليًا من عمل صالح. يفوته من السعادة بقدره ولا عوض له منه.
فالوقت لا يستدرك وليس شيء أعز منه وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من العمل الصالح يتوصل به إلى ملك كبير لا يفنى ولا قيمة لما يوصل إلى ذلك لأنه في غاية الشرف والنفاسة.
ولأجل هذا عظمت مراعاة السلف الصالح رضي الله عنهم لأنفاسهم ولحظاتهم وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير ولم يقنعوا لأنفسهم إلا بالجد والتشمير فلله درهم ما أبصرهم بتصريف أوقاتهم.
تَبْغِي الوُصُولَ بِسَيْرٍ فيه تَقْصِيْرُ ... لا شَكَّ أَنَّكَ فِيْمَا رُمْتَ مَغْرُورُ
قَدْ سَارَ قَبْلَكَ أَبْطَالٌ فَمَا وَصِلُوا ... هَذا وفي سَيْرهم جدٌّ وَتَشْمِيْرُ
قال بعضهم أدركت أقوامًا كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهمكم فكما لا يخرج أحدكم دينارًا ولا درهمًا إلا فيما يعود نفعه عليه فكذلك السلف لا يحبون أن تخرج ساعة بل ولا دقيقة من أعمارهم إلا فيما يعود نفعه عليهم ضد ما عليه أهل هذا الزمان من قتل الوقت عند المنكرات.
بَقِيَّةُ العُمْرِ عندِي مَا له ثَمنٌ ... وإِنْ غَدَا غَيْرَ مَحْسُوبٍ مِن الزمَنِ
يَسْتدَرِكُ المرءُ فِيهَا كلَّ فائِتةٍ ... مِن الزمانِ وَيَمْحُو السُوءَ بِالحَسَنِ
آخر:
لا يحْقِر الرَّجُلُ الرَّفِيْعُ دَقِيْقَةً ... في السَّهْو فيها لِلْوَضِيْعِ مَعَاذِرُ(1/183)
فَكَبَائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِير صَغِيْرَةٌ ... وَصَغَائِرُ الرجُلِ الكَبير كَبَائِرُ
رأى أحد الزهاد إنسانًا يأكل فطوره وهو يحتاج إلى مضغ فقال هذا يستغرق وقتًا طويلاً فلما أخرج فطوره وإذا هو ما يستغرق إلا وقتًا يسيرًا.
فقال له ما حملك على هذا فقال إني حسبت ما بين المضغ والسف سبعين تسبيحة.
لله دره على هذه الملاحظة ولقد بلغنا أن أحد علماء السلف كان يأكل باليمنى والكراس باليسرى.
وإذا دخل الخلا أمر القارئ أن يرفع صوته كل هذا محافظة على الوقت.
بلغ يا أخي قتالة الأوقات عند الملاهي والمنكرات من تلفاز ومذياع وكورات وجرائد ومجلات وقيل وقال ونحو ذلك.
ويا أخي إن كنت ممن عصمهم الله من هذه الشرور والبلايا والمنكرات فكثر من حمد الله وشكره وذكره واسأله الثبات حتى الممات.
وانصح إخوانك المسلمين واجتذبهم عن ضياع الأوقات فلعلك أن تكون سببًا لهدايتهم.
وَلا يَذْهَبَنَّ العُمْرُ مِنْكَ سَبَهْلَلا ... وَلا تُغْبَنَنْ بالنَّعْمتينَ بَل اجْهِدِ
فَمَنْ هَجَر اللذَّاتِ نَالَ المُنَى ومَنْ ... أَكَبَّ على اللذَّاتِ عَضَّ عَلَى اليَدِ
فَفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُفُوسِ اعْتِزَازُهَا ... وفي نَيْلِها ما تشتهِي ذِلُ سَرْمَدِ
ثم اعلم أيها الأخ إن الوقت ليس من ذهب كما يقول الناس فإنه أغلى من الذهب والفضة مهما بلغا كثرة إنه الحياة من ساعة الميلاد إلى ساعة الوفاة فتنبه لذلك وحافظ عليه واقتد بالسلف الصالح الذين عرفوا قيمة الوقت.
قال ابن مسعود رضي الله عنه ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه عمري ولم يزد فيه عملي.
وقال آخر كل يوم يمر بي لا أزداد فيه علمًا يقربني من الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمسه.
وقال آخر من أمضى يومًا من عمره في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد أثله أو حمد حصله أو خير أسسه أو علم اقتبسه فقد عق يومه وظلم نفسه. ولا تسأل عن ندمه يوم ينظر المرء ما قدمت يداه.(1/184)
وإذا كان هذا حرص السلف على الوقت والمحافظة عليه وتقديره عندهم فإن مما يحزن المسلم ويجرحه ويدمي القلب ويمزق الكبد أسى وأسفًا نشاهده عند كثيرين من المؤمنين من إضاعة للوقت تعدت حد التبذير والإسراف والتبديد.
وبالحقيقة أن السفيه هو مضيع الوقت لأن المال له عوض أما الوقت فلا عوض له.
فالعاقل من حفظ وقته وتجنب ما يضيعه عليه كالجلوس عند الملاهي والمنكرات ومطالعة في الكتب الهدامات إن من أخسر الناس أعمارًا من شغلتهم شهواتهم عن أمور دينهم ومصالح أمورهم قال الله جل وعلا وتقدس: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً( [الكهف: 28].وقال عز من قائل: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً( [فاطر: 8].
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللهم إن كنا مقصرين في حفظ حقك، والوفاء بعهدك، فأنت تعلم صدقنا في رجاء رفدك، وخالص ودك، اللهم أنت أعلم بنا منا، فبكمال جودك تجاوز عنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شعرًا: قصيدة زهدية وعظية سقط بعضها وعوضناها عنه ما بين الأقواس:
لا تَأْسَفَنَّ عَلَى الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا ... فَالمَوْتُ لا شَكَّ يُفْنِيْنَا وَيُفْنِيْهَا
وَمَنْ يَكُنْ هَمُّهُ الدُّنْيَا لِيَجْمَعَهَا ... فَسَوْفَ يَوْمًا عَلَى رَغْمٍ يُخَلِّيْهَا
لا تَشْبَعُ النَّفْسُ مِنْ دُنْيَا تُجَمِّعُهَا ... وَبُلَغَةٌ مِنْ قِوَامِ العِيْشِ تَكْفِيْهَا
إعْمَلْ لِدَارِ البَقَا رِضْوَانُ خَازنُهَا ... الجَارُ أحْمِدُ والرَّحمنُ بَانِيْهَا
أَرْضٌ لَهَا ذَهَبٌ والمِسْكُ طِيْنَتُهَا ... وَالزَّعْفَرانُ حَشِيْشٌ نَابِتٌ فِيْهَا(1/185)
أَنْهَارُهَا لَبَنٌ محْضَّ وَمِنْ عَسَلٍ ... والخَمْرُ يَجْرِي رَحَيْقًا في مَجَارِيْهَا
وَالطَّيْرُ تَجْرِي عَلَى الأَغْصَانِ عَاكِفَةً ... تُسَبِّحُ اللهَ جَهْرًا في مَغَانِيْهَا
مَنْ يَشْتَرِي قُبَّةً في العَدْنِ عَالِيةً ... في ظَلِّ طُوبى رَفِيْعَاتٍ مَبَانِيْهَا
دَلالُهَا المُصْطَفَى واللهُ بَائِعُهَا ... وَجُبْرَئِيْل يُنَادِي في نَوَاحِيْهَا
مَنْ يَشْتَرِيْ الدَّارِ في الفِرْدَوْسِ يَعْمُرَهَا ... بِرَكْعَةٍ في ظَلامِ اللَّيْلِ يُخْفِيْهَا
أَو سَدِّ جَوْعَةِ مِسْكِينٍ بِشِبْعَتِهِ ... في يَوْم مَسْغَبَةٍ عَمَّ الغَلا فِيْهَا
النَّفْسُ تَطْمَعُ في الدَّنْيَا وَقَدْ عَلِمَتْ ... أَنَّ السَّلامَةَ مِنْهَا تَرْكُ مَا فِيْهَا
وَاللهِ لَو قَنِعَتْ نَفْسِي بِمَا رُزِقَتْ ... مِنَ المَعِيْشَةِ إِلا كَانَ يَكْفِيْهَا
وَاللهُ واللهِ أَيْمَانٌ مُكَرَّرَةٌ ... ثَلاثَةٌ عَنْ يَمِيْنٍ بَعْدَ ثَانِيْهَا
لَوْ أَنْ في صَخْرَةٍ صَمَّا مُلَمْلَمَةٍ ... في البَحْر رَاسِيَةٌ مِلْسٌ نَوَاحِيْهَا
رِزْقًًا لِعَبْدٍ بَرَاهَا اللهُ لانْفَلَقَتْ ... حَتَّى تُؤدِيْ إِلَيْهِ كُلُّ مَا فِيْهَا
أَوْ كَانَ فَوْقَ طِباقِ السَّبْعِ مَسْلَكُهَا ... لَسَهَّلَ اللهُ في المَرْقَى مَرَاقِيْهَا
حَتَّى يَنَال الذِي في اللَّوحِ خُطَّ لَهُ ... فَإِنْ أَتَتْهُ وإِلا سَوْفَ يَأْتِيْهَا
أَمْوَالُنَا لِذَوِي المِيْرَاثِ نَجْمَعُهَا ... وَدَارُنا لِخَرَاِب البُومِ نَبْنِيْهَا
لا دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ المَوتِ يَسْكُنُهَا ... إِلا التي كانَ قَبْلَ المَوْتِ يَبْنِيْهَا
فَمَنْ بَنَاهَا بِخَيْر طَابَ مَسْكَنُهُ ... وَمَنْ بَنَاهَا بِشرِّ خَابَ بِانِيْهَا
وَالنَّاسُ كَالحَبِّ والدُّنْيَا رَحَى نَصُبِتْ ... لِلْعَالمِيْنَ وَكفُّ المَوْتِ يُلْهِيْهَا(1/186)
فَلا الإِقَامَةُ تُنْجِي النَّفْسَ مِنْ تَلَفٍ ... وَلا الفِرَارُ مِنَ الأَحْدَاثِ يُنجِيْهَا
ولِلنُّفُوسِ وَإَن كَانَتْ عَلَى وَجَلٍ ... مِن المنية آمَالٌ تُقَوِّيْهَا
فَالمَرْء يَبْسُطُهَا والدَّهْرُ يَقْبِضُهَا ... وَالبِشْرُ يَنْشُرهَا وَالمَوْتُ يَطْوِيْهَا
وَكُلُّ نَفْسٍ لَهَا زَوْرٌ يُصَبِّحُهَّا ... مِنَ المَنِيَّةِ يَوْمًا أَوْ يُمَسِّيْهَا
تِلْكَ المَنَازِلُ في الآفَاقِ خَاوِيَةٌ ... أَضْحَتْ خَرَابًا وَذَاقَ المَوْتَ بَانِيْهَا
كَمْ مِن عَزيزٍ سَيَلْقَى بَعد عزته ... ذُلاً وضَاحِكَةٍ يَوْمًا سَيُبْكِيْهَا
وَلِلْمَنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مُرضِعَةٍ ... وَلِلْحِسَاب بَرَى الأَرْواحَ بارِيْهَا
لا تَبْرَحَ النَّفْسُ تَنْعَى وهي سَالمةٌ ... حَتَّى يَقُومَ بِنَادِ القَومِ نَاعِيْهَا
وَلَنْ تَزَالَ طِوَالَ الدَّهْرِ ظَاعِنَةً ... حَتَّى تُقِيْمَ بِوَادٍ غَيْرِ وَادِيْهَا
أَيْنَ المُلوكُ الَّتِي عَنْ حَظِّهَا غَفَلَتْ ... حَتَّى سَقَاهَا بِكَأسِ المَوْتِ سَاقِيْهَا
أَفْنَى القُرونَ وَأَفْنَى كُلَّ ذِي عُمُرٍ ... كَذَلِكَ المَوتُ يُفْنِي كُلَّ مَا فِيْهَا
فَالمَوتُ أَحْدَقَ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ... وَالنَّاسُ في غَفْلَةٍ عَنْ كُلَّ مَا فِيْهَا
لَوْ أَنَّهَا عَقَلَتَ مَاذَا يُرَادُ بِهَا ... مَا طَابَ عَيْشٌ لَهَا يَوْمًا وَيُلْهِيْهَا
"تَجْني الثَمَارَ غَدًا في دَارِ مَكْرُمَةٍ ... لا مَنَّ فِيْهَا وَلا التَّكْدِيْرُ يَأْتِيْهَا"
"فِيْهَا نَعِيْمٌ مُقِيْمٌ دَائِمًا أَبَدًا ... بِلا انْقِطَاعٍ وَلا مَن يُدَانِيْهَا"
"الأُذْنُ وَالعَيْنُ لَمْ تَسْمَعْ وَلَمْ تَرَهُ ... وَلَمْ يَدْر في قُلُوبِ الخَلْقِ مَا فِيْهَا"
"فَيَا لَهَا مِنْ كَرَامَاتٍ إِذَا حَصَلَتْ ... وَيَا لَهَا مِنْ نُفُوسِ سَوْفَ تَحْوِيْهَا"(1/187)
"وَهَذِهِ الدَّارُ لا تَغْرُرْكَ زَهْرَتُهَا ... فَعَنْ قَرِيْبٍ تَرَى مُعْجِبكَ ذَاوِيْهَا"
"فَارْبَأ بنَفْسُكَ لا يَخْدَعكَ لامِعُهَا ... مِنَ الزَّخَارِفِ وَاحْذَرْ مِنْ دَوَاهِيْهَا"
"خَدَّاعَةٌ لَمْ تَدُمْ يَوْمًا عَلَى أَحَدٍ ... وَلا اسْتَقَرَّتْ عَلَى حَالٍ لَيَالِيْهَا"
"فَانْظُرْ وَفَكَّرْ فَكَمْ غَرَّتْ ذَوي طَيْشِ ... وَكَمْ أَصَابَتْ بِسَهْم المَوْتِ أَهْلِيْهَا"
اعْتَزَّ قَارُون في دُنْيَاهُ مِنْ سَفَهٍ ... وَكَانَ مِنْ خَمْرِهَا يَا قَوْمُ ذَاتِيْهَا
يَبِيْتُ لَيْلَتَهُ سَهْرَانَ مُنْشَغِلاً ... في أَمْرِ أَمْوَالِهِ في الهَمِّ يَفْدِيْهَا
وَفي النَّهَارِ لَقَدْ كَانَتْ مُصِيْبَتُهُ ... تَحُزُّ في قَلْبِه حَزًّا فَيُخْفِيْهَا
فَمَا اسْتَقَامَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَلا قَبِلتْ ... مِنْهُ الودَادَ وَلَمْ تَرْحَمْ مُجِبِّيْهَا
"ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى المَعْصُومِ سَيِّدِنَا ... أَزْكَى البَرِّيةِ دَانِيْهَا وَقَاصِيْهَا"
13- (موعظة)
قال الله جل وعلا: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ( [الحشر: 2]. الاعتبار: النظر في الأمور ليعرف بها شيء من غير جنسها، والأبصار: العقول والمعنى تدبروا.
إخواني: الدنيا دار عبرة ما وقعت فيها حبرة إلا وردفتها عبرة أين من عاشرناه كثيرًا وألفنا، أين من ملنا إليه بالوداد وانعطفنا، أين ما ذكرناه بالمحاسن ووصفنا ما نعرفهم لو عنهم كشفنا، ما ينطقون لو سألناهم وألحفنا.
وسنصير كما صاروا فليتنا أنصفنا، كم أغمضنا من أحبابنا على كرههم جفنا، كم ذكرتنا مصارع من فنى من يفني، كم عزيز أحببنا دفناه وانصرفنا، كم مؤنس أضجعناه في اللحد وما وقفنا، كم كريم علينا إذا مررنا عليه انحرفنا.
ما لنا نتحقق الحق فإذا أيقنا صدفنا، أما ضر أهله التسويف، وها نحن قد سوفنا، أما التراب مصيرنا فلماذا منه أنفنا، ألام تغرنا السلامة وكأن قد تلفنا.(1/188)
أين حبيبنا الذي كان وانتقل، أما غمسه التلف في بحره وارتحل، أما خلا في لحده بالعمل، أين من جر ذيل الخيلاء غافلاً، ورفلن أما سافر عنا وإلى الآن ما قفل.
أين من تنعم في قصره وفي قبره قد نزل، فكأنه بالدار ما كان وفي اللحد لم يزل، أين الجبابرة الأكاسرة الأول الذين كنزوا الكنوز العتاة الأول، ملك الأموال سواهم والدنيا دول.
شعرًا:
تَنَامُ وَقَدْ أُعِدَّ لكَ السُهَادُ ... وَتُوقِنُ بِالرَّحِيْلُ وَلَيْسَ زَادُ
وَتُصِبْحُ مِثْلَ ما تُمْسِيْ مُضِيْعًا ... كَأَنَّكَ لَسْتَ تدْرِيْ مَا المُرَادُ
أَتَطْمَعُ أَنْ تَفُوْزَ غَدًا هَنِيًا ... وَلَمْ يَكُ مِنْكَ في الدُّنْيَا اجْتِهَادُ
إِذَا فَرَّطْتَ في تَقْدِيمِ زَرْعٍ ... فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ عَدَمٍ حَصَادُ
اللهم اجعل في قلوبنا نورًا نهتدي به إليك وتولنا بحسن رعايتك حتى نتوكل عليك وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك فالعزيز من لاذ بعزك والسعيد من التجأ إلى حماك وجودك والذليل من لم تؤيده بعنايتك والشقي من رضي بالإعراض عن طاعتك اللهم نزه قلوبنا عن التعلق بمن دونك واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
14- موعظة
عباد الله سيجيء يوم يتغير فيه هذا العالم تنفطر فيه السماء وتنتثر فيه الكواكب وتطوى السماء كطي الصحيفة يزيلها الله ويطويها جل وعلا وتبدل الأرض غير الأرض وينفخ في الصور فيقوم الناس من قبورهم أحياء كما كانوا في هذه الدنيا حفاة عراة غرلاً.(1/189)
وحينئذ يحشر الكافر أعمى لا يرى أصم لا يسمع أخرس لا يتكلم يمشي على وجهه ليعلم من أول أنه أهل للإهانة ويكون أسود الوجه أزرق العينين في منتهى العطش في يوم مقداره خمسين ألف سنة ليس بينه وبين الشمس إلا مقدار ميل إذا ذاك يقف ذاهل العقل شاخص البصر لا يرتد إليه طرفه وفؤاده هواه ويعطى كتابه بشماله أو من وراء ظهره فيتمنى أنه لم يعطه.
ثم يؤمر به إلى النار ويسلك في سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا وبعد دخولها لا يخرج أبدًا ولا يزيده إلا عذابًا إذا استغاث من العطش يغاث بماء كالمهل يشوي الوجوه ويذيب الأمعاء والجلود تحيط به جهنم من كل ناحية وكلما نضج جلده بدل غيره.
وله مقامع من حديد، كل هذا العذاب يعانيه ولا يموت ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ كما قال تعالى: (لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى( [الأعلى: 13]. وسواء صبر أو لم يصبر هو خالد في هذا العذاب خلودًا لا نهاية له هذا أقصى عذاب يتصور لأنه جزاء أقصى جريمة هي الكفر بالله هذا عذاب مجرد تصوره يطيش العقول ويذهل النفوس ويفتت الأكباد فاستعذ بالله منه أيها المؤمن واسأل الله التثبيت على الإسلام وحسن الاعتقاد.
شعرًا:
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلا تَقُلْ ... خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيْبُ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفَلُ سَاعَةً ... وَلا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيْبُ
لَهَوْنَا لَعَمْرُ اللهِ حَتَّى تَتَابَعَتْ ... ذُنُوبٌ عَلَى آثَارِهِنَّ ذُنُوْبُ
فَيَا لَيْتَ أَنَّ اللهَ يَغْفِرُ مَا مَضَى ... وَيَأْذَنَ في تَوْبَاتِنَا فَنَتُوْبُ
أَقُوْلُ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيَّ مَذَاهِبِيْ ... وَحَلَّ بِقَلْبِيْ لِلْهُمُومِ نُدُوْبُ
لِطُوْلِ جِنَايَاتِيْ وَعُظْمِ خَطِيْئَتِيْ ... هَلَكْتُ وَمَا لِي في المَتَابِ نَصِيْبُ
وَيَذْكِرُنِي عَفْوَ الكَريْمِ عَنْ الوَرَى ... فَأَحْيَا وَأَرْجُوْ عَفْوَهُ وَأَنِيْبُ(1/190)
فَأَخْضَعُ في قِولي وَأَرَغْبُ سائلاً ... عَسَى كَاشِفُ البَلْوى عَلَيَّ يَتُوبُ
15- موعظة
خطب علي رضي الله عنه على المنبر فقال في خطبته: اتقوا الله عباد الله، وبادروا آجالكم بأعمالكم، وابتاعوا ما يبقى بما يزول عنكم –أي: اشتروا ما يبقى من النعيم الأبدي- مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بما يفني من لذة الحياة الدنيا، وشهواتها الزائلة، وترحلوا فقد جد لكم الانتقال-أي: حثثتم وأزعجتم إلى الرحيل –واستعدوا فانتبهوا واعلموا أن الدنيا ليست بدار إقامة، فاستبدلوها بدار الآخرة فإن الله سبحانه لم يخلقكم عبثًا، ولم يترككم سدى- أي: مهملين، بلا راع يزجركم عما يضركم، ويسوقكم إلى ما ينفعكم- وما بين أحدكم وبين الجنة أو النار إلا الموت أن ينزل به، وإن غاية هي الأجل، تنقصها اللحظة، وتهدمها الساعة لجديرة بقصر المدة، وإن غائبًا يحدوه الجديدان الليل والنهار لحري بسرعة الأوبة، وإن قادمًا يقدم بالفوز أو الشقوة، لمستحق لأفضل العدة فتزودوا في الدنيا من الدنيا، ما تحرزون به أنفسكم غدًا، فاتقى عبد ربه، نصح نفسه، قدم توبته وغلب شهوته، فإن أجله مستور عنه، وأمله خادع له، والشيطان موكل به، يزين له المعصية ليركبها ويمنيه التوبة ليسوفها حتى تهجم منيته عليه، أغفل ما يكون عنها. اللهم اجعلنا ممن لا تبطره النعمة، ولا تطغيه، ولا تسدل على بصيرته حجب الغفلة عما هو صائر إليه، ولا تقصر به عن طاعة ربه غاية، ولا تحل به بعد الموت ندامة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
هذه قصيدة بليغة جدًا وهي زهدية وعظية ألق لها سمعك
سِهَامُ المَنَايَا في الوَرَى لَيْسَ تُمْنَعُ ... فَكُلُّ لَهُ يَوْمًا وَإِنْ عَاشَ مَصْرَعُ
وَكُلُّ وَإِنْ طَالَ المَدَى سَوْفَ يَنْتِهِي ... إِلى قَعْر لَحْدٍ في ثَرَى مِنْهُ يُوْدَعُ(1/191)
فَقُلْ لِلَّذِي قَدْ عَاشَ بَعْدَ قَرِيْنِهِ ... إِلى مِثْلِهَا عَمَّا قَلِيْلٍ سَتُدْفَعُ
فَكُلُّ ابْنِ أُنْثَى سَوْفَ يُفْضِي إِلى الرَّدَى ... وَيَرْفَعُهُ بَعْدَ الأَرائِكِ شَرْجَعُ
وَيُدْرِكُهُ يَوْمًا وَإِنْ عَاشَ بُرْهَةً ... قَضَاءٌ تَسَاوَي فِيْهِ عَوْدٌ وَمُرْضَعُ
فَلا يَفْرَحَنْ يَوْمًا بِطُولِ حَيَاتِهِ ... لَبِيْبٌ فَمَا في عَيْشِهِ المَرْءُ مَطْمَعُ
فَمَا العَيْشُ إِلا مِثْلُ لَمْحَةِ بَارِقٍ ... وَمَا المَوْتُ إِلا مِثْلُ مَا العَيْن تَهْجعُ
وَمَا النَّاسُ إِلا كَالنَّبَاتِ فَيَابِسٌ ... هَشِيْمٌ وَغَضُّ إِثرَ مَا بَادَ يَطْلَعُ
فَتَبًا لِدَارٍ مَا تَزَالُ تَعُلُّنَا ... أَفَاوِيْقَ كَأْسٍ مُرَّةً لَيْس تُقْنِعُ
سَحَابُ أَمَانِيْهَا جَهَامٌ وَبَرْقُهَا ... إِذَا شِيْمَ بَرْقٌ خَلَّبٌ لَيْسَ يَهْمَعُ
تَغُرُّ بَنِيْهَا بالمُنَى فَتَقُودُهُمْ ... إِلى قَعْرِ مَهْوَاةٍ بِهَا المَرْءُ يُوْضَعُ
فَكَمْ أَهْلَكَتْ في حُبَّها مِنْ مُتَيَّمٍ ... وَلَمْ يَحْظَ مِنْهَا بِالمُنَى فَيُمَتَّعُ
تُمَنِّيْهِ بالآمَالِ في نَيْل وَصْلِهَا ... وَعَنْ غَيَّهِ في حُبِّهَا لَيْسَ يَنْزِعُ
أَضَاعَ بِهَا عُمْرًا لَهُ لَيْسَ رَاجِعًا ... وَلَمْ يَنَلِ الأَمْرَ الذِي يُتَوقَّعُ
فَصَارَ لَهَا عَبْدًا لِجَمْعٍ حُطَامِهَا ... وَلَمْ يَهْنَ فِيها بِالذِي كَانَ يَجْمَعُ
وَلَوْ كَانَ ذَا عَقْلٍ لأغْنَتْهُ بُلْغَةٌ ... مِنَ العَيْشِ في الدَّنْيَا وَلَم يَكُ يَجْشَعُ
إِلى أَنْ تُوَافِيْهِ المَنِيَّةُ وَهُوَ بَالْ ... قَنَاعَةٍ فِيْهَا آمِنًا لا يُرِوَّعُ
مَصَائِبُهَا عَمَّتْ فَلَيْسَ بِمُفْلَتٍ ... شُجَاعٌ وَلا ذُو ذِلّةٌ لَيْسَ يَدْفَعُ
وَلا سَابِحٌ في قَعْرِ بَحْرٍ وَطَائِرٌ ... يُدَوِّمُ في بُوْحِ الفَضَاءِ وَيَنْزِعُ(1/192)
وَلاذُو امْتِنَاعٍ في بُرُوجٍ مُشِيْدَةٍ ... لَهَا في ذُرَى جَو السَّمَاءِ تَرَفُّعُ
أَصَارَتْهُ مِنْ بَعْدِ الحَيَاةِ بِوَهْدَةٍ ... لَهُ مِنْ ثَرَاهَا آخِرَ الدَّهْرِ مَضْجَعُ
تَسَاوَى بِهَا مَنْ حَلَّ تَحْتَ صَعِيْدِهَا ... عَلَى قُرْبِ عَهْدٍ بِالمَمَاتِ وَتُبَّعُ
فَسِيَّانِ ذُو فَقْرٍ بِهَا وَذَوُوا الغِنَى ... وَذُوْ لَكَنْ عِنْدَ المَقَالِ وَمِصْقَعُ
وَمَنْ لَمْ يَخَفْ عِنْدَ النَّوَائِب حَتْفَهُ ... وَذُوْ جُبُنٍ خَوْفًا مِنَ المَوْتِ يُسْرِعُ
وَذُوْ جَشَعٍ يَسْطُو بِنَابٍ وَمَخْلَبٍ ... وَكُلُّ بُغَاثٍ ذَلَّةً لَيْسَ يَمْنَعُ
وَمَنْ مَلَكَ الآفَاقَ بَأْسًا وَشِدَّةً ... وَمَنْ كَانَ مِنْهَا بِالضَّرُوْرَةِ يَقْنَعُ
وَلَوْ كَشَفَ الأَجْدَاثَ مُعْتَبِرًا لَهُمْ ... لِيَنْظُرَ آثَارَ البِلَى كَيْفَ يَصْنَعُ
لِشَاهَدَ أَحْدَاقًا تَسِيْل وَأَوْجُهًا ... مُعَفَّرَةً في التُّرْبِ شُوهًا تُفَزعُ
غَدَتْ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى مُكْفَهِرَّةً ... عَبُوْسًا وَقَدْ كَانَتْ مِنَ البَشْرِ تَلْمَعُ
فَلَمْ يُعْرَفِ المَوْلَى مِنَ العَبْدِ فِيْهِم ... وَلا خَامِلاً مِنَ نَابِهٍ يَتَرَفَّعُ
وَأَنَّى لَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ بَعْدَمَا ... تَبَيَّنَ مِنْهُم مَا لَهُ العَيْنُ تَدْمَعُ
رَأَى مَا يَسُوءُ الطَّرْفَ مِنْهُم وَطَالَمَا ... رَأَي مَا يَسُرُّ النَّاظِرِيْنَ وَيُمْتِعُ
رَأَى أَعْظُمًا لا َتْسَتطِيْعُ تَمَاسُكًا ... تَهَافَتَ مِنْ أَوْصَالِهَا وَتَقَطَّعُ
مُجَرَّدَةً مِنْ لَحْمِهَا فَهِي عِبْرَةٌ ... لِذِي فِكْرَةٍ فِيْمَا لَهُ يَتَوقَّعُ
تَخَوَّنَها مَرُّ الليَالِي فَأصْبَحَتْ ... أَنَابِيْبَ مِنْ أَجْوَافِهَا الرِّيْحُ تُسْمَعُ
إلى حَالَةٍ مُسْوَدَّةٍ وَجَمَاجِمٍ ... مَطَأْطَأَةٍ مِنْ ذِلَّةٍ لَيْس تُرْفَعُ(1/193)
أُزِيْلَتْ عَنِ الأَعْنَاقِ فَهِي نَوَاكِسٌ ... عَلَى التُّرْبِ مِنْ بَعد الوَسَائِدِ تُوْضَعُ
عَلاهَا ظَلامٌ لِلْبِلَى وَلَطَالَمَا ... غَدَا نُورُهَا في حِنْدِسِ الظُّلْمِ يَلْمَعُ
كَأَن لَمْ يَكُنْ يَوْمًا عَلا مَفْرِقًا لها ... نَفَائِسُ تِيْجَانٍ وُدُرٍ مُرَصَّعُ
تَبَاعَدَ عَنْهُمْ وَحْشَةًَ كُلُّ وَامِقٍ ... وَعَافَهُمْ الأَهْلُونَ وَالنَّاسُ أَجْمَعُ
وَقَاطَعَهُمْ مَنْ كَانَ حَالَ حَيَاتِهِ ... بِوَصْلِهِمُ وَجْدا بِهِمْ لَيْسَ يَطْمَعُ
يُبَكِّيْهِمْ الأَعْدَاءُ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ ... وَيَرْحَمُهُمْ مَنْ كَانَ ضِدًا وَيَجْزَعُ
فَقُلْ لِلذِي قَدْ غَرَّهُ طُوْلُ عُمْرِهِ ... وَمَا قَدْ حَوَاهُ مِنْ زَخَارِفَ تَخْدَعُ
أَفِقْ وَانْظُرِ الدُّنْيَا بِعَيْنٍ بَصِيْرَةٍ ... تَجِدْ كُلَّ مَا فِيْهَا وَدَائِعَ تَرْجِعُ
فَأَينَ المُلُوكُ الصَّيْدُ قِدْمًا وَمَنْ حَوَى ... مِنَ الأَرْضِ مَا كَانَتْ بِهِ الشَّمْسُ تَطْلَعُ
حَوَاهُ صَرِيحٌ مِنْ فَضَاءِ بَسِيْطِهَا ... يُقَصِّرُ عَنْ جُثْمَانِهِ حِيْنَ يُذْرَعُ
فَكَمْ مَلِكٍ أَضْحَى بِهَا ذَا مَذَلَّةٍ ... وَقَدْ كَانَ حَيًّا لِلْمَهَابَةِ يُتْبَعُ
يَقُودُ عَلَى الخَيْل العِتَاقِ فَوَارِسًا ... يَسُدُّ بِهَا رَحْبَ الفَيَافِي وَيُتْرِعُ
فَأَصْبَحَ مِنْ بَعْدِ التَّنَعُّمِ فِي ثَرَى ... تُوارِي عِظَامًا مِنْهُ بَهْمَاءُ بَلْقَعُ
بَعِيْدًا عَلَى قُرْبِ المَزَارِ إِيَابُهُ ... فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى القِيَامَةَ مَرْجِعُ
غَرِيْبًا عَنِ الأَحْبَابِ وَالأَهْلِ ثَاوِيًا ... بَأَقْصَى فَلاةٍ خَرْقُهُ لَيْسَ يُرْقَعُ
تُلِحُّ عَلَيْهِ السَّافِيَاتُ بِمَنْزِلٍ ... جَدِيْبٍ وَقَدْ كَانَتْ بِهِ الأَرْضُ تُمْرِعُ
رَهِيْنًا بِهِ لا يَمْلِكُ الدَّهْرَ رَجْعَةً ... وَلا يَسْتَطِيْعَنَّ الكَلامَ فَيُسْمَعُ(1/194)
تَوَسَّدَ فِيْهِ التُّرْبَ مِنْ بَعْدِ مَا اغْتَدَى ... زَمَانًا عَلَى فُرُشٍ مِنَ الخَزِّ يُرْفَعُ
كَذَلِكَ حُكْمُ اللهِ في الخَلْقِ لَنْ تَرَى ... مِنَ النَّاسِ حَيًّا شَمْلُهُ لَيْسَ يَصْدَعُ
اللهم انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإيمان واليقين وخصنا منك بالتوفيق المبين ووفقنا لقول الحق وإتباعه وخلصنا من الباطل وابتداعه وكن له مؤيدًا ولا تجعل لفاجر علينا يدًا واجعل لنا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا وارزقنا علمًا نافعًا وعملاً متقبلاً وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفا من كل داء واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
16- "موعظة"(1/195)
عباد الله من تكبر أذله ومن تواضع لله رفعه الله والمتكبرون يحشرون يوم القيامة في صور الذر تطؤهم الناس لهوانهم على الله تعالى المتكبرون شرار الخلق وأهل النار كل جعظري جواظ مستكبر، المتكبر يشمخ بأنفه إذا تكلم، ويجافي مرفقيه عن جنبيه لاويًا عنقه، يقارب خطاه إذا مشى، متطاولاً على إخوانه، مترفعًا على أقرانه، ينظر الناس شزرًا بمؤخر العين، متقدمًا عليهم إذا مشى، محتقرًا للعامة، ولا فرق عنده بينهم وبين الحمير استجهالاً منه له، فالمتكبر لا يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، لأنه لا يقدر على ذلك، ولا يقدر على التواضع وهو رأس أخلاق المتقين، ولا يقدر على ترك الحقد، ولا يقدر أن يدوم على الصدق، ولا يقدر على ترك الغضب، ولا على كظم الغيظ، ولا يسلم من الازدراء بالناس واحتقارهم ولا يسلم من اغتيابهم، وتنقصهم، لأن فيه من العظمة والعزة والكبرياء، ما يمنعه من ذلك، فما من خلق ذميم إلا وصاحب الكبر والعظمة مضطر إليه، ليحفظ به عزه وعظمته، وما من خلق محمود إلا وهو عاجز عنه خوفًا من أن يفوته عزه وعظمته، ولذلك ورد في الحديث أنه لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ومما جاء في وصية لقمان لابنه: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ( [لقمان: 18]. ومن تعاليم ربنا لهذه الأمة ونبيها عليه الصلاة والسلام، يقول تعالى: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً( [الإسراء: 37]. فيا أيها المتكبر الناظر في عطفيه، المتعاظم في نفسه، إن شأنك حقير، وقدرك صغير ولست بمحسوب في العير، ولا في النفير، وما لك عند عاقل من حساب، ولا تقدير، لا قليل ولا كثير، فهون عليك، وارفق بنفسك، فإنك مغرور، يا مسكين وتدبر كلام رب العالمين (إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ( [النحل: 23] (إِنَّ الَّذِينَ(1/196)
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ( [غافر: 60] (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ( [الزمر: 72]. وذم الكبر في القرآن كثير، والمتكبر عدو لله ولنفسه، وللناس، يقصر في الواجب ويدعي ما ليس له ويتشدق في الكلام، ويتألق في اللباس، وإنه لثقيل في حركاته، وسكناته، بغيض في أمره ونهيه، ومجالسته، ومؤاكلته ومشاربته، والويل كل الويل لمن صاهره أو شاركه أو ربطته به صلة، لأن داء الكبر يعدي ويسري فتبعد السلامة من المقترب منه رأى بعض أهل العلم من يختال في مشيته فغمز جنبه، ثم قال ليست هذه مشية من في بطنه خراء، وكيف يتكبر من أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة وهو مع ذلك يحمل البول والعذرة، هذا أكبر برهان على أنه دنس جاهل مجهول نكرة ممتلئًا كبرًا وإعجابًا بنفسه وسمعة، ورياء ولؤمًا وشؤمًا وشرها فهو أشبه شيء بالدخان يملأ الفضاء ويتك صدور الناس وأصله من القمامات والأوساخ المبعثرة نسأل الله أن يقلل هذا النوع المنحط وأن يكثر ضده من أهل التواضع واللين والعطف والحنان: قال الله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ( [القصص: 83].
نُحْ وابْكِ فالمعروف أقْفَرَ رَسْمُهُ ... وَالمنكرُ اسْتَعْلَى وَأَثَّرَ وَسْمُهُ
لَمْ يَبْقَ إِلا بِدعةٌ فَتَّانَةٌ ... بهوى مُضِل مُسْتَطِيْر سُمُّهُ
وَطَعَامُ سُوْءٍ من مَكَاسِبَ مُرَّةٍ ... يُعْمِي الفؤادَ بِدَائِهِ ويُصِمُّهُ
فَفَشَا الرَّيَاءُ وغِيْبَةُ ونَمِيْمَةٌ ... وقَسَاوةَ مِنْهُ وأثْمَر إِثْمُهُ
لَمْ يَبْقَ زَرْعٌ أَوْ مَبِيْعٌ أَوْ شِرَى ... إِلا أُزِيْلَ عَن الشَّرِيْعَةِ حُكْمُهُ
فَلِكَيْفَ يُفْلحُ عَابِدٌ وعِظَامُهُ ... نَشَأَتْ عَلَى السُّحْتِ الحَرَامِ وَلَحْمُهُ(1/197)
هذا الذي وَعَدَ النَّبِيُّ المُصْطَفَى ... بظُهُوْرِهِ وَعْدًا تَوثقَ حَتْمُهُ
هذا لعَمْرُ إِلهِكَ الزَّمن الذِي ... تَبدُو جَهَالَتُهُ وَيُرْفَعُ عِلْمُهُ
هذا الزمانُ الآخِرُ الكَدِرُ الذِي ... تَزْدَادَ شِرَّتُهُ ويَنْقُصُ حِلْمُهُ
وَهَتِ الأَمَانَةُ فِيْهِ وانْفَصَمَتْ عُرَى التَّ ... ـقْوَى بِهِ والبِرُّ أَدْبَرَ نَجْمُهُ
كَثُرَ الرِّيَا وَفَشا الزِّنَا ونَمَا الخَنَا ... وَرَمَي الهَوَى فيهِ فَأَقْصد سَهْمُهُ
لَمْ يَبْقَ إِلا ظَالِمٌ هُوَ مُرْتَشٍ ... أَوْ حَاكِمٌ تَخْشَى الرِّعيَّةُ ظُلْمَهُ
وَالصَّالِحُونَ عَلَى الذَّهَابِ تَتَابَعُوا ... فَكَأَنَّهُم عِقْدٌ تَنَاثَرَ نَظْمُهُ
لَمْ يَبْقَ إِلا رَاغِبٌ هو مُظْهِرٌ ... لٍلزُّهْدِ والدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ هَمُّهُ
لَوْلا بَقَايَا سُنَّةٍ ورِجَالِهَا ... لَمْ يَبْقَ نَهْجٌ وَاضِحٌ نأَتَّمُهُ
يَا مُقْبِلا في جَمْعِ دُنْيَا أَدْبَرَتْ ... كَبِنَاءٍ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ هَدْمُهُ
هَذِي أَمَاراتُ القِيَامَةِ قَدْ بَدَتْ ... لِمُبَصَّر سَبَقَ العَوَاقَبَ فَهْمُهُ
ظَهَرَتْ طُغَاتُ التُركِ وَاجتَاحُوا الوَرَى ... وَأبادَهُم هَرْجٌ شَدِيْدٌ حَطْمُهُ(1/198)
الصغير منا والكبير الكمال في نفسه ومن اعتقد ذلك في نفسه هوى لأنه لا يلتفت إلى ما به كمال الرجال، ومرض ينتج مرضًا آخر هو مرض الكبر وصف الأنذال والأرذال والجهال، والمتكبر لا ينظر إليه بعين الرضا والكبر ينشأ عنه مرض الحسد والحسود يتمنى زوال نعمة الله عن خلقه، والحسد يولد الحقد الذي ربما حمل صاحبه على قتل من لا ذنب له إلا ما أولاه الله من النعم، وليس هذا كل ما في قلوبنا من الأمراض بل فيها مرض البخل والشح الذي وصل بنا إلى منع الزكاة أو بعضها، وغير ذلك كثير وكلها أمراض مهلكات، ونحن لا نهتم بقلوبنا ولا بأمراضها وإنما نهتم بأمراض أجسامنا، ونبادر في علاجها إلى المستشفيات، وأمراضها يسيرة بسيطة بالنسبة إلى أمراض القلوب، ونهتم أيضًا بجمال ظواهرنا فنبالغ في تحسين ملابسنا ومراكبنا ومساكننا ومجالسنا وأبداننا، أنظر إلينا عند الذهاب إلى مقر العمل لتتعجب من تغفيلنا وانخداعنا، ولو كانت عنايتنا بالقلوب كعنايتنا بالملابس فقط ما كنا بهذه الحالات المحزنات.
اللهم يا عالم الخفيات ويا سامع الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يا خالق الأرض والسموات أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد الوهاب الذي لا يبخل والحليم الذي لا يعجل لا راد لأمرك ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر ذنوبنا وتنور قلوبنا وتثبت محبتك في قلوبنا وتسكننا دار كرامتك إنك على كل شيء قدير وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
17- "موعظة"(1/199)
عباد الله إن داء الحسد من أعظم الأدواء، والابتلاء به من أشد البلوى، يحمل صاحبه على مركب صعب ويبعده عن التقوى، ويركبه الأهواء فيظل ويغوى، يضيق صدر الحسود وينفطر قلبه إذا رأى نعمة الله على أخيه المسلم فيعاني من البؤس واللأوى، ما لا يستطيع أن يبث معه ما يجده من الحزن والقلق، ولا يقدر على الشكوى، إلا إلى الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء أو من هو مثله في الحسد، فقاتل الله الحسود لا يفعل الخير ولا يحبه لإخوانه المسلمين، غاية أمنيته زوال نعمة الله عن عباده إنه بعمله سالك طريق إبليس لعنه الله، فما أوقع الشيطان في معصية الله إلا حسده لأبينا آدم وامتناعه من السجود بعد ما أمره الله، وما حمل قابيل على قتيل هابيل إلا حسده لأخيه حيث تقبل الله منه قربانه الذي أراد به وجه الله والدار الآخرة وما منع المشركين والمترفين من إتباع الرسل إلا الحسد والكبر، وما حمل أهل الكتاب على كراهة الدين الإسلامي وصرف المسلمين عن كتاب الله والإيمان بسيد الرسل وخاتمهم إلا ما ذكره الله عنهم (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ البقرة: 109]. الآية، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» الحاسد لا يضمر إلا غدرًا ولا يعمل إلا شرًا ولا يدبر إلا مكرًا وجملة القول أن الحاسد ميسر للعسرى لا تجدي معه المواعظ والنصائح وقد قيل إن بضاعة إبليس خمسة أصناف يبيعها من قوم معروفين، وهي الحسد وأهله العلماء، وأهل الحرفة الواحدة، أي كل من يتفق عملهم مسلمين أو غير مسلمين، والكبر وأهله الأنذال والسفلة والسفهاء والحمقاء ومن لا خير فيه من المحترفين.(1/200)
والجور والطغيان، وأهله الملوك والأمراء والوزراء والعظماء، وأعوانهم من الفسقة والمجرمين، والكيد، وأهله النساء، والنمامين والدلالين، والمتسببين وبئست البضاعة بضاعة الشيطان، ويا حسرة المشترين، ويا ندامتهم (يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ( [الدخان: 41]. (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ( [فاطر: 43] قيل إنه كان رجل يغشى أحد الملوك فيقوم بحذاء الملك فيقول أحسن إلى المحسن بإحسانه، فإن المسيء سيكفيكه إساءته، فحسده رجل على ذلك المقام، والكلام فسعى به إلى الملك، فقال إن هذا الذي يقوم بحذائك ويقول ويقول ما يقول يزعم أنك أبخر، فقال له الملك وكيف يصح ذلك عندي، قال تدعوه إليك فإنه إذا دنا منك وضع يده على أنفه لئلا يشم رائحة البخر، فقال له انصرف حتى أنظر وأتحقق ذلك، فخرج من عند الملك، فدعا الحاسد ذلك الرجل إلى منزله فأطعمه طعامًا فيه ثوم فخرج الرجل من عنده وذهب إلى الملك على عادته وقام بحذاء الملك فقال أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن المسيء سيكفيكه إساءته فقال له الملك إدن مني، فدنا منه ووضع يده على فيه، مخافة أن يشم الملك منه رائحة الثوم فقال الملك في نفسه ما أرى فلانًا إلا صدق، قال وكان الملك لا يكتب بخطه إلا بجائزة أو صلة، فكتب له كتابًا بخطه إلى عامله: قال فيه إذا أتاك حامل كتابي هذا فاذبحه، واسلخه، وأحش جلده تبنًا وابعث به إلي، وأخذ الكتاب وخرج فلقيه الرجل الذي سعى به إلى الملك وكذب عليه، فقال له ما هذا الكتاب قال خط الملك لي به صلة فقال هبه لي فقال هو لك فأخذه، الساعي ومضى به إلى عامل الملك، فقال له العامل: في كتابك أني أذبحك، وأسلخك فقال إن الكتاب ليس لي، فالله الله في أمري حتى تراجع الملك فقال ليس لكتاب الملك مراجعة فذبحه وسلخه وحشى جلده تبنًا، وأرسله للملك، ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته وقال مثل قوله، فتعجب الملك، وقال له ما(1/201)
فعل الكتاب، فقال لقيني رجل هو فلان فاستوهبه مني فوهبته له، قال له الملك إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر قال ما قلت ذلك قال فلم وضعت يدك على فيك قال لأنه أطعمني طعامًا فيه ثوم فكرهت أن تشمه، قال صدقت، ارجع إلى مكانك، فقد كفى المسيء إساءته فانظر يا أخي كيف دارت على الباغي الدوائر واسأل ربك أن يعافيك من هذه الأمراض الفتاكة التي ربما قضت على حياته وأوصلته في الآخرة نار جهنم.
وختامًا فعلى اللبيب أن يتجنب الحسد فإنه من خُلُق الأدنياء وصفة الجهلاء فإن أبصرت بقائم بالحق فاعضده ويسر له السبيل حسب استطاعتك وإن رأيت نعمة أسبغها الله على عبد من عباده فاسع إلى مثلها بقلب طاهر ووجدان نقي لعلك أن تبلغها بإذن الله.
فعزيز النفس إن أبصر غيره في أمر يثنى عليه به، أو رآه في منزلة يغبط عليها فلا يجول في وهمه أن يحسده على نعمته أو يحط من منزلته بل يسعى كل السعي لينال مثل مناله ويرقى مثل رقيه فإن زادت فيه عزة النفس والإباء فلا يرضى لنفسه إلا بما فوق ذلك المقام.
اللهم وفقنا توفيقًا يقينا عن معاصيك وأرشدنا إلى السعي فيما يرضيك وأجرنا يا مولانا من خزيك وعذابك وهب لنا ما وهبته لأوليائك وأحبابك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
18- موعظة(1/202)
عباد الله ما بال الكثير اليوم لا يسمعون، وإذا سمعوا لا ينتفعون، أفي آذانهم صمم، أم هم في الأمر متهاونون، ولأي شيء يجتمعون، ويقوم فيهم الخطباء المجيدون، والوعاظ المبلغون، ويذكرونهم أيام الله فلا يخشع الوعاظ ولا الموعظون، ويرغبونهم في الخير فلا يسارعون، وينذرونهم عواقب السوء فلا يتأثرون (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( [يس: 83] لقد كان السلف الصالح إذا وعظوا تأثر المستمع لهم تأثرًا عظيمًا، وفارق ما عنده من المنكرات، والمحرمات، وفارق من أصر عليها من أقاربه، وأولاده، وإخوانه، وآبائه، وجدد توبة نصوحًا، عما سلف له من الأعمال، التي لا يرتضيها الدين الإسلامي، فأين أولئك من هؤلاء الخلف، الذين ضيعوا تعاليم الدين الإسلامي، وضيعوا العمل به، وتركوا الانقياد لكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، تأمل كيف ترى أكثرهم أضاعوا الصلاة، وعطلوا الأحكام، وتساهلوا بأمر الحرام، يمرون بالمساجد، وقت الصلاة، فلا يعيرونها أي اهتمام أما الملاهي والمنكرات فإليها يسرعون وعليها يعكفون وإلى ما فيها من الأغاني والمجون والسخف يتسابقون فإنا لله وإنا إليه راجعون، أين الخوف من الجبار، أين الحيا من فاطر الأرض والسموات، أين المروءة والاعتصام بالقرآن، وما كان عليه آباؤكم وأجدادكم العباد الكرام، الذين كانت المساجد تغص بهم شيوخًا وشبانًا، وكانت تعج بأصواتهم تسبيحًا، وتحميدًا وتهليلاً، وتكبيرًا، واستغفارًا، وقرآنا، وكانوا يؤمون المساجد قبل الآذان زرافات ووحدانا، ولا يتخلف منهم إلا معذور، إما مريض أو غائب، أو نحو ذلك، وكان المار ببيوتهم ليلاً يسمع زجل التسبيح، والتهليل، والبكاء والأنين والتضرع إلى بديع السموات والأرض، والإلحاح بدعائه، والالتجاء إليه والإنابة، عكس ما عليه هؤلاء الخلف، الذين صدق عليهم قول الله تعالى: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا(1/203)
الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً( [مريم: 59]. الذين إن بحثت عنهم في الليل، وجدتهم حول الملاهي والمنكرات، متربعين أمام التليفزيون، وغناء المطربين، وإن بحثت عنهم في صلاة الفجر وجدتهم في فرشهم، إثر سهرهم حول تلك المنكرات، وإن بحثت عنهم وقت صلاة الظهر ففي شؤون الدنيا، وما يتعلق بها، وإن أردتهم في صلاة العصر، وجدت بعضهم عند الكورة، والبعض عند التلفزيون، والبعض عند المذياع، وأغانيه وملاهيه، وإن سألت عنهم وقت صلاة المغرب وجدت بعضهم يمشي مترددًا، والبعض في الملعب، والبعض عند التلفزيون، أو المذياع، وأما العشاء الآخرة فتلك هم فيها أقسام أكثرهم حول التلفزيون أو في الأسواق، أو يلعبون ورقة، أو نحو ذلك من المنكرات وهكذا قتلوا أوقاتهم الثمينة، وضيعوها، وقضوا على مستقبلهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله والله أعلم بما أراده بعباده، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( [الروم: 41] والحالة هذه مخيفة لذوي العقول والفهوم، لا سيما وقد توالت أسباب الهناء والراحة، والسرور، والاطمئنان، وقد قيل إذا رأيت الله تعالى أنعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج وروى عقبة بن عامر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك استدراج ثم تلا: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ( [الأنعام: 44]» وقال قتادة ما أخذ الله قومًا إلا عند سكرتهم وغرتهم، ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون.
19- موعظة(1/204)
عباد الله لقد توعد الله الذين يخالفون أمره وينصرفون عن ذكره ويجترؤن على معاصيه بشديد غضبه وعظيم سخطه وحذرهم بأسه وانتقامه فما بال كثير من الناس بعد القرون الأولى عمدوا إلى محارم الله فارتكبوها ومأموراته فاجتنبوها ثم عادوا بمر الشكوى من تغير الأحوال وانتزاع البركة من الأرزاق والأموال.
أحسبت أنك يا ابن آدم تهمل وتترك فلا تعاقب، وتظلم وتتقلب في النعيم كيف شئت ولا تحاسب أنسيت قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» كل هذا من جهالتك وانطماس بصيرتك ولكن اعمل ما شئت فسيرى الله عملك ثم ترد إليه ويجازيك بما تستحق، جهلت في حال النعيم وكان الواجب عليك أن تتعرف إلى الله في الرخاء ليعرفك في الشدة، ولكن لم تفعل، وأصبحت بعد زوالها منك تشكو لمن؟ تشكو لمن عصيته بالأمس تشكو لمن خالفت أوامره وفعلت نواهيه مع علمك انه المنتقم الجبار تشكو لمن حاربته بالمعاصي المتنوعة وقد أسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنه ولو شاء لمنعها عنك لأنه الفعال لما يريد تشكو لمن تأكل نعمه في أرضه مستعينًا بها على معاصيه أليس عملك هذا في منتهى اللآمة والخساسة يمدك بالنعم وتبارزه بالمعاصي، ألك صبر على جهنم وزمهريرها، ألك طاقة بالويل والغساق والزقوم والحميم والضريع، عباد الله هذا الذي نحن فيه من الانهماك في الدنيا وقتل كل الوقت في جمعها والابتعاد عن الآخرة وانتشار المعاصي بسرعة هائلة ما هو والله إلا بما كسبت أيدينا، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ( [الروم: 41]. الآية. عباد الله إن غلاء الأسعار، وانتشار الأمراض، وما رأيتم من الفتن والتعقيد في الممتلكات والتقاطع والعقوق، ما هو والله إلا جزاء عملنا وما هو إلا قليل من كثير فقد تمادينا في المعاصي والله يغار على أوامره أن تجتنب ومحارمه أن ترتكب قال صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أغير من الله»(1/205)
الحديث.
اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
20- "موعظة"
عباد الله ما للألسن عن شكر نعم الله المتتالية قاصرة، وما للعيون إلى زهرة الحياة الدنيا الفانية ناظرة، وما للأقدام عن طريق الهداية الواضحة حائرة وما للعزائم والهمم عن العمل الصالح فاترة وما للنفوس لا تتزود من التقوى وهي مسافرة وما لها لا تتأهب وتستعد للنقلة إلى الدار الآخرة، أركونا إلى الدنيا وقد فرقت الجموع وكسرت أعناق الأكاسرة وقصرت آمال القياصرة وأدارت على أهلها من تقلبها الدائرة أم اغترارًا بالإقامة، ومطايا الأيام بكم في كل لحظة سائرة أم تسويفًا بالتوبة والأعمال فهذه والله الفكرة والصفقة الخاسرة لقد رانت على القلوب قبائح الأعمال، وضربت عليها وعلى المسامع من الذنوب أقفال فيا خجلة من سئل فعدم الجواب أو بجواب يستحق عليه أليم العذاب ويا حسرة من نوقش عن الدقيق والجليل في الآخرة الحساب، ويا ندامة من لم يحصل إلا على الغضب من الكريم الوهاب ويا خيبة من مآله إلى نار تلتهب إلى إحراقه التهابا، فمتى تقبلون على الله بقلوب صادقة لا تنتهون من مفارقة الذنوب بعزمة صادقة، لا في الصادقين تيقنون أنه ثابت لكم قدم، ولا في التائبين صحت لكم توبة وإقلاع وعزم وندم. ولا عند تلاوة كتاب الله تقشعر منكم الجلود ولا عند سماع المواعظ ترق منكم القلوب، التي هي أقسى من الجلمود فبماذا ترجون لحاق السعداء؟ وكيف تطعمون في الفوز والنجاة معهم غدًا؟ وأنتم تتبعون الخطايا بالخطايا وتبارزون الله بها في البكر والعشيا، فيا حسرة نفوس أطمأنت إلى الدنيا دار الغرور، ويا خراب قلوب عمرت بأماني كلها باطل وزور، ويا نفاذ أعمار ينقص منها كل يوم وساعة ولا يزاد ويا خيبة مسافر يسير السير السريع وهو بلا زاد، فالبدار البدار عباد الله(1/206)
بالتوبة البدار والغنيمة الغنيمة قبل خروج وقت الاختيار، وإتيان وقت لا تقال فيه العثار:
نَسِيرُ إِلى الآجَالِ في كُلِّ لَحْظَةٍ ... وَأَيَّامُنا تُطْوَى وَهُنَّ مَرَاحِلُ
وَلَم نَرَ مِثْلَ المَوِت حَقًّا كَأَنَّهُ ... إِذَا مَا تَخَطَّتُهْ الأَمَانِيُّ بَاطِلُ
تَرَحَّلْ مِن الدُّنْيَا بِزَادٍ مِنَ التَّقَى ... فَعُمْركَ أَيَّامٌ تُعَدُّ قَلائِلُ
اللهم يا حي ويا قيوم فرغنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكفلت لنا به، واجعلنا ممن يؤمن بلقائك، ويرضى بقضائك، ويقنع بعطائك، ويخشاك حق خشيتك.
اللهم اجعل رزقنا رغدًا، ولا تشمت بنا أحدًا.
اللهم رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعول في الدنيا إلا عليه.
اللهم إنا نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر ما أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
21- "موعظة"
عباد الله إن لكم بأبدانكم عناية عظيمة لا تساميها العنايات بل كل حياتكم ذاهبة فيما تبذلونه لخدمة هذا البدن من مجهودات أليس ليلكم ونهاركم في كد مديم لجمع الأموال وهل كل تلك الأموال إلا وسيلة تصلون بها ما لهذا البدن من ملذوذات.
لا بأس بالاعتناء بالبدن لكن بدون هذا الإفراط الذي لا يرتضيه العاقل اللبيب لأن البدن مهما أكرم مآله إلى التراب تتمتع بلذيذ لحمه الديدان والذي ينبغي أن تهتم به وتصرف عنايتك به نفسك قبل جسمك التي أنت بها من صفوة هذا العالم وعلى العناية بها تتوقف سعادتك في هذه الحياة وبعد الممات.
ولهذه النفس غذاء ولعلك تود أن تعرفه وهو جدير بالاعتناء منك والتقدير والجد له والتشمير لأن منفعته دنيا وأخرى ولا نسبة بينها وبين منفعة هذه الأبدان.(1/207)
ذلك الغذاء أو القوت هو أنواع الطاعات كإخلاص الأعمال لله والذكر له والشكر له ومحبته وتعظيمه والقيام التام بأركان الإسلام الشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الباقيات الصالحات وأنواع العلوم والمعارف أوحاها الله وأودعها هذه المصنوعات.
والاعتناء بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وما إلى ذلك من أنواع القربات والذي يظهر لنا من حالك وسيرتك أنك في شغل شاغل عن الإقبال على النفس وتغذيتها بما قلنا من أنواع الطاعات ذلك أن قلبك متعلق بتحصيل غذاء الجسم والاعتناء به فهو الذي نصب عينيك.
ولذلك تشب وتشيب وتموت وأنت جاهل بضروريات الدين الإسلامي وربما مر عليك مدة طويلة بدون أن تتفكر بنعم الله وتذكره بلسانك وتشكره على ما أولاك وكذلك الآخرة ربما أنها تمضي المدة لا تذكرها ولا تستعد لها.
وكما أن للأبدان أمراض كثيرة فللنفس أمراض أكثر وأعظم وأخطر وتلك الأمراض هي السيئات التي من وقيها رحم قال الله تعالى: (وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( [غافر: 9].
وكذلك من أمراض النفس رذائل الأخلاق والجهل بالشرع الحكيم ولهذه الأمراض دواء نافع بإذن الله أن تتوب توبة نصوحًا إلى الله وتتخلق بضد الفعل أو الخلق الذميم فهل لك شوق إلى هذا الدواء الشافي بإذن الله كما أنك تشتاق بل تهرول وتسرع إلى طبيب الأبدان ومعك ما معك من المال إذا أحسست بمرض في بدنك وإن لم تجد في بلادك ذهبت تطلب الشفاء ولو في بلاد الحرية والكفر محكمة القوانين أعداء الله ورسوله والمؤمنين.
أما بديع السموات والأرض فلا أراك تلتجي له إلا عند الشدائد وهذا والله قبيح ممن يدين بدين الإسلام ويؤمن بالبعث والنشور، فالتفت يا أخي لنفسك وذكرها بنعم الله عليك لتتمكن محبته منها واقبل عليها وعودها على الآداب الشرعية.
شعرًا:
للهِ قومٌ أَخْلَصُوْا في حُبِّهِ ... فَكَسَا وجُوهَهُمُ الوَسِيْمَةَ نُوْرًا(1/208)
ذَكَرُوا النَّعِيْمَ فَطَلَّقُوا دُنْْيَاهُمُوا ... زُهْدًا فَعَوضَهُم بِذَاكَ أَجُوْرًا
قَامُوا يُنَاجُونَ الإلهَ بِأَدْمُعٍ ... تَجْري فَتَحْكِيْ لُؤلُؤًا مَنْثُوْرًا
سَتَروا وُجُوهَهُمُوا بِأَسْتَارِ الدُّجَى ... لَيْلاً فَأَضْحَتْ في النَّهَارِ بُدُوْرًا
عَمِلُوا بِمَا عَلِمُوا وَجَادُوْا بِالذِي ... وَجَدُوا فَأَصْبَحَ حَظهُم مَوفُورًا
وَإِذَا بَدَا لَيْلٌ سَمِعْتَ حَنِيْنَهُمْ ... وَشِهَدْتَ وجْدًا مِنْهُمُوا وَزَفِيرًا
تَعِبُوا قَلِيلاً في رِضَا مَحْبُوبِهِم ... فَأَرَاحَهُم يَوْمَ اللِّقَاءِ كَثِيْرًا
صَبَرُوا عَلى بَلْوَاهُمُوا فَجَزَاهُمُوا ... يَوْمَ القِيَامَةِ جَنَّةً وَحَرِيْرًا
يَا أَيُّهَا الغِرُّ الحَزِيْنُ إِلى مَتَى ... تُفْنِي زَمَانَكَ بَاطِلاً وَغُرُوْرًا
بَادِرْ زَمَانَكَ واغْتَنِمْ سَاعَاتِهِ ... وَاحْذَرْ تَوانًا كَي تَحَوُزَ أَجُوْرًا
وَاضْرعْ إِلى المَولى الكَريمِ وَنَادِهِ ... يَا وَاحِدًا في مُلكِهِ وَقَدِيْرًا
مَا لي سِوَاكَ وَأَنْتَ غَايَةُ مَقْصَدِي ... وَإِذَا رَضِيْتَ فَنِعْمَةٌ وَسُرُوْرًا
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.
22- "موعظة"(1/209)
عباد الله طلب الرزق الحلال فريضة على كل مسلم فالتمس الرزق أيها المسلم من حله وإياك وما نهاك الله عنه وحرمه فمتاع الدنيا قليل، أيها المسلم إن جمعك للمال من حله عبادة إذا كنت تريد به إعفاف نفسك، والقيام بما أوجبه الله عليك من الحقوق، واحذر من ترك العمل، وافعل الأسباب التي بها يحصل الرزق بإذن الله، واعلم أن من ترك العمل وغلب عليه الكسل حتى صار كلا على الخلق يعده أهله ثقلاً ويراه صاحبه بغيضًا، ولا يلقاه أحد إلا وكره لقياه قال تعالى حاثًا على طلب الرزق (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ( [الجمعة: 10]، وقال تعالى: (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ( [النور: 37].
والمؤمن المحترف الكسوب الذي يأكل من عمل يده مكرم محبوب محترم، عند أهله، والأولاد، وكان نوح وداود عليهما السلام يحترفان التجارة ومحمد - صلى الله عليه وسلم - رعى الغنم، وموسى كان أجيرًا عند صاحب مدين وكان إدريس خياطًا، وما أبعد هذه الأعمال الشريفة عن الكسل والبطالة وكان السلف -رضي الله عنهم- عمالاً مكتسبين، فكلهم ما بين غني شريف وفقير شريف عفيف، لا تشغلهم الدنيا عن الآخرة ولا يمنعهم الدين عن طلب الكسب، والقيام بالواجبات، وهم مع هذا من أقوى الناس توكلاً على الله ورضا بما قدر الله وقضاه.
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن علينا يا مولانا بتوبة تمحو بها عنا كل ذنب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
23- "موعظة"(1/210)
عباد الله للعلم الديني آثار جليلة كم جل بها رجل حقير وكلما كان الرجل أعلم بالعلم الديني كان عند الله وعند العقلاء جليل مضى السلف الصالح الذين يطيب المجلس بذكرهم لقدرهم المنقطع النظير كأنوار رجالاً مثلنا ولكن ببركات ما وهبهم مولاهم من العلم الديني وآثاره الجليلة كانوا خير الناس بعد النبيين كانوا أغنى العالم لأنهم رضوا بقسمة مولانا الحكيم الخبير وكانوا أشجع الناس لأنهم علموا أن الأجل لا يطيله الجبن الذميم فكم من قتلة قرنت بالجبن كما قيل:
كَمْ مَخْلَصٍ وَعُلاً في خَوْضِ مَهْلَكَةٍ ... وَقَتْلَةٍ قُرِنَتْ بِالذَّمِ في الجُبُنِ(1/211)
وكانوا في الحلم والعقل كالجبال الرواسي وكانوا محط رحال الجود والكرم لأنهم يعلمون أن البخيل بعيد من الله بعيد من الناس وأن الذي يرضى بالبخل ويحث عليه إبليس لعنه الله وكانوا يستقبلون البلايا مهما قست بالصبر الجميل لعلمهم أنها تصرف الحكيم الخبير وكانوا يستقبلون النعم بالحمد والشكر لجزمهم أنها لله ومن الله وأنه يزيد الشاكرين ويرضى عن الحامدين وكانوا أبعد الناس عن الشر ولا يحبون أهله لعلمهم أن ذلك يغضب الله وكانوا يحبون الخير لإخوانهم المسلمين وكانوا لا يضمرون حسدًا ولا شرًا لأحد من إخوانهم المؤمنين لعلمهم أن الله يحيط علمًا بما يسرون وما يعلنون وكانوا إذا قالوا أو فعلوا يتحرون ما يرضي الله تعالى فيما يقولونه ويفعلونه وكانوا لا يشهدون المنكر والزور بل ينكرون على من يحضرون وكانوا يحنون إلى مجالس الذكر حنين الإلف فارقه الإلف وهكذا كانوا إذا أرادوا أن يتحركوا أو يسكنوا باستشارة العلم الديني يتحركون ويسكنون لهذا كانوا لليوم موضع إعجاب الشرق والغرب ونالوا فوق هذا رضى رب العالمين هكذا كانوا ببركات ما وهبهم الله من العلم الديني أما نحن فقد كنا موضع إعجاب من ناحية أن هدفنا في التعليم هو الحطام الفاني لا غير، لهذا كان الواحد منا إذا رسب يكاد ينتحر ويقول فات علي سنة محصول رواتبها لا يقل عن خمسة آلاف ولو كان قصده العلم بما جهله وتوجيه عباد الله عندما ينجح كان عنده يتساوى السرعة والبطء لأجل أن يمهر في المعلومات لهذا القصد ماتت الفضائل وانتزعت بركة العلم وفقدت هيبة العالم عند كل أحد وصار كل يفتي وكل يرشح نفسه للفتيا فورًا ولكن الناس الورعين لا يطمئنون إلا إلى النوادر ممن يوثق بدينهم وأمانتهم ويتركون المرائين والمحبين للظهور والشهرة الذين ضاعوا وضيعوا عباد الله.(1/212)
وختامًا فلو أننا أحيينا طريقة سلفنا في العلم المطابق للعمل لأصبحنا وقد أحيينا عزهم وشرفهم الدفين رحمة الله على تلك الأرواح العاملة بما علمت.
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَبْكِ العُلُومَ وَأْهَلَهَا ... وَقَدْ غَيَّبْتَهَا في التُّرَابِ لُحُودُ
فَأَنْتَ بَهِيْمِيُّ الطِّبَاعِ وَإِنَّما ... قُصَارَاكَ ثَوْبٌ نَاعِمٌ وَثَرِيْدُ
سَتَبْكِيْ العُلا قَوْمًا تَسَامَوا لِنَيْلِهَا ... كَأَنَّ لَهُمْ دَمْعَ العُيُونِ هُجُودُ
يُعِيْدُوْنَ مِنْهَا مَا تَعَفَّتْ رُسُوْمُهُ ... فَتُضْحِيْ عَلَيْهَا لِلْفِخَارِ بُرُوْدُ
كَفَى غُرْبَةً لِلِّدْيِن هَذَا الذِي نَرَى ... فَلَيْسَ عَلَى ذَا الاغْتِرَابِ مَزِيٍدُ
اللهم يا مثبت القلوب ثبت محبتك في قلوبنا وقوها ووفقنا لمحبة أوليائك وبغض أعدائك ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى واجعلنا هداة مهتدين وبكتابك وبرسلك مقتدين واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
24- "موعظة"
عباد الله نحن في عصر بارك الله فيه بركة عمت المشارق والمغارب وكل ما للأرض من أنحاء مما نعلمه وجه بقدرته وإرادته أفكار بني آدم إلى ما أودعه في خلقه من أسرار تفوت الإحصاء ويسر لهم السبيل فوصلوا من التراقي في الاختراع والاطلاع إلى ما يدهش الأفكار وتزداد به عقيدة المؤمن قوة لا يعتريه أدنى شك في ما أخبر الله به ورسوله.
أصبحت الدنيا كلها كأنها بيت واحد يكلم الناس بعضهم بعضًا مع بعد المسافة ويسافرون برًا وبحرًا فيقطعون بالمراكب البرية والبحرية في مدة يسيرة ما يحتاج إلى مدة طويلة فيما مضى وتنقل تلك المراكب التي خلقها الله لنا من الأثقال بقوة وسرعة تقف أمامها الألباب حائرات بل لو أرادوا مسابقة الطير في السماء لسبقوه بالطائرات.(1/213)
فسبحان من أرشد عباده إلى صنع هذه المخترعات قال تعالى: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( [النحل: 78].
وانظر إلى الكهرباء وفائدته العظيمة في الليل والنهار فقد صار الليل بأنواره وكأنه نهار وما فيه من أسباب الراحة والمنافع العظيمة التي لم تحصل لمن قبلنا أليس هذا من أعظم البراهين والأدلة على صدق ما أخبر الله به بقوله: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ( [فصلت: 53].
وعلى صدق ما أخبر به الصادق المصدوق من أن الزمان يتقارب وها أنت لا تمشي شرقًا ولا غربًا إلا وأنت ترى وتسمع من تلك الأسرار ما تحار به الأفكار فنحن اليوم نتقلب في كل أحوالنا في نعيم لم يظفر به عصر من الأعصار حتى إنك ترى حيوان هذا العصر في راحة وإكرام لم تتمتع بها بنو العصور الماضيات إن حقًا علينا إزاء كل هذا أن نكون أسبق الأجيال في ميدان شكر الله ليبرهن كل منا أنه يحس ويشعر بما اختصه به مولاه. اهـ.
ولكن يا للأسف لم يكن منا شكر هذه النعم واستعمالها في طاعة الله ومراضيه ودليل ذلك ما ترى وتسمع من المعاصي والمنكرات التي تكاد أن تبكي من فشوها وازديادها الجمادات.
فيا لله للمسلمين إنها لتجرح قلب المؤمن السالم منها جرحًا يوشك أن يوصله إلى القبر اللهم وفق ولاتنا لإزالة هذه المنكرات ولتأييد الإسلام والمسلمين في جميع الجهات ووفقهم للرفق في رعاياهم والنصح لهم وسدد خطاياهم ولله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
25- "موعظة"(1/214)
عباد الله إنما حرم الله عليكم الخمر، لما فيه من الأضرار والأخطار، وما منعكم من شربها إلا لما ينشأ عن ذلك من المفاسد والشرور والأضرار، فشارب الخمر ملعون على لسان نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبائعها، وشاربها، وعاصرها ومعتصرها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليهن ومدمن شربها لا يدخل الجنة، بل يدخل النار ويسقى من طينة الخبال -عرق أهل النار- وورد أن مدمن الخمر كعابد وثن فشارب الخمر مفسد لدينه، ومفسد لجسمه، وصحته، وجان على نفسه، وعلى أولاده، وأقاربه، وأهله وجيرانه ومفرط في ماله ومسرف فيه وعابث بكرامته، وساع إلى الشر والفساد بيده، ورجله، ولسانه، وصائل، خبيث، على الأخلاق والأديان شارب الخمر عضو مسموم في جسم مواطنيه، إذا لم يبادروه بالعلاج أو يقطعوه أصابهم ضرره، شارب الخمر يزين الشر ويحسنه، لبنيه، وبناته، وأصدقائه ويدعوهم بلسان حاله ومقاله، وأنتم تعلمون أن داعي الفساد مجاب في كل زمان ومكان وأنصاره بلا عد ولا حسبان، وإذا دبت الخمر في رأس شاربها فقد شعوره، وزنى، ولاط، أو ليط به، وجاء بأنواع الفحش، والفجور، وسب وشتم، وقذف، ولعن، وطلق وسب الدين والمسلمين، بل ربما وقع على أمه، أو بنته أو أخته أو على نساء جيرانه، أو على بهائمه، وربما كفر بالله وارتد عن الإسلام، وترك الصلاة، وأفطر في رمضان، وسب القرآن، وبالجملة أن من تعاطى الخمر سقط من شاهق مجده إلى مستوى الخنازير، والقردة يصدق بهذا من عاين شارب الخمر وقد استولى عليه الشراب وغطى عقله فترى من يقوده متعب، يجره كما يجر الدابة الحرون بل الدابة تمشي أحيانًا هادئة إذا جرت لا تتعب القائد دائمًا، وأما السكران فيميل بقائده هكذا وهكذا، حتى يكلفه متاعب عظيمة، والدابة إذا رأت حفرة امتنعت عنها وتباعدت عنها، أما شارب الخمر فتكون الحفرة أمامه ويسقط فيها، والدابة ربما دافعت عن طعامها وشارب الخمر تسلب منه النقود، ولا يحصل منه أدنى ممانعة، ومعنى هذا(1/215)
أن البهيمة أرجح وأحسن حالاً منه، وقد قال الخبير بأحوال شراب الخمر، من أردا أن يعرف قدر السكير، فلينظر إلى قهقهته، وضحكه، والخمار يوالي الصفعات على قفاه، ولينظر رقصه أمام البزور، كأنه قرد يرقصه صاحبه، ليضحك من يراه، ولينظره وهو يجري وراء أمه، أو بنته، ليقضي منها حاجته ومناه، ولينظره وامرأته تكنس ملابسه، وتمسحها من الأوساخ، التي يقذفها على ثيابه، والقاذورات، هذا قدر شارب الخمر عندنا، أما عند الله عز وجل فهو كعابد وثن ملعون، نسأل الله جل وعلا أن يعصمنا وإخواننا المسلمين منها ومن سائر المعاصي وأن يلطف بنا ويوفقنا لما يرضيه عنا ويغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شعرًا:
نَبْنِي وَنَجْمَعُ وَالآثارُ تَنْدَرِسُ ... وَنَأَمَلُ اللُّبْثَ والأعمارُ تُخْتَلَسُ
ذَا اللُّبِّ فَكِّرْ فَمَا في العَيْشِ مِن طَمَعٍ ... لا بُدَّ مَا يَنْتَهِي أَمْرٌ وَيَنْعَكِسُ
أَيْنَ المُلُوْكُ وَأَبْنَاءُ المُلوكِ وَمَن ... كانُوا إِذَا النَّاسُ قَامُوا هَيْبَةً جَلَسُوا
وَمَنْ سُيُوفُهُم في كُلِّ مُعْتَرَكٍ ... تَخْشَى وَدُوْنَهُم الحُجَّابُ وَالحَرَسُ
أَضْحَوْا بِمَهْلَكَةٍ في وَسْطِ مَعْرَكَةٍ ... صَرْعَى وَصَاُروا بِبَطْنِ الأَرْضِ واْنَطَمُسوا
وَعَمَّهُهُم حَدَثٌ وَضَمَّهُمْ جَدَثٌ ... بَاتُوْا فَهُم جُثَثٌ في الرَّمْسِ قَدْ حُبِسُوا
كَأَنَّهُم قَطُ مَا كَانَوا وَمَا خَلَقُوْا ... وَمَاتَ ذِكْرُهم بَيْنَ الوَرَى وَنُسُوا
واللهِ لَو عَايَنَتْ عَيْنَاكَ مَا صَنَعَتْ ... أَيْدِي البِلَى بِهِمُوا وَالدُودُ يَفْتَرِسُ
لَعَايَنَتْ مَنْظِرًا تُشٍجَى القُلُوْبُ لَهُ ... وَأَبْصَرَتْ مُنْكَرًا مِنْ دُوْنِه البَلَسُ
مِن أَوْجُهٍ نَاظِرَاتٍ حَارَ نَاظِرُهَا ... في رَوْنَقِ الحُسْنِ مِنْهَا كَيْفَ يَنْطَمِسُ
(فصل)(1/216)
قال بعض العلماء ليس في العالم منذ كان إلى أن يتناهى أحد يستحسن الهم ولا يريد إلا طرحه عن نفسه.
فلما استقر في نفسي هذا العلم الرفيع وانكشف لي هذا السر العجيب وأنار الله تعالى لفكري هذا الكنز العظيم.
بحثت عن سبيل موصلة -على الحقيقة- إلى طرد الهم الذي هو المطلوب النفيس الذي اتفق جميع أنواع الإنسان الجاهل منهم والعالم والصالح والطالح على السعي له فلم أجد إلا التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة.
وإلا فإنما طلب المال طلابه ليطردوا به هم الفقر عن أنفسهم.
وإنما طلب الصيت من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الاستعلاء عليها.
وإنما طلب العلم من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الجهل.
وإنما هش إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلك ليطرد بها عن نفسه هم التوحد ومغيب أحوال العالم عنه.
وإنما أكل من أكل وشرب من شرب ونكح من نكح ولبس من لبس ولعب من لعب واكتنز من اكتنز وركب من ركب ومشى من مشى وتودع من تودع.
ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه الأفعال وسائر الهموم.
وفي كل ما ذكرنا لمن تدبره هموم حادثة لا بد لها من عوارض تعرض في خلالها وتعذر ما يتعذر منها.
وقال رحمه الله: وجدت العمل للآخرة سالمًا من كل عيب خالصًا من كل كدر موصلاً إلى طرد الهم على الحقيقة.
ووجدت العامل للآخرة إن امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم بل يسر.
إذ رجاؤه في عاقبة ما ينال به عون على ما يطلب وزائد في الغرض الذي إياه يقصد.
ووجدته إن عاقه عما هو بسبيله عائق لم يهتم إذ ليس مؤاخذًا بذلك فهو غير مؤثر فيما يطلب ورأيته إن قصد بالأذى سر.
وإن نكبته نكبة سر وإن تعب فيما سلك فيه سر فهو في سرور متصل أبدًا وغيره بخلاف ذلك أبدًا.
وقال رحمه الله تعالى: ولو تدبر العالم في مرور ساعاته ماذا كفاه العلم من الذل بتسليط الجهال.
ومن الهم بمغيب الحقائق عنه ومن الغبطة بما قد بان له وجهه من الأمور الخفية عن غيره.(1/217)
لزاد حمدًا وشكرًا وذكرًا لله عز وجل وغبطة بما لديه من العلم ورغبة في المزيد منه.
أَجَلَّ العلوم ما قربك إلى خالقك جل وعلا وما أعانك على الوصول إلى رضاه.
العلوم الغامضة كالدواء القوي يصلح الأجساد القوية ويهلك الأجساد الضعيفة.
وكذلك العلوم الغامضة تزيد العقل القوي جودة وتصفيه من كل آفة وتهلك ذا العقل الضعيف.
العاقل في الدنيا متعب ومن جهة أخرى مستريح.
ووجه ذلك أنه متعب ومتكدر فيما يرى من انتشار الباطل وغلبة دولته وبما يحال بينه من إظهار الحق.
وأما وجه راحته فمن كل ما يهتم به سائر الناس من فضول الدنيا.
إذا حققت أمر الدنيا لم تجدها إلا الآن الذي هو فصل بين زمانين فقط.
وأما ما مضى وما لم يأت فمعدومان كما لم يكن.
فمن أضل ممن يبيت باقيًا خالدًا بمدة هي أقل من كر الطرف.
من شغل نفسه بأدنى العلوم وترك أعلاها وهو قادر عليه كان كغارس الأثل والسدر في الأرض التي يجود ويزكوا فيها النخيل والتين والموز والعنب.
نشر العلم عند من ليس من أهله مفسد لهم كإطعامك العسل والسكر والتمر من به مرض السكر ومن به احتراق وحمى.
وكتشميمك المسك والعنبر لمن به صداع الصفراء، أو به شقيقة وهو وجع نصف الرأس.
من أراد الآخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة والاحتواء على محاسن الأعمال والأخلاق والآداب كلها واستحقاق الفضائل بأسرها فليقتدي بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وليستعمل أخلاقه وسيره.
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فصل)
وقال رحمه الله: منفعة العلم في استعمال الفضائل عظيمة وهو أن يعلم حسن الفضائل فيأتيها ويعلم قبح الرذائل فيجتنبها ويستمع الثناء الحسن فيرغب في مثله والثناء الردي فينفر منه.
فعلى هذه المقدمات وجب أن يكون للعمل حصة في كل فضيلة وللجهل حصة في كل رذيلة.
وقال: وقد رأيت من غمار العامة من يجري من الاعتدال وحميد الأخلاق إلى ما لا يتقدمه فيه حكيم عالم رائض لنفسه ولكنه قليل جدًا.(1/218)
ورأيت ممن طالع العلوم وعرف عهود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ووصايا الحكماء وهو لا يتقدمه في خبث السيرة.
وفساد العلانية والسيرة شرار الخلق وهذا كثير جدًا فعلمت أنهما مواهب وحرمان من الله تعالى.
وقال: من جالس الناس لم يعدم إثمًا وهمًا يؤلم نفسه وغيظًا ينضج كبده وذلاً ينكس همته.
فما الظن بعد بمن خالطهم وداخلهم واندمج معهم.
وإنما يندم ويحزن ويتحسر على ذلك في معاده.
فالعز والسرور والأنس والراحة والسلامة في الإنفراد عنهم.
ولكن اجعلهم كالنار تدفأ بها ولا تخالطها.
وقال آخر: من مضار مجالسة الناس ومخالطتهم الانهماك في الغيبة. ثانيًا: ضياع الوقت في الآثام.
ثالثًا: فوات الأعمال النافعة في الآخرة أو الأعمال الدنيوية التي يعود نفعها في الآخرة ولا سبيل إلى السلامة من ذلك إلا بالانفراد عن مجالستهم جملة.
مَن جَنَّبَ النَّاس يَسْلَمْ مِن غَوَائِلهم ... وَعَاشَ وَهْوَ قَرِيْرُ العَيْنِ جَذْلان
وقال لا تحقرن شيئًا من عمل غد بأن تخففه وتعجله اليوم وإن قل فإن من قليل الأعمال يجتمع كثيرها.
لا تُحَقِّرَنَّ مِن الأُمُورِ صِغَارَهَا ... فَالقَطْرُ مِنْهُ تَدَفَّقُ الخِلْجَانِ
وربما أن الأعمال إذا لم تخفف يعجز أمرها فيبطل الكل.
ولا تحقر شيئًا مما تثقل به ميزانك يوم البعث أن تعجله الآن وإن قل.
فإنه يحط عنك كثيرًا لو اجتمع لقذف بك في النار.
اجتهد في أن تستعين في أمورك بمن يريد منها لنفسه مثل ما تريد منها لنفسك.
أَبْلَغَ في ذمك من مدحك بما ليس فيك لأنه نبه على نقصك.
وأبلغ في مدحك من ذمك بما ليس فيك لأنه نبه على فضلك ولقد انتصر لك من نفسك بذلك وباستهدافه إلى الإنكار واللائمة.
ولو علم الناقص نقصه لكان كاملاً إذا عدله.
من عيب حب الذكر أنه ربما يحبط الأعمال إذا أحب أن يذكر بها لأنه يعمل لغير الله عز وجل.
وهو يطمس الفضائل لأن صاحبه لا يكاد يفعل الخير حبًا للخير لكن ليذكر به.(1/219)
من أفضل نعم الله على العبد أن يحبب إليه العدل ويوفقه للعمل به ويحبب إليه الحق وإيثاره والعمل به.
ومن قلة توفيق العبد وخذلانه أن يطبع على الجور واستسهاله وعلى الظلم واستخفافه.
ومن كان كذلك فلييئس من أن يصلح نفسه أو يقوم طباعه أبدًا إلا أن يشأ الله.
إذا حضرت مجلس علم فلا يكون حضورك إلا حضور مستزيد علمًا وأجرًا لا طالبًا لعثرة أو زلة تشنعها أو غريبة تشيعها.
فإن تتبع العثرات والزلات أفعال الأراذل والسفل الذين لا يفلحون في العلم فإذا حضرتها على طلب الاسترشاد فقد حصلت خيرًا.
وإن لم تحضرها على نية صالحة فجلوسك في منزلك أحسن وأروح لبدنك وأكرم لخلقك وأسلم لدينك.
فإذا حضرتها فالتزم أحد ثلاثة أوجه أحدها إما أن تسكت فتحصل على أجر النية بالمشاهدة وعلى الثناء عليك بقلة فضول الكلام وعلى كرم المجالسة ومودة من تجالس.
وإذا سألت فاسأل سؤال المتعلم عما لا تدري فإن السؤال عما تدري سخف وقلة عقل ولا تخلو من العجب.
وفيه شغل عما هو أولى وفيه قطع لزمانك بما لا فائدة فيه لا لك ولا لغيرك وربما ترتب عليه مفسدة أو مفاسد.
وإذا أردت أن تراجع فراجع مراجعة العالم.
وصفة ذلك أن تعارض جوابه بما ينقضه نقضًا بينًا فإن لم يكن عندك إلا تكرار قولك أو لمعارضة بما لا يراه خصمك معارضة فأمسك.
لأنك لا تحصل بتكرار ذلك على أجر زائد ولا على تعليم بل ربما حصلت على ما يسؤك من الغيظ والعداوة.
واحذر سؤال التعنت ومراجعة المكابر الذي يطلب الغلبة بغير علم فهما خلقا سوء دليلان على قلة الدين وضعف العقل وقوة السخف وكثرة الفضول. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فصل)
صلاح القلب بتقوى الله وطاعته والتوكل عليه وتوحيده وإخلاص العمل لوجهه الكريم.
وفساد القلب بعدم التقوى والتوكل والطاعة والتوحيد والإخلاص.(1/220)
ومما يورث فساد القلب وانتكاسه وفساد الأخلاق مجالسة أموات القلوب وأهل الآراء الفاسدة وأهل البدع كالأشاعرة والمعتزلة والرافضة والفسقة كأهل الملاهي والمنكرات.
عليك بمجالسة أهل الدين والصلاح فإنهم هم الناس لأن أعقل خلق الله من امتثل أمره واجتنب نهيه.
وأجهل خلق الله من عصى الله.
العلماء العاملون المخلصون هم السالكون طريقة الرسل عليهم الصلاة والسلام.
الذين لا يطلبون من الناس أجرًا على أعمالهم بل يريدون وجهه عز وجل قال الله جل وعلا لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ( [الأنعام: 52]، وقال جل وعلا: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً( [الإنسان: 9].
قلوب صافية طاهرة معرضة عن الخلق مقبلة على الخالق ذاكرة له ناسية للدنيا ذاكرة للآخرة.
الجلوس مع الذين يطيعون الله نعمة من الله على عبده والجلوس مع المنافقين والمكذبين نقمة على العبد نعوذ بالله من مجالسة أهل الضلال والبدع والأخلاق المنحرفة وأهل الملاهي والمنكرات.
فالواجب هجرانهم والابتعاد عنهم والتحذير منهم.
واهجر أيضًا أقران السوء واقطع المودة والصلة بينك وبينهم وواصلها بينك وبين الصالحين.
قال بعضهم لا تغتر بموضع صالح فلا مكان أصلح من الجنة فلقي فيها آدم ما لقي ولا تغتر بكثرة العبادة فإن إبليس لعنه الله بعد طول تعبده لقي ما لقي.
ولا تغتر بكثرة العلم فإن بُلْعَام كان يحسن الاسم الأعظم فانظر ماذا لقي.
ولا تغتر برؤية الصالحين فلا شخص أكبر من المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولم ينتفع بلقائه أعداؤه وبعض أقاربه.
وقال إذا سمعت بحال الكفار وخلودهم في النار فلا تأمن على نفسك فإن الأمر على الخطر ولا تدري ماذا يكون من العاقبة وماذا سبق لك في حكم الغيب.
ولا تغتر بصفاء الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات.(1/221)
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فصل)
كتب أبو حامد العزالي إلى أبي الفتح بن سلامة فقال: قرع سمعي بأنك تلتمس مني كلامًا وجيزًا في معرض النصح والوعظ وإني لست أرى نفسي أهلاً له.
فإن الوعظ زكاة نصابه الاتعاظ فمن لا نصاب له كيف يخرج الزكاة وفاقد النور كيف يستنير به غيره ومتى يستقيم الظل والعود أعوج.
وقد أوصى الله جل وعلا عيسى بن مريم عليهما السلام يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني.
وقال نبينا - صلى الله عليه وسلم - "تركت فيكم ناطقًا وصامتًا" فالناطق هو القرآن والصامت هو الموت وفيهما كفاية لكل متعظ فمن لم يتعظ بهما كيف يعظ غيره.
ولقد وعظت نفسي بهما وقبلت وصدقت قولاً وعلمًا وأبت وتمردت تحقيقًا وفعلاً.
فقلت لنفسي أما أنت مصدقة بأن القرآن هو الواعظ وأنه كلام الله المنزل الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ( [فصلت: 42]. فقالت بلى فقلت لها قد قال الله تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ( [هود: 15، : 16].
فقد وعد الله جل وعلا بالنار على إرادة الدنيا وكل ما لا يصحب بعد الموت فهو من الدنيا فهل تنزهت عن حب الدنيا وإرادتها.
ولو أن طبيبًا نصرانيًا وعدك بالموت أو بالمرض على تناول ألذ الشهوات لتحاميتيها وأنفت منا وجنبتها أفكان النصراني عندك أصدق من الله جل وعلا؟
فإن كان كذلك فما أكفرك أم كان المرض أشد عليك من النار؟ فإن كان كذلك فما أجهلك، فصدقت ثم ما انتهت بل أصرت على الميل إلى العاجلة واستمرت.(1/222)
ثم أقبلت عليها فوعظتها بالواعظ فقلت لها قد قال الله جل وعلا: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ( [الجمعة: 8].
وقلت لها هبي أنك ملت إلى العاجلة أفلست مصدقة بأن الموت لا محالة يأتيك قاطعًا عليك ما أنت متمسكة به وسالبًا منك كل ما أنت راغبة فيه.
وأن كل ما هو آت قريب وقد قال الله جل جلاله: (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ( [الشعراء: 207].
وقال مخبرًا عن نفسه عندما وعظها ولم تجتهد في التزود للآخرة كاجتهادها في تدبير العاجلة ولم تجتهد في رضا الله كاجتهادها في طلب رضاها وطلب رضا الخلق.
ولم تستحي من الله تعالى كما تستحي من واحد من الخلق ولم تشمر للاستعداد للآخرة كتشميرها في الصيف لأجل الشتاء، وفي الشتاء لأجل الصيف فإنها لا تطمئن في أوائل الشتاء ما لم تتفرغ عن جميع ما تحتاج إليه فيه مع أن الموت ربما يخطفها والشتاء لا يدركها.
فقلت لها ألست تستعدين للصيف بقدر طوله وتصنعين له آلة الصيف بقدر صبرك على الحر قالت نعم.
ثم استمرت على سجيتها ولما رأيتها متمادية في الطغيان غير منتفعة بموعظة الموت والقرآن رأيت أهم الأمور التفتيش عن سبب تماديها مع اعترافها وتصديقها فإن ذلك من العجائب العظيمة.
فطال تفتيشي عنه حتى وقفت على سببه وها أنا ذا موصي نفسي وإياك بالحذر منه فهو الداء العظيم وهو السبب الداعي إلى الغرور والإهمال.
وهو اعتقاد تراخي الموت واستبعاد هجومه على القرب فإنه لو أخبر صادق في بياض نهاره أنه يموت في ليلته أو يموت بعد أسبوع أو شهر لاستقام واستوى على الصراط المستقيم.
فانكشف لي تحقيقًا أن من أصبح وهو يؤمل أنه يمسي أو أمسى وهو يؤمل أن يصبح لم يخل من الفتور والتسويف.(1/223)
فأوصيك ونفسي بما أوصى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «صل صلاة مودع» ولقد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب ولا ينتفع بوعظ إلا به.
ومن غلب على ظنه في كل صلاة أنها آخر صلاته حضر معه خوفه من الله تعالى وخشيته منه.
بخلاف من لم يخطر بخاطره قصر عمره وقرب أجله وغفل قلبه عن صلاته وسئمت نفسه فلا يزال في غفلة دائمة وفتور مستمر وتسويف متتابع إلى أن يدركه الموت ويهلكه حسرة الفوت.
فعلى الإنسان العاقل أن يحذر مواقع الغرور ويحترز من خداع النفس فإن خداعها لا يقف عليه إلا الأكياس وقليل ما هم.
والوصايا وإن كانت كثيرة والمذكورات وإن كانت كبيرة فوصية الله أكملها وأنفعها وأجمعها وقد قال الله جل وعلا وتقدس: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ( [النساء: 131]. فما أسعد من قبل وصية الله وعمل بها وادخرها ليجدها يوم مردها ومنقلبها.
عصمنا الله وإياكم من الزلل ووفقنا لصالح العمل وهدانا بفضله سبيل الرشاد وطريق السداد إنه جل شأنه نعم المولى ونعم النصير وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وقال ابن القيم رحمه الله: لا يتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها وألم المزاحمة عليها والحرص عليها وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد.
وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب ذلك من الحسرة والأسف فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها وهم في حال الظفر بها وغم بعد فواتها فهذا أحد النظرين.(1/224)
النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا فهي كما قال الله سبحانه: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى( [الأعلى: 17]. فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة، منقطعة مضمحلة.
فإذا تم له هاذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره وزهد فيما يقتضي الزهد فيه فكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل وقويت رغبته في الأعلى الأفضل فإذا آثر الفاني الناقص، كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له وإما لعدم رغبته في الأفضل.
وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان وضعف العقل والبصيرة فإن الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها إما أن يصدق أن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى وإما أن لا يصدق فإن لم يصدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل سيء الاختيار لنفسه.
وهذا تقسيم حاضر ضروري لا ينفك العبد من أحد القسمين منه فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الأيمان وإما من فساد في العقل وما أكثر ما يكون منهما ولهذا نبذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وراء ظهره هو وأصحابه، وصرفوا عنها قلوبهم وأطرحوها ولم يألفوها وهجروها ولم يميلوا إليها وعدُّوها سجنًا لا جنة فزهدوا فيها حقيقة الزهد ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب ولوصلوا منها إلى كل مرغوب.
فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردها وفاضت على أصحابه فأثروا بها ولم يبيعوا بها حظهم من الآخرة بها وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر وأنها دار عبور لا دار سرور وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى آذن بالرحيل.(1/225)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما لي وللدنيا إنما أنا كراكب مال في ظل شجرة ثم راح وتركها» وقال: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم ترجع».
وقال خالقها سبحانه: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( [يونس: 25].
فأخبر عن خسة الدنيا وزهد فيها وأخبر عن دار السلام ودعا إليها وقال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً( [الكهف: 46].
وقال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ( [الحديد: 20].(1/226)
وقال: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( [آل عمران: 14، : 15].
وقال تعالى: (وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ( [الرعد: 26].
وقد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه فقال: (إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ( [يونس: 8].
وعبر سبحانه من رضي بالدنيا من المؤمنين فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ( [التوبة: 38].
وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة ويكفي في الزهد في الدنيا قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ( [الشعراء: 207].(1/227)
وقوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ( [يونس: 45]. وقوله: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ( [الأحقاف: 35].
وقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا( [النازعات: 46].
وقوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ( [الروم: 55]. وقوله: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( [المؤمنون: 114].
وقوله: (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً( [طه: 104]. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
خُلِقْنَا لأَحْدَاثِ الليَالِي فَرائِسًا ... تَزَفُّ إِلى الأَجْدَاثِ مِنَّا عَرائِسًا
تُجَهِّز مِنَّا لِلْقُبُورِ عَسَاكِرًا ... وَتُرْدِفُ أَعْوَادُ المَنَايَا فَوَارِسًا
إِذَا أَمَلٌ أَرْخَى لَنَا مِنْ عَنَانِهِ ... غَدا أَجَلٌ عَمَّا نُحَاوِلُ حَابِسًا
أَرَى الغُصْنَ لَمَّا اجْتُثَّ وَهْوَ بِمَائِهِ ... رَطِيْبًا وَمَا إِنْ أَصْبَحَ الغُصْنُ يَابِسًا
نَشِيدُ قُصُورًا لِلْخُلُودِ سَفَاهَةً ... وَنَصْبِرُ ما شِئْنَا فُتُورًا دَوَارِسًا(1/228)
وَقَدْ نَعَتِ الدُّنْيَا إِلينَا نُفُوسَنا ... بِمَنْ مَاتَ مِنَّا لَوْ أَصَابَتْ أَكَايِسًا
لَقَدْ ضَرَبَتْ كِسْرَى المُلُوكِ وَتُبَّعًا ... وَقَيْصَرُ أَمْثَالاً فَلَم نَرَ قَائِسًا
نَرَى ما نَرَى مِنْهَا جَهَارًا وَقَدْ غَدَا ... هَوَاهَا عَلَى نُوْرِ البَصِيرةِ طَامِسًا
وَقَدْ فَضَح الدنيا لَنَا الموتُ وَاعِظًا ... وَهَيْهَاتَ مَا نَزْدَادُ إِلا تَقَاعُسًا
الله يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موعظة
عباد الله إن الناس في هذه الحياة انقسموا قسمين قسم جعلوا غايتهم الأكل والشرب والتمتع بملاذ الدنيا من مساكن وملابس وقضاء وطر وليس وراء هذه الغاية عندهم غاية أخرى فهم يقضون أوقاتهم يصرمون أعمارهم ليتمتعوا ما وسعهم التمتع فما بعد نظرهم الكليل الحسير وقلوبهم الميتة إلا العدم والفناء.
وهؤلاء هم جند الشيطان شر خلق الله وأشقاهم قال تعالى: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً( [المزمل: 11]. وقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ( [محمد: 12]. فهم صاروا كالأنعام لا يختلفون عنها إلا في الصورة والشكل وإلا في دخولهم النار ولذلك قال الله جل وعلا: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً( [الفرقان: 44].(1/229)
تلك هي غاية هذا الصنف أما مركزهم بين الناس فهو مركز الإفساد والإضلال ومآلهم جميعًا دخول النار، قال تعالى: (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ( [آل عمران: 197]. وقال: (قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ( [إبراهيم: 30].
الصنف الثاني الذين عرفوا الحقيقة والغاية التي خلقوا لها عرفوا أن الله خلقهم لعبادته كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ( [الذاريات: 56]. أيقنوا بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ( [الانشقاق: 6]. فغايتهم كما تقدم عبادة الله.
ومنها الجهاد في سبيل الله والدعوة إليه وعمارة الأرض بفعل الخير وهداية الحيارى إلى الحق وقيادتهم في دروب الحياة الدنيا ووراءها الغاية العظمى والعليا وهي ابتغاء مرضاة الله وحده جل جلاله.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ( [الحج: 78].(1/230)
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( [الصف: 12].
هذه مهمة المسلم وغايته فيها عبادة الله وحده وجهاده في سبيله يجاهد نفسه حتى يحملها على طاعة الله ويبعدها عن المعصية جهده ويجاهد بقلمه ولسانه وماله ويده في سبيل الله حتى تعلو كلمة الله ويستنير البشر بنور الإسلام.
وقد اختار الله المسلمين لهذه المهمة الخطيرة مهمة دلالة الناس وقيادتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور فلا مجال للتخلي عن هذه المهمة الشريفة هذه طريقة الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ( [الأحزاب: 21].
وقال - صلى الله عليه وسلم - "بلغوا عني ولو آية" فكل واحد من المسلمين عليه على قدر حاله ولا يعذر وقال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً( [البقرة: 143].
فالذي يقول إنه مسلم عليه أن يبلغ ويدعو ويؤدي هذه الشهادة لهذا الدين شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء ويؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر.
وهو لا يؤيد هذه الشهادة تمامًا حتى يجعل من نفسه ومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة لهذا الدين صورة يراها الناس فيرون فيها مثلاً رفيعًا يشهد لهذا الدين الإسلامي بالأحقية في الوجود بالخيرية وبالأفضلية على سائر ما في الأرض.(1/231)
فالشهادة في النفس أولاً بمجاهدتها حتى تكون ترجمة له ترجمة حية في شعورها وسلوكها حتى صورة الأيمان في هذه النفس فيقولوا ما أطيب هذا الإيمان وما أحسنه وما أزكاه.
وهو يصوغ أصحابه على هذا الشكل من الخلق والكمال فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون والشهادة له بدعوة الناس إليه وبيان فضله ومحاسنه ومزيته بعد تمثل هذا الفضل.
وهذه المزية في نفس الداعية فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للإيمان في ذات نفسه إذا هو لم يدع إليها الناس وما يكون قد أدى الدعوة والتبليغ والبيان قال تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أحسن( [النحل: 125]. وقال: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي( [يوسف: 108].
ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض منهجًا للجماعة المؤمنة ومنهجًا للبشرية جميعًا والمحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيلة وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة.
فإقرار هذا المنهج في حياة البشر هو كبرى الأمانات بعد الإيمان الذاتي ولا يعفى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة ومن ثم فالجهاد ماض إلى يوم القيامة اهـ.
اللهم خفف عنا الأوزار وارزقنا عيشة الأبرار واصرف عنا شر الأشرار واعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا من النار يا عزيز يا غفار يا كريم يا ستار ويا حليم يا جبار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شعرًا:
لَقَدْ عَفَتْ مِنْ دِيَارِ العِلْمِ آثَارُ ... فَأَصْبَحَ العِلْمُ لا أَهْلٌ وَلا دَارُ
يَا زَائِرِيْنَ دِيَارَ العِلْمِ لا تَفِدُوا ... فَمَا بِذَاكَ الحِمَى وَالدَّارِ دَيَّارُ
تَرَحَّلَ القَوْمُ عنهَا واسْتَمَرَّ بِهِم ... مُشَمِّرٌ مِنْ حُدَاةِ البَيْنِ سَيَّارُ(1/232)
قَدْ أَوْرَدَ القَوْمَ حَادِيْهم حِياضَ رَدَى ... فَمَا لَهُم بَعْدَ ذَاكَ الوِرْدِ اصْدَارُ
لَهَفِيْ عَلَى سُرُجِ الدُّنْيَا الَّتِي طَفِئَتْ ... وَلا يَزَالُ لَهَا في النَّاسِ أَنْوَارُ
لَهْفِيْ عَلِيْهِم رِجَالاً طَالَمَا صَبَرُوا ... وَهَكَذَا طَالِبُ العَلْيَاءِ صَبَّارُ
لَهْفِيْ عَلَيْهِم رِجَالاً طَالَمَا عَدَلُوا ... بَيْنَ الأَنَامِ وَمَا حَابَوْا وَلا جَارُوْا
مَالوُا يَمِيْنًا عَنِ الدُّنْيَا وَزَهْرَتَهَا ... لأَنْهَا في عُيُونِ القَوْمِ أَقْذَارُ
وَصَاحَبُوهَا بِأَجْسَادٍ قُلُوبُهُم ... طَيْرٌ لَهَا في ظِلالِ العَرْشِ أَوْكَارُ
هُمُ الذِيْنَ رَعَوا لِلْعِلْمِ حُرْمَتَهُ ... لِلْعِلْمِ بَيْنَهُم شَأَنٌ وَمِقْدَارُ
صَانُوْهُ طَاقَتَهُم عَنْ مَا يُدَنِّسُهُ ... كَمَا يَصُونُ نَفِيْسَ المَالَ تُجَّارُ
وَأَحْسَنُوا فِيْهِ تَصْرِيفًا لأَنَّهُم ... لَهُم مِنَ اللهِ تَوْفِيْقٌ وَإِقْدَارٌ
رَأوهُ كَالنَّجْمِ بُعْدًا لَيْسَ يُدْرِكُهُ ... بَاعٌ قَصِيْرٌ وَفَهْم فيْهِ إِقْصَارُ
اللهم ألهمنا القيام بحقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين خلقك، يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج يا قاضي الحاجات ويا مجيب الدعوات هب لنا ما سألناه، وحقق رجاءنا فيما تمنيناه وأملناه يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما في ضمائر الصامتين، أذقنا برد عفوك، وحلاوة مغفرتك، يا أرحم الراحمين وصل الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
26- "موعظة"(1/233)
عباد الله كلنا يعلم أن الزنا من كبائر الذنوب وأن فيه فسادًا للزاني والزانية أما فساده للزانية فهو واضح لأنها بذلك الجرم العظيم –جرم الزنا- تجد حلاوة، فتفسد كل من اتصل بها، فيصبحون في تعلقهم بالنساء كالكلب المسعور هذا من جهة ومن جهة أخرى تفسد فراش زوجها إن كانت ذات زوج وربما أدخلت عليه أولادًا من الزناة ينفق عليهم طول حياته ويرثون منه بعد وفاته، ويتفوضون حرم الزوج، وربما تولوا عقد نكاح لهن، أو صاروا محارم لهن في حج أو نحو ذلك نسأل الله العافية ومن جهة فساد الزاني، فإنه بالزنا ينكلب، ويتولع فيه، وكل أنثى يتعدى عليها يحلو لها هذا السفاح فتفسد كالأولى كثيرين من الناس تنبهوا بعد أن كانوا غافلين فيفسدون من النساء كثيرات وهكذا فالزاني لص يسرق ثروة الناس في حياتهم وبعد الممات بما يدخله عليهم من أولاد يعولونهم، وإن كانت المرأة التي تعدى عليها غير متزوجة، فقد أفسد حياتها، بهتك عرضها، وصرف أنظار راغبي الزواج عنها، فتعيش بعد جرم الزنا عيشة ذل وهوان لا زوج يحصنها ولا عائل يعولها هذا مضافًا إلى سوء السمعة وإلى الجناية على شرفها وأهلها فيقفون منه موقف الانتقام غالبًا وربما قضوا عليه أو على ابنتهم وإن لم يقضوا وثبت ذلك بطريق الشرع فإما جلد مائة، وإما رجم يؤدي بالنفسين، هذا عاقبة هذه الكبيرة عصمنا الله وإياكم منها ومن جميع المعاصي فعلى الإنسان أن يفكر ويعرف عواقب الجنايات على الأعراض ليحذر ويحذر عنها أجنبية أو قريبة ولا أدري كيف يقدم الزاني على الزنا وهو يؤمن أن الله مطلع عليه لا تخفى عليه منه خافية وأن جزاءه إن لم يتب توبة نصوحًا الهاوية نسأل الله السلامة منها ولا أدري كيف يزني وهو لا يشك أنه سيجازى على فعله في الدنيا قبل الآخرة، ومن كان الزنا من أعماله فلا يؤمن حتى على محارمه ولا يرغب في مصاهرته ولا مجاورته ولا مشاركته ولا معاملته ولا الاجتماع معه في محل عمله قال الله تعالى: (وَلاَ(1/234)
تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً( [الإسراء: 32].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله». رواه الحاكم اللهم احمنا من الفواحش ما ظهر منها وما بطن واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
27- "موعظة"
عباد الله إن صفات الشر وخصال السوء ما وجدت في قوم إلا كانوا أهلاً لغضب الله وسخطه فاستحقوا الشقاء والذل في الدنيا والآخرة وإن من أقبح الخصال وأشنع الخلال الغيبة والنميمة وقد انهمك الناس فيهما وصارت مجالسهم لا تعمر إلا بهما يسمع المرء من أخيه الكلمة ليفرج بها من كربه ويخفف بها من آلامه فينقلها إلى صاحبها قصد الإيقاع به والتفريق بين المؤمنين هذه يا عباد الله غاية الدناءة، ومنتهى الخسة والنذالة واللآمة، ألا شهامة تحمل النمام على كتمانه سر أخيه ألا مروءة تمنعه من أن ينم على أخيه المسلم، إن النمام لا يعرف للشهامة سبيلاً، ولا للمروءة طريقًا، إن من ينم على المسلمين ليبدل الود جفا وبغضًا والصفو كدرًا وحقدًا ويفتح أبواب الشرور والجنايات على مصراعيها بين المؤمنين من أكبر المصائب، وأشد الرزايا على هذا المجتمع الإنساني، وكذلك الغيبة فإنها تذهب الحسنات، وأنت إذا قلت في أخيك كلمة يكرهها فأنت له بها مغتاب وهو لا يكره كلمة إلا إذا كانت متضمنة عيبًا، ذلك العيب الذي أنت تريد أن تكشفه للناس تريد منهم أن يحقروه ويزدروه ويحترسوا منه أن يكون يومًا لهم من الأصحاب أنت تريد منهم أنه أن خطب منهم منعوه لتحقيرك إياه عندهم تريد من غيبتك له أن يبعد منهم ويكون منطويًا عنهم لما لقنتهم مما ذكرته فيه ويكون في وحشية منهم وتريد من غيبتك أنه إذا احتاج لا يدلي عليهم بشيء يقضي فيه حاجته بل تريد منهم أن لا يردوا عليه السلام إذا سلم لما عندهم له مما لقنتهم من الازدراء والاحتقار وإن(1/235)
كان صانعًا فيسبب غيبتك له أن يجفوا صنعته فتقف، وإن كان تاجرًا فتريد بعيبتك أن تخسر تجارته لإعراضهم عنه، وتريد أنه إذا كان له أولاد أو بنات يرغب في تزويجهم أن يأنف الناس منهم فيبورون، هذا والله شيء يؤلم النفوس الزكية لأنها مضار عظيمة جدًا تنزل بمن تغتابه فعلى العاقل أن لا يصدق المغتاب وأن يرده خائبًا ولا يظن بأخيه المسلم إلا خيرًا والله أعلم.
شعرًا:
حَيَاتُكَ في الدُّنْيَا قَلِيْلٌ بَقَاؤُهَا ... وَدُنْيَاكَ يَا هَذَا شَدِيْدٌ عَنَاؤُهَا
وَلا خَيْرَ فيْهَا غَيْرَ زَادٍ مِنَ التَّقَى ... يَنَالُ بِهِ جَنَّاتُ عَدْنٍ وَمَاؤُهَا
بَلَى إِنَّهَا لِلْمُؤْمِنِيْنَ مَطِيَّةٌ ... عَلَيْهَا بُلُوغُ الخَيْرِ والشَّرُ دَاؤُهَا
وَمَنْ يَزْرَعُ التَّقْوى بِهَا سَوْفَ يَجْتَنِي ... ثِمَارًا مِنَ الفِرْدَوْسِ طَابَ جَنَاؤُهَا
نُؤَمِلُ أَنْ نَبْقَى بِهَا غَيْرَ أَنَّنَا ... عَلَى ثِقَةٍ أَنَّ المَمَاتَ انْتَهَاؤُهَا
فَكُنْ أَيَّهَا الإِنْسَانُ في الخَيْرِ رَاغِبًا ... يَلُوحُ مِن الطَّاعَاتِ فِيْكَ بَهَاؤُهَا
وَجَانِبْ سَبِيْلَ الغَي واتْرَكْ مَعَاصِيًا ... يُذِيبُكَ مِنَ نَارِ الجَحِيْمِ لَظَاؤُهَا
اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
28- "موعظة"
عباد الله نحن في زمن بلغ فيه الفساد مبلغًا ما كان يدور في خلد إنسان وهان على كثير من الناس اليوم أن يتقدموا إلى المعاصي مطمئنين وخف عليهم جدًا أن يرتكبوا ما حرم الله عليهم غير هيّابين وسهل كل السهولة عليهم أن يقتحموا حتى موبقات الأوزار غير خائفين من الله تعالى ولا مبالين بنواهيه.(1/236)
ولعل زمننا هذا ينطبق عليه ما في حديث أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر» وما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء». أخرجه مسلم.
وأخرجه الإمام أحمد وابن ماجه من حديث بن مسعود بزيادة في آخره وهي –قيل يا رسول الله ومن الغرباء قال: «النزاع من القبائل».
وأخرجه أبو بكر الآجري وعنده- قيل ومن هم يا رسول الله، قال: «الذين يصلحون إذا فسد الناس».
وخرجه غيره وعنده قال: «الذين يفرون بدينهم من الفتن».
وخرجه الترمذي من حديث كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الدين بدأ غريبًا وسيرجع غريبًا فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي». وفي حديثه قيل ومن هم يا رسول الله قال: «الذين يصلحون حين فساد الناس».
أما الحديث الأول فهو واضح ومنطبق كل الانطباق على هذا الزمان فيما أرى والله أعلم وذلك أنك ترى الشر والفساد في كل مكان منتشرًا والخير نادر الوجود فالفتن في البيوت والأسواق والدكاكين والسيارات والقطارات والطائرات فتن شهوات نساء سافرات وفتن شكوك وإلحاد وشبهات من أناس منحرفين وكتب ضلال ومجلات تحمل في طيها البلايا والشرور وفديوات تعلم الفساد أبلغ تعليم وتهيج عليه، حدث فتن يرقق بعضها بعضًا وحوادث الأخرى أعظم من الأولى ومن أعظم ما حدث كثرة الخدامين والخدامات والسواقين والطباخين والمربين فإن ضررهم عظيم على الدين والأخلاق والدنيا. فأنتبه يا من زين له سوء عمله وأتى بالكفار أعداء الله ورسوله والمؤمنين وأمنهم على محارمه خدامين أو سواقين أو مربين أو نحو ذلك عياذًا بالله من ذلك.
يَا غَافِلاً عَنْ سَاعَةً مَقْرُوْنَةٍ ... بِنَوَادِبٍ وصَوَارِخٍ وَثَوَاكِلِ(1/237)
قَدِّمْ لنَفْسُكَ قَبْلَ مَوْتِكَ صَالِحًا ... فَالمَوْتُ أَسْرَعُ مِن نُزُولِ الهَاطِلِ
حَتَّامَ سَمْعُكَ لا يَعِي لِمُذَّكِرٍ ... وَصَمِيْمُ قَلْبِكَ لا يَلِيْنُ لِعَاذِلِ
ذ
تَبْغِي مِنَ الدُّنْيَا الكَثيْرَ وإِنَّمَا ... يَكْفِيْكَ مِنْ دُنْيَاكَ زَادُ الرَّاحِلِ
آيُ الكِتَابِ يَهُزُّ سَمْعَكَ دَائِمًا ... وَتَصُمُّ عَنْهَا مُعْرِضًا كَالغَافِلِ
كَمْ لِلإلهِ عَلَيْكَ مِن نِعَمٍ تُرَى ... وَمَوَاهِبٍ وفَوَائِدٍ وَفَوَاضِلِ
كَمْ قَدْ أَنَالَكَ مِن مَوانِحِ طَوْلِهِ ... فَاسْأَلْهُ عَفْوا فَهُوَ غَوثُ السَّائِلِ
اللهم مكن حبك في قلوبنا وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لامتثال طاعتك وأمرك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
29- "موعظة"(1/238)
عباد الله من تكبر أذله ومن تواضع لله رفعه الله والمتكبرون يحشرون يوم القيامة في صور الذر تطؤهم الناس لهوانهم على الله تعالى المتكبرون شرار الخلق وأهل النار كل جعظري جواظ مستكبر، المتكبر يشمخ بأنفه إذا تكلم ويجافي مرفقيه عن جنبيه. لاويًا عنقه، يقارب خطاه إذا مشى، متطاولاً على إخوانه، مترفعًا على أقرانه ينظر الناس شزرًا بمؤخر العين، متقدمًا عليهم إذا مشى، محتقرًا للعامة، ولا فرق عنده بينهم وبين الحمير استجهالاً منه لهم، فالمتكبر لا يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، لأنه لا يقدر على ذلك، ولا يقدر على التواضع وهو رأس أخلاق المتقين، ولا يقدر على ترك الحقد، ولا يقدر أن يدوم على الصدق، ولا يقدر على ترك الغضب، ولا على كظم الغيظ، ولا يسلم من الازدراء بالناس واحتقارهم ولا يسلم من اغتيابهم، وتنقصهم، لأن فيه من العظمة والعزة والكبرياء، ما يمنعه من ذلك فما من خلق ذميم إلا وصاحب الكبر والعظمة مضطر إليه، ليحفظ به عزه وعظمته، وما من خلق محمود إلا وهو عاجز عنه خوفًا من أن يفوته عزه وعظمته، ولذلك ورد في الحديث أنه لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ومما جاء في وصية لقمان لابنه: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ( [لقمان: 18]. ومن تعاليم ربنا لهذه الأمة ونبيها عليه الصلاة والسلام، بقول تعالى: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً( [الإسراء: 37].(1/239)
فيا أيها المتكبر الناظر في عطفيه، المتعاظم في نفسه، إن شأنك حقير، وقدرك صغير ولست بمحسوب في العير، ولا في النفير، وما لك عند عاقل من حساب، ولا تقدير، لا قليل ولا كثير، فهون عليكن وارفق بنفسك، فإنك مغرور، يا مسكين وتدبر كلام رب العالمين: (إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ( [النحل: 23]. (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ( [غافر: 60]: (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ( [الزمر: 72]. وذم الكبر في القرآن كثير، والمتكبر عدو لله ولنفسه، وللناس، يقصر في الواجب ويدعي ما ليس له ويتشدق في الكلام، ويتألق في اللباس، وإنه لثقيل في حركاته، وسكناته، بغيض في أمره ونهيه، ومجالسته، ومؤاكلته ومشاربته، والويل كل الويل لمن صاهره أو شاركه أو ربطته به صلة، لأن داء الكبر يعدي ويسري فتبعد السلامة من المقترب منه. ومن آثار الكبر تصعير الخد، والنظر شزرًا، وإطراق رأسه، وجلوسه متربعًا أو متكئًا ويظهر الكبر أيضًا في أقوال المتكبر حتى في صوته ونغمته وصيغة كلامه في الإيراد وقيل لإحمق تكبر وقام ساخطًا على أستاذه لماذا قمت فقال دخلت ولم يحترمني وجلست فلم يكرمني ولم يدر من أنا واستشهد بقول من جنبه، قال ليست هذه مشية من في بطنه خراء، وكيف يتكبر من أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة وهو مع ذلك يحمل البول والعذرة، هذا أكبر برهان على أنه دنس جاهل مجهول نكرة ممتلئًا كبرًا وإعجابًا بنفسه وسمعة، ورياء، ولؤمًا وشؤمًا وشرها فهو أشبه شيء بالدخان يملأ الفضاء ويتك صدور الناس وأصله من القمامات والأوساخ المبعثرة نسأل الله أن يقلل هذا النوع المنحط وأن يكثر ضده من أهل التواضع واللين والعطف والحنان. قال الله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً(1/240)
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ( [القصص: 83].
اللهم انظمنا في سلك عبادك الأخيار ونجنا برحمتك من عذاب النار وأسكنا الجنة مع أوليائك الأبرار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وللكبر آثار تظهر على الجوارح كلها تدور حول ذلك النظر، فترى المتكبر إن سمح بممشاه مع الناس يكون متقدمًا عليهم، حريصًا جدًا أن يكونوا كلهم خلفه، وتراه إن جلس معهم ورضي أن يكونوا جلساءه، محتفظًا بصدر المجلس مستقلاً به ويسره أن يصغوا إلى كلامه، ويؤلمه كلام غيره وتجده ينتظر من الناس أن يتلقوا كلامه بالقبول والتصديق.
الشاعر:
وَلَوْ كَانَ إِدْرَاَُ الهُدَى بِتَذَلُّلٍ ... رَأَيْتُ الهُدَى أَنْ لا أَمِيْلَ إِلى الهُدَى
ويظهر أيضًا أثر الكبر في مشيه وتبختره وقيامه وجلوسه وحركاته وسكناته وفي تعاطيه لأفعاله، وفي سائر تقلباته في أحواله وأقواله وأعماله.
وفي كتاب الخمول والتواضع لابن أبي الدنيا عن أبي بكر الهذلي قال: بينما نحن مع الحسن، إذ مر عليه ابن الأهتم يريد المنصور وعليه جباب خز، قد نضد بعضها فوق بعض على ساقه، وانفرج عنها قباؤه وهو يمشي ويتبختر، إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال: أف أف، شامخ بأنفه ثاني عطفه، مصعر خده، ينظر في عطفيه أي حميق ينظر في عطفيه في نعم غير مشكورة ولا مذكورة، غير المأخوذ بأمر الله فيها، ولا المؤدي حق الله منها والله أن يمشي أحدهم طبيعته يتلجلج تلجلج المجنون في كل عضو منه نعمة وللشيطان بها لعنة، فسمعه ابن الأهتم، فرجع يعتذر إليه، فقال لا تعتذر إلي وتب إلى ربك، أما سمعت قول الله تعالى: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً( [الإسراء: 37].(1/241)
اللهم امنن علينا بإصلاح عيوبنا واجعل التقوى زادنا وفي دينك اجتهادنا وعليك توكلنا واعتمادنا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد على آله وصحبه أجمعين.
30- "موعظة"
عباد الله لقد كانت القلوب موضع العناية التامة عند السلف الصالح لأنهم يعلمون أنها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صلحت صلح الجسد كله» وذلك لأنها مبدأ الحركات البدنية، والإرادات النفسانية، فإن صدرت من القلوب إرادة صالحة تحرك البدن حركة طاعة، وإن صدرت عنها إرادة فاسدة تحرك البدن حركة فاسدة، فهو كملك والأعضاء كالرعية، ولا شك أن الرعية تصلح بصلاح الملك وتفسد بفساده، وكان واجبًا علينا أن نكون كما كان سلفنا في العناية بهاتيك القلوب لأن بها سعادتنا بإذن الله وبها شقاؤنا، ولكن يا للأسف ما كان من ذلك شيء والذي كان منا أننا أهملنا قلوبنا إهمالاً تتجرح له القلوب، وتذوب له الأكباد ولذلك نشأ فينا نتيجة الإهمال كثرة الأمراض في القلوب وتشعبت وأعضلت وصعب شفاؤها، وانعدم أطباؤها ومن وصل إلى هذا الحد فهو في خطر عظيم.(1/242)
فمن الأمراض التي أزمنت في قلوبنا مرض الرياء الذي لا يكاد يسلم منه إلا النوادر، ومن الأمراض التي أصبنا بها مرض العجب، ولهذا يعتقد الصغير منا والكبير الكمال في نفسه ومن اعتقد ذلك في نفسه هوى لأنه لا يلتفت إلى ما به كمال الرجال، ومرض ينتج مرضًا آخر هو مرض الكبر وصف الأنذال والأرذال والجهال، والمتكبر لا ينظر إليه بعين الرضا، والكبر ينشأ عنه مرض الحسد والحسود يتمنى زوال نعمة الله عن خلقه، والحسد يولد الحقد الذي ربما حمل صاحبه على قتل من لا ذنب له إلا ما أولاه الله من النعم، وليس هذا كل ما في قلوبنا من الأمراض بل فيها مرض البخل والشح الذي وصل بنا إلى منع الزكاة أو بعضها، وغير ذلك كثير وكلها أمراض مهلكات، ونحن لا نهتم بقلوبنا ولا بأمراضها وإنما نهتم بأمراض أجسامنا، ونبادر في علاجها إلى المستشفيات، وأمراضها يسيرة بسيطة بالنسبة إلى أمراض القلوب، ونهتم أيضًا بجمال ظواهرنا فنبالغ في تحسين ملابسنا ومراكبنا ومساكننا ومجالسنا وأبداننا، انظر إلينا عند الذهاب إلى مقر العمل لتتعجب من تغفيلنا وانخداعنا، ولو كانت عنايتنا بالقلوب كعنايتنا بالملابس فقط ما كنا بهذه الحالات المحزنات.
اللهم يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيننا وبين الصدق والنية الصالحة والإخلاص والخشوع والمراقبة واليقين والعلم والمعرفة والفصاحة والبيان والفهم في القرآن وخصنا منك بالمحبة والاصطفائية ووفقنا للعمل الصالح الرشيد والرزق الهنيء الذي لا حجاب به في الدنيا ولا حساب ولا سؤال ولا عقاب عليه في الدنيا والآخرة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/243)
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللهم إن كنا مقصرين في حفظ حقك، والوفاء بعهدك، فأنت تعلم صدقنا في رجاء رفدك، وخالص ودك، اللهم أنت أعلم بنا منا، فبكمال جودك تجاوز عنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
31- (موعظة)
عباد الله بما أن الله جل وعلاَ منّ عليكم بالإسلام فيجب عليكم أن تحبوه، فإنه الذي بيده خير الدنيا والآخرة، وأن تحبوا رسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي لولا الله ثم لولاه لكنتم من حطب جهنم تلتهب بكم أبد الآبدين، وأن تحبوا أحباب الله، وأحبابه هم الذين لزموا طاعة مولاهم وتباعدوا عن معصيته كما يتباعد الإنسان عما يقتله من سم ونحوه بل السم أهون وأخف من كثير من المعاصي كيف لا والمعاصي لا تسلم فاعلها إلا إلى العذاب الأليم إن لم يتجاوز عنه مولاه، مضى في صدر هذه الأمة أناس قال الله فيهم: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ( [المائدة: 54]. وهم الذين كانوا بأرواحهم في سبيل الله يجودون، وكانوا يرون السعادة كل السعادة في ذلك الجود وإذا لم يستطيعوا كانوا لذلك يحزنون وكان هؤلاء الناس يحبون رسولهم فوق محبتهم لأموالهم وأنفسهم وكان حب أحدهم لأخيه أعظم من حبه لآثاثه وماله يحب له ما يحب لنفسه ولذلك كانوا في كل المنافع لا يعرفون إلا خلق الإيثار، كما حكى الله عنهم بقوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ( [الحشر: 9]. سل التاريخ عنهم يخبر عنهم أخبارًا ما سمعت قط بمثلها يخبرك أنهم كانوا سادة الدنيا يعترف بذلك العدو قبل الصديق اعتراف إقرار وإذعان يخبرك أنهم كانوا إذا اتجهوا لغزو جهة ينهزم أهلها وبينهم وبينهم مسافة عظيمة وكيف لا يعزهم ربهم وقلوبهم كانت وقفًا على حبه وحب رسوله - صلى الله عليه وسلم - وحب كل ما يرضيه من مبار، هؤلاء كانوا عبيد الله(1/244)
عبودية ما رأت الدنيا عبودية مثلها في سائر العبيد عدا الرسل الكرام لذلك كانوا يحنون لطاعته حنينًا لا ينقضي عجبه وهو مخلص وشديد كانوا لا يشبعون من العبادة بالنهار فيستقبلون الليل بعزائمهم بعثتها همم عالية، لا تكل ولا تمل من العبادة، بل هي في العبادة كالسمك في البحر، والليل على ذلك شهيد ومن الذي يقوم إن الحبيب يشبع من خدمة حبيبه وسيده ومولاه الذي بيده الخير كله خير الدنيا والآخرة هؤلاء الذين هم خيرة الله من خلقه هم سلفنا الصالح، فينبغي أن نقفوا آثارهم، ونكون على مثل ما كانوا عليه من المحبة الفائقة والطاعة الفريدة لمولانا.
اللهم يا عظيم العفو يا واسع المغفرة يا قريب الرحمة يا ذا الجلال والإكرام فرغنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكفلت لنا به، وهب لنا العافية في الدنيا والآخرة، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
32- موعظة(1/245)
عباد الله فتشوا قلوبكم بتأن وائتاد، وابحثوا عما تغلغل فيها من الأضغان والأحقاد، فإذا وجدتم شيئًا من ذلك فاجتهدوا واعملوا على سرعة إزالته ومحوه بجد واجتهاد وأعرضوا بكليتكم عن وحي الشيطان ووساوسه، واستعيذوا بالله القوي القدير من همزاته وهواجسه، فإنه لا يريد إلا إيقاعكم في البلاء، وتعريضكم لسخط الله ومقته الشديد، ماذا يضركم إن تنازلتم عن بعض حقوقكم، وتجاوزتم وصفحتم عمن أساء إليكم من إخوانكم، وقصدتم وجه الله وثوابه في صفحكم وتنازلكم، وبذلك تكونون قد أرضيتم الله رب العالمين، وأبعدتم شبح الشر عنكم. وعن إخوانكم المسلمين وكنتم أصحاب الفضل والمنة، يشكر الله والناس لكم هذا الخلق الطيب الحميد، ألا فاحرصوا عباد الله على الفضل العظيم، وأقبلوا سراعًا إليه، واكظموا غيظكم، وابذلوا جهدكم في التغلب عليه، واعلموا أن الجزاء من جنس العمل، فالله يغفر من ذنوب العافين عن الناس، ويمجد الكاظمين الغيظ، ويتولاهم بالفضل والكرامة، ويزوجهم من حور الجنان ما يشاءون يوم القيامة، ويدعوهم يوم القيامة على رءوس الخلائق إلى تلك الكرامة، ليعلم فضلهم، ويشهد مجدهم القريب والبعيد. فإذا ما علمتم هذا فقارنوا بينه وبين ما يعامل الله به المشاحن الحقود الحسود، الذي أجاب داعي الشيطان، وأعرض عن نصيحة ربه الذي خلقه ورزقه، ويسر له أموره، وأصر على ما هو عليه من التقاطع والشحناء والصدود، وسترون أنه بعناده وإبائه واستكباره قد خسر الدنيا والآخرة عرض نفسه في الدنيا لنقم الله المتعاقبة، وأبقى لها بعد الموت جهنم يلقى فيها العذاب الأليم، وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن المتهاجرين المتشاحنين يُعرض الله عنهما، وإذا أفاض على خلقه رحمته كان الحرمان نصيبهما، ولا يزالان هكذا. حتى يزيلا ما بينهما من الخصام، ويعودا إلى ما كانا عليه من قبل من الصفاء والوئام، والله سبحانه وتعالى عفو غفور: تفهموا يا إخواني جيدًا، واقرعوا قلوبكم(1/246)
بما سمعتم من الزواجر والعظات، واعلموا أن أقرب المتصافيين إلى الله أسبقهما إلى الصفح، وتناسي ما فات، وأعظمهما أجرًا من بدأ بالسعي إلى إزالة الأضغان والأحقاد، فإن استجاب خصمه للصلح، ولم يتأخر، فبها ونعمت، واستحق نصيبه من الأجر والثواب، وإن أبى وامتنع فقد احتمل الإثم والعقاب فاتقوا الله عباد الله، واعملوا بهذه النصيحة، وسارعوا بالاعتذار إلى ربكم، واستجيبوا إلى داعي الهدى والرشاد، وأصلحوا ذات بينكم، وهلموا سراعًا إلى مصافاة من خاصمتم من إخوانكم، وبذلك تصونون بيوتكم من الخراب، وتحفظون أموالكم من التلاشي والذهاب، وترجون رضا ربكم وعفوه يوم البعث والحساب، (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ( [الشعراء: 89] ، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ( [ق: 37].
روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنًا فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم وخرج المسلم من الهجر».
وروى الطبراني عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فمن مستغفر فيغفر له، ومن تائب فيتاب عليه، ويرد أهل الضغائن بضغائنهم حتى يتوبوا».
وورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كظم غيظًا وهو قادر أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق، حتى يخيره من الحور العين ما شاء». والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
33- "موعظة"(1/247)
عباد الله إن شأن الصلاة عظيم جدًا في ديننا معشر المسلمين وفي كل دين وأسرارها العظيمة وبركاتها العميمة وفوائدها الكثيرة لا تخفى على كثير من المؤمنين وليست الصلاة مجرد أقوال يلوكها اللسان وحركات تؤديها الجوارح بلا تدبر من عقل ولا تفهم ولا خشوع من قلب ليست تلك التي ينقرها صاحبها نقر الديكة ويخطفها خطف الغراب ويمر بها مر السحاب كأن وراءه طالب حثيث ويلتفت فيها التفات الثعلب يمينًا وشمالاً وفوقًا وتحتًا.
كلا فالصلاة المقامة تمامًا هي التي تأخذ حقها من التأمل والخشية والخضوع والسكون واستحضار عظمة المعبود جل جلاله.
وذلك أن القصد من الصلاة وسائر العبادات هو تذكير الإنسان بربه الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى.
والصلاة صلة بين العبد وربه تقوى بها محبة العبد لربه كلما تكررت قال ابن القيم رحمه الله فإن المحب يتلذذ بخدمة محبوبه وتصرفه في طاعته وكلما كانت المحبة أقوى كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل فليزن العبد إيمانه ومحبته بهذا الميزان ولينظر هل هو ملتذ بخدمة محبوبه أو متكره لها يأتي بها على السآمة والملل والكراهة فهذا محك إيمان العبد ومحبته لله.
قال بعض السلف إني أدخل في الصلاة فأحمل هم خروجي منها ويضيق صدري إذا فرغت لأني خارج منها ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وجعلت قرت عيني في الصلاة ومن كانت قرة عينه في شيء فإنه لا يود أن يفارقه ولا يخرج منه فإن قرة عين العبد نعيمه وطيب حياته به».
وقال بعض السلف إني لأفرح بالليل حين يقبل لما تتلذذ به عيشتي وتقر به عيني من مناجاة من أحب وخلوتي بخدمته والتذلل بين يديه وأغتم للفجر إذا طلع لما أشتغل به بالنهار عن ذلك فلا شيء ألذ للمحب من خدمة محبوبه وطاعته أين هؤلاء ممن لذتهم وأنسهم عند المنكرات.(1/248)
وقال بعضهم تعذبت بالصلاة عشرين سنة ثم تنعمت بها عشرين سنة وهذه اللذة والتنعم بالخدمة إنما تحصل بالمصابرة على التكره والتعب أولاً فإذا صبر عليه وصدق في صبره أفضى به إلى هذه اللذة.
وقال أبو زيد سقت نفسي إلى الله وهي تبكي فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك اهـ.
وقال الله تعالى: ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي( [طه: 14]
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما فرضت الصلاة وأمر بالحج وأشعرت المناسك لإقامة ذكر الله». رواه أبو داود ولهذا كانت عنوان على الفلاح قال تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ( [التوبة: 18]. الآية.
والمراد بعمارتها بالصلاة والقربات وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فشاهدوا له بالإيمان»، فإن الله يقول: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ( [التوبة: 18].
وجاء ذكر الصلاة في القرآن في مواضع كثيرة وأثنى جل وعلا على المقيمين لها والمحافظين عليها وأخبر أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ومن دعاء الخليل عليه السلام أنه يسأل ربه أن يجعله مقيمًا لها قال تعالى: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي( [إبراهيم: 40].
ومدح بها إسماعيل قال تعالى: (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً( [مريم: 55]. وأمر جل وعلا موسى بإقامتها أول ما يأمره به في ساعات الوحي الأولى قال تعالى: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي( [طه: 14]. وقال له ولهارون: (أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ( [يونس: 87].(1/249)
وفي وصية لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ( [لقمان: 17] الآية وينطق الله عيسى وهو في مهده فيقول: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً( [مريم: 31].
ويأمر الله بها صفوة خلقه وخاتم أنبيائه فيقول جل وعلا: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ( [العنكبوت: 45]. ويقول جل وعلا وتقدس: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا( [طه: 132].
ويبتدؤ بها أوصاف المؤمنين ويختم بها فيقول سبحانه وتعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ( [المؤمنون: 2]. الآيات إلى قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ( [المعارج: 34].
ويؤكد المحافظة عليها حضرًا وسفرًا وفي الأمن والخوف والسلم والحرب (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً( [البقرة: 239].
وأخبر جل وعلا عمن أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات أن عاقبة أعمالهم وسوء مآلهم شر وخسران فقال: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً( [مريم: 59].
وجعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - الشعار الفاصل بين المسلم والكافر فقال بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة وقال العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر وفي الحديث الآخر من ترك الصلاة متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله ورسوله وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من فاتته صلاة فكأنما وتر أهله وماله».(1/250)
ومما يدل على عظم شأن الصلاة مع ما تقدم اهتمام المسلمين بتوجيه المحتضر وهو في سكرات الموت إلى القبلة وكذلك وضعه في قبره متجهًا إلى القبلة وما ذاك إلا لأنها الجهة التي يتجه إليها كلما أراد أن يتعرف إلى ربه ويدعوه ويجدد الصلة بينه وبين ربه في الصلاة.
عَلَى الصَّلَواتِ الخَمْسِ حَافظْ فَإِنَّهَا ... لآكَدُ مَفْرُوضِ عَلَى كُلِّ مُهْتَدِ
فَلا رُخْصَةِ في تَرْكِهَا لِمُكَلَّفِ ... وَأَوْلَ مَا عَنْه يُحَاسَبُ في غدِ
بِإِهْمَالِها يَسْتَوجِبُ المَرَءُ قَرْنَهُ ... بِفرعونَ مَعْ هَامانَ في شَرِّ مَوْرِدِ
وَمَا زَالَ يُوصِي بِالصَّلاة نَبِيُّنَا ... لَدَى الموتِ حَتَّى كَلَّ عن نُطْقِ مِذْوَدِ
والله أعلم وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
34- "موعظة"(1/251)
عباد الله ما بال الكثير اليوم لا يسمعون، وإذا سمعوا لا ينتفعون، أفي آذانهم صمم؟ أم هم في الأمر متهاونون؟ ولأي شيء يجتمعون ويقوم فيهم الخطباء المجيدون، والوعاظ المبلغون، ويذكرونهم أيام الله فلا يخشع الوعاظ ولا الموعظون، ويرغبونهم في الخير فلا يسارعون، وينذرونهم عواقب السوء فلا يتأثرون (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( [يس: 83]. لقد كان السلف الصالح إذا وعظوا تأثر المستمع لهم تأثرًا عظيمًا، وفارق ما عنده من المنكرات، والمحرمات، وفارق من أصر عليها من أقاربه، وأولاده، وإخوانه وآبائه، وجدد توبة نصوحًا، عما سلف له من الأعمال، التي لا يرتضيها الدين الإسلامي، فأين أولئك من هؤلاء الخلف، الذين ضيعوا تعاليم الدين الإسلامي، وضيعوا العمل به، وتركوا الانقياد لكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، تأمل كيف ترى أكثرهم أضاعوا الصلاة، وعطلوا الأحكام، وتساهلوا بأمر الحرام، يمرون بالمساجد، وقت الصلاة، فلا يعيرونها أي اهتمام أما الملاهي والمنكرات فإليها يسرعون وعليها يعكفون وإلى ما فيها من الأغاني والمجون والسخف يتسابقون فإنا لله وإنا إليه راجعون، أين الخوف من الجبار، أين الحياء من فاطر الأرض والسموات، أين المروءة والاعتصام بالقرآن، وما كان عليه آباؤكم وأجدادكم العباد الكرام، الذين كانت المساجد تغص بهم شيوخًا وشبانًا، وكانت تعج بأصواتهم تسبيحًا، وتحميدًا وتهليلاً، وتكبيرًا، واستغفارًا، وقرآنًا، وكانوا يؤمون المساجد قبل الأذان زرافات ووحدانا، ولا يتخلف منهم إلا معذور، إما مريض أو غائب، أو نحو ذلك، وكان المار ببيوتهم ليلاً يسمع زجل التسبيح، والتهليل، والبكاء والأنين والتضرع إلى بديع السموات والأرض، والإلحاح بدعائه، والالتجاء إليه والإنابة، عكس ما عليه هؤلاء الخلف، الذين صدق عليهم قول الله تعالى: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا(1/252)
الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً( [مريم: 59]. الذين إن بحثت عنهم في الليل، وجدتهم حول الملاهي والمنكرات، متربعين أمام التلفزيون، وغناء المطربين، وإن بحثت عنهم في صلاة الفجر وجدتهم في فرشهم، إثر سهرهم حول تلك المنكرات، وإن بحثت عنهم وقت صلاة الظهر ففي شئون الدنيا، وما يتعلق بها، وإن أردتهم في صلاة العصر، وجدت بعضهم عند الكرة، والبعض عند التلفزيون، والبعض عند المذياع، وأغانيه وملاهيه، وإن سألت عنهم وقت صلاة المغرب، وجدت بعضهم يمشي مترددًا، والبعض في الملعب، والبعض عند التلفزيون، أو المذياع، وأما العشاء الآخرة فتلك هم فيها أقسام أكثرهم حول التلفزيون أو في الأسواق، أو يلعبون ورقة، أو نحو ذلك من المنكرات وهكذا قتلوا أوقاتهم الثمينة، وضيعوها، وقضوا على مستقبلهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله والله أعلم بما أراده بعباده، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( [الروم: 41].
والحالة هذه مخيفة لذوي العقول والفهوم، لا سيما وقد توالت أسباب الهناء والراحة، والسرور، والاطمئنان، وقد قيل إذا رأيت الله تعالى أنعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج.
وروى عقبة بن عامر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك استدراج» ثم تلا: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ( [الأنعام: 44].
وقال قتادة ما أخذ الله قومًا إلا عند سكرتهم وغرتهم، ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون.(1/253)
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
35- "موعظة"
إخواني إن في مواعظ الأيام والليالي لعبرة لذوي البصائر ركائب أموات تزعج عن مقصورات القصور ثم تحمل إلى مضائق القبور، فكم قد شاهدتم من شخصيات في الأرض، قد وضعت، وكم قد عاينتم من أبدان ناعمة في الأكفان قد لفت وإلى مضيق الألحاد قد زفت فيا لها من غاية يستبق إليها العباد ويا له من مضمار يتناوبه جواد بعد جواد ويا له من هول شديد يعقبه أهوال شداد فتنة قبور وحشر في موقف مهيل موقف فيه تنقطع الأنساب وتخضع فيه الرقاب وتنسكب فيه العبرات وتتصاعد فيه الزفرات ذلك موقف تنشر فيه الدواوين، وتنصب فيه الموازين، ويمد فيه الصراط، وحينئذ يقع الامتياز فناج مسلم ومكردس في النار.
دخل عمر بن عبد العزيز رحمه الله على سابق البربري وهو يتمثل بالأبيات المشهورة من قصيدة الأعشى.
أَجِدَّكَ لمْ تَذْكُرْ وِصَاةَ مُحَمَّدٍ ... نَبِيّ الإلهِ حِيْنَ أَوْصَى وَأَشْهَدَا
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التَّقَى ... وَأَبْصَرْتَ بَعْدَ المَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا
نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لا تَكُوْنَ كَمِثْلِهِ ... وَأَنَّكَ لَمْ تُرْصِدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا
فغشي على عمر رحمه الله فلما أفاق قال زدنا فقال القصيدة التي تلي:
بِاسْمِ الذِي أَنْزِلَتْ مِنْ عِنْدِهِ السُّوَرُ ... الحَمْدُ للهِ أَمَّا بَعْدُ يَا عُمَرُ
إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ مَا تُبْقِى وَمَا تَذَرُ ... فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ قَدْ يَنْفَعُ الحَذَرُ
واصْبِرْ عَلَى القَدَرِ المَقْدُورِ وارْضَ به ... وَإِنٍ أَتَاكَ بِمَا لا تَشْتَهِي القَدَرُ
فَمَا صَفَى لامْرِئٍ عَيْشٌ يُسَرُّ بِهِ ... إِلا وَأَعْقِبَ يَوْمًا صَفْوُهُ كَدَرُ(1/254)
قَدْ يَرعَوِي المَرْءُ يَوْمًا بَعْدَ هَفْوَتِهِ ... وَتُحْكمُ الجَاهِلَ الأَيَّامُ والعِبَرُ
إِن التُّقَى خَيْرُ زَادٍ أَنْتَ حَامِلُهُ ... وَالبِرُّ أَفْضَلَ مَا تَأَتِي وَمَا تَذَرُ
مَن يَطْلُبِ الجَوْرَ لا يَظْفُرْ بِحَاجَتِه ... وَطَالِبُ العَدْلِ قَدْ يُهْدَى لَهُ الظَّفَرُ
وَفي الهُدَى عِبَرٌ تُشْفَى القُلُوبُ بِهَا ... كَالغَيْثِ يَحْيَى بِهِ مَنْ مَوتِهِ الشَّجَرُ
وَلَيْسَ ذُو العِلْمِ بالتَّقْوَى كَجَاهِلِهَا ... وَلا البَصِيرُ كَأَعْمَى مَالَهُ بَصَرُ
وَالذِّكْرُ فِيْهِ حَيَاةٌ لِلْقُلُوبِ كَمَا ... تَحْيَا البِلادُ إِذَا مَا جَاءَهَا المَطَرُ
والعِلْمُ يَجْلُو العَمَى عَن قَلْبِ صَاحِبه ... كَمَا يُجَلِّي سَوادَ الظُّلمَةِ القَمَرُ
لا يَنْفَعُ الذِّكْرُ قَلْبًا قَاسِيًا أَبدًا ... وَهَلْ يَلِيْنُ لِقَوْلِ الوَاعِظِ الحَجَرُ
ما يَلْبَثُ المَرْءُ أَنْ يَبْلَى إِذَا اخْتَلَفت ... يَوْمًا عَلَى نَفْسِهِ الرَّوْحَاتُ وَالبِكَرُ
وَالَمْرءُ يَصْعَدُ رَيْعَانُ الشَّبَابِ بِهِ ... وَكُلُّ مُصْعِدَةٍ يَوْمًا سَتَنْحَدِرُ
وَكُلُّ بَيِتٍ سَبَيْلَى بَعْدَ جِدَّتِهِ ... وَمِن وَرَاءِ الشَّبَابِ المَوْتُ والكِبَرُ
والمَوْتُ جَسْرٌ لِمَنْ يَمْشِيْ عَلَى قَدَمِ ... إِلى الأُمُورِ التِي تُخْشَى وَتَنْتَظَرُ
فَهُمْ يَمُرُّونَ أَفْوَاجًا وَتَجْمَعُهَم ... دَارٌ يَصِيْرُ إِلَيْهَا البَدْو والحَضَرُ
كَمْ جَمْعُ قَوْمٍ أَشَتَّ الدَّهُر شَمْلَهُم ... وَكُلُّ شَمْلٍ جَمِيْعٍ سَوْفَ يَنْتَثِرُ
وَرُبَّ أَصْيَدَ سَامَ الطَّرْفِ مُقْتَضِبًا ... بَالتَّاج نِيْرانُه لِلْحَرْبِ تُسْتَعرُ
يَظَلُّ مُفْتَرِشَ الدِّيْبَاجِ مُحْتَجِبًا ... عَلَيْهِ تُبْنِى قِبَابُ المُلْكِ وَالحُجَرُ
إِلى الفَنَاءِ وَإِن طَالَتْ سَلامَتُهُم ... مَصِيْرُ كُلِّ بَنِي أنثَى وَإِنْ كَبُرُوا(1/255)
إِذَا قَضَتْ زُمْرٌ آجالَها نَزَلَتْ ... عَلَى مَنَازِلِهِم مِنْ بَعْدِهَا زُمَرُ
أَصْبَحْتُمْ جُزُرًا لِلْمَوْتِ يَأْخُذُكُمْ ... كَمَا البَهَائِمُ فِي الدُّنْيَا لَكُمْ جُزُرُ
أَبَعْدَ آدَمَ تَرْجُونَ الخُلُودَ وَهَل ... تَبْقَى الفُرُوعُ إِذَا مَا الأَصْلُ يَنْعَقِرُ
وَلَيْسَ يَزْجُرُكُمْ مَا تُوعَظُونَ بِهِ ... وَالبَهْمُ يَزْجُرُهَا الرَّاعِي فَتَنْزَجِرُ
لا تَبطُرُوا واهْجُروا الدُّنْيا فإِنَّ لهَا ... غِبًا وَخِيْمًا وَكُفْرُ النِّعْمَةِ البَطَرُ
ثُمَّ اقْتَدُوا بالأُوْلَى كَانُوا لَكُمْ غُرَرًا ... وَلَيْسَ مِن أُمَّةٍ إِلا لَهَا غُرَرُ
مَتَى تَكُونُوا عَلَى مِنْهَاجِ أَوَّلِكُمْ ... وَتَصْبِرُوا عَن هَوَى الدُّنْيَا كَمَا صَبَرُوا
مَالِي أَرَى النَّاسَ والدُّنْيَا مُوَليَّةٌ ... وَكُلُّ حَبْلِ عَلَيْهَا سَوْفَ يَنْبَتِرُ
لا يَشْعُرُونَ إِذَا مَا دِيْنَهُم نُقِصُوا ... يَوْمًا وَإِنْ نُقِصَتْ دُنْيَاهُم شَعِرُوا
حَتَّى مَتَى أَكُ في الدُّنْيا أَخَا كَلَفٍ ... في الخَدِّ مِنِّي إِلى لَذَّاتِهَا صَعرُ
وَلا أَرَى أَثَرًا لِلذكْرِ في جَسَدِي ... وَالحَبْلُ في الحَجَرِ القَاسِي لَهُ أَثَرُ
لَوْ كَانَ يَسْهِر لَيِْلي ذِكْرُ آخِرتِي ... كَمَا يُؤرِّقَنِي لِلْعَاجِلْ السَّفَرُ
إِذَا لِدَاوَيْتُ قَلْبًا قَدْ أَضَرَّ بِهِ ... طُولُ السِّقامِ وَكَسْرُ العَظْمِ يَنْجَبِرُ
ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى المَعْصُومِ سَيِّدِنَا ... مَا هَبَّت الرِّيْحُ واهْتَزَّتْ بِهَا الشَّجَرُ
اللهم ثبت إيماننا ثبوت الجبال الراسيات واشرح صدورنا للإسلام وثبتنا عليه واجعلنا من حزبك المفلحين وعبادك الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
36- "موعظة"(1/256)
عباد الله: سنة الله في خلقه أن لا يؤاخذ مذنبًا بذنب اقترفه، أو جريمة اجترمها، أو جريرة ارتكبها إلا بعد أن يبين لهم ما ينبغي أن يتقوه من محارمه، ويجتنبوه من الموبقات، المؤدية بهم إلى هوة الهلاك والدمار، وقد أرسل الله جل وعلا إلى هذه الأمة الإسلامية محمدًا رسوله - صلى الله عليه وسلم - النبي الأمي (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ( [الأعراف: 157]. وأنزل عليه كتابه الكريم: (قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ( [الزمر: 28]، (يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ( [المائدة: 16]. فيه هدى، وتبيانًا لكل شيء مما يحتاج إليه الناس في دنياهم وأخراهم، فاستمسك المسلمون مدة من الدهر بهديه، وتخلقوا بآدابه، فكانوا في ذلك الحين أهل الحول والطول والقوة والمنعة، تعنو لهم الوجوه، وتخضع لهم الرقاب فلم يقم لهم منازع إلا ابتزوا ملكه، واستباحوا مكان العزة منه، وأخذوا بطرفي الشرق والغرب، وكانوا خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، كانوا في تلك الأزمان يعملون بطاعة الله ويتقونه، ويحسنون في عبادته وإلى عباده، ويصبرون عن معاصيه، وعلى أقداره، فكان الله معهم بعونه وتوفيقه، ونصره وتأييده وتسديده، يا عباد الله كان كبراء الناس وسادتهم في الصدر الأول أشد الناس ظهورًا بالتمسك بالدين تقتدي بهم العامة في توحيدهم وعباداتهم ومعاملاتهم، فانعكست علينا الآن القضية، وصار العامة أشد تمسكًا بالدين، وأرسى عقيدة، من أولئك، وأصبح كثير من المتعلمين الذين يزعمون أنهم مثقفون، يحملون المؤهلات المعروفة أزهد الناس في الدين،(1/257)
وأبعدهم عن تعاليمه، نبذه كثير منهم كما تنبذ النواة، لا لأنهم وقفوا على عيب في الدين، أو هفوة في أصوله، ولكنهم مقلدون في هذا الضلال لقوم عرفوا (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ( [الروم: 7].
ورأوا تكاليف الدين وتعاليمه لا تتفق مع شهواتهم وملاذهم، فاتخذوا الخروج عن تكاليفه للحصول على ملاذ الحياة، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ( [الحديد: 20].
اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا للقيام بحقك وخلصنا من حقوق خلقك ورضنا باليسير من رزقك يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج، يا قاضي الحاجات ومجيب الدعوات هب لنا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما في صدور الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
37- "موعظة"
عباد الله أين الذين سادوا وشادوا أوطانا، وحكموا وأحكموا بنيانًا، وجمعوا فحشدوا أموالاً وأعوانًا عوضوا بأرباح الهوى خسرانا، وبدلوا بإعزاز الكبر والتجبر هوانا وأخرجوا من ديارهم بعد الجموع وحدانا، وما استصحبوا مما جمعوا إلا أكفانا.
نَصِيْبُك مِمَا تَجْمَعَ الدَّهْرَ كُلَّهُ ... رِدَاءانِ تُطْوَي فِيْهَما وَحَنُوْطُ
آخر:
فَمَا تَزودَ مِمِا كَانَ يَجْمَعُه ... سِوَى حَنوط غداة البين في خرق
وغير نِفحة أعوادٍ تشبُّ لَهُ ... وَقَلّ ذلك مِن زاد لمنطلق
يحملون على الأعناق ولا يسمون ركبانا، وينزلون بطون الإلحاد ولا يسمون ضيفانا، متقاربين في القبور ولا يسمون جيرانا.(1/258)
أو ليس قد رأينا كيف ينقلون ولا كفانا، فيا من قد بقي من عمره القليل ولا يدري متى يقع الرحيل، كأنك بطرفك حين الموت يسيل والروح تنزع والكرب ثقيل، والنقلة قد قربت وأين المقيل، أفي الجنة ونعيمها والسلسبيل أم في الجحيم وأنكالها وأغلالها وبئس المقيل.
يا من تعد عليه أنفاسه استدركها، يا من ستفوته أيامه أدركها، إن أعز الخلق عليك نفسك فلا تهلكها كم أغلقت بابا على قبيح، وكم أعرضت عن قول المخلص النصيح، أعظم الله أجرك في عمر قد مضى ما رزقت فيه العفو ولا الرضى.
انقضت فيه اللذات كمن قضى، وصارت الحسرات من الشهوات عوضا، قال الله جل وعلا وتقدس: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ( [مريم: 39]. وقال تعالى: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ( [الزمر: 56]. والله أعلم وصلى الله على محمد.
38- "موعظة"
عباد الله ما هذه الغفلة وأنتم مستبصرون وما هذه الرقدة وأنتم مستيقظون كيف نسيتم الزاد وأنتم راحلون، أين ما كان قبلكم ألا تتفكرون أما رأيتم كيف نازلهم المنون (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ( [يس: 50].
عباد الله لو حضرت القلوب لجرت من العيون عيون فكأنكم بالآلام قد اعترضت، وبالأجسام قد انقضت، وبالأوصال قد فصلت، فرحم الله عبدًا أعتق نفسه من رق شهواتها ونظر لها قبل مماتها وأخذ من جدته عتادًا لفقره وادخر من صحته زاد لقبره قبل أن يفوت زمن الاستدراك بوقوع الهلاك.
فكأنكم بالموت قد حل العراص، وأنشب مخاليبه في الأرواح للاقتناص، وأين لكم الفلات فلات حين مناص ثم يقومون للحساب والجزاء والقصاص.
وإذا الخلائق قد حشرت، وإذا الصحف قد نشرت، وإذا جهنم قد سيقت ومرارة الندم قد ذيقت، فستنطق عليكم الجوارح وتنشر حين القضاء الفضائح.(1/259)
فيا خجل المقصرين ويا أسف المذنبين ويا حسرة المفرطين ويا سوء منقلب الظالمين، قال الله جل وعلا وتقدس (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء( [إبراهيم: 43].
وقال تعالى: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ( [الشعراء: 227].
خَفِ اللهِ في ظلمِ الورَى واحْذَرَنَّهُ ... وَخَفْ يومَ عض الظالمين على اليد
اللهم سلمنا من شرور أنفسنا التي هي أقرب أعدائنا وأعذنا من عدوك واعصمنا من الهوى ومن فتنة الدنيا ومكن محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وفرح قلوبنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
39- "موعظة"
عباد الله اغتنموا مواسم الطاعات فأيام المواسم معدودة وانتهزوا فرص الأوقات فساعات الإسعاد محدودة وجدوا في طلب الخيرات فمناهل الرضوان مورودة وقوموا على قدم السداد واتقوا الله الذي إليه تحشرون.
وكونوا من الذين يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقهم ينفقون قال تعالى: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( [السجدة: 19].
فيا سعادة أولى الطاعات الذين اجتباهم مولاهم لدار السلام واصطفاهم لحظيرة قدسه وأوردهم مناهل الإنعام وأولاهم حلاوة الأنس ووالاهم بمواهب الإكرام وسقاهم من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.(1/260)
ويا مسرة من شاهد معالم الرشد فسلك مسالكه وكان من المستبشرين الذين يوم القيامة وجوهم مسفرة ضاحكة لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
فتدبروا عباد الله الأمر وانظروا بعين الناقد البصير وتذكروا العرض يوم الفزع الأكبر بين يدي رب العالمين العليم الخبير واعلموا أن الظالمين ما لهم من ولي ولا نصير "يوم يقال" (هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ( [الجاثية: 29].
شعرًا:
لا تَبْكِ للدُّّنْيَا ولا أَهْلِهَا ... وابْكِ لِيَوْمٍ تَسْكُنِ الحَافرة
وابْكِ إذا صِيْحَ بِأهلِ الثَّرى ... فاجْتَمَعُوا في سَاعَةِ السَّاهِرة
وَيْلَكِ يَا دُنْيَا لَقَدْ قَصَّرَتْ ... آمَالُ مَن يَسْكُنُكِ الآخرة
آخر:
واذْكُرْ مُنَاقَشِةَ الحِسَابِ فَإِنَّهُ ... لا بُدَّ يُحْصَى مَا جَنَيْتَ وَيُكْتَبُ
لَمْ يُنْسَهُ المَلَكَانِ حِيْنَ نَسِيْتَهُ ... بَلْ أَثْبَتَاهُ وَأَنْتَ لاهٍ تَلْعَبُ
اللهم ثبت محبتك في قلوبنا ثبوت الجبال الراسيات واشرح صدرنا ويسر أمورنا وألهمنا ذكرك وشكرك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
إذا فهمت ذلك فاعلم أنه ينبغي لمن آيس من حياته بل يستحب له ويتأكد أن يكثر من قراءة القرآن والأذكار ويكره له الجزع وسوء الخلق والشتم والمخاصمة والمنازعة في غير الأمور الدينية في الدفاع عنها ويستحب أن يكون شاكرًا لله تعالى بقلبه ولسانه ويستحضر في ذهنه أن هذا آخر أوقاته من الدنيا فيجتهد على ختمها بخير ويكثر من قول لا إله إلا الله.
ويبادر إلى أداء الحقوق إلى أهلها من رد المظالم والعواري والودائع والغصوب ويستحل أهله وزوجته ووالديه وأولاده وغلمانه وجيرانه وأصدقاءه وزملاءه وكل من كانت بينه وبينه معاملة أو مصاحبة في سفر أو غيره أو له تعلق بشيء.(1/261)
وأخرج البيهقي وابن عساكر عن عبادة بن محمد بن عبادة بن الصامت قال لما حضرت عبادة رضي الله عنه الوفاة قال أخرجوا إلي موالي وخدمي وجيراني ومن كان يدخل علي فجمعوا له فقال إن يومي هذا لا أراه إلا آخر يوم يأتي علي من الدنيا وأول ليلة من الآخرة.
وإني لا أدري لعله قد فرط مني إليكم بيدي أو بلساني شيء وهو والذي نفسي بيده القصاص يوم القيامة وأحرج إلى أحد منكم في نفسه شيء من ذلك إلا اقتص مني من قبل أن تخرج نفسي فقالوا بل كنت والدًا وكنت مؤدبًا قال وما قال لخادم سوءًا قط فقال أعفوتم ما كان من ذلك؟ قالوا! نعم قال اللهم اشهد...إلخ.
وورد أن عبد الله بن عمرو لما حضرته الوفاة قال انظروا فلانًا فإني كنت قلت له في ابنتي قولاً كشبه العدة فما أحب أن ألقى الله بثلث النفاق فأشهدكم أني قد زوجته.
وينبغي أن يوصي بأمور أولاده إن لم يكن جد يصلح للولاية ويوصي بما لا يتمكن من فعله في الحال من قضاء الديون ونحو ذلك وأن يكون حسن الظن بالله تعالى راجيًا عفوه ومغفرته ورحمته وإحسانه.
ويستحضر في ذهنه أنه حقير في مخلوقات الله تعالى وأن الله تعالى غني عن عذابه وعن طاعته وأنه عبده ولا يطلب العفو والإحسان والصفح والامتنان إلا منه جل وعلا وتقدس.
ويستحب أن يكون متعاهدًا نفسه بقراءة آيات من القرآن العزيز في الرجاء وكذلك أحاديث الرجاء يقرؤها أو يجعل من يقرؤها عليه وأن يكون خيره متزايدًا ويحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها.
ويجتنب النجاسات ويحرص على التطهر ويصبر على مشقة ذلك وكذا باقي وظائف الدين يحرص على أدائها كاملة مكملة وليحذر من التساهل في ذلك فإنه أقبح القبائح أن يكون آخر عهده من الدنيا التي هي مزرعة الآخرة التفريط فيما وجب عليه أو ندب إليه.(1/262)
وليجتهد في ختم عمره بأكمل الأحوال ويستحب أن يوصي أهله وأصحابه بالصبر عليه في مرضه واحتمال عما يصدر منه ويوصيهم أيضًا بالصبر على مصيبتهم به ويوصيهم بالرفق بمن يخلفه من طفل وغلام وجارية ويوصيهم بالإحسان إلى أصدقائه ويعلمهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه».
وقد صح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكرم صواحبات خديجة رضي الله عنها بعد وفاتها.
ويوصيهم بتعاهده بالدعاء وفعل ما يقرب إلى الله وينوي الثواب له وذلك كالحج والصدقة والأضحية وطبع المصاحف والكتب الدينية المقوية للشريعة المحمدية والإعانة على بناء المساجد.
وكالعين الجارية ونحو ذلك ويوصيهم بأن لا ينسوه بل يتعاهدوه بالدعاء له ولوالديه.
ويتسحب أن يقول لهم في وقت بعد وقت متى رأيتم مني تقصيرًا في شيء انهوني عنه برفق ولطف لأن النفس تضعف في ذلك الوقت وأدوا إلي النصيحة في ذلك فإني معرض للغفلة والسهو والكسل والإهمال فإذا قصرت فنشطوني وعاونوني على التأهب لهذا السفر البعيد والتغرب المخيف.
وإذا حضره النزع فليكثر من قول لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه فيا له من ختام ويا له من طابع، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله».
ويستحضر أحاديث الرجاء مثل حديث أبي ذر قال أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوب أبيض وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فقال «ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق» الحديث متفق عليه.(1/263)
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فقالوا إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ( [الفرقان: 68]. الآيتين – ونزل: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ( [الزمر: 53] الآية. ونحو هذه الآية والأحاديث التي سبقت.
شعرًا:
إِذَا أَتَى اللهُ يَومَ الحَشرِ في ظُلَلٍ ... وَجِيءَ بِالأُمَمِ المَاضِينَ والرُّسُلِ
وَحَاسَبَ الخَلْقَ مَنْ أَحْصَى بِقُدرَتِه ... أَنْفَاسَهُم وتَوفَّاهُم إِلى أَجَلِ
وَلَمْ أَجِدْ في كِتَابِي غَيْرَ سَيِّئَةٍ ... تَسُوءني وَعَسَى الإِسْلامُ يَسْلَمُ لِي
رَجَوتُ رَحْمَةَ رَبِّي وهي وَاسِعُةٌ ... وَرَحْمَةُ اللهِ أَرْجَى لِي مِنَ العَمَلِ
اللهم اجعل في قلوبنا نورًا نهتدي به إليك وتولنا بحسن رعايتك حتى نتوكل عليك وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك فالعزيز من لاذ بعزك والسعيد من التجأ إلى حماك وجودك والذليل من لم تؤيده بعنايتك والشقي من رضي بالإعراض عن طاعتك اللهم نزه قلوبنا عن التعلق بمن دونك واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
40- "موعظة"(1/264)
عباد الله إن قوارع الأيام خاطبة، فهل أذن لعظاتها واعية، وإن فجائع الموت صائبة فهل نفس لأمر الآخرة مراعية، إن مطالع الآمال إلى المسارعة إلى الخيرات ساعية ألا فانظروا بثواقب الأبصار والبصائر في نواحي الجهات والأقطار فما ترون في حشودكم وجموعكم إلا الشتات ولا تسمعوا في ربوعكم إلا فلان مريض وفلان مات أين الآباء الأكابر أين العلماء العاملون بعلمهم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم المناصحون لولاتهم وأمتهم الزاهدون في حطام الدنيا الفانية أين الكرماء الأفاضل الذين يغارون إذا انتهكت المحارم أين الهاجرون المصارمون للفاسق والفاجر أين المناصرون للقائم على أهل المعاصي والكبائر أين أهل الولاء والبراء المحبون في الله المبغضون لأعدائه.
أين المنقون لمآكلهم وملابسهم ومساكنهم عن الحرام والمشتبه وهو ما كان القلب في الإقدام عليه والكف عنه حائر.
أين الذين لا يسكنون إلا برضا صاحب الملك خوفًا من المخاطرة في صلاتهم وصيامهم ونكاحهم ومكثهم في الأملاك المسكونة قهرًا وغصبًا.
أين المتفقدون للفقراء والمساكين الذين ليس لهم موارد.
عثرت والله بهم العواثر وأبادتهم السنين الغوابر وبترت أعمارهم الحادثات البواتر واختطفهم عقبات كواسر. وخلت منهم المشاهد والمحاضر وعدمت من أجسادهم تلك الجواهر وطفئت من وجوههم الأنوار الزواهر وابتلعتهم الحفر والمقابر إلى يوم تبلى السرائر فلو كشفت عنهم أغطية القبور بعد ليلتين أو ثلاث ليال لرأيت الأحداق على الخدود سائلة والأوصال بعضها عن بعض مائلة وديدان الأرض في نواعم تلك الأبدان جائلة والرءوس الموسدة على الأيمان زائلة ينكرها من كان عارفًا بها وينفر عنها من لم يزل آلفًا بها.(1/265)
فلا يعرف السيد من المسود ولا الملك من المملوك ولا الذكي من البليد ولا الغني من الفقير فرحم الله عبدًا بادر بالإقلاع عن السيئات وواصل الإسراع والمبادرة في الأعمال الصالحات قبل انقطاع مدد الأوقات وطي صحائف المستودعات ونشر فضائح الاقترافات والجنايات فلا تغتروا بحياة تقود إلى الممات فورب السماء والأرض إنما توعدون لأت فالبدار البدار قبل أن تتمنوا المهلة وهيهات.
شعرًا:
نَمْضِي عَلَى سُبُلٍ كَانُوا لَهَا سَلَكُوا ... أَسْلافُنَا وَهُمْ لِلْدِّيْن قَدْ شَادُوْا
لَنا بِهِمْ أُسْوَةٌ إِذْ هُمْ أَئِمَّتُنَا ... وَنَحْنُ لِلْقَوْمِ أَبْنَاءٌ وَأَحْفَادُ
وَالصَّبْرُ يَا نَفْسُ خَيْرٌ كَلُّهُ وَلَهُ ... عَوَاقِبٌ كُلُّهَا نُجْح وَإِمْدَادُ
فَاصْبِرْ هُدِيْتَ فَإنَّ المَوْتَ مُشْتَرَكٌ ... بَينَ الأَنَامِ وإنْ طَاوَلْنَ آمَادُ
وَالنَّاسُ في غَفَلاتٍ عَنْ مَصَارِعِهِمْ ... كَأَنَهُمْ وَهُمْ الأَيْقَاظُ رُقَّادُ
دُنْيا تَغُرُّ وَعَيْشٌ كُلُّهُ كَدَرٌ ... لَوْلا النُّفُوسُ التِي لِلْوَهْمِ تَنْقَادُ
كُنَّا عَدَدنَا لِهَذَا المَوْتِ عُدَّّّتَهُ ... قَبْلَ الوَفَاةِ وَأَنْ تُحْفَرْنَ أَلْحَادُ
فَالدَّارُ مِنْ بَعْدِ هَذِي الدَّارِ آخِرَةٌ ... تَبْقَى دَوَامًا بِهَا حَشْرٌ وَمِيْعَادُ
وَجَنَّةٌ أُزْلِفَتْ لِلْمُتَّقِيْنَ وَاَهْـ ... ـلُ الحَقِّ وَالصَّبْرِ أَبْدَالٌ وَأَوْتَادُ
فَاعْمَلْ لنَفْسُكَ مِنْ قَبْلِ المَمَاتِ وَلا ... تَعْجَلْ وَتَكْسَلْ فَإِنَّ المَرْءَ جَهَّادُ
لا يَنْفَعُ العَبْدَ إِلا مَا يُقَدِّمُهُ ... فَبَادِرِ الفَوْتَ وَاصْطَدْ قَبْلَ تَصْطَادُ
وَالمَوْتُ لِلْمُؤْمِنِ الأَوَّابِ تُحْفَتُهُ ... وَفِيْهِ كُلُّ الذِي يَبْغِي وَيَرْتَادُ(1/266)
اللهم يا عالم الخفيات ويا سامع الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يا خالق الأرض والسموات أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد الوهاب الذي لا يبخل والحليم الذي لا يعجل لا راد لأمرك ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر ذنوبنا وتنور قلوبنا وتثبت محبتك في قلوبنا وتسكننا دار كرامتك إنك على كل شيء قدير وصلى على محمد وآله وصحبه أجمعين.
41- "موعظة"
عباد الله لا شيء أغلى عليكم من أعماركم وأنتم تضيعونها فيما لا فائدة فيه. ولا عدو أعدى لكم من إبليس وأنتم تطيعونه، ولا أضر عليكم من موافقة النفس الأمارة بالسوء وأنتم تصادقونها، لقد مضى من أعماركم الأطايب، فما بقي بعد شيب الذوائب.
يا حاضر الجسم والقلب غائب، اجتماع العيب مع الشيب من أعظم المصائب، يمضي زمن الصبا في لعب وسهو وغفلة، يا لها من مصائب، كفى زاجرًا واعظًا تشيب منه الذوائب، يا غافلاً فاته الأرباح وأفضل المناقب، أين البكاء والحزن والقلق لخوف العظيم الطالب أين الزمان الذي فرطت فيه ولم تخش العواقب، أين البكاء دما على أوقات قتلت عند التلفزيون والمذياع والكرة والسينماء والفيديو والخمر والدخان والملاعب واللعب بالورق والقيل والقال.(1/267)
كم في يوم الحسرة والندامة من دمع ساكب على ذنوب قد حواها كتاب الكاتب، من لك يوم ينكشف عنك غطاؤك في موقف المحاسب، إذا قيل لك ما صنعت في كل واجب، كيف ترجو النجاة وأنت تلهو بأسر الملاعب، لقد ضيعتك الأماني بالظن الكاذب، أما علمت أن الموت صعب شديد المشارب، يلقي شره بكأس صدور الكتائب، وأنه لا مفر منه لهارب فانظر لنفسك واتق الله أن تبقى سليمًا من النوائب فقد بنيت كنسج العنكبوت بيتًا أين الذين علوا فوق السفن والمراكب أين الذين علوا على متون النجائب، هجمت عليهم المنايا فأصبحوا تحت النصائب وأنت في إثرهم عن قريب عاطب، فانظر وتفكر واعتبر وتدبر قبل هجوم من لا يمنع عنه حرس ولا باب ولا يفوته هرب هارب.
اللهم اسلك بنا مسلك الصادقين الأبرار، وألحقنا بعبادك المصطفين الأخيار، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم أحي قلوبًا أماتها البعد عن بابك، ولا تعذبنا بأليم عقابك يا أكرم من سمح بالنوال وجاد بالإفضال، اللهم أيقظنا من غفلتنا بلطفك وإحسانك، وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
42- "موعظة"
عباد الله لما كان الإنسان مكلفًا بالسعي والعمل لطلب الرزق من وجوهه المشروعة كان حقًا عليه أن يصون نفسه عن مسألة الناس.
وأن لا يمد يده لسؤالهم ولا يتقدم إليه لطلب حطام الدنيا إلا عند الضرورة أو الحاجة الشديدة لأنه إذا قعد عن العمل ولزم البطالة والكسل ونظر لما في أيدي الناس من أوساخهم ساءت حاله، وضاعت آماله، وضعف توكله، وضاق عيشه، وانحطت نفسه، واعتاد السؤال الذي لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة:(1/268)
الأول: إظهار الشكوى من الله تعالى، إذ السؤال إظهار للفقر وذكر لقصور نعمة الله عنه، وهو عين الشكوى، وكما أن العبد المملوك لو جعل يسأل وأنه ما يجد شيئًا لكان سؤاله تشنيعًا على سيده ولا يرضى بذلك ولله المثل الأعلى.
ولا سيما إذا أتى إلى بيت الله يسأله من فضله، ثم قام من حين ما يسلم الإمام وجعل يشرح حاله وفقره وأوقف الناس عن تهليلهم، وتسبيحهم، وتكبيرهم، والمساجد لم تبن إلا لذكر الله، والصلاة فيها وقراءة القرآن. وهذا المنكر قل من ينتبه له.
الأمر الثاني: أن في سؤال الناس إذلال لنفس السائل، وليس للإنسان أن يذل نفسه ويخضعها إلا لله، الذي في إذلالها عزه، فأما سائر الخلق فإنهم عباد أمثاله فلا يذل لهم نفسه.
ثالثًا: أن فيه ظلم لنفسه إلا عند الضرورة أو الحاجة الشديدة وفيه أيضًا إيذاء للمسئول خصوصًا إذا كان مع إلحاح، والإيذاء حرام، فأي عاقل يرضى لنفسه بهذه الحالة التعسة، بل كيف يرضى أن يكون عضوًا أشلاً في الهيئة الاجتماعية لا يقام له وزن ولا تقام له قيمة.
وقد أثنى الله على الذين لا يسألون الناس إلحافًا وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس».
ففي زمننا الذي اختلط فيه الحابل بالنابل وصار عندهم الحلال ما وصل إلى اليد وذهب عنهم الورع والابتعاد عن الشبهات، على الإنسان أن يبذل جهده ويتثبت ولا يبذل زكاته إلى كل من مد يده، بل يسأل بدقة، ويتحقق من الأوراق التي تعرض عليه، التي صارت تصور وتباع وتشترى.(1/269)
وربما حصل المتسول على أضعاف ما فيها ولو أن هؤلاء المتسولين الشحاذين استعملوا في طريق منتج من تجارة أو غيرها ما يصل إلى أيديهم من الصدقات لما بقي في الأمة منهم متسول، ولكن هؤلاء قوم ألفوا هذا العيش وركنوا إليه لا يدفعهم إليه فقر ولا يردهم عنه غنى، وكم ممن اكتشف فصار عنده ثروة، وهذا سببه عدم التثبت وإجراء العادات بدون سؤال هل اغتنى أم لا؟
وقد بين - صلى الله عليه وسلم - من يحل له السؤال وذلك فيما ورد عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال تحملت حمالة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فآمر لك بها، ثم قال يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، أو رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش أو قال سدادًا من عيش».
ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه يقولون لقد أصابت فلانًا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش أو قال سدادًا من عيش –فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتًا. رواه مسلم.
وقد ذكرنا الأحاديث التي تتضمن التغليظ الشديد في السؤال من غير ضرورة وذلك في موضوع "من تحل له الصدقة".
شعرًا:
غَفَلْتُ وَحَادِيْ المَوتِ فِي أَثَرِيْ يَحْدُو ... فَإِنْ لَمْ أَرُُُُحْ يَوْمِيْ فَلا بُدَّ أَنْ أَغْدُ
أَنَعِّمُ جِسْمِيْ بِاللَّبَاسِ وَلِيْنِهِ ... وَلَيْسَ لِجِسْمِيْ مِنْ لِبَاسِ البِلَى بُدُّ
كَأَنِّيْ بِهِ قَدْ مَرَّ في بَرْزخِ البِلَى ... وَمِِنْ فَوْقِهِ رَدْمٌ وَمِنْ تَحْتِهِ لَحْدُ
وَقَدْ ذَهَبَتْ مِنِّيْ المَحَاسِنُ وَانْمَحَتْ ... وَلَمْ يَبْقَ فَوْقَ العَظْمِ لَحْمٌ وَلا جِلْدُ
أَرى العُمْرَ قَدْ وَلَّى وَلَمْ أَدْرِك المُنَى ... وَلَيْسَ مَعِيْ زَادٌ وَفي سَفَرِيْ بُعْدُ(1/270)
وَقَدْ كُنْتُ جَاهَرْتُ المُهَيْمِنَ عَاصِيًا ... وَأَحْدَثْتُ أَحْدَاثًا وَلَيْسَ لَهَا رَدُّ
وَأَرْخَيْتُ خَوْفَ النَّاسِ سِتْرًا مِنْ الحَيَا ... وَمَا خِفْتُ مَنْ سِرّيْ غَدًا عِنْدَهُ يَبْدُو
بَلَى خِفْتُهُ لَكِنْ وَثِقْتُ بِحِلْمِه ... وَأَنْ لَيْسَ يَعْفُو غَيْرُهُ فَلَهُ الحَمْدُ
فَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَيءٌ سِوَى المَوْتِ والبلى ... عَن اللَّهْوِ لَكِنْ زَالَ عَنْ رَأْيِنَا الرُّشْدُ
عَسَى غَافِرُ الزَّلاتِ يَغْفِرُ زَلَّتِي ... فَقَدْ يَغْفِرُ المَوْلَى إِذَا أَذْنَبَ العَبْدُ
أَنَا عَبْدُ سُوْءٍ خُنْتُ مَوْلاي عَهْدَهُ ... كَذَلِكَ عَبْدُ السُّوءِ لَيْسَ لَهُ عَهْدُ
فَكَيْفَ إِذَا أَحْرَقْتَ بِالنَّارِ جُثَّتِي ... وَنَارُكَ لا يَقْوَى لَهَا الحَجَرُ الصَّلْدُ
أَنَا الفََرْدُ عِنْدَ المَوْتِ وَالفَرْدُ في البِلَى ... وَأَبَعَثُ فَرْدًا فَارْحَمْ الفَرْدَ يَا فَرْدُ
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وارزقنا الإقبال على طاعتك والإنابة وبارك في أعمالنا وأعمارنا وأجزل لنا الأجر والإثابة وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
43- (موعظة)
عباد الله، اقتربت الساعة وقرب التحول والمسير، وأزفت الآزفة وليس هناك حميم ولا نصير وكتبت الصحيفة فلا نسيان لقليل ولا كثير (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ( [النمل: 75].(1/271)
تالله لقد غرت الأماني أكثر خلق الله فتركوا سبيل الهدى وأعرضوا عن دار التهاني والقرار فوقعوا في شرك الردى وتمادوا على التواني وظنوا أن يتركوا سدى ونسوا قوله تعالى: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ( [الأعراف: 183]. وقوله تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ( [الحجر: 3]، وقوله تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ( [المؤمنون: 56].
عباد الله كيف حالكم إذا قمتم من القبور حيارى حفاة عراة غرلاً، وقد عظمت الأهوال (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى( [الحج: 2]. ولزمت الصحف الأعناق ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين.
كيف أنتم إذا سمعتم قول الجبار (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ( [ق: 28]، (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ( [ق: 30]. وقوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ( [يس: 60].
فعند ذلك يؤخذ المجرمون بالنواصي والأقدام، ويطرح في الجحيم من كان له على المعاصي جراءة وإقدام.
ويمرح بالنعيم من قدم الخيرات لدار السلام وعمل الباقيات الصالحات ويحظى بجنة عرضها كعرض السماء والأرض فاتقوا الله عباد الله واسلكوا طريق الشرع القويم الذي لا اعوجاج فيه وقوموا بأوامر المنان ولا تتبعوا خطوات الشيطان.(1/272)
واحذروا أن تكونوا ممن غرتهم الحياة الدنيا بزخارفها الزائلة وزينتها العاطلة وأولئك هم الذين تنقص الأيام والليالي آجالهم وهم لاهون وتجري بهم الأعوام إلى مراقد قبورهم وهم نائمون وتتخطفهم المنايا وهم لاعبون وتناديهم العبر والمواعظ وهم لا يسمعون ولا يبصرون ويرون ما وقع بالأمم من قبلهم وما نزل بآبائهم ولكن لا يفقهون والله سبحانه وتعالى أعلم بمآلهم وما إليه صائرون، إذا هم وصلوا إلى الغاية المفهومة من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ( [الانشقاق: 6].
شعرًا:
يَا غَافِلاً عَمَّا خُلِقْتَ لَهُ انْتَبِهْ ... جَدَّ الرَّحِيْلُ وَلَسْتَ بِاليَقْظَانِ
سَارَ الرَّفَاقُ وَخَلّفُوكَ مَعَ الأَوُلَى ... قَنِعُوا بِذَا الحَظِّ الخَسِيْسِ الفَانِ
وَرَأَيْتَ أَكْثَرَ مَنْ تَرَى مُتَخَلِّّفًا ... فَتَبِعْتَهُم وَرَضِيْتَ بِالحِرْمَانِ
لَكِنْ أَتَيْتَ بِخُطَّتَي عَجْزٍ وَجَهْـ ... ـلٍ بَعْدَ ذَا وَصَحِبْتَ كُلَّ أَمَانِ
مَنَّتْكَ نَفْسُكَ بِاللَّحَاقِ مَعَ القُعُو ... دِ عَن المَسِيْر وَرَاحَةِ الأَبْدَانِ
وَلَسَوفَ تَعْلَمُ حِيْنَ يَنكِشفُ الغِطَا ... مَاذَا صَنَعْتَ وَكُنْتَ ذَا إِمْكَانِ
اللهم أيقظنا من غفلتنا بفضلك وإحسانك وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك وألحقنا بالذين أنعمت عليهم في دار رضوانك وارزقنا كما رزقتهم من لذيذ مناجاتك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
44- "موعظة"(1/273)
عباد الله إن كنتم في سعة من العيش فاحمدوا الله تعالى أن جعلكم من أهل الإيسار وأديموا شكره يدم عليكم النعمة ويزدها، وهو الكريم الجواد. ومن تمام النعمة أن تنسخوا من الزكاة بإخراجها كاملة إلى ذوي الحاجات لعلكم أن تفوزوا بالخلف والثواب الجزيل من فاطر الأرض والسموات، أحسنوا إلى عباد الله كما أحسن الله إليكم وراعوا عند الإحسان الأدب فلا تمنوا على الفقير ولا تؤذوه فإن ذلك محبط للأعمال واستروا عطاءكم مخلصين متيقنيين أن حاجتكم إلى الثواب وتكفير الذنوب أشد من حاجة الفقير إلى ما تخرجون. واعلموا أن إحسانكم إنما هو لأنفسكم واعصوا الشيطان فإنه يأمر بالبخل وينهى عن العطف على المساكين، يخيفكم إن تصدقتم أن يذهب مالكم وأنتم تعلمون أن نصيحة العدو مهلكة، وقد أخبر الله جل وعلا أن الشيطان للإنسان عدو مبين، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه ما من يوم يصبح العباد إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقًا خلفًا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكًا تلفًا. رواه البخاري ومسلم.
اللهم اعصمنا عن المخالفة والعصيان وألهمنا ذكرك وشكرك يا كريم يا منان اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
45- "موعظة"(1/274)
عباد الله إن وجود الموت بين الناس موعظة كبرى لو كانوا يعقلون فإنه بلسان الحال يقول لكل واحد منا: سأنزل بك يومًا أو ليلة كما ترى الناس بعينك يموتون وقد يكون لأحدهم من المال والجاه والقوة والجمال والعلم والفصاحة والمركز الدنيوي ما يدهش الناظرين له، وقد يكون قد طال عمره وطال أمله حتى مل ومل منه. وبين ما هو في حال من النشاط قوي مشدود أسره، ذو همة تضيق بها الدنيا، قد أقبلت عليه الدنيا من كل جهة، وزهت له، إذا تراه جثة هامدة أشبه بأعجاز النخل الخاوية لا حس له ولا حركة ولا أقوال ولا أفعال قد ضيق على من حوله وإذا لم يسرعوا به إلى الدفن يكون جيفة من الجيف تؤذي رائحتها الكريهة كل من قرب منها، هذا كله يكون بعد ذلك النشاط والقوى لأن هادم اللذات نزل به.
وبعد نزوله لا تسأل كان له ما كان، وفي الحال تصبح زوجته أرملة ويصبح أولاده أيتامًا. وفي الحال تقسم أمواله التي جمعها وقاسى على جمعها الشدائد. لأن الموت يزيل ملكه وينقله إلى ملك ورثته نقلاً تعجز عن نقضه الأيام، نعم إنه بالموت يزول ماله كله وهي أكبر مصيبة مالية.
وأكبر منها أنه يسأل عنه كله داخلاً وخارجًا من حلال أم من حرام وبعد مدة يسيرة ينسى هو وينسى ماله وينسى جاهه وينسى مركزه ومكانته ولو كان ملكًا أو وزيرًا وما كأنه رأته العيون ولا سمعت كلامه الأذان.
اللهم إنا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، اللهم أفض علينا من بحر كرمك وعونك حتى نخرج من الدنيا على السلامة من وبالها وارأف بنا رأفة الحبيب بحبيبه عند الشدائد ونزولها، وارحمنا من هموم الدنيا وغمومها بالروح والريحان إلى الجنة ونعيمها، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم: مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/275)
46- "موعظة"
عباد الله إن القلوب إذا قست واستولى عليها حب الدنيا دواؤها النافع بإذن الله ذكر الله جل وعلا وتلاوة كتابه العزيز وزيارة المقابر لترى فيها بعينك ما صار إليه الأكابر والأصاغر ترى فيها الملوك والوزراء والوجهاء والجبابرة والظلمة والمتكبرين والفسقة صرعى في ضيق تلك الحفائر وقد كانت الدنيا على سعتها تضيق عما لهم من آمال وأماني.
وترى هناك أحباء الله وأولياءه وعباده الصالحين الكل حكم عليه العزيز الحكيم القهار بالموت فلبوا طائعين أو مكرهين وأصبح الكل منفردًا لا أنيس له إلا ما قدمه من الأعمال فالمطيع لله الذي امتثل ما أمر الله به وانتهى عما نهى الله عنه في روضة من رياض الجنة وعنده عمله الصالح.
وأما الآخر فلو أنطقه الله لقال لك كلامًا تقطع له القلوب حسرات يقول إن الحكم العدل جازاني بما استحق وإني بعذاب لا تحتمله الجبال الراسيات وإني مستحق لذلك لأني اغتررت بالدنيا وزخارفها فلم أعبأ بأوامر ربي ولا نواهيه واقتحمت الموبقات لذا صرت إلى ما لو رأيته لصعقت وذهلت وغشي عليك، وملئت رعبًا واشتعل شعرك شيبًا ولم تنتفع بعد قوله بأكل وشرب ورأيت أحداقًا على الخدود سائلة، ورأيت أعظمًا غير متماسكة وأوصالاً متقطعة ورأيت جماجمًا قد علاها الدود والخشاش كأنها الأنابيب ورأيت ما كان مجتمعًا متفرقًا رميمًا ورأيت الصديد والقيح يجري فيا له من منظر ما أفزعه ويا له من سفر ما أطوله.
والعجب ممن يزور القبور ويسمع ذلك ويصدق به ويأكل ويشرب وينام مطمئنًا ما كأنه سيساكنهم عن قريب، ماتت القلوب فأصبحت لا تنتفع بالوعظ والتذكير ولا بزاجر الموت وهو أبلغ زاجر للأحياء فزر يا أخي القبور معتبرًا وانتبه من هذه الغفلة فالموت مهما مد في عمرك لا بد أن يأتيك فكن منه على حذر فإنه لا يؤمن أن يفجأك وأنت سارح في أوديه الدنيا. وما أكثر موت الفجأة في زمننا بواسطة السيارات والقز والكهرباء والطائرات ونحو ذلك.(1/276)
اللهم إنا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، اللهم أفض علينا من بحر كرمك وعونك حتى نخرج من الدنيا على السلامة من وبالها وارأف بنا رأفة الحبيب بحبيبه عند الشدائد ونزولها، وارحمنا من هموم الدنيا وغمومها بالروح والريحان إلى الجنة ونعيمها، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم: مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
47- "موعظة"
أيها الغافل راقب من يراك في كل حال، وطهر سرك فهو عليم بما يخطر بالبال، إلى متى تميل مع الزخارف وإلى كم ترغب لسماع الملاهي والمعازف والمحرمات أما آن لك أن تجالس صاحب الدين والصلاح العاكف على عمله يقطع ليله بالقيام حتى الصباح ونهاره بالصيام لا يمل ولا يتوانى رجاء الفوز بالأرباح وأنت في غمرة هواك مفتونًا في الانهماك بدنياك وكأني بك وقد هجم عليك ما بدد شملك وأوهن قواك وافترسك من بين أهلك وعشيرتك وأخلائك وتخلى عنك خليلك وأصدقاؤك لا يستطيعون رد ما نزل بك ولا تجد له كاشفًا فانتبه ما دام جسمك صحيحًا والعمل منك في إمكان.
وَاذْكُرْ وقُوفَكَ في المَعَادِ وَأَنْتَ في ... كَرْب الحِسَابِ وَأَنْتَ عَبْدًا مُفْْرَدًا
سَوَّفْتَ حَتَّى ضَاعَ عُمْرُكَ بَاطِلاً ... وَأَطَعْتَ شَيْطَانَ الغِوَايَةِ وَالعِدَا
فَانْهَضْ وَتُبْ مِمَّا جَنَيْتَ وَقُمْ إلى ... بَابِ الكَرِيْمِ وَلُذْ بِهِ مَتَفَرِّدًا
وَادْعُوهُ في الأَسْحَارِ دَعْوَةَ مُذْنِبٍ ... وَاعْزِمْ وَتُبْ وَاحْذَرْ تَكُنْ مُتَرَددًا
وَاضْرَعْ وَقُلْ يَا رَبِّ جِئْتُكَ أَرْتجي ... عَفْوًا وَمَغْفِرَةً بِهَا كَيْ أَسْعَدَا
فَلَعَلَّ رَحْمَتَهُ تعُم فإِنَّهَا ... تَسَعُ العِبَادَ وَمَنْ بَغَى وَمَن اعْتَدى(1/277)
وإِِذَا أَرَدْتَ بَأَنْ تَفُوزَ وَتَتَّقِي ... نَارَ الجَحِيمِ وَحَرَّهَا المُتَوَقِدَا
أَخْلِصْ لِمَنْ خَلَقَ الخَلائِقَ واعْتَلى ... فَوْقَ السمواتِ العُلَى وَتَفَرِّدَا
ثُمَّ الصَّلاة على النبيِّ مُحَمَّدٍ ... خَيْرِ الوَرَى نَسَبًا وَأَكْرَمَ مَحْتَدًا
48- "موعظة"
عباد الله، إن بين أيديكم يوم لا شك فيه ولا مراء، يقع فيه الفراق وتنفصم فيه العرى، فتدبروا أمركم، قبل أن تحضروا، وانظروا لأنفسكم نظر من قد فهم ودرى، قال الله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً( [آل عمران: 30]. يا له من يوم يشيب فيه الولدان، وتسير فيه الجبال، وتظهر فيه الخفايا، وتنطق فيه الأعضاء، شاهدة بالأعمال، فانتبه يا من قد وهي شبابه، وامتلأ بالأوزار كتابه، عباد الله، أما بلغكم أن النار للكفار والعصاة أعدت، إنها لتحرق كل ما يلقى فيها، قال الله تعالى: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ( [الملك: 8]. وقال (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ( [المرسلات: 33]. عباد الله، أما بلغكم أن طعام أهلها الزقوم، وشرابهم الحميم، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأرض لأمرت على أهل الدنيا معيشتهم». فكيف بمن هو طعامه، لا طعام له غيره، قال تعالى: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ( [الدخان:: 46].(1/278)
أخرج الطبراني وابن أبي حاتم من طريق منصور بن عمار حدثنا بشير بن طلحة عن خالد بن الدريك عن يعلى بن منية رفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "ينشء الله لأهل النار سحابة سوداء مظلمة، فيقال يا أهل النار أي شيء تطلبون، فيذكرون بها سحابة الدنيا، فيقولون يا ربنا الشراب، فتمطر أغلالاً تزيد في أغلالهم، وسلاسل تزيد في سلاسلهم، وجمرًا يلتهب عليهم".
اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
49- "موعظة"
ابن آدم كأنك بالموت وقد فجأك وألحقك بمن قد سبقك من الأمم ونقلك من الفلل والعمائر إلى بيت الوحدة والوحشة والظلم ومن ذلك إلى عسكر الموتى مخيمة بين الخيم مفرقًا من مالك ما اجتمع ومن شملك ما انتظم وليس لك قدرة فتدفعه بكثرة الأموال ولا بقوة الخدم وندمت على التفريط ولات ساعة ندم.
فيا عجبًا لعين تنام وطالبها مجد في طلبها لم ينم، متى تحذر مما توعد وتهدد، ومتى تضرم نار الخوف في قلبك وتتوقد إلى متى حسناتك تضمحل وسيئاتك تتجدد، وإلى متى لا يهو لك زجر الواعظ وإن شدد وإلى متى وأنت بين الفتور والتواني تردد متى تحذر يومًا تنطق فيه الجلود وتشهد ومتى تقبل على ما يبقى وتترك ما يفنى وينفد.
متى تهب بك في بحر الوجد ريح الخوف والرجا متى تكون في الليل قائمًا إذا سجى أين الذين عاملوا مولاهم بالإخلاص وانفردوا وقاموا في الدجى فركعوا وسجدوا وقدموا إلى بابه في الأسحار ووفدوا وصاموا هواجر النهار فصبروا واجتهدوا، لقد ساروا وتخلفت وفاتك ما وجدوا وبقيت في أعقابهم وإن لم تسرع وتجتهد بعدوا.(1/279)
فتنبه وتيقظ يا مسكين قبل أن يفاجئك هادم اللذات فلا تقدر على استدراك لما فات، قال الله جل وعلا: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( [المنافقون: 11].
اللهم وفقنا لصالح الأعمال ونجنا من جميع الأهوال وأمنا من الفزع والرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فائدة عظيمة النفع
وقال رحمه الله ليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها وكونها ذنوبًا تأتي من نفس العبد فإن سبب الذنب الظلم والجهل وهما من نفس العبد كما أن سبب الخير الحمد والعلم والحكمة والغنى.
وهي أمور ذاتية للرب وذات الرب سبحانه، مستلزمة للحكمة والخير والجود.
وذات العبد مستلزمة للجهل والظلم وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه وهو أمر خارج عن نفسه.
فمن أراد الله به خيرًا أعطاه هذا الفضل فصدر منه الإحسان والبر والطاعة.
ومن أراد به شرًا أمسكه عنه وخلاه، ودواعي نفسه وطبعه وموجبها فصدر منه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبيح.
وليس منعه لذلك ظلمًا منه سبحانه فإنه فضله وليس من منع فضله ظالمًا لا سيما إذا منعه عن محل لا يستحقه ولا يليق به.
وأيضًا فإن هذا الفضل هو توفيقه وإرادته من نفسه أن يلطف بعبده ويوفقه ويعينه ولا يخلي بينه وبين نفسه وهذا محض فعله وفضله.(1/280)
وهو سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لهذا الفضل ويليق به ويثمر به ويزكو. وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ اهؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ( [الأنعام: 53].
فأخبر سبحانه أنه أعلم بمن يعرف قدر هذه النعمة ويشكره عليها فإن أصل الشكر هو الاعتراف بانعام المنعم على وجه الخضوع والذل والمحبة. فمن لم يعرف النعمة. بل كان جاهلاً بها لم يشكرها.
ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضًا ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها.
ومن عرف النعمة والمنعم وأقر بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ويحبه ويرضى به وعنه لم يشكرها أيضًا.
ومن عرفها وعرف المنعم بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه واستعملها في محابة وطاعته فهذا هو الشكر لها.
فلا بد في الشكر من علم القلب وعمل يتبع العلم وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له.
كما في صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أَنْتَ ربي لا إله إلا أَنْتَ خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة».
فقوله: "أبوء لك بنعمتك علي" يتضمن الإقرار والإنابة إلى الله بعبوديته. فالعبد يبوء إلى الله بنعمته عليه ويبوء بذنبه ويرجع إليه بالاعتراف بهذا وبهذا رجوع مطمئن إلى ربه منيب إليه ليس رجوع من أقبل عليه ثم أعرض عنه.
فهو معبوده وهو مستعانه لا صلاح له إلا بعبادته ولا يمكن أن يعبده إلا بإعانته.(1/281)
ومن المعلوم أن أجل نعمة على عبده نعمه الإيمان به ومعرفته ومحبته وطاعته والرضا به والإنابة إليه والتوكل عليه والتزام عبوديته.
ومن المعلوم أيضًا أن الأرواح منها الخبيث الذي لا أخبث منه ومنها الطيب. وبين ذلك وكذلك القلوب منها القلب الشريف الزكي والقلب الخسيس الخبيث.
وهو أعلم بالقلوب الزاكية والأرواح الطيبة التي تصلح لاستقرار هذه النعم وإيداعها عندها ويزكو بذرها فيها فيكون تخصيصه لها بهذه النعمة كتخصيص الأرض الطيبة القابلة للبذر بالبذر.
فليس من الحكمة أن يبذر البذر في الصخور والرمال والسباخ وفاعل ذلك غير حكيم فما الظن ببذر الإيمان والقرآن والحكمة ونور المعرفة والبصيرة في المحال التي هي أخبث المحال فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلاً وميراثًا.
فهو أعلم بمن يصلح لتحمل رسالته فيؤديها إلى عباده بالأمانة والنصيحة وتعظيم المرسل والقيام بحقه والصبر على أوامره والشكر لنعمه والتقرب إليه. ومن لا يصلح لذلك.
وكذلك هو سبحانه أعلم بمن يصلح من الأمم لوراثة رسله والقيام بخلافتهم وحمل ما بلغوه عن ربهم.
فالرب سبحانه إذا علم من محل أهلية لفضله ومحبته ومعرفته وتوحيده حبب إليه ذلك ووضعه فيه وكتبه في قلبه ووفقه له وأعانه عليه ويسر له طرقه وأغلق دونه الأبواب التي تحول بينه وبين ذلك.
ثم تولاه بلطفه وتدبيره وتيسيره وتربيته أحسن من تربية الوالد الشفيق الرحيم المحسن لولده الذي هو أحب شيء إليه.
فلا يزال يعامله بلطفه ويختصه بفضله ويؤثره برحمته ويمده بمعونته ويؤيده بتوفيقه ويريه مواقع إحسانه إليه وبره به فيزداد العبد به معرفة وله محبة وإليه إنابة وعليه توكلاً. ولا يتولى معه غيره ولا يعبد معه سواه.
وهذا هو الذي عرف قدر النعمة وعرف المنعم وأقر بنعمته وصرفها في مرضاته.(1/282)
واقتضت حكمة الرب وجوده وكرمه وإحسانه أن بذر في هذا القلب نور الإيمان والمعرفة وسقاه بالعلم النافع والعمل الصالح وأطلع عليه من نوره شمس الهداية وصرف عنه الآفات المانعة من حصول الثمرة.
فأنبتت أرضه الزاكية من كل زوج كريم فمن لم ينبت قلبه شيئًا من الخير ألبتة فهذا من أشقى الأشقياء.
فصلوات الله وسلامه على من الهدى والبيان والشفاء والعصمة في كلامه وفي أمثاله.
والمقصود أن الله سبحانه أعلم بمواقع فضله ورحمته وتوفيقه ومن يصلح لها ومن لا يصلح وأن حكمته تأبى أن يضع ذلك عند غير أهله كما تأبى أن يمنعه من يصلح له.
وهو سبحانه الذي جعل المحل صالحًا وجعله أهلاً وقابلاً فمنه الإعداد والإمداد ومنه السبب والمسبب.
وقال رحمه الله كمال العبد وصلاحه يتخلف عنه من إحدى جهتين إما أن تكون طبيعته يابسة غير لينة ولا منقادة ولا قابلة لما به كمالها وفلاحها.
وإما أن تكون لينة منقادة سلسة القيادة لكنها غير ثابتة على ذلك بل سريعة الانتقال عنه كثيرة التقلب.
فمتى رزق العبد انقيادًا للحق وثباتًا عليه فليبشر فقد بشر بكل خير وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقال صدق التأهب للقاء الله من أنفع ما للعبد وأبلغه في حصول استقامته فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها وخمدت من نفسه نيران الشهوات وأخبت قلبه إلى الله وعكفت همته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته.
واستحدثت همة أخرى وعلومًا أخر وولد ولادة أخرى نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمه فيولد قلبه ولادة حقيقية كما ولد جسمه حقيقة وكما أن بطن أمه حجابًا لجسمه عن هذه الدار فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة.
فخروج قلبه عن نفسه بارزًا إلى الدار الآخرة كخروج جسمه عن بطن أمه بارزًا إلى هذه الدار وهذا معنى ما يذكر عن المسيح أنه قال يا بني إسرائيل إنكم لن تلجوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين.(1/283)
ولما كان أكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة الثانية ولا تصوروها فضلاً عن أن يصدقوا بها فيقول القائل كيف يولد الرجل الكبير أو كيف يولد القلب لم يكن لهم إليها همة ولا عزيمة إذ كيف يعزم على الشيء من لا يعرفه ولا يصدقه ولكن إذا كشف حجاب الغفلة عن القلب صدق بذلك وعلم أنه لم يولد قلبه بعد.
والمقصود أن صدق التأهب للقاء الله هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة والأحوال الإيمانية ومقامات السالكين إلى الله ومنازل السائرين إليه من اليقظة والتوبة والإنابة والمحبة والرجاء والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعمال القلوب والجوارح.
فمفتاح ذلك كله صدق التأهب والاستعداد للقاء الله والمفتاح بيد الفتاح العليم لا إله غيره ولا رب سواه.
وقال رحمه الله طوبى لمن أنصف فأقر له بالجهل في علمه، والآفات في عمله، والعيوب في نفسه، والتفريط في حقه، والظلم في معاملته.
فإن أخذه بذنوبه رأي عدله، وإن لم يؤخذه رأى فضله.
وإن عمل حسنة رآها من منته عليه، فإن قبلها فمنة وصدقة ثانية، وإن ردها فلكون مثلها لا يصلح أن يواجه به.
وإن عمل سيئة رآها من تخليه عنه، وخذلانه له، وإمساك عصمته، وذلك من عدله فيه.
فيرى في ذلك فقره إلى ربه وظلمه في نفسه، فإن غفر له فبمحض إحسانه وجوده وكرمه.
ونكتة المسألة وسرها أنه لا يرى ربه إلا محسنًا ولا يرى نفسه إلا مسيئًا ومفرطًا أو مقصرًا.
فيرى كل ما يسره من فضل ربه عليه وإحسانه إليه، وكل ما يسؤه من ذنوبه.
وقال من لم يعرف نفسه كيف يعرف خالقه؟ فاعلم أن الله خلق في صدرك بيتًا وهو القلب. ووضع في صدره عرشًا لمعرفته يستوي عليه المثل الأعلى، فهو مستو على سرير القلب، وعلى السرير بساط من الرضا.
ووضع عن يمينه وشماله مرافق شرائعه وأوامره، وفتح إليه بابًا من جنة رحمته، والأنس به، والشوق إلى لقائه.(1/284)
وأمطره من وابل كلامه ما أنبت فيه من أصناف الرياحين والأشجار المثمرة، من أنواع الطاعات والتهليل والتسبيح والتحميد والتقديس.
وجعل في وسط البستان شجرة معرفته، فهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من المحبة والإنابة، والخشية والفرح به، والابتهاج بقربه، وأجرى إلى تلك الشجرة، ما يسقيها من تدبر كلامه وفهمه، والعمل بوصاياه.
وعلق في ذلك البيت قنديلاً أسرجه بضياء معرفته، وإيمان به وتوحيده، فهو يستمد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار.
ثم أحاط عليه حائطًا يمنعه من دخول الآفات والمفسدين ومن يؤذي البستان، فلا يلحقه أذاهم، وأقام عليه حرسًا من الملائكة يحفظونه في يقظته ومنامه.
ثم أعلم صاحب البيت والبستان بالساكن فيه فهو دائمًا همه إصلاح السكن ولم شعثه ليرضاه الساكن منزلاً.
وإذا أحس بأدنى شعث في السكن بادر إلى إصلاحه ولمه، خشية انتقال الساكن منه، فنعم الساكن، ونعم المسكن فسبحان الله رب العالمين.
كم بين هذا البيت وبيت قد استولى عليه الخراب، وصار مأوى للحشرات والهوام، ومحلا لإلقاء الأنتان، والقاذورات فيه.
فمن أراد التخلي وقضاء الحاجة وجد خربة لا ساكن ولا حافظ لها.
وهي معدة لقضاء الحاجة، مظلمة الأرجاء، منتنة الرائحة، قد عمها الخراب، وملأتها القاذورات. فلا يأنس بها ولا ينزل فيها إلا من يناسبه سكناها من الحشرات والديدان والهوام.
الشيطان جالس على سريرها وعلى السرير بساط الجهل وتخفق فيه الأهواء، وعن يمينه وشماله مرافق الشهوات.
وقد فتح إليه باب من حقل الخذلان والوحشة، والركون إلى الدنيا، والطمأنينة بها، والزهد في الآخرة.(1/285)
وأمطر من وابل الجهل والهوى والشرك والبدع، ما أنبت فيه أصناف الشوك والحنظل، والأشجار المثمرة بأنواع المعاصي والمخالفات، من الزوائد والانتدابات، والنوادر والهزليات والمضحكات، والأشعار الغزليات، والخمريات التي تهيج على ارتكاب المحرمات، وتزهد في الطاعات.
وجعل في وسط الحقل شجرة الجهل به والإعراض عنه، فهي تؤتي أكلها كل حين من الفسوق والمعاصي، واللهو واللعب والمجون، والذهاب مع كل ريح، وإتباع كل شهوة.
ومن ثمرها الهموم والغموم، والأحزان والآلام، ولكنها متوارية باشتغال النفس بلهوها ولعبها. فإذا أفاقت من سكرها أحضرت كل هم وغم وحزن وقلق، ومعيشة ضنك.
وأجري إلى هذه الشجرة ما سقيها من إتباع الهوى، وطول الأمل والغرور.
ثم ترك ذلك البيت وظلماته وخراب حيطانه بحيث لا يمنع منه مفسد ولا حيوان، ولا مؤذ ولا قذر.
فسبحان خالق هذا البيت وذلك البيت، فمن عرف بيته وقدر الساكن فيه، وقدر ما فيه من الكنوز والذخائر والآلات انتفع بحياته ونفسه.
ومن جهل ذلك، جهل نفسه وأضاع سعادته. والله الموفق.
وقال أقام الله سبحانه هذا الخلق بين الأمر والنهي والعطاء والمنع فافترقوا فرقة قابلت أمره بالترك، ونهيه بالارتكاب، وعطاؤه بالغفلة عن الشكر، ومنعه بالسخط؛ وهؤلاء أعداؤه، وفيهم من العداوة بحسب ما فيهم من ذلك.
وقسم قالوا: إنما نحن عبيدك فإن أمرتنا سارعنا إلى الإجابة، وإن نهيتنا أمسكنا نفوسنا وكففناها عما نهيتنا عنه، وإن أعطيتنا حمدناك وشكرناك، وإن منعتنا تضرعنا إليك وذكرناك.
فليس من بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة الدنيا، فإذا مزقه عليهم الموت، صاروا إلى النعيم المقيم، وقرة الأعين كما أن أولئك ليس بينهم وبين النار إلا ستر الحياة الدنيا.(1/286)
فإذا مزقه الموت صاروا إلى الحسرة والألم. فإذا تصادمت جيوش الدنيا والآخرة في قلبك وأردت أن تعلم من أي الفريقين أنت فانظر مع من تميل منهما، ومن تقابل؛ إذ لا يمكنك الوقوف بين الجيشين، فأنت مع أحدهما لا محالة.
فقسم استغشوا الهوى فخالفوه، واستنصحوا العقل فشاوروه. وفرغوا قلوبهم للفكر فيما خلقوا له وجوارحهم للعمل بما أمروا به، وأوقاتهم لعمارتها بما يعمر منازلهم في الآخرة.
واستظهروا على سرعة الأجل بالمبادرة إلى الأعمال وسكنوا الدنيا وقلوبهم مسافرة عنها.
واستوطنوا الآخرة قبل انتقالهم إليها، واهتموا بالله وطاعته على قدر حاجتهم إليه، وتزودوا للآخرة على قدر مقامهم فيها.
فجعل لهم سبحانه من نعيم الجنة وروحها، أن آنسهم بنفسه، وأقبل بقلوبهم إليه، وجمعها على محبته، وشوقهم إلى لقائه، ونعمهم بقربه.
وفرغ قلوبهم مما ملأ به قلوب غيرهم من محبة الدنيا والهم والحزن على فوتها، والغم من خوف ذهابها.
فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانهم، والملأ الأعلى بأرواحهم.
فائدة: وقال رحمه الله إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها وحمل عنه كل ما أهمه وفرغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره وجوارحه لطاعته.
وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله إلى نفسه.
فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق ولسانه عن ذكره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم.
فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره.
فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته.
قال تعالى: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ( [الزخرف: 36].
قال سفيان بن عيينة لا تأتون بمثل مشهور للعرب إلا جئتكم به من القرآن.(1/287)
فقال له قائل فأين في القرآن أعط أخاك ثمرة فإن أبى فجمرة.
فقال في قوله تعالى: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً( [الزخرف: 36].
اللهم وفقنا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغفلة والنوم وارزقنا الاستعداد لذلك اليوم الذي يربح فيه المتقون اللهم وعاملنا بإحسانك وجد علينا بفضلك وامتنانك واجعلنا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون اللهم ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين.
50- (موعظة)
في الحث على تقوى الله عز وجل
عباد الله عليكم بتقوى الله فإنها وصية الله للأولين والآخرين، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ( [النساء: 31]، فما من خير عاجل ولا آجل ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله سبيل موصل إليه، ووسيلة مبلغة له، وما من شر عاجل ولا آجل ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله عز وجل حرز متين وحصن حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره.
وكم علق الله العظيم في كتابه العزيز على التقوى من خيرات عظيمة وسعادات جسيمة من ذلك المعية الخاصة المقتضية للحفظ والعناية والنصر والتأييد، قال تعالى: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ( [البقرة: 194]. ومن ذلك المحبة لمن اتقى الله، قال الله تعالى: (فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ( [التوبة: 7].(1/288)
ومن ذلك التوفيق للعلم قال تعالى: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ( [البقرة: 282]. ومن ذلك نفي الخوف والحزن عن المتقي المصلح قال الله تعالى: (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( [الأعراف: 35]. ومن ذلك الفرقان عند الاشتباه ووقوع الإشكال والكفارة للسيئات والمغفرة للذنوب قال الله تعالى: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ( [الأنفال: 29].
ومن ذلك النجاة من النار قال الله تعالى: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا( [مريم: 72]. وقال تعالى: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ( [الزمر: 61]. ومن ذلك المخرج من الشدائد والرزق من حيث لا يحتسب قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ( [الطلاق: 3].
ومن ذلك اليسر قال الله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً( [الطلاق: 4]. ومن ذلك عظم الجر قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً( [الطلاق: 5]. ومن ذلك الوعد من الله بالجنة قال تعالى: (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ( [مريم: 61]. الآيات إلى قوله من (من كان تقيًا(.(1/289)
وقال تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ( [الشعراء: 90]. وقال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ( [القمر: 55]. وقال تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ( [المائدة: 27]. وقال تعالى: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ( [الزخرف: 67].
ومن ذلك الكرامة عند الله بالتقوى قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ( [الحجرات: 13]. إذا فهمت ذلك فاعلم أن التقوى هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، فالمتقون هم الذين يراهم الله حيث أمرهم ولا يقدمون على ما نهاهم عنه.
المتقون هم الذين يعترفون بالحق قبل أن يشهد عليهم ويعرفونه ويؤدونه، وينكرون الباطل ويجتنبونه ويخافون الرب الجليل الذي لا تخفى عليه خافية، المتقون يعملون بكتاب الله فيحرمون ما حرمه ويحلون ما أحله.
ولا يخونون في أمانة ولا يرضون بالذل والإهانة ولا يعقون ولا يقطعون، ولا يؤذون جيرانهم ولا يضربون إخوانهم، يصلون من قطعهم، ويعطون من حرمهم، ويعفون عمن ظلمهم الخير عندهم مأمول، والشر من جانبهم مأمون لا يغتابون ولا يكذبون ولا ينافقون، ولا ينمون ولا يحسدون ولا يراؤن ولا يرابون ولا يقذفون ولا يأمرون بمنكر ولا ينهون عن معروف، بل يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، تلك صفات المتقين حقًا الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون.
إخواني، لو تحلى كل منا بالتقوى لحسن عمله، وخلصت نيته، واستقام على الهدى، وابتعد عن المعاصي والردى، وكان يوم القيامة من الناجين.
وصف المؤمن المتقي
للإمام علي رضي الله عنه(1/290)
المتقون هم أهل الفضائل منطقهم الصواب وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم نزلت أنفسهم منهم في البلاء كما نزلت في الرخاء ولولا الأجل الذي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقًا إلى الثواب وخوفًا من العقاب.
عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة وأجسادهم نحيفة وحاجاتهم خفيفة وأنفسهم عفيفة صبروا أيامًا قصيرة أعقبتهم راحة طويلة وتجارة مريحة يسرها لهم ربهم.
أرادتهم الدنيا فلم يريدوها وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً يحزنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم.
فإذا مرو بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعًا وتطلعت نفوسهم إليها شوقًا وظنوا أنها نصب أعينهم وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلبوهم وظنوا أن زئير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم فهم حانون على أوساطهم مفترشون لجباههم واكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم وأما النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء.
قد براهم الخوف بري القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض ويقول قد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم، لا يرضون من أعمالهم القليل ولا يستكثرون الكثير فهم لنفسهم متهمون ومن أعمالهم مشفقون إذا زكي أحدهم خاف مما يقال فيقول أنا أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم بي من نفسي اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني أفضل مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون.
فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين وحزمًا في لين وإيمانًا في يقين، وحرصًا في علم، وعلمًا في حلم وقصدًا في غنى وخشوعًا في عبادة وتحملاً في فاقة وصبرًا في شدة وطلبًا في حلال، ونشاطًا في هدى وتحرجًا عن طمع.(1/291)
يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل، يمسي وهمه الشكر، ويصبح وهمه الذكر يبيت حذرًا ويصبح فرحًا، حذرًا لما حذر من الغفلة، وفرحًا بما أصاب من الفضل والرحمة، إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره، لم يعطها سؤلها فيما تحب.
قرة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل، تراه قريبًا أمله، قليلاً زلله، خاشعًا قلبه، قانعة نفسه، منزورًا أكله سهلاً أمره، حريزًا دينه، ميتة شهوته مكظومًا غيظه، الخير منه مأمول، والشر منه مأمون.
إن كان في الغافلين كتب في الذاكرين وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين يعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ويصل من قطعه، بعيدًا فحشه، لينا قوله غائبًا منكره، حاضرًا معروفه، مقبلاً خيره، مدبرًا شره، في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور وفي الرخاء شكور.
لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب، يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه، لا يضيع ما استحفظ، ولا ينسى ما ذكر، ولا ينابز بالألقاب، ولا يضار بالجار، ولا يشمت بالمصاب، ولا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحق.
إن صمت لم يغمه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته، وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي، ينتقم له، نفسه منه في عناء والناس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه.
بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة، ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة، ليس تباعده بكبر وعظمة، ولا دنوه بمكر وخديعة.
قال فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها. فقال أمير المؤمنين عليه السلام أما والله لقد كنت أخافها عليه، ثم قال هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها فقال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين فقال ويحك، إن لكل أجل وقتًا لا يعدوه وسببًا لا يتجاوزه. اهـ.
عَلَيْكُم بِتَقْوَى اللهِ لا تَتْرُكُوْنَهَا ... فِإِنَّ التُّقَى أَقْوَى وأَوْلَى وأَعْدَلُ
لِبَاسُ التُّقَى خَيْرُ الملابِسِ كُلِّهَا ... وَأَبْهَى لِبَاسًا في الوُجُودِ وَأَجْمَلُ(1/292)
فَمَا أَحْسَنَ التَّقْوَى وأَهْدَى سَبِيْلَهَا ... بِهَا يَنْفَعُ الإِنْسَانَ مَا كَانَ يَعْمَلُ
فَيَا أَيُّهَا الإِنسانُ بَادِرْ إِلى التُّقَى ... وَسَارِعْ إِلى الخَيْرَاتِ مَا دُمْتَ مُمْهَلُ
وَأَكْثِرْ مِن التَّقْوَى لِتَحْمِدَ غِبَّهَا ... بِدَارِ الجَزَاء دَارٍ بِهَا سَوْفَ تَنْزِلُ
وَقَدِّمْ لِمَا تَقْدَمْ عَلِيهِ فَإِنَّمَا ... غَدًا سَوْفَ تُجزَى بِالذَّي سَوْفَ تَفْعَلُ
وَأَحْسِنْ وَلا تُهْمِلْ إِذَا كُنْتَ قادِرًا ... فَدَارُ بَنِيْ الدُّنْيَا مَكَانُ التَّرَحُّلُ
وَأَدِّ فُرُوْضَ الدِّيْنِ وَاتْقِنْ أَدَاءَهَا ... كَوَامِلَ في أَوْقَاتِهَا والتَّنَفل
وَسَارِعْ إِلى الخَيْرَاتِ لا تُهْمِلنَّهَا ... فَإِنَّكَ إنْ أَهْمَلْتَ مَا أَنْتَ مُهْمَلُ
وَلَكِنْ سَتُجْزَى بِالذِي أَنْتَ عَامِلٌ ... وَعَنْ مَا مَضَى عَنْ كُلِّ شَيْءٍ سَتُسْأَلُ
وَلا تُلْهِكَ الدُّنْيَا فَرَبُّكَ ظامِنٌ ... لِرِزْقِ البَرَايَا ضَامِنٌ مُتَكَفِلُ
وَدُنْيَاكَ فَاعْبُرْهَا وآخْرَاكَ زِدْ لَهَا ... عَمَارًا وَإِيْثَارًا إِذَا كُنْتَ تَعْقِلُ
فَمَنْ آثَرَ الدُّنْيَا جَهُولٌ وَمَنْ يَبِعْ ... لأُخْرَاهُ بِالدُّنْيَا أَضْلُّ وَأَجْهَلُ
وَلَذَّاتُهَا وَالجَاهُ وَالعِزُ والغِنَى ... بَأَضْدَادِهَا عَمَّا قَلِيْلٍ تَبَدَّلُ
فَمَنْ عَاشَ في الدُّنْيَا وَإِن طَالَ عُمْرُهُ ... فَلا بُدَّ عَنْهَا رَاغِمًا سَوْفَ يُنْقَلُ
وَيَنْزِلُ دَارًا لا أَنِيْسَ لَهُ بِهَا ... لِكُلِ الوَرَى مِنهم مَعَادٌ وَمَوْئِلُ
وَيَبْقَى رَهِيْنًا بِالتُّرابِ بِمَا جَنَى ... إلى بَعْثِهِ مِن أَرْضِهِ حِيْنَ يَنْسِلُ
يُهَالُ بِأَهْوَالٍ يَشِيْبُ بِبِعْضِهَا ... وَلا هَوْلَ إِلا بَعْدهُ الهَوْلُ أَهْوَلُ
وَفِي البَعْثِ بَعْدَ المَوتِ نَشْرُ صَحائِفٍ ... وَمِيْزَانُ قِسْطٍ طَائِشٍ أَوْ مُثَقِّلُ(1/293)
وَحَشْرٌ يَشِيْبُ الطفْلُ مِنه لِهَولِهِ ... وَمنه الجِبَال الرَّاسِياتُ تَزَلْزَلُ
وَنَارٌ تَلَظَّى في لظَاهَا سَلاسِلٌ ... يُغَلُّ بِهَا الفُجَارُ ثِمَّ يُسَلْسَلُ
شَرَابُ ذََوِي الإِجْرَامِ فِيهَا حَمِيْمُهَا ... وَزقُوْمُهَا مَطْعُومُهُمْ حِيْنَ يُؤْكَلُ
حَمِيْمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرٌ مِثْلُهُ ... مِنْ المُهْلِ يَغْلِي في البُطُونِ وَيَشْعَلُ
يَزِيْدُ هَوَانًا مِن هَوَاهَا ولا يَزَل ... إِلى قَعْرِهَا يَهْوِي دَوَامًا وَيَنْزِلُ
وَفي نَارِهِ يَبْقَى دَوَامًا مُعَذَّبًا ... يُصِيْحُ ثُبُورًا وَيْحَهُ يَتَوَلْْوَلُ
عَلَيْهَا صِرَاطٌ مَدْحَضٌ وَمَزلَّةٌ ... عَلَيْهِ البَرايَا في القِيَامَةِ تُحْمَلُ
وَفِيهِ كَلالِيْبٌ تَعَلَّقُ بِالوَرَى ... فَهَذا نَجَا مِنها وَهَذا مُخْرَدَلُ
فَلا مُذْنِبٌ يَفْدِيْهِ مَا يَفْتَدِيْ بِهِ ... وَإِنْ يَعْتَذِرْ يَوْمًا فَلا العُذْرُ يُقْبَلُ
فَهَذَا جَزَاءُ المجرمِينَ عَلى الرَّدَى ... وَهَذا الذي يَومَ القِيامَةِ يَحْصُلُ
أَعُوذُ بِرَبِي مِن لَظَى وَعَذَابِهَا ... وَمِنْ حَالِ مَن يَهْوَي بِهَا يَتَجَلْجَلُ
وَمِن حَالِ مَن في زَمْهَرِيْرٍ مُعَذَّبِ ... وَمَن كانََ في الأَغْلالِ فِيْهَا مُكَبِّلُ
وَجَنَّاتُ عَدْنِ زُخْرِفَتْ ثُمَّ أُزْلِفَتْ ... لِقَوْمٍ على التَّقْْوَى دَوَامًا تَبَتَّلُ
بِهَا كُلُ مَا تَهْوَى النُفُوسُ وَتَشْتَهِي ... وَقُرَّةُ عَيْنٍ لَيْسَ عَنها تَرَحُّلُ
مَلابِسُهُم فِيْهَا حَرِيْرٌ وَسُنْدُسٌ ... وَإِسْتَبْرَقٌ لا يَعْتَرِيْهِ التَّحَلُّلُ
وَمَأكُولهُم مِن كُلِّ مَا يَشْتَهُونَهُ ... وَمِن سَلْسَبِيْلِ شُرْبُهُم يَتَسَلْسَلُ
وَأَزْوَاجُهُم حُوْرٌ حِسَانٌ كَوَاعِبٌ ... عَلَى مِثْلِ شَكْلِ الشَّمْسِ بل هُوَ أَشْكَلُ
يُطَافُ عَلَيْهِم بِالذي يَشْتَهُونَهُ ... إِذَا أَكلُوا نَوْعًا بآخَرَ بُدِّلُوا(1/294)
فَوَاكِهُهَا تَدْنُوا إِلى مَنْ يُرِيْدُهَا ... وَسُكَّانُهَا مَهْمَا تَمَنِّوْهُ يَحْصُلُ
وَأَنْهَارُهَا الأَلْبَانُ تَجْرِِي وَأَعْسُلٌ ... تَنَاوُلُهَا عِنْدَ الإِرَادَةِ يَسْهُلُ
بِهَا كُلُّ أَنوَاعِ الفَوَاكِهِ كُلَّها ... وَخَمْرٌ وَمَاءٌ سَلْسَبِيْلٌ مُعَسِّلُ
يُقَالُ لَهُمْ طِبْتُمْ سَلِمْتُمْ مِن الأَذَى ... سَلامٌ عَلَيْكُمْ بالسَّلامَةِ فَادْخُلُوا
بِأَسْبَابِ تَقْوَى للهِ وَالعَمَلِ الذي ... يُحِبُّ إلى جَنَّاتِ عَدْنٍ تَوَصَّلُوا
إِذَا كَانَ هَذَا وَالذي قَبْلَهُ الجَزَاء ... فَحَقٌّّ عَلَى العَيْنَيْنِ بالدَّمْعِ تُهْمِلُ
وَحَقٌّ عَلَى مَنْ كَانَ بِاللهِ مُؤْمِنًا ... يُقَدِّمْ لَهُ خَيْرًا وَلا يَتَعَلَّلُ
وَأَنْ يَأْخُذَ الإِنْْسَانُ زَادًا مِن التُّقَى ... وَلا يَسْأَم التَّقَوَى وَلا يَتَمَلْمَلُ
وَإِنَّ أَمَامَ النَّاسِ حُشْرٌ وَمَوْقِفٌ ... وَيَومٌ طَويْلٌ أَلفُ عَامِ وَأَطْوَلُ
فَيَا لَك مِن يَوْمٍ عَلَى كُلِّ مُبْطِلٍ ... فَظِيْعٍ وَأَهْوَالُ القِيامَةِ تُعْضِلُ
تَكًونُ بِهِ الأَطْوادُ كَالعِهْنِ أَوْ تَكُنْ ... كَثيْبًا مَهيْلاً أَهْيَلاً يَتَهَلْهَلُ
بِهِ مِلَّةُ الإِسْلامِ تُقْبَلُ وَحْدَهَا ... وَلا غَيْرُهَا مِن أَي دِيْنِ فَيَبْطُلُ
بِهِ يُسْأَلُونَ النَّاسُ مَاذَا عَبدتموا ... وَمَاذَا أَجَبْتُم مَن دَعَا وَهُوَ مُرْسَلُ
حِسَابُ الذِِي يَنْقَادُ عَرْضٌ مُخَفَّفٌ ... وَمَن لَََيْسَ مُنْقَادًا حِسَابٌ مُثَقَّلُ
أَعوذُ بِكَ اللَّهُمَّ مِن سُوْءِ صُنْعِنَا ... وَأَََسْألُكَ التَّثْبِيْتَ أُخْرَى وَأَوَّلُ
إلهي فَثَبِّتْنِي عَلَى دِيْنكَ الذِي ... رَضِيْتَ بِهِ دِيْنًا وََإيَّاهُ تَقْبَلُ
وَهَبْ لِي مِن الفِرْدَوْسِ قَصْرًا مُشَيَّدًا ... وَمُنَّ بِخَيْرَاتٍ بِهَا أَتَعَجَّلُ(1/295)
ولِلهِ حَمْدٌ دَائِمٌ بِدَوَامِهِ ... مَدَى الدَّهْرِ لا يَفْنَى وَلا الحَمْدُ يَكْمُلُ
يَزِيْدُ على وَزْنِِ الخَلائِقِ كُلِّهَا ... وَأَرْجَحُ مِن وَزْنِ الجَمِيْعِ وأَثقَلُ
وَإِنِّي بِحَمْدِ اللهِ في الحَمْدِ أَبْتَدِي ... وَأُنْهِي بِحَمْدِ اللهِ قَوْلِي وَأَبْتَدِي
صَلاةً وَتَسْلِيْمًا وَأَزْكَى تَحِيَّةً ... تَعُمُّ جَمِيْعَ المَرْسَلِيْنَ وَتَشْمَلُ
وَأَزْكَى صَلاة اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ ... عَلََى المُصْطَفَى أَزْكَى البَرِيَّةِ تَنْزِلُ
اللهم وفقنا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغفلة والنوم وارزقنا الاستعداد لذلك اليوم الذي يربح فيه المتقون اللهم وعاملنا بإحسانك وجد علينا بفضلك وامتنانك واجعلنا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون اللهم ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا ولا تطردنا بعيوبنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
51- "موعظة"(1/296)
عباد الله لقد ضاعت أعمارنا في القيل والقال، والغيبة والنميمة، والمداهنة، والانهماك في الدنيا، إلى أن استلحق كثير من الناس جزءًا من الليل مضافًا إلى النهار، وكأننا لم نخلق إلا لهذه الأعمال، أفلا نستيقظ من غفلتنا، ونحفظ ألسنتنا عن نهش أعراض الغوافل، والطعن في الأحساب والأنساب، ونصرف جل الأوقات، إلى الباقيات الصالحات، التي هي خير عند ربنا ثوابًا وخير مردًا، ونذكر مولانا الذي فضله علينا مدرارًا، فإن الذكر عاقبته الجنة دار الكرامة والقرار، مع رضى ربنا الذي دونه كل ثواب، تالله لو عرفتم قيمة هذه النصيحة لبادرتم إلى العمل بها كل البدار، فإنك وأنت تذكر الله أفضل ممن يفرق الذهب والفضة وسائر الأموال، وأفضل من أن تجاهد العدو فيضرب عنقك، أو تضرب عنقه، وتكون من الشهداء الأبرار، كيف لا والذكر خير الأعمال وأزكاها، وأرفعها للدرجات عند مولانا الوهاب.
حسب الذاكر: أن تحفه الملائكة، وتنزل عليه السكينة، وتغشاه الرحمات، ومن في الوجود مثل الذاكر، وهو وقت ذكره لله يذكره بارئ الكائنات، ومن مثله في الدنيا وهو بالذكر في حصن حصين، يحفظه من الشيطان ووساوسه الفاتنات، ومنزلة الذاكر بين الغافلين كمنزلة الحي بين الميتين، ذكر الله ينير القلب، ويوقظه ويحييه، ويزيل رانه ويهديه إلى الحق.
52- "موعظة"
عباد الله انتبهوا وبادروا بالأعمال الصالحات، فإن أعماركم سريعة الانصرام، والأيام والليالي تمر بكم مر السحاب، والدنيا إذا تأملها اللبيب رآها كالسراب، وصدق القائل في وصفها حيث قال:
أَلا كُلُّ حَيٍّ هَالِكٍ وَابْنُ هَالِكٍ ... وَذُو نَسَبٍ فِي الهَالِكِيْنَ عَرِيْقُ
إِذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيْبٌ تَكَشَّفَتْ ... لَهُ عَنْ عَدُوٍ في ثِيَابِ صَدِيْقِ(1/297)
أعوام سريعة المرور، وشهور تقتفي أثر شهور وعبر بين ذلك تترى، فعلام الغرور، فلا تغتروا بالدنيا فقد نهاكم الله عن الاغترار بها، وضربت لكم بأخذ أمثالكم الأمثال، أرتكم عيانًا كيف تقلبت بأهلها الأحوال، وخدعتهم الآمال، حتى انتهت لهم الآجال، قبل أن يحصلوا على ما سيتمنونه من صالح الأعمال، فاستيقظوا من نومكم، وحاسبوا أنفسكم على ما اكتسبته من الذنوب والمعاصي الثقال، فأي نفس منا لم تحمل ظلمًا، وأي جارحة من جوارحنا لم تقترف إثمًا، وأي عمل من أعمالنا يليق بذلك المقام، وأي وقت من أوقاتنا تمحض للطاعة وخلا من الآثام، لقد جنينا على أنفسنا بالذنوب جناية عظيمة، فلينوا قلوبكم بذكر هاذم اللذات، لعلها تلين، وعظوها بذكر القبر وفتنته فإنهما لحق اليقين وذكروها (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ( [المطففين: 6]. (يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ( [النبأ: 40]، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً( [آل عمران: 30]. (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ( [النحل: 111].
اللهم ثبتنا على قولك الثابت في الحياة وبعدها، واجعلنا من عبادك المفلحين الذين نورت قلوبهم بمعرفتك، وأهلتهم لخدمتكن وحرستهم من عدوك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
53- "موعظة"
عباد الله لقد أنعم الله علينا بنعم كثيرة، وجاد علينا بخيرات وفيرة غفلنا عنها، وعن ضدها، وجهلنا حكمتها، أعطانا جل وعلا العقل، وميزنا به عن الحيوانات، وأرسل إلينا الرسل، يرشدوننا للحق وخالص الإيمان، منحنا القوة والعافية، وصحة البدن، وسلامة الأعضاء.(1/298)
وجعل لنا السمع، والبصر، واللسان، والشفتين، وعلمنا البيان والإفصاح، عن ما نقصد بالكلام، خلقنا في أحسن تقويم، وجعل لنا الأرض فراشًا والسماء بناءً، وأنبت لنا في الأرض النخيل، والأعناب والزرع وسائر ما نحتاج إليه من الثمار، ونستخرج منها المعادن، والخامات.
وأجرى لنا فيها الأنهار، وأنبع لنا الماء الزلال، وخلق الشمس والقمر، والنجوم، مسخرات بأمره تمدنا بالأنوار، والمنافع، للأبدان والثمار، والنباتات، وفيها من الإتقان، والجمال، والاتزان في سيرها مدى الليالي والأيام، ما يشهد لله بالوحدانية، والحكمة، والقدرة الباهرة، والعلم، وسائر صفات الكمال.
ولله نعم أخرى لا تعد، ولا تحصى، كما قال تعالى: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ( [إبراهيم: 34]. إذا يجب علينا شكره تعالى على نعمه، وهو الغني الحميد، غني عن العالمين، والخلق هم الفقراء إليه، كما قال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ( [فاطر: 15]، وليس لله في شكرنا منفعة تعود إليه، وليس في كفر نعمه ضرر عليه، إنما تعود منفعة الشكر إلى الشاكر كما قال تعالى: (وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ( [النمل: 40].
إنما الذي ينتظر الشكر مخلوق مثلنا وأنت إذا شكرت الله إنما تبرهن على فهمك لنعمة الله، وتقديرك له إن شكرت فقد وجهت النعمة وجهة الخير، والنفع، واستعملتها فيما يسعدك في الدنيا والآخرة، وإن كفرت فقد برهنت على سوء فهمك، وعدم تقديرك لربك، وعلى تعمقك في اللؤم والرداءة.(1/299)
وإذا تأملت الكثير من الناس وجدته مهملاً للشرك الذي هو صرف النعم فيما خلقت له، واستعمالها فيما شرعت لأجله، لتظهر فائدتها وتتم حكمتها، ويجني العباد منافعها، فالشاكر بلسانه وقلبه، وعمله من الفائزين، ولكنه قيل، كما قال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ( [سبأ: 13]. الأكثر كما تقدم صرفوها فيما يعود عليهم، وعلى أولادهم، وأهلهم، وأمتهم بالضرر.
أنعم عليهم بالمال فقسم خزنوه ومنعوا حقوقه فلم يخرجوا زكاته، ولم يساهموا في مشاريع دينية، كبناء مساجد، وقضاء دين عن مدين ومساعدة فقير، وإجراء مياه للمسلمين، والمساعدة على نشر الإسلام وطباعة مصاحف طباعة جيدة وتوزيعها على التالين لكتاب الله، وطباعة الكتب الدينية المقوية للشريعة المحمدية، وبناء بيوت لمن لا مساكن لهم، ونحو ذلك.
وقسم أنفقوا المال في الملاذ والملاهي، والمنكرات، وسائر المحرمات، أذهبوها في الحياة الدنيا، واستمتعوا بها، ولم يراقبوا الله فيها، أنعم عليهم في الصحة والفراغ المفروض أن تغتنم في طاعة الله.
ولكن يا للأسف صرفت في السهر، وفي الفساد، وفي المجون والكسل والتسكع، والخمول أو التطاول بالقوة على الضعفاء، والمساكين، وإعانة الظلمة والفاسقين، ونحو ذلك، من المفاسد والشرور.
وقس على ذلك باقي النعم من السمع والبصر واللسان والرجل فلم يبق نعمة إلا وقلبوها، ولا هبة من الله إلا وجحدوها فنزلوا بعد الرفعة وذلوا بعد العزة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم قوي إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا صيانة أوقاتنا وحفظها عن المعاصي ووفقنا لشغلها بالباقيات الصالحات واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
54- "موعظة"(1/300)
عباد الله لقد كان سلفنا في محبة بعضهم بعضًا آية من الآيات وكان التراحم بينهم بالغًا مبلغًا يعده أهل الإنصاف غاية الغايات لذلك كانوا في محبة الخير لبعضهم على أرقى ما يتصور في الدرجات.
وهل يتصور أن يكون أحدهم في أشد الجوع ويؤثر أخاه بماله من طعام عاملين بقوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ( [الحشر: 9]، وقوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً( [الإنسان: 8]. وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
وإن الخجل ليعلو وجوهنا إذا نحن قارنا بين هؤلاء وبين أبناء هذا الزمان، نحن في حالة تصور حقيقتها فقط يثير في قلوب المؤمنين الأحزان.
كيف ونحن إذا فتشنا ثم فتشنا لا نجد قلبين مع بعضهما معية الإخاء التام يكون الجار في نهاية الفقر ولا يلتفت إليه جاره المثري وينزل بالأخ الشقيق أو العم الشقيق أو نحوهما ما ينزل من الكوارث ولا أثر لنزولها عند أخيه ولا كأنه يرى تلك المصائب الفادحة ولعلك منتظر الجواب ما هو السبب في ذلك فالق سمعك وأحضر قلبك.
فأقول لكل الناس اليوم شغل واحد هو المال شغلهم عما عداه وأنساهم كل ما سواه ملأ القلوب حب هذا المال حتى لم يبق في القلوب متسع لسواه فمن أجله تستباح الأعراض ومن أجله تراق الدماء ومن أجله يكون الصفا والمعاداة هو القطب الذي تدور حوله أفعال العباد في هذا الزمان.
فالقلوب في سرور ما دام المال سالمًا وإن أنهار بناء الشرف والدين والنفوس في هدوء وطمأنينة ما ابتعد عن المال فإذا قرب حوله هاجوا هيجان الجمال وهم في تواصل ما لم يتعرض للمال فإذا تعرض له انقطعت الصلات حتى بين الأقربين من آباء وأمهات وأولاد وإخوان.(1/301)
أما علم هؤلاء أن المال الذي كان بأيدينا كان قبلنا بيد إخواننا في الإنسانية الذين سبقونا إلى الدنيا ثم انتقل إلى من بعدهم ثم انتقل من جيل إلى جيل إلى أن وصل إلينا سعد به من صرفه في مراضي الله وشقي به من صرفه في ما يغضب الله.
ولعلك يا أخي تتكدر إذا علمت أنه سينقل عنك في أسرع وقت فلا تفزع ولا تتكدر ووطن نفسك واعلم أنك والله ميت وموروث عنك ما جمعت ومنعت رغم أنفك يتمتع به ذلك الوارث العاق أو البار وأنت تسال عنه هللة وقرشًا قرشًا.
وتكون النتيجة إن كنت جموعًا منوعًا شقاء تستغيث منه فلا تغاث وتتمنى لو كانت الدنيا بأسرها بيدك وافتديت نفسك بها تكون النتيجة ذلك إن كنت من المغرورين الغافلين الذين ظنوا أن السعادة كلها تيسير جمع المال وتكديسه عندك آلافًا وملايين وعمائر وفلل وأراضي وبيوت كدأب أهل هذا العصر الغافل المظلم بالمعاصي والبدع والمنكرات.
الذي اعتاض أهله عن كتاب الله وسنة رسوله العكوف على الجرائد حمالة الكذب والمجلات الخليعات والكتب الهدامات والجلوس حول الملاهي والمنكرات فسوف تندم وتتحسر حينما ينكشف عنك الغطا ويتبين لك ذلك الخطأ وتتمنى أنك أمضيت أوقاتك في طاعة مولاك وهيهات أن يحصل لك مناك ذهب الآوان وبقي الندم والحرمان.
لقد أنسى الناس حب هذا المال ما لهم من شرف ومروءة ودين وجعلهم حول حطام الدنيا كما وصفهم الشافعي رحمه الله:
وَمَا هِي إِلا جِيْفَةٌ مُسْتَحِيْلَةٌ ... عَلَيْهَا كِلابٌ هَمُّهُنَّ اجْتِذَابُهَا
فَإِنَّ تَجْتَنِبْهَا كُنْتَ سِلْمًا لأَهْلِهَا ... وإِنْ تجتذبها نَازَعَتْكَ كِلابُهَا(1/302)
أما علموا أن المال من خدم الدين فإذا تجاوز ذلك كان نكبة على أصحابه وكذلك الأولاد إن كانوا غير صالحين فهم ضرر على أبيهم وعلى أنفسهم وكذلك الزوجة ولذلك ورد عن داود عليه السلام أنه كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من جار السوء ومن مال يكون علي عذابًا ومن ولد يكون وبالاً ومن زوجة تشيبني قبل المشيب ومن خليل ماكر عينه ترعاني وقلبه يشناني إن رأى خيرًا أخفاه وإن رأى شرًا أفشاه".
وقيل إنه سئل عيسى عليه السلام عن المال فقال: «لا خير فيه» قيل ولم يا نبي الله قال لأنه يجمع من غير حل قيل فإن جمع من حل قال لا يؤدي حقه قيل فإن أدى حقه قال لا يسلم صاحبه من الكبر والخيلاء قيل فإن سلم قال يشغله عن ذكر الله قيل فإن لم يشغله قال يطيل عليه حسابه يوم القيامة.
فتأمل هذه العقبات الخمس وقليل من يتجاوزها سالمًا.
اللهم اجعل الإيمان هادمًا للسيئات، كما جعلت الكفر عادمًا للحسنات ووفقنا للأعمال الصالحات، واجعلنا ممن توكل عليك فكفيته، واستهداك فهديته ودعاك فأجبته، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
55- "موعظة"
عباد الله اتقوا الله تعالى واحمدوه على كل حال وارغبوا إليه في حراسة النعم عن الزوال فإن نعم الله قد عمت البوادي والأمصار وإن نعم الله لا تعد ولا تحصى ولا تحد بمقدار.
قال تعالى: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ( [إبراهيم: 34]. فكم أسدى معروفًا وكم أغاث ملهوفًا فاشكروا آلاء الله واذكروه كثيرًا قال تعالى: (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ( [الرعد: 28].(1/303)
وهبوا من هذه الرقدة والمقام واحذروا الأهواء فإنها تورث المهالك والمذام، وألزموا طاعة الملك العلام، واغتنموا بقية العمر والأيام، وبادروا بالتوبة من المعاصي والإجرام، قبل أن يأتي يوم تشقق فيه السماء بالغمام وتظهر فيه الخفايا والدواهي والأهوال الطوام، وتنكس فيه الظلمة رءوسها ويعلوها الذل من الرءوس إلى الأقدم ويتجلى لفصل القضاء بين عباده حاكم الحكام.
قال تعالى: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ( [الزمر: 70]. ونودي أين الظلمة وأعوان الظلمة ومن كان لهم على المعاصي وثوب وإقدام فيا له من يوم ما أطوله ومن بلاء ما أهوله ومن حساب ما أثقله ومن عذاب ما أعضله ومن جزاء ما أجزله ومن حاكم ما أعدله.
هنالك شاب الوليد وحق الوعيد وعظم الهول الشديد قال تعالى: (وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ( [ق: 22]. وخضعت الرقاب وذل كل فاجر كذاب ورجع الأشقياء بالخسران والتباب فالسعيد من استعمل نفسه في طاعة الملك المعبود وخاف أن لا ينجو من النار بعد الورود.
فانتبه أيها العبد لأيام شبابك قبل فراق أحبابك وأحفظ أيام عمرك قبل حلول قبرك واغتنم حياتك قبل أوان وفاتك فإن العمر بالسنين ينهب والأجل بمرور الليالي والأيام يذهب.
56- "موعظة"(1/304)
عباد الله أحسنوا إلى الوالدين ما أمكن لكم الإحسان، وإن حسبتم أنكم كافأتموهم فقط أخطأتم في ذلك الحسبان، وكونوا معهما في غاية الأدب والاحترام، واحذروا سوء الأدب عندهما وإلا هويتم في هوة شقاء ما لها من قرار وكونوا معهما في إجلال واحترام، وتقدير تام وإن حصل منهما لك ظلم، لأنهما اللذان لولا الله ثم لولاهما لم تخرج على هذا الوجود ولأنهما اللذان سخرهما الله لك فصبرا على ما رأيا من الأهوال، وسخرهما لتربيتك والعناية بك في هذه الحياة. تذكر زمن حمل أمك بك وأنت في بطنها علة من أكبر العلل، وتذكر وقت أن كانت تلدك وهي مما بها لا من الأحياء ولا من الأموات وتذكر ما خرج عقب ولادتك من النزيف الدم الذي هو نفسها.
وتذكر أنك كنت تمص دمها مدة الرضاع، وسرورها بك تقصر عن شرحه العبارات. وتذكر تنظيفها لبدنك وملابسك من الأقذار، وتذكر فزعها عندما يعتريك خوف أو مرض أو نحو ذلك، وتذكر دفاعها عنك إذا اعتدى عليك معتدي.
وتذكر حرصها الشديد على أن تعيش لها ولو حرمت لذة الطعام والشراب وتذكر سهرها عليك عندما يؤلمك شيء من جسدك، وتذكر كد والدك عليك في تحصيل ما به تحيا بإذن الله، لا يهدؤ عن ذلك والدك مدى الليالي والأيام، وكلما خشي أن تجوع تقحم الشدائد وهام على وجهه في الدنيا لا يرده إلا أن يراك في يسار.
وتذكر عنايته بك في تعليمك وتوجيهك إلى ما فيه صلاح دينك ودنياك وتذكر حياطته ونصحه لك ومقاسات الشدائد لراحتك، وتذكر فرحه واستبشاره بمحبتك ونجاحك، وتذكر دفاعه عنك بيده ولسانه، وتذكر دعاءه لك في مظنة أوقات الإجابة أن يصلحك الله ويوفقك.
وتذكر قلقهما والإدلاج في البحث عنك إذا تأخرت عن وقت المجيء، وتأمل وتذكر بشاشتهما فيمن يعز عليك لسرورهما بما يسرك، من أجل ذلك أكد الله وشدد عليك بالوصية بهما.(1/305)
وأخبر نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «أنهما جنتك ونارك، وقدم برهما على الجهاد، ودعا أن يرغم أنف من أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخل الجنة، وأخبر بأكبر الكبائر فذكر عقوقهما بعد الإشراك بالله».
اللهم إنا نعوذ بك من شر أنفسنا والشيطان والدنيا والهوى ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
57- "موعظة"
قال الله تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً( [النساء: 77]. وقال: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ( [الحديد: 20]. عباد الله يعيش ابن آدم ما قدر الله له أن يعيش، ويمشي الإنسان في هذه الأرض ويتقلب فيها، ويرى حلوها ومرها وسرورها وأحزانها، ويأخذ فيها حظه من الشقاء وحظه من السعادة، بمقدار ما قدره الله له وما قدره عليه، ولكن لكل هذا نهاية، ولكل ذلك غاية قال الله جل وعلا: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ( [الأنبياء: 35]. وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ( [الأنبياء: 35]. وقال: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ( [الزمر: 30]. فسبيل الموت غاية كل حي، والخلود في دار الفناء غير معقول، أيها المسلم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه.
شعرًا:
لَعَمَرْكُ مَا الدُّنْيَا بِدَارِ إِقَامَةٍ ... إِذَا زَالَ عَنْ عَيْنِ البَصِيْرِ غِطَاؤُهَا
وَكَيْفَ بَقَاءَ النَّاسِ فِيْهَا وَإِنَّمَا ... يُنَالَ بِأَسْبَابِ الفَنَاءِ بَقَاؤُهَا
آخر:
سَلامٌ عَلَى دَارِ الغُرُورِ فإِنَّهَا ... مُنَغَّصَةً لِذَاتِهَا بِالفَجَائِعِ
فَإِنَّ جَمَعَتْ بَيْنَ المُحِبِّينَ سَاعَةً ... فَعَمَّا قَلِيْلٍ أَرْدَفَتْ بِالموانِعِ(1/306)
فالبقاء في الدنيا محال، هذه الدنيا جسر، هذه الدنيا ممر ومعبر وطريق إلى الآخرة، ومن الناس من يتخبط في هذه الطريق ويتعثر فيما ولا يهتدي، ومن الناس من يوفقه الله فيسلكها مستقيمًا لا يلوي على شيء إلا على زاد الآخرة، وأمل يهدف إليه، في تلك الدار الباقية، ذلك الهدف هو رضى رب العزة والجلال، الذي فيه كل نعيم، الذي فيه الهدوء والاطمئنان، والذي فيه الفوز والنجاة من كل مكروه، تلك حال من اتعظ واعتبر فنفعته العبرة، ولمس الموعظة من دروس الحياة وأحداثها فاهتدى، وزاده الله هدى، تلك حال من اعتبروا، فنفعتهم العبرة، وجعلوا التقوى إلى الله أمامهم لا يحيدون عنها، يخافون ربهم ويخشون سوء الحساب. (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ( [النور: 52].(1/307)
أيها المسلم لقد خرجت من ظلمات، وستنتهي إلى ظلمات خرجت من ظلمات الأرحام، وتنتظرك ظلمات القبور، خرجت من أحشاء أمك، واستقبلتك أحشاء أخرى، أقوى وأعظم، قال تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى( [طه: 55]. دفعك جوف يحن عليك، إلى جوف الأرض، وبين الجوفين أمور وأمور، ففي الدنيا السراء والضراء والسعادة والشقاء إنك تخرج من شدة إلى رخاء، ومن رخاء إلى بلاء، وتصادفك عقبات في طريقك، بعد عقبات، وتتغير أحوالك من حالات إلى حالات، فمن ذل إلى عز، ومن عز إلى ذل، ومن غنى إلى فقر ومن فقر إلى يسر، ومن صحة إلى مرض، ومن مرض إلى عافية، ومن راحة إلى تعب، هذه هي الدنيا وهذه أحوالها، عزها لا يدوم، ورخاؤها لا يبقى، قال الله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( [آل عمران: 26]. فحاسب نفسك أيها المسلم، قبل أن تحاسب، وزن أعمالك قبل أن توزن عليك، وراقب مولاك الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وتب إليه توبة نصوحًا، قال تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى( [طه: 82].
اللهم وفقنا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغفلة والنوم وارزقنا الاستعداد لذلك اليوم الذي يربح فيه المتقون اللهم وعاملنا بإحسانك وجد علينا بفضلك وامتنانك واجعلنا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون اللهم ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
58- "موعظة في الحث على الإقبال على الآخرة"(1/308)
إخواني أين رفقاؤنا وإخواننا أين ذهب معارفنا وجيراننا أين أصدقاؤنا أين زملاؤنا وأقراننا أين علماؤنا العاملون بعلمهم أين آباؤنا وأجدادنا رحلوا وقل والله بعدهم بقاؤنا. هذه مساكنهم فيها غيرهم قد نسيناهم ونسيهم محبهم وجفاهم. أين أصحاب القصور الحصينة، والأنساب العالية الرصينة والعقول الراجحة الرزينة، قبضت عليهم يد المنايا فظفرت، ونقلوا إلى أجداث ما مهدت إذ حفرت ورحلوا بذنوب لا يدرون هل غفرت أو بقيت فالصحيح منهم بالحزن قد سقم والمدعو إلى دار البلى أسرع ولم يقم والكتاب قد سطر بالذنوب فرقم. ولذيذ عيشهم بالتنغيص قد ختم وفراقهم لأحبابهم وأموالهم قد حتم والولد قد ذل ويتم، فتفكروا في القوم كيف رحلوا، وتذكروا ديارهم أين نزلوا، واسألوا منازلهم عنهم ماذا فعلوا فانتبه من رقادك قبل أن تصل ما وصلوا يا من غفل وسهى ولهى ونسى المقابر والبلى.
اللهم لا تشغل قلوبنا بما تكفلت لنا به، ولا تجعلنا في رزقك خولاً لغيرك، ولا تمنعنا خير ما عندك بشر ما عندنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
59- موعظة(1/309)
قال بعض العلماء بعد سياقه لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ( : أيها الناس لقد كانت الأمة الإسلامية فيما مضى مُتمسكة بكتاب الله، عاملةً بسنة نبيها - صلى الله عليه وسلم -، صحيحة في عقائدها. صالحة في أعمالها حسنةً في مُعاملاتها وعاداتها، كريمة في أخلاقها بصيرة في دينها راقية في آدابها وعلومها، فكانت عزيزة الجانب، قوية الشوكة، جليلة ً مهيبةً، صاحبة السلطان والصولة على من عداها، واليوم تغير أمرها، وتبدل حالها، اختلت عقائدها وفسدت أعمالها، وساءت معاملاتها وعاداتها، وتدهورت أخلاقها، وجهلت أمر دينها ودنياها، وتأخرت علومها وصنائعها فصارت ذليلة الجانب، ضعيفة الشوكة، ساقطة الكرامة، فاقدة الهيبة مغلوبة على أمرها، متأخرةً في مرافق حياتها تتخبط في ظلمات الجهل، وتنقاد للخرافات والأوهام، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( وما ذاك إلا لأنها خالفت كتاب ربها، وانحرفت عن طريق الهادي نبيها، وسارت وراء هواها، وفُتنت بزخارف الحضارة المزيفة، والمدنية الكاذبة وظنت الإباحية حرية والخلاعة رُقياً، فتعدت حدود الدين والعقل. وأغضبت خالق الأرض والسماء فساءت حالها، وسُلط عليها عدوها، قال الله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( أيها الناس لقد ذاقت الأمة وبال أمرها، وعوقبت بشر آمالها، وتجرعت مرارة الذل والهوان، والتفرق والانحلال، كل ذلك نتيجةٌ لازمة لعدم استقامة الأمة، وانحرافها عن الصراط المستقيم، (صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ( كل ذلك نازل بنا وواقع علينا، ونحن لا نفيق من سكرتنا، ولا ننتبه من غفلتنا، ولا ننزجر بالمحن والبلايا، ولا(1/310)
نعتبر بحوادث الأيام فلو كانت لنا نفوس حية وقلوب يقظة وشعور حي وإحساس قوي، لنبهتنا البلايا، وأيقظتنا المؤلمات.
أيها المسلم: الدين عقيدة صحيحة، وعبادة قوية، ومعاملات حسنة عادلة، وأخلاق كريمة، فانظروا وفكروا، وفتشوا على أنفسكم، هل أنتم سائرون في أعمالكم وأحوالكم على منهج الصراط المستقيم، أم أنتم منحرفون عنها، فألزِموها السير على الطريق على الطريق القويم، وفقنا الله وإياكم للاستقامة، وأمَّننا وإياكم من أهوال يوم القيامة، ووقانا وإياكم شر الحسرة والندامة، وغفر لنا ولكم ولجميع المسلمين، برحمته إنه أرحم الراحمين، وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
60- موعظة
إخواني إنكم في دار هي محل العبر والآفات، وأنتم على سفر والطريق كثيرة المخافات، فتزودوا من دنياكم قبل الممات، وتداركوا هفواتكم قبل الفوات، وحاسبوا أنفسكم وراقبوا الله في الخلوات، وتفكروا فيما أراكم من الآيات، وبادروا بالأعمال الصالحات، واستكثروا في أعماركم القصيرة من الحسنات، قبل أن يُنادي بكم مُنادِ الشتات، قبل أن يُفاجئكُم هادم اللذات، قبل أن يتصاعد منكم الأنين والزفرات قبل أن تنقطع قلوبكم عند فراقكم حسرات، قبل أن يغشاكم من غم الموت الغمرات، قبل أن تُزعجوا من القصور إلى بطون الفلوات، قبل أن يُحال بينكم وبين ما تشتهون من هذه الحياة قبل أن تتمنوا رجوعكم إلى الدنيا وهيهات.
شعراً:
بَكَى لأنْ مَاتَ مَيْتٌ من عَشيْرَتِهِ
وَقَالَ وَاحرَبَا وَصَاحَ يَا هَرَبَا
وَبَاتََ فَوْقَ حَشاهُ لِلأَسَىَ لَهَبٌ
إِذَا أَرَادَ خُبُوا فارَ وَالتَهَبَا
وَلَو رَآى بِصَحِيْحِ العَقْلِ حَيْنَ رَأى
وَكَشَّفَ اللهُ عَنْهُ لِلْهَوى حُجُبَا
لَمَّا رَأَى الدَّهْرَ مَيْتاً أَوْ أَحَسَّ بِهِ
إِلا بَكَى نَفْسَهُ المِسْكِيْنُ وَانْتَحَبَا
وَمَنْ رَأى السُّمْرَ في جَنْبَيْهِ شَارِعَةٌ
أنَّى يَرَاهَا بِجَنْب ناءَ أو قَرُبَا(1/311)
وَطَلْعَةُُ الموتِ إِنْ تَطْلَعْ عَلَى أَحَدٍ
أَرَتْهُ في نَفْسِهِ مِنْ هَولِهَا عَجَبَا
وقال أحد العلماء رحمه الله في موعظة وعظها ألاَّ إن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، شابها يهرم، وحيُّها يموت، ولا يغركم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، والمغرور من اغتر بها.
أين سكانها الذين بنوا مرابعها وشققوا أنهارها وغرسوا أشجارها وأقاموا فيها أياماً يسيرة وغرتهم بصحبتهم وغُرُّوا بنشاطهم فركبوا المعاصي إنهم كانوا والله بالدنيا مغبوطين بالمال على كثرة المنع عليه محسودين على جمعه.
ما صنع التراب بأبدانهم والرمل بأجسامهم والديدانُ بأوصالهم ولحومهم وعظامهم وإذا مررت فنادهم إن كنت منادياً وادعهم إن كنت لا بد داعيا.
ومُر بعسكرهم وانظر إلى تقارب منازلهم وسل غنيهم ما بقي من غناه وسل فقيرهم ما بقي من فقره واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون وعن الأعين التي كانوا بها ينظرون وسلهم عن الأعضاء الرقيقة، والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنعت بها الديدان.
محت الألوان، وأكلت اللُّحمان، وعفرت الوجوه، ومحت المحاسن، وكسرت الفقار، وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء قد حِيل بينهم وبين العمل وفارقوا الأحبة.
فكم من ناعمٍ وناعمةٍ أصبحت وجوههم بالية، وأجسادهم من أعناقهم بائنة، وأوصالهم مُتمزقة، وقد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه صديداً، ودبت دواب الأرض في أجسامهم، وتفرقت أعضاؤهم.
ثم لم يلبثوا إلا يسيراً حتى عادت العظام رميماً قد فارقوا الحدائق فصاروا بعد السعة إلى المضائق قد تزوجت نساؤهم وترددت في الطرق أبناؤهم.(1/312)
فمنهم والله الموسَّعُ له في قبره الغض الناعم فيه المُتنعم بلذاته، فيا ساكن القبر ما الذي غرك في الدنيا هل تظن أنك تبقى أو تبقى لك أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد وأين ثمرتك الحاضر ينعُها وأين رقاق ثيابك وأين كسوتك لصيفك وشتائك هيهات هيهات يا مُغمض الوالد والأخ وغاسله وحامله يا مُدلِّيهِ في قبره وراحل عنه، ليت شعري كيف نمت على خُشُونةِ الثرى، وبأيِّ خديك بدأ البلى، يا مُجاور الهلكى صرت في مَحَلَّةِ الموت، ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروج روحي من الدنيا.
اللهم ثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم وأيدنا بنصرك وارزقنا من فضلك ونجنا من عذابك يوم تبعث عبادك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على مُحمدٍ وآله وسلم.
61- موعظة(1/313)
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله فالزموها، وأحُثُّكم على الأعمال الصالحة فاغتنموها، إن الزمان يَطوي بكم مسافة الأعمار لا شك وأنتم راحلون عن هذه الدار فيا معشر الشيوخ ماذا تنتظرون بعد المشيب وهل بعده إلا الموت فإن الموت قريب إنه ليس إلى البقاء من سبيل فماذا تزودتم للرحيل ويا معشر الشباب أنفقتم غرر الأعمار عند المذياع والكرة ونحو ذلك مما يصدُّكُم عن ذكر الله وعن الصلاة ويا معشر التجار لقد ضاعت أعماركم في "ألو" و"كم ربح فلان" و"كم بيع البيت الفلاني والأرض الفلانية" وخذ هذه الجريدة وأعطني الأخرى ألا صرفتم بعض الوقت إلى المسابقة إلى غرف الجنة وأراضيها وأنفقتم بعض ما وهبكم الله من المكاسب إلى ما يُرضي الله من تفقد الفقراء الذين ليس لهم موارد لا قليلة ولا كثيرة ممن يستعينون بها على طاعة الله ومن مساجد تحتاج إلى ترميم أو فُرُشٍ وإلى إنشاء مساجد عند من ليس عندهم شيء منها أو إلى طباعة مصاحف طباعة جيدة فتوزعوها على التالين للقرآن آناء الليل والنهار أو طبع كتب دينية فيها تقوية للشريعة ونشر لمحاسن الإسلام ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وابن رجب وابن مُفلح وابن كثير والموفق والمجد والشيخ المُجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونحوهم من العلماء العاملين بعلمهم المُصلحين المُخلصين الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم نسأل الله أن يُيسر لنا في هذا الزمان أمثالهم لنصر دينه إنه القادر على ذلك.
شعراً:
المَالُ يَذْهَبُ حِلَّهُ وَحَرَامَهُ
طُراً وَتَبْقَى في غَدٍ آثَامَهُ
لَيْسَ التَّقِيُّ بمُتَّقِ لإِلاهَهِ
حَتَّى يَطِيبُ شَرَابُهُ وَطَعَامُه
وَيَطِيبُ مَا يَحْوِي وَيَكْْسِبُ كفُّهُ
وَيَكُوْنُ في حُسْنِ الحَديْثِ كَلامُهُ
نَطَقَ النَّبِيُّ لَنَا بِهِ عَنْ رَبِّهِ
فَعَلى النَّبِيِّ صَلاتُهُ وَسَلامُهُ(1/314)
اللهم طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وطهر مكسبنا من الربا وألسننا من الكذب ووفقنا لمصالحنا واعصمنا عن ذنوبنا وقبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأَكَنْتهُ سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
62- خطبة في (شؤم المعاصي وخطرها)
الحمد الله كتب العزة والكرامة لمن أطاعه. وقضى بالذل والهوان على من عصاه، نحمده سبحانه ونشكره، لا رب لنا سواه ولا نعبد إلا إياه. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العالم بما في الكون من حوادثٍ وخطوب، وبما ألم بالمسلمين من شدائدٍ وكروب، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه وكل من سار على نهجه وسلم تسليماً كثيراً.(1/315)
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ( ، عباد الله: اتقوا الله واحذروا وخافوا ما أنذرتكم منه. هذه الآية إذ هي نصٌ صريح بأن الله لا يؤاخذ قوماً إلا بما كسبت أيديهم فلا يُغير تعالى ما بهم من نعمةٍ بنقمة أو عافيةٍ ببلاء أو أمنٍ بخوف أو سرورٍ بحزن أو غِنىً بفقر حتى يُغيروا ما بأنفسهم فيُقابل الشكر بالكفران والطاعة بالعصيان تلكم سُنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. أيها المسلمون يظهر لنا جلياً مصداق الآية الكريمة وشاهدها من التأمل في ماضي المسلمين الوضاء وحاضرهم المظلم وما طرأ عليه من تحولٍ فظيع لما أن غيروا وتهاونوا بحرمات الله ففي الماضي إبان أن كانت الأمة الإسلامية صادقة في دعوتها، متمسكة بكتاب ربها عاملةً بسنةِ نبيها صحيحة العقائد كريمة الأخلاق حسنة المعاملة بصيرةً في دينها ودنياها كانت مُهابة، قوية الشوكة، عظيمة الجانب، صاحبة السلطة، تغزو القلوب قبل الأجسام يقول سبحانه: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ(، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» وبعد أن وهن المسلمون وضعفوا وفُتنوا أو معظمهم، بزخارف الدنيا وساروا وراء أطماعهم الخاصة واتبعوا شهواتهم وأهواءهم وغاروا لأنفسهم ولم يغاروا لحرمات الله والتمسوا الأعذار للمخلوقين ونسوا أو تناسوا مسؤولية رب العالمين. بعد أن وجد فيهم ذلكم سافراً أعذر الله فيهم فسلط عليهم ذلاً لا ينزعه حتى يرجعوا إلى دينهم وتداعت عليهم الأمم من كل حدبٍ وصوب حتى أصبحوا خائفين بعد أن كانوا مخوفين، ومغزيين بعد أن كانوا غازين، وهائبين بعد أن كانوا مهيبين فلا حول ولا قوة إلا بالله. روى الإمام أحمد عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها» قلنا يا رسول(1/316)
الله أمن قلةٍ بنا يومئذٍ؟ قال: «أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل تنزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن» قالوا: وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت». وما ذلكم يا عباد الله إلا شؤم المعاصي وثمرات الذنوب التي أفقدتنا أعظم عدة وأنكى سلاح وهو غزو القلوب: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(، فهم ذلكم عقلاء الإسلام فحذروه كل الحذر. روى الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الرحمن بن جبير بن نغير عن أبيه قال: لما فتحت قبرص وفرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض فرأيت أبا الدرداء جالساً يبكي فقلت: يا أبا الدرداء ما يُبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله فقال: ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.(1/317)
عباد الله: حذار أن تستهينوا بمحارم الله ومعاصيه فإن لها حامياً غيوراً يُراقب السر والجهر ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور. فحذار من معاصيه فإنكم بارتكابها تؤججون نار إحراقكم وتحفرون الهوى السحيقة لأنفسكم فقد أخبر القرآن الكريم عن مصير العُصاة وما لاقوه من نتائج وخيمة في العاجل والآجل فما الذي يا عباد الله أخرج الأبوين من الجنة دار اللذةِ والنعيم إلى دار الأحزان والآلام إلا شؤم أكلةً واحدة نُهيا عنها وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وصيره طريداً مصدراً لكل شقاء إلا تكبره وامتناعه من الإتيان بسجدةٍ واحدة، وما الذي أغرق أهل الأرض حتى علا الماء رءوس الجبال وسلط الريح العقيم على قومِ عاد وأرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وما الذي رفع قوم لوط حتى سمع أهل السماء صوت كلابهم ثم قلبها عليهم وما الذي خسف الأرض بقارون وأغرق فرعون وهامان وجنودهما، ما الذي أطاح بعروش كثيرة أضحى أهلها بعد العز أُلعوبة في يد الطغاة إلا شؤم ذنوبهم وما ذكر الله أولئكم في كتابه الكريم إلا ليخوفنا ويُنذرنا ويُحذرنا مما حل بهم. فحذارِ عباد الله من معاصي الله فإنها شهوةٌ قصيرة عاجلة تعقبها حسرةٌ دائمة ونارٌ حامية. حذارِ فقد وضح السبيل ولن ينفع عند الله مُلفق الأعذار ولا التأويل. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وجعلنا من أهله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
63- خُطبة في (فضل الشهادة بالحق)
وضرر كتمها - وخطر شهادة الزور(1/318)
الحمد لله الخبير فلا تخفى عليه خافية يعلم ما توسوس به نفس المرء وما ينطق به سراً أو علانية. أحمده سبحانه أمرنا بحفظ ألسنتنا عن قول الزور والفحشاء وأسأله التوفيق لقول الحق في السراء والضراء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا مُحمداً عبده ورسوله بشر الصادقين بجناتٍ تجري من تحتها الأنهار. وآذن الكاذبين بسوء العاقبة والنار والدمار. صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أهل الصدق في الأقوال والأفعال والبُعد عن الزيغ والضلال وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله واسمعوا قوله سبحانه بآذانٍ مُصغية وقلوبٍ واعية تنشد الحق لتتبعه، يقول جل من قائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنَفْسُكَمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا(، عباد الله: ها هو جل وعلا أمركم بالقسط الذي هو العدل وبأن تكون شهادتكم بحق لشخص أو عليه مُراداً بها وجه الله سبحانه. أمركم بالإتيان بالشهادةِ على وجهها من غير التواء أو تأويل: ومن يُطع الله فقد وقع أجره على الله فتحروا رحمكم الله في شهاداتكم وأقوالكم الحق الذي لا غبار عليه فبشهادة الحق إثبات الحقوق وتوطيد دعائم الأمن وإياكم وتحكيم عاطفة القرابة في الشهادة. إياكم والميل إلى غنيٍ لغناه أو فقيرٍ رحمةً به فالله أولى بعباده منكم فقد تظنون أن الشهادة بالحق عليهم نقمة وهي في باطن الأمر نعمة.(1/319)
عباد الله: إن الشهادة بالحق لا يؤديها إلا نفوس علوية متنزهة عن أن تريد بها الدنيا وحطامها الفاني نفوس متطلعة إلى الفردوس إلى الرحيق المختوم الذي ختامه مسك فاستسيغوا رحمكم الله في أدائها كل مرارة واستسهلوا كل صعبٍ سواء كان سيراً إلى المحاكم أو انتظاراً أو كان في ذلك إغضاب لأحد ففي تأخركم عن أداء شهادة بحق تعلمونه إثمٌ كبير والله يقول: (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ(، وإن القلب يا عباد الله مصدر الفساد والصلاح فإذا أثم القلب فماذا يبقى بعد ذلك فلا تكتموها ففي كتمانها شرٌ على بني الإنسانية التي أمرتم بجلب الخير لهم ودفع الشر عنهم.(1/320)
عبادالله: إذا كان كتم الشهادة فيه ضرر على البشرية واختلال لنظامها فهناك ما هو أشد منه إثماً وأكبر خطراً وما أدراكم ما هو، هو الجريمة العظمة والطامة الكبرى شهادة الزور التي كادت تعدل الإشراك بالله شهادة الزور التي تهددنا في أموالنا ودمائنا وأمننا تلكم التي أخربت بيوتاً عامرة وأزهقت أرواحاً بريئة وأهدرت حقوقاً واضحة فما فشت في أمة إلا وسادت فيها الفوضى وتحكمت فيها الأهواء، لذا وغيره من أضراره الخطرة حذرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها بقوله: «ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس» يقول الراوي: كان متكئاً فجلس ثم قال: «وشهادة الزور وقول الزور» وما زال يُكررها حتى قلنا ليته سكت. فحذار معشر المسلمين من شهادة الزور وقوله فإن فيها إساءة على قضاة المسلمين بتلبيس الحق عليهم فيها إساءة إلى المشهود له بمساعدته على الإثم والعدوان. فيها إساءة إلى من حرمه حقه بشهادته وخذله في حين حاجته إلى نصرته فليتق الله شاهد الزور وقائل الزور وليتُب إلى الله قبل أن يوقف بين يدي أحكم الحاكمين وأعدل العادلين الذي سيقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء. ليتب إلى الله قبل أن يُساق إلى جهنم مع المجرمين فو الله لو علم ما أعد الله له من الخزي العاجل والعذاب الأليم في الآخرة لتمنى أن لسانه قطع قبل أن ينطق بشهادة زور أو كلمة زور فاتقوا الله أيها المسلمون: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا(. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
خطبة في (أكلُ الأموال بالباطل - وخَطَرُ الرِشُّوة)(1/321)
الحمد لله الهادي إلى سبيل الرشاد. أحمده تعالى وأعوذ به من مفاتن الدنيا ونزعات الفساد. وأشكره وأسأله التوفيق المتواصل والسداد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمرنا بالأكل من طيبات الأموال. ونهانا عن كل ما فيه خطر على كياننا من الأعمال. وأشهد أن سيدنا ونبينا مُحمداً عبده ورسوله صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فيا عباد الله إليَّ بالآذان المُفتحة والقلوب الواعية إليَّ لنتعقل ونتفهم الوحي السماوي الذي جاء بما يكفل سعادة الفرد والمجموع جاء بما إن تمسكنا به لن نضل أبداً. جاء بما يُقوي الروابط ويحفظ الصلات يقول سبحانه: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(، عباد الله: نهاكم الله في هذه الآية الكريمة عن أن تأكلوا أموالكم أو أن يأكل بعضكم مال بعضٍ بالباطل. وأكله بالباطل أكله من غير الوجه الذي أباحه الإسلام فكلما أنفقه الإنسان في حرام أو فيما لا فائدة فيه فهو أكلٌ له بالباطل وما أخذ من إنسان بغير وجه شرعي كالزيادة الربوية وأثمان الجزء المغشوش من الأعيان وما كسب بالقمار وما يُدفع للكاهن ومهر البغي والرشوة وما إلى ذلك من غلول وشُبهةٍ فكل من وصل إليه مال من هذه الطرق يُعد آكلاً لمال غيره بالباطل وكل من أنفق فيما لا فائدة فيه يُعد مُنفقاً في باطل والباطل هو الزائل الذاهب الذي عاقبته الويل والخسران وما أحرى وأحق - يا عباد الله - أهل هذه الجرائم الذين أعرضوا عن هذه التعاليم السماوية الكريمة: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ(، ما أحقهم بالعذاب الأليم وتصلية الجحيم.(1/322)
عباد الله: إن من أكبر الكبائر أكل الأموال بالباطل وأخبثها أخذ الرشوة أو إعطاءها فذلكم الداء الخطر داء السرطان الذي ما خالط جسماً إلا وقضى عليه ما لم يُستأصل فما خالطت الرشوة عملاً إلا أفسدته، ولا نظاماً إلا قلبته ولا قلباً أو طريقاً منيراً إلا أظلمته فما فشت في أمةٍ إلا وأطاحت بسلطانها ما وُجدت في أمةٍ إلا وحل الغش فيها محل الإخلاص والخيانة محل الأمانة ولا غرو فكم لله من ألسنةٍ ناطقة أخرستها وضمائر وأدتها، لذا وغيره من أضرارها السيئة وعواقبها الوخيمة لم يقف النظم القرآني بإدخالها في الباطل فقط بل قال بعد ذلك مؤكداً لتحريمها ومُحذراً من سوء عاقبتها: (وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ( [أي ولا تدلوا بالأموال إلى الحكام. والإدلاء المنهي عنه له معنيان أحدهما أن الله سبحانه ينهاك أيها المسلم أن تُدلي بحجتك إلى الحاكم ليُحلل لك ما أكلته بالباطل. والحاكم إنما يحكم بالظاهر فحكمه لا يحرم حلالاً في باطن الأمر ولا يحل حراماً يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم تختصمون إليَّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من نار فليأخذها أو ليدعها». المعنى الثاني للإدلاء أن الله سبحانه ينهاكم أن تُعطوا الحاكم شيئاً من المال ملتمسين بذلكم استمالته في الحكم كي تتوصلوا إلى أكل طائفة من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ما أنتم عليه من باطل وظلم تعلمون أنكم بذلك أسأتم إلى أنفسكم وعرضتموها للعنة الله وغضبه وعقابه يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله الراشي والمرتشي والرائش»، وروى الطبراني عن ابن مسعود موقوفاً قال: «الرشاء في الحكم كفر وفيما بَيْنَ الناس سُحت».(1/323)
عباد الله: ليست الرشوة المتوعد أهلها بالطرد والإبعاد من رحمة الله مقصورة على دفع مال إلى حاكم وشبهه بل كل نفع تقدمه إلى حاكم أو رئيس مصلحة أو مأمور ثغر تقصد بذلك استمالته واستغلال منصبه في باطل فهو رشوة جاء الحديث النبوي مُثبتاً إن هدايا العمال غلول استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً على الصدقة يُقال له ابن اللتبية فلما قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: هذا لكم وهذا أهديَّ إليّْ، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك وصعد المنبر فقال: «ما بال أحدكم نستعمله فيقول هذا لكم وهذا أُهديَّ إِليّْ هلا قعد أحدكم في بيت أمهٍ فينظر ماذا يُهدي إليه» فاتقوا الله عباد الله وتعاونوا على تطهير نفوسكم ومجتمعكم من داء الرشوة فإنه مُهدر للحقوق مُعطل للمصالح فحذار منه فإن فشوه في أُمةٍ مؤذن بهلاكها كيف لا وهي مُساعدة على الإثم والعدوان تقدم الجهلاء وتؤخر الأكفاء ترفع الخامل وتضع المُجد العامل فحذار من الرشى يا عباد الله فإنها فخ المروءة وقبر الأمانة والشرف لا يقدم عليها إلا خائن وضيع دنيء النفس سافل المروءة مساوم في دينه وكرامته. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم لما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
64- موعظة
أيها الإخوان لقد ذهب أكثر عامكم وفات، وتقضت أيامه ولياليه وأنتم مُنهمكون في اللذات، فما أسرع ما تضرمت منه الأوقات، وما أكثر ما خطبكم لسان حاله بزواجر العظات، وما أطول ما نادى بكم مُنادي الشتات.
أبنيَّ أبيْنَا نَحنُ أهلُ مَنَازِلٍ
أبداً غُرابُ البَيْنِ فيها ينعِقُ(1/324)
فطوبى لمن تدارك الهفوات، وبُشرى لمن لازم تقوى الله، وعمل بالباقيات الصالحات، وهنيئاً لمن أذهب السيئات بالحسنات، ويا خيبة من شغلته الملاهي والمنكرات، عن طاعةِ رفيع الدرجات، وما أعظم خسارة من باع نفيس آخرته بخسيس دُنياه، وحسرةً له يوم: (تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ(، وتعساً وجدعاً له: (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ(.
عباد الله: قد سبق ذكر الموت وأحوال الميت في سكراته وفتنة القبر وسؤال مُنكر ونكير وعذاب القبر ونعيمه وخطر من كان مسخوطاً عليه وأعظم من ذلك الأخطار التي بين يديه من نفخ الصور والبعث والنشور والعرض على الجبار والسؤال عن الدقيق والجليل، ونصب الميزان لمعرفة المقادير.
ثم جواز الصراط مع دقته وحدته ثم انتظار النداء عند فصل القضاء إما بالإسعاد وإما بالإشقاء فهذه أحوال وأهوال لا بد من معرفتها ثم الإيمان بها على سبيل الجزم والتصديق ثم تطويل الفكر في ذلك اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة.
كما جاء في الكتاب والسُنة يجمع الله فيه الأولين والآخرين في صعيدٍ واحد يُسمعهم الداعي وينفذهم البصر لا يغيب منهم أحد وتدنو منهم الشمس ويُلجمهم العرق هذا اليوم هو اليوم الذي: (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(.(1/325)
في ذلك اليوم يبلغ الأمر من الحيرة والدهشة والاضطراب والذهول أن تذهل المرضعة عن ولدها الذي فمه في ثديها وهو أعز شيء لديها فكيف بالذهول عما سواه وتسقط الحوامل من الفزع والرعب والروع ما في بطونها من الأجنة قبل التمام وترى الناس كأنهم سُكارى من شدة الروع والفزع والخوف الذي صير من رآهم يُشبههم بالسكارى لذاهب عقولهم من شدة الخوف كما يذهب عقل السكران من الشراب: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ(، تكون الأرض كالسفينة في البحر عند اضطراب الأمواج تكفأ بأهلها.
فيميد الناس على ظهرها ويتساقطون من شدة الأمر وبلوغه أقصى الغايات ولهذا أذهل العقول وأذهب التمييز والفكر والصحو إنه يوم القيامة: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا(.
إنها لهزة عنيفة للقلوب الغافلة حيث ترجف الأرض الثابتة ارتجافاً وتزلزل زلزالاً وتنفض ما في جوفها نفضاً وتُخرج ما يُثقلُها من أجساد ونقود وغيرها مما حملته طويلاً وهو مشهد يهز كل شيء ثابت والأرض تهتز والسماء تمور.
إنه لمشهد مُجرد تصوره، يخلع القلوب يرى الإنسان ما لا يعهد ويواجه ما لا يُدرك ويشهد ما لا يملك الصبر أمامه ولا السكوت عنه: (وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا(، ما الذي يُزلزلها هكذا ويرُجها رجاً.
وكأنه من شدة ما نزل يتمايل على ظهر الأرض ويتشبث ويحاول أن يُمسك بشيءٍ لعله يثبت لأن كل ما حوله يمور موراً شديداً قد امتلأ من الرعب والفزع والدهشة والعجب.
يرى الجبال وهي تسير: (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ(، هذه الجبال وقد نُسفت وبُست وراءها ذرات في الهواء: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا(، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا(، (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا(.(1/326)
هذه تُصرح وتشير إلى حدثٍ عظيم تتزلزل منه الجبال وتذهب هباءً يتلاشى ثباتها ورُسُوخها واستقرارها وتماسكها والإنسان ينظر ولا يكاد يلتقط أنفاسه: (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ(.
هنا يُشاهد ويُواجه الحشر والحساب والوزن والجزاء ويقف جبريل عليه السلام والملائكة صفاً بين يدي الرحمن: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا(، (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ(، (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ(، (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(.
وموقف هؤلاء المُقربين صامتين خاشعين خاضعين لعظمة الله: (وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا(، (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا(.
موقفهم هكذا صامتين لا يتكلمون إلا بإذنٍ من الرحمن يُلقي في النفس الرهبة والرُعب والفزع من ذلك اليوم العظيم الذي ينكشف فيه كل مستور ويعلم فيه كل مجهول.
وتقف فيه النفس أمام ما أحضرت من الرصيد والزاد في موقف الفصل والحساب: (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ(، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا(، (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ(، (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ(.(1/327)
في ذلك اليوم يكون التغير العظيم الشامل للمعهودات السموات والأرض الشمس مُكورة والنجوم منكدرة والسماء مُنشقة والوحوش النافرة محشورة والأنعام والطيور والعشار مُعطلة: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ(، (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ(، (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلا(، (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ(.
هذه الآيات وأمثالها تشير إلى ذلك الحادث الهائل في الكون كله ولا يعلم حقيقته إلا الله إنه حادث عظيم ترجف الأرض منه وتخاف وتنهار فكيف بالخلق الضعاف المهازيل الذين تهزهم الصواعق هزاً وتخلع قلوبهم خلعاً: (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ(، (يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا(.
وفي وسط هذا الرعب والخوف والقلق والفزع والذهول والانقلاب يتساءل الإنسان المذعور أين المفر ويبدو ذلك في سؤاله وكأنما ينظر في كل اتجاه فإذا هو مسدود دونه مأخوذ عليه ولا ملجأ ولا محيص ولا منفذ ولا وقاية من قهر الله وأخذه، والرجعة إليه والمصير والمستقر عنده: (كَلا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ(، (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا(.(1/328)
ففي هذا الموقف الرهيب يتبين عجز الخلائق وضعفهم وكمال سلطان الله وقدرته ونفوذ مشيئته: (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ( إنكم في قبضة الله: (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا( إنه ليومٌ عصيب وموقفٌ رهيب: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا(.
فلا مجال لهرب أحد ولا نسيان لأحد فعين الله على كل فرد وكل فرد يقوم وحيداً لا يأنس بأحد فإذا هو فريد وحيد أمام الديان: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا(، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه(.
مشهد المرء يفر وينسلخ ويهرب من أقرب الناس إليه وألصقهم به أولئك الذين تربطهم به وشائج وروابط لا تنفصم ولكن الصاخة والطامة تُمزق هذه الروابط وتُقطَّع الوشائج والصلات: (فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ(.
فالهول يُفزع النفس ويُقلقها ويفصلها من محيطها ويستبد بها استبداداً فلكلٍّ نفسه وشأنه ولديه الكفاية من الهم الخاص به الذي لا يدع له فضلة من وعي أو جهد: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه(، (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ(.(1/329)
فها هي ذي الساعة التي يغفل عنها الغافلون ويلهوا عنها اللاهون ويستعجل بها المستعجلون: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ(، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ(، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ(.
وهؤلاء المجرمون حائرين يائسين لا أمل في النجاة ولا رجاء ولا خلاص بل قد أيقنوا في العطب: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا(، (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ(.
هنا يعترفون بالخطيئة ويُقرون بالحق الذي جحدوه بالدنيا ويُعلنون اليقين بما شكوا فيه ويطلبون العودة إلى الدنيا لإصلاح ما فات في الدنيا ومنظرهم إذ ذاك مُفزع مُخيف وهم ناكسوا الرءوس خجلاً وخزياً.
فالأمر أمر فظيع والحال مُزعجة أقواماً حاسرين مكروبين وسؤال غير مُجاب لفوات وقت الإمهال: (وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ(.(1/330)
فيا عباد الله انتبهوا من رقدتكم واستدركوا بقية أعماركم واحذروا الانهماك في دار الغرور فالويل كل الويل لكم إن أدرككم الموت وأنتم على هذه الحالة، زينتم الفلل والقصور ونسيتم القبور، اذكروا القبر وظلمته ووحشته والموت وسكرته والميزان وخفته أو رجحته والكتاب وأخذته والصراط ودقته، والموت، سكرة في سكرة وحيرة في حيرة وجذبةٌ يا لها من جذبة وكربة يا لها من كُربة فالمسكين يُكابد غصص المنون داهش العقل كالمحزون.
فالله الله عباد الله أفيقوا من سكراتكم وانتبهوا من نوماتكم واستيقظوا من غفلاتكم قبل مُفاجأة المنية وحلول الرزية ووقوع البلية حيث لا مال ولا ولد نافع ولا حميم شافع ولا فرح واقع ولا رجاء طامع ولا حسنة تُزاد ولا سيئة تُحذف ولا حياة تُعاد ويُزودُك أحبابك بالحزن عليك والبكاء فلا عثرةٌ تُقال ولا رجعة تُنال.
اللهم يا مُصلح الصالحين أصلح فساد قلوبنا واستر في الدنيا والآخرة عيوبنا واغفر بعفوك ورحمتك ذنوبنا، وهب لنا مُوبقات الجرائر واستر علينا يا مولانا فاضحات السرائر، ولا تُخلنا في موقف القيامة من برد عفوك وغفرانك ولا تتركنا من جميل صفحك وإحسانك وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
65- "موعظة في الحث على الإقبال على الآخرة"(1/331)
إخواني أين رُفقاؤنا وإخواننا أين ذهب معارفنا وجيراننا أين أصدقاؤنا أين زُملاؤنا وأقراننا أين عُلماؤنا العاملون بعلمهم أين آباؤنا وأجدادنا رحلوا وقلَّ والله بعدهم بقاؤنا هذه مساكنهم فيها غيرهم قد نسيناهم ونسيهم مُحبهم وجفاهم. أين أصحاب القصور الحصينة، والأنساب العالية الرصينة والعقول الراجحة الرزينة، قبضت عليهم يدُ المنايا فظفرت، ونُقلوا إلى أجداث ما مُهدت إذ حُفرت ورحلوا بذنوبٍ لا يدرون هل غُفرت أو بقيت فالصحيح منهم بالحزن قد سقم والمدعو إلى دار البلى أسرع ولم يقم والكتاب قد سطر بالذنوب فرُّقِم، ولذيذ عيشهم بالتنغيص قد ختم وفراقهم لأحبابهم وأموالهم قد حُتم والولد قد ذل ويُتم، فتفكروا في القوم كيف رحلوا، وتذكروا ديارهم أين نزلوا، واسألوا منازلهم عنهم ماذا فعلوا فانتبه من رقادك قبل أن تصل ما وصلوا يا من غفل وسهى ولهى ونسي المقابر والبلى.
66 - موعظة(1/332)
عباد الله إن التوبة من الذنوب مفتاح السعادة في هذه الدار وفي دار القرار، وإنما كانت التوبة كذلك لأن بها يغفر الله الذنوب جميعاً لا فرق بين صغارها والكبار ولأن التائب إذا صحت توبته بأن اجتمعت شروطها وانتفت الموانع يصبح بالتوبة أميناً على دينه لا يُخل بواجب من واجبات الإسلام فتوبوا عباد الله توبةً نصوحاً لتستنير قلوبكم وأبدانكم بدل ظلمات كانت مُخيمة عليها تُثقلكم عن طاعة مولاكم وستجدون بإذن الله انشراحاً في صدوركم بدل انقباضها وضيقها فإن الذنوب تؤثر على القلوب والأبدان انقباضاً يشتد على المُصِرِّ على الذنوب حتى يضيق به فسيح الأرجاء ولك أيها التائب العامل بالطاعات الأمل القوي بتوالي الطاعات لأن الخيرات تُنتج بإذن الله بعضها بعضاً ولك الأمل القوي بأن تنقاد لك الأرزاق بعد أن كانت مُمتنعة فتُصبح في يُسر بعد أن كنت في إعسار ولك الأمل في أن العداوات التي كانت بينك وبين الخلق تُصبح بإذن الله حباً يلفت الأنظار ذلك أن الذنوب والمعاصي هي أسباب الشرور والعقوبات المؤلمات وأن المرء بالتوبة منها يُرضي بديع الأرض والسموات فتأكد أيها الأخ أن التوبة هي الينبوع الفياض لكل خير في الدنيا والآخرة فلا تشك في أن الله تعالى يُفيض من فضله وجوده ما يُفيض على من أخلص العمل لجلاله فتُب أيها الأخ واصدق في التوبة واسأله أن يُبلغك بها رضوانه وأن يجعلك من حزبه المُفلحين الذين: (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(، فتعيش وتموت وتُبعث في رعاية ربك ولُطفه وغيرك ممن لم يتوبوا في إهانته البالغة يتقلبون فعليك بالاعتماد على الله والتوكل عليه واللجاء إليه دائماً مُتضرعاً مُتملقاً.
اللهم اعمر قلوبنا وألسنتنا بذكرك وشكرك ووفقنا للامتثال لأمرك وأمِّنا من سطوتك ومكرك واجعلنا من أوليائك المتقين وحزبك المفلحين واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/333)
67- "موعظة"
عباد الله تمر الحياة بأحدنا وهو منهمك في ملذاته وشهواته ومطامعه، لا يُفكر في مآله ولا في يوم حسابه وكأنه خالد في الدنيا لا يموت أبداً، أو كأن عنده يقين أنه لا يُحاسب على ما جناه.
ومن العجيب أنه لا يمر يوم بل ولا ساعة إلا وفي ذلك نذير لابن آدم بالرحيل عن هذه الدار، يُشاهد الموت يتخطف الناس من حوله فلا يزدجر، تقوم الحوادث الجسام من حروبٍ تفني آلافاً من البشر وتُهدد الأحياء بالالتحاق بمن مات، وبالمجاعات والخراب، فلا يتعظ ولا يعتبر.ويرى الحرائق ما بين آونة وآونة تتلف النفوس والأموال والمساكن، وكيف تكون حالة الناس ومطافيهم، فلا يذكر جهنم وأهوالها وأنكالها وما فيها من أنواع العذاب الذي لا تصمد له الجبال الصم الصلاب، قست القلوب، وتحجرت الضمائر، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ(، (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ(.
أيها الغافلون، دنياكم دار غرور وهموم وأحزان، وهي بلا شك فانية، أخراكم دار قرار باقية، وأجهل الناس من باع آخرته بدنياه والتقوى مفتاح السعادتين الدنيوية والأخروية، ضمان ضمنه الله لعباده، ووعدٌ لا يتخلفُ، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(.
أما المعاصي والغفلة والنسيان والطغيان، فليس من ورائها إلا ضنك المعيشة في الدنيا بالهموم المبرحة والأحزان المُجرحة مع العذاب الأليم في الآخرة، قال الله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى( الآيات.(1/334)
أيها العاقلون كلكم تعلمون أن الغفلة تُنسي العبد ربه وآخرته، ومن نسي ربه أنساه الله نفسه، قال تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ(، فلا تتعرضوا بذلك لسخطه وكونوا دائماً ذاكرين للآخرة، فإن ذلك يبعث على الخوف من الله، ومن خاف ربه استقام بإذن الله، قال الله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(، والله أعلم وصلى الله على مُحمدٍ وآله.
68- موعظة
رُوي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل ويقول في الدنيا بقول الزاهدين ويعمل فيها عمل الراغبين إن أُعطي من الدنيا لم يشبع وإن مُنع منها لم يقنع ويأمر الناس بما لا يأتيه يُحب الصالحين ولا يعمل أعمالهم ويُبغض المُسيئين وهو منهم يكره الموت لكثرة ذنوبه ويُقيم على ما يكره له الموت إن سقم ظل نادماً وإن صح أمِنَ لاهياً يَعجَبُ من نفسه إذا عوفي ويقنط إذا تغلبه نفسه على ما يظن ولا يغلبها على ما يستقين ولا يثق من الرزق بما ضُمِنَ له ولا يعمل من العمل بما فُرض عليه إن استغنى بَطِرَ وإن افتقر قَنِطَ وحَزنَ فهو من الذنب في حال النعمة والمحنة موقرٌ، يطلب الزيادة ولا يشكر ويتكلف من الناس مالا يؤمر ويضيع الموت ولا يُبادر الفوت يستكبر من معصية غيره ما يسهل أكثره من نفسه. مزاهر اللهو مع الأغنياء أحبُّ إليه من الذكر مع الفقراء يحكم على غيره لنفسه ولا يحكم عليها.
اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان وثبت محبتك فيها وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا حُب أوليائك وبُغض أعدائك وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
69- موعظة(1/335)
عباد الله إن من أعجب العجب أن يعصي الرجل مولاه وإنما كان ذلك عجباً لأن المؤمن يتيقن يقيناً لا شك فيه أن مولاه جل وعلا يراه، ويعلم سره ونجواه، ومعلوم أن الإنسان يستحيي أن يفعل ما يُغضب أخاه وهو يراه، مع أنه لا يملك له ضراً ولا نفعاً في هذه الدار، ولا في دار القرار، وإذا كان هذا حاله مع هذا المخلوق فعجيبٌ جداً أن لا يكون أشد احتراماً وحياءً مع فاطر الأرض والسموات، مع أنه تعالى هو الذي أوجد الجميع من العدم وهو الذي يحفظ عليك الحياة وهو الذي أسبغ عليك النعم ظاهرةً وباطنة، وأدام ذلك عليك ووالاه، ولو شاء لسلبك كل نعمة، وأحل بك كل نقمة، وجعلك في هذا الوجود عبرة لأولى الأبصار، أضف إلى ذلك أنه تعالى هو الذي يُميتك، ويُعاملك في قبرك بما يناسب ما لك من أعمال، وهو الذي يبعثك بعد موتك، ويسوقك إلى ذلك الموقف الذي هوله يُشيب الأطفال، وهو الذي يُحاسبك على ما كان منك في حياتك الأولى من الأفعال، وهو الذي يأمر بك إما إلى الجنة وإما إلى النار، نعم إنه من أعجب العجب أن يُجاهر المؤمن ربه بالمعصية، وهو يعلم أنه مالك دنياه وأُخراه، إن البرهان الذي لا مغمز فيه على أنك تستحيي من ربك أيها المؤمن، أن تكون بعيداً كل البعد دائماً عن معاصي الله، فتحبس لسانك عن القذف والكذب والنميمة والغيبة، والخلف في الوعد، وعن المراء والجدال والاستهزاء، والسخرية بالناس، واللعن والفحش، ونحو ذلك مما هو مُحرم شرعاً أو مكروه، لأن اللسان إنما خلق لتلاوة كتاب الله وذكره، ولترشد به خلق الله، وتُظهر به ما في ضميرك من حاجات دينك ودنياك، وتُدافع به عن دينك ونفسك وأهلك، فإذا استعملته في غير ما خُلق له كان وبالاً عليك، وتحبس عينك، لأنها إنما خُلقت لك لتهتدي في الظلمات، وتستعين بها على قضاء الحاجات، وتنظر بها بعين الاعتبار إلى عجائب ملكوت السموات والأرض فتعتبِر بما فيها من الآيات الباهرات؛ فاحفظها عن النظر إلى المحرمات، من نظر إلى(1/336)
غير محرم من النساء، أو إلى مسلم بعين الاحتقار والازدراء، أو إلى تلفزيون أو إلى سينماء، أو إلى صورة مليحة بشهوة، أو تطلع بها على عيب مسلم، أو إلى بيت جارٍ أو غير جارٍ ممن لا يرضى بذلك، أو نحو ذلك من المحرمات.
وأما الأذن فاحفظها عن أن تُصغي بها إلى استماع الملاهي والمنكرات، أو إلى بدعة أو إلى غيبة أو فُحش، أو قذف مُسلم أو حديث قومٍ وهم لاستماعك كارهون، أو إلى الخوض بالباطل، أو ذكر مساويء الناس، لأنها خلقت لك لتسمع بها كلام الله وسُنة رسوله، وما ينفعك في دنياك وأخراك ولتتوصل بها إلى الاستفادة من العلوم الشرعية، الموصلة إلى مرضاة الله والنعيم المقيم، الدائم في جوار رب العالمين، فإذا أصغيت بها إلى شيءٍ من المحرمات أو المكروهات، صار ما كان لك عليك، وانقلب ما كان سبب فوزك سبب هلاكك، وهذا غاية الخسران، ولا تظن أن الإثم يختص به القائل دون المستمع إلا إن أنكر بلسانه، أو بقلبه إن خاف، وإن قدر على القيام والابتعاد عنهم، أو قدر على قطع الكلام بكلام آخر فلم يفعل فهو آثم، وكذلك يكف البطن والفرج عن المُحرمات، واليدين والرجلين وحاسة الشم.
70 - في موعظة جليلة
قال بعض العلماء على قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(.
كشفت لنا هذه الآية الشريفة عن سُنةٍ من سُنن الله تعالى: وهي أن من غفل عن تذكر الله فنسيه وألهته دنياه عن العمل للدار الآخرة أنساه الله نفسه التي بين جنبيه فلا يسعى لما فيه نفعها ولا يأخذ في أسباب سعادتها وإصلاحها وما يكملها ولا السعي في إزالة عللها وأمراضها التي تؤول بها إلى الفساد والدمار والهلاك وهذا من أعظم العقوبة للعامة والخاصة فأي عقوبة أعظم من عقوبة من أهمل نفسه وضيعها ونسي مصالحها وداءها ودواءها وأسباب سعادتها وصلاحها وحياتها الأبدية في النعيم المقيم.(1/337)
ومن تأمل هذا الموضع تبين له أن أكثر هذا الخلق قد نسوا أنفسهم وضيعوها وأضاعوا حظها من الله وباعوها رخيصة بثمنٍ بخس بيع المغبون ويظهر ذلك عند الموت ويتجلى ذلك يوم التغابن يوم لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، إنها لحسرةٌ على كل ذي غفلة دونها كل حسرة هؤلاء هم الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مُهتدين.
وأما الرابحون فهم الذين أنار الله قلوبهم للحق فعرفوا الدنيا وقيمتها وقالوا ما مقدار هذه الدنيا من أولها إلى آخرها حتى نبيع حظنا من الله تعالى والدار الآخرة بها فكيف بما ينال العبد منها في هذا الزمن القصير الذي هو في الحقيقة كغفوةِ حلم لا نِسبة له إلى دار القرار ألبتة.
قال الله تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ(، وقال: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا(، هؤلاء هم الكيسون الذين علموا حقيقة الدنيا كما علموا قلة لُبثهم فيها وأن لهم داراً غير هذه الدار دار الحيوان ودار البقاء اتجروا تجارة الأكياس، ولم يغتروا بتجارة السفهاء من الناس فظهر لهم يوم التغابن ربح تجارتهم ومقدار ما اشتروا قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنَفْسُكَمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(.(1/338)
وفي هذا المعنى يقول عمر - رضي الله عنه -: إنما الدنيا أمل مُخترم أي مُنتقض وبلاغٌ إلى دار غيرها وسير إلى الموت ليس فيه تعريج فرحم الله امرءاً أفكَرَ في أمره ونصح لنفسه وراقب ربه واستقال ذنبه وتاب إلى ربه إلى أن قال إياكم والبطُنة فإنها مَكسلة عن الصلاة ومَفسدة للجسم ومؤدية للسقم وعليكم بالقصد في قوتكم فهو أبعد عن السرف وأصح للبدن وأقوى على العبادة إن العبد لن يَهلَك حتى يُؤثر شهوته على دينه.
ومن العجب العُجاب أن العبد يسعى بنفسه في هوان نفسه وهو يزعم أنه لها مُكرم ويجتهد في حرمانها من حظوظها وشرفها وهو يزعم أنه يسعى في حفظها ويبذل جهده في تحقيرها وتصغيرها وتدنيسها وهو يزعم أنه يسعى في صلاحها وكان بعض السلف يقول في خطبته ألا رُبَّ مُهين لنفسه وهو يزعم أنه مُكرِمٌ لها ومُذل لنفسه وهو يزعم أنه مُراعٍ لحقها وكفى بالمرء جهلاً أن يكون مع عدوه لنفسه يبلغ منها بفعله ما لا يبلغه منها عدوه.
مَا يَبْلُغُ الأَعْدَاءُ مِن جَاهِلٍ
مَا يَبْلُغُ الجَاهلُ مِن نَفْسِهِ(1/339)
فالعاقل هو الذي يعمل مُجداً لآخرته ولا يُنسيه نصيبه من الدنيا حظه من الآخرة عاملاً بقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا(، ولو أنه تأمل قليلاً لوجد أن لذائذ الدنيا متولدة من آلامها فمثلاً لذة الطعام لا تتحقق إلا بألم الجوع ولذة الشراب لا بد أن يسبقها حُرقة العطش ولذة النوم لا يجد الإنسان لها شوقاً إلا بعد أن يُضنيه التعب الشديد وهناك نوعٌ آخر من الحكمة غفل عنه الكثيرون من الناس وهو أنها بمثابة براطيل تحمل الإنسان على قوامه وبقاء حياته فلذة الطعام تدفعه إلى ألا يُهمل جسمه من الغذاء ولولا ما جعل الله من لذة النكاح لانقرض النوع الإنساني من الوجود ولما وجدنا دابة تدب على وجه الأرض ولا طائراً يطير في السماء وكذلك فرحة الأم بطفلها تُنسيها آلام الحمل والوحم والولادة والتعب والنصب والرضاع والسهر الطويل في التمريض مما يقض مضجعها ويُنسيها نفسها فسبحان الحكيم العليم الذي خلق كل شيءٍ فقدره تقديراً، انتهى بتصرفٍ يسير.
71 - موعظة(1/340)
كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز في ذم الدنيا كتاباً طويلاً قال فيه: أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار مقام وإنما أنزل إليها آدم عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين فإن الزاد منها تركها والغِنى فيها فقرها تُذل من أعزها وتُفقر من جمعها كالسُّم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه فاحذر هذه الدار الغرارة الختالة الخداعة وكن أسر ما تكون فيها إحذر ما تكون لها، سرورها مشوب بالحزن وصفوها مشوب بالكدر فلو كان الخالق لم يُخبره عنها خبراً ولم يضرب لها مثلاً لكانت قد أيقظت النائم ونبهت الغافل فكيف وقد جاء من الله عز وجل عنها زاجر وفيها واعظ فما لها عند الله سبحانه قدر ولا وزن، ما نظر إليها مُنذُ خلقها ولقد عُرضت على نبينا - صلى الله عليه وسلم - مفاتيحها وخزائنها لا ينقص عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها وكره أن يُحب ما أبغضه خالقه أو يرفع ما وضعه مليكه، زواها الله عن الصالحين اختياراً وبسطها لأعدائه اغتراراً أفيظن المغرور بها أنه أُكرم بها ونسي ما صنع الله بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - حين شد على بطنه الحجر، والله ما أحد من الناس بُسط له في الدنيا فلم يخف أن يكون مَكراً إلا كان قد نقص عقله وعجز رأيه وما أمسك عن عبدٍ فلم يظنه خيراً له فيها إلا نقص عقله وعجز رأيه.
اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا الاستقامة طوع أمرك وتفضل علينا بعافيتك وجزيل عفوك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
72 - موعظة(1/341)
وقال الشيخ الواسطي في بعض رسائله: إذا أراد الله بعبدٍ خيراً أقام في قلبه شاهداً من ذكر الآخرة يُريدُ فناء الدنيا وزوالها وبقاء الآخرة ودوامها فيزهده في الفاني ويُرغبه في الباقي فيبدأ في السير والسلوك في طريق الآخرة وأول السير فيها تصحيح التوبة، والتوبة لا تتم إلا بالمحاسبة ورعاية الجوارح السبعة، العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل وكفها عن جميع المحارم والمكاره والفضول هذا أحد شطري الدين ويبقى الشطر الآخر وهو القيام بالأوامر فتحقيق الشطر الأول وهو ترك المناهي من قلبه وقالبه.
أما القالب فلا يعصي الله بجارحةٍ من جوارحه ومتى زل أو أخطأ تاب وأما القلب فتُنقي منه الموبقات المُهلكات مثل الرياء والعجب والكبر والحسد والبُغض لغير الله وحب الدنيا ورد الحق واستثقاله والازدراء بالخلق ومقتهم وغير ذلك من الكبائر القلبية التي هي في مقابلة الكبائر القالبية من شرب الخمر والزنا والقذف وغير ذلك فهذه كبائر ظاهرة وتلك كبائر باطنة. وكلاهما ضرر.
قال: فمن انطوى على شيءٍ من الكبائر الباطنية ولم يتب حبط عمله بدليل «لا يدخل الجنة من كان في قبله مثقال ذرة من كبر» وجاء: «إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب»، وجاء بقول الله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً فأشرك معي فيه غيري تركته وشركه»، وقال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(.(1/342)
فمتى تنقى القلب من مثل هذه الخبائث والرذائل طهر وسكنت فيه الرحمة في مكان البغض والتواضع في مقابلة الكبر والنصيحة في مقابلة الغش والإخلاص في مقابلة الرياء ورؤية المنة في مقابلة العجب ورؤية النفس فعند ذلك تزكوا الأعمال وتصعد إلى الله تعالى ويطهر القلب ويبقى محلاً لنظر الحق بمشيئة الله ومعونته فهذا أحد شطري الدين وهو رعاية الجوارح السبعة عن المآثم والمحارم وإنما تصلح وتطهر برعاية القلب وطهارته من الموبقات والجرائم ومعنى الموبقات المُهلكات اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله: والقلوب ثلاثة، قلبٌ خالٍ من الإيمان وجميع الخير فذلك قلبٌ مظلم قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه لأنه قد اتخذه بيتاً ووطناً وتحكم فيه بما يريد وتمكن منه غاية التمكن، القلب الثاني: قلب استنار بنور الإيمان وأوقد فيه مصباحه لكن عليه ظلمة الشهوات وعواصف الأهوية فللشيطان هناك إقبال وإدبار ومجالات ومطالع فالحرب دولٌ وسجال وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة فمنهم من أوقات غلبته لعدوه أكثر ومنهم من أوقات غلبة عدوه أكثر ومنهم من هو تارةٌ وتارة.
القلب الثالث: قلب محشو بالإيمان قد استنار بنور الإيمان وانقشعت عنه حجب الشهوات وأقلعت عنه الظلمات فلنوره في صدره إشراق ولذلك الإشراق إيقاد لو دَنَا منه الوسواس احترق به فهو كالسماء التي حُرست بالنجوم فلو دنا منها الشيطان يتخطاها رُجِمَ فاحترق.
وليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن وحراسة الله تعالى له أتم من حراسة السماء والسماء مُتعبد الملائكة ومُستقر الوحي وفيها أنوار الطاعات وقلب المؤمن مُستقر التوحيد والمحبة والمعرفة والإيمان وفيه أنوارها فهو حقيق أن يُحرس ويُحفظ من كيد العدو فلا ينال منه إلا خطفة تحصل له على غرة وغفلة من العبد إذ هو بشر وأحكام البشرية جارية عليه من الغفلة والسهو والذهول وغلبة الطبع انتهى.(1/343)
هذه قصيدة لبعضهم فيها غُلُو صلحنا ما فيها من الغلط الاعتقادي وجعلنا على ما فيه تصليح أقواساً:
تَيَقَّظْ لِنَفْس عَنْ هُدَاهَا تَوَلتِ
وَبَادِرْ فَفِي التَّأخِير أَعْظَمُ خَشْيَةِ
فَحَتَّامَ لا تَلْوِي لِرُشْدٍ عِنَانَهَا
وَقَدْ بَلَغَتْ مِنْ غَيِّهَا كُلُّ بُغْيَةِ
وَأَمَّارَةٌ بِالسُّوُءِ لَوَّامَةٌ لِمَن
نَهَاهَا فَلَيْسَتْ لِلْهُدَى مُطَمئِنَةِ
إِذَا أَزْمَعَتْ أَمْراً فَلَيْسَ يَرُدُّهَا
عَنِ الفِعْلِ إِخْوَانُ التُّقَى وَالمَبَرَّةِ
وَإِنْ مَرَّ فِعْلُ الخَيْرِ في بَالِهَا انْثَنَى
أَبُو مُرَّةٍ يَثْنِيهِ في كُلِّ مَرَّة
وَلي قَدَمٌ لَوْ قُدِّمَتْ لِظُلامَةٍ
لَطَارَتْ وَلَوْ أَنِّي دُعِيْتُ لِقَرْبَةِ
لَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ رِجلٌ صحيحةٌ
ورِجلٌ رَمَى فِيْهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ
وَقَائِلَةٍ لِمَا رَأَتْ مَا أَصَابَنِي
وَمَا أنَا فِيْهِ مِن لَهِيبٍ وَزَفْرَتِي
رُوَيْدَك لا تَقْنُطْ وَإِنْ كَثُرَ الخَطََا
وَلا تَيْأسَنْ مِن نَيْلِ رَوْحٍ وَرَحْمَةِ
مَعَ العُسْرِ يُسْرٌ وَالتَّصَبُّرُ نُصْرَةٌ
وَلا فَرَجٌ إِلا بِشِدَّةِ أَزْمَةِ
"وَكَمْ عَامِلِ أَعْمَالَ أَهْلَ جَهَنَّمٍ
فَلَمَّا دَعَى المَوْلى أُعِيْدَ لِجَنَّةِ"
"فَقُلْتُ لَهَا جُوزِيتِ خَيْرًا على الذي
مَنَحْتِ مِنَ البُشْرَى وَحُسْنِ النَّصِيحَةِ"
"فَهَلْ مِنْ سَبِيلِ لِلْنَجَاةِ مِنَ الرَّدَى
وَمَا حِيْلَتِي في أنْ تُفَرَّجَ كُرْبَتِي"
"فَقَالَتْ فَطِبْ نَفْسًا وَقُمْ مُتَوَجِّهًا
لِربَّكَ تَسْلَمْ مِنْ بَوَارٍ وَخَيْبَةِ"
"فَكَمْ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ فالتْجَا
إليه فَحُطَّتْ عَنْهُ كُلُّ خَطِيئَةِ"
"فَدَيْتُكَ فَأقْصِدْهُ بِذُلٍّ فَإِنَّهُ
يُقيلَ بَنِي الزَّلاتِ مِنْ كُلِّ عَثْرَةِ"
"إِذَا مَا أَتوهُ تَائبِيَن مِن الذِي
جَنَوْهُ مِن الآثَامِ تَوْبَةَ مُخْبِتِ"
وصل إلهي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةِ(1/344)
عَلَى أَحَمَدَ المُخَتار أَزْكَى البَرِيةِ
اللهم اجعلنا من حزبك المفلحين وعبادك الصالحين الذين أهلتهم لخدمتك وجعلتهم ممن قبلت أعماله يا رب العالمين وصلى الله على مُحمدٍ وآله وصحبه أجمعين.
73 - موعظة
عباد الله أخلصوا في أعمالكم كلها لا فرق بين عملٍ وعملٍ سواء أكنتم تعملون لله عز وجل أم كنتم تعملون لخلق الله وسواءٌ أكنتم بين الخلق وأنتم تعملون أم كنتم في محلٍ خفي لا يراكم إلا الله والكرام الكاتبون وسواء أكنتم في سراءَ وقت العمل أم في ضراء.
ذلك الإخلاص هو أن تعمل العمل الصالح لا تريد جزاء عليه إلا من الله يكون ذلك قصدك قبل العمل وحين مباشرته وبعد الفراغ منه لا تذكره بلسانك إلا من باب التحدث بنعم الله أو ليقتدي بك غافل مُتبع لهواه، بهذا يكون العمل عبادة حقاً وتكون أنت من العابدين وبهذا يُثمر عملك القبول عند ربك وعند الناس، وبهذا تكون أقوى الناس لأن وليك حينئذٍ يكون مولاك القوي المتين وبهذا تكون من أهل الكرامة في هذه الدار وفي دار الجزاء.
أما إذا عملت العمل الصالح ليُقبل عليك الناس ويقولوا إنك من الصالحين فأنت إذًا تكون مُرائياً لا تُخلص العمل بل تشرك معه الناظرين فتكون في دعوى تمحيص العمل لله تعالى لست بصادق بل من الكاذبين.
وانظر كيف تكون حال من يكذب على من لا تخفى عليه خافية، لا في الأرض ولا في السماء، إن المُرائي مهما أخفى رياءه يُظهر الله تعالى ما في قلبه للعالمين، روى الإمام أحمد عن أبي سعيد مرفوعًا "لو أن أحدكم يعمل في صخرة ليس لها باب ولا منفذ لأخرج الله عمله للناس كائناً ما كان".(1/345)
ولذلك يكون لأعمال المرائي من السماجة في نفوس الناس ما لا يحكيه اللسان ولهذا يكون مرذولاً ثقيلاً عند الناس، ومن هذا تراه يتودد إلى الناس ويضحك إليهم ونفورهم عنه عبرة عند العقلاء ثم هو عند الله أسوأ حالاً خصوصاً في اليوم الذي يشيب فيه الأطفال فقد يُؤمر به إلى النار وله من الأعمال أمثال الجبال، لكنها لما لم يُرد بها وجه الله خالصة صارت وبالاً عليه نعوذ بالله من الرياء.
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة ووفقنا للتوبة النصوح والإنابة وثبت محبتك في قلوبنا تثبيت الجبال الراسيات وألهمنا ذكرك وشكرك آناء الليل والنهار وثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
74- "موعظة"(1/346)
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعبدوه، ويعرفوه ويخشوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه ليهابوه، ويخافوه خوف إجلال، ووصف لهم شدة عذابه، ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه، ليتقوه بصالح الأعمال، ولهذا كرر سبحانه وتعالى في كتابه ذكر النار وما أعده فيها لأعدائه من العذاب والنكال والأغلال، وما احتوت عليه من الضريع والزقوم والحميم والسلاسل والغساق والغسلين، وغير ذلك مما فيها من الأهوال والفظائع والعظائم، ودعا عباده بذلك إلى خشيته وتقواه، والمسارعة إلى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه، واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه، وأخبر جل وعلا بأن الخلق واردوها قال تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا(، فأنت من الورود على يقين، ومن النجاة في شك، فيا أيها الغافل الساهي عن نفسه، المغرور بما هو فيه من الاشتغال بعمائره وأراضيه وسياراته، وشركاته ومقاولاته وزوجاته وأولاده، وكل ما يُلهيه عن ذكر الله وطاعته، والالتفات إلى دار القرار، دع التفكر وقتل الوقت فيما أنت مُرتحل عنه، وجادٌ في السير عنه، واصرف فكرك فيما أمامك فاستشعر في قلبك هول ذلك المورد، لعلك تستعد للنجاة منه وتأمل في حال الخلق وقد خرجوا من قبورهم حفاة عراة غُرلاً: (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ(، تفكر في ازدحام الخلائق وقد صهرتهم الشمس، إلا من أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، واشتد الكرب والغم من الوهج، وتدافعت الخلائق لشدة الزحام، واختلاف الأقدام، وانضاف إلى ذلك شدة الخجل والحياء، والخوف من الفضائح والاختزاء عند العرض على الجبار، وقُرب الشمس من الخلق فيبلغ عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، كما في حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم قال:(1/347)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً».
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أنه لم يؤثر عن أحدٍ من السلف الصالح من الصحابة وتابعيهم بإحسانٍ تعظيم أحدٍ من أهل البدع والموالين لأهل البدع والمُنادين بموالاتهم، لأن أهل البدع مرضى قلوب، ويُخشى على من خالطهم أو اتصل بهم أن يصل إليه من ما بهم من هذا الداء العُضال، لأن المريض يُعدي الصحيح ولا عكس، فالحذر الحذر من جميع أهل البدع ومن أهل البدع الذين يجب البُعد عنهم وهجرانهم، الجهمية، والرافضة، والمعتزلة، والماتريدية، والخوارج، والصوفية، والأشاعرة ومَن على طريقتهم من الطوائف المنحرفة عن طريقة السلف، فينبغي للمسلم أن يحذرهم ويُحذر منهم، وصلى الله على مُحمدٍ وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تعز الإسلام والمسلمين وأن تذل الشرك والمشركين وأن تدمر أعداء الدين اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. اللهم صل على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه.
اللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً طيباً وعملاً مُتقبلاً يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارحم في الدنيا غربتي وارحم في القبر وحشتي وارحم في الآخرة وقوفي بين يديك.
اللهم اعتق رقبتي من النار وأوسع لي من الرزق الحلال واصرف عني فسقة الجن والإنس.
اللهم إني أسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه وظاهره وباطنه وأوله وآخره وعلانيته وسره اللهم صل على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه.(1/348)
اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والعزيمة على الرشد والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم والفوز بالجنة والنجاة من النار يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إني أسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى اللهم صل على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.
ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا.
ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك.
اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الدين وشماتة الأعداء.
اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.
اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير والموت راحة لي من كل شر. اللهم صل على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.
اللهم إني أسألك رحمةً من عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها أمري وتلهمني بها رشدي وتعصمني بها من كل سوء.
اللهم طهر قلبي من النفاق ولساني من الكذب وعملي من الرياء وعيني من الخيانة إنك تعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور.(1/349)
اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم. اللهم صل على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه.
اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون وأعوذ بك من شر ما استعاذ بك منه عبدك ورسولك مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون.
رب قني عذابك يوم تبعث عبادك.
اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ وعملٍ وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قولٍ وعمل.
اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عنا. رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري رب اغفر خطيئتي يوم الدين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.
رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين. وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
آمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ورسوله مُحمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(خاتمة، وصية، نصيحة)
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يُحبه الله ويرضاه أن مما يجب الاعتناء به حفظاً وعملاً كلام الله جل وعلا وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وأنه ينبغي لمن وفقه الله تعالى أن يحث أولاده على حفظ القرآن وما تيسر من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - المتفق على صحتها كالبخاري ومسلم.
ومن الفقه مختصر المقنع ليتيسر له استخراج المسائل ويجعل لأولاده ما يحثهم على ذلك.(1/350)
فمثلاً يجعل لمن يحفظ القرآن على صدره حفظاً صحيحاً عشرة آلاف أو أزيد أو أقل حسب حالهِ في الغنى.
ومن الأحاديث عُقود اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الإمامان البخاري ومسلم، يجعل لمن يحفظ ذلك ستة آلاف من الريالات.
فإن عجزوا عن حفظها فالعمدة في الحديث يجعل لمن حفظها ثلاثة آلاف أو الأربعين النووية ويجعل لمن يحفظها ألفاً من الريالات.
ويجعل لمن يحفظ مختصر المقنع في الفقه ألفين من الريالات فالغيب سبب لحفظ المسائل وسبب لسرعة استخراج ما أريد من ذلك وما أشكل معناه أو يُدخلهم في مدارس تحفيظ القرآن فمدارس تعليم القرآن والسُنة هي مدارس التعليم العالي الممتاز الباقي النافع في الدنيا والآخرة.
فمن وفقه الله لذلك وعمل أولاده بذلك كان سبباً لحصول الأجر من الله وسبباً لبرهم به ودعائهم له إذا ذكروا ذلك منه ولعله أن يكون سبباً مباركاً يعمل به أولاده مع أولادهم فيزيد الأجر له ولهم نسأل الله أن يوفق الجميع لحسن النية إنه القادر على ذلك وصلى الله على مُحمدٍ وآله وصحبه وسلم.
تم هذا الجزء الأول بعون الله وتوفيقه ونسأل الله الحي القيوم العلي العظيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أن يُعز الإسلام والمسلمين وأن يخذل الكفرة والمشركين وأعوانهم وأن يُصلح من في صلاحه صلاحٌ للإسلام والمسلمين ويُهلك من في هلاكه عز وصلاح للإسلام والمسلمين وأن يلم شعث المسلمين ويجمع شملهم ويوحد كلمتهم وأن يحفظ بلادهم ويُصلح أولادهم ويشف مرضاهم ويُعافي مبتلاهم ويرحم موتاهم ويأخذ بأيدينا إلى كل خيرٍ ويعصمنا وإياهم من كل شر ويحفظنا وإياهم من كل ضُرٍ وأن يغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
والله المسئول أن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به نفعاً عاماً إنه سميعٌ قريبٌ مُجيبٌ على كل شيءٍ قدير.(1/351)
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا مُحمدٍ خاتم الأنبياء والمرسلين المبعوث رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين. ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
عبد العزيز المحمد السلمان
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض سابقاً(1/352)
خُطَبْ وَحِكَم وَأَحْكَام وَقَوَاعِدْ وَمَواعِظْ وَآدَابْ وَأَخْلاَق حِسَان
تَأْلِيفُ الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ
عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض
سابقاً
الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
(وقف لله تعالى)
ومن أراد طباعته إبتغاء وجه الله تعالى لا يريد به عرضاً من الدنيا، فقد أُذن له في ذلك وجزي الله خيراً من طبعه وقفاً لله، أو أعان على طبعه، أو تسبب لطبعه وتوزيعه على إخوانه المسلمين.
ملاحظة:
لا يسمح لأي إنسان أن يختصره أو يتعرض له بما يسمونه تحقيقا لأن الاختصار سبب لتعطيل الأصل والتحقيق أرى أنه اتهام للمؤلف، ولا يطبع إلا وقفا لله تعالى على من ينتفع به من المسلمين.
(فائدة عظيمة النفع لمن وفقه الله)
ما أنعم الله على عبد نعمة أفضل من أن عرفه لا إله إلا الله، وفهمه معناها، ووفقه للعمل بمقتضاها، والدعوة إليها.
أشرف الأشياء قلبك، ووقتك فإذا أهملت قلبك، وضيعت وقتك، فما بقى معك، كل الفوائد ذهبت، فانتبه لنفسك.
فوائد عظيمة النفع جدا لبعض العلماء رحمهم الله تعالى:
(1)
الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما أعمالا صالحة تربح وتحمد العاقبة الحميدة إن شاء الله تعالى.
(2)
الملائكة يكتبان ما تلفظ به فاحرص على أن لا تنطق إلا بما يسرك يوم القيامة من ذكر الله وما والاه.
(3)
اعلم أن قصر الأمل عليه مدار عظيم وحصن قصر الأمل ذكر الموت وحصن حصنه ذكر فجأة الموت وأخذ الإنسان على غرة وغفلة وهو في غرور وفتور عن العمل للآخرة. فاحفظ هذه الفوائد وأعمل بها تفلح وتربح إن شاء الله.
شعرا:
مُنَاي من الدنيا عُلُومٌ أَبُثُهَا ... وَأَنْشُرُهَا في كُلِّ بَادٍ وَحَاضِرِ
دٌعَاءٌ إِلى القٌرآن وَالسٌنَّةِ التِي ... تَنَاسَى رِجَالٌٌ ذكرها في المحَاضِر
وَقَدْ أَبْدَلُوهَا بِالجرائد تَارةً ... وَتِلْفَازِهم رَأْسُ الشُّرور المنَاكِرِ(2/1)
وَمِذْيَاعِهم أَيْضَا فَلا تَنْسَ شَرهُ ... فَكَمْ ضَاعَ مِن وَقْتٍ بها بِالخَسَائِرِ
163- وقال حبيب بن ثابت ما استقرضت من أحد شيئا أحب إلي من نفسي أقول لها أمهلي حتى يجيء من حيث أحب.
سَأَطْلُبُ بِالإِحمالِ ما أنا طَالِبُ ... وَإِني إِذَا مَا ضَاقَ رِزْقَ لِقَانِعُ
وَلَمْ تُدْنِنِي وَالحمدُ لله فَاقَةٌ ... إِلى طَمَعٍ تَدْعو إِلَيْهِ المَطَامِعُ
وَلا ضَرَعَتْ نفسي لشيءٍ أَنَالُه ... وَبَعْضُ الرِّجَالِ خَاشِعَ مُتَضَارِعُ
أَمُصُّ ثِمادِي والبِحَارُ غَزِيرةٌ ... لِئَلا يُرى عِنْدِي لِقَومٍ صَنَائِعُ
وَلَمْ يَتَعَبَّدنِي اللِّئَامُ بِمِنَّةٍ ... ولا أَنَا للشيءِ الذي فَاتَ تَابِعُ
وَإِنِّي لأَسْتَغْنِي فما أَبْطُرُ الغِنَي ... وَمَا المَالُ إلا عَارَةٌ وَوَدَائِعُ
164- إنكم لن تسعو الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم.
165- إن من كنوز البر الصبر على الرزايا ابتغاء وجه الله تعالى.
166- صديقك درهمك إذا سرحته فرج الله به همك وقضى به حاجتك فلله الحمد والمنه.
167- إنما تنصرون بضعفائكم.
168- إنما المجالس بالأمانة.
169- إنما يرحم الله من عباده الرحماء.
170- إياك والسامة والملل في أمور الدين.
171- إياك والطمع فإنه فقر عاجل.
172- إياك والطمع فإنه تعب طائل.
173- احذر لسانك واحترز من لفظه لا يهلكك.
174- إياك والقبول تحفة الخصوم فإنها رشوة والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فصل)
175- إياك والكذب وإن نفعك في الدنيا.
176- إياك وما يعتذر منه.
177- إياك ومن مودته قدر حاجته إليك.
178- الإيمان أمان بإذن الله.
179- بئس الشعار الحسد والحقد والغضب.
180- بئس الطعام الحرام والمشتبهات.
181- بادر لعمل الخير مهما أمكنك فإن الأجل يأتي بغتة.
182- بحسن المعاشرة تدوم المحبة بإذن الله جل وعلا.
183- البخل والشح واللؤم جامعات للمساوئ والعيوب.
184- البخل فقر عاجل والبخيل ذليل في الغالب.(2/2)
185- بالاستقامة على طاعة الله والعمل بكتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - تصلح الرعية.
186- ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا كان العنف في شيء إلا شانه.
187- بالرفق واللطف واللين تنقاد القلوب في الغالب بإذن الله.
تَلْقَي الكَريمَ فَتَسْتَدلُ بِبِشْرِهِ ... وَتَرَى العُبُوسَ على اللَّئِيم دَلِيلا
وَاعْلَمْ بِأَنَّك عَنْ قَرِيْبٍ صَائِرٌ ... خَبَرًا فَكُنْ خَبَرًا يَرُوْقُ جَمِيلا
188- بالتأني تسهل المطالب وبالعجلة يكثر الزلل
189- إحالة الأعمال وتأخيرها إلى وقت آخر يؤمل فيه الفراغ غلط وإضاعة للوقت وهو غرور ومن أين أن يصل إلى ذلك الوقت والموت يأتي بغتة يهجم على الإنسان من حيث لا يشعر وعلى تقدير وصوله إلى ذلك الوقت لا يأمن من شغل آخر يعرض له والفراغ من الأشغال نادر فانتبه لا تنخدع.
شعر:
وَلا تُؤخِّرْ إذا ما حَاجَةٌ عَرَضَتْ ... فَهُمْ يَقُولُون لِلتَّأخير آفاتُ
فَكَمْ مِن صَحِيْحٍ بَاتَ للموتِ آمنًا ... أَتَتْهُ المَنَايَا بَغْتَةً بعدما هَجَعْ
آخر
فَلَم يَسْتَطِعْ إِِذْ جَاءَهُ الموتُ بَغْتَةً ... فِرَارًا وَلا مِنْهُ بِحِيلتِهِ امْتَنَعْ
فَاصبَحَ تبكيهِ النِّسَاءُ مُقَنَّعًا ... وَلا يَسْمَعُ الدَّاعي وَلَوْ صَوْتُهُ رَفَعْ
وَقُرِّبَ من لَحْدٍ فَصَارَ مَقِيْلُهُ ... وَفَارَقَ مَا قَدْ كَانَ باِلأَمْسِ قَدْ جَمَعْ
فَلا يَتْرُكُ الموتُ الغَنيَّ لِمَالِهِ ... وَلا مُعْدِمًا فِي المَالِ ذا حَاجِةٍ يَدَعْ
آخر
سهامُ الموتِ تَقْصُدُ كُلَّ حَي ... وَمَنْ ذَا لَيْسَ تَقْصُده السِّهَام
190- بركة المال في أداء الزكاة بطيب نفس.
191- بر الوالدين من أكرم الطباع فإياك أن تهمله.
192- البر شيء هين وجه طلق ولسان لين.(2/3)
193- بالشكر لله تدوم النعم وتزيد قال الله تعالى: ( ((( - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - تمهيد - { ( المحتويات ( - ( الله أكبر - رضي الله عنهم - - - ( - - } ( [إبراهيم: 7].
194- الخلف قبيح وربما احتيج إليه للإصلاح.
195- العذر أنواع وربما حسن إذا أريد به الإصلاح وإذا اعتذر إليك أخوك المسلم أقبل عذره إذا لم يكن عليك ضرر.
شعرا:
اقْبَلْ مَعَاذِيرَ مَنْ يَأتِيكَ مُعْتَذِرًا ... إِنْ بَرَّ عندكَ فِيْمَ قال أَوْ فَجَرَا
فَقَدْ أَطَاعَكَ مَنْ يُرْضِيْكَ ظَاهرُهُ ... وَقَدْ أَجَلَّكَ مَنْ يَعْصِيكَ مُسْتَتِرَا
196- من تردى بثوب طاعة الله والسخاء غاب عن الناس عيبه في الغالب.
يُغَطَّي بالسَّمَاحَةِ كُلُّ عَيْبٍ ... وَكَمْ عَيْبٍ يُغَطِّيهِ السَّخَاءُ
197- كان بعضهم يوبخ نفسه فيقول عمل كالسراب وقلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب ثم تطمع في الكواعب الأتراب، هيهات أنت سكران بغير شراب.
198- العجب من ورثة الموتى كيف لا يزهدون في الدنيا وحطامها الفاني.
199- من التواني ما يكون سبب للحرمان وعرضةِ للآفات.
200- ويح ابن آدم كيف ينهر ولا يرعوي أم كيف يأمر ولا ينتهي.
201- حفظك ما في يدك خير من طلبك ما في يد غيرك.
هي النَّفْسُ والأخلاق للمرء مَلْبَسُ ... فَضَافٍ مُضِيءٌ أَوْ لَبِيْسٌ مُدَنَّسُ
فَخُذْ في جَلاءِ النَّفْسِ عَمَّا يشينها ... فَرُبَّ جَوَادٍ سَاءَ تَقْلاهُ أَنْفُسُ
إِذَا اسْتَمْسَكَ الإِنْسَانُ بِالدِّينِ واهْتَدَى ... نَجَا والحِجَي فَضْلٌ مِنَ اللهِ أَنْفَسُ
وَبُرْهَانُ عَقْلِ المرء حُسْنُ اتِّبَاعِهِ ... لِمَا جَاءَ فِي القُرآنِ يَتْلُو وَيَدْرُسُ
فَإِن شِئْتَ أَنْ تَحْيا سَعِيدًا مُنَعَّمًا ... فَوَالِ رَسُولَ اللهِ واتْبَعْهُ تَرْأَسُ(2/4)
... اللهم أنظمنا في سلك حزبك المفلحين، واجعلنا من عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين واغفر لنا ولولدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
202- تعفف عن أموال الناس يحبونك ويقربونك.
شعرا:
لا تَسْأَلَنْ إِلى صَدِيقٍ حَاجَةٌ ... فَيَحُوْلُ عَنْكَ كما الزَّمَانُ يَحُولُ
وَاسْتَغْنِ بالشيء القَليل فَإِنَّهُ ... مَا صَانَ وَجْهُكَ لا يُقال قليلُ
مَنْ عَفَّ خَفَّ عَلَى الصَّدِيْقِ لِقَاؤُهُ ... وَأَخُو الحَوائجِ وَجْهُهُ مَمْلُولُ
203- إخواني اعتبروا بالذين قطنوا فحزنوا كيف ظعنوا وحزنوا وانظروا إلى آثارهم تعلموا أنهم قد غبنوا لاحت لهم لذات الدنيا واغتروا وفتوا فما انقشعت سحب المنى حتى باتوا ودفنوا.
جَمَعُوا فَمَا أَكَلُو الذي جَمَعُوا ... وَبَنَوا مَسَاكِنهُم فَمَا سَكِنُوا
فَكَأنَّهُم كَانُوا بِهَا ظَعََنًا ... لِمَا اسْتَراحُوا سَاعَةً ظَعَنُوا
(نصيحة)
اسمع يا مضيع الزمان فيما ينقص الإيمان، معرضا عن الأرباح، ومتعرض للخسران، لقد سر بفعلك الشامت.
يا من يفرح بالعيد لتحسين لباسه، ويوقن بالموت وما استعد لبأسه ويغتر بإخوانه وأقرانه وجلاَّسه، وكأنه قد أمن سرعة اختلاسه.
يا غافلا قد طلب، ويا مخاصما قد غلب، ويا واثقا قد سلب، إياك والدنيا فما الدنيا بدائمة، لقد أبانت للنواظر عيوبها، وكشفت للبصائر غيوبها، وعددت على المسامع ذنوبها، وما مرت حتى أمرت مشروبها.
فلذاتها مثل لمعان البرق ومصيبتها واسعة الخرق، سوت عواقبها بين سلطان الغرب والشرق، فما نجا منها ذو عدد، ولا سلم فيها صاحب عدد ، مزقت الكل بكف البدد ثم ولت فما ألوت على أحد.
قال - صلى الله عليه وسلم - «سبعة يظلهم الله في ظله منهم رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله».(2/5)
اسمع يا من أجاب عجوزا هتماء عمياء صماء جرباء سوداء شوهاء مقعدة على مزبلة ولكن غلبت عليك محبتها عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - بطحاء مكة ذهبا فأبى أن يقبلها. - صلى الله عليه وسلم -
مَا هَذِه الدُّنْيَا بِدَارِ مَسَرةٍ ... فَتَخَوَّفي مَكْرًا لَهَا وَخِدَاعَا
بَيْنَا الفَتَى فِيْهَا يُسَرُّ بِنَفْسِهِ ... وَبِمَالِهِ يَسْتَمْتِعُ اسْتِمْاعَا
حَتَّى سَقَتْهُ مِنْ المَنيِّةِ شَرْبَةً ... وَحَمتْه فيه بعدَ ذَاكَ رَضَاعَا
فَغَدا بِمَا كَسَبَتْ يَدَاهُ رَهِيْنَةً
... لا يَسْتَطِيْعُ لِمَا عَرَتْهُ دِفَاعَا
لو كَانَ يَنْطِقُ قال مَنْ تَحْتَ الثَّرى
... فَلْيُحْسِن العَمَلَ الفَتَى ما اسْتَطَاعَا
مواعظ ونصائح وحكم
204- الجهل مطية من ركبها ذل والجهل داء قاتل وهو أشد من الفقر وجواب الجاهل السكوت.
205- الحرص رأس الفقر وهو محقرة ومن علامات الشقاوة والحريص فقير ولو كثر ملكه.
206- حسن العهد من الإيمان وحسن اللقاء والبشاشة يولدان الألفة والإخاء بين المؤمنين والمحبة.
207- الحزن يهدم الجسد وهو مرض الروح.
208- الجود بذل الموجود وهو حارس العرض من الذم في الغالب والجواد من بذل ما يضن به أي ما يبخل به.
209- خير سلاحك ما وقاك الله به وخير إخوانك من واساك وخير الأعمال ما دبر بالتقوى وخير الأمور الوسط، وخير الكلام ما صادف محله ومن خير ما أعطي المؤمن خلق حسن.
وقال وهيب: الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس بينهما حرون، فإذا قاد القائد ولم يسق السائق لم يغن ذلك شيئا.
وإذا ساق السائق ولم يقد القائد لم يغن ذلك شيئا، وإذا قاد القائد وساق السائق اتبعته النفس طوعا وكرها وطاب العمل.
قال بعضهم يوبخ نفسه ويعظها: يا نفس بادري بالأوقات قبل إنصرامها، واجتهد في حراسة ليالي الحياة وأيامها.(2/6)
فكأنك بالقبور قد تشققت، وبالأمور وقد تحققت، وبوجوه المتقين وقد أشرقت ، وبرءوس العصاة وقد أطرقت، قال تعالى وتقدس: ( ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه - - - - ( - ( { - - قرآن كريم ( تم بحمد الله ( - ( - ( - ( - - - } - قرآن كريم ( - ( - - - رضي الله عنه - الله أكبر ( المحتويات ( - ( - - صلى الله عليه وسلم -((( - - رضي الله عنهم - - - (( ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( فهرس - - عليه السلام - - - - - - جل جلاله -( - - عليه السلام - - - - رضي الله عنه - الله أكبر ( - - (( - - صلى الله عليه وسلم - - - - عليه السلام - - ((( - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - جل جلاله -((( - ( - - - - ( ( - - رضي الله عنهم - - ((- رضي الله عنه - الله أكبر - ( - ( - ( - ( - ( الله أكبر ( { - - قرآن كريم ( - ( - قرآن كريم ( تم بحمد الله ( [السجدة: 12]. يا نفس أما الورعون فقد جدوا، وأما الخائفون فقد استعدوا وأما الصالحون فقد فرحوا وراحوا وأما الواعظون فقد نصحوا وصاحوا.
العلم لا يحصل إلا بالنصب والمال لا يجمع إلا بالتعب، أيها العبد الحريص على تخليص نفسه إن عزمت فبادر وإن هممت فثابر واعلم أنه لا يدرك العز والمفاخر من كان في الصف الآخر.
دَبُّوا إلى المجدِ وَالسَّاعُونَ قَدْ بَلغُوا ... جُهْدَ النُفُوس وَشَدُّوا دُوْنَه الأَزُرَا
وَسَاوَروا المَجْدَ حَتَّى مَلَّ أَكْثَرُهُم ... وَعَانَقَ المَجْد مَنْ وَافَى وَمَنْ صَبَرا
لا تَحْسَبِ المَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكلهُ ... لَنْ تَبْلُغَ المَجْدَ حتى تَلْعَق الصَّبَرا
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
211- ليس بالتحفظ في الأمور يسلم من المقدور.
212- من تردى بثوب السخاء غاب عيبه عن الناس في الغالب.
213- من أيقن بالآخرة استعد لها ورغب في الصبر.(2/7)
214- الإفراط في العتاب والتوبيخ يدعو إلى المقاطعة والاجتناب والعداوة غالبا.
215- من نم عندك نم بك في الغالب وتدبر.
216- رب أخ لك لم تجمعك به ولادة ولا قرابة.
217- صلة الرحم وبر الوالدين وحسن العمل بركة في العمر.
218- ذم الإنسان نفسه في الملأ مدح لها في الغالب.
219- مدح الغائب تعريض بذم الحاضر في الغالب.
220- شفاء الصدور في العمل بالكتاب والسنة والتسليم للمقدور.
221- إذا لم تقبل الحجة منك فالسكوت أولى بك.
222- إذا جرى القدر عمي البصر.
223- إن غلبت على القول فلا تغلب على الصمت.
224- حسبك من الدين مراقبة الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وحسبك من المال ما نفعك.
225- لا ينطق لسانك إلا بذكر الله وما والاه إن كنت عاقلا.
أَعِدْ ذِكْرَ قال الله قال رَسُولُهُ ... هُمَا المِسْكُ مَا كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ
226- من حكم فليتق الله وليعدل ومن قضى فليتق الله وليفصل والله الموفق للصواب.
227- إذا صدق العيان لم يحتج إلى برهان.
228- السلام والطلاقة وحسن البشر ربما زرعا المودة في القلوب بإذن الله تعالى وتقدس.
229- العمر يسير وهو يسير فاقصروا عن التقصير في القصير مر العمر والغمر مشغول عن ما ذهب بالذهب.
شعرا:
تَفُوزُ بِنا المَنون وَتَسْتَبد ... وَنَهْلِكُ في الزَّمَانِ وَنُسْتَرَدُ
وَنَنْظُرُ مَاضِيا فِي إِثْرِ مَاضٍ ... لَقَدْ أَيْقَنْتُ أَنَّ الأَمْرَ جِدُّ
رُوَيْدًا بِالفِرَار مِنْ المَنَايَا ... فَلَيْسَ يَفوتُهَا السَّارِي المَجِدُ
فَأَيْن مُلوكنا الماضينَ قدمًا ... أَعَدُّوا النَّوائِبِ وَاسْتعدُّوا
أَصَابوا في الزَّمَانِ نَعِيْما عَيْشٍ ... فَيَا سَرعانَ مَا اسْتُلِبُو وَرَدُّوْا
هُمُ فَرَطٌ لَنَا في كُلِّ يَومٍ ... نَمُدُّهُمُ وَإِنْ لَمْ يَستَمِدُّوا
230- العجلة تكنى أم الندامة وربما أعقبت ريثا إلا في أمور الدين المأمور بالمبادرة فيها.(2/8)
231- التجارب تنفع غالبا بإذن الله والعاقل يستزيد منها ليقوي عقله بإذن الله.
232- كفر النعمة لؤم وصحبة الجاهل والأحمق شؤم والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فصل)
233- من خير المقال ما صدقه الفعال.
234- الأحمق لا يبالي بما قال، والعاقل يتعاهد المقال، ولا يتكلم إلا بما يرى فيه له نفع في الدنيا والآخرة.
235- من غلب عليه الكبر والعجب ترك مشورة الرجال غالبا واستبد برأيه وضاع.
236- احذر تودد الحسود وإن زعم أنه ودود.
237- إذا جهل عليك الأحمق والسفيه فعامله بالحلم.
شعرا:
إِذَا فَاهَ السَّفيهُ بِسب عَرْضِي ... كَرِهْتُ بَأَنْ أَكُونَ لَهُ مُجِيْبَا
يَزيدُ سَفَاهَةً وَأَزِيْدُ حِلما ... كَعُودٍ زَادَهُ الإِحْراقُ طِيْبَا
آخر:
قَالَ سَكَتَ وَقَدْ خُوصمتَ قُلْتَ لَهُمْ ... إِنَّ الجَوابَ لبَاب الشَّر مفتاحُ
الصَّمْتُ عن جاهل أو أَحْمَقٍ شرف ... أَيْضًا وَفِيْه لِصَونِ العِرْضِ إِصْلاحُ
أَمَا تَرَى الأَسْدَ تُخشَى وهي صامتةٌ ... وَالكَلْبُ يَخشي لَعَمْرِي وَهو نَبَّاحُ
238- لا حليم إلا ذو عثرة.
239- الزائر لمن يستثقله مذل نفسه ومهين لها، من جالس عدوه فليحترس من منطقه.
240- من اشتهر وعرف بالصدق عبر كذبه بناء على الغالب.
241- من اشتهر بالكذب لم يعبر صدقه بناء على ما اشتهر منه.
242- من عرف من نفسه الكذب لم يصدق الصادق.
243- مؤمل النفع من البخلاء واللئام كمبتغي الماء من السراب والحوت في البراري والصحاري.
244- من قل خير على أهله فلا ترج خيره أبدا.
245- الإكثار من الملامة يذهب المودة غالبا.
246- من ألح في المسألة على غير الله استحق الحرمان.
247- صحبة الفاسق شين وتدل على أن المصاحب له ضعيف العقل والدين.
248- العجز والكسل والتواني، مولدات الفقر والحسرة والندامة والذلة في الدنيا والآخرة.
249- من تفرغ للشر يطلبه، سلط عليه من يغلبه.(2/9)
250- من أمل أحدا رجاه وهابه ومن لم يدرك لشيء عابه فعلق رجاءك وأملك بالله جل جلاله.
251- لا يضر العلماء قدح السفهاء والجهلة والفسقة والمغرضين والمنافقين كما لا يضر السحاب نباح الكلاب.
252- من سعى إليك سعى عليك غالبا ومن نم عندك نم بك في الغالب فتحفظ.
253- أخر الشر والعقوبة حتى يسكن غضبك فربما رجعت إلى الحق وتركت الشر لأهله.
254- بلاء الإنسان في الغالب من اللسان والفرج.
255- بطيب السريرة تحمد السيرة بإذن الله تعالى.
256- بالعدل قامت السموات والأرض.
257- بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا.
258- التثبت في الأمور حزم والتبذير يدمر الكثير.
259- التحية تزرع المودة في القلوب في الغالب.
260- التثبت طريق إلى الإصابة لمن وفقه الله.
261- ترك الذنب أيسر من طلب التوبة فتنبه.
262- التقوى ذخيرة المعاد فالزمها.
263- حصول السعادة بطاعة الله وتوفيقه لمكارم الأخلاق.
264- ثمرة العلم النافع بثه ونشره بين العباد.
264- تهادوا تحابوا وتواضعوا لله يرفعكم الله.
266- التواضع يورث المحبة بإذن الله تعالى.
267- من توكل على الله جل جلاله كفاه وحفظه.
«فصل»
التودد إلى عباد الله المستقيمين على اتباع الكتاب والسنة من علامات رجاحة العقل.
268- التواضع من أخلاق الكرام.
تمام المعروف والإحسان تعجيلهما وسترهما.
269- أول من يزهد في الغادر من غدر له وأول من يمقت ويبغض شاهد الزور من شهد له وأول من تهون الزانية بعينه من زني بها لأنه كشف سترها والعياذ بالله.
270- الباخل بالعلم ألأم وأخس من الباخل بالمال لأن الباخل بالمال يخاف من ذهابه والباخل بالعلم بخل بما يزيد وينمى ويثبت مع البذل له.
271- حد البخل الامتناع عن ما يجب عليه أو الامتناع عن بعضه مع القدرة عليه، وحد الجود بذل الفاضل في وجوه البر والإحسان إلى عباد الله المؤمنين.
إذ نِلْتَ مِنْ دُنياك خَيرًا فَجُدْ بِهِ ... فَإِنَّ لِجَمعِ الدَّهْرِ من صَرْفِهِ شَتَّى(2/10)
فَكَمْ مِن مُشَتٍ لَمْ يُصيِّفُ بأهْلِهِ ... وَآخَرُ لَمْ يُدْرِكْهُ صَيْفٌ إِذا شَتَى
272- أجل العلوم وأنفعها وأحسنها ما قربك إلى الله، وما أعانك على طاعته ورضاه.
273- منفعة العلم في استعمال الفضائل عظيمة وهو أن يعلم حسن الفضائل فيأتيها ويعلم قبح الرذائل فيجتنبها ويسمع الثناء الحسن على الطاعات فيرغب فيها ويجد ويجتهد فيها ويسمع قبح الرذائل فينفر منها ويبتعد عنها.
274- انظر في المال والحال والصحة إلى من هو دونك وانظر في العلم والدين والأخلاق الفاضلة إلى من هو فوقك لتجمع بين التواضع وعلو الهمة.
275- من استخف بشيء من حرمات الله فلا تأمنه على شيء مما تخاف عليه وكن منه على حذر دائما لأن من لا يخاف الله لا يؤمن على شيء أبدا.
276- لا تغتر بكلام المنافقين والنمامين والمغتابين عمي البصائر الذين يصفون اليهود والنصارى وسائر الكفار بالوفاء والصدق والإخلاص، ويصفون المؤمنين بالتغفيل والغدر والخيانة والغش والعياذ بالله، ويختارون الكفار لأعمالهم فالكفار لم يفوا مع الله جل وعلا الذي خلقهم ورزقهم بل خانوا الله ورسوله والمؤمنين وحذرنا الله جل جلاله عنهم فإياك ثم إياك أن تغتر بكلام المنافقين فتمدح أعداء الله ورسوله والمؤمنين فتهلك مع من هلك.
277- النصحية مرتان فالأولى فرض وديانة لأخيك المسلم والثانية تنبيه وتذكير وأما الثالثة فتوبيخ وتقريع مع القدرة إن أمكن ولم يحصل عليك أو على من حولك ممن يتصل بك ضرر.
278- النصح يكون سرا لا جهرا عند الناس وبتعريض لا تصريح إن خفت أن ينفر وإن لم يفهم التعريض فلا بد من التصريح ولا تنصح على شرط القبول منك فإن تعديت فأنت مخطئ.
279- قال بعض العلماء الزم الأدب وفارق الهوى والغضب واعمل في أسباب التيقظ واتخذ الرفق حزبا والتأني صاحبًا والسلامة كهفا والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
موعظة(2/11)
أيها العبد حاسب نفسك في خلوتك وتفكر في سرعة انقراض مدتك واعمل بجد واجتهاد في زمان فراغك لوقت حاجتك وشدتك.
وتدبر قبل الفعل ما يملى في صحيفتك وانظر هل نفسك معك على الشيطان والهوى والدنيا أو عليك في مجاهدتك.
لقد سعد من حاسبها وفاز من حاربها وقام باستيفاء الحقوق منها وطالبها وكلما قصرت أو ونت عاتبها وكلما توقفت جذبها.
قال عليه الصلاة والسلام «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني».
وقال عمر: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وطالبوها بالصدق في الأعمال قبل أن تطالبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غدا وتزينوا للعرض الأكبر: ( - - ((- رضي الله عنه - تم بحمد الله ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((- رضي الله عنه - - ((( - - صدق الله العظيم - - - - ( - - صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - ( تم بحمد الله ( { - عليه السلام - - (( - - } ( [الحاقة: 18] .
اللهم ألحقنا بعبادك الصالحين الأبرار، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
280- قال أحد العلماء: اعلم أن الذي يقضي منه العجب حالة الإنسان في غفلته عن الاهتمام بأمر الموت وفي عدم الروعة منه مع تيقنه أنه لا بد له منه وأنه في حال السعي إليه لا يفتر عن ذلك لحظة.
شعرا:
أَتْطَمعُ أَنْ تُخَلَّدَ لا أَبَالَكْ ... أَمِنْتَ يَدَ المَنيَّةِ أَنْ تَنَالَكْ
أَمَا والله إِنَّ لَهَا رَسُولا ... بِهِ لَوْ قَدْ أَتَاكَ لِمَا أَقَالَكْ
كَأَنِّي بالتُّراب عَليك يُحْثَى ... وَبِالبَاكِين يَقْتَسِمُونَ مَالَكْ
ْ(2/12)
أَلا فَاخْرُجْ مِن الدُّنْيَا سَلِيْمًا ... وَرَجّ من المَعَاشِ بِمَا رَجَالَكْ
فَلَسْتُ مُخَلِفًا في النَّاسِ شَيْئًا ... وَلَسْتُ مُزَودًا إِلا فِعَالَكْ
281- ما شيء أضيع وأضعف من عالم ترك الناس علمه لفساد طريقته، وما شيء أضيع وأضعف من جاهل أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته.
282- من علامات الاستدراج العمى عن العيوب وصرف نعم الله في معاصيه.
283- ثبات الملك يحصل لمن وفقه الله للعدل والاستقامة.
284- الثقة بالله أزكى أمل والعمل الصالح أحسن عمل.
285- الجاهل من يعصي الله في طاعة هواه والشيطان والنفس الأمارة بالسوء.
286- الحازم من اتقى الله وعمل بما يرضيه.
287- الحركة ولود والسكون عاقر.
288- الحسد يذيب الجسد ويطيل النكد والكمد.
289- الحسد آفة الدين وداعية النكد ومطية التعب.
290- الحق ينجي بإذن الله والباطل يردي.
291- خير المال ما أنفق في سبيل الله وما وقى به المؤمن عرضه.
292- خير المواهب العقل مع الدين والأدب.
293- الاعتماد على الله والتمسك بدينه والثبات عليه أقوى عصمة واعتماد.
294- رأس البر تقوى الله والورع عما حرم الله.
295- رأس الدين تقوى الله وصحة اليقين.
296- رأس العلم اتباع الكتاب والسنة وما استمد منهما.
297- أسس المآثم الكذب والكفر والنفاق والغش.
298- رب مبلغ أوعى من سامع ورب مشير بما يضر ورب ملوم لا ذنب له ورب هزل قد عاد جدا.
299- الرفق مفتاح القلوب والسعيد من وعظ بغيره وسرور الدنيا كأحلام النائم والسراب اللامع.
قال بعضهم:
حبال الدنيا تغر الغر، المتمسك بها
يلعب بلعاب الشمس الدنيا كالمرأة الفاجرة لا تلبث مع زوج.
مَيَّزْتُ بَيْنَ جَمَالِهَا وَفِعَالِهَا ... فَإِذَا المَلاحَةُ بِالقَبَاحَةِ لا تَفِي
حَلفَتْ لَنَا أن لا تَخُونَ عُهودَهَا ... فَكَأنَّها حَلَفَتْ لَنَا أَنْ لا تَفِي
وقال آخر:
نَجِّ نَفْسًا عَنْ القَبِيحِ وَصُنْها ... وَتَوَقَّ الدُّنْيَا وَلا تَأَمَنَنْهَا(2/13)
لا تَثِقْ بِالدُنا فَمَا أَبْقَتِ الدُّنْيَا ... لِحَي وَديعةً لَمْ تَخُنْهَا
إِنَّمَا جِئْتَهَا لِتَسْتَقبلَ المَوتَ ... وَأَسْكِنْتَهَا لتُخْرِجَ عَنَّهَا
سَتُخَلِّي الدُّنْيَا وَمَالَكَ إِلا ... مَا تَبَلَّغْتَ أَو تَزَوَّدْتَ مِنْهَا
وَسَيَبْقى الحَديثُ بَعْدَكَ فَانْظُر ... خَيْرَ أُحدُوثةٍ تَكُونُ فَكُنَّها
300- أعظم الظلم وأفحشه وأقبحه الشرك بالله.
301- الظالم لئيم وظلم الضعيف من أفحش الظلم وأخبثه.
302- الظلم ظلمات يوم القيامة، وعاقبته وخيمة وهو مسلبة للنعم ومجلبة للنقم.
303- العاقل من أطاع الله وعقل لسانه ووعظته التجارب، والجاهل من يعصي ربه في طاعة هواه.
304- عظ المسيء بحسن أفعالك، وعظ الناس بعملك وقولك فلا خير في قول يخالف الفعل.
305- العلم حياة القلوب، وهو خير من المال، وهو وراثة كريمة.
306- عمل البر خير صاحب، وهو عنوان على الطوية والعمل حياة والبطالة موت حاضر.
307- العمر أنفاس معدودة، وتفنيه اللحظات.
308- الغضب مفتاح الشرور، وربما أفسد الإيمان والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فصل)
309- الفرصة تمر مر السحاب فاغتنمها في طاعة الله.
310- وقال آخر ذهبت الأيام وكتبت الآثام وإنما ينفع الملام متيقظًا والسلام.
وَعَظَتْنا بِمَرِهَا الأَيْام ... وَأرَتْنَا مَصَيْرَنَا الأَرْجَامْ
وَدَعَتْنا المنونُ في سنةِ الغَفلة ... هُبُّوا واسْتيقِظوا يَا نِيْام
لَيْتَ شِعْري ما يَتَّقي المرء والرَّامي ... لَهُ الموتُ وَالخطوبُ سِهَامْ
مَنْهَلٌ وَاحدٌ شَرائعُهُ شَتَّى ... وَعليه للوَارِدِين ازْدحامْ
نَتَحَامَاهُ مَا اسْتَطَعْنَا وَتَحْدُو ... نَا إليه الشُّهورُ والأعوامْ
وَإِذَا رَاعَنا فَقيدٌ نَسِيْناهُ
... تَنَاسِي مَا رَاعَهُنَّ السَّوامْ
أَوْقُوفًا عَلَى غُرُورٍ وَقَدْ زَلَّتْ ... بِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا الأَقْدامْ(2/14)
وَوَرَاءَ المَصِير في هَذهِ الأَجْدا ... ثِ دَارٌ يَكونُ فِيْهَا المَقَامْ
311- قرب الصالحين داع للصلاح وقرب الأشرار والركون إليهم مضرة على العقول والأبدان والأديان والأخلاق.
312- الغفلة عن ذكر الله وما ولاه أشد الأعداء ضررا على الإنسان فإياك أن تغفل عن ذكر الله ولا لحظة.
شعر:
مَا دُمْتَ تَقْدِرْ فأكْثِرْ ذِكْرَ خَالِقَنا ... وَأَدِّ وَاجِبَهُ نَحْوَ العِبَادَاتِ
فَسَوْفَ تَنْدَمُ إَنْ فَرَّطْتَ في زَمَنٍ ... مَا فِيْهِ ذِكْرٌ لِخَلاقِ السَّمَواتِ
313- لا تقل بغير تفكير، ولا تعمل بغير تدبير، ولا تستبد بتدبيرك واعتمد على الله في جميع أمورك.
314- جمال المرء في تقواه واستقامته على طاعة الله ومتابعته للكتاب والسنة.
315- مخالطة الكفار والمنافقين والفسقة مفسدة عظيمة، وهدم للدين، والشرف والأخلاق.
316- الجنود المتمسكين بالكتاب والسنة المعتمدين على الله، حصون البلد بإذن الله تعالى.
317- ثبات الملك بإذن الله بالعدل والاستقامة على اتباع الكتاب والسنة والعمل بهما.
عَليكَ بِالعَدْلِ إِنْ وُلِيْتَ مَمْلَكَةً ... وَاحْذَرْ من الجَوْرِ فِيْهَا غَايةَ الحَذَر
فَالمُلكُ يَبْقَى مَعْ الكُفر البَهِيْمِ وَلا ... يَبْقَى مَعَ الجَوْرِ فِي بَدْوٍ لا حَضَرِ
318- ينبغي للرئيس أن يبتدي بتقويم نفسه قبل أن يبتدي بتقويم رعاياه.
يَا أَيُّهَا الرَّجلُ المُعلمُ غَيْره ... هَلا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَعليمُ
تَصف الدَّواءَ للسِقامِ مِنْ الضِنى ... كَما يَصِحُ به وأنت سقيمُ
319- التوكل على الله كفاية، والتوفيق رحمة وهو أول النعمة.(2/15)
320- جنة الرجل المسلم في الدنيا المسجد وبيته إن كان فيه ما يحثه على طاعة، وليس فيه شيء من المحرمات كالصور، والتليفزيون، والفيديو، والمذياع، والخدامين، والخدامات، الذين لا يصلون أو جاءوا من بلادهم بدون محرم، والعياذ بالله فاحذر وحذر عن هذه الأشياء كلها بكل ما تقدر من التحذير عنها وابتعد عنها واسأل ربك الثبات وأن يبعدك عنها.
شعرا:
ألا أيَّها اللاهي وقد شاب رأسُهُ ... أَلَمَّا يَزعْكَ الشَّيْبُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ
أَتَصْبُوا وَقَدْ نَاهَزْتَ خَمْسينَ حِجَّةً ... كَأَنَّكَ غِرٌ أو كَأَنَّكَ يَافِعُ
حَذَارِ مِن الآفَاتِ لا تَأَمَنَّنها ... فَتَخْدَعُكَ الآفاتُ وَهِي خَوَادعُ
أَتَأَمَنُ خَيْلا لا تَزَالُ مُغيرةً ... لَهَا كُل يَوْمٍ في أُنَاسٍ وَقَائِعُ
وَتَأملُ طُولَ العُمْرِ عندَ نَفَادِهِ ... وَبِالرأسِ وَسْمٌ لِلْمَنيَّةِ لامِعُ
يُرجى الفَتَى وَالمَوتُ دُونَ رَجَائِهِ ... وَيَسْرِي لَهُ سَارِي الرَّدَي وَهو هَاجِعُ
هاجع
تَرَحَّلْْ من الدُّنْيَا بِزَادٍ مِنَ التُّقَى ... فَإِنَّكَ مَجْزِيٌ بِمَا أَنْتَ صَانِعُ
321- احرص أن يكون دعاؤك في أوقات الإجابة وذلك عندم تسمع الأذان وعندما يدخل الإمام يوم الجمعة للخطبة وفي آخر الليل وفي آخر ساعة من يوم الجمعة وبين الأذان والإقامة.
322- من أفضل العبادات انتظار الفرج من الله والإلحاح على الله بالدعاء فإن الله يحب الملحين في الدعاء والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(فصل)(2/16)
قال بعض العلماء رأيت من البلاء العجاب أن المؤمن يدعو الله فيكرر الدعاء وتطول المدة ولا يرى أثرا للإجابة فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلاء الذي يحتاج إلى الصبر وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب ولقد عرض لي من هذا الجنس فإنه نزلت بي نازلة فدعوت وبالغت فلم أر الإجابة فأخذ إبليس يجول في كيده فتارة يقول الكرم واسع والبخل معدوم فما فائدة تأخير الجواب فقلت اخسأ يا لعين ثم عدت إلى نفسي فقلت إياك ومساكنة وسوسته فإنه لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك المقدر في محاربة العدو لكفى في الحكمة وقد ثبتت حكمته جل وعلا بالأدلة القاطعة فربما رأيت الشيء مصلحة والحق أن الحكمة لا تقتضيه وقد يكون التأخير مصلحة والاستعجال مضرة وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا يزال العبد في خير ما لم يستعجل يقول دعوت فلم يستجب لي».
وقد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك فربما يكون في مأكولك شبهة أو قلبك وقت دعائك غافل أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك لذنب ما صدقت في التوبة منه وينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب فربما كان في حصوله زيادة إثم أو تأخير عن مرتبة خير فكان المنع أصلح وربما كان فقد ما فقد للاشتغال به عن المسئول وهذا هو الظاهر بدليل أنه لولا النازلة ما لجأ وتضرع إلى الله اهـ.
323- رب أخ لك لم تلده أمك، ورب بعيد أقرب من القريب، ورب أمنية جلبت منية، ورب حال أفصح من لسان، ورب سكوت أبلغ من كلام، ورب ساع فيما يضره، ورب عطب تحت طلب، ورب مبلغ أوعى من سامع، وملوم لا ذنب له.
324- رب كلام جوابه السكوت ورب عمل الكف عنه أفضل ورب خصومة الإعراض عنها أصوب.
325- العجب ممن يحتمي من المآكل الرديئة ولا يترك الذنوب مخافة رب العالمين ويستحي من الخلق ولا يستحي من الله الذي لا تخفى عليه خافية.
326- التواني والعجز والتماهن، إضاعة ومن أسباب الإفلاس، والفقر، والتدهور.(2/17)
327- من شغل نفسه بأدنى العلوم وترك أعلاها وهو يقدر على تعلم الأعلى كان كمن يغرس الإثل والسدر ونحوهما في الأرض التي يزكو وينمو فيها النخيل والرمان والتفاح والبرتقال والزيتون وأعلى العلوم التوحيد والتفسير والحديث والفقه.
328- نشر العلم على من ليس من أهله مفسد لهم كإطعامك التمر والحلوى ونحوهما لمن به مرض السكر وكإطعامك الحوار كالفلفل ونحوه مما هو شديد الحرارة لمن به قرحة معدة وبواسير.
329- من رأى نفسه تميل إلى علم من علوم الشريعة كالتفسير والتوحيد والحديث والفقه فليقبل عليه وليحمد الله على ذلك ولا يشتغل بغيره حتى يمهر فيه.
330- من شغله طلب الدنيا عن الآخرة، ذل إما في الدنيا وإما في الآخرة ومن نظر في سيرة السلف عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الكمال.
331- كان السلف أحرص ما يكونون على أوقاتهم لأنهم يعرفون قيمة الوقت يقول الحسن البصري أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم وقال يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة كلما ذهب يوم ذهب بعضك.
332- قال ابن مسعود ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي.
333- من جهل قيمة الوقت الآن فسيأتي عليه يوم يعرف فيه قيمة الوقت ولكن بعد فوات الأوان ويتمنى أنه شغل وقته الماضي الذي أهمله بالباقيات الصالحات من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير وقراءة قرآن وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
لله در العارفين بزمانهم إذا باعوا ما شانهم بإصلاح شأنهم ما أقل ما تعبوا وما أيسر ما نصبوا شمروا عن سوق الجد في سوق العزائم وجادوا مخلصين فربحوا إذا خسر النائم.
فَكَمْ هَذَا التَّصَامُمُ وَالتَّعَامِي ... وَكَمْ هَذَا التَّغَافُلِ وَالتَّوانِي
فَلَوْ أَنَا فَهِمنا عن خَرَاب الديا ... ر مَقَالَهَا لَم يَبْن بَانِ
وَيَجْني العَيْشُ كلَّ أَذى وَيُهْوى ... فَيَا للعَيْشِ يُعْشقُ وَهو جَانِ(2/18)
فَلِلَّهِ الأولي دَرَجوا جميعًا ... وَزَادهم النَّجَاءُ مِنَ البَنانِ
وَلَمَّا أَنْ رَضوا شُعثَ النَّواصِي ... تُقي وَهَبُوا التَّصَنُعِ لِلْغَوَانِي
آخر:
تَبْنِي المَنَازِلَ أعمال مُهَدَّمةٌ ... من الزَّمانِ بِأَنفاسٍ وَسَاعاتِ
آخر:
وَنَبْنِي القُصُورَ المشمخِراتِ في الهَوا ... وَفِي عِلْمنا أنَّا نَمُوتُ وَتَخْرَبُ
334- وقال أحد الحكماء القلب مثل البيت الذي له ستة أبواب ثم قيل احذر أن لا يدخل عليك من أحد الأبواب شيء فيفسد عليك البيت والِأبواب هي العينان واللسان والسمع والبصر واليدان والرجلان فمتى انفتح باب من هذه الأبواب بغير علم ضاع البيت.
335- قيل لأحد الفقراء الأذكياء الزهاد في الدنيا وحطامها ما أفقرك فقال لو عرفت راحة الفقر لشغلك التوجع لنفسك عن التوجع لي فالفقر ملك ما عليه محاسبة.
336- قيل لمحمد بن واسع رحمه الله أترضى بالدون فقال إنما رضي بالدون من رضى بالدنيا بدلا من الآخرة.
337- وقال زاهد لملك أنت عبد عبدي لأنك تعبد الدنيا لرغبتك فيها وأنا مولاها لرغبتي عنها وزهدي فيها.
338- قيل لأحد الزهاد أترضي من الدنيا بهذه الحالة فقال ألا أدلك على من رضي بدون هذا قال نعم قال من رضي بالدنيا بدلا من الآخرة.
339- العاقل حقيقة هو من آثر طاعة الله على المعصية وآثر العلم النافع وهو ما جاء عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على الجهل وآثر الدين الإسلامي على الدنيا وكف أذاه عن الناس.
340- شر المقال ما أوجب الملام وشر الناس من يتقيه الناس إتقاء شره، والشقي من جمع لغيره والشرف التمسك بالدين الإسلامي بهمة عالية.
341- قيل من علامات التوفيق للإنسان دخول أعمال البر عليه من غير قصد لها، وصرف المعاصي عنه مع سعيه إليها وفتح باب الالتجاء والافتقار إلى الله تعالى في كل الأحوال، واتباع السيئة الحسنة، وعظم الذنب في قلبه وإن كان من صغائر الذنوب والإكثار من ذكر الله وحمده وشكره والاستغفار.(2/19)
أَيا مَن لَيْسَ لي مِنْهُ مُجيْرٌ ... بِعَفْوكَ مِن عَذَابك أَسْتجِيْرُ
أَنَا العَبْدُ المُقِرُّ بِكُلِّ ذَنْبٍ ... وَأَنْتَ السَّيْدُ المَولَى الغَفُوْرُ
فَإِنْ عَذَّبْتَنِي فَبِسُوءِ فِعْلِي ... وَإِنْ تَغْفِرْ فَأَنْتَ بِهِ جَدِيْرُ
أَفِرُّ إِِليكَ مِنْكَ وَأَيْنَ إِلا ... إِليكَ يَفِرُّ مِنْكَ المُسْتَجِيْرُ
وصلى الله على محمد وآله أجمعين
(فصل)
342- من علامات الخذلان وقلة التوفيق تعسر فعل الطاعات على الإنسان مع السعي فيها ودخول المعاصي عليه مع هربه منها وغلق باب الالتجاء إلى الله وترك التضرع والدعاء واتباع الحسنة بالسيئات واحتقاره لذنوبه وعدم الاهتمام بها وإهمال التوبة منها ونسيانه لربه.
343- المراقبة في ثلاثة أشياء مراقبة الله في طاعته بالعمل الذي يرضيه ومراقبته عند ورود المعصية بتركها ومراقبته في الهم والخواطر والسر والإعلان.
344- رأى رجل أحد الحكماء يأكل ما تساقط من البقل على رأس الماء، فقال له لو خدمت السلطان لم تحتج إلى أكل هذا فقال الحكيم، وأنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى خدمة السلطان.
345- قال رجل لآخر كيف حالكم مع السلطان قال كما قال الله جل جلاله: { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } .
346- الشقي من جمع لغيره وأهمل نفسه والشؤم سوء الخلق والشرف بالهمم العالية لا بالرمم البالية.
347- صدق الإخاء في الشدة والرخاء وصحبة الجاهل شؤم وصداقته تعب وعناء ومشقة فأحذره.
وَلَيْسَ خَلِيلي بَالملُولِ ولا الذي ... إِذَا بِنْتُ عَنْهُ بَاعنى بِخَلِيْلِ
وَلَكِنْ خَلِيلِي مَنْ يَدُومُ وَصَالُهُ ... وَيَحْفَظُ سِرِّي عِنْدَ كُلِّ دَخِيْلِ
348- صنائع المعروف تقي مصارع السوء وصلة الرحم تزيد في العمر والصفح الجميل من أحسن الشيم والصدق منجاة وكرامة.(2/20)
349- المصائب في الدنيا عند الاشتراك فيها تهون أما في الآخرة فلا، قال الله تعالى عن أهل النار: { وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ }
شعرا:
واخَجلَةِِ القَلْبِ مِن إِحْسَانِ سَيْدِهِ
وَاحَيْرةَ القَلْبِ مِنْ أَلْطَافِ نَعْمَاهُ
واح
وَاحَسْرةَ الطَّرْفِ كَمْ يَرنُوا لِخائِنةٍ ... مِن المآثِم لا يَرْضَى بِهَا الله
فَكَمْ أَسَاتُ وبِالإِحْسَانِ عامَلني ... واخَجْلتي واحيائي حِيْن ألقَاهُ
وَكَمْ لهُ مِنْ أَيادٍ غَيْرِ واحدةٍ ... وَافَتْ إِلى تُريْنِي أَنْهُ الله
بِلُطْفِهِ وبفضْلٍ مِنْهُ عَرَّفني ... في حُبِّهِ كَيْفَ أَرْجُوهُ وَأَخْشَاهُ
350- الشريعة المحمدية صلاح البرية، والشفيع جناح الطالب، والكشر لله زينة الغني، وهو من الإيمان.
351- السلامة في الاستقامة على اتباع الكتاب والسنة والعمل بهما.
352- الصبر عند الصدمة الأولى، والصبر جنة من الفاقة بإذن الله، والصبر عدة البلاء والصبر مر لا يتجرعه إلا حر قال الشاعر:
شعرا:
وَالصَّبرُ مِثْلُ اسْمِهِ مُرٌ مَذاقَتُهُ ... لَكِنْ عَوَاقُبهُ أَحْلَى مِن العَسَلِ
آخر:
نَعَى لكَ ظِلُّ الشَّبَاب المشيب ... وَنَادَتْكَ بِاسْم سِوَاكَ الخُطُوبِ
فكن مُسْتعد لِدَار الفنَاء ... فَإِنَّ الذِي هو آتٍ قَريب
أَلَسْنَا نَرى شَهواتِ النُفُوس تَفْنَى ... وَتَبْقَى عليها الذُّنُوب
وَقَبْلَكَ دَاوَي المرِيضَ الطَبيْبُ
... فَعَاشَ المَريْضُ وَمَاتَ الطَبيب
يَخَافُ على نَفْسِهِ مَنْ يَتُوب ... فكَيْفَ تَرى حال من لا يَتُوب
353- ضل من ركن إلى الأشرار، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، والطيور على أشكالها تقع، وطاعة النساء ندامة في الغالب في غير طاعة الله لأنهن ناقصات عقل ودين.(2/21)
354- العاقل من وعظه الكتاب والسنة والتجارب والعدل يجمع القلوب في الغالب بإذن الله قال الله تعالى: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } والعدل حياة والجور موت.
355- احذر الغفلة ومخاتل العدو وطربات الهوى وأماني النفس وضراوة الشهوة، وقال آخر أطلب آثار من زاده العلم خشية والعمل بصيرة والعقل معرفة، واعلم أن في كل فكرة أدبا وفي كل إشارة علما وإنما يميز ذلك من فهم عن الله مراده وجني فوائد اليقين من خطابه، وعلامة ذلك في الصادق أنه إذا نظر اعتبر وإذا صمت تفكر وإذا تكلم ذكر وإذا منع صبر وإذا أعطي شكر وإذا ابتلي حمد الله واسترجع وإذا جهل عليه حلم وإذا علم تواضع وإذا علم رفق وإذا سئل بذل.
357- المؤمن الحقيقي هو الذي إذا مدح وأثنى عليه وذكر طرفا مما وهبه الله من المحاسن استحيا تعظيمًا وإجلالاً أن يثنى عليه فيزداد بذلك مقتا لنفسه واستحقارا لها ونفورا عنها ويقوى عنده رؤية إحسان الله تعالى إليه وشهوده فضله عليه ومنته في إظهار المحاسن عليه ويشكر الله ويحمده على ما أولاه من نعمه التي لا تعدو ولا تحصى.
358- من علامات المعرفة بالله القيام بحقوقه والتخلص من حقوق العباد ومن علامات محبة العبد لله اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - قال الله جل وعلا: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ } .
359- ست خصال يرفع الله بها العبد العلم النافع والأدب المستفاد من الكتاب والسنة والأمانة والعفة والصدق والوفاء.
360- عمارة القلب في أربعة أشياء في العلم النافع والتقوى وطاعة الله وذكره وخرابه من أربعة أشياء من الجهل والمعصية والاغترار والغفلة والنسيان الله.
361- من علامات موت القلب عدم الحزن على ما فاتك من الطاعات وترك الندم على ما فرط منك من الزلات قال - صلى الله عليه وسلم - «من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن».(2/22)
362- من نتائج المعصية قلة التوفيق وفساد الرأي وخفاء الحق وفساد القلب وخمول الذكر وإضاعة الوقت ونفرة الخلق والوحشة مع الرب ومنع إجابة الدعاء وقسوة القلب ومحق بركة العمر ولباس الذل وضيق الصدر.
363- الشكر من أعلى المقامات وهو أعلى من الصبر والخوف والزهد وهو مقصود لنفسه ولذلك لا ينقطع في الجنة وليس فيها خوف ولا توبة ولا صبر ولا زهد والشكر دائم في الجنة قال تعالى: { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } .
364- أما كيفية الشكر لله فيتم بأمور:
أولا: أن يحمد الله على نعمه بلسانه ويشكره.
ثانيا: أن يعتقد أن هذه النعمة أو النعم آتيته من الله.
ثالثا: أن لا يستعين بها على معاصيه بل يطيع الله فيها.
رابعا: أن يعرف فضل الله عليه وكرمه فليستحي من الله فلا يعصيه.
365- العلم بلا عمل ضرر ووبال، والعلم حياة القلوب والعلم إذا عمل به خير من المال العلم وراثة كريمة.
366- آية العقل امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه والعقل فضيلة الإنسان والعقول مواهب من الله وعمل البر خير صاحب وخير الزاد تقوى الله جل وعلا.
مَنْ يَغْني بالله يجد رُوحَ الغِنَي ... وَالله يُوفِي مَن يشأ ما يشأ
وَخَيْرُ مَا يَدَّخِرُ المَرءُ التُّقَى ... وَخَيْرُ أثواب الفتى ثَوبُ الحِجا
مَا أَقْبَحَ الصَّبْوة مِن بَعْدِ النُّهى ... إِنَّ المشيْبَ قَدْ طَوَى ثَوْبَ الفَتَى
فَبَادِرِ المَوْتَ وَدَعْ عَنْكَ الهَوَى ... فَإِنَّه عَمَّا قَلِيْلٍ قَدْ أَتَى
قَدْ قِيْلَ فِيْمَا قَدْ مَضَى قَوْلٌ جَرَى ... عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرى
وَتَلْفُظُ العَيْنُ عُلالاتِ الكَرَى ... أَيْنَ ذَوُو المَالِ وَأَرْبَابُ القُرى
من عَمَر الدُّنْيَا ومن شاد البِنَا ... أَضْحَوا جَمِيْعًا تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرى(2/23)
لا أَثَرَ مِنْهُمْ ولا عَيْنٌ تُرى ... إِنَّ أَخَا اللُّبِ تَنَاهَى وانْتَهَى
لَيْسَ سَوَاءً مَنْ أَطَاعَ وَاتَّقَى ... ومن على الله بِجَهْلٍ افْتَرَى
367- اغتنم الفرصة لطاعة الله فإنها تمر مر السحاب، الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما بما يحبه الله ويرضاه ومن طلب العز ناله بطاعة الله عز وجل.
368- ما استهان قوم بالدين إلا حل بهم الهوان وما أكثر العبر وأقل الاعتبار، وما أوضح الحق لمن طلبه بالصدق والإنصاف.
369- ما أقرب العقوبة والنقمة من أهل البغي والعدوان، لا تعن قويا على مؤمن ضعيف.
370- لا تقل بغير تفكير ولا تقل ما لا تفعل ولا تكن حاطب ليل ولا تلم غيرك بما أنت فيه.
371- أخوك المخلص لك من عرفك العيوب وصديقك حقيقة من حذرك من المعاصي والذنوب.
372- على قدر حبك لله يحبك الخلق وعلى قدر شغلك بالله يشتغل الخلق بأمرك.
373- عجب ممن يحزن على نقصان ماله كيف لا يحزن على نقصان عمره ودينه.
مَالِي أَرَى النَّاس والدُّنْيَا مُوَلِّيَةٌ ... وَكُل جَمْعٍ عليها سوف يَنْدِثرُ
لا يَشْعُرُونَ إِذَا مَا دِيْنَهُم نُقِصوا ... يَومًا وَإِنْ نُقِصَتْ دُنْيَا هُمُوا شَعَرُوا
374- قال رجل لعامر بن قيس وهو يريد صلاة الجمعة قف حتى أكلمك فقال لولا أني أبادر لوقفت لك قال وما تبادر قال أبادر خروج روحي وجلس آخر إلى رجل ممن عرفوا قيمة الوقت يريد أن يتحدث معه فقال أنا في شغل اذهب إلى أمثالك ممن لا يعرفون قيمة الوقت فانصرف.
إِذَا كَانَ رَأَسُ المَالِ عُمْركَ فاحْترِزْ ... عَلَيْهِ مِنَ الإِنْفَاقِ فِي غَيْرِ وَاجِبِ
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فصل)(2/24)
375- اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن عمر الإنسان ميدان للأعمال الصالحة المقربة إلى الله والموجبة الثواب له في الدار الآخرة وهذه هي السعادة التي يكدح العبد ويسعى من أجلها وليس له منها إلا ما سعى كما قال تعالى: { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } وقال تعالى: { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } .
بَقيَّةَ العُمْرِ عِنْدِي ماله ثَمَن ... وَإِنْ غَدَا لَيْسَ مَحْسُوبًا مِنَ الزَّمَنِ
يَسْتَدرك المَرءُ فِيْهَا كُلَّ فَائِتَةٍ ... مِنَ الزَّمَانِ وَيَمْحُو السُّوء بِالحسنِ
376- وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه «بقية عمر المرء ما لها ثمن يدرك فيها ما فات ويحيي ما أمات».
377- وقال آخر العمر أنفاس معدودة وتفنيه اللحظات.
وَمَا نَفْسٌ إِلا يُبَاعِدُ مَوْلِدًا ... وَيُدْنى المنايا للنُفُوسِ فَتَقْرُبُ
آخر:
ذَهَبَ الفتى وَمضى بغير توقُفٍ ... كَهِلال أول ليْلة مِن شَهْرِهِ
آخر:
أَرَانا على السَّاعَاتِ فُرْسَانَ غَارةٍ ... وَهُنَّ بِنَا يَجْرِينَ جرْي السَّلاهِبِ
وعن ابن عباس أنه قرأ { فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } [مريم84] فبكى وقال آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك.
وقال آخر: إخواني تفكروا في مصارع الذين سبقوا وتدبروا مصيرهم أين انطلقوا واعلموا أن القوم انقسموا وافترقوا قوم منهم سعدوا ومنهم قوم شقوا:
وَالمَرءُ مِثلُ هِلالُ عِنْدَ طَلعتِهِ ... يَبْدُو ضئيْلاً لَطِيْفًا ثُمَّ يَتَّسِقُ
يَزْدَاد حتَّى إِذَا مَا تَمَّ أَعْقَبهُ
... كَر الجديدين نَقْصًا ثُمَّ يَنْمَحِقُ
كَانَ الشَّبَابُ رِدَاءً قَدْ بُهجْتُ بِهِ ... فَقَدْ تَطَايْرَ مِنْهُ لِلْبَلَى خِرَقُ
عَجِبْتُ والدهْر لا تَفْنَى عَجَائبُهُ ... للرَّاكنين إلى الدُّنْيَا وَقَدْ صَدَقُوا(2/25)
وَطَالمَا نُغِّصُوا بِالفَجْعِ ضَاحِيةً ... وَطَالَ بِالفَجْعِ وَالتَّنْغِيْصِ مَا طَرقُوا
دَارٌ تغرُ بها الآمالُ مُهلكةً ... وَذُو التَّجَارُبِ فِيْهَا خَائِفٌ فَرِقُ
يا لِلْرِجَالِ لَمخْدُوْعٍ بِزُخرفها ... بَعْد البَيْان ومغْرُور بها يَثقُ
أَقُولُ وَالنَّفْسُ تَدعوني لِبَاطِلِها ... أَينَ المُلوكُ مُلُوك الناسِ وَالسَّوَقُ
أَيْنَ الذينَ إلى لذَاتِهَا رَكَنُوا ... قَدْ كَانَ فِيْهَا لَهُم عَيْشُ وَمُرْتَفَقُ
أَمْسَتْ مَسَاكِنُهُم قَفْرًا مُعَطَّلَةً ... كأنَّهُم لَمْ يَكنُوا قَبْلَهَا خُلقُوا
يَا أَهْل لَذَّاتِ دَارٍ لا بَقَاء لَهَا ... إِنَّ اغْتَرَارًا بِظلٍ زَائِلٍ حُمُقُ
378- وعن ابن السماك وقد قرأها إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع أن تنفد:
تَنَبَّهْ فإِنَّ الدَّهر ذُو فَجَعَاتِ ... وَشَمْلُ جَمِيْع صَائِرٌ لِشَتَاتِ
تَخَلَّفُ مأمُوْلاتُنا وَكَأَنَّنَا ... نَسِيْرُ إِلَيْهَا لا إِلى الغَمَراتِ
هَلْ المَرْءُ فِي الدُّنْيَا الدَّنيَّةِ نَاظِرٌ ... سِوَى فَقَدْ حِبٍّ أَوْ لِقَاءِ مَماتِ
سَيُسْقَى بَنُو الدنيا كؤوسَ حُتُوفِهِم ... إلى أَنْ يَنَامُوا لا مَنَامَ سُبَاتِ
وَمَا فَرِحَتْ نَفْسٌ بِبَلْوَى وَقَدْ رَأَتْ ... عِظَاتٍ مِنَ الأَيْامِ بَعْدَ عِظَاتِ
إِذَا بَغتَتَ أَشْيَاءُ قَدْ كَانَ مِثْلُها ... قَدِيمًا فَلا تَعْتدها بغتاتِ
وَأَعْقِبْ مِن النَّومِ التَّيَقُظ رَاشِدًا ... فلا بُدَّ لِلنُّوامِ من يَقظاتِ(2/26)
ومن عظة الحسن البصري لعمر بن عبد العزيز أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة لها في كل حين قتيل تذل من أعزها وتفقر من جمعها هي كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا ويصبر على شدة الدواء مخافة طول الداء، فأحذر هذه الدنيا الخداعة الغدارة الختالة التي قد تزينت بخدعها وقتلت بغرورها وتحلت بآمالها وسوفت بخطابها.
فأصبحت كالعروس المجلية العيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة وهي لأزواجها كلهم قالية، فلا الباقي بالماضي معتبر ولا الآخر بالأول مزدجر، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسي المعاد فشغل فيها لبه حتى زلت به قدمه فعظمت ندامته وكثرت حسرته واجتمعت عليه سكرات الموت وتألمه وحسرات الفوت بغصته وراغب فيها لم يدرك منها ما طلب ولم يرح نفسه من التعب فخرج بغير زاد وقدم على غير مهاد.
فاحذرها يا أمير المؤمنين وكن أسر ما تكون فيها أحذر لها فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن فيها إلى سرور أشخصته إلى مكروه وضار وقد وصل الرخاء منها بالبلاء وجعل البقاء إلى فناء فسرورها مشوب بالأحزان أمانيها كاذبة وآمالها باطلة وصفوها كدر وعيشها نكد وابن آدم فيها على خطر اهـ , وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
379- اعلم أن عدم الاهتمام بأمر الموت وعدم الروعة منه وما بعده والله أعلم حب الدنيا والهوى وطول الأمل والشيطان والنفس الأمارة بالسوء وقيل والله أعلم إن السبب الحقيقي هو سلب الله للخواطر المنصرفة إلى ذكر الموت وتصور حقيقة أمره، وسلب الدواعي إلى الاشتغال به لما في ذلك من الاعتماد على الدنيا وانتظام أمرها الذي هو مقصود للحكيم.(2/27)
380- ولما كان الموت أمرا حتما لا بد منه لكل نفس فلا بد من تذكره دائما وأبدا ففي تذكره محاسبة للنفس على ما قدمت من خير أو شر فإن قدمت خيرا فذكر الموت يريحها ويحثها على التزود من الأعمال الصالحة والابتعاد عن كل شر وإن فرطت وأهملت واستمرت على فعل المعاصي والشرور فذكر الموت يردعها عن غيها وطغيانها ويحول بينها وبين عبثها.
يَا وَيْحَ نَفْسِي من تتابع حَوْبتي ... لو قد دعاني للحساب حسيبي
فَاسْتَيْقِظِي يَا نَفْسُ وَيَحكِ وَاحْذَرِي ... حذرًا يَهيجُ عَبْرتي وَنَحِيْبي
وَاسْتَدرِكي ما فات مِنْكِ وسابِقي ... سَطواتِ موْتٍ لِلْنُفُوس طَلُوبِ
وَابْكِي بُكاء المُسْتَغِيْثِ وَأعْولِي ... إِعْوالَ عَانٍ في الوثاقِ غَرِيْبِ
هَذَا الشَّبَابُ قَدْ اعْتَلَلْتُ بِلَهْوِهِ ... أَفَلَيْسَ ذَا يَا نَفْسُ حِيْنَ مَشيْبِي
هَذَا النَّهَار يَكرُّ وَيْحَكِ دَائِبًا ... يَجْرِي بِصَرْف حَوادثٍ وخُطُوبِ
هَذَا رقيْبٌ لَيْسَ عَنِّي غافِلاً ... يُحْصِي عليَّ وَلَوْ غَفَلْتُ ذُنوبِي
أَوَ لَيْسَ مِنْ جَهْلٍ بِأَنِّي نَائِمٌ ... نَوْم السَّفِيْهِ وَمَا يَنامُ رَقِيْبِي
وقال بعضهم:
لو عرفت منك نفسك التحقيق لسارت معك في أصعب مضيق، لكنها ألفت التفاتك، فلما طلبت قهرها فاتك هلا شددت الحيازم وقمت قيام حازم، وفعلت فعل عازم، وقطعت قطع جازم، تقصد الخير ولكن ما تلازم.
وَيَعْرِفَ أَخْلاق الجبان جوادُهُ ... فَيُجْهِدُهُ كَرًّا وَيُرْهِبُهُ ذُعْرًا
وَمَنْ يَحْلُ تَطْلابُ المَعَالِي بِصَدرِهِ ... يَجَدْ حُلْوَ مَا يُعْطَاهُ مِنْ غَيْرها مُرًّا
384- أحسن القول ما وافق العمل قال الله تبارك وتعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } .(2/28)
385- انتبه يا من ضيع عمرا طويلا حمل فيه وزرا ثقيلا كم نصب الموت لك دليلا إذ ساق العزيز ذليلا ولقد حمل إلى القبور جيلا بعد جيلا ونادى في الباقين رحيلا رحيلا فيا إخواني البدار البدار فقد ذهبت الغفلات بالأعمار.
مَكْرُ الزَّمَانِ عَلينا غَيْرُ مَأْمُوْنِ ... فَلا تَظُنَّنَّ أَمْرًا غَيْرَ مَظْنُونِ
بَلْ المخوفُ عَلينا مَكْرة أنْفُسِنا ... ذات المني دُوْن مَكْرِ البِيْضِ والُجوِن
إِنَّ اللَّيالِي وَالأَيَّام قد كَشَفَتْ ... مِن مَكْرِها كُلَّ مَسْتَورِ وَمَكْنُونِ
وَحَدَّثتنا بأنا من فرائِسَهَا ... نَواطِقًا بِفَصِيْح غَيْر مَلْحُونِ
واسْتَشْهَدَتْ من مَضَى مِنَّا فَأَنْبَأنا ... عن ذاك كُلُّ لَقى مِنَّا وَمَدْفُونِ
وأُمُ سُوءٍ إِذَا مَا رَامَ مُرْتضِعٌ ... أَخْلافها صَدَّ عنها صدَّ مَزْبُونِ
وَنَحْن في ذَاكَ نُصْفيها مَودَّتَنَا ... تَبًّا لِكُل سَفِيهِ الرَّأي مَغْبُون
نَشْكُو إِلى اللهِ جَهْلاً قَدْْ أضرَّ بِنَا ... بَلْ لَيْسَ جَهْلاً وَلَكِنْ علم مَفْتُون
أَغوى الهَوى كُلَّ ذِيْ عَقْلٍ فَلَسْتَ تَرَى
... إلا صَحِيْحًا لَهُ أَفْعَالُ مَجْنُونِ
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الأقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.
فصل(2/29)
386- ينبغي لمن وصل إلى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث وستون سنة (63) أن يحرص كل الحرص على حفظ وقته والاعتناء به وتعبيته في الباقيات الصالحات ويجعل الغالب عليه المداومة على تلاوة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والتهيؤ للرحيل ويتفقد نفسه وما عليه من حقوق الله وحقوق خلقه ويوفر على نفسه إلا من تصنيف يفتقر إليه ولتكن همته في تهذيب أخلاقه وتنظيف نفسه وتنقيتها وتفقد زلاته وملازمة ذكر الله ليلا ونهارا سرا وجهارا في كل مكان إلا في محل قضاء الحاجة، والمحلات المستقذرة ويكرر ذكر الله والاستغفار خشية أن يفجأه الموت وهو غافل عنه.
أَعِدْ ذكر قال الله قال رَسولُهُ ... هُمَا المِسْكِ ما كَرَّرْتهُ يَتَضَوَّعُ
قال أحد العلماء أعجب ممن عرف الله فعصاه وعرف الشيطان فاتّبعه وعرف الدنيا فركن إليها
387- أعز الأشياء وأشرفها عند الإنسان قلبه ووقته فإذا أهمل قلبه وضيع وقته فماذا بقي معه كل الفوائد ذهبت.
388- متى ما جرى أمر لا تعرفه ولا تفهمه ولا تعرف علته فانسب ذلك إلى قصور علمك قال الله جل وعلا: { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا } .
389- ينمو الفكر بأربع إدامة التفكير، ومطالعة الكتب النافعة واليقظة لتجارب الحياة والإلحاح على الله بالدعاء.
موعظة
لله در العارفين بزمانهم إذا باعوا ما شانهم بإصلاح شأنهم، ما أقل ما تعبوا وما أيسر ما نصبوا، وما زالوا حتى نالوا ما طلبوه، شمروا عن سوق الجد في سوق العزائم ورأوا مطلوبهم دون غيره ضربة لازم، وجادوا مخلصين فربحوا وصبحوا منزل النجاة وأنت في اللهو نائم، متى تسلك طريقهم يا ذا المآثم.
للهِ قَومٌ أَطَاعُوا الله خَالِقَهُم ... فآمنوا واسْتَقَامُوا مِثْل ما أُمِرُوا
وَالوَجْدُ والشوقُ وَالأَفْكَارُ قُوتهُمُوا ... وَلازَمُوا الجَدَّ والإدْلاجَ في البُكَرِ(2/30)
وَبَادَرُوا لرِضَا مَوْلاهُمُوا وَسَعَوْا ... قَصْدَ السَّبِيْلِ إليه سَعْي مُؤْتَمِرِ
وَشَمَّرُوا وَاسْتَعَدُّوا وِفْقَ ما طُلِبُوا ... وَاسْتَغْرقوا وَقْتهُم في الصَّوم والسَّهرِ
وَجَاهَدُوا وانْتهوا عَمَّا يُبَاعِدُهم ... عَنْ بَابِهِ وَاسْتَلانُوا كُلَّ ذِي وَعرِ
جَنَّاتُ عَدْنٍ لَهُم مَا يَشتهون بها ... في مَقْعَدِ الصِّدْقِ بَيْنَ الرَّوض والزَّهرِ
لَهُم مِنَ اللهِ مَا لا شَيءَ يَعْدِلُهُ ... سَمَاعُ تَسْليمِهِ وَالفَوزُ بِالنَّظرِ
390- نصيحة
تنعم بمالك قبل أن يتنعم به غيرك واحرص على بذله فيما يقربك إلى الله والدار الآخرة كبناء المساجد وبث كتب دينية تعين على فهم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واحذر أن يكون مالك عونا على معاصي الله كالاتجار بالمحرمات كآلات اللهو من فيديوات أو مذياع أو كورات أو دخان أو سينمات أو تليفزيون، واحذر أن تؤجر من يتعاطى هذه المحرمات أو من يبيع المحرمات أو يحلق اللحا أو يصور أو يبيع الصور واحذر مقارنة من يتعاطى هذه المحرمات وخصوصا الذين يلعبون بالكورة أو يحضرونها. قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } فاحرص كل الحرص على حفظ وقتك وعبه بطاعة الله من تلاوة كتابه وحفظه، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنك مسئول عن عمرك فيما أفنيته.
شعرا:
مَا دَارُ دُنْيًا لِلْمُقِيمِ بِدَارِ ... وَبِهَا النُّفوسُ فَريْسَةُ الأقْدارِ
مَا بَيْنَ لَيْلٍ عاكفٍ وَنَهارِهِ ... نَفَسَان مُرْتَشِفَانِ للأعْمَارِ
طُولُ الحَياة إِذَا مَضَى كَقَصِيْرهَا ... وَاليُسْرُ لِلإنْسَانِ كَالإِعْسَارِ
وَالعَيْشُ يَعقبُ بِالمَرارَةِ حُلْوَهُ ... وَالصَّفْوُ فِيْهِ مُخَلَّفُ الأَكْدَارِ
وَكَأنَّمَا تَقْضِي بُنِيَّاتُ الرَّدَي ... لِفَنَائِنَا وَطَرًا مِن الأَوْطَارِ(2/31)
وَالمَرءُ كَالطيْفِ المُطِيفِ وَعُمْرُهُ ... كَالنَّومِ بَيْنَ الفَجْر والأَسْحَارِ
خَطْبٌ تَضَاءَلَتَ الخُطُوبُ لِهَوْلِهِ ... أَخْطَارُهُ تَعْلُو عَلَى الأَخْطَارِ
ط
نُلْقِي الصَّوارِمَ والرمَاحَ لِهَوْلِهِ ... وَنَلَوْذُ مِنْ حَرْبٍ إلى اسْتِشْعَارِ
إِنَّ الذينَ بَنَوا مَشِيْدًا وَانْثَنَوا ... يَسْعَونَ سَعْي الفَاتِكَ الجَبَّارِ
سُلبُوا النَّضَارَةَ والنَّعِيْمَ فَأصْبَحُوا ... مُتَوسِّدِيْنَ وَسَائِدَ الأَحْجَارِ
تَركُوا دِيَارَهُمُ على أَعْدَائِهِم ... وَتَوسَّدُوا مَدَرًا بِغَيْرِ دِثَارِ
خَلَطَ الحِمَامُ قَويَّهُم بِضَعِيْفِهم ... وَغَنِيَّهُم سَاوَي بِذِي الإِقْتَارِ
وَالخَوفُ يُعْجِلُنَا عَلَى آثَارِهِم ... لا بُدَّ مِن صُبْحٍ المُجِدِّ السَّارِي
وَتَعَاقُبُ المَلَويْن فِيْنَا نَاثِرٌ ... بِأكَرِّ مَا نَظَمَا مِن الأَعْمَارِ
شعرا:
اعْتِزَلْ أَهْلَ المَلاهِي وَالكرُةْ ... واحْذَرْ الفِديُو وَتِلْفَازَ الضَّرَرْ
كَمْ بِهَا قَدْ ضَاع عُمْر يَا فَتِى ... لَوْ صُرِفْ فِي طَاعَةٍ نِعْمَ الذُّخُرْ
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فصل)
يحتوي على أمثلة نافعة
390- من تعلم العلم النافع وهو ما جاء عن الله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعمل بما علم انتفع ونفع وساد، قال بعضهم مثل من تعلم العلم وعمل به، مثل رجل رزقه الله مالا حلالا طيبا فانتفع به وتنعم به وأنفق منه على جيرانه وأقاربه والمسلمين، ومثل من يتعلم العلم فيعمل به في نفسه ولا يعلم غيره مثل رجل رزقه مالا كثيرا فانتفع به وتنعم به آناء الليل والنهار.(2/32)
ولا يعطف به على أقاربه ولا جيرانه من المسلمين ولا غيرهم ومثل من يتعلم العلم ولا يعمل به ولا يعلمه الناس مثل رجل رزقه مالا كثيرا فكل من أخذ منه أو سرق منه لا يبالي بذلك ولا ينفق على نفسه منه ولا على عياله ويموت عياله عريا وجوعا وهو أيضا في بؤس وعري وفاقة من المطعم والمشرب والملبس لا تسمح0 نفسه أن يأكل منه شيئا فقد خسر هو في الدنيا والآخرة نسأل الله العفو والعافية، ومثل من يتعلم العلم للرياء والسمعة ويبذله للناس للمباهات والرفعة في الدنيا مثل السراج ينور للناس، ويحرق نفسه، ومثله أيضا كمثل رجل وضع السراج على طرف سطحه على الشارع فانتفع به المارون في الطريق وبيته مظلم ومثل من يطلب العلوم الكثيرة ويجمعها ولا يعمل بها ولا يرى أثر ذلك عليه فيجمع كتب العلم دائما ولا يمل من طلبها وجمعها مثل من يجمع كل يوم طعاما كثيرا من فنون الأطعمة والأشربة والفواكه وكثيرا مما يسرع إليه التلف ولا يأكل منها ولا يشرب منها وهو جائع وعريان أو يأكل شيئا بسيطا منه فلا يعتبر هذا عاقلا.
وقال بعض العلماء: اعلم أن للعالم العامل بعلمه حقيقة علامات وأمارات تفرق بينه وبين علماء اللسان المخلطين المتبعين للهوى المؤثرين للدنيا على الآخرة.
فمن علامات العالم الحقيقي الممتاز أن يكون متواضعا خائفا وجلا مشفقا من خشية الله زاهدا في الدنيا قانعا باليسير منها بعيدا عن الحسد والعجب والغيبة والنميمة والمداهنة.
ملتمسا للفقراء المتمسكين بدينهم الخالية بيوتهم من الملاهي والمنكرات الذين ليس لهم موارد ولا مساكن ليسعفهم بما يقدر عليه من مال وجاه.
ناصحا لعباد الله شفيقا عليهم رحيما بهم، آمرا بالمعروف فاعلا له وناهيا عن المنكر، ومجتنبا له ومسارعا في الخيرات ملازما.
دالاً على الخير داعيًا إلى الهدى، ذا صمتِ وتوأدة ووقار وسكينة.(2/33)
حسن الأخلاق، واسع الصدر، لين الجانب، مخفوض الجناح للمؤمنين لا متكبرا ولا متجبرا ولا طامعا في الناس، ولا حريصا على الدنيا ولا مؤثرا لها على الآخرة.
ولا منهمكا بجمع المال، ولا مانعا له عن حقه، ولا فظا ولا غليظا، ولا مماريا، ولا مخاصما بالباطل، ولا سيئ الأخلاق، ولا ضيق الصدر، ولا مداهنا، ولا مخادعا، ولا غشاشا، ولا مقدما للأغنياء على الفقراء، ولا مرائيا ولا محبا للولايات.
وبالجملة فيكون متصفا بجميع ما يحثه عليه الكتاب والسنة، مؤتمرا بما يأمرانه به من الأخلاق المحمودة والأعمال الصالحة.
مجانبا لما ينهى عنه كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأخلاق والأعمال المذمومة.
وهذه صفات ينبغي أن يتصف ويتحلى بها كل مؤمن، إلا أن العالم وطالب العلم أولى أن يتصف بها ويحافظ عليها ويدعو إليها.
وينبغي للعالم أن يكون حديثه مع العامة في حال مخالطته لهم في بيان الواجبات والمحرمات ونوافل الطاعات وذكر الثواب والعقاب على الإحسان والإساءة.
ويكون كلامه بعبارة يعرفونها ويفهمونها، ويبين لهم الأمور التي هم ملابسون لها.
ولا ينبغي له أن يسكت حتى يسأل وهو يعلم أنهم محتاجون إليه، أو مضطرون له والله الموفق.
شعرا:
وَنَفسكَ فازْجُرْها عَن الغَي والخَنَا ... وَلا تَتَّبْعها فَهي أُسُّ المَفَاسِدِ
وَحَاذِرْ هَواهَا مَا اسْتطعَتَ فَإِنَّهُ ... يَصُدُّ عَن الطاعاتِ غَيْرَ المجاهِدِ
وَإِن جهادَ النَّفس حَتْمٌ على الفتى ... وإنَّ التُّقَى حَقًّا لِخَيْرُ المَقَاصِدِ
فَإِنْ رُمْتَ أن تُحْظى بنَيْل سعادةٍ ... وَتُعْطى مَقَامَ السالكينَ الأَمَاجِدِ
فَبَادِرْ بِتَقْوَى الله واسْلُكْ سبيلها ... ولا تَتَّبعْ غَيَّ الرَّجيم المُعَانِدِ
وَإِيَّاكَ دُنْيا لا يَدُومُ نَعِيْمُهَا ... وَإِنَّكَ صَاح لَسْتَ فِيْهَا بِخَالِدِ(2/34)
تَمَسَّكَ بِشَرْعِ اللهِ وَالْزَمْ كِتَابهُ ... وَبِالعِلْمِ فاعْمَلْ تَحْوِ كُلَّ المَحَامِدِ
اللهم امنن علينا بإصلاح عيوبنا واجعل التقوى زادنا وفي دينك اجتهادنا وعليك توكلنا واعتمادنا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فائدة عظيمة النفع ويليها موعظة
391- عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «رأس الشكر الحمد لله وما شكر الله عبد إلا بحمده» فالشكر أصله في القلب، ومعرفة العبد بربه أنه لا شريك له، وفرعه على اللسان وهو كلمة لا إله إلا الله وتحقيقه في الطاعات فمن أكثر قول (لا إله إلا الله) فإنه يحط خطاياه، ومن أكثر من قول (الحمد لله) فإنه يحط عن نفسه أثقال الشكر، وينبغي لمن متعه الله فوصل إلى ثلاث وستين سنة أن يستغرق أوقاته مهما أمكنه في تلاوة كلام الله والإلمام بكلام رسوله، والإكثار من ذكر الله إناء الليل والنهار قائما وقاعدا مضطجعا وماشيا، ويجعل معه شيئا يذكره إذا غفل، وإذا حضر مع أناس في مجلس أو في سيارة أو طائرة أو سفينة أن يشغلهم بذكر الله وحمده والثناء عليه وتعداد نعمه لئلا يقعوا في غيبة أو في أمور لا فائدة فيها ليحصل لهم أجر ويحصل له مثل أجرهم لحديث من دل على خير فله مثل أجر فاعله.
عَليكَ بِذِكرِ الله في كُلِّ لَحْظةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ للمُهَيْمنِ يَذْكر
آخر:
لَوْ يَعْلَم العَبْدُ مَا في الذِّكْر مِن شَرَفٍ ... أَمْضَى الحَيَاةَ بِتَسْبِيْحٍ وَتَهْلِيْلٍ
موعظة
إخواني اعتبروا بالذين قطنوا وخزنوا كيف ظعنوا وحزنوا انظروا إلى آثارهم تعلموا أنهم قد غبنوا ضيعوا الأوقات النفيسة في الملاهي الخسيسة ولاحت لهم الدنيا فاغتروا بها وفتنوا فما انجلى سحاب المني حتى ماتوا ودفنوا وكأن الغافلين بهم قد لحقوا وتندموا على تفريطهم وحزنوا.
شعرا:(2/35)
جَمَعُوا فَمَا أَكَلُوا الذِي جَمَعُوا ... وَبَنَوْا مَسَاكِنَهُم فما سَكَنُوا
فَكَأنَّهُم كانُوا بِهَا ظَعَنًّا ... لِمَا اسْتَرَاحُوا سَاعَةً ظَعَنُوا
قال شداد بن أوس لو أن الميت نشر فأخبر أهل الدنيا بألم الموت ما انتفعوا بعيش ولا التذوا بنوم، وكان عمر بن عبد العزيز يجمع الفقهاء كل ليلة فيتذكرون الموت والقيامة ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.
شعرا:
أَلا يَا غَفَلاً تُحْصَى عليه ... مِنَ العَمَل الصَّغِيْرةُ وَالكَبِيْرة
يُصَاحُ بِهِ وَيُنْذَرُ كُلَّ يَوْمٍ ... وَقَدْ أَنْسَتْهُ غَفْلَتُهُ مَصِيْرَه
تَأَهَّبْ لِلرَّحِيْل فَقَدْ تَدَانَي ... وَأَنْذَرَك الرَّحِيْلَ أَخٌ وَجِيْرَة
وَكَمْ ذَنْبٍ أَتَيْتَ عَلَى بَصِيْرة ... وَعَيْنُكَ بالذِي تَأَتِي قَرِيْرَة
تُحَاذِرُ أَنْ تَراكَ هُنَاكَ عَيْنٌ ... وإِنَّ عَلَيْكَ للعَيْنُ البّصِيْرَة
وَكَمْ مِن مَدْخَل لَوْ مُتَّ فِيْه ... لَكُنْتَ بِهِ نَكَالاً لِلْعَشِيْرَة
وُقِيْتَ السُوءَ وَالمكرُوُه مِنْهُ ... وَرُحْتَ بِنعْمَةٍ فِيْهِ سَتِيْرَة
اللهم إنا نسألك الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لا نعلم ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم ونسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين وترحمنا وإياهم برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
موعظة(2/36)
إخواني مر الزمان وعظ الألباب ويكفي في الإنذار موت الأقارب والجيران والأصحاب وكم ترون في التراب من أتراب أغمدت تلك السيوف كم فرح بشهر وإهلاله متهلل لرؤية هلاله اختطفه الموت في خلاله وكم مائل إلى جمع ماله تركه تركة ومر بأثقاله هل رحم الموت مريضا لضعف حاله وأوصاله أو هل ترك كاسبا لأجل أطفاله هل أمهل ذا عيال من أجل عياله، كم أيتم طفلا صغيرا ولم يباله، فلله در أقوام علموا قرب الرحيل، فهيئوا آلة السفر وهونوا بالدنيا فقنعوا منها مما حضر واستوثقوا بقفل التقوى من أذى النطق والنظر مالك خبر بحالهم ولا عندك منهم خبر قاموا بالجد وقعدت، وسهروا في الدجي ورقدت.
شعرا:
لَمَّا رَأَيْتُ مُنَادِيْهم أَلَمَّ بِنَا ... شَدَدتُ مِيْزَر إِحْرَامي وَلبَيْتُ
وقُلْتُ لِلنَّفْسِ جُدِّي الآن واجْتَهِدِي ... وَسَاعِدِيْنِي كَهَذَا مَا تَمَنَّيْتُ
آخر:
قَوْمٌ هُمُومُهم بِاللهِ قَدْ عَلِقَتْ ... فَمَا لَهُم هِمَمٌ تَسْمُو إِلى أَحَدِ
فَمَطْلبُ القَوم مَوْلاهُم وَسَيِّدهُم ... يَا حُسْنَ مَطْلَبِهم لِلواحِد الصَّمَدِ
مَا إِنْ تُنَازِعُهُم دُنْيَا وَلا شَرفٌ ... مِن المَطَامِعِ والذَّاتِ والوَلَدِ
ولا لِلْبسِ ثِيابٍ فَائِقٍ أَنِقٍ ... وَلا لِرَوْحِ سُرُوْرٍ حَلَّ فِي بَلَدِ
إِلا مُسَارَعَةً فِي إِثْرِ مَنْزِلَةٍ ... قَدْ قَارَبَ الخَطْو فيها بَاعِد الأبَدِ
اللهم سلمنا من شرور أنفسنا التي هي أقرب أعدائنا وأعذنا من عدوك واعصمنا من الهوى ومن فتنة الدنيا ومكن محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وفرح قلوبنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موعظة(2/37)
إخواني مر الأقران على مدرجة، وخيول الرحيل للباقين مسرجة وسار القوم إلى القبور هملجة وباتت أرواح من الأشباح مستخرجة إلى كم هذا التسويف وبضائعكم كل غش وبهرجه وستعرفون الخبر وقت الحشرجة.
لَعَمْرُكَ مَا يَغْنَي الثراءُ عَن الفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَومًا وَضَاقَ بِهَا
الصدر
ثم اعلم أن في ذكر الموت فوائد عديدة من ذلك أنه يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي ويذهب بالفرح والسرور في الدنيا ويزهد فيها ويهون المصائب.
ثانيًا: التأثر في مشاهدة سكراتهم عند نزع الروح وشخوص أبصارهم عند نزع الروح وتسللها من الجسد وعجزهم عن الكلام عند خروجها وتأمل صورهم بعد خروج الروح فإن في ذلك ما يقطع عن النفوس لذاتها ويطرد عن القلوب مسراتها ويمنع الجفون من النوم ويمنع الأبدان من الراحة ويبعث على الجد والاجتهاد في العمل للآخرة فروي عن الحسن البصري أنه دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إليه وما حل به من الكرب وشدة ما نزل به فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به فعرضوا عليه الطعام فلم يأكل وقال فوالله لقد رأيت مصرعا لا أزال أعمل له حتى اللقاء.
شعرا:
لا مِرْيَةَ في الرَّدَى ولا جَدَلْ ... العُمْرُ دَيْنٌ قَضَاؤُه الأَجَلْ
لِلْمَرء في حَتْفِ أَنْفِهِ شُغُل ... فَمَا تُرِيْدُ السُّيُوفُ وَالأَسَلْ
يَفْرِي الدُّجى والضُحى بِأسْلحةٍ ... سِيَّانِ فِيْهَا الدُّرُوْعُ وَالحُلَلْ
كَأْسٌ أُدِيْرَتْ عَلَى لذَاذاتِهَا
... عَدل فِيْهَا الزُّعَافُ وَالعَسَلْ
كُلٌّ إلى غَايةٍ يَصِيْرُ وَلا
... تَمْيِيْز إلا الإِسْرَاعِ وَالمَهَلْ
والناسُ رَكْبٌ يَهْوَوْنَ حَثَّهم ... وَلا يُسَرُّوْنَ أَنَّهُم نُزُلْ
كَيْفَ يَعُدُّ الدُّنْيَا لَهُ وَطَنًا ... مَن هُو عَنْهَا يَنْأى وَيَنْتَقِلْ
نَسْخُوا بِأَعْمَارِنا وَنَبْخَلُ
... بِالمَالِ فَتَبَّ السَّخَاءُ وَالبُخلْ(2/38)
وَلَوْ نَجَا الهَائِبُ الجَبَانُ مِن ... المَوْتِ نَجا في إِقْدَامِهِ البَطَلْ
مَا أَسْلَمُوا هذِه النُّفُوس إلى ... الأجدَاثُ إِلا إِذَا ضَاقَتِ الحِيَلْ
اللهم يسر لنا سبيل الأعمال الصالحات وهيئ لنا من أمرنا رشدا واجعل معونتك العظمى لنا سندا واحشرنا إذا توفيتنا مع عبادك الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال بعض العلماء:
إلى متى تبقى بدائك هذا الذي حل بك برائك لقد حل فناؤك بفنائك وأخبر أن انتقاض بنائك بنمائك وإن وراءك طالبا لا تفوته وقد نصب لك علم لا تجوزه فما أسرع ما يدركك الطالب، وما أعجل ما تبلغ العلم هذا الموت غدا يقول الرحيل غدا كيف بكم إذا صاح إسرافيل في الصور بالصور فاسمع العظام البالية تحت المدر فاجتمعت فقامت تبكي على فوات الخير وسار الخلائق كلهم حفاة عراة.
قال الله جل وعلا { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا } وقال تعالى: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ } وترى الخلائق كل مشغول بما عراه وقد رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا قال الله جل وعلا: { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } وقال تعالى: { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } هنا تذهل العقول ويشيب الأطفال قال تعالى: { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا } .
أَيا نَفْسُ حَقَكِ أَنْ تَجْزَعِي ... وَيَا عَيْنُ إِيَّاكِ أن تَهْجَعِي
وَيَا أُذُنِي إِنْ دَعَاكِ دَاعِ الهَوَى ... فَإِيَّاكِ إِيَّاكِ أَنْ تَسْمَعِي(2/39)
وَبِاللهِ يَا جَفْنُ عَيْنِي القَرِيح ... خَرَّجْ بِفَيْضِ الدَّمَا أَدْمُعِي
وَيَاكُلُ جَارِحَةٍ لِي عَليكِ ... حَفيْظٌ فَابْكِ وَنُوحِي مَعِي
يُسَارُ بنا مِنَ مَوضع إِلى مَوضع ... نَرْحَلُ عنهُ إلى مَوْضِع
إلى حَيْثُ لا العَيْن فيه ترى ... وَلا الأذْنُ إن خاطبوها تَعِي
فَيَا وَيْلَنَا مِن طَرِيْقٍ هُناك ... طَوِيْلٌ بَعِيْدُ المَدَى مَسْبَعُ
خطبة أيضا
الحمد لله العلي الأعلى، الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى، له ملك السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، الملك الحق المبين الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وقد وسع كل شيء رحمة وعلما، أحمده سبحانه وبحمده يلهج أولو الأحلام والنهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عالم السر والنجوى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى كلمة التقوى، اللهم صلى على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أئمة العلم والهدى، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمع ويرى، فقد طال إعراضكم عن النبأ العظيم تغافلا وجهلا، وكثر اشتغالكم بالعرض الخسيس الأدنى، وصار إقبالكم على ما يصد عن الصراط السوى والهدي.
أما أيقظكم ما رأيتموه من حوادث القدر والقضا، أما أنذركم ما سمعتموه من أخبار من كذب وعصى، ومن أعرض عما جاءت به الرسل وغلبه عليه الشقاء والهوى، كيف وجدوا عقوبات الذنوب، وكيف كان الحال بمن بغى وطغى، بلغتهم دعوة الرسل فلم يجيبوا، ورفعت إليهم المواعظ فلم يلتفتوا ولم ينيبوا. فجاءهم أمر الله بغتة وأصيبوا، فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا، سل عنهم تلك القصور الدامرة، والقبور الداثرة والعظام الناخرة، وكيف كان السؤال والجواب، وهل وجدوا لهم من دون الله ملجأ وإزرا، فاتقوا الله عباد الله وأعملوا ليوم العرض والجزاء، ولا تكونوا ممن أعرض عن ذكر ربه ولم يرد إلا الحياة الدنيا.(2/40)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } { إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
خطبة أيضا
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، فصل وبين وقرر صراطا مستقيما ومنهجا، ونصب ووضح من براهين معرفته وتوحيده سلطانا مبينا وحججا، أحمده سبحانه حمد عبد جعل له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ترفع الصادقين إلى منازل المقربين درجا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي وضع الله برسالته عن المكلفين آصارا وأغلالا وحرجا.(2/41)
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه خير الأنام طريقة وأهداهم منهجا، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله حق تقواه، وسارعوا إلى مغفرته ورضاه، فقد خلقكم لأمر عظيم، وهيأكم لشأن جسيم، خلقكم لمعرفته وعبادته، وأمركم بتوحيده وطاعته، وجعل لكم ميعادا تجتمعون فيه للحكم فيكم وفصل القضاء بينكم فخاب وشقي عبد أخرجه الله من رحمته التي وسعت كل شيء وجنة عرضها السموات والأرض، وإنما يكون الأمان غدا لمن خاف واتقى، وباع قليلا بكثير، وفانيا بباق، وشقوة بسعادة، عباد الله، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين تتقلبون. ويستخلفها بعدكم الباقون.
ألا ترون أنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله قد انقضى أجله وانقطع عمله فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير ممهد ولا موسد قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وواجه الحساب، فاتقوا الله عباد الله وبادروا بالتوبة قبل أن يغلق الباب ويسبل الحجاب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
خطبة أيضا(2/42)
الحمد لله فاطر الأرض والسموات، عالم الأسرار والخفيات، المطلع على الضمائر والنيات، وأحاط بكل شيء علما، ووسع كل شيء رحمة وحلما، وقهر كل مخلوق عزة وحكما يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما، لا تدركه الأبصار، ولا تغيره الدهور والأعصار، ولا تتوهمه الظنون والأفكار، وكل شيء عنه بمقدار، أتقن كل ما صنعه وأحكمه وأحصى كل شيء وعلمه، وخلق الإنسان وعلّمه، أحمده سبحانه على ما ألهمه من معلوم وفهمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف الحق والتزمه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من صدع بالحق وأسمعه.
الله صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وسائر من نصره وكرمه، وسلم تسليما كثيرا أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله حق التقوى، واعرفوا ما دلت عليه هذه الكلمة من الحقيقة والمعنى، وتفطنوا لتفاصيل ذلك على القلوب والأعضاء، وتدبروا كتاب الله واعرفوا ما فيه من العلم والهدى، وعالجوا به أمراض القلوب فهو الدواء النافع والشفا، وهو السبب الأعظم في حصول السعادة والسيادة في الآخرة الأولى، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، ومن أعرض عنه استحوذ عليه الشيطان وتولاه. فهو حبل الله المتين، ونوره المبين، وصراطه المستقيم.
قال جندب بن عبد الله رضي الله عنه: عليكم بالقرآن فإنه نور بالليل وهدي بالنهار، فاعملوا به على ما كان من فقر وفاقة فإن عرض بلاء فقدم مالك دون نفسك، فإن تجاوز البلاء فقدم نفسك دون دينك، فإن المحروب من حرب دينه، والمسلوب من سلب دينه، إنه لا فاقة بعد الجنة ولا غنى بعد النار.(2/43)
إن النار لا يفك أسيرها ولا يستغنى فقيرها، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا } { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } { وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
189- موعظة
قال بعضهم: يا أيها الناس اعملوا على مهل وكونوا من الله على وجل ولا تغتروا بالأمل ونسيان الأجل ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدارة خداعة، قد تزخرفت لكم بغرورها، وفتنتكم بآمانيها، وتزينت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلية، العيون إليها ناظرة، والقلوب عليها عاكفة، والنفوس لها عاشقة، فكم من عاشق لها قتلت.
وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا مِن الإِنْسِ لَمْ تَكُن ... سِوَى مُوْمِسِ أَفْنَتْ بِمَا سَاءَ عُمْرُهَا
آخر:
وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا عَرُوسًا و ... جَدتَهَا بِمَا قَتَلتْ أَوْلادَهَا لا تَزَوَّجُ
وكم مطمئن إليها خذلت فانظر إليها بعين الحقيقة فإنها دار كثير بوائقها وذمها خالقها دار نفاد لا دار إخلاد ودار عبور لا دار حبور ودار فناء لا بقاء ودار انصرام لا دار دوام جديدها يبلى وملكها يفنى وعزيزها يذل وكثيرها يقل ودها يموت وخيرها يفوت.(2/44)
وقد تطابق على ما ذكر دلالات قواطع النقول وصحاح العقول والطغام وقضى به الحس والعيان حتى لم يقبل لوضوحه إلى زيادة في العرفان.
وَليْسَ يَصحُ فِي الأَذْهانِ شَيءٌ ... إِذَا احْتَاجَ النَّهارُ إلى دَلِيْلِ
ولما كانت الدنيا بهذه الحال التي ذكرت والعظة التي تقدمت جاء في القرآن الكريم من التحذير عن الاغترار بها والركون إليها والاعتماد عليها ما هو أعرف من أن يذكر وأشهر من أن يشهر.
وكذلك جاءت الأحاديث النبوية والآثار الحكيمة فلهذا كان الأيقاظ من أهلها هم العلماء العقلاء الزهاد.,
العاملون بعلمهم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم لم يركنوا إلى الدنيا بل اتخذوها مطية إلى الآخرة.
لا علماء الألسن الذين يلبسون للناس جلود الضأن من اللين وقلوبهم قلوب الذئاب الذين يتخللون بألسنتهم كما تتخلل البقرة بلسانها، قال بعضهم وأجاد في وصف الدنيا.
أَلا إِنَّما الدُّنْيَا كَجِيْفَةِ مَيْتَةٍ ... وَطُلابُهَا مِثْلُ الكِلابِ الهَوَامِس
وَأَعْظََمُهُم ذَمًّا لَهَا وَأَشدُّهُم ... بِهَا شَغَفًا قَوْمٌ طِوَالُ القَلانُسِ
وختاما فاستيقظوا رحمكم الله من غفلتكم وانتبهوا من رقدتكم قبل أن يقال فلان مريض أو مدنف ثقيل فهل من دليل يدل على الدواء لهذا العليل أو هل إلى الطبيب من سبيل.
فتنقل إلى المستشفى وتدعى لك الأطباء ولا يرجى لك الشفاء ثم يقال فلان أوصى ولماله أحصى ثم يقال قد ثقل لسانه وما يقدر على أن يكلم إخوانه.
وها هو في سكرات الموت لا يعرف من عنده من أولاده وإخوانه وجيرانه وعرق عند ذلك جبينك وتتابع أنينك وثبت يقينك وارتفعت جفونك وصدقت ظنونك.
وتلجلج وتحير لسانك وبكى أولادك وإخوانك وقيل لك هذا ابنك فلان وهذا أخوك فلان وهذه أمك وهذا أبوك وبصرك شاخص وعيونك غرقى من الدمع و لا تقدر على الكلام.(2/45)
فتصور نفسك يا مسكين وأنت ملقي على الأرض حتى خلقت منها جثة تتصاعد روحك والناس من حولك يبكون ولكن دون جدوى لأن قضاء الله وقدره لا بد أن ينزل بك.
ثم ختم على لسانك فلا ينطق ثم حل بك القضاء وانتزعت نفسك من الأعضاء ثم عرج بها إلى السماء فاجتمع عند ذلك أولادك وإخوانك وأحضرت أكفانك وجيء بالنعش والمغسل.
فجردك من الثياب وغسلك وجيء بالكفن فكفنوك وحنطوك فانقطع عوادك واستراح حسادك وانصرف أهلك إلى مالك وبقيت مرتهنا بأعمالك فيا لها من رحلة ويا له من قدوم.
نَصِيْبُكَ مِمَّا تَجْمَعَ الدَّهْرَ كُلَّهُ ... رِدَاءان تُلْوَى فِيْهمَا وَحَنُوْطُ
آخر:
تَجَرَّد مِنْ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ إِنَّمَا ... خَرَجْت إلى الدُّنْيَا وَأَنْتَ مُجَرَّدُ
آخر:
فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ ... سِوى حَنوطٍ غَداة البَيْنِ فِي ِخَرِق
وَغَيْرَ نفحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ ... وَقلَّ ذلكَ من زَادٍ لِمَنْطَلِقِ
اللهم وفقنا للاستعداد لما أمامنا واهدنا سبيل الرشاد ووفقنا للعمل الصالح ليوم المعاد واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
«فصل في فوائد ذكر الله تعالى»
قال ابن القيم رحمه الله: وفي ذكر الله أكثر من مائة فائدة يرضي الرحمن ويطرد الشيطان ويزيل الهم ويجلب الرزق ويكسب المهابة والحلاوة ويورث محبة الله التي هي روح الإسلام.
ويورث المعرفة والإنابة والقرب وحياة القلب وذكر الله للعبد هو قوت القلب وروحه ويجلي صداه ويحط الخطايا ويرفع الدرجات ويحدث الأنس ويزيل الوحشة.
ويذكر بصاحبه وينجي من عذاب الله ويوجب تنزل السكينة وغشيان الرحمة وحفوف الملائكة بالذاكر ويشغل عن الكلام الضار ويسعد الذاكر ويسعد به جليسه ويؤمن من الحسرة يوم القيامة وهو مع البكاء سبب لإظلال الله العبد يوم الحشر الأكبر في ظل عرشه.(2/46)
وأنه سبب لعطاء الله للذاكر أفضل ما يعطي السائلين، وأنه أيسر العبادات وهو من أجلها وأفضلها، وأنه غراس الجنة، وأن العطاء والفضل الذي رتب عليه لم يرتب على غيره، وأن دوام الذكر للرب تبارك وتعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشة ومعاده.
شعرا:
لَوْ يَعْلَم العَبْدُ ما فِي الذِّكْرِ مِنْ شَرَفٍ ... أَمْضَى الحَيَاةَ بِتَسْبِيْحٍ وَتَهْلِيْلِ
آخر:
مَا أَنْعَمَ العِيْشَةَ لَوْ أَنَّ الفَتَى ... يُلْهَمُ تَسْبِيْحًا لِخَلاقِ الوَرَى
وأن الذكر يسير العبد وهو في فراشه وفي سوقه، وأن الذكر نور الذاكر في الدنيا ونور له من قبره ونور له في معاده وأن في القلب خلة وفاقة لا يسدها شيء البتة إلا ذكر الله عز وجل.
وأن الذكر يجمع ما تفرق على العبد من قلبه وإرادته وهمومه وعزمه والذكر يفرق ما اجتمع عليه من الهموم والغموم والأحزان والحسرات على موت حظوظه ومطالبه، ويفرق ما اجتمع على حربه من جند الشيطان.
وأن الذكر ينبه القلب من نومه ويوقظه، والقلب إذا كان نائما فاتته الأرباح والمتاجر، وأن الذكر شجرة تثمر المعارف والأحوال التي شمر إليها السالكون، فلا سبيل إلى نيل ثمارها إلا من شجرة الذكر.
وأن الذاكر قريب من مذكوره ومذكوره معه وهذه المعية معية خاصة، وأن الذكر يعدل عتق الرقاب ونفقة الأموال، والحمل على الخيل في سبيل الله عز وجل، وإن الذكر رأس الشكر، وأن أكرم الخلق على الله من المتقين من لا يزال لسانه رطبا من ذكر الله.
وأن في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى وإن الذكر شفاء القلب ودواؤه والغفلة مرضه، وأن الذكر أصل موالاة الله عز وجل وأنه ما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمه بمثل ذكر الله.
شعرا:
عَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... فَمَا خَابَ عَبدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَذْكُرُ
آخر:
فَجالِسْ رِجَالَ العِلْمَ وَاحْفَظْ
حديثهم ... وَلا تَكُ لِلْجُهَّالِ يَوْمًا مُوَاخِيَا(2/47)
وَلازَمْ فَتَى فِي كُلِّ وَقْتٍ مُلازمٌ ... لِذِكْرِ الذِي فَوْقَ السَّمَواتِ عَالِيَا
لَعَلَّكَ أَنْ تَعْتَادَ لِلْذِكْرِ مِثْلَهُ ... فَتُحْرِزْ غُفْرانًا وَأَعْلَى الأَمَانِيَا
وأن الذكر يوجب صلاة الله عز وجل وملائكته على الذاكر وأن من شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا فليستوطن مجالس الذكر فإنها رياض الجنة، وأن مجالس الذكر مجالس الملائكة.
وأن الله عز وجل يباهي بالذاكرين ملائكته، وأن مدمن الذكر يدخل الجنة وهو يضحك وأن جميع الأعمال ، إنما شرعت إقامة لذكر الله تعالى، وأن أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكرا لله عز وجل، فأفضل الصوام أكثرهم ذكر لله عز وجل.
وأن ذكر الله يسهل الصعب وييسر العسير ويخفف المشاق، وأن ذكر الله يذهب عن القلب مخاوفه كلها، وله تأثير عجيب في حصول الأمن، وأن في الاشتغال بالذكر اشتغالا عن الكلام الباطل من الغيبة والنميمة واللغو، وأن عمال الآخرة كلهم في مضمار السباق والذاكرون أسبقهم في ذلك المضمار ولكن القترة والغبار يمنعان من رؤية سبقهم.
فإذا انجلى. الغبار وانكشف، رآهم الناس، وقد حازوا قصب السبق، وأن الذكر سبب لتصديق الرب عز وجل عبده، فإنه أخبر عن الله بأوصاف كماله ونعوت جلاله فإذا أخبر بها العبد صدقه ربه ومن صدقه الله لم يحشر مع الكاذبين ورجى له أن يحشر مع الصادقين.
شعرا:
وَدَاوِمْ وَلازِمْ قَرْعَ بَابٍ مُؤمِّلاً ... فما خَيَّبَ المَوْلَى رَجَاءَ مُؤَمِّل
وَصَابِرْ فَمَا نَالَ العُلا غَيْر صَابرٍ ... وَقُلْ وَاعِظًا لِلنَّفْسِ عِنْدَ التَّملْمُلِ
مَعْ الصَّبْر إِحْدَى الحُسْنَينِ مُنَاكِ أَوْ ... مَنَايَا كِرَامِ فَاْصبِرِي وَتَحَمَّلِ
وَدَاو لِسُقْمِ القَلْبِ وَاعْمُرْ خَرَابَهُ ... بِذِكْرِ الذي نَعْمَاهُ لِلْخَلْقِ تَشْمِلُ
آخر:
لَوْ يَعْلم النَّاسُ مَا في الذِّكرِ مِنْ شَرَفٍ
شرف ... لَمْ يُلْهِهِمْ عَنْهُ تَجْمِيْعُ الدَّنَانِيْرِ(2/48)
وَلَمْ يُبَالُوا بِأَوْرَاقٍ ولا ذَهَبٍ ... وَلَوْ تَحَصَّل آلافُ القَنَاطِيْرِ
اللهم ألهمنا ذكرك ووفقنا للقيام بحقك وبارك لنا في الحلال من رزقك ولا تفضحنا بين خلقك يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج يا قاضي الحاجات ومجيبا للدعوات، هب لنا من ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يا من يملك حوائح السائلين ويعلم ما في ضمائر الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.
فصل ومن فوائد الذكر أيضا
ما ذكره ابن القيم رحمه الله: أن دور الجنة تبني بالذكر، فإذا أمسك الذاكر عن الذكر أمسكت الملائكة عن البناء، وأن الذكر سد بين العبد وبين جهنم فإذا كانت له إلى جهنم طريق عمل من الأعمال، كان الذكر سدا في تلك الطريق، وأن الملائكة تستغفر للذاكر كما تستغفر للتائب، وأن الجبال والقفار تتباهى وتستبشر بمن يذكر الله عز وجل عليها، وأن كثرة ذكر الله عز وجل أمان من النفاق، فإن المنافقين قليلوا الذكر لله عز وجل.
قال تبارك وتعالى في المنافقين: { وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا } وأن للذكر من بين الأعمال لذة لا يشبهها شيء فلو لم يكن للعبد من ثوابه إلا اللذة الحاصلة للذاكر، وأنه يكسو الوجه نضرة في الدنيا ونورا في الآخرة، وأن في دوام الذكر في الطريق والبيت والحضر والسفر والبقاع تكثيرا لشهود العبد يوم القيامة، فإن البقعة والدار والجبل والأرض تشهد للذاكر يوم القيامة، وأن الذكر يعطي الذاكر قوة حتى أنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه، قال وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابته أمرا عجيبا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر.
مَا دُمْتَ تَقْدِرْ فَأَكْثَرْ ذِكْرِ خَالِقنَا ... وَأَدِّ وَاجِبَهُ نَحْوَ العِبَادَاتِ
د
فَسَوْفَ تَنْدمُ إِنْ فَرطَّتَ في زَمنٍ ... مَا فِيْهِ ذِكْرٌ لِخَلاقِ السَّمَوَاتِ(2/49)
وقد علّم النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته فاطمة وعليا رضي الله عنهما أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثا وثلاثين، ويحمدا ثلاثا وثلاثين، ويكبرا، أربعا وثلاثين، لما سألته الخادم، وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة، فعلمها ذلك، وقال: إنه خير لكما من خادم.
فقيل إن من داوم على ذلك وجد قوة في عمله مغنية عن خادم، قال وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يذكر أثرا في هذا الباب، ويقول: إن الملائكة لما أُمروا بحمل العرش، قالوا يا ربنا كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك، فقال: قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله.
فلما قالوا حملوه حتى رأيت ابن أبي الدنيا قد ذكر هذا الأثر بعينه عن الليث بن سعد عن معاوية بن صالح قال حدثنا مشيختنا أنه بلغهم أن أول ما خلق الله عز وجل حين كان عرشه على الماء حملة العرش قالوا: ربنا لم خلقتنا؟ قال: خلقتكم لحمل عرشي، قالوا: ربنا ومن يقوى على حمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ووقارك؟ قال: لذلك خلقتكم، فأعادوا عليه ذلك مرارا، فقال: قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله فحملوه.
قال: وهذه الكلمة لها تأثير عجيب في معاناة الأشغال الصعبة، وتحمل المشاق والدخول على الملوك ومن يخاف، وركوب الأهوال، ولها أيضا تأثير في دفع الفقر، قال: ومبنى الدين على قاعدتين الذكر والشكر
إِِذَا رُمْتَ أَنْ تُحْظَي بِعِزِّ وَرِفْعَةٍ
... بِدُنْيَاكَ وَالأَخْرَى لِنَيْل السَّعَادَةِ
عَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ جَلَّ جَلالُهُ ... وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْفُلْ وَلَوْ قَدْرَ لَحْظَةِ
آخر:
إِلَهُ الوَرَى حَتْمٌ عَلَى النَّاسِ حَمْدُهُ ... لِمَا جَادَ مِنْ فَضْلِ عَلَيْهِمْ بِلا مَنِّ
وليس المراد بالذكر مجرد ذكر اللسان بل الذكر القلبي واللسان، وذلك يستلزم معرفته والإيمان به وبصفات كماله ونعوت جلاله والثناء عليه بأنواع المدح وذلك لا يتم إلا بتوحيده فذكره الحقيقي يستلزم ذكر نعمه وآلائه، وإحسانه إلى خلقه.(2/50)
وأما الشكر فهو القيام بطاعته، فذكره مستلزم لمعرفته، وشكره متضمن لطاعته وهما الغاية التي خلق لأجلها الجن والإنس.
(فائدة) قال الشيخ تقي الدين: من ابتلى ببلاء قلب أزعجه فأعظم دواء له قوة الالتجاء إلى الله ودوام التضرع والدعاء بأن يتعلم الأدعية المأثورة ويتوخى الدعاء في مظان الإجابة مثل آخر الليل، وأوقات الآذان والإقامة وفي السجود وأدبار الصلوات، ويضم إلى ذلك الاستغفار.
وليتخذ وردا من الأذكار طرفي النهار وعند النوم، وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف، فإنه لا بد أن يؤيده الله بروح منه ويكتب الإيمان في قلبه وليحرص على عمود الدين، وليكن هجيراه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فإنه بها يحمل الأثقال ويكابد الأهوال، وينال رفيع الأحوال ولا يسأم من الدعاء والطلب ، فإن العبد يستجاب له ما لم يعجل وليعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا، ولم ينل أحد شيئا من عميم الخير إلا بالصبر والله الموفق.
شعرا:
لا تَقْصُدِ النَّاسَ إِذَا أَدْبَرَتْ ... دُنْيَاكَ وَاقْصُدْ مِنْ جَوَادٍ كَرَيْم
كَيْفَ يُرَجَّى الرِّزْقُ منْ عِنْدِ مَنْ ... يَطْلُبُ الرِّزْقَ مِنْ الرَّبِ الرَّحِيْم
آخر:
يَا أَيْهُا الطَّالِبُ مِنْ مِثْلِهِ ... رِزْقًا لَهُ جُرْتَ عن الحِكْمَةِ
لا تَطْلُبَنَّ الرِّزْقَ مِنْ طَالِبٍ ... مِثْلُكَ مُحْتَاجُ إِلى الرَّحْمَةِ
وَارْغَبْ إِلى اللهِ الذِي لَمْ يَزَلْ ... في يَدِهِ النَّعْمَةُ وَالنَّقْمَة
شعرا:
بِذِكْرِِكَ يَا مَوْلى الوَرَى نَتَنَعَّمُ ... وَقَدْ خَابَ قَوْمٌ عن سَبِِيْلِكَ قَدْْ عَمُوا
شَهِشدْنَا يَقِيْنًا أَنَّ عِلْمَكُ واسِعٌ ... فَأَنْتَ تَرَى ما في القُلُوبِ وَتَعْلَمُ
إِلَهي تَحَمَّلْنَا ذُنُوبًا عَظِيْمَةً ... أَسَأْنَا وَقَصَّرْنَا وُجُودُكَ أَعْظَمُ(2/51)
سَتَرْنَا مَعَاصِيْنَا عَن الخلقِ غَفْلَةٌ ... وَأَنْتَ تَرَانَا ثُمَّ تَعْفُو وَتَرْحَمُ
وَحَقِّكَ مَا فِيْنَا مُسِيءُ يَسُرُّهُ ... صُدُودُكََ عَنْهُ بَلْ يَخَافُ وَيَنْدَمُ
سَكَتْنَا عَنِ الشَّكَوى حَيَاءٌ وَهَيْبَةٌ ... وَحَاجَتُنَا بِالمُقْتَضَى تَتَكَلَّمُ
إِذَا كَانَ ذُلُّ العَبْدِ بِالحَالِ نَاطِقًا ... فَهَلْ يَسْْتَطِيْعُ الصَّبْرَ عَنْهُ وَيَكْتُمُ
إِلَهي فَجُدْ واصْفَحْ وَأَصْلِحْ قُلُوبَنَا ... فَأَنْتَ الذِي تُولِي الجَمَيلَ وَتُكْرِمُ
وَأَنْتَ الذِي قَرَّبْتَ قَومًا فَوَافَقُوا ... وَوَفَّقْتَهُم حَتَّى أَنَابُوا وَسَلَّمُوا
وَقُلْْتَ اسْتَقَامُوا مِنَّةً وَتَكَرُّمًا ... فَأَنْتَ الذِي قَوَّمْتَهُم فَتَقَوَّمُوا
لَهُمْ في الدُّجَى أُنْسٌ بِذِكْرِكَ دَائِمًا ... فََهُمْ في اللَّيَالِي سَاجِدُونَ وَقُوَّمُ
نَظَرْتَ إِلَيْهِم نَظْرَةً بِتَعَطُفٍ ... فَعَاشُوا بِهَا وَالنَّاسُ سَكْرَى وَنُوَّمُ
لَكَ الحَمْدُ عَامِلْْنا بِمَا أَنْتَ أَهْلُهُ ... وَسََامِحْ وَسَلِّمْنَا فَأَنْتَ المُسَلِّمُ
اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لما وفقت له الصالحين من خلقك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فصل
قال في حادي الأرواح: ولما علم الموفقون ما خلقوا له وما إيجادهم له رفعوا رءوسهم فإذا علم الجنة قد رفع لهم شمروا إليه وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه ورأوا من أعظم الغبن بيع مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في أبد لا يزول ولا ينفد بصبابة عيش إنما هو أضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام مشوب بالنغص ممزوج بالغصص إن أضحك قليل أبكى كثيرا وإن سر يوما أحزن شهورا آلامه تزيد على لذاته وأحزانه أضعاف مسراته أوله مخاوف وآخره متالف.(2/52)
فيا عجبًا من سفيه في صورة حكيم ومعتوه في مسلاخ عاقل آثر الحظ الفاني الخسيس على الحظ الباقي النفيس باع جنة عرضها الأرض والسموات بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بأعطان ضيقة أخرها الخراب والبوار.
وأبكارًا عربا أترابا كأنهن الياقوت والمرجان بقذرات دنسات سيئات الأخلاق مسافحات أو متخذات أخدان وحورا مقصورات في الخيام بخبيثات مسيبات بين الأنام وأنهارا من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل مفسد للدنيا والدين، ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم بالتمتع برؤية الوجه القبيح الذميم.
وسماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والغناء والألحان والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والمرجان والزبرجد ويوم المزيد بالجلوس في مجالس الفسوق مع كل شيطان مريد.
وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة ويتبين سفه بائعه يوم الحسرة والندامة إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفدا وسيق المجرمون إلى جهنم وردا ونادى المنادي على رءوس الأشهاد ليعلمن أهل الموقف من أولى بالكرم من بين العباد.
فلو توهم المتخلف عن هذه الرفقة وما أعد لهم من الإكرام وادخر لهم من الفضل والإنعام وما أخفي لهم من قرة أعين لم يقع على مثلها بصر ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر علم أي بضاعة أضاع وأنه لا خير له في حياته وهو معدود من سقط المتاع.(2/53)
وأن القوم قد توسطوا ملكا كبيرا لا تعتريه الآفات ولا يلحقه الزوال وفازوا بالنعيم المقيم في جوار الرب الكبير المتعال، فهم في روضات الجنات يتقلبون وعلى أسرتها تحت الحجال يجلسون وعلى الفرش التي بطائنها من إستبرق يتكئون وبالحور العين يتمتعون وبأنواع الثمار يتفكهون { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون } يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون تالله لقد نودي عليها في سوق الكساد فما قلب ولا استام إلا أفراد من العباد وقال رحمه الله في النونية:
بِاللهِ مَا عُذْرُ امْرِءٍ هُو مُؤْمِنٌ ... حَقَّا بِهَذَا لَيْسَ بِاليَقْظَانِ
بَلْ قَلْبُهُ في رَقْدَة فإذا اسْتَفا ... قَ فَلُبْسُهُ هُو حُلَّةُ الكَسْلانِ
تَاللهِ لَوْ شَاقتْكَ جَنَّاتُ النَّعِيْمِ ... طَلَبْتَهِا بِنَفائِسِ الأَثْمَانِ
وَسَعَيْتَ جُهْدَكَ في وِصَالِ نَواعِمِ ... وَكَواعِبٍ بِيْضِ الوُجُوهِ حِسَانِ
جُلَيَتْ عَلَيْكَ عَرائسٌ وَاللهِ لَوْ ... تُجْلَى على صَخْرٍ مِنَ الصُّوَّانِ
رَقَّتْ حَواشِِيْهِ وَعَادَ لِوقتِهِ ... يَنْهَالُ مِثْلَ نَقَى مِن الكُثْبَانِ
لَكِنْ قَلْبَك في القَسَاوَةِ جَازَ حَدْدَ
... الصَّخْْرِ والحَصْبَاءِ في أَشْجَانِ
لَوْ هَزَّكَ الشَّوقُ المُقيمُ وَكُنْتَ ذَا ... حِسٍّ لما اسْتَبْدَلْتَ بِالأَدْوَانِ
أَوْ صَادَفَتْ مِنْكَ الصَّفاتُ حَياةَ قَلْبٍ ... كُنْتَ ذَا طَلَبٍ بِهَذَا الشَّأنِ
حُورٌ تُزَفُّ إِلى ضَرِيْرٍ مُقَعَدٍ ... يَا مِحْنَةِ الحَسْنَاءِ بِالعُمْيَانِ(2/54)
شَمْسٌ لِعِنينٍ تَزَفُّ إِليهِ مَا ... ذَا حِيْلَةُ العَنين في الغَشَيَانِ
يَا سِلُعَةَ الرحمن لَسْتِ رَخِيْصَةً ... بَلْ أَنْتِ غَالية عَلَى الكَسْلانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحمن لَيْسَ يَنَالًُهَا ... بِالأَلْفِ إلا واحدٌ لا اثْنَانِ
يَا سِلْعَةْ الرَّحمن مَاذَا كَفُوْهَا ... إِلا أَوُلُوا التَّقْوى مَعَ الإِيْمَانِ
يَا سِلُعةَ الرَّحمن سُوقُكِ كاسِدٌ ... بين الأَرَاذَلِ سَفْلَةِ الحَيوانِِ
يَا سِلْْعَةَ الرحمن أَيْنَ المُشْتَرِي ... فَلَقَدْ عُرِضْْتِ بَأيْسرِ الأَثْمانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحمن هَلْ مِنْ خَاطِبٍ ... فَالمَهْرُ قَبْلَ الموتِ ذُو إِمْكَانِ
يَا سِلْعَةَ الرحمن كَيْفَ تَصْبُّر ال ... خُطَّابُ عَنْكَ وَهم ذَوُو إِيْمَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحمنِ لَولا أَنَّهَا ... حُجِبَتْ بِكُل مَكَارِهِ الإِنْسَانِ
مَا كَانَ عَنْهَا قَطْ مِنْ مُتَخِلفٍ ... وَتَعَطَّلتْ دَارُ الجَزاءِ الثَّانِي
لَكِنَّهَا حُجِبَتْ بِكُلِّ كَرِيْهَةٍ ... لِيَصُدُّ عَنْهَا المُبْطِلُ المُتَوانِي
وَتَنَالُهَا الهِمَمُ التِّي تَسْمُوا إِلى ... رَبّ العُلَى بِمَشِيْئَةِ الرَّحمنِ
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.
فصل
ثم اعلم رحمنا الله وإياك والمسلمين أن حب الدنيا في القلب راسخ وإخراجها منه صعب جدا إلا لمن عصمه الله جل وعز، والنفس إلى الدنيا أميل وهي بها أشغف، وفي طلبها أهلك وعن طريق الرشد أبعد وأصرف، واسمع إلى ما قيل في الدنيا:(2/55)
هِيَ المُشْتَهى وَالمُنْتَهَي وَمَع السُّهَى ... أَمَانيٌّ مِنْهَا دُوْنَهُنَّ العَظَائِمُ
وَلَمْ تُلْفِنَا إِلا وَفِيْنَا تَحَاسُدٌ ... عَلَيْهَا وَإِلا الصُّدُورِ سَخَائِمُ
وقال الآخر:
يُسِيءُ أمْرؤٌ مِنَّا فَيُبْغَضُ دَائِمًا ... وَدُنْيَاكَ مَا زَالَتْ تُسِيءُ وَتُومَقُ
أَسَرَّ هَوَاهَا الشَّيخُ وَالكهلُ والفَتَى ... بِجَهْلٍ فَمَنْ كُلَّ النَّواظِر تُرْمَقُ
وَمَا هِي أَهْلٌ يُؤَهَّلِ مِثْلُهَا ... لِوُدٍ وَلَكنَّ ابْنَ آدَمَ أَحْمَقُ
وقال الآخر:
لِسَانُك لِلدُّنْيَا عَدَوٌ مُشَاحِنٌ ... وَقَلْبُكَ فيها لِلسَانِ مُبَاينُ
وَمَا ضَرَّهَا مَا كَانَ مِنْكَ وقد صَفَا ... لَهَا مِنْكَ ودٌّ في فُؤادِكَ كَامِنُ
وإن حب الدنيا لهو الداء العضال، الذي أهلك النساء والرجال وأفسد كثيرا من الأعمال، إلا أن تأتي العناية الإلهية، فتصرف الإنسان إلى النظر الصحيح، وتحمله على الطريق المستقيم.
فيرى بعين الحقيقة وصحيح البصيرة أنه لا بد من الموت، وأنه يدفن تحت أطباق الثرى، ويرمى به في ظلمات الأرض، ويسلط الدود على جسده، والهوام على بدنه، فتأخذه من قرنه إلى قدمه.
وقد عدم الطبيب وأسلمه القريب، وتركه الصديق والحبيب والقريب، وأتاه منكر ونكير، ولم يجد هناك أنيسا إلا عمله.
أَسْلَمنِي الأَهْلُ بِبَطْنِ الثَّرَى ... وانْصَرَفُوا عَنِّي فَيَا وَحْشَتَا
وَغَادَرُونِي مُعْدِمًا يَائِسًا
... مَا بِيَدي اليَومَ إِلا البُّكَا
وَكُلُّ مَا كَانَ كَأن لَمْ يَكُنْ ... وَكَان مَا حَاذَرْتُهُ قَدْ أَتَى
وَذَاكُم المَجمُوعُ والمُقْتَنَى ... قَد صَارَ في كَفي مِثْلَ الهَبَا
وَلَمْ أَجِدْ لِي مُؤْنِسًا هَهُنَا ... غَيْْر فُجُورٍ كَانَ لِي أَوْ تُقَى
فَلَوْ تَرَانِي أَوْ تَرى حَالَتِي ... بَكَيْتَ لِي يَا صَاحَ مِمَّا تَرَى(2/56)
اللهم نجنا برحمتك من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك الجنة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل
وأما الدنيا فينظر إليها فإن كان ملكا نظر إلى من تقدمه من الملوك وما فعل الموت بهم كيف فرق جموعهم وشتت شملهم وأقفرت منهم قصورهم وعمرت بهم حفرهم وقبورهم.
وكذلك إن لم يكن ملكا وكان من أصناف الناس وصفاتهم في تقلب الدنيا بهم معلومة وأنه ليس من إنسان إلا وله نصيب من الكدر والهم يقل عند إنسان ويكثر عند آخر.
فإذا أخذ الإنسان نفسه بهذه الأفكار وعرض عليها هذا الاعتبار أثر عليه هذا وأعرض عن الدنيا ولم يلتفت إليها إلا بمقدار ما يقيته، وتذكر الموت وخاف فجْأته، لم يأمن بغْتته وهجْمته وصدْمته وصرْعته.
والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق بفضله وكرمه لا رب غيره ولا معبود سواه.
وقال رحمه الله: واعلم أن من كان منتظرا لعقاب أن ينزل به من أمير بلدته فإنه لا يزال متألم القلب مشغول النفس.
فإن من توعد أن يضرب مائة سوط فإنه أشغل قلبا ممن توعد أن يضرب عشرة أسواط.
ومن توعد أن يقطع منه جارحة أكثر توجعا ممن توعد أن يضرب مائة سوط ومن توعد أن يضرب عنقه أشد خوفا ممن توعد أن يقطع أحد جوارحه يده أو رجله أو نحو ذلك.
وما منا من أحد إلا وقد توعد بالقتل لأن الموت قتل في الباطن كالخنق فقد بان لك أن كل واحد منا ينتظر القتل ينتظر ملك يثب عليه فيقبض روحه.
فلو كشف للناس عن أبصارهم فرأوا الموت حين يهجم عليك وشاهدوه في الباطن حين يأخذ روحك لما كان بينه وبين إنسان يقتلك في الظاهر فرق إلا أن الإنسان يحتاج إلى آلة يقتل بها من سيف أو سكين أو نحوهما وملك الموت لا يحتاج إلى شيء من ذلك.(2/57)
واعلم أن شدة سكرات الموت لا يعرفها على الحقيقة إلا الله جل وعلا ومن ذاقها، ومن لم يذقها فإنما يعرفها إما بالقياس على الآلام التي أدركها وإما بالاستدلال بأحوال الناس في النزع على شدة ما هم فيه، والنزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الروح فاستغرق جميع أجزائه.
فألم النزع يهجم على نفس الروح فيستغرق جميع أجزائه، فإن المنزوع والمجذوب من كل عرق من العروق وعصب من الأعصاب وجزء من الأجزاء ومفصل من المفاصل ومن أصل كل شعرة وبشرة من رأسه إلى قدمه فلا تسأل عن كربه وألمه.
ولا تسأل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه، ولو كان المجذوب عرقا واحدا لكان ألمه عظيما فكيف والمجذوب نفس الروح المتألم، وليس هو من عرق واحد، بل من جميع العروق. ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجا فتبرد أولا قدماه لفراغها من الروح، ثم ساقاه كذلك ثم فخذاه، ولكل عضو سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة، حتى يبلغ بها الحلقوم.
فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها، ويغلق دونه باب التوبة، وتحيط به الحسرة والندامة والهموم، والغموم، وسائر الأحزان.
نسأل الله العلي العظيم الحي القيوم ذا الجلال والإكرام أن يلطف بنا ويتداركنا بعفوه وغفرانه وجوده وإحسانه.
ويروى أن العبد يقول لملك الموت عند الموت يا ملك الموت أخرني يوما استعتب فيه وأتوب إلى ربي وأعمل صالحا فيقول له فنيت الأيام فلا يوم فيقول أخرني ساعة فيقول فنيت الساعات فلا ساعة.
فتبلغ الروح الحلقوم فيؤخذ بكظمه عند الغرغرة فيغلق باب التوبة دونه، ويحجب عنها وتنقطع الأعمال وتطوى الصحف وتتم الأوقات ويبقى عدد الأنفاس يشهد فيها المعاينة عند كشف الغطاء.
اللهم إنا نسألك حياة طيبة، ونفسا تقية، وعيشة نقية، وميتة سوية ومردا غير مخزي ولا فاضح.
اللهم اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين.(2/58)
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير.
يا ودود يا ذا العرش المجيد يا مبدئ يا معيد يا فعال لما تريد نسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك وبقدرتك التي قدرْت بها على جميع خلقك وبرحمتك التي وسعت كل شيء لا إله إلا أنت أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا وأن تبدلها لنا بحسنات إنك جواد كريم رءوف رحيم.
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلي الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فصل
ثم أعلم أنه ينبغي لمن لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعدا له خشية أن يفجأه.
اغْتنِمْ في الفَراغِ فَضْلَ رُكوعٍ ... فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مَوتُكَ بَغْتَةْ
كَم صَحِيْحٍ رَأَيْتَ مِنْ غَيْرِ سُقْمٍ ... ذَهَبَتْ نَفْسُهُ العزيزةُ فَلْتَةْ
ولا تغتر بالشباب والصحة لا سيما في وقتنا الذي كثرت فيه الحوادث بأسباب الآلات الحديثة من سيارات وطائرات ودبابات ونحوها فأكثر من يموت الشباب، وأقل من يموت الأشياخ ولهذا يندر من يكبر وأنشدوا في ذلك.
يُعَمَّرُ واحِدٌ فَيَغُرُّ أَلْفًا ... وَيُنْسَي مَن يَمُوتُ مِن الشَّبَابِ
آخر
لا تَغْتَرِرْ بِشَابٍ نَاعِمٍ خَضِلٍ ... فَكَمْ تَقَدَّم قَبْلَ الشَّيب شُبَّانُ
ومن الاغترار طول الأمل وما من آفة أعظم منه، فإنه لولا طول الأمل ما وقع إهمال أصلا وإنما يقدم الإنسان على المعاصي ويؤخر التوبة لطول الأمل وإن لم تستطع قصر الأمل فاعمل عمل قصير الأمل ولا تمس حتى تنظر في يومك وتحاسب نفسك فإن رأيت زلة فامحها بالتوبة الصادقة النصوح والاستغفار والباقيات الصالحات وإذا أصبحت فعليك بتلاوة كلام الله والباقيات الصالحات وتأمل ما مضى في ليلك ونهارك واحذر التسويف فإنه أكبر جنود إبليس.
وَكُنْ صَارِمًا كَالوَقْتِ فَالمَقْتُ فِي عَسَى ... وَإِيَّاكَ مَهْلاً فهي أَخْطَرُ عِلَّتِي(2/59)
بِسَيْفِ العَزْمِ سَوْفَ فاتَجُدْ ... تَجِدْ نَفَسًا فالنَّفْسُ إِنْ جُدْت جَدَّتِ
ثم صور لنفسك قصر العمر وكثرة الأشغال وقوة الندم على التفريط عند الموت وطول الحسرة على عدم البدار بعد الفوت وصور ثواب الكاملين وأنت ناقص والمجتهدين وأنت متكاسل ولا تخل نفسك من موعظة تسمعها وفكرة تحادثها بها.
وَالنَّفْسُ كالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلُهُ شَبَّ على
... حُبِّ الرَّضاعِ وَإِنْ تَفطِمْه يَنْفَطِمِ
وَرَاعِهَا وَهِي في الأَعْمَالِ سَائِمَةً ... وَإِنْ هِيَ اسْتَحَلَّتِ المرعة فلا تَسِمِ
كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّةً لِلْمَرْءِ قَاتِلَةً ... مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِ أَنَّ السُّمَّ في الدَّسِمِ
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل
قال أحد العلماء إخواني مثل أهل الدنيا في غفلتهم وطول أملهم كمثل الحاج نزلوا منزلا فقام قوم يقطعون الصخور ويبنون البيوت والدكاكين ويعملون أعمال من لم يخطر الموت لهم على بال فقال المستيقظون منهم ويحكم ما هذا البله والتغفيل، الرحيل عن هذا المنزل بعد ساعة، فانتبهوا فلم يشعروا حتى نودي بالرحيل فتركوا المنزل وما فيه:
شعرا:
لا يُلْهِنَّكَ مَنزلٌ لَعِبَتْ بِهِ ... أَيْدِي البلى مِن سَالِف الأزْمَانِ
فَلَقد تَرحَّل عنه كُلُّ مَسَرَّةٍ ... وَتَبَدَّلََتْ بَالهِم وَالأَحْزانِ(2/60)
وقال إنه بقدر إجلالكم لله عز وجل يحبكم وبقدر تعظيم قدره واحترامه يعظم أقداركم وحرمتكم ولقد رأيت من أنفق عمره في العلم إلى أن كبرت سنه ثم تعدى الحدود فهان عند الخلق وكانوا لا يلتفتون إليه مع غزارة علمه وقوة مجاهدته، ولقد رأيت من كان يراقب الله عز وجل في صبوته مع قصوره بالإضافة إلى ذلك العالم فعظم الله قدره في القلوب حتى علقته النفوس ووصفته بما يزيد فيه من الخير اهـ.
وقال: متى تكامل العقل فقدت لذة الدنيا فتضاءل الجسم وقوي السقم واشتد الحزن لأن العقل كلما تلمح العواقب أعرض عن الدنيا والتفت إلى ما تلمح ولا لذة عنده بشيء من العاجل وإنما يلتذ أهل الغفلة عن الأخرة ولا غفلة لكامل العقل اهـ.
ذُو العَقْلِ يَشْقى بِالنَّعيم بِعَقلِهِ ... وَأَخُو الجَهَالِة بَالجَهَالِة يَنْعَمُ
اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا للقيام بأمرك وأعذنا من عدونا وعدوك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شعرا:
أَكْدَحْ لِنَفْسكَ قَبْلَ الموتِ في مَهَلٍ ... وَلا تَكُنْ جَاهِلاً في الحَقِّ مُرْتابًا
إِنْ المَنِيَّة مَورُودٌ مَنَاهِلُها ... لا بُدَّ مِنْهَا وَلَو عُمِّرتَ أَحْقابًا
وَفي اللَّيَالِي وفي الأَيَّامِ تَجْربةٌ ... يَزْدادُ فِيْهَا أَولُوا الأَلبَابِ أَلبابًا
بَعْدَ الشَّبَابِ يَصِير الصّلْبُ مُنْحَنيًا ... وَالشَّعرُ بَعْدَ سَوادٍ كَانَ قَدْ شَابَا
يُفْنِي النُفُوسَ وَلا يُبْقِي عَلَى أَحَدٍ ... لَيلٌ سَريعٌ وَشَمْسٌ كَرُّها دَابَا
لِمُسْتَقرٍ وَمِيقَاتٍ مُقَدَّرِةٍ ... حَتَّى يَعُودَ شُهودُ النَّاسِ غِيابَا
وَمَن تعَاقِرهُ الأَيَّامُ تُبْدِلُهُ ... بالجارِ جَارًا وَبِالأَصْحَابِ أَصْحَابَا
خَلَّوا بُروَجًا وَأَوْطَانًا مُشَيَّدةً ... وَمُؤْنِسِينَ وَأَصْهَارًا وَأَنْسَابَا(2/61)
فَيَالَهُ سَفَرًا بُعْدًا وَمُغْتَربَا ... كُسِيْتَ مِنْهُ لِطُولِ النَّأْي أَثْوَابَا
بِمُوحِشٍ ضَيِّقٍ نَاءٍ مَحَلّتُهُ ... وَلََيْسَ مَن حَلَّهُ مِن غَيْبَةٍ آبَا
كَمْ مِن مَهِيْبٍ عَظِيْمِ المُلْكِ مُتَّخِذٍ ... دُونَ السُّرادِقِ حُرَّاسًا وَحُجَّابَا
و
أَضْحَى ذَليلاً صَغِيرَ الشَّأنِ مُنْفَرِدا ... وَمَا يُرَى عِنْدَهُ في القَبْرِ بَوَّابَا
وَقَبْلكَ النَّاسُ قَدْ عَاشُوا وَقَدْ هَلَكوا ... فَأَضْرَبَ الحيُّ عَن ذِيْ النَّأْي إِضرابَا
اللهم ارحمنا ذلنا يوم يقوم الأشهاد وأمن خوفنا من فزع المعاد ووفقا لما تنجينا به من الأعمال في ظلم الألحاد ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل(2/62)
قال رحمه الله واعجبا من عارف بالله عز وجل يخالفه ولو أتلف نفسه، لما قال إبراهيم لإسماعيل { إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } [الصافات102]، هل العيش إلا مع رضى الله؟ وهل الدنيا والآخرة إلا له، أف لمترخص في فعل ما يكره لنيل ما يحب تالله لقد فاته أضعاف ما حصل، أقبل على ما أقل يا ذا الذوق هل وقع تعثير في عيش وتخبيط في حال إلا حال مخالفته، فبالله يا أرباب المعاملة لا تكدروا المشرب قفوا على باب المراقبة وقوف الحرس وادفعوا ما لا يصلح عن أن يلج فيفسد، واهجروا أغراضكم لتحصيل ما يحبه الله إخواني لنفسي أقول فمن له شرب معي فليرد، أيتها النفس لقد أعطاك ما لم تأملي وبلغك ما لم تطلبي وستر عليك من قبيحك ما لو فاح لضجت المشام فما هذا الضجيج من فوات كمال الأغراض، قربت سفينة العمر من ساحل القبر وما لك في المركب بضاعة تربح بلغت نهاية الأجل وعين هواك تتلفت إلى الصبا واعجبا كلما صعد العمر نزلت وكلما جد الموت هزلت.
بَكَتْ عَيْنِي وحق لها بُكَاهَا ... عَلَى نَفْسِي التي عَصت الإِلَه
ومن أوْلى بطُول الحُزْن مِنها ... وبالآثام قد قطعت مداها
فلا تَقْوى تَصُدُّ عن المعاصِي ... ولا تخشى الإله ولا تناهي
تَتُوبُ من الإِساة في صباحٍ ... وتنْقُض قَبل أن يأتِي مساها
وتنْكُثُ عَهْدها حِيْنًا فحِيْنًا ... كأنَّ الله فيه لا يراها
وَتَقْعُدُ عَنْ حُقُوق الله عَمْدًا ... وَتَبْغِي دَائِمًا مَالاً وَجاهَا(2/63)
قال بعضهم يبوخ نفسه ويحك يا نفس كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب وتظنين أنك إذا مت وانفلت وتخلصت تتركين هيهات هيهات، أما تعلمين أن الموت موعدك والقبر بيتك والتراب فراشك، والدود أنيسك، والفزع الأكبر بين يديك اعملي يا نفس بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال وفي دار زوال لدار مقام، وفي دار حزن ونكد وكبد ونصب ولغب وهموم لدار سرور وأفراح ونعيم وخلود وهناء اعملي قبل طي الصحيفة اخرجي من الدنيا خروج الأتقياء الأحرار قبل أن تخرجي خروج الأشقياء على الاضطرار ولا تفرحي بما يساعد من زهرة الدنيا فرب مسرور مغبون ورب مغبون لا يشعر وويل لمن له الويل ثم لا يشعر، يضحك ويفرح، ويلهو ويمرح، ويأكل ويشرب، وقد حق له في كتاب الله أنه من وقود النار نسأل الله المعافاة في الدنيا والآخرة.
اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
شعرا:
أَجنِب جِيَادًا مِن التَّقْوى مُضَمَّرةٌ ... لِلسَّبْقِ يَومَ يَفُوزُ النَّاسُ بِالسَّبقِ
تَمُرُّ مَرَّ الرِّيَاحِ الهُوْجِ عَاصِفَةً ... أَوْ لَمْحَةِ البَرْقِ إِذْ يَجْتَازُ بالأُفُقِ
وارْكُضْ إلى الغَايَةِ القُصْوة وَخَلِّ لَهَا ... عِنَانَ صِدْق رَمَى في فِتْيَةٍ صُدُقِ
فَإِنَّ خَلْفَكَ أَعْمَالاً مُثْبَّطَةً ... وَلَسْتَ تَنْهَضُ إلا وَيْكَ بالعَنَقِ
كَمْ حَلَّ عَزْمَكَ مِن دُنْيا مُعَرِّجَة ... بِقَصْدِكَ اليومَ عن مَسْلُوْكَةِ الطُّرِقِ
يَا غَافِلاً وَالمَنَايَا مِنْهُ ذَاكِرَةٌ ... وَضَاحِك والرَّدَى مِنْهُ عَلَى حَنَقِ
قَطعْتَ عُمْرَكَ في سَهْو وفي سِنَةٍ ... وَمِنْ أَمَامِكَ لَيْلٌ دَائِمُ الأرَقِ
انتهى.
آخر:(2/64)
أَرَى النَّاَس في الدُّنْيَا، مَعافِّى وَمُبتلى ... وَمَا زَالَ حُكمُ الله في الأَرْضِ مُرْسَلا
مَضَى في جَمِيْعِ النَّاسِ سَابقُ عِلمهِ ... وَفَصَّلَهُ، مِن حَيْثُ شَاءَ، وَوَصلا
وَلَسْنَا عَلَى حُلْوِ القَضَاءِ وَمُرُّهِ ... نَرَى حكَمًا فِيْنَا، مِنَ اللهِ، أَعْدَلا
بَلاَ خَلْقَهُ بِالخَيرِ وَالشَّرِّ، فِتْنَةً ... لِيَرغَبَ مِمَّا فِي يَدَيْهِ وَيَسْألا
وَلَمْ يَبْغِ إِلا أَنْ يَبُوءَ بِفَضْلِهِ ... عَلينَا، وَإِلا أَنْْْ نَتُوبَ فَيَقْبَلا
هُوَ الأحَدُ القَيومُ مِنْ بَعْدِ خَلقِه ... وَمَا زالَ في دَيمومَةِ المُلْْكِ أَولا
وَمَا خَلَقَ الإِنْسَانَ إِلا لِغَايَةٍ ... وَلَمْ يُترَكِ الإِنْسَانَ في الأرْضِ مُهمَلا
كَفَى عبِرَةً أَنِّي وَأَنّكَ، يا أخي ... نُصَرَّفُ تَصرِيفًا لَطِيفًا، وَنُبتَلى
كَأَنَّا، وَقَدْ صِرْنَا حَدِيْثًا لِغَيْرِنَا ... نُخَاضُ كما خُضْنَا الحديثَ لِمن خَلا
تَوَهَمْتُ قَوْمًا قَدْ خَلَوا، فَكَأنَّهم ... بِأَجْمَعِهِم كَانُوا خَيَالاً تَخَيّلا
وَلَسْتُ بِأَبْقَى منهُم في دِيَارِهِم ... وَلَكِن لِي فِيْهَا كتابًا مُؤجَّلاَ
وَمَا النَّاسُ إلاَّ مَيِّتٌ وابْنُ مَيِّتٍ ... تَأجّلَ حَيٌّ مِنْهُم، أَوْ تَعَجّلاَ
وَلا تَحْْسَبَنَّ اللهَ يُخْلِفُ وَعْدَهُ ... بِمَا كَانَ أَوْصَى المُرْسَلِيْنَ، وَأَرْسَلاَ
هو المَوْتُ يا ابنَ المَوْتِ وَالبَعْثُ بعدهُ ... فَمِنْ بَيْنِ مَبعوثٍ مُخفا، وَمُثقَلاَ
وَمِنْ بَيْنِ مَسْحوبٍ عَلَى حُرّ وَجْهِهِ ... وَمنْ بِيْنِ مَنْ يَأتِي أَغَرّ مُحَجَّلا
عَشِقْنَا مِنَ اللَّذاتِ كل مَحرَّمٍ ... فَأُفِّ عَلَيْنَا مَا أَغَرّ وَأَجْهَلا
رَكَنّا إلى الدُّنْيَا فَطَالََ رُكُونُنَا ... وَلَسْنَا نَرَى الدُّنْيَا، عَلَى ذَاكَ مُنْزِلا
لَقَدْ كَانَ أَقْوَامٌ مِنَ النَّاسِ قَبْلَنا ... يَعافُونَ مِنْهُنّ الحَلالَ المُحَلَّلا(2/65)
فَلِلَّهِ دارٌ مَا أَحَثّ رَحِيلَها ... وَمَا أَعرَضَ الآمَالَ فِيْهَا وَأَطْوَلا
أَبَى المَرْءُ إِلاَّ أَنْ يَطُولَ اغْترارُهُ ... وَتَأبَى بِهِ الحالاتُ إِلا تَنَقّلا
إِذَا أمَّلَ الإِنْسَانُ أَمْرًا، فَنَالَهُ ... فَمَا يَبْتَغي فَوْقَ الذي كَانَ أَمّلا
وَكَمْ من ذَلِيلٍ عَزّ مِنْ بَعْد ذِلّةٍ ... وَكَمْ من رَفِيعٍ صَارَ في الأَرْض أَسْفَلا
وَلَمْ أَرَ إِلا مُسْلمًا في وَفَاتِهِ ... وَإِنْ أَكْثَر البَاكِي عَلَيْهِ، وَأعْوَلا
وَكَمْ مِنْ عَظِيْمِ الشَّأنِ في قَعرِ حُفرةٍ ... تَلَحّفَ فيها بالثَّرى، وَتَسَرْبَلا
أَيَا صَاحِبَ الدُّنْيَا وَثِقْتَ بِمَنْزِلٍ ... تَرَى المَوْتَ فِيْه، بالعِبَادِ مُوَكَّلا
تُنافِسُ في الدُّنْيَا لِتَبلُغَ عِزّها ... وَلَسْتَ تَنَالُ العِزّ حتى تُذَللا
إِذَا اصْطَحَب الأَقْوامُ كَانَ أَذَلُّهُم ... لأصحابِهِ نَفَسًا، أَبَرَّ وَأَفْضَلا
وَمَا الفَضْلُ في أَنْ يُؤْثِرَ المَرءُ نَفْسَهُ ... وَلَكِن فَضْلَ المَرْءِ أَنْْ يَتَفَضَّلا
انتهى.
آخر:
يَا مَن يُريدُ طَريقةً تُدْنيه مِنْ ... ربَّ العبادِ بصالحِ الأَعْمَالِ
وَتُقيمُه للاستقَامةِ بَعْدُ في الأَ ... حْوَالِ وَالأَعْمَالِ وَالأَقْوَالِ
وكذاكِ تُوصِلُهُ إِلَيْهَا إِنْ يَكُنْ ... ذَا هِمَّةٍ لِمَوَاقِعِ الأَفضالِ
هِيَ أَنْ تُرِدْ تَحْصِيّلَهَا شَيئانِ أَمَّا ... الأَوَّلُّ المَقْصُودُ في الأَمْثَالِ
حِفظُ الخَواطِرِ بِالحِراسةِ ثُم كُنْ ... حَذِرًا مِنَ التَّفْرِيطِ وَالإِهْمَالِ
بَلْ لا تَكُونُ مَعَ الخَواطِرِ غَافِلاً ... مُسْترسلاً في مُدَّةِ الإِمْهَالِ
أَوْ مُؤْثِرًا كُلَّ الفَسَادِ بِأسْرِهِ ... ِمِنْهَا يَجِيءُ وَلَيْسَ ذَا إِشْكَالِ
وَلأَنَّهَا لِلْنَّفْسِ وَالشَّيطانِ بَذْ ... رٌ في القُلوبِ بِغَيرِ مَا إِقْلالِ(2/66)
فَإِذَا تَمكَّنَ بَذْرُهَا مِنْ أَرْضِهَا ... بِالسَّقي من ذِي الفَاجِرِ المُجْتَالِ
إِذَا قَدْ يَصيرُ بِسَقيهَا مُتَعاهِدًا ... وَالعَبْدُ في الغَفَلاتِ عَنْ ذِي الحَالِ
حَتَّى تَصِيْرَ إِذَا أَرَادَتٌ كَذَا ... حَتَّى تَصِيْرَ عَزَائِمُ الأفعالِ
وَيَظَلُّ يَسْقِيهَا وَيُدْمِنُ سَقيها ... حَتَّى تُغِلَّ بَأَخْبَثِ الأَعْمَالِ
هَيْهَاتَ إِنَّ الدَّفعَ وهي خَوَاطِرٌ ... لَوْ كَانَ ذَاكَ بِأَيْسَرِ الأَحْوَالِ
فَهُنَاكَ يَصْعُب دَفْعُها مِن بَعْدِ أن ... صَارَتْ هُنَاكَ إِرَادَةَ الأَعْمَالِ
وَهُو المفرُّط حَيْثُ كَانَتْ خَاطِرًا ... شَيْئًا ضَعِيفًا غَيْرَ ذِي أَحْمَالِ
مِثلَ الشَّرَارة هَانَ مِنْهَا بدؤُها ... والشَّأنُ كلَّ الشَّأنِ في الإِهْمَالِ
حَتَّى إِذَا عَلقتْ هَشِيمًا يَابسًا ... وَتَمكَّنتْ مِن ذَاكَ بِالإِشْعَالِ
عَجَز المفرِّطُ بعدُ عَنْ إِطفائِها ... يَا خَيْبَةَ المتَكَاسِلِ البَطَّالِ
***
فَإِذَا أَردتَ طريقةً في حِفْظِها ... إِذْ كُنْتَ ذَا حِرْصٍ وَذَا إِقْبَالِ
فَاسْمَعْ إِذًا أَسْبَابَ موصلةً إلى ... تلكَ الطَّرِيْقِ بِأَوضَحِ الأَقْوَالِ
عِلْمٌ بِرَبكَ جَازمٌ مِنْ أَنَّهُ ... بِالاطلاعِ وَلَيْسَ ذَا إِهْمَالِ
لِلْقَلْبِ بِالنَّظرِ الذِي هُو وَصْفُه ... وَالعِلْمِ بالخطراتِ في الأَحْوَالِ
وَكَذا الحَياءُ مِنَ الإِلَه فَإِنَّهُ ... سَبَبٌ لَهَا بِالحِفْظِ وَالإِكْمَالِ
وَكَذَاكَ إِجْلالُ لَهُ مِنْ أنْ يَرَى ... في بَيْتِهِ المَخلوقِ لِلإِجْلاَلِ
كَالحبِّ وَالتعظيمِ جَلَّ جلالُه ... تِلْكَ الخَواطِرُ تَحض بالأغلالِ
وَكَذَاكَ إِيْثَارٌ لَهُ سُبْحانَه ... وَهُو الغَنِيُّ فَجَلَّ عنْ أَمْثالِ
عَنْ أَنْ يُسَاكنَ قَلْبَكَ المَربُوبُ غَيْر ... الحُب للمعبودِ ذِي الإِفْضَالِ
فَتَظَلَّ تَسْتَعِرُ اسْتِعَارًا يَأكلُ الإ ... يمانَ مِنْ حُبٍّ وَمِنْ إِجْلالِ(2/67)
مَعَ كُلِّ ما فِي القَلْبِ مِنْ خَيْرٍ فَيَذْ ... هَبُ جُمْلَةً وَالعَبْدُ في إِغْفالِ
وَكَذَا مِنَ الأَسْبَابِ عِلْمُكَ إِنَّمَا ... تِلْكَ الخَوَاطِرُ غَيْرَ ذِي إِشْكَالِ
كَالحبِّ يُلْقَى لِلْطيُورِ لِصَيْدِهَا
... وَالعَبْدُ مَقْصُودًا لِذِي الأَحْبَالِ
يَصْطَادهُ الشَّيطَانُ في فَخِ الرَّدَى ... والطُّعْمُ فِيْهِ خَوَاطِرُ الإِضْلالِ
وَكَذَا مِنَ الأَسباب عِلْمُك أَنَّهَا ... وَخَواطِرِ الأَعْمَالِ وَالأَقْوَالِ
كَالحبِّ والإِيمَانِ لَنْ يَتَلاقيَا ... في القَلْبِ إلا كَالتُّقَى الأَبْطَالِ
بَلْ إِنَّ دَاعِي الحُبِّ ثُمَّ إِنَابَة ... ضِدَّ الخَوَاطِرِ فاسْتَمِعْ لِمَقَالِ
مِنْ كلِّ وَجْهٍ وَالقِتَال فَقَائِمٌ ... حَتَّى يكونَ الضدُ ذَا إِذْلالِ
لَوْ كَانَ قَلْبُكَ ذَا حَيَاةٍ ضَرَّهُ ... أَلمُ المُصَابِ فَصَارَ ذَا إِقْبَالِ
لَكِنَّ قَلْبُكَ في البَطَالَةِ غَافِلٌ ... مَا كَانَ ذَا هَمٍّ وَذَا إِشْغَالِ
وَكَذَا مِنَ الأَسْبَابِ تَعْلمُ أَنَّها ... بَحْرٌ عَمِيْقٌ مِن بُحُورِ خَيالِ
وَالقَلبُ يَفْرَقُ بَعْدَ مَا يَدْخُلْ بِهِ ... وَيَتَيِهُ ثُمَّ بِظُلْمةِ الأَهْوَالِ
فَيَظَلُّ يَطْلُبُ لِلْخَلاصِ فَلَمْ يَجِدْ ... مِنْ ذَاكَ نَهْجًا يُنْج مِنْ أَوْبَالِ
أَوْ مَا تَرَى أَنَّ الخَوَاطِرَ كُلَّمَا ... غَلبَتْ لِقَلبِكَ صَارَ ذَا إِذْلالِ
قَدْ أَوْرَثَتُهُ وَسَاوِسًا ذَلَّ بِهَا ... حَتَّى اغْتَدى بالغَيرِ ذُو إِشْغَالِ
عَزلَتهُ عَنْ سُلْطَانِه وَمحِلِّهِ ... عَنْ ذِي المَحَلِ المُشمَعِلِ العَالِ
وَعَليه أَفْسدَتْ الرَّعَايَا كُلَّهَا ... فالملكُ وَالسلطانُ في اضْمِحْلالِ
وَرَمَتْهُ في الأَسْرِ الطويلِ مُكَبَّلاً ... بِيَدِ الهَلاكِ يُجَرُ بِالأَغْلالِ
وَإِذَا عَلِمْتَ بأَنَّ هَذا كُلَّهُ ... في الخَوَاطِرِ النَّفْسيِّ ذِي الإِضْلالِ(2/68)
فَخَواطِرُ الإِيْمَانِ في قَلْبِ الفَتَى ... لِلْخَيْر أَصْلٌ لَيْسَ ذَا إِشْكَالِ
فَمَتَى بَذَرْتَ خَوَاطِرَ الإِيْمَانِ في
... أَرْضِ القُلوبِ بِغَيْرِ ما إِهْمَالِ
مِنْ خَشْيِةٍ وَمَحبَّةٍ وَإِنَابَةٍ ... وَكَذَا رَجَاءِ ثَوَابِ ذِي الإِفْضَالِ
وَكَذَلكَ التَّصديقُ بِالوَعْدِ الذِي ... تَرْجُوْهُ مِنْه بِصَالِحِ الأَعْمَالِ
وَسَقَيْتَها مُتَكَرِّرًا مُتَعَاهِدًا ... وَحَفِظْتَهَا بِالحِفْظِ والإِكْمَالِ
فَهُناكَ تُثْمرُ كُلَّ فِعْلٍ طيِّبٍ ... مِنْ صَالِحَاتِ القَوْلِ وَالأَفْعَالِ
وَهُنَاكَ تَملأ قَلْبَه الخَيْراتُ وَا ... لطَّاعَاتُ لِلْمَعْبُودِ ذِي الإِجْلالِ
وَهُنَاكَ السُّلْطانُ في سُلْطَانِهِ ... قَدْ يَسْتَقرُّ بِأَكْمَلِ الأَحْوَالِ
وَكَذَا رَعِيَّتُهُ اسْتِقَامَةُ رَغْبَةٍ ... بَعْدَ اسْتَقَامَتِه مِنَ الإِضْلالِ
***
واعْلَمْ بِأَنْ لا بُدَّ مِنْ شَرْطَيْن لا ... تَغْتَرَّ بِالإِغْفَالِ وَالإِهْمَالِ
أَنْ لا تَكُونَ لِوَاجبٍ أَوْ سُنَّةٍ ... بِالتَّركِ ذُو عَجْزٍ وَذُو إِغْفَالِ
أَوْ تَجْعَلْ الأَضَّدادَ مَوْضِعَ خَشْيَةِ ... الرَّحمنِ مِنْ حُبٍّ وَمِنْ إِجْلالِ
هَذَا وثَانِي ذَيْنِكَ الشَّيئَينِ إِنْ ... رُمْتَ المقالَ فَخُذْهُ بالإِجْمَالِ
صِدْقُ التَّأهُّبِ للقَاءِ فَإِنَّهُ ... مِنْ أَبْلَغِ الأَسْبَابِ وَالأَعْمَالِ
فَمَتى اسْتَعدَّ وَكَانَ هَذا شَأْنَه ... والشأْنُ كُل الشأنِ في الإِقْبالِ
انْحَلَّتْ الدُّنيا جَمِيْعًا وَانْجَلَتْ ... عَنْ قَلْبه فاشْتَاقَ لِلْتَّرْحَالِ
وَهُنَاكَ يُخْبِتُ قَلبُه للهِ جَلَّ ... اللهُ عن ندٍ وَعَنْ امْثَالِ
وَغَدَا بِهِمَّتِهِ مُنِيْبًا عَاكِفًا ... بِالقَولِ وَالأَعْمَالِ والأَحْوَالِ
وَهُنَاكَ يُحدثُ هِمَّةً أُخرى بِهَا ... يَرْجُو الفَلاحَ بِموقِفِ الأَهْوَالِ(2/69)
فَتَكُونُ نِسْبَةُ قَلْبِه فِيْهَا إلى الأَ ... خرَى كَهَاذِي الدَّارِ بِالأَطفالِ
أَوْ لَيْسَ بَطْنُ الأُم كَانَ حجَابُهَا ... لِلْجِسْمِ في الدُّنْيا بِلا إِشْكَالِ
فَكَذَا حِجَابُ القَلْبِ كَانَ هُو الهَوى ... والنَّفْسُ مِنْ أَحِراه بالإِضْلالِ
وَالحَاصِلُ المقْصُودُ أَنَّ جَمِيْعَ أَعْمَا ... لِ القُلوبِ وَسَائِرِ الأَعْمَالِ
مُفْتَاحُها صِدْقُ التَّأهُبِ لِلُّقا ... وَالفَاتِحُ المَعْبُودُ ذُو الإِجْلالِ
انتهى.
آخر:
وَكُلُّ مَنْ نَامَ بِلَيْلِ الشَّبَابِ ... يوقظه الدهر بصبح المشيبْ
يَا رَاكِبَ العَجْزِ أَلا نَهْضَةٌ ... قَدْ ضَيَّقَ الدَّهْرُ عَلَيْكَ المَجَالْْ
لا تَحْسِبَنَّ أَنَّ الصِّبَا رَوْضَةٌ ... تَنَامُ فِيْهَا تَحْتَ فيءِ الظِّلالْ
فَالعَيْشُ نَومٌ وَالرَّدَى يَقْظَةٌ ... وَالمَرءُ مَا بَيْنَهُمَا كَالخَيَالْ
وَالعُمْر قَدْ مَرَّ كَمرِّ السَّحَابِ ... وَالمُلْتَقَى بِاللهِ عَمَّا قَرِيبْ
وَأَنْتَ مَخْدُوعٌ بِلَمْعِ السَّرَابْ ... تَحْسِبُهُ مَاءً وَلا تَسْتَرِيبْ
فَكُلُّ مَنْ يَرْجُو سِوَى الله خَابْ ... وَإِنَّمَا الفَوزُ لِعَبْدٍ مُنِيبْ
يَسْتَقْبِلُ الرُّجْعَى بِصِدقِ المَتَابْ ... وَيَرقُبُ الله الشَّهِيدَ القَرِيبْ
يَا حَسرَتَا مَرَّ الصِّبَا وَانْقَضَى ... وَأَقْبَلَ الشَّيْبُ يَقُصُّ الأَثَرْ
وَاخَجْلَتا وَالرحْلُ قَدْ قُوِّضَا ... وَمَا بَقِي في الخُبْرِ غَيْرُ الخَبَرْ
وَلَيتَنِي لَوْ كُنْتُ فِيمَا مَضَى ... ادَّخِرُ الزَّادَ لِطُولِ السَّفَرْ
قَدْ حَانَ مِن رَكْبِ التَّصَابِي إِيابْ ... وَرَائِدُ الرُّشْدِ أَطَالَ المَغِيبْ
انتهى.
آخر:
أَسَأتُ فَمَا عُذْرِي إِذَا انْكَشفَ الغِطَا ... وَأَظْهَرَ رَبُّ العَرْشِ مَا أَنَا أسْتُرُ
إِذَا اللهُ نَادَانِي بِيَوْمِ قِيَامَةٍ ... تعَدَّيْتَ حَدَّ العِلْمِ هَلْ أَنْتَ تُوْجَرُ(2/70)
أَسَأتَ إِلى خَلْقِي وَحَقِّي تَرَكْتَهُ ... فَأَيْنَ الحَيَا مِنِّي فَإِنِّي أَكْبَرُ
دَعَوْتَ إِلى عِلْمٍ وَأَظْهَرْتَ حِكْمَةً ... وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا عَكُوفٌ مُشَمِّرُ
وَخَالَفْتَ مَا قَدْ قُلْتَ وَازْدَدتَ غَفْلَةً ... وَقَلْبُكَ لِلَّذَاتِ وَالغِشِّ يُضْمِرُ
ظَنَنْتَ بِأَنِّي مُهْمِلٌ لامْرءٍ عَصَى ... كَأَنَّكَ لَمْ تَعْلَمْ بِأَنَّكَ تُحْشَرُ
هُنَالِكَ يَمْتَازُ المُسِيْؤُنَ كُلُّهُمْ ... فَوَاحَسْرَتَا إِنْ كُنْتُ مِمَّنْ يُحَسَّرُ
فَيَا حِيُّ يَا قَيُّومُ يَا خَيْرَ رَاحِمٍ ... وَمَنْ هُو لِلزلاتِ والذَّنْبِ يَغْفِرُ
عَصَيْتُكَ مِنْ لُؤْمِي وَنَفْسِي ظَلَّمْتُهَا ... وَذَنْبِي فِي عُمْرِي يَزِيْدُ وَيَكْثُرُ
وَلَكِنَّنِي إِنْ جِئْتُ ذَنْبًا وَزَلَّةُ ... أَرَجيْكَ يَا رَحْمَنُ لِلْوَهْنِ تَجْبُرُ
وَتَغْفِرُ لِي ذَنْبِي وَتُصْلِحُ عِيْشَتِيْ ... وَتَرْحَمُ آبَائِي فإِنَّكَ تَقْدِرُ
وَأَرْجُوكَ يَا رَحْمَنُ إِذْ مَا سَتَرتَنِي ... بِدُنْيَايَ في يَوْمِ القِيَامَةِ تَسْتُرُ
آخر:
قَطَّعْتُ مِنْك حَبائِل الآمَالِ ... وَحَطَطْتُ عَنْ ظَهَرِ المَطِي رِحالي
وَيَئسِتُ أنْ أَبْقَى لشيء نِلتُ مِمَّا ... فيكِ يَا دُنيا وَأَنْ يَبقَى لِي
فَوَجَدْتُ بَرْدَ اليّأسِ بَيْنَ جَوانحِي ... وَأَرَحْتُ مِنْ حَلَي وَمِنْ تَرْحَالِي
وَلَئِنْ بَئِسْتُ لَرُبّ بَرْقَةِ خُلّبِ ... بَرَقَتْ لذي طَمَعٍ وَبَرَقْةِ آل
مَا كانَ أَشأمَ، إِذْ رَجاؤكِ قَاتِلي ... وَبَناتُ وَعْدِكِ يَعْتَلِجْنَ بِبَالِي
فَالآن يا دُنيا عَرَفَتُكِ فاذهبِي ... يَا دَار كُل تَشَتَتٍ وَزَوَالِ
والآنَ صَارَ لِي الزَّمَانُ مُؤدِّبًا ... فَغَدَا عَليَّ وَرَاحَ بِالأَمْثَالِ
وَالآنَ أَبْصَرْتُ السَبيلَ إِلى الهُدَى ... وَتَفَرَّغَتْ هِمَمِيْ عَنْ الأَشْغَالِ(2/71)
وَلَقَدْ أَقَامَ لِي المَشِيبُ نُعَاتَهُ ... يُفْضِي إِلي بِمَفْرقٍ وَقذَالِ
وَلَقَدْ رَأيتُ المَوْتَ يُبْرِقُ سَيْفَهُ ... بِيَدِ المَنيَّةِ: حَيْثُ كُنْتُ، حِيالِي
وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَرَى الحَياتِ تَخَرَّمَتْ ... وَلَقَدْ تَصَدّى الوَارِثُونَ لِمَالِي
وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَلَى الفَنَاءِ أَدلةً ... فِيمَا تَنَكّرَ مِنْ تَصَرفِ حَالِ
وَإِذَا اعْتَبْرتُ رَأَيْتُ خَطْبَ حَوادِثٍ ... يَجريْنَ بِالأَرْزَاقِ، وَالآجَالِ
وَإِذَا تَنَاسبِ الرِّجالُ، فَمَا أَرَى ... نَسَبًا يُقاسُ بِصَالِحِ الأَعْمَالِ
وَإِذَا بَحَثْتُ عَنِ التُّقَى وَجَدْتُهُ ... رَجُلاً يُصَدِّقُ قَوْلَهُ بِفَعالِ
وَإِذَا اتْقَى الله امْرُؤٌ وَأَطَاعَهُ ... فَيَداهُ بَيْنَ مَكَارِمٍ وَمعَالِ
وَعَلَى التَّقى إِذَا تَرَسخَ فِي التُّقَى ... تَاجَانِ تَاجُ سَكينَةٍ وَجَلالِ
وَاللَّيْلُ يَذْهَبُ وَالنَّهارُ تَعَاوُرا ... بِالخَلْقِ في الإِدْبارِ وَالإِقْبَالِ
وَبِحَسْبِ مَنْ تُنْعَى إِلَيهِ نَفْسُهُ ... مِنْهُ بِأَيَّامٍ خَلَتْ، وَلَيَالِ
اضْرَبْ بِطَرفِكَ حَيْثُ شِئْتَ فأَنْتَ فِي ... عِبَرٍ لَهُنَّ تَدَارُكٌ وَتَوَالِ
يَبْكِي الجَديدُ وَأَنْتَ فِي تَجْديدِه ... وَجَميعُ مَا جَدَّدْتَ مِنْهُ فَبَالِ
يَا أَيُّهَا البَطِرُ الذي هو في غَدٍ ... في قَبْرِهِ مُتَفَرَقُ الأَوْصالِ
حَذَفَ المُنَى عَنْهُ المُشَمِّرُ في الهُدَى ... وَأَرَى مُنَاكَ طَويلَةَ الأَذْيَالِ
وَلَقَلّ مَا تَلْقَى أَغَرَّ لِنَفْسِهِ ... مِنْ لاعِبٍ مَرحٍ بِهَا، مُخْتالِ
يا تاجِرَ الغَيَّ الُمضِرَّ بِرُشْدِهِ ... حَتَّى مَتَى بالغَيَّ أنْتَ تُغَالِي
الحَمْدُ لله الحَميدِ بِمَنَّه ... خَسِرَتْ وَلم يَرْبَحْ يَدُ البَطَّالِ
لله يَوْمٌ تَقْشَعِرَّ جُلُودُهُمْ ... وَتَشِيبُ مِنْه ذَوَائِبُ الأطْفالِ(2/72)
يَوْمُ النَّوازِلِ والزَّلازِلِ وَالَحوا ... مِلِ فيِه إذْ يَقِذفْنَ بالأحْمَالِ
يِوْمٌ التَّغاُبنِ، والتَّبايُنِ والتنَّا ... زُلِ وَالأمُورِ عَظيمَةِ الأهْوَالِ
يَوْمٌ يَنَادَي فيهِ كُلٌ مَضَلَّلٍ ... بِمُقَطعَاتِ النَّار، والأغْلالِ
لِلْمُتَّقِينَ هُناكَ نَزْلُ كَرامَةٍ ... عَلَتِ الوُجُوهَ بنَضرةٍ وَجَمالِ
زُمَرَّ أضَاءَتْ لِلْحِسَابِ وُجُوهُها ... فَلَهَا بَرِيقٌ عِندَهَا وَتَلالي
وَسَوَابِقٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ جَرتْ ... خُمْصَ البُطونِ خَفِيفَةَ الأثَقالِ
مِنْ كُلّ أَشْعَثَ كَاَنَ أَغْبَر ناحِلاً ... خَلَقَ الرّداءِ، مُرَقعَ السَّرْبالِ
حِيِلُ ابنِ آدَمَ في الأمُورِ كَثيرَةٌ ... وَالمَوْتُ يَقطعُ حِيلَةَ المُحْتَالِ
نَزَلُوا بأَكْرَمِ سَيَّدٍ فأظَلّهُمْ ... في دارِ مُلْكِ جَلالَةٍ وَظِلالِ
وَمِنَ النَّعاةِ إلى ابنِ آدَمَ نَفْسَهُ ... حَرَكُ الخُطَى وطُلُوعُ كُل هِلالِ
ما لِيْ أرَاكَ لِحُرّ وَجْهِكَ مُخْلِقًا ... أَخْلقْتِ يا دنُيْا وُجُوهَ رِجالِ
قِسْتَ السؤّالَ فكانَ أعْظَمَ قيمةً ... مِنْ كُل عَارِفَةٍ جَرَتْ بسُؤُالِ
كُنْ بالسؤالِ أشَدَّ عَقْدِ ضَنَانَةٍ ... مِمّنْ يَضِنّ عَليَكَ بالأمْوَالِ
وَصُنِ المَحامِدَ ما استَطَعتَ فإنّها ... في الوَزْنِ تَرْجُحُ بَذْلَ كلّ نَوَالِ
وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنَ المُثَمَّرِ مالَهُ ... نَسيَ المُثَمَّرُ زِينَةَ الإقْلالِ
وَإذا امْرُؤٌ لَبِسَ الشٌّكُوكَ بِعَزْمِهِ ... سَلكَ الطّريقَ عَلى عُقودِ ضَلالِ
وَإذا ادَّعَتْ خُدَعُ الَحوادِث قَسْوَةٍ ... شَهِدَتْ لُهنّ مَصارِعُ الأبْطالِ
وِإذا ابتُليتَ ببَذْلِ وَجْهِكَ سائِلا ... فابْذُلْهُ لِلْمتَكَرّمِ المِفْضَالِ
وَإذا خَشِيْتَ تَعَذٌّرًا في بَلْدَةٍ ... فاشْدُدْ يَدَيْكَ بعاجِلِ التّرْحالِ
وَاصْبِرْ عَلَى غِيِرِ الزّمانِ فإنّما ... فَرَجُ الشّدائِدِ مِثلُ حَلَّ عِقالِ
انتهى
آخر:(2/73)
غَفَلْتُ وَحَادِيْ المَوْتِ في أَثَرِيْ يَحْدُوْ ... فَإنْ لَمْ أَرُحْ يَوْمِيْ فَلا بُدَّ أَنْ أَغْدُ
أُنَعَّمُ جِسْمِيْ بِاللَّبَاسِ وَليْنهِ ... وَلَيْسَ لِجِسْمِيْ مِنْ لِبَاسِ البلَى بُدٌّ
كَأَنَّيْ بِهِ قَدْ مَرَّ في بَرْزخِ البلَى ... وَمِنْ فَوقِهِ رَدْمٌ وَمِنْ تَحْتِهِ لَحْدٌ
وَقَدْ ذَهَبَتْ مِنيْ المَحَاسِنُ وَانْمَحَتْ ... وَلَمْ يَبْقَ فَوْقَ العَظْمِ لَحْمٌ وَلاَ جِلْدٌ
أَرىَ العُمْرَ قَدْ وَلى وَلَمْ أُدْرِك المُنَى ... وَلَيْسَ مَعِيْ زَادٌ وَفي سَفَريْ بُعْدُ
وَقَدْ كُنْتُ جَاهَرْتُ المُهَيْمِنَ عَاصِيًا ... وَأَحْدَثْتُ أَحْدَاثًا وَلَيْسَ لَهَا رَدُّ
وَأَرْخَيْتُ خَوْفَ النّاسِ سِتْرًا مِنْ الْحَيَا ... وَمَا خِفْتُ مَنْ سِرّىْ غَدًا عِنْدَهُ يَبْدُو
بَلَ خِفْتُهُ لَكِنْ وَثِقْتُ بِحِلْمِهِ ... وَأَنْ لَيْسَ يَعْفُو غَيْرُهُ فَلَهُ الحمْدُ
فَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَيءٌ سِوَى المَوْتِ وَالبِلَى ... عَن اللّهْوِ لَكِنْ زَالَ عَنْ رَأْيِنَا الرُّشْدُ
عَسَى غَافِرُ الزلاتِ يَغْفِرُ زَلَّتِيْ ... فَقَدْ يَغْفِرُ اَلمَوْلَى إذَا أَذْنَبَ العَبْدُ
أَنَا عَبْدٌ سُوْءٍ خُنْتُ مَوْلايَ عَهَّدَهُ ... كَذَلِكَ عَبْدُ السُّوءِ لَيْسَ لَهُ عَهْدُ
فَكَيْفَ إذَا أَحْرَقْتَ بالنارِ جُثتِيْ ... وَنَارُكَ لا يَقْوَى لهَا الحَجَرُ الصَّلْدُ
أَنَا الفَرْدُ عِنْدَ المَوْتِ وَالفَرْدُ في البِلَى ... وَأَبْعَثُ فَرْدًا فارْحَمْ الفَرْدَ يَا فَرْدُ
انتهى.
آخر:
تَفِيْضُ عُيُوْنِيْ بالدُّمُوعِ السَّواكِبِ ... وَمَا لِيَ لا أَبكِي عَلى خَيْرِ ذَاهِبِ
عَلى العُمْرِ إذْ ولَّى وَحَانَ انْقِضَاؤُهُ ... بآمَالِ مَغْرُوْرٍ وَأَعْمَالِ نَاكِبِ
عَلى غُرَرِ الأيامِ لَمَّا تَصَرَّمَتْ ... وَأَصْبَحْتُ مِنْهَا رَهْنَ شُؤْمِ المَكَاسِبِ(2/74)
عَلى زَهَرَاتِ العَيْشِ لَمَّا تَسَاقَطَتْ ... بِرِيْحِ الأمانيْ وَالظُّنوْنِ الكَوَاذِبِ
عَلى أَشْرَفِ الأوْقاتِ لَمَّا غُبِنْتُهَا ... بأَسْوَاقِ غَبْنٍ بَيْنَ لاَهٍ وَلاَعِبِ
عَلى أَنْفَسِ الساعَاتِ لَما أَضَعْتْهَا ... وَقَضيْتُهَا في غَفلٍَة وَمَعَاطِبِ
عَلى صَرْفِيَ الأيامَ في غَيْرِ طَائِلٍ ... وَلاَ نَافِعٍ مِنْ فِعْلِ فَضْلٍ وَوَاجِبِ
عَلى مَا تَوَلى مِنْ زَمَاٍن قَضَيْتُهُ ... وَرَجَّيْتُهُ في غَيْرِ حَق وَصَائِبِ
عَلى فُرَصٍ كَانَتْ لَوْ أَنَّيْ انْتَهَزْتُهَا ... لَقَدْ نِلْتُ فِيْهَا مِنْ شَرِيْفِ المَطَالِبِ
وَأَحْيَانَ آناءٍ مِنْ الدَّهْرِ قَدْ مَضَتْ ... ضيَاعًا وَكَانَتْ مَوْسِمًا لِلرَّغَائِبِ
عَلى صُحٍف مَشْحُوْنَةً بِمَآثِمٍ ... وَجُرْمٍ وَأَوْزَارٍ وكَمْ مِنْ مَثَالِبِ
عَلى كَمْ ذُنُوبٍ كَمْ عُيُوْب وَزَلَّةٍ ... وَسَيَّئٍة مَخْشِيَّةٍ فِيْ العَوَاقبِ
عَلى شَهَواٍت كَانَتِ النَّفسُ أَقْدَمَتْ ... عَلَيْهَا بِطَبْعٍ مُسْتَحَثٍّ وَغَالِبِ
عَلَى أَنَّنِي آثَرْتُ دُنْيَا دَنِيَّةً ... مُنَغِّصَةً مَشْحُونَةً بِالْمَعَائِبِ
عَلَى عَمَلٍ لِلْعِلْمِ غَيْرِ مُوَافِقٍ ... وَمَا فَضْلُ عِلْمٍ دُونَ فِعْلٍ مُنَاسِبِ
عَلَى فِعْلِ طَاعَاتٍ بِسَهْوٍ وَغَفْلَةٍ ... وَمِنْ غَيْرِ إِحْضَارٍ وَقَلْبٍِ مُرَاقِبِ
أُصَلِّي الصَّلاَةَ الْخَمْسَ وَالْقَلْبُ جَائِلُ ... بِأَوْدِيَةِ الْأَفْكَارِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ
عَلَى أَنَّنِي أَتْلُو الْقُرْآنَ كِتَابَهُ ... تَعَالَى بِقَلْبٍ ذَاهِلٍ غَيْرِ رَاهِبِ
عَلَى طُولِ آمَالٍ كَثِيرٍ غُرُورُهَا ... وَنِسْيَانِ مَوْتٍ وَهْوَ أَقْرَبُ غَائِبِ
عَلَى أَنَّنِي قَدْ أَذْكُرُ اللَّهَ خَالِقِي ... بِغَيْرِ حُضُورٍِ لَازِمٍ وَمُصَاحِبِ
عَلَى أَنَّنِي لَا أَذْكُرُ الْقَبْرَ وَالْبِلَى ... كَثِيرًا وَسَفَرًا ذَاهِبًا غَيْرَ آيِبِ(2/75)
عَلَى أَنَّنِي عَنْ يَوْمِ بَعْثِي وَمَحْشَرِي ... وَعَرْضِي وَمِيزَانِي وَتِلْكَ الْمَصَاعِبِ
مَوَاقِفُ مِنْ أَهْوَالِهَا وَخُطُوبِهَا ... يَشِيبُ مِنَ الْوِلْدَانِ شَعْرُ الذَّوَائِبِ
تَغَافَلْتُ حَتَّى صِرْتُ مِنْ فَرْطِ غَفْلَتِي ... كَأَنِّي لَا أَدْرِي بِتِلْكَ الْمَرَاهِبِ
عَلَى النَّارِ أَنِّي مَا هَجَرْتُ سَبِيلَهَا ... وَلَا خِفْتُ مِنْ حَيَاتِهَا وَالْعَقَارِبِ
عَلَى السَّعْيِ لِلْجَنَّاتِ دَارِ النَّعِيمِ وَالْـ ... ـكَرَامَةِ وَالزُّلْفَى وَنَيْلِ الْمَآرِبِ
مِنَ الْعِزِّ وَالْمُلْكِ الْمُخَلَّدِ وَالْبَقَا ... وَمَا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ مِنْ كُلِّ طَالِبِ
وَأَكْبَرُ مِنْ هَذَا رِضَا الرَّبِّ عَنْهُم ... وَرُؤْيَتُهُمْ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ حَاجِبِ
فَآهًا عَلَى عَيْشِ الْأَحِبَّةِ نَاعِمًا ... هَنِيئًا مُصَفًّى مِنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ
وَآهًا عَلَيْنَا فِي غُرُورٍ وَغَفْلَةٍ ... عَنِ الْمَلَاءِ الْأَعْلَى وَقُرْبِ الْحَبَائِبِ
وَآهًا عَلَى مَا فَاتَ مِنْ هَدْيِ سَادَةٍ ... وَمِنْ سِيرَةٍ مَحْمُودَةٍ وَمَذَاهِبِ
عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ هِمَّةٍ وَعَزِيمَةٍ ... وَجَدٍّ وَتَشْمِيرٍ لِنَيْلِ الْمَرَاتِبِ
عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ عِفَّةٍ وَفُتُوَّةٍ ... وَزُهْدٍ وَتَجْرِيدٍ وَقَطْعِ الْجَوَاذِبِ
عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ صَوْمِ كُلِّ هَجِيرَةٍ ... وَمِنْ خُلْوَةٍ بِاللَّهِ تَحْتَ الْغَيَاهِبِ
عَلَى الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ اللَّذَيْنِ تَحَقَّقَا ... وَصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ وَكَمْ مِنْ مَنَاقِبِ
عَلَى مَا صَفَا مِنْ قُرْبِهِمْ وَشُهُودِهِمْ ... وَمَا طَابَ مِنْ أَذْوَاقِهِمْ وَالْمَشَارِبِ
وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ جَلَالَهُ ... وَقُدْرَتَهُ فِي شَرْقِهَا وَالْمَغْرِبِ
إِلَيْهِ مَآبِي وَهْوَ حَسْبِي وَمَلْجَئِي ... وَلِي أَمَلٌ فِي عَطْفِهِ غَيْرِ خَائِبِ(2/76)
وَأَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ فِيمَا بَقِيَ لِمَا ... يُحِبُّ وَيَرْضَى فَهْوَ أَسْنَى الْمَطَالِبِ
وَأَنْ يَتَغَشَّانَا بِعَفْوٍ وَرَحْمَةٍ ... وَفَضْلٍ وَإِحْسَانٍ وَسَتْرِ الْمَعَائِبِ
وَأَنْ يَتَوَلَّانَا بِلُطْفٍ وَرَأْفَةٍ ... وَحِفْظٍ يَقِينَا شَرَّ كُلِّ الْمَعَاطِبِ
وَأَنْ يَتَوَفَّانَا عَلَى خَيْرِ مِلَّةٍ ... عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ خَيْرِ الْمَوَاهِبِ
مُقِيمِينَ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي ... أَتَانَا بِهَا عَالِي الذُّرَى وَالْمَرَاتِبِ
مُحَمَّدٌ الْهَادِي الْبَشِيرُ نَبِيُّنَا ... وَسَيِّدُنَا بَحْرُ الْهُدَى وَالْمَنَاقِبِ
عَلَيْهِ صَلَاةُ اللَّهِ ثُمَّ سَلَامُهُ ... وَآلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ كَالْكَوَاكِبِ
وللأمير الصنعاني في الحث على تدبر كتاب الله والتفكر في آياته والثناء على الله قصيدة بليغة:
الْوَارِدَاتُ عَلَيْنَا كُلُّهَا مِنَنٌ ... مِنْ رَبِّنَا فَلَهُ الْإِحْسَانُ وَالْحَسَنُ
إِنَّا لَنَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ مَوَاهِبِهِ ... مَا لَا تُحِيطُ بِهِ عَيْنٌ وَلَا أُذُنُ
فَشُكْرُ بَعْضِ أَيَادِيهِ الَّتِي شَمِلَتْ ... عَنْ شُكْرِهَا يَعْجَزُ الْعَلَّامَةُ اللَّسِنُ
يَا عَالِمَ الْغَيْبِ لَا يَخْفَاهُ خَافِيَةٌ ... وَعِلْمُهُ يَتَسَاوَى السِّرُّ وَالْعَلَنُ
أَهْلُ الْبَسِيطَةِ طُرًّا تَحْتَ قَبْضَتِهِ ... وَكُلُّهُمْ بِالَّذِي يَأْتِيهِ مُرْتَهَنُ
بِحِكْمَةٍ وَبِعِلْمٍ كَانَ مُبْتَدِئًا ... هَذَا الْوُجُودَ الَّذِي حَارَتْ لَهُ الْفِطَنُ
دَحَى الْبَسِيطَةَ فَرْشًا لِلْأَنَامِ وَقَدْ ... عَلَتْ عَلَيْهَا الْجِبَالُ الشُّمُّ وَالْقُنَنُ
كَيْلَا تَمِيدَ بِأَهْلِيهَا وَأَوْدَعَهَا ... لَهُمْ مَنَافِعَ إِنْ سَارُوا وَإِنْ قَطَنُوا
بَنَى السَّمَاءَ بِأَيْدٍ فَوْقَهَا وَحَوَتْ ... عَجَائِبَ أَعْرَضُوا عَنْهَا وَمَا فَطِنُوا(2/77)
فَفِي التَّأَمُّلِ فِي آيَاتِهَا عِبَرُ ... لَوْ كَانَ يُطْلِقُ عَنْ أَفْكَارِنَا الرَّسَنُ
وَقَدْ حَكَى اللَّهُ إِعْرَاضَ الْعِبَادِ فَهَلْ ... غَطَّى عَلَى الْعَيْنِ مِنْ أَفْكَارِنَا الْوَسَنُ
إِنَّ التَّفَكُّرَ فِي آيَاتِ خَالِقِنَا ... عِبَادَةُ الْفِكْرِ فِيهَا الْخَلْقُ قَدْ غُبِنُوا
تَزْدَادُ بِالْفِكْرِ إِيمَانًا وَمَعْرِفَةً ... فَلَا يَفُوتُكَ شَيْءٌ مَا لَهُ ثَمَنُ
مَنَّ الْإِلَهُ عَلَيْنَا بِالْكِتَابِ فَقُلْ ... يَا مِنَّةً قَصُرَتْ مِنْ دُونِهَا الْمِنَنُ
فَصَرِّفِ الْفِكْرَ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ تَجِدْ ... فِيهِ الْعُلُومَ الَّتِي لَمْ يَحْوِهَا الْفِطَنُ
آيَاتُهُ أَعْجَزَتْ كُلًّا بَلَاغَتُهَا ... وَأَبْلَغُ الْخَلْقِ قَدْ أَوْدَى بِهِ اللَّكَنُ
أَدِلَّةٌ وَأَقَاصِيصٌ وَأَمْثِلَةٌ ... لَفْظٌ بَلِيغُ وَمَعْنَى فَائِقٌ حَسَنُ
غُصْ بَحْرَهُ تَلْقَ فِيهِ الدُّرَّ مُبْتَذِلًا ... وَفُلْكُ فِكْرٍ فِي أَمْوَاجِهِ السُّفُنُ
كَمْ قِصَّةٍ وَصَفَتْ أَخْبَارَ مَنْ دَرَجُوا ... مِنْ صَالِحٍ وَشَقِيٌّ رَبُّهُ الْوَثَنُ
قِفْ بِالْمَثَانِي تَرَى آيَاتَهَا عَجَبًا ... أَوْ بِاْلِمِئينَ فَفِيهَا كُلِّهَا الْمِنَنُ
أَوِ الطِّوَالِ فَفِيهَا الْعِلْمُ أَجْمَعُهُ ... خَزَائِنٌ هِيَ لِلْأَحْكَامِ تَخْتَزِنُ
وَفِي الْمُفَصَّلِ آيَاتٌ مُفَصَّلَةٌ ... قَوَارِعٌ لِقُلُوبٍ مَا بِهَا دَرَنُ
إِنَّ الذُّنُوبَ لِأَوْسَاخِ الْقُلُوبِ فَلَا ... يَكُنْ فُؤَادُكَ بَيْتًا حَشْوُهُ الدِّمَنُ
وَدَاوِ قَلْبَكَ مِنْ قَبْلِ الْمَمَاتِ فَمَا ... يُجْدِي الدَّوَاءُ بِمَيْتٍ بَعْدَ مَا دَفَنُوا
بِمَرْهَمِ التَّوْبَةِ الصِّدْقِ النَّصُوحِ فَذَا ... هُوَ الدَّوَاءُ لِذَاكَ الدَّاءِ لَوْ فَطِنُوا
وَنَارُ ذَنْبِكَ تُطْفِيهَا الدُّمُوعُ إِذَا ... أَثَارَهَا الْخَوْفُ مِنْ مَوْلَاكَ وَالْحَزَنُ(2/78)
بَادِرْ بِهَذَا الدَّوَا مِنْ قَبْلِ مَيْتَتَهِ ... فَمَا لِسَهْمِ الْقَضَا مِنْ دُونِهِ جُنَنُ
وَرُبَّ شَخْصٍ تَوَفَّى قَبْلَهُ وَثَوى ... فِي صَدْرِهِ فَهْوَ قَبْرٌ وَالْحَشَا كَفَنُ
تَرَاهُ فِي النَّاسِ يَمْشِي حَامِلًا جَدَثًا ... فَهَلْ بِأَعْجَبِ مِنْ هَذَا أَتَى الزَّمَنُ
فَأَسْأَلُ اللَّهَ تَوْفِيقًا يَكُونُ بِهِ ... حُسْنُ الْخِتَامِ فَفِيهِ الْفَوْزِ مُرْتَهَنُ
فَفِي الصَّلَاةِ عَلَى خَيْرِ الْوَرَى وَعَلَى ... الْآلِ الْكِرَامِ مَعَ التَّسْلِيمِ يَقْتَرِنُ
وقال بعضهم يخاطب نفسه ويوبخها على تفريطها وإهمالها:
يَا نَفْسُ هَذَا الَّذِي تَأْتِينَهُ عَجَبُ ... عِلْمٌ وَعَقْلٌ وَلَا نُسْكٌ وَلَا أَدَبُ
وَصْفُ النِّفَاقِ كَمَا فِي النَّصِّ نَسْمَعُهُ ... عِلْمُ اللِّسَانِ وَجَهْلُ الْقَلْبُ وَالسَّبَبُ
حُبُّ الْمَتَاعِ وَحُبُّ الْجَاهِ فَانْتَبِهِي ... مِنْ قَبْلُ تُطْوَى عَلَيْكَ الصُّحُفُ وَالْكُتُبُ
وَتُصْبِحِينَ بِقَبْرٍ لَا أَنِيسَ بِهِ ... الْأَهْلُ وَالصَّحْبُ لَمَّا أَلْحَدُوا ذَهَبُوا
وَخَلَّفُوكَ وَمَا أَسْلَفْتَ مِنْ عَمَلٍ ... الْمَالُ مُسْتَأْخَرُ وَالْكَسْبُ مُصْطَحَبُ
وَاسْتَيْقِنِي أَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ مُجْتَمَعًا ... لِلْعَالَمِينَ فَتَأْتِي الْعُجْمُ وَالْعَرَبُ
وَالْخَلْقُ طُرًّا وَيَجْزِيهِمْ بِمَا عَمِلُوا ... فِي يَوْمٍ لَا يَنْفَعُ الْأَمْوَالُ وَالْحَسَبُ
وَاخْشَيْ رُجُوعًا إِلَى عَدْلٍ تَوَعَّدَ مَنْ ... لَا يَتَّقِيهِ بِنَارٍ حَشْوُهَا الْغَضَبُ
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْأَحْجَارُ حَامِيَةٌ ... لَا تَنْطَفِي أَبَدَ الْآبَادِ تَلْتَهِبُ
وَالْبُعْدُ عَنْ جَنَّةِ الْخُلْدِ الَّتِي حُشِيَتْ ... بِالطِّيِّبَاتِ وَلَا مَوْتٌ وَلَا نَصَبُ
فِيهَا الْفَوَاكِهُ وَالْأَنْهَارُ جَارِيَةٌ ... وَالنُّورُ وَالْحُورُ وَالْوِلْدَانُ وَالْقُبَبُ(2/79)
وَهَذِهِ الدَّارُ دَارٌ لَا بَقَاءَ لَهَا ... لَا يَفْتِنَّنَكَ مِنْهَا الْوَرِقُ وَالذَّهَبُ
وَالْأَهْلُ وَالْمَالُ وَالْمَرْكُوبُ تَرْكَبُهُ ... وَالثَّوْبُ تَلْبَسُهُ فَالْكُلُّ يَنْقَلِبُ
لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا سِوَى عِوَضٍ ... مِنْهَا يَعُدُّ إِذَا مَا عُدَّتْ الْقُرُبُ
يُرِيدُ صَاحِبُهُ وَجْهَ الْإِلَهِ بِهِ ... دُونَ الرِّيَا إِنَّهُ التَّلْبِيسُ وَالْكَذِبُ
لَا يَقْبَلُ اللَّهَ أَعْمَالاً يُرِيدُ بِهَا ... عُمَّالُهَا غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ فَاجْتَنِبُوا
تَمَّتْ وَصَلُّوا عَلَى الْمُخْتَارِ سَيِّدِنَا ... وَالْآلِ وَالصَّحْبِ قَوْمٌ حُبُّهُمْ يَجِبُ
من منظومة الآداب لابن عبد القوي رحمه الله:
بِحَمْدِكَ ذِي الْإِكْرَامِ مَا رُمْت أَبْتَدِي ... كَثِيرًا كَمَا تَرْضَى بِغَيْرِ تَحَدُّدِ
وَصَلِّ عَلَى خَيْرِ الْأَنَامِ وَآلِهِ ... وَأَصْحَابِهِ مِنْ كُلِّ هَادٍ وَمُهْتَدِ
وَبَعْد فَإِنِّي سَوْفَ أَنَظِّمُ جَمْلَةً ... مِن الأَدَبِ الْمَأْثُورِ عَن خَيْرِ مُرْشِدِ
مِنْ السُّنَّةِ الغَرَّاءِ أَوْ مِنْ كِتَابٍ مَنْ ... تَقَدَّسَ عَنْ قَوْلِ الغُوَاةِ وَجَحْدِ
وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ عُلَمَائِنَا ... أَئِمَةَ أَهْلِ السلم من كل أمجد
لَعَلَ إلَهَ العَرْشِ يَنْفَعُنَا بِه ... وَيُنْزِلُنَا في الحَشْرِ في خَيرِ مَقْعَدِ
أَلَا مَنْ لَهُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ رَغْبَةٌ ... لِيَصْغَ بِقَلْبٍ حَاضِرٍ مُتَرَصِّدٍ
وَيَقْبَلُ نُصْحًا مِنْ شَفِيقٍ عَلَى الْوَرَى ... حَرِيصٍ عَلَى زَجْرِ الْأَنَامِ عَنْ الرَّدَى
فَعِنْدِي مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ أَمَانَةٌ ... سَأَبْذُلُهَا جَهْدِي فَأَهْدِي وَأَهْتَدِي
أَلَا كُل مَنْ رَامَ السَّلَامَةَ فَلْيَصُنْ ... جَوَارِحَهُ عَمَّا نَهَى الله يَهْتَدِي(2/80)
يَكُبُّ الْفَتَى فِي النَّارِ حَصْدُ لِسَانِهِ ... وَإِرْسَالُ طَرَفِ الْمَرْءِ أَنْكَى فَقَيِّدِ
وَطَرْفُ الْفَتَى يَا صَاحِ رَائِدُ فَرْجِهِ ... وَمُتْعِبُهُ فَاغْضُضْهُ مَا اسْطَعْتَ تَهْتَدِ
وَيَحْرُمُ بُهْتٍ وَاغْتِيَابُ نَمِيْمَةٍ ... وَإِفْشَاءُ سِرِّ ثُمَّ لَعْنِ مُقَيْدِ
وَفُحْشٌ وَمَكْرٌ وَالْبَذَاءُ خَدِيعَةٌ ... وَسُخْرِيَةٌ والهزو وَالْكَذِبُ قَيِّدْ
بِغَيْرِ خِدَاعٍ الْكَافِرِينَ بِحَرْبِهِمْ ... وَلِلْعِرْسِ أَوْ إصْلَاحِ أَهْلِ التَّنَكُّدِ
وَيَحْرُمُ مِزْمَارٌ وَشِبَّابَةٌ وَمَا ... يُضَاهِيهِمَا مِنْ آلَةِ اللَّهْوِ وَالرَّدِي
وَلَوْ لَمْ يُقَارِنْهَا غِنَاءٌ جَمِيعُهَا ... فَمِنْهَا ذَوُو الْأَوْتَارِ دُونَ تَقَيُّدٍ
وَلَا بَأْسَ بِالشِّعْرِ الْمُبَاحِ وَحِفْظِهِ ... وَصَنْعَتِهِ مَنْ رَدَّ ذَلِكَ يَعْتَدِي
فَقَدْ سَمِعَ الْمُخْتَارُ شِعْرَ صِحَابِهِ ... وَتَشْبِيبَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ خُرَّدِ
وَحَظْرَ الْهَجَا وَالْمَدْحِ بِالزُّورِ وَالْخَنَا ... وَتَشْبِيبِهِ بالأَجْنَبِيَّاتِ أكد
وَوَصْفُ الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَالْمُرْدِ والنسا ا ... لفتيات أَوْ نَوْحِ التَّسَخُّطِ مُورِدِ
وَأَوْجِبْ عَنْ الْمَحْظُورِ كَفَّ جوارح ... وَنَدْبٌ عَنْ الْمَكْرُوهِ غَيْرُ مُشَدِّدِ
وَأَمْرُك بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ يَا فَتَى ... عَنْ الْمُنْكَرِ اجْعَلْ فَرْضَ عَيْنٍ تَسْدَدِ
عَلَى عَالِمٍ بِالْحَظْرِ وَالْفِعْلِ لَمْ يَقُمْ ... سِوَاهُ مَعَ أَمْنِ عُدْوَانِ مُعْتَدِ
وَلَوْ كَانَ ذَا فِسْقٍ وَجَهْلٍ وَفِي سِوَى ... الَّذِي قِيلَ فَرْضٌ بِالْكِفَايَةِ فَاحْدَدِ
وَبِالعُلَمَا يَخْتَصُ مَا اخْتَصَّ عِلْمُهُ ... بِهِمْ وَبِمَنْ يَسْتَنْصِرُونَ بِهِ قَدِ
وَأَضْعَفُهُ بِالْقَلْبِ ثُمَّ لِسَانِهِ ... وَأَقْوَاهُ إنْكَارُ الْفَتَى الْجَلْدِ بِالْيَدِ(2/81)
وَأَنْكِرْ عَلَى الصِّبْيَانِ كُلَّ مُحَرَّمٍ ... لِتَأْدِيبِهِمْ وَالْعِلْمِ فِي الشَّرْعِ لَرَدِي
وَبِالْأَسْهَلِ ابْدَأْ ثُمَّ زِدْ قَدْرَ حَاجَةٍ ... فَإِنْ لَمْ يَزُلْ بِالنَّافِذِ الْأَمْرِ فَاصْدُدْ
إذَا لَمْ يَخْفَ فِي ذَلِكَ الأَمْرُ حَيْفَهُ ... إذَا كَانَ ذَا الإنْكَارِ حَتْمَ التَّأَكُّدِ
وَلَا غُرْمَ فِي دُفِّ الصُّنُوجِ كَسَرْته ... وَلَا صُوَرٍ أَيْضًا وَلَا آلَةِ الدَّدِ
وَآلَةِ تَنْجِيمٍ وَسِحْرٍ وَنَحْوِهِ ... وَكُتُبٍ حَوَتْ هَذَا وَأَشْبَاهَهُ اُقْدُدْ
وَقُلْتُ كَذَاكَ السِّيْنَمَاءُ وَمِثْلُهُ ... بِلاَ رَيْبَ مِذْيَاعٌ وَتِلْفَازٌ مُعْتَدِي
وَأَوْرَاقُ أَلْعَابٍ بِهَا ضَاعَ عُمْرُهُم ... وَكُوْرَاتِهم مَزِّق هُدِيْتَ وَقَدِّدِ
كَذَا بِكَمَاتٌ وَالصَّلِيبُ وَمِزْمَر ... وَآلةُ تَصْويْرٍ بِهَا الشَّرُّ مُرْتَدِي
كَذَلِكَ دُخَّانٌ وَشِيشَةُ شُرْبِهِ ... وَآلةُ تَطْفَاةٍ لَهُ اكْسِرْ وَبدِّدِ
وَمِنْ بَعْدِ ذَا فَاسْمَعْ كَلامًا لِنَاظِمٍ ... يَسُوقُ لَكَ الآدَابَ عَن خَيْرِ مُرْشِدِ
وَبِيْضٍ وَجَوْزِ لِلْقِمَارِ بِقَدْرِ مَا ... يُزِيْلُ عن الَمَنْكُورِ مَقْصَدَ مُفْسِدِ
وَلَا شَقِّ زِقِّ الْخَمْرِ أَوْ كَسْرِ دَنِّهِ ... إذَا عَجَزَ الْإِنْكَارُ دُونَ التَّقَدُّدِ
وَإِنْ يَتَأَتَّى دُونَهُ دَفْعُ مُنْكَرٍ ... ضَمِنْت الَّذِي يُنْقَى بِتَغْسِيلِهِ قَدْ
وَهِجْرَانُ مَنْ أَبْدَى الْمَعَاصِيَ سُنَّةٌ ... وَقَدْ قِيلَ إنْ يَرْدَعْهُ أَوْجِبْ وَآكَدِ
وَقِيلَ عَلَى الإطْلَاقِ مَا دَامَا مُعْلِنًا ... وَلَاقِهْ بوَجْهٍ مُكْفَهِرٍ مُعَرْبَدِ
وَيَحْرُمُ تَجْسِيسٌ عَلَى مُتَسَتِّرٍ ... بِفِسْقٍ وَمَاضِي الْفِسْقِ إنْ لَمْ يُجْدَدْ
وَهِجْرَانُ مَنْ يَدْعُو لِأَمْرٍ مُضِلٍّ أَوْ ... مُفَسِّقٍ احْتِمْهُ بِغَيْرِ تَرَدُّدِ(2/82)
عَلَى غَيْرِ مَنْ يَقْوَى عَلَى دَحْضِ قَوْلِهِ ... وَيَدْفَعُ إضْرَارَ الْمُضِلِّ بِمِذْوَدِ
وَيَقْضِي أُمُورَ النَّاسِ فِي إتْيَانِهِ ... وَلَا هَجْرَ مَعَ تَسْلِيمِهِ الْمُتَعَوَّدِ
وحظر انتفا التسليم فوق ثلاثة ... على غير من قلنا بهجر فأكد
وَكُنْ عَالِمًا أَنَّ السَّلَامَ لِسُنَّةٍ ... وَرَدُّك فَرْضٌ لَيْسَ نَدْبًا بِأَوْطَدِ
وَيُجْزِئُ تَسْلِيْمُ امْرِىءٍ مِن جَمَاعَةٍ ... وَرَدُّ فَتىً مِنُهم على الكُلِ يا عَدِي
وَتَسْلِيْمُ نَزْرٍ والصَّغِيْرِ وَعَابِرِ ... سَبيْلِ وَرُكْبَانٍ عَلى الضِدِّ أيِدِ
وإنْ سَلَّمَ المَأْمُوْرُ بالرَّدِ مِنهُمُ ... فَقَدْ حَصَلَ المَسْنُونُ إذْ هُوَ مُبْتَدِي
وَسَلَّمَ إذَا مَا قُمْتَ عَن حَضْرَةِ امْرئٍ ... وَسَلَّمْ إِذا مَا جِئْتَ بَيْتَكَ تَهْتَدِي
وإفْشاؤُكَ التَّسْلِيْمَ يُوْجِبْ مَحَبَّةً ... مِن الناسِ مجْهُولاً وَمَعْرُوْفاً أقْصُدِ
وَتَعْرِيفُهُ لَفْظَ السَّلَامِ مُجَوَّزٌ ... وَتَنْكِيرُهُ أَيْضًا عَلَى نَصِّ أَحْمَدِ
وَقَدْ قِيلَ نَكِّرْهُ وَقِيلَ تَحِيَّةً ... كَلِلْمَيِّتِ وَالتَّوْدِيعَ عَرِّفْ كَرَدِّدِ
وَسُنَّةٌ اسْتِئْذَانُهُ لِدُخُولِهِ ... عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَقْرَبِينَ وَبُعَّدِ
ثَلَاثًا وَمَكْرُوهٌ دُخُولٌ لِهَاجِمِ ... وَلَا سِيَّمَا مِنْ سَفْرَةٍ وَتَبَعُّدِ
وَوَقْفَتُهُ تِلْقَاءَ بَابٍ وَكُوَّةٍ ... فَإِنْ لَمْ يُجَبْ يَمْضِي وَإِنْ يُخْفَ يزدد
وَتَحْرِيكُ نَعْلَيْهِ وَإِظْهَارُ حِسِّهِ ... لِدَخْلَتِهِ حَتَّى لِمَنْزِلِهِ اشهد
وكُلُ قِيَامٍ لاَ لِوَالٍ وَعالِمٍ ... وَوَالِدِهِ أَو سَيّدٍ كُرْهَهُ أمْهَدِ
وَصَافِحْ لِمَنْ تَلْقَاهُ مِن كُلِّ مُسْلِمٍ ... تَنَاثَرْ خَطَايَاكُمْ كَمَا في المُسَنَّدِ
وَلَيْسَ لِغَيْرِ اللهِ حَلَّ سُجُوْدُنَا ... وَيُكْرَهُ تَقْبِيْلُ الثَّرَى بِتَشَدُّدِ(2/83)
وَيُكْرَهُ مِنْك الِانْحِنَاءُ مُسَلِّمًا ... وَتَقْبِيلُ رَأْسِ الْمَرْءِ حَلَّ وَفِي الْيَدِ
وحَلَّ عِنَاقٌ لِلْمُلاَقِي تَدَيُنَاْ ... وَيُكْرَهُ تَقْبِيْلُ الفَمْ أَفْهَمْ وَقَيِّدِ
وَنَزْعُ يَدٍ مِمَّنْ يُصَافحُ عَاجِلاً ... وَأَنْ يَتَنَاجَى الجَمْعُ مِن دُوْنِ مُفْرَدِ
وَأَنْ يَجْلِسَ الْإِنْسَانُ عِنْدَ مُحَدِّثٍ ... بِسِرٍّ وَقِيلَ احظر وَإِنْ يَأْذَنْ اُقْعُدْ
وَمَرْأَى عَجُوزٍ لم تُرْدِ وَصِفَاحُهَا ... وَخُلْوَتُهَا أكْرَهْ لا تَحِيْتَهَا أَشْهَدِ
وَتَشْمِيْتَهَا واكْرهْ كِلاَ الخِصْلَتَيْنِ ... لِلشَبَاب مِن الصِّنفَيْنِ بُعْدَى وَأَبْعَدِي
وَيَحْرُمُ رَأْيُ الْمُرْدِ مَعَ شَهْوَةٍ فَقَطْ ... وَقِيلَ وَمَعْ خَوْفٍ وَلِلْكُرْهِ جَوِّدْ
وَكُنْ واصِلَ الأَرْحَامِ حَتَّى لَكَاشِحٍ ... تُوَفَّرَ في عُمْرٍ وَرِزْقً وَتَسْعَدِ
وَيَحْسُنُ تَحْسِينٌ لِخُلْقٍ وَصُحْبَةٍ ... وَلَا سِيَّمَا لِلْوَلَدِ الْمُتَأَكِّدِ
وَلَوْ كَانَ ذَا كُفْرٍ وَأَوْجَبَ طَوْعَهُ ... سِوَى في حَرَامٍ أَوْ لأَمْرٍ مُؤَكَّدِ
كَتَطْلاَبِ عِلْمٍ لاَ يَضُرُّهُما بِهِ ... وَتَطْلِيْقِ زَوْجَاتٍ بِرْأٍي مُجَرَّدِ
وَأَحْسِنْ إلَى أَصْحَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ... فَهَذَا بَقَايَا بِرِّهِ الْمُتَعَوَّدِ
وَيُكْرَهُ فِي الْحَمَّامِ كُلُّ قِرَاءَةٍ ... وَذِكْرُ لِسَانٍ وَالسَّلَامُ لِمُبْتَدِي
وَغَيِّرْ بِغَيْرِ الْأَسْوَدِ الشَّيْبَ وابقه ... وَلِلْقَزَعِ اكْرَهْ ثُمَّ تَدْلِيسَ نهد
وَيُشْرَعُ إِيكَاءِ السِقَا وَغِطَا الإِنَا ... وَإيجَافُ أَبْوَابٍ وَطَفْءُ لمُِوَقَّدِ
وَتَقْلِيْمُ أَظْفَارٍ وَنَتْفٌ لإِبْطِهِ ... وَحَلْقاً وَلِلتَّنْوِيْرِ لِلْعَانَةِ أُقْصدِ
وَيَحْسُنُ خَفْضُ الصَّوتِ مِن عَاطِسٍ وأَنْ ... يُغَطِّيَ وَجْهاً لاسْتِتَارٍ مِن الرَّدِي(2/84)
وَيَحْمَدُ جَهْراً وَلْيُشَمِّتْهُ سَامِعٌ ... لِتَحْمِيْدِهِ والْيُبْدِ رَدَّ المُعَوَّدِ
وَقُلْ لِلْفَتَى عُوْفِيْتَ بَعْدَ ثَلاَثَةٍ ... وَلِلطّفْلِ بُوْرِكْ فِيْكَ وَأْمُرهُ يَحْمَدِ
وَغَطِّ فَمًا وَاكْظِمْ تُصِبْ فِي تَثَاؤُبٍ ... فَذَلِكَ مَسْنُونٌ لِأَمْرِ الْمُرَشَّدِ
وَلاَ بَأْسَ شَرْعاً أَنْ يَطِبَّكَ مُسْلِمٌ ... وشَكْوَى الذي تَلْقَى وبالحَمْدِ فابْتَدِي
وَتَرْكُ الدَّوا أَوْلَى وَفْعْلُكَ جَائِزُ ... ولم تَتَيَقَنْ فِيْهِ حُرْمَةَ مُفْرَدِ
وَرَجِّحْ عَلَى الْخَوْفِ الرَّجَا عِنْدَ يَأْسِه ... هِ وَلَاقِ بِحُسْنِ الظَّنِّ رَبَّك تسعد
وَتُشْرَعُ لِلْمَرْضَى الْعِيَادَةُ فَأْتِهِمْ ... تَخُضْ رَحْمَةً تَغْمُرْ مَجَالِسَ عُوَّدِ
فَسَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ مَلَائِكَةِ الرِّضَا ... تُصَلِّي عَلَى مَنْ عَادَ يَمْشِي إلَى الْغَدِ
وَإِنْ عَادَهُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ وَاصَلَتْ ... عَلَيْهِ إلَى اللَّيْلِ الصَّلَاةَ فَأَسْنِدْ
فَمِنْهُمْ مُغِبًّا عُدْهُ خَفِّفْ وَمِنْهُمْ ال ... ذِي يُؤْثِرُ التَّطْوِيلَ مِنْ مُتَوَرِّدٍ
فَفَكِّرْ وَرَاعِ فِي الْعِيَادَةِ حَالَ مَنْ ... تَعُودُ وَلَا تُكْثِرْ سُؤَالًا تنكد
وَمَكْرُوهٌ اسْتِئْمَانُنَا أَهْلَ ذِمَّةٍ ... لِإِحْرَازِ مَالٍ أَوْ لِقِسْمَتِهِ اشهد
وَمَكْرُوهٌ اسْتِطْبَابُهُمْ لَا ضَرُورَةً ... وَمَا رَكَّبُوهُ مِنْ دَوَاءٍ مُوَصَّدٍ
وَإِنْ مَرِضَتْ أُنْثَى وَلَمْ يَجِدُوا لَهَا ... طَبِيبًا سِوَى فَحْلٍ أَجِزْهُ ومهد
وَيُكْرَهُ حَقْنُ الْمَرْءِ إلَّا ضَرُورَةً ... وَيَنْظُرُ مَا يَحْتَاجُهُ حَاقِنٌ قَدْ
كَقَابِلَةٍ حِلٌّ لَهَا نَظَرٌ إلَى ... مَكَانِ وِلَادَاتِ النِّسَا فِي التَّوَلُّدِ
وَيُكْرَهُ إنْ لَمْ يَسْرِ قَطْعُ بواسر ... وَبَطُّ الْأَذَى حِلٌّ كَقَطْعِ مُجَوَّدٍ(2/85)
لِآكِلَةٍ تَسْرِي بِعُضْوٍ أَبِنْهُ إنْ ... تَخَافَنَّ عُقْبَاهُ وَلَا تتردد
وَقَبْلَ الْأَذَى لَا بَعْدَهُ الْكَيَّ فاكرهن ... وَعَنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ غَيْرُ مُقَيَّدِ
وَفِيمَا سِوَى الْأَغْنَامِ قَدْ كَرِهُوا الْخِصَا ... لِتَعْذِيبِهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِمُسْنَدِ
وَقَطْعُ قُرُونٍ وَالْآذَانِ وَشَقُّهَا ... بِلَا ضَرَرٍ تَغْيِيرُ خَلْقٍ مُعَوَّدِ
وَيَحْسُنُ فِي الْإِحْرَامِ وَالْحِلِّ قَتْلُ مَا ... يَضُرُّ بِلَا نَفْعٍ كَنَمِرٍ وَمَرْثَدِ
وَغِرْبَانُ غَيْرِ الزَّرْعِ أَيْضًا وَشِبْهُهَا ... كَذَا حَشَرَاتُ الْأَرْضِ دُونَ تَقَيُّدِ
كَبَقٍ وَبُرْغُوثٍ وَفَأْرٍ وَ عَقْرَبٍ ... وَدَبُّرًا وَحَيْاَّتٍ وَشِبْهِ المُعَدِّدِ
وَيُكْرَهُ قَتْلُ النَّمْلِ إلَّا مَعَ الْأَذَى ... بِهِ وَاكْرَهَنَّ بِالنَّارِ إحْرَاقَ مُفْسِدِ
وَلَوْ قِيلَ بِالتَّحْرِيمِ ثُمَّ أُجِيزَ مَعْ ... أَذًى لَمْ يَزُلْ إلَّا بِهِ لَمْ أُبَعِّدْ
وَقَدْ جَوَّزَ الْأَصْحَابُ تَشْمِيسَ قَزِّهِمْ ... وَتَدْخِينَ زُنْبُورٍ وَشَيًّا بِمَوْقِدِ
وَيُكْرَهْ لِنَهْيِ الشَّرْعِ عَنْ قَتْلِ ضِفْدَ ... عٍ وَصِرْدَانِ طَيْرٍ قَتْلُ ذَيْنِ وَهُدْهُدِ
وَيُكْرَهُ قَتْلُ الْهِرِّ إلَّا مَعَ الْأَذَى ... وَإِنْ مُلِكَتْ فَاحْظُرْ إذَنْ غَيْرَ مُفْسِدِ
وَقَتْلُكَ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ وَلَمْ تَقُلْ ... ثَلَاثًا لَهُ اذْهَبْ سَالِمًا غَيْرَ مُعْتَدِ
وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ اُقْتُلْ وَأَبْتَرَ حَيَّةٍ ... وَمَا بَعْدَ إيذَانٍ تُرَى , أَوْ بِفَدْفَدِ
وَمَا فِيهِ إضْرَارٌ وَنَفْعٌ كَبَاشِقٍ ... وَكَلْبٍ وَفَهْدٍ لِاقْتِصَادِ التَّصَيُّدِ
إِذَا لَمْ يَكُنْ مُلْكاً فَأَنْتَ مُخَيَّرُ ... وإنْ مُلِكَتْ فاحْظِرْ وإنْ تُؤْذِ فاقْدُدِ
وَيُكْرَهُ نَفْخٌ فِي الْغَدَا وَتَنَفُّسٌ ... وَجَوْلَانُ أَيْدٍ فِي طَعَامٍ مُوَحَّدِ(2/86)
فَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا فَلَا بَأْسَ فَاَلَّذِي ... نَهَى فِي اتِّحَادٍ قَدْ عَفَا فِي التَّعَدُّدِ
وَأَخْذٌ وَإِعْطَاءٌ وَأَكْلٌ وَشُرْبُهُ ... بِيُسْرَاهُ فَاكْرَهْهُ وَمُتَّكِئًا دَدْ
وَأَكْلَكَ بِالثِّنْتَيْنِ , وَالْأُصْبُعِ اكْرَهْنَ ... وَمَعْ أَكْلِ شَيْنِ الْعَرْفِ إتْيَانَ مَسْجِدِ
وَيُكْرَهُ بِالْيُمْنَى مُبَاشَرَةُ الْأَذَى ... وَأَوْسَاخِهِ مَعَ نَثْرِ مَاءِ أَنْفِهِ الرَّدِي
كَذَا خَلْعُ نَعْلَيْهِ بِهَا وَاتِّكَاؤُهُ ... عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى ورا ظَهْرِهِ اشْهَدْ
وَيُكْرَهُ فِي التَّمْرِ الْقِرَانُ وَنَحْوُهُ ... وَقِيلَ مَعَ التَّشْرِيكِ لَا فِي التَّفَرُّدِ
وَكُلْ جَالِسًا فَوْقَ الْيَسَارِ وَنَاصِبَ ... الْيَمِينِ وَبَسْمِلْ ثُمَّ فِي الْاِنْتِهَا احْمَدْ
وَيُكْرَهُ سَبْقُ الْقَوْمِ لِلْأَكْلِ نَهْمَةً ... وَلَكِنَّ رَبَّ الْبَيْتِ إنْ شَاءَ يَبْتَدِي
وَلَا بَأْسَ عِنْدَ الْأَكْلِ مِنْ شِبَعِ الْفَتَى ... وَمَكْرُوهٌ الْإِسْرَافُ وَالثُّلْثَ أَكِّدْ
وَيَحْسُنُ تَصْغِيرُ الْفَتَى لُقْمَةَ الْغِذَا ... وَبَعْدَ ابْتِلَاعٍ ثَنِّ وَالْمَضْغَ جَوِّدْ
وَيَحْسُنُ قَبْلَ الْمَسْحِ لَعْقُ أَصَابِعً ... وَأَكْلُ فُتَاتٍ سَاقِطٍ بِتَثَرُّدِ
وَتَخْلِيلُ مَا بَيْنَ الْمَوَاضِعِ بَعْدَهُ ... وَأَلْقِ وَجَانِبْ مَا نَهَى اللَّهُ تَهْتَدِ
وَغَسْلُ يَدٍ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ ... وَيُكْرَهُ بِالْمَطْعُومِ غَيْرَ مُقَيَّدِ
وَكُلْ طَيِّبًا أَوْ ضِدَّهُ وَالْبَسْ الَّذِي ... تُلَاقِيهِ مِنْ حِلٍّ وَلَا تَتَقَيَّدْ
وَمَا عِفْتَهُ فَاتْرُكْهُ غَيْرَ مُعَنِّفٍ ... وَلَا عَائِبٍ رِزْقًا وَبِالشَّارِعِ اقْتَدِ
وَلَا تَشْرَبَنْ مِنْ فِي السِّقَاءِ وَثُلْمَةِ الْ ... إنَاءِ وَانْظُرَنْ فِيهِ وَمَصًّا تَزَرَّدِ(2/87)
وَنَحِّ الأنا عَن فِيْكَ واشْرَبْ ثَلاَثةً ... هُوْ أهْنَا وَأَمْرَا ثم أَرْوَي لِمَنْ صُدِي
وَلَا تَكْرَهَنَّ الشُّرْبَ مِنْ قَائِمٍ وَلَا انْ ... تِعَالَ الْفَتَى فِي الْأَظْهَرِ الْمُتَأَكِّدِ
وَيُكْرَهُ لُبْسٌ فِيهِ شُهْرَةُ لَابِسٍ ... وَوَاصِفُ جِلْدٍ لَا لِزَوْجٍ وَسَيِّدٍ
وَإِنْ كَانَ يُبْدِي عَوْرَةً لِسِوَاهُمَا ... فَذَلِكَ مَحْظُورٌ بِغَيْرِ تَرَدُّدِ
وَخَيْرَ خِلَالِ الْمَرْءِ جَمْعًا تَوَسُّطُ الْ ... أُمُورِ وَحَالٌ بَيْنَ أَرْدَى وَأَجْوَدِ
وَلُبْسَ مِثَالِ الْحَيِّ فَاحْظُرْ بِأَجْوَدِ ... وَمَا لَمْ يُدَسْ مِنْهَا لِوَهْنٍ فَشَدِّدْ
وَأَحْسَنُ مَلْبُوسٍ بَيَاضٌ لِمَيِّتٍ ... وَحَيٍّ فَبَيِّضْ مُطْلَقًا لَا تُسَوِّدْ
وَلَا بَأْسَ بِالْمَصْبُوغِ مِنْ قَبْلِ غَسْلِهِ ... مَعَ الْجَهْلِ فِي أَصْبَاغِ أَهْلِ التَّهَوُّدِ
وَقِيلَ اكْرَهَنْهُ مِثْلَ مُسْتَعْمَلِ الْإِنَا ... وَإِنْ تَعْلَمْ التَّنْجِيسَ فَاغْسِلْهُ تَهْتَدِ
وَأَحْمَرَ قَانٍ والمُعَصْفَرَ فاكْرَهَنْ ... لِلُبْسِ رِجَالٍ حَسْبُ في نَصِّ أَحْمَدِ
وَلاَ تَكْرَهَنْ في نَصِّ ما قَدْ صَبَغَتَهُ ... مِن الزَّعْفَرانِ البَحْتِ لَوْنَ المُوَرَّدِ
وَلَيْسَ بِلُبْسِ الصُّوفِ بَأْسٌ وَلَا الْقَبَا ... وَلَا لِلنِّسَا , وَالْبُرْنُسِ افْهَمْهُ وَاقْتَدِ
وَلُبْسَ الْحَرِيرِ اُحْظُرْ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ ... سِوَى لِضَنًى أَوْ قَمْلٍ أَوْ حَرْبِ جُحَّدِ
وَيَحْرُمُ بَيْعٌ لِلرِّجَال لِلِبْسِهِمْ ... وَتَخَيْيطْهُ والنَّسْجُ في نَصِّ أَحْمَدِ
وَيَحْرُمُ لُبْسٌ مِنْ لُجَيْنٍ وَعَسْجَدٍ ... سِوَى مَا قَدْ اسْتَثْنَيْتُهُ فِي الَّذِي اُبْتُدِيَ
وَيَحْرُمُ سِتْرٌ أَوْ لِبَاسُ الْفَتَى الَّذِي ... حَوَى صُورَةً لِلْحَيِّ فِي نَصِّ أَحْمَدِ(2/88)
وَفِي السِّتْرِ أَوْ مَا هُوَ مَظِنَّةُ بَذْلَةٍ ... لَيُكْرَهُ كَتْبٌ لِلْقُرْآنِ الْمُمَجَّدِ
وَلَيْسَ بِمَكْرُوْهٍ كِتَابَةُ غيْرِهِ ... مِنَ الذِكْرِ فيْما لَم يُدَسْ وَيُمَهَّدِ
وَحَلً لمَنْ يَسْتَأْجِرُ البَيْتَ حَكُهُ ال ... تَصَاوِيْرَ كَالحَماَّم لِلدَّاخِلِ اشْهَدِ
وَفِي نَصِّهِ أَكْرَهُ لِلرِّجَالِ وَلِلنِّسَا الرَّ ... قِيقَ سِوَى لِلزَّوْجِ يَخْلُو وَسَيِّدِ
وَيُكْرَهُ تَقْصِيرُ اللِّبَاسِ وَطُولُهُ ... بِلَا حَاجَةٍ كِبْرًا وَتَرْكُ الْمُعَوَّدِ
وَأَطْوَلُ ذَيْلِ الْمَرْءِ لِلْكَعْبِ وَالنِّسَا ... بِلَا الْأُزُرِ شِبْرًا أَوْ ذِرَاعًا لَتَزْدَدِ
وَلَا بَأْسَ بِالْخَاتَمِ مِنْ فِضَّةٍ وَمِنْ ... عَقِيقٍ وَبِلَّوْرٍ وَشِبْهِ الْمُعَدَّدِ
وَيُكْرَهُ مِنْ صُفْرٍ رَصَاصِ حَدِيدِهِمْ ... وَيَحْرُمُ لِلذُّكْرَانِ خَاتَمُ عَسْجَدِ
وَيَحْسُنُ فِي الْيُسْرَى كَأَحْمَدَ وَصَحْبِهِ ... وَيُكْرَهُ فِي الْوُسْطَى وَسَبَّابَةِ الْيَدِ
وَمَنْ لَمْ يَضَعْهُ فِي الدُّخُولِ إلَى الْخَلَا ... فَعَنْ كَتْبِ قُرْآنٍ وَذِكْرٍ بِهِ اصدد
وَيَحْسُنُ فِي الْيُمْنَى ابْتِدَاءُ انْتِعَالِهِ ... وَفِي الْخَلْعِ عَكْسٌ وَاكْرَهْ الْعَكْسَ ترشد
وَيُكْرَهُ مَشْيُ الْمَرْءِ فِي فَرْدِ نَعْلِهِ اخْ ... تِيَارًا أَصِخْ حَتَّى لِإِصْلَاحِ مُفْسِدِ
وَلَا بَأْسَ فِي نَعْلٍ يُصَلِّي بِهِ بِلَا ... أَذًى وَافْتَقِدْهَا عِنْدَ أَبْوَابِ مَسْجِدِ
وَيَحْسُنُ الِاسْتِرْجَاعُ فِي قَطْعِ شِسْعِهِ ... وَتَخْصِيصِ حَافٍ بِالطَّرِيقِ الْمُمَهَّدِ
وَقَدْ لَبِسَ السِّبْتِيَّ وَهُوَ الَّذِي خَلَا ... مِنْ الشَّعْرِ مَعَ أَصْحَابِهِ بِهِمْ اقْتَدِ
وَيُكْرَهُ سندي النِّعَالِ لِعُجْبِهِ ... بصرارها زِيُّ الْيَهُودِ فأبعد
وَسِرْ حَافِيًا أَوْ حَاذِيًا وَامْشِ وَارك ... بن تمعْدد وَاخْشَوْشَن وَلَا تَتَعَود(2/89)
وَأَشْرَفُ مَلْبُوسٍ إلَى نِصْفِ سَاقِهِ ... وَمَا تَحْتَ كَعْبٍ فَاكْرَهَنْهُ وَصَعِّدْ
وَلِلرُّصْغِ كُمُّ الْمُصْطَفَى فَإِنْ ارْتَخَى ... تَنَاهَى إلَى أَقْصَى أَصَابِعِهِ قَدْ
وَلَا بَأْسَ فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ سُتْرَةً ... أَتَمُّ مِنْ التَّأْزِيرِ فَالْبَسْهُ وَاقْتَدِ
بِسُنَّةِ إبْرَاهِيمَ فِيهِ وَ أَحْمَدَ ... وَأَصْحَابِهِ الْأُزُرَ أَشْهَرُ أكد
وَيَحْسُنُ تَنْظِيفُ الثِّيَابِ وَطَيُّهَا ... وَيُكْرَه مَع طُولِ الغِنَا لُبْسُكَ الرَّدِي
وَلا بَأْسَ فِي لُبْسِ الفِرَاءِ واشْتِرَائِها ... جُلُودَ حَلَالٍ مَوْتُهُ لَمْ يوطد
وَكَاللَّحْمِ الْأَوْلَى احظرن جِلْدَ ثَعْلَبٍ ... وَعَنْهُ لِيُلْبَسْ وَالصَّلَاةَ بِهِ اصدد
وَمَنْ يَرْتَضِي أَدْنَى اللِّبَاسِ تَوَاضُعًا ... سَيُكْسَى الثِّيَابَ الْعَبْقَرِيَّاتِ فِي غَدِ
وَيَحْسُنُ حَمْدُ اللَّهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ ... وَلَا سِيَّمَا فِي لُبْسِ ثَوْبٍ مُجَدَّدِ
وَكُنْ شَاكِرًا لِلَّهِ وَارْضَ بِقَسْمِهِ ... تُثَبْ وَتُزَدْ رِزْقًا وَإِرْغَامَ حسد
وَقُلْ لِأَخٍ أَبْلِ وَأَخْلِقْ وَيُخْلِفُ الْ ... إِلَهُ كَذَا قُلْ عِشْ حَمِيدًا تُسَدِّدْ
وَيُكْرَهُ فِي الْمَشْيِ الْمُطَيْطَا وَنَحْوُهَا ... مَظِنَّةَ كِبْرٍ غَيْرَ فِي حَرْبِ جُحَّدِ
وَيُكْرَهُ لُبْسُ الْأُزُرِ وَالْخُفِّ قَائِمًا ... كَذَاك الْتِصَاقُ اثْنَيْنِ عُرْيًا بِمَرْقَدٍ
وَثِنْتَيْنِ وَافْرُقْ فِي الْمَضَاجِعِ بَيْنَهُمْ ... لَوْ إخْوَةً مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ تُسَدَّدْ
وَيُكْرَهُ نَوْمُ الْمَرْءِ مِنْ قَبْلِ غَسْلِهِ ... مِنْ الدُّهْنِ وَالْأَلْبَانِ لِلْفَمِ وَالْيَدِ
وَنَوْمُك بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ أَوْ عَلَى ... قَفَاك وَرَفْعُ الرِّجْلِ فَوْقَ أُخْتِهَا اُمْدُدْ
وَيُكْرَهُ نَوْمٌ فَوْقَ سَطْحٍ , وَلَمْ يُحَطْ ... عَلَيْهِ بِتَحْجِيرٍ لِخَوْفٍ مِنْ الرَّدِي(2/90)
وَيُكْرَهُ بَيْنَ الظِّلِّ وَالشَّمْسِ جِلْسَةٌ ... وَنَوْمٌ عَلَى وَجْهِ الْفَتَى الْمُتَمَدِّدِ
وَقُلْ فِي انْتِبَاهٍ وَالصَّبَاحِ وَفِي الْمِسَا ... وَنَوْمٍ مِنْ الْمَرْوِيِّ مَا شِئْت تُرْشَدْ
وَيَحْسُنُ عِنْدَ النَّوْمِ نَفْضُ فِرَاشِهِ ... وَنَوْمٌ عَلَى الْيُمْنَى وَكُحْلٌ بِإِثْمِدِ
فَخُذْ لَك مِنْ نُصْحِي أُخَيَّ وَصِيَّةً ... وَكُنْ حَازِمًا وَاحْضُرْ بِقَلْبٍ مُؤَبَّدِ
وَلَا تَنْكِحَنْ إنْ كُنْت شَيْخًا فَتِيَّةً ... تَعِشْ فِي ضِرَارِ الْعَيْشِ أَوْ تَرْضَ بِالرَّدِي
وَلَا تَنْكِحَنْ مِنْ نَسْمِ فَوْقِكَ رُتْبَةً ... تَكُنْ أَبَدًا فِي حُكْمِهَا فِي تَنَكُّدِ
وَلا تَرْغَبَنَ فِي مَالِهَا وَأَثَاثِهَا ... إذَا كُنْتَ ذَا فَقْرٍ تُذَلُ وَتُضْهَد
وَلَا تَسْكُنَنْ فِي دَارِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا ... تُسَمَّعْ إذَنْ أَنْوَاعَ مِنْ مُتَعَدِّدٍ
فَلَا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ فِي فَضْلِ عِرْسِهِ ... يَرُوحُ عَلَى هُونٍ إلَيْهَا وَيَغْتَدِي
وَلَا تُنْكِرَنْ بَذْلَ الْيَسِيرِ تَنَكُّدًا ... وَسَامِحْ تَنَلْ أَجْرًا وَحُسْنَ التَّوَدُّدِ
وَلَا تَسْأَلَنْ عَنْ مَا عَهِدْت وَغُضَّ عَنْ ... عَوَارٍ إذَا لَمْ يَذْمُمْ الشَّرْعُ تَرْشُدْ
وَكُنْ حَافِظًا أَنَّ النِّسَاءَ وَدَائِعُ ... عَوَانٌ لَدَيْنَا احْفَظْ وَصِيَّةَ مُرْشِدِ
وَلَا تُكْثِرْ الْإِنْكَارَ تُرْمَ بِتُهْمَةٍ ... وَلَا تَرْفَعَنَّ السَّوْطَ عَنْ كُلِّ مُعْتَدِ
وَلَا تَطْمَعَنْ فِي أَنْ تُقِيمَ اعْوِجَاجَهَا ... فَمَا هِيَ إلَّا مِثْلُ ضِلَعٍ مُرَدَّدِ
وَسُكْنَى الْفَتَى فِي غُرْفَةٍ فَوْقَ سِكَّةِ ... تَؤُولُ إلَى تُهْمَى الْبَرِيِّ الْمُشَدِّدِ
وَإِيَّاكَ يَا هَذَا وَرَوْضَةَ دِمْنَةٍ ... سَتَرْجِعُ عَنْ قُرْبٍ إلَى أَصْلِهَا الرَّدِي(2/91)
وَلَا تَنْكِحْنَ فِي الْفَقْرِ إلَّا ضَرُورَةً ... وَلُذْ بِوِجَاءِ الصَّوْمِ تَهْدِي وَتَهْتَدِي
وَكُنْ عَالِمًا إِنَّ النِّسَا لُعَبٌ لَنَا ... فَحَسِّن إذَن مَهْمَا استَطَعْتَ وُجُود
خَيْرُ النِّسَ مَنْ سَرَّتْ الزَّوْجَ مَنْظَرًا ... وَمَنْ حَفِظَتْهُ فِي مَغِيبٍ وَمَشْهَدِ
قَصِيرَةُ أَلْفَاظٍ قَصِيرَةُ بَيْتِهَا ... قَصِيرَةُ طَرْفِ الْعَيْنِ عَنْ كُلِّ أَبْعَدِ
عَلَيْك بِذَاتِ الدِّينِ تَظْفَرُ بِالْمُنَى الْ ... وَدُودِ الْوَلُودِ الْأَصْلِ ذَاتِ التَّعَبُّدِ
حَسِيبَةُ أَصْلٍ مِنْ كِرَامٍ تَفُزْ إذًا ... بِوُلْدٍ كِرَامٍ وَالْبَكَارَةَ فَاقْصِدْ
وَوَاحِدَةٌ أَدْنَى مِنْ الْعَدْلِ فَاقْتَنِعْ ... وَإِنْ شِئْت فَابْلُغْ أَرْبَعًا لَا تُزَيَّدْ
وَمَنْ عَفَّ تَقْوًى عَنْ مَحَارِمِ غَيْرِهِ ... يَعِفَّ أَهْلِهِ حَقًّا وَإِنْ يَزْنِ يُفْسَدْ
فَكَابِدْ إلَى أَنْ تَبْلُغَ النَّفْسُ عُذْرَهَا ... وَكُنْ فِي اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ طَلَّاعَ أَنْجُدِ
وَلَا تذهبن الْعُمْرَ مِنْك سَبَهْلَلًا ... وَلَا تُغْبَنَن فِي الْغُمَّتَيْنِ بَلْ اجْهَدْ
فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَّاتِ نَالَ الْمُنَى وَمَنْ ... أَكَبَّ عَلَى اللَّذَّاتِ عَضَّ عَلَى الْيَدِ
وَفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ اعْتِزَازُهَا ... وَفِي نَيْلِهَا مَا تَشْتَهِي ذُلٌّ سَرْمَدُ
فَلَا تَشْتَغِلْ إلَّا بِمَا يُكْسِبُ الْعُلَا ... وَلَا تَرْضَ لِلنَّفْسِ النَّفِيسَةِ بِالرَّدِي
وَفِي خَلْوَةِ الْإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ أُنْسُهُ ... وَيَسْلَمُ دِينُ الْمَرْءِ عِنْدَ التَّوَحُّدِ
وَيَسْلَمُ مِنْ قِيلَ وَقَالَ وَمِنْ أَذَى ... جَلِيسٍ وَمِنْ وَاشٍ بَغِيضٍ وَحَسَد
فَكُنْ حِلْسَ بَيْتٍ فَهُوَ سِتْرٌ لِعَوْرَةٍ ... وَحِرْزُ الْفَتَى عَنْ كُلِّ غَاوٍ وَمُفْسِدِ(2/92)
وَخَيْرُ جَلِيسِ الْمَرْءِ كُتُبٌ تُفِيدُهُ ... عُلُومًا وَآدَابًا كَعَقْلٍ مُؤَيَّدٍ
وَخَالِطْ إذَا خَالَطْت كُلَّ مُوَفَّقٍ ... مِنْ العُلَمَا أَهْلِ التُّقَى وَالتَّعَبُّدِ
يُفِيدُك مِنْ عِلْمٍ وَيَنْهَاك عَنْ هَوًى ... فَصَاحِبْهُ تُهْدَى مِنْ هُدَاهُ وترشد
وَإِيَّاكَ وَالْهَمَّازَ إنْ قُمْت عَنْهُ وَالْ ... بَذِيَّ فَإِنَّ الْمَرْءَ بِالْمَرْءِ يَقْتَدِي
وَلَا تَصْحَبْ الْحَمْقَى فَذُو الْجَهْلِ إنْ ... يَرُمْ صَلَاحًا لِأَمْرٍ يَا أَخَا الْحَزْمِ يفسد
وَخَيْرُ مَقَامٍ قُمْت فِيهِ وَخَصْلَةٍ ... تَحَلَّيْتهَا ذِكْرُ الْإِلَهِ بِمَسْجِدِ
وَكُفَّ عَنْ العورى لِسَانَك وَلْيَكُنْ ... دَوَامًا بِذِكْرِ اللَّهِ يَا صَاحِبِي نَدِي
وَحَصِّنْ عَنْ الفحشا الْجَوَارِحَ كُلَّهَا ... تَكُنْ لَك فِي يَوْمِ الجزا خَيْرَ شُهَّدِ
وَحَافِظْ عَلَى فِعْلِ الْفُرُوضِ بِوَقْتِهَا ... وَخُذْ بِنَصِيبٍ فِي الدُّجَى مِنْ تَهَجُّدٍ
وَنَادِ إذَا مَا قُمْت فِي اللَّيْلِ سَامِعًا ... قَرِيبًا مُجِيبًا بِالْفَوَاضِلِ يَبْتَدِي
وَمُدَّ إلَيْهِ كَفَّ فَقْرِك ضَارِعًا ... بِقَلْبٍ مُنِيبٍ وَادْعُ تُعْطَ وَتَسْعَدْ
وَلَا تَسْأَمَنَّ الْعِلْمَ وَاسْهَرْ لَنَيْلِهِ ... بِلَا ضَجَرِ تَحْمَدْ سُرَى اللَّيْلِ فِي غَد
وَلَا تَطْلُبَنَّ الْعِلْمَ لِلْمَالِ وَالرِّيَا ... فَإِنَّ مِلَاكَ الْأَمْرِ فِي حُسْنِ مَقْصِدِ
وَكُنْ عَامِلًا بِالْعِلْمِ فِيمَا اسْتَطَعْته ... لِيُهْدَى بِك الْمَرْءُ الَّذِي بِك يَقْتَدِي
حَرِيصًا عَلَى نَفْعِ الْوَرَى وَهُدَاهُمْ ... تَنَلْ كُلَّ خَيْرٍ فِي نَعِيمٍ مُؤَبَّدِ
وَكُنْ صَابِرًا بِالفَقْرِ وَادَّرِعْ الرِّضَا ... بمَا قَدَّرَ الرَّحمنُ وَاشْكُرْهُ تُحْمَد
فَمَا الْعِزُّ إلَّا فِي الْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا ... بِأَدْنَى كَفَافٍ حَاصِلٍ وَالتَّزَهُّدِ(2/93)
فَمَنْ لَمْ يُقْنِعْهُ الْكَفَافُ فَمَا إلَى ... رِضَاهُ سَبِيلٌ فَاقْتَنِعْ وَتَقَصَّدْ
فَمَنْ يَتَغَنَّى يُغْنِهِ اللَّهُ وَالْغِنَى ... غِنَى النَّفْسِ لَا عَنْ كَثْرَةِ الْمُتَعَدِّدِ
وَإِيَّاكَ وَالْإِعْجَابَ وَالْكِبْرَ تَحْظَ بِالسَّ ... عَادَةِ فِي الدَّارَيْنِ فَارْشُدْ وَأَرْشِدْ
وَهَا قَدْ بَذَلْت النُّصْحَ جَهْدِي وَإِنَّنِي ... مُقِرٌّ بِتَقْصِيرِي وَبِاَللَّهِ أَهْتَدِي
تَقَضَّتْ بِحَمْدِ اللَّهِ لَيْسَتْ ذَمِيمَةً ... وَلَكِنَّهَا كَالدُّرِّ فِي عِقْدِ خُرَّدِ
يُحَيَّرُ لَهَا قَلْبُ اللَّبِيبِ وَعَارِفِ ... كَرِيمَانِ إنْ جَالَا بِفِكْرِ مُنَضَّدِ
فَمَا رَوْضَةٌ حُفَّتْ بِنَوْرِ رَبِيعِهَا ... بِسَلْسَالِهَا الْعَذْبِ الزُّلَالِ الْمُبَرَّدِ
بِأَحْسَنَ مِنْ أَبْيَاتِهَا وَمَسَائِلُ ... أَحَاطَتْ بِهَا يَوْمًا بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ
فَخُذْهَا بِدَرْسٍ لَيْسَ بِالنَّوْمِ تُدْرِكْنَ ... لِأَهْلِ النُّهَى وَالْفَضْلِ فِي كُلِّ مَشْهَدِ
وَقَدْ كَمُلَتْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ... عَلَى كُلِّ حَالٍ دَائِمًا لَمْ يَصْدُدْ
آخر:
مَنْ ذَا الَّذِي قَدْ نَالَ رَاحَةَ فِكْرِهِ ... فِي عُسْرِهِ مِنْ عُمْرِهِ أَوْ يُسْرِهِ
يَلْقَى الْغَنِيُّ لِحِفْظِهِ مَا قَدْ حَوَى ... أَضْعَافَ مَا يَلْقَى الْفَقِيرُ لِفَقْرِهِ
فَيَظَلُّ هَذَا سَاخِطًا فِي قِلِّهِ ... وَيَظَلُّ هَذَا تَاعِبًا فِي كَثْرِهِ
عَمَّ الْبَلَاءُ لِكُلِّ شَمْلٍ فُرْقَةٌ ... يُرْمَى بِهَا فِي يَوْمِهِ أَوْ شَهْرِهِ
وَالْجِنُّ مِثْلُ الْإِنْسِ يَجْرِي فِيهِمُوا ... حُكْمُ الْقَضَاءِ بِحُلْوِهِ وَبِمُرِّهِ
فَإِذَا الْمُرِيدُ أَتَى لِيَخْطَفَ خَطْفَةً ... جَاءَ الشِّهَابُ بِحَرْقِهِ وَبِزَجْرِهِ
وَنَبِيُّ صِدْقٍ لَا يَزَالُ مُكَذِّبًا ... يُرْمَى بِبَاطِلِ قَوْلِهِمْ وَبِسِحْرِهِ(2/94)
وَمُحَقِّقُ فِي دِينِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ ... ضِدٍّ يُوَاجِهِهِ بِتُهْمَةِ كُفْرِهِ
وَالْعَالِمُ الْمُفْتِي يَظَلُّ مُنَازِعًا ... بِالْمُشْكِلَاتِ لَدَى مَجَالِسِ ذِكْرِهِ
وَالْوَيْلُ إِنْ زَلَّ اللِّسَانُ فَلَا يَرَى ... أَحَدًا يُسَاعِدُ فِي إِقَامَةِ عُذْرِهِ
وَأَخُو الدِّيَانَةِ دَهْرُهُ مُتَنَغِّصٌ ... يَبْغِي التَّخَلُّصَ مِنْ مَخَاوِفِ قَبْرِهِ
أَوَمَا تَرَى الْمَلِكَ الْعَزِيزَ بِجُنْدِهِ ... رَهْنَ الْهُمُومِ عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِهِ
فَيَسُرُّهُ خَبَرٌ وَفِي أَعْقَابِهِ ... هَمٌّ تَضِيقُ بِهِ جَوَانِبُ قَصْرِهِ
وَأَخُو التِّجَارَةِ حَائِرٌ مُتَفَكِّرٌ ... مِمَّا يُلَاقِي مِنْ خَسَارَةِ سِعْرِهِ
وَأَبُو الْعِيَالِ أَبُو الْهُمُومِ وَحَسْرَةُ ... الرَّجُلِ الْعَقِيمِ كَمِينَةٌ فِي صَدْرِهِ
وَتَرَى الْقَرِينَ مُضْمِرًا لِقَرِينِهِ ... حَسَدًا وَحِقْدًا فِي غِنَاهُ وَفَقْرِهِ
وَلَرُبَّ طَالِبِ رَاحَةٍ فِي نَوْمِهِ ... جَاءَتْهُ أَحْلَامٌ فَهَامَ بِأَمْرِهِ
وَالطِّفْلُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَخْرُجُ إِلَى ... غُصَصِ الْفِطَامِ تَرُوعُهُ فِي صِغَرِهِ
وَلَقَدْ حَسَدْتُ الطَّيْرَ فِي أَوْكَارِهَا ... فَوَجَدْتُ مِنَها مَا يُصَادُ بِوَكْرِهِ
وَالْوَحْشُ يَأْتِيهِ الرَّدَى فِي بَرِّهِ ... وَالْحُوتُ يَأْتِي حَتْفُهُ فِي بَحْرِهِ
وَلَرُبَّمَا تَأْتِي السِّبَاعُ لِمَيِّتٍ ... فَاسْتَخْرَجَتْهُ مِنْ قَرَارَةِ قَبْرِهِ
كَيْفَ الْتِذَاذُ أَخِي الْحَيَاةِ بِعَيْشِهِ ... مَا زَالَ وَهْوَ مُرَوَّعٌ فِي أَمْرِهِ
تَاللَّهِ لَوْ عَاشَ الْفَتَى فِي أَهْلِهِ ... أَلْفًا مِنَ الْأَعْوَامِ مَالِكَ أَمْرِهِ
مُتَلَذِّذًا مَعَهُمْ بِكُلِّ لَذِيذَةٍ ... مُتَنَعِّمًا بِالْعَيْشِ مُدَّةَ عُمْرِهِ
لَا يَعْتَرِيهِ النَّقْصُ فِي أَحْوَالِهِ ... كَلَّا وَلَا تَجْرِي الْهُمُومُ بِفِكْرِهِ(2/95)
مَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا يَفِي ... بِنُزُولِ أَوَّلِ لَيْلَةٍ فِي قَبْرِهِ
كَيْفَ التَّخَلُّصُ يَا أَخِي مِمَّا تَرَى ... صَبْرًا عَلَى حُلْوِ الْقَضَاءِ وَمُرِّهِ
انتهى.
آخر:
تَأَلَّقَ بَرْقُ الْحَقِّ فِي الْعَارِضِ النَّجْدِي ... فَعَمَّ جَمِيعَ الْكَوْنِ فِي الْغَوْرِ وَالنَّجْدِ
وَأَوْرَقَتِ الْأَشْجَارُ وَانْتَهَضَتْ بِهَا ... يَوَانِعُ أَنْوَاعٍ مِنَ الثَّمَرِ الرَّغْدِ
وَأَشْرَقَتِ الْأَنْوَارُ مِنْ زَهْرِ وَرْدِهِ ... وَأَعْبَقَتِ الْأَقْطَارُ مِنْ طِيبِهِ النَّدِ
وَغَرَّدَتِ الْأَطْيَارُ بِالذِّكْرِ تُطْرِبُ الْ ... مَسَامِعَ جَهْرًا فَوْقَ أَغْصَانِهَا الْمُلْدِ
وَقَامَ خَطِيبُ الْكَائِنَاتِ لِرَبِّهَا ... عَلَى الْخِصْبِ بَعْدَ الْمَحَلِّ بِالشُّكْرِ وَالْحَمْدِ
فَذَاكَ الْحَيَا يُحْيِي الْقُلُوبَ رَبِيعُهَا ... وَمَطْعُومهَا مَشْرُوبُهَا طَيِّبُ الْوَرْدِ
فَهَا نَحْنُ نَجْنِي مِنْ ثِمَارِ غِرَاسِهَا ... وَنَرْجُو جَنَاهُ الْعَفْوَ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ
فَإِنْ كُنْتَ مُشْتَاقًا إِلَى ذَلِكَ الْجَنَا ... فَذُقْهُ تَجِدْ طَعْمًا أَلَذَّ مِنَ الشُّهْدِ
هُوَ الْوَحْيُ دِينُ اللَّهِ عِصْمَةُ أَهْلِهِ ... وَحَظُّهُمُ الْأَوْفَى وَجَدُّهُمُ الْمَجْدِي
بِهِ يُنْتَجَى وَالنَّاسُ فِي هَلَكَاتِهِمْ ... ِبِهِ يُرْتَجَى نَيْلَ الرَّغَائِبِ وَالرِّفْدِ
بِهِ الْأَمْنُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْحَشْرِ وَاللِّقَا ... وَمِنْ قَبْلُ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ وَفِي اللَّحْدِ
بِهِ تَصْلُحُ الدُّنْيَا بِهِ تُحْقَنُ الدِّمَا ... بِهِ يُحْتَمَى مِنْ كُلِّ بَاغٍ وَذِي حِقْدِ
بِهِ زُعْزِعَتْ أَرْكَانُ كِسْرَى وَقَيْصَرٍ ... وَلَمْ يَجِدْ مَا حَازَا مِنَ الْمَالِ وَالْجُنْدِ
وَأَمْثَالُهَا فِي السَّالِكِينَ طَرِيقَهُمْ ... أَرَنَا كَمَا قَدْ قَالَهُ صَادِقُ الْوَعْدِ(2/96)
فَلِلَّهِ حَمْدٌ يَرْتَضِيهُ لِنَفْسِهِ ... عَلَى نِعَمٍ زَادَتْ عَنِ الْحَصْرِ وَالْعَدِّ
فَأَعْظَهُمَا بَعْثُ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ ... أَمِينُ إِلَهِ الْحَقِّ وَاسِطَةَ الْعِقْدِ
دَعَانَا إِلَى الْإِسْلَامِ دِينِ الْهَنَا ... وَتَوْحِيدِهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْقَصْدِ
هَدَانَا بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ وَالْعَمَى ... وَأَنْقَذَنَا بَعْدَ الْغِوَايَةِ بِالرُّشْدِ
حَبَانَا وَأَعْطَانَا الَّذِي فَوْقَ وَهْمِنَا ... وَأَمْكَنَنَا مِنْ كُلِّ طَاغٍ وَمُعْتَدِ
وَأَيَّدَنَا بِالنَّصْرِ وَاتَّسَعَتْ لَنَا ... مَمَالِكُ لَا تَدْعُو سِوَى الْوَاحِدِ الْفَرْدِ
فَنَسْأَلُهُ إِتْمَامَ نِعْمَتِهِ بِأَنْ ... يُثَبِّتَنَا عِنْدَ الْمَصَادِرِ كَالْوَرْدِ
فَيَا فَوْزَ عَبْدٍ قَامَ لِلَّه جَاهِدًا ... عَلَى قَدَمِ التَّجْرِيدِ يَهْدِي وَيَسْتَهْدِي
وَجَرَّدَ فِي نَصْرِ الشَّرِيعَةِ صَارِمًا ... بِعَزْمٍ يُرَى أَمْضَى مِنَ الصَّارِمِ الْهِنْدِي
وَتَابَعَ هَدْيَ الْمُصْطَفَى الطُّهْرَ مُخْلِصًا ... لِخَالِقِهِ فِيمَا يُسِرُّ وَمَا يُبْدِي
وَيَا حَسْرَةَ الْمَحْرُومِ رَحْمَةَ رَبِّهِ ... بِإِعْرَاضِهِ عَنْ دِينِ ذِي الْجُودِ وَالْمَجْدِ
لَقَدْ فَاتَهُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ وَمَا دَرَى ... وَقَدْ خَابَ وَاخْتَارَ النُّحُوسَ عَلَى السَّعْدِ
وَمِنْ بَعْدِ حَمْدِ اللَّهِ أَزْكَى صَلَاتِهِ ... وَتَسْلِيمِهِ الْأَوْفَى الْكَثِيرِ بِلَا حَدِّ
عَلَى الْمُصْطَفَى خَيْرِ الْأَنَامِ وَآلِهِ ... وَأَصْحَابِهِ أَهْلِ السَّوَابِقِ وَالزُّهْدِ
آخر:
أَنَا الْعَبْدُ الَّذِي كَسَبَ الذُّنُوبَا ... وَصَدَّتْهُ الْأَمَانِي أَنْ يَتُوبَا
أَنَا الْعَبْدُ الَّذِي أَضْحَى حَزِينًا ... عَلَى زَلَّاتِهِ قَلِقًا كَئِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الَّذِي سُطِرَتْ عَلَيْهِ ... صَحَائِفُ لَمْ يَخَفْ فِيهَا الرَّقِيبَا(2/97)
أَنَا الْعَبْدُ الْمُسِيءُ عَصَيْتُ سِرًّا ... فَمَا لِي الْآنَ لَا أُبْدِي النَّحِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الْمُفَرِّطُ ضَاعَ عُمُرِي ... فَلَمْ أَرْعَ الشَّبِيبَةَ وَالْمَشِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الْغَرِيقُ بِلُجِّ بَحْرٍ ... أَصِيحُ لَرُبَّمَا أَلْقَى مُجِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ السَّقِيمُ مِنْ الْخَطَايَا ... وَقَدْ أَقْبَلْتُ أَلْتَمِسُ الطَّبِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الْمُخَلَّفُ عَنْ أُنَاسٍ ... حَوَوْا مِنْ كُلِّ مَعْرُوفٍ نَصِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الشَّرِيدُ ظَلَمْتُ نَفْسِي ... وَقَدْ وَافَيْتُ بَابَكُمْ مُنِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الْفَقِيرُ مَدَدْتُ كَفِّي ... إلَيْكُمْ فَادْفَعُوا عَنِّي الْخُطُوبَا
أَنَا الْغَدَّارُ كَمْ عَاهَدْتُ عَهْدًا ... وَكُنْتُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ كَذُوبَا
أَنَا الْمَهْجُورُ هَلْ لِي مِنْ شَفِيعٍ ... يُكَلِّمُ فِي الْوِصَالِ لِي الْحَبِيبَا
أَنَا الْمَقْطُوعُ فَارْحَمْنِي وَصِلْنِي ... وَيَسِّرْ مِنْكَ لِي فَرَجًا قَرِيبَا
أَنَا الْمُضْطَرُّ أَرْجُو مِنْكَ عَفْوًا ... وَمَنْ يَرْجُو رِضَاكَ فَلَنْ يَخِيبَا
فَيَا أَسَفَى عَلَى عُمُرٍ تَقَضَّى ... وَلَمْ أَكْسِبْ بِهِ إلَّا الذُّنُوبَا
وَأَحْذَرُ أَنْ يُعَاجِلَنِي مَمَاتٌ ... يُحَيِّرُ هَوْلُ مَصْرَعِهِ اللَّبِيبَا
وَيَا حُزْنَاهُ مِنْ نَشْرِي وَحَشْرِي ... بِيَوْمٍ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبَا
تَفَطَّرَتْ السَّمَاءُ بِهِ وَمَارَتْ ... وَأَصْبَحَتْ الْجِبَالُ بِهِ كَثِيبَا
إذَا مَا قُمْتُ حَيْرَانًا ظَمِيئَا ... حَسِيرَ الطَّرْفِ عُرْيَانًا سَلِيبَا
وَيَا خَجَلَاهُ مِنْ قُبْحِ اكْتِسَابِي ... إذَا مَا أَبْدَتْ الصُّحُفُ الْعُيُوبَا
وَذِلَّةِ مَوْقِفٍ وَحِسَابِ عَدْلٍ ... أَكُونُ بِهِ عَلَى نَفْسِي حَسِيبَا
وَيَا حَذَرَاهُ مِنْ نَارٍ تَلَظَّى ... إذَا زَفَرَتْ وَأَقْلَقَتْ الْقُلُوبَا(2/98)
تَكَادُ إذَا بَدَتْ تَنْشَقُّ غَيْظًا ... عَلَى مَنْ كَانَ ظَلَّامًا مُرِيبَا
فَيَا مَنْ مَدَّ فِي كَسْبِ الْخَطَايَا ... خُطَاهُ أَمَا أَنَى لَكَ أَنْ تَتُوبَا
أَلَا فَاقْلِعْ وَتُبْ وَاجْهَدْ فَإِنَّا ... رَأَيْنَا كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبَا
وَأَقْبِلْ صَادِقًا فِي الْعَزْمِ وَاقْصِدْ ... جَنَابًا نَاضِرًا عَطِرًا رَحِيبَا
وَكُنْ لِلصَّالِحِينَ أَخًا وَخِلًّا ... وَكُنْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا غَرِيبَا
وَكُنْ عَنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ جَبَانًا ... وَكُنْ فِي الْخَيْرِ مِقْدَامًا نَجِيبَا
وَلَاحِظْ زِينَةَ الدُّنْيَا بِبُغْضٍ ... تَكُنْ عَبْدًا إلَى الْمَوْلَى حَبِيبَا
فَمَنْ يَخْبُرْ زَخَارِفَهَا يَجِدْهَا ... مُخَالِبَةً لِطَالِبِهَا خَلُوبَا
وَغُضَّ عَنْ الْمَحَارِمِ مِنْك طَرْفًا ... طَمُوحًا يَفْتِنُ الرَّجُلَ الْأَرِيبَا
فَخَائِنَةُ الْعُيُونِ كَأُسْدِ غَابٍ ... إذَا مَا أُهْمِلَتْ وَثَبَتْ وُثُوبَا
وَمَنْ يَغْضُضْ فُضُولَ الطَّرْفِ عَنْهَا ... يَجِدْ فِي قَلْبِهِ رَوْحًا وَطِيبَا
وَلَا تُطْلِقْ لِسَانَكَ فِي كَلَامٍ ... يَجُرُّ عَلَيْكَ أَحْقَادًا وَحُوبَا
وَلَا يَبْرَحْ لِسَانُكَ كُلَّ وَقْتٍ ... بِذِكْرِ اللَّهِ رَيَّانًا رَطِيبَا
وَصَلِّ إذَا الدُّجَى أَرْخَى سُدُولًا ... وَلَا تَضْجَرْ بِهِ وَتَكُنْ هَيُوبَا
تَجِدْ أُنْسًا إذَا أُوعِيتَ قَبْرًا ... وَفَارَقْتَ الْمُعَاشِرَ وَالنَّسِيبَا
وَصُمْ مَا اسْتَطَعْت تَجِدْهُ رِيًّا ... إذَا مَا قُمْتَ ظَمْآنًا سَغِيبَا
وَكُنْ مُتَصَدِّقًا سِرًّا وَجَهْرًا ... وَلَا تَبْخَلْ وَكُنْ سَمْحًا وَهُوبَا
تَجِدْ مَا قَدَّمَتْهُ يَدَاكَ ظِلًّا ... إذَا مَا اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْكُرُوبَا
وَكُنْ حَسَنَ السَّجَايَا ذَا حَيَاءٍ ... طَلِيقَ الْوَجْهِ لَا شَكِسًا غَضُوبَا
انتهى
آخر:(2/99)
أَيَا لِلمَنَايَا وَيْحَهَا مَا أَجَدَّهَا ... كَأَنَّك يَوْمًا قَدْ توردت وَردها
ويا لِلمَنَايَا مَالَهَا مِنْ إِقَالَةٍ ... إِذَا بَلَغَتْ مِنْ مُدَّةٍ الْحَيِّ حَدَّهَا
أَلاَ يَا أَخَانَا إِنْ لِلمَوتِ طَلْعَةً ... وَإِنَّكَ مُذْ صَوَّرْتَ تَقْصُدُ قَصْدَهَا
وَلِلمَرءْ عِنْدَ الْمَوْتِ كَرْبٌ وَغُصَّةٌ ... إِذَا مَرَّتِ السَّاعَاتُ قَرَبْنَ بُعْدَهَا
سَتُسَلِمُكَ السَّاعَاتُ فِي بَعْضِ مَرِّهَا ... إِلَى سَاعَةٍ لاَ سَاعَةٌ لَكْ بَعْدَهَا
وَتَحْتَ الثَّرَى مِنِّيْ وَمِنْكَ وَدَائِعٌ ... قَرِيْبَةُ عَهْدٍ إِنْ تَذَكَّرْتَ عَهْدَهَا
مَدَدْتَ الْمُنَى طُوْلا وَعَرْضًا وَأنَّهَا ... لتَدْعُوكَ أَنْ تَهْدَأ وَأنْ لاَ تَمدَّهَا
وَمَالَتْ بِكَ الدُّنْيَا إِلَى اللَّهْوِ وَالصِّبَا ... وَمَنْ مَالَتْ الدُّنْيَا بِهِ كَانَ عَبْدَهَا
إِذَا مَا صَدَقْتَ النَّفْسَ أَكْثَرْتَ ذَمَّهَا ... وَأَكْثَرْتَ شَكْوَاهَا وَأَقْلَلْتَ حَمدَهَا
بِنَفْسِكَ قَبْلَ النَّاسِ فَاَعِنْ فَإِنَّهَا ... تَمُوتُ إِذَا مَاتَتْ وَتَبْعَثُ وَحْدَهَا
وَمَا كُلُّ مَا خُوَّلْتَ إِلاَ وَدِيْعَةٌ ... وَلَنْ تَذْهَبِ الأَيَّامُ حَتَّى تَرُدَّهَا
إِذَا أَذْكَرَتْكَ النَّفْسُ دُنْيَا دَنِيَةً ... فَلا تَنْسَ رَوْضَاتِ الْجِنَانِ وَخُلْدَهَا
أَلَسْتَ تَرَى الدُّنْيَا وَتَنْغَيِص عَيْشِهَا ... وَإِتْعَابِهَا لِلمُكْثِرِين وَكَدَّهَا
وَأَدْنَى بَنِي الدُّنْيَا إِلَى الغَيِّ وَالعَمَى ... لِمَنْ يَبْتَغِيْ مِنْهَا سَنَاهَا وَمَجْدَهَا
هَوَى النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَنْ تَغُوْلُهَا ... كَمَا غَالَتِ الدُّنْيَا أَبَاهَا وَجَدَّهَا
انتهى
آخر:
أَلاَ إِنَّمَا الدُّنْيَا مَتَاعُ غُرُورِ ... وَدَارُ بَلاَءٍ مُؤذِنٍ بِثُبُورِ
وَدَارُ مُلِمَّاتٍ وَدَارُ فَجَائِعِ ... وَدَارُ فَنًا في ظُلْمَةٍ وَبُحُورِ(2/100)
وَدَارُ خَيَالٍ مِن شُكُوكٍ وَحِيْرَةٍ ... وَدَارُ صُعُودٍ فِي الْهَوَى وَحُدُورِ
وَإِنْ امْرًأ لَمْ يَنْجُ فِيْهَا بِنَفْسِهِ ... عَلَى مَا يَرَى فِيْهَا لِغَيْرِ صَبُورِ
وَلاَ بُدَّ مِن يَوْمَيْنِ يَوْمِ بَليَّةٍ ... إِرَادةُ جَبَّارٍ وَيَوْمِ نُشُورِ
كَأَنِّي بِيَوْمِ مَا أَخَذْتُ تَأَهُّبًا ... لِرَبِّي رَوَاحِي مَرةٌ وَبُكُورِيِ
كَفَى حَسْرَةً أَنَّ الْحَوَادِثَ لَم تَزَلْ ... تُصَيِّرُ أَهْلَ الْمُلْكِ أَهْلَ قُبُورِ
أَلاَ رُبَّ أَبْنَاءِ اتِّسَاعٍ وَفَرْحَةٍ ... وَزَهْرَةِ عَيْشٍ مُوِنق وَحُبُورِ
وَأَبْنَاءِ لَذَّاتٍ وَظِلّ مَصَانِعٍ ... وَظِلَّ مَقَاصِيْر وَظِلٌّ قُصُورِ
نَظَرتُ إِلَيْهِمْ فِي بُيوتٍ مِن الثَّرَى ... مُسَتَّرةٍ مِن رَضرَضٍ بسُتُورِ
وَكَمْ صُوَرٍ تَحْتَ التُّرَابِ مُقِيْمَةٍ ... عَلَى غَيْرِ أَبْشَاٍر وَغَيْر شُعُورِ
ثَوَتْ فِي سَرَابِيْلٍ عَلَيْهَا مِنْ الْحَصَى ... وَمِنْ لَخَفٍ مِن جَنَدَلٍ وَصُخُورِ
إِذَا مَا مَرَرنَا بِالقُبُور لِحَاجَةٍ ... مَرَرْنَا بِدُوْرِ هُنَّ أَجْمَلُ دُوْرِ
أَلاَ رُبَّ جَبَّارِ بِهَا مُتَكَبِّر ... وَيَا ربُ َّمُخْتَالٍ بِهَا وَفَخُورِ
خَلِيْليَّ كَمْ مِن مَيِّتٍ قَدْ حَضرتهُ ... وَلَكِنَّنِي لَمْ أَنْتَفِعْ بِحُضُورِي ِ
وَكَمْ مِن خُطُوبٍ قَدْ طَوَتْنِي كَثَيْرَة ... وَكَمْ مِن أُمُورٍ قَدْ جَرَتْ وَأمُورِ
وَكَمْ مِنْ لَيَالٍ قَدْ أَرَتْنِي عَجَائِبًا ... لَهُنَّ وَأيَّامٍ خَلَتْ وَشُهُورِ
وَمَنْ لَمْ تَزدْهُ السِّنُ مَا عَاشَ عِبْرةً ... فَذَاكَ الَّذِي لاَ يَسْتَضِيءُ بِنُورِ
مَتَّى دَامَ فِي الدُّنْيَا سُرُوْرٌ لأِهْلِهَا ... فَأَصْبَحَ فِيْهَا وَاثِقًا بسُروْرِ؟
آخر:
أَلَمْ تَر أَنَّ الْمَرْءَ يَحْبِسُ مَالَهُ ... وَوَارِثَهُ فِيْهِ غَدًا يَتَمَتَّعُ(2/101)
كَأَنَّ الْحَمَاةَ الْمُشْفِقِيْنَ عَلَيْكَ قَدْ ... غَدَوا بِكَ أَوْ رَاحُوا رَوَاحًا فَأَسْرَعُوا
وَمَا هُوَ إِلاَّ النَّعْشُ لَوْ أَتُوا بِهِ ... تُقَلَّ فَتَلَقَى فَوْقَهُ ثُمَّ تَرْفَعُ
وَمَا هُوَ إِلاَّ حَادِثٌ بَعْدَ حَادِثٍ ... عَلَيْكَ فَمِنْ أَيِّ الْحَوَادِثِ تَجْزِعُ
وَمَا هُوَ إِلاَّ الْمَوْتُ يَأْتِي لِوَقْتِهِ ... فَمَالَكَ فِي تَأْخِيْرِهِ عَنْكَ مَدْفَعُ
أَلاَ وَإِذَا وَدِّعْتَ تَوْدِيْعَ هَالِكٍ ... فَآَخِر يَومٍ مِنْكَ يَوْمٌ تُوَدَّعُ
أََلاَ وَكَمَا شَيَّعْتَ يَوْمًا جَنَائِزا ... فَأَنْتَ كَمَا شَيَّعْتَهم سَتُشَيَّعُ
رَأَيْتُكَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ثِقَةٍ بِهَا ... وَإِنَّكَ فِي الدُّنْيَا لأَنْتَ الْمُرَوَّعُ
وَصَفتَ التُّقَىَ وَصْفًا كَأَنَّك ذُو تُقَى ... وَرِيْحُ الْخَطَايَا مِن ثِيَابِكَ تَسْطَعُ
وَلَمْ تَعْنَ بِالأَمْرِ الَّذِي هُوَ وَاقِعُ ... وَكُلُّ امْرئٍ يَعْنَي بِمَا يَتَوَقَّعُ
وَإِنَّكَ لَلْمَنْقُوصِ في كُلِّ حَالةٍ ... وَكُلَّ بِنِيْ الدُّنْيَا عَلَى النَّقْصِ يَطْبَعُ
وَمَا زِلْتُ أَرُمِى كُلَّ يَوْمٍ بِعِبْرَةٍ ... تَكَادُ لَهَا صُمُّ الْجِبَال تَصَدَّعُ
فَما بالُ عَيْنِي لا تَجُودُ بِمائِهَا ... وما بالُ قَلْبِي لا يَرِقُّ وَيَخْشَعُ
تَبَارَكَ مَنْ لا يَمْلِكُ المُلْكَ غَيْرُهُ ... مَتَى تَنْقَضِي حَاجَاتُ مَنْ لَيْسَ يَقْنَعُ
وأيُّ امْرِءٍ في غَايةٍ ليسَ نَفْسُهُ ... إِلَى غَايةٍ أُخْرَى سِواهَا تَطَلَّعُ
وبعضُ بَنِي الدُّنْيَا لِبَعْضٍ ذَرِيْعًةٌ ... وكلُّ بِكُلَّ قَلمَّا يَتَمَتَّعُ
يُحِبُّ السَّعيدُ العَدلَ عندَ احْتِجَاجِهِ ... وَيَبْغِي الشَّقِيُّ البَغِي وَالبَغُي يَصْرَعُ
انتهى
آخر:
خَفِّضْ هُمُومَكَ فَالحَيَاةُ غَرُوْرُ ... وَرَحَي المَنُونِ عَلَى الأَنَامِ تَدُورُ(2/102)
وَالمَرْءُ في دَارِ الفَنَاءِ مُكَلَّفٌ ... لا مُهْمَلٌ فيها وَلا مَعْذُورُ
والنَّاسُ في الدُّنْيَا كَظِلٍ زَائلٍ ... كُلٌّ إِلَى حُكمِ الفَنَاءِ يَصِيْرُ
فَالنَّكسُ وَالمَلِكُ المُتَوَّجُ وَاحدٌ ... لا آمرٌ يَبْقَى وَلا مَأمُورُ
عجبًا لمن تَركَ التَّذكُّرَ وَانْثَنَى ... في الأَمْرِ وَهو بِعَيْشِهِ مَغرُورُ
وإِذَا القَضَاءُ جَرَى بِأَمْرٍ نَافذٍ ... غَلِطَ الطَّبِيْبُ وَََأخْطَأَ التَّدبِيْرُ
إِنْ لُمْتُ صَرفَ الدَّهْرِ فِيهِ أَجَابَنِي ... أَبَتِ النُّهَى أن يُعْتَبَ المَقْدُورُ
أو قُلْتُ لهُ أينَ المُؤَيَّدُ قَالَ لِي ... أينَ المُظفَّرُ قَبْلُ وَالمنْصُورُ
أم أين كِسرَي أَزْدَ شِيْرُ وَقَيصَرٌ ... والهُرمُزَانُ وَقَبْلَهُم سَابُورُ
أَينَ ابن دَاوُدَ سُلَيْمَانُ الذِي ... كَانَتْ بِجَحْفَلِهِ الجِبَالُ تَمُورُ
والرِّيحُ تَجْرِي حَيثُ شاءَ بِأمرِه ... مُنْقَادَةً وَبه البِسَاطُ يَسِيْرُ
فَتَكَتْ بهم أَيْدِي المَنُونِ وَلَمْ تَزَلْ ... خَيْلُ المنُونِ على الأَنامِ تُغِيْرُ
لو كَانَ يَخْلُدُ بِالفَضَائِل مَاجدٌ ... مَا ضَمَّتِ الرُّسُلَ الكِرَامِ قُبُورُ
كلٌّ يَصِيْرُ إِلَى البِلَى فَأَجَبْتُهُ ... إِنِّي لأَعْلَمُ وَاللَّبِيْبُ خَبِيْرُ
أَنَّ الحَيَاةَ وَإِنْ حَرِصْتَ غَرُورُ
وَرَأيْتُ كُلاً ما يُعَلِّلُ نَفْسَهُ ... بِتَعِلَّةٍ وَإِلَى الفَنَاءِ يَصِيْرُ
انتهى.
آخر:
نَادَتْ بِوَشْكَ رَحيْلكَ الأيَّامُ ... أَفَلَسْتَ تَسْمَعُ أَمْ بِكَ اسْتِصْمَامُ
وَمَضَى أَمَامَك مِنْ رَأْيتَ وَأنْتَ لِلْـ ... بَاقِينَ حَتَّى يَلْحَقُوكَ إِمَامُ
مَالِي أَرَاكَ كَأَنَّ عَيْنَكَ لا تَرَى ... عَبرًا تَمُرُّ كَأنَّهنَّ سِهَامُ
تَأْتِي الخُطُوبُ وَأَنْتَ مُنْتَبِهُ لَهَا ... فَإِذَا مَضَتْ فَكَأنَّهَا أَحْلامُ(2/103)
قَدْ وَدَّعَتْكَ مِنَ الصِّبَا نَزَوَاتُهُ ... فَاجْهَدْ فَمَالَكَ بَعدَهُنَّ مَقَامُ
وَارْضَ المَشِيْبَ من الشَّبابِ خَلِيْفَةً ... فَكِلاهُمَا لكَ خِلْفَةٌ وَنِظَامُ
وَكِلاهُما حُجَجٌ عَلَيْكَ قَوِيَّةٌ ... وَكِلاهُمَا نِعَمٌ عَلَيْكَ جِسَامُ
وَلَقَدْ غَنَيْتَ مِن الشَّبابِ بِغِبْطَةٍ ... وَلَقَدْ كَسَاكَ وَقَارُهُ الإسْلامُ
أَهلاً وَسهلاً بِالمَشِيْبِ مُؤَدِبًا ... وَعَلَى الشَّبابِ تَحِيَّةٌ وَسلامُ
مَا زُخْرُفُ الدُّنْيَا وَزُبْرُجُ أَهْلِهَا ... إِلا غُرُورٌ كُلُّهُ وَحُطَامُ
وَلَرُبَّ ذِي فُرُشٍ مُمَهَّدَةٍ لَهُ ... أَمْسَى عَلَيهِ مِن التُرابِ رُكَامُ
وَلَكَمْ رَأَيْتُ مَحَلَّةً أَقْوت وَكَمْ ... جَدَثٌ رَأَيْتُ تَلُوحُ فِيهِ عِظَامُ
والموتُ يَعْمَلُ وَالعُيونُ قَرِيْرَةٌ ... تَلْهُو وَتَعْبَثُ بِالمُنَى وَتَنَامُ
فَالحَمدُ لله الذي هُو دَائمٌ ... أَبدًا وَليسَ لِمَا سِوَاهُ دَوَامُ
وَالحَمدُ لله الذِي لِجَلالِهِ ... وَلِحِلْمِهِ تَتَصَاغَرُ الأَْحلامُ
والحَمدُ لله الذِي هوَ لَمْ يَزَلْ ... لا تَسْتَقْلُ بِعِلْمِهِ الأَوْهَامُ
سُبحانَهُ مَلِكٌ تَعَالَى جَدُّهُ ... وَلِوَجْهِهِ الإِجْلالُ وَالإكرامُ
انتهى.
أضْحَى ذَلِيلاً صَغِيْرَ الشأنِ مُنْفَرِداً ... وما يُرَى عِنْدَهُ في القَبْرِ بَوَّابَا
وقَبْلَكَ النَّاسُ قَدْ عَاشُوا وَقدْ هَلَكُوا ... أصْبَحْتَ مما ستَلْقَي النفسُ هَرَّابَا
اكَدَحْ لنَفْسكَ من دارِ تُزَايِلُهَا ... ولا تَكُنْ لِلَّذِي يُؤْذِيك طلابَا
آخر: ومما أشير فيه إِلَى بعض المعجزات التي وَردت في القرآن ما يلي:
هو الله مَن أَعْطَى هُدَاهُ وَصحُّ مِن ... هواه أراه الخَارقَاتِ بحِكْمةِ
بِذَاكَ على الطُوفَانِ نُوح وَقد نَجَا ... بِهِ مَنْ نَجَا في قومِهِ في السَّفِيْنَةِ
وغَاضَ لَهُ ما فَاضَ عنه اسْتِجَابةً ... وجد إِلَى الجودي بها وَاستقرت(2/104)
وسار وَمتن الريح تَحْت بساطه ... سُلَيْمَانُ بالجَيْشَيْن فَوقَ البَسْطَة
وقَبْلَ ارتداد الطَّرفِ أُحْضِرَ مِنْ سبا ... له عَرْشُ بلقيسٍ بغير مَشَقَّةِ
وأَخْمَدْ لإبْرَاهِيْمَ نَارَ عَدُّوِهِ ... وَفي لُطْفِهِ عَادَتْ له روض جنةٍ
آخر:
اكْدَحْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الموتَ في مهلٍ ... ولا تكنْ جَاهلاً في الحقِ مُرْتَابً
إنّ المنيَّة مَورُود مَنَاهِلُهَا ... لا بُدَّ مِنْهَا وَلو عُمِّرتَ أحْقَابَا
وفي اللَّيَالي وَفي الأيامِ تَجْربةٌّ ... يَزْدَادُ فيها أُولُو الألبَاب ألْبَابَا
بَعْدَ الشبابِ يَصِيْر الصُّلْبُ مُنْحَنيا ... َ ... والشَّعرُ بَعْدَ سَوادٍ كَانَ قَدْ شابا
يُفْنِي النفوسَ وَلا يُبْقِي عَلَى أحدٍ ... لَيل سَريع وَشمس كَرُّهَا دَابَا
لِمُستقِّر وَميقاتٍ مُقَدَّرةٍ ... حَتَّى يَعُودَ شُهودُ النَّاسِ غُيَّابَا
ومَن تُعَاقِرهُ الأيامُ تُبْدِلُهُ ... بالجارِ جَاراً وَبالأصَحابَ أصحَابَا
خَلَّوا بُرُوجا وَأوطَانَاً مُشَيَّدَةً ... ومُؤْنِسِينَ وَأصْهَاراً وَأنْسَابَا
فَيَالَهُ سَفرًا بعدًا وَمغتربًا ... كَسيتَ منهُ لطولِ النَّأي أثوابَا
بِموحشٍ ضيقٍ ناءٍ محلتهُ ... وليس من حِلَّهُ من غيبةٍ آبَا
كم من مَهيبٍ عظيمِ الملكِ مُتخذٍ ... دونَ السُّرادِقِ حُرَّاسًا وَحجابَا
ولما دَعا الأَطيارُ في رأسِ شاهقٍ ... وقد قُطعَّتْ جاءتهُ غيرَ عصيَّةِ
وفي يدهِ مُوسَى عصاهُ تَلقَّفتْ ... من السِّحرِ أهوالاً على النَّفسِ شقةِ
ومن حَجَرٍ أجرَى عُيونًا بضربةٍ ... بها دائمًا سقتْ وَللبحرِ شقتِ
ويُوسفَ إذ ألقى البشيرُ قميصَهُ ... على وَجهِ يعقوبٍ عليه بأوبةِ
رآهُ بِعينٍ قيل مقدمهِ بَكَى ... عليه بها شَوقًا إليه فَكفِّتِ
وفي آل إسرائيلَ مائدةُ السَّمَا ... لعيسَى بن مَريمْ أُنزلَتْ ثم مُدتِ
ومن ألم أَبْرَى وَمن وَضحٍ غَدًا ... شَفى وَأعادَ الطَّيرَ طيرًا بنفخَةِ(2/105)
وصَحَّ بأخبارِ التَّواترِ أنَّهُ ... أماتَ وَأحيَا بالدُّعَا رب مَيِّتِ
وَأَبْعَد من هذا عن السِّحرِ أنَّهُ ... رَضِيْعٌ يُنادِي باللسانِ الفَصيحةِ
يُنزِّهُ عن ريبِ الظُّنونِ عَفيفةً ... مُبرَّأةً من كلِّ سوءٍ وَريبةٍ
وقالَ لأهلِ السَّبتِ كُونوا إلهنَا ... قُرُودًا فكَانَوا عِبرةً أي عِبْرَةِ
وَصَرعَ أَهْلَ الفِيْلِ مِنْ دُوْنِ بَيْتِه ... بِطَيرٍ أَبَابِيْلٍ صِغَارٍ ضَعِيْفَةِ
وَأَحْرَقَ رَوْضَ الْجَنتين عُقُوبَةً ... بِكَافٍ وَنُون عِبْرَةً لِلبَرِيَّةِ
انتهى.
آخر: وقال يوسف بن محمد الصرصري رحمه الله:
مَحَمَّدُ الْمَبْعُوثُ لِلخَلْقِ رَحْمَةً ... يَشَيِّدُ مَا أَوْهَى الضَّلاَلُ وَيُصْلِحُ
لَئِيْن سَبَّحَتَ صُمُّ الْجِبَالِ مُجِيْبَةً ... لِدَاودَ أَوْ لاَنَ الْحَدِيْدُ الْمُصَفْحُ
فَإِنَّ الصَّخُورَ الصُّمُّ لاَنَتْ بِكَفِّهِ ... وَإِنَّ الْحَصَى فِي كَفِّهِ لَيُسَبِّحُُ
وَإِنَّ كَانَ مُوْسَى أَنْبَع المَاء مِن الْحَصَى ... فَمِنْ كَفِّهِ قَدْ أَصْبَحَ الْمَاءُ يَطْفَحُ
وَإِنْ كَانَتْ الرِّيْحُ الرَّخَاءْ مُطِيْعَةً ... سُلَيْمَانَ لاَ تَأْلُوْ تَرُوْحُ وَتَسْرَحُ
فَإِنَّ الصِّبَا كَانَت لِنَصْرِ نَبِيِّنَا ... بِرُعْبٍ عَلَى شَهْرٍ بِهِ الْخَصْمُ يَكْلَحُ
وَإِنْ أُوْتِيَ الْمُلْكَ العَظِيْمَ وَسَخِّرَتْ ... لَهُ الْجِنُّ تَشْفِي مَارِضيْهِ وَتَلْدَحُ
فَإِنَّ مَفَاتِيْحَ الكُنُوزِ بِأَسْرِهَا ... أَتَتْهُ فَرَدَّ الزَّاهِدُ الْمُتَرَجِّحُ
وَإِنْ كَان إِبْرَاهِيْمُ أُعْطِيَ خُلَّةً ... وَمُوْسَى بِتَكْلِيْم عَلَى الطُّورِ يَمْنَحُ
فَهَذَا حَبِيْبٌ بِل خَلِيْلٌ مُكَلَّمٌ ... وَخُصَّصَ بِالرُؤْيَا وََبِالْحَقِّ أَشْرَحُ
وَخُصّصَ بِالْحَوْضِ العَظِيْمِ وََباللِّوَا ... وَيَشْفَعُ لِلْعَاصِيْنَ وََالنَّارُ تَلْفَحُ(2/106)
وَبالْمَقْعَدِ الأَعْلَى الْمُقَرَّبِ عِنْدَهُ ... عَطَاءٌ بِبُشْرَاهُ أَقِرُّ وََأَفْرَحُ
وَبِالرُّتْبَةِ العُلْيَا الوَسِيْلةِ دُوْنَهَا ... مَرَاتِبُ أَرْبَابِ الْمَوَاهِبُ تَلْمَحُ
وَفِي جَنَّةِ الفِرِدَوْسِ أَوَّلُ دَاخِل ... لَهُ سَائِرُ الأَبْوَابِ بِالْخَيْرِ تُفْتَحُ
انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله:
فَيا ساهِيًا في غَمرةِ الجهلِ والهَوَى ... صَريعَ الأَمانِي عن قَريبٍ سَتَنْدَمُ
أَفِقْ قَد دَنَى الوقتُ الذي لَيسَ بعدَهُ ... سِوى جَنَّةٍ أو حَرِّ نَارٍ تَضرَّمُ
وَبالسُّنَّةِ الغَرَّاءِ كنْ مُتمسِّكًا ... هي العُروةُ الوُثقَى التي ليسَ تُقصدُ
تَمسَّكْ بها مَسْكَ البَخيلِ بِمَالِهِ ... وَعَضَّ عَلَيْهَا بِالنَّواجِزِ تَسْلَمِ
وَدِع عَنكَ ما قَد أَحدثَ النَّاسُ بعدَهَا ... فَمَرتعُ هَاتيكَ الحَوَادِثِ أَوْخَمُ
وَهيئْ جَوابًا عندما تَسمَعُ النِّدا ... من الله يَومَ العَرضِ ماذَا أَجبتُمُ
به رُسُلِي لمَّا أَتَوْكُم فَمَنْ يَكُن ... أجابَ سوَاهُم سَوفَ يُخْزَي وَيندمُ
وَخُذْ من تُقَي الرَّحمنِ أَعظمَ جُنَّةٍ ... لِيومٍ بهِ تَبْدُو عِيَانًا جَهنَّمُ
وَيُنْصَبُ ذاكَ الجَسرُ من فوقِ مَتنِهَا ... فَهَاوٍ وَمَخْذُوشٌ وَنَاجٍ مُسَلَّمُ
وَيَأتِي إِلَهُ العَالمينَ لِوعْدِهِ ... فَيَفْصِلُ ما بَينَ العِبادِ وَيَحْكُمُ
وَيأخُذُ للمَظْلُومِ رَبُّكَ حقَّهُ ... فيا بُؤسَ عبدٍ للحلائقِ يَظلمُ
وَينشرُ دِيوَانُ الحِسابِ وتُوضَعُ الـ ... مَوازِينَ بِالقِسْطِ الذي لَيسَ يَظلمُ
فَلا مُجرمٌ يَخْشَي ظَلامَةَ ذَرَّةٍ ... ولا مُحْسنٌ من أَجْرهِ ذَاكَ يُهضَمُ
وَتَشْهَدُ أَعْضَاءُ المُسِيء بِمَا جَنَي ... كَذَاكَ عَلَى فِيهِ المُهيمنُ يَختُمُ
فَيَا لَيْتَ شِعرِي كيف حَالكُ عِنْدَمَا ... تَطايَرُ كُتبُ العَالمِينَ وَتُقسَمُ(2/107)
أَتَأخذُ بِاليُمنَى كِتابكَ أم تَكُن ... بالأخرى وَراءَ الظَّهرِ منكَ تَسلَّمُ
وَتَقْرَأ فِيْهَا كُلُّ شيءٍ عَمِلْتَهُ ... فَيُشرقُ منكَ الوَجْهُ أو هو يُظلِمُ
تقُولُ كِتابِي فاقرؤهُ فإنَّهُ ... يُبشِّرُ بالفوزِ العظيمِ ويُعلِمُ
وإنْ تَكُن الأخرَى فإنَّكَ قَائِلٌ ... ألا لَيْتَنِي لم أُوتَهُ فهُو مَغرَمُ
فَبادِرْ إِذَا ما دَامَ في العُمرِ فُسْحَةٌ ... وَعَدْلُكَ مقبُولٌ وصَرفُكَ قَيِّمُ
وَجُدَّ وَسَارِعْ واغْتَنِم زَمنَ الصِّبَا ... ففي زَمْنِ الإمْكَانِ تَسْعَى وَتَغْنَمُ
وَسِرْ مُسْرِعًا فالموتُ خَلْفَكَ مُسْرِعًا ... وَهَيْهَاتَ مَا مِنْهُ مَفَرٌ وَمَهْزَمُ
انتهى
وقال ابن القيم رحمه الله:
إذا طَلَعتْ شمسُ النَّهارِ فإنِّها ... أمارةُ تَسلِيمِي عليكُم فَسلِّمُوا
سلامٌ من الرَّحمنِ في كلِّ سَاعةٍ ... وروحٌ وريحانٌ، وفَضلٌ وأَنْعُمُ
عَلى الصَّحْبِ والإِخْوَانِ وَالوِلْدِ والأَولى ... رَعَاهُمُ بِإحسانٍ فَجَادُوا وأَنْعمُوا
وَسَائرِ مَنْ لِلسُّنَّةِ المَحضةِ اقْتَفَى ... وما زَاغَ عنها فهو حقٌّ مُقوَّمُ
أُولئكَ أَتباعُ النَّبيِّ وحِزْبهِ ... ولولاهُم ما كان في الأرْضِ مُسلِمُ
وَلولاهُم كَادت تَمِيْدُ بأهلِهَا ... ولكنْ رَوَاسيهَا وأَوتَادهَا هُمُ
وَلَولاهُم كانتْ ظَلامًا بأهْلِهَا ... ولكنهم فيها بُدورٌ وأَنجُمُ
أولئكَ أَصحَابِي فَحيَّ هَلاً بِهِ ... وحيَّ هلا بِالطَّيبينَ وأَنعُمُ
لكلِّ امرئٍ منْهُم سَلامٌ يخُصُّهُ ... يُبلِّغُه الأَدْنَى إليهِ ويَنعَمُ
فيا مُحسنًا، بَلِّغْ سَلامِي وقل لَهُم: ... مُحبُّكُم يَدعُو لكُمْ، وَيُسلِّمُ
ويا لائمِي في حُبِّهِم وَوَلائِهِم ... تَأمَّلْ هَدَاكَ الله من هو أَلوَمُ
بأي دَليلٍ أم بأيَّةِ حُجَّةٍ ... تَرَى حُبَّهُم عارًا عليَّ، وَتَنقِمُ
وَمَا العارُ إلا بُغْضُهُم واجْتِنَابُهُم ... وحبُّ عِدَاهُم ذَاكَ عارٌ ومَأثَمُ(2/108)
أَمَا والذِي شقَّ القُلوبَ، وأودَعَ ال ... محبَّةَ فِيهَا حَيثُ لا تَتَصَرَّمُ
وَحَمَّلها قَلْبَ المُحِبِّ، وإنَّهُ ... لَيضعُفُ عن حَملِ القَمِيصِ ويَألَمُ
وَذَلَّلهَا حتى اسْتَكَانَتْ لِصَولَةِ الـ ... مَحبِّةِ لاتَلْوِي ولا تَتَلَعْثَمُ
وذَلَّلَ فيهَا أنفسًا دونَ ذُلِّهَا ... حِيَاضُ المَنَايَا فوقَهَا، وهي حُوَّمُ
لأنتمْ عَلَى قُربِ الدِّيارِ وبُعْدِهَا ... أَحبَّتُنَا إنْ غِبْتُمُ أو حَضرتُمُ
سَلُوا نَسَماتِ الرِّيحِ كم قد تَحمَّلَتْ ... محبَّةَ صبِّ شَوقُهُ ليس يَكتَمُ
وَشَاهِدُ هذا أنَّهَا في هَبُوبِهَا ... تكادُ تَبثُّ الوِجدَ لو تَتكلَّمُ
وكنتُ إذا ما اشْتدَ بي الشَّوقُ والجَوَى ... وكادَتْ عَرَى الصَّبرِ الجميلِ تَفصَّمُ
أُعلِّلُ نَفْسِي بِالتَّلاقِي وَقُربِهِ ... وَأوهِمُهَا لَكِنَّهَا تَتوهَّمُ
وَأتبِعُ طَرفِي وِجهَةً أنتم بها ... فلِي بِجِمَاهَا مَربَعٌ وَمُخيَّمُ
وأَذْكُرُ بيْتًا قالهُ بعضُ من خَلا ... وقد ضَلَّ عنهُ صَبرُهُ فهو مُغرَمُ
«أَسَائِلُ عنكُم كلَّ غادٍ ورَائِحٍ ... وَأُومِي إلى أَوطَانِكُم وَأُسَلِّمُ»
وَكَمْ يَصْبِرِ المُشْتَاقُ عَمَّنْ يُحِبُّهُ ... وَفِي قَلْبِهِ نَارُ الأَسَى تَتَضَرَّمُ
أَمَا والذِي حَجَّ المُحِبُّونَ بَيْتَهُ ... وَلَبُّوا لَهُ عندَ المَهَلِّ، وَأَحْرَمُوا
وَقَدْ كَشَفُوا تِلكَ الرُؤوسِ تَواضُعًا ... لِعِزَّةِ من تَعْنُو الوُجوهُ وَتُسلِمُ
يُهلُّونَ بالبَيْدَاءِ: لَبَّيكَ رَبَّنَا ... لك المُلْكُ والحَمْدُ الذِي أَنْتَ تَعلَمُ
دَعَاهُم فَلَبَّوهُ رِضىً وَمَحبَّةً ... فلما دَعَوْهُ كانَ أَقْرَبَ مِنْهُمُ
تَراهُم على الإِنْضَاءِ شعثًا رُءوسُهُم ... وغبرًا وهم فيها أَسَرُّ وأَنْعَمُ
وَقَدْ فَارَقُوا الأَوْطَانَ والأَهْلَ رَغْبَةٌ ... ولم يَثْنِهِم لِذَاتُهُم والتَّنعُّمُ(2/109)
يَسِيرُونَ من أَقْطَارِهَا وَفِجَاجِهَا ... رِجالاً وَرُكبانًا، ولله أَسْلَمُوا
ولما رَأَتْ أَبصَارُهُم بَيْتَهُ الذِي ... قُلُوبُ الوَرَى شَوقًا إليه تَضَرَّمُ
كأنَّهُم لم يَنْصِبُوا قطُّ قَبْلَهُ ... لأن شَقاهُم قد تَرحَّلَ عنهُمُ
فللهِ كمْ من عِبرةٍ مُهَرَاقَةٍ ... وأخرَى على آثَارِهَا تَتقدَّمُ
وَقَدْ شَرِقَتْ عَينُ المُحِبِّ بِدَمْعِهَا ... فينظرُ من بَيْنِ الدُّمُوعِ، وَيُسْجِمُ
إذا عَايَنَتْهُ العَينُ زَالَ ظَلامُهَا ... وَزَالَ عن القَلبِ الكَئِيْبِ التَّألُمُ
ولا يَعرِفُ الطَّرفُ المُعاينُ حُسنَهُ ... إلى أن يَعُودَ الطَّرفُ والشَّوقُ أعظَمُ
ولا عَجبٌ من ذَا فَحِيْنَ أَضَافَةُ ... إلى نفسهِ الرَّحمنُ، فهو المُعظَّمُ
كَساهُ من الإِجلالِ أعظمَ حُلَّةٍ ... عليها طِرازٌ بالمَلاحَةِ مُعلَمُ
فَمِنْ أَجْلِ ذَا كلُّ القُلُوبِ تُحِبُّهُ ... وَتَخْضَعْ إِجْلالاً له وَتُعَظِّمُ
رَاحُوا إلى التَّعريفِ يَرجُونَ رَحْمَةً ... وَمَغفرةً ممنْ يَجُودُ ويُكْرِمُ
فَللهِ ذاكَ المَوقفُ الأعظمُ الذِي ... كَموقِفِ يومَ العَرضِ بَلْ ذَاكَ أَعْظَمُ
وَيَدنُو بِهِ الجَبَّارُ جلَّ جَلالُهُ ... يُباهِي بهم أَمْلاكَهُ فهو أَكْرَمُ
يقولُ: عِبادِي قد أَتَونِي مَحَبَّةً ... وإنِّي بهم بَرٌّ أَجودُ، وَأَرحمُ
فَأُشهِدُكُم أنِّي غَفَرتُ ذُنُوبَهُم ... وَأَعْطَيْتُهُم مَا أَمْلُوهُ وأَنْعَمُ
فَبُشرَاكُم يا أَهلَ ذَا المَوقفِ الذِي ... بهِ يَغفرُ اللهَ الذُّنُوبَ، وَيرحمُ
ومَا رُؤي الشَّيطانُ أغْيَظَ في الوَرَى ... وأحقرَ منهُ عندهَا، وهو الأَمُ
وَذَاكَ لأمْرٍ قد رآهُ فَغَاظَهُ ... فأقبل يَحثُو التُّربَ غَيظًا، وَيلطِمُ
وَمَا عَاينَتْ عَينَاهُ من رَحْمَةٍ أَتَتْ ... وَمغفرةٍ من عند ذِي العَرشِ تُقسَمُ
بَنَى ما بَنَى، حتى إذَا ظَنَّ أنَّهُ ... تَمَكَّنَ مِن بُنْيَانِهِ، فهوَ مُحْكَمُ(2/110)
أَتَى اللهُ بُنيَانًا له مِنْ أَسَاسِهِ ... فَخَرَّ عَلِيهِ سَاقطًا يَتَهَدَّمُ
وَكَمْ قَدْرَ مَا يَعْلُو البِنَاءُ وَيَنْتَهِي ... إذا كَانَ يَبْنِيْهِ وذُو العَرشِ يَهدِمُ
وَرَاحُوا إلى جَمعٍ فَبَاتُوا بِمَشْعَرِ الـ ... حرامِ وصلُّوا الفجرَ، ثم تَقدَّمُوا
إلى الجَمْرَةِ الكُبرى يُريدُونَ رَميهَا ... لوقتِ صلاةِ العِيدِ، ثم تَيمَّمُوا
منازلهُمْ للنَّحرِ يَبغُونَ فضلَهُ ... وَإحيَاءَ نُسكٍ من أَبِيْهِم يُعَظَّمُ
فلو كان يَرضَي اللهُ نحرُ نُفُوسِهِم ... لَدَانُوا به طَوعًا، وللأمرِ سلَّمُوا
كَمَا بَذَلُوا عِندَ الجِهَادِ نُحُورَهُم ... لأَعدَائِهِ حتى جَرَى مِنْهُمُ الدَّمُ
وَلكنَّهُم دَانُوا بوضعِ رُءوسهِم ... وذلك ذُلٌّ للعبيدِ ومِيْسَمُ
ولَمَّا تقضَّوا ذلكَ التَّفثَ الذي ... عليهم وأَوفُوا نَذْرَهُم ثُمَّ تَمَّمُوا
دَعاهُم إلى البيتِ العتيقِ زيارةً ... فَيَا مَرحبًا بالزَائرينَ وأكرِمُ
فللهِ ما أَبهَى زِيارتَهُم له ... وَقَدْ حُصِّلَت تلك الجَوائزُ تُقسمُ
ولله إفضالٌ هناكَ ونَعمةٌ ... وبِرٌّ وإحسانٌ، وجودٌ ومَرْحَمُ
وعادُوا إلى تلكَ المَنازِلِ من مِنَى ... وَنَالُوا مُناهُم عندها، وتَنعَّمُوا
أقامُوا بها يومًا ويومًا وثالثًا ... وأُذِّنَ فيهم بالرَّحيلِ وأعلِمُوا
ورَاحُوا إلى رَميِّ الجَمارِ عَشِيَّةً ... شِعارُهُم التَّكبيرُ واللهُ معهُمُ
فَلَو أَبْصَرَتْ عيناكَ موقِفَهُم بها ... وقد بَسطُوا تلكَ الأكفَّ لِيُرحَمُوا
يُنَادُونَهُ: يا ربُّ، يا رَبُّ، إِنَّنَا ... عبيدُكَ لا نَدعُو سواكَ وتَعلَمُ
وهَا نحن نرجُو منكَ ما أنت أَهْلُهُ ... فأنتَ الذِي تُعطِي الجَزيلَ وتُنعِمُ
ولما تَقضَّوا من مِنَى كلَّ حاجةٍ ... وَسَالتْ بهم تلكَ البِطاحُ تقدمُوا
إلى الكَعبَةِ البيتَ الحرامِ عَشيَّةً ... وَطافُوا بها سَبعًا، وصلُّوا وسلَّمُوا(2/111)
ولما دَنَا التَّوديعُ منهم وأيقنُوا ... بأنَّ التَّدانِي حَبلُهُ مُتصرِّمُ
ولم يَبقَ إلاَّ وقْفَةٌ لِمودِّعٍ ... فلله أَجْفَانٌ هناكَ تَسْجُمُ
ولله أكبادٌ هنالك أُوْدِعَ الـ ... غَرامُ بها فالنَّارُ فيها تَضرَّمُ
ولله أنفاسٌ يكادُ بِحرِّهَا ... يَذُوبُ المُحِبُّ المُسْتَهَامُ المُتَيَّمُ
فَلَمْ تَرَ إلاَّ بَاهِتًا مُتحيِّرًا ... وآخرَ يُبدِي شَجوَهُ يَترنَّمُ
رَحلتُ، وأَشْواقِي إليكُم مُقِيمَةٌ ... ونارُ الأَسَى مِنِّي تُشَبُّ وتُضرمُ
أودِّعكُم والشَّوقُ يَثْنِي أَعِنَّتِي ... وَقَلْبِي أَمْسَى في حِمَاكَمْ مُخَيِّمُ
هُنالِكَ لا تَثْرِيْبَ يَومًا علَى امْرئ ... إذا مَا بدَا منه الذي كان يَكْتُمُ
فَيَا سائقينَ العِيسَ، بالله رَبِّكُم ... قِفُوا لي عَلَى تِلْكَ الرُّبُوعِ وسَلِّمُوا
قُولُوا مُحِبٌّ قادَهُ الشَّوقُ نحوكُم ... قَضَى نحبهُ فيكم تَعيشُوا وتَسلَمُوا
قَضَى الله رَبُّ العَرشِ فيمَا قَضَى بِه ... بأنَّ الهَوَى يُعمِي القُلوبَ ويُبْكِمُ
وحُبُّكُم أَصلُ الهُدى، ومَدارُهُ ... عليه وفوزٌ للمحبِّ ومَغنَمُ
وَتَفْنَى عِظَامُ الصَّبِّ بَعدَ مَمَاتِهِ ... وَأَشوَاقُهُ وقفٌ عليه مُحرَّمُ
فَيَا أَيُّهَا القَلْبُ الذِي ملكَ الهَوَى ... أَزِمَّتَهُ حتى متى ذَا التَّلوُّمُ
وَحَتَّامَ لا تَصْحُو وَقَدْ قَرُبَ المَدَى ... وَدُنَّت كُؤوسُ السَّيرِ والنَّاسُ نُوَّمُ
بَلَى سوفَ تَصْحُو حينَ يَنْكَشِفُ الغِطَا ... وَيَبْدُو لكَ الأَمْرُ الذي أَنْتَ تَكْتُمُ
وَيَا مُوقِدًا نارًا لغيركَ ضوؤُهَا ... وَحرُّ لَظَاهَا بَينَ جَنبَيكَ يُضرَمُ
أَهَذَا جَنَى العِلمِ الذي قد رَضِيْتَهُ ... لِنَفْسِكَ في الدَّارِين: جَاهٌ وَدِرْهَمُ
وَهذا هُوَ الرِّبحُ الذي قد كَسبتَهُ ... لَعمرُكَ لا ربحٌ ولا الأصلُ يسلمُ
بَخِلتَ بشيءٍ لا يَضُرُّكَ بِذْلُهِ ... وجُدتَ بشيءٍ مثلهُ لا يُقوَّمُ(2/112)
بَخِلتَ بذَا الحظِّ الخَسيسِ دناءةً ... وجُدْتَ بدارِ الخلدِ لو كنت تَفهمُ
وَبِعتَ نعيمًا لا انْقضاءَ لهُ وَلا ... نَظيرَ بِبخسٍ عن قليلٍ سَيُعدمُ
فَهلاَّ عكستَ الأمرَ إن كنت حازمًا ... ولكن أَضعتَ الحزمَ لو كنت تَعلمُ
وَتهدِمُ ما تبْنِي بكفكَ جاهدًا ... فأنت مَدَى الأيامِ تبنِي وَتهدِمُ
وعند مُرادِ الله تَفنَى كميتٍ ... وعند مُرادِ النَّفس تُسدِي وتُلحِمُ
وعندَ خلافِ الأمرِ تحتجُّ بالقَضَا ... ظَهيرًا على الرَّحمنِ للجَبْرِ تَزْعُمُ
تنزَّهُ منكَ النَّفسُ عن سوءِ فِعْلِها ... وَتَعتِبُ أقدارَ الإلهِ وتظلمُ
تحلُّ أُمورًا أحكم الشَّرعُ عَقدَهَا ... وَتقصُدُ ما قَد حَلَّهُ الشَّرعُ تُبرِمُ
وَتفهمُ من قَولِ الرَّسُولِ خِلافَ مَا ... أرادَ لأنَّ القَلْبَ منكَ مُعَجَّمُ
مُطيعٌ لداعِي الغيِّ عاصٍ لرُشدِه ... إلى ربِّه يومًا يردُّ ويعلَمُ
مُضيعٌ لأمرِ الله قد غَشَّ نفسهُ ... مُهينٌ لها أنَّى يحبُّ ويُكرمُ
بَطيءٌ عن الطَّاعاتِ أسرعُ للخَنَا ... من السَّيلِ في مَجراهُ لا يَتقسَّمُ
وتَزعمُ مع هذا بأنَّك عارفٌ ... كذبتَ يقينًا بالذي أنت تَزعمُ
وما أنت إلا جاهلٌ ثُمَّ ظَالمٌ ... وأنك بين الجَاهلينَ مُقدَّمُ
إذَا كانَ هذا نُصحُ عَبدٍ لِنفسِهِ ... فَمن ذَا الذِي منهُ الهُدَى يُتعلَّمُ
وفي مثل هذا الحَالِ قد قالَ من مضَى ... وأحسنَ فيمَا قالهُ المتكلِّمُ
فإنْ كنتَ لا تدرِي فتلك مُصيبةٌ ... وإنْ كنت تدرِي فالمُصيبةُ أعظمُ
ولو تُبصرُ الدُّنيا وراءَ سُتورها ... رأيتَ خيالاً في منامٍ سيُصرمُ
كحلمٍ بطيفٍ زارَ في النَّومِ وانقضَى ... المنامُ وراحَ الطيفُ، والصَّبُّ مغرمُ
وظلٍّ أرتهُ الشَّمسُ عند طُلوعِهَا ... سَيقلُصُ في وقتِ الزوالِ، ويفصمُ
وَمُزنةِ صيفٍ طابَ منها مَقيلُهَا ... فَولتْ سريعًا، والحرورُ تَضرَّمُ
ومَطعمِ ضيفٍ لذَّ منهُ مَساغهُ ... وَبَعدَ قليلٍ حَالُهُ تِلكَ تُعْلَمُ(2/113)
كَذَا هَذِهِ الدُّنيا كأَحلامِ نائمٍ ... وَمِنْ بعدها دارُ البَقاءِ ستقدمُ
فَجُزها مَمَرًا لا مَقَرًا وكنْ بها ... غريبًا تَعِش فيها حميدًا، وتسلمُ
أو ابن سبيلٍ قالَ في ظِلِّ دَوحةٍ ... وراحَ وخَلَّى ظِلَّهَا يَتقسَّمُ
أخَا سفرٍ لا يستقرُّ قَرارُهُ ... إلى أن يَرَى أوطانهُ ويسلِّمُ
فيا عجبًا كمْ مصرعٌ وعَظَتْ به ... بَنِيْهَا ولكن عن مَصارِعِهَا عَمُوا
سقتهُم كُؤوسَ الحبِّ حتى إذا نَشَوا ... سَقتهُم كُؤوسَ السُّمِّ والقَومُ نُوَّمُ
وأعجبُ ما في العَبدِ رُؤيةُ هذه الـ ... عَظائمِ والمَغرورُ فيها مُتيَّمُ
وما ذاكَ إلا أن خَمرةَ حُبَّهَا ... لَتَسلبُ عقلَ المرءِ منه وتصلِمُ
وأعجبُ من ذَا أنَّ أحبَابَهَا الأُلي ... تُهينُ وللأعدَا تُرَاعِي وتُكرمُ
وَذلكَ بُرهانٌ على أنَّ قَدرهَا ... جَناحُ بَعوضٍ أو أَدقُّ وألامُ
وحسبكَ ما قَالَ الرَّسُولُ مُمَثِّلاً ... لَهَا وَلِدَارِ الخُلدِ والحَقُّ يُفهَمُ
كَمَا يُدْلِي الإِنْسَانُ في اليَمِّ أَصْبُعًا ... وينزعُهَا منه فما ذاك يَغنَمُ
ألا ليتَ شعرِي هل أَبِيْتَنَّ ليلةً ... على حذرٍ منها، وأَمرِي مُبرَمُ
وهل أردنَّ مَاءَ الحياةِ وأرتَوِي ... على ظمأٍ من حوضهِ، وهو مُفعَمُ
وهل تَبدُوَنْ أعلامُهَا بعد ما سَفَتْ ... على رَبْعِهَا تلكَ السَّوافِي فَتُعلَمُ
وهل أَفْرِشَنْ خَدِّي ثَرَى عَتَبَاتِهِم ... خُضُوعًا لهُم كيمَا يَرقُّوا ويَرحَمُوا
وهل أَرْمِيَنْ نفسِي طريحًا ببابِهِم ... وطيرُ مَنَايَا الحبِّ فوقِي تُحوِّمُ
فيا أسفِي، تفنَى الحياةُ وتنقضِي ... وذَا العُتبُ باقٍ ما بَقيتُم وعِشتُمُ
فما منكم بدٌّ ولا عنكم غِنَى ... وما لي من صَبرٍ فأسْلُوا عَنكُمُ
ومن شاءَ فليغضب سِواكُم فلا إذا ... إذا كنتم عن عَبْدِكُم قد رَضيتُمُ
وَعُقْبَى اصْطِبَارِي في هَواكُم حَمِيْدَةً ... وَلكنَّهَا عنكُم عِقابٌ ومَأثَمُ(2/114)
وما أنا بالشَّاكِي لما تَرتضونَهُ ... ولكنَّني أرضَى به وأُسلِّمُ
وحسبي انْتسابِي من بَعيدٍ إليكم ... ألا إنه حظٌّ عَظيمٌ مَفخمُ
إذا قِيل: هَذَا عَبْدُهُم وَمُحبُّهُم ... تهلَّلَ بشرًا وجهُهُ يَتَبَسَّمُ
وها هو قد أَبْدَى الضَّراعةَ سائلاً ... لكم بلسانِ الحالِ، والقَالِ مُعْلِمُ
أحبَّتهُ عَطْفًا عليه فإنَّهُ ... لِمُظمى وإنَّ الموردَ العذبَ أنتمُ
فيا سَاهيًا في غَمْرَةِ الجهلِ والهَوَى ... صريعُ الأماني عن قريبٍ سَتندمُ
أفِقْ قد دَنَا الوقتُ الذي ليس بعدَهُ ... سِوَى جنَّةٍ، أو حَرِّ نَارٍ تَضرَّمُ
وبالسُّنَّةِ الغَرَّاءِ كُن متَمَسِّكًا ... هي العُروةُ الوُثْقَى التي ليس تُفصَمُ
تَمسَّكْ بها مَسكَ البخِيلِ بِمَالِ ... وعضَّ عليها بالنَّواجذِ تَسلَمُ
ودعْ عنك ما قد أَحدثَ النَّاسُ بعدها ... فَمَرْتَعُ هاتيكَ الحوادثِ أَوخمُ
وهيئ جَوَابًا عندمَا تَسْمَعُ النَّدا ... من الله يومَ العَرضِ ماذَا أَجَبْتُمُ
به رُسُلِي لما أَتَوكُم فمنْ يَكُنْ ... أَجابَ سِوَاهُم سوفَ يُخْزَى ويَنْدمُ
وخُذْ من تُقَى الرَّحمنِ أعظَمَ جُنَّةٍ ... ليومٍ به تبدُو عيانًا جَهنَّمُ
وَيُنْصَبُ ذاكَ الجِسرُ من فَوقِ مَتْنِهَا ... فهاوٍ، ومخدوشٍ، وناجٍ مُسلَّمُ
وَيأتِي إلهُ العَالمينَ لِوعدِه ... فَيَفْصِلُ ما بَينَ العِبَادِ ويَحْكُمُ
وَيَأخُذُ لِلمَظْلُومِ ربُّكَ حَقَّهُ ... فَيا بُؤْسَ عبدٍ للخلائقِ يَظْلِمُ
وَيُنشرُ دِيوانُ الحِسابِ وتوضعُ الـ ... موازينَ بالقسطِ الذي ليس يَظلمُ
فلا مُجرمٌ يَخشَى ظَلامَةَ ذَرةٍ ... ولا مُحسنٌ من أجرهِ ذاكَ يَهضمُ
وتشهدُ أعضاءَ المسيءِ بما جَنَى ... كذاكَ على فيهِ المُهيمنُ يَختمُ
فيا ليتَ شِعرِي كيفَ حالُكَ عندما ... تَطَايَرُ كُتبَ العَالمينَ وَتُقْسَمُ
أَتَأخذُ بِاليُمنَى كِتابكَ أم تَكُن ... بالأخرى وَراءَ الظَّهرِ منكَ تَسلَّمُ(2/115)
وَتَقْرَأ فِيْهَا كُلُّ شيءٍ عَمِلْتَهُ ... فَيُشرقُ منكَ الوَجْهُ أو هو يُظلِمُ
تقُولُ كِتابِي فاقرؤهُ فإنَّهُ ... يُبشِّرُ بالفوزِ العظيمِ ويُعلِمُ
وإنْ تَكُن الأخرَى فإنَّكَ قَائِلٌ ... ألا لَيْتَنِي لم أُوتَهُ فهُو مَغرَمُ
فَبادِرْ إِذَا ما دَامَ في العُمرِ فُسْحَةٌ ... وَعَدْلُكَ مقبُولٌ وصَرفُكَ قَيِّمُ
وَجُدَّ وَسَارِعْ واغْتَنِم زَمنَ الصِّبَا ... ففي زَمْنِ الإمْكَانِ تَسْعَى وَتَغْنَمُ
وَسِرْ مُسْرِعًا فالموتُ خَلْفَكَ مُسْرِعًا ... وَهَيْهَاتَ مَا مِنْهُ مَفَرٌ وَمَهْزَمُ
فَهُنَّ المنايَا أيَّ وادٍ نَزلتهُ ... عَليهَا القُدومُ أو عَليكَ سَتقدَمُ
وَمَا ذَاكَ إلا غَيرةٌ أن يَنالَهَا ... سِوَى كُفؤهَا والربُّ بالخلقِ أعلمُ
وإنْ حجبتَ عنَّا بكلِّ كريهةٍ ... وَحُفَّت بِمَا يُؤذِي النُّفُوسَ ويؤلمُ
فلله ما في حَشوِهَا من مسرةٍ ... وأصنافِ لذَّاتِ بها يَتنعَّمُ
ولله بَردُ العيشِ بين خِيامِهَا ... وروضَاتِهَا والثَّغرُ في الرَّوضِ يبسمُ
فلله وادِيهَا الذي هو مَوعدُ الـ ... مزيدِ لوفدِ الحبِّ لو كُنتَ منهمُ
بِذَيَّالِكَ الوادي يَهيمُ صَبابةً ... محبٌّ يَرى أن الصَّبابةَ مغنمُ
ولله أفراحُ المحبينَ عندما ... يُخاطبُهُم من فوقهم ويُسلِّمُ
ولله أَبصارٌ تَرَى الله جَهرةً ... فلا الضَّيمُ يغشاهَا ولا هي تَسأمُ
فيا نَظرةً أهدَتْ إلى الوجهِ نضرةً ... أَمِنْ بعدها يَسلُو المحبُّ المتيمُ
ولله كم من خيرةٍ لو تبسَّمتْ ... أضاءَ لها نُورٌ من الفجرِ أعظمُ
فيا لذَّةَ الأبصارِ إن هي أَقبلَتْ ... ويا لذَّةَ الأسماعِ حينَ تكلمُ
ويا خَجلةَ الغُصنِ الرَّطيبِ إذا انثَنَـ ... ت ويا خَجْلَةَ البَحرَينِ حينَ تَبسَّمُ
فإن كنت ذا قلبٍ عليلٍ بحُبِّها ... فلم يبقَ إلا وصلُهَا لك مَرهَمُ
ولا سيما في لَثْمِهَا عند ضَمِّهَا ... وقد صَارَ منها تحتَ جِيدِكَ مِعصَمُ(2/116)
يراها إذا أَبدتَ له حُسنَ وجهِهَا ... يَلذُّ بها قَبلَ الوصَالِ ويَنْعَمُ
تَفَكَّهُ منها العينُ عند اجتلائِهَا ... فَواكِهَ شتَّى طَلعُهَا ليسَ يُعْدِمُ
عَناقِدُ من كرمٍ وتفَّاحُ جَنَّةٍ ... وَرُمَانُ أغصانٍ بها القَلبُ مُغرَمُ
وللوردِ ما قد ألبسَتْهُ خُدودُهَا ... وللخَمرِ ما قد ضَمَّهُ الرِّيقُ والفمُ
تقسَّمَ منها الحُسنُ في جَمعِ واحدٍ ... فيا عَجبًا من واحدٍ يتقسَّمُ
تُذَكُِّر بالرَّحمنِ من هو ناظرٌ ... فينطقُ بالتَّسبيحِ لا يَتلعثمُ
لها فِرَقٌ شَتَّى من الحُسنِ أجمَعَتْ ... بجُملتِهَا إن السُلُوَّ محرَّمُ
إذا قَابَلَتْ جَيشَ الهُمومِ بوجهِهَا ... تَولَّى على أعقابهِ الجيشُ يهزمُ
فيا خاطبَ الحَسناءِ إن كنتَ راغبًا ... فهذا زَمانُ المَهرِ فهو المَقَدَّمُ
ولما جَرَى ماءُ الشَّبابِ بغُصنِهَا ... تيقَّنَ حقًّا أنَّهُ ليس يَهرَمُ
وكُنْ مُبغضًا للخَائناتِ لحبِّهَا ... لتُحظَى بها من دُونهنَّ وتنعمُ
وكُنْ أيَّمَا مما سِواهَا فإنَّهَا ... لمثلكَ في جنَّاتِ عدنٍ تأيمُ
وصُمْ يومكَ الأدنَى لعلكَ في غدٍ ... تَفُوزُ بِعيدِ الفِطرِ والنَّاسُ صوَّمُ
وأَقْدَم ولا تقْنَعْ بعيشٍ مُنَغَّصٍ ... فما فازَ بِاللَّذاتِ من ليس يُقْدِمُ
وإن ضَاقتْ الدُّنيا عليكَ بأسرِهَا ... ولم يَكُ فيها مَنزلٌ لك يُعلمُ
فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدنٍ فإنَّهَا ... مَنازلُكَ الأولى، وفيها المُخيَّمُ
ولكنَّنَا سَبْيُّ العَدُو فهل تَرَى ... نُردُّ إلى أَوطَانِنَا ونُسلِّمُ
وقدْ زَعمُوا أنَّ الغَريبَ إذا نَأَى ... وَشَطَّتْ به أَوطانُهُ فهو مُغرمُ
وأي اغْترابٍ فوقَ غُربتنَا التِي ... لها أَضحَتْ الأَعداءُ فينَا تَحكَّمُ
وحيِّ عَلَى رَوضاتِهَا وخِيَامِهَا ... وحيِّ على عَيشٍ بها ليس يُسأَمُ
وحيِّ على السُّوقِ الذِي يَلتَقي بهِ الـ ... مُحبُّونَ ذَاكَ السُّوقُ للقَومِ يُعلَمُ(2/117)
فَمَا شِئْتَ خُذْ مِنْهُ بِلا ثَمنٍ لهُ ... فقد أَسْلَفَ الُّتجارُ فيه وأَسْلَمُوا
وحيِّ على يَومِ المزيدِ فإنَّهُ ... لِمَوعِدُ أهلِ الحبِّ حينَ يُكَرَّمُوا
وحيِّ على وادٍ هنالكَ أَفْيَحٍ ... وَتُرْبَتُهُ من أَذْفَرِ المِسكِ أَعظمُ
مَنابرُ من نورٍ هناكَ وفِضَّةٍ ... ومن خالصِ العقيانِ لا تَتفصمُ
وَمِنْ حولِهَا كُثبانُ مِسكٍ مَقَاعِدُ ... لمن دُونَهُم هذا العَطَاءُ المُفخمُ
يَرُونَ بهِ الرَّحمنَ جلَّ جلالُهُ ... كَرؤيةَ بَدر التِّم لا يُتَوَهَّمُ
كَذَا الشَّمسُ صَحْوًا ليس من دون ... أُفْقِهَا سِحابٌ ولا غيمٌ هناك يُغيِّمُ
فَبَيْنَا هُمُ في عَيشهِمْ وسُرُورِهِم ... وَأَرْزَاقِهِمْ تَجْرِي عليهم وَتُقْسَمُ
إِذَا هُمْ بِنُوْرٍ سَاطِعٍ قَدْ بَدَا لَهُم ... وَقَدْ رَفَعُوا أَبْصَارَهُم فإذَا هُمُ
بِرَبِّهِم مِنْ فَوْقِهِمْ قَائِلٌ لَهُم: ... سلامٌ عليكم طِبْتُمُ ونَعِمْتُمُ
سَلامٌ عليكمْ يَسْمَعُونَ جَمِيْعُهُمْ ... بِآذَانِهِم تَسْلِيْمَهُ إِذْ يُسَلِّمُ
يَقُولُ: سَلُوْنِي مَا اشْتَهَيْتُمْ فَكُلُّ ما ... تُرِيْدُوْنَ عِنْدِي، إِنِّنِي أَنَا أَرْحَمُ
فَقَالُوا جَمِيْعًا: نَحْنُ نَسْأَلُكَ الرِّضَى ... فَأَنْتَ الذِي تُوْلِي الجَمِيْلَ وَتَرْحَمُ
فَيُعطيهمُ هذَا، وَيُشْهِدُ جَمعَهُم ... عَلَيْهِ تَعَالَى الله فَاللهُ أَكرَمُ
فَبِالهِ مَا عُذْرُ امْرئٍ هو مُؤمنٌ ... بِهَذَا وَلا يَسعَى لهُ وَيُقَدِّمُ
وَلكنَّما التَّوفيقُ بالله إنَّهُ ... يخصُّ به مَن شَاءَ فَضْلاً وَيُنْعِمُ
فَيا بَائِعًا غالٍ ببخسٍ مُعجَّلٍ ... كَأنَّكَ لا تَدرِي، بَلَى سوفَ تَعلمُ
فَقَدِّم فَدَتْكَ النَّفسُ نَفسكَ إنَّها ... هي الثَّمنُ المَبذُولُ حين تُسلمُ
وَخُضْ غَمَراتِ الموتِ وارقَ مَعارجَ الـ ... مَحبَّةٍ في مَرضاتِهم تَتسنَّمُ(2/118)
وَسَلِّمْ لهم ما عَاقدوكَ عليهِِ إِنْ ... تُرِدْ مِنْهُمُ أَنْ يَبْذِلُوا وَيُسَلِّمُوا
فَمَا ظَفِرَتْ بالوَصْلِ نَفْسٌ مَهِيْنَةٌ ... وَلا فَازَ عبدٌ بِالبطالةِ يَنعمُ
وَإِنْ تَكُ قد عَاقَتْكَ سُعْدَى فَقَلبُكَ ال ... مُعَنى رَهِيْنٌ في يَدَيْهَا مُسَلَّمُ
وَقد سَاعَدَتْ بالوَصلِ غَيركَ فالهَوى ... لَهَا مِنْكَ، والواشِي بِهَا يَتَنَعَّمُ
فَدَعْهَا، وَسَلِّ النَّفسَ عنها بجنَّةٍ ... من العِلمِ في رَوضاتِهَا الحقُّ يَبسمُ
وَقَدْ ذُلِّلَت منهَا القُطُوفُ فمن يُردْ ... جَنَاهَا ينلهُ كيف شاءَ ويَطعَمُ
وَقَدْ فُتحَتْ أبوابُهَا وَتزينَتْ ... لِخُطَّابِهَا فالحُسنُ فيها مُقسَّمُ
وَقَدْ طَابَ مِنْهَا نَزْلُهَا وَنَزِيْلُهَا ... فَطُوبِى لِمَن حلُّوْا بها وَتَنعَّمُوا
أَقَامَ عَلَى أَبوابِهَا دَاعِي الهُدى ... هَلمُّوا إلى دَارِ السَّعادةِ تَغنمُوا
وَقَدْ غَرَسَ الرَّحمنُ فيها غَرَاسَةً ... من النَّاسِ والرَّحمنُ بالخلقِ أَعلمُ
وَمَنْ يَغْرِسِ الرَّحمنُ فيها فِإِنَّهُ ... سَعِيْدٌ وَإلاَّ فالشَّقاءُ مُحَتَّمُ
انتهى.
آخر:
نَمضِي على سُبلٍ كانُوا لها سَلكُوا ... أَسلافُنا وهم للدِّينِ قد شَادُوا
لنَا بهم أُسوةٌ إذ هُم أئمتُنا ... ونحن بِالقومِ أبناءٌ وأحفادُ
والصَّبرُ يا نفسُ خيرٌ كلُّهُ ولهُ ... عَواقِبٌ كلها نُجْحٌ وإِمدادُ
فاصبرْ هديتَ فإنَّ الموتَ مُشتركٌ ... بين الأنامِ وإنْ طَاولنَ آمادُ
والنَّاسُ في غفلاتٍ عن مَصارعهِم ... كأنَّهُم وهموا الأيقاظُ رُقَّادُ
دُنيًا تغرُّ وعيشٌ كلُّهُ كدرٌ ... لولا النُّفُوسُ التِي للوَهمِ تَنقادُ
كُنَّا عَددنَا لهذا المَوتِ عُدَّتهُ ... قبلَ الوفاةِ وأنْ تُحفرنَ أَلْحَادُ
فَالدَّارُ من بَعْدِ هَذِي الدَّارِ آخرةٌ ... تَبْقَى دَوامًا بها حَشْرٌ ومِيعادُ
وَجنَّةٌ أُزلفتْ للمتَّقينَ وأَهـ ... لُ الحقِّ والصِّبرِ أبدالٌ وَأوتادُ(2/119)
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ من قبل المَمَاتِ ولا ... تَعْجَلْ وَتَكسلْ فإنَّ المرءَ جَهَّادُ
لا يَنفعُ العَبْدَ إلا مَا يُقَدِّمُهُ ... فَبَادِرِ الفَوتَ واصْطدْ قبلَ تَصطادُ
والموتُ للمُؤمِنِ الأَوْابِ تُحفتُهُ ... وَفيهِ كلُّ الذِي يَبْغِي وَيَرتَادُ
لِقَا الكَرِيمِ تَعالَى مَجْدُهُ وَسَمَا ... مَعَ النَّعِيمِ الذي مَا فيهِ أَنكادُ
فَضلٌ من اللهِ إِحسانٌ وَمَرْحَمَةٌ ... فَالفَضْلُ لله كَالآزالِ آبَادُ
فالظَّنُ بالله مَولانَا وَسيِّدنَا ... ظنٌ جميلٌ مَع الأَنفَاسِ يَزدادُ
نَرْجُوهُ يَرحمُنَا نَرجُوهُ يَسترُنَا ... فمنه للكلِّ إمدادٌ وإيجادُ
نَدعُوهُ نَسألُهُ عفوًا وَمغفرةً ... مع حُسنِ خَاتمةٍ فالعُمرُ نَفَّادُ
وقد رَضينَا قَضاءَ الله كَيْفَ قَضَا ... والطف نَرجُو وحُسنُ الصَّبرِ إِرشادُ
انتهى.
قصيدة فيها تضرع إلى رب العزة والجلال والكبرياء والعظمة:
يا ذَا الجَلالِ وَيَا ذَا الجُوَدِ وَالكَرمِ ... قَدْ جِئْتُكَ خَائِفًا مِن زَلَّةِ القَدَمِ
ذَنْبِي عَظِيمٌ وَأَرْجُوْ مِنْكَ مَغْفِرةً ... يَا وَاسِعَ العَفْوِ والغُفْرانِ وَالكَرَمِ
دَعَوْتُ نَفْسِي إِلَى الخَيْرَاتِ فَامْتَنَعَتْ ... وَأَعْرَضَتْ عَن طَرِيْقِ الخَيْر والنِّعَمِ
خَسِرْتُ عُمْرِي وَقَدْ فَرَّطْتُ فِي زَمَنِي ... فِي غَيْرِ طَاعَةِ مَوْلاَيَ فَيَا نَدَمِي
حَمَلْتُ ثِقْلاً مِنَ الأَوْزَارِ فِي صِغَريْ ... يَا خَجْلَي فِي غَدٍ مِن زَلَّةِ القَدَمِ
رَاحَ الشَّبَابُ وَوَلَّى العُمْرِ فِي لَعِبٍ ... وَمَا تَحَصَّلْتُ مِن خَيْرِ وَلَمْ أَقُمِ
زَمَانَ عَزْمي قَدْء ضَيَّعْتُهُ كَسَلاً ... وَالعُمْرُ مِنِّيْ انْقَضَى فِي غَفْلَةِ الحُلُمِ
قَدْ انْقَضَتْ عِيْشَتِي بِالذُّلِ وَاأسَفِي ... إِنْ لَمْ تَجدْ خَالِقي بِالعَفْوِ وَالكَرَمِ
ذِي حَالَتي وَانْكِسَارِي لا تُخَيِّبُنِي ... إِذَا وَقَعْتُ ذَلِيْلاً حَافِي القَدَمِ(2/120)
أَتَيْتُ بِالذُّلِ والتَّقْصِيْر وَالنَّدمِ ... أَرْجُو الرَّضَا مِنْكَ بِالغُفْرانِ وَالكَرَمِ
سَارَ المجدُّونَ فِي الخَيْرَاتِ وَاجْتَهَدُوا ... يَا فَوْزَهُم غَنِمُوْا الجَنَاتِ وَالنِّعَمِ
شِفَاءُ قَلْبِي ذِكْرُ الله خَالِقِنَا ... يَا فَوْزَ عَبْدٍ إِلى الخَيْرَاتِ يَسْتَقِمِ
صَفَتْ لأهْلِ التُّقَى أَوْقَاتُهُم سَعِدُوْا ... نَالُوا الهَنَا وَالمُنَى بالخَيْرِ والكَرَمِ
ضَيَّعْتُ عُمْرِي وَلا قَدَّمْتُ لِي عَمَلاً ... أَنْجُو بِهِ يَوْمَ هَوْلِ الخَوْفِ والزَّحَم
طُوْبَى لِعَبْدٍ أَطَاعَ الله خَالِقَهُ ... وَقَامَ جَنْحَ الدُّجَى بالدَّمْعِ مُنْسَجِمِ
ظَهْرِيْ ثَقِيْلٌ بِذَنبي آهِ واأسَفِي ... يَومَ اللقَا إِذْ الأَقْدَامُ في زِحَمِ
أَرْجُوكَ يَا ذَا العُلا كَرْبي تُفْرِّجُهُ ... وَاشْفِ بِفَضْلِكَ لِي بَلْوَايَ مَعْ سَقَمِ
غَفَلْتُ عَنْ ذِكْرِ مَعْبُوْدِي وَطَاعَتِهِ ... وَقَدْ مَشَيْت إِلى العِصْيَانِ في هَمِمِ
فَاغْفِرْ ذُنُوبِي وَكُنْ يَا رَبِّ مُنْقِذَنَا ... مِن الشَّدَائِد وَالأَهْوَالِ وَالتُّهَمِ
قَدْ أَثْقَلَتْنِي ذُنُوبٌ مَا لهَا أَحَدٌ ... سِوَاكَ يَا غَافِرَ الزَّلاتِ واللِّمَمِ
كُنْ مُنْجِدِيْ يَا إِلهي واعْفُ عَنْ ذَلَل ... وَتُبْ عَليَّ مِن الآثَامِ وَاللِّمَمِ
لاحَ المَشِيْبُ وَوَلىَّ العُمْرُ فِي لَعِبٍ ... وَصِرْتُ مِن كَثْرةِ الأَوْزَارِ في نَدَمِ
مَضَى زَمَانِي وَمَا قَدَّمْتُ مِن عَمَلٍ ... يَا خَجْلَتِي مِن إِلهي بارِي النَّسَمِ
نَامَتْ عُيُوني وأهْلُ الخَيرِ قَدْْ سَهِرُوْا ... أَجْْفَانُهُمْ فِي ظَلامِ اللَّيلِ لَم تَنَمِ
قَامُوا إِلى ذِكْرِ مَوْلاهُم فَقَرِّبَهُمْ ... وَخَصَّهُم بالرِّضَا وَالفَضْلِ وَالكَرَمِ
وَلَيْسَ لِي غَيْرَ رَبِّ الخَلْقِ مِنْ سَنَدٍ ... أرْجُوْهُ يُوْلِيْني بالغُفْرانَ وَالكَرَمِ(2/121)
لا أَرْتَجي أَحَد يَوْمَ الزِحَامِ سِوى ... رَبِّ البَرَّيةِ مَوْلى الفَضْلِ والكَرِمِ
ثُمَّ الصلاةُ عَلَى المُخْتَارِ مِنْ مُضَرٍ ... مُحَمَّدٍ المُصْطَفى المَخْصُوص بِالكَرَمِ
آخر:
أُوْصِيْكُمُ يَا مَعْشَرَ الإِخْوَانِ ... عَلَيْكُمُ بِطَاعَةِ الدَّيَانِ
إِيَّاكُمُ أَنْ تُهْمِلُوا أَوْقَاتَكُم ... فَتَنْدَمُوا يَومًا عَلَى مَا فَاتَكُمْ
وَإِنَّمَا غَنِيْمَةُ الإِنْسَانِ ... شَبَابُهُ وَالخُسْرُ فِي التَّوَانِي
وَمَا أَحْسَنَ الطَّاعَةَ لِلشُّبَّانِ ... فَاسْعَوا لِتَقْوَى اللهِ يَا إِخْوانِي
وَأَعْمِرُوا أَوْقَاتَكُمْ بالطَّاعَةَ ... وَالذِّكْرِ كُلَّ لَحظَةٍ وسَاعَةْ
وَمَنْ تَفُتْهُ سَاعَة في عُمْرِهِ ... تَكُنْ عَلَيهِ حَسْرَةٌ فِي قَبْرِهِ
وَمَنْ يَكُنْ فَرَّطَ فِي شَبَابِهِ ... حَتَّى مَضَى عَجِبْتُ مِن تَبَابهِ
وَيَا سَعَادَةَ امْرِئٍ قََضاهُ ... فِي عَمَلٍ يَرضَى بِه مَوْلاهُ
أَحَبَّ رَبِي طَاعَةِ الشَّبَابِ ... يَا فَوزَهُمْ بجَنَّةِ الرِّضْوانِ
فَتُبْ إلى مَولاكَ يَا إِنْسَانُ ... مِن قَبْلِ أَنْ يَفُوتكَ الأَوَانُ
وَمَن يَقُلْ إِنِّي صَغِيْرٌ أَصْبِرُ ... ثُمَّ أُطِيْعُ الله حِيْنَ أَكْبُرَ
فِإِنَّ ذَاكَ غَرَّهُ إِبْلِيْسُ ... وَقَلْبُهُ مُغَلَّقٌ مَطْمُوْسُ
لا خَيْرَ فِيْمَنْ لَم يَتُبْ صَغِيْرَا ... وَلَمْ يَكُنْ بِعَيْبِهِ بَصِيْرَا
مُجانِبًا لِلإثْمِ والعِصْيَانِ ... مُخَالفًا لِلنَّفْسِ والشَّيْطَانِ
مُلازِمَا تِلاوَةَ القُرْآنِ ... مُسْتَعْصِمًا بِالذِكْرِ مِن نِسْيَانِ
مُرَاقِبًا لله فِي الشُّئُونِ ... مُحَاذِرًا مِنْ سَائِرِ الفُتُونِ
مُجَانبًا رَذَائِلَ الأَخْلاقِ ... مُجَافِيًا كُلاًّ عَدَا الخَلاقِ
مُحَارِبًا لِنُزْعَةِ الضَّلالِ ... وَصَوْلَةِ الأَهْوَاءِ وَسوْءِ الحَالِ
فَإِنْ أَرَدْتَ الفَوزَ بِالنَّجَاةِ ... فَاسْلُكْ سَبيْلَ الحَقِ والهُدَاة(2/122)
يَا مَنْ يَرُوْمُ الفَوزَ في الجَنْاتِ ... بِالمُشْتَهَى وَسَائِرِ اللَّذَاتِ
انْهَضْ إِلى السَّجْدَاتِ فِي الأَسْحَارِ ... وَاحْرَصْ على الأَوْرَادِ وَالأَذْكَارِ
وَاحْذَرْ رِياءَ النَّاسِ فِي الطَّاعاتِ ... فِي سَائِرِ الأَحْوَالِ وَالأَوْقَاتِ
وَاخْتَرْ مِن الأَصْحَابِ كلَّ مُرْشِدِ ... إِنَّ القَرِيْنَ بِالقَرِيْنَ يَقْتَدِي
وَصُحْبَةُ الأَشْرَارِ دَاءٌ وَعَمَى ... تَزِيْدُ في القَلْبِ السَّقِيْمَ السَّقَمَا
فَإِن تَبِعْت سُنَّةَ النَّبِي ... فَاحْذَرْ قَرِيْنَ السُوءِ الدَّنِي
وَاخْتَرْ مِن الزَّوْجَاتِ ذَاتَ الدِّيْنِ ... وَكُنْ شُجَاعًا فِي حِمَى العَرِيْنِ
وَزَوِّدْ الأَوْلادَ بالآدابِ ... تَحْفَظْ قُلُوبَهُم مِن الأَوْصَابِ
وَهَذِّبِ النُفُوسَ بالقُرْآنِ ... وَلا تَدَعْهَا نُهْبَةَ الشَّيْطَانِ
وَاحْرِصْ عَلَى مَا سَنَّه الرَّسُولُ ... فَهَو الهُدَى وَالحَقُّ إِذْ يَقُولُ
دَعْ عَنْكَ ما يَقُولُه الضَّلاَّلُ ... فَفِيْهِ كُلُّ الخُسْرِ وَالوَبَالُ
وَأَصْدَقُ الحَدِيْثِ قَولُ رَبِّنَا ... وَخَيْرُ هَدْي اللهِ عَن نَبِيِّنَا
يَا أَيُّهَا الغَفْلانُ عَن مَوْلاهُ ... انْظُرْ بِأَي سَيء تَلْقَاهُ
أَمَا عَلِمْتَ المَوتَ يَأْتِي مُسْرِعًا ... وَلَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى
وَلَيْسَ لِلإنْسَانِ مِن بَعْدِ الأَجَلْ ... إِلا الذِي قَدَّمَهُ مِن العَمَلْ
فَبَادِرِ التَّوبةَ فِي إِمْكَانِهَا ... مِن قَبْلِ أَنْ تُصَدَّ عن إِتْيَانِهَا
يَا أَيُّها المَغْرُورُ مَا هَذَا العَمَلْ ... إِلى مَتَى هَذَا التَّرَاخِي وَالكَسَلْ
لَوْ يَعْلمُ الإِنْسَانُ قَدْرَ مَوْتِهِ ... مَا ذَاقَ طُولَ الدَّهْرِ طَعْمَ قُوتِهِ
مَالِي أَرَاكَ لَمْ تُفِدْ فِيكَ العِبَرْ ... وَيْحَكَ هذا القَلْبُ أَقْسَى مِن حَجَرْ
وَأَفْلَسُ النَّاسِ طَوِيْلُ الأمَلِ ... مُضَيِّعُ العُمْرِ كَثِيْرُ الخَطَلِ(2/123)
نَهَارُهُ مُمْضِيهِ فِي البَطَالَةْ ... وَلَيْلَهُ في النَّومِ بِئْسَ الحَالَةْ
ادْعُ لَنَا يَا سَامِعا وَصيِّتِي ... بَالعَفْوِ والصَّفْحِ مَعَ العَطِيَّةِ
وَالسِتْرِ فَضْلاً مِنْهُ لِلْعُيُوبِ ... وَالمَحْوِ في الكِتَابِ لِلْذُنُوبِ
يَا رَبَّ جُدْ بِالفَضْلِ والإِحْسَانِ ... وَالرّوْحِ والريْحَانِ والجِنانِ
وَلا تُؤَاخِذْنَا عَلى النِّسيَانِ ... وَلا عَلَى الإِخْطَاءِ وَلا العِصْيَانِ
يَا رَبِّ وَاحْفَظْنَا مِن الفَتَّانِ ... وَلا تُذِقْنَا حُرْقَةَ النِّيْرَانِ
يَا رَبّ وانْصُرنَا عَلَى الأَعْدَاءِ ... وَاحْمِ الحِمَى مِن هِيْشَةِ الغَوْغَائِي
وَدِيْنَكَ احْفَظْهُ مَع الأَمَانِ ... لِلأَهْلَ في الأَقْطَارِ وَالأَوْطَانِ
وَالحَمْد لله على الخِتَامِ ... وَالشكرِ لله عَلَى الإِنْعَامِ
مَا أَعْظَم الإنعامَ مِن مَولانا ... وَأجْزَلَ الإِفْضَالُ إِذْ هَدَانَا
لِنِعْمَةِ الإِيْمَانِ وَالإِسْلامِ ... وَالاقتِدَاءِ بِسَيْدِ الأَنَامِ
ثُمَّ صَلاةُ اللهِ وَالسَّلامُ ... مَا نَاحَ طَيْرُ الأيْكِ والحَمَامِ
عَلى النبِي المُصطفى البشير ... الهَاشِمِي المجتبَي النَذِيرِ
وَآلِهِ مَا انْبَلَجَ الصَّبَاحُ ... وَصَحْبَةِ ما هَبَّتِ الرَّيَاحُ
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا يا مولانا ذكرك وشكرك وآمنا من عذابك يوم تبعث عبادك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
شعرا:
وَلكِنَّنَا وَالحمدُ للهِ لَمْ نَزَلْ ... عَلَى قَولِ أَصْحَابِ الرَّسولِ نُعَوَّلُ
نُقرُّ بِأَنَّ اللهَ فَوْقَ عِبَادِهِ ... عَلَى عَرْشِهِ لَكِنَّمَا الكَيْفُ يُجْهَلُ
وَكُلُّ مَكَانٍ فَهْوَ فِيْهِ بِعِلْمِهِ ... شَهِيْدٌ عَلَى كُلَّ الوَرَى لَيْسَ يَغْفُلُ(2/124)
وَمَا أَثبتَ البَارِئ تَعَالى لِنَفْسِهِ ... مِنْ الوَصْفِ أَوْ أَبْدَاهُ مَن هَوَ مُرْسَلُ
فَنُثْبِتُهُ للهِ جَلَّ جَلالُهُ ... كَمَا جَاءَ لا نَنْفِيْ وَلا نَتَأَوَّلُ
هُوَ الوَاحِدُ الحيُّ القَدِيْر لَه البقَا ... مَلِيْكٌ يُوَلي مَنْ يَشَاءُ وَيَعْزِلُ
سَمِيْعٌ بَصِيْرٌ قَادِرٌ مُتَكَلمٌ ... عَلِيْمٌ مُرَيْدٌ آخِرٌ هُوَ أَوْلُ
تَنَزَّهَ عَنْ نِدٍّ وَوَلْدٍ وَوَالِدٍ ... وَصَاحِبَةٍ فاللهُ أَعْلَى وَأَكْمَلُ
وَلَيْسَ كَمِثْل اللهِ شَيءٌ وَمَا لَهُ ... شَبِيْهٌ وَلا نِدٌّ بِرَبِّكَ يَعْدِلُ
وَإِنَّ كِتَابَ اللهِ مِنْ كَلِمَاتِهِ ... وَمِن وَصْفِهِ الأَعْلى حَكِيْمٌ مُنَزَّلُ
هُوَ الذِكْرُ مَتْلوٌ بِأَلْسِنَةِ الوَرَى ... وَفِي الصَّدْرِ مَحْفُوْظٌ وفي الصُّحِف مُسْجَلُ
فَأَلفَاظُهُ لَيْسَتْ بِمَخْلوقَةٍ وَلا ... مَعَانِيْهِ فَاتْرَكْ قَوْلَ مَنْ هُوَ مُبْطِلُ
وَقَدْ أَسْمَعَ الرحمنُ مُوسَى كَلامَهُ ... عَلَى طُوْرِ سِيْنَا والإِلَهُ يُفَضِّلُ
وَلِلْطُور مَوْلانَا تَجَلَّي بِنُورِهِ ... فَصَارَ لِخَوْفِ اللهِ دَكًّا يُزَلْزَلُ
وَإِنَّ عَلَيْنَا حَافِظِيْنَ مَلائِكًا ... كِرَامًا بِسُكَّانِ البَسِيْطةِ وُكَّلُوا
فَيُحْصُونَ أَقْوالَ ابْنِ آدَمَ كُلَّهَا ... وَأَفْعَالَهُ طُرا فَلا شَيءَ يُهْمَلُ
وَلا حَيَّ غَيْرُ اللهِ يَبْقَى وَكُلُّ مَنْ ... سِوَاهُ لَهُ حَوضُ المَنيَّةِ مَنْهَلُ
وَإِنَّ نُفُوسَ العَالمَيْنَ بِقَبْضِهَا ... رَسُولٌ مِنَ اللهِ العَظِيْمِ مُوَكَّلُ
وَلا نَفْسَ تَفْنَي قَبْلَ إِكْمَالِ رِزْقِهَا ... وَلَكِنْ إِذَا تَمَّ الكِتَابُ المُؤَجَّلُ
وَسِيَّانِ مِنْهُمْ مَن وَدي حَتْفَ أَنْفِه ... وَمَن بالظُبَا وَالسَّمْهَرِيَّةِ يُقْتَلُ
وَإِنَّ سُؤَالَ الفَاتِنَيْنَ مُحَقَّقٌ ... لِكُلِ صَرِيْعٍ في الثَّرَى حِيْنَ يُجْعَلُ(2/125)
يَقُولانِ: مَاذَا كُنْتَ تَعْبُدُ؟ مَا الذِي ... تَدِيْنُ؟ وَمَن هَذَا الذِي هُوَ مُرْسَلُ؟
فَيَا رَبَّ ثَبّتْنَا عَلَى الحَقِّ وَاهْدِنَا ... إِلَيْهِ وَانْطِقْنَا بِهِ حِيْنَ نُسْأَلُ
وَإِنَّ عَذَابَ القَبْرِ حَقٌّ وَرُوْحُ مَن ... وَدَى في نَعِيْمٍ أَوْ عَذَابٍ سَتجْعَلُ
فَأَرْوَاحُ أَصْحَابِ السَّعَادَةِ نُعِّمَتْ ... بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَمَا هُوَ أَفْضَلُ
وَتَسْرَحُ فِي الجَنَّاتِ تَجْنِي ثِمَارَهَا ... وَتَشْرَبُ مِنْ تِلْكَ المِيْاهِ وَتَأْكُلُ
وَلَكِنْ شَهِيْدُ الحَرْبِ حَيٌّ مُنَعَمٌ ... فَتَنْعِيْمُهُ لِلرُّوْحِ والجِسْمِ يَحْصُلُ
وَأَرْواحُ أَصْحَابِ الشَّقَاءِ مُهَانةٌ ... مُعَذَّبَةٌ لِلْحَشْرِ وَاللهُ يَعْدِلُ
وَإِنَّ مَعَادَ الرُّوْحِ وَالجِسْمِ وَاقِعٌ ... فَيَنْهَضُ مَن قَدْ مَاتَ حَيًّا يُهَرْوِلُ
وَصِيْحَ بِكْلِّ العَالَمِيْنَ فَأَحْضِرُوا ... وَقِيْلَ: قِفُوهُمْ لِلْحِسَابِ لِيُسْأَلُوا
فَذَلِكَ يَومٌ لا تُحَدُّ كُرُوْبُهُ ... بِوَصْفٍ فإِنَّ الأَمْرَ أَدْهَى وَأَهْوَلُ
يُحَاسَبُ فِيْهِ المَرْءُ عَنْ كُلِّ سَعْيِهِ ... وَكُلٌّ يُجَازَى بِالذِي كَانَ يَعْمَلُ
وَتُوْزَنُ أَعْمَالُ العِبَادِ جَمِيْعُهَا ... وَقَدْ فَازَ مَن مِيْزَانُ تَقْوَاهُ يَثْقُلُ
وَفي الحَسَنَاتِ الأَجْرُ يُلْقَى مُضَاعَفًا ... وَبِالمِثْلِ تُجْزَى السَّيِئَاتُ وَتَعْدَلُ
وَلا يُدْرِكُ الغُفْرَانَ مَن مَاتَ مُشْرِكًا ... وَأَعْمَالُهُ مَرْدُوْدَةٌ لَيْسَ تُقْبَلُ
وَيَغْفِرُ غَيْرَ الشِرْكِ رَبِّي لِمَنْ يَشَا ... وَحُسْنُ الرَّجَا وَالظَّنِّ باللهِ أَجْمَلُ
وَإِنَّ جِنَانَ الخُلْدِ تَبْقَى وَمَنْ بِهَا ... مُقِيْمًا عَلَى طُوْلِ المَدَى لَيْسَ يَرْحَلُ
أُعِدَّتْ لِمَنْ يَخْشَى الإِلَهُ وَيَتِّقِي ... وَمَاتَ عَلَى التَّوحِيدِ فَهُوَ مُهَلَّلُ(2/126)
وَيَنْظُر مَن فِيْهَا إِلى وَجْهِ رَبِّه ... بِذَا نَطَقَ الوَحْيُ المُبِيْنُ المُنَزَّلُ
وَإِنَّ عَذَابَ النَّارِ حَقٌّ وَإِنَّهَا ... أُعِدَّتْ لأَهْلِ الكُفْرِ مَثْوَى وَمَنْزِلُ
يُقِيْمُونَ فِيْهَا خَالدِيْنَ عَلَى المَدَى ... إِذَا نَضِجَتْ تِلْكَ الجُلُودُ تُبَدَّلُ
وَلَمْ يَبْقَ بِالإِجْمَاعِ فِيْهَا مُوَحَّدٌ ... وَلَوْ كَانَ ذَا ظُلْمٍ يَصُوْلُ وَيَقْتُلُ
وَإِنَّ لِخَيْرِ الأَنْبِيَاءِ شَفَاعَةً ... لَدَى اللهِ في فَصْلِ القَضَاءِ فَيَفْصِلُ
وَيَشْفَعُ لِلْعَاصِيْنَ مِنْ أَهْلِ دِيْنِهِ ... فَيُخْرِجُهَم مِن نَارِهِمْ وَهِيَ تَشْعَلُ
فَيُلْقَونَ في نَهْرِ الحَيَاةِ فَينْبتُوا ... كما في حَمِيْل السَّيْلِ يَنْبُتُ سُنْبُلُ
وإن لَهُ حَوْضًا هَنِيْئًا شَرَابُهُ ... مِن الشَّهْدِ أَحْلَى فَهْوَ أَبْيضُ سَلْسَلُ
يُقَدَّرُ شَهْرًا فِي المَسَافَةِ عَرْضُهُ ... كَأيلَةَ مِن صَنْعَا وَفِي الطُّوْلِ أَطْوَلُ
وَكِيْزَانُهُ مِثْلُ النُجُومِ كَثِيْرَةٌ ... وَوَّرَادُهُ حَقًّا أَغَرُّ مُحَجَّلُ
مِن الأَمَّةِ المُسْتَمْسِكِيْنَ بِدِيْنِهِ ... وَعَنْهُ يُنَحَّى مُحْدِثٌ وَمُبَدَّلُ
فَيَا رَبِّ هَبْ لِي شَرْبةٌ مِن زُلالِهِ ... بِفَضْلِكَ يَا مَنْ لَمْ يَزَلْ بِتَفَضَّلُ
آخر:
وَلَمَّا حَلَلْنَا مِنْ بِجَايةَ جَانِبًا ... تُصَانُ به تِلْكَ الجُسُوْمُ وتُكْرَمُ
وَجَدْتُ لها طِيْبًا وَرَوْحًا وَرَاحَةً ... كَأني لأنْفَاسِ الصِّبَا أَتَسَنَّمُ
فَقُلْتُ لِصَحْبِي ما الذي أَمْرَجَتْ له ... مَقَابِرُ منها لا طِيءٌ وَمُسَنَّمُ
فَأَوْهَمْتُهُم أَنِّي جَهِلْتُ وَإِنَّنِي ... لأَدْرَى بِذَاكَ الأَمْرِ مِنهم وأَفْهَمُ
فَقَالوا طَلَبْنَا عِلْمَ ذَاكَ فلم نَجِدْ ... سوى رَمَمٍ ممن تُحِبُّ وتُعْظِمُ
تَضَوَّعَ بَطْنُ الأَرْضِ منها كأنما ... تَفَتَّقَ مِن دَارِيْنَ مِسْكٌ مُخَتَّمُ(2/127)
فَقَاضَتْ دُمُوْعي عند ذاك وَرُبَّمَا ... تَشَهّرَ بالدَّمْعِ السرارُ المُكتَّمُ
خَلِيْلَيَّ مَا بَالِي وَبَالُ مَصَائِبٍ ... يُرَاعُ لِذِكْراها فُؤادِي وَيُكْلَمُ
ومما شَجَانِي وهو أَعْظَمُ أنني ... قَذَفْتُ بها مُسْوَدَّة الجَوَف تَلْطِمُ
ولم أَدْرِ ما كانت تَحِيَّةُ خِصْمِهِ ... لَهُ هل بِبُشْرَى أم بِشَنْعَاءَ تَقْصِمُ
وَأَعْظَمُ منه مَوْقِعًا وَأَشَدَّهُ ... وَمَا خَصَّنِي أَدْهَى عَليَّ وَأَعْظَمُ
بِأَني في تِلْكَ المَسَالكِ سَالِكٌ ... أُسَاقُ إِليها إِنْ أَبَيْتُ وَأَرْغَمُ
وَمَا أَنَا أَدْرِي ما أُلاقِي وما الذي ... عليه إذا ما كان ذلك أَقْدَمُ
فَهَلْ مِنْ دَمٍ أَبْكِيْهِ صِرْفًا فإنما ... يُبْكَّي عَلى هَذَا من المُقْلَةِ الدَّمُ
اللهم اعطنا من الخير فوق ما نرجو واصرف عنا من السوء فوق ما نحذر اللهم علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللهم إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجاتنا فاقضها كفى بك وليا وكفى بك نصيرا يا رب العالمين اللهم وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شعرا:
إلى كم تَمَادَى في غُرُوْرٍ وَغَفْلَةٍ ... وكم هكذا نَومٌ إلى غير يَقْظَةِ
لقد ضَاعَ عُمْرٌ سَاعَةٌ منه تُشْترى ... بِمِلءِ السَّمَا وَالأَرْضِ أَيةَ ضَيْعَةِ
أَيُنْفَقُ هَذا في هَوَى هَذِه التي ... أَبَى اللهُ أَنْ تُسْوى جَنَاحَ بَعُوضَةِ
أَتَرْضَي من العَيْشِ الرَّغِيْدِ وَعِيْشَةٍ ... مَعْ المَلأ الأَعْلَى بِعَيْشِ البَهِيْمَةِ
فَيَادُرَّةٌ بَيْنَ المَزَابِلِ أُلْقِيَتْ ... وَجَوْهَرَةٌ بِيْعَتْ بِأَبْخَسِ قِيْمَةِ
أَفَانٍ بِبَاقٍ تَشْتَرِيْهِ سَفَاهَةً ... وَسُخْطًا بِرضْوَانٍ وَنَارًا بِجَنَّةِ(2/128)
أَأَنْتَ صَدِيقٌ أم عَدُوٌّ لِنَفْسِهِ ... فَإِنَّكَ تَرْمِيْهَا بِكُلِّ مُصِيْبَةِ
وَلَوْ فَعَلَ الأَعْدَا بِنَفْسِكَ بَعْضَ مَا ... فَعَلْتَ لَمَسَّتْهُم لَهَا بَعْضُ رَحْمَةِ
لَقَد بِعْتَهَا هَوْنًا عليك رَخِيْصَةً ... وكانت بهذا منكَ غير حَقِيْقَةِ
كَلِفْتَ بها دُنْيَا كَثِيْرٍ غُرُوْرُهَا ... تُقَابِلُنَا في نُصْحِهَا في الخَدِيْعَةِ
عَليْكَ بما يُجْدِي عليك من التُّقَى ... فإنك في سَهْوٍ عَظِيْمٍ وَغَفْلَةِ
تُصَلِي بِلا قَلْبٍ صَلاةً بِمِثْلِهَا ... يَكُونُ الفَتَى مُسْتَوْجِبًا لِلْعُقُوْبَةِ
تُخَاطِبُهُ إِيَّاك نَعْبُدُ مُقْبِلاً ... عَلَى غَيْرِه فيها لغير ضَرُوْرَةِ
وَلَو رَدَّ مَن نَاجَاكَ لِلْغَيْرِ طَرْفَهُ ... تَمَيَّزْتَ مِن غَيْظٍ عليه وَغَيْرَةِ
فَوَيلَكَ تَدْرِي من تُنَاجِيْهِ مَعْرِضًا ... وَبين يَدَي مَن تَنْحَنِي غير مُخُبْتِ
أَيَّا عَامِلاً للنَّارِ جِسْمُكَ لَيْنٌ ... فَجَرَّبْهُ تَمْرِيْنًا بحَرِّ الظَّهِيرَةِ
وَدَرِّبْهُ في لَسْعِ الزَّنَابِيرِ تَجْتَرِي ... على نَهْشِ حَيَّاتٍ هناك عَظِيْمَةِ
فإن كنت لا تَقْوَى فَوَيْلَكَ ما الذي ... دَعَاكَ إلى إِسْخَاطِ رَبِّ البَرِيَّةِ
تُبَارِزُهُ بالمُنْكَراتِ عَشِيَّةً ... وَتُصْبِحُ في أَثْوَابِ نُسْكٍ وَعِفَةِ
تُسِيءُ بِهِ ظَنًّا وَتُحِسِنُ تَارةً ... عَلَى حَسْبِ مَا يَقْضِي الهَوى بِالقَضِيَّةِ
فأنت عليه أَجْرَي منك على الوَرَى ... بما فيك من جَهْلٍ وَخُبْثِ طَوِيَّةِ
تَقُولُ مَعَ العِصْيانِ رَبي غَافِرٌ ... صَدَقْتَ وَلَكن غَافِرٌ بِالمَشِيْئَةِ
وَرَبُّكَ رَزَّاقٌ كَما هو غَافِرٌ ... فَلِمَ لا تُصَدِّقْ فِيْهِمَا بِالسَّوِيَّةِ
فَكَيْفَ تُرَجِّىْ العَفْوِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ ... وَلَسْتَ تُرجِّى الرِّزْقَ إلاَّ بِحِيْلَةِ
على أَنَّه بالرِّزْقِ كفَّلَ نَفْسَهُ ... وَلَمْ يَتَكَفَّلْ لِلأنَامِ بِجَنَّتِي(2/129)
وَمَا زِلْتَ تَسْعَى بِالذِي قد كُفِيتَهُ ... وَتُهْمِلَ مَا كُلِفتَهُ مِن وَظِيْفَةِ
إِلهي أَجِرْنَا من عَظِيْمِ ذُنُوبِنَا ... وَلا تُخْزِنَا وَانْظُرْ إلينَا بِرَحْمَةِ
وَخُذْ بِنَواصِيْنَا إِليْكَ وَهَبْ لَنَا ... يَقِيْنًا يَقِيْنَا كُلَّ شَكٍ وَرِيْبَةِ
إلهي اهْدِنَا فيمن هَدَيْتَ وَخُذْ بِنَا ... إِلى الحَقِّ نَهْجًا في سَواءِ الطَّريْقَةِ
وَكُنْ شُغْلَنا عَن كُلِ شُغْلٍ وَهَمَّنا ... وَبُغْيتَنَا عن كلِّ همٍّ وَيُغْيَةِ
وَصَلِّ صَلاةً لا تَنَاهى على الذي ... جَعَلْتَ بِهِ مِسْكًا خِتَامَ النُّبُوَّةِ
آخر:
صَرَفَّتَ إلى رَبِّ الأَنَامِ مَطَالِبِي ... وَوَجَّهْتُ وَجْهِي نَحْوَهُ وَمَآرِبِي
إلى المَلِكِ الأَعْلَى الذِي ليس فَوْقَهُ ... مَلِيْكٌ يُرَجَّى سَيْبُهُ فِي المَتَاعِبِ
إلى الصَّمَدِ البَرِّ الذي فَاضَ جُوْدُهُ ... وَعَمَّ الوَرَى طُرًا بِجَزْلِ المَوَاهِبِ
مُقِيْلي إذا زَلَّتْ بي النَّعْلُ عَاثِرًا ... وَأَسْمَحَ غَفَّارٍ وَأَكْرَمْ وَاهِبِ
فما زَالَ يُوْلِيْني الجَمِيْلَ تَلَطُّفًا ... وَيَدْفَعُ عَنِّي في صُدُورِ النَّوائِبِ
وَيَرْزُقُنِي طِفْلاً وَكَهْلاً وَقَبْلَهَا ... جَنِيْنًا وَيَحْمِيْنِي وَبِيَّ المَكَاسِبِ
إذا أَغْلَقَ الأَمْلاكُ دُوْنِي قُصُورَهُم ... وَنَهَْهَ عن غِشْيانَهِمْ زَجْرُ حَاجِبِ
فَزِعْتُ إلى بَابِ المُهَيْمِنِ طَارِقًا ... مُدِلاً أُنادِي بِاسْمِهِ غير هَائِبِ
فَلَمْ أُلفِ حُجَّابًا وَلم أَخْشَ مِنْعَةً ... وَلَوْ كَانَ سُؤْلِي فَوْقَ هَامِ الكَوَاكِبِ
كَرِيْمُ يُلَبِي عَبْدَهُ كُلَّمَا دَعَا ... نَهَارًا وَلَيْلاً فِي الدُّجَا وَالغَيَاهِبِ
سَأَسْأَلَهُ مَا شِئْتُ إِنَّ يَمِيْنَهُ ... تَسِحُّ دِفَاقًا بِاللُّهَى وَالرَغَائِبِ
فَحَسْبِي رَبِّي في الهَزَاهِزِ مَلْجَأً ... وَحِرْزًا إذا خِيْفَتْ سِهِامُ النَّوَائِبِ(2/130)
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللهم إن كنا مقصرين في حفظ حقك، والوفاء بعهدك، فأنت تعلم صدقنا في رجاء رفدك، وخالص ودك، اللهم أنت أعلم بنا منا، فبكمال جودك تجاوز عنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وقال شيخنا عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله:
دَعْ عَنْكَ ذِكْرَ الهَوَى وَالمُولَعِيْنَ بِهِ ... وانْهَضْ إلى مَنْزِلٍ عَالٍ به الدُّرَرُ
تَسْلُوْ بِمَرْبابِهِ عن كلِّ غَالِيَةٍ ... وَعَنْ نَعَيْمٍ لِدُنْيا صَفْوُهَا كَدرُ
وَعن نَدِيْمٍ به يَلْهُو مُجَالِسُهُ ... وعن رِيَاضٍ كَسَاهَا النُّورُ والزَّهَرُ
انْهَضْ إلى العِلْمِ في جِدٍ بِلا كَسَلِ ... نُهُوضَ عَبْدٍ إلى الخَيْرَاتِ يَبْتِدرُ
واصْبِرْ على نَيْلِهِ صَبْرَ المُجِدِّ لَهُ ... فَلَيْسَ يُدْرِكُهُ مَنْ لَيْسَ يَصْطَبَرُ
فَكَمْ نُصُوص أَتَتْ تُثْنِي وَتَمْدَحُهُ ... لِلْطَّالبينَ بها مَعْنَى وَمُعْتَبَرُ
أَمَا نَفَي الله بَيْنَ العَالَمِيْنَ بِهِ ... وَالجَاهِلِيْنَ مُسَاوَاةً إِذَا ذُكِرُوْا
وَقَالَ لِلْمُصْطَفَى مع ما حَبَاهُ به ... ازْدَدْ من العِلُمِ في عِلْمٍ به بَصَرُ
وَخَصَّصَ اللهُ أَهْلَ العِلْمِ يُشْدُهُم ... على العِبَادة والتَّوحِيْدِ فَاعْتَبِرُوْا
وَذَمُّ خَالِقنَا لِلْجَاهِلِيْنَ به ... في ضُمْنِهِ مَدْحُ أَهْلِ العِلْمِ مُنْحَصرُ
وفي الحَدِيْثِ إنْ يُرِدْ رَبُّ الوَرَى كَرمًا ... بِعَبْدِهِ الخَيْرَ وَالمَخْلُوقُ مُفْتَقِرُ
أَعْطَاهُ فِقْهًا بِدِيْنِ اللهِ يَحْمِلُهُ ... يَا حَبَّذَا نِعَمًا تَأْتِي وتُنْتَظَرُ
أَمَا سَمِعْتَ مِثَالاً يُسْتَضَاءُ به ... وَيِسْتَفِزُّ ذَوِي الأَلْبَابِ إِنْ نَظَرُوْا(2/131)
بأنَّ عِلْمَ الهُدَى كَالغَيْثِ يُنْزِلُهُ ... على القُلُوبِ فمنها الصَّفْوُ والكَدَرُ
أَمَّا الرِياضُ التي طَابَتْ فَقَدْ حَسَنُتْ ... منها الرُبَى بِنَبَاتٍ كُلُّه نَضِرُ
فَأَصْبَحَ الخَلْقُ والأَنْعَامُ راتِعَةً ... بِكُلِّ زَوْجٍ بَهِيْجٍ ليس يَنْحَصِرُ
وَبَعْضُها سَبَخٌ لَيَسْتَ بِقَابِلَةٍ ... إِنْبَاتَ عُشَّبٍ به نَفْعٌ وَلا ضَرَرُ
يَكْفِيْكَ بِالعِلْمِ فَضْلاً أَنَّ صَاحَبَهُ ... بِالعِزِّ نَالَ العُلا وَالخَيْرُ يُنْتَظَرُ
يَكْفِيْكَ بالجَهْلِ قُبْحًا أنَّ صَاحَبَهُ ... يَنْفِيْهِ عَن نَفْسِهِ وَالعِلْمُ يُبْتَكَرُ
يَكْفِيْكَ بالجَهْلِ قُبْحًا أنَّ مُؤْثِرَهُ ... قد آثَرَ المَطْلَبَ الأَدْنَى وَيفْتَخِرُ
أيُّ المَفَاخِرِ تَرضَى أَنْ تُزَانَ بِهَا ... أَجَهْلُكَ النَّفْسَ جَهْلاً مَا له قَدَرُ
أَمْ بِالجَهَالَةِ منك في شَرِيْعَتِهِ ... كَيْفَ الصَّلاةُ وَكَيْفَ الصَّومُ وَالطُّهُرُ
أَمْ كَيْفَ تَعْقِدُ عَقْدًا نَافِذًا أَبَدًا ... كَيْفَ الطَّلاقُ وَكَيْفَ العِتْقُ يا غُدَرُ
أَمْ افْتِخَارُكَ بِالجَهَل البِسَيْطِ نَعَمْ ... وَبِالمُرَكَّبِ لا تُبْقِي ولا تَذَرُ
تَبًّا لِعَقْلٍ رَزين قَدْ أَحَاطَ بِهِ ... مَعْ الجَهَالَةِ رَيْنُ الذَّنْبِ والغَرَرِ
كَمْ بَيْنَ مَن هُوَ كَسْلانٌ أَخُو مَلَلٍ ... فَمَا لَهُ عَن ضَيَاعِ الوَقِتِ مُزْدَجَرُ
قَدْ اسْتَلانَ فِراشَ العَجْزِ مُرَتَفقًا ... حَتَّى أَتَى المُضْعِفانِ الشَّيبُ وَالكِبَرُ
وَبَيْنَ مَنْ هُو ذُو شَوْقٍ أَخُوْ كَلفٍ ... عَلَى العُلُومِ فَلا يَبْدُو لَهُ الضَّجَرُ
يَرْعَى التّقى وَيَرْعَى من تَحفُظِهِ ... أَوْقَاتَهُ مِن ضَياعِ كُلُّهُ ضَرَرُ
لا يَسْتَريحُ ولا يُلْوي أَعِنَّتَهُ ... عن الوُصُول إلى مَطْلُوبِهِ وَطَرُ
تُلِفْيهِ طَوْرًا على كُتب يُطَالِعُهَا ... يَحْلُو لَهُ مَن جَنَاهَا مَا حَوَى الفِكَرُ(2/132)
تُلْهِيهِ عن رَوْضَةٍ غَنَاءَ مُزْهِرةً ... أَطْيَارُهَا غَرَّدت والماء مُنْهَمِرُ
وَبَاحِثًا تارةً مع كُلِّ مُنْتَسِبٍ ... يَبْغِي الرَّشَادَ فَلا يَطْغَى وَيَحْتَقِرُ
وَاهًا رَجُلاً فَرْدا مَحَاسِنُهُ ... بِالحَزْمِ والعَزْمِ هَانَ الصَّعْبُ والعُسُرُ
وقال رحمه الله تعالى يمدح شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومؤلفاتهما:
يَا طَالِبًا لِعُلُوم الشَّرعِ مُجْتَهِدًا ... يَبْغِي انْكِشَافَ الحقِ وَالعِرْفَانِ
احْرِصْ عَلى كُتْبِ الإِمَامَيْنِ اللذين ... هما المَحَكُّ لِهِذه الأَزْمَانِ
العَالِمَيْنَ العَامِلِيْنِ الحَافِظَيْنِ ... المُعْرِضَيْنِ عن الحُطَامِ الفَانِي
عَاشَا زَمَانًا دَاعِيْن إلى الهُدَى ... مَن زَائِغٍ ومُقَلَّدٍ حَيْرَانِ
صَبرا النفُوْسَ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهَا ... لِلْقَلْبِ والأَقْوَالِ وَالأَرْكَانِ
كَمْ نَالَهُمْ من نَكْبَةً وَأذيَّةٍ ... هَانَتْ لِذَاتِ الخَالِقِ الدَّيَانِ
نَشَرَ الإلهُ لَهُم ثَنَاءً صَادِقًا ... إِذ أَحْسَنُوْا في العِلْمِ وَالإِيْمَانِ
فَقُلُوبُ أَهْلِ الخَيرِ من حُبِّ لَهُم ... قَدْ أُشْرِبَتْ وَثَنَاؤُهُمْ بِلِسَانِ
أَعْنِي به شَيْخَ الوَرَى وَإِمَامَهُمْ ... يُعْزَى إِلى تَيْمِيَّةِ الحَرانِ
وَالآخَرْ المَدْعُوُ بابْنِ القَيِّمِ ... بَحْرِ العُلُومِ العَالِمِ الرَّبَانِي
فَهُمَا اللذاننِ قَدْ أَوْدَعَا في كُتْبهِمْ ... غُرَرَ العُلُومِ كَثِيْرِةِ الأَلوانِ
فيها الفَوَائِدُ وَالمَسَائِلِ جُمِّعَتْ ... من كلِّ فَاكِهَةٍ بِهَا زَوْجَانِ
إن رُمْتَ مَعْرِفَةَ الإِلَهِ وَما لَه ... من وَصْفِهِ وَكَمَالِهِ الرَّبَانِي
أَوْ رُمْتَ تَفْسِيْرَ الكِتَابِ وَمَا حَوَى ... مِن كَثْرَةِ الأَسْرَارِ وَالتِّبْيَانِ
أَوْ رُمْتَ مَعْرِفَةَ الرَّسُولِ حَقِيْقَةً ... وَجَلالةَ المَبْعُوْثِ بِالفُرْقَانِ(2/133)
أَوْ رُمْتَ فِقْهَ الدِيْنِ مُرْتَبِطًا به ... أَصْلُ الدَّلِيْلِ أَدْلَّةَ الإِتْقَانِ
أَوْ رُمْتَ مَعْرِفَةِ القَصَائِدِ كُلّهَا ... لِلْمُبْطِلِيْنَ وَرَدَّهَا بِبيَانِ
أَوْ رُمْتَ مَعْرِفَةِ الفُنُونِ جَمِيْعِهَا ... مِنْ نَحْوِهَا والطِّبِ لِلأَبْدَانِ
تَلْقَ الجَمِيْعَ مُقَرَّرًا وَمُوضَّحًا ... قَدْ بَيَّنَاهَا أَحْسَنَ التَّبْيَانِ
جَمَعَتْ عَلَى حُسْنِ العِبَارِةِ رَوْنَقًا ... وَبِهَاءَ مَعْنَى جَلَّ ذُوْ الأتْقَانِ
تَدْعُوْ القُلُوبَ إِلى مَحَبَّةِ رَبِّهَا ... وَالذِكْرِ لِلْرَحمنِ كُلَّ أَوانِ
يَدْرِي بِهَذَا من له نَوعُ اعْتَنَا ... في كُتْبِهم مَع صِحَّةِ العِرْفَانِ
فَاحْمَدِ إِلهَ الخَلْقِ إِنْ كُنْتَ امْرَءًا ... تَشْتَاقُهَا وَتُحِبُّهَا بِجَنَانِ
وَاحْمَدْ إِلَهَ الخَلْقِ أَيْضًا ثَانِيًا ... في نَشْرِهَا في هَذِهِ الأَزْمَانِ
حَتَّى غَدَتْ بَيْنَ العِبَادِ كَثِيْرةً ... مَشْهُوْرَةً في سَائِرِ البُلْدانِ
فَعَسَى الذِي بَعْث القروم لنشرها ... أَن يبعث العَزَمَاتِ بَعد تَوانِ
حَتَّى تَكون إلى العُلُومِ سَرِيعَة ... مُشْتَاقَة لِلْعِلْمِ وَالعِرْفَانِ
وَيَزيل عن هذه القلوب موانعًا ... عَاقت وُصُول العِلْم والإِيْقَانِ
وَيلم هذا الدين بعد تشعث ... قَد كَادَ أَنْ يَنْهَدَّ لِلأَرْكَانِ
وَيُفَتِّحُ الأَبوابَ بَعد مُضِيِّهَا ... دَهْرًا عَلَى التَّغْلِيْقِ وَالأَدْرَانِ
وَيُؤَلِّفُ الرَّحمنُ بَعْدَ تَفَرقٍ ... أَرْوَاحَ أَهْلِ العِلْمِ وَالإِيْمَانِ
بِجَلالِهِ وَجَمَالِهِ مُتَوَسِّلاً ... يا دَائِمَ المَعْرُوْفِ والإِحْسَانِ
وَعلى الرَّسُولِ مُصَلِّيًا وَمُسَلِّمًا ... وَالصَّحْبِ وَالاتْبَاعِ بالإِحْسَانِ
وقال آخر:
بما قَدَّمَتْ أَيْدِي الوَرَى سَتُعَذَّبُ ... فَنَاجٍ بِخَدْشٍ والكَثِيْرُ يُكَبْكَبُ(2/134)
أَمَا يَسْتَحِيْ من كان يَلْهُو ويَلْعَبُ ... ذُنُوبُكَ يا مَغْرُورُ تُحَصْىَ وتُحْسَبُ
وَتُجمع في لَوحٍ حَفِيْظٍ وَتُكْتَبُ
وَأَنتَ بِمَا لا يُرْتَضَي كُلَّ لَيْلَةٍ ... أَمَا تَتَّقِي مَوْلاكَ في كُلِّ فِعْلَةِ
تَبِيْتُ بِلَذَّاتٍ وَتَلْعَابِ طِفْلَةٍ ... وَقَلْبُكَ في سَهْوٍ وَلَهْوٍ وَغَفْلَةٍ
وَأَنْتَ عَلَى الدُّنيا حَرْيصٌ مُعَذَّبُ
فَلَوْ تَسْتَطِعْ أَخْذَ التَّقِي وَرَحْلِهِ ... أَخَذْتَ وَلَوْ فِي بَيْتِهِ وَمَحَلِهِ
وَأَنْتَ على كَنْزِ القَلِيْلِ وَجِلِّهِ ... تُبَاهِي بِجَمْعِ المَالِ من غَيْرِ حِلِّهِ
وَتَسْعَى حَثِيْثًا في المَعَاصِي وَتُذْبِبُ
وَتُعْرِضُ عَن فِعْلِ المَرَاضِي وَتَرْتَضِي ... فِعَالاً تُنَافِي فِعْلَةَ الدَّيِّنِ الرَّضِي
أَمَا تَرْعَوي يا من على لَهْوهِ رَضِى ... أَمَا العُمْرُ يَفْنَى والشبيبةُ تَنْقَضِي
أَمَا العُمْرُ آتٍ وَالمَنِيَّةَ تُطلَبُ
فَلا تَغْتَرِرُ وَاحْذَرْ فَدُنْياكَ يا الغَدِي ... إِذَا أَضْحَكتكَ اليَومَ أَبْكَتْكَ في الغَدِي
أَتَلْهُو بِدَارٍ لا تَدُوْمُ لِمَرْغَدِي ... أَمَا تَذْكُر القَبْرَ الوَحِيْشَ وَلَحْدَةَ
بِه الجِسْمُ مِن بَعْدِ العَمَارِةِ يَخْرَبُ
وَتَقْتَتِلُ الدِيْدَانُ لا شَكَّ حَوْلَهُ ... وَمَا أَحَدٌ يَنْعِي ولا يَعِ عَوْلَهُ
أَمَا آنَ أَنْ تَخْشَى العَزِيْزَ وَطولَهُ ... أَمَا تَذْكُر اليومَ الطَّوِيلَ وَهَوْلَهُ
وَمِيْزَانَ قِسْطٍ لِلْوَفَاءِ سَيُنْصَبُ
فَتُوزَنُ أَعْمَالٌ فَتُخْزي رِجَالُهُ ... وَكُلٌّ يُجَازَي مَا جَنَتُهُ فِعَالُهُ
وَوَيْلٌ لِمَنْ ضَاقَتْ عَليه مَجَالُهُ ... أَمَا جَاءَ أَنَّ اللهَ جَلَّ جَلالُهُ
إِذَا هَتَكَ العَبْدُ المَحارمَ يَغْضَبُ
فَيَهِتكُ سَتْرَ الظالِمِيْنَ بِغِرَّةٍ ... وَكُلَّهُمُوْا عَضَّ الأَكُفَّ بِحَسْرَةٍ(2/135)
ولاتَ مَنَاصٍ حِيْنَ جَادُوْا بِعَبْرِةٍ ... أَمَا الواحدُ الدَّيانُ جَلَّ بِقُدْرَةٍ
يُنَاقَشُ عَنْ كُلِّ الذُنُوبِ وَيَحْسِبُ
فَيُنصِفُ لِلْمَظْلُومِ مِمَّنْ لَهُ افْتَرَى ... وَيَقْصِمُهُ قَصْمًا فَيَبْقَى مُقَحْطَرَا
أَمَا زَاجِرٌ يَزْجُرْكَ يا من تَبَخْتَرَي ... أَمَا تَذْكُرُ المِيْزَانَ وَيْحَكَ مَا تَرَى
إِذَا كُنْتَ في قَعْرِ الجَحِيمِ مُكَبْكَبُ
أَمَا تَمْشِيْنَ بَيْنَ الوَرَى مُتَوَاضِعًا ... أَمَا تَتَّقِي رَبًّا أَلا تَكُ خَاضِعًا
أَحَاطَكَ ظَهْرًا ثُمَّ بَطْنًا وَرَاضِعًا ... كَأَنَّكَ مَا تَلْقَي عَلى الأَرْضِ مَوْضِعًا
وَمِنْ بَعْدُ تَلْهُو بِالشَّبَابِ وَتَلْعَبُ
رَأَيْتَ ولَمْ تَشْعُرْ نَذِيْرًا وَنَاهِيًا ... وَكُنْتَ بِدُنْيَاكَ الدَّنِيَّةِ سَاهِيًا
سَهِرْتَ وآثَرْتَ الغِنَى وَمَلاهِيًا ... تَرُوْحُ وَتَغْدُو في مُرَاحِكَ لاهِيًا
وسَوفَ بِاشْرَاكِ المَنِيَّةِ تَنْشبُ
أَتَحْسَبُ أنَّ الله أَنْشَى الوَرَى سُدَى ... سَيأتِيْكَ مَا مِنْهُ تَكُونُ مُكَسَّدًا
وَتُنْزَعُ رَوْحٌ ثُمَّ تَبْقَى مُجَسَّدَا ... وَتَبْقَي صَرِيْعًا في التُرابِ مُوَسَّدَا
وَجِسْمُكَ مِن حَرٍ بِهِ يَتَلَهَّبُ
وَمَالَكَ عَن دَفْعِ الأَذِيَةِ صَوْلَةٌ ... وَمَالَكَ مُذْ جَاءَ المُقَدَّرُ حِيْلةٌ
تَنُوحُ وَتَبْكِي بِالدُمُوعِ أَهيْلَة ... وَحَوْلَكَ أَطْفَالٌ صِغَارٌ وَعَوْلَةٌ
بِهِم بَعْدَ مَغْدَاكَ البَنُونُ تَشَعَّبُ
أَيادِي سَبَا خَلْفًا وَيَمْنَي وَيَسْرَةً ... وَكُنْتَ رَهِيْنًا لِلْمَنَايَا وَقسرَةً
وَجَاءَكَ مَا أَوْدَى إليها وَمَسَرَّةً ... وَقَدْ ذَرَفَتْ عَيْنَاكَ بِالدَّمْعِ حَسْرَةً
وَخَلَّفْتَ لِلْوُارثِ مَا كُنْتَ تَكْسِبُ
وَتَسْعَى لَهُ مِن تَالِدٍ وَمُحَصَّلٍ ... وَتَسْهَرُ لَو فِي سَدِّ يَأْجُوجَ تُوْصِلُ(2/136)
وبِتَّ وَلَمْ تَسْمَعْ وِصَاةً لِمُوصِلِ ... تُعَالُجَ نَزْعَ الرُوْحِ من كُل مَفْصِلِ
فَلا رَاحِمٌ يُنْجِي ولا ثَم مَهْرَبُ
وَضَاقَتْ عَلَيْكَ الرُوْحُ بَعْدَ مُرُوْجِهَا ... وَأَنْزِلْتَ عِنْدَ البَابِ بَعْدَ بُرُوْجِهَا
وَقُرَّبتِ الأَكْفانُ بَعْدَ عُرُوْجِهَا ... وَغُمِّضَتِ العَيْنَان بَعْدَ خُرُوْجِهَا
وَبُسِّطَتِ الرِجْلان والرَّأَسُ يُعْصَبُ
وَقَامَ سِرَاعُ النَّاسِ لِلْنَّعِشْ يُحْضِرُوْا ... وَحَفَّارُ قَبْرٍ في المَقَابِرِ يَحْفُرُ
وَجَدَّ الذِي في حَوْلٍ نَادِِيْكَ حُضَّرٌ ... وَقَامُوا سِرَاعًا في جَهَازِكَ أَحْضَرُوْا
حَنُوطًا وَأَكْفَانًا وَلِلْمَاءِ قَرَّبُوا
وَصَبُّوا عَلَيْكَ المَاءَ وَأَنَّ سُمُوعَهُ ... وَحَنَّ قَرِيْبٌ بِالبُكَا وَرُبُوعُهُ
وَكُلُّ شَقِيْقٍ جَاءَ جَدَّ زُمُوعُهُ ... وَغَاسِكُكَ المحزُونُ تَبْكِي دُمُوعُهُ
بِدَمْعٍ غَزِيْرٍ وَاكِفٍ يَتَصَبَّبُ
كَصَيِّبِ مُزْنٍ وَدقُهُ مُتفرقٌ ... حَزِينٌ وَمِن مَا دَمْعِهِ مُتَفَرَّقٌ
وَكُلُّ رَحِيْمٍ قَلْبُهُ مَتَحَّرِقٌ ... وَكُلُّ حَبِيْبٍ لُبُّهُ مُتَحرِقٌ
يُحَرِكُ كَفيَّهِ عَلَيْكَ وَيَنْدُبُ
وَجَاءُوا بِأَثوابٍ وَطِيْب بِطَيِّهَا ... وَقَدْ نَشَرُوا الأَكْفَانَ مِن بَعْدَ طَيهَا
وَقَدْ بَخَّرُوْا مَنْشُوْرَهُنَّ وَطيَّبُوْا
وَخَاطُوا الذي يَحْتَاجُ مِنْهَا وَأَخْرَجُوا ... طَرَأَيدَ لِلْتحِزيمِ مِنْهَا وَأَدْلَجُوْا
جَمِيْعًا بِتَجهازٍ وَجِسْمَكَ أَدْرَجُوْا ... وَألقوك فيها بَيْنَهُنَّ وَأَدْرَجُوْا
عَلَيْكَ مَثَانِي طَيَّهُنَّ وَعَصَّبُوْا
وَشَالُوكَ من بَيْنِ الأَخِلاّ مُجَرَّدًا ... وَمَالكَ خَلْفًا قَدْ تَركْتَ وَخُرَّدا
وَصَلَّوْا وُقُوْفًا ثُمَّ زَفَّوكَ وُرَّدًا ... وَفِي حُفْرةٍ أَلْقَوكَ حَيْرَانَ مُفْرَدَا
تَضُمُّكَ بَيْدَاءٌ مِن الأَرْضِ سَبْسَبُ(2/137)
بَعيْدٌ عَلَى قُرْبِ المَدَى يَعْلَمُونَهُ ... وَسَائِلُكَ المُجْهَادُ لا يَسْمعُوْنَهُ
وَقَبْرَكَ قَامُوْا بَعْدَ ذَا يَسِمُوْنَهُ ... وَرَاحُوا لِمَا خَلَّفْتَ يَقْتَسَمُوْنَهُ
كَأَنَّكَ لَمْ تَشْقَى عَليهِ وَتَتْعَبُ
وَتَسْهَرُ حَتَّى كَادَ ظَهْرُكَ يَنْهَصِرْ ... وَجِسْمُكَ مَهْزُوْلٌ بِسَعْيِكَ مُنْعَصِرْ
وَخَلَّفْتَهُ طُرًا وَمَالَكَ مُنْتَصِرْ ... فَيَا أَيُّهَا المَغْرُوْرُ حَسْبُكَ فَاقْتَصِرْ
وَخَفْ مِن جَحِيْمٍ حَرُّهَا يَتَلَهَّبُ
وَلا تَمْشِ مِن بَيْنَ البَرَّيةِ مُسْبِلا ... وَكُنْ صَالِحًا بَرًا تَقِيًا مُحَسْبَلاَ
وَتُبْ عَن ذُنُوبٍ لا تَكُنْ متُكَرْبِلاَ ... وَجَانِبْ لِمَا يُرْديِكَ فِي حُفْرَةِ البِلاَ
فَكُلٌ يُجَازَي بِالذِي كَانَ يَكْسِبُ
مَآكِلُ مَا تَحْتَاجُ مِنْهَا لِقُوتِنَا ... شَبِيْهُ حَرَامِ وَالسَّمِيْعُ لِصَوْتِنَا
يُجَازِي بِعَدْلٍ لا مَفَرَّ لِفَوْتِنَا ... إِذَا كَانَ هَذَا حَالُنَا بَعْدَ مَوْتِنَا
فَكَيْفَ يَطِيْبُ اليَومَ أَكْلٌ وَمَشْرَبُ
وَقُدَّامُنَا َقَبْرٌ بِهِ المَرْءُ أَلْكَنُ ... وَلَوْ أَنَّهُ سَحْبانُ مَأَثمَّ أَلْسَنُ
وَكَيْفَ رَبَتْ مِنَّا لُحُومٌ وأَعْكُنُ ... وَكَيْفَ يَطِيْبُ العَيْشُ وَالقَبْرُ مُسْكَنُ
بِهِ ظُلُمَاتٌ غَيْهَبٌ ثُمَّ غَيْهَبُ
وَخَوْفٌ بِهِ حَزْنٌ طَوِيْلٌ وَرَعْشَةٌ ... وَلَيْتَكُ تَسْلَمْ لا يُصِيْبُكَ نَهْشَةٌ
وَمُنْكَرٌ إِذْ يَسْأَلْ يَهلْك وَدَهْشَةٌ ... وَهَولٌ وَدِيْدَانٌ وَرَوْعٌ وَوَحْشَةٌ
وَكُلُّ جَدِيْدٍ سَوْفَ يَبْلَي وَيَذْهَبُ
وَمِنْ بَعْدِ ذَا يَومٌ وَإِنَّ حِسَابَهُ ... أَلِيْمٌ مَهُوْلٌ مُفْزِعٌ وَعِقَابُهُ
عَظِيمٌ لِعَاصٍ مَا أَشَدَّ عَذَابَهُ ... فَيَا نَفْسُ خَافِي الله وَارْجِيْ ثَوَابَهُ
فَهَادِمُ لَذَّاتِ الفَتَى سَوْفَ يَقْرُبُ(2/138)
فَيَأْخُذُ أَطْفَالاً وَيَأْخُذُ رِمَّةً ... وَيَأْخُذُ شُبَّابًا وَيَهْدِمُ نِعْمَةَ
فَخَلِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيْقِ وَعَسْمَةً ... وَقُوْلِي إِلهي أَوْلنِي مِنْكَ رَحْمَةً
وَعَفْوًا فَإِنَّ الله لِلْذَّنْبِ يُذْهِبُ
وَخُذْ بِيَدِي نَحْوَ الطَّريْقِ المُحَمَّدِي ... وَكُنْ بِي رَحِيْمًا وَاسْتَقِمْ بِي عَلى الهُدَي
وَلا تُخْزِنِي في الحَشْرِ واطْلِقْ مُقَيَّدِي ... وَلا تُحْرِقَنْ جِسْمِي بِنَارِكَ سَيِّدِي
فَجِسْمِي ضَعِيْفٌ وَالرَّجَا مِنْكَ أَقْرَبُ
وُجُوْدُكَ مَنَّانِي ولو كنت أَحْقَرَا ... وَعَفْوَكَ رَجَّا مَنْ هَفَا وَتَقَحْطَرَا
وَإِنَّي وإنْ كنت البَعِيْدَ ومِنْ وَرَى ... فَمَالِي إِلاَّ أَنْتَ يَا خَالِقَ الوَرَى
عَلَيْكَ اتِّكَالِي أَنْتَ لِلْخَلْقِ مَهْرَبُ
وَأَنْتَ مَلاذٌ لِلْوَرَى فِي رُجُوْعِهَا ... مُجِيْبٌ لمن يَدْعُو بِهَامِي دُمُوعِهَا
فَتَرْجُوكَ تَسْمَعْ مِنْ صَمِيْمِ سَمِيْعِهَا ... وَنَدْعُوا بِغُفْرَانِ الذُنُوبِ جَمِيْعِهَا
وَخَاتِمَةِ العُمْرِ التِي هِي أَطْلُبُ
وَأَسألُ طُوْلَ الدَّهْرِ مَا نَاءَ طَارِقُ ... وَصَلِ إِلهي كُلَّ مَا نَاضَ بَارِقُ
وَما طَلَعَتْ شَمْسٌ ومَا لاحَ كَوْكَبُ
وَمَا حَنَّ رَعْدٌ فِي دَيَاجِي لَيَالِهِ ... وَمَا انْهَلَّ سَارٍ مُغْدِقٍ مِنْ خِلالِهِ
وَمَا أمَّ بَيْتَ الله من كلِّ وَالِهِ ... على أَحْمَدِ الطُّهْرِ النَّذِيْرِ وآلِهِ
فَهُوْ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ طُرًا وَأَطْيَبُ
وَأَكْمُل مَن حَلَّ الصَّفَا وَالمُحَصَّبَا ... وَأَحْلاهُمُوا خَلْقًا وخُلْقًا وَمَنْصِبَا
وَأَصْحَابِهِ ما اخْضَرَّ عُوْدٌ وأَخْصَبَا ... كَذَاكَ سَلامُ الله مَا هَبَّتِ الصِّبَا
وَهَبَّتْ شَمالٌ مَع جَنُوبٍ وَهَيْدَبُ
آخر:
إِلى كَمْ تَمَادَى فِي غُرُوْرٍ وَغَفْلَةٍ ... وَكَمْ هَكذا نومٌ إِلى غَيْرِ يَقظةِ(2/139)
لَقَدْ ضَاعَ عُمْرٌ سَاعَةٌ مِنْه تُشْترى ... بِمِلءِ السَّمَا وَالأَرْضِ أَيَّةَ ضَيْعَةِ
أَيُنْفَقُ هذا في هَوَى هذه اللَّتِي ... أَبَى الله أنْ تُسْوَي جَنَاحَ بَعوضَةِ
أَتَرْضَي مِن العَيْشِ الرَّغِيْدِ وَعِيْشَةٍ ... مَعْ الملأَ الأَعْلَى بِعَيشِ البَهِيْمَةِ
فيادُرَّة بَيْنَ المَزَابِلِ أُلْقِيَتْ ... وَجَوْهَرَةً بيْعَتْ بِأَبْخَسِ قِيْمَةِ
أَفَانٍ بِبَاقٍ تَشْتَرِيْهِ سَفَاهَةً ... وَسُخْطًا بِرضوَانٍ وَنَارًا بِجَنةِ
أَأَنْتَ صَدِيقُ أَمْ عَدوٌ لِنَفْسِهِ ... فَإِنَّكَ تَرْمِيْهَا بِكُلِّ مُصِيْبَةِ
وَلَو فَعَلَ الأَعْدَا بِنَفْسِكَ بَعْضَ مَا ... فَعَلْتَ لَمَسَّتْهُم لَهَا بَعْضُ رَحْمَةِ
لقد بِعْتَهَا هَوْنًا عَلَيْكَ رَخيْصَةً ... وَكَانَتْ بِهَذَا مِنْكَ غَيْرَ حَقِيْقَةِ
أَلا فاسْتَفِقْ لا تَفْضَحَنْهَا بِمَشْهَدٍ ... من الخَلْقِ إن كُنْتَ ابنَ أُمٍّ كَرِيْمَةِ
فَبَيْنَ يَدَيْهَا مَشْهَدٌ وَفَضِيْحَةٌ ... يُعَدُّ عَلَيْهَا كلُّ مِثْقَالِ ذَرَّةِ
فُتِنْتَ بها دُنْيَا كَثِيْرٍ غُرُوْرُهَا ... تُعَامِلُ في لَذَّتِهَا بِالخَدِيْعَةِ
إِذَا أَقْبَلَتْ بَذَّتْ وَإِنْ هِي أَحْسَنَتْ ... أَسَاءَتْ وَإِنْ ضَاقَتْ فَثِقْ بالكُدوْرَةِ
وَإِنْ نِلْتَ مِنْهَا مَالَ قَارُوْنَ لَمْ تَنَلْ ... سِوَى لُقْمَةٍ في فِيْكَ مِنْهَا وَخِرْقَةِ
وَهَيْهَاتَ تُحْظَى بالأماني وَلَمْ تَكُنْ ... لِتَنْزِعَهَا مِن فِيْكَ أَيْدِي المنيَّةِ
فَدَعْهَا وأَهْليْهَا لِتَغْبِطَهُمْ وَخُذْ ... لِنَفْسِكَ عنها فهو كُلُّ غَنِيْمَةِ
وَلا تغْبِطْ مِنْهَا بِفَرحَةِ سَاعَةٍ ... تَعُوْدُ بِأَحْزَان عَلَيْكَ طَوِيْلَةِ
فَعَيْشُكَ فِيْهَا أَلْفُ عَامِ وَتَنْقَضِي ... كَعَيشِكَ فِيْهَا بَعْضُ يَوْم وَلَيْلَةِ
آخر:
أَبَادَ ذَا المَوْتُ أَمْلاكًا وَمَا مَلَكَوْا ... وَدَارَ مُسْتَعْقِبًا عَليهِمُ الفَلَكُ(2/140)
رَمَي بِهِم حَيْثُ لا قِيْعَانَ تُمْسِكُهُمْ ... وَلا مِرَارًا بِهَا المَرْميُّ يَمْتَسِكُ
هَوَتْ هُوِىَّ ثَقِيْل الصَّخْرِ أمُّهُمُ ... فَلا حَسِيْسَ وَلا رِكزٌ وَلا حَرَكُ
غَدَتْ رُءُوِسُهُمْ من تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ... وَزُلْزِلَتْ بِهِم الأَطْباقُ وَالدَّرَكُ
يَا بَطْشَةً مِن حَكِيْمٍ مَا بِهَا مَهَلٌ ... وَغَضْبَةً مِنْ عَزِيْز مَا بِهَا دَرَكُ
جُرُّوْا مِن اللَّهْوِ مَلاي مِنْ أَعِنَّتِهِمْ ... حَتَّى إِذَا ما رَأَوْا خَيْلَ الرَّدى بَرَكُوْا
حُطُّوْا بِدَارِ البِلَى في مَنْزِلٍ حَرِجٍ ... وَلَيْتَهُمْ وَيْحَهُمْ فِيْهِنَّ لَوْ تُرِكُوا
لَطَالَمَا نَقَضُوا مُلْكًا وَمَا هَدَمُوْا ... عِزًّا وَمَا هَتَكُوا سِتْرًا وما فَتَكُوْا
مَرَّوا وَما بَلَغُوْا كُلَّ الذي طَلَبُوْا ... وَلا قَضَوْا وَطَرًا مِن كُلَّ ما تَرَكُوْا
أَضْحَاهُمُ اليَومَ صَرْفُ الدَّهرِ إِذْ هَلَكُوا ... كَمَا أَضَلَّهُم بِالأَمْسِ إِذْ مَلَكُوا
اللهم أنك تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمع كلامنا وترى مكاننا لا يخفي عليك شيء من أمرنا نحن البؤساء الفقراء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات ويقيم علم الجهاد ويقمع أهل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فصل
وفي بعض الخطب المروية: أيها الناس إن الأمال تطوى والأعمار تفنى والأبدان تحت التراب تبلى وإن الليل والنهار يتراكضان كتراكض البريد، ويقربان كل بعيد ويبليان كل جديد.
وفي ذلك عباد الله ما يلهي عن الشهوات، ويسلي عن اللذات، ويرغب في الباقيات الصالحات.(2/141)
وخطب آخر فقال: أيها الناس إن الله كتب على الدنيا الفناء وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب الله عليه البقاء، ولا بقاء لما كتب الله عليه الفناء، فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة، واقهروا طول الأمل بقصر الأجل.
وقال بعض العلماء: لا تبت على غير وصية، وإن كنت من جسمك في صحة، ومن عمرك في فسحة، فلا تأمن من هجوم هادم اللذات ومفرق الجماعات.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ما منكم من أحد إلا وهو ضيف، وما له عارية، فالضيف مرتحل والعارية مردودة.
وقال أحد الحكماء: ليس الدين من عوض، ولا من الإيمان بدل، ولا من الجسد خلف، ومن كانت مطيته الليل والنهار، فإنه يسار به وإن لم يسر.
وقال آخر: أيها الناس إن سهام الموت قد فوقت إليكم فانظروها، وحبالة الأمل قد نصبت بين أيديكم فاحذروها وفتن الدنيا قد أحاطت بكم من كل جانب فاتقوها.
ولا تغتروا بما أنتم فيه من حسن الحال فإنه إلى زوال، ومقيمه إلى ارتحال وممتده إلى تقلص واضمحلال، أما تسمعون أيها الناس لما توعظون به، أما تعتبرون بما إليه تنظرون، أما تفكرون فيما عنه تزولون وفيما إليه ترجعون، وعليه تقدمون.
أين من تقدمكم وكان قبلكم ممن أمل أملكم وسعى سعيكم وعمل عملكم أين الذين بنوا المدائن وملئوا الخزائن واستعدوا لما هو عندهم كائن، أين الذين غرسوا في روضة الملك ونظموا الآمال في سلك، وهتكوا حجبها أيما هتك وكانوا في ظاهر أعمالهم في ريب من الزمان وفي شك.
اللهم إنا نسألك قلبا سليما، ولسانا صادقا، وعملا متقبلا، ونسألك بركة الحياة وخير الحياة، ونعوذ بك من شر الحياة، وشر الوفاة.
اللهم ثبت قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك واختم لنا بخاتمة السعادة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل(2/142)
وقال رحمه الله واعلم أن لسوء الخاتمة أعاذنا الله منها أسبابا ولها طرق وأبواب أعظمها الاقبال والإكباب على الدنيا، والإعراض عن الآخرة، والإقدام بالمعصية على الله جل وعلا وتقدس.
وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ونوع من المعصية وجانب من الإعراض عن الله والدار الآخرة، ونصيب من الافتراء، فملك قلبه وسبى عقله وأطفأ نوره، وأرسل عليه حجبه.
فلم تنفع فيه تذكرة، ولا نجعت فيه موعظة، فربما جاء الموت على ذلك فسمع النداء من مكان بعيد فلم يتبين المراد ولا علم ما أراد، وإن أعاد عليه وأعاد.
ويروى أن أحد رجال الناصر بن علناس، نزل به الموت فجعل ابنه يقول له: قل لا إله إلا الله فقال الناصر يا مولاي، فأعاد عليه، فأعاد ثم أصابته غشية فلما أفاق منها قال الناصر أمولاي، ثم قال لابنه يا فلان الناصر إنما يعرفك بسيفك فالقتل ثم القتل ثم مات.
وقيل لآخر قل لا إله إلا الله عندما نزل به الموت فقال الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والجنان الفلانية افعلوا فيها كذا، وقيل لرجل نزل به الموت قل لا إله إلا الله فجعل يقول بالفارسية ده يا ازده دوازده تفسير عشرة أحد عشر إثنا عشر كان هذا الرجل من أهل العمل والديوان فغلب عليه الحساب والميزان.
وقيل إن رجلا نزل به الموت فقيل له قل لا إله إلا الله فجعل يقول:
يا رُبَّ قَائِلةٍ يَوْمًا وَقَدْ تَعِبَتْ ... أَيْنَ الطَّرِيْقُ إِلى حَمام مَنْجَابِ
وهذا الكلام فيه قصة وذلك أن رجلا كان واقفا على باب داره وكان باب داره يشبه باب الحمام فمرت امرأة لها رونق ومنظر خلاب وهي تسأل عن طريق حمام منجاب.
فقال لها هذا حمام منجاب وأشار إلى داره فدخلت داره ودخل وراءها فلما رأت نفسها معه في داره، وليست بحمام علمت أنه خدعها فاحتالت عليه بأن أظهرت له الفرح والبشر باجتماعها معه على تلك الخلوة في تلك الدار.(2/143)
وقالت ينبغي أن يكون عندنا ما يطيب به الاجتماع وتقر به عيوننا ففرح وقال الساعة آتيك بكل ما تريدين وما تشتهين. وخرج وتركها في الدار، وظن أنه أغلق عليها الباب، ومضى وأتى بما يصلح لهما ورجع ودخل الدار فوجدها قد خرجت وذهبت ولم يجد لها أثر.
فهام الرجل بها وذهبت بلبه فأكثر الذكر لها والحزن والجزع عليها وجعل يمشي في الطرق ويقول:
يا رُبَّ قَائِلةٍ يَوْمًا وَقَدْ تَعِبَتْ ... أَيْنَ الطَّرِيْقُ إِلى حَمام مَنْجَابِ
ومر من عند بيتها وهو ينشد هذا البيت وإذا بها تجاوبه من داخل دارها وتقول بصوت سمعه:
هَلاَّ جَعَلْتَ سَرِيْعًا إِذَا ظَفِرْتَ بِهَا ... حِرْزًا عَلَى الدَّارِ أَوْ قُفْلاً عَلَى البِاب
إِنْ يَنْفَذَ الرِّزْقُ فَالرَّزَاقُ يَخْلِفُهُ ... وَالعِرْضُ مِنْ أَيْنَ يَا مَغْرُوْرُ يُنْجَابُ
فلما سمع ذلك جعل يردد ذلك ومات
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله فجعل يهذي بالغناء وقال: وما ينفعني ما تقول ولم أدع معصية إلا ركبتها ثم مات.
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله فقال: وما يغني عني وما أعلم أني صليت لله صلاة ثم مات ولم يقلها.
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله فقال: هو كافر بما تقول ومات.
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله فقال: كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها.
وقال ابن القيم رحمه الله أخبرني من حضر بعض الشحاذين عند الموت فجعل يقول لله فليس، لله فليس فمات.
وأخبرني أحد التجار عن قريب له احتضر وهو عنده فجعلوا يلقنونه لا إله إلا الله وهو يقول هذه القطعة رخيصة هذا مشتري جيد.
وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبرا والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم.
وإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان واستعمله بما يريده من المعاصي.
وقد أغفل قلبه عن ذكر الله تعالى وعطل لسانه عن ذكره وجوارحه عن طاعته فكيف الظن به عند سقوط قواه واشتغال قلبه بما هو فيه من ألم النزع.(2/144)
وجمع الشيطان له كل قوته وهمته وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه غرضه فإن ذلك آخر العمل.
فأقوى ما يكون عليه الشيطان ذلك الوقت وأضعف ما يكون هو في تلك الحالة أي حالة نزع الروح
فمن ترى يسلم على ذلك فهنالك { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا.
فبعيد من قلب بعيد من الله غافل عنه متعبد هواه مصيره لشهواته ولسانه يابس من ذكره وجوارحه معطلة من طاعته مشتغلة بمعصيته فبعيد أن يوفق لحسن الخاتمة، انتهى كلامه رحمه الله.
ونقل عن شارب الدخان أنه كلما قيل له قل لا إله إلا الله قل تتن حار تتن حار.
ونقل عن بقال أنه كان يلقن عند الموت كلمتي الشهادتين فيقول خمسة ستة أربعة فكان مشغولا بالحساب الذي طال له إلفه فغلب على لسانه ولم يوفق للشهادتين والعياذ بالله.
ويخشى على صاحب المعاصي والمنكرات ومتخذي الآت اللهو من شطرنج وأعواد وأوراق لعب وبكمات واسطوانات وكرة ومذياع وتلفزيون وفيديو وسينما وصور ذوات الأرواح أن يكون مشغولا بها في آخر لحظة من حياته فيكون ختام صحيفته والعياذ بالله ما نطق به لسانه من ما يأتي فيها من المنكرات من أغانِ وصور وتمثيليات ونحو ذلك نسأل الله أن يعصمنا وإخواننا المسلمين منها.
وقال رحمه الله واعلم أن سوء الخاتمة أعاذنا الله وإياك وجميع المسلمين منها لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، وإنما تكون لمن كان له فساد في العقل وإصرار على الكبائر وإقدام على العظائم.(2/145)
فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة ويثب عليه قبل الإنابة ويأخذه الموت قبل إصلاح الطوية فيختطفه الشيطان عند تلك الدهشة والعياذ بالله ثم العياذ بالله أن يكون لمن كان مستقيما لم يتغير عن حاله ولم يخرج عن سنته.
قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } الآية وقد سمعت بقصة بلعام بن باعوراء وما آتاه الله من آياته وأطلعه عليه من بيناته أخلد إلى الأرض واتبع هواه فسلبه الله سبحانه جميع ما أعطاه وتركه مع من استماله وأغواه.
واعلم رحمك الله أن أمر الخاتمة وما يحذر من سوئه أمر إذا ذكر حقيقة ذكره انفطرت له القلوب وتصدعت له الأكباد وتقطعت.
ولولا أن الله جل وعلا حدد الآجال لزهقت الأنفس عند أول ذكره ولكنها مربوبة مدبرة مقهورة مصرفة تخرج إذا أذن لها في الخروج وتلج إذا أذن لها في الولوج.
وما يمنع القلوب من الانشقاق والانصداع والانفطار والانقطاع والذي يلقى المختوم له بسوء الخاتمة عذاب لا تقوم له السموات والأرض لشدته ولا آخر لمدته.
وما منا أحد إلا ويخاف أن يكون ممن يختم له بسوء الخاتمة، وما الذي أمنه منه، والخاتمة مغيبة، والعاقبة مستورة، والأقدار غالبة والنفس كما ترى، والشيطان منها بحيث تدري.
وهي مصغية ومستمعة إليه قال الله تبارك وتعالى: { إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } [ يوسف: 53] فهي ملتفتة نحو الشيطان ومقبلة عليه.
هِي النَّفْسُ إِنْ تَنْظُر إلى الحقِ نَظْرَةً ... فَإِنَّ لَهَا فِي غَيْرِهِ نَظَرَاتِ
وَإِنْ نَهَضَتْ يَوْمًا إِلى الله نَهْضَةً ... فَإِنَّ لها عَنْهُ غَدًا نَهَضَاتٍ
إِلى الله أَشْكُوْهَا فَبِاللهِ حَوْلُهَا ... وَبِاللهِ تَمْضِي في الأُمُورِ وتَاتِي(2/146)
ورد في الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم».
وقال رحمه الله فيا لله كم من مجر ذيل إعجابه متطاول على أصحابه، متعاظم على أقرانه وأترابه، تجمع له الأماني وترتاح له الغواني إن بصر لا يستبصر وإن أمر لا يأتمر، وإن زجر لا ينزجر، ويفرح ويمرح، ويبيت من دنياه مثل ما أصبح، قد أبدأ في أمره وأعاد، وأحكم غيه وضلاله فأجاد وأشاد من أمله ما أشاد.
حتى إذا نال مراده أو كاد، صاحت به المنية صيحة الغضبان وصدمته صدمة اللهفان، فهدت أركانه وكسرت أغصانه، وفرقت أنصاره وأعوانه، فأصبح قد باع النفيس بالدون ومضى يعض بنانه المغبون ولم يرح بنائل ولا حصل على طائل.
فيالله كم هناكم من ملك جبار طويل النجاد رفيع العماد عظيم الأجناد كثير الأمداد، قد ملك البلاد، وقهر العباد، ووصل من دنياه إلى كثير مما أراد.
قعد ونهض وأبرم ونقض وجعل أمره المفترض، وطالما حرق وهدم وكسر، وحطم وزلزل ودمدم، واسترحم فلم يرحم ومضى على ما شاء من رأيه وصمم.
بنى المدائن والحصون وأكثر من ماله المخزون واستعد في رأيه لما قد يكون أو لا يكون حتى إذا استحكمت له الأمور، وأطال الفرح والسرور، وزخرف الفلل والقصور، وظن أنه قد ساعده فيما بقي من أمله المقدور، قلبت له الدنيا ظهر المجن وكسته من خطبها ومصائبها ما أجن وأذهل الفطن، وسقته من كربها ما يسكر به ويجن.
نظرت بعينها الشوساء إليه، وقبضت ما كان في يديه، وأتت بنيانه من قواعده فألقته عليه، فأصبح وقد هدم ذلك البنيان، وسقط ذلك الإيوان، وتبددت تلك المقاتلة والفرسان، وتفرقوا شذر مذر بكل مكان، وأصبح كل ما كان كأنه ما كان.(2/147)
وقيل ملك في سالف الزمان ملك يقال له فلان بن فلان، ولم يحصل على شيء مما ملك من البلاد ولا ما أدخر من المال وأعد من العتاد إلا على حنوط وكفن، وحفرة ضيقة العطن يحتبس فيها ويرتهن، بكل ما عمل من قبيح أو حسن.
فَمَا تَزَوَّدَ ممَّا كَانَ يجمَعُه ... سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ البَيْنِ في خِرَقِ
وَغَيْرَ نَفْخَةِ أَعْوادٍ تُشَبُّ لَهُ ... وَقَلَّ ذَلِكَ مِن زَادٍ لِمنْطَلِقِ
(فصل في بيان الاستغناء بالوحي المنزل
من السماء عن تقليد الرجال والآراء)
يَا طَالبَ الحَقِّ المُبِيْنِ وَمُؤْثِرًا ... عِلْمَ اليَقِيْنِ وَصِحَّةَ الإِيْمَانِ
اسْمَعْ مَقَالَةَ نَاصِحٍ خَبْرَ الذي ... عِنْدَ الوَرَى مُذْ شَبَّ حَتَّى الآنِ
مَا زَالَ مُذْ عَقَدَتْ يَدَاهُ إِزَارَهُ ... قَدْ شَدَّ مِيْزَرَهُ إِلى الرَّحمنِ
وَتَخلُلُ الفَتَراتِ لِلْعَزمَاتِ ... أَمْر لازِم لِطَبِيْعَةِ الإِنْسَانِ
وَتَولُدُ النُّقْصَانِ مِن فَتَراتِهِ ... أَوْ لَيْسَ سَائِرُنَا بَنِي النُّقْصَانِ
طَافَ المذاهبَ يَبْتَغِي نُوْرًا ... لِيَهْدِيْهِ وَيُنْجِيْهِ مِن النِّيرَانِ
وَكَأنهُ قَدْ طَافَ يَبْغِي ظُلْمَةَ ... اللَّيْلِ البَهِيْمِ وَمَذْهَبَ الجيْرَانِ
وَاللَّيْلُ لا يَزْدَادُ إِلا قُوَّةً ... وَالصُّبْحُ مَقْهُورَ بِذِي السُّلْطانِ
حَتَّى بَدَتْ فِي سِيْرهِ نَارٌ عَلَى ... طُوْرِ المدِيْنَةِ مَطْلَعِ الإِيْمَانِ
فَأَتى لِيَقْبِسَهَا فَلَمْ يُمْكِنْهُ مَعْ ... تِلْكَ القُيُودِ مَنَالُهَا بِأَمَانِ
لَوْلا تَدَارَكَهُ الإِلَهُ بِلُطْفِهِ ... وَلَّى على العَقِبَيْنِ ذَا نُكْصَانِ
لكن تَوقفَ خَاضِعًا مُتَذِلِّلاً ... مُسْتَشْعِرَ الإِفْلاسِ مِن أَثْمَانِ
فَأَتاهُ جُنْدٌ حَلَّ عَنْهُ قُيُوْدُهُ ... فَامْتَدَّ حِيْنَئِذٍ لَهُ البَاعَانِ
وَاللهِ لَوْلا أَنْ تُحَلَّ قُيُودُهُ ... وَتَزُوْلَ عَنْهُ رِبْقَةُ الشَّيْطَانِ(2/148)
كان الرُقيُّ إلى الثُريَا مُصْعِدًا ... من دُونِ تِلْكَ النَّارِ في الإِمْكَانِ
فَرَأَى بِتْلَكَ النَّارِ آطَامَ المَديْنَةِ ... كالخَيامِ تَشُوْفُهَا العَيْنَانِ
وَرَأَى عَلَى طُرُقَاتِهَا الأَعْلامَ قَدْ ... نُصِبَتْ لأَجْلِ السَّالِكِ الحَيْرَانِ
وَرَأَى هُنَالِكَ كُلَّ هَادٍ مُهْتَدٍ ... يَدْعُو إلى الإِيمانِ وَالإِيْقَانِ
فَهُنَاكَ هَنَّأ نَفْسَهُ مُتَذَكِرًا ... مَا قَالَهُ المُشْتَاقُ مُنْذُ زَمَانِ
وَالمُسْتَهامُ عَلَى المَحَبةِ لَمْ يَزَلْ ... حَاشَا لِذِكْرَاكُمْ مِن النِّسْيَانِ
لَو قِيْلَ مَا تَهَوَى لَقَالَ مُبَادِرًا ... أَهَوَى زِيَارَتَكُم عَلَى الأَجْفَانِ
تَاللهِ إِنْ سَمَحَ الزَّمَانُ بِقُرْبِكُم ... وَحَلَلْتُ مِنْكُم بِالمحَلِ الدَّانِي
لأُعَفِّرَنَّ الخَدَّ شُكْرًا في الثَّرَى ... وَلأكْحُلَنَّ بِتُرْبِكُم أَجْفَانِي
إنْ رُمْتَ تُبْصِرُ مَا ذَكَرْتُ فَغُضَّ طَرْ ... فَا عَن سِوَى الآثَارِ والقُرْآنِ
وَاتْرُكْ رُسُومَ الخَلْقِ لا تَعْبَأْ بِهَا ... في السَّعْدِ مَا يُغْنِيْكَ عَن دَبَرانِ
حَدّقْ بِقَلْبِكَ في النُصُوصِ كَمِثْلِ مَا ... قَدْ حَدَّقُوا في الرَّأي طُوْلَ زَمَانِ
وَاكْحُلْ جُفُونَ القَلْبِ بالوَحْيَيْنِ ... وَاحْذَرْ كُحْلَهُمْ يَا كَثْرةَ العُمْيَانِ
فَاللهِ بَيَّنَ فِيْهَا طُرْقَ الهُدَى ... لِعِبَادِهِ في أَحْسَنِ التَّبْيَانِ
لَمْ يُخْرِجْ اللهُ الخَلائِقَ مَعْهُمَا ... لِخَيَالِ فَلْتَانٍ وَرَأَي فُلانِ
فَالوَحْيُّ كَافٍ لِلَّذِي يَعْنِي بِه ... شَافٍ لِدَاءِ جَهَالِةِ الإِنْسَانِ
وَتَفَاوُتُ العُلُمَاءِ في أَفْهَامِهِم ... لِلوَحْي فَوْقَ تَفَاوُتُ الأَبْدَانِ
وَالجَهْلُ دَاء قَاتِل وَشِفَاؤُه ... أَمْرَانِ في التَّركِيْبِ مُتَّفِقَانِ
نَصٌ مِنَ القُرآنِ أَوْ مِنْ سُنَّةٍ ... وَطَبِيْبُ ذَاكَ العَالِمُ الرَّبَانِي(2/149)
وَالعِلْمُ أَقْسَامٌ ثَلاث مَالَهَا ... مِن رَابِعٍ وَالحَقُ ذُوْ تِبْيَانِ
عِلْمٌ بِأَوْصَافِ الإِلهِ وفِعْلِهِ ... وَكَذَلِكَ الأَسْمَاءُ لِلَّرحمنِ
وَالأَمْرُ والنَّهْيُ الذِي هُو دِيْنُهُ ... وَجَزَاؤُهُ يَوْمَ المَعَادِ الثَّانِي
وَالكُلُّ في القُرآنِ وَالسُّنَنِ التي ... جَاءَتْ عَنْ المبْعُوثِ بِالفُرْقَانِ
والله مَا قَالَ امْرُؤ مُتَحَذْلِقٌ ... بِسِوَاهُمَا إِلا مِن الهَذَيانِ
إِنْ قُلْتُم تَقْرِيْرُهُ فَمُقَرَّرٌ ... بِأَتَّم تَقْرِيرِ مِن الرَّحمنِ
أَوْ قُلْتُمُ إِيْضَاحُهُ فَمُبَيَّن ... بِأَتمَّ إِيْضَاحٍ وَخَيْرِ بَيَانِ
أَوْ قُلتُم إِيْجازُهُ فَهْوَ الذِي ... فِي غَايَةِ الإِيْجَازِ وَالتِّبْيَانِ
أَوْ قُلتُم مَعْنَاهُ هَذَا فاقْصُدُوْا ... مَعْنَى الخِطابِ بِعَيْنِهِ وَعِيَانِ
أَوْ قُلتُم نَحْنُ التَّراجُمُ فَاقْصُدُوْا ... المَعَنْىَ بِلا شَططٍ وَلا نُقْصَانِ
أَوْ قُلتُم بِخِلافِهِ فَكَلامَكَمْ ... في غَايِةِ الإِنْكارِ وَالبُطْلانِ
أَوْ قُلتُم قِسْنَا عَلَيْهِ نَظِيْرَهُ ... فَقِيَاسُكُم نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ
نَوعٌ يُخَالِفُ نَصَّهُ فَهْوَ المُحَا ... لُ وَذَاكَ عِنْدَ اللهِ ذُو بُطْلانِ
وَكَلامُنا فِيه وَلَيْسَ كَلامُنَا ... في غَيْرِهِ أَعْنِيْ القِيَاسَ الثَّانِي
ما لا يُخَالِفُ نَصَّهُ فَالناسُ قَد ... عَمِلُوا بِه في سَائِرِ الأَزْمَانِ
لَكِنَّهُ عِنْدَ الضَّرُوْرَةِ لا يُصَا ... رُ إِليهِ بَعْدَ ذا الفُقْدَانِ
هذا جَوابُ الشَّافِعي لأَحْمَدٍ ... للهِ دَرُكَ مِن إِمَامِ زَمَانِ
وَالله مَا اضْطَرَ العِبَادُ إِليْهِ ... فِيْمَا بَيْنَهُم مِنْ حَادِثِ بِزَمَانِ
فَإِذَا رَأَيْتَ النَّصَ عَنْهُ سَاكِتًا ... فَسُكُوتُه عَفْوٌ مِن الرَّحمنِ
وَهوَ المُبَاحُ إِبَاحَةَ العَفْوِ الذِي ... مَا فيه من حَرِجٍ ولا نُكْرَانِ(2/150)
فَأَضِفْ إِلى هَذَا عُمُوْمَ اللَّفْظِ ... وَالمَعْنَى وَحُسْنَ الفَهْمِ في القُرْآنِ
فَهُنَاكَ تُصْبِحُ في غِنى وَكَفايَةٍ ... عَن كُلِّ ذِي رَأَي وذِي حُسْبَانِ
وَمُقَدَّرَاتُ الذُهْنِ لم يُضْمَنْ لَنَا ... تِبْيَانُهَا بِالنَّصِ وَالقُرْآنِ
وَهي التِي فِيْهَا اعْتِرَاكُ الرَّأي مِن ... تَحْتِ العَجَاجِ وَجَوْلَةِ الأَذْهَانِ
لَكِنْ هُنَا أَمْرَانِ لَوتمَّا لما ... احْتَجْنَا إِليه فَحَبَّذَا الأَمْرَانِ
جَمْعُ النُصُوصِ وَفَهْمُ مَعْنَاهَا المُرا ... دَ بِلَفْظِهَا وَالفَهْمُ مَرْتَبَتَانِ
إِحْدَاهُمَا مَدْلُولُ ذَاكَ اللَّفْظ ... وَضْعًا أو لُزُومًا ثُمَّ هَذَا الثَّانِي
فِيهِ تَفَاوتَتِ الفُهُومُ تَفَاوُتًا ... لم يَنْضَبِطْ أَبدًا لَهُ طَرَفَانِ
فَالشيءُ يَلْزَمُهُ لَوَازِمُ جَمَّةٌ ... عِنْدَ الخَبِيْرِ بِهِ وَذِيْ العِرْفَانِ
فَبِقَدْرِ ذَاكَ الخُبْرُ يُحْصَى مِن لَوا ... زِمِهِ وهذا وَاضِحُ التِّبْيَانِ
وَلِذَاكَ مَن عَرَفَ الكِتَابَ حَقِيْقَةً ... عَرَفَ الوُجُودَ جَمِيْعَهُ بِبَيَانِ
وَكَذَاكَ يَعْرِفُ جُمْلَةَ الشَّرْعِ الذِي ... يَحْتَاجُهُ الإِنْسَانِ كُلَّ زَمَانِ
عِلْمًا بِتَفْصِيْلٍ وَعِلْمًا مُجْمَلاً ... تَفْصِيْلُهُ أَيْضًا بِوَحِي ثَانِ
وَكِلاهُمَا وَحْيَانِ قَدْ ضَمِنَا لَنَا ... أَعْلَى العُلُومِ بِغَايَةِ التِّبْيَانِ
وَلِذَاكَ يُعْرَفُ مِن صِفَاتِ الله ... وَالأَفْعَالِ وَالأَسْمَاءِ ذِي الأحْسَانِ
مَا لَيْسَ يُعْرفُ مِن كِتَابٍ غَيْرِهِ ... أَبَدًا وَلا مَا قَالَتِ الثَّقَلانِ
وَكَذَاكَ يُعْرَفُ مِن صِفَاتِ البَعْثِ ... بالتَّفْصِيْلِ وَالإِجْمَالِ في القُرْآنِ
مَا يَجْعَلُ اليَوْمَ العظيمَ مُشَاهَدًا ... بِالقَلْبِ كالمَشْهُودِ رَأْي عَيَانِ
وَكَذَاكَ يُعْرفُ مِن حَقِيْقَةِ نَفْسِهِ ... وَصِفَاتِهَا بِحَقِيْقَةِ العِرْفانِ(2/151)
يَعْرِفْ لَوازِمَهَا وَيَعْرفُ كَوْنَهَا ... مَخْلُوقَةً مَرْبوبَةً بِبَيَانِ
وَكَذاكَ يَعْرفُ مَا الذِي فِيْهَا من ... الحَاجَاتِ وَالاعْدَامِ وَالنُّقْصَانِ
وكذاك يَعْرفُ رَبَّهُ وَصِفَاتِهِ ... أَيْضًا بِلا مِثْلٍ وَلا نُقْصَانِ
وَهُنَا ثَلاثَةُ أَوْجُه فافْطَنْ لَهَا ... إِنْ كُنْتَ ذَا عِلْمٍ وذَا عِرْفَانِ
بِالضِّدِ والأَوْلَى كَذَا بالامْتِنَا ... عِ لِعْلِمِنَا بِالنَّفْسِ وَالرَّحمنِ
فَالضِّدُ مَعْرِفَةُ الإِلهِ بِضِدِ مَا ... في النَّفْسِ مِن عَيْبٍ ومِن نُقْصَانِ
وَحَقِيْقَةُ الأولى ثُبُوتُ كَمَالِهِ ... إِذْ كَان مُعْطِيْهِ عَلَى الإِحْسَانِ
(فصل في بيان شروط كفاية
النصين والاستغناء بالوحيين)
وَكِفَايَةُ النَّصَيْن مَشْرُوْطٌ ... بِتَجْرِيدِ التَّلِقي عَنْهُمَا لِمَعانِ
وَكَذاكَ مَشْرُوطٌ بِخَلْع قُيُودِهِمْ ... فَقُيودُهَمْ غِل إلى الأَذْقَانِ
وَكَذَاكَ مَشْرُوْطٌ بِهَدْمِ قَوَاعِدٍ ... ما أنْزلَتْ بِبَيَانِهَا الوَحْيَانِ
وَكَذَاكَ مَشْرُوْطٌ بِإِقْدَامِ عَلَى الآرَاءِ ... إِن عَرِيَتْ عَنِ البُرْهَانِ
بِالرَّدِ وَالإِبْطَالِ لا تَعْبَأ بِهَا ... شَيْئًا إِذَا مَا فَاتَهَا النَّصَانِ
لَولا القَوَاعِدُ وَالقُيُودُ وهَذِهِ ... الآرَاءِ لاتَّسَعَتْ عَرَى الإِيْمَانِ
لَكِنَّها وَالله ضَيْقة العُرَى ... فاحْتَاجَتِ الأيْدِي لِذاكَ تَوانِ
وَتَعَطَّلَتْ من أَجْلِهَا وَالله أَعْدَادَ ... من النَّصَّيْنِ ذَاتِ بَيَانِ
وَتَضَمَّنَتْ تَقْيِيْدَ مُطْلَقِهَا وَإِطْلاقَ ... المُقَيَّدِ وَهو ذُو مِيْزَانِ
وَتَضَمَّنَتْ تَخْصِيْصَ مَا عَمَّتْهُ ... وَالتَّعْمِيْمَ لِلْمَخْصُوصِ بِالأَعْيَانِ
وَتَضَمَّنَتْ تَفْرِيْقَ ما جَمَعَتْ وَجَمْعًا ... لِلَّذِي وَسَمَتْهَ بالفُرْقُانِ
وَتَضَمَّنَتْ تَضْيِيْقَ مَا قَدْ وَسَّعَتْهُ ... وَعَكْسُهُ فَلْتَنْظُرِ الأَمْرانِ(2/152)
وَتَضَمَّنَتْ تَحْلِيْلَ مَا قَدْ حَرَّمتْهُ ... وَعَكْسُهُ فَلْتَنْظُرِ النَّوعَانِ
سَكَتَتْ وكَانَ سُكُوتُها عَفْوًا فَلَمْ ... تَعف القَواعِدْ بِاتْسَاعِ بِطَانِ
وَتَضَمَّنَتْ إِهْدَارِ مَا اعْتِبُرَت كَذَا ... بِالعَكْسِ والأَمْرَانِ مَحْذُوْرَانِ
وَتَضَمَّنَتْ أَيْضًا شُرُوطًا لَمْ تَكُنْ ... مَشْرُوطَةً شَرْعًا بِلا بُرْهَانِ
وَتَضَمَّنَتْ أَيْضًا مَوانِعَ لم تَكُنْ ... مَمْنُوعَةً شَرْعًا بِلا تِبْيَانِ
إِلا بِأقِيْسَةٍ وَآرَاءٍ وَتَقْلِيْدِ ... بِلا عِلْمٍ أَو اسْتِحْسَانِ
عَمَّنْ أَتَتْ هَذِي القَوَاعِدُ ... مِن جَمِيْعِ الصَّحْبِ والاتْبَاعِ بِالإِحْسَانِ
مَا أَسَّسُوا إِلا اتْبَاعَ نَبِيْهِم ... لا عَقْلَ فَلْتَانٍ وَرَأْيَ فُلانِ
بِلا أَنْكَرُوا الآرَاءَ نُصْحًا مِنْهُم ... لله وَالدَّاعِي وَلِلْقُرْآنِ
أَوْ لَيْسَ فِي خُلْفٍ بِهَا وَتَنَاقُضٍ ... مَا دَلَّ ذَا لُبّ وَذَا عِرْفَانِ
وَالله لَوْ كَانَتْ مِن الرَّحمنِ ما اخْتَ ... لَفَتْ وَلا انْتَقَضَتْ مَدَى الأَزْمَانِ
شُبَه تَهَافَتْ كَالزُجَاجِ تَخَالُهَا ... حَقًّا وَقَدْ سَقَطَتْ عَلَى صِفْوَانِ
وَاللهِ لا يَرْضَى بِهَا ذُو هِمَّةِ ... عَلْيَاءَ طَالبةً لِهَذَا الشَّأنِ
فَمَنَالهَا والله فِي قَلْبِ الفَتَى ... وَثَبَاتُهَا في مَنْبَتِ الإِيْمَانِ
كالزَّرْعِ يَنْبُتُ حَوْلَهُ دَغَلٌ فَيَمْنَعُهُ ... النَّما فَتَرَاهُ ذا نُقْصَانِ
وَكَذِلكَ الإِيْمَانُ في قَلْبِ الفَتَى ... غَرْسٌ من الرَّحمنِ في الإِنْسَانِ
وَالنَّفْسُ تُنْبِتُ حَوْلَهُ الشَّهَواتِ ... والشُّبُهات وهي كَثِيْرةُ الأَفْنَانِ
فَيَعُودُ ذَاكَ الغَرْسُ يَبْسًا ذاوِيًا ... أو نَاقِصَ الثَّمَراتِ كُلَّ أَوَانِ
فَتَرَاهُ يَحْرِثُ دَائِبًا وَمَغَلُّهُ ... نَزْرٌ وَذَا مِن أَعْظَمِ الخُسْرَانِ(2/153)
وَالله لَو نَكَشَ النَّبَاتُ وكان ذا ... بَصَرٍ لِذَاكَ الشَّوْكِ وَالسَّعْدَانِ
لأتَى كَأَمْثالِ الجِبَالِ مَغَلُّهُ ... وَلَكَانَ أَضْعَافًا بِلا حُسْبَانِ
وقال رحمه الله تعالى:
يَا مَن يُريد وِلايةَ الرَّحمنِ دُوْنَ ... وِلايةَ الشَّيْطَان وَالأَوْثَانِ
فَارِقْ جَمِيْعَ النَّاسِ في إِشْرَاكِهِم ... حَتَّى تَنَالَ وِلايةَ الرحمنِ
يَكْفِيْكَ مَنْ وَسعَ الخَلائِقَ رَحْمَةً ... وَكِفَايَةً ذُو الفَضْلِ وَالإِحْسَانِ
يَكْفِيْكَ مَنْ لَمْ تَخْلُ مِن إِحْسَانِهِ ... في طَرْفَةٍ كَتَلَقُّبِ الأَجْفَانِ
يَكْفِيْكَ رَبٌّ لَمْ تَزَلِ أَلْطَافُهُ ... تَأْتِي إِلِيْكَ بِرَحْمَةٍ وَحَنَانِ
يَكْفِيْكَ رَبٌّ لَمْ تَزَلْ فِي سَتْرِهِ ... وَيَرَاكَ حِيْنَ تَجِيءُ بِالعِصْيَانِ
يَكْفِيْكَ رَبٌّ لَمْ تَزَلْ في حِفْظِهِ ... وَوِقَايةٍ مِنْهُ مَدَى الأَزْمَانِ
يَكْفِيْكَ رَبٌّ لَمْ تَزَلْ في فَضْلِهِ ... مُتَقَلِبًا في السِّرِ والإِعْلانِ
يَدْعُوْهُ أَهْلُ الأَرْضِ مَع أَهْلِ السَّمَا ... ءِ فَكُلُّ يَوْمٍ رَبْنُا في شَانِ
وَهُوَ الكَفِيْلُ بِكُلِّ مَا يَدْعُونَهُ ... لا يَعْتَرِي جَدْوَاهُ مِن نُقْصَانِ
فَتَوَسُّطُ الشُفَعاءِ والشُّركَاءِ ... والظُهرَاءِ أَمْرٌ بَيَّنُ البُطْلانِ
آخر:
فَلا تَرْجُ إِلاَّ الله في كلِّ حَادِثٍ ... فَأَلْقِ إِليهِ بَثَّ شَكْوَاكَ تُحْمَدِ
لَهُ المُلْكُ بِالأَكْوَانِ لا بُمُؤَازِرِ ... وَلا بِنَصِيْرٍ في الدِّفَاعِ لِمُعْتَدٍ
قَرِيْبُ وَلَكِنْ بِالذُّنُوبِ تَبَاعَدَتْ ... مَسَائِلُنَا عن رَوْضِ إِحْسَانِهِ النَّدِي
فَقُمْ قَارِعًا لِلْبَابِ وَالنَّابِ نَادِمًا ... عَلَى مَا جَرَى وَارْفَعْ دُعَاءكَ يَصْعَدِ
وَقُمْ سَائِلاً وَالدَّمْعُ في الخَدِّ سَائِلٌ ... تَجِدْ مَا تَشَأ مِن لُطْفِهِ وَكَأنْ قَدْ(2/154)
وَقُمْ زُلَفًا في اللَّيْلِ إِنْ نَشَرَ الدُّجَى ... جَنَاحَ غُدافٍ يُلْبِسُ الكَوْنَ عَن يَدِ
وَرُدَّ ظَلامَ اللَّيْلِ بالذِّكْرِ مُشْرِقًا ... فَقَدْ فَازَ مَن بالذِّكْرِ يَهْدِي وَيَهْتَدِي
وَأَمَّا بَنُو الدُّنْيَا فَرَ تَرْجُ نَفْعَهُمْ ... فَلا مُنْجِدٌ فِيْهِم يُرَجَّي لِمُجْتَدِ
فَإِنِّي تَتَبَعْتُ الأَنَامَ فلم أَجِدْ ... سِوَى شَامِتٍ أو حَاسِدٍ أو مُفَنِّدِ
وَقَدْ رَضَعُوا ثَدْي المَهَابَةِ كُلُّهُم ... وَكُلٌّ بِذَيْلِ الذُّلِ أَصْبَحَ مُرْتَدِ
فَلَمْ أَرَ أَرْمَى بالسِّهَامِ مِن الدُّعَا ... إلى مَقْتَل الأَعْدَاءِ مِن قَوْسِ مِذْوَدِ
وَعَن مَا قَلِيْلٍ يُدْرِكُ السَّهْمُ صَيْدَهُ ... فَكَمْ صَادَ سَهْمُ اللَّيْلِ مُهْجَةَ أَصْيَدِ
وَأُوْصِيْكَ بِالتَّقْوَى لِرَبِّكَ إِنَّهُ ... سَيَحْمِدُ تَقْوَاهُ المُوَّفُق في غَدِ
وَخُذْ لَكَ من دُنْيَاكَ زَادًا فَإِنَّمَا ... أَقَامَكَ في الدُّنْيَا لأَخْذِ التَّزَوُدِ
وَعَنْ مَا قَلِيْلٍ قَد أَنَاخَ رِكَابُنَا ... بِقَصْرِ خَلِيٍّ مُظْلِمِ الجَوِّ فَدْفَدِ
فَإِنَّ اللَّيَالِي كَالمَرَاكِبِ تَحْتَنَا ... تَرُوْحُ بِنَا في كُلَّ حِيْنٍ وَتَغْتَدِي
فَيَا حَبَّذَا جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا ... تَحُطُّ رِحَالَ القَادِمِ المُتَزَوُّدِ
وَلَيْسَ لَنَا إِلاَّ الرَّجَاءُ فَإِنَّهُ ... يُبْلِغُنَا مِن فَضْلِهِ خَيْرَ مَقْعَدِ
شعرا:
غَفَلْتُ وَحَادِيْ المَوْتِ في أَثَرِي يَحْدُوْ ... فَإِنْ لَمْ أَرُحْ يَوْمِيْ فَلا بُدَّ أَنْ أَغْدُ
أَنَعِّمُ جِسْمِيْ بِاللِّبَاسِ وَلِيْنِهِ ... وَلَيْسَ لِجِسْمِيْ من لِبَاسِ البِلَى بُدُّ
كَأَنِّيْ بِهِ قَدْ مرَّ في بَرْزخِ البِلَى ... وَمِنْ فَوْقِهِ رَدْمٌ وَمِنْ تَحْتِهِ لَحْدُ
وَقَدْ ذَهَبَتْ مِنِّى المَحَاسِنُ وَانْمَحَتْ ... وَلَمْ يَبْقَ فَوْقَ العَظْمِ لَحْمٌ وَلا جِلْدُ(2/155)
أَرى العُمْر قَدْ وَلَّى وَلَمْ أُدْرِك المُنَى ... وَلَيْسَ مَعِي زَادٌ وفي سَفَرِي بُعْدُ
وَقَدْ كُنْتُ جَاهرتُ المُهَيْمِنَ عَاصِيًا ... وَأَحْدَثْتُ أَحْدَاثًا وَلَيْسَ لَهَا رَدُّ
وَأَرْخَيْتُ خَوْفَ النَّاسِ سِتْرًا مِن الحَيَا ... وَمَا خِفْتُ مَنْ سِرَي غَدًا عِنْدَهُ يَبْدُ
بَلَى خِفْتُهُ لَكِنْ وَثِقْتُ بِحِلْمِه ... وَأَنْ لَيْسَ يَعْفُو غَيْرُهُ فَلَهُ الحَمْدُ
فَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَيءٌ سِوَى المَوتِ وال ... بِلَى عَن اللَّهْوِ لَكِنْ زَالَ عَنْ رَأْيِنَا الرُّشْدُ
عَسَى غَافِرُ الزَّلاتِ يَغْفِرُ زَلَّتِي ... فَقَدْ يَغْفِرُ المَوْلَى إِذَا أَذْنَبَ العَبْدُ
أَنَا عَبْدُ سُوْءٍ خُنْتُ مَوْلاي عَهْدَهُ ... كَذَلِكَ عَبْدُ السُّوءِ لَيْسَ لَهُ عَهْدُ
فَكَيْفَ إِذَا أَحْرَقْتَ بِالنَّارِ جُثَّتِي ... وَنَارُكَ لا يَقْوَى لَهَا الحَجَرُ الصَّلْدُ
أَنَا الفَرْدُ عِنْدَ المَوْتِ والفَرْدُ في البِلَى ... وَأَبْعَثُ فَرْدًا فَارْحَمْ الفَرْدَ يَا فَرْدُ
آخر:
يَا مَنْ يُتَابِعُ سَيَّدَ الثَّقَلانِ ... كُنْ لِلْمُهَيْمِنِ صَادِقَ الإِيْمَانِ
وَاعْلَمْ بأنَّ الله خَالِقُكَ الذِي ... سَوَّاكَ لم يَحْتَجْ إلى إِنْسَانِ
خَلَقَ البَرِيَّةَ كُلَّهَا مِن أَجْلِ أَنْ ... تَدَعْوُهُ بِالإخْلاصِ وَالأَذْعَانِ
قَدْ أَرْسَلَ الآياتِ مِنْهُ مُخَوِّفًا ... لِعَبَادِه كَي يُخْلِصَ الثَّقَلانِ
وَأَبَانَ لِلإنْسَانِ كُلَّ طَرِيْقَةٍ ... كَي لا يَكُونَ لَهُ اعْتِذَارٌ ثَانِي
ثُم اقْتَضَى أَمْرًا وَنَهْيًا عَلَّهَا ... تَتَمَيَزُ التَّقْوَى عَن العِصْيَانِ
وَوُلِدْتَ مَفْطُورًا بِفِطْرتَكِ التِي ... لَيْسَتْ سِوَى التَّصْدِيْقِ والإِيْمَانِ
وَبُلِيْتَ بالتَّكْلِيْفَ أَنْتَ مُخَيَّر ... وَأَمَامَك النَّجْدَانِ مُفْتَتَحَانِ(2/156)
فَعَمِلْتَ مَا تَهْوَى وَأَنْتَ مُرَاقَبٌ ... مَا كُنْتَ مَحْجُوبًا عَن الدَّيَانِ
ثُم انْقَضَى العُمْرُ الذِي تَهْنَا بِهِ ... وَبَدَأْتَ فِي ضَعْفٍ وَفي نُقْصَانِ
وَدَنَا الفِرَاقُ ولاتَ حِيْنَ تَهْرَّب ... أَيْنَ المَفَرُ من القَضَاءِ الدَّانِي
وَالْتَفَّ صَحْبُكَ يَرْقُبُوْنَ بِحَسْرةٍ ... مَاذَا تَكُونُ عَوَاقِبُ الحَدَثَانِ
واسْتَلِّ رُوْحَكَ وَالقُلُوبُ تَقَطَّعَتْ ... حُزَنًا وَألْقَتْ دَمْعَهَا العَيْنَانِ
فَاحْتَاجَ أَهْلَ الدَّارِ حُزْنٌ بَالِغٌ ... وَاجْتَاحَ مِن حَضَرُوا مِن الجِيْرَانِ
فالبِنْتُ عَبْرَى لِلْفِرَاقِ كَئِيْبَةً ... وَالدَّمْعُ يَمْلأ سَاحَةَ الأَجْفَانِ
والزَّوْجُ ثُكْلَى والصِّغَارُ تَجَمَعُوا ... يَتَطَّلَعُوْنَ تَطَلُعَ الحَيْرَانِ
والابنُ يَدْأبُ في جَهَازِكَ كَاتِمًا ... شَيْئًا مِن الأَحْزَانِ وَالأَشْجَانِ
وَسَرَى الحَدِيْثُ وَقَدْ تَسَاءَلْ بَعْضُهُم ... أَوْ مَا سَمِعْتُم عَنْ وَفَاةِ فُلانِ
قَالُوا سَمِعْنَا والوَفَاةُ سَبِيْلُنَا ... غَيْرُ المُهَيْمِنِ كُلُّ شَيءٍ فَانِي
وَأَتَى الحَدِيْثُ لِوَارِثِيْكَ فَأَسْرَعُوا ... مِن كُلِّ صَوْبٍ لِلْحُطَامِ الفَانِي
وَأَتَى المُغَسِّلُ والمُكَفِّنُ قَدْ أَتَى ... لِيُجَلِلُوكَ بِحُلِّةِ الأَكْفَانِ
وَيُجَرِّدُوْكَ مِن الثِّيَابِ وَيَنْزَعُوْا ... عَنْكَ الحَرِيْرَ وَحُلَّةَ الكَتَّانِ
وَتَعُودُ فَرْدًا لَسْتَ حَامِلَ حَاجَةٍ ... مِن هَذِه الدُّنْيَا سِوَى الأَكْفَانِ
وَأَتى الحَدِيْثُ لِوَارِثِيْكَ فَأَسْرَعُوا ... فَأَتُوا بِنَعْشٍ وَاهِنَ العِيْدَانِ
صَلُّوا عَلَيْكَ وَأَرْكَبُوكَ بِمَرْكَبٍ ... فَوْقَ الظُّهُورِ يُحَفُ بِالأَحْزَانِ
حَتَّى إِلى القَبْرِ الذِي لَكَ جَهَّزُوا ... وَضَعُوكَ عِنْدَ شَفِيْرِهِ بِحَنَانِ(2/157)
وَدَنَا الأَقَارِبُ يَرْفَعُونَكَ بَيْنَهُم ... لِلَّحْدِ كَي تُمْسِي مَع الدِّيْدَانِ
وَسَكَنَتْ لَحْدًا قَدْ يَضِيْقُ لِضِيْقِهِ ... صَدْرُ الحَلِيمِ وَصَابِرُ الحَيَّوانِ
وَسَمِعَتْ قَرْعَ نِعَالِهِم من بَعْدِ مَا ... وَضَعُوكَ في البَيْتِ الصَّغِيْرِ الثَّانِي
فِيهِ الظَّلامُ كَذا السُّكُونُ مُخَيَّمٌ ... وَالرَّوْحُ رَدَّ وَجَاءَكَ المَلَكَانِ
وَهُنَا الحَقِيْقَةُ وَالمُحَقِقُ قَدْ أَتَى ... هَذَا مَقَامُ النَّصْرِ وَالخُذْلانِ
إِنْ كُنْتَ في الدُّنْيَا لِرَبِّكَ مُخْلِصًا ... تَدْعُوْهُ بِالتَّوحِيْدِ والإِيْمَانِ
فَتَظَلُ تَرْفُلُ في النَّعِيْمِ مُرَفَهًا ... بِفَسِيْحِ قَبْرٍ طَاهِرِ الأَرْكَانِ
وَلَكَ الرَّفِيْقُ عَن الفِرَاقَ مُسَلِيًّا ... يُغْنِي عن الأَحْبَابِ وَالأَخْدَانِ
فُتِحَتْ عَلَيْكَ مِن الجِنَانِ نَوَافِذٌ ... تَأْتِيْكَ بِالأَنْوَارِ وَالرَّيْحَانِ
وَتَظَلُ مُنْشَرِحَ الفُؤادِ مُنَعَمًا ... حَتَّى يَقُومَ إلى القَضَا الثَّقَلانِ
تَأْتِي الحِسَابَ وَقَدْ فَتَحَتْ صَحِيْفَةً ... بِالنُّورِ قَدْ كُتِبَتْ وَبِالرِّضْوَانِ
وَتَرَى الخَلائِقَ خَائِفِيْنَ لِذَنْبِهِم ... وَتَسِيْرُ أَنْتَ بِعِزَّةٍ وَأَمَانِ
وَيُظِلُكَ اللهُ الكريمُ بِظِلِّهِ ... وَالنَّاسُ في عَرَقٍ إِلى الآذَانِ
وَتَرَى الصِّرَاطَ وَلَيْسَ فِيهِ صُعُوبَةٌ ... كَالبَرَقِ تَعْبُرُ فِيهِ نَحْوَ جِنَانِ
فَتَرى الجِنَانَ بِحُسْنِهَا وَجَمَالِهَا ... وَتَرَى القُصُورَ رَفِيْعَةَ البُنْيَانِ
طِبْ في رَغِيْدِ العَيْشِ دُوْنَ مَشَقَّةٍ ... تَكْفِي مَشَقَّةٌ سَالِفِ الأَزْمَانِ
وَالبَسْ ثِيَابَ الخُلْدِ واشْرَبْ وَاغْتَسِلْ ... وَابْعِدْ عَنْ الأَكْدَارِ وَالأَحْزَانِ
سِرْ وانْظُرِ الأَنْهَارَ واشْرَبْ مَاءَهَا ... مِن فَوْقِهَا الأَثْمَارِ في الأَفْنَانِ(2/158)
وَالشَّهْدُ جَارٍ في العُيُونِ مُطَهَرٌ ... مَع خُمْرَةِ الفِرْدَوْسِ وَالأَلْبَانِ
وَالزَّوْجُ حُورٌ في البُيُوتِ كَوَاعِبٌ ... بِيْضُ الوُجُوهِ خَوَامِصُ الأَبْدَانِ
أَبكار شِبْهِ الدَّرِ في أَصْدَافِهِ ... وَاللؤُلُؤ المَكْنُونِ وَالمَرْجَانِ
وَهُنَا مَقَرٌ لا تَحُولَ بَعْدَهُ ... فِيْهِ السُّرُورِ برؤيَةِ الرَّحمنِ
أَمَّا إِذَا مَا كُنْتَ فِيْهَا مُجْرِمًا ... مُتَتَبِعًا لِطَرَائِقِ الشَّيْطَانِ
ثَكِلَتْكَ أمُّكَ كَيْفَ تَحْتَمِلُ الأَذَى ... أَمْ كَيْفَ تَصْبِرُ في لَظَى النِّيْرَانِ
فَإِذَا تَفَرَّقَ عَنْكَ صَحْبُكَ وانْثَنَى ... حُمَّالُ نَعْشكَ جَاءَكَ المَلَكَانِ
جَاءَاك مَرْهُوْبَيْنِ مِن عَيْنَيْهِمَا ... تَرمى بِأَشواظٍ مِنَ النِّيْرَانِ
سَألاكَ عَن رَبٍّ قَدِيْرٍ خَالِقٍ ... وَعَن الذي قَد جَاءَ بِالقُرْآنِ
فَتَقولُ لا أَدْرِي وَكُنْتَ مُصَدقًا ... أَقْوَالُ شِبْهِ مَقَالَةِ الثَّقَلانِ
فَيُوبُخِانِكَ بِالكَلام بِشِدَّةِ ... وَسَيْضَرِبَانِكَ ضَرْبِةَ السَّجَانِ
فَتَصِيْح صَيْحَةَ آسِفٍ مُتَوَجِعٍ ... وَيَجِي الشُّجَاعُ وَذَاكَ هَوْلٌ ثَانِي
وَيَجِي الرَّفِيْقُ فَيَا قَبَاحَة وَجْهِهِ ... فَكَأَنَّهُ مُتَمَردٌ مِن جَانَ
وَتَقُوْلُ يَا وَيْلا أَمَا لي رَجْعَةٌ ... حَتَّى أَحْلَّ بِسَاحَةِ الإِيْمَانِ
لَو عُدْتَ للدُنْيَا لَعُدْتَ لِمَا مَضَى ... في جَانِبِ التَّكْذِيْب والعِصْيَانِ
وأنشد بعضهم:
مُرَادُكَ أنْ يَتِمَّ لَكَ المُرَادُ ... وَتَرْكُضْ في مَطَالِبِكَ الجِيَادُ
وَتَمْضِي فِي أَوَامِرِكَ اللَّيَالِي ... فَلا يُعْصَى هَوَاكَ وَلا يَكَادُ
لَقَدْ مَلَكَتْ مُضْلاتُ الأَمَاني ... قِيَادَكَ فأغْتَدَيْتَ بِهَا تُقَادُ
أَلَمْ تَسْمَعْ بِذِي أَمَلٍ بَعِيْدٍ ... وَآمَالُ الفَتَى منها بِعَادُ(2/159)
رَمَاهُ المَوتُ فَانْقَبَضَتْ إِلِيهِ ... أَمَانِيْهِ بِشَيءٍ لا يُرَادُ
وَيَلْقَاهُ بإِثر المَوتِ يَوْمٌ ... تَمِيْدُ لِهَولِهِ السَّبْعُ الشِّدَادُ
تُصَمُّ لِوَقْعِهِ الآذَانُ صَمًّا ... وَيَنْطِقُ مِنْ زَلازِلِهِ الجَمَادُ
فَكَمْ سَالَتْ هُنَالِكَ مِنْ دُمُوعٍ ... يُغَيَّرهُنَّ مِن دَمِهِ الفُؤادُ
آخر:
هُوَ الموتُ فَاصْنَعْ كُلَّ مَا أَنْتَ صَانِعُ ... وَأَنْتَ لِكَأْسِ المَوتِ لابُدَّ جَارِعُ
ألا أَيُّهَا المَرْءُ المُخَادِعُ نَفْسَه ... رُوَيْدًا أَتَدْرِي مَن أَرَاكَ تُخَادِعُ
وَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا لِغَيْرِ بَلاغِهِ ... سَتَتْرُكُها فانْظُرْ لِمَنْ أَنْتَ جَامِعُ
فَكَمْ قَد رَأَيْتُ الجَامِعِيْنَ قَد أَصْبَحَ ... تْ لَهُم بَينَ أَطْبَاقِ التُّرَابِ مَضَاجِعُ
لَو أَنَّ ذَوِي الأَبْصَارِ يَرْعَونَ كُلمَّا ... يَرَوْنَ لَمَا جَفَّتْ لِعَيْنٍ مَدَامِعُ
طَغَى الناسُ مِن بَعْدِ النَّبِي مُحَمَّدٍ ... فَقَدْ دَرَسَتْ بَعْدَ النَّبي الشَّرَائِعُ
وَصَارَتْ بُطونُ المُرْملاتِ خَمِيْصَةً ... وَأَيْتَامُها منهم طَرِيدٌ وَجَائِعُ
وَإِنَّ بُطُونَ المُكْثِرينَ كَأَنَّمَا ... يُنَقْنِقُ في أَجْوافِهِنَّ الضَّفادِعِ
فَمَا يَعْرفُ العَطْشَانَ مِن طَالَ رَيُّهُ ... ولا يَعِرْفُ الشَّبْعَانُ مَن هُوَ جَائِعُ
وَتَصْرِيْفُ هَذَا الخلقِ للهِ وَحْدَهُ ... وَكُلٌّ إليه لا مَحَالَةَ رَاجِعُ
وَللهِ فِي الدُّنْيَا أَعَاجِيْبُ جَمَّةٌ ... تَدلُ عَلى تَدْبِيرِهُ وَبَدَائِعُ
ولله أَسرارُ الأُمُورِ وَإِنْ جَرَتْ ... بِهَا ظَاهِرًا بَيْنَ العِبَادِ المَنَافِعُ
ولله أَحكَامُ القضاءِ بِعِلْمِهِ ... أَلا فَهْوَ مُعْطٍ مَا يَشَاءُ وَمَانِعُ
إِذَا ضَنَّ مَن تَرْجُو عَلَيْكَ بِنَفْعِهِ ... فَدَعْهُ فإنَّ الرزقَ في الأَرْضِِ وَاسِعُ(2/160)
وَمَن كانَتِ الدُّنيا مُنَاهُ وَهَمُّهُ ... سَبَتْهُ المُنَى واسْتَعْبَدَتْهُ المَطَامِعُ
وَمَن عَقَل اسْتَحْيَى وأكْرَمَ نَفْسَهُ ... وَمَن قَنِعَ اسْتَغْنَى فَهَلْ أَنْتَ قَانِعُ
لِكُلِّ امْرِئ رَأيان رَأيُ يَكُفُّهُ ... عَن الشَّرِ أَحْيانًا وَرَأيٌّ يُنَازِعُ
انتهى
آخر:
لَكَ الحَمْدُ وَالنَّعْمَاءُ وَالمُلْكُ رَبَّنَا ... وَلا شَيْءَ أَعْلا مِنْكَ مَجْدًا وَأَمْجَدُ
مَلِيْكٌ عَلَى عَرْشِ السَّماءِ مُهَيْمِنٌ ... لِعِزَّتِهِ تَعْنُوا الوُجُوهُ وَتَسْجُدُ
فَسُبْحَانَ مَنْ لا يَقْدُرُ الخَلْقُ قَدْرَهُ ... وَمَنْ هُوَ فَوْقَ العَرْشِ فَرْدٌ مُوَحَّدُ
وَمَنْ لَمْ تُنَازِعْهُ الخَلائِقُ مُلْكَهُ ... وَإِنْ لَمْ تُفَرِّدْهُ العِبَادُ فَمُفْرَدُ
مَلِيْكُ السَّمَوَاتِ الشِّدَادِ وَأَرْضِهَا ... وَلَيْسَ بِشَيءٍ عَنْ قَضَاهُ تَأْوُّدُ
هُوَ الله بَارِى الخَلْقِ وَالخَلْقُ كُلُّهُمْ ... إِمَاءٌ لَهُ طَوْعًا جَمِيْعًا وَأَعْبُدُ
وَأَنَّى يَكُوْنُ الخَلْقُ كَالخَالِقِ الذِي ... يُمِيْتُ وَيُحْيِي دَائِبًا لَيْسَ يَهْمَدُ
تَسْبِّحُهُ الطَّيْرُ الجَوَانِحُ فِي الخَفَا ... وَإِذْ هِيَ في جَوِّ السَّمَاءِ تُصَعِّدُ
وَمِنْ خَوْفِ رَبِّي سَبَّحَ الرَّعْدُ فَوْقَنَا ... وَسَبَّحَهُ الأَشْجَارُ وَالوَحْشُ أَبَّدُ
وَسَبَّحَهُ النِّيْنَانُ والبَحْرُ زَاخِرًا ... وَمَا طَمَّ مِنْ شَيءٍ وَمَا هُوَ مُقْلَدُ
أَلا أَيُّهَا القَلْبُ المُقِيْمُ عَلَى الهَوَى ... إِلى أَيِّ حِيْنٍ مِنْكَ هَذَا التَّصَدُّدُ
عَنْ الحَقِّ كَالأَعْمَى المُمِيْطِ عَنْ الهُدَى ... وَلَيْسَ يَرُدُّ الحَقَّ إِلا مُفَنِّدُ
وَحاَلاتُ دُنْيًا لا تَدُوْمُ لأهْلِهَا ... فَبَيْنَ الفَتَى فِيْهَا مَهِيْبٌ مُسَوَّدُ
إِذَا انْقَلَبَتْ عَنْهُ وَزَالَ نَعِيْمُهُا ... وَأَصْبَحَ مِن تُرْبِ القُبُوْرِ يُوَسَّدُ(2/161)
وَفَارَقَ رَوْحًا كَانَ بَيْنَ جِنَانِهِ ... وَجَاوَرَ مَوْتَى مَا لَهُمْ مُتُرَدَّدُ
فَأَيُّ فَتى قَبْلِي رَأَيْتَ مُخَلَّدًا ... لَهُ في قَدِيمِ الدَّهْر مَا يَتَوَدَّدُ
فَلَمْ تَسْلَمْ الدُّنْيَا وإن ظَنَّ أَهْلُهَا ... بِصِحَّتِهَا والدَّهْر قَدْ يَتَجَرَّدُ
أَلَسْتَ تَرَى فِيْمَا مَضَى لَكَ عِبْرَةً ... فَمَهْ لا تَكُن يَا قَلْبُ أَعْمَى يُلَدَّدُ
فَكُنْ خَائِفًا لِلْمَوتِ والبَعْثِ بَعْدَهُ ... وَلا تَكُ مِمَّنْ غَرَّه اليَوْمُ أَوْ غَدُ
فَإِنَّكَ في دُنْيَا غَرُوْرٍ لأَهْلِهَا ... وَفِيْهَا عَدُوٌّ كَاشِحُ الصَّدْرِ يُوْقِدُ
انتهى.
شعرا:
لِمَنْ وَرْقَاءُ بِالوَادِي المَرِيْعِ ... تَشُبُّ بِهِ تَبِارِيْحَ الضُلُوعِ
عَلَى فَيْنَانَةٍ خَضْراءَ يَصْفُوْ ... عَلَى أَعْطَافِهَا وَشيءُ الرَّبِيْعِ
تُرَدِدُ صَوْتَ بَاكِيَةٍ عَلَيها ... رَمَاهَا المَوتُ بِالأَهْلِ الجَمِيْعِ
فَشَتَّتَ شَملَهَا وَأَدَالَ منه ... غَرَامًا عَاثَ في قَلْبٍ صَرِيْعِ
عَجِبْتُ لَهَا تَكَلَّمُ وهي خَرِسَا ... وَتَبْكِي وَهْيَ جَامِدَةُ الدُّمُوْعِ
فَهِمْتُ حَدِيْثَهَا وَفَهِْتُ أَنِّي ... مِن الخُسْران في أَمْرٍ شَنِيْعِ
أَتَبْكِي تِلْكَ أَنْ فَقَدَتْ أَنِيْسًا ... وَتَشْربُ منه بِالكَأْسِ الفَظِيْعِ
وَها أَنَا لَسْتُ أَبْكِي فَقْد نَفْسِي ... وَتَضْيِيْعِ الحَياة مَعَ المُضِيْعِ
وَلَوْ أَنِّي عَقَلْتُ اليَوْمَ أَمْرِي ... لأَرْسَلْتُ المَدامِعَ بِالنَّجِيْعِ
أَلا يَا صَاحِ والشَّكْوَى ضُرُوْبٌ ... وَذِكْرُ المَوتِ يَذْهَبُ بِالهُجُوْعِ
لَعَلَّكَ أَنْ تُعِيْرَ أَخَاكَ دَمْعًا ... فَمَا في مُقْلَتَيْهِ مِن الدُمُوعِ
آخر:
مثل وُقُوفَكَ أَيُّهَا المَغْرُوْرُ ... يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُوْرُ
مَاذَا تَقُولُ إِذَا وَقَفْتَ بِمَوْقِفٍ ... فَرْدًا وَجَاءَكَ مُنْكَرٌ وَنَكِيْرُ(2/162)
مَاذَا تَقُولُ إِذَا وَقَفْتَ بِمَوْقِفٍ ... فَرْدًا ذَلِيْلاً وَالحِسَابُ عَسِيْرُ
وَتَعَلَّقَتْ فِيْكَ الخُصُومُ وَأَنْتَ في ... يَوْمِ الحِسَابِ مُسَلْسَلٌ مَجْرُوْرُ
وَتَفَرَّقَتْ عَنْكَ الجُنُودُ وَأَنْتَ في ... ضِيْقِ القُبُورِ مُوَسّدٌ مَقْبُورُ
وَوَدِدْتَ أَنَّكَ مَا وَلِيْتَ وِلايَةً ... يَوْمًا ولا قَالَ الأَنَامُ أَمِيْرُ
وَبَقِيْتَ بَعْدَ العِزِ رَهْنَ حَفِيْرَةٍ ... في عَالَمِ المَوْتَى وَأَنْتَ حَقِيْرُ
وَحُشِرْتَ عَرْيَانًا حَزِيْنًا بَاكِيًا ... قَلِقًا وَمَا لَكَ في الأنَامِ مُجَيْرُ
أَرَضِيْتَ أَنْ تَحْيَا وَقَلْبُكَ دَارِسٌ ... عَافِي الخَرَابَ وَجِسْمُكَ المَعْمُوْرُ
أَرَضِيْتَ أَنْ يُحْظَى سِوَاكَ بِقُرْبِهِ ... أَبَدًا وَأَنْتَ مُعَذَّبٌ مَهْجُوْرُ
مَهِّدْ لِنَفْسِكَ حُجَّةً تَنْجُو بِهَا ... يَوْمَ المَعَادِ وَيَوْمَ تَبْدُو العُوْرُ
انتهى
آخر:
تَبَيَّنَ ثَغْرُ الفَجْرِ لِمَا تَبَسَّمًا ... فَسُبَحانَ مَنْ في الذِّكْرِ بِالفَجْرِ أَقْسَمَا
فَصَلِ عَلَى المَبْعُوْثِ لِلْخَلْقِ رَحْمَةً ... عَسَى شَمُلتنا أَو لَعَلَّ وَرُبَّمَا
كَما شَمَلَتْ آلَ الرسُولِ وَصَحْبِهِ ... فَاكرمْ بِهِمْ آلا وَصَحْبًا وَأَعظِمَا
أَتَى بالهُدَى نُورًا إِلينا وَنِعْمَةً ... وَقَدْ كَانَ وَجهُ الكَوْنِ بِالشِّرْكِ مُظْلِمَا
فَجَلَّى بِأَنْوارِ الهُدَى كُلَّ ظُلْمَةٍ ... وَأَطْلَعَ في الآفَاقِ لِلْدِيْن أَنْجُمَا
أَتَى بِكِتَابٍ أَعْجَزَ الخلقَ لَفْظُهُ ... فَكلُّ بَلِيْغ عُذْرُهُ صَارَ أَبْكَمَا
تَحَدَّى بِهِ أَهْلَ البلاغَةِ كُلَّهم ... فلم يَفْتَحوا فِيْمَا يُعَارِضُهُ فَمَا
حَوَى كُلَّ بُرهَانٍ عَلى كُل مَطْلَب ... وَيَعْرِفُ هَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ أَفْهَمَا
وَأَخْبَرَ فِيهِ عَنْ عَوَاقِبَ مَن عَصَى ... بِأَنْ لَهُ بَعْدَ المَمَاتِ جَهَنَّمَا(2/163)
وَعَمَّنْ أَطَاعَ الله أَنَّا لَه غَدًا ... نَعِيْمًا بِه مَا تَشْتَهِي النَّفْسُ كُلَّمَا
مُحَمَّدٌ المَبْعُوثُ لِلْخَلْقِ رَحْمَةً ... فَصَلِّ عَليهِ مَا حَييْتَ مُسَلِّمَا
وَأَسَرى به نَحْوَ السَّمَواتِ رَبُّه ... وَأَرْكَبَهُ ظَهْرَ البُرَاقِ وَأَكْرَمَا
وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُها لِصُعُودِه ... فَمَا زَالَ يَرْقَي مِن سَمَاءٍ إلى سَمَا
وَلاقَى بِهَا قَوْمًا مِنَ الرُّسل كُلِّهم ... يَقُولُ لَه يَا مَرْحَبًا حِيْنَ سَلَّمَا
وَكانَ بِه فَرْضُ الصَّلاةِ وَحَبَّذَا ... تَرَدُّدُهُ بَيْنَ الكَلِيْمِ مُكَلِّمَا
وَصَيَّرَهَا مِن بعَدْ ِخَمْسِيْنَ خَمْسَةً ... فُرُوْضًا وَأَمْر الله قَدْ كَانَ مُبْرَمًا
وَعَادَ إلى بَيْتِ أُمِّ هَانِئ مُخْبرًا ... لَهَا بِالذِي قَدْ كَانَ مِنْهُ وَمُعْلِمَا
فَخَافَتْ عَلِيْهِ أَنْ يُكَذِّبَهُ المَلا ... وَيَزْدَادُ مَن في قَلْبِهِ مَرَضٌ عَمَى
فَجَاءَ إِلى البَيْتِ العَتِيْقِ فَأَخْبَر الـ ... عِبَادَ فَمِنْهُم مَنْ بِتَكْذِيْبِهِ رَمَى
وَكَانَ بِه الصِّدِّيقُ خَيرَ مُصدِّقٍ ... فَصَدَّقَ خَيرَ الرُّسْلِ فِي خَبَرِ السَّمَا
مُحَمَّدًا المَبْعُوثَ لِلْخَلْقِ رَحْمَةً ... فَصَلِّ عَلِيهِ مَا حَييتَ مُسَلِّمَا
وَقُمْ حَامِدًا لله فِي كُلِّ حَالَةٍ ... تَجِدْ حَمْدَهُ في يَومِ حَشْرِكَ مَغْنَمَا
وَصَل عَلى المَبْعوثِ لِلْخَلقِ رَحْمَةً ... مُحَمَّدٍ المُخْتَارِ وَالآلِ كُلَّمَا
سَرَى البَرْقُ مِنْ أَرْجَاءِ مَكْةَ أَوْ سَرَى ... نَسِيْمٌ عَلَى زَهْرِ الرُّبَى مُتَبَسِّمَا
ورَضَّى عَلَى الأَصْحَابِ أَصْحَابِ أَحْمَدٍ ... وَكُن لَهُمُ في كُلِّ حِيْنٍ مُعَظِّمًا
انتهى.
ومما قيل في الحث على التمسك بالقرآن الكريم ما قاله الصنعاني:
وَلَيْسَ اغْتِرَابُ الدِّينِ إِلا كَمَا تَرَى ... فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الاغْتِرَابُ إِيَابُ(2/164)
وَلَمْ يَبْقَ لِلرِّاجِي سَلامَةَ دَيْنِهِ ... سِوَى عُزْلةٍ فِيْهَا الجَليسُ كِتَابُ
كِتَابٌ حَوَى كُلَّ العلومِ وَكُلَّمَا ... حَوَاهُ مِن العلمِ الشَّريفِ صَوابُ
فَإِنْ رُمْتَ تَارِيْخًا رَأَيْتَ عَجَائِبًا ... تَرَى آدَمًا إِذْ كَانَ وَهْوَ تُرَابُ
وَلاقَيْتَ هَابِيلاً قَتِيْلَ شَقِيْقِهِ ... يُوارِيْهِ لَمَّا أَنْ أَرَاهُ غُرابُ
وَتَنْظُرُ نَوحًا وَهْوَ في الفُلْكِ قَدْ طَغَى ... عَلَى الأرضِ مِن مَاءِ السَّمَاءِ عُبَابُ
وَإِنْ شِئْتَ كُلَّ الأنْبِيَاءِ وَقَوْمَهُمْ ... وَمَا قَالَ كُُلُّ مِنْهُمُو وَأَجَابُوا
وَجَنَّاتِ عَدْنٍ حُورَهَا وَنَعِيْمَها ... وَنَارًا بِهَا لِلْمُشْرِكِيْنَ عَذَابُ
فَتِلْكَ لأَرْبَابِ التُّقَاءِ وَهَذِه ... لِكُلِّ شَقِي قَد حَوَاهُ عِقَابُ
وَإِنْ تُرِدِ الوَعْظَ الذِي إِنْ عَقِلْتَهُ ... فإنَّ دُموعَ العَيْنِ عَنْهُ جَوَابُ
تَجِدْهُ وَمَا تَهْوَاهُ مِن كُلِّ مَشْرَبٍ ... وَلِلروحَ مِنْهُ مَطْعَمٌ وَشَرَابُ
وَإِنْ رُمْتَ إِبْرَازَ الأَدْلَّةِ في الذِي ... تُرِيْدُ فَمَا تَدْعُو إِليهِ تُجَابُ
تَدُلُّ عَلَى التَّوحِيدِ فِيهِ قَوَاطِعٌ ... بِهَا قُطِّعَتْ لِلْمُلْحِدِينَ رِقَابُ
وما مَطْلَبٌ إِلا وَفِيهِ دَلِيْلُهُ ... وَلَيْسَ عَلِيْهِ لِلْذَّكِي حِجَابُ
وَفِيهِ الدَّواء من كُلَّ دَاءٍ فَثِقْ بِه ... فوالله ما عنه يَنُوبُ كِتَابُ
يُرِيْكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيْمًا وَغَيْرُه ... مَفَاوِزُ جَهْلٍ كُلُّها وَشِعَابُ
يَزِيْدُ عَلَى مَرِّ الجَدِيْدِيْنِ جَدَّةً ... فَأَلْفَاظُه مَهْمَا تَلَوْتَ عِذَابُ
وآياتُهُ في كُلِّ حِيْنٍ طريَّةٌ ... وَتَبْلغُ أَقْصَى العُمْرِ وَهْيَ كِعَابُ
وفيه هُديً لِلْعَامِلينَ وَرَحْمَةٌ ... وَفِيهِ عُلومٌ جَمَّةٌ وَثَوَابُ.
فصل
ثم اعلم وفقنا الله وإياك للاستعداد لما أمامنا من الأهوال والشدائد والكروب والأمور المزعجات.(2/165)
إنه جدير بمن الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والدود أنيسه ومنكر ونكير جليسه، والقبر مقره، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده أن لا يكون له فكر إلا في الموت، ولا ذكر إلا له، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا تطلع إلا إليه، ولا تأهب إلا له، ولاتعريج إلا عليه، ولا اهتمام إلا به، ولا انتظار ولاتربص إلا له.
وحقيق بالعاقل أن يعد نفسه من الموتى ويراها من أصحاب القبور، فإن كل ما هو آت قريب قال الله جل وعلا { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } وقال تبارك وتعالى: { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ } وقال - صلى الله عليه وسلم - «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت» الحديث.
واعلم أنه لو لم يكن في الموت إلا الإعدام وانحلال الأجسام ونسيانك أخرى الليالي والأيام، لكان والله لأهل اللذات مكدرا، ولأصحاب النعيم منغصا ومغيرا، ولأرباب العقول الراجحة عن الرغبة في هذه الدار زاجرا ومنفرا، وللمنهمك في الدنيا وزخارفها منذرا ومزعجا ومحذرا.
قال مطرف بن الشخير: إن هذا الموت نغص على أهل النعيم نعيمهم، فأطلبوا نعيما لا موت فيه، فكيف ووراءه يوم يعد فيه الجواب وتدهش فيه الألباب، وتفنى في شرحه الأقلام والكتاب.
وَلَمْ يَمْرُرْ بِهِ يَوْمٌ فَظِيْعٌ ... أَشَدَّ عَلَيهِ مِن يَوْمِ الحِمَامِ
وَيَوْمُ الحَشْرِ أَفْظَعُ مِنْهُ هَولاً ... إِذَا وَقَفَ الخَلائِقِ بِالمَقَامِ
فَكَمْ مِنْ ظَالِمِ يَبْقَى ذَليلاً ... وَمَظْلُومٍ تَشَمَّرَ لِلْخِصَامِ
وَشَخْصٍ كَانَ في الدُّنْيَا فَقِيْرًا ... تَبَوَّأ مَنْزِلَ النُّجْبِ الكِرَامِ
وَعَفْوُ اللهِ أَوْسَعُ كُلِّ شَيءٍ ... تَعَالَى الله خَلاقُ الأَنَامِ
ومن كلام بعضهم: يا ابن آدم لو رأيت ما حل بك وما أحاط بأرجائك لبقيت مصروعا لما بك، مذهولا عن أهليك وأصحابك.(2/166)
يا ابن آدم أما علمت أن بين يديك يوما يصم سماعه الآذان، ويشيب لروعه الولدان، ويترك فيه ما عز وما هان، ويهجر له الأهلون والأوطان.
يا ابن آدم أما ترى مسير الأيام بجسمك، وذهابها بعمرك، وإخراجها لك من سعة قصرك إلى مضيق قبرك، وبعد ذلك ما لذكر بعضه تتصدع القلوب، وتنضج له الجوانح وتذوب، ويفر المرء على وجهه فلا يرجع ولا يئوب ويود الرجعة وأنى له المطلوب.
قال جلا وعلا وتقدس: { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ } [مريم: 39] وقال تبارك وتعالى: { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } وقال تبارك وتعالى: { هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ } ، وقال عز من قائل: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } وقال: { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } وقال: { وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } وقال تبارك وتعالى: { فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى } وقال تعالى: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ(2/167)
أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } وقال تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ } ، وقال جل وعلا: { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ } وقال تبارك وتعالى: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } .
شعرا:
لأَمْرِ مَا تَصَدَّعَتِ القُلُوبُ ... وَبَاحَ بِسِرِّهَا دَمْعٌ سَكِيْبُ
وَبَاتَتْ في الجَوَانِحِ نَارُ ذِكْرَى ... لَهَا مِن خَارِجٍ أَثَرٌ عَجِيْبُ
وَمَا خَفَّ اللَّبِيْبُ لِغَيْر شَيءٍ ... وَلا أَعْيَا بِمَنْطِقِهِ الأَرِيْبُ
ذَرَاهُ لائِمَاهُ فَلا تَلُوْمَا ... فَرُبَّتَ لائِمٍ فيه يَحُوبُ
رَأَى الأَيَّامَ قَدْ مَرَّتْ عَلَيهِ ... مُرُوْرَ الرِّيْحِ يَدْفَعُهَا الهَبُوبُ
وَمَا نَفَسٌ يَمُرُّ عَلَيهِ إِلا ... وَمِن جُثْمانِهِ فِيهِ نَصِيْبُ
وَبَيْنَ يَدَيْهِ لَوْ يَدْرِي مَقَامٌ ... بِهِ الوِلْدَانُ مِن رَوْعِ تَشِيْبُ
وَهَذَا المَوتُ يِدُنِيْهِ إِليهِ ... كَمَا يُدْني إِلى الهَرَمِ المَشَيْبُ
مَقَامٌ تُسْتَلذُ بِهِ المَنَايَا ... وَتُدْعَي فِيهِ لَوْ كَانَتْ تُجِيْبُ
وَمَاذَا الوصْفُ بَالِغُهُ وَلَكِنْ ... هِي الأَمْثَالُ يَفْهَمُهَا اللَّبِيْبُ(2/168)
اللهم ألهمنا ذكرك ووفقنا للقيام بحقك وبارك لنا في الحلال من رزقك ولا تفضحنا بين خلقك يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج يا قاضي الحاجات ومجيب الدعوات هب لنا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما في ضمائر الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فصل
واعلم أن الموت لن يمنعه منك مانع ولا يدفعه عنك دافع وإن فيه لزاجر للبيب، وشغلا للأريب، ومنبهة للنائم وتنشيطا للمستيقظ
وأنه للطَّالب المدرك، والمتبع اللاحق، والمغير الذي يبعث الطليعة، ويعجل الرجعة، ويسبق النذير العريان، لا يرده باب الحديد الشديد، ولا يمنع عنه البرج العالي المشيد، ولا الجيش اللجب العرمرم، ولا البلد البعيد.
وذكر أحد العلماء أن جبارا من الجبابرة من بني إسرائيل جالس في منزله قد خلا ببعض أهله إذ نظر إلى شخص قد دخل من باب بيته فثار إليه فزعا مغضبا فقال له من أنت ومن أدخلك على داري فقال أما الذي أدخلني عليك الدار فربها وأما أنا فأنا الذي لا يمنع مني الحجاب ولا استأذن على الملوك ولا أخاف صولة السلاطين ولا يمتنع مني كل جبار عنيد ولا شيطان مريد.
قال فسقط في يد الجبار وارتعد حتى سقط على الأرض منكبا على وجه ثم رفع رأسه إليه متحيرا متذللا فقال له: أنت إذًا ملك الموت قال أنا: هو قال فهل أنت ممهلي حتى آخذ عهدا.
قال هيهات انقطعت مدتك وانقضت أنفاسك ونفدت ساعاتك فليس إلي تأخيرك سبيل قال فإلى أين تذهب بي قال إلى عملك الذي قدمته وإلى بيتك الذي مهدته.
قال فإني لم أقدم عملا صالحا ولم أمهد حسنا. قال فإلى { لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى } فسقط مغشيا عليه. فيا لها من حسرة ويا لها من ندامة ويا لها من عثرة لا تقال اهـ.(2/169)
ومات أحد الشجعان فجأة بسكتة قلبية فأنشدت الأبيات التي تلي فيه، فيها عبرة فتدبرها وخذ منها درسا للاستعداد لما أمامك.
وَمُجَرِّرٍ خَطِّيَّةً يَوْمَ الوَغَي ... مُنْسَابَة مِن خَلْفِهِ كَالأَرْقَمِ
تَتَضَاءَلُ الأَبْطَالُ سَاعَةَ ذِكْرِهِ ... وَتَبِيْتُ مِنهُ فِي إِبَاءَةِ ضَيْغَمِ
شَرِسُ المَقَادَةِ لا يَزَالُ رَبِيْئَةٌ ... وَمَتَى يُحَسُّ بنارِ حَرْبٍ يُقْدِمِ
تَقَعُ الفَرِيْسَةُ مِنْهُ في فَوْهَاءَ إِنْ ... يُطْرَحْ بِهَا صُمُّ الحِجَارَةِ يُحْطَمِ
ظَمَآنَ لِدَّمِ لا يَقُومُ بِريِّهِ ... إِلا المُرَّوقُ في الجُسُومِ مِن الدَّمِ
جَاءَتْهُ مِن قَبْلِ المَنُونِ إِشَارَةٌ ... فَهَوَى صَرِيْعًا لِلْيَديْنِ وَلِلْفَمِ
وَرَمَى بِمُحْكَمِ دِرْعَهِ وَبُرمْحِهِ ... وَامْتَدَّ مُلْقى كَالبَعِيْرِ الأَعْظَمِ
لا يَسْتَجِيْبُ لِصَارِخٍ إِنْ يَدْعُهُ ... أَبَدًا وَلا يُرْجَى لِخَطْبٍ مُعْظَمِ
ذَهَبَتْ بِسَالَتُهُ وَمَرَّ غَرَامُهُ ... لَمَّا رَأَى خَيْلَ المَنِيَّةِ تَرْتَمِي
يَا وَيْحَهُ مِن فَارِسٍ مَا بَالُهُ ... ذَهَبَتْ فُرُوْسَتُهُ وَلَمَّا يُكْلَمِ
هَذِي يَدَاهُ وَهَذِه أَعْضَاؤُهُ ... مَا مِنْهُ مِنْ عُضْوٍ غَدَا بِمُثَلَّمِ
هَيْهَاتَ مَا خَيْلُ الرَّدَي مُحْتَاجَةٌ ... لِلْمَشْرَفِيِّ وَلا السِّنَانِ اللَّهذَمِ
هِي وَيْحَكُمْ أَمْرُ الإِلهِ وَحُكْمُهُ ... وَاللهُ يَقْضِيْ بِالقَضَاءِ المُحْكَمِ
يَا حَسْرةً لَو كَانَ يُقدَرُ قَدْرُهَا ... وَمُصيْبَة عَظَمَتْ وَلَمَّا تَعْظُمِ
خَبَرٌ عَلِمْنَا كُلُّنَا بِمَكَانِهِ ... وَكَأَنَّنَا في حَالِنَا لَمْ نَعْلَمِ
ومن ما ينسب للإمام علي رضي الله عنه:
أَحُسَيْنُ إِنِّي وَاعِظٌ وَمَؤَدِّبُ ... فَافْهَمْ فَإِنَّ العَاقِلَ المُتَأَدِّبُ
وَاحْفَظْ وَصِيَّةَ وَالدِ مُتَحَنِّنِ ... يَغْذُوْكَ بِالآدَابِ كَلا تَعْطَبُ(2/170)
أَبُنَيَّ إِنَّ الرَّزِقَ مَكْفُوْلٌ بِهِ ... فَعَلَيْكَ بِالإجْمَالِ فِيمَا تَطْلُبُ
لا تَجْعَلَنَّ المَالَ كَسْبَكَ مُفْردَا ... وَتُقَى إِلهكَ فَاجْعَلَنْ مَا تَكْسِبُ
كَفَلَ الإِلَهُ بِرِزْقِ كُلِّ بَرِيَّةٍ ... وَالمَالُ عَارِيَةٌ تَجِيءُ وَتَذْهَبُ
وَالرِّزْقُ أَسْرَعُ مِن تَلَفُتِ نَاظِرٍ ... سَبَبًا إِلى الإِنْسَانِ حِيْنَ يُسبَّبُ
وَمِنْ السُيُولِ إِلى مَقَرِّ قَرَارِهَا ... وَالطَّيْرِ لِلأَوْكَارِ حِيْنَ تَصَوَّبُ
أَبُنَّيَ إِنَّ الذِّكْرَ فِيهِ مَوَاعِظٌ ... فَمَنْ الذِي بِعِظَاتِهِ يَتَأَدَّبُ
اقْرأ كِتَابَ الله جَهْدَكَ وَاتْلُهُ ... فِيْمَنْ يَقُوْمُ به هُنَاكَ وَيَنْصِبُ
بِتَكَرُرٍ وَتَخَشُّعٍ وَتَقَرُّبٍ ... إِنَّ المُقَرَّبَ عِنْدَهُ المُتَقَرِّبُ
وَاعْبُدْ إِلهكَ ذَا المَعَارِج مُخْلِصًا ... وَأَنْصِتْ إِلى الأَمْثَالِ فِيْمَا تُضْرَبُ
وَإِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ مُخْشِيَةٍ ... تَصِفُ العَذَابِ فَقِفْ وَدَمْعُكَ يَسْكُبُ
يَا مَن يُعَذِبُ مَن يَشَاءُ بِعَدْلِهِ ... لا تَجْعَلِّنِي في الذِينَ تُعَذِّبُ
إِنِّي أَبُوْءُ بِعَثْرَتِي وَخَطِيْتِي ... هَرَبًا وَهَلْ إِلاَّ إِليْكَ المَهَربُ
وَإِذَا مَرَرْتَ بآيَةٍ في ذِكْرِهَا ... وُصِفَ الوَسِيْلةُ وَالنَّعِيْمُ المُعْجِبُ
فَاسْأَلْ إِلهكَ بِالإِنَابَةِ مُخْلِصًا ... دَارَ الخُلُودِ سُؤال مَن يَتَقَرَّبُ
وَاجْهَدْ لَعَلَّكَ أَنْ تَحِلَّ بِأَرْضِهَا ... وَتَنَالَ رَوْحَ مَسَاكِنٍ لا تَخْرَبُ
وَتَنَالَ عَيْشًا لا انْقِطَاعَ لِوَقْتِهِ ... وَتَنَالَ مُلْكَ كَرَامةِ لا تُسْلَبُ
بَادِرْ زَمَانَكَ إِنْ هَمَمْتَ بِصَالِحٍ ... خَوْفَ الغَوَالِب إِذْ تَجِيءُ وَتَذْهَبُ
وَإِذَا هَمَمْتَ بِسَيئٍ فَاغْمِضْ لَهُ ... وَتَجنَّبِ الأَمْرِ الذِي يُتَجَنَّبُ(2/171)
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْصَّدِيْقِ وَكُنْ لَهُ ... كَأَبٍ عَلَى أَوْلادِهِ يَتَحَدَّبُ
وَالضَّيْفَ أَكْرِمْ مَا اسْتَطَعْتَ جِوَارَهُ ... حَتَّى يَعُدُّكَ وَارِثًا يُتَنَسَّبُ
وَاجْعَلْ صَدِيْقَكَ مَن إِذَا آخَيْتَهُ ... حَفِظ الإِخَاءَ وَكَانَ دُوْنَكَ يَضْرِبُ
وَاطْلُبْهُمُوْا طَلَبَ المَرِيْضِ شِفَاءَهُ ... وَدَعِ الكَذوْبَ فَلَيْسَ مِمَّنْ يُصْحَبُ
وَاحْفَظْ صَدِيْقَكَ فِي المَوَاطِنِ كُلِّهَا ... وَعَلَيْكَ بِالمَرْءِ الذِي لا يَكْذبُ
وَاقْلِ الكَذُوْبَ وقُرْبَهُ وَجِوَارَهُ ... إِنَّ الكَذُوْبَ مُلَطِّخٌ مَن يَصْحَبُ
يُعْطِيْكَ مِن فَوْقِ المُنَى بِلِسَانِهِ ... وَيَرُوْغ عَنْكَ كَمَا يَروغُ الثَّعْلَبُ
وَاحْذَرْ ذَوِي المَلْقِ اللِّئَامِ فَإِنَّهُم ... في النَّائِبَاتِ عَلَيْكَ مِمَّنْ يَحْطِبُ
يَسْعَوْنَ حَوْلَ المَرْءِ مَا طَمِعُوا بِهِ ... وَإِذَا نَبَا دَهْرٌ جَفَوْا وَتَغَلَّبُوا
وَلَقَدْ نَصَحْتُكَ إِنْ قَبِلْتَ نَصِيْحَتِي ... وَالنُّصْحُ أَرْخَصُ مَا يُبَاعُ وَيُوْهَبُ
آخر:
حيلُ البِلَى تَأْتِي عَلَى المُحْتَالِ ... وَمَسَاكِنُ الدُّنْيَا فَهُنَّ بَوَالِ
شُغِلَ الأُلي كنَزُوا الكُنوزَ عَن التُّقى ... وَسَهَو بِبَاطِلِهِم عَنِ الآجَالِ
سَلِّم عَلَى الدُّنْيَا سَلامَ مُودِّعٍ ... وَارْحَلْ فَقَدْ نُودِيتَ بالتِّرْحالِ
مَا أَنْت يَا دُنْيَا بِدَارِ إِقَامَةٍ ... مَا زِلْتِ يَا دُنْيا كَفَيءِ ظِلالِ
وَخَفَفْتِ يَا دُنْيا بِكُلّ بَلِيِّةٍ ... وَمُزِجْتِ يَا دُنْيَا بِكُلِّ وَبَالِ
قَدْ كُنْتِ يَا دُنْيا مَلَكْتِ مَقادَتِي ... فَقَرَيْتِيني بوَساوِس وَخَبَالِ
حَوَّلْتِ يَا دُنْيَا جَمَالَ شَبِيْبَتِي ... قُبْحًا فَماتَ لِذَاكَ نُورُ جَمَالِي
غَرَسَ التَّخَلُّصُ مِنكِ بَيْنَ جَوانِحِي ... شَجَرَ القَنَاعَةِ والقَنَاعةُ مَالِي(2/172)
الآنَ أَبْصَرْتُ الضَلالَةَ وَالهُدَي ... والآنَ فِيْكَ قَبِلْتُ مِن عُذَّالِي
وَطويْتُ عَنْكِ ذُيُولَ بُرْدَيْ صَبْوَتِي ... وَقَطَعْتُ حَبْلَكِ مِن وِصَالِ حِبَالِي
وَفَهِمْتُ مِن نُوَبِ الزَّمانِ عِظَاتِهَا ... وَفَطِنْتُ لِلأَيَامِ وَالأَحْوَالِ
وَمَلَكْتُ قَوْدَ عِنانِ نَفْسِي بالهُدى ... وَطَوَيْتُ عَن تَبْعِ الهَوَى أَذْيَالِي
وَتَنَاوَلْت فِكْري عَجَائِبُ جَمَّةٌ ... بِتَصَرُّفٍ فِي الحالِ بَعْدَ الحالِ
لَمَّا حَصلتْ عَلى القَنَاعةِ لَم أَزَلْ ... مَلِكًا يَرَى الإِكْثَار كالإِقْلالِ
إِنَّ القَنَاعةَ بِالكِفَافِ هِيَ الغِنَى ... والفَقْرُ عَينُ الفَقْرِ في الأَمْوَالِ
مَن لَم يَكُنْ فِي اللهِ يَمَنَحُكَ الهَوَى ... مَزَجَ الهَوَى بِمَلالَةٍ وَثِقالٍ
وَإِذَا ابْنُ آدَمَ نَالَ رِفْعَةَ مَنْزِلٍ ... قُرِنَ ابْنُ آدَمَ عِنْدَها بسِفَالِ
وإذا الفَتَى حَجَبَ الهَوَى عَن عَقْلِه ... رَشَدَ الفَتَى وَصَفَا مِن الأَوْحَالِ
وإذا الفَتَى لَزِمَ التَّلَوُّنِ لَمْ يَجِدْ ... أَبَدًا لَهُ، في الوَصْلِ طعمَ وِصَالِ
وَإِذَا تَوَازَنَتِ الأُمُورِ لِفَضْلِهَا ... فَالدِّينُ مِنْهَا أَرْجَحُ المِثْقَالِ
أَمْسَتْ رِيَاضُ هُداكَ مِنْكَ خَوَالِيًا ... وَرِيَاضُ غَيِّكَ مِنْكَ غَيرُ خَوَالِ
قَيِّدْ عَنِ الدُّنْيَا هَوَاكَ بِسَلْوَةٍ ... وَاقْمَعْ نَشَاطَكَ فِي الهَوَى بِنَكالِ
وَبِحَسْبِ عَقْلِكَ بالزَّمانِ مُؤدِّبًا ... وَبِحْسِبِه بِتَقَلُّبِ الأَحْوالِ
بَرِّدْ بيأسِكَ عَنْكَ حُرَّ مَطَامِعٍ ... قَدَحَتْ بِعَقْلِكَ أَثْقَبَ الأَشْعَالِ
قَاتِلْ هَوَاكَ إِذَا دَعَاكَ لِفِتنَةٍ ... قَاتِلْ هَوَاكَ هُنَاكَ كُلَّ قِتالِ
إِنْ لَمْ تَكُنْ بَطَلاً إِذَا حميّ الوَغَي ... فَاحْذَرْ عَلَيْكَ مَوَاقِفَ الأَبْطَالِ(2/173)
اخْزَنْ لِسَانَكَ بالسُّكوتِ عَنِ الخَنَى ... وَاحْذَرْ عَلَيْكَ عَوَاقِبَ الأَقْوَالِ
وَإِذَا عَقَلْتَ هَوَاكَ عَن هَفَوَاتِهِ ... أَطْلَقْتَهُ مِن شِيْنِ كُلِّ عِقَالِ
وَإِذَا سَكَنْتَ إِلى الهُدَى وَأَطَعْتَهُ ... أُلْبِسْتَ حِلَّةَ صَالحِ الأَعْمَالِ
وَإِذَا طَمِعْتَ لَبِسْتَ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ ... إِنَّ المَطَامِعَ مَعْدِنُ الإِذْلالِ
وَإِذَا سَحَبْتَ إِلى الهَوَى أَذْيَالَهُ ... كَسَبَتْ يَداكَ مَوَدَّةَ الجُهَالِ
وَإِذَا حَلَلْتَ عَنْ اللِّسانِ عِقَالَهُ ... أَلقَاك مِن قِيْلٍ عَلَيْكَ وَقَالِ
وَإِذَا ظَمِئْتَ إِلى التُّقَى أَسْقَيْتَهُ ... مِنْ مَشْرَبٍ عَذْبِ المَذاقِ زُلالِ
وَإِذَا ابْتُليتَ بِبَذْلِ وَجْهِكَ سَائِلاً ... فَابْذُلْهُ لِلْمُتَكَرّمِ المِفْضَالِ
إِن الشَّرِيفَ إِذَا حَباكَ بِوَعْدِهِ ... أَعْطَاكَهُ سَلِسًا، بِغَيرِ مِطالِ
مَا اعْتَاضَ باذِلُ وَجْهِهِ بِسُؤالِهِ ... عِوضًا وَلَوْ نَالَ الغِنَى بِسُؤالِ
عَجَبًا عَجِبْتُ لِمُوْقِنِ بِوَفَاتِهِ ... يَمْشِيِ التَّبَخْتُرَ مِشْيَةَ المُخْتَالِ
رَجَّ العُقُولَ الصَّافِياتِ فإنها ... كَنْزُ الكُنُوزِ وَمَعْدِنُ الإِفْضَالِ
صَافِ الكِرَامَ فإنها أَهْلُ النُّهَى ... وَاحْذَرْ عَلَيْكَ مَوْدَةَ الأَنْذَالِ
صِلْ قاطِعيكَ وَحَارِمِيكَ وَأَعْطِهِم ... وَإِذَا فَعَلْتَ فَدُم بِذَاكَ وَوَالِ
وَالمَرءُ لَيْسَ بِكَامِلٍ فِي قَوْلِهِ ... حَتَّى يُزَيِّنَ قَوْلَهُ بِفَعالِ
وَلَرُبَّما ارْتَفَعَ الوَضِيعُ بِفِعِلهِ ... وَلَرُبَّما سَفَلَ الرَّفيعُ العَالِي
كَمْ عِبْرَةٍ لِذَوي التَّفَكُّرِ والنُّهَى ... في ذا الزَّمانِ وَذَا الزَّمَانِ الخَالِي
كَمْ مِن ضَعِيْفِ العَقْلِ زَيَّنَ عَقْلَهُ ... مَا قَدْ رَعَى وَوَعَي مِنَ الأَمْثَالِ
كَمْ مِنْ رِجَالٍ فِي العُيونِ وَمَا هُمُ ... في العَقْلِ إِنْ كَشَفَّتَهُم بِرِجَالِ
آخر:(2/174)
إِنِّي أرِقتُ وَذِكْرُ المَوتِ أَرَّقَني ... وَقُلتُ لِلْدَّمْعِ: أَسْعِدْنِي فَأَسْعَدَنِي
يَا مَنْ يَمُوتُ فَلَمْ يَحزَنْ لِمِيْتَتِهِ ... وَمَنْ يَمُوتُ فَمَا أَوْلاهُ بِالحزَنِ
تَبْغِي النَّجاةَ مِنَ الأَحْدَاثِ مُحْتَرسًا ... وَإِنَّما أَنْتَ وَالعِلاتُ في قَرَنِ
يَا صَاحبَ الرُّوحِ ذِي الأَنْفَاسِ في البدن ... بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ مُرْتَهَنِ
لَقَلَّمَا يَتَخَطَّاكَ اخْتَلافُهُمَا ... حَتى يُفَرِّقَ بَيْن الرُّوحِ وَالبَدَنِ
طِيبُ الحَيَاةِ لمن خَفَّت مَؤونَتُهُ ... وَلَمْ تَطِبْ لِذَوِي الأَثْقَالِ وَالمُؤنِ
لَمْ يَبْقَ مِمَّنْ مَضَى إِلا تَوَهُّمُهُ ... كَأنَّ من قد قَضَى بِالأَمْسِ لم يَكُنِ
وَإِنَّمَا المَرْءُ في الدُّنْيَا بِسَاعَتِهِ ... سَائِلْ بِذَلِكَ أَهْلَ العِلْمِ وَالزَّمنِ
مَا أَوْضَحَ الأَمْرَ للمُلْقي بِعبرتِهِ ... بَينَ التَّفَكر وَالتَّجريبِ وَالفطَنِ
أَلَسْتَ يَا ذَا تَرَى الدُّنْيَا مُوَلِيَّةً ... فَمَا يَغُرَّكُ فِيْهَا مِنْ هَنٍ وَهَنِ
لأَعْجَبَنَّ وَأَنَّى يَنْقَضِي عَجَبِي ... النَّاس في غَفلَةٍ وَالمَوْتُ في سَننِ
وَظَاعِنٍ من بَياضِ الرَّبْطِ كُسْوَتُهِ ... مُطَيَّبٍ لِلْمَنَايَا غَيْرَ مُدَّهَنِ
غَادَرْتُهُ بَعْدَ تَشَييعهِ مُنْجَدلاً ... في قرب دَارٍ وفي بُعْدٍ عن الوَطَنِ
لا يَسْتَطِيْعُ انْتِقَاصًا في مَحَلَّتِهِ ... من القَبِيْح وَلا يَزْدادُ في الحسنِ
الحمدُ لله شُكْرًا، مَا أَرَى سَكَنًا ... يَلْوي بِبُحْبُوحَة الموتَى على سَكَنِ
مَا بَالُ قَوْمٍ وَقَدْ صَحّتْ عُقولُهم ... فِيْمَا ادْعَوْا يَشْتَرَوْنَ الغَيَّ بِالثَّمَنِ
لَتَجْذبنِي يَدُ الدُّنْيا، بِقُوتِهَا ... إلى المَنَايَا وَإِنْ نَازَعْتُهُا رَسَني
وأي يومٍ لِمَنْ وَافَي مَنِيَّتَهُ ... يومٌ تَبَيَّنُ فيه صُورَةُ الغَبَنِ(2/175)
لله دُنْيَا أُنَاسٍ دَائِبِيْنَ لَهَا ... قَد أرْتِعُوا في رِياضِ الغَيِّ وَالفتَنِ
كَسَائِمَاتٍ رَوَاع تَبْتَغي سَمَنًا ... وَحَتفُها لَو دَرَتْ في ذَلِكَ السِّمَنِ
آخر:
تَبَارَك مَنْ عَمَّ الوَرَى بِنَوَالِهِ ... وَأَوسَعَهُم فَضْلاً بِإِسْبَاغِ نِعْمَةِ
وَقَدَّرَ أَرْزَاقًا لَهُمْ وَمَعَايِشًا ... وَدَبَّرَهُم في كُلِّ طَوْرٍ وَنَشْأَةِ
أَحَاطَ بِهِمْ عِلْمًا وَأَحْصَى عَدِيْدَهُم ... وَصَرَّفَهُم عَن حِكْمَةٍ وَمَشِيْئَةِ
ولله بين المُؤْمِنِيْنَ وَمِنْهُم ... بِكُلِّ زَمَانٍ كَمْ مُنِيْبٍ وَمُخْبِتِ
وَكَمْ سَالِكٍ كَمْ نَاسِكٍ مُتَعَبِّدٍ ... وَكَمْ مُخْلِصٍ في غَيْبِهِ والشَّهَادَةِ
وَكَمْ صَابِرٍ كَمْ صَادِقٍ مُتَبَتِلٍ ... إلى الله عَنْ قَصْدٍ صَحِيْحٍ وَنِيَّةِ
وَكَمْ قَانِتٍ أَوَّابَ في غَسَقِ الدُّجَى ... مِنَ الَخْوفِ مَحْشُوُ الفُؤَادِ وَمُهْجَةِِ
يُنَاجِي بِآيَاتِ القُرْآنِ إِلَهَهُ ... بِصَوْتٍ حَزِيْنٍ مَعْ بُكَاءٍ وَخَشْيَةِ
وَكَمْ ضَامِرِ الأَحْشَاءِ يَطْوِي نَهَارَهُ ... بِحَرِ هُجَيْرٍ مَا تَهَنَّا بِشَرْبَةِ
وَكَمْ مُقْبِلٍ في لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ ... عَلَى طَاعَةِ المَوْلَى بِجِدٍّ وَهِمَّةِ
وَكَمْ زَاهِدٍ في هَذِهِ الدَّارِ مُعْرِضٍ ... وَمُقْتَصِرٍ منها عَلَى حَدِ بُلْغَةِ
تَزَيَّنَتِ الدُّنْيَا لَهُ وَتَزَخْرَفَتْ ... فَغَضَّ وَلَمْ يَغْتَرَّ مِنْهَا بِزِيْنَةِ
وَكَمْ عَالِمٍ بِالشَّرْعِ لله عَامِلٌ ... بِمُوجَبِهِ في حَالِ عُسْرٍ وَيُسْرَةِ
وَكَمْ آمرٍ بِالرُّشْدِ نَاهٍ عَنْ الرَّدَى ... سَرِيْعٍ إلى الخَيْرَاتِ مِنْ غَيْرِ فَتْرَةِ
فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيْدًا مُوَفَّقًا ... وَتُحْظَى بِفَوزٍ عِنْدَ نَشْرِ الصَّحِيْفَةِ
فَحَافِظْ عَلَى المَفْرُوْضِ مِنْ كُلِّ طَاعَةٍ ... وَأَكْثِرْ مِنَ النَّفْلِ المُفِيْدِ لِقُرْبَةِ(2/176)
بِكُنْتُ لَه سَمْعًا إِلى آخِرِ النَّبَا ... عَنِ الله في نَصِّ الرَّسُولِ المُثَبتِ
وَكُنْ في طَعَام ٍوالمَنَامِ وَخِلْطَةٍ ... وَنُطْقٍ عَلَى حَدِّ اقْتِصَارٍ وَقِلَّةِ
وَجَالِسْ كِتَابَ اللهِ وَاحْلُلْ بِسَوْحِهِ ... وَدُمْ ذَاكٍرًا فَالذِّكْرُ نُوْرُ السَّرِيْرَةِ
عَلَيْكَ بِهِ في كُلِّ حِيْنٍ وَحَالَةٍ ... وَبِالفِكْرِ إِنَّ الفِكْر كُحْلُ البَصِيْرَةِ
وَكُنْ أَبَدًا في رَغْبَةٍ وَتَضَرُعٍ ... إِلى اللهِ عَن صِدْقِ افْتِقَارٍ وَفَاقَةِ
وَوَصْفِ اضْطِرَارٍ وَانْكِسَارٍ وَذِلَةٍ ... وَقَلْبٍ طَفُوْحٍ بالظُنُوْنِ الجَمِيْلَةِ
وَبَعْدُ فَإِنَّ الحَقَّ أَفْضَلُ مَسْلَكٍ ... سَلَكْتَ وَتَقْوَى الله خَيْرُ بِضَاعَةِ
وَمَن ضَيَّعَ التَّقْوى وَأَهْمَلَ أَمْرِهَا ... تَغَشَتْهُ في العُقْبَى فُنُونُ النَّدَامَةِ
وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا قُصَارَى مُرَادِهِ ... فَقَدْ بَاءَ بِالخُسْرَانِ يَومَ القِيَامَةِ
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ في طَاعَةِ الله شُغْلُهُ ... عَلَى كُلِّ حَالٍ لا يَفُوزُ بِبُغْيَةِ
وَمَنْ أَكْثَر العِصْيَانِ مِن غَيْرِ تَوبةٍ ... فَذَاكَ طَرِيْحٌ في فَيَافِي الغِوَايَةِ
بَعِيْدٌ مِنَ الخَيْرَاتِ حَلَّ بِه البَلا ... وَوَاجَهَهُ الخُذْلانُ من كُلِّ وِجْهَةِ
تَنَكَّبَ عَجْزًا عَنْ طَرِيْقِ عَزِيْمَةٍ ... وَمَالَ لِتَأوِيْلٍ ضَعِيْفٍ وَرُخْصَةِ
يَهِمُّ بِلا جِدِّ وَلَيْسَ بِنَاهِضٍ ... عَلى قَدَم التَشْمِيْرِ مِنْ فَرْطِ غَفْلَةِ
وَقَدْ سَارَ أَهْلُ العَزْمِ وَهُوَ مُخَلَّفٌ ... وَقَدْ ظَفِرُوا بِالقُربِ مِنْ خَيْرِ حَضْرَةِ
وَقَدْ أَدْرَكُوا المَطْلُوبَ وَهْو مُقَيَّدٌ ... بِقَيْدِ الأَمَانِي وَالحُظُوظِ الخَسِيْسَةِ
وَلَمْ يَنْتَهِزْ مِن فَائِتِ العُمْرِ فُرْصَةً ... وَلَم يَغْتَنِمْ حَالَي فَرَاغٍ وَصِحَّةِ(2/177)
عَجِبْتُ لِمَنْ يُوْصِي سِوَاهُ وَإِنَّهُ ... لأَجَدْرُ مِنْهُ بِاتْبَاعِ الوَصِيَّةِ
يَقُولُ بِلا فِعْلٍ وَيَعْلَمُ عَامِلاً ... عَلَى ضِدِّ عِلْمٍ يَا لَهَا مِن خُسَارَةِ
عُلُومٌ كَأَمْثَالِ الجِبَالِ تَلاطَمَتْ ... وَأَعْمَالُهُ في جَنْبِهَا مِثلُ قَطْرَةِ
وَقَدْ أَنْفَقَ الأَيَّامَ في غَيْرِ طَائِلٍ ... كَمِثْلِ اللَّيَالِي إِذَا تَقَضَّتْ وَوَلَّتِ
عَلَى السَّوْفِ والتَّسْوِيْفِ شَرُّ مُصَاحِبٍ ... وَقَوْلِ عَسَى عَنْ فَتْرَةِ وَبَطَالَةِ
وَلَمْ يَخْشَى أَنْ يَفْجَاهُ مَوتٌ مُجَهِّزٌ ... فَإِنَّ مَجِيءَ المَوْتِ غَيْرُ مُؤَقِّتِ
وَلَمْ يَتَأَهَّبْ لِلرُّجُوْعِ لِرَبِّهِ ... وَلَمْ يَتَزَوَّدْ لِلْطَّرِيْقِ البَعِيْدَةِ
وَبَينَ يَدَيْهِ المَوْتُ وَالقَبْرُ وَالبَلَى ... وَبَعْثٌ ومِيْزَانٌ وَأَخْذُ الصَّحِيْفَةِ
وَجَسْرٌ عَلَى مَتْن الجَحِيْمِ وَمَوْقِفٌ ... طَوِيْلٌ وَأَحْوَالُ الحِسَابِ المَهُوْلَةِ
وَلَكِنَّهُ يَرْجُو الذِي عَمَّ جُوْدُهُ ... وَإِحْسَانُهُ وَالفَضْلُ كُلَّ الخَلِيْقَةِ
إله رَحِيمٌ مُحْسِنٌ مُتَجَاوِزٌ ... إِليْهِ رُجُوعِي في رَخَائِي وَشِدَّتِي
غِيَاثِي إِذَا ضَاقَتْ عَلَيَّ مَذَاهِبِي ... وَمِنْهُ أرَجِّى كَشْفَ ضَرِّي وَمِحْنَتِي
فَيَا ربُّ ثَبِتْنَا عَلَى الحَقِ وَالهُدَى ... وَيَا رَبَّنَا اقْبِضْنَا عَلَى خَيْرِ مِلَّةِ
وَعُمَّ أُصُولاً وَالفُرُوعَ بِرَحْمَةٍ ... وَأَهْلاً وَأَصْحَابًا وَكُلَّ قَرَابَةِ
وَسَائِرَ أَهْلَ الدِّيْنِ مِن كُلِّ مُسْلِمٍ ... أَقَامَ لَكَ التَّوْحِيْدَ مِن غَيْرِ رِيْبَةِ
وَصَلِّ وَسَلِّم دَائمَ الدَّهْرِ سَرْمَدَا ... عَلَى خَيْرِ مَبْعُوْثٍ إِلى خَيْرِ أُمَّةِ
شعرا:
أَسِيْرُ الخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ يَقْرَعُ ... يَخَافُ وَيَرْجُو الفَضْلَ فَالفَضْلُ أَوْسَعُ(2/178)
مُقِرُّ بِأَثْقَالِ الذُّنُوبِ وَمُكْثِرٌ ... وَيَرْجُوكَ فِي غُفْرانِهَا فَهْوَ يَطْمَعُ
فَإِنَّكَ ذُوْ الإِحْسَانِ وَالجُوْدِ وَالعَطَا ... لَكَ المَجْدُ وَالإِفْضَالُ وَالمَنُّ أَجْمَعُ
فَكُمْ مِن قَبِيْحٍ قَدْ سَتَرْتَ عَنَ الوَرَى ... وَكَمْ نِعَمٌ تَتْرَى عَلَيْنَا وَتَتْبَعُ
وَمَنْ ذَا الذِي يُرْجَى سِوَاكَ وَيُتَّقَى ... وَأَنْتَ إِلهُ الخَلْقِ مَا شِئْتَ تَصْنَعُ
فَيَا مَنْ هُوَ القُدُّوْسُ لا رَبَّ غَيْرَهُ ... تَبَارَكْتَ أَنْتَ الله لِلْخَلْقِ مَرْجِعُ
وَيَا مَنْ عَلَى العَرْشِ اسْتَوى فَوْقَ خَلْقِهِ ... تَبَارَكْتَ تُعْطِي مَنْ تَشَاءُ وَتَمْنَعُ
بِأَسْمَائِكَ الحُسْنَى وَأَوْصَافِكَ العُلَى ... تَوَسَّلَ عَبْدٌ بَائِسٌ يَتَضَرَّعُ
أَعِني على المَوْتِ المَرِيْرَةِ كأْسُهُ ... إِذَا الرُّوحُ مِنْ بَيْنِ الجَوانِحِ تُنْزَعُ
وَكُنْ مُؤْنِسِي في ظُلْمَةِ القَبْرِ عِنْدَمَا ... يُرَكَّمُ مَنْ فَوْقِي التُّرَابُ وَأَوْدَعُ
وَثَبِّتْ جَنَانِي لِلسُّؤَالِ وَحُجَّتِي ... إِذَا قِيْلَ مَنْ رَبٌّ وَمَنْ كُنْتَ تَتْبَعُ
وَمِنْ هَوْلِ يَوْمٍ الحَشْرِ وَالكَرْبِ نَجَّنِي ... إِذَا الرُّسْلُ وَالأَمْلاكُ وَالنَّاسُ خُشَّعُ
وَيَا سَيِّدِي لا تُخزنِي في صَحِيْفَتِي ... إِذَا الصَّحْفُ بَيْنَ العَالَمِيْن تُوَزَّعُ
وَهَبْ لِي كِتَابِي بِاليَمِيْنِ وَثَقّلنْ ... لِمِيْزَانِ عَبْدٍ فِي رَجَائِكَ يَطْمَعُ
وَيَا رَبِّ خَلِّصْنِي مِن النَّارِ إِنَّهَا ... لَبِئْسَ مَقَرُّ لِلْغُوَاةِ وَمَرْجِعُ
أَجِرْنِي أَجِرْنِي يَا إِلَهِي فَلَيْسَ لِي ... سِوَاكَ مَفَرُّ أَوْ مَلاذٌ وَمَفْزَعُ
وَهَبْ لِي شِفَاءً مِنْكَ رَبِّي وَسَيِّدِي ... فَمَنْ ذَا الذِي لِلْضُّرِّ غَيْرُكَ يَدْفَعُ
فَأَنْتَ الذِي تُرْجَي لِكَشْفِ مُلَمَّةٍ ... وَتَسْمَعُ مُضْطَّرًا لِبَابِكَ يَقْرَعُ(2/179)
فَقَدْ أَعْيَتِ الأَسْبَابُ وَانْقَطَعَ الرَّجَا ... سِوَى مِنْكَ يَا مَنْ لِلْخَلائِقِ مَفْزَعُ
إِلَيْكَ إِلهي قَد رَفَعْتُ شِكَايَتِي ... وَأَنْتَ بِمَا أَلْقَاهُ تَدْرِي وَتَسْمَعُ
فَفَرِّجْ لَنَا خَطْبًا عَظِيْمًا وَمُعْضِلاً ... وَكَرْبًا يَكَادُ القَلْبُ مِنْهُ يُصَدَّعُ
وَمَاذَا عَلَى رَبِّي عَزِيْزٌ وَفَضْلُهُ ... عَلَيْنَا مَدَى الأَنْفَاسِ يَهْمِي وَيَهمَعُ
فَكَمْ مِنْحٍ أَعْطَى وَكَمْ مِحَنٍ كَفَى ... لَهُ الحَمْدُ وَالشُّكْرانُ وَالمَنُّ أَجْمَعُ
وَأَزْكَى صَلاةِ اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ ... عَلَى المُصْطَفَى مَنْ في القِيْامَةِ يَشْفَعُ
انتهى.
آخر:
وَإِيَاكَ والدُّنْيَا الدَّنِيَّةَ إِنَّهَا ... هِيَ السِّحْرُ في تَخْيِيْلِهِ وَافْتِرَائِهِ
مَتَاعُ غُرُوْرٍ لا يَدُوْمُ سُرورُها ... وَأَضْغَاثُ حُلْمٍ خَادِعٍ بِهَبَائِهِ
فَمَن أَكْرَمَتْ يَوْمًا أَهَانَتْ لَهُ غَدًا ... وَمَنْ أَضْحَكَتْ قَدْ آذنَتْ بِبُكَائِهِ
وَمَن تُسْقِهِ كَأْسًا مِن الشَّهْدِ غُدْوَةً ... تُجَرِّعُهُ كَأْسَ الرَّدَى في مَسَائِهِ
وَمَن تَكْسُ تَاجَ المُلْكِ تَنْزَعُهُ عَاجِلاً ... بِأَيْدِي المَنَايَا أَوْ بِأَيْدِ عِدَائِهِ
أَلا أنَّها لِلْمَرْءِ مِن أَكْبَرِ العِدَا ... وَيَحْسَبُهَا المَغْرُوْرُ مِن أَصْدِقَائِهِ
فَلَذَّاتُها مَسْمُومَةٌ وَوُعُودُها ... سَرَابٌ فَمَا الظَّامِي رَوَى مِن عَنَائِهِ
وَكَمْ في كِتَابِ الله مِنْ ذِكْرِ ذَمِّهَا ... وَكَمْ ذَمَّهَا الأَخْيَارُ مِن أَصْفِيَائِهِ
فَدُوْنَكَ آياتِ الكِتَابِ تَجِدْ بِهَا ... مِنْ العِلْمِ مَا يَجْلُو الصَّدَا بِجَلائِهِ
وَمَنْ يَكُ جَمْعُ المَالِ مَبْلَغَ عِلْمِهِ ... فَمَا قَلْبُهُ إِلا مَرِيْضًا بِدَائِهِ
فَدَعْهَا فإِنَّ الزُّهْدَ فِيْهَا مُحَتَّمٌ ... وَإِنْ لَمْ يَقُمْ جُلُّ الوَرَى بِأدَائِهِ(2/180)
وَمَن لَم يَذَرْهَا زَاهِدًا في حَيَاتِهِ ... سَتَزْهَدُ فِيهِ النَّاسُ بَعْدَ فَنَائِهِ
فَتَتْرُكُهُ يَوْمًا صَرِيْعًا بِقَبْرِهِ ... رَهِيْنًا أَسِيْرًا آيِسًا مِنْ وَرَائِهِ
وَيَنْسَاهُ أَهْلُوْهُ المُفَدِّي لَدَيْهِمُ ... وَتَكْسُوهُ ثَوبَ الرُّخْصِ بَعْدَ غَلائِهِ
وَيَنْتَهِبُ الوُرَّاثُ أَمْوَالَهُ التي ... على جَمْعِهَا قاسَى عَظِيْمَ شَقَائِهِ
وَتُسْكِنهُ بَعْدَ الشَّوَاهِقِ حُفْرةٌ ... تَضِيقُ بِهِ بَعْدَ اتِّسَاعِ فَضَائِهِ
يُقِيمُ بِهَا طُولَ الزَّمانِ وَمَالَهُ ... أَنيسٌ سوى دُودٍ سَعي في حَشائِهِ
فَواهًا لها من غُربةٍ ثم كُربةٍ ... ومن تُربةٍ تَحوي الفَتى لبلائهِ
ومن بعد ذا يومُ الحِسَابِ وَهولُه ... فَيُجزى به الإِنسانُ أَوفَى جزائهِ
ولا تَنسَ ذِكر الموتِ فالموتُ غائبٌ ... وَلا بدَّ يومًا للفتى من لِقائهِ
قَضى الله مَولانَا على الخَلقِ بالفنَا ... ولا بدَّ فِيهم من نُفوذِ قَضائهِ
فَخذْ أهبةً للموتِ من عَملِ التُّقى ... لِتغنمَ وقتَ العُمرِ قبل انْقضائِهِ
وإِيَّاكَ والآمالَ فالعمرُ يَنقَضِي ... وأسْبابُها مَمدودةٌ من وَرائهِ
وَحافظْ على دُينِ الهُدَي فَلَعلَّهُ ... يَكونُ خِتامَ العُمرِ عِندَ انْتهائهِ
فَدُونَك مني فاسْتَمعها نَصيحةً ... تُضارعُ لونَ التِّبر حَالَ صَفَائِهِ
وَصَلي عَلى طُولِ الزَّمانِ مُسلمًا ... سَلامًا يَفوقُ المِسْكَ عَرفُ شَذائهِ
عَلى خَاتمِ الرّسلِ الكِرامِ محمَّدٍ ... وَأصْحابهِ والآلِ أَهل كِسَائهِ
وَاتْبَاعِهم في الدِّينِ مَا اهْتَزَّ بِالرُّبا ... رِياضٌ سَقاهَا طلَّها بِندائهِ
انتهى.
غربة الإسلام
عَلى الدِّين فَلْيبْكِي ذَوُو العِلْم والهُدى ... فَقدْ طَمَسَتْ أَعلامهُ في العَوالِمِ
وَقَد صَارَ إقبالُ الوَرَى وَاحْتيالِهم ... عَلى هذه الدُّنيا وجمعِ الدَّراهمِ
وَإصلاحِ دُنياهُم بإفسادِ دِينِهم ... وَتحصيلِ مَلذُوذَاتِها والمطَاعمِ(2/181)
يُعادون فيهَا بل يُوالُون أَهلهَا ... سَواءً لَديهم ذُو التُّقى والجَرائمِ
إِذَا انْتَقَصَ الإنسانُ منها بما عَسَى ... يكونُ لهُ ذُخرًا أتى بِالعَظائمِ
وَأبْدى أَعاجِيْبًا من الحُزنِ والأسَى ... عَلى قلَّةِ الأنصارِ من كلِّ حَازمِ
وَناحَ عَليها آسفًا مُتظلمًا ... وَباحَ بما في صَدرهِ غَير كاتمِ
فأما على الدِّينِ الحنيفِي والهُدى ... وملَّةِ إبراهيمَ ذاتِ الدِّعائمِ
فليس عليها والذِي فَلقَ النَّوى ... من النَّاسِ من بَاكٍ وآسٍ ونادمِ
وَقد دُرسَتْ منها المعالمِ بل عَفَتْ ... ولم يَبقَ إلا الاسمُ بين العَوالمِ
فلا آمرٌ بالعُرفِ يُعرفُ بيننَا ... ولا زَاجرٌ عن مُعضلاتِ الجرائمِ
وَملةُ إبراهيمَ غُودرِ نَهجُها ... عَفاءً فأضْحتْ طامِساتِ المعَالمِ
وَقد عَدمتِ فِينا وكيف وقدْ سَفتْ ... عليها السَّوافِي في جميعِ الأقالمِ
وَما الدِّينُ إلا الحبُّ والبُغضُ والوَلا ... كذاك البَرء من كلِّ غاوٍ وآثمِ
وليس لها من سالِكِ مُتمسِّكِ ... بِدين النَّبي الأبْطُحيِّ ابنِ هَاشمِ
فَلسنا نَرى ما حلَّ بالدينِ وانْمحتْ ... به المِلَّةُ السَّمحاءُ إِحدَى القَواصمِ
فَنأسَي على التَّقصيرِ منَّا ونَلْتجِي ... إلى اللهِ في مَحْوِ الذنوبِ العَظائمِ
فَنشكُوا إلى اللهِ القُلُوبَ التي قَستْ ... وَرانَ عليها كَسْبُ تلك المَآثمِ
أَلسنَا إذا ما جَاءنَا مُتضمِّخٌ ... بَأوضَارِ أَهْلِ الشركِ من كلِّ ظالمِ
نَهشُّ إليهم بالتَّحيةِ والثنَا ... وَنَهرعُ في إِكرَامِهم بالوَلائِمِ
وَقد بَرئَ المعصُومُ من كل مُسلمٍ ... يُقيمُ بدارِ الكُفرِ غير مُصارمِ
وَلكنَّما العَقلُ المَعيشُي عِنْدنَا ... مَسالمَةَ العَاصينَ مِن كلِّ آثمِ
فيا مِحْنةَ الإسْلامِ من كلِّ جاهلٍ ... وَيا قِلَّةَ الأَنْصارِ من كلِّ عَالمِ
وَهذا أَوانُ الصَّبرِ إنْ كُنتَ حَازمًا ... عَلى الدِّين فاصبِر صَبرَ أهْلِ العَزَائمِ(2/182)
فَمَن يَتمسَّكْ بالحنيفيَّةِ التي ... أَتتنَا عن المَعصومِ صَفوةَ آدمِ
لَه أجرٌ خَمسينَ امرءً من ذَوي الهُدي ... من الصَّحب أصْحابِ النَّبي الأَكارمِ
فَنُحْ وَابْكِ واسْتَنْصِرْ بِربِّكَ رَاغبًا ... إليه فإن الله أَرحمُ راحمِ
لِينصُرَ هذا الدِّين من بَعدِ ما عَفتْ ... مَعالمهُ في الأرضِ بين العَوالمِ
وَصلِّ على المَعصومِ والآلِ كلُّهُم ... وَأصحابهِ أهلِ التُّقى والمَكارمِ
بَعد وَمِيْضِ البرقِ والرَّملِ والحصَى ... وما انْهلَّ وَدقٌ من خِلالِ الغَمائمِ
آخر:
والله حرَّم مُكثَ من هُو مُسلم ... في كلِّ أرضِ حلَّهَا الكُفَّارُ
ولهم بها حُكمُ الوِلايةِ قَاهرٌ ... فَارْبَأ بِنفسكَ فالمقامِ شنَارُ
وانْظرْ حديثًا في البَرءةِ قد أَتَى ... نَقلُ الثُّقاتِ رُواتُه الأَخْيارُ
فيه البَراءَةُ بالصَّراحةِ قد أَتَتْ ... مِن مُسلمٍ وكَذلكَ الآثارُ
قد صَرَّحت فِيمَن أقامَ ببلدةٍ ... مُستوطنًا وولاتُها الكُفارِ
والمرءُ ليس بِمظهرٍ للدِّين بَلْ ... للمُكثِ في أَوطَانهِ يَختارُ
إلا الذي هو عَاجزٌ مُستضعفٌ ... فالنصُّ جاءَ بِعذرهِ لا العَارُ
والحبُّ والبُغضُ الذي هو دينُنا ... وَعداوةٌ في الله وهِيَ عِيارُ
وَكذا المُوالاةُ التي لِجَلالِه ... إِن أَمْعنَت في ذلك الأَنْظارُ
أَمرٌ محالٌ في وُلايةِ من طَغَى ... لو كَانَ حَقًّا ما دَهاكَ قَرارُ
أو ما سَمعتَ بِقيلهِم لِنَبيهِم ... والمؤمنينَ أُولئكَ الفجَّارُ
فانظُرْ إلى الأعرَافِ إذا قالُوا لهُ ... أَعني شُعيبًا قومُهُ الأَشْرارُ
وانظُر إلى ما قَالَ في الكَهفِ الذِي ... فيه البَيانُ لمن لَه إِبْصارُ
أو ما تَرى أن القُلُوبَ إذا امْتَلَتْ ... حبًّا وإِيمانًا لها أَنوارُ
ولها بذلك غَيرةٌ فَتغَارُ من ... رُؤيَا المَعَاصِي والسَّعِيدُ يَغَارُ
واحذَر مَقالة جاهِلٍ إذ غَرَّه ... مِن جَهْلِهِ الإعْرَاضُ والغَرارُ(2/183)
إذ قالَ نُظهرُ دِيننَا جَهلاً ولم ... يَدرِ الفَتَى المُسكينُ ما الإِظْهارُ
فاسْمَع إذَا إظهَارَه عن ظَاهرِ القُر ... آنِ بل جَاءت بِه الآثَارُ
إظهَارُ هذا الدِّين تَصريحٌ لهم ... بالكُفرِ إذ هُم مَعشرٌ كفارُ
وَعَداوةٌ تبدُو وَبُغضٌ ظاهرٌ ... يالَ العُقولِ أما لَكم أَشعَارُ
هذا وليس القلّبُ كافٍ بُغضُه ... والحبُّ منه ومَا هُو المِعيارُ
لكنَّما المعيارُ أن تَأتِي به ... جهرًا وَتصريحًا لهم إذ جَارُ
فاسْئَل إِلهكَ راغبًا مُتضرعًا ... أن لا يُضلَّكَ بالهَوَى الغَرَّارُ
واسأَلهُ في غَسقِ اللَّيالِي والدُّجَى ... أَنْ لا يَصُدكَ عن هُداكَ شرارُ
وَعلى النَّبي وصحبهِ والآلِ مَا ... هَبَّ النسيمُ ومَاضَتِ الأَنْوارُ
أَزكى الصَّلاةِ مع السَّلامِ هَديةً ... ما انْهلَّ من مُغْدَودِقِ أَمْطَارُ
آخر:
لَيتَ شِعري سَاكَن القَبرِ المشِيد ... هلْ وَجَدْتَ اليومَ فيهِ مِن مَزيدْ
وَهَل البَاطنُ فيهِ مثلَ مَا ... هُو في الظَاهرِ تَزويقًا وَشِيدْ
وَهل المضجَعُ فيهِ ليِّنٌ ... أَو سَعِيرٌ مالها فيه خُمودْ
وَهَل الأَركانُ فيه بالتُّقى ... نيَّراتٌ أو بأَعمَالكَ السُودْ
لَيتَ شعرِي سَاكِن القبرِ المُشَيدْ ... أَشقىٌ أَنْتَ فيه أَمْ سَعِيدْ
أقريبٌ أنت من رَحْمَةِ من ... وَسِعَ العَالمَ إِحسَانًا وُجُودْ
أم بَعيدٌ أنْتَ مِنهَا فَلَقَدْ ... طُرِقَتْ دَارُكَ بَالويل البَعِيدْ
ولقد حلَّ بِأرجَائِكَ ما ... ضَاقَ عنه كلُّ ما في ذَا الوُجُودْ
أيُّها الغَافلُ مِثلِي وإلى ... كَمْ تَعَامَي وتَلَوي وَتَحِيدْ
أُدنُ فَاقرَأ فوقَ رأسِي أَحرُفًا ... خَرَجَتْ وَيْحَكَ مِن قَلْبٍ عَمِيدْ
صَرَعَتْهُ فِكرةٌ صَادقةٌ ... وهُمُومٌ كلَّما تَمضِي تَعُودْ
وَنَدَاماتٌ لأيامٍ مَضَتْ ... هو منها في قِيامٍ وَقُعُودْ
وغدًا تَرجعُ مِثلِي فاتُّعِظْ ... بي وإِلا فامْضِ وأعمَل ما تُرِيدْ(2/184)
قد نَصَحْنَاكَ فإن لم تَرهُ ... سَيَراهُ بَصرُ منكَ حَدِيدْ
شعرا:
إِذَا شِئْتَ أَن تَحيا سَعيدًا مَدى العُمرِ ... وتسكُنَ بعدَ الموتِ في رَوضةِ القَبرِ
وَتُبعثَ عند النَّفخِ في الصُّورِ آمنًا ... من الخَوفِ والتَهديدِ والطُّردِ والخُسرِ
وَتُعرضَ مَرفوعًا كريمًا مُبجلاً ... تُبشركَ الأملاكُ بالفوزِ والأجرِ
وَترجَحَ عِندَ الوَزنِ أَعمالُكَ التي ... تُسرُّ بها في مَوقفِ الحَشرِ والنَّشرِ
وَتَمضِي على متنِ الصِّراطِ كَبارقٍ ... وَتَشربَ من حَوضِ النَّبي المُصطفَى الطُّهرِ
وَتَخلُدَ في أَعَلى الجِنَانِ مُنعمًا ... حَظيًّا بقُرب الوَاحدِ الأحدِ الوِتْرِ
عَلَيْكَ بِتَوْحِيْدِ الإله فإنَّهُ ... إذا تمَّ فازَ العَبدُ بالقُربِ والأجرِ
وخُذْ من عُلومِ الدِّين حظًا مُوفرًا ... فبالعِلْمِ تسمُوا في الحَياةِ وفي الحَشرِ
وَواظِبْ على دَرسِ القُرآنِ فإنَّ في ... تِلاوتهِ الأَرباحُ والشَّرحُ للصَّدرِ
ألا إنَّه البَحرُ المُحيطُ وَغيرهُ ... من الكُتبِ أَنهارٌ تُمدُّ من البَحرِ
تَدَبَّر مَعانِيهِ وَرَتِّلْهُ خَاشعًا ... تَفوزُ من الأسرَارِ بالكَنزِ والذُّخرِ
وَكُن رَاهبًا عند الوعِيدِ وَرَاغبًا ... إذا ما تَلوتَ الوَعدَ في غَايةِ البِشرِ
بعيدًا عن المَنهِي مُجتنبًا لهُ ... حريصًا على المَأمُورِ في العُسرِ واليُسرِ
وإن رُمتَ أن تَحظَي بقلبِ مُنوَّرٍ ... نَقِى من الأَغْيَارِ فاعْكُف على الذِّكْرِ
وَواظبْ عليه في الظَلامِ وفي الضِّيَا ... وفي كل حَالٍ بِاللَّسانِ وفي السِّرِّ
وصفِّ من الأَكْدارِ سِرَّكَ إنَّهُ ... إذا ما صَفَا أَولاكَ مَعنى من الفِكرِ
وَبِالجدِّ والصَّبرِ الجَمِيلِ تَحِلُّ في ... فَسِيحِ العُلى فاستوصِ بالجَدِّ والصَّبرِ
وكُن شاكرًا لله قلبًا وقالبًا ... على فَضلهِ إن المَزيدَ مع الشُّكرِ
تَوكَّلْ على مَولاكَ وارضَ بِحكمهِ ... وكُن مُخلصًا لله في السِّرِ والجَهرِ(2/185)
قنوعًا بما أَعطاكَ مُستغنيًّا بهِ ... له حَامدًا في حالي العُسر واليُسرِ
وكُن باذلاً للفضْلِ سَمحًا ولا تَخَف ... من الله إِقتارًا ولا تَخْشَ من فَقْرِ
وإياك والدُّنيا فإنَّ حلالهَا ... حِسابٌ وفي مَحظورهَا الهَتكُ للسرِّ
ولا تكُ عيابًا ولا تكُ حاسدًا ... ولا تكُ ذا غِشٍّ ولا تكُ في غَدرِ
ولا تطلُبنَّ الجَاهَ يا صَاحَ إنَّهُ ... شهي وفيه السُّم من حيثُ لا تَدرِي
وإياكَ والأطماعُ إن قرينَها ... ذليلٌ خسيسُ القَصدِ مُتَّضعُ القَدرِ
وإن رُمت أمرًا فاسْألِ الله إنَّهُ ... هو المُفضلُ الوهَابُ للخَيرِ والوَفْرِ
وَأُوصِيْكَ بِالخَمْسِ التي هُنَّ يا أخِي ... عِمادٌ لدينِ الله وَاسطةُ الأمرِ
وحافظْ عليها بِالجماعَةِ دَائمًا ... وواظبْ عليها في العِشاءِ وفي الفَجرِ
وقمْ في ظَلامِ اللَّيلِ لله قانتًا ... وصلِّ له واخْتِم صلاتكَ بالوِترِ
وكُن تائبًا من كلِّ ذنبِ أَتيتَهُ ... ومُستغفرًا في كلِّ حين من الوِزرِ
عَسى المُفضلُ المَولى الكَريمُ بِمنِّهِ ... يَجودُ على ذَنبِ المُسيئينَ بِالغَفرِ
فإحسانهُ عمَّ الأنَامَ وُجودُه ... على كلِّ مَخلوقٍ وإِفْضالهِ يَجرِي
وصلِّى على خَير البَريةِ كلِّهَا ... محمدٍ المَبعوثِ بالبِشرِ والنُّذرِ
انتهى.
آخر:
وَإنْ تَتحلَّى بالسماحةِ والسَّخاءِ ... يقالُ سفيهٌ أَخرقٌ ليسَ واعيَا
وَإِن أَمْسكتَ كفَّاكَ حالَ ضَرورةٍ ... يقالُ شَحيحٌ مُمسكٌ لا مُساويَا
وإن ظَهرَتْ من فيك يَنبُوعُ حِكمةٍ ... يُقولُونَ مِهْذارًا بذيًّا مُباهيَا
وَعن كُلِّ ما لا يَعنِ إن كنتَ تَاركًا ... يَقولُونَ عن عَي من العَجزِ صَاغيَا
وإِن كنتَ مِقدامًا لكلِّ مُلمةٍ ... يُقالُ عَجولٌ طائشُ العَقلِ وَاهيَا
وإن تَتغَاضَى عن جَهالةِ نَاقصٍ ... يَعدُّوكَ خَوارًا جَبانًا وَلاهيَا
وإن تَتقَاصَى باعْتزالكَ عنهُمُوا ... يخالوكَ من كِبرٍ وَتيهٍ مُجافيَا(2/186)
وإن تَتدانَي منهم لِتآلفٍ ... يَظنوكَ خَداعًا كَذوبًا مُرائيَا
تَرى الظُّلم منهُم كَامنًا في نُفوسهِم ... كذا غَدرُهُم في طَبعهِم مُتواريَا
ففي قُوة الإنسانِ يَظهر ظُلمهُ ... وفي عَجزِهِ يَبقَى كما كانَ خَافيَا
وهيهاتَ تَنجُو من غَوائلِ فِعلِهم ... وأقوالهِم مَهمَا تكنْ مُتحَاشيَا
فَمن رَامَ إِرضاءَ الأنامِ بقولِهِ ... وَفِعلٍ غدَا للمستحِيلِ مُعانيَا
ومن ذَا الذِي أرضَى الخَلائقِ كلَّهم ... رَسولاً نبيًّا أم وليًّا وقَاضِيَا
وأَعظمُ من ذَا خالقُ الخلقِ هل تَرَى ... جميعَ الوَرَى في قِسمَةٍ منهُ راضيَا
إذا كَان ربُّ الخلقِ لم يُرضِ خَلقَهُ ... فَكيفَ بِمخلوقٍ رِضاهُم مُراجِيَا
فَلازِمْ رِضَى ربِّ العِبَادِ إذًا وَلا ... تُبالِ بِمخلوقٍ إذا كُنتَ زَاكيَا
وَسَدِّد وقَارب ما اسْتطعتَ فإنَّمَا ... يُكلَّفُ عبدٌ فِعلَ ما كانَ قَاويَا
انتهى
يَا نَفْسُ توبى فإنَّ الموتَ قد حانَا ... واعصِي الهَوى فالهَوى ما زالَ فَتانَا
أَما تَرينَ المَنايَا كيف تَلقُطنَا ... لقطًا فَتلحقُ أُخْرَانَا بأُولانَا
في كلِّ يومٍ لنَا مَيتٌ نُشيعُه ... نَرَى بِمَصرَعهِ آثَارَ مَوتَانَا
يَا نفسُ مَالي ولِلأموَالِ أَترُكُهَا ... خَلفِي وأَخرجُ من دُنياي عُريانَا
أَبَعْدَ خَمسينَ قد قَضيتُهَا لَعبًا ... قد آنَ أنْ تَقصُري قَدْ آنَ قَدْ آنَا
ما بَالُنَا نَتعامَى عن مَصَائِرنَا ... نَنْسَى بِغفلتِنَا من لَيسَ يَنْسَانَا
نَزْدَادُ حِرصًا وهذَا الدَّهرُ يَزجرَنَا ... كانَ زَاجرنَا بِالحرصِ أَغرانَا
أينَ المُلوكُ وأَبناءُ المُلوكِ وَمَن ... كَانت تَخر له الأَذقانُ إِذغانَا
صَاحتْ بهم حَادِثَاتُ الدهرِ فانْقلبُوا ... مُسْتبدلينَ من الأَوْطانِ أَوطانَا
خَلَّو مَدائنَ كانَ العِز مَفرشُهَا ... واسْتفرشُوا حُفُرًا غُبرًا وَقِيعانَا
يَا رَاكضًا في مَيادِينِ الهَوى مرحًا ... وَرَافلاً في ثِيَابِ الغَيِّ نَشوَانَا(2/187)
مَضى الزمانُ وولَّى العُمرُ في لعبٍ ... يَكفيكَ مَا قَدْ مَضى قَد كانَ ما كانَ
انتهى.
القول الأسنى
في نظم الأسماء الحسنى
تأليف
الشيخ حسين بن علي بن حسين بن شيخ الإسلام
محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى
جَميعُ الثنَا والحَمدُ بالشُكرِ أكملُ ... ولله مَجموعُ الثلاثةِ أجعلُ
له الحَمدُ أَغلى الحَمد والشُكرِ والثنَا ... أعزُ وأزكَى ما يَكونُ وأَفضلُ
له الحَمدُ حَمدًا طيبًا ومُباركًا ... كثيرٌ فضيلٌ حَاصلٌ مُتحصلُ
مَلا العَرشِ والكُرسِي مع الأَرْضِ والسَّمَا ... وَمِلءَ الذِي بين الطَرائِقِ يَفصِلُ
وَإني بِحمدِ الله والشكرِ والثنَا ... لِنَيلِي من الله الرَّضَى أَتوسلُ
إلى الله أُهدِي الحَمدُ والشُكرَ والثنَا ... له الحَمدُ مَولانَا عليه المُعَّولُ
وَأَشهدُ أن الله لا ربَّ غَيرهُ ... كَريمٌ رحيمٌ يُرتجَى ويُؤمَّلُ
وَأشهدُ أنَّ ماربَّ بل لا مُدبرٌ ... سِواهُ وَلولاهُ الوُجودُ مُعطلُ
قَديرٌ كَريمٌ مُحسنٌ ولهُ البقَا ... جوادٌ وللخيراتِ فهو المُنولُ
ومن دُونَه عبدٌ ذليلٌ مُدبَّرٌ ... مُقِلٌ من الأَوزارِ أو مُتحمِلُ
هوَ الله ذُو العِزِ القَديمِ إلهنَا ... عَزِيزٌ مُعزٌ من له يَتَذلَّلُ
هو الوَاحدُ الفردُ المُهيمنُ ربَّنا ... هو الواحدُ الموجودُ والمُتفضِلُ
جوادٌ كَريمٌ مُحسنٌ دَائمُ النَّدَى ... وَجودَاهُ لا تَبْلَى ولا تَتَبَدلُ
عفوٌ يحبُ العفوَ من كلِّ خَلقِهِ ... عن الجُودِ والإِحسانِ لا يَتحولُ
إذا سُئلَ الخَيراتِ أَعطَى جَزِيْلَها ... وَيَرفَعُ مكروهَ البَلا وَيُزوَّلُ
تباركَ فهوَ الله جلَّ جَلالهُ ... جوادٌ كريمٌ كَاملٌ لا يُمثَّلُ
يَسِحُ من الخَيراتِ سَحًا علَى الوَرَى ... فَيُغْنَي وَيُقْنِي دَائِمًا وَيحوَّلُ
تَجِلُ عن الأَوصَافِ عِزَّةُ ذَاتِهِ ... أَعزَّ من الأَوصافِ أَعَلى وأَكْمَلُ
إذا أَكثَر المُثنِي عليه من الثَنَا ... فَذُو العَرْشِ أعْلَى في الجَلالِ وأَجملُ(2/188)
بِأسمائِهِ الحُسنَى ما يُؤذِنَ الوَرَى ... عَلَى بَعضِ مَدلُولاتِهَا لَو تَأمَّلُوا
فَفِي اسمه "ربُّ" مُدبِّرُ خَلْقَهُ ... وفي "الله" مَعنىً للعِبادَةِ يَشمَلُ
وفي اسْمهِ الله الإلهُ إشارةٌ ... إلى أنهُ المَعبودُ والنِّدُ يَبْطُلُ
وفي اسمه الغَفَارُ يَغْفِرُ للوَرَى ... إذا انْتقلُوا عن غَيهِم وتَنقلُوا
وفي اسمهِ "القاضِي" فَيَقْضِي بما يَشَاءُ
...... ... وفي "قَادِر ما شَاءَ رَبُّكَ يَفعَلُ
وفي اسمهِ "الأَعلى" عُلوُّ جَلالهِ ... وفي اسمهِ "الصَّبارُ" يُملِي وَيُمْهِلُ
وفي اسمهِ "الفعَالُ" يَفعلُ مَا يشاءُ ... حَكيمٌ فلا عمَّا يدبرُ يُسألُ
وفي اسمهِ "الجبَارُ" يجبُر كَسرَنَا ... وَلِلعُسْرِ باليُسرينِ فينَا يُبدِّلُ
وفي اسمه "الجبارُ" رِفعةُ ذاتهِ ... وَأخذٌ على العَاصِي شديدٌ ومُعضِلُ
وفي اسمه "المعطِي" الكَريمُ دِلالةٌ ... على أنه يُعطِي دَوامًا ويَبذِلُ
وفي اسمه "الستارُ" أستارُهُ التي ... عَلى أَكْثَر العَاصِيْنَ تُرخَي وتُسدَلُ
وفي اسمه "الباقِي" دَليلُ بَقائهِ ... جديدًا وأن الخَلقَ يَبْلى ويُسمَلُ
وفي اسمه "القيُوم" أَهدى دَلالةً ... على أنه عن خَلقهِ ليسَ يَغفُلُ
وفي اسم "عزيزٍ" عِزةٌ مُستَمِرَّةٌ ... بها يُهلِكُ العَاصِي لهُ ويُنَكلُ
وفي "ناصرٍ" نَصرُ لِمَن شَاء إذ يَشَا ... وَمَن لا يَشَأ يَبْقَى حَسِيْرًا وَيُخْذَلُ
وفي اسمه "الهَادِي" فيَهدِي إلى الهُدَي ... وَيَهْدِي إلى النَّهْدَينِ في المَهْدِ أَطفُلُ
وفي اسمه "الكَافِي" "الوَكِيل" وفي اسمه ... "حَسيبٌ "وَكيلٌ" أنهُ ليسَ يُهمِلُ
وفي اسمه "الرحمنُ" رَحمَتهُ الوَرَى ... وفي اسمه "ربِّ" عَلَيهِ التَّوكُلُ
وفي اسمهِ "القَاضِي" فَيَقضِي بِمَا يَشَا ... وَيَقْضِي غَدًا بَينَ البَرايَا فَيَعدلُ
وفي اسمهِ "الخَلاقِ" لم يَخْلُقِ الوَرَى ... سِواهُ "جوادٍ" دَائمٍ ليسَ يَغفُلُ(2/189)
وفي اسمهِ "البَارِئ" بَرَى كلَّ خَلْقِهِ ... وَألطافُه تَتْرى دَوامًا وَتَنزِلُ
"عليمٌ" فَلا يَخْفَي عَليه مِن الوَرَى ... وَلو غَابَ في شَقِّ من الأَرضِ خَردَلُ
"حسيبٌ" فَيُحْصِي كُلَّ شيءٍ وفي الذِي ... جَرَى بَينَنَا يومَ القِيامةِ يَفصِلُ
"خبيرٌ" فَيَقْضِي مَا يَشَاءُ وكُلَّ مَا ... قَضَاه مَضَى حَتْمًا ولا يَتَفتَّلُ
"لَطيفٌ" بِألطَافٍ كثرٍ وبَعْضُها ... يُرَى ظَاهرًا بَينَ الوَرَى يَتَخَلَّلُ
"سَميعٌ" فلا صَوتٌ خَفيٌ يَفُوتُهُ ... وَإِن دَقَّ جِدًا واخْتَفَى لَيْسَ يُشْكِلُ
"وبرٌ" يُحبُّ البِرَّ يَرفَعُ أَهْلَهُ ... عَلَى النَّاسِ في يَومِ الجَزَاءِ يُفَضِّلُ
"حكيمٌ" فَيَقضِي ما يَشاءُ بِحكمةٍ ... "حليمٌ فلا يَخْشَي فَواتًا فَيُعْجِلُ
"كبيرٌ جَليلٌ مَاجِدٌ وَاجِدٌ" لهُ ... مِن الجُودِ والإِحسانِ ما ليس يُجهلُ
ودودٌ رحيمٌ" بالمطيعِ من الوَرَى ... فَمَنْ جَاءَهُ يَمْشِي أَتَاهُ يُهروِلُ
وفي اسمهِ "التوابِ" يَقْضِي بتوبةٍ ... لمنْ تَابَ صِدقًا يَستَجِيبُ وَيَقبَلُ
وفي "أَحدٍ" سُبحانَهُ لم يَكُنْ لَهُ ... نَظِيرٌ ولا مِثلٌ به يَتَمثَّلُ
وفي "صمدٍ" سُبْحَانَه يَصمُدُ الوَرَى ... إِليهِ جَميعًا أَصمدٌ ليسَ يَأكُلُ
وفي اسمهِ "الأعلى" كَمالُ عُلُوه ... أَعَزَّ وَأَعَلى مَا يَكُونُ وَأكمَلُ
وفي اسمهِ "المعطِي" يُغْيِثُ إِغاثَةً ... بِهَا كَربُ من يَدْعُو بهِ يَتَحَلَّلُ
وفي اسمِ "مُجيبٍ" يَسْتَجِيْبُ لمن دَعَا ... وَيُعْطِي لمن شَا مَا يشَأ حينَ يُسألُ
وفي كُلِّ اسْمٍ للإلهِ دِلالةٌ ... وَفِيهَا مَعَانِي جُودِهِ لو تَأْمَّلُوا
وفي كُلِّ فردٍ لو أُحيطَ بِعلْمهِ ... مَعانٍ وَلَكَن مَنْ لَهَا يَتَوَصَّلُ
يَبْينُ وَيبدُو بالتَّأملِ بعضُهَا ... تَأمُّلُ مَن في عِلْمِهَا مُتَوَغِّلُ
يَبِيْنُ لِمَنْ يَتْلُو الكِتَابَ مُرَتلاً ... وَمُدَّبِرًا آيَاتِهِ يَتَعَقَّلُ(2/190)
هُوَ اللهُ فَوقَ العرشِ عَالٍ عَلَى الوَرَى ... عَليه اسْتَوى كيفَ اسْتَوى ليسَ يُعْقَلُ
أبانَ لَنَا في الذِكرِ عِلمَ اسْتوائِهِ ... عَلَى عَرشِهِ والكَيْفُ يَخْفَى وَيُجْهَلُ
وَمنْ قالَ في كيفَ اسْتَوى فهوَ كَاذبٌ ... عَلى الله فِيمَا قَالَه مُتَقَوِّلُ
وَمذْهبُنَا: أنْ لا نُشَّبهَ رَبَّنا ... وَأَنْ لا نَقلْ: كَيفَ اسْتَوَى أَو نُعِطِّلُ
وَأَشْهَدُ أَنَّ اللهَ ليسَ كمثلهِ ... لهُ العزُّ والتَّدبيرُ والحُكمُ والعُلُو
وَأَشهَدُ أَنَّ "الأوَّلُ" الله وَحْدَه ... "وآخرُ" يَبْقَى سرمدًا يتبتلُ
هو الله مَبسُوطُ اليدينِ كِلاهُما ... تَسِحُ من الإِحسَانِ سحَّاءَ تَهطُّلُ
إذا وَعدَ المَوعُودَ أنجَزَ وعدهُ ... سَريعًا بِلا رَيبٍ ولا شكَّ يحصُلُ
"قَريبٌ مُجيبٌ" يَستجيبُ لمن دَعا ... "جوادٌ" إذا أعطَى العَطا يَتَجَزَّلُ
يَسِحُ من الإحسانِ سَحًّا على الوَرَى ... وَهُوبٌ "جَوادٌ" "مُحسنٌ" مُتَفَضِّلُ
تَبَارَكَ لا يُحصَي على ذَاتِهِ الثَنَا ... وَلو بِالثَّنَا كلُّ الخلائقِ أَجملُوا
إذا كانَ شُكرُ العبدِ نَعماهُ نِعمةً ... فأينَ يُطاقُ الشُكرُ من أَينَ يَحصُلُ
فَسُبحَانَ مَن كُل الوَرَى سَجدُوا لَهُ ... إذا سَبَّحُوا أَو كَبَّرُوهُ وَهَلَّلُوا
قَضَى الله أَنْ لا يَعبُدُ الخَلقُ غَيرهُ ... وَأَنْ لا بِهِ شيءٌ وإنْ جَلَّ يَعدِلُ
"عليمٌ" بأحْوَالِ الوَرَى وبما جَرَى ... وَمَا لَيسَ يَجْرِي لَو جَرَى كَيْفَ يَحْصُلُ
"لطيفٌ" فَلا يَخْفَى عَلِيْهِ مِن الوَرَى ... خَفِيٌّ وَلا يَنْسَى ولا الربُّ يَذهَلُ
لَه تُرفعُ الأَعمالُ في كلِّ لحظةٍ ... بِأيدِي كِرامٍ كَاتِبينَ وتُحمَلُ
عليه اعْتَمادِي واتْكَالِي وَرَغْبَتِي ... وَإِصلاحُ شأنِي مُجملٌ وَمُفصَّلُ
تعالى فَأخَلاقُ البَرايَا بما قَضَي ... وَقدّره من أي شَكلٍ تَشكَّلُوا(2/191)
فَمِنْهُم مُنِيْبٌ مُسْتَجِيْبٌ لِرَبِهِ ... صَبُورٌ عَلَى الضَّرا لَهَا يَتَحَمَّلُ
يُحِبُّ اكْتِسَابَ الصَّالِحَاتِ مِن التُّقى ... ومن زِينةِ الدُّنيا مُقلٌ مقلِّلُ
مُطيعٌ سريعٌ في أَوامرِ ربِّهِ ... مُنيبٌ إلى مَعبُودهِ مُتذلِّلُ
كَثيرُ البُكا مِن خَشيةِ الله ربَّهِ ... مَفاصِلُه يُخشَي عليها تَفصَّلُ
لهُ في النَّدى روضُ وفي الجودِ مَنهلٌ ... ومن ذا إلى ذَا دَائمًا يَتنقَّلُ
إِذَا جِئتهُ تَبغِي النَّدى وجدتهُ ... رَحيبًا خَصيبًا بِالنَّدى يَتهلَّلُ
يُبادرُ في المَعْرُوفِ مَهمَا أَتيتهُ ... كَأنَّكَ تُعْطِيْهِ الذِي أَنتَ تَسْألُ
يُجِبُ اكْتَسَابَ المَالِ وَالجُودُ عِنْدَهُ ... أَعزُّ من الدُّنيا جَميعًا وَأفضلُ
تَقِيُ نَقيُ العرضِ مَصحوبُهُ النَّدى ... زهيٌّ بهيٌّ إن تَكلمَ مِقولُ
جريءٌ على الأَعداءِ قَريبٌ من النَّدى ... سريعٌ إلى الهَيْجَا يَقُولُ وَيَفعَلُ
قريبٌ النَّدى والجُودِ ما حَلَّ حَلَّهُ ... وأن يَرتحلْ يَتبعهُ حَالا ويَرحلُ
جميعُ صِفاتِ الجُودِ مُستَوجبٌ لَها ... من الأصلِ في أصلِ النَّدى مُتأصِّلُ
وفي النَّاسِ من يبذُل لِدنياهُ دِينهُ ... ويرضَى بِذا عن ذَا بَديلاً يُبدَّلُ
يَنالُ به مَالاً وَجاهًا ورِفعةً ... وَيَشقَى وَيَردَى في المَعَادِ وَيَسْفُلُ
وَفِي النَّاسِ من ظُلمُ الوَرَى عَادةٌ لهُ ... وَيَنْشُرُ أَعَذارًا بها يَتَأوَّلُ
جَرِيءٌ على أَكِل الحرامِ ويدَّعِي ... بأنَّ لهُ في حِلَّ ذلك مَحمَلُ
فَيَا أكِلَ المَالِ الحرامَ أَبِنْ لَنَا ... بأي كتابٍ حِلُّ ما أَنتَ تَأكلُ
ألمْ تَدْرِ أن اللهَ يَدْرِي بما جَرَى ... وبين البَرايَا في القِيامةِ يَفصلُ
حَنَانِيْكَ لا تَظلِمْ فإنَّكَ ميتٌ ... وبالموتِ عَمَّا قدْ تَوليتَ تُسألُ
وَتَوقَفُ لِلْمظلُومِ يَأخذٌ حقَّهُ ... فَيَأخُذُ يومَ العرضِ ما كُنت تَعملُ(2/192)
وَيأخذُ من وزرِ لمنْ قَد ظَلمتهُ ... فيأخذُ يومَ العرضِ ما كُنت تَعمَلُ
فَيأخذُ منك اللهَ مَظْلمةَ الذِي ... ظَلمتَ سريعًا عاجلاً لا يُؤجَّلُ
تَفرُّ من الخَصمِ الذِي قَدْ ظَلَمْتَهُ ... فَيأخُذُ يَومَ العَرْضِ ما كُنتَ تَعْمَلُ
تَفِرُّ فَلا يُغْنِي الفِرَارُ من القَضَا ... وَأن تَتوجَّلْ لا يُفيدُ التَّوجلُ
فَيقتصُ مِنكَ الحقَّ من قَد ظَلمتَهُ ... بلا رأفةٍ كلاَّ ولا منك يَخجلُ
وفي الناسِ أَهلُ البِرِ والصِّدق والوَفَا ... وَللعدْلِ أَهْلٌ يَعْدِلُونَ إِذَا وَلُوا
وفي الناسِ من بِالكِبرِ يَسْتَحْقِرُ الوَرَى ... وَيَطغَى إِن اسْتَغْنَى إِذَا يَتَموَّلُ
فَخُورٌ إِذَا وَلاهُ مَولاهُ نِعمةً ... مَرُوحٌ وَمختالٌ بها يَتَبَهْكَلُ
شَحِيحٌ ولو عَمَّن يَعُولُ بِنَفسِهِ ... بأَدنى قَليلٍ نَاقصِ القَدرِ يَبخلُ
حَسودٌ عَدُو الجودِ والبَذلِ والنَّدى ... يصدُّ عن الخَيراتِ عنها يُخذِّلُ
جبانٌ عن الأعْدَا بَعيدٌ من النَّدى ... جَموعٌ مَنوعٌ في الخنا مُتوغلُ
جَميعُ خِصالِ الشَّرِ مُستصحبٌ لها ... وعن كلِّ أسبابِ المعزّةِ أَعزلُ
وفي النَّاسِ من لا يَملأُ البحرُ بطنهُ ... فَقيرُ فُؤادٍ دَائمًا يَتسوَّلُ
وفي النَّاس من يُغرِي الوَرَى بِلسانِهِ ... وبَينَ البَرايَا للنَّمِيمةِ يَحملُ
يَرَى أنَّ في حملِ النَّمِيمَةِ مَكسبًا ... تَراهُ بها بَينَ الوَرَى يَتأكَّلُ
وَفي النَّاس أفاكٌ حيولٌ مخادعٌ ... غشومٌ ظَلومٌ ماكرٌ مُتحيلُ
وكل سيأتي فرعهُ مثلَ أصلهِ ... وعن مثل شكلِ الأصلِ لا يَتحولُ
فَأهلُ النَّدى والجُود لا يَبرحُ النَّدى ... مع الجودِ فيما أنْسلُوا يَتسلسَلُ
ونسلُ شرارِ النَّاس في الشَّر والرَّدى ... على سننِ الآباءِ أردَى وأرذلُ
على سننِ الآبا وأخلاقِ من مَضى ... وإنْ مُتَّعتْ تِلك النُسُولُ وأطولُ
فَنسلُ جبانٍ أو بخيلٍ كمثلهِ ... ونسلُ الزَّكي الفحلِ أزكَى وأَفْحلُ(2/193)
جَني الكَرم يأتي طيبًا مثل أصلهِ ... ويأتي جَناءُ الحنظليَّةِ حَنظلُ
وأوصِي بتقوَى اللهِ كلَّ مكلَّفٍ ... إليها أفِيئُوا أيُّها النَّاس أقبلُوا
وعُضوا عليها بالنَّواجذِ إنها ... هُدى الله يَهدِي للخلائقِ فاقبلُوا
خُذوا بالهُدي أخذًا قويًا فإنه ... نجاةٌ ومَنْ يَأخذُ به لا يُضلَّلُ
وأدُوا فُروضَ الدين بعد أدائِهَا ... كَوامِلَ في أوقاتِهَا وتَنفلُوا
عليكم بِتقوَى الله لا تَتركُونَها ... فإنَّ التُّقى أقوَى وأَولَى وأَعدلُ
لِباسُ التُّقى خيرُ الملابسِ كلِّهَا ... وأَبهَى لِباسِ في الوُجُود وأَجملُ
فَما أَحسنَ التَّقوى وأَهدَى سبيلهَا ... بِها يَنفعُ الإنسَانَ ما كان يَعملُ
فَيا أيُّها الإنسانُ بادِر إلى التُّقى ... وَسَارِع إلى الخيراتِ ما دُمتَ مُهملُ
وَأكثر من التَّقوى لِتحمِدَ غِبَّهَا ... بِدارِ الجَزَا دارٌ بها سَوف تَنزلُ
وقدِّمْ لما تَقْدَم عليه فإنَّما غَدَا ... سوف تُجزَى بالذي أنت تَفعلُ
وأحسِنْ ولا تُهملْ إذا كنتَ قادرًا ... فدارُ الفنَا الدُّنيا مكانَ التَّرحلُ
وسارعْ إلى الخيراتِ لا تُهملنَّهَا ... فإنكَ إن أَهملتَ ما أنت مُهملُ
ولكن سَتُجزي بالذِي أنت عاملٌ ... وعما مَضى من كل ما نِلت تُسألُ
فلا تُلهكَ الدُّنيا فربُّك ضَامنٌ ... لرزقِ البَرايَا ضامنٌ مُتكفلُ
فَمن آثر الدُّنيا جهولٌ ومن يَبعْ ... لآخراهُ بالدُّنيا أضلُ وأَجهلُ
فَلذاتِهَا والعزُّ والجاهُ والغنَى ... بأضدادهَا عما قليلِ تُبدلُ
فَمن عاشَ في الدُّنيا وإن طَال عُمرهُ ... فلا بدَّ عنها راغمًا سوف ينقلُ
وينزلُ دارًا لا أنيسَ له بهَا ... لكلِّ الوَرَى رجعًا معادُ ومُوئلُ
ويبقَى رهينًا في التُّراب بما جنَى ... إلى بعثهِ من أرضهِ حينَ ينسلُ
يُهالُ بأهوالِ يَشيبُ بِبعضهَا ... ولا هولاً إلا بَعدهُ الهولُ أهولُ
وفي البعْثِ بعد الموتِ نشرُ صحائفٍ ... وميزانُ قسطٍ طائشٍ أو مُثقلُ(2/194)
وحشرٌ يَشيبُ الطِّفلُ من عُظْمِ هولهِ ... ومنه الجبالُ الراسياتُ تُزلزلُ
ونارٌ تلظَى في لظاهَا سَلاسلٌ ... يُغلُّ بها الفُجَّارُ ثم يُسلسلُوا
شرابُ ذَوي الإِجرامِ فيها حميمُهَا ... وَزقُّومُها مَطعومهُم حينَ يَأكلُوا
حميمٌ وغساقٌ وآخرُ مثلهِ ... من المهلِ يَغلِي في البُطُونِ ويُشغلُ
يزيدُ هوانًا من هواهَا فلا يَزَلْ ... إلى قَعرهَا يهوَي دوامًا ويَنزلُ
وفي نارهِ يبقَى دوامًا مُعذبًا ... يَصِيحُ ثُبورًا ويلهُ يَتولولُ
عليها صِراطٌ مدحضٌ ومزلَّةٌ ... عَليه البَرايَا في القِيامةِ تُحملُ
وفيها كَلاليبٌ تعلَّقُ بالوَرَى ... فهذَا نَجا منها وهذَا مُخردلُ
فلا مُجرمٌ يفديهِ ما يَفتدِي بهِ ... وإنْ يَعتذرُ يومًا فلا العُذر يُقبلُ
فهذَا جزاءُ المجرمينَ على الرَّدى ... وهذا الذي يومَ القيامةِ يَحصلُ
أعوذُ بربي من لَظَى وعَذابِها ... ومِن حَالِ من يَهوَي بها يَتَجلجلُ
ومن حالِ من في زَمْهَرِيرٍ مُعذبٍ ... ومن كان بالأغلالِ فيها مُكبَّلُ
وجَناتُ عدنٍ زُخرفتْ ثم أُزلفتْ ... لقومٍ على التَّقوى دوامًا تَبتلُوا
بها كل ما تَهوى النُفُوسُ وتَشتهِي ... وقرةَ عينٍ ليسَ عنها تَرحلُ
ملابسهم فيها حَريرٌ وسُندسٍ ... واستبرقْ لا يَعتريهِ التَّنحلُ
ومأكُولهم من كل ما يَشتهونَه ... ومن سَلسبيلٍ شُربهمُ بَتسلسلُ
وأزواجَهم حُورٌ حِسانٌ كَواعِب ... على مثل شَكلِ الشَّمس بل هُنَّ أَشكلُ
يُطافُ عليهم بالذي يَشتهُونَه ... إذا أَكَلوا نوعًا بآخر بَدلُوا
بها كل أَنْواعِ الفواكهِ كلِّهَا ... وَسُكانِها مهمَا تمنوهُ يحصلُ
فَواكِهها تَدنوا إلى من يُريُدهَا ... تناولها عند الإرادةِ يسهلُ
وأنهارُهَا الألبانُ تجرِي وأعسل ... وخمر وماء سَلسبيل مُعسِّلُ
يقال لهم: طِبتُم سَلمتُم من الأَذَى ... سلامٌ عليكم بالسلامةِ فادخلُوا
بِأسبابِ تَقوى الله والعملِ الذِي ... يحب إلى جناتِ عدنٍ تَوصلُوا(2/195)
إذا كان هذا والذي قبلَهُ الجزاءُ ... فحقٌّ على العَينينِ بالدمعِ تهملُ
وحقٌّ على من كان باللهِ مُؤمنًا ... يقدمْ لهُ خيرًا ولا يَتعللُ
وإن يأخذ الإنسانُ زادًا من التُّقى ... ولا يسأم التَّقوى ولا يَتململُ
وإنَّ أمامَ النَّاس حشرًا وموقفًا ... ويومًا طويلاً ألف عامٍ وأَطولُ
فيا لك من يومٍ على كلِّ مُبطلٍ ... فظيع وأَهوالُ القيامةِ تُعضلُ
تكون به الأطوَادُ كالعِهنِ أو تكنْ ... كثيبًا مهيلاً أهيلاً يتهلهلُ
به مِلة الإسلامِ تقبلُ وحدهَا ... ومن أي دِين غيرهَا فهو يبطلُ
به يسألونَ النَّاس ماذا عَبدتمُوا ... وماذا أَجبتم من دعَا وهو مُرسلُ
حِساب الذي يَنقاد عَرضٌ مخفَّفٌ ... ومن ليس مُنقادًا حِسابٌ مُثقَّلُ
ومن قبل ذَا فالموتُ يأتيكَ بغتةً ... وهيهاتَ لا تدري متى الموتُ يَنزلُ
كُئوسُ المنَايَا سوف يَشربُها الوَرَى ... على الرغمِ شبَّانٌ وشِيبٌ وَأَكهلُ
حَنانِيْكَ بادرهَا بخيرٍ فإنَّما ... على الآلةِ الحدْبَا سريعًا سَتحملُ
إذا كنت قد أيقَنْتَ بالموتِ والفَنَا ... وبالبعثِ عمَّا بعده كيفَ تَغفلُ
أيصلحُ إِهمالُ المعادِ لمنصْفٍ ... ويَنْسَى مقامَ الحشرِ من كان يَعقلُ
إذا أنت لم تَرْحل بِزادٍ من التُّقى ... أَبِنْ لي ابن يومَ الجَزَا كيفَ تَغفلُ
أتَرضَي بأن تأتِي القيامةِ مُفلسًا ... على ظَهْرِكَ الأَوْزارُ في الحَشْرِ تُحْمِلُ
إلهي لك الفضلُ الذي عمَّم الوَرَى ... وجودًا على كل الخَليقَةِ مُسبلُ
وغيرُكَ لو يَملِكْ خَزائنكَ التِي ... تَزيدُ مع الإنفاقِ لا بدَّ يَبخلُ
وإنِّي بك اللهم ربِّي لواثقٌ ... وما لي ببابٍ غير بابكَ مَدخلُ
أعوذُ بكَ اللهم من سوءِ صُنعنَا ... ومن أن تكن نَعماكَ عنَّا تَحولُ
وأنِّي لك اللهم في الدينِ مخلصٌ ... وهمِّي وحاجَاتِي بجُودكَ أُنْزِلُ
إلهي فثبِّتني على دِينكَ الذي ... رضيتَ به دِيْنًا وإياهُ تَقبلُ(2/196)
وَهَبْ لي من الفِردوسِ قصرًا مُشيدًا ... ومُنَّ بِخيراتٍ بها أَتعجلُ
ولله حمدٌ دائمٌ بدوامِهِ ... مَدَى الدَّهر لا يفنَى ولا الحمدُ يَكمُلُ
مِدادُ كلام الله عدَّةُ خَلقِهِ ... رَضِى نَفْسِه يَنْمُو ويَسْمُو ويَفضُلُ
يزيدُ على وزنِ الخلائقِ كلِّهَا ... وأرجحُ من وزنِ الجميعِ وأَثقلُ
وإني بحمدِ الله بالحمدِ أَبتدِي ... وأُنهي بحمدِ الله قولِي وأُكملُ
صلاةً وتسليمًا وأزكَى تحيةً ... تعمُّ جميعَ المرسلينَ وتَشملُ
وأزكَى صلاةَ الله ثمَّ سلامهِ ... على المُصطفَى أزكَى البَريةَ تَنزلُ
نبيٍّ زكيِّ الأصلِ والفرعِ أصلُهُ ... مع الفرعِ في أصلِ النَّدى مُتأصِّلُ
جميعُ خصالِ الخيرِ مُستوعبٌ لَهَا ... إلى سَوحةٍ تهوي وتأوي وتَكْمُلُ
وقال آخر:
كأني بِنفسِي وهي في السَّكراتِ ... تُعالجُ أن ترقَي إلى اللَّهواتِ
وَقد زُمَّ رَحْلي واسْتقلَّتْ رَكائبِي ... وقد آذَنَتْني بالرحيلِ حُداتِي
إلى مَنْزل فيه عذابٌ ورحمُةٌ ... وكمْ فيه من زجرٍ لنَا وعظاتِ
ومن أَعينٍ سالتْ على وَجناتِهَا ... ومن أوجهٍ في التُّربِ مُنعفراتِ
ومن واردٍ فيه على ما يَسرُّهُ ... ومن واردٍ فيه على الحَسراتِ
ومن عاثرٍ ما أن يقالَ له لَعَا ... على مَا عهدنا قبل في العَثراتِ
ومن ملكٍ كان السُّرورُ مِهادُهُ ... مع الآنَسِاتِ الخرَّدِ الخَفراتِ
غدَا لا يَذودُ الدُّودُ عن حُرِ وجهِهِ ... وكانَ يَذُوْدُ الأسدَ في الاجَماتِ
وعُوَّضَ أُنسًا من ظِباءِ كِناسِهِ ... وَأرامهِ بالرُّقشِ والحَشراتِ
وصار بِبطنِ الأرضِ يَلتحفُ الثَّرى ... وكان يَجرُّ الوشي والحَبراتِ
ولم تُغنهِ أنصارهُ وجنودهُ ... ولم تَحمهِ بِالبيضِ والأسَلاتِ
ومما شَجانِي والشُجونُ كثيرة ... ذُنوبٌ عِظامٌ أسبلتْ عَبراتِي
وأقَلقَنِي أنِّي أموتُ مُفرطًا ... على أَنِّني خَلَّفتُ بعد لَذاتِ
وأَغْفَلتُ أمرِي بعدهم مُتثبطًا ... فيا عجبًا مني ومِن غَفلاتِي(2/197)
إلى الله أشكُو جهلَ نفسِي فإنَّها ... تميلُ إلى الرَّاحاتِ والشَّهواتِ
وَيا رُبَّ خِلٍّ كنتَ ذَا صلةٍ لهُ ... يَرى أن دَفنِي من أَجلِّ صَلاتِي
وكنتُ لهُ أُنسًا وشمسًا مُنيرةً ... فأفردنِي في وَحشةِ الظُّلماتِ
سأضربُ فُسطادِي على عَسكرِ البِلَى ... وأُركزُ فيه للنُّزلِ قَناتِي
واركبُ ظهرًا لا يئوبُ بركبٍ ... ولا يُمتطَى إلا إلى الهَلكاتِ
وليس يَرى إلا بِساحة ظاعنٍ ... إلى مَصرعِ الفَرحاتِ والنَّزحاتِ
يسيرُ أدنَى النَّاسِ سيًرا كسيرهِ ... بأرفعِ مَنْعِي من السَّرواتِ
فطورًا تراهُ يَحْمِلُ الشُمَّ والرُّبَا ... وطورًا تراهُ يَحملُ الحَصياتِ
ورُبَّ حَصاةٍ قدرُهَا فوقَ يذبلٍ ... كمقبُولِ ما يُرمَي من الجَمراتِ
وكلُّ صغير كانَ لله خَالصًا ... يُربِّى عَلَى ما جَاءَ في الصَّدقاتِ
وكلُّ كبيرٍ لا يكونُ لِوجهِهِ ... فَمثلُ رمادٍ طارَ في الهَبَواتِ
ولكنَّهُ يُرْجَى لِمَنْ مَاتَ محسنًا ... ويُخْشَى على من مَاتَ في غَمراتِ
وما اليومُ يَمتازُ التَّفاضُل بينهُم ... ولكن غَدًا يَمتازُ في الدَّرجاتِ
إِذَا رُوِّعَ الخاطِي وَطَارَ فُؤادُهُ ... وَافرخَ رَوْعُ البِّر في الغُرُفاتِ
وما يعرفُ الإنسانُ أين وَفاتهُ ... أفي البرِّ أم في البحرِ أم بِفلاةِ
فَيا إخوَتي مهما شَهِدتُم جَنَازَتي ... فقومُوا لربِّي وأسألُوه نَجاتِي
وجُدُّوا ابتهالاً في الدُّعاءِ واخْلِصُوا ... لعل إلهي يَقْبَلُ الدَّعواتِ
وقولاً جميلاً إن عَلِمتُم خِلافهُ ... وأَغْضُوا على ما كان من هَفواتِ
ولا تَصفُوني بالذي أنا أهلُهُ ... فَأَشْقَى وحَلُّوني بِخيرِ صِفاتِي
ولا تَتَناسَوني فَقدْمًا ذَكَرتكمُ ... وَوَاصَلْتكُم بالبرِّ طولَ حَيَاتِي
وبالرَّغمِ فارقتُ الأحبَّةَ منكم ... ولما تُفارقني بكم زَفراتِي
وإن كنت ميتًا بين أيديكُم لَقًا ... فروحِي حيٌّ سامعٌ لِنُعاتِي
أناجيكم حيًّا وإن كنتَ صامتًا ... ألا كلكم يومًا إلىّ سَياتِي(2/198)
وليس يقومُ الجسمُ إلا بِرُوحِه ... هو القُطْبُ والأعضاءُ كالأدواتِ
ولا بدَّ يومًا أن يَحُورَ بعينه ... ليُجزَى على الطَّاعاتِ والتَّبعاتِ
وإلاَّ أكُن أهلاً لفضل ورحمةٍ ... فربي أهلُ الفَضلِ والرَّحماتِ
فما زِلتُ أرجُو عفوهُ وجِنانَهُ ... وَأَحمَدُه في اليُسرِ والأَزماتِ
وأسجدُ تعظيمًا لهُ وتذللاً ... وأَعبُدُه في الجَهرِ والخَلواتِ
وَلستُ بِمُمْتَنٍ عليه بِطَاعتِي ... لهُ المنُّ في التَّيسيرِ للحَسناتِ
آخر:
مَا دَارُ دُنيًا للمقيمِ بدارِ ... وَبها النُفوسُ فَريسةُ الأقدارِ
مَا بين ليلٍ عَاكفٍ ونهارِهِ ... نَفَسَانِ مُرتشفَانِ للأعمارِ
طولُ الحياةِ إذا مَضَى َكَقصِيرهَا ... واليُسرُ للإنسانِ كالإِعسارِ
والعَيشُ يَعْقِبُ بالمرارَةِ حُلوهُ ... والصَّفوُ فيه مُخلَّفُ الأكدارِ
وكأنما تَقْضِي بِنيَّاتُ الرَّدَى ... لِفنائِنَا وطرًا من الأوطارِ
والمرء كالطَّيفِ المُطيفِ وعُمرهُ ... كالنَّوم بين الفَجرِ والأَسْحَارِ
خَطبٌ تَضاءلتَ الخُطوبُ لهولهِ ... أَخطارُهُ تعلو على الأخطارِ
تُلقي الصَّوارمَ والرماحَ لهولهِ ... وتلوذُ من حربٍ إلى اسْتشعارِ
إنَّ الذين بنوا مَشيدًا وانْثنُوا ... يَسعونَ سَعي الفَاتكِ الجبارِ
سلُبوا النَّضارةَ والنَّعيمَ فأصبحُوا ... مُتوسدينَ وسائدَ الأحجارِ
تَركُوا دِيارهُم على أَعداهِم ... وتوسدُوا مَدرًا بغير دِثارِ
خَلَطَ الحِمَامُ قَويَّهُم بِضَعيفِهم ... وَغَنيَّهمُ سَاوَى بذِي الإِقتارِ
والخوفُ يُعجلُنا على آثارِهِم ... لا بدَّ من صبحٍ المجدِّ السَّارِي
وَتَعَاقُبُ الملوين فِينَا نَاثرٌ ... بَاكرِّ ما نَظَمَا من الأَعمارِ
انتهى.
فصل في التحذير من النار وما أعد لأهلها(2/199)
قال الله تبارك وتعالى: { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } وقال: { إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا } فيا أيها الغافل عن نفسه المغرور بما هو فيه من شواغل الدنيا المشرفة على الانقضاء والزوال دع الاشتغال والتفكر فيما أنت مرتحل عنه، واصرف فكرك واجتهادك إلى موردك الذي سترده، فإنك أخبرت أن النار مورد للجميع.
قال الله جل وعلا وتقدس: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا } فأنت من الورود على يقين، ومن النجاة في شك.
فاستشعر في قلبك هول ذلك المورد فعساك تستعد للنجاة منه، وتأمل في حال الخلائق وقد قاسوا من دواهي القيامة وأهوالها وشدائدها ما قاسوا.
فبينما هم في كربها وأهوالها ودواهيها وقوفا ينتظرون حقيقة أخبارها وتشفيع شفعائها إذا أحاطت بالمجرمين ظلمت ذات شعب وأظلت عليهم نار ذات لهب وسمعوا لها زفيرا وجرجرة تفصح عن شدة الغيض والغضب.
قال الله تبارك وتعالى: { إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب، قال الله عز من قائل: { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } .
وجئت الأمم على الركب حتى أشفق البراءاء من سوء المنقلب، قال الله جل وعلا وتقدس: { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
وخرج المنادي قائلا أين فلان المسوف نفسه في الدنيا بطول الأمل، المضيع عمره في سوء العمل.(2/200)
فيبادرونه بمقامع من حديد ويستقبلونه بعظائم التهديد ويسوقونه إلى العذاب الشديد وينكسونه في جهنم ويقولون له: { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } .
فأسكنوا دار ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك قال الله جل وعلا: { وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا } دار يخلد فيها الأسير ويوقد فيها السعير شرابهم الحميم ومستقرهم الجحيم.
قال الله تبارك وتعالى: { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ } وقال تعالى: { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } الهاوية تجمعهم والزبانية تقمعهم.
قال تبارك وتعالى: { فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ }
وقال تعالى: { إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ } أمانيهم فيها الهلاك وما لهم منها فكاك قال تعالى: { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } قد شدت أقدامهم إلى النواصي، وأسودت وجوههم من ظلمة المعاصي.
ينادون من أكنافها ويصيحون في نواحيها وأطرافها يا مالك قد حق علينا الوعيد يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد نضجت منا الجلود يا مالك العدم خير من هذا الوجود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود.(2/201)
فتقول الزبانية هيهات لات حين مناص، ولا خروج لكم من دار الهون قال الله جل جلاله وتقدست أسماؤه { قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ } .
ولو خرجتم لكنتم إلى ما نهيتم عنه تعودون قال الله تبارك وتعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } . فعند ذلك يقنطون وعلى تفريطهم في جنب الله يتأسفون ولا ينجيهم الندم ولا يغنيهم الأسف بل يكبون على وجوههم مغلولين قال تعالى: { فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } .
النار من فوقهم والنار من تحتهم والنار عن أيمانهم والنار عن شمائلهم قال الله جل وعلا: { لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } فهم غرقى في النار طعامهم نار وشرابهم نار ولباسهم نار ومهادهم نار قال الله جل وعلا: { لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } .
فهم بين مقطعات النيران وسرابيل القطران وضرب المقامع وثقل السلاسل فهم يتجلجلون في مضايقها ويتحطمون في دركاتها ويضطربون في غواشيها تغلي بهم النار كغلي القدور ويهتفون بالويل والثبور.(2/202)
قال تعالى: { فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } .
قيل إن مقامع الحديد تهشم بها جباههم فيتفجر الصديد في أفواههم وتنقطع من العطش أكبادهم وتسيل على الخلود أحداقهم وتسقط من الوجنات لحومها وتتمزق الجلود.
قال الله جل وعلا: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا } قد عريت من اللحم عظامهم فبقيت الأرواح منوطة بالعروق وعلائق العصب وهي تنش في لفح تلك النيران وهم مع ذلك يتمنون الموت فلا يموتون.
قال الله جل وعلا وتقدس: { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } فكيف بك لو نظرت إليهم وقد سودت وجوههم وأعميت أبصارهم وأبكمت ألسنتهم وقصمت ظهورهم وكسرت عظامهم ومزقت جلودهم وغلت أيديهم إلى أعناقهم وجمع بين النواصي والأقدام.
قال تعالى: { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ } وقال تعالى: { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } .
فلهيب النار سار في بواطن أجزائهم وحيات الهاوية وعقاربها متشبثة بظواهر أعضائهم. ذكر الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول إني وكلت بثلاثة بمن جعل مع الله إلها آخر وبكل جبار عنيد وبالمصورين».(2/203)
ذكر الترمذي من حديث أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: { وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ } قال: يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شرب قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله عز وجل: { وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } ويقول: { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } .
وأنشدوا:
أَمَا سَمِعْتَ بِأَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ ... وَعَنْ مُقَاسَاةِ مَا يَلْقَوْنَ فِي النَّارِ
أَمَا سَمِعْتَ بَأَكْبَادٍ لَهُمْ صَدَعَتْ ... خَوْفًا مِنَ النَّارِ قَدْ ذَابَتْ عَلَى النَّارِ
أَمَا سَمِعْتَ بِأَغْلَالٍ تُنَاطُ بِهِمْ ... فَيُسْحَبُونَ بِهَا سَحْبًا عَلَى النَّارِ
أَمَا سَمِعْتَ بِضِيقٍ فِي مَجَالِسِهِمْ ... وَفِي الْفِرَارِ وَلَا فِرَارَ فِي النَّارِِ
أَمَا سَمِعْتَ بِحَيَّاتٍٍ تَدِبُّ بِهَا ... إِلَيْهِمْ خُلِقَتْ مِنْ خَالِصِ النَّارِِ
أَمَا سَمِعْتَ بِأَجْسَادٍ لَهُمْ نَضَجَتْ ... مِنَ الْعَذَابِ وَمِنْ غَلْيٍ عَلَى النَّارِ
أَمَا سَمِعْتَ بِمَا يُكَلَّفُونَ بِهِ ... مِنِ ارْتِقَاءِ جِبَالِ النَّارِ فِي النَّارِ
حَتَّى إِذَا مَا عَلَوْا عَلَى شَوَاهِقِهَا ... صُبُّوا بِعُنْفٍ إِلَى أَسَافِلِ النَّارِ
أَمَا سَمِعْتَ بِزَقُّومٍ يُسَوِّغُهُ ... مَاءٌ صَدِيدٌ وَلَا تَسْوِيغَ فِي النَّارِ
يُسْقَوْنَ مِنْهُ كُئُوسًا مُلِئَتْ سُقْمًا ... تَرْمِي بِأَمْعَائِهِمْ رَمْيًا عَلَى النَّارِ
يَشْوِي الْوُجُوهَ وُجُوهَا أُلْبِسَتْ ظُلْمًا ... بِئْسَ الشَّرَابُ شَرَابُ سَاكِنِي النَّارِ
وَلَا يَنَامُونَ إِنَ طَافَ الْمَنَامُ بِهِمْ ... وَلَا مَنَامَ لِأَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ(2/204)
إِنْ يَسْتَقِيلُوا فَلَا تُقَالُ عُثْرَتُهُمْ ... أَوْ يَسْتَغِيثُوا فَلَا غِيَاثَ فِي النَّارِ
وَإِنْ أَرَادُوا خُرُوجًا رُدَّ خَارِجُهُمْ ... بِمَقْمَعِ النَّارِ مَدْحُورًا إِلَى النَّارِ
فَهُمْ إِلَى النَّارِ مَدْفُوعُونَ بِالنَّارِ ... وَهُمْ مِنَ النَّارِ يُهْرَعُونَ لِلنَّارِ
مَا أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهِمْ ... وَلَا تُفَتَّرُ عَنْهُمْ سَوْرَةُ النَّارِ
فَهَذِهِ صَدَعَتْ أَكْبَادُ سَامِعِهَا ... مِنْ ذِي الْحِجَا وَمِنْ التَّخْلِيدِ فِي النَّارِ
وَلَوْ يَكُونُ إِلَى وَقْتِ عَذَابِهِمْ ... فِي النَّارِ هَوَّنَ ذَاكُمْ لَفْحَةَ النَّارِ
فَيَا إِلَهِي وَمَنْ أَحْكَامُهُ سَبَقَتْ ... فِي الْفِرْقَتَيْنِ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالنَّارِ
رَحْمَاكَ يَا رَبِّ فِي ضَعْفِي وَفِي ضَعَتِي ... فَمَا وُجُودُكَ لِي صَبْرٌ عَلَى النَّارِ
وَلَا عَلَى حَرِّ شَمْسٍ إِنْ بَرَزْتُ لَهَا ... فَكَيْفَ أَصْبِرُ يَا مَوْلَايَ لِلنَّارِ
فَإِنْ تَغَمَّدَنِي عَفْوٌ وَثِقْتُ بِهِ ... مِنْكَ وَإِلَّا فَإِنِّي طُعْمَةُ النَّارِ
آخر:
يَا مُنْفِقَ الْعُمْرِ فِي حِرْصٍ وَفِي طَمَعٍ ... إِلَى مَتَى قَدْ تَوَلَّى وَانْقَضَى الْعُمُرُ
إِلَى مَتَى ذَا التَّمَادِي فِي الضَّلَالِ أَمَا ... تُثْنِيكَ مَوْعِظَةٌ لَوْ يَنْفَعُ الذِّكْرُ
بَادِرْ مَتَابًا عَسَى مَا كَانَ مِنْ زَلَلٍ ... وَمَا اقْتَرَفْتَ مِن الْآثَامِ يَغْتَفِرُ
وَجَنِّبِ الْحِرْصَ وَاتْرُكْهُ فَمَا أَحَدٌ ... يَنَالُ بِالْحِرْصِ مَا لَمْ يُعْطِهِ الْقَدَرُ
وَلَا تُؤْمِلْ لِمَا تَرْجُو وَتَحْذَرُهُ ... مَنْ لَيْسَ فِي كَفِّهِ نَفْعٌ وَلَا ضَرَرُ
وَفَوِّضِ الْأَمْرَ لِلرَّحَمَنِ مُعْتَمِدًا ... عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ
وَاحْذَرْ هُجُومَ الْمَنَايَا وَاسْتَعِدَّ لَهَا ... مَا دَامَ يُمْكِنُكَ الْإِعْدَادُ وَالْحَذَرُ(2/205)
انتهى
آخر:
لِمَنْ جَدَثٌ أَبْصَرْتُهُ فَشَجَانِي ... وَأَرْسَلَ فِي شَجْوِ الْهُمُومِ عِنَانِي
سَفَكْتُ عَلَيْهِ أَدْمُعِي فَسَقَيْتُهُ ... كَمَا هُوَ مِنْ كَأْسِ الشُّجُونِ سَقَانِي
وَقَفْتُ بِهِ حَيْرَانَ وَقْفَةَ هَائِمٍ ... أُعَالِجُ قَلْبًا دَائِمَ الْخَفَقَانِ
وَمَا بِي مَنْ فِي الْقَبْرِ لَكِنْ رَأَيْتُهُ ... عَلَى حَالَةٍ فِيهَا وَشِيكَ أَرَانِي
آخر:
وَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي ... جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوِكَ سُلَّمَا
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ ... بِعَفْوكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا
فَلِلَّهِ دَرُّ الْعَارِفِ النَّدْبِ إِنَّهُ ... تَسُحُّ لِفَرْطِ الْوَجْدِ أَجْفَانُهُ دَمَا
يُقِيمُ إِذَا مَا اللَّيْلُ مَدَّ ظَلَامَهُ ... عَلَى نَفْسِه مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ مَأْتَمَا
فَصِيحًا إِذَا كَانَ مِنْ ذِكْرِ رَبِّهِ ... وَفِيمَا سِوَاهُ فِي الْوَرَى كَانَ مُعْجَمَا
وَيَذْكُرُ أَيَّامًا مَضَتْ مِنْ شَبَابِهِ ... وَمَا كَانَ فِيهَا فِي الْجَهَالَةِ أَجْرَمَا
فَصَارَ قَرِينَ الْهَمِّ طُولَ نَهَارِهِ ... وَيَخْدِمُ مَوْلَاهُ إِذَا اللَّيْلُ أَظْلَمَا
يَقُولُ إِلَهِي أَنْتَ سُؤْلِي وَبُغْيَتِي ... كَفَى بِكَ لِلرَّاجِينَ سُؤْلًا وَمَغْنَمَا
فَأَنْتَ الَّذِي غَذَّيْتَنِي وَكَفَلْتَنِي ... وَمَا زِلْتَ مَنَّانًا عَلَيَّ وَمُنْعِمَا
رَجَوْتُكَ مَوْلَى الْفَضْلِ تَغْفِرُ زَلَّتِي ... وَتَسْتُرُ أَوْزَارِي وَمَا قَدْ تَقَدَّمَا
انتهى.
آخر:
قِفْ بِالْقُبُورِ بِأَكْبَادٍ مُصَدَّعَةً ... وَدَمْعَةٍ مِنْ سَوَادِ الْقَلْبِ تَنْبَعِثُ
وَسَلْ بِهَا عَنْ أُنَاسٍ طَالَمَا رَشَفُوا ... ثَغْرَ النَّعِيمِ وَمَا فِي ظِلِّهِ مَكَثُوا
مَاذَا لَقُوا فِي خَبَايَاهَا وَمَا قَدِمُوا ... عَلَيْهِ فِيهَا وَمَا مِنْ أَجْلِهِ ارْتَبَثُوا(2/206)
وَعَنْ مَحَاسِنِهِمْ أَنْ كَانَ غَيَّرَهَا ... طُولُ الْمُقَامِ بِبَطْنِ الْأَرْضِ وَاللَّبَثُ
وَمَا لَهُمْ حَشَرَاتُ الْأَرْضِ تَنْهَشُهُمْ ... نَهْشًا تَزُولُ لَهُ الْأَعْضَاءُ وَالنَّجَثُ
وَتِلْكُمُ الْفَتَيَاتُ إِذْ طُرِحْنَ بِهَا ... هَلْ كَاَن فِيهِنَّ ذَا التَّغْيِيرُ وَالشِّعَثُ
فَإِنْ يُجِبْكَ عَلَى لِأَيِّ مُجِيبْهُمُوا ... وَلَنْ يُجِيبَ وَأَنَّى يَنْطِقُ الْجَدَثُ
فَانْظُرْ مَكَانَكَ فِي أَفْنَاءِ سَاحَتِهِمْ ... فَإِنَّهُ الْجِدُّ لَا هَزْلٌ وَلَا عَبَثُ
انتهى.
آخر:
لِمَنِ الْأَقْبُرُ فِي تِلْكَ الرُّبَى ... مَلَأَتْ صَدْرِي شَجْوًا وَأَسَى
لِمَنِ الْأَوْجُهُ فِيهَا كَسَفَتْ ... بَعْدَ حُسْنٍ وَجَمَالٍ وَضِيَا
لِمَنِ الْأَجْسَامُ فِيهَا بَلِيَتْ ... بَعْدَ زَهْوٍ وَشَبَابٍ وَانْتِشَا
وَمِنِ الْفُرْسَانُ فِيهَا قَدْ نَسُوا ... رَوْعَةَ الْحَرْبِ بِرَوْعَاتِ الثَّرَا
وَرَمَوْا إِذْ هَتَفَ الْمَوْتُ بِهِمْ ... بِسُيُوفِ الْهِنْدِ رَوْعًا وَالْقَنَا
وَمَنِ الْخُرَّدُ فِيهَا شَدَّمَا ... فَتَكَتْ قَبْلَ آسَادِ الشَّرَا
نَظَرَ الْمَوْتُ إِلَيْهَا فَغَدَتْ ... تَنْفُرُ الْأَنْفُسُ مِنْهَا إِذْ تُرَى
لِمَنِ الْأَقْبُرُ فِي تِلْكَ الرُّبَى ... أَلْبَسَتْ جِسْمِيَ أَثْوَابَ الضَّنَا
يَا جُفُونًا أَرْسَلَتْ أَدْمُعَهَا ... مَا بِذَا بَأْسٌ لَوْ أَرْسَلْتِ الدَّمَا
صَاحِ يَا صَاحِ وَنِيرَانُ الْجَوَى ... عَلِقَتْ مِنِّي بِأَثْنَاءِ الْحَشَا
لَا تَظَنَنَّ بُكَائِي لَهُمُوا ... لَيْسَ وَاللهِ لَهُمْ هَذَا الْبُكَا
إِنَّمَا أَبْكِي لِنَفْسِي لَا لَهُمْ ... فَكَأَنِّي الْيَومَ فِيهِمْ أَوْ غَدَا
هَامِدُ الْجَمْرَةِ مَوْهُونُ الْقُوَى ... دَائِمُ الْحَسْرَةِ مَقْطُوعُ الْعُرَى
آخر:(2/207)
يَا طَالِبًا رَاحَةً مِنْ دَهْرِهِ عَبَثًا ... أَقْصِرْ فَمَا الدَّهْرُ إِلَّا بِالْهُمُومِ مُلِي
كَمْ مَنْظَرٍ زَائِقٍ أَفْنَتْ جَمَالَتَهُ ... يَدُ الْمَنُونِ وَأَعْيَتْهُ عَنِ الْحِيَلِ
وَكَمْ هُمَامٍ وَكَمْ قَرْمٍ وَكَمْ مَلِكٍ ... تَحْتَ التُّرَابِ وَكَمْ شَهْمٍ وَكَمْ بَطَلِ
وَكَمْ إِمَامٍ إِلَيْهِ تَنْتَهِي دُوَلٌ ... قَدْ صَارَ بِالْمَوْتِ مَعْزُولًا عَنِ الدُّوَلِ
وَكَمْ عَزِيزٍ أَذَلَّتْهُ الْمَنُونُ وَمَا ... أَنْ صَدَّهَا عَنْهُ مِنْ مَالٍ وَلَا خَوَلِ
يَا عَارِفًا دَهْرَهُ يَكْفِيكَ مَعْرِفَةً ... وَإِنْ جَهِلْتَ تَصَارِيفَ الزَّمَانِ سَلِ
هَلْ فِي زَمَانِكَ أَوْ مَنْ قَبْلَهُ سَمَعَتْ ... أُذُنَاكَ أَنْ ابْنَ أُنْثَى غَيْرُ مُنْتَقِلِ
وَهَلْ رَأَيْتَ أُنَاسًا قَدْ عَلَوْا وَغَلَوْا ... فِي الْفَضْلِ زَادُوا بِمَا نَالُوا عَنِ الْأَجَلِ
أَوْ هَلْ نَسِيتَ "لِدُوا لِلْمَوتِ" أَوْ عَمِيَتْ ... عَيْنَاكَ عَنْ وَاضِعٍ نَعْشًا وَمُحْتَمِلِ
وَهَلْ رَعَى الْمَوْتُ ذَا عِزٍّ لِعِزَّتِهِ ... أَوْ هَلْ خَلَا أَحَدٌ دَهْرًا بِلَا خَلَلِ
الْمَوْتُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ ... لَكِنَّ ذَا الْفَضْلِ مَحْمُولٌ عَلَى عَجَلِ
وَلَيْسَ فَقْدُ إِمَامٍ عَالِمٍ عَلَمٍ ... كَفَقْدِ مَنْ لَيْسَ ذَا عِلْمٍ وَلَا عَمَلِ
وَلَيْسَ مَوْتُ الَّذِي مَاتَتْ لَهُ أُمَمٌ ... كَمَوْتُ شَخْصٍ مِنَ الْأَوْغَادِ وَالسِّفَلِ
انتهى.
آخر:
وَكَيْفَ قَرَّتْ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْيُنُهُمْ ... أَوْ اسْتَلَذَوْا لَذِيذَ النَّوْمِ أَوْ هَجَعُوا
وَالْمَوْتُ يُنْذِرُهُمْ جَهْرًا عَلَانِيَةً ... لَوْ كَانَ لِلْقَوْمِ أَسْمَاعٌ لَقَدْ سَمِعُوا
وَالنَّارُ ضَاحِيَةٌ لَا بُدَّ مَوْرِدُهُمْ ... وَلَيْسَ يَدْرُونَ مَنْ يَنْجُو وَمَنْ يَقَعُ(2/208)
قَدْ أَمْسَتِ الطَّيْرُ وَالْأَنْعَامُ آمِنَةٌ ... وَالنُّونُ فِي الْبَحْرِ لَا يَخْشَى لَهَا فَزَعُ
وَالْآدَمِيُّ بِهَذَا الْكَسْبِ مُرْتَهَنٌ ... لَهُ رَقِيبٌ عَلَى الْأَسْرِارِ يَطَّلِعُ
حَتَّى يَرَى فِيهِ يَوْمَ الْجَمْعِ مُنْفَرِدًا ... وَخَصْمُهُ الْجِلْدُ وَالْأَبْصَارُ وَالسَّمْعُ
وَإِذْ يَقُومُونَ وَالْأَشْهَادُ قَائِمَةٌ ... وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالْأَمْلَاكُ قَدْ خَشَعُوا
وَطَارَتِ الصُّحُفُ فِي الْأَيْدِي مُنْشَّرَةً ... فِيهَا السَّرَائِرُ وَالْأَخْبَارُ تُطلعُ
فَكَيْفَ بِالنَّاسِ وَالْأَنْبَاءُ وَاقِعَةٌ ... عَمَّا قَلِيلٍ وَمَا تَدْرِي بِمَا تَقَعُ
أَفِي الْجِنَانِ وَفَوْزٍ لَا انْقِطَاعَ لَهُ ... أَمْ فِي الْجَحِيمِ فَلَا تَبْقَى وَلَا تَدَعُ
تَهْوِي بِسُكَّانِهَا طَوْرًا وَتَرْفَعُهُمْ ... إِذَا رَجَوْا مَخْرَجًا مِنْ غَمِّهَا قُمِعُوا
طَالَ الْبُكَاءُ فَلَمْ يَنْفَعْ تَضَرُّعُهُمْ ... هَيْهَاتَ لَا رِقَّةٌ تُغْنِي وَلَا جَزَعُ
انتهى
آخر:
يَا نَائِمًا وَالْمَنُونَ يَقْضِي ... وَغَائِبًا وَالْحِمَامُ أَوْفَى
جَاءَكَ أَمْرٌ وَأَيُّ أَمْرٍ ... طَمَّ عَلَى غَيْرِهِ وَعَفَّى
هَلْ بَعْدَ هَذَا الْمَشِيبِ شَيْءٌ ... غَيْرَ تُرَابٍ عَلَيْكَ يُحْثَى
فَلَيْسَ هَذَا الْأَمْرُ سَهْلًا ... وَلَا بِشَيْءٍ عَلَيْكَ يَخْفَى
مِنْ بَعْدِ مَا الْمَرْءُ فِي بَرَاحٍ ... يَهْتَزُّ تِيهًا بِهِ وَظَرْفَا
سَاكِنُ نَفْسٍ قَرِيرُ عَيْنٍ ... يَرْشُفُ ثَغْرَ النَّعِيمِ رَشْفَا
إِذْ عَصَفَتْ فِي دَارِهِ رِيحٌ ... تَقْصِفُ كُلَّ الظُّهُورِ قَصْفَا
فَبَاتَ فِي أَهْلِهِ حَصِيدًا ... قَدْ جَعَفَتْهُ الْمَنُونُ جَعْفَا
فَعَادَ ذَاكَ النَّعِيمُ بُؤْسًا ... وَصَارَ ذَاكَ السُّكُونُ رَجْفَا
وَسِيقَ سَوْقًا إِلَى ضَرِيحٍ ... يُرْصَفُ بِالرَّغْمِ فِيهِ رَصْفًا(2/209)
وَبَاتَ لِِلدَّوْدِ فِيهِ طَعْمًا ... وَلِلْهَوامِّ الْعِطَاشِ رَشْفَا
وَلَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ رَهِينًا ... بِكُلِّ مَا قَدْ هَفَا وَأَهْفَا
آخر:
وَمُجَرِّر خَطِيَّة يَوْمَ الْوَغَى ... مُنْسَابَة مِنْ خَلْفِهِ كَالْأَرْقَمِ
تَتَضَاءَلُ الْأَبْطَالُ سَاعَةَ ذِكْرِهِ ... وَتَبِيتُ مِنْهُ فِي إِبَاءَةِ ضَيْغَمِ
شَرِسُ الْمُقَادَةِ لَا يَزَالُ رَبِيئَةً ... وَمَتَى يُحِسُّ بِنَارِ حَرْبٍ يُقْدِمِ
تَقَعُ الْفَرِيسَةُ مِنْهُ فِي فَوْهَاءَ إِنْ ... يُطْرَحْ بِهَا صُمُّ الْحِجَارَةِ يُحْطَمِ
ظَمْآنَ لِدَّمِ لَا يَقُومُ بِرَيِّهِ ... إِلَّا الْمُرَّوقُ فِي الْجُسُومِ مِنَ الدَّمِ
جَاءَتْهُ مِنْ قِبَلِ الْمَنُونِ إِشَارَةٌ ... فَهَوَى صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِّ
وَرَمَى بِمُحْكَمٍ دِرْعِهِ وَبِرُمْحِهِ ... وَامْتَدَّ مَلْقَى كَالْبَعِيرِ الْأَعْظَمِ
لَا يَسْتَجِيبُ لِصَارِخٍ إِنْ يَدْعُهُ ... أَبْدًا وَلَا يُرْجَى لِخَطْبِ مُعْظَمِ
ذَهَبَتْ بَسَالَتُهُ وَمَرَّ غَرَامُهُ ... لَمَّا رَآى خَيْلَ الْمَنِيَّةِ تَرْتَمِي
يَا وَيْحَهُ مِنْ فَارِسٍ مَا بَالُهُ ... ذَهَبَتْ فُرُوسَتِهِ وَلَمَّا يُكْلَمِ
هَذِي يَدَاهُ وَهَذِهِ أَعْضَاؤُهُ ... مَا مِنْهُ مِنْ عُضْوٍ غَدَا بِمُثَلَّمِ
هَيْهَاتَ مَا خَيْلُ الرَّدَى مُحْتَاجَةٌ ... لِلْمَشْرَفِيِّ وَلَا السِّنَانِ اللَّهْذَمِ
هِيَ وَيَحْكُمْ أَمْرُ الْإِلَهِ وَحُكْمُهُ ... وَاللهُ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ الْمُحْكَمِ
يَا حَسْرَةً لَوْ كَانَ يُقْدَرُ قَدْرُهَا ... وَمُصِيبَةً عَظُمَتْ وَلَمَّا تَعْظُمُ
خَبَرٌ عَلِمْنَا كُلُّنَا بِمَكَانِهِ ... وَكَأَنَّنَا فِي حَالِنَا لَمْ نَعْلَمِ
آخر:
أَلَمْ تَسْمَعْ عَنِ النَّبَأِ الْعَظَيمِ ... وَعَنْ خَطْبِ خُلِقَتْ لَهُ جَسِيمُ(2/210)
وَزِلْزَالٍ يَهُدُّ الْأَرْضَ هَدًّا ... وَيَرْمِي فِي الْحَضِيضَةِ بِالنُّجُومِ
وَأَهْوالٍ كَأَطْوَادِ رَوَاسَيْ ... تَلَاطَمُ فِي ظُلُوعِ كَالْهَشِيمِ
فَمِنْ رَأْسٍ يَشِيبُ وَمَنْ فُؤَادٍ ... يَذُوبُ وَمِنْ هُمُومٍ فِي هُمُومِ
وَسَكْرانٍ وَلَمْ يَشْرَبْ لِسُكْرٍ ... وَهَيْمَانٍ وَلَمْ يَعْلَقْ بِرِيمِ
وَمُرْضِعَةٍ قَدْ أَذْهَلَهَا أَسَاهَا ... فَمَا تَدْرِي الرَّضِيعَ مِنَ الْفَطِيمِ
وَمُؤْتَمةٍ تَوَلَّتْ عَنْ بَنِيهَا ... وَأَلْقَتْ بِالْيَتِيمَةِ وَالْيَتِيمِ
وَحُبْلَى أَسْقَطَتْ ذُعْرًا وَخَوْفًا ... فَيَاللهُ لِلْيَوْمِ الْعَقِيمِ
وَهَذَا مَشْهَدٌ لَا بُدَّ مِنْهُ ... وَجَمْعٌ لِلْحَدِيثِ وَلِلْقَدِيمِ
وَمَا كِسْرَى وَقَيْصَرُ وَالنَّجَاشِي ... وَتُبَّعُ وَالقُرُوْمُ بَنُو القُروْمِ
بِذَاكَ اليَوْم إِلاَّ فِي مَقَامِ ... أَذَل مِن التُّرابِ لِذِي السَّلِيْمِ
وَمَا لِلمَرء إِلاَّ مَا سَعَاهُ ... لدَار البُؤس أو دَار النعيم
وَأَنْتَ كَمَا عَلِمْتَ وَرَبِّ أَمْرٍ ... يَكُون أَذَاهُ أَوْقَعَ بِالَعلِيْمِ
فَدَعْ عَيْنَيْكَ تُسَبْح فِي مَعِيْن ... وَقَلْبُكَ ذَرْهُ يَقْلُبُ فِي جَحِيْم
وَشُقَّ جُيُوبَ صَبْرِكَ شَقَّ ثُكْلَى ... تَعَلَّقَتِ ابْنَهَا رَجُلاً سَهُوْمُ
وَمَاذَا الأَمْرُ ذَلِكُمُ وَلَكِن ... تُشَبَّهُ بِالبِحَارِ يَدُ الكَرِيُمِ
آخر:
امْدُد يَمِيْنَكَ مِن دُنْيَاكَ آخِذة ... كِتَابَ فَوْزِكَ إِذْ تَحْتَلُّ أَخْرَاكَا
فَلَسْتَ تُدْرِكُ مَا فِي ذَاكَ مِن أَمَلْ ... إِلاَّ بِوَاسِطَةٍ مِن دَار دُنْيَاكَا
فَإِنْ تَكَاسَلْتَ أَوْ قَصَّرْتَ فِي طَلَبٍ ... كنت المخيب والمطلوب إذا ذاكا
يَا نَائِمَ القَلْبِ عَن أَمْرٍ يُرَادُ بِهِ ... نَبِّهِهُ وَيْحَكَ إِنَّ الأَمْرَ حَاذَاكَا
وَاشْدُدْ حُزَيْمَكَ وَاكْشِفْ سَاعِدَيْكَ لَهُ ... فَرُبَّمَا حَمدَتْ بِالْجِدِ عُقْبَاكَا(2/211)
كَمْ رَابِحٍ بِكِتَابٍ كَانَ أَمْلأَهُ ... هُنَا بِمَا شَاءَ لاَ مَنْ كَانَ أَفْاكَا
فَظَلَّ مُرْتَقِيًا أَدْرَاجَ مَكْرُمَةٍ ... فِي عَدْنٍ أَوْ نَازلاً فِي النَّار أَدْراكَا
وَطَلْعَةُ المَوْت تُبْدِي عَن حَقيقةٍ مَا ... تُمْلِي فَإيَّاكَ أَنْ تَنْسَاهُ إِيَّاكَا
انتهى.
آخر:
مَاذَا تُؤْملُ وَالأَيَّامُ ذَاهِبَةٌ ... وَمَنْ وَرَائِكَ لِلأَيَّامِ قُطَّاعُ
وَصَيْحَةٍ لِهُجْومِ المَوْت مُنْكِرةٌ ... صُمَّتْ لِوَقْعَتِهَا الشَّنْعَاءِ أَسْمَاعُ
وغُصَّةٍ بِكؤوسٍ أَنْتَ شَارِبُهَا ... لَهَا بِقَلْبِكَ آَلاَمٌ وَأَوْجَاعُ
يَا غَافِلاً وَهْوَ مَطْلُوبٌ وَمُتَّبَعٌ ... أَتَاكَ سَيْلٌ مِن الفُرْسَانِ دَفَّاعُ
خذها إِلَيْكَ طعانا فِيْك نَافِذةَ ... تَعْدِي الْجَلِيْسَ وَأمرُ لَيْسَ يُسْطَاعُ
إِنَّ الْمَنِيَّةَ لَوْ تُلْقَى عَلَى جَبَلٍ ... لأَصْبَحَ الصَّخْرُ مِنْهُ وَهْوَ مَيَّاعُ
انتهى
آخر:
وَاذكُرْ رُقَادِكَ فِي الثَّرَى ... فِي قَعْرٍ مُظْلِمَةٍ بَهَيمْ
قَدْ نَحِّيَتْ تِلْكَ الحُلَى ... واستَبْدَلَتْ تِلْكَ الرُّسُومْ
وَتَرَكْتَ وَيْحَكَ مُفْرَدًا ... لا أَهْل فِيْهِ وَلاَ حَمِيْمْ
حَيْرَانَ تَفْزَعَ لِلبُكَا ... لَهْفَان تَأنَسُ بِالغُمُوْمْ
حَتَّى يُنَادَى بِالوَرَى ... فَتَقُوُم أَسْرَعَ مَا تَقُوْمْ
عَرْيَانَ مُصْطَفِقَ الْحَشَا ... هَيْمَانَ مُجْتَمِعَ الْهُمُوْمْ
وَالنَّاس قَدْ رَجَفَتْ بِهِم ... حَرْبُ هُنَا لِكُمُوا عَقِيْمْ
فِي مَأزَقٍ تَهْفُو بِهِ ... لَفَحَاتِ نِيْرانِ السًّمُوْمْ
وَبَدَتْ هُنَاكَ سَرَائِرٌ ... قَدْ كُنْتَ قَبْلُ لَهَا كَتُوْمْ
وَرَأَيْتَ فِي مَحْصُولِهَا ... مَا شِئْتَ مِنْ خُسْرٍ وَشُؤْمْ
آخر:
اعتَزلْ ذكر الغواني وَالغَزَل ... وَقُلِ الفصل وجانبْ من هَزَلْ
ودع الذكرى لأَيَّام الصبا ... فلأَيَّام الصِّبَا نجمٌ أَفَلْ(2/212)
إن أهُنَا عِيشةٍ قَضَيْتَهَا ... ذَهَبتْ لَذَّاتُهَا وَالإثْمُ حَلْ
واترك الغادة لاَ تَحْفَل بِهَا ... تُمْس فِي عِزّ رَفِيْعٍ وَتُجلْ
وَافتَكِر فِي مُنْتَهَى حُسْنَ الَّذِي ... أَنْتَ تَهْوَاهُ تَجِدْ أَمرًا جَلَلْ
وَاهْجُرِ الخَمْرَةَ إِنْ كُنْتَ فَتًى ... كَيْفَ يسعى فِي جنون من عقل
وَاتقِ اللهَ فَتَقْوَى اللهِ مَا ... باشرت قلب امرئ إِلاَّ وَصلْ
لَيْسَ مَن يَقْطَع طَرقًا بَطَلا ... إِنَّمَا من يتقي الله بطلْ
صدق الشرع وَلاَ تركن إِلَى ... رَجل يَرْصُدُ فِي اللَّيْلِ زُحَلْ
حارت الأفكار فِي قدرة من ... قد هدانا سبلنا عز وَجلْ
أَيْنَ نمرود وَكنعان وَمن ... ملك الأَرْض وَولى وَعزلْ
أَيْنَ عاد أَيْنَ فرعون وَمن ... رَفَعَ الأهرام من يسمع يخلْ
أَيْنَ من سَادُوا وَشَادُوا وَبنوا ... هَلَكَ الكُلُّ فَلَمْ تُغْنِ القُلِلْ
أَيْنَ أرباب الحجى أَهْل النهى ... أَيْنَ أَهْل العلم وَالقوم الأولْ
سَيعِيْدُ اللهُ كُلاَّ مِنْهُمْ ... وسَيجْزِي فاعِلاً مَا قَدْ فَعلْ
يَا بُني اسْمعُ وَصَايا جَمعتْ ... حِكْمًا خُصَتْ بِهَا خَيْرُ الْمِلل ْ
اطْلبِ العِلْمَ وَلاَ تَكْسَلْ فَمَا ... أَبْعَد الْخَيْرَ عَلَى أَهْل الكَسَلْ
وَاحْتَفِلْ لِلفِقْهِ فِي الدِّيْنِ وَلا ... تَشْتَغِلْ عَنْهُ بِمَالٍ وَخَوَلْ
وَاهْجُر النَّومَ وَحَصْله فَمَنْ ... يَعْرِفِ الْمَطْلُوبَ يَحْقِرْ مَا بَذَلْ
لاَ تَقُلْ قَدْ ذَهَبَتْ أرْبَابُهُ ... كُلُّ مَنْ سَارَ عَلَى الدَّرْبِ وَصَلْ
فِي ازْدِيَادِ العِلْمِ إِرْغَامُ العِدَى ... وَجَمَالُ العِلْم إِصْلاَحُ العَمَلْ
أَنَا لاَ أَخْتَارُ تَقْبِيْلَ يَدٍ ... قَطعُهَا أَجْمَلُ مِن تِلْكَ القُبَلْ
إَنْ جَزْتَنِي عَن مَدِيْحِي صَرت فِي ... رِقِّها أَوْلاً فِيْكفيني الْخَجَلْ
مُلْكُ كِسْرَى عَنْهُ تُغْنِي كِسْرةَ ... وَعَنْ البَحْرِ اكتِفَاءَ بِالوَشَلْ(2/213)
أعذب الألفاظ قولي لك: خذ ... وَأَمَرُّ اللفظِ نَطْقِي بلَعَلْ
اعْتبرْ { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ } ... تلْقهِ حَقًّا { وَبِالْحَقِّ نَزَلَ }
لَيْسَ مَا يَحْوى الفَتَى مِن عَزْمِهِ ... لا وَلاَ مَا فات يَوْمًا بِالكَسَلْ
اطْرَح الدُّنْيَا فَمَنْ عَادَاتِهَا ... تَخْفِضُ العَالِي وَتعلِي مَنْ سَفُلْ
عِيشة الرَّاغِبِ فِي تَحْصِيْلِهَا ... عِيْشَةُ الزَّاهِد فِيْهَا أَوْ أَقَلْ
كَمْ جَهُول وَهْوَ مثر مكثر ... وَعَلِيْم مَات مِنْهَا بِالعِلَلْ
كَمْ شُجَاعٍ لَمْ يَنَلْ مِنْهَا الْمُنَى ... وَجَبَانٍ نَالَ غَايات الأملْ
فِاتْرِكِ الْحِيْلَة فِيْهَا وَاتْئِدْ ... إِنَّمَا الْحِيْلَة فِي تَرك الْحِيَلْ
أَيْ كَفَّ لَمْ تَنَلْ مِمَّا تَفِدْ ... فَرَمَاهَا اللهُ مِنْهُ بِالشَّلَلْ
لاَ تَقُل أَصْلي وَفَصْلي أَبَدًا ... إِنَّمَا أَصْلُ الْفَتَى مَا قَدْ حَصَلْ
قَدْ يَسودُ الْمَرءُ مِن غَيْرِ أَبٍ ... وَبِحُسْنِ السَّبكِ قَدْ يُنْفْى الزَّغَلْ
وَكَذَا الْوَرد مِن الشَّوكِ وَمَا ... يَطَلعُ النَّرجِسُ إِلاَّ مِنْ بَصَلْ
مع أني أحمد الله على ... نسبي إذ بأبي بكر اتصلْ
قِيْمَة الإِنْسَانِ مَا يُحْسُنُه ... أَكْثَرَ الإِنْسَانُ مِنْهُ أَوْ أَقَلْ
اكْتُمِ الأَمْرَيْنِ فَقْرًا وَغِنًى ... وَاكْسَبِ الفِلْسَ وَحَاسِبْ مَنْ مَطَلْ
وادَّرعْ جِدًّا وَكدا وَاجْتَنِبْ ... صُحْبَة الْحَمْقَى وَأَرْبَابِ الدِّوَلْ
بَيْنَ تَبْذِيْرٍ وَبخْل رُتْبَةٌ ... وَكلا هَذين إِنْ زَادَ قَتلْ
لاَ تَخُضْ فِي حَقِّ سَادَاتٍ مَضُوا ... إِنَّهُم لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِلزَلَلْ
وَتَغَافَل عَن أُمورٍ إِنَّهُ ... لَمْ يَفُزْ بِالحَمْدِ إِلاَّ مَنْ غَفَلْ
لَيْسَ يخلو المرء من ضد وَلو ... حاول العزلة فِي رأس جبلْ
مِلْ عَن النَّمَّامِ وَازجُرهُ فَمَا ... بَلغَ الْمَكْرُوه إِلاَّ مَنْ نَقَلْ(2/214)
دَار جارَ السَّوْءِ بِالصَّبْرِ فَإِنَّ ... لم تَجِدْ صَبْرًا فَمَا أَحْلَى النَّقَلْ
جَانِبْ السُّلْطَان وَاحْذَرْ بَطْشَهُ ... لاَ تُعَانِدْ مَنْ إِذَا قَالَ فَعَلْ
لاَ تَلي الْحُكْمَ وَإنْ هُم سَألُوا ... رَغْبَة فِيْك وَخَالِفْ مَنْ عَذَلْ
إنَّ نِصْفَ النَّاسِ أَعْدَاء لِمَنْ ... وُلِّيَ الأَحْكَامَ هَذَا إِنْ عَدَلْ
فَهُو كَالمَحْبُوسِ عَن لَذَّاتِهِ ... وَكلا كفيه فِي الْحَشْرِ تَغلْ
إِنَّ لِلنَقْصِ وَالاستِثْقَالِ فِي ... لَفْظَةِ القَاضِي لَوعظًا وَمَثَلْ
لاَ توازِي لَذْةُ الْحُكْمِ بِمَا ... ذَاقَه الشَّخْصُ إِذَا الشَّخْصُ انْعَزَلْ
فَالوِلاَيَاتُ وَإِنْ طَابَتْ لِمَنْ ... ذَاقَهَا فَالسُّم فِي ذَاكَ العَسَلْ
نَصَبُ الْمَنْصِبِ أَوْهَى جَلَدِي ... وَعَنَائِي مِنْ مُداراةِ السَّفلْ
قَصر الآَمَال فِي الدُّنْيَا تَفُزْ ... فدليل العقل تقصير الأملْ
إَنَّ مَنْ يَطْلُبَهُ المَوْت عَلَى ... غُرَّةٍ مِنْهُ جَدِيْرٍ بِالوَجَلْ
غِبْ وَزر غِبا تَزِدْ حُبَّا فَمَنْ ... أَكْثَر التّرْدَاد أَقْصَاهُ الْمَلَلْ
خُذْ بِنَصْلِ السَّيْفِ وَاتْرُكْ غَمْدَهُ ... وَاعْتَبِر فَضْلَ الفَتَى دُوْنَ الْحُلَلْ
لاَ يَضُرُّ الْفَضْلَ إِقْلاَلُ كَمَا ... لا يَضُرُّ الشَّمْسَ إِطْبَاقُ الطَّفَلْ
حُبُّكَ الأَوْطَانُ عَجْزُ ظَاهِرَّ ... فَاغْتَرِبْ تَلْقَ عَن الأَهْل بَدَلْ
فَبِمُكْثِ الْمَاءِ يَبْقَى آَسنِا ... وَسُرَى البَدْرِ بِهِ البَدْرُ اكْتَمَلْ
أَيُّهَا العَائِبُ قَوْلِي عَبَثًا ... إِنَّ طِيْبَ الوَرْدِ مُؤْذٍ لِلْجُعَلْ
عَدِّ عَن أَسْهُمِ قَوْلِي وَاسْتَتِرْ ... لاَ يُصِيبَنَّكَ سَهْمٌ مِن ثُعَلْ
وَصَلاة وَسَلامًا أَبَدًا ... لِلنَبِيِّ المُصْطَفَى خَيْر الدُّولْ
وَعَلَى الآَلِ الكِرَامِ السًّعَدَا ... وَعَلَى الأَصْحَابِ وَالقَوْمِ الأُولْ(2/215)
مَا ثَوَى الرَّكِبُ بِعُشَّاقٍ إِلَى ... أَيْمنِ الْحَيِّ وَمَا غَنَّى رَمَلْ
انتهى.
آخر:
أَتَلْهُو بَيْنَ تِلْفَازٍ وَكُوْرَه ... وَأَنْتَ مِن الْهَلاَكِ عَلَى شَفِيْرِ
فَيَا مَنْ غَرَّهُ أَمَل طَوِيْل ... بِهِ يَدْنُو إِلَى أَجَلٍ قَصِيْرِ
أَتَفْرَح وَالْمَنَيَّةُ كُل يَوْمٍ ... تُرِيْكَ مَكَانَ قَبْركَ فِي القُبُورِ
هِيَ الدُّنْيَا وَإِنْ سَرَّتْكَ يَوْمًا ... فَإِنَّ الْحُزْنَ عاقِبَةُ السُّرُوْرِ
سَتُسْلَبُ كُلَّ مَا جَمَّعْتَ فِيْهَا ... كَعَارِيَةِ تُرَدُّ إِلَى مُعِيْرِ
وَتَعْتَاضُ اليَقِيْنَ مِن التَّضَنِّيْ ... وَدَارَ الْحَقِّ مِن دَارِ الْغُرُوْرِ
آخر:
فَلِلَّهِ دَرُّ الْعَارِفِ النَّدْبِ إِنَّهُ ... تَسِحُّ لِفَرْطِ الوَجْدِ أَجْفَانُهُ دَمَا
يُقِيْمُ إِذَا مَا اللّيلُ مَدِّ ظَلاَمَهُ ... عَلَى نَفْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ مَأْتَمَا
فَصِيْحًا بِمَا قَدْ كَانَ مِن ذِكْرِ رَبَّهِ ... وَفِيْمَا سِوَاهُ فِي الوَرَى كَانَ أَعْجَمَا
وَيَذْكَّرُ أَيَّامًا مَضَتْ مِنْ شَبَابِهِ ... وَمَا كَانَ فِيْهَا بِالجَهَالَةِ أَجْرَمَا
فَصَارَ قَريْنَ الْهَمَّ طُوْلَ نَهَارِه ... وَيَخْدِمُ مَوْلاَه ُإِذَا الليلُ أَظْلَمَا
يَقُولُ إِلَهِيْ أَنْتَ سُؤْلِي وَبغْيَتِي ... كَفَى بِكَ لِلرَّاجِيْنَ سُؤْلاً وَمَغْنَمَا
عَسَى مَنْ لَهُ الإِحْسَانُ يَغْفِرُ زَلَتِيْ ... وَيَسْترُ أَوْزَارِيْ وَما قَدْ تَقَدَّمَا
انتهى.
آخر:
إَلَىْ كَمْ إِذَا مَا غِبْت تُرْجَى سَلامَتِي ... وَقَدْ قَعَدَتْ بِي الْحَادِثَاتُ وَقَامَتِ
وَعُمِّمْتُ مِن نَسْجِ القَتِيْر عِمامَةُ ... رُقُومُ البِلَى مَرْقومةً بِعِمَامَتِي
وَكُنْتَ أَرَى لِي فِي الشَّبَابِ عَلاَمَةً ... فَصِرْتُ وَإنِي مُنْكِرُ لِعَلاَمَتِي
وَمَا هِي إِلاَّ أوبة بَعْد غَيْبَة ... إِلَى الغيبة القُصْوَى فَثَمَّ قِيَامَتِي(2/216)
كَأَنِّي بِنَفْسِي حَسْرةً وَندَامَةً ... تَقْطَع إذ لَمْ تُغْنِ عَنِّي نَدَامَتِي
مني النَّفسِ مِمَّا يُوْطِئُ المَرْءَ عَشْوَةُ ... إِذَا النَّفْسُ جَالتَ حَوْلَهُنَّ وَحَامَتِ
وَمَن أَوْطَأتُه نَفْسه حَاجَة فَقَد ... أَسَاءَتْ إِليْهِ نَفْسُهُ وَأَلاَمَتِ
أَمَا وَالِّذي نفسي لَهُ لو صدقتها ... لرددت توبيخي لَهَا وَملامتي
فللهِ نَفْسٌ أَوْطَأَتْنِي مِن العَشَا ... حُزُوْنًا وَلو قَوَّمْتُهَا لاسْتَقَامَتِ
وَللهِ يَوْم أَي يَوْمٍ فَظَاعَةً ... وَأَفْظَعُ مِنْهُ بَعْدُ يَوْمِ قِيَامَتِي
وَللهِ أَهْلِي إِذْ حَبَونِي بِحُفْرَةٍ ... وَهُمْ بِهَوانِي يَطْلُبُون كَرَامَتِي
وَللهِ دُنْيَا لاَ تَزَالُ تَرُدَّنِي ... أباطيلها فِي الْجَهْلِ بَعْدَ اسْتِقَامَتِي
وَللهِ أَصْحَابُ الْمَلاعِبِ لَوْ صَفَتْ ... لهم لذة الدُّنْيَا بِهِنَّ وَدامتِ
وَللهِ عَيْنُ أَيْقَنَتْ أَنَّ جَنَّةً ... وَنَارًا يَقِيْنٌ صَادِقٌ ثُمَّ نَامَتِ
آخر:
كَأَنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ بِأخْبَارِ مَنْ مَضَى ... وَلَمْ تَرَ فِي البَاقِيْنَ مَا يَصْنَعُ الدَّهْرُ
فَإِنْ كَنْتَ لاَ تَدْرِي فَتِلكَ دِيَارُهُم ... عَلَيْهَا مَجَالُ الرِّيْحِ بَعْدَك وَالقَطرُ
وَهَلْ أَبْصَرْت عَيْنَاكَ حَيًّا بِمَنْزلٍ ... عَلَى الأَرْض إِلاَّ بِالفَنَاءِ لَهُ قَبْرُ
وَأَهْل الثَّرَى نَحْوَ الْْمَقَابِر شُرَّع ... ولَيْسَ لَهُم إِلاَّ إِلَى رَبِّهِم نَشْرُ
عَلَى ذَاكَ مَرُّوا أَجْمَعون وَهكَذَا ... يَمُرُّونَ حَتَّى يَسْتَردَّهُم الْحَشْرُ
فَلاَ تَحْسَبَنَّ الوفْرَ مَالاً جَمَعْتَهُ ... وَلَكِن مَا قَدَّمْتَ مِن صَالحٍ وَفْرُ
ولَيْسَ الَّذِي يبقى الَّذِي أَنْتَ جامع ... وَلَكِن مَا أوليت مِنْهُ هُو الذخرُ
قَضَى جَامِعُو الأَمْوَال لَمْ يَتَزَوَّدُوا ... سِوَى الفَقْرَ يَا بُؤْساً لِمَنْ زَادُهُ الفَقْرُ(2/217)
بَلْ سَوْفَ تَصْحُوا حِيْنَ يَنْكَشِفُ الغَطَا ... وَتَذَكَّر قَوْلِي حِيْنَ لاَ يَنْفَعُ الذِّكْرُ
وَمَا بَيْنَ مِيْلاَدِ الفَتَى وَوفَاتِهِ ... إِذَا نَصَحَ الأَقْوَامُ أَنْفُسَهُم عُمْرُ
لأَنَّ الَّذِي يَأْتِي كَمِثْل الَّذِي مَضَى ... وَمَا هُو إِلاَّ وَقْتُكَ الضَّيّقُ النِّزْرُ
فَصَبْرًا عَلَى الأَوْقَاتِ حَتَّى تَحُوزَهَا ... فَعَمَّا قَلِيْل بَعْدَهَا يَنْفَعُ الصَّبْرُ
انتهى.
آخر:
أَتَيْت إِلَيْكَ يَا رَبَّ العِبِادِ ... بِإِفْلاَسِي وَذلِّي وَانْفِرَادِي
وَهَا أَنَا وَاقِفٌ بِالبَابِ أَبْكِي ... زمانا مَا بَلَغْتُ بِهِ مُرَادِي
عَسَى عَفْوٌ يَبَلِّغُنِي الأَمَانِي ... فَقَدْ بَعُدَ الطَّرِيْقُ وَقَلَّ زَادِي
وَمَالِي حِيْلَةٍ إِلاَّ رَجَائِي ... وَمِنْكَ عَلَى الْمَدَى حُسُْن اعتِقَادِي
وَلَوْ اقصيْتَنِي وَقَطعْتَ حَبْلِي ... وَحَقَّكَ لاَ أَحُولُ عَن الوِدَادِ
فَجِدْ بِالعَفوِ يَا مَوْلاَيَ وَارْحَم ... عُبَيْدًا ضَلَّ عَن طُرْقِ الرَّشَادِ
وَقَدْ وَافَي بِبَابِكَ مُسْتَجِيْرًا ... يَخَافُ مِن القَطِيْعَةِ وَالبِعَادِ
آخر:
إِذَا شِئْتَ أَنْ تَرْثي فَقِيْدًا مِن الوَرَى ... وَتَدْعُو لَهُ بَعْد النَّبِيِّ الْمُكَرّمِ
فَلاَ تَبْكِيَنْ إِلاَّ عَلَى فَقْدِ عَالِمٍ ... يُبَادِرُ بالتَّفْهِيْم لِلْمُتَعَلّمِ
وَفَقْدِ إِمَامٍ عَالِمٍ قَامَ مُلْكُهُ ... بِأَنْوَارِ حُكْمِ الشَّرْعِ لاَ بِالتَّحْكُّمِ
وَفَقْدِ شُجَاعٍ صَادِقٍ فِي جِهَادِهِ ... وَقَدْ كُسِرَتْ رَايَتُهُ فِي التَّقَدُّمِ
وَفَقْدِ كَرِيْمٍ لاَ يَمَلّ مِن العَطَا ... لِيُطْفِئَ بُؤسَ الفَقْرِ عَن كُلّ مُعْدَمِ
وَفَقْدِ تَقِي زَاهِدٍ مُتَوَرِّعٍ ... مُطِيع لِرَبّ العَالَمِيْنَ مُعَظِمِ
فَهُم خَمْسَةٌ يَبْكِى عَلِيْهِم وَغَيُرهُم ... إِلَى حَيْثُ أَلْقَتْ رَحْلَهَا أَمُ قَشْعَمِ
انتهى.
آخر:(2/218)
يَا أَيُّهَا العَاصِي الْمُسِيء إِلَى مَتَى ... تَعْصِي الإِلَه وَتغْتَذِي بِنَوالِهِ
قُمْ فِي الدَّيَاجَي طَالبًا مَرضَاتَه ... واخضع وَذل لعزه وَجلالهِ
وَاْخَضْع إِلَيْهِ وَنَادِهِ بِتَذَلُّلِ ... يَا مَنْ يَجُودُ عَلَى الكَئِيْب الوَالِهِ
يَا مَنْ إِذَا سَأَل الْمُقَصِّرُ عَفْوَهُ ... فَهُوَ الْمُجِيْبُ بِفَضْلِهِ لِسُؤَالِهِ
حَاشَاك تَمْنَعُه رِضَاكَ وَقد أَتَى ... مُتَنَصِّلاً مِنْ عُظْمِ قُبْحِ فِعَالِهِ
آخر:
قَطَعْتُ زَمَانِي حِيْنًا فَحِيْنَا ... أَدِيْر مِن اللَّهْوِ فِيْهِ فُنُونَا
وَأَهْمَلتُ نَفْسِي وَمَا أَهْمِلَتْ ... وَهَوَّنْتَ مِنْ ذَاكَ مَا لَمْ يَهُوْنَا
وَرُبَّ سُرُوْرٍ شَفَىَ غَلَّةً ... وَلِى فَاعْقَبَ حُزْنًا رَصِيَنا
وَكَمْ آَكِلُ سَاعَة لِمَا يُرِيْد ... يُكَابِدُ مَا أَوْرثَتْهُ سِنِيْنَا
وَمَا كَانَ أَغْنَي الفَتَى عَن نَعِيْمِ ... يَعُودُ عَلَيهِ عَذَابًا مُهِيْنَا
وَكَمْ وَعَظَتْنِي عِظَاةُ الزَّمَانِ ... لَو أَنْيِ أَصِيْخُ إِلَى الوَاعِظيْنَا
وَكَمْ دَعَانِي دَاعي الْمنُوْن ... وَأَسْمَعَ لَو كُنْتُ فِي السَّامِعِيْنَا
وَمَاذَا أؤمل أو أرتجيه ... وَقَدْ جُزْتُ سَبْعًا عَلَى الأَرْبَعِيْنَا
فَلَو كَانَ عَقْلِي مَعِي حَاضِرًا ... سَمِعْتُ لَعَمْرِي مِنْهُ أَنِيْنَا
وَلَنْ يَبْرَحَ الْمَرءُ فِي رَقْدَةٍ ... يَغِطُّ إِلَى أْنْ يُوَافِي الْمُنوْنَا
فَتُوْقِظُهُ عِندَهَا رَوْعَة ... تَقَطّعُ مِنْهُ هُنَاكَ الوَتِيْنَا
وَإذْ ذَاكَ يَدْرِي بِمَا كَانَ فِيْهِ ... وَتَجْلُو الْحَقَائِقُ مِنْهُ الظُّنُونَا
انتهى.
تُغَازِلُنِي الْمَنِيَّةُ مِنْ قَرِيْبِ ... وَتَلْحَظُنِي مُلاَحَظَةَ الرَّقِيْبِ
وَتَنْشُر لِي كِتَابًا فِيْهِ طَيِّي ... بِخَطِ الدَّهْرِ أَسْطُرُه مَشِيْبِي
كِتابٌ فِي مَعَانِيهِ غُموضٌّ ... يَلُوْحُ لِكُلِّ أَوَّابٍ مُنِيْبِ(2/219)
أَرَى الأَعْصَارَ تَعْصُر مَاءَ عُوْدِي ... وَقَدْمًا كُنْتُ رَيَّانَ القَضِيب ِ
أَدَالَ الشَّيبُ يَا صَاحِ شَبَابِي ... فَعُوِّضْتُ البَغِيضَ مِن الْحَبِيبِ
وَبُدَّلْتُ التَّثَاقُلَ مِن نَشَاطِي ... وَمِنْ حُسْنِ النَّضَارَةِ بِالشُّحُوبِ
كَذَاكَ الشَّمْسُ يَعْلُوهَا اصْفِرارٌ ... إِذَا جَنَحَتْ وَمَالَتْ لِلْغُروبِ
تَحَارِبُنا جُنودٌ لاَ تُجَارى ... وَلا تُلَقى بِآسادِ الْحُرُوبِ
هِي الأَقْدَار وَالآَجَالُ تَأْتِي ... فَتَنْزِلُ بِالْمُطَبِّبُ وَالطَّبِيْبِ
تَفَوق أَسْهُمًا عَن قَوْسِ غَيْبٍ ... وَمَا أَغْراضُها غَيْرُ القُلوبِ
فَأِنِّى بِاحْتِراسٍ مِن جُنودٍ ... مُؤيَّدَةٍ تُمَدُّ مِن الغُيُوبِ
وَمَا آسى عَلَى الدُّنْيَا وَلَكِن ... عَلَى مَا قَدْ رَكِبْتُ مِن الذُّنُوْبِ
فَيَا لَهْفِي عَلَى طُوْلِ اغْتِرَارِي ... وَيَا وَيْحي مِن اليَوْم العَصِيْبِ
إِذَا أَنَا لَمْ أَنُحْ نَفْسِي وَأَبْكِي ... عَلَى حُوبَي بِتَهْتَانٍ سَكَوُبِ
فَمَنْ هَذَا الَّذِي بَعْدي سَيَبْكِي ... عَلَيْهَا مِنْ بَعِيْدٍ أَوْ قَرِيْبِ؟
آخر:
فَأَمْسَوا رَمِيْمًا فِي التُّرابِ وَعُطلتْ ... مَجَالِسُهُمْ مِنْهُمْ وَأخليّ الْمَقَاصِرُ
وَحَلُّوا بِدَارٍ لاَ تَزَاوُرَ بَيْنَهُمْ ... وَأَنَّى لِسُكَانَ القُبُورِ التَّزَاوُرُ
فَمَا أَنْ تَرَى إِلاَّ قُبُورًا ثَوَوا بِهَا ... مُسَطحَةً تَسْفِيْ عَلَيْهَا الأَعَاصِرُ
فَمَا صَرَفَتْ كَفَّ الْمَنِيَّةِ إِذْ أَتَتْ ... مُبَادَرَةٌ تَهْوي إِلَيْهَا الذَّخَائِرُ
آخر:
فَإِنْ تَكُ مِن أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالتُّقَى ... فَإِنَّ لَهَا الْحُسْنى بِحُسْنِ فِعَالِهَا
تَفُوزُ بِجَنَّاتِ النَّعِيْمِ وَحُورُهَا ... وَتُحْبَرُ فِي رَوْضَاتِها وَظِلاَلِهَا
وُترزق مِمَّا تَشْتَهِي مِنْ نَعِيْمِهَا ... وَتَشْرَبُ مِن تَسْنِيْمَهَا وَزلالِهَا(2/220)
وَإِنَّ لَهُم يَومُ الْمَزِيْدِ لِمَوْعِدًا ... زِيِادَةُ زُلْفَى غَيُرُهُم لاَ يَنَالُهَا
وُجُوهٌ إِلَى وَجْهِ الإِلَهِ نَوَاظِرٌ ... لَقَدْ طَالَ مَا بِالدَّمْعِ كَانَ ابْتِلالَهَا
تَجَلَى لَهَا الرَّبُ الرَّحِيمُ مُسَلّمًا ... فَيزْدَادُ مِن ذَاكَ التَّجلي جَمَالُهَا
بِمَقْعَد صِدْق حَبَّذا الْجُارُ رَبَّهُمْ ... وَدَار خُلُود لَمْ يَخَافُوا زَوَالُهَا
فَواكِهُهَا مِمَّا تَلَذُّ عُيُونُهُمْ ... وَتَطَّرِدُ الأَنْهَارُ بَيْنَ خِلاَلِهَا
عَلَى سُرُر مَوضُونَةٍ ثَم فُرْشُهُمْ ... كَمَا قَالَ فِيْهَا رَبَّنَا وَاصِفًا لَهَا
بَطَائِنَهَا استَبْرَق كَيْفَ ظَنُّكُم ... ظَوَاهِرهَا لاَ مُنْتَهى لِجَمَالِهَا
انتهى
آخر:
قال رحمه الله: في وصف العلم ووصية طلابه:
العِلمُ أَعْلَى وَأَحْلَى مَالَهُ اسْتَمَعَتْ ... أَذْن وَأَعُرَبَ عَنْه نَاطِقٌ بِفَمِ
العِلمُ غايته القصوى وَرتبته ... العلياءَ فَاسَعُوا إِلَيْهِ يَا ذَوي الْهِمَمِ
العِلمُ أَشْرَفُ مَطْلُوبٍ وَطَالِبُهُ ... للهِ أَكَرمَ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمِ
العِلمُ نُورٌ مُبِيْنٌ يَسْتَضِيء بِه ... أَهْل السَّعادة وَالْجَهَالِ فِي الظُلمِ
العِلمُ أَعْلَى حَيَاة لِلعِبَادِ كَمَا ... أَهْل الْجِهِالِة أَمواتٌ بِجِهَلهِمِ
العِلمُ وَاللهِ مِيراثُ النُبُوةِ لاَ ... مِيرَاثَ يُشْبَهُه طُوبَى لِمقتَسِمِ
لأَنَّهُ إِرْثُ حَقِّ دَائمٍ أَبَدًا ... وَمَا سِواهُ إِلَى الإِفُناءِ وَالعَدمِ
العِلمُ مِيزانُ شِرعِ اللهِ حَيْثُ بِهِ ... قِوامُهُ وَبدونِ العِلْمِ لَمْ يقمِ
وَسُلطةُ العِلمِ تَنْقَادُ القُلُوبُ لِهَا ... إِلَى الْهُدَى وَإِلَى مَرْضَاةِ ربِّهِمِ
وَيَذْهَبُ الدِّين وَالدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ العِـ ... ـلمُ الَّذِي فِيْهِ مَنْجَاةٌ لِمُعْتَصِمِ
العِلمُ يَا صَاح يَسْتَغْفِرْ لِصَاحِبْه ... أَهْل السَّمَواتِ وَالأَرْضِيْنَ مِن لَمِمِ(2/221)
كَذاكَ تَسْتَغْفِرُ الْحِيَتانُ فِي لُجَجٍ ... مِن البِحارِ لَهُ فِي الضَّوءِ وَالظَلَمِ
وَخِارجَ فِي طِلاَبِ العِلمِ مُحْتَسبَا ... مُجِاهدُ فِي سَبيلِ الله أَيَّ كَمِيِ
وَأَنَّ أَجْنِحَةَ الأمْلاكِ تَبْسُطُهَا ... لِطَالبيه رِضًى مِنْهُمُ بِصُنعهمِ
وَالسَّالكون طَريق العِلم يَسلكهم ... إِلَى الجنانِ طَريقًا بَارئ النَّسِمِ
والسَّامع العلم وَالواعَي ليحفظه ... مؤديا ناشرا إياه فِي الأممِ
فَيَا نَضَارَتِه إذ كَانَ مُتَّصِفًا ... بذَا بَدَعوةِ خيرِ الخلقِ كُلِّهُمِ
كَفَاكَ فِي فَضْلِ أَهْل العِلمِ أنْ رُفُعُوا ... من أجْلِهِ درجات فَوقَ غيرهمِ
وكَانَ فضل أبينا فِي القَدِيْمِ عَلَى ... الأَملاَكِ بالعِلمِ مَن تَعِليم رِبِّهِمِ
كَذَاك يُوسُف لَمْ تظهر فضيلته ... للعالمين بغير العِلمِ وَالحكمِ
وَقَدَّمَ الْمُصْطَفَى بِالعِلمِ حَامِلَهُ ... أَعْظِم بِذِلِكَ تَقْدِيْمًا لِذِي قَدمِ
كَفَاهُمُوا أَنْ غَدَوا لِلوَحْي أَوْعِيَة ... وَأضْحَتِ الآَيْ مِنْهُ فِي صَدُوُرهِمِ
وَأنْ غَدَوا وَكلاءِ فِي القِيامِ بِهِ ... قَولاً وَفعِلا وَتعُلِيْما لِغيرهِمِ
وِخصَّهُم رَبُّنَا قَصْرًا بِخَشْيَتِه ... وَعَقْلِ أَمْثَالِهِ فِي أَصْدَقِ الكِلمِ
وَمَعْ شِهَادِتِه جَاءَتْ شِهَادَتُهُم ... حَيثُ اسَتجابوا وَأَهْل الجهِل فِي صَمَمِ
وَالعَالمِونَ عَلَى العِبَادِ فَضْلَهُم ... كالبدر فضلا عَلَى الدري فاغتنمِ
وَبالمهم المهم ابدأ لتدركه ... وقدم النص عَلَى الآراء فافتهمِ
قدم وَجوبا علوم الدِّين إن بها ... يبين نَهْجِ الْهُدَى مِن مُوْجِب النَّقْمِ
وَكُلُّ كَسْرِ الفَتَى فَالدِّين جَابِرُهُ ... وَالكَسْرُ فِي الدِّين صَعْب غَيْر مُلْتَئِمِ
مَا العِلمُ إِلاَّ كِتَابُ اللهُ أَوْ أَثْر ... يَجْلو بِنُورِ هُدَاه كَل مُنْبَهِمِ(2/222)
ما تَمُّ عِلْمٌ سِوى الوَحْيُ المبين وَما ... مِنْهُ اسْتَمَدَ أَلا طُوبَى لِمُغْتَنِمِ
والكَتْمُ لِلعِلمِ فَاحذَر إِنْ كَاتَمَهُ ... فِي لَعْنَةِ اللهِ وَالأقوام كُلّهمِ
وَمِنْ عُقُوبَتِه أنْ فِي الْمِعَادِ لهُ ... من الجَحِيْم لجاما لَيْسَ كاللجمِ
وكاتم العلم عمن لَيْسَ يَحْمِلْهُ ... مَاذَا بِكِتْمَانْ بَل صَوْنُ فَلاَ تَلُمِ
وإِنَّمَا الكَتْم مَنْعُ العِلمِ طَالَبَهُ ... مِن مُسْتَحِق لَهُ فَافْهَمْ وَلاَ تَهِمِ
وَأَتْبِعِ العِلمَ بِالأعْمَالِ وَادعُ إِلَى ... سَبِيْلِ رَبِّكَ بِالتِّبْيَانِ وَالْحِكَمِ
وَاصْبِر عَليَ لاَحِقٍ مِن فِتْنَةٍ وَأَذَى ... فِيْهِ وَفي الرُّسِلِ ذِكْرَى فَاقتَدِه بِهِمِ
لَوَاحِدَ بِكَ يَهْدِيْهِ الإِلَه لِذَا ... خَيْرٌ غَدًا لَكَ مِن حُمُرِ مِن النَّعَمِ
وَاسْلُكْ سَواءَ الصِّراطِ الْمُسْتَقِيْم وَلا ... تَعْدلْ وَقُلْ: رَبِّيَ الرَّحْمَنُ وَاستَقِمِ
يَا طالبَ العِلمِ لاَتَبْغَيِ بِهِ بَدَلاً ... فَقَدْ ظَفَرْتَ وَربِّ اللوحِ وَالقَلَمِ
وَقَدِّسِ العِلمَ وَاعرِفْ قَدْرَ حُرْمَتِه ... فِي القَوْلِ وَالفِعْلِ وَالأَدَبِ فَالتَزِمِ
واجْهَدْ بِعَزْمٍ قَويٍ لاَ انْثِنَاءَ لَهُ ... لَو يَعْلَمُ الْمَرءُ قَدْرَ العِلمِ لَمْ يَنَمِ
وَالنُّصْحُ فَابذُله لِلطلاَّبِ مُحْتَسِبًا ... فِي السِّر وَالْجَهْرِ وَالأَسْتَاذَ فَاحْتَرِمِ
وَمَرْحَبًا قُلْ لِمَنْ يَأْتِيْكَ يَطْلُبه ... وَفِيْهِم احفَظ وَصَايَا الْمُصْطَفَى بِهِمِ
وَالنِّيَة اجعَل لِوَجْهِ اللهِ خَالِصَةً ... إِنَّ البناءَ بِدون الأَصْلِ لَمْ يَقُمِ
وَمَنْ يَكُنَ لِيقولَ النَّاس يَطْلُبُه ... اخْسر بِصَفْقَتِهِ فِي مَوْقِفِ النَّدَمِ
وَمَنْ بِهِ يَبْتَغِيْ الدُّنْيَا فلَيْسَ لَهُ ... يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ حَظٍّ وَلاَ قِسمِ(2/223)
إِيَّاكَ وَاحذر ممارات السَّفِيْهِ بِهِ ... كَذَا مُبَاهَات أَهْلِ العِلمِ لاَ ترمِ
فَإنََّ أَبْغَضَ كُلَّ الْخَلقِ أَجْمَعُهُم ... إِلَى الإِلَهِ أَلَدُّ النَّاسِ فِي الْخِصْمِ
وَالعُجْبَ فاحْذَرهُ إِنَّ العَّجْبَ مُجْتَرفُ ... أَعْمالَ صَاحِبِهِ فِي سَيْلِهِ العَرِمِ
انتهى.
آخر:
ضَيَّعْتَ عُمْرَكَ يَا مَغْرُورُ فِي غَفَلٍ ... قُمْ لِلتَّلاَقِي فَأَنْتَ اليَوْم فِي مَهَلِ
واسْتَفْرِغِ الدَّمعَ مِمَّا فَاتَ مِن زَمِنٍ ... وَانْدُبْ بِتَوبِةٍ عَلَى أَيَّامِكَ الأُولِ
بَادِر إِلَى صَالِحِ الأَعْمَالِ مُجْتَهِدًا ... فَالنَّجْحُ فِي الْجِّدِ وَالْحِرْمَانُ فِي الكَسَلِ
كُنْ لاَ محالةَ فِي الدُّنْيَا كَمُغْتَرِبٍ ... عَلَى رَحِيْلٍ دَنَا أَوْ عَابر السُّبلِ
دَارُ الْخُلُودِ مَقَامًا دَارُ آخرةِ ... إِنَّ الإِقَامةَ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَجَلِ
وَكُلُّ مَنْ حَلَّ فِي الدُّنْيَا فَمُرْتَحِلُ ... يَوْمًا لمنْزِلة فِي إثْرِ مُرْتَحِلِ
هَلا اعْتَبَرتَ فَكَمْ حلوا وَكم رَحِلُوا ... وإِنَّمَا النَّاس فِي حِلٍّ وَمرتَحَلِ
إذَا تَجَهَّم أَمر لاَ مَرَدَّ لَهُ ... لَمْ يُغْنِ عَنْكَ اقْتِنَاءُ الْمَالِ وَالْحُلُلِ
يَقُومُ عَنْكَ الأَطْبَّاءُ وَالصَّدِيْقُ إِذًا ... وَقَد طَوَوا صُحُفَ التَّدْبِيْرِ وَالْخَيُلِ
فَيَدْرجُونَكَ فِي الأَكْفِانِ مُنْتزعًا ... عَنْكَ الثِّيَابُ مِن الأَبْرادِ وَالْحُلَلِ
وَيودعُونَكَ تَحْتَ الأَرْضِ مُنْفَردًا ... وَيَتْركُونَكَ مَحْجُوبًا مِن الْمُقِلِ
وَقَائِلُ مِنْهُمُ قَدْ كَانَ خَيْرَ أَبٍ ... وَقَائِل مَنْهُم قَدْ كَانَ خَيْرَ وَلِي
فَبَعْدَ ذَلِكَ لاَ يَدْرُونَ مَا فَقَدُوا ... وَهَمُّهُم فِي اقْتِسَامِ الإرْثِ بِالْجَدَلِ
وَبَعْضُهُم مَعَ بَعْضٍ فِي مُخَاصَمَةٍ ... وَإِنَّهُم بَيْنَ مَنْصُورٍ وَمُنْخَذِلِ(2/224)
ويَأخُذُونَ قَرِيْبًا فِي مَعَايِشِهِمْ ... لاَ يَذْكُرُوْنَكَ فِي خِلْوٍ وَمُحْتَفَلِ
يَا أَيُّهَا الغرُّ لاَ تَغُرُرْكَ صُحْبَتُهُمْ ... خَيْرُ الْمُصَاحبِ عِنْديّ صَالِحُ العَمَلِ
فِيْمَ التَّغَافُلُ وَالأَيَّامُ دَائِرة ... فِيْمَ التَّكَاسُلُ وَالأحوالُ فِي حَوَلِ
فِيْمَ العَويلُ لدى دَار خَلَتْ وَعَفَّتْ ... فِيْمَ البُكَاءُ عَلَى الآَثَارِ وَالطُّلَلِ
فِيْمَ التَّصَابِي وَأَيَّام الصِبَا غَبَرَتْ ... فِيْمَ النَّسْيبُ وَلاَ إِبانَ لِلْغَزلِ
فكَيْفَ تَلْعَبُ وَالْخَمْسُونَ قَدْ كَمُلَتْ ... وَكَيْفَ تَلْهُوْ وَنَارُ الشَّيْبِ فِي شُعَلِ
دَعْ ذِكْر لَيْلَى وَلِبنَى وَازَدِيَادِهِمَا ... ثَم ارتِحَالِهما مِن هَذِه الْحلِلِ
تِلْكَ الغَوِانِي وَإنْ أَخْلَصْنَ خُلّتَها ... وَاللهِ لَسْنَ بَرْيِئاتٍ مِن الدَّخِلِ
حُبُّ الأَحِبَّةِ حِرمَانِ وَمَنَدمَةٌ ... فَالغُولُ عَاقِبْةً للشَّاربِ الثَّمِلِ
يَا رَبَّ صَلِّ وَسَلَّم دَائِمًا أَبَدًا ... عَلَى نَبيِّكَ طَهَ سِيِّدِ الرُّسُلِ
فصل
قال أحد العلماء: لا يكن هم أحدكم في كثرة العمل، ولكن ليكن همه في إحكامه واتقانه وتحسينه.
فإن العبد قد يصلي وهو يعصي الله في صلاته، وقد يصوم وهو يعصي الله في صيامه.
وقيل لآخر: كيف أصبحت فبكى، وقال أصبحت في غفلة عظيمة عن الموت مع الذنوب كثيرة قد أحاطت بي، وأجل يسرع كل يوم في عمري، وموئل لست أدري علاما أهجم ثم بكى.
وقال آخر: لا تغتم إلا من شيء يضرك غدا أي في الآخرة ولا تفرح بشيء لا يسرك غدا، وأنفع الخوف ما حجزك عن المعاصي، وأطال الحزن منك على ما فاتك من الطاعة، وألزمك الفكر في بقية عمرك.
وقال آخر: عليك بصحبة من تذكرك الله عز وجل رؤيته، وتقع هيبته على باطنك، ويزيد في عملك منطقه. ويزهدك في الدنيا عمله، ولا تعصي الله ما دمت في قربه، يعظك بلسان فعله ولا يعظك بلسان قوله.(2/225)
قال إسرافيل: حضرت ذي النون المصري وهو في الحبس وقد دخل الشرطي بطعام له، فقام ذو النون فنفض يده أي (قبضها عن الطعام) فقيل له:إن أخاك جاء به، فقال: إنه على يدي ظالم، قال: وسمعت رجلا سأله ما الذي أتعب العباد وأضعفهم؟ فقال: ذكر المقام وقلة الزاد، وخوف الحساب، ولم لا تذوب أبدان العمال وتذهل عقولهم، والعرض على الله جل وعلا أمامهم، وقراءة كتبهم بين أيديهم.
والملائكة وقوف بين يدي الجبار ينتظرون أمره في الأخيار والأشرار، ثم مثلوا هذا في نفوسهم وجعلوه نصب أعينهم.
وقال: سقم الجسد في الأوجاع، وسقم القلوب في الذنوب، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه، كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب.
وقال: من لم يعرف قدر النعم، سلبهامن حيث لا يعلم. ما خلع الله على عبد خلعة أحسن ولا أشرف من العقل ولا قلده قلادة أجمل من العلم ولا زينة بزينة أفضل من الحلم وكمال ذلك التقوى.
وقال آخر: أدركت أقواما يستحيون من الله في سواد الليل من طول الهجعة إنما هو على الجنب فإذا تحرك قال لنفسه: ليس لك قومي خذي حظك من الآخرة.
وقال أبو هاشم الزاهد: إن الله عز وجل وسم الدنيا بالوحشة ليكن أنس المريدين به دونها، وليقبل المطيعون له بالإعراض عنها، وأهل المعرفة بالله فيها مستوحشون، وإلى الآخرة مشتاقون.
ونظر أبوهاشم إلى شريك القاضي يخرج من دار يحي بن خالد فبكى، وقال: أعوذ بالله من علم لا ينفع.
وقال أسود بن سالم: ركعتان أصليهما أحب إلي من الجنة بما فيها فقيل له هذا خطأ.
فقال: دعونا من كلامكم رأيت الجنة رضا نفسي، وركعتين أصليهما رضا ربي، ورضاء ربي أحبي إلي من رضا نفسي، تأمل ياأخي دقة هذا الفهم لله دره.
وقال وهيب: الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس بينهما حرون، فإذا قاد القائد ولم يسق السائق لم يغن ذلك شيئا. وإذا ساق السائق ولم يققد القائد لم يغن ذلك شيئا، وإذا قاد القائد وساق السائق اتبعته النفس طوعا وكرها وطاب العمل.(2/226)
قال بعضهم يوبخ نفسه ويعظها: يا نفس بادري بالأوقات قبل إنصرامها واجتهد في حراسة ليالي الحياة وأيامها.
فكأنك بالقبور قد تشققت وبالأمور وقد تحققت، وبوجوه المتقين وقد أشرقت وبرءوس العصاة وقد أطرقت قال تعالى وتقدس: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } يا نفس أما الورعون فقد جدوا وأما الخائفون فقد استعدوا، وأما الصالحون فقد فرحوا وراحوا وأما الواعظون فقد نصحوا وصاحوا.
العلم لايحصل إلا بالنصب والمال لا يجمع إلا بالتعب، أيها العبد الحريص على تخليص نفسه إن عزمت فبادر وإن هممت فثابر واعلم أنه لا يدرك العز والمفاخر من كان في الصف الآخر.
دَبُّوا إِلَى الْمجدِ وَالساعُونَ قَدْ بَلغُوا ... جُهْدَ النُفُوسِ وَشَدُّوا دُوْنَه الأَزُرَا
وَسَاوَرا الْمجدَ حَتَّى مَلَّ أَكْثَرُهُم ... وَعَانَقَ الْمَجْدَ مَن وَافِى وَمَنْ صَبَرا
لاَ تَحْسَبِ الْمَجدَ تَمْرًا أَنْتَ آَكلُه ... لَنْ تَبْلُغَ المجد حَتَّى تلعَق الصَّبِرَا
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أن ظلم العبد نفسه يكون بترك ما ينفعها وهي محتاجة إليه وذلك فعل ماأمر الله به وبفعل ما يضرها، وذلك المعاصي كلها.
كما أن ظلم الغير كذلك إما بمنع حقه أو التعدي عليه، فإن الله أمر العباد بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم.
وجاء القرآن بالأمر بالإصلاح والنهي عن الفساد، والصلاح كله طاعة والفساد كله معصية.
وقد لا يعلم كثير من الناس ذلك على حقيقته فعلى المؤمن أن يأمر بكل مصلحة وينهي عن كل مفسدة.
وكل ما أمر الله به راجع إلى العدل وكل ما نهى عنه راجع إلى الظلم.
والظلم الذي حرمه الله على نفسه أن يترك حسنات المحسن فلا يجزيه به، أو يعاقب البري على ما لم يفعله من السيئات.(2/227)
أو يعاقب هذا بذنب غيره، أو يحكم بين الناس بغير العدل ونحو ذلك مما ينزه الله جل وعلا عنه وذلك لكمال عدله وحمده.
ومن أسباب قوة الإيمان ونوره سماع القرآن وتدبره ومعرفة أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعجزاته.
والنظر في آيات الله والتفكر في ملكوت السموات والأرض والتأمل في أحوال نفس الإنسان ومثل رؤية أهل الإيمان والنظر في أحوالهم ونحو ذلك.
للهِ دَرُّ رِجَالٍ وَاصَلُوا السَّهَرا ... وَاسْتَعْذَبُوا الوَجْدَ وَالتَّبْرِيْحَ وَالفِكَرا
فُهُمْ نُجُومُ الْهَدَي وَاللَّيْلُ يَعْرِفُهُم ... إِذْا نَظَرْتَهُمُوا هُمْ سَادَةٌ بُرَرَا
كُلُّ غَدَا وَقتهُ بِالذِّكْرِ مُشْتَغِلا ... عَمَّا سِوَاهُ وَللَّذَاتِ قَدْ هَجَرَا
يُمْسي وَيُصْبِحُ فِي وَجْدٍ وَفي قَلَقٍ ... مِمَّا جَنَاهُ مِن العِصيان مُنْذَعِرَا
يَقُولُ يَا سَيِّدِي قَدْ جِئْتُ مُعْتَرِفًا ... بِالذَّنْبِ فَاغْفِرْهُ لِي يِا خَيْر مِن غَفَرَا
حَمَلْتُ ذَنْبَا عَظِيْمًا لاَ أَطِيْقُ لَهُ ... وَلَمْ أَطِعْ سَيِّدِي فِي كُلِّ مَا أَمَرَا
عَصَيْتُهُ وَهْوَ يُرخي سِتْرَهُ كَرَمًا ... يَا طَالَما قَدْ عَفَا عَنِّي وَقَدْ سَتَرا
وَطَالَمَا كَانَ لِي فِي كُلِّ نَائِبَةٍ ... إِذا اسْتَغَثْتُ بِهِ مِنْ كُرْبةٍ نَصَرا
وَأَنَّنِي تَائِبٌ مِمَّا جَنَيْتُ وَقَدْ ... وَافَيْتُ بَابَكَ يَا مَوْلاَيَ مُعْتَذرًا
لَعَلَّ تَقْبَلَ عَذْرِي ثم تَجْبُرُنِي ... يَوْمَ الحِسَابِ إِذْا قَدَّمْتُ مُنْكَسِرا
وَقَدْ أَتَيْتُ بَذُل رَاجِيًا كَرَمًا ... إِلَيْكَ يَا سَيِّدِي قَدْ جِئْتُ مُفْتَقِرَا
اللهم أجرنا من النار وأدخلنا الجنة مع الأبرار برحمتك يا عزيز يا غفار، اللهم استر عوراتنا وأمن روعاتنا وأقلنا من عثراتنا ولا تفضحنا بين يديك يا أرحم الراحمين وصلي الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فصل(2/228)
قال محمد بن مهدي: والله لا تجد فقد شيء تركته ابتغاء وجه الله، كنت أنا وأخي شريكين فأصبنا مالا كثيرا فدخل قلبي من ذلك شيء فتركته لله وخرجت منه فما خرجت من الدنيا حتى رد الله على ذلك المال عامته إلي وإلى ولدي، زوج أخي ثلاث بنات من بني، وزوجت ابنتي من ابنه ومات أخي فورثه أبي ومات أبي فورثته أنا، فرجع ذلك كله إلي وإلى ولدي في الدنيا.
عن عطاء الحسن الخرساني أنه كان يقول: إني لا أوصيكم بدنياكم أنتم مستوصون بها، وأنتم عليها حراص وإنما أوصيكم بآخرتكم فخذوا من دار الفناء لدار البقاء، واجعلوا الموت كشيء ذقتموه فوالله لتذوقنه واجعلوا الآخرة كشيء نزلتموه فوالله لتنزلنها.
وهي دار الناس كلهم ليس من الناس أحد يخرج لسفر إلا أخذ له أهبته، فمن أخذ لسفره الذي يصلحه اغتبط ومن خرج إلى سفر لم يأخذ له أهبته ندم، فإذا أضحى لم يجد ظلا، وإذا ظمئ لم يجد ماء يتروي به، وإنما سفر الدنيا منقطع وأكيس الناس من قام يتجهز لسفر لا ينقطع.
وقال آخر يوصي أخا له: اعلم أنك تلقى ما أسفلت ولا تلقى ما خلفت فمهد لنفسك فإنك لاتدري متى يفجؤك أمر ربك قال فأبكاني كلامه وهون علي الدنيا.
قيل للقمان الحكيم، ما بلغ بك ما نرى يريدون الفضل قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة وترك ما لا يغني.
عن جابر الجعفي، قال: قال لي محمد بن علي بن الحسين: يا جابر إني لمحزون وإني لمشتغل القلب، قلت وما حزنك وما شغل قلبك؟ قال: يا جابر إنه من دخل قلبه صافي خالص دين الله شغله عما سواه يا جابر ما الدنيا ما عسى أن تكون هل هو إلا مركب ركبته أو ثوب لبسته أو امرأة أصبتها.
يا جابر إن المؤمنين لم يطمئنوا إلى الدنيا لبقاء فيها، ولم يأمنوا قدوم الآخرة عليهم.(2/229)
ولم يصمهم عن ذكر الله ما سمعوا بآذانهم من الفتنة، ولم يعمهم عن نور الله ما رأوا بأعينهم من الزينة، ففازوا بثواب الأبرار إن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة وأكثرهم لك معونة، وإن نسيت ذكروك وإن ذكرت أعانوك قوالين بحق، قوامين بأمر الله، فأنزل الدنيا كمنزل نزلت به وارتحلت منه.
أو كمال أصبته في منامك فاستيقظت وليس معك منه شيء، واحفظ الله تعالى ما استرعاك من دينه وحكمته.
قال بعضهم: فكر في ذنبك وتب إلى ربك، ينبت الورع في قلبك، واقطع الطمع إلا من ربك، ذم مولانا الدنيا فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزهدنا فيها فآثرناها، ورغبنا في طلبها، دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها فأجبتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها تتمرغون في زهراتها وزخارفها، قال الله جل وعلا: { فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } .
أتى الحسن بكوز من ماء ليفطر عليه فلما أدناه إلى فيه بكى وقال ذكرت أمنية أهل النار.
قولهم: { أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ } وذكرت ما أجيبوا به { إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } .
وقال كعب الأحبار: لأن أبكى من خشية الله فتسيل دموعي على وجنتي أحب إلي من أتصدق بوزني ذهبا.
وعن إبراهيم بن الأشعث قال: كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي حتى لكأنه يودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر فيجلس فكأنه بين الموتى جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها.
وكان يقول: الخوف أفضل من الرجاء ما دام الرجل صحيحا فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل من الخوف.
يقول: إذا كان في صحته محسنا عظم رجاؤه عند الموت وحسن ظنه أي بالله.
وإذا كان في صحته مسيئا ساء ظنه عند الموت ولم يعظم رجاؤه.
تَحَدِّثُنِي الآَمَالُ وَهِي كَذُوْبَةٌ ... تُبَدِّلُ فِي تَحْدِيْثَهَا وَتُحَرِّفُ(2/230)
بَأنِّي فِي الدُّنْيَا أَقْضِى مَآَرِبِي ... وَبَعْدُ يَحِقُ الزُّهْدُ لِي وَالتَّقَشُّفُ
وَتِلكَ أَمَانِي لاَ حَقَيِقَةَ عِنْدَهَا ... أَفي فَرقِ الضَّديْنِ يُبْغَي التَّآَلُفُ
وقال محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه لابنه: يا بني إياك والضجر والكسل فإنهما مفتاح كل شر إنك إن كسلت لم تؤد حقا، وإن ضجرت لم تصبر على حق.
وقال: ما من عبادة أفضل من عفة بطن أو فرج، وما من شيء أحب إلى الله عز وجل من أن يسأل، وما يدفع القضاء إلا الدعاء وإن أسرع الخير ثوابا البر، وأسرع الشر عقوبة البغي.
وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه وأن يأمر الناس بما لا يستطيع التحول عنه، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه.
كان الربيع بن خيثم إذا أصبح قال: مرحبا بملائكة الله اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وقال: إذا تكلمت فاذكر سمع الله إليك وإذا هممت فاذكر علمه بك وإذا نظرت فاذكر نظره إليك.
وإذا تفكرت فاذكر اطلاعه عليك فإنه يقول: { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } .
رأى بعضهم رجلا يستمع إلى رجل يقع في عرض آخر فقال له: نزه سمعك عن استماع الخناء كما تنزه لسانك عن القول به، فإن المستمع شريك القائل، وإنما نظر في شر ما في وعائه فأفرغها في وعائك.
إِذَا أَخْبَرتَ عَن رَجُل بِريء ... مِن الآَفَاتِ ظَاهُره صَحِيْحُ
فَسَلْهُم عَنْهٌ هَلْ هُوَ آَدمِيٌّ ... فَإِنَّ قَالُوا نَعَمْ فَالقَوْلُ رِيْحُ
وَلَكِن بَعْضُنَا أَهْلُ اسْتِتَارٍ ... وَعِنْدَ اللهِ أَجْمَعُنَا جَرِيْحُ
وَمِن إِنْعَامِ خَالِقِنَا عَلَيْنَا ... بِأَنَّ ذُنُوبَنَا لَيْسَتْ تَفُوحُ
فَلَو فَاحَتْ لأَصْبَحْنَا هُرُوبًا ... فُرَادَى فِي الفَلا مَا نَسْتَرِيْحُ
وَضَاقَ بِكُلِّ مُنْتَحِلٍ صَلاحًا ... لِنَتْنِ ذُنوبِهِ البَلَدُ الفَسِيْحُ(2/231)
المعاصي تنقسم إلى قسمين، قسم ذنوب جوارح ظاهرة مثل القذف والغيبة والظلم والاغتصاب والقتل والزنا واللواط والسرقة ونحو ذلك.
والقسم الثاني: وهي ذنوب القلوب وهن المهلكات القاصمات ومنها: الشرك والشك والنفاق والكفر والاغترار بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله.
ومنها احتقار الذنوب والتهاون بها والتسويف بالتوبة والإنابة والإصرار على المعاصي والرياء والتيه والكبر والعجب والخيانة والغدر والحسد والغل والحقد والبغض.
وسوء الظن والجفاء والقطيعة والعقوق والقسوة والشح والحرص والشره على ما لا ينبغي الحرص والشره عليه.
ومنها: الطغيان بالمال والقوة والجاه واحتقار النعم والاحتقار بمصائب الدين ومنها الاستهانة بعلم الله ونظره وسمعه واطلاعه.
ومنها قلة الحياء من الله عز وجل وتقدس وقلة الحياء ممن على اليمين وعلى الشمال من الملائكة عند فعلك ما يكرهه الله ونحو ذلك من الذنوب التي لا يسلم منها إلا من عصمه الله.
موعظة
قال ابن الجوزي: يا عجبا كيف أنس بالدنيا مفارقها، وأمن النار واردها، كيف يغفل من لا يغفل عنه، كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته وسنته تهدم عمره، كيف يلهو من يقوده عمره إلى أجله وحياته إلى موته.
إخواني: الدنيا في إدبار وأهلها منها في استكثار، والزارع فيها غير التقي لا يحصد إلا الندم.
مَا أَفْضَحَ المَوْت لِلدُّنْيَا وَزينَتَها ... جَدًّا وَمَا أَفْضَح الدُّنْيَا لأَهلِيْهَا
لاَ تَرْجِعَنَّ عَلَى الدُّنْيَا بِلائِمَةٍ ... فَعُذْرُهَا لَكَ بادٍ فِي مَسَاوِيْهَا
تَفني البَنِيْنَ وَتَفْنَي الأَهْل دَائِبَةً ... وَنَسْتِنيمُ إِلَيْهَا لاَ نُعَادِيْهَا
فَمَا يَزِيْدُكُمُوا قَتْلُ الَّذِي قَتَلَتْ ... وَلاَ العَدَاوَة إِلاَّ رَغْبَةً فِيْهَا
آخر
لِسَانَكِ للدُّنْيَا عَدُوٌ مُشَاحِن ... وَقَلْبُكَ فِيْهَا لِلِّسَانِ مُبَايِنُ(2/232)
وَمَا ضَرَّهَا مَا قُلْتَ فِيْهَا وَقَدْ صَفَا ... لَهَا مِنْكَ وَدُّ فِي فُؤادَكَ كَامِنُ
آخر:
وَلَمْ أَرَ كَالدُّنْيَا نَذُم صُرُوفَهَا ... وَنوسِعُهَا شَتْمًا وَنَحْنُ عَبِيْدُهَا
آخر:
يَذُمُونَ دُنْيَاهُم وَهُمْ يَحْلِبُونَهَا ... وَلَم أَرَى كَالدُّنْيَا تُذَمُّ وَتُطْلَبُ
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
اعلم وفقنا الله وإياك أن الصلاة عماد الدين وأجل مباني الإسلام بعد الشهادتين.
ومحلها من الدين محل الرأس من الجسد فكما أنه لا حياة لمن لا رأس له فكذلك لا دين لمن لا صلاة له.
جعلنا الله وإياكم من المحافظين عليها الخاشعين فيها الدائمين عليها المقيمين لها قال جل وعلا { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } وقال عز من قائل { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ } وقال { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } .
فالإنابة هي الرجوع إلى الله، والتقوى هي امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، والإقامة للصلاة الإتيان بها على الوجه الذي أمر الله به.
قال جلا وعلا: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } إلى قوله: { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «صلوا كما رأيتموني أصلي» فالمصلي على الاتباع والاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته على الوجه الذي نقله علماء الأمة من السلف والخلف رضي الله عنهم هو المصلي المعدود عند الله من المقيمين للصلاة والمحافظين عليها.
وللصلاة صورة ظاهرة وحقيقة باطنة لا كمال للصلاة ولا تمام لها إلا بإقامتهما جميعا.(2/233)
فأما صورتها الظاهرة فهي القيام والقراءة والركوع والسجود ونحو ذلك من وظائف الصلاة الظاهرة.
وأما حقيقتها الباطنة فمثل الخشوع والإخبات وحضور القلب وكمال الإخلاص.
والتدبر والتفهم لمعاني القراءة ومعاني التسبيح ونحو ذلك من وظائف الصلاة الباطنة.
فظاهر الصلاة حفظ البدن والجوارح وباطن الصلاة حفظ القلب.
ومن المحافظة على الصلاة والإقامة لها كمال الطهارة والاحتياط فيها في البدن والثوب والمكان.
قال عليه الصلاة والسلام «الطهور شطر الإيمان» وفي الحديث الآخر «الطهور مفتاح الصلاة وإسباغ الوضوء وتثليثه من غير وسوسة ولا إسراف».
فإن الوسوسة في الطهارة والصلاة من عمل الشيطان يلبس بها على من ضعف عقله وقل علمه.
وقد وردت الأحاديث الصحيحة «أن من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من أعضائه ودخل في الصلاة نقيا من الذنوب».
ومن المحافظة على الصلاة والإقامة لها المبادرة بها في أول مواقيتها وفي ذلك فضل وأجر عظيم.
وهو دليل على محبة العبد لربه وعلى المسارعة في مرضاته ومحابه قال - صلى الله عليه وسلم - «أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله».
وقبيح بالمؤمن العاقل أن يدخل عليه وقت الصلاة وهو على شغل من أشغال الدنيا فلا يتركه ويقول إلى فريضة الله التي كتبها الله عليه فيؤديها.
وما يفعل ذلك إلا من عظمت غفلته وقلت معرفته بالله وعظمته وضعفت رغبته فيما أعد الله لأوليائه في الدار الآخرة.
وأما تأخيرها عن وقتها فلا يجوز وفيه إثم عظيم.
ومن المحافظة على الصلاة والإقامة لها الخشوع وحضور القلب وتدبر القراءة وفهم معانيها واستشعار الخضوع والتواضع لله عند الركوع والسجود.
وامتلاء القلب بتعظيم الله وإجلاله وتقديسه عند التكبير والتسبيح وجميع أجزاء الصلاة.(2/234)
والحرص والاجتهاد في دفع الخواطر والهواجيس في شئون الدنيا والإعراض عن حديث النفس في ذلك ويكون همه في الصلاة وحسن تأديتها كما أمر الله فإن الصلاة مع الغفلة وعدم الخشوع والحضور قليلة الجدوى فاجتهد في تدبر ماتقول من كلام ربك واحرص على الطمأنينة فيها فإن الذي لا يتم الركوع والسجود في الصلاة سارق لها كما ورد في الحديث وورد أن من حافظ عليها وأتمها تخرج بيضاء تقول حفظك الله كما حفظتني والذي لا يتم الصلاة تخرج سوداء مظلمة تقول ضيعك الله كما ضيعتني ثم تلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجهه.
رأى رجل حاتم الأصم واقفا يعظ الناس فقال: يا حاتم أراك تعظ الناس أفتحسن أن تصلي قال نعم قال: كيف تصلي؟
قال: أقوم بالأمر وأمشي بالسكينة وأدخل بالهيبة وأكبر بالعظمة وأقرأ بالترتيل وأجلس للتشهد بالتمام وأسلم على السنة. وأسلمها إلى ربي وأحفظها أيام حياتي وأرجع باللوم على نفسي وأخاف أن لا تقبل مني وأرجو أن تقبل مني وأنا بين الرجاء والخوف وأشكر من علمني وأعلم من سألني وأحمد ربي إذ هداني. قال له محمد بن يوسف: مثلك يصلح أن يعظ.
روي أن زين العابدين بن علي بن الحسين رضي الله عنهم كان يتغير عند الوضوء ويصفر لونه فإذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة. فقيل له في ذلك فقال: أتدرون بين يدي من أقوم.
وقال أبو بكر الوراق: ربما انصرف من الصلاة وأنا استحي من الله جل وعلا ولا حياء رجل انصرف من الزنا.
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
مواعظ
عن أبي بكر بن عياش قال: قال لي رجل مرة وأنا شاب خلص رقبتك ما استطعت في الدنيا من رق الآخرة فإن أسير الآخرة غير مفكوك أبدا قال أبو بكر: فما نسيتها أبدا.
وكان يقوم الليل في قباء صوف وسراويل وعكازة يضعها في صدره فيتكئ عليها حين كبر فيحيي ليلته ويذكره حمل العصى بالسفر إلى الآخرة.
قال بعضهم:(2/235)
حَمَلْتُ الْعَصَا لاَ الضَّعْفَ أَوْجَبَ حَمْلَهَا ... عَلَيَّ وَلاَ أَنِّي نَحَلْتُ مِن الكِبَرْ
وَلَكِنَّني أَلْزَمْتُ نَفْسِي حَمْلَهَا ... لأَعْلِمَهَا أَنَّ الْمُقِيْمَ عَلَى سَفَرْ
قال بعض أصحاب وكيع بن الجراح: كان لا ينام حتى يقرأ ثلث القرآن ثم يقوم في آخر الليل فيقرأ المفصل، ثم يجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر فيصلي ركعتين.
وعن عاصم قال: سمعت شقيق بن سلمة يقول وهو ساجد: رب اغفر لي رب اعف عني إن تعف عني تعف عني تطولا من فضلك وإن تعذبني تعذبني غير ظالم لي، قال ثم يبكي حتى أسمع نحيبه من وراء المسجد.
عن خيثمة قال: كان يعجبهم أن يموت الرجل عند خير يعمله إما حج وإما عمرة وإما غزاة وإما صيام رمضان.
قال الربيع بن أبي راشد وقد رأى رجلا مريضا يتصدق بصدقة فقسمها بين جيرانه فقال: الهدايا أمام الزيارة فلم يلبث الرجل إلا أياما حتى مات فبكى عند ذلك الربيع بن أبي راشد وقال: أحسن والله بالموت وعلم أنه لا ينفعه من ماله إلا ما قدم بين يديه.
قال أحمد بن عبد الله بن يونس كان معروف بن واصل التيمي إمام مسجد بني عمرو بن سعد قيل إنه كان يختم القرآن في كل ثلاث سفرا وحضرا وأنه أم قومه ستين سنة لم يسه في صلاته لأنها كانت تهمه.
وقال عبد الملك بن أبجر: ما من الناس إلا مبتلي بعافية لينظر كيف شكره أو مبتلي ببلية لينظر كيف صبره.
وفي الخبر يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأبويه وولده يعيرونه بالفقر ويكلفونه ما لا يطيق فيدخل في المداخل التي يذهب فيها دينه فيهلك. قلت: هذا حاصل في عصرنا فتأمل.
عن معمر مؤذن سليمان التيم قال: صلى إلى جنبي سليمان التيمي العشاء الآخرة وسمعته يقرأ { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } .(2/236)
قال فلما أتى على هذه الآية { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } جعل يرددها حتى خف أهل المسجد وانصرفوا قال فخرجت وتركته قال: وعدت لأذان الفجر فإذا هو في مقامه قال فتسمعت فإذا هو لم يجزها وهو يقول: { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } .
وقيل له أنت أنت (أي يثنون عليه) قال: لا تقولوا هكذا لا أدري ما يبدو لي من ربي عز وجل، سمعت الله يقول: { وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } .
ولما حضره الموت قال لابنه: يا معتمر حدثني بالرخص لعلي ألقى الله عز وجل وأنا حسن الظن به.
عن الأعمش قال: قال عمرو بن عتبة بن فرقد سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين وأنا أنتظر الثالثة.
سألته أن يزهدني في الدنيا فما أبالي ما أقبل وما أدبر وسألته أن يقويني على الصلاة فرزقني منها وسألته الشهادة فأنا أرجوها.
كان طلحة بن مصرف يقول في دعائه: اللهم اغفر لي ريائي وسمعتي.
قال خليد العصري: كلنا قد أيقن بالموت وما نرى له مستعدا، وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عالما وكلنا قد أيقن بالنار وما نرى لها خائفا، فعلام تعرجون، وما عسيتم تنتظرون الموت فهو أول وارد عليكم من الله بخير أو بشر.
إخواني: إنكم تغدون وتروحون في آجال قد غيبت عنكم لا تدرون متى تهجم عليكم فالوحا الوحا والنجا النجا فالطالب مسرع.
يَجِدُّ بِنَا صَرْفُ الزَّمَانِ وَنَهْزُلُ ... وَنُوقَظُ بِالأَحْدَاثِ فِيْهِ وَنَغْفُلُ
وَمَا النَّاس إِلاَّ ظَاعِنٌ أَوْ مُوَدِّعٌ ... وَمُسْتَلَبٌ مُسْتَعْجَلٌ أَوْ مُؤْجَّلُ
وَمَا هَذِهِ الأَيَّام إِلاَّ مَنَازِلٌ ... إِذَا مَا قَطَعنَا مَنْزِلاً بَانَ مَنْزلُ
فَنَاءٌ مُلِحٌ مَا يُغِبُ جَمِيْعَنَا ... إِذَا عَاشَ مِنَّا آَخِرٌ مَاتَ أَوَّلُ
وَكَم صَاحِبٍ لِي كُنْتُ أَكْرَهُ فَقْدَهُ ... تَسَلَّمَهُ مِنِّي الفَنَاءُ الْمُعَجَّلُ(2/237)
اسمعوا عظة الزمان إن كنتم تسمعون، وتأملوا تقلب الأحوال إن كنتم تبصرون.
قال يحيى بن معاذ: لو سمع الخلائق صوت النياحة على الدنيا من ألسنة الفناء لتساقطت القلوب منهم حزنا.
ولو رأت العقول بعين الإيمان نزهة الجنة لذابت النفوس شوقا إليها.
ولو أدركت القلوب المحبة لخالقها لتخلعت مفاصلها ولها فسبحان من أغفل الخليقة عن كنه هذه الأشياء وألهاهم بالوصف عن حقائق هذه الأنباء.
مَن نَالَ من جَوْهَر الأَشْيَاءَ بُغْيَتَهُ ... يِأسَى وَيَحْقِرُ قَومًا حَظُهُم عَرَضُ
إِنِّي لأَعْجَبُ مِن قَوْمٍ يَشفُهُمُ ... حُبُّ الزَّخَارِفِ لاَ يَدْرُونَ مَا الْغَرضُ
أَلاَ عُقُول أَلاَ أَحْلاَمَ تَزْجُرُهُمُ ... بَلَى عُقُولٌ وَأَحْلاَمٌ بِهَا مَرَضُ
اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا وأجب دعوتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة صدورنا. واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فوائد ومواعظ
اعلم يا أخي أن الناس عند الموت ثلاثة أقسام: الأول: ذو بصيرة علم أن الإنسان وإن طال عمره في الدنيا فهو كخطفة برق لمعت في السماء ثم عادت للاختفاء.
فلا يثقل على العاقل اللبيب الخروج من الدنيا إلا بقدر ما يفوته من خدمة ربه عز وجل، والازدياد من ما يقربه إليه، والاشفاق مما يقول أو يقال له.
كما قال بعضهم لما قيل له لم تجزع قال: لأني أسلك طريقا لم أعهده وأقدم على ربي جل وعلا ولا أدري ماأقول وما يقال لي.
ومثل هذا الشخص لا ينفر من الموت بل إذا عجز عن العبادة ربما أشتاق إليه.
وقال بعضهم في مناجاته: إلهي إن سألتك الحياة في دار الممات فقد رغبت في البعد عنك، وزهدت في القرب منك.
فقد قال نبيك وصفيك - صلى الله عليه وسلم - «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه».(2/238)
الثاني: رجل رديء البصيرة متلطخ السريرة منهمك في الدنيا منكر للبعث، قد رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها ويئس من الآخرة.
فهذا مصيره كما ذكره الله: { إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون } .
القسم الثاني: من خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا واعترفوا بذنوبهم وهؤلاء أيضا مصيرهم كما ذكر الله، قال الله جل وعلا وتقدس: { وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم } .
ثم اعلم أن طول العمر محبوب ومطلوب إذا كان في طاعة الله، لقوله عليه الصلاة والسلام «خيركم من طال عمره وحسن عمله» وكلما كان العمر أطول في طاعة الله، كانت الحسنات أكثر والدرجات أرفع.
وأما طوله في غير طاعة، أو في المعاصي، فهو شر وبلاء، تكثر السيئات وتضاعف الخطيئات.
ومن زعم أنه يحب طول البقاء في الدنيا ليستكثر من الأعمال الصالحة المقربة إلى الله تعالى فإن كان مع ذلك حريصا عليها ومشمرا فيها ومجانبا لما يشغل عنها من أمور الدنيا فهو بالصادقين أشبه وإن كان متكاسلا عنها ومسوفا فيها أي الأعمال الصالحة فهو من الكاذبين المتعللين بما لا يغني عنه لأن من أحب أن يبقى لأجل شيء وجدته في غاية الحرص عليه مخافة أن يفوته ويحال بينه وبينه.
ولا سيما والعمل الصالح محله الدنيا ولا يمكن في غيرها لأن الآخرة دار جزاء وليست بدار عمل.
فتفكر يا أخي في ذلك عسى الله أن ينفعنا وإياك واستعن بالله واصبر واجتهد وشمر وبادر بالأعمال الصالحة قبل أن يحال بينك وبينها فلا تجد إليها سبيلا.
وكن حذرا من مفاجأة الأجل فإنك غرض للآفات وهدف منصوب لسهام المنايا وإنما رأس مالك الذي يمكنك إن وفقك الله أن تشتري به سعادة الأبد هذا العمر.(2/239)
قال الله جل وعلا: { أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر } الآية فإياك أن تنفق أوقاته وأيامه وساعاته وأنفاسه فيما لا خير فيه ولا منفعة فيطول تحسرك وندمك وحزنك بعد الموت.
إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عُمْرَكَ فَاحْتَرِزْ ... عَلَيْهِ مِن الإِنْفَاقِ فِي غَيٍرِ وَاجِبٍ
قال محمد بن القاسم خادم محمد بن أسلم قال محمد بن أسلم: مالي ولهذا الخلق كنت في صلب أبي وحدي.
ثم صرت في بطن أمي وحدي
ثم دخلت الدنيا وحدي.
ثم تقبض روحي وحدي.
ثم أدخل في قبري وحدي.
ثم يأتيني منكر ونكير فيسألاني وحدي، فإن صرت إلى خير صرت وحدي.
ثم يوضع عملي وذنوبي في الميزان وحدي.
وإن بعثت إلى الجنة بعثت وحدي.
وإن بعثت إلى النار بعثت وحدي، فمالي وللناس.
ثم تفكر ساعة فوقعت عليه الرعدة حتى خشيت أن يسقط قال وسمعته يحلف كذا وكذا مرة يقول: لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت. ولكني لا أستطيع ذلك، خوفا من الرياء، وكان يدخل بيته ويغلق بابه ويدخل معه كوزا من ماء فلم أدرِ ما يصنع. حتى سمعت ابنا له صغيرا يحكي بكاءه فنهته أمه فقلت لها: ما هذا البكاء؟ فقالت: إن أبا الحسن يدخل هذا البيت فيقرأ القرآن ويبكي فيسمعه الصبي فيحيكه أي يقلده.
وكان إذا أراد أن يخرج غسل وجهه واكتحل لئلا يرى عليه أثر البكاء.
بلغ يا أخي الذين يذكرون أعمالهم للناس من حج وصدقة وصيام رياء وسمعة. وكان يصل قوما ويعطيهم ويكسوهم فيبعث إليهم ويقول للرسول : انظر أن لا يعملوا من بعثه إليهم ويأتيهم هو بالليل فيذهب به إليهم ويخفي نفسه.
ولا يعلمون من الذي أعطاهم ولا أعلم أنه وصل أحدا بأقل من مائة درهم إلا أن لا يمكنه ذلك.
ودخلت عليه قبل موته بأربعة أيام فقال: يا أبا عبد الله أبشر بما صنع الله بأخيك من الخير قد نزل بي الموت وقد من الله عليّ أنه ليس عندي درهم يحاسبني الله عليه.(2/240)
وقد علم ضعفي فإني لا أطيق الحساب، فلم يدع عندي شيئا يحاسبني الله عليه ثم أغلق الباب ولا تأذن لأحد علي حتى أموت.
واعلم أني أخرج من الدنيا وليس أدع ميراثا غير كسائي، وإنائي الذي أتوضأ فيه وكتبي.
وكانت معه صرة فيها نحو ثلاثين درهما، فقال: هذا لابني أهداه إليه قريب له ولا أعلم شيئا أحل لي منه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «أنت ومالك لأبيك».
فكفنوني منها وابسطوا علي جنازتي لبدي وغطوا علي بكسائي وتصدقوا بإنائي أعطوه مسكينا يتوضأ منه ثم مات باليوم الرابع رحمه الله.
قيل إنه مرض قيس بن سعد بن عباده أحد الكرماء فاستبطأ إخوانه في عيادته فسأل عنهم فقالوا: إنهم يستحيون لما لك عليهم من الدين.
فقال: أخزي الله مالا يمنع الإخوان عن الزيارة.
ثم أمر مناديا ينادي من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل.
فكسرت عتبة داره بالعشي لكثرة عواده.
وأتى رجل صديقا ودق عليه الباب فلما خرج قال: لماذا جئتني ؟ قال: لأربعمائة درهم دين علي فدخل الدار ووزن له أربعمائة درهم وسلمها له ودخل الدار يبكي فقالت امرأته: هلا تعللت واعتذرت حين شق عليك الإجابة؟
فقال: إنما أبكي لأني غفلت عنه ولم أتفقد حاله حتى احتاج أن يفاجئني به.
وحكي عن حذيفة العدوي قال: انطلقت يوم اليرموك لطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول إن كان به رمق سقيته ومسحت وجهه فإذا أنا به فقلت: أسقيك فأشار إلي نعم فإذا رجل يقول آه فقال ابن عمي: انطلق إليه.
فجئت إليه فإذا هو هشام بن العاص فقلت أسقيك فسمع هشام آخر يقول آه فقال: انطلق به إليه فجئت إليه فإذا هو قد مات.
ثم رجعت إلى هشام فإذا هو أيضا قد مات.
ثم رجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
إِلَى كَمْ ذَا التَّرَاخِي وَالتَّمَادِي ... وَحادي المَوْت بِالأرْوَاحِ حَادي
فَلَوْ كُنَّا جَمَادًا لاَتَّعَظْنَا ... وَلَكِنا أَشَدُّ مِن الْجَّمَادِ(2/241)
تُنَاديِنا الْمَنِيَّةُ كُلَّ وَقْتٍ ... وَمَا نُصْغَي إِلَى قَولِ الْمُنَادَي
وَأَنْفَاسُ النُّفُوسِ إِلَى انتِقَاصٍ ... وَلَكِن الذُّنُوبَ إِلَى ازْدِيَادِ
إِذَا مَا الزَّرْعُ قَارَنَه اصفِرَارُ ... فلَيْسَ دَوُاؤُه غَيْرَ الْحَصَادِ
كَأَنَّكَ بِالْمَشِيْبِ وَقد تَبَدَّي ... وَبِالأُخْرَى مُنَادِيْهَا يُنَادِي
وَقَالُوا: قَدْ قَضَى فَاقْرَوْا عَلَيْهِ ... سَلامَكُمُ إِلَى يَوْم التَّنَادِ
عن أبي معشر قال: رأيت عون بن عبد الله في مجلس أبي حازم يبكي ويمسح وجهه بدموعه.
فقيل له لم تمسح وجهك بدموعك قال: بلغني أنه لا تصيب دموع الإنسان مكانا من جسده إلا حرم الله عز وجل ذلك المكان على النار.
وقال: قلب التائب بمنزلة الزجاجة يؤثر فيها جميع ما أصابها فالموعظة إلى قلوبهم سريعة وهم إلى الرقة أقرب.
فداووا القلوب بالتوبة فلرب تائب دعته توبته إلى الجنة حتى أوفدته عليها وجالسوا التوابين فإن رحمة الله إلى التوابين أقرب.
سمع المسعودي رجلا يقول أين الزاهدون في الدنيا الراغبون فيما عند الله فقال اقلب المعنى وضع يدك على من شئت.
عن صالح المري قال: كان عطاء السلمي قد أضر بنفسه حتى ضعف قال قلت له: إنك قد أضررت بنفسك وأنا متكلف لك شيئا فلا ترد كرامتي قال أفعل.
قال: فاشتريت سويقا من أجود ما وجدت وسمنا فجعلت له شريبة ولينتها وأرسلتها مع ابني وكوزا من ماء وقلت له لا تبرح حتى يشربها فرجع فقال قد شربها.
فلما كان من الغد جعلت له نحوها فرجعها ولم يشربها فأتيته فلمته فقلت: سبحان الله رددت علي كرامتي إن هذا مما يعينك، ويقويك على الصلاة وعلى ذكر الله.
قال: يا أبا بشر لا يسوءك الله قد شربتها أول مرة فلما كان الغد راودت نفسي على أن تسيغها فما قدرت ذلك.
إذا أردت أن أشربها ذكرت هذه الآية { يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ } .(2/242)
فبكى صالح عند هذه وقال: قلت لنفسي أراني في واد وأنت في آخر.
وقال العلاء بن محمد: دخلت على السلمي وقد غشي عليه، فقلت لامرأته ما شأن عطاء، فقالت: سجرت جارتنا التنور فنظر إليه فخر مغشيا عليه.
وقال: إذا ذكرت أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله وعقابه تمثلت لي نفسي بهم.
فكيف لنفس تغل يدها إلى عنقها وتسحب في النار، ألا تصيح فتبكي.
وكيف لنفس تعذب ألا تبكي، وما أقل غناء البكاء عن أهله إن لم يرحمهم الله.
وقال له بشر بن منصور: ماهذا الحزن؟ قال: ويحك الموت في عنقي والقبر بيتي ، وفي القيامة موقفي، وعلى جسر جهنم طريقي، وربي ما أدري ما يصنع بي، ثم تنفس فغشي عليه.
وقال عمر بن درهم لعطاء: حتى متى نسهو ونلعب وملك الموت في طلبنا لا يكف فصاح عطاء صيحة خر مغشيا عليه.
واجتمع الناس وقعد عمر عند رأسه فلم يزل على حاله حتى المغرب ثم أفاق فحمل.
قيل إن أبا عثمان المنتخب أنشد نور الدين أبياتا تتضمن ما هو متلبس به نور الدين في ملكه من المكوس والضرائب وفيها تخويف وتحذير شديد له كانت هذه الأبيات سببا لوضعها عن الناس:
مِثِّلْ وَقُوفَكَ أَيُّهَا الْمَغْرُوْرُ ... يَوْم القيامة وَالسَّمَاءِ تمورُ
مَاذَا تَقُولُ إِذَا نُقِلْتَ إِلَى البِلىَ ... فِرْدًا وَجَاءَكَ مُنْكَرٌ وَنَكِيْرُ
مَاذَا تَقُولُ إِذَا وَقَفْتَ بِمَوْقِفٍ ... فَرْدًا ذَلِيْلاً وَالْحِسَابِ عَسِيْرُ
وَتَعَلَّقَتْ فِيْك الْخُصُوْمُ وَأَنْتَ فِي ... يَوْمِ الْحِسَابِ مُسَلْسَلٌ مَجْرُوْرُ
وَتَفَرَّقَتْ عَنْكَ الْجُنُوْدُ وَأَنْتَ فِي ... ضِيْقِ القُبُورِ مُوَسَّدُ مَقْبُورُ
وَوَدِِدُتْ أَنَّكَ مَا وَليْتَ وَلاَيَةً ... يَوْمًا وَلاَ قَالَ الأَنَامَ أَمِيْرُ
وَبَقِيْتَ بَعْدَ الْعِزِّ رَهْنَ حَفِيْرَةً ... فِي عَالَم المَوْتى وَأَنْتَ حَقِيْرُ
وَحُشِرتَ عِرْيَانًا حَزِيْنًا بَاكِيًا ... قَلِقًا وَمَا لَكَ فِي الأَنَامِ مُجِيْرُ(2/243)
أَرْضِيْتَ أَنْ تَحْيَا وَقَلْبُكَ دَارسٌ ... عَافِي الْخَرَابِ وَجسمُكَ الْمَعْمُوْرُ
أَرَضيْتَ أَنْ يُحْظَي سِوَاك بِقُرْبِهِ ... أَبَدًا وَأَنْتَ مُعَذَّبٌ مَهْجُوْرُ
مَهِّدْ لِنَفْسِكَ حُجَّةً تَنْجُو بِهَا ... يَوْمَ الْمَعادِ وَيوْمَ تَبْدُو الْعُوْرُ
فلما سمع نور الدين هذه الأبيات بكى بكاء شديدا وأمر بوضع الضرائب والمكوس في سائر البلاد وكتب إلى الناس ليكون منهم في حل مما كان أخذ منهم ويقول لهم إنما صرف ذلك في قتال أعدائكم من الكفرة والذب عن بلادكم ونسائكم وأولادكم وكتب ذلك إلى سائل ممالكه وبلدانه سلطانه وأمر الوعاظ أن يستحلوا له من التجار والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قال محمد بن واسع: ما آسى من الدنيا إلا على ثلاث: صاحب إذا أعوججت قومني، وصلاة في جماعة يحمل عني سهوها وأفوز بفضلها، وقوت من الدنيا ليس لأحد فيه منة، ولا الله عز وجل علي فيه تبعة.
كان بالكوفة رجل قد خرج عن دنيا واسعة وتعبد فقال الفضيل لعبد الله بن المبارك: إن ههنا رجلا من المتعبدين قد خرج عن دنيا واسعة فامض بنا إليه ننظر عقله.
فجاءوا إليه وهو عليل وعليه عباءة وتحت رأسه قطعة لبنة فسلم عليه ابن المبارك ثم قال له: يا أخي بلغنا أنه ما ترك عبد شيئا لله إلا عوضه الله ما هو أكثر منه فما عوضك؟
قال:الرضا بما أنا فيه فقال ابن المبارك حسبك، وقاما على ذلك.
وأوصى بعضهم أخا له في الله فقال: لا يلهينك الناس عن ذات نفس فإن الأمر يخلص إليك دونهم ولم أر شيئا أحسن طلبا ولا أسرع إدراكا من حسنة حديثةً لذنب قديم.
قال خليد العصري: كلنا قد أيقن بالموت وما نرى له مستعدا، وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملا، وكلنا قد أيقن بالنار وما نرى لها خائفا، فعلام تعرجون وما عسيتم تنتظرون الموت فهو أول وارد عليكم من الله بخير أو شر فيا إخوتاه سيروا إلى ربكم سيرا جميلا.(2/244)
وقال آخر : ابن آدم لو رأيت يسير ما بقي من أجلك، لزهدت في طول ما ترجو من أملك ولرغبت في الزيادة من عملك، ولقصرت من حرصك وحيلك وإنما يلقاك ندمك إذا زل بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك وتبرأ منك القريب، وانصرف عنك الحبيب فلا أنت إلى دنياك عائد ولا في حسناتك زائد.
أَبَدًا تُفهِّمُنَا الْخُطُوبُ كُرُوْرَهَا ... وَنَعُودُ فِي عَمَهٍ كَمَنْ لاَ يَفْهَمُ
تَلْقَى مَسَامِعَنا العِظَاتُ كَأَنَّمَا ... فِي الظِّل يَرْقُم وَعْظَه مِن يَرقُمُ
وَصَحَائِفُ الأَيَّامِ نَحْنُ سُطُورُهَا ... يُقْرَا الأَخِيرُ وَيدْرج الْمتقدِّمُ
لِحْدُ عَلَى لَحْدِ يُهَالُ ضَرْيِحُهُ ... وَبِأَعْظَمِ رَمِمٍ عَلَيْهَا أَعْظَمُ
مَنْ ذَا تَوقَّاه الْمَنُونُ وَقَبْلَنَا ... عَادٌ أَطاحَهم الْحِمَامُ وَجُوْهُمُ
وَالتَّبعانِ تَلاَحَقَا وَمُحَرِّقٌ ... وَالْمْنِذرَانِ وَمَالِكٌ وَمُتَمِّمُ
رأى مالك بن دينار رجلا يسيء في صلاته فقال: ما أرحمني لعياله.
فقيل له يسيء هذا صلاته وترحم عياله قال: إنه كبيرهم ومنه يتعلمون.
وقال سهل بن عبد الله: استجلب حلاوة الزهد بقصر الأمل، واقطع أسباب الطمع بصحة اليأس، وتعرض لرقة القلب بمجالسة أهل الذكر واستفتح باب الحزن بطول الفكر، وتزين لله بالصدق في كل الأحوال.
وإياك والتسويف فإنه يغرق الهلكى وإياك والغفلة فإن فيها سواد القلب، واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر.
كان السلف أحرص ما يكونون على أوقاتهم لأنهم يعرفون قيمة الوقت وأنه إذا فات لا يستدرك فهو أعز شيء يغار عليه أن ينقضي بدون عمل صالح.
فالوقت ينقضي وينصرم بنفسه، فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته وعظم فواته واشتدت حسراته.
فكيف حاله إذا علم عند تحقق الفوات مقدار ما أضاع، وطلب الرجوع فحيل بينه وبينه، وطلب تناول الفائت وكيف يرد الأمس الفائت في اليوم الجديد.
قال الله جل وعلا: { وقالوا آمنا به وأني لهم التناوش من مكان بعيد } ومنع مما يحبه ويرتضيه.(2/245)
وعلى أن ما اقتناه ليس للعاقل مما ينبغي أن يقتنيه وحيل بينه وبين ما يشتهيه.
فيا لها من حسرة ما إلى رد مثلها من سبيل.
كان الحسن يقول: أصول الشر ثلاثة: الحرص، والحسد ، والكبر.
فالكبر منع إبليس من السجود لآدم، والحرص أخرج آدم من الجنة، والحسد حمل ابن آدم على قتل أخيه.
وقال غيره: ليس لثلاث حيلة فقر يخالطه كسل، وخصومة يداخلها حسد، ومرض يداخله هرم.
ثلاثة ينبغي مداراتهم: الملك المسلط، والمرأة الحمقى، والمريض.
وقال آخر: لا نوم أثقل من الغفلة ولا رق أملك من الشهوة ولولا ثقل الغفلة لم تظفر بك الشهوة.
وقال آخر: يا ابن آدم مالك تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت، ومالك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت.
وكان يقول: ذنوب مزدحمة على عاقبة مبهمة.
إلهي ارحمني لقدرتك عليّ ولحاجتي إليك.
إلهي ضيعت بالذنب نفسي فارددها بالعفو علي يا أجود الأجودين.
يا من يغضب على من لا يسأل لا تمنع من قد سألك.
وقيل لآخر وهو يجود بنفسه قل، فقال: اللهم إني نصحت خلقك ظاهرا، وغششت نفسي باطنا، فهب لي غشي لنفسي، لنصحي لخلقك ثم خرجت روحه.
وقال آخر: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال.
وقال: حسن أدب الظاهر عنوان على حسن أدب الباطن لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه».
وسئل عن الرجال فقال: القائمون بوفاء العهود قال الله تعالى: { رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } .
من نظر في سير السلف عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الرجال.
وقيل لحمدون ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن.
ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق.
قلت: فكيف لو رأى أهل هذا الزمان وما أصيبوا به من التكالب على الدنيا والافتنان بزخارفها ومغرياتها فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(2/246)
يَا آمِنَ السَّاحَةِ لاَ يَذْعَرُ ... بَيْنَ يَدَيْكَ الفَزَعُ الأَكْبَرُ
وإِنَّمَا أَنْتَ كَمَحْبُوسِةٍ ... حُمَّ رَدَاهَا وَهِي لاَ تَشْعُرُ
وَالْمَرءُ مَنْصُوبٌ لَهُ حَتْفَهُ ... لَو أَنَّه مِن عَمَهٍ يَبْصِرُ
وَهَذِهِ النَّفْسُ لَهَا حَاجَةٌ ... وَالعُمْرُ عَن تَحْصِيِلِهَا يَقْصُرُ
وَكُلَّمَا تُزْجَرُ عَن مَطْلَبٍ ... كَانَتْ بِهِ أكلف إِذْ تُزْجَرُ
وإِنَّمَا تَقْصُرُ مَغْلُوْبَةُ ... كَالْمَاءِ عَن عُنْصُرهِ يَقْصُرُ
وَرُبَّمَا أَلْقَت مَعَاذِيْرَهَا ... لَوْ أَنَّهَا وَيْحَهَا تُعْذَرُ
وَنَاظِرُ المَوْت لَهَا نَاظِرٌ ... لَوْ أَنَّهَا تَنْظُرُ إِذْ يَنْظُرُ
وَزَائِرُ المَوْتِ لَهُ طَلْعَةٌ ... يُبْصِرُهَا الأَكْمَهُ وَالْمُبْصِرُ
وَرَوْعَةُ المَوْت لَهَا سَكْرَةٌ ... مَا مِثْلُهَا مِن رَوْعَةٍ تُسْكِرُ
وَبَيْنَ أَطْبَاقِ الثَّرَى مَنْزِلٌ ... يَنْزِله الأَعْظَم وَالأَحْقَرُ
يَتْرُك ذُوْ الفَخْرِ بِهِ فَخْرَهُ ... وَصَاحِبُ الكِبْرِ بِهِ يَصْغُرُ
قَدْ مَلَأتْ أَرْجَاءَهُ رَوْعَةٌ ... نَكِيْرُهَا الْمَعْرُوفُ وَالمُنْكَرُ
وَبَعْدُ مَا بَعْدُ وَأَعْظِمْ بِهِ ... مِنْ مَشْهَدٍ مَا قَدْرُهُ يَقْدَرُ
يَرْجَف مِنْهُ الورى رجفة ... ينهد مِنْهَا الملأ الأكبرُ
ولَيْسَ هذا الوصف مستوفيا ... كل الَّذِي من وَصفه يذكرُ
وإِنَّمَا ذَا قطرة أُرسِلَتْ ... مِنْ أَبْحُرٍ تَتْبَعُهَا أَبْحُرُ
وَقَدْ أَتَاكَ الثَّبْتُ عَنْهُ بِمَا ... أَخْبَركَ الصَّادِقُ إِذْ يِخْبِرُ
فَاعْمَلْ لَهُ وَيكَ وَإلاَّ فَلاَ ... عُذْرٍ وَمَا مِثْلُكَ مَنْ يُعَذرُ
سِهَامُ الْمَنَايَا فِي الوَرَى لَيْسَ تَمْنَعُ ... فَكُلُّ لَهُ يَوْمًا وَإن عَاشَ مَصْرَعُ
وَكُلُّ وَإن طَالَ الْمَدَى سَوْفَ يَنْتَهِي ... إِلَى قَعْرِ لَحْدٍ فِي ثَرَى مِنْهُ يُوْدَعُ(2/247)
فَقُلْ لِلَّذِي قَدْ عَاشَ بَعْدَ قَرينه ... إِلَى مِثْلِهَا عَمَّا قَلِيْلُ سَتُدْفَعُ
فَكُلُّ ابْنِ أَنْثَى سَوفَ يُفْضِي إِلَى الرَّدَى ... وَيَرْفَعُه بَعْد الأَرائِكِ شَرْجَعُ
وَيُدْرِكُهُ يَوْمًا وَإن عَاشَ بُرْهَةً ... قَضَاءُ تَسَاوَى فِيْهِ عَوْدٌ وَمُرْضَعُ
فَلاَ يَفْرَحَنْ يَوْمًا بُطُولِ حَيَاتِهِ ... لَبِيْبٌ فَمَا فِي عَيْشِهِ الْمَرْءُ مَطْمَعُ
فَمَا الْعَيْشُ إِلاَّ مِثْلُ لَمْحَةِ بَارِقٍ ... وَمَا المَوْتُ إِلاَّ مِثْل مَا الْعَيْن تَهْجَعُ
وَمَا النَّاس إِلاَّ كَالنَّبَاتِ فَيَابِس ... هَشِيْمٌ وَغَضُّ إِثْر مَا بَادَ يَطْلَعُ
فَتَبَا لدَار مَا تَزَالَ تعَلُّنَا ... أََفَاوِيْقَ كَأْسٍ مَرَّةً لَيْسَ تَقْنِعُ
سَحَابُ أَمانِيْهَا جَهَامٌ وَبرْقُها ... إِذَا شِيْمَ بَرْقٌ خُلَّبٌ لَيْسَ يَهْمَعُ
تَغُرُّ بنْيَها بِالْمُنَى فَتَقُودُهُمْ ... إِلَى قَعْرِ مَهْوَاةِ بِهَا الْمَرْءُ يُوْضَعُ
فَكَمْ أهَلَكَت فِي حُبِّهَا مِن مُتَيَّمٍ ... وَلَم يَحْظَ مِنْهَا بِالْمُنَى فَيُمَتَّعُ
تَمَنَيْهِ بِالآمَالِ فِي نَيْل وَصْلِهَا ... وَعَنْ غَيّهِ فِي حُبِّهَا لَيْسَ يَنْزِعُ
أَضَاعَ بِهَا عُمْرًا لَهُ لَيْسَ رَاجِعًا ... وَلَمْ يَنَلْ الأَمْرَ الَّذِي يُتَوَقَّعُ
فَصَارَ لَهَا عَبْدًا لِجَمْعٍ حُطَامِها ... وَلَمْ يَهْنَ فِيْهَا بِالَّذِي كَانَ يَجْمَعُ
وَلَوْ كَانَ ذَا عَقْلٍ لأَغْنَتْهُ بُلْغَةٌ ... مِن العَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَلم يَكُ يَجْشَعُ
إِلَى أَنْ تُوَافِيْهِ الْمِنِيِّةُ وَهْوَ بَالْ ... قَنَاعَةِ فِيْهَا آمِنًا لاَ يُرَوَّعُ
مَصَائِبُها عَمَّتْ فلَيْسَ بِمُفْلَتٍ ... شُجَاٌع وَلاَ ذُو ذِلَّةٌ لَيْسَ يَدْفَعُ
وَلا سَابِحٌ فِي قَعْرِ بَحْرٍ وَطَائِرُ ... يُدَوِّمُ فِي بُوْحِ الفَضَاءِ وَيَنْزِعُ(2/248)
وَلاَذُوْ امْتِنَاعٍ فِي بُرُوجٍ مُشِيْدَةٍ ... لَهَا فِي ذُرَى جَوِّ السَّمَاءِ تَرَفُّعُ
أَصَارَتْهُ مِنْ بَعْدِ الْحَيَاةِ بِوَهْدَةٍ ... لَهُ مِنْ ثَرَاهَا آَخِرَ الدَّهْرِ مَضْجَعُ
تَسَاوَى بِهَا مَنْ حَلَّ تَحْتَ صَعِيْدَهَا ... عَلَى قُرْبِ عَهْدٍ بِالْمَمَاتِ وَتُبَّعُ
فَسِيَّانِ ذُو فَقْرٍ بِهَا وَذُوُو الْغِنَى ... وَذُوْ لَكَنْ عِنْدَ الْمَقَالِ وَمِصْقَعُ
وَمَنْ لَمْ يَخَفْ عِنْدَ النَّوَائِبِ حَتْفَهُ ... وَذُوْ جُبُنٍ خَوْفًا مِن المَوْتِ يُسْرِعُ
وَذُوْ جَشَعٍ يَسْطُو بِنَابِ وَمَخْلَبٍ ... وَكُلُّ بِغَاثٍ ذِلَّةً لَيْسَ يَمْنَعُ
وَمَنْ مَلَكَ الآَفَاتَ بَأْسًا وَشِدَّةً ... وَمَنْ كَانَ مِنْهَا بِالضَّرُوْرَةِ يَقنَعُ
وَلَوْ كَشَفَ الأَجْدَاثَ مُعْتَبِرًا لَهُمْ ... لِيَنظُرَ آَثَارَ البِلَى كَيْفَ يَصْنَعُ
لَشَاهَدَ أَحْدَاقًا تَسِيْل وَأَوْجُهَا ... مُعَفَّرَةٌ فِي التُّرْبِ شُوْهًا تُفَزِّعُ
غَدَتْ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى مُكْفَهِرَّةً ... عَبُوسًا وَقد كَانَتْ مِن البَشَرِ تَلْمَعُ
فَلَمْ يَعْرِفِ الْمَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ فِيْهِم ... وَلاَ خَامِلاَ مِن نَابِهٍ يَتَرَفَّعُ
وَأَنَّى لَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ بَعْدَمَا ... تَبَيَّنَ مِنْهُمْ مَا لَهُ الْعَيْنُ تَدْمَعُ
رَأَى مَا يَسُوءُ الطَّرْفَ مِنْهُمْ وَطَالَمَا ... رَأَى مَا يَسُرُّ النَّاظِرِيْنَ وَيُمْتِعُ
رَأَى أَعْظُمًا لاَ تَسْتَطِيْعُ تَمَاسُكًا ... تَهَافَتْ مِنْ أَوْصَالِهَا وَتَقَطَّعُ
مُجَرَّدَةً مِن لِحْمِهَا فَهِيَ عِبْرَةٌ ... لِذِي فِكْرَةٍ فِيْمَا لَهُ يَتَوقَّعُ
تَخَوَّنَهَا مَرُّ اللَّيَالِي فَأَصْبَحَتْ ... أَنَابِيْبَ مِنْ أَجْوَافِهَا الرِّيْحُ تُسْمَعُ
إِلَى حَالَةٍ مُسْوَدَّةٍ وَجَمَاجِمٍ ... مُطَأْطَأَةٍ مِنْ ذِلّةٍ لَيْسَ تُرْفَعُ(2/249)
أُزِيْلَتْ عَن الأَعْنَاقِ فَهِي نَوَاكِسٌ ... عَلَى التُّرْبِ مِنْ بِعد الوَسَائِدِ تُوْضَعُ
عَلاَهَا ظَلاَمٌ لِلْبِلَى وَلَطَالَمَا ... غَدَا نُورُهَا فِي حِنْدِسِ الظُّلْمِ يَلْمَعُ
كَأَن لَمْ يَكُنْ يَوْمًا عَلاَ مَفْرِقًا لَهَا ... نَفَائِسُ تِيْجَانٍ وَدُرٍ مُرَصَّعُ
تَبَاعَدَ عَنْهُم وَحْشَةً كُلُّ وَامِقٍ ... وَعَافَهُمُ الأَهْلُونَ وَالنَّاسُ أجْمَعُ
وَقَاطَعَهُمْ مَنْ كَانَ حَالَ حَيَاتِهِ ... بِوَصْلِهِمُ وَجدًا بِهِمْ لَيْسَ يَطْمَعُ
يُبَكِّيْهِمْ الأَعْدَاءُ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ ... وَيَرْحَمُهُمْ مَنْ كَانَ ضِدًا وَيَجْزَعُ
فَقُلْ لِلّذِي قَدْ غَرُّهُ طُوْلُ عُمْرهِ ... وَمَا قَدْ حَوَاهُ مِنْ زَخَارِفَ تَخْدَعُ
أَفِقْ وَانْظُرِ الدُّنْيَا بِعَيْنٍ بَصِيْرَةٍ ... تَجِدْ كُلَّ مَا فِيْهَا وَدَائِعَ تَرْجِعُ
فأَيْنَ الْمُلُوكُ الصِّيْدُ قِدْمًا وَمَنْ حَوَى ... مِنَ الأَرْضِ مَا كَانَتْ بِهِ الشَّمْسُ تَطْلَعُ
حَوَاهُ ضَرِيْحَ مِنْ فَضَاء بَسِيْطَهَا ... يُقَصِرُ عَن جُثْمَانِهِ حِيْنَ يَذْرَعُ
فَكَمْ مَلَكَ أَضْحَى بِهَذَا مَذَلَّةٍ ... وَقَدْ كَانَ حَيًّا للْمَهَابَةِ يُتْبَعُ
يَقُودْ عَلَى الْخَيْلِ العِتَاقِ فَوَارِسَا ... يِسُدُّ بِهَا رَحْبَ الفَيَافِي وَيُتْرِعُ
فَأَصْبَحَ مِنْ بَعْدِ التَّنَعُّمِ فِي ثَرَى ... تَوَارَي عِظَامًا مِنْهُ بَهْمَاءُ بَلْقَعُ
بَعِيْدًا عَلَى قَرْبِ الْمَزَارِ إِيَابُهُ ... فلَيْسَ لَهُ حَتَّى القِيَامَةَ مَرْجَعُ
غَرِيْبًا مِنْ الأَحْبَابِ وَالأَهْلِ ثَاوِيًا ... بِأَقْصَى فَلاَةٍ خَرْقُهُ لَيْسَ يَرْقَعُ
تُلِحُّ عَلَيْهِ السَّافِيَاتُ بِمَنْزِلٍ ... جَدِيْبٍ وَقدْ كَانَتْ بِهِ الأَرْضُ تَمْرِعُ
رَهِيْنَا بِهِ لاَ يَمْلِكُ الدَّهْرَ رَجْعَةً ... وَلا يَسْتَطِيْعَنَّ الْكَلاَمَ فَيُسْمَعُ(2/250)
تَوَسَّدَ فِيْهِ التُّرْب مِنْ بَعْد مَا اغْتِدى ... زَمَانًا عَلَى فُرُشٍ من الْخِز يُرْفَعُ
كَذَلِكَ حُكْمُ اللهِ فِي الْخَلْقِ لَنْ تَرَى ... مِنَ النَّاسِ حَيًّا شَمْلهُ لَيْسَ يُصْدَعُ
آخر: هذه قصيدة وعظية ألق لها سمعك:
أنِسْتُ بِلاَواءِ الزَّمَانِ وَذِلِّهِ ... فَيَا عِزَّةَ الدُّنْيَا عَلَيْكَ سَلامُ
إِلَى كَمْ أَعَانِي تِيْهَهَا وَدَلالَهَا ... أَلَمْ يَأَنْ عَنْهَا سَلْوةُ وَسَآمُ
وَقَد أَخْلَقَ الأَيَّامَ جِلْبَابِ حُسْنِهَا ... وَأُضْحَتْ وَدِيبَاجُ البَهَاءِ مَسَامُ
عَلَى حِيْنَ شَيْبُ قَدْ أَلَمَّ بَمَفْرِقِي ... وَعَادَ رُهَامُ الشَّعْرِ وَهْوَ ثَغَامُ
طَلائِعُ ضَعْفٍ قَدْ أَغَارَتْ عَلَى القُوى ... وَثَارَ بِمْيَدَانِ الْمِزَاجِ قِتَامُ
فَلاَ هِيَ فِِي بُرْجِ الْجَمَالِ مُقِيْمَةٌ ... وَلاَ أَنَا فِي عَهْدِ الْمُجُونَ مُدَامُ
تَقَطَّعَتْ الأَسْبَابُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ... وَلَمْ يَبْقَ فِيْنَا نِسْبَةٌ وَلِئآمُ
وَعَادَتْ قَلُوصُ العَزْمِ عَنِّي كَلِيْلَةً ... وَقَدْ جُبَّ مِنْهَا غَارِبٌ وَسَنَامُ
كَأَنِّي بِهَا وَالقَلْبُ زُمَّتْ رِكَابُه ... وَقُوِّضَ أَبْيَاتٌ لَهُ وَخِيَامُ
وَسِيْقَتْ إِلَى دَارِ الْخُمُولِ حُمُولُهُ ... يَحُنُّ إِلَيْهَا وَالدُّمُوعُ رُهَامُ
حَنِيْنَ عَجُولٍ غَرَّهَا البَوُّ فانْثَنَتْ ... إِلَيْهِ وَفِيْهَا أَنَّه وَضُغَامُ
تَوَلَّتْ ليَالِ لِلمَسَرَّاتِ وَانْقَضَتْ ... لِكُلِ زَمَانٍ غَايَةٌ وَتَمَامُ
فَسَرْعَانَ مَا مَرَّتْ وَوَلَّتْ وَلَيْتَهَا ... تَدُوْمُ وَلَكِن مَا لَهُنَّ دَوَامُ
دُهُورٌ تَقَضَّتْ بِالمسَرَّاتِ سَاعَةً ... وَيَومٌ تَوَلَّى بِالْمَسَاءَةِ عَامُ
فَلِلَّهِ دَرُّ الغَمِّ حَيثُ أَمَدَّنِي ... بِطُولِ حَيَاةٍ وَالْهُمُومُ سِهَامُ
أَسِيْرُ بِتَيْمَاءِ التَّحَيْرِ مُفْرَدًا ... وَلِيْ مَعَ صَحْبِي عِشْرَةٌُ وَنَدَامُ(2/251)
وَكَمْ عِشْرَةٍ مَا أَوْرَثَتْ غَيْرَ عُسْرَةٍ ... وَرُبَّ كَلاِمِ فِي القُلُوبِ كَلاَمُ
فَمَا عِشْتُ لاَ أَنْسَي حُقُوقَ صَنِيْعِهِ ... وَهَيِهَات أَنْ يُنْسَي لَدَيَّ ذِمَامُ
كَمَا اعْتَادَ أَبْنَاءُ الزَّمَانِ وَأَجْمَعَتْ ... عَلَيْهِ فِئَامُ إثْرَ ذَاكَ فِيَامُ
خَبَتْ نَارُ أَعْلاَمِ الْمَعَارِفِ وَالْهُدَى ... وَشَبَّ لِنِيْرَانِ الضَّلاَلِ ضُرَامُ
وكَانَ سَرِيْرَ العِلمِ صَرْحًا مُمَرَّدًا ... يُنَاغِي القِبابِ السَّبْعَ وَهِي عِظَامُ
مَتينًا رَفيعًا لاَ يُطَارُ غُرابُهُ ... عَزيْزًا مَنِيْعًا لاَ يَكَادُ يُرَامُ
يَلُوحُ سَنَا بَرْقِ الْهُدَى مِنْ بُرُوْجِهِ ... كَبَرْقٍ بَدَا بَيْنَ السِّحَابِ يُشَامُ
فَجَرَّتْ عَلَيْهِ الرَّاسِيَاتُ ذُيُولَهَا ... فَخَرَّتْ عُرُوْشٌ مِنْهُ ثُمَّ دَعَامُ
وسِيْقَ إِلَى دَارِ الْمَهانَةِ أَهْلُهُ ... مَسَاقَ أَسَيْرٍ لاَ يَزَالُ يُضَامُ
كَذَا تَجْرِيَ الأَيَّامُ بَيْنَ الوَرَى عَلَى ... طَرَائِقَ مِنْهَا جَائِرٌ وَقِوَامُ
فَمَا كُلُّ مَا قَدْ قِيْلَ عِلْمٌ وَحِكْمَةٌ ... وَمَا كُلُّ أَفْرَادِ الْحَدِيْدِ حُسَامُ
وَلِلْدَّهْرِ تَاراتٌ تَمُرُّ عَلَى الفَتَى ... نَعِيْمٌ وَبؤسٌ صِحَّةٌ وَسَقَامُ
وَمَنَ يَكُ فِي الدُّنْيَا فَلاَ يَعْتِبنَّهَا ... فلَيْسَ عَلَيْهَا مَعْتَبٌ وَمَلاَمُ
أَجِدَّكَ مَا الدُّنْيَا وَمَاذَا مَتَاعُهَا ... وَمَاذَا الَّذِي تَبْغِيْهِ فَهْوَ حُطَامُ
تَشَكَّلَ فِيْهَا كُلُّ شَيْءٍ بِشَكْلِ مَا ... يُعَانِدُهُ وَالنَّاس عَنْهُ نِيَامُ
تَرَى النَّقْصَ فِي زِيِّ الكَمَالِ كَأَنَّمَا ... عَلَى رَأسِ رَبَّاتِ الْحِجَالِ عَمَامُ
فَدَعْهَا وَنعْمَاهَا هَنِيْئًا لأِهلِهَا ... وَلاَ تَكُ فِيْهَا رَاعِيًا وَسَوَامُ
تَعَافُ العَرانِيْنُ السِّمَّاطَ عَلَى الْخِوَى ... إِذَا مَا تَصَدَّى لِلطَّعَامِ طَغَامُ(2/252)
عَلَى أَنَّهَا لاَ يُسْتَطاعُ مَنَالُهَا ... لِمَا لَيْسَ فِيْهِ عُرْوَةٌ وَعِصَامُ
وَلَوْ أَنْتَ تَسْعَى إِثْرَهَا أَلفَ حَجِّةٍ ... وَقَدْ جَاوَزَ الطِبْيَيْنِ مِنْكَ حِزَامُ
رَجَعْتَ وَقَدْ ضَلَّتْ مَسَاعِيْكَ كُلّهَا ... بِخُفَيْ حُنَينٍ لاَ تَزَالُ تُلاَمُ
هَبِ إِنَّ مَقَالِيْدَ الأُمُورِ مَلَكْتَهَا ... وَدَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَأَنْتَ هُمَامُ
وَمُتِّعْتَ بِاللَّذَاتِ دَهْرًا بِغِبْطَةٍ ... ألَيْسَ بِحَتْمٍ بَعْدَ ذَاكَ حِمَامُ
فَبَيْنَ البَرَايَا وَالْخُلُودِ تَبَايُنٌ ... وَبَيْنَ الْمَنَايَا وَالنُّفُوس لِزَامُ
قَضَيَّة اِنْقَادَ الأَنَامُ لِحكْمِهَا ... وَمَا حَادَ عَنْهَا سَيِّدٌ وَغُلاَمُ
ضَرورِيَة تَقضي العُقُولُ بِصِدقِهَا ... سَلَ إِنْ كَانَ فِيْهَا مِرْيَةً وَخِصَامُ
سَلْ الأَرْضَ عَن حالِ الملوكِ التي خَلَتْ ... لَهم فَوقَ، فَوْق الفَرقدين مُقَامُ
بأبوابهم للوافدين تراكُم ... باعتابِهم للعاكِفين زِحَامُ
تُجْبكَ عَن أَسْرَارِ السِّيوفِ التي جَرَتْ ... عَلَيْهم جَوَابًا لَيْسَ فِيْهِ كَلاَمُ
بِأَنَّ الْمَنَايَا أَقَصْدَتْهُم نِبَالُهَا ... وَمَا طَاشَ عَنْ مَرْمَى لَهُنَّ سِهَامُ
وَسِيْقُوا مَسَاقَ الغَابِرِيْنَ إِلَى الرَّدَى ... وَأَقْفَرَ مِنْهُم مَزَلٌ وَمَقَامُ
وَحَلُوا مَحِلاً غَيْرَ مَا يَعْهَدُونَه ... فلَيْسَ لَهُم حَتَّى القِيَام قِيَامُ
أَلَم بِهِمْ رِيْبُ الْمَنُونِ فَغَالَهُم ... فَهُم بَيْنَ أَطْبَاقِ الرُّغَامِ رُغَامُ
انتهى.
اللهم اغفر لنا جميع ما سلف منا من الذنوب، واعصمنا فيما بقي من أعمارنا ووفقنا لعمل صالح ترضى به عنا.
اللهم يا سامع كل صوت، ويا بارئ النفوس بعد الموت، يا من لا تشتبه عليه الأصوات، يا عظيم الشأن، يا واضح البرهان، يا من هو كل يوم في شأن، اغفر لنا ذنوبنا إنك أنت الغفور الرحيم.(2/253)
اللهم يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام هب لنا العافية في الدنيا والآخرة.
اللهم يا حي ويا قيوم فرغنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكفلت لنا به، واجعلنا ممن يؤمن بلقائك، ويرضى بقضائك، ويقنع بعطائك ويخشاك حق خشيتك.
اللهم اجعل رزقنا رغدا، ولا تشمت بنا أحدا.
اللهم رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعول في الدين إلا عليه.
اللهم إنا نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر ما أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
اللهم يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز يا ذا المن والعطا والعز والكبرياء يا من تعنوا له الوجوه وتخشع له الأصوات.
وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك على كل شيء قدير.
اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكي بها أعمالنا ، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين.
اللهم ارزقنا من فضلك، واكفنا شر خلقك، واحفظ علينا ديننا وصحة أبداننا.
اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين.
اللهم يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير.
نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين، وأرأف الرائفين وأكرم الأكرمين.
اللهم اعتقنا من رق الذنوب، وخلصنا من أشر النفوس، وأذهب عنا وحشة الإساءة وطهرنا من دنس الذنوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم.(2/254)
اللهم طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مع المرحومين من أوليائك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وتلاوة كتابك، واجعلنا من حزبك المفلحين وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
اللهم يا فالق الحب والنوى، يا منشئ الأجساد بعد البلى يا مؤى المنقطعين إليه، يا كافي المتوكلين عليه، انقطع الرجاء إلا منك، وخابت الظنون إلا فيك، وضعف الاعتماد إلا عليك نسألك أن تمطر محل قلوبنا من سحائب برك وإحسانك وأن توفقنا لموجبات رحمتك وعزائم مغفرتك إنك جواد كريم رءوف غفور رحيم.
اللهم نسألك قلبا سليما، ولسانا صادقا، وعملا متقبلا، ونسألك بركة الحياة وخير الحياة، ونعوذ بك من شر الحياة، وشر الوفاة.
اللهم إنا نسألك التوفيق لما تحبه من الأعمال، ونسألك صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا من عبادك المخبتين الغر المحجلين الوفد المتقبلين.
اللهم إن نسألك حياة طيبة، ونفسا تقية، وعيشة نقية، وميتة سوية، ومردا غير مخزي ولا فاضح.
اللهم اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك.
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
عبد العزيز بن محمد السلمان
غفر الله له ولوالديه وجميع المسلمين
فصل
فائدة
وقف قوم على عالم فقالوا إنا سائلوك أفمجيبنا أنت قال سلوا ولا تكثروا فإن النهار لن يرجع والعمر لن يعود، والطالب حثيث في طلبه، قالوا فأوصنا قال تزودوا على قدر سفركم فإن خير الزاد ما أبلغ البغية، ثم قال الأيام صحائف الأعمال فخلدوها أحسن الأعمال، فإن الفرص تمر مر السحاب، والتواني من أخلاق الكسالى والخوالف، ومن استوطن مركب العجز عثر به، وتزوج التواني بالكسل فولد بينهما الخسران اهـ.(2/255)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تعز الإسلام والمسلمين وأن تذل الشرك والمشركين وأن تدمر أعداء الدين اللهم صلى على محمد وعلى آله وصحبه.
اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا طيبا وعملا متقبلا يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارحم في الدنيا غربتي وارحم في القبر وحشتي وارحم في الآخرة وقوفي بين يديك.
اللهم أعتق رقبتي من النار وأوسع لي من الرزق الحلال واصرف عني فسقة الجن والإنس.
اللهم إني أسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه وظاهره وباطنه وأوله وآخره وعلانيته وسره اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والعزيمة على الرشد والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم والفوز بالجنة والنجاة من النار يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إني أسألك الهدي والتقى والعفاف والغنى اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.
ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا
ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك.(2/256)
اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الدين وشماتة الأعداء.
اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال.
ربنا تقبل منا أنت السميع العليم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي واصلح لي آخرتي التي إليها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير والموت راحة لي من كل شر، اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها أمري وتلهمني بها رشدي وتعصمني بها من كل سوء.
اللهم طهر قلبي من النفاق ولساني من الكذب وعملي من الرياء وعيني من الخيانة إنك تعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور.
اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم. اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك الصالحون وأعوذ بك من شر ما استعاذ بك منه عبدك ورسولك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك الصالحون رب قني عذابك يوم تبعث عبادك.
اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنها، رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري رب اغفر خطيئتي يوم الدين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.(2/257)
رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعم علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين، وادخلني برحمتك في عبادك الصالحين.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. آمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلي الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
خاتمة وصية، نصيحة
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه الله ويرضاه أن مما يجب الاعتناء به حفظا وعلما كلام الله جل وعلا وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وأنه ينبغي لمن وفقه الله تعالى أن يحث أولاده على حفظ القرآن وما تيسر من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - المتفق على صحتها عنه كالبخاري ومسلم.
ومن الفقه مختصر المقنع ليتسير له استخراج المسائل ويجعل لأولاده ما يحثهم على ذلك.
فمثلا يجعل لمن يحفظ القرآن على صدره حفظا صحيحا عشرة آلاف أو أزيد أو أقل حسب حاله في الغنى.
ومن الأحاديث عقود اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الإمامان البخاري ومسلم، يجعل لمن يحفظ ذلك ستة آلاف من الريالات.
فإن عجزوا عن حفظها فالعمدة في الحديث يجعل لمن حفظها ثلاثة آلاف أو الأربعين النووية ويجعل لمن يحفظها ألفا من الريالات.
ويجعل لمن يحفظ مختصر المقنع في الفقه ألفين من الريالات فالغيب سبب لحفظ المسائل وسبب لسرعة استخراج ما أريد من ذلك وما أشكل معناه أو يدخلهم في مدارس تحفيظ القرآن فمدارس تعليم القرآن والسنة هي مدارس التعليم العالي الممتاز الباقي النافع في الدنيا والآخرة.(2/258)
فمن وفقه الله لذلك وعمل أولاده بذلك كان سببا لحصول الأجر من الله وسببا لبرهم به ودعائهم له إذا ذكروا ذلك منه ولعله أن يكون سببا مباركا يعمل به أولاده مع أولادهم فيزيد الأجر له ولهم نسأل الله أن يوفق الجميع لحسن النية إنه القادر على ذلك وصلي الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
تم هذا الجزء الثالث بعون الله وتوفيقه ونسأل الله الحي القيوم العلي العظيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد أن يعز الإسلام والمسلمين وأن يخذل الكفرة والمشركين وأعوانهم وأن يصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين ويهلك من في هلاكه عز وصلاح للإسلام والمسلمين وأن يلم شعث المسلمين ويجمع شملهم ويوحد كلمتهم وأن يحفظ بلادهم ويصلح أولادهم ويشف مرضاهم ويعافي مبتلاهم ويرحم موتاهم ويأخذ بأيدينا إلى كل خير ويعصمنا وإياهم من كل شر ويحفظنا وإياهم من كل ضر وأن يغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمته إنه ارحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والله المسئول أن يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه الكريم وأن ينفع به نفعا عاما إنه سميع قريب مجيب على كل شيء قدير.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
عبد العزيز المحمد السلمان
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض سابقا(2/259)
خُطَبْ وَحِكَم وَأَحْكَام وَقَوَاعِدْ وَمَواعِظْ وَآدَابْ وَأَخْلاَق حِسَان
تَأْلِيفُ الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ
عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض
سابقاً
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
فوائد عظيمة النفع جداً لبعض العلماء رحمهم الله تعالى:
(1)
الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما أعمالا صالحة تربح وتحمد العاقبة الحميدة إن شاء الله تعالى.
(2)
الملائكة يكتبان ما تلفظ به فاحرص على أن لا تنطق إلا بما يسرك يوم القيامة من ذكر الله وما والاه
(3)
اعلم أن قصر الأمل عليه مدار عظيم وحصن قصر الأمل ذكر الموت وحصن حصنه ذكر فجأة الموت وأخذ الإنسان على غرة وغفلة وهو في غرور وفتور عن العمل للآخرة فاحفظ هذه الفوائد واعمل بها تفلح وتربح إن شاء الله.
شعرا :
مُنَاي من الدنيا عُلُومٌ أَبُثُهَا ... وَأَنْشُرُهَا في كُلِّ بَادٍ وَحَاضِرِ
دٌعَاءٌ إِلى القٌرآن وَالسٌنَّةِ التِي ... تَنَاسَى رِجَالٌٌ ذكرها في المحَاضِر
وَقَدْ أَبْدَلُوهَا بِالجرائد تَارةً ... وَتِلْفَازِهم رَأْسُ الشُّرور المنَاكِرِ
وَمِذْيَاعِهم أَيْضَا فَلا تَنْسَ شَرهُ ... فَكَمْ ضَاعَ مِن وَقْتٍ بها بِالخَسَائِرِ
بسم الله الرحمن الرحيم
ملاحظة :
لا يسمح لأي إنسان أن يختصره أو يتعرض له بما يسمونه تحقيقاً لأن الاختصار سبب لتعطيل الأصل والتحقيق أرى أنه اتهام للمؤلف ولا يطبع إلا وقفاً لله تعالى على من ينتفع به من المسلمين.
(فائدة عظيمة النفع لمن وفقه الله)
ما أنعم الله على عبد نعمة أفضل من أن عرفه لا إله إلا الله وفهمه معناها ووفقه للعمل بمقتضاها والدعوة إليها.
أشرف الأشياء قلبك ، ووقتك ، فإذا أهملت قلبك ، وضيعت وقتك , فما بقي معك ، كل الفوائد ذهبت فانتبه لنفسك.
فائدة عظيمة النفع لمن وفقه الله تعالى للعمل بها(3/1)
قال بعض العلماء رحمه الله :من تفكر في قصر العمر المعمول فيه ، وفكر في امتداد زمان الجزاء الذي لا نهاية له ، اختطف اللحظة والدقيقة من عمره وانتهبها وعباها في الباقيات الصالحات ، وزاحم وسابق إلى كل فضيلة ، لأنها إذا فاتت لا تدرك أبداً ، وقال رحمه الله : ولله أقوام وفقهم الله ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها فهم يبالغون في كل علم يقربهم إلى الله ، ويجتهدون فيه ، ويثابرون على كل فضيلة ، فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض ذلك قامت النيات نائبة.
انتهى
75- (موعظة)
اسمع يا مضيع الزمان فيما ينقص الإيمان ، ومعرضا عن الأرباح ومتعرض للخسران ، لقد سر بفعلك الشامت.
يا من يفرح بالعيد لتحسين لباسه ، ويوقن بالموت وما استعد لبأسه ويغتر بإخوانه وأقرانه وجلاسه وكأنه قد أمن سرعة اختلاسه.
يا غافلا قد طلب ، ويا مخاصما قد غلب ، ويا واثقا قد سلب ، إياك والدنيا فما الدنيا بدائمة ، لقد أبانت للنواظر عيوبها ، وكشفت للبصائر غيوبها ، وعددت على المسامع ذنوبها ، وما مرت حتى أمرت مشروبها.
فلذاتها مثل لمعان البرق ومصيبتها واسعة الخرق ، سوت عواقبها بين سلطان الغرب والشرق ، فما نجا منها ذو عدد ، ولا سلم فيها صاحب عدد ، مزقت الكل بكف البدد ثم ولت فما ألوت على أحد.
قال صلى الله عليه وسلم : (سبعة يظلهم الله في ظله منهم رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله).
اسمع يا من أجاب عجوزا هتماء عمياء صماء جرباء سوداء شوهاء مقعدة على مزبلة ولكن غلبت عليك محبتها عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم بطحاء مكة ذهبا فأبى أن يقبلها.
مَا هَذه الدُّنْيَا بِدَارِ مَسَرةٍ
ممنننننيني
بين ... فَتَخَوَّفي مَكْرًا لَهَا وَخِدَاعَا
بَيْنَا الفَتَى فِيْهَا يُسَرُّ بِنَفْسِهِ ... وَبِمَالِهِ يَسْتَمْتِعُ اسْْتِمْتَاعَا
حَتَّى سَقَتْهُ مِن المَنيِّةِ شَرْبةً ... وَحَمته فِيه بَعْدَ ذَاكَ رِضَاعَا(3/2)
فَغَدًا بِمَا كَسَبَتْ يَدَاهُ رَهِيْنَةً ... لا يَسْتَطِيْعُ لِمَا عَرَتْهُ دِفَاعَا
لَوْ كَانَ يَنْطِقُ قَالَ مِنْ تَحْتَ الثرى
... فَلْيُحْسِن العَمَلََ الفَتى مَا اسْطَاعَا
اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان وثبت محبتك فيها وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا حب أوليائك وبغض أعدائك وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
76 موعظة
عباد الله ما هذا التكاسل عن الطاعات وزرع الأعمار قد دنا للحصاد وما هذا التباعد ومدد الأيام قد قاربت للنفاد ، وما هذا التغافل والتكاسل عن إعداد الزاد ليوم الميعاد.
تَزَوَّدْ لِلَّذِي لا بُدَّ مِنْهُ ... فَإِنَّ المَوْتَ مِيْقَاتُ العِِبَادِ
يَسُرُّكَ أَنْ تَكُونَ رَفِيْقَ قَوْمٍ ... لَهُمْ زَادٌ وَأَنْتَ بِغَيْرِ زَادِ
عباد الله أين الحسرات على فوت أمس أين العبرات على مقاسات الرمس أين الاستعداد ليوم تدنو فيه منكم الشمس، (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(.
يا من مشيبه أتى وشبابه إضمحل وخبى ، متى تتضرع إلى مولاك وتقف بالباب ، أما اعتبرت بالراحلين من الأقارب والجيران والزملاء والأحباب ؟ أما قرع سمعك (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ(.
كيف حالك إذا بلغت الروح التراق وقطعت الحسرات والندم علائق الأكباد وضعت في بيت الظلمة والدود والوحدة ولا ولي لك من الله ولا ناصر وضوعف العذاب وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون.(3/3)
كيف أنت إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وكل إنسان ألزم طائره في عنقه يوم النشور وحرر الحساب بين يدي سريع الحساب عالم السر والخفيات والحليات ونصب الميزان (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ(.
اللهم أيقظ قلوبنا ونورها بنور الإيمان وثبت محبتك في قلوبنا وقوها وارزقنا المعرفة بك عن بصيرة وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لطاعتك وامتثال أمرك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
77 موعظة(3/4)
عباد الله لقد امتلأت الأرض من الشر ووسائله. وضجت وبما فيها مما وصل إليه من المعاصي الإنسان إن شئت فزر أي جهة من جهات العالم ترى ما يتقطع له قلبك حسرات افتتن الناس بزخارف الدنيا فاستولت على قلوبهم وملكتها فنسوا يوم الحساب وأصبحت المعاصي أمرا مألوفا عند كثير من الناس وغُلِب المستقيمون على أمرهم فلم يستطيعوا إزالتها فتمادى المجرمون على انتهاك الآداب فتفاقم الخطب ثم تفاقم إلى أن التهبت الدنيا بالموبقات خف الزنى الذي هو من كبائر الذنوب حتى صار الغيور المنكر له المقبح يسمى رجعيا لا يعرف الحرية مع أن الزنى من بين المعاصي عار تسود له الوجوه ، وتنتكس له الرءوس ، وتنهدم به بيوت المجد العالية ، وهان التعامل بالربا مع أنه من بين سائر المعاصي قد توعد الله فاعله المستمر على التعامل به بالحرب وقارف كثير من الناس المسكرات مع أن الخمر أم الخبائث وهذه شهادة الزور قد هانت مع أنها من عظائم الذنوب وهذه فاحشة اللواط قد انتشرت انتشار الوباء ، مع أن القرآن يحكي عن أمة كانت تفعل ذلك أنها خسف بها ، وأمطرت عليها حجارة من سجيل ، وأما الأرض فهان اغتصابها مع أن المغتصَب يكون طوقا لمغتصبه في دار الانتقام ، وأما الأموال والأعراض فحدث عن الاستخفاف بها وانتهاكها ولا حرج وهذا الغش قد صار عادة لا يكاد يسلم منه معامل، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من غشنا فليس منا» وهذا حلق اللحية قد أصبح عند كثير من الناس كأنه واجب مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفائها هذا وأضعاف أضعافه حاصل في هذا العصر المظلم الذي عادت فيه غربة الدين.(3/5)
نسأل الله تعالى أن يوقظ ولاتنا فيأخذوا على أيدي السفهاء منا ويزيل ما حدث من هذه المنكرات ، وأن يوفقنا وجميع المسلمين لطاعته ، ويتوفانا مسلمين ، ويلحقنا بعباده الصالحين ، ويغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين ، ويرحمنا برحمته إنه أرحم الراحمين ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
78 موعظة
عباد الله ذنب اللواط من أعظم الذنوب يغضب رب العباد إنها لفاحشة يضيق بها الفضاء وتعج لها السماء ويحل بها البلاء فكشف حال ، وسوء مآل ، وداء عضال ، وقبح أفعال ، وعيب دونه سائر العيوب ، عيب تموت به الفضيلة ، وتحيا به الرذيلة وتتفتت على أهلها الأكباد ، وتذوب من أجلها حياة القلوب ، فعمل سبوب ، ووضع مقلب ، وفاعل ملعون ، ومفعول به عليه مغضوب ، وخلق فاسد ، وشرف مسلوب ، وعرض ممزق ، وكرامة معدومة ، وزهري وجرب ذو ألوان ، وقذر وأنتان ، ووساخة دونها كل وساخة ، اللهم إن في هذه الفعلة الشنيعة من الخزي والعار ما لا تطيقه الطباع السليمة ، كانت أمة قديم عصرها ، باق ذكرها ، كثير شرها ، تسكن بين الحجاز والشام ، ترتكب هذه الفاحشة الشنيعة ، والجريمة الفظيعة علنا ، في نواديهم ويذرون ما خلق الله من أزواج ، ولا يبالون بمن يعتب عليهم ، ويشنع عليهم ولا يخافون لومة اللوام ، فبعث الله إليهم لوطا عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام فدعاهم إلى التوحيد ، وترك عبادة الأصنام وحذرهم من فعل فاحشة اللواط، وبالغ في إنذارهم ، وتحذيرهم ، وكان الجزاء والجواب منهم على هذه النصيحة أن قالوا: (أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ( ومقصود هؤلاء الأشقياء بهذا الوصف السخرية والتهكم بلوط ومن معه ، وهذا كما يقوله الفساق والمرجة المعاصرون ، لبعض الصلحاء إذا أنكروا عليهم ووعظوهم ، أخرجوا عنا هذا المتدين أو هذا المتزهد وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد.(3/6)
وَلا عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أََنَّ سُيُوفَهُم ... بِهِنَ فُلُولٌ مِن قِرَاعِ الكَتَائِبِ
فقلبت مدينتهم وأتبعوا بحجارة من سجيل مسومة عند الله للمسرفين. أيها المسلم أتدري لماذا ذكر الله أخبارهم في كتابه العظيم وعلى لسان نبيه الكريم إنه والله أعلم لنعتبر بما أصابهم ، ونحذر كل الحذر ما كانوا عليه من سوء الحال ، وقبح الفعال ، قال الله تعالى : (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ( سبحان الله كيف يقع ذكر على ذكر وهو يعلم أن الله جل وعلا يراه. وقد نهاه ويعلم ما في ذلك من مخالفة العقل ، والدين ، وما فيه من مرض خطير ، وشر مستطير ، وخزي وعار ، هذا بالحقيقة فعل تترفع عنه طباع الكلاب والبغال والحمير ، بل والقردة والخنازير ، وما ظهر اللواط في أمة إلا أذلت وأخزيت وسلب عزها وإذا أراد الله عز وجل إهلاك قرية فسق فيها المترفون فاستحقت الخراب والدمار ، قال الله تعالى : (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا( فانتبهوا أيها الإخوان وتناصحوا واحفظوا أولادكم واعلموا أنكم مسؤولون عنهم وعن إهمالكم لهم ، احرصوا عليهم فوق حرصكم على أموالكم لعلكم تنجوا من التبعات وتسلموا من العقوبات جعلنا الله وإياكم ممن إذا خوف بالله ندم خاف ورزقنا وإياكم من الإنابة والإنصاف ما يلحقنا بصالح الأسلاف وغفر لنا ولكم ولوالدينا وجميع المسلمين. إنه جواد كريم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
79 - موعظة(3/7)
عباد الله إن الناس لم يقدروا الله حق قدره ، ولم يعرفوه المعرفة التي تليق بجلاله وعظمته ، ولو عرفوه هذه المعرفة وقدروه ما صدق العقل أن يكونوا بهذه الحال ، إن العارف بالله تعالى يخشاه ، فتعقله هذه الخشية عما لا ينبغي من الأفعال كيف لا وهذا القرآن يقول: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ( العارف بالله تعالى لا يجرؤ أن يحرك لسانه بكلمة من المنكرات لأنه يؤمن أن الله تعالى يسمع السر والنجوى ، ولا يجرؤ أن يستعمل عضوا من أعضائه في عمل ليس بحلال ، لأنه يؤمن أن الله تعالى يراه مهما اختفى واجتهد في الاختفاء ، وكذلك لا يقدم ويعزم على فعل شيء من المحرمات ، لأنه يؤمن بوعيد الله على من اجترأ وانتهك المحظورات ، العارف بالله حق المعرفة لا ينطوي على رذيلة كالكبر والعجب والحقد والنفاق وغير ذلك من الرذائل الممقوتات ، لأنه يؤمن أن ما في قلبه لا يخفى على من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، فلا يستريح حتى يكون باطنه كظاهره مطهرا من الفواحش ، وكذلك لا يتعامل بالربا ويبتعد كل البعد عن الرياء ونحوهما من المحرمات ، وكذلك لا تسمع من فمه عند نزول البلاء إلا الحسن الجميل ، فلا يغضب لموت عزيز أو فقد مال ، أو مرض شديد ، لأنه يعلم أن غضبه يتوجه إلى الحكيم العليم اللطيف الخبير ، ولا يصدر من العارف بالله حسد لخلق الله على ما أولاهم من نعمة ، لأنه يؤمن أن الله قسم النعم بين عباده وليس لقسمته راد ، وكذلك العارف لا ييأس من زوال شدة مهما تعقدت واستحكمت ، ولا ييأس من حصول خير مهما سما وابتعد ، لأنه يؤمن أن الأمور كلها بيد الله الذي إذا أراد شيئا قال له كن فكان ، العارف بالله لا يقنط المؤمن العاصي من رحمة الله ،ولا يؤمن المحسن ، لكنه يرجو للمحسن ويخاف على المسيء ، العارف بالله لا يغش مؤمنا ، ولا يسيء إلى الجار وقس على ذلك الباقي مما يتعلق بهذا الموضوع. اللهم جد علينا بكرمك وأفض علينا(3/8)
من نعمك ، وتغمدنا برحمتك الواسعة وعاملنا برأفتك ، ووفقنا لخدمتك ، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
80 موعظة
عباد الله إن أمامكم يوم لا كالأيام يوم فيه من الأهوال والشدائد والكروب ما يشيب الولدان وتذهل فيه المرضعة عما أرضعت يوم يتغير فيه العالم وينتهي نظامه الذي نراه.
فتنثر الكواكب وتتساقط وتطوى السماء كطي السجل للكتب يزيلها الله وتبدل الأرض غير الأرض وتمد كما أخبر الله تعالى وينفخ في الصور فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين.
وحينئذ يحشر الكافر أعمى لا يبصر أصم لا يسمع أبكم لا ينطق يمشي على وجهه ليعلم من أول الأمر أنه من أهل الإهانة ويكون أسود الوجه أزرق العينين في منتهى العطش في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ليس بينه وبين الشمس إلا مقدار ميل.
إذ ذاك يقف مبهوتا ذاهل العقل شاخص البصر يتمنى أن يكون ترابا ثم يؤمر به إلى النار ويسلك في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا وبعد دخوله فيها لا يخرج منها أبدا ولا يزداد إلا عذابا ولا يفتر عنه.
إن استغاث يغاث بماء كالمهل يشوي الوجوه ويذيب الأمعاء ويحرق الجلود تحيط به النار من كل جهاته لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش كلما نضج جلده بدل جلدا غيره.
وكلما أراد أن يخرج منها قمع بمقامع من حديد كل هذا العذاب يعانيه ولا يموت (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ( لا يموت فيها ولا يحيا وسواء صبر أم لم يصبر هو خالد في جهنم خلودا لا انتهاء له أبدا.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بفرس يجعل كل خطو منه أقصى بصره فسار وسار معه جبريل عليه السلام.(3/9)
فأتى على قومٍ يزرعون في يوم ويحصدون قي يوم كلما حصدوا عاد كما كان فقال يا جبريل من هؤلاء ؟ قال هؤلاء المجاهدون قي سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه.
ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شيء قال يا جبريل من هؤلاء ؟ قال هؤلاء الذين تثاقلت رؤوسهم عن الصلاة.
ثم أتى على قوم على أدبارهم رقاع وعلى أقبالهم رقاع يسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع والزقوم ورضف جهنم قال ما هؤلاء يا جبريل ؟ قال هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله وما الله بظلام للعبيد، ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يريد أن يزيد عليها قال يا جبريل ما هذا ؟ قال هذا رجل من أمتك عليه أمانة الناس لا يستطيع أداءها وهو يريد أن يزيد عليها.
ثم أتى على قوم تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء قال يا جبريل ما هؤلاء ؟ قال خطباء الفتنة.
ثم أتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم فيريد الثور أن يدخل من حيث خرج فلا يستطيع قال ما هذا يا جبريل ؟ قال هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة فيندم عليها فيريد أن يردها فلا يستطيع.
ثم أتى على واد فوجد ريحا طيبة ووجد ريح مسك مع صوت فقال ما هذا ؟ قال صوت الجنة تقول يا رب ائتني بأهلي وبما وعدتني فقد كثر غرسي وحريري وسندسي وإستبرقي وعبقريي ومرجاني وفضتي وذهبي وأكوابي وصحافي وأباريقي وفواكهي وعسلي ومائي ولبني وخمري ائتني بما وعدتني.
قال لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحا ولم يشرك شيئا ولم يتخذ من دوني أندادا فهو آمن ومن سألني أعطيته ومن أقرضني جزيته ومن توكل علي كفيته إني أنا الله لا إله إلا أنا لا خلف لميعادي قد أفلح المؤمنون تبارك الله أحسن الخالقين فقالت رضيت. ثم أتى على واد فسمع صوتا منكرا فقال يا جبريل ما هذا الصوت ؟(3/10)
قال هذا صوت جهنم تقول يا رب ائتني بأهلي وبما وعدتني فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغساقي وغسليني وقد بعد قعري واشتد حري ائتني بما وعدتني قال لك كل مشرك ومشركة وخبيث وخبيثة وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب قالت قدر رضيت ، رواه البزار عن أبي العالية - أو غيره- عن أبي هريرة في الترغيب والترهيب جـ 4 ص 454 في كتاب صفة الجنة والنار.
عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره».
وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى : (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا( قال : (جبل من نار يكلف الكافر أن يصعده فإذا وضع يده عليه ذابت فإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله عليه ذابت فإذا رفعها عادت يصعد سبعين خريفا ثم يهوي كذلك ) رواه أحمد والحاكم وقال صحيح الإسناد.
اللهم ثبت قواعد الإيمان في قلوبنا وشيد فيها بنيانه ووطد فيها أركانه وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا بطاعتك وامتثال أمرك وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
81 موعظة
عباد الله نحن في زمن لا نسيء إذا عددنا أكثر أهله من ضعفاء المتدينين الذين غلبت عليهم المداهنة والتملق والكذب ، راجع حال السلف المؤمنين حقا وانظر حالنا النوم ، تعجب من الفرق المبين.(3/11)
كان هذا المال بأيديهم بكثرة، ومع ذلك لا يدور عليه الحول، لأنهم نصب أعينهم قوله تعالى: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ( [طه: 10]، وقوله تعالى: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( [البقرة: 262].
مطمئنين إلى قوله تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ( [سبأ: 39] كانوا إذا وصل إليهم المال يصيبهم قلق حتى يتصدقوا به على حد قول الشاعر:
قَالَتْ طُرَيْفَةُ لا تَبْقَى دَرَاهِمُنَا ... وَمَا بِنا صَلَفٌ فِيْهَا وَلا خَرَقُ
لَكِِنْ إِذَا اجْتَمَعَتْ يَومًا دَرَاهِمُنَا ... ظَلَّتْ إلى طُرُقِ المَعْرُوفِ تَسْتَبِقُ
لا يَأْْلَفُ الدِّرْهَمْ المَضْرُوبُ صُرَّتَنَا ... لَكِنْ يَمُرُّ عَلَيْهَا وَهُوَ مُنْطَلِقُ
آخر:
أَلَمْ تَرَى أنَّ المَالَ يُهْلِكُ أَهْلَهُ ... إِذَا جَمَّ آتِيْهِ وَسُدَّتْ طَرِيْقُهُ
وَمَنْ جَاوَزْ المَاءَ الغَزِيْرَ مَسِيْلُهُ ... وَسُدَّتْ مَجَارِي المَاءِ فَهوَ غَرِيْقُهُ
وجاء الإسلام ودار الندوة بيد حكيم بن حزام فباعها من معاوية بمائة ألف درهم فقال له عبد الله بن الزبير بعت مكرمة قريش قال: ذهبت المكارم إلا من التقوى يا ابن أخي إني اشتريت بها دارًا بالجنة أشهدك أني جعلت ثمنها في سبيل الله، تأمل يا أخي سيرة الرجال الذين عرفوا الدنيا حقيقة لعلك تقتدي بهم فتربح الدنيا والآخرة.
وكانوا إذا عرض لهم أحد وأبدى لهم احتياجه يرون غفلتهم عنه من النقائص والعيوب الفاحشات على حد قول الشاعر:(3/12)
وَتَرْكي مُوَاسَاة الأخِلاءِ بالذِي ... تَنَالُ يَدِي ظُلْمٌ لَهُم وَعُقُوقُ
وَإِنِّي لأَسْتَحيي مِن اللهِ أَنْ أَرَى ... بِحَالِ اتْسَاعٍ وَالصَّدِيْقُ مُضَيَّقُ
أين هذا وأين حالنا اليوم وقد بخلنا بحق المال الزكاة وهي حق الفقراء والمساكين...الخ.
وكانوا إذا فاتتهم تكبيرة الإحرام مع الإمام ربما غشي عليهم من ألم هذا المصاب العظيم وكانوا يعزون من فاتته تكبيرة الإحرام ومن باب أولى وأخرى من فاتته الجماعة أو الجمعة ويندر وجود ذلك منهم.
أين هذا من حال مجتمعنا اليوم الذي ترى الكثير منهم يجافي عليه الباب ويشرب الشاي أو الدخان أبا الخبائث والناس يصلون.
وكثير من الذين يصلون مع الجماعة تجدهم يحرصون على الإتيان إذا ظنوا أنها أقيمت الصلاة ويقصدون النقارين الذين لا يتركون في الصلاة ولا يطمئنون فيها ولا يتمكن المأموم من قراءة الفاتحة التي لا صلاة لمن لم يقرأ بها ولا يتمكن من الإتيان بالتشهد كاملاً.
فإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أنهم لا يفهمون الصلاة ولا المقصود منها ولو فهموها تمامًا لصارت قرة أعينهم ولا استراحوا بها واستعانوا بها على الدين والدنيا.
وكانوا أي السلف ممن يحن إلى بيت الله يتمتعون به في كل عام، ولذلك تعد لأحدهم أربعين حجة، وأزيد، أين هذا ممن يسافرون إلى بلاد الكفرة بلاد الحرية محكمة القوانين أعداء الإسلام وأهله.
ومع ذلك يبعثرون الفلوس العظيمة، التي سيناقشون عنها داخلة وخارجة ضد ما عليه آباؤهم من هجران من جاء بلاد الكفر غير مهاجر قال - صلى الله عليه وسلم -: «أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين» وقال: «من جامع المشركين وسكن معهم فإنه مثلهم». بلغ يا أخي من يدرسون على الكفار والعياذ بالله.
وكان السلف يشتاقون إلى الصيام، وبعضهم يصومون ستة أيام من شوال، وثلاثة من كل شهر، ويوم الاثنين، والخميس، وبعضهم يصوم كصيام داود عليه السلام، يوم يصوم، ويوم يفطر.(3/13)
أما نحن فيا ليته يسلم لنا رمضان من المفسدات والمنقصات وهيهات. وكانت المساكن لا تهمهم يسكنون فيما تيسر.
عن مالك بن دينار أنه حضر رجلاً يبني دارًا وهو يعطي العمال الأجرة فمد يده فأعطاه درهمًا فطرح الدرهم في الطين فتعجب الرجل وقال كيف تطرح الدرهم في الطين؟ فقال: أعجب مني أنت لأنك طرحت كل دراهمك في الطين يعني ضيعتها في البناء، ومر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالعلا بن زياد فرأى سعة داره فقال له ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج.
وكان نوح عليه السلام في بيت من شعر ألف سنة فقيل له يا رسول الله لو اتخذت بيتًا من طين تأوي إليه قال أنا ميت فلم يزل فيه حتى فارق الدنيا وقيل إنه قال بيت العنكبوت كثير على من يموت.
وقال أبو هريرة بئس بيت الرجل المسلم بيت العروس يذكر الدنيا وينسي الآخرة، وكان لشقيق البلخي خص يكون هو ودابته فيه فإذا غزا هدمه وإذا رجع بناه. بلغ يا أخي أهل الفلل والعمائر وقل عن قريب ستسكنون في مسكن ثلاث أذرع فقط ويسد عليكم فيه لا تخرجون منه إلا مع الناس (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ( [المعارج43]
شعرًا:
تَبْنِي المَنَازْلَ أَعمارٌ مُهَدَّمةٌ ... مِن الزَّمَانِ بِأنفاسٍ وَساعاتِي
آخر:
أَمَّا بُيوتُكَ في الدُّنْيَا فَوَاسِعَةٌ ... فَلَيْتَ قَبْرَكَ بَعد الموتِ يَتْسِعُ
كانوا إذا سمعوا الموعظة، أو مروا بحدّاد يوقد نارًا، صعقوا وربما مكثوا بلا وعي، أيامًا، أو أشهرًا متتاليات، وقد سمعت بأناس قتلتهم المواعظ أما نحن فتتلى علينا الآيات من كتاب الله ولا كأنها مرت على قلوبنا من الانهماك بالدنيا والغفلة أصبحت لا تؤثر فيها العظات.
كانوا يتعاونون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويلتفون كتلة واحدة ويأخذون على يد السفيه أما نحن فنثبط ونقول لمن يريد المساعدة ما أنت بملزم اتركهم.(3/14)
كانوا ينصحون أهل المعاصي، ويهجرونهم، إذا أصروا على المعاصي ولو كانوا ممن لهم منزلة ومكانة في قلوب كثير من أهل الدنيا وكانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم وهممهم عالية وأنفسهم رفيعة لا يخشون إلا الله لا يتملقون ولا يداهنون ولا يخضعون إلا لله قال بعضهم:
قَالُوا نَرَى نَفَرًا عِنْدَ المُلُوكِ سَمَوْا ... وَمَا لَهُمْ هِمَّةٌ تَسْمُوا وَلا وَرَعُ
وَأَنْتَ ذُو هِمَّةٍ في الفَضْلِ عَالِيةٍ ... فَلِمْ ظَمِئْتَ وَهُم في الجَاهِ قَدْ كَرَعُوْا
فَقُلْتُ بَاعُوا نُفُوسًا وَاشْتَرَوا ثَمَنًا ... وَصُنْتُ نَفْسِي فَلَمْ أَخْضَعْ كَمَا خَضَعُوْا
قَدْ يُكْرَمُ القِرْدُ إِعَجَابًا بِخِسَّتِهِ ... وَقَدْ يُهَانُ لِفَرْطِ النَّخْوَةِ السَّبُعُ
هذا الذي كان من سلفنا الكرام نحو أهل المعاصي والمنكرات.
أما نحن فنتركهم ونقول ذنوبهم على جنوبهم، وربما جالسناهم، وواكلناهم، وعظمناهم، كما تسمع الكثير يقولون للمجاهر بالمعاصي كشارب الدخان، وحالق اللحية، ومستعمل آلات اللهو، يا معلم يا أستاذ يا سيد والواجب هجره ليرتدع فإنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم وفقنا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغفلة والنوم وارزقنا الاستعداد لذلك اليوم الذي يربح فيه المتقون اللهم وعاملنا بإحسانك وجد علينا بفضلك وامتنانك واجعلنا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. اللهم ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
82- "موعظة"(3/15)
عباد الله كلنا ولله الحمد قد رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا ورسولاً، وبالقرآن إمامًا، وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانًا وتبرأنا من كل دين يخالف دين الإسلام. وآمنا بكل كتاب أنزله الله، وبكل رسول أرسله الله، وبملائكة الله، وبالقدر خيره وشره وباليوم الآخر وبكل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - عن الله، على ذلك نحيا، وعليه نموت، وعليه نبعث إن شاء الله من الآمنين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون بفضله وكرمه.
ثم اعلموا معاشر الإخوان إنه من رضي بالله ربًا لزمه أن يرضى بتدبيره، واختياره له، وبمر قضائه، وأن يقنع بما قسم له من الرزق، وأن يداوم على طاعته، ويحافظ على فرائضه، ويجتنب محارمه، ويكون صابرًا عند بلائه، موطنًا نفسه على ما يصيبه من الشدائد، بعيدًا كل البعد عن نار الجزع، التي تتأجج في قلب كل امرئ يجهل بارئه ومولاه.
فإن رأيت نفسك أيها الأخ تريد أن تجزع عند ملمة، فقف أمامها موقف الناصح القدير، أفهمها أنها هي السبب فيما أنزل الله بها من بلاء صغير أو كبير.
وإن لم تصدقك فاقرأ عليها قول الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ( [الشورى30] فإنها إذا سمعت ذلك وجهت اللوم إلى نفسها على معاصيها، وهدأت منها الثورة الثقيلة.
وأفهمها أن ليس بينها ولا بين ربها عداوة، فإنه بعباده الرءوف الرحيم، وأفهمها أن البلايا قد تلزم العبد حتى يصبح مغفورة ذنوبه كلها، صغيرها، والكبير، وأفهمها أن نتيجة ذلك أن صاحب البلايا يأتي يوم القيامة في أمن مولاه الكريم.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يُرد الله به خيراً يصب منه» رواه البخاري، وفي حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا».(3/16)
وقال - صلى الله عليه وسلم - «أن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم» الحديث.
وفي حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما يزل البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة» رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح، أفهم نفسك كل ذلك فإنه يخفف عنها آلام البلايا، وربما جعلها من المحبوبات.
وأفهمها أن الله وعد الصابرين أن يجزيهم أجرهم بغير حساب وأفهمها أن الله حكيم في كل تصرفاته، وقل لها إن الجزع لا يرد ما نزل من البلاء أبدًا، بل ما دبره الحكيم العليم لا بد من وقوعه فلا فائدة في الجزع والحزن، وقل إن عاقبة الجزع والتسخط النار، وعاقبة الصبر والرضا بما قضاه الله الجنة.
وقل إن شماتة الأعداء في الجزع، وغيظهم في الصبر، الذي يتأكد لزومه على الرجال والنساء.
وتأكد واطمئن أنها إذا سمعت منك كل ذلك رضيت بإذن الله كل الرضا، ولزمت الآداب، فتعيش كل حياتها تروح وتغتدي في جنة رضاها، مهما برحت بها البلايا والأوصاب، وبذلك مع توفيق الله تعالى تجمع بين سعادة الدنيا والآخرة وهكذا تكون عواقب الصابرين الأبطال.
الله ألهمنا ذكرك ووفقنا للقيام بحقك، وخلصنا من حقوق خلقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين خلقك، يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج يا قاضي الحاجات، ومجيب الدعوات، هب لنا ما سألناه، وحقق رجاءنا فيما تمنيناه، يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما في صدور الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
83- "موعظة"(3/17)
فيا أيها المهملون الغافلون تيقظوا فإليكم يوجه الخطاب ويا أيها النائمون انتبهوا قبل أن تناخ للرحيل الركاب قبل هجوم هادم اللذات ومفرق الجماعات ومذل الرقاب ومشتت الأحباب فيا له من زائر لا يعوقه عائق ولا يضرب دونه حجاب، ويا له من نازل لا يستأذن على الملوك ولا يلح من الأبواب، ولا يرحم صغيرًا ولا يوقر كبيرًا ولا يخاف عظيمًا ولا يهاب ألا وإن بعده ما هو أعظم منه من السؤال والجواب، ووراءه هول البعث والحشر وأحواله الصعاب من طول المقام والازدحام في الأجسام والميزان والصراط والحساب.
84- "موعظة"(3/18)
عباد الله اتقوا الله وبادروا بالتوبة قبل أن يغلق عنكم الباب، وابتدروا الأوبة قبل أن يرخى دونكم حجابها، وانتهزوا فرص الحياة فقد اقتربت الساعة وتضاعف اقترابها، قال الله تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ( [الأنبياء: 1] فيا عباد الله تذكروا مواقف الخلائق بين يدي العزيز الجبار في يوم يحرر فيه الحساب، وأعدوا للحساب صواب الجواب، فلا بد أن يطلب منكم على كل مسألة جوابها، واجتنبوا التسويف، فإن سيوف المنية قاطعة، يا معشر المسوفين أظننتم أنكم في الدنيا مخلدون، وأنتم مع العاصين قاعدون، كم مرت بكم مواسم الطاعات، وأنتم عن استغلالها بالباقيات الصالحات راقدون، فما بالك أيها الغافل تسارع في متابعة هواك، مع أنك في العبادة متكاسل، وتتلى عليك آيات مولاك وأنت عنها معرض إعراض الجاهل تسمع الملاهي فتميل إليها بقلبك وتبصر المناهي من تلفزيون وفديو وسينماء وسافرات وصور فلا تتحرك ولا تتمعر، هل أنت مكذب بالتحريم، أو متشكك في البعث وعذاب القبر والحساب والصراط والميزان، فيا مؤمنا بيوم الحساب تهيأ للمحاسبة، ويا مذعنًا بحقوق الرب استعد للمطالبة ويا طويل الأمل كم آمال أصبحت خائبة، فكأنك بالموت وقد نزل بساحتك ونزلت في القبر مع عملك وحشرت وعرضت على عالم سريرتك وعلانيتك وكأنك بالحشر والنشر والحساب بين يدي الله عز وجل، وكأنك بالأهوال والمخاوف وقد أحاطت واشتد الخوف والوجل وكأنك بالجحيم وقد سعرت وبالجنة وقد أزلفت، فالبدار قبل انقضاء الأعمار.
تَجَرَّدْ مِن الدُّنْيَا فَإِنَّكَ إِِنَّمَا ... خَرَجْتَ إلى الدنيا وَأنْتَ مُجَرَّدُ
وَتُبْ مِنْ ذُنُوبٍ مُوْبِقَاتٍ جَنَيتَهَا ... فَمَا أَنْتَ في دُنْيَاكَ هَذِي مُخَلَّدُ
وفقنا الله وإياكم للفوز بدار القرار، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
موعظة(3/19)
عباد الله ما ندم من أطاع الله في أي وقت كان، ولا عادت الطاعات على صاحبها إلا بالخير والبركة في كل آن، والعصاة في كل زمن الممقوتون مهما ابتسمت لهم الدنيا وقضوا فيها بعض مآربهم، ومهما هاموا بحبها وأحكموا أساليب جمعها، فإن الدنيا لا تبتسم لفاسق إلا لتسحقه ولا تفتح ذراعيها لمقبل عليها إلا لتحرقه، قال الله تعالى: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ( [لقمان: 33] فماذا غرك فيها أيها المسكين، إن كان الذي غرك فيها كثرة النقدين أو ما ناب منابهما من أوراق، فإن الجنة حصباؤها اللؤلؤ، وترابها الزعفران، وبناؤها الذهب والفضة، والدر والياقوت، وإن كان الذي غرك منها فواكهها ومطعوماتها وما حوت من متاع، فإن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وإن كان الذي غرك جمال نسائها، فإن في الجنة (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ( [الرحمن: 56] (وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً( [النبأ: 33] لو ظهر بنان إحداهن على الدنيا لأضاءت ما بين السماء والأرض ينظر إلى وجهه في خدها أصفى من المرآة، وتسر بمشاهدتها سرورًا لا يعلم قدره إلا الله، لا تنظر إلا إليها ولا تنظر إلا إليك، لا تتكلم إلا بما يسرك، تأمرها فتخضع، وتحدثها فتسمع، إذا تكلمت أطربت، لا تفتخر عليك بحسنها وجمالها، ولا تمن بجميل صنعها، لا تنفر منك ولا تغضب، ولا تلهو عنك ولا تصخب، الجمال كساؤها، والكمال رداؤها، والود والوفاء من طبعها، لا يعلو صوتها على صوتك ولا تجتهد إلا في مرضاتك، هادئة، ساكنة راضية تلك وأمثالها للمؤمنين المعلومين، من قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ( [المؤمنون: 2] إلى قوله: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( [المؤمنون: 11] أيها المسلمون، لقد(3/20)
فاز والله من اجتهد فيما ينجيه، وخاب من أتعب نفسه فيما يخزيه، وأنتم الآن في فسحة من أجلكم، وصحة من أبدانكم، واكتمال من عقولكم، وآخر الأجل غائب عنكم، ولا تدرون كيف حالكم بعد يومكم فسارعوا إلى (مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ( [آل عمران: 133]. من قبل أن يفقد البدن صحته، ويقول الحق كلمته، فينقضي الأجل، ويختم على العمل، فلا ينقص فيه ولا يزاد، ولا يعدل فيه شيء إلى المعاد، تقول ليتني أطعت، وما هي بنافعة، وليتني ما عصيت، وليست بدافعة، إذا فأضيع، الناس وأخسرهم صفقة من سوف في طاعة ربه، وأشدهم خسرانًا من لم يبادر في التوبة من ذنبه، قال تعالى: (فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ( [القصص: 67].
وفي الحديث: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل». رواه البخاري.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وانصر الإسلام والمسلمين. واجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين واخذل الكفرة وأعوانهم والملحدين والمبتدعين وأصلح من في صلاحه صلاح الإسلام والمسلمين وأهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين وول على المسلمين خيارهم يا رب العالمين ولم شعثهم واجمع شملهم ووحد كلمتهم وانصرهم على من خالفهم وأحفظ بلادنا من الفسقة والمجرمين وأصلح أولادنا واشف مرضانا وعاف مبتلانا وارحم موتانا وخذ بأيدينا إلى كل خير واعصمنا من كل شر واحفظنا من كل ضر وأغفر اللهم للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ولا تسلب نعمتك عنا وكن معنا حيثما كنا يا حي يا قيوم اللهم صلى على محمد وآله وصحبه أجمعين.
85- (موعظة)(3/21)
الإخلاص مسك مصون في القلب ينبه ريحه على حامله، العمل صورة والإخلاص روح، إذا لم تخلص العمل لله وحده فلا تتعب، لو قطعت المنازل لم تكن حاجًا إلا بشهود الوقوف بالموقف، ولا تغتر بصورة الطاعات.
كان أيوب السختياني إذا تحدث فرق قلبه وجاء الدمع قال ما أشد الزكام.
وكان إبراهيم بن أدهم إذا مرض يجعل عند رأسه ما يأكل الأصحاء كيلا يتشبه بالشاكين.
وكان ابن أبي ليلى يُصلي فإذا أحس بداخل نام على فراشه.
وكان النخعي يقرأ في المصحف فإذا دخل عليه أحد غطاه.
وكان الواحد من السلف تأتيه العبرة والخشوع فيقوم خشية أن يفطن له.
وكان بعضهم يُصلي ويبكي وإذا جاءه زائر غسل وجهه عن الدموع لئلا يتنبه له.
كل هذا من الإخلاص بلغ يا أخي معشر المرائين الذين إذا ساهموا في مشروع ديني نشروا أسماءهم في الجرائد والمجلات والإذاعات والذين يعددون كم حجوا من سنة وهم ما سئلوا ويقولون نحن نعتمر كل سنة وأهلنا وأولادنا ويجلس بالحرم ويهمل عائلته ولا يحافظ عليهم ولا يدري أين يذهبون في الليل والنهار وربما حصل له بسببهم إثم عظيم لأن سيئة الحرم عظيمة ليست كغيرها.
وربما كان مع ذلك المأكل والملبس والمركب حرام نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
وهذه المسائل قل من ينتبه لها من طلبة العلم فضلاً عن غيرهم.
فالرياء من أصعب الأشياء وأخفاها وضرره عظيم وقد يحبط الأعمال.
فينبغي للإنسان أن يجعله دائمًا نصب عينيه في الصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الأعمال.
اللهم قونا باليقين وامنحنا التوفيق واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
86- "موعظة"(3/22)
عباد الله لقد أصبح الناس وما يتعلق بالدنيا أهم عندهم بكثير مما يتعلق بالدين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، في ليلهم ونهارهم مشغولين شغل العاشقين المستغرقين، كأنهم ما خلقوا إلا لها، وأما الدين فلا يخطر على بالهم، وإن خطر فطيف يمر مر السحاب، أثر بعضهم على بعض في هذا الانهماك العظيم، وذلك أن الشيطان بلغ في تهوين الدين عندهم الغاية ومما يدلك على ذلك أنك ترى الشخص يرتد عن الدين فلا يسأل ولا يناقش، ولذلك نزعت البركة من أعمارنا وأعمالنا وأموالنا وأولادنا، وأصبحنا وقد ضرب الذل علينا سرادقه ونحن كأنا لسنا من الأحياء، أما عدم البركة في أعمارنا، فلأن أحدنا يمر عليه الشهر والعام لا ترى لحياته من أثر، في الإصلاح وتوجيه المنحرفين، والقيام التام المثمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعي في إزالة ما يمس الدين مما حل في بلاد المسلمين من المنكرات والمفاسد والشرور، ولو سألت أحدنا هل لك من حياتك أثر نافع لتلجلج في الكلام، ينظر وراءه فلا يرى أثرًا، ويتبين له أن الأيام مرت سدى تتلوها الأيام، هذا من عدم البركة في أعمارنا، وأما عدم البركة في أعمالنا فلأن أحدنا ما دام مستيقظًا يتحرك ولا تنقطع أقواله ولا أفعاله، ولكنها تدور بين حرام أو مكروه، أو عبث لا يليق أن يصدر من الرجال، فتجد الكذب والنميمة والقذف والغيبة والتملق والنفاق والرياء وتعظيم العصاة المجاهرين بها ونحو ذلك، وأما عدم البركة في أموالنا فلأن أحدنا يكون عنده المال الكثير فتراه يبعثره في سبيل شهواته وملذاته الفاجرة أو يكنزه ولا يخرج منه الزكاة، وإن عرضت عليه مشروعًا دينيًا فر منك مذعورًا فأي بركة تكون في مثل هذا المال، وأما عدم البركة في أولادنا فلأنهم في صغرهم يكونون شياطين يتعبون في التربية آباءهم وأمهاتهم، فإذا شبوا شغلوا بشهواتهم عما يجب عليهم للوالدين من صنوف البر وأكثرهم يكون طول حياته حربًا على والديه يريهما أنواع الاهانات،(3/23)
والأذايا وأي بركة في أولاد هذا حالهم مع والديهم والله أعلم أن نزع البركة من كل ذلك عقوبة لنا على إقبالنا على الدنيا وإعراضنا عن الدين فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم ثبت وقو محبتك في قلوبنا واشرح صدورنا ونورها بنور الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وألهمنا ذكرك وشكرك واجعلنا ممن يفوز بالنظر إلى وجهك في جنات النعيم يا حليم ويا كريم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
87- (موعظة)
عباد الله –الدنيا ملأى بالمصائب والآلام، والأحزان والأسقام غناها فقر وعزها ذل. والآجال فيها معدودة والأعمار محدودة، قال تعالى: (فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ( [الأعراف: 34]
نعيمها إلى فناء وعيشها إلى انقضاء متاعُها قليل، وحسابها طويل –الخلود فيها لا يكون لإنسان والبقاء الدائم لا يكون إلا للديان الذي يقول: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ( [الرحمن: 27]
فالسعيد من استعد ليوم الرحيل، وجهز نفسه بالعمل الصالح لسفر طويل، وتفكر فيمن سبقوه إلى دار القرار، وعلم أنه لا حق بهم مهما حاول الفرار، والأمر بعد ذلك إما نعيم مقيم أو شقاء وعذاب أليم.
فيا من بنيت الآمال وقصرت في الصالح من الأعمال، تنبه للموت، فإن نسيانه ضلال مبين، كم من صديق لك مات في ريعان شبابه، وكم شيعت إلى الدار الآخرة من أحبابه، تذكر يا مغرور ساعة الاحتضار وخروج الروح والأولاد حولك يبكون والنساء تنوح، يناديك ولدك، أبتي إني بعدك مسكين، وتصرخ الزوجة يا زوجي إلى أين الرحيل وهل من رجعة أو غيابك طويل.(3/24)
فتغرغر عيناك بالدموع ويلجم منك اللسان، وتحاول النطق فيتعذر عليك الكلام، وتطلب النجاة ولكن (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ( [ق: : 19]
إذا علمت هذا يا أخا الإسلام، فكيف يكون حال أبنائك من بعدك. ذل بعد عز وحرمان بعد حنان ينظرون إلى الأبناء مع آبائهم فيحزنون، ويذكرون عطف أبيهم فيبكون، ليلهم نهار، ونهارهم ليل.
أعيادهم أتراح وأحزان، وأفراحهم هموم وأشجان، يتلفتون على أحباب أبيهم وأصدقائه، علهم يجدون عندهم الحنان ويشتهون ضمة أو قبلة كما يفعل الآباء بالغلمان والولدان.
فإن كنت يا مسلم في حياتك بارًا بمن فقدوا آباءهم، عطوفًا على اليتامى. تمسح دموعهم بخيرك، وتعاملهم كولدك تدخل السرور على قلوبهم الحزينة بما تقدمه لهم من الهدايا والإحسان، وما تظهره لهم من حب وعطف ورعاية وحنان، إن فعلت هذا في حياتك فأبشر.
فإن أولادك بعدك في أمان، تحنو عليهم القلوب، ويرعاهم علام الغيوب. قال تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً( [النساء: 9]
أيها المسلمون: إن رعاية اليتيم من واجبات الدين، وإن إهمال شأنه وإذلاله وقهره ما ينبغي للإنسان وأكل ماله يغضب الديان، ويوجب الحرمان. قال الله تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ( [الضحى9] وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً( [النساء: 10]
إن من رعاية اليتيم تنمية ماله، وإصلاح حاله بالتربية والتعليم والتهذيب والتقويم قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ( [البقرة: 220](3/25)
وإن احتاج اليتيم أو الأرملة إلى مساعدة تعود على مصلحته فينبغي لوليه أن يستعين بأهل الفضل والكرم ممن لهم قدم ثابت في ذلك وعرق أصيل لأنهم أحرى من غيرهم في النفع. وأحذر اللئام والبخلاء.
اللهم وفقنا لسبيل الطاعة، وثبتنا على اتباع السنة والجماعة، ولا تجعلنا ممن عرف الحق وأضاعه، واختم لنا بخير منك يا كريم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شعرًا:
سَلِ الفَضْلَ أَهْلَ الفَضْلِ قِدْمًا وَلا تَسَلْ ... عَلَى مَنْ نَشَأَ في الفقرِ ثُمَّ تَمَوَّلا
فَلَو مَلَكَ الدُّنْيَا جَمِيْعًا بِأَسْرِهَا ... تُذَكِّرُهُ الأَيَّامُ ما كَانَ أَوَّلاً
آخر:
تَجَنَّبْ بُيُوتًا شُبِّعَتْ بَعْد جُوعِهَا ... فَإِنَّ بَقََاءَ الجُوع فيها مُخَمَّرُ
وَآوِيْ بُيُوتًا جُوِّعَتْ بَعْدَ شِبْعِهَا ... فَإِنَّ كَرِيْمَ الأَصْلِ لا يَتَغَيَّرُ
آخر:
إِيَّاكَ إِيَّاكَ أَنَّ تَرجُوا امْرأً حَسُنَتْ ... أَحْوَالُهُ بَعْدَ ضُرٍّ كَانَ قَاسَاهُ
فَنَفْسُهُ تِيْكَ مَا زَادَتْ وَمَا نَقَصَتْ ... وَذَلِكَ الفقرُ فَقْرٌ مَا تَنَاسَاهُ
قال في الفتح قال شيخنا في شرح الترمذي لعل الحكمة في كون كافل اليتيم يشبه في دخوله الجنة أو شبهت منزلته في دخول الجنة بالقرب من منزلة النبي لكون النبي شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم، فيكون كافلاً لهم ومعلمًا ومرشدًا.
وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه بل ولا دنياه ويرشده ويعلمه ويحسن أدبه انتهى، قلت وكثيرًا ما يفعل بعض الناس ذلك الإحسان زمنًا ويتركه ولا يتمم إحسانه وبعضهم يرحب بذلك أول الأمر ولا يثبت على ذلك وقليل من يتمم كلامه ويثبت على جميله وإحسانه والتوفيق بيد الله وقديمًا قيل:
وَمَا كُلُّ هَاوٍ لِلْجِميلِ بِفَاعِلٍ ... وَمَا كُلُّ فَعَّالٍ لَهُ بِمُتَمِّمِ
آخر:(3/26)
فَأَكثَرُ مَنْ تَلْقَى يَسُرُكَ قوله ... وَلَكِنْ قَليلٌ مَنْ يُسُركَ فِعْلُهُ
آخر:
وَفي النَّاسِ مَنْ أَعْطَى الجَمِيْلَ بَدِيْهَةً ... وَظَنَّ بِفعْلِ الخَيْرِ لَمَّا تَفَكَّرَا
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله».
رواه البخاري ومالك وغيرهما وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه». متفق عليه.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من عال ثلاثة من الأيتام كان كمن قام ليله وصام نهاره وغدا وراح شاهرًا سيفه في سبيل الله، وكنت أنا وهو في الجنة أخوين كما أن هاتين أختان». وألصق أصبعيه السبابة والوسطى. رواه ابن ماجه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه فقال: «امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين». رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كافل اليتيم له أو لغيره، أنا وهو كهاتين في الجنة» وأشار مالك بالسبابة والوسطى. رواه مسلم ورواه مالك عن صفوان بن مسلم مرسلاً.
ورواه البزار متصلاً ولفظه قال: «من كفل يتيمًا له ذا قرابة أو لا قرابة له فأنا وهو في الجنة كهاتين» وضم أصبعيه «ومن سعى على ثلاث بنات فهو في الجنة وكان له كأجر المجاهد في سبيل الله صائمًا قائمًا».
والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم.
88- "موعظة"
عباد الله سرور المؤمنين يوم يعبرون القناطر ويأمنون العواثر فذلك يوم عيدهم وما داموا في دار الغرور فلا غبطة ولا سرور.(3/27)
وأي سرور لمن الموت معقود بناصيته والذنوب راسخة في آنيته والنفس تقوده إلى هواها والدنيا تتزين في عينه بمشتهاها.
والشيطان مستبطن فقار ظهره لا يفتر عن الوسوسة في صدره ونفسه وماله بعرضه للحوادث ولا يدري في كل نفس ما عليه حادث.
قال بعضهم:
إِني بُلِيْتُ بِأَرْبَعٍ مَا سُلِّطُوا ... إِلا لأَجل شقَاوتِي وَعَنَائِي
إِبْليس والدُّنيا وَنَفْسِي وَالهَوى ... كَيْفَ الخََلاصُ وكُلُّهُمْ أَعْدَائِي
ومن ورائه المغير ومسأله منكر ونكير ويتوسد التراب إلى يوم النشور (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ( [المطففين6] يوم لا يبلغ وصف أهواله ولا شرح أحواله ما لا يسع المؤمن به أن يستقر له قرار ولا يخلد إلى هذه الدار ولا يكون له هم في هذه الدنيا إلا التقرب بأنواع القرب واجتناب الفواحش والريب وإقامة الدين الذي في إقامته النجاة وفي تضييعه العطب العظيم.
يَومُ القِيامَةِ لَوْ عَلِمْتَ بهَولِهِ ... لَفَرَرْتَ مِنْ أَهْلٍ وَمِنْ أَوْطَانِ
يَومٌ تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ لِهَولِهِ ... وَتَشِيْبُ مِنْهُ مَفَارِقُ الوِلْدَانِ
يَوْمٌ عَبُوسٌ قَمْطَرِيْرٌ شَرُّهُ ... في الخلق مُنْتَشِرُ عَظِيْمُ الشأنِ
يَوْمٌ يَجِيءُ المُتَّقُونَ لِرَبِهِم ... وَفْداً على نُجُبٍ مِنَ العِقْيَانِ
وَيَجِئُ فِيْهِ المُجرمُونَ إِلى لَظَى ... يَتَلَمَّظُوْنَ تَلَمُّظَ العَطْشَانِ
وَالجَنَّةُ العُلْْيا وَنَارُ جَهَنَّم ... دَارَانِ لِلْخَصْمَيْنِ دَائِمَتَانِ
89- "موعظة"(3/28)
عباد الله إنما يسعد المسلمون أن يتبعوا الحق ويدعوا إليه ولا تأخذهم في الله لومة لائم ويقبلوا النصيحة ممن ينصحهم ويعملوا بها راضية نفوسهم شاكرة ألسنتهم غير مستكبرين ولا متعنتين ولم يعمهم الهوى عن اتباع الحق إذ ذاك تكمل لهم السعادة ويتم لهم النعيم وقد فشا في الناس داء الكبر واستحكم ولا أقصد بذلك من الكبر الخيلاء والتبختر فقط وإنما أقصد كبر المتكبر عن قبول نصح الناصح وإرشاد المسترشد فإن الأول وإن كان شرًا ولكن الثاني شر منه فإن المرء إذا لم يقبل نصيحة الناصح كان راضيًا عن نفسه ومتى رضي عن نفسه عميت عن عيوبها فلا يؤثر فيها نصح ولا ينفع معها إرشاد لأن الغرور متحكم فيها والشهوات محيطة بها فإذا أراد الله بعبده خيرًا بصره بعيوب نفسه فأصلحها واتهمها دائمًا بالنقص وطالبها بالكمال حتى تلتحق بالنفوس الزكية والأرواح الطاهرة وهكذا كان سلفنا الصالح فكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول رحم الله امرأ أهدى إلي عيوب نفسي وكانوا إذا أرشدهم أخ من إخوانهم إلى عيب في نفوسهم فرحوا بهذا التنبيه وطهروا نفوسهم منه وشكروا من نصحهم وجعلوا نصيحته منة له عليهم ولم يأنفوا ولم يستكبروا لأنهم يتهمون نفوسهم ويرونها ناقصة ويسعون إلى رفعتها إلى أوج الكمال وبهذا بلغوا ما بلغوا ونالوا ما نالوا يا عباد الله كيف نرضى عن نفوسنا والله جل وعلا يقول: (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ( [يوسف: 53] عباد الله من منا بلغ معشار ما بلغه عمر في كمال نفسه وقوة إيمانه وشدة يقينه وقد كان يقول لأصحابه من رأى منكم في اعوجاجًا فليقومه هكذا كان ظنه رضي الله عنه بنفسه على جلالة قدره وعلو منزلته في دينه وكل ما كان أكبر كان أقل إعجابًا بنفسه وأكثر مطالبة لها بسلوك طريق الحق.(3/29)
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
90- "موعظة"
عباد الله لقد امتن الله على خاتم رسله، وصفوة خلقه، سيدنا محمد بن عبد الله بأشرف المنن، واختصه بأجل النعم، وآتاه من فضله ما لم يؤت أحدًا سواه، أدبه فأحسن تأديبه، وهذبه فأكمل تهذيبه، ومنحه من الصفات الجميلة غايتها، ومن الأخلاق الكريمة نهايتها، ثم أثنى عليه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ( [القلم4] قالت عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القرآن يرضى برضاه، ويسخط بسخطه، وكان - صلى الله عليه وسلم - أوسع الناس صدرًا، وأصدقهم قولاً، وألينهم جانبًا، وأكرمهم عشرة، يؤلف الناس ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، يتفقد أصحابه ويعطي كل جليس نصيبه، حتى لا يحسب جليسه أحدًا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاربه بحاجة سايره، حتى يكون هو المنصرف عنه، قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبًا رحيمًا. وصاروا عنده في الحق سواء، لذلك اجتمعت عليه القلوب بعد نفورها، وتألفت النفوس بعد جموحها، تحقيقًا لقوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ( [آل عمران159] وكان - صلى الله عليه وسلم - حليمًا مع الأذى، عفوا مع القدرة، صبورًا على المكاره، وتلك خصال أدبه بها ربه، فقال: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ( [الأعراف: 199](3/30)
سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام عن تفسيرها، فقال: إن الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وكان - صلى الله عليه وسلم - أكرم الناس، وأسخاهم يدًا، وأطيبهم نفسًا، ما سئل عن شيء قط فقال لا، من سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول، يجيب دعوة من دعاه، ويقبل الهدية ولو كانت كراعًا، ويكافئ عليها خيرًا منها، وكان عليه الصلاة والسلام أشجع الناس، وأعظم الناس غيرة وإقدامًا، فر الفرسان والأبطال عنه غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، مقبل لا مدبر، ولا يتزحزح، وكان صلوات الله وسلامه عليه أشد الناس حياءً، وأكثرهم عن العورات إغضاء قال أبو سعيد الخدري: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد حياءً من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئًا عرفنا في وجهه وكان لا يخاطب أحدًا بما يكره حياءً وكرمًا.
أما شفقته ورحمته ورأفته ولطفه بجميع الخلق، فما ذكر الله عنه بقوله: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ( [التوبة: 128] وقال عز من قائل: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ( [الأنبياء: 107] وأما تواضعه –مع علو منصبه ومكانته، ورفع رتبته- فقد خيره الله بين أن يكون ملكًا نبيًا، أو عبدًا نبيًا، فاختار عبدًا نبيًا، وكان يقول: «إنما أنا عبد، أكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» وكان يجالس الفقراء، ويعود المساكين، ويجلس مع أصحابه مختلطًا بهم، كأنه واحد منهم، وكان يقول: «اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين».(3/31)
وأما عدله وأمانته، وعفته ومروءته، ووقاره وهيبته، وصدقه ووفاؤه بالعهد وحفظه للوعد، وصلته للأرحام، وعطفه على الأيتام، فقد بلغ في كل ذلك الغاية، ووصل إلى النهاية وأما زهده وورعه، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إني عرض علي أن تجعل لي بطحاء مكة ذهبًا، فقلت، لا يا رب. أجوع يومًا، وأشبع يومًا، فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عليك» وقالت، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: إنا كنا آل محمد لنمكث شهرًا ما نستوقد نارًا، إن هو إلا التمر والماء، وأما خوفه من ربه، وطاعته له فعلى قدر علمه به، ولذلك قال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا، أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط ما فهيا موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا، ولما تلذذتم بالنساء على الفراش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى»...وكان - صلى الله عليه وسلم - يصلي حتى تورمت قدماه، فقالت له عائشة: أتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»؟ هذا يا عباد الله قليل من كثير من صفات سيد المرسلين، ذي الخُلُق العظيم، والقدر الفخيم، فهل لكم أن تتأملوا هذه الصفات الجليلة، والخصال الحميدة، فتمسكوا بها وتسيروا على نهجها، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن( [الأحزاب: 21]
اللهم يا حي يا قيوم يا من لا تأخذه سنة ولا نوم يا ذا الجلال والإكرام يا واحد أحد يا فرد صمد يا بديع السموات والأرض نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين وأن تعلى كلمة الحق والدين وأن تشمل بعنايتك وتوفيقك كل من نصر الدين وأن تملأ قلوبنا بمحبتك ومحبة رسلك وأوليائك وأن تلهمنا ذكرك وشكرك.(3/32)
اللهم وفقنا لصالح الأعمال وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
91- "موعظة"
عباد الله تيقظوا فالعبر منكم بمرأى ومسمع، وطالما ناداكم لسان الزواجر عن الانهماك في الدنيا وحطامها والتهالك عليها فاسمع.
عباد الله احذروا أن تكونوا مثل من قد محضوا للدنيا كل ما لهم من أعمال وأصبحوا لا يقصدون بتصرفاتهم إلا الدنيا وأما الآخرة فلا تخطر لهم على بال.
أخذت الدنيا أسماعهم وأبصارهم وعقولهم بما فيها من الزخارف الوهمية التي هي مراقد الفناء ومرابض الزوال وقواتل الأوقات.
وهل هي إلا الألعاب والملاهي المشار إليها بقوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ( [الحديد: 20]
وقوله: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( [العنكبوت: 64] وقوله: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ( [الأنعام: : 32، عباد الله، كل ما ترون من البلايا والمحن من أجل الدنيا ومالها من متاع حقير.
عجب أن يكون كل هذا الاهتمام من أجل دار الغرور وأيامها المعدودة، وكل ما فيها من لذائذ معلوم أنها منغصات ثم منتهيات ذلك فوق أن الأرزاق فيها قد ضمنها اللطيف الخبير خالق كل شيء الذي ما من دابة في الأرض إلا عليه رزقها.
وهل يشك مؤمن عاقل في ما ضمنه مولاه الغني الحميد لقد كان الأجدر والأولى بهذا الاهتمام حياتنا الثانية لأنها دار القرار ولأنها إذا فاتتك فيها دار الكرامة هويت في الهاوية وأنت لا تدري هل أنت من فريق الجنة أم من فريق السعير.
فتيقظ يا من ضاع عمره في الغفلات! انتبه يا من يقتل أوقاته عند الملاهي والمنكرات.(3/33)
يا أسفي على أوقات لا تباع بملء الأرض ذهبًا تضيع عند التليفزيون والفديو والسينمات والبكمات.
آه على أوقات تقتل عند المذياع واستماع أغانيه وملاهيه المهلكات.
آه على ساعات تمضي عند الكرة والمطربين والمطربات.
آه على أوقات وتفكيرات تذهب في قراءة الكتب الخليعة والجرائد والمجلات.
آه على أوقات تنقضي في الإقامة بين أعداء الله ورسوله.
آه على أوقات تقتل في الغيبة والبهت والتملق والنفاق والمداهنات.
آه على أوقات تقتل في الجلوس في الأسواق لا لمصلحة دنيا ولا دين بل لأمور عند أهل الضياع معلومات.
آه على أوقات تُقضى في بلاد الحرية والفسق والفجور.
آه على أوقات تقتل بالحكايات المضحكات والتمثيليات.
آه على أوقات تنقضي بلغو الكلام والمغازلات.
آه على أوقات تنقضي في الاستماع للأغاني الخليعات.
آه على أوقات تمضي في السكر وشرب أبي الخبائث الدخان.
آه على أوقات تقتل في ذكر الحوادث والأمور الماضيات التي لا تعود عليهم بنفع بل ربما عادت بالضرر والنكبات.
آه على أوقات تذهب سدى في النوم والغفلات.
آه على أموال تنفق فيما يغضب فاطر الأرض والسموات.
آه على ألسنة لا تفتر عن الكلام فيما يضر ولم تستبدله بتمجيد وتسبيح وتكبير وتهليل بديع الأرض والسموات.
آه على أفكار وأذهان مصروفة ومشتغلة طول ليلها ونهارها فيما في الدنيا من متاع وعقارات ولم تفكر وتلتفت وتستعد إلى ما في أمامها من أهوال وشدائد وعقبات وما في الآخرة لمن أطاع الله من أنهار وثمار وحور حسان طاهرات.
تالله لقد فسدت أمزجة أكثر الناس حتى أثر فسادها على الأفهام لذلك رجحوا فانيًا مكدرًا منغصًا على باق ضمن صفوه مولي الإنعام وها هم أولاء كما ترى لا هم لهم ولا عمل إلا للدنيا وما لها من حطام قال تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى( [الأعلى: 17](3/34)
عباد الله أما سمعتم قول نبيكم - صلى الله عليه وسلم -: «أبشروا وأملوا ما يسركم فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم». رواه البخاري ومسلم وختامًا:
فينبغي للعاقل أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته فلا يضيع منه لحظة في غير قربة ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل.
فوائد: كل ما يقوم به غيرك ويحصل بذلك غرضك فإن تشاغلك به غبن فاحش لأن احتياجك إلى التشاغل بما لا يقوم به غيرك من العلم والعمل والذكر والفكر آكد وألزم وأنفع.
اعلم أن ما احتجت إلى مفارقته وتركه للناس فليس لك والشغل بما ليس لك عبث.
اللهم يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيننا وبين الصدق والنية الصالحة والإخلاص والخشوع والمراقبة واليقين والعلم والمعرفة والفصاحة والبيان والفهم في القرآن وخصنا منك بالمحبة والاصطفائية ووفقنا للعمل الصالح الرشيد والرزق الهنيء الذي لا حجاب به في الدنيا ولا حساب ولا سؤال ولا عقاب عليه في الدنيا والآخرة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
92- "موعظة"(3/35)
عباد الله إن طاعة الله صلاح في الأرض لهذا أمر عز وجل بالطاعات، وهذه الطاعات ترضي الله سبحانه لأنها شكر له على نعمه المتواليات، فينبغي لنا أن نحث عليها وأن نأمر من ترك الطاعة أن يعود إليها إذا كانت من فرائض الدين كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وأن ننكر على من رأيناه يقترف معصية من المعاصي، لأن المعاصي بكل أنواعها شرور وأضرار وفساد ولها شؤم قد يعم الدنيا ويفعل الأفاعيل العظام في بني الإنسان ومن آثارها المضرة بالقلب والبدن: أنها إفساد للعقل فإن العقل نور والمعصية تطفئ نور العقل ومنها أن المعاصي مدد من الإنسان يمد بها عدوه عليه وجيش يقويه به على حربه ومنها أنها توهن القلب والبدن ومنها أنها تزرع أمثالها من المعاصي ومنها أنها تمحق بركة العمر ومنها أنها تسبب شماتة الأعداء ومنها أنها تعسر على الإنسان أموره، ومنها أنها تسبب الوحشة بين العاصي وبين أهل الخير ومنها أنها تذهب الحياء ومنها أن تستدعي نسيان الله لعبده وتركه، ومنها أنها تطفئ من القلب نار الغيرة ومنها أنها تضعف في القلب تعظيم الرب ومنها أنها تعمي بصيرة القلب وتطمس نوره ومنها أنها تسقط الجاه والمنزلة عند الله إلى ما لا نهاية له من الأضرار لهذا يجب علينا أن ننهى عن المعاصي لا سيما إذا كانت من كبار المعاصي، ولا تنس أن بني إسرائيل لعنهم الله لما فقدوا الغيرة على انتهاك الحرمات وما تناهوا عن المنكر، وتأمل أحوال الأمم وما حل بها من العقوبات بأسباب الذنوب قال تعالى: (فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( [العنكبوت: 40](3/36)
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللهم إن كنا مقصرين في حفظ حقك والوفاء بعهدك، فأنت تعلم صدقنا في رجاء رفدك وخالص ودك، اللهم أنت أعلم بنا منا، فبكمال جودك تجاوز عنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين".
93- "موعظة"
الحمد لله المستحق لغاية التحميد، المتوحد في كبريائه وعظمته الولي الحميد، الغني المغني المبدئ المعيد، المعطي الذي لا ينفذ عطاؤه ولا يبيد، المانع فلا معطي لما منع ولا راد لما يريد.
خلق الخلائق وأوضح لهم أحسن طريق، وهداهم إلى الأمر الرشيد، وصورهم فأحسن صورهم، وبشر من أطاعه بالجنة والنعيم والتخليد، وحذر من عصاه من العذاب الشديد.
وحثهم على ذكره وحمده وشكره ووعدهم بالمزيد، فقال جل وعلا وهو أصدق القائلين وأوفى الواعدين: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ( [إبراهيم: 7]
وحكم على خلقه بالفناء فما لأحد عنه محيص ولا محيد، فكم أبكى الموت خليلاً بفراق خليله، وكم أيتم طفلاً فشغله ببكائه وعويله.
أوحش المنازل من أقمارها، ونفّر الطيور من أوكارها، وعوضهم من لذة العيش بالتنغيص والتنكيد.
فالملك والمملوك والغني والصعلوك والقوي والضعيف، تساوت قبورهم في القفر والبيد.
فسبحانه من إله أذل بالموت كل جبار عنيد، وكسر به من الأكاسرة كل جبار صنديد، وأخرجوا من سعة القصور إلى ضيق القبور، وقطع حبل أمدهم المديد.
أخذ به الآباء والجدود والأطفال من المهود، وأسكنهم بعد اللين والسعة والرفاهية مضيق اللحود، وعفر وجوههم في التراب بعد لين الوسائد والفرش الناعمة والتمهيد وبقوا في تحت الأرض إلى يوم الوعيد.(3/37)
فيا بؤس للدنيا شد ما عن ثديها فطمتهم ومن سمها أطعمتهم وبيدها الباطشة لطمتهم، وفي ظلمات الأرض وغيابات الثرى طرحتهم، فقلبت قائم تلك الأعيان، وطمست تلك الوجوه الحسان.
وأعمت تلك الأبصار، وأصمت تلك الآذان وأسالت الحدق على الخدود والوجنات، وغسلت بالصديد جميل القسمات، وملأت بالتراب اللهازم واللهوات.
وكسرت تلك الضواحك والرباعيات، وعبثت الديدان بجسوم أولئك الفتيان والفتيات، لطالما اغربوا ضاحكين، وتقلبوا فاكهين، وباتوا على سررهم مطمئنين آمنين.
فكم بها من لسان فصيح، طالما ما أنشد وخطب، وأرهب وأرغب، ومدح وأطنب، وكم من فصيح لسان وعظيم بيان أخرسه الحدثان، وتحكمت في جسده الهوام والديدان.
الله انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللهم إن كنا مقصرين في حفظ حقك، والوفاء بعهدك، فأنت تعلم صدقنا في رجاء رفدك، وخالص ودك، اللهم أنت أعلم بنا منا، فبكمال جودك تجاوز عنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
94- "موعظة"
عباد الله يقول الله جل وعلا وتقدس: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ( [المؤمنون: 2] عباد الله أن الصلاة عماد الدين وأعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي قرة عين المؤمن وطمأنينة قلبه تبدو واضحة في وقوفه بين يدي ربه، وخشوعه وانكساره، عندما يتجه إليه في عبادتهن ويقف خاضعًا ذليلاً بين يدي العزيز الحكيم.
عباد الله من حافظ على الصلاة فهو السعيد الرابح، ومن أضاعها فهو الشقي الخاسر، وإن اللبيب العاقل من إذا حضر للصلاة أقبل بقلبه وقالبه، طرح الدنيا وشئونها ومتعلقاتها جانبًا وتدبر ما يتلوه إن كان وحده أو إمامًا. وأنصت وأحضر قلبه إن كان مأمومًا وتفهم ما يسمع وابتهل وتضرع إلى مولاه.(3/38)
عباد الله إن الخشوع في الصلاة هو روحها، والمحور الذي تدور عليه سائر أفعالها، والخشوع فيها مع الإخلاص لله آية الإيمان وسبب الفلاح وأمان من وساوس الشيطان. ألا وإن الصلاة بلا خشوع كجسد بلا روح، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها".
وفي المسند مرفوعًا عن العبد ليصلي الصلاة ولم يكتب له إلا نصفها أو ثلثها أو ربعها، حتى بلغ عشرها، وقد علق الله فلاح المصلين بالخشوع في صلاتهم، فدل على أن من لم يخشع فليس من أهل الفلاح ولو اعتد له بها ثوابًا لكان من المفلحين هكذا قال بعض العلماء.
قالوا وأما الاعتداد بها في أحكام الدنيا وسقوط القضاء فإن غلب الخشوع وتعقلها اعتد بها إجماعًا، وكانت السنن والأذكار عقبها جوابر ومكملات لنقصها، وإن غلب عليه عدم الخشوع فيها وعدم تعقلها.
فقد اختلف العلماء في وجوب إعادتها واحتجوا بأنها صلاة لا يثاب عليها، ولم يضمن له فيها الفلاح فلم تبرأ ذمته منها، ويسقط القضاء عنه كصلاة المرائي قالوا ولأن الخشوع والعقل روح الصلاة، ومقصودها ولبها، فكيف يعتد بصلاة فقدت روحها، ولبها وبقيت صورتها وظاهرها.
قالوا ولو ترك العبد واجبًا من واجباتها عمدًا لأبطلها تركه وغايته أن يكون بعضًا من أبعاضها بمنزلة فوات عضو من أعضاء العبد المعتق في الكفارة، فكيف إذا عدمت روحها ومقصودها، وصارت بمنزلة العبد الميت فإذا لم يعتد بالعبد المقطوع اليد يعتقه تقربًا إلى الله تعالى في كفارة واجبة فكيف يعتد بالعبد الميت.
وقال بعض السلف الصلاة كجارية تهدي إلى ملك من الملوك فما الظن بمن يهدي إليه جارية شلاء أو عوراء أو عمياء أو مقطوعة اليد أو الرجل أو مريضة أو دميمة أو قبيحة حتى يهدي إليه جارية ميتة بلا روح وجارية قبيحة فكيف بالصلاة التي يهديها العبد ويتقرب بها إلى ربه تعالى والله طيب لا يقبل إلا طيبًا وليس من العمل الطيب صلاة لا روح فيها كما أنه ليس من العتق الطيب عتق عبد بلا روح.(3/39)
قالوا وتعطيل القلب عن عبودية الحضور والخشوع تعطيل لملك الأعضاء عن عبوديته وعزل له عنها فماذا تغني طاعة الرعية وعبوديتها وقد عزل ملكها وتعطل.
قالوا والأعضاء تابعة للقلب تصلح بصلاحه وتفسد بفساده فإذا لم يكن قائمًا بعبوديته فالأعضاء أولى أن لا يعتد بعبوديتها وإذا فسدت عبوديته بالغفلة والوسواس فأنى تصح عبودية رعيته وجنده ومادتهم منهم وعن أمره يصدرون وبه يأتمرون.
قالوا ولأن عبودية من غلبت عليه الغفلة والسهو في الغالب لا تكون مصاحبة للإخلاص فإن الإخلاص قصد المعبود وحده بالتعبد والغافل لا قصد له فلا عبودية له.
قالوا وقد قال الله تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ( [الماعون5] وليس السهو عنها تركها وإلا لم يكونوا مصلين وإنما السهو عن واجبها إما عن الحضور أو الخشوع.
والصواب أنه يعم النوعين فإنه سبحانه أثبت لهم صلاة ووصفها بالسهو عنها، فهو السهو عن وقتها الواجب أو عن إخلاصها وحضورها الواجب، ولذلك وصفهم بالرياء، ولو كان السهو سهو ترك لما كان هناك رياء اهـ.
وبالتالي فإن العبد إذا مرّن نفسه وقلبه على التفهم والتدبر والخشوع والخضوع في الصلاة انغرست في قلبه خشية الله ومحبته والرغبة فيما لديه، وحضرته هيبة خالقه في جميع أحواله وفي جميع أعماله.
فإذا سولت له نفسه أمرًا أو زين الشيطان سوءًا تبرأ منهما قائلاً إني أخاف الله رب العالمين فكن في صلاتك خاشعًا خاضعًا مخبتًا.
فإذا قلت الله أكبر فاستحضر عظمة الله وأنه لا شيء أكبر منه ولا شيء أعظم منه وأنه مستحق لأن يعظم ويجل ويقدّر وأنه ليس أحد يساويه أو يدانيه في عظمته.
وإذا قلت الحمد لله رب العالمين فاستحضر أنه المستحق للثناء وأنه المربي لجميع الخلق التربية العامة والمربي لخواص خلقه التربية الخاصة، وهي تربية القلوب على العقائد النافعة، والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة.(3/40)
وإذا قلت الرحمن الرحيم استحضرت لرحمته العامة والخاصة راجيًا منه أن يجعلك ممن كتبها لهم فإذا قلت ملك يوم الدين مجدته واستحضرت لوقوفك بين يديه وهو أحكم الحاكمين.
فإذا قلت إياك نعبد وإياك نستعين استحضرت أنك تخصه وحده بالعبادة والاستعانة، المعنى نعبدك ولا نعبد غيرك ونستعين بك ولا نستعين بغيرك.
فإذا قلت أهدنا الصراط المستقيم استحضرت أنك تتضرع إليه وتسأله أن يدلك ويرشدك ويوفقك إلى سلوك الصراط المستقيم وأن يثبتك عليه فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على العبد أن يدعو به في كل ركعة من صلاته لضرورته إلى ذلك وهذا الصراط هو صراط المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا وافعل باقي صلاتك كما فعلت في أولها من التدبر والتفهم محضرًا قلبك لمعاني ما تقوله وما تسمعه حتى تكتب لك كاملة.
عباد الله إن من حافظ على الصلوات في أوقاتها وواظب على الجمعة والجماعات وأداها تأدية تامة بخشوع وخضوع، استنار قلبه وقويت الصلة بينه وبين ربه، وتهذبت نفسه وحسنت مع الله والناس معاملته، وحيل بينه وبين المحرمات وكان على البؤساء عطوفًا وبالضعفاء رحيمًا، وأفلح في دينه ودنياه وكان من المحبوبين عند الله وعند خلقه.
عباد الله النفس آمرة بالسوء، والشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر والسيف القاطع والدواء النافع الذي جعله الله وقاية للإنسان من شر النفس والشيطان، إنما هو الصلاة قال الله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ( [العنكبوت: 45](3/41)
عباد الله احذروا أن تستهينوا بالصلاة وأن لا تهتموا لها، فإن هذه صفة الذين خلت صلاتهم من التذلل والخشوع كما ترونهم يسرعون في أدائها وهم عنها غافلون لا يعرفون لها معنى ولا يعقلون لها سرًا ولم تشعر قلوبهم بحلاوتها ولا بلذة المناجات قد ملكتهم الوساوس، وامتلأت قلوبهم بشواغل الدنيا ولذاتها، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله.
قال تعالى: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ( [الزخرف: 36] ومن الناس من عميت بصائرهم، وتحجرت ضمائرهم، فأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وأهملوا أوامر بديع السموات وغفلوا عن واجب شكره ولم يخافوا سطوة جبروته وبطشه، ولا سوء الحساب، ولا نار العذاب (نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ( [الحشر: 19]، (أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ( [المجادلة19].
فيا أيها المسلمون اتقوا الله ربكم وحافظوا على صلاتكم وقوموا لله خاضعين خاشعين لتفوزوا برضوان الله وتكونوا من المفلحين.
اللهم قوي إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا صيانة أوقاتنا وحفظها عن المعاصي ووفقنا لشغلها بالباقيات الصالحات واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
95- "موعظة"(3/42)