…عبادَ اللهِ: وللأخلاقِ سُلطانٌ حقيقيٌّ يُعَمِّرُ الباطِنَ ويُصْلِحُ الظاهِرَ، لا يَعْدِلُهُ في ذلِكَ سلطانُ القوانينِ حتىَّ قالَ الشاعِرُ:
………لَنْ يُصْبِحَ القانونُ فِينا رادِعاً حتَّى نكونَ ذَوِي ضمائِرَ تَرْدَعُ
…فالأخلاقُ ليستْ نظرياتٍ تُرَى، ولا حِكاياتٍ تُرْوَى، ولا أُمنياتٍ تُشْتهَى، وإنمَّا تَنْبعُ مِنْ عقيدةِ المؤمنِ باللهِ عزَّ وجَلَّ، فالإيمانُ شجرَةٌ وحُسْنُ الخلُقِ ثمرةٌ، والإيمانُ أساسٌ والأخلاقُ بِناءٌ، وكلَّما زادَ الإيمانُ حَسُنَتِ الأخلاقُ، وكلَّما ضَعُفَ الإيمانُ ساءَتِ الأخلاقُ، عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - "المسلمُ مَنْ سَلِمَ المسلمونُ مِنْ لِساِنِه ويدِهِ، والمؤمنُ مَنْ أمِنَهُ الناسُ علَى دمائِهِمْ وأموالِهمْ"[أخرجَهُ الترمذيُّ بِهذا اللفظِ].وعَنْهُ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رجلٌ: يا رسولَ اللهِ إِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرةِ صلاتِها وصيامِها وصدقَتِها غَيْرَ أنَّها تُؤْذِيِ جِيرانَها بِلسانِها. قالَ:"هِيَ في النَّارِ. قالَ يا رسولَ اللهِ فإنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيامِها وصلاتِها وأنَّها تَصَّدَّقُ بالأثْوارِ مِنَ الأقِطِ ولا تُؤْذِي جِيرانَها بِلسانِها قالَ: هِيَ في الجنَّةِ" [أخرجَه أحمدُ والحاكِمُ]. أَلاَ فاتقوا اللهَ رحمَكُمُ اللهُ، واستمسِكوا بمحاسِنِ الأخلاقِ والشِّيَمِِ واستقيموا علَى طاعَةِ ربِّكم وراعُوا المُثُلَ العُلْيا والقِيَمَ؛ فإنَّها خيرٌ لكمْ في دُنْياكمْ وأُخْراكُمْ.(110/8)
… قالَ عمرُ - رضي الله عنه -: كَرَمُ المؤمنِ دِينُهُ، وحَسَبُهُ حُسْنُ خُلُقِهِ، ومروءتُهُ عَقْلُهُ. وهِيَ سَعَةٌ في الرِّزْقِ وانشراحٌ في الصدرِ كَما قالَ يحيَى بنُ معاذٍ - رحِمَهُ اللهُ -: في سَعَةِ الأخلاقِ كُنوزُ الأرزاقِ. ومَرِّنُوا أنفسَكُمْ علَى الأخلاقِ الفاضِلَةِ ووَطِّنوها علَى الآدابِ الشرعِيَّةِ الكامِلَةِ فقَدْ قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما العلمُ بِالتعلُّمِ،والِحلْمُ بِالتَحلُّمِ،ومَنْ يَتَحَرَّ الخيْرَ يُعْطَهُ، ومَنْ يتوقَّ الشرَّ يُوقَهُ" [ أخرجَهُ الدارقطِنيُّ والخطيبُ].
… اللهمَّ اهدِنا لأحْسَنِ الأخلاقِ لا يَهْدِي لأحسِنها إلاّ أنتَ، واصرِفْ عنَّا سيِّئَها لا يصرِفُ عنَّا سيِّئَها إلاَّ أنتْ، اللهمَّ إنَّا نعوذُ بِكَ مِنَ الشقاقِ والنفاقِ وسوُءِ الأخلاقِ، ونعوذُ بِكَ- اللهمَّ - مِنْ جَهْدِ البلاءِ، ودَرَكِ الشقاءِ، وسُوءِ القَضاءِ، وشَماتَةِ الأعداءِ، اللهمَّ اغفرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ،اللهمَّ وَفِّقْ أميرَ البلادِ ووليَّ عهْدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عملَهُما في رِضاكَ، وألبسْهُما لِباسَ العافيةِ والإيمانِ ربَّنا اغفرْ لنا ولِوالِدِينا ولِلمؤمنينَ والمؤمناتِ ومَنْ لهُ حقٌّ وفَضْلٌ علينا ياربَّ العالمينَ.
……… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(110/9)
اطبع هذه الصحفة
أخطار تهدد الأسرة
عبادَ اللهِ:
…ومِنَ المخاطرِ العظيمةِ التي تفكِّكُ الأسرةَ وتُفسِدُها: انشغالُ الآباءِ والأمهاتِ بمشاغلِ الحياةِ الزائدةِ التي لا تنتهِي ولا تنقضِي, مِنْ زياراتٍ وتجاراتٍ, وسفَرٍ وتنزُّهاتٍ, ولوْ كانَتْ على حسابِ الأبناءِ والبناتِ, الذين لا يجدونَ راعيًا يقومُ برعايتِهِمْ, ولا قائدًا يجتهدُ في عنايتِهمْ, ولا مُرشِدًا يدلُّهُمْ إلى غايتِهمْ, فيحثُّهمْ على الخيرِ, ويحذِّرُهمْ مِنَ الشرِّ, وما أحسنَ ما قالَهُ الشاعرُ:
ليس اليتيمُ مَنِ انتهَى أبواهُ مِِنْ هَمِّ الحياةِ وخَلَّفاهُ ذليلا
إنَّ اليتيمَ هُوَ الذي تلْقَى لَهُ أُمّاً تخلَّتْ أوْ أباً مَشْغُولا
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 28ربيع الآخر1427هـ الموافق26/5/2006م
أخطار تهدد الأسرة
…إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ, ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنا. مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له, ومَنْ يُضلِلْ فلا هادِيَ له, وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له, وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ, صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِهِ وسلَّمَ.
{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون } َ { آل عمران:102 } .(111/1)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } { النساء:1 } . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } { الأحزاب:70 - 71 } .
…أمَّا بعدُ:
…فأوصِيكم – عبادَ اللهِ – ونفسِي بتقوَى اللهِ تعالىَ وطاعتِهِ.
…أيُّها المسلمونَ:
…إنَّ الأُسْرةَ هِيَ نواةُ المجتمعِ وأساسُهُ, وبها يظهرُ صلاحُهُ وفسادُهُ؛ إذْ كلُّهم في سفينةٍ واحدةٍ, وحياةٍ مشترَكَةٍ, لا ينفصلُ بعضُهمْ عَنْ بعضٍ, بَلْ الأثرُ يصيبُ الجميعَ, والنتيجةُ تكونُ عامةً, كما أوضحَ النبيُّ الكريمُ- صلى الله عليه وسلم - هذا المعنَى العظيمَ, بأروعِ مثالٍ وأحسنِ مقالٍ, حينَ قالَ:"مَثَلُ القائمِ في حدودِ اللهِ والواقِعِ فيها,كمَثَلِ قومٍ استهَمُوا - أيْ: اقترَعُوا - علَى سفينةٍ, فصارَ بعضُهُمْ أعلاها وبعضُهُمْ أسفلَها, وكانَ الذينَ في أسفلِها إذا استقَوْا - أيْ: مِنَ الماءِ - مرُّوا على مَنْ فوقَهم, فقالوا: لوْ أنَّا خرَقْنا في نصيبِِنا خَرْقًا ولَمْ نُؤذِ مَنْ فوقَنا, فإنْ تركُوهمْ وما أرادوا هلَكُوا جميعًا, وإنْ أخذُوا علَى أيدِيهمْ - أيْ:مَنَعوهمْ مِنْ خَرْقِ السفينةِ- نجَوْا، ونجَوْا جميعا ً" [ أخرجَهُ البخاريُّ].
…أيُّها المسلمونَ:(111/2)
…إنَّ ثَمَّةََ مخاطِرَ عظيمةً تُهدِّدُ كِيانَ الأسرةِ وبقاءَها, وتزلزلُ قِوَامَها وأركانهَا, فواجبٌ وَلِزامٌ علَى كلِّ مسلمٍ أنْ يتنبَّهَ لها قبلَ حُلُولِها, وأنْ يحذَرَ مِنْها قبلَ وقوعِها, فالوقايةُ خيرٌ مِنَ العلاجِ, ثمَّ إنْ هِيَ وقعَتْ عرفَها وتدارَكَها, وعالجَهَا وأزالهَا.
…فمِنْ هذِهِ المخاطرِ وأهمِّها- ولعلَّها أساسُها وعنوانُها - رِفاقُ السُّوءِ والعَناءِ, وأصدقاِءُ التعاسَةِ والشَّقاءِ؛ فإنَّ الإنسانَ قدْ يكونُ فيهِ خيرٌ وطِيبَةٌ, يحبُّ الفضيلةَ ويكرَهُ الرذيلَةَ, ولكنَّهُ يُهمِلُ هذا الجانِبَ ويتقاعَسُ,ويقصِّرُ ويتساهَلُ,فيخالِطُ أهلَ السوءِ ويزورُهُمْ,ويغْشَى مجالِسَهم ويصاحِبُهم,لا بقَصْدِ النصيحةِ والدَّلالَةِ على الخيِر, والأمرِ بالمعروفِ والنهْيِ عَنِ المنكرِ, وإنَّما بِقصدِ الأُنْسِ والمَرَحِ,وقضاءِ الوقتِ والسَّهَرِ, وربَّما لمْ يشارِكْهُمْ في كثيرٍ مِنْ مُنْكَرِهمْ وباطِلِهِمْ, ولكنْ: إلى كَمْ يَصْمُدُ الإنسانُ؟ وإلى كَمْ يصبرُ عمَّا عليهِ الأصحابُ والخِلاَّنُ ؟ ما هِيَ إلاَّ أيامٌ وقَدْ تطبَّعَ بطباعِهمْ, وتخلَّقَ بأخلاقِهمْ, وضَعُفَ قلبُهُ كما ضَعُفوا, ومَرِضَ كما مَرِضُوا, فإذا هوَ مشارِكٌ لهمْ في مُنكَرِهِمْ, ومُتحمِّلٌ مِثْلَ وِزْرِهمْ, وصدَقَ رسولُنا الكريمُ - صلى الله عليه وسلم - إذْ يقولُ:" المرْءُ علَى دِينِ خَليلِهِ, فَلْينظرْ أحدُكُمْ مَنْ يُخالِلُ" [أخرجَهُ أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ].
…ثمَّ تتفاقَمُ المصائِبُ وتستفحِلُ المشكِلاتُ, فتنتقلُ إلى الأُسرةِ: مِنْ زوجٍ وأولادٍ, ومِنْ بنينَ وبناتٍ, فيشعرونَ بالشقاءِ والعذابِ, وربمَّا تَطبَّعَ بعضُهُمْ بِطباعِهِ.
…عبادَ اللهِ:(111/3)
…ومِنَ المخاطرِ العظيمةِ التي تفكِّكُ الأسرةَ وتُفسِدُها: انشغالُ الآباءِ والأمهاتِ بمشاغلِ الحياةِ الزائدةِ التي لا تنتهِي ولا تنقضِي, مِنْ زياراتٍ وتجاراتٍ, وسفَرٍ وتنزُّهاتٍ, ولوْ كانَتْ على حسابِ الأبناءِ والبناتِ, الذين لا يجدونَ راعيًا يقومُ برعايتِهِمْ, ولا قائدًا يجتهدُ في عنايتِهمْ, ولا مُرشِدًا يدلُّهُمْ إلى غايتِهمْ, فيحثُّهمْ على الخيرِ, ويحذِّرُهمْ مِنَ الشرِّ, وما أحسنَ ما قالَهُ الشاعرُ:
ليس اليتيمُ مَنِ انتهَى أبواهُ مِِنْ هَمِّ الحياةِ وخَلَّفاهُ ذليلا
إنَّ اليتيمَ هُوَ الذي تلْقَى لَهُ أُمّاً تخلَّتْ أوْ أباً مَشْغُولا
…ألاَ فلْيعلمِ الآباءُ والأمهاتُ: أنَّ الأولادَ أمانةٌ في أعناقِهِمْ, وسيحاسبُهُمُ اللهُ - عزَّ وجلَّ - عليها يومَ القيامةِ:"فالرجلُ راعٍ في بيتِهِ ومسؤولٌ عَنْ رعيَّتِهِ، والمرأةُ راعِيَةٌ في بيتِ زوجِها ومسؤولةٌ عَنْ رعيَّتِها, فكلُّكُمْ راعٍ وكلُّكمْ مَسْؤولٌ عَنْ رعيَّتِهِ" كما قالَ نبيُّنا عليهِ الصلاةُ والسلامُ في الحديثِ المتَّفَقِ على صحَّتِهِ.
ولَئِنْ كانَتْ أمورُ الحياةِ وتحقيقُ المادةِ مِنَ الأمورِ المهمَّةِ المطلوبةِ, فإنَّ رعايةَ الأولادِ في دِينهمْ وأخلاقِهمْ,وإضفاءَ الرحمةِ والعطفِ عليهِمْ: أهمُّ وأوْلىَ, وآكدُ وأوجبُ,فلا نُؤْثِرُ الدنيا علَى الأخرَى, ولا المادةَ علَى الروحِ, وإنَّما نوازِنُ ونتوسَّطُ, ونجعلُ الآخرةَ هِيَ الهمَّ الأكبرَ,كما قالَ ربُّنا تباركَ وتعالَى: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } { القصص:77 } .
يا خادِمَ الجسمِ كَمْ تسعَى لخدمتِهِ أتعبتَ نفسَكَ فِيما فيهِ خُسْرانُ
أقبِلْ علَى الرُّوحِ واستكمِلْ فضائِلَها فأنتَ بالرُّوحِ لا بِالجسمِ إنسانُ
…أيُّها المسلمونَ:(111/4)
…ومِنَ البلاءِ العظيمِ الذي يهدِّدُ كِيانَ الأُسرةِ ويهدِمُ بُنيانهَا: ما ابتُلِيَ بهِ كثيرٌ مِنْ شبابِنا اليومَ: تناولُ المخدِّراتِ والمسْكِراتِ, والوصولُ إلى مرحلةِ الإدمانِ التي يبذلُ حِينَها المدمِنُ كلَّ ما يملِكُ مِِنْ أجلِ الحصولِ علَى حبَّةٍ أوْ حُقنةٍ لَنْ يجنِيَ مِنْ ورائِها إلاَّ الهلاكَ والدمارَ, وخَسارةَ الدنيا والآخرةِ, وربَّما ضحَّى بِعرضِهِ مِنْ أجلِ هذِهِ الخبائِثِ والموبقاتِ, فأينَ نحنُ مِنْ شبابِنا في هذا البلاءِ؟ ماذا قدَّمْنا لهم ليَرْجِعُوا إلى جادَّةِ الصُّلَحاءِ؟ بلْ ماذا عمِلْنا لِنحمِيَهم قبلَ الوقوعِ في هذا الداءِ العُضالِ, والمرضِ القتَّالِ؟قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } { المائدة:90- 91 } .
…باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ, ونفعَنِي وإيَّاكمْ بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ, أقولُ قولِي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكمْ ولسائرِ المسلمينَ فاستغفروهُ إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ, والعاقِبَةُ لِلمتقينَ, ولا عُدْوانَ إلاّ علَى الظالمينَ, وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له,الإلهُ الحقُّ المبُينُ, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ, إمامُ المتقينَ وخاتَمُ المرسلينَ, اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ علَى عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ وعلَى آلهِ وصحبِهِ أجمعينَ, ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
…أمَّا بعدُ:(111/5)
…فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ حقَّ تقواهُ, واعملوا بطاعتِهِ ورِضاهُ.
…إخوةَ الإيمانِ:
…ومِنَ المخاطرِ الجسيمةِ التي تُهدِّدُ الأُسرةَ: بعضُ وسائلِ الإعلامِ الهابِطَةِ التي تَعْرِضُ ما حرَّمَ اللهُ تباركَ وتعالَى, مِنْ أفلامٍ ماجِنَةٍ, وبرامِجَ تافهةٍ,وأفكارٍ هدَّامَةٍ,ويا لَلإعلامِ مِنْ تأثيرٍ بالغٍ في الكِبارِ والصِّغارِ, والذكورِ والإناثِ, ولا سِيَّما ما كانَ عَنْ طريقِ المشاهدةِ,فما هُوَ المطلوبُ مِنَ المسلمِ نحوَ ذلك؟
…لَسْنا ننكرُ – يا عبادَ اللهِ – أنَّ الإعلامَ جِهازٌ مُهِمٌّ وضرورةٌ عصريَّةٌ, وأنَّ الاستفادةَ مِنْه مطلوبةٌ ومرغوبةٌ, بلْ ربُّما كانَ ضرورةً وواجباً, وقلَّما يخلُو مِنْه اليومَ بيتٌ مِنَ البيوتِ, لكنْ لِنعلمْ أنَّهُ سلاحٌ ذو حدَّيْنِ, وجهازٌ مؤثِّرٌ وخطيرٌ, فالمطلوبُ هوَ توخِّي الحذَرِ في التعامُلِ معَهُ, فيكونُ الأمرُ بالتوسُّطِ والاعتدالِ, فَلا المنعُ المطلَقُ الذي قَدْ يصعبُ تحقيقُهُ, أوْ قَدْ تكونُ نتائِجُهُ علَى عكسِ ما يريدُ صاحِبُهُ مِنَ الخيرِ والنَّصيحةِ، ولا الإباحَةُ المطلقَةُ التي قَدْ ينحرفُ بسبِبها الأهلُ والأولادُ, وإنَّما تكونُ الرقابَةُ والإشرافُ علَى ما يُعرَضُ فيهِ, فيُسْمَحُ بما فيهِ مِنَ الخيرِ, ويُمنَعُ ما فيهِ مِِنَ الشرِّ, مَعَ بيانِ سببِ ذلِكَ وتوضيحِهِ, كلُّ ذلكَ بالحكمةِ والموعظَةِ الحسنَةِ, فلا يشعرُ الأولادُ – حينئذٍ - بالكَبْتِ والحِرْمانِ, ولا يَسيرونَ في مَوْجِ الفسادِ والعِصْيانِ.
…اللهمَّ أصلِحْنا وأصلِحْ ذريَّاتنِا, واجعلْهُمْ لنا قُرَّةَ عَيْنٍ, وتُبْ علَينا إنَّكَ أنتَ التوَّابُ الرحيمُ، اللهمَّ اغفرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ, والمسلمينَ والمسلماتِ, الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ, إنَّكَ سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ. اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ,وأذِلَّ الشرْكَ والمشركِينَ, ودمِّرِ اللهمَّ أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ.(111/6)
…اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ,واجعلْ عملَهما في رِضاكَ.اللهمَّ احفظْهما بحفظِكَ, واكلأْهما بِرعايَتِكَ, وألبِسْهما ثوبَ الصحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ. اللهمَّ اجعلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتقبَّلِ اللهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(111/7)
اطبع هذه الصحفة
الآدابُ المرعيَّةُ في الإِجازَةِ الصيفيَّةِ
إخوةَ الإسلامِ:
…إنِّ الكثيرَ مِنَ الناسِ قَدْ أعدَّ برامِجَ لِشُغْلِ إجازاتِهِمْ, وقضاءِ وقتِ فراغِهمْ, يترجِمُ ذلكَ التزاحمُ علَى مكاتِبِ الحجوزاتِ والمطاراتِ, للسفرِ عبْرَ الأجواءِ والمحيطاتِ, في مراكِبَ تمخرُ عُبابَ الجوِّ والبحرِ والفيافِي لِشتَّى القاراتِ, لِذا أستلطِفُكمْ- يارعاكمُ اللهُ – لِنضعَ هذِهِ القضيَّةَ علَى الميزانِ الشرعيِّ, معَ تلميحٍ يسيرٍ إلى واقِعِ بعضِ الناسِ فيها, وبيانِ الآثارِ السلبيَّةِ, عِنْدَ غيابِ الضوابِطِ الشرعيَّةِ, في هذِهِ القضايا الواقِعيَّةِ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 6 جمادى الأولى 1427هـ الموافق 2/6/2006م
الآدابُ المرعيَّةُ في الإِجازَةِ الصيفيَّةِ
…الحمدُ للهِ عالمِ السرِّ والخفِيَّاتِ, وفَّقَ مَنْ شاءَ إلى اغتنامِ الأوقاتِ في الباقياتِ الصالحاتِ, وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له شهادةً تُوصِلُنا إلى الجِنانِ الخالداتِ, وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ المؤيَّدُ بالآياتِ والمعجزاتِ, صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى آلهِ وصحبِهِ الأئمَّةِ الثِّقاتِ, وعلَى تابِعيِهمْ بإحسانٍ مادامَتِ الأرضُ والسماواتُ.
…أمَّا بعدُ:
…فأوصِيكُمْ – أيهُّا الناسُ ونفسِي – بتقوَى اللهِ الجليلِ, فإنَّها لِلْجَنَّةِ خيرُ سبيلٍ, واقْنَعُوا مِنْ دنياكُمْ بالقليلِ, واستعِدُّوا ليومِ الرحيلِ, يقولُ اللهُ سبحانَهُ وتعالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } { الحشر:18 } .
…لِلْمَوْتِ فاعملْ بجدًّ أيُّها الرجلُ ……واعلَمْ بأنَّكَ مِنْ دنياكَ مُرْتَحِلُ
…إنَّ التَّقِيَّ جِنانُ الخُلْدِ مَسْكَنُهُ …ينالُ حُوراً عَلْيها التاجُ والحُلَلُ(112/1)
…والمجرمينَ بنارٍ لا خمُودَ لها …في كُلِّ وَقْتٍ مِنَ الأوقاتِ تشتَعِلُ
…معاشِرَ المسلمينَ:
…مِنَ الظواهِرِ الاجتماعيَّةِ التي تستوجِبُ التنوِيهَ والتذكيرَ، ما يحصُلُ في هذِهِ الأيامِ مِنْ كلِّ عامٍ, حينَ تشتدُّ حرارةُ الصيفِ,ويُلْقِي بِسَمُومِهِ اللافِحِ علَى بعضِ أقطارِ المعمورةِ, مما يحمِلُ الناسَ علَى الهروبِ إلى المصايفِ والمتنزَّهاتِ, والفِرارِ إلى الشواطِىءِ والمنتجعاتِ, والعزمِ على السفرِ والسياحةِ والرحلاتِ, يوافِقُ ذلِكَ فراغٌ مِنَ الشواغِلِ, وتمتُّعٌ بإِجازَةٍ صيفيَّةٍ بعدَ عَناءِ عامٍ دراسِيٍّ كاملٍ.
…إخوةَ الإسلامِ:
…إنِّ الكثيرَ مِنَ الناسِ قَدْ أعدَّ برامِجَ لِشُغْلِ إجازاتِهِمْ, وقضاءِ وقتِ فراغِهمْ, يترجِمُ ذلكَ التزاحمُ علَى مكاتِبِ الحجوزاتِ والمطاراتِ, للسفرِ عبْرَ الأجواءِ والمحيطاتِ, في مراكِبَ تمخرُ عُبابَ الجوِّ والبحرِ والفيافِي لِشتَّى القاراتِ, لِذا أستلطِفُكمْ- يارعاكمُ اللهُ – لِنضعَ هذِهِ القضيَّةَ علَى الميزانِ الشرعيِّ, معَ تلميحٍ يسيرٍ إلى واقِعِ بعضِ الناسِ فيها, وبيانِ الآثارِ السلبيَّةِ, عِنْدَ غيابِ الضوابِطِ الشرعيَّةِ, في هذِهِ القضايا الواقِعيَّةِ.(112/2)
…واعلَموا أنَّ مهمَّةَ الإنسانِ في هذِهِ الحياةِ عبوديَّةُ اللهِ عزَّ وجلَّ, ومراقبتُهُ أينَما كانَ العبدُ وحيثُما حَلَّ, يقولُ اللهُ تعالَى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ(7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ { } الشرح8:7 } ، ويقولُ سبحاَنهُ: { وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ } { آل عمران:41 } ،فإذا فرَغَ الإنسانُ مِنْ شواغِلِ الدُّنيا, فَلْيَتزوَّدْ مِنْ غايَةِ وجودِهِ وهِيَ عبادةُ اللهِ تعالَى، وَلْنعلمْ أنَّ الوقتَ مادةُ الحياةِ, وأنَّ الزمنَ وِعاءُ العُمُرِ, فالواجبُ استغلالُهُ في مَرْضاةِ اللهِ, وشَغْلُهُ بطاعتِهِ سبحانَه, فإنَّ الإنسانَ مسؤولٌ عَنْ وقتِهِ فِيما أمضاهُ, وعَنْ عُمُرهِ فِيما أفناهُ, وعَنْ شبابِهِ فيما أبْلاهُ, فهل يستَوِي مَنْ يشغلُ وقتَهُ بالطاعَةِ بِمَنْ يدُنِّسهُ بالمعصيَةِ؟ كلاَّ، يقولُ اللهُ تعالَى: { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } { القلم :35 } ،ويقولُ سبحاَنهُ: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } { ص:28 } .
… والوَقْتُ أنفَسُ ما عُنِيتَ بحفْظِهِ وأَراهُ أسْهَلَ ما عليكَ يَضِيعُ(112/3)
…يقولُ ابنُ القيِّمِ: السنةُ شجرةٌ, والشهورُ فروعُها, والأيامُ أغصانُها, والساعاتُ أوراقُها, والأنفاسُ ثِمارُها, فمَنْ كانَتْ أنفاسُهُ في طاعةٍ فثمرةُ شجرتِهِ طيِّبةٌ, ومَنْ كانَتْ أنفاسُهُ في معصِيَةٍ فثمرةُ شجرتِهِ حَنْظَلٌ, وإنَّما يكونُ الجِذاذُ يومَ الميعادِ, فعِنْدَ الجِذاذِ يتَبيَّنُ حُلْوُ الثمارِ مِنْ مُرِّها. وعَنِ ابنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "نِعْمَتانِ مغبونٌ فِيهما كثيرٌ مِنَ الناسِ: الصحَّةُ والفراغُ"[أخرجَهُ البخاريُّ], وكَمْ كانَ الفراغُ سبباً للانحرافِ وسوءِ الحالِ, عِنْدَ عَدَمِ حُسْنِ الاستثمارِ والاستغلالِ, فهوَ مِنَّةٌ ونَعْماءُ, لكنْ إذا استُغِلَّ في معصيةِ اللهِ فهوَ نِقْمَةٌ وبلاءُ.
…أَلا وإنَّ دينَكُمُ السَّمْحُ لا يحجُرُ علَى أتباعِهِ, أنْ يُروِّحوا عَنْ أنفسِهِمْ, أوْ يُدْخِلوا السرورَ علَى أهلِيهِمْ وأبنائِهمْ, فالترفِيهُ البريءُ والترويحُ المباحُ لاغَضاضَةَ علَى الإنسانِ فيهِ, بَلْ قَدْ يكونُ مطلوباً شرعاً,كما جاءَ في حديثِ حَنْظَلَةَ:"ولكنْ ساعةٌ وساعةٌ"[أخرجَهُ مسلمٌ], يقولُ عليٌّ - رضي الله عنه -:"رَوِّحوا عَنْ قلوبِكمْ, فإنَّ القلوبَ إذا كلَّتْ ملَّتْ, وإذا ملَّتْ عَمِيَتْ", أمَّا أنْ يُسْتَغَلَّ ذلِكَ فيما يُضعِفُ الإيمانَ, ويوقِعُ في الذنوبِ والعصيانِ, ويجلِبُ سَخَطَ الديَّانِ, فذلِك هوَ الخُسْرانُ.
…إخوةَ الإيمانِ:
…إنَّ السفرَ لهُ فوائِدُهُ العِظامُ، في النفوسِ والعقولِ والأجسامِ, بَلْ قَدْ يكونُ مطلوباً لمقاصِدَ ومهامَّ, فالماءُ الدائمُ يَأْسَنُ, والشمسُ لَوْ بَقيَتْ في الأُفُقِِ واقِفةً لملَّتْ, والنفسُ لَوْ وُطِّدَتْ علَى مكانٍ ضاقَتْ وكلَّتْ, وعَنْ بديِع صُنْعِ اللهِ غفَلَتْ.(112/4)
…يقولُ بعضُ السلَفِ: "مِنْ فضائِلِ السَّفَرِ أنَّ صاحِبَهُ يرَى مِنْ عجائِبِ الأمصارِ, وبدائِعِ الأقطارِ, ومحاسِنِ الآثارِ, ما يزيدُهُ عِلْماً بِقُدْرةِ الواحِدِ القهَّارِ, ويَدْعوهُ شكراً علَى نِعَمِهِ الغِزارِ".
تِلْكَ الطبيعةُ قِفْ بِنا ياسَارِ حتَّى أُرِيكَ بَدِيعَ صُنْعِ البارِي
فالأرضُ حَوْلَكَ والسماءُ اهتزَّتا لِروائِعِ الآياتِ والآثارِ
…وَليحذَرِ المسافِرُ أنْ يتَّجِهَ إلى أماكِنِ المنكراتِ الظاهِرَةِ, والفسادِ المُعْلَنِ، وهَلْ يُلْقَى الحَمَلُ الودِيعُ في غاباتِ الوحوشِ الكاسِرَةِ, والسِّباعِ الضارِيَةِ؟ وكَمْ كانَ أسلافُنا يَجوبونَ الأرضَ شَرْقاً وغرباً, جِهاداً في سبيلِ اللهِ, وطَلَباً لحديثِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -, ودعوةً إلى دينِ اللهِ, بأفواهِهِمْ وأفعالِهِمْ وسلوكِهِمْ، إنَّنَا جميعاً مَعَ السفرِ والسياحَةِ بمفهومِها النظيفِ, وبمقصودِها الحَسَنِ الشريفِ, وإِدْخالاً للسرورِ علَى الأهلِ والأولادِ، مَعَ اجتنابِ معصِيَةِ ربِّ العِبادِ, وَلْنحذَرْ أمراضَ الأُمَمِ المعاصِرَةِ, والولوغَ في مياهِهِمُ العَكِرَةِ، وهَذا لا يمكنُ أنْ يقبلَهُ أمثالُكُمْ مِنْ ذَوْي النفوسِ المؤمنَةِ, وأربابِ المجتمعاتِ المحافِظَةِ.
حياءَكَ فاحفظْهُ عَلَيْكَ فإنمَّا يَدُلُّ علَى وَجْهِ الكريمِ حياؤُهُ
…حَذارِ أَنْ يَفْهَمَ العالَمُ عَنِ المسلمينَ وشبابِهمْ, أنَّهمْ أربابُ شهواتٍ, وصَرْعَى مَلَذَّاتٍ, بَلْ أَفْهِموهُمْ بِسلوكِكُمْ أنَّكمْ حَملَةُ رِسالَةٍ, وأربابُ شَرَفٍ وغايةٍ, وأصحابُ شريعةٍ خالدةٍ, ودِينٍ يَرْعَى العقيدةَ والأخلاقَ السامِيَةَ.
…باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ، ونفعَنِي وإيَّاكمْ بِهَدْيِ النبَّيِّ الكريمِ، عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأزكَى التسليمِ، أقولُ قوليِ هَذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكمْ ولسائِرِ المسلمينَ فاستغفروهُ إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.(112/5)
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ الذي أنعمَ وأسدَى, والشكرُ له على آلائِهِ التي لا نُحصِي لها عَدًّا, وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له إلهاً واحداً أحداً فرداً صمداً, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ أكْرِمْ بهِ رسولاً وعبداً, صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِهِ الذين أكسبَهُمْ شَرَفاً ومجداً, والتابعينَ ومَنْ تَبِعَهُمْ بأَمْثلِ طريقةٍ وأقومِ سبيلٍ وأهدَى.
…أماَّ بعدُ:
…فيا عِبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ في أنفسِكمْ وأهليِكُمْ, وفي أولادِكمْ ومَنْ تَحْتَ أيدِيكُمْ, اتقوهُ فإنَّه للخيرِ يَهديكُمْ, ومَنِ الشرِّ يَقيكُمْ, وفي جِنانِ الخُلْدِ يُؤويكُمْ, يقولُ اللهُ سبحانَهُ: { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } { مريم:63 } .
…معاشِرَ المسلمينَ: الشبابُ عِمادُ الأُمَّةِ, وقلبُها النابِضُ, هُمْ جيلُ اليومِ, ورجالُ المستقبلِ, وبناةُ الحضارَةِ, وصُنَّاعُ الأمجادِ, وثمراتُ الفؤادِ, وفلذاتُ الأكبادِ، فلابدَّ لنا مِنْ تربيتهِمْ تربيةً صحيِحةً, وشَغْلِ أوقاتِهمْ بطريقةٍ متوازِنَةٍ, فهذِهِ الأشهرُ التي يمرُّونَ بها في فَراغٍ مِنَ المشاغِلِ الدراسيَّةِ, لابدَّ أنْ يستثمِرَها أولياءُ أمورِهمْ في برامِجَ حافلَةٍ, تُكسِبُهمُ المهاراتِ, وتُنَمِّي فيهمُ القُدراتِ, تُقوِّيِ إيمانَهم, وتُصْقِلُ فِكرَهمْ, وُتثْرِي ثقافَتَهُم, حتىَّ لا يقَعوا فريسةَ الإنترْنِتِ وشبكاتِ المعلوماتِ, وضحايا لِسيِّءِ القَنواتِ والفضائِيَّاتِ.
… أيُّها المسلمُ الكريمُ:(112/6)
…لِتعلَمْ أنَّك مراقَبٌ مِنْ قِبَلِ ربِّكَ ومولاكَ, فلا يَراكَ حيثُ نَهاكَ, ولاَ يفْتقِدُكَ حيثُ أمرَكَ, فاللهُ مُراقِبٌ لنا في الحِلِّ والتِرْحالِ, وعلَى كُلِّ حالٍ, ثُمَّ إنَّ شِدَّةَ الحرِّ في هذِهِ الدنيا, يجبُ أنْ تُذكِّرَ بحرِّ الآخرةِ، فشدةُ الحرِّ مِنْ فَيْحِ جهنَّمَ، فهلْ اعتَبْرنا ونحنُ مشغولونَ في هذِهِ الدارِ,عَنْ تِلكُمُ النَّارِ, فأخَذْنا بأسبابِ النَّجاةِ مِنْ دارِ البوارِ, وأحسنَّا الفِرارَ إلى العزيزِ الغَّفارِ؟.
… ثُمَّ صَلُّوا وسلِّموا- رحِمَكمُ اللهُ – علَى خيرِ الورَى طُرّاً , وأفضلِ الخليقَةِ شَرَفاً وطُهْراً، صلاةً تكونُ لكمْ يومَ القيامةِ ذُخْراً،فقَدْ أمرَ ربُّكمْ تعالَى في تَنْزِيلٍ يُتْلَى ويُقْرَا، فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب:56 } .(112/7)
…اللهمَّ صَلِّ وسلِّمْ علَى محمدٍ وعلَى آلِهِ وصحِبهِ أجمعينَ، وعلَى التابعينَ ومَنْ تَبعِهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، وعنِّا معهمْ برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ، اللهمَّ اجعلْ خيرَ أعمارِنا أواخِرَها، وخيرَ أعمالِنا خواتِمَها، وخيرَ أيّامِنا يومَ نَلْقاكَ، اللهمَّ وفِّقْنا لاغتِنامِ الأوقاتِ بِالباقياتِ الصالحاتِ، ومُنَّ علينا مِنْ لَدُنْكَ بواسِعِ الرحَماتِ، واكتبْ لنا الدرجاتِ العُلَى في الجنَّاتِ، اللهمَّ اغفرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ إنَّكَ قريبٌ سميعٌ مجيبُ الدعواتِ، اللهمَّ وَفِّقْ أميرَ البلادِ وولِيَّ عهْدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عملَهُما في رِضاكَ، وألبسْهُما لِباسَ العافيةِ والإيمانِ، اللهمَّ اجعلْ هذا البلدَ آمنًا مُطْمئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلادِ المسلمينَ, وَتَقبَّلِ اللهمَّ شُهَداءَنا وَشُهَداءَ المسلمينَ أَجمعينَ، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(112/8)
اطبع هذه الصحفة
عمر بن الخطاب رضي ا لله عنه
معشرَ الإخوةِ الكِرامِ:
…إنَّ عمرَ بنَ الخطابِ - رضي الله عنه -: مِنْ أشدِّ المؤمنينَ غَيْرةً في الدِّينِ، فقَدْ أخرَجَ الشيخانِ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "بَيْنا أنا نائِمٌ إذْ رأيتُنِي في الجنَّةِ، فإذا امرأةٌ تتوضَّأُ إلى جانبِ قصرٍ، فقلْتُ: لِمَنْ هذا القصرُ؟ فقالوا: لِعمرَ بنِ الخطابِ، فذكرْتُ غَيْرَةَ عمرَ، فولَّيْتُ مُدْبِراً. قالَ أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: فبكَى عمرُ - رضي الله عنه - ونحنُ جميعاً في ذلِكَ المجلسِ مَعَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ قالَ عمرُ: بأبِي أنْتَ يا رسولَ اللهِ؛ أعليكَ أغارُ؟".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة:
بتاريخ 13جمادى الأولى 1427هـ الموافق 9/6/ 2006م
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
…الحمدُ للهِ الذي فرَّقَ بينَ الكفرِ والإسلامِ بفاروقِهِ، ونشرَ التوحيدَ بعدَ ظهورِ الشركِ وبُروقِهِ، أحمدُ ربِّي حمداً كثيراً طيباً مبارَكاً فيهِ علَى إنعامِهِ بطُلوعِ شمسِ الدينِ وبُزوقِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له؛ شهادةً يبلغُ بها العبدُ معرفةَ واجباتِهِ وحقوقِهِ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا ورسولَنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ؛ المرسَلُ بالهُدَى ودينِ الحقِّ لِيُظْهرَهُ علَى الدِّينِ كلِّهِ ويُقيمَهُ علَى سُوقِهِ، - صلى الله عليه وسلم -؛ وعلَى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ ما اهتزَّ غُصْنٌ بعروقِهِ، وما تجدَّدَ يومٌ بشروقِهِ.
…أمَّا بعدُ:
…فأوصِيكم ونفسِي مَعْشرَ العِبادِ؛ بتقْوَى البَرِّ الجوَادِ، فإنَّها خيرُ زادٍ؛ يَتزوَّدُ بهِ العبدُ إلى دارِ المعادِ.
…عبادَ اللهِ المؤمنينَ:(113/1)
…إنَّ الإحاطَةَ بِتَراجِمِ أعيانِ الأُمَّةِ مطلوبَةٌ، ولِذَوِي المعارِفِ محبوبَةٌ، فَفي مُدارسَةِ أخبارِهِمْ شِفاءٌ لِلْعَليلِ؛ وفي مُطالعَةِ أيامِهِمْ إرواءٌ لِلْغَليلِ.
…أَلا وإنَّ مِنْ أعلامِ الأُمَّةِ النُّبلاءِ؛ ومِنْ أعيانِ الوُلاةِ والخلفاءِ؛ الذي عانَقَتْ فضائِلُهُ عَنَانَ السماءِ: أبا حَفْصٍ؛ عمرَ بنَ الخطابِ بنِ نفيلٍ العَدوِيَّ القرشِيَّ - رضي الله عنه - وأرضَاهُ، أعزَّ اللهُ بهِ الإسلامَ، ونصرَ بهِ المِلَّةَ؛ فكانَ حقّاً مِنَ الأَئِمَّةِ الأعْلامِ، كما أخرجَ أحمدُ والترمذيُّ عَنْ عبدِاللهِ بنِ عمرَ بنِ الخطابِ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ بِأحبِّ هَذَيْنِ الرجلينِ إليكَ: بأبي جهلٍ؛ أوْ بعمرَ بنِ الخطابِ، وكانَ أحبَّهما إليهِ: عمرُ".
…أيُّها المؤمنونَ:
… إذا رُمْتُمْ معرِفَةَ شُموخِ هامَةِ عِلْمِهِ؛ ورُسوخِ قَدَمِ فهمِهِ: فاسمعوا تأويلَ رُؤْيا المنامِ؛ التي رآها خيرُ الأنامِ؛ عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأزْكَى السلامِ، فَقَدْ أخرجَ البخاريُّ عَنْ عبدِاللهِ بنِ عمرَ بنِ الخطابِ رضِيَ اللهُ عنهما قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"بَيْنا أنا نائمٌ أُتِيتُ بقَدَحِ لَبَنٍ، فشرِبْتُ حتَّى إنِّي لأَرَى الرِّيَّ ؟ يخرجُ في أظفارِي، ثمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عمرَ بنَ الخطابِ. قالوا: فما أوَّلْتَهُ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: العِلْمَ".
…عبادَ اللهِ:
…إنَّ مِنْ أماراتِ قُوَّتِهِ عِلْماً؛ وعلاماتِ حُجَّتِهِ فَهْماً: أنَّه كانَ مُحدَّثاً مُلْهَماً، فقَدْ أخرجَ البخاريُّ عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:" لقَدْ كانَ فِيمَنْ كانَ قبلَكُمْ مِنْ بَنِي إسرائيلَ رجالٌ يُكَلَّمونَ مِنْ غيرِ أنْ يكونوا أنبياءَ، فإنْ يكنْ مِنْ أُمَّتِي مِنْهُمْ أحَدٌ: فعمرُ ".(113/2)
…ومِنْ آثارِ هذا التحديثِ: ما صحَّ في الحديثِ، مِنْ قولِ عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه -: وافَقْتُ ربِّي في ثلاثٍ: فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ؛ لَوِ اتَّخذْنا مِنْ مَقامِ إبراهيمَ مُصلَّى،فنَزلَتْ: { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } { البقرة: 125 } . وآيةِ الحِجابِ، قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ؛ لَوْ أمَرْتَ نساءَكَ أنْ يَحْتَجِبْنَ، فإنَّهُ يُكلِّمُهنَّ البَرُّ والفاجِرُ، فنزلَتْ آيةُ الحِجابِ، واجتمَعَ نساءُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الغَيْرَةِ عليهِ، فقلْتُ لهنَّ: عسَى ربُّه إنْ طلقَكُنَّ أنْ يبدِلَهُ أزواجاً خيراً مِنْكنَّ، فنزلَتْ هذِهِ الآيةُ [أخرجَهُ البخاريُّ مِنْ حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه -].
…وهَذا التحديثُ والإلهامُ: ثمرةُ قِيامِهِ في الدِّينِ خيرَ قيامٍ، فقَدْ أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "بَيْنا أنا نائِمٌ؛ رأيتُ الناسَ يُعْرَضونَ وعلَيْهِم قُمُصٌ، مِنْها ما يبلغُ الثَّدْيَ، ومِنْها ما يبلغُ دونَ ذلِكَ، ومرَّ عمرُ بنُ الخطابِ وعليهِ قميصٌ يجرُّهُ. قالوا: ماذا أوَّلْتَ ذلِكَ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: الدِّينَ".
…معشرَ الإخوةِ الكِرامِ:(113/3)
…إنَّ عمرَ بنَ الخطابِ - رضي الله عنه -: مِنْ أشدِّ المؤمنينَ غَيْرةً في الدِّينِ، فقَدْ أخرَجَ الشيخانِ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "بَيْنا أنا نائِمٌ إذْ رأيتُنِي في الجنَّةِ، فإذا امرأةٌ تتوضَّأُ إلى جانبِ قصرٍ، فقلْتُ: لِمَنْ هذا القصرُ؟ فقالوا: لِعمرَ بنِ الخطابِ، فذكرْتُ غَيْرَةَ عمرَ، فولَّيْتُ مُدْبِراً. قالَ أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: فبكَى عمرُ - رضي الله عنه - ونحنُ جميعاً في ذلِكَ المجلسِ مَعَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ قالَ عمرُ: بأبِي أنْتَ يا رسولَ اللهِ؛ أعليكَ أغارُ؟".
…وقَدْ كانَ الشيطانُ يَفْرَقُ مِنْ اسمِهِ؛ وَيفِرُّ مِنْ رَسْمِهِ، فقَدْ أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه -قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفِسي بِيَدِهِ؛ ما لَقِيَكَ الشيطانُ قَطُّ سالِكاً فَجّاً: إلاَّ سَلَكَ فَجّاً غيَر فَجِّكَ".
…وحَسْبُ عمرَ بنِ الخطابِ مِنْ هذَا الثناءِ: قولُ خاَتمِ الأنبياءِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ كانَ بَعْدِي نَبيٌّ: لكانَ عمرَ بنَ الخطابِ" [أخرجَهُ أحمدُ والترمذيُّ مِنْ حديثِ عُقْبةَ بنِ عامِرٍ - رضي الله عنه -].
…بارَكَ اللهُ لي ولكمْ في الفُرقانِ والذِّكْرِ الحكيمِ، ووفَّقَنا للاعتصامِ بِه وبما كانَ عليهِ النبيُّ الكريمُ؛ عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأزْكَى التسليمِ؛ مِنَ الهَدْيِ القَوِيمِ؛ والصِّراطِ المستقيمِ.
… أقولُ ما تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ الغفورَ الحليمَ، لي ولكمْ مِنْ كلِّ ذَنْبٍ وحَوْبٍ فتوبوا إليهِ واستغفِروهُ، إنَّه هوَ التوَّابُ الرحيمُ.
……………الخطبة الثانية(113/4)
…الحمدُ للهِ الذي نشرَ بقدرتِهِ البشَرَ، وصرَّفَ القدَرَ بحكمِتهِ وقدَّرَ. أحمدُ ربيِّ حمداً كثيراً طيباً مبارَكاً فيهِ علَى أن أعز الإسلامَ بإسلامِ عمرَ. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له؛ شهادةَ صِدْقٍ تُرْغِمُ أنفَ كلِّ مَنْ كفَرَ. وأشهدُ أنَّ نبيَّنَا ورسولَنا مُحمدٌ المرسلُ إلى الناسِ كافةً مِنْ عُرْبٍ وعَجَمٍ وبَدْوٍ وحَضَرٍ. صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ؛ وعلَى آلهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ الميامِينِ الغُرَرِ، ما هَطَلَ الغَمامُ بوابِلِ المطرِ، وما هَدَلَ الحمامُ علَى أفْنانِ الشَّجَرِ.
…أمَّا بعدُ:
…فأوصِيكمْ مَعْشَرَ المسلمينَ بتقوَى المولَى، فتزوَّدوا بها لِأُخراكُمْ { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } { البقرة:197 } .
…مَعْشَرَ الفُضَلاءِ:(113/5)
…إنَّ هذا بعضُ ما أُثِرَ مِنْ فضائِلِ ثاني الخلفاءِ، وقَدْ غَبَطَ بعضُ الصحاَبةِ عمرَ رضِيَ اللهُ عَنْهمْ أجمعينَ علَى خِلالِهِ، وأثْنَوْا علَى خِصالِهِ، حتَى تَمنَّوْا أنْ يَلْقَوُا اللهَ تعالَى بِمثْلِ أعمالِهِ، فقَدْ أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ في قصَّةِ مَقْتلِهِ واستشهادِهِ عَنْ عبدِاللهِ بنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عنهما يقولُ: "وُضِعَ عمرُ بنُ الخطابِ علَى سريرِهِ، فتكنَّفَهُ الناسُ يَدْعونَ وَ يُثْنونَ ويصلُّونَ عليهِ قَبْلَ أنْ يُرْفَعَ - وأنا فيهم-، فلَمْ يَرُعْنِي إلاَّ برجلٍ قَدْ أخذَ بِمنكَبِي مِنْ ورائِي، فالتفتُّ إليهِ فإذا هوَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنه -، فترحَّمَ علَى عمرَ وقالَ: ما خلَّفْتَ أحداً أحبَّ إليَّ أنْ ألقَى اللهَ بمثلِ عملِهِ منْكَ، وايْمُ اللهِ؛ إنْ كنتُ لأظنُّ أنْ يجعلَكَ اللهُ معَ صاحِبَيْكَ، وذاكَ أنِّي كنتُ كثيراً أسمعُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "جِئْتُ أنا وأبو بكرٍ وعمرُ، ودخلْتُ أنا وأبو بكرٍ وعمرُ، وخرجْتُ أنا وأبو بكرٍ وعمرُ، فإنُ كنتُ لَأَرجُو أوْ لَأَظنُّ أنْ يجعلَكَ اللهُ مَعَهُما".
…فَالْزَمُوا معشَرَ المؤمنينَ: محبَّةَ الصحاَبةِ أجمعينَ، لا سيَّما وزيرَيْ خاتَمِ النبيِّينَ؛ وضَجيعَيْ قبرِ إمامِ المرسلينَ، قالَ محمدُ بنُ سيِرينَ رحِمَهُ اللهُ تعالَى:"ما أظنُّ رجلاً ينتقِصُ أبا بكرٍ وعمرَ يُحبُّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -" [أخرجَهُ الترمذيُّ].
…وَلْيَكنْ مِسْكَ الختامِ، معَشرَ الإخوةِ الكرامِ: ترطيبُ ألسنَتِكمْ بالصلاةِ والسلامِ، علَى خيرِ الأنامِ، امتثالاً لأمرِ الملكِ القدوسِ السلامِ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب: 56 } .(113/6)
…اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ، كما صلَّيْتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركتَ علَى إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، في العالمينَ، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ.
…وارْضَ اللهمَّ عَنِ الأربعةِ الخلفاءِ الراشدينَ؛ والأئمَّةِ الحنفاءِ المهديِّينَ، أُوليِ الفضْلِ الجَلِيِّ؛ والقَدْرِ العَلِيِّ: أبي بكرٍ، وعمرَ، وعُثمانَ، وعليٍّ، وارضَ اللهمَّ عَنْ آلِ نبيِّكَ وأزواجِهِ المُطَهَّرِينَ مِنَ الأرجاسِ، وصحابتِهِ الصَّفْوَةِ الأخيارِ مِنَ الناسِ.
…اللهمَّ اغفرْ لِلمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ. ونسألُكَ اللهمَّ حُبَّكَ، وحبَّ نبيِّكَ، وحبَّ صحابَةِ نبيِّكَ، اللهمَّ آمِنَّا في الوطنِ، وادفَعْ عنَّا الفِتَنَ والمِحَنَ؛ ما ظهرَ مِنْها وما بَطَنَ. اللهمَّ وفِّقْ ولاةَ أمورِنا لحملِ الأمانةِ، وارْزقْهمْ صلاحَ البِطانَةِ، واحْفظْهم مِنْ كَيْدِ أهْلِ البغْيِ والخِيانَةِ، ربنَّا آتِنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرةِ حسنةً؛ وقِنا عذابَ النَّارِ.
…عبادَ اللهِ:
اذكروا اللهَ ذِكْراً كثيراً، وكَبِّروهُ تكبيراً، وَأَقمِ الصَّلَاةَ { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } { العنكبوت: 45 } .
……… ……لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(113/7)
اطبع هذه الصحفة
ويؤثرون على أنفسهم
عِبادَ اللهِ:
…لَقدْ سجَّلَ التاريخُ أروعَ الأمثلَةِ، وأصدَقَ الشواهِدِ، وأخلَصَ الِعبَرِ مِنْ حياةِ الرعيلِ الأوَّلِ مِنْ سَلَفِنا الصالحِ رضوانُ اللهِ عليهمْ، الذينَ زيَّنوا صفَحاتِهِ بأوسِمَةِ الحُبِّ والإيثارِ، وقلَّدوا عُنقَهُ بقلائِدِ العزِّ والفَخارِ، وصاغوا علَى جَبينِهِ الأغرِّ صفحاتٍ مِلْؤُها الأُخوَّةُ الصادِقةُ والمحبَّةُ الفائِقَةُ، فإنَّ الدنيا لم تَرَ إيثاراً ارتفَعَ عَنِ الشهوةِ، ولا حُبّاً تعالَى عَنِ المنفعةِ؛ كالإيثارِ الذي عاشَهُ المؤمنونَ، والحبِّ الذي تبادَلَهُ المسلمونَ، فَهاهُمْ أُولاءِ المهاجرونَ الأولونَ يخرجونَ مِنْ دِيَارِهِمْ وأموالهِمْ يبتغونَ فضلاً مِنَ اللهِ ورِضْواناً، وينصرونَ اللهَ ورسولَهُ، فيستبشرُ إخوانهُمُ الأنصارُ بقدومِهمْ ويستقبلونهَمْ بِلهفةٍ عارِمَةٍ ومحبَّة صادقَةٍ بلغَتْ حَدَّ التنافُسِ بينَهُمْ في نَيْلِ شرَفِ استضافَةِ إخوتِهِمْ في الدِّينِ، ورفقاءِ خاتَمِ الأنبياءِ وإمامِ المرسلينَ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة بتاريخ
20 من جمادى الأولى 1427هـ الموافق 16/6/2006م
ويؤثرون على أنفسهم
…إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ، ونستعينُهُ ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فهوَ المهتدِ، ومَنْ يُضلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمران :102 } .
…أمَّا بعدُ:
…فأوصِيكمْ – عِبادَ اللهِ - ونفسِي بتقوَى اللهِ تعالَى، فإنَّها خيرُ زادٍ ليومِ المعادِ.
…معاشرَ المؤمنينَ الكرامِ:(114/1)
…ما أعظمَ أنْ يُحِبَّ المرءُ لأخيهِ ما يُحِبُّ لِنفسِهِ، وما أجملَ أنْ يشارِكَهُ في أحوالِهِ، كلِّها، فيحزنُ لحزْنِهِ وإذا سُرَّ يُسَرُّ، و يواسيهِ بمالِهِ إذا قلَّتْ ذاتُ يدِهِ وافتقرَ، ولكنَّ الأعظمَ مِنْ ذلِكَ أنْ يُؤثِرَ الإنسانُ غيرَهُ بالشيءِ وهوَ أحوجُ ما يكونُ إليهِ، وأنْ يبذلَ له مِنْ مالِهِ ووقتِهِ وجُهْدِهِ ما لا يبذلُهُ لنفسِهِ التي بَيْنَ جَنْبَيْهِ، ابتغاءَ مرضاةِ المولىَ الكريمِ سبحانَه وتعالَى؛ فيجوعُ لِيشبعَ أخوهُ، ويظمأُ لِيَرْوَى، ويسدُّ خَلَّتَهُ وحاجتَهُ ولَوْ بَقِيَ طاوِياً محتاجاً، فَهَذا - واللهِ- ذوحَظٍّ عظيمٍ، وخُلُقٍ كريمٍ، فلا أحدَ أكرمُ مِنْه في دنيا الناسِ ولا أسمَى، وله في مَراتِبِ الإيمانِ باللهِ تعالىَ المرتبةُ العُظْمَى، كما قالَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنه -: الإيثارُ أعلَى مراتِبِ الإيمانِ.
…عِبادَ اللهِ:
…لَقدْ سجَّلَ التاريخُ أروعَ الأمثلَةِ، وأصدَقَ الشواهِدِ، وأخلَصَ الِعبَرِ مِنْ حياةِ الرعيلِ الأوَّلِ مِنْ سَلَفِنا الصالحِ رضوانُ اللهِ عليهمْ، الذينَ زيَّنوا صفَحاتِهِ بأوسِمَةِ الحُبِّ والإيثارِ، وقلَّدوا عُنقَهُ بقلائِدِ العزِّ والفَخارِ، وصاغوا علَى جَبينِهِ الأغرِّ صفحاتٍ مِلْؤُها الأُخوَّةُ الصادِقةُ والمحبَّةُ الفائِقَةُ، فإنَّ الدنيا لم تَرَ إيثاراً ارتفَعَ عَنِ الشهوةِ، ولا حُبّاً تعالَى عَنِ المنفعةِ؛ كالإيثارِ الذي عاشَهُ المؤمنونَ، والحبِّ الذي تبادَلَهُ المسلمونَ، فَهاهُمْ أُولاءِ المهاجرونَ الأولونَ يخرجونَ مِنْ دِيَارِهِمْ وأموالهِمْ يبتغونَ فضلاً مِنَ اللهِ ورِضْواناً، وينصرونَ اللهَ ورسولَهُ، فيستبشرُ إخوانهُمُ الأنصارُ بقدومِهمْ ويستقبلونهَمْ بِلهفةٍ عارِمَةٍ ومحبَّة صادقَةٍ بلغَتْ حَدَّ التنافُسِ بينَهُمْ في نَيْلِ شرَفِ استضافَةِ إخوتِهِمْ في الدِّينِ، ورفقاءِ خاتَمِ الأنبياءِ وإمامِ المرسلينَ.(114/2)
… عبادَ اللهِ:
…لقَدْ آخَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينَ المهاجرينَ والأنصارِ أُخوةً قامَتْ ـ ولأوَّلِ مَرَّةِ في تاريخِ العربِ ـ مقامَ أُخوَّةِ الدمِ والنسبِ، قامَ الحبُّ والإيثارُ فيهم مقامَ العصبيَّةِ القبليَّةِ والحَمِيَّةِ الجاهِليَّةِ، فذابَتْ عصبيَّاتُ الجاهليَّةِ، وسقطَتْ فوارِقُ اللونِ والدمِ والوطنِ، ولمْ يبقَ إلا حميَّةُ الإسلامِ { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } { الأنفال: 63 } ومِمَّنْ آخَى بينَهمُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ وسعدُ بنُ الربيعِ رضِيَ اللهُ عنهما فقالَ سعدُ بنُ الربيعِ لعبدِ الرحمنِ: إنِّي أكثرُ الأنصارِ مالاً فاقْسِمْ مالِي نِصْفينِ، ولِيَ امرأتانِ فانظرْ أعجبَهُما إليكَ فسمِّها لِي أُطلِّقْها، فإذا انقضَتْ عدَّتُها فتزوجْها، فقالَ عبدُ الرحمنِ: باركَ اللهُ لَكَ في أهلِكَ ومالِكَ، دُلُّونِي علَى السوقِ.[أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ]. ولقَدْ صدَقَ فيهم قولُ الشاعِرِ:
… وَرِثُوا المكارِمَ كابِراً عَنْ كابرٍ إِنَّ الخِيارَ هُمُ بَنُو الأخيارِ
…وما سائِرُ مَنْ آخَى بينَهمُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المهاجرِينَ والأنصارِ إلاَّ مِثْلُهُم، فقَدْ عرضُوا علَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -أنْ يقسِمَ النخلَ بينَهْم وبَيْنَ إخوانِهمُ المهاجرينَ.
…معاشِرَ المؤمنينَ:(114/3)
وهذا مثالٌ رائِعٌ آخرُ، وصورةٌ مشرِقَةٌ ثانيةٌ تدلُّ علَى صِدْقِ الإيمانِ وخلوصِ المحبَّةِ والإيثارِ لَدىَ أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ روَى أبو هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ رجلا ً جاءَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: إنيِّ مجهودٌ - أيْ أصاَبهُ الجَهْدُ والمشقَّةُ مِنَ الجوعِ - فأرسلَ إلى بعضِ نسائِهِ فقالَتْ: والذي بعثَكَ بالحقِّ ما عندِي إلا ماءٌ، ثمَّ إلى أخرَى فقالَتْ مِثْلَ ذلِكَ، حتَّى قُلْنَ كلُّهنَّ مِثْلَ ذلِكَ: لا والذي بعثَكَ بالحقِّ ماعِنْدي إلا ماءٌ. فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ يُضِيفُ هَذا الليلةَ؟" فقالَ رجلٌ مِنْ الأنصارِ - وهوَ أبو طلحةَ-: أنا يا رسولَ اللهِ، فانطلقَ بهِ إلى رَحْلِهِ فقالَ لامرأتِهِ: أكْرِمِي ضيفَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وفي روايةٍ: هَلْ عِنْدَكِ شيءٌ؟ قالَتْ: لا، إلا قوتُ صِبْيانِي. قالَ: فَعَلِّلِيهمْ بشيءٍ وإذا أرادوا العَشاءَ فَنوِّمِيهمْ،
وإذا دَخَلَ ضيفُنا فأطفِئِي السِّراجَ وأَرِيهِ أنَّا نأكلُ، فقَعَدوا وأكلَ الضيفُ وباتا طاوِيَيْنِ، فلمَّا أصبحَ غَدَا علَى النبيِّ فقالَ:" لقَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ صَنِيعِكُما بضيفِكُما الليلةَ" فأنزلَ اللهُ { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { } الحشر:9 } [أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ].ومعنَى خَصَاصَةٍ، أيْ: حاجَةٌ.
وصدقَ قولُ الحقِّ فِيهمْ { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً { الإنسان:8 } .(114/4)
بَلْ إنَّ بعضَ الناسِ يَصِلُ بهِ الحالُ إلى الأسَى والحُزْنِ العميقِ إذا لم يَجِدْ ما يُؤْثِرُ بهِ أخاهُ الملهوفَ، أو جارَهُ الجائعَ، أوْ سائِلا ًيَتَكفَّفُ الناسَ قَدْ أعْيَتْهُ الحِيلَةُ ولَزِمَتْهُ الفاقَةُ، وَيَعُدُّ ذلِكَ مِنَ المصائِبِ النازِلةِ بهِ، كما قالَ الشافعيُّ رحمهُ اللهُ:
يا لَهْفَ نَفْسِي على مالٍ أُفَرِّقُهُ على المُقِلِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمُرُوءاتِ
إنَّ اعتذارِي إلى مَنْ جاءَ يَسْأَلُنِي ما ليسَ عِنْدِي لمَِنْ إحدى المصيباتِ
…بارَك اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ والسُّنَّةِ، ونفعَنا جميعاً بما فيهما مِنَ الهُدَى والحِكْمَةِ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ الكريمَ المنَّانَ ؛ فاستغفروهُ وتوبوا إليهِ، إنَّهُ هوَ أهلُ التقوَى والغُفْرانِ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ وكفَى، والصلاةُ والسلامُ علَى النبيِّ المصطفَى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ المجتَبَى، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وآصحابِهِ أهلِ الإيثارِ والوفَا، والتابعين لهم النُّجَبَاءِ الشُّرَفَا.
…أمَّا بعدُ:
…فاتقوا اللهَ - عِبادَ اللهِ - ما استطعتمْ؛ فإنَّ تقوَى اللهِ خيرُ ما قدَّمْتُمْ، وأفضلُ ما ادَّخَرْتُم.
…أيُّها المسلمونَ الأعِزَّةُ:
…إنَّ الإيثارَ طبعٌ كريمٌ، وخُلُقٌ عظيمٌ، لا يسكُنُ إلاَّ في النفوسِ المطمئنةِ بالإيمانِ، ولا يرسَخُ إلاَّ في القلوبِ العامرةِ بالتقوَى والعِرْفانِ، فينمُو بالرعايةِ، ويزدادُ بالعنايةِ، حتَّى يُصبِحَ خُلُقاً مِنْ أخلاقِ المؤمنِ بالمجاهدةِ والمصابَرةِ، والنظرِ والتأمُّلِ في حقيقةِ الدنيا الغابرةِ، مَع قُوَّةِ اليقينِ وشِدَّةِ المحبَّةِ والصبرِ على المشقَّةِ؛ ابتغاءَ رِضْوانِ اللهِ ونعيمِ الآخرةِ.
فَطُوبَى لِعَبدٍ آثرَ اللهَ ربَّهُ وجادَ بِدُنْياهُ لِما يَتَوقَّعُ(114/5)
…وقَدْ آثرَ الأنبياءُ - عليهمُ الصلاةُ والسلامُ - رِضا ربِّهم سبحانَه وتعالَى علَى كُلِّ أحدٍ، إذْ تجرَّدوا لِلدعوةِ إلى اللهِ تعالَى، واحتمَلُوا عَداوَةَ البعيدِ والقريبِ في اللهِ، ولمْ تأخُذْهُمْ في ذلِك لَومَةُ لائمٍ؛ حتَّى ظهرَ دِينُهمْ علَى كلِّ دِينٍ، وَعَلَتْ راياتُهمْ فوقَ كلِّ رايةٍ، وقامَتْ حُجَّتُهمْ علَى العالَمِينَ.
…واعلَموا أنَّ المجتمعَ الذي يسودُ فيهِ الإيثارُ، ويتعامَلُ بأخلاقِ الأخيارِ الأبرارِ؛ لَحَقِيقٌ أنْ ينالَ الرِّفعَةَ والسُّؤدَدَ، وأنْ يُحَقِّقَ السعادةَ والمجدَ، إنَّه مجتمَعٌ يجمعُ معانِيَ الإنسانيةِ - بَعدَ الركائِزِ الإيمانِيَّةِ - ويستَعْلِي علَى الأَثَرَةِ والأنانِيَّةِ، ويرْبَأُ بنفسِهِ عنِ الحياةِ المادِيَّةِ، التي تُفَضَّلُ فيها المصلحةُ علَى المبدإِ، وتُقَدَّمُ فيها الرغبةُ الشخصِيَّةُ علَى المُثُلِ الشَّرعيَّةِ، فأكْرِمْ بمجتمعٍ يعطِفُ فيهِ الكبيرُ علَى الصغيرِ، ويُوقِّرُ فيهِ الصغيرُ الكبيرَ، ويَرْأَفُ غَنِيُّهُ بالفقيرِ، ويُؤْثِرُ المرْءُ فيهِ أخاهُ الضعيفَ الكسيرَ، مجتمَعٌ لُحْمَتُهُ الإيمانُ وسَدَاهُ الإيثارُ.
…عبادَ اللهِ:(114/6)
…لا يَشُكُّ عاقِلٌ أنَّ مجتمعاً كَهذا سيبلغُ مِنَ الإيمانِ ذِرْوَتَهُ، ومِنَ اليقينِ قِمَّتَهُ، ومِنَ الحُبِّ غايَتَهُ، وسيجتمعُ علَى مائدةِ الإيمانِ، ويصدرُ عَن طاعةِ الْمَلِكِ الدَّيانِ، وبهذِهِ الأخلاقِ المباركةِ، والقِيَمِ المعظَّمَةِ تنعقدُ أقوَى الوشائِجِ بينَ أفرادِهِ مَهْما اختلَفَتْ أجناسُهُمْ، وتباعَدَتْ دِيارُهُمْ، وتَنَوَّعَتْ مصالِحُهمْ، وتفاوتَتْ لُغاتُهمْ؛ لِيُمَثِّلَ مجتمعَ المهاجرينَ والأنصارِ في الزمنِ الأوَّلِ مِنَ حياةِ هذِهِ الأُمَّةِ الخالِدَةِ، الذي أثْنَى اللهُ- عزَّ وجَلَّ- علَى مواقِفِ أهلِهِ فقالَ: { وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } { الحشر:9 } .
…اللهمَّ حِبِّبْ إلينا الإيمانَ وزيِّنْهُ في قلوبِنا، وكَرِّهْ إلينا الكُفْرَ والفسوقَ والعِصْيانَ واجعلْنا يا ربَّنا مِنَ الراشدِينَ، اللهمَّ اغفِرْ لِلمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ, واجعلْ عملَهما في رِضاكَ، اللهمَّ احفظْهما بحفظِكَ, واكلأْهما بِرعايَتِكَ, وألبِسْهما ثوبَ الصحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهمَّ اجعلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتقبَّلِ اللهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(114/7)
اطبع هذه الصحفة
لا تحقرن من المعروف شيئاً
ان اسمى الغايات وأنبل المقاصد، أن يحرص الأنساب على الخير، ونسارع إليه وبهذا كتبوا انسانيته وتشبه بالملائكة، يخلق أخلاق الله القادر بعباده الرحيم بخلقه ومن ثم فإن الله سبحانه يأمر بفعل الخيرات والمسالقة إليها فيقول: ولك وجهة هو موليها فاسفتقوا الخيرات إينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً أن الله على كل شىء قدير [البقرة: 148] أي أن عامات الناس مختلفة وأهدافهم شىء، فمنهم من تتحكم فيه الشهوات البدنية ومنهم من تتحكم فيه الشهوات النفسية، أما الإسلام فإنه يجعل وجهة المسلم متجهاً إلى فعل الخير والمسابقة إليه دائماً وحذا أكثر الله سبحانه في الدعوة غلى الخير فقال: وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين [النبياء: 73] وجعل جزاءه الحق فقال:{وما تقدموا لأنفسهم من خير تحيروه عند الله هو خيراً واعظم أجراً} [المزمل: 20].
والله سبحانه يوازن بين مباهج الدنيا ومفاتنها وبين المثل العليا ويبين أن الفضائل أبقى أثراً واعظم ذجراً وخير له في الدنيا والآخرة بقوله سبحانه: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً} [الكهف].
لا تحقرن من المعروف شيئاً
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصحه للأمة مكشف به الغمة وجاهدوا في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين فاللهم أجزه عنا خير ما جزيت نبينا عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته وصل اللهم وسلم وزوبارك علي وعلى أصحابه واحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتضى أثره إلى يوم الدين أما بعد:
أيها المسلمون:(115/1)
ان اسمى الغايات وأنبل المقاصد، أن يحرص الأنساب على الخير، ونسارع إليه وبهذا كتبوا انسانيته وتشبه بالملائكة، يخلق أخلاق الله القادر بعباده الرحيم بخلقه ومن ثم فإن الله سبحانه يأمر بفعل الخيرات والمسالقة إليها فيقول: ولك وجهة هو موليها فاسفتقوا الخيرات إينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً أن الله على كل شىء قدير [البقرة: 148] أي أن عامات الناس مختلفة وأهدافهم شىء، فمنهم من تتحكم فيه الشهوات البدنية ومنهم من تتحكم فيه الشهوات النفسية، أما الإسلام فإنه يجعل وجهة المسلم متجهاً إلى فعل الخير والمسابقة إليه دائماً وحذا أكثر الله سبحانه في الدعوة غلى الخير فقال: وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين [النبياء: 73] وجعل جزاءه الحق فقال:{وما تقدموا لأنفسهم من خير تحيروه عند الله هو خيراً واعظم أجراً} [المزمل: 20].
والله سبحانه يوازن بين مباهج الدنيا ومفاتنها وبين المثل العليا ويبين أن الفضائل أبقى أثراً واعظم ذجراً وخير له في الدنيا والآخرة بقوله سبحانه: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً} [الكهف].
( 2 )
والخير الذي ندب الله اليه، ينتظم كل بر، وشمل كل عمل صالح. فطاعة الله خيراً ـ وممارسة الفضائل خير، والأخلاص والنية الطيبة خير، والأحسان إلى الناس خير وبر ذوي القربى خير، وكل عمل ينهض بالفرد ويرقى بالجماعة فهو خير، والفطر السليم تهتدي إلى الخير وتشعر به وكلما تحتاج إلى من يبصرها به أو بدلها عليه اذ الخير هو الكمال الذي تنشده وتشعر به.(115/2)
والدلالة على الخير وارشاد الإنسان غيره إلى الحق لا يقل أهمية عن ممارسة الخير يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "من دل على خير فله ومثل أحد فاعله" [رواه مسلم] ويقول "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير حجر النعم" والطيبة والسماحة والرحمة والكلمة الطيبة كل أولئك من مظاهر إرادة الخير للمقتف بها يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [إن هذه الأخلاق من الله] فمن أراد الله به خيراً، منحه خلقاً حسناً وإذا أرد الله به سوءاً منحه خلقاً سيئاً [رواه الطبراني في الأوسط].
وكسب الرجل وعمله بيده خير، ومواساة غيره خير يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده. [رواه البخاري].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [لا يغرس المسلم غرساً ولا يزرع مسلماً زرعاً، فيأكل منه إنسان، ولا دابة، ولا شىء إلا كانت له صدقة. [رواه البخاري ومسلم].
والله سبحانه يحاسب المرء على قدر الذرة في الخير والشر . {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} الزلزن وكل معروف يقدم إلى الناس فهو مما يرضى الله كبيراً أو صغيراً يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلق أخاك بوجه طلق" [رواه مسلم] وكل أذى يماط عن طريق المسلمين فهو من البر الموجب للمغفرة. يقول صلوات الله وسلامه عليه: "عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط على الطريق" [روه مسلم] [كمقاط، يزال ومن أنواع الخير ما ذكره صلوات الله وسلامه عليه في قوله: "طوبي لمن طاب كسبه، وصلحت سريرته، وكرمت علانيته، وعزل عن الناس شره طوبى لمن عمل بعلمه، وانفق لفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله] [رواه الطبراني].
أيها المسلمون:(115/3)
إن القيام بالخير والنهوض بأعبائه، يحتاج إلى ترويض وتعويد حتى تألفه النفس، وسهل عليها ممارسته، وإن المران على الخير منذ الصغر وأخذ النشىء به مما يرسى دعائمه وتثبيت قوائمه وقد امر الإسلام أن نربي الأبناء على الفضائل الإسلامية، ونعودهم على اداء الواجبات الدينية منذ الحداثة، حتى ينشأوا وقد اصطبغوا بصبغة الإسلام وانطبعوا به وينشأ ناشىء منا000 على ما كان عوده أبوه.
والمبادرة إلى الخير، والمسابقة إليه، مما ينتدب إليه الإسلام، ويرغب فيه، حتى تكون رصيداً يسمو بالأنسان، ويصل به إلى أقصى درجات والوقت هو الفرص الذهبية، التي وهبها الله للإنسان ليعمرها بالخير والصلاح، يقول رب العزة جل وعلا الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً" [الملك: 2] فإذا فرط في النهوض بالعمل الصالح وقصر في أداء الواجب قصد غريب حتى نفسه لغبن فاحش وخسارة لا تعوض أياته قال الله تعالى: {والعصر إن الإسنان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر] وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون منهما كثير من الناس الصحة والفراغ" [رواه البخاري].(115/4)
وقد تعرض الموانع الصادقة للإنسان عن ممارسة الخير، وتمر فتن كثيرة تحول بينه وبين القصد إليه ومن واجب المسلم الحق أن يبارك هذه الموانع، وتستق هذه الفتن، متى هيأت له الأسباب وتفتحت أمامه الأبواب، يقول حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: "بادروا بالأعمال الصالحة، فستطون فتن لقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسى كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، بيع دينه بعرض من الدنيا" (رواه مسلم) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بادروا بالأعمال سبعاً هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غي مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هزماً مفضلاً، أو موتاً محهزاً، أو الرجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أو هي وأمر" [رواه الترمذي] وخير الأعمال ما قام به المرء وهو في عافية من البدن، ووفرة من المال، وإقبال من الدنيا، وأمل في الحياة، فإن ذلك دليل إيثار ما عند الله، ومظهر الوعي الديني ويقظته، [سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: أن تصيرق وأنت صحيح شجيع تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم" أي بلغت الروح الحلقوم وذلك عند الاحتضار" فلتر: لغلاف كذا ولغلات كذا "المقصود أنه يوصى في هذه الحالة بالخير حيث لا ننفعه إلا هو" وقد كان لغلات لذا [رواه البخاري ومسلم] أيها المسلون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في نفسه مثلاُ على في المسارعة إلى الخير عن أبي سروعة رضي الله عنه قال: [صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلم، ثم قام مسرعاً، فتخى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائية، فقرع الناس من سرعته ! فخرج عليهم فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته، قال: ذكرت شيئاً من يبر عندنا فكرهت أن يجيبني فأمرت تقسيمتها [رواه البخاري] وكان أصحابه رضوان الله عليهم على نهجه، فلم يحجمواعن فكرمه، أو بقصر واعي غاية كانوا يتسابقون إلى الموت في سبيل الله راجين بتلك(115/5)
الشهادة، قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال في الجنة، فألقى ثمرات كن في يده تكد قاتل حتى قتل. وفي غزوة تبوك تخلف أبو خيثمة، فلم يخرج مع الجيش، وكان له زوجان، فلما رأى تخلفه وتقاعده قال: رسول الله في الحر، وأبو خيثمة في ظل ظليل، وماء بارد، وأمرأة حسناء!! ما هذا بالنصف؟ والله لا أدخل عريشة واحدة منكما حتى ألحق رسول الله، فهيئا لي زاداً، ثم ادخل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، وخرج في جلب رسول الله حتى أدركه بارك الله لي وبكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما تتلوه من الا]ات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(115/6)
اطبع هذه الصحفة
أداء الأمانة
عبادَ الله:
…وليستِ الأمانةُ مقصورةً في معناها على حفظِ الأشياءِ المادِّيةِ فحسْبُ, بل هي أشملُ مِنْ ذلكَ وأعمُّ؛ إذْ هيَ تشملُ الأمورَ الحِسيةَ والمعنوية, فالعدْلُ بينَ الرعيةِ والأولادِ والزوجةِ وغيرِهم مِنَ الأمانة, وقولُ كلمةِ الحقِّ حيثُما كانتْ مِنَ الأمانة, والشهادةُ والتزكيةُ للناسِ مِنَ الأمانة, والمحافظةُ على أعراضِ الناس وحُرُماتِهم وأخلاقِهم مِنَ الأمانة, وبالجُملةِ: فحِفظُ الدِّينِ بكلِّ ما فيه مِن أوامرَ وزواجرَ, هو مِن الأمانةِ التي استرعانا اللهُ تعالى إياها, وعلى هذا فُسِّر قولُ المولى عز وجل في كتابِهِ العزيز: { إنا عَرَضْنا الأمانةَ على السمواتِ والأرضِ والجبالِ فَأَبَيْنَ أن يَحْمِلْنَها وأَشْفَقْنَ مِنْها وحمَلَها الإنسانُ إنّهُ كان ظَلومًا جهولا } { الأحزاب:72 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ27من جمادى الأولى 1427هـ الموافق23/6/2006م
أداء الأمانة
الحمدُ للهِ الذي عظّمَ شأنَ الإخلاصِ والصِّدْقِ والأمانةِ, وشنّعَ أمرَ النفاقِ والكذبِ والخيانةِ, وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك لهُ أَمَرَ بكلِّ ما فيه السعادةُ والسلامة, وأشهد أنّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ بلَّغَ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصحَ لأُمّةِ الكرامةِ, فصلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه وعلى آله وصحبِهِ والتابعينَ بإحسانٍ إلى يومِ القيامة.
أما بعد:
فأوصيكُمْ – عبادَ اللهِ – ونفسي أوّلاً بتقوى اللهِ تعالى؛ فإنها وصيتُهُ سبحانَهُ للأولينَ والآخِرين قال تعالى: { ولقد وصّينا الذينَ أوتوا الكتابَ مِنْ قبلِكُمْ وإيّاكُمْ أنِ اتّقوا الله } { النساء:131 } .
…أيها المسلمون:(116/1)
إِنَّ مِن مكارمِ الأخلاقِ وأعظمِ الصفاتِ التي دعا إليها دينُنا الحنيفُ: حِفْظَ الأمانةِ وأداءَها إلى أصحابِها, فقال المولى عزَّ وجلَّ في كتابِهِ الكريم: { إنّ اللهَ يأمرُكُمْ أن تؤدّوا الأماناتِ إلى أهلِها وإذا حكَمْتُمْ بينَ الناسِ أن تَحْكُموا بالعدلِ إنَّ اللهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنّ اللهَ كان سميعًا بصيرا } { النساء:58 } .
…وبَيَّنَ لنا رسولُنا الأمينُ - عليه أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليمِ – أنَّ خيانةَ الأمانةِ إنما هيَ مِنْ صفاتِ المنافقينَ, فقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: "آيةُ المنافقِ ثلاثٌ: إذا حَدَّثَ كذَب, وإذا وَعَدَ أَخلَف, وإذا اؤْتُمِنَ خان"[متفقٌ عليه].
…ولهذا أَمَرنا - صلى الله عليه وسلم - بِعَدَمِ خيانةِ مَنْ خاننا, فعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -, عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أَدِّ الأمانةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَك, ولا تَخُنْ مَنْ خانك" [أخرجهُ أبو داودَ والتِّرمذي].
…وبهذا أُمِر رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قِبَلِ ربِّه ومولاه؛ حتى مع المشركينَ الكافرينَ, فقال تعالى: { وإما تخافنَّ مِنْ قومٍ خيانةً فانبِذْ إليهمْ على سواءٍ إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الخائنين } { الأنفال:58 } .(116/2)
…ولَقَدْ أخبرَنا رسولُنا الكريمُ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سيأتي يومٌ تُرفعُ فيه الأمانةُ, فعن حُذيفةَ ابنِ اليمانِ رضي اللهُ عنهما قال: حدَّثنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حديثَيْنِ قد رأيتُ أحدَهما, وأنا أنتظرُ الآخَر: حدّثنا أنَّ الأمانةَ نزلَتْ في جَذْرِ قلوبِ الرجال, ثم نزلَ القرآنُ فعَلِموا مِن القرآن وعلِموا مِن السُّنة, ثم حدّثنا عن رفعِ الأمانةِ فقال: " ينامُ الرجلُ النومةَ فتُقبضُ الأمانةُ مِنْ قَلْبِهِ فيظلُّ أثرُها مثلَ الوكْت" [ وهو الأثر اليسير] إلى أن قال - صلى الله عليه وسلم -: " فيُصْبِحُ الناسُ يتبايعون, فلا يكادُ أحدٌ يؤدي الأمانةَ حتى يقالَ: إنَّ في بني فلانٍ رَجُلاً أمينًا, حتى يقالَ للرجل: ما أجلَدَهُ ما أظرفَهُ ما أعقَلَه ! وما في قلبه مثقالُ حبةٍ مِن خردلٍ مِن إيمان " [متفقٌ عليه].
…عبادَ الله:
…وليستِ الأمانةُ مقصورةً في معناها على حفظِ الأشياءِ المادِّيةِ فحسْبُ, بل هي أشملُ مِنْ ذلكَ وأعمُّ؛ إذْ هيَ تشملُ الأمورَ الحِسيةَ والمعنوية, فالعدْلُ بينَ الرعيةِ والأولادِ والزوجةِ وغيرِهم مِنَ الأمانة, وقولُ كلمةِ الحقِّ حيثُما كانتْ مِنَ الأمانة, والشهادةُ والتزكيةُ للناسِ مِنَ الأمانة, والمحافظةُ على أعراضِ الناس وحُرُماتِهم وأخلاقِهم مِنَ الأمانة, وبالجُملةِ: فحِفظُ الدِّينِ بكلِّ ما فيه مِن أوامرَ وزواجرَ, هو مِن الأمانةِ التي استرعانا اللهُ تعالى إياها, وعلى هذا فُسِّر قولُ المولى عز وجل في كتابِهِ العزيز: { إنا عَرَضْنا الأمانةَ على السمواتِ والأرضِ والجبالِ فَأَبَيْنَ أن يَحْمِلْنَها وأَشْفَقْنَ مِنْها وحمَلَها الإنسانُ إنّهُ كان ظَلومًا جهولا } { الأحزاب:72 } .
والأمانةُ هنا: راجعةٌ إلى جميعِ التكاليفِ الشرعيةِ التي مَنْ قامَ بها أُثيبَ, ومَنْ تَرَكَها عوقبَ, فَقَبِلَها الإنسانُ على ضعفِهِ وجهلِهِ وظُلْمِهِ.(116/3)
…والأمانةُ- أيُّها المسلمونَ – مِنَ الأخلاقِ المجيدةِ, والصفاتِ الأكيدةِ, التي يجبُ أن تكونَ متحققةً فيمَنْ يتولىّ أمرَ المسلمينَ, فيكونَ صادِقًا مُخْلِصًا, يُقَدِّمُ المصلحةَ العامّةَ على مَصلَحتِه الشخصيةِ أو الفئوية, وأنْ تتحقَّقَ فيهِ صفةٌ أخرى كذلك وهي القوة؛ بأن يكون كفئًا قادرًا على تحمل المسؤولية, كما ذَكَرَ اللهُ عزّ وجلَّ في قولِ إحدى ابنتيِ الرجلِ الصالحِ لأبيها عَنْ موسى عليه الصلاةُ والسلامُ: { يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خيرَ مَنِ استأجرْتَ القويُّ الأمين } { القصص:26 } , ولَنْ يَنجُوَ المسلِمُ الذي يَنْتَخِبُ مِنَِ المسؤوليةِ أمامَ الله تعالى إلاّ إذا قامَ بالاختيارِ على هذا الوجهِ الصحيح.
…ومِن حِفْظِ الأمانةِ – عبادَ اللهِ – أنه لا يجوز لأيٍّ مِن الناخبينَ أن ينقلَ اسمَهُ نقْلاً صوريًّا غيرَ حقيقيٍّ مِن منطِقَتِهِ الانتخابيةِ إلى منطقةٍ انتخابيةٍ أخرى؛ لأنه نوعٌ من التزوير يخالف الأمانةَ فهو محرّم.
…أيها المؤمنون:
…أَلاَ وإنَّ مِن أخطرِ الخطَرِ, وأفظعِ الشَّرَرِ: انتشارَ الرّشوةِ بين أفرادِ المجتمعِ؛ فإنها مِن أعظمِ صُوَرِ تضييعِ الأمانة التي أمرنا اللهُ تعالى بحفظِها, فهي سببٌ للتنازلِ عنِ الحقوق, وأداةٌ لشراء ذِمَمِ الناس, وطريقٌ فجٌّ لهدْمِ الدُّنيا والدِّين, فالذي يشتري ضمائرَ الناسِ يبيعُ ضميرَه, والذي يُغري الناسَ بمالٍ أو جاهٍ ونحوِهما يبيعُ وطنَه ومجتمَعَه.
… ومِنْ أجْلِ هذا, فقد كانتِ الرشوةُ في الإسلامِ مِن كبائرِ الذنوبِ والآثامِ, وعظائمِ الجرائمِ والأوزارِ, وهي كذلك في قانونِ البشرِ, وقد جاءَ النَّصُّ النبويُّ في هذا حاسمًا قاطعا, وواضحًا ساطعا, لا يقبل تحريفًا ولا تأويلا, فقال ثوبانُ - رضي الله عنه -: "لَعَنَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الراشِيَ والمرتشيَ والرائِشَ ", يعني: الذي يمشي بينهما. [أخرجه أحمد].(116/4)
…وحَذارِ أيُّها المسلمونَ مِن تسميةِ الأشياءِ بغيرِ اسمِها؛ فإنَّ العبرةَ بحقيقةِ الأمرِ ومَخْبَرِه, وإنْ زُيِّنَ في شَكْلِهِ ومظهرِه, فتسميةُ الرشوة بالهديّةِ أوِ العطيةِ, أو المساعدةِ أو الإعانةِ, أو غيرِ ذلك من الأسماء: لا تخفى على جبّارِ الأرضِ والسمواتِ, وعالمِ الظواهرِ والمكنوناتِ, وإنَّ إغراءَ المرشَّحِ للناخبِ بشيءٍ مِنَ المالِ أو المنفعةِ مقابلَ إعطائِهِ صوتَه هو صورةٌ مِنْ صُوَرِ الرشوةِ المحرَّمة, كما لا ينبغي للمرشَّحِ أنْ يأخُذَ على الناخبِ عهدًا أو ميثاقًا أو قَسَمًا بأنْ يُعطِيَه صوتَه.
…ومما يَجدُرُ التنبيهُ عليه في هذا الموضوع: أنه لا يجوزُ لأحدٍ أنْ يُجْبِرَ غيرَهُ على انتخابِ أيِّ مرشَّحٍ, سواءً أكانَ رَجُلاً أمِ امْرأةً, بَلْ إنَّ لِكُلِّ ناخبٍ الحُريَّةَ التامَّةَ في اختيارِ مَنْ يراه كُفْئًا لِشَغْلِ هذا المنصبِ المُهِمّ؛ لأن الانتخابَ يُعَدُّ شهادةً وتزكيةً.
…باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم, ونفعني وإياكمْ بما فيه مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ, أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ فاستغفروهُ إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ الذي خَلَقَ الإنسانَ وعلَّمَهُ البيانَ, وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مَنَحَ الإنسانَ مِن نِِعَمِهِ وبِرِّهِ فصاحةَ اللسانِ, وأشهد أن محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ حذّرَنا مِن فُحْشِ الكلامِ والبُهْتانِ, اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ وعلى آله وأصحابِهِ أهلِ الذِّكْرِ والقرآن, وعلى مَنْ تَبِعَهُمْ إلى يوم القيامةِ بإحسان.
…أما بعد:
…فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ تعالى حَقَّ تقواه, واعملوا بطاعَتِهِ ورِضاه.
…أيها المسلمون:(116/5)
…اعلموا – رحمني اللهُ وإيّاكم – أنَّ المسلمَ مسؤولٌ عن سمعِهِ وبصرِهِ ولسانِهِ يومَ القيامة, فإمّا الربحُ والكَرامةُ, وإمّا الخسارَةُ والنّدامةُ, قال اللهُ تعالى: { ولا تَقْفُ ما ليس لكَ بِهِ علمٌ إنَّ السمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنهُ مسؤولا } { الإسراء:36 } ,وفي ذلك اليوم تَشْهَدُ الجوارحُ والألسِنةُ على صاحبِها قال تعالى { يومَ تَشْهَدُ عليهمْ ألسنتُهُمْ وأيدِيهِمْ وأرجلُهُمْ بما كانوا يعملون } { النور:24 } .
…فعلى المسلمِ في كلِّ وقتٍ وحينٍ: أن يَحفظَ سمعَهُ ولسانَهُ عنِ الغيبةِ والنميمةِ, والسَّبِّ والتجريحِ, والكذبِ والافتراءِ, وعن كلِّ كلامٍ محرَّم, وأن لايَنْقُلَ كلَّ كلامٍ يَسْمَعُهُ؛ فإنَّ مَنْ صَنَعَ ذلك وقعَ في الخطإ لا محالةَ؛ لأنَّ الأخبارَ لا تخلو غالبًا مِنَ الكذبِ, ولهذ قال رسولُنا الكريمُ - صلى الله عليه وسلم -: " كفى بالمرءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بكلِّ ما سَمِع " [أخرجه مسلم].
… عبادَ الله:
…إنَّ أَعْظَمَ الأعضاءِ خطرًا على الإنسان: الفَرْجُ واللِّسَان, ومَنْ ضَمِنَ حِفْظَهُما ضَمِنَ لهُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الجنةَ, ولمّا أَخَذَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِلِسانِهِ وقال لمعاذٍ:" كُفَّ عليك هذا ", قال: يا نَبِيَّ اللهِ: وإنّا لمؤاخَذونَ بما نَتَكَلَّمُ به ؟! فقال: " ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! وهلْ يَكُبُّ الناسَ في النارِ على وجوهِهِمْ – أو قال: على مناخِرِهِمْ – إلا حصائدُ ألسنتِهِمْ ؟!" [أخرجه التِّرمذي].(116/6)
…وعلى المسلمِ - كذلك - أنْ يَعْلَمَ أنّ الاختلافَ بينَ الناسِ أَمْرٌ واردٌ, وأنَّ عقولَ البشرِ متفاوتةٌ, وأنَّ المطلوبَ مِنَ المسلمِ إذا خالفَ غيرَه أنْ يُراعيَ أدبَ الخلافِ والحِوارِ, فلا يجادلْ إلا بالتي هي أحسنُ, فلا يَسُبَّ ولا يستهزئَ ولا يفتري, ولا يَحْمِلَ الناسَ إلا على محامِلِ الخيرِ ما دامَ يَجِدُ لذلك سبيلا, فيحفظَ فؤادَهُ مِنْ سوءِ الظَّنِّ, كما أمرَ الله تعالى بقولِهِ: { يا أيُّها الذين آمنوا اجْتَنِبُوا كثيرًا مِنَ الظَّنِّ إنَّ بعضَ الظَّنِّ إثم } { الحجرات:12 } .
…فَلْيَجتهدِ العاقلُ في حفظِ لسانِهِ, ولْيَتَّقِ اللهَ تعالى في نفسِهِ وجَنانِهِ, ولْيُراعِ حروفَهُ وكلماتِهِ, ولْيَحْذَرْ مِنْ زَلَلِهِ وهَفَواتِهِ؛ فإنَّ اللهَ مع المتقين.
… إذا رُمْتَ أنْ تَحيا سليمًا مِن الرَّدَى ودِينُكَ موفورٌ وعِرْضُكَ صَيِّنُ
… فلا يَنْطِقَنْ منكَ اللسانُ بسَوْأةٍ فكلُّكَ سوآتٌ وللناسِ ألسُنُ
… وعَينُكَ إِنْ أبدتْ إليكَ معائبًا فدَعْها وقلْ يا عَيْنُ للناسِ أَعْيُنُ
… وعاشِرْ بمعروفٍ وسامحْ مَنِ اعتدى ودافِعْ ولكنْ بالتي هي أحسنُ
…اللهم سَدِّدْ ألسنتَنا, وتقبَّلْ توبتَنا, واغْسِلْ حَوْبَتَنا. اللهم أَرِنا الحقَّ حقًّا وارزقْنا اتِّباعَه, وأرِنا الباطلَ باطلاً وارزقْنا اجتنِابَه. اللهمَّ أَصْلِحْ لنا بَلَدَنا مِنْ رُعاةٍ ورَعِيَّةٍ, وأَبْعِدْ عنّا الفِتَنَ والشرورَ وكلَّ رَزِيَّة, واجعلِ اللهُمَّ هذا البلدَ آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمين, وتقبل اللهُمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعين.
…اللهم اغفر
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(116/7)
اطبع هذه الصحفة
التقوى هاهنا
:أيُّها المؤمنونَ
…علينا أنْ نفقَهَ حقيقةً عُظْمَى, ونُدرِكَ دقيقةً كُبرَى, وهِىَ أنَّ محلَّ التقوَى الحقيقيَّ إنمَّا هُوَ في القلبِ, كَما بيَّنَ ذلِكَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حينَ قالَ في الحديثِ الذي أخرجَهُ مسلمٌ في صحيحِهِ: " فالتقوَى ها هُنا " ويشيرُ إلى صدرِهِ ثلاثَ مراتٍ.
والقلبُ – عِبادَ اللهِ – عليهِ مدارُ صَلاحِ أعمالِ المرْءِ أوْ فَسادِها؛ لأنَّ القلبَ هوَ المَلِكُ, وبقيَّةَ الأعضاءِ جنودُهُ, وإنَّما يكونُ الجنودُ تَبَعًا لِلمَلِكِ, كما قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديثِ المتفَّقِ علَى صِحَّتِهِ: " أَلا وإنَّ في الجسدِ مضغةً, إِذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجسدُ كلُّهُ, وإذَا فَسَدَتْ فسدَ الجسَدُ كلُّه, أَلا وهِيَ القَلْبُ ".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة بتاريخ
5 من جمادى الآخرة 1427هـ الموافق 30/6/ 2006م
التقوى ها هنا
…إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ, ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنا. مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له, ومَنْ يُضلِلْ فلا هادِيَ له, وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له, وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ, صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِهِ وسلَّمَ.
… أمَّا بعدُ:
…فأوصِيكُمْ - عِبادَ اللهِ - ونفسِي بتقوَى اللهِ تعالَى وطاعتِهِ؛ فهيَ وصيَّةُ اللهِ للأولينَ والآخِرينَ, قالَ سبحانَه: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ } { النساء:131 } .
…أيُّها المسلمونَ:(117/1)
…ما أكثرَ الآياتِ القرآنيةَ العظيمةَ, والأحاديثَ النبويَّةَ الكريمةَ, التي تأمرُنا بتقوَى اللهِ سبحانَهُ وتعالَى, وتبيِّنُ لنا عاقبتَها الحميدةَ, وثمرتهَا الرغيدةَ, فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } { الأحزاب:70 - 71 } ، وعنْ أبي ذرٍّ- رضي الله عنه -قالَ:قالَ لي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "اتقِ اللهَ حيثُما كنْتَ,وأتْبِعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُهَا,وخالقِ الناسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ"[أخرجَهُ أحمدُ وأبوداودَ والترمذيُّ].
وسُئِلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أكثرِ ما يدخِلُ الناسَ الجنَّةَ فقالَ: " تقْوَى اللهِ, وحُسْنُ الخُلُقِ" [أخرجَهُ الترمذيُّ].
…فيا عِبادَ اللهِ: ما هِيَ التقْوَى؟ وما معناها؟ قالَ أبو هريرةَ - رضي الله عنه - لمَِنْ سألَهُ عَنِ التقْوَى: هَلْ أخذتَ طريقًا ذا شَوْكٍ ؟ قالَ: نَعَمْ. قالَ: فكيفَ صَنَعْتَ؟ قالَ: إذا رأيتُ الشوكَ عَدَلْتُ عَنْه أوْ جاوَزْتُهُ أوْ قَصَرْتُ عَنْه. قالَ: ذاكَ التقوَى. وقَدْ أخذَ بعضُهمْ هذا المعنَى فصاغَهُ شِعْرًا فقالَ:
…… … خَلِّ الذنوبَ صغيرَها وكبيرَها فهُوَ التُّقَى
…… … واصنعْ كَماشٍ فوْقَ أرْضِ الشَّوكِ يَحْذَرُ ما يَرَى
……… لا تحقِرنَّ صغيرةً … إنَّ الجِبالَ مَِن الحصَى
…وقالَ عليٌّ - رضي الله عنه - في بيانِ معنَى التقوَى: الخوفُ مِنَ الجليلِ, والعَمَلُ بالتَّنزيلِ, والأخْذُ بالقليلِ, والاستعدادُ لِيومِ الرَّحيلِ، فتقوَى اللهِ سبحانَهُ تَعْنِي اتقاءَ عذابِهِ وغضبِهِ, وإنَّما يكونُ ذلِكَ بِفعلِ المأمورِ, واجتنابِ المحظورِ.(117/2)
…ومِنْ أعظَمِ خِصالِ التقْوَى: ما ذكرَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ في كتابِهِ الكريمِ حينَ قالَ: { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } { البقرة:177 } .
… وَلْْنعلَمْ – عِبادَ اللهِ – أنَّ التقْوَى لا تتحقَّقُ للإنسانِ مَهْما كانَ يعملُ مِنْ نوافِلِ الأعمالِ وتطوُّعِها, إذا كانَ يُصِرُّ علَى تَرْكِ الواجباتِ أوْ فِعْلِ المحظُوراتِ؛ إذْ إنَّها أهمُّ وأعظمُ, وهِيَ الأصلُ والأساسُ, قالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ– رحمَهُ اللهُ -: ليستِ التقوَى قيامَ الليلِ وصيامَ النهارِ والتخليطَ فيما بيْنَ ذلِكَ, ولكنَّ التقْوَى أداءُ ما افترضَ اللهُ, وتركُ ما حَرَّمَ اللهُ, فإنْ كانَ مَعَ ذلِكَ عَمَلٌ فهوَ خيرٌ إلى خيرٍ. وقالَ ابنُ عمرَ - رضِيَ اللهُ عَنْهما -: لَرَدُّ دانقٍ مِنْ حرامٍ أفضلُ مِنْ مائةِ ألفٍ تُنْفَقُ في سبيلِ اللهِ.
…أيُّها المؤمنونَ:
…علينا أنْ نفقَهَ حقيقةً عُظْمَى, ونُدرِكَ دقيقةً كُبرَى, وهِىَ أنَّ محلَّ التقوَى الحقيقيَّ إنمَّا هُوَ في القلبِ, كَما بيَّنَ ذلِكَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حينَ قالَ في الحديثِ الذي أخرجَهُ مسلمٌ في صحيحِهِ: " فالتقوَى ها هُنا " ويشيرُ إلى صدرِهِ ثلاثَ مراتٍ.(117/3)
والقلبُ – عِبادَ اللهِ – عليهِ مدارُ صَلاحِ أعمالِ المرْءِ أوْ فَسادِها؛ لأنَّ القلبَ هوَ المَلِكُ, وبقيَّةَ الأعضاءِ جنودُهُ, وإنَّما يكونُ الجنودُ تَبَعًا لِلمَلِكِ, كما قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديثِ المتفَّقِ علَى صِحَّتِهِ: " أَلا وإنَّ في الجسدِ مضغةً, إِذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجسدُ كلُّهُ, وإذَا فَسَدَتْ فسدَ الجسَدُ كلُّه, أَلا وهِيَ القَلْبُ ".
…فكانَ حقيقًا بالمسلمِ وجديرًا بِهِ أَنْ يُعنَى بالقلبِ أَيَّما عِنايةٍ, ويرعاهُ أَيماَّ رِعايةٍ؛ فيخصَّهُ بمعُظَمِ الاهتمامِ, ويكونَ محطتَهُ الأُولَى في الطريقِ إلى الإصلاحِ؛ فإنَّ هذا هوَ الطريقُ الصحيحُ لِلوصولِ إلى حقيقةِ التقوَى, ولِلفوزِ بما أعدَّ اللهُ تعالىَ لِعبادِهِ المتقينَ في الأُخْرَى, ولِتحقيقِ السعادةِ والطمأنينةِ والراحَةِ في الدُّنيا.
…ومِنْ أَجْلِ هذِهِ الحقيقةِ المهمَّةِ نجدُ أنَّ اللهَ جلَّ ثناؤُهُ قَدْ أكثرَ مِنْ ذكرِها في كتابِهِ الكريمِ, وأوضَحَها لنا بأكثَرَ مِنْ طريقٍ, فقالَ سبحانَهُ: { يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } { الشعراء:88-89 } , وقالَ تعالىَ: { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ { ق:31-34 } ، ولمّا ذَكَرَ اللهُ جلَّ شأنُه الكافرينَ قالَ فِيهِم: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } { الصف:5 } , وقالَ سبحاَنهُ: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ } { الأعراف:101 } , ولما ذَكَرَ المنافقينَ قالَ فِيهم: { وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } { التوبة:87 } .(117/4)
…فاحفَظُوا – عِبادَ اللهِ - جوارِحَكُمْ, وأَصْلِحُوا قلوبَكُمْ { وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ { } البقرة:281 } .
…بارَكَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيمِ, ونفعنِي وإيَّاكمْ بِما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ, أقولُ قولِي هذَا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ْولسائِرِ المسلمينَ فاستغفروهُ، إنَّهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ, والعاقبةُ لِلمتقينَ, ولا عُدْوانَ إلاَّ علَى الظالمينَ, وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له, الإِلَهُ الحقُّ المبينُ, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ, إمامُ المتقينَ وخاتَمُ المرسلينَ, اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ علَى عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ, ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
…أمَّا بعدُ:
…فيا عِبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ تعالَى حَقَّ تقواهُ, واعمَلُوا بطاعِتهِ ورِضاهُ.
…أيهُّا المسلمونَ:
…إنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالىَ لَمْ يأمرْنا التقْوَى فَحَسْبُ, وإنَّما أمرَنا بِحقِّها وَكَمالِها فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمران:102 } , وقد صحَّ عَنِ ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - أنَّه قالَ: { اتقوا اللهَ حقَّ تُقاتِهِ } : أنْ يُطاعَ فلا يُعصَى, وأنْ يُذكرَ فلا يُنسَى, وأن يُشكرَ فلا يُكفَرَ.(117/5)
…وإنَّ مِنْ كمالِ تقوَى اللهِ تعالَى – أيضًا -: أنْ يرتفِعَ المسلمُ عَنْ مجردِ فِعْلِ الواجباتِ وتركِ المحرَّماتِ؛ لِيصلَ إلى فِعْلِ المستحبَّاتِ وتركِ المكروهاتِ, بَلْ تركِ المشتبِهاتِ, فقَدْ قالَ الحسَنُ البصريُّ – رحمَهُ اللهُ -: ما زالَتْ التقوَى بالمتقينَ, حتَّى تركوا مِنَ الحلالِ مخافةَ الحرامِ. ورُوِيَ عَنِ ابنِ عمرَ رضِيَ اللهُ عَنْهما أنَّه قالَ: إنَّي لَأُحبُّ أنْ أدعَ بيْنِي وبينَ الحرامِ سُترةً مِنَ الحلاَلِ لا أَخرِقُها.
…واعلَمُوا أنَّ سيَّدَ المتقينَ, وخيرَ العابِدينَ, رسولَ اللهِ إلى الناسِ أجمعينَ, نبيَّنا محمداً عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليمِ, كانَ يقومُ الليلَ حتَّى تتفطَّرَ قَدَماه, وهُوَ الذي غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِنْ ذنِبِه وما تأخَّرَ, وكانَتْ حياتُهُ كلُّها تقوَى وعِبادةً للهِ سبحانَه.
…وعلى التقوَى تربَّى أصحابُ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - رضوانُ اللهِ عليهِمْ, كما في هَذا المثالِ الفريدِ، فهذا جريرُ بنُ عبدِ اللهِ - رضي الله عنه - يقولُ – كما أخرجَهُ البخاريُّ -: بايعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - علَى السمعِ والطاعَةِ " – فلقَّنَنِي: " فيما استطعتُ – والنصحِ لكلِّ مسلمٍ ". زادَ ابنُ حِبَّانَ في روايتِهِ: فكانَ جريرٌ إذا اشترَى شيئًا أوْ باعَ يقولُ لصاحبِهِ: اعْلَمْ أنَّ ما أخَذْنا مِنْكَ أحبُّ إلينا ممَّا أعطيناكَهُ, فاختَرْ. وعِنْدَ الطبرانيِّ في ترجمَةِ جريرٍ: أنَّ غلامَهُ اشتَرَى له فَرَسًا بثلاثمائةٍ, فلمَّا رآهُ جاءَ إلى صاحبِهِ فقالَ: إنَّ فرسَكَ خيرٌ منْ ثلاثمائةٍ, فلَمْ يَزَلْ يزيدُهُ حتَّى أعطاهُ ثمانِمائةٍ.(117/6)
…فاتقوا اللهَ – أيُّها المؤمنونَ – بإصلاحِ قلوبِكُمْ وجوارِحِكُمْ, وبخشيةِ اللهِ تعالَى في السرَّ والعلَنِ, واتقاءِ الفواحِشِ والفِتَنِ, ما ظهَر مِنْها وما بَطَنَ, والمحافظةِ علَى الجُمَعِ والجماعاتِ, وعلَى الأخلاقِ الصالِحَةِ وسائرِ الطاعاتِ.
…اللهَّم اغفرْ للِمؤمنينَ والمؤمناتِ, والمسلمينَ والمسلماتِ, الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ, إنَّكَ سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ. اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ, وأذِلَّ الشِرْكَ والمشركينَ, ودَمَّرِ اللهمَّ أعداءَكَ أعداءَ الدَّينِ. اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ, واجعلْ عملَهما في رِضاكَ. اللهمَّ احفظْهما بحفظِكَ, واكلأْهما بِرعايَتِكَ, وألبسْهما ثوبَ الصحَّةِ والعافيةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ. اللهمَّ اجعلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتقبَّلِ اللهمَّ شهداَءنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(117/7)
اطبع هذه الصحفة
عثمان بن عفان (
معْشرَ الإخوةِ الكرامِ:
… لقد ثَبَتَ عثمانُ - رضي الله عنه - على هذه الفتنةِ خيرَ ثباتٍ، ولم يخلعْ قميصَ الخلافةِ لهؤلاءِ البُغاةِ؛ امتثالاً لأمرِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فعنْ عائشةَ رضَِي اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا عثمانُ؛ إنَّهُ لعلَّ اللهَ يُقَمِّصُكَ قميصاً، فإنْ أرادُوكَ على خلعِِه: فلا تخلَعْهُ لهَُْم " [ أخرجَهُ أحمدُ والتِّرمذيُّ].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة بتاريخ
12 من جمادى الآخرة 1427هـ الموافق 7/7/2006م
عثمان بن عفان - رضي الله عنه -
…الحمدُ للهِ الذي وعَدَ الأبرارَ فوَفَّى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَهُ؛ الذي يعلَمُ الجهْرَ وما يخفَى، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُاللهِ ورسولُه سيِّدُ الشُّرَفا، صلَّى اللهُ وسلَّمَ علَيْه وعلَى أتباعِهِ الخُلَفَا، وعلى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ أهلِ البِرِّ والوَفَا.
…أمَّا بعدُ:
… فأُوصيكُمْ ونفسيَ بتقوى الملكِ القدُّوسِ، فتقوَى اللهِ تعالى خيرُ لباسٍ تَسَرْبَلَتْ بهِِ النُّفُوسُ.
…عبادَ اللهِ الأخيارِ:
… إنَّ الحديثَ عنِ الصَّحابةِ الأبرارِ؛ منَ المهاجرينَ والأنصارِ؛ ممَّنِ اصطفاهُمُ العزيزُ الغفَّارُ؛ لصُحبةِ المصطفى المختارِ - صلى الله عليه وسلم -: حديثٌ لا تَمَلُّهُ الأسماعُ؛ ولا تضْجرُ منه الطِّباعُ، كيفَ لا؛ وهمُ الأسوةُ في الصَّلاح؛ والقدوةُ في الفلاحِ.(118/1)
…ومناقبُ اليومِ؛ في فضائلِ سيِّدٍ من ساداتِ القومِ، إنَّهُ صِهْرُ خاتَمِ النَّبيِّينَ؛ وثالثُ الخُلفاءِ الرَّاشدينَ، أبوعمروٍ؛ وأبوعبدِاللهِ: عثمانُ بنُ عفانَ - رضي الله عنه - وأرضاهُ، وهُوَ صاحبُ الفضائلِ الكثيرةِ؛ والمناقبِ الوفيرةِ؛ التي مِنْ أجلِّها: أنَّه كان يُسمَّى: ذا النُّورَينِ، لأنَّه استنارَ بشِهابٍ قَبَسٍ مِنْ نورِ سيِّدِ الثَّقلَينِ، فقد زوَّجَهُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ابنتَهُ رقيةَ رضيَ اللهُ عنها، فتُوفِّيَتْ بعدَ هجرتِها إلى المدينةِ بعامَينِ، ثمَّ زوَّجَهُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ابنتَهُ أمَّ كُلثومٍ رضيَ اللهُ عنها بعدَ موتِ أختِها بستَّةِ أشهرٍ.(118/2)
…فهُوَ أحدُ الذينَ اجتمعَتْ كلِمَةُ الصَّحابةِ رضيَ اللهُ عنهم على فضلِهِ؛ واتَّفقُوا على نُبْلِهِ، فقَدْ قالَ عبدُاللهِ بنُ عمرَ رضيَ اللهِ عنهما: "كنَّا في زمَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا نَعدِلًُ بأبي بكرٍ أحداً، ثمَّ عمرَ، ثمَّ عثمانَ، ثمَّ نتركُ أصحابَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لا نفاضِلُ بينهم "[ أخرجَهُ البخاريُّ]،وكانَ - رضي الله عنه - متخلِّقَاً بخُلُقِ الحياءِ؛ حتَّى إنَّه لتَسْتَحِي منه ملائكةُ السَّماءِ، فقَدْ أخرجَ مسلمٌ في صحيحِهِ عنْ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالَتْ: كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مضْطجِعاً في بيتي؛ كاشِفاً عن فَخِذَيْهِ أو ساقَيْهِ، فاستَأْذَنَ أبو بكرٍ فأذِنَ لَهُ؛ وهُو على تلكَ الحالِ فتَحَدَّثَ، ثمَّ استأذَنَ عمرُ فأذِنَ لَهُ؛ وهُو كذلك فتَحَدَّثَ، ثمَّ استأذَن عثمانُ، فجَلَسَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؛ وسوَّى ثيابَهُ، فدَخَلَ فتَحَدَّثَ، فلمَّا خَرَجَ قالتْ عائشةُ: دخَلَ أبو بكرٍ فلمْ تَهْتَشَّ لَهُ ولمْ تُبالِهِ، ثمَّ دخلَ عمرُ فلمْ تهتشَّ لَهُ ولمْ تبالِهِ، ثمَّ دخَلَََ عثمانُ فجلَسْتَ وسوَّيْتَ ثيابَكَ، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أستحِي مِنْ رجلٍ تستحِي منهُ الملائكةُ؟"، وقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ عثمانَ رجلٌ حَيِيٌّ، وإني خشِيتُ إنْ أذِنْتُ لَهُ على تلكَ الحالِ أنْ لا يَبْلُُغَ إليَّ في حاجتِهِ".
معشرَ الفُضَلاءِ:(118/3)
… لقد تعرَّضَ أميرُ المؤمنينَ عثمانُ بنُ عفانَ - رضي الله عنه - في آخِرِ عمُرِهِ لأشدِّ البَلاءِ، فقدِ اجتمعَ على قتلِهِ الأوباشُ والغَوْغاءُ، كمَا أخرجَ التِّرمذيُّ في جامعِهِ عن ثُمامةَ بنِ حزْنٍ القُشَيرِيِّ - رحمَهُ اللهُ تعالى- قال: "شهِدْتُ الدَّارَ حينَ أشرفَ عليهم عثمانُ - رضي الله عنه - فقالَ: ائْتُوني بصاحبَيْكم اللَّذينِ ألَّباكُم عليَّ، فجيءَ بهما كأنَّهما جَمَلانِ أوْ كأنَّهما حِمارانِ، فأشرَفَ عليهمْ عثمانُ فقالَ: أُنشِدُكم باللهِ والإسلامِ، هلْ تعلمونَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قدِمَ المدينةَ وليسَ بها ماءٌ يُستعذبُ غيرُ بئرِ رُومةَ، فقال: "مَنْ يشْتَري بئرَ رُومةَ؛ فيَجَعَلَ دِلْوَهُ معَ دِلاءِ المسلمينَ بخيرٍ له منها في الجنَّةِ؟" فاشتريتُها منْ صُلْبِ مالي، فأنتمُ اليومَ تمنعونِي أنْ أشربَ منها؛ حتَّى أشربَ من ماءِ البحْرِ. قالوا: الَّلهمَّ نعمْ. قال عثمانُ: أُنشِدُكم باللهِ والإسلامِ؛ هل تعلمونَ أنَّ المسجدَ ضاقَ بأهلِهِ، فقالَ رسولُ اللهُ - صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ يشتري بُقعةَ آلِ فلانٍ فيزيدَها في المسجدِ بخيرٍ منها في الجنَّةِ؟" فاشتريتُها مِنْ صلبِ مالي، فأنتمُ اليومَ تمنعوني أنْ أصليَ فيها ركعتَينِ. قالوا: الَّلهمَّ نعمْ. قال عثمانُ: أُنشِدُكمْ باللهِ والإسلامِ؛ هلْ تعلمونَ أنَّي جهَّزتُ جيشَ العُسْرةِ مِنْ مالي؟ قالوا: الَّلهمَّ نعمْ. ثمَّ قال عثمانُ: أُنشِدُكم باللهِ والإسلامِ؛ هلْ تعلمونَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ على ثبيرِ مكةَ؛ ومعَهُ أبو بكرٍ وعمرُ وأنا، فتحرَّكَ الجبلُ حتَّى تساقَطَتْ حِجارتُه بالحضيضِ، فرَكَضَهُ برِجلِهِ وقالَ:"أُسكُنْ ثبيرُ، فإنَّما عليكَ نبيٌّ وصدِّيقٌ وشهيدانِ". قالوا: الَّلهمَّ نعمْ. قال عثمانُ:اللهُ أكبرُ، شهدُوا لي وربِّ الكعبةِ أنِّي شهيدٌ – ثلاثاً - ".(118/4)
…بارَكَ اللهُ لي ولكمْ في الفُرقانِ والذِّكرِ الحكيمِ، ووفَّقَنا للاعتصامِ بِهِ وبما كانَ عليه النَّبيُّ الكريمُ؛ عليه أفضلُ الصلاةِ وأزكى التَّسليمِ؛ مِنَ الهدي القويمِ؛ والصِّراطِ المستقيمِ.
…أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ الغفورَ الحليمَ، ليْ ولكمْ من كلِ ذَنْبٍ وحَوْبٍ فتوبُوا إليه واستغفرُوه إنَّهُ هُوَ التَّوابُ الرَّحيمُ.
………… الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ عددَ مَا ترَطَّبَتِ الألسُنُ بالثَّناء والدُّعاء من فجِّ قلبِها العميقِ، والحمدُ للهِ عددَ مَا أثنتْ على ربِّها وسألتْهُ السَّدادَ والرَّشادَ والتوفيقَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ الهادِي إلى سواءِ السَّبيلِ والطَّريقِ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنَا مُحمداً رسولٌ مِنْ أنفسِنا هُوَ بالمُؤمنينَ رؤوفٌ ورحيمٌ ورفيقٌ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى مَنْ أنعمَ اللهُ عليهِمْ مِنْ كلِّ نبيٍّ وشهيدٍ وصالحٍ وصِدِّيقٍ.
… أما بعدُ:
…فأوصيكم يا أهلَ الإيمانِ؛ بتقوى المنَّانِ، فهي من أماراتِ الصِّدقِ وعلاماتِ الإحسانِ.
…معْشرَ الإخوةِ الكرامِ:
… لقد ثَبَتَ عثمانُ - رضي الله عنه - على هذه الفتنةِ خيرَ ثباتٍ، ولم يخلعْ قميصَ الخلافةِ لهؤلاءِ البُغاةِ؛ امتثالاً لأمرِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فعنْ عائشةَ رضَِي اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا عثمانُ؛ إنَّهُ لعلَّ اللهَ يُقَمِّصُكَ قميصاً، فإنْ أرادُوكَ على خلعِِه: فلا تخلَعْهُ لهَُْم " [ أخرجَهُ أحمدُ والتِّرمذيُّ].(118/5)
فوَفَّى عثمانُ - رضي الله عنه - بعهدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الذي عَهِدَ إليه، وصبَرَ على ما أوذيَ عليه، فقدْ أخرجَ ابنُ ماجَةَ في سنَنِهِ عنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها قالتْ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في مرَضِهِ: "ودِدْتُ أنَّ عندي بعضَ أصحابي". قلْنا: يا رسولَ اللهِ؛ ألا ندعُو لكَ أبا بكرٍ؟ فَسَكَتَ. قلْنا: ألا ندعُو لكَ عمرَ؟ فَسَكَتَ. قلْنا: ألا ندعُو لكَ عثمانَ؟ قال: " نَعَم ". فجاءَ فخَلا بِهِ، فجعلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُكَلِّمُهُ؛ ووجهُ عُثمانَ يتَغَيَّرُ، فكان عثمانُ بنُ عفانَ يقولُ يومَ الدَّارِ: إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عهِدَ إليَّ عهْداً؛ فأنا صائرٌ إلَيهِ؛ أو صابرٌ علَيهِ. فكانوا يرونَه ذلكَ اليومَ".
فما كانَ مِنْ هؤلاءِ الخوارجِ المعتدينَ؛ إلا أنْ بغَوا وقتلُوا أميرَ المؤمنينَ؛ الذي جاوزَ عمرُهُ الثمانينَ، وفي حِجرِهِ الكتابُ المبينُ، في المدينةِ النبويَّةِ، وفي يومِ الجمعةِ، وفي شهرِ ذي الحجةِ، لِيَسْقُطَ مِنْ رأسِ الخليفةِ المظلومِ، الذي فُلِقَ بسيفِ البَغْيِ المسمومِ: أوَّلُ قطرةٍ من دمِهِِ المعصومِ، لِتَمْتَزِجَ بقولِ العزيزِ الحكيمِ: { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ } { البقرة: 137 } .(118/6)
وهذا مصداقُ قولِ المعصومِ- صلى الله عليه وسلم - ؛ الدَّالِ على أنَّ عثمانَ - رضي الله عنه - مظلومٌ، فقدْ أخرجَ التِّرمذيُّ عن عبدِاللهِ بنِ عمرَ رضيَ اللهُ عنهما قال: ذَكَرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فتنةً فقال: "يُقتل فيها هذا مظلوماً" لعثمانَ - رضي الله عنه -، ولْيَكُنْ مِسكُ الختامِ، معْشَرَ الإخوةِ الكرامِ: ترطيبَ ألسنتِكم بالصَّلاةِ والسَّلامِ، على خيرِ الأنامِ، امتثالاً لأمرِ الملكِ القُدُّوسِ السَّلامِ، حيثُ قال في خيرِ كلامِ: { إنَّ الله وملائكتَه يُصلُّون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلُّوا عليه وسلِّموا تسليماً } { الأحزاب: 56 } .
…اللهم صلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، وباركْ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّد، كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، في العالمينَ، إنَّك حميدٌ مجيدٌ.
وارضَ اللهمَّ عن الأربعةِ الخلفاءِ الراشدين؛ والأئمةِ الحنفاءِ المهديِّين، أولي الفضلِ الجليِّ؛ والقدرِ العليِّ: أبي بكرٍ الصديقِ؛ وعمرَ الفاروقِ؛ وذي النُّورينِ عُثمانَ؛ وأبي السِّبطينِ عليٍّ.(118/7)
…وارضَ الَّلهمَّ عن آلِ نبيِّكَ وأزواجِهِ المُطَهَّرِينَ من الأرجاسِ؛ وصحابتِِهِ الصَّفوةِ الأخيارِ من النَّاسِ، الَّلهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، الَّلهمَّ إنَّا نسألُكَ من الخيرِ كلِّهِ، عاجلِهِ وآجلِهِ، ما علمْنا منه وما لم نعلمْ، ونعوذُ بكَ من الشَّرِّ كلِهِ، عاجلِهِ وآجلِهِ، ما علمْنا منه وما لمْ نعلمْ، الَّلهمَّ إنَّا نسألُكَ من خيرِ ما سألكَ عبدُكَ ونبيُّكَ - صلى الله عليه وسلم -، ونعوذُ بكَ من شرِّ ما عاذَ بِهِ عبدُكَ ونبيُكَ - صلى الله عليه وسلم -، الَّلهمَّ إنَّا نسألُكَ الجنَّةَ وما قرَّبَ إليها من قولٍ أو عملٍ، ونعوذُ بكَ من النَّارِ، وما قرَّبَ إليها من قولٍ أو عملٍ، ونسألُكَ أنْ تجعلَ كلَّ قضاءٍ قضيتَه لنا خيراً.
…الَّلهمَّ آمِنَّا في الوطنِ، وادفعْ عنَّا الفِتَنَ والمِحَنَ؛ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ، الَّلهمَّ وفِّقَ ولاةَ أمورِنا لحملِ الأمانةِ، وارزقْهم صلاحَ البِطانةِ، واحفظْهم من كيدِ أهلِ البَغْيِ والخيانةِ،ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حسَنةً؛ وفي الآخرةِ حسَنةً؛ وقِنا عذابَ النَّارِ.
عبادَ اللهِ:
اذكُروا اللهَ ذِكراً كثيراً، وكبِّروه تكبيراً، { وأقم الصلاة، إن الصلاةَ تنهى عن الفحشاءِ والمُنكرِ، ولذكرُ اللهِ أكبر، والله يعلم ما تصنعون } { العنكبوت: 45 } .
……………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(118/8)
اطبع هذه الصحفة
آفة العصر:المخدِّرات
عبادَ اللهِ:
…ومنْ أسبابِ الوقوعِ في وحَلِ المخدراتِ كذلك: أصدقاءُ السُّوءِ، فَحَرِيٌّ بكلِّ أبٍ وأُمٍّ أنْ يعرِفَ جلساءَ أولادِه،ويرغِّبَهم في مُجالسةِ أهلِ الخيرِوالصَّلاحِ، ويحذرَهم من أهلِ السُّوءِ والفسادِ،
فإن مثَلَ هؤلاءِ وأولئكَ؛ كحاملِ المسكِ ونافخِ الكيرِ، لا بُدَّ وأنْ يتأثرَ جلساؤُهم بهم، فكمْ مِنْ تائبٍ صدَّرَ قصةَ إدمانِِهِ بقولِه: "... ثمَّ تعرَّفتُ على أصدقاءِ السُّوءِ"، ولذلكَ بيَّن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أهميةَ اختيارِ الصَّديقِ الصّالحِ بقولِهِ: " الرجلُ على دينِ خليلِهِ، فلْينظرْ أحدُكمْ مَنْ يُخالِلْ " [أخرجَهُ أبو داودَ والتِّرمذيُّ].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 19 من جمادى الآخرة 1427هـ الموافق 14/ 7/2006م
آفة العصر:المخدِّرات
…لحمدُ للهِ مبلِّغِ الآمالِ، الموفِّقِ إلى صالحِ الأعْمالِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، الذي أمَرَ بحفظِ الأديانِ، والعقولِ، والأعْراضِ، والأنسابِ، والأموالِ، ونَهَى عنْ إضاعةِ شئٍ منها، أو تعريضِها للزَّوالِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الهادي من الضَّلالِ، الذي نهَى عن كَثْرةِ السُّؤالِ، وإضاعةِ المالِ، صلّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ خيرِ صحبٍ وآلٍ.
…أما بعدُ:
…أوصيكم- عبادَ اللهِ- ونفسي بتقوى اللهِ تعالى، فهيَ ملاذُنا في الدنيا والآخرةِ، واعلموا أنَّ اللهَ ـ جلَّ وعلا ـ قدْ خَلَقَ الخلْقَ، وبيَّنَ للنَّاسِ الغايةَ مِنْ خَلْقِهم، فقال سبحانَه: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } … الذاريات: 56 } .
…أيها الإخوةُ المسلمون:(119/1)
…قد جاءَ الشَّرْعُ الحنيفُ بجملةٍ من الأحكامِ والآدابِ، تحفظُ للنَّاسِ عقولَهم وأموالَهم وأعراضَهم، وقبلَ ذلكَ تُقَوِّي إيمانَهم، وتحفظُ أخلاقَهم، وقد جاءَ رسولُنا الكريمُ - صلى الله عليه وسلم - لِيُحِلَّ لنا ما طابَ، ويحرِّمَ علينا ما خبُثَ،كما وصفَه ربُّه تبارك تعالى بقولِهِ: { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } { الأعراف: 157 } .
…من أخْبثِ الخبائثِ، وأشدِّها فتْكاً؛ المخدَّراتُ؛ لأنَّ تعاطيَها وبيعَها عبثٌ بضرورةٍ من ضروراتِ الإنسانِ، ألا وهي العقلُ، فإذا ضيَّعَ الإنسانُ عقلَهُ، ضاعَتْ ضروراتُه الأخرى، فضاعَ دينُه، وضاعَ مالُه، وأصبحَ عِرْضُه ونفسُه معرضَينِ للضَّيَاعِ كذلك، نسألُ اللهَ العافيةَ.
…لقدْ ودِدْنا لو كانتْ ظاهرةً عابرةً، لكنَّها - وللأسفِ الشَّديدِ - تمكَّنتْ مِنْ كثيرٍ من الشعوبِ والأُمَمِ، الحاضرةِ والغابرةِ، وأفسدتْ كثيراً من المجتمعاتِ، بل أصبحتْ مُشكلةَ المشكلاتِ، وانتشرتْ في هذا العصْرِ خاصَّةً، بما لم تنتشرْ بعصْرٍ مِنْ قبلُ، فحَصَدَتِ الكثيرَ من الأنفسِ والعقولِ، والقِيَمِ والأعْراضِ، فصارَتْ بحقٍّ مِنْ أسلِحةِ الدَّمارِ الشَّاملِ، ولَزِمَ التَّحذيرُ منها؛ صحيّاً وعقليّاًً، واقتصاديّاً واجتماعيّاً:
…من الناحيةِ الصحيَّةِ: فإنَّها تُضْعِفُ الجَسَدَ، وتُذهِبُ قِواهُ، وتَجعلُهُ مُدمِناً عليها، بلْ قدْ تقتلُه - والعياذُ باللهِ -، واللهُ تباركَ وتعالىَ يقولُ: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } { النساء:29 } .
…منَ النَّاحيةِ العقليَّةِ: فإنَّها تُذهِبُ العقلَ وتُسْكِرُهُ، فصارتْ نوعاً من الخمرِ المحرَّمِ، كما قرَّرَ ذلك النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقولِهِ" كلُّ مُسكِرٍ خمرٌ، وكلُّ مسكرٍ حرامٌ" [أخرجه مسلمٌ ].(119/2)
ومنَ النَّاحيةِ الاقتصاديَّةِ: فهِيَ هدْرٌ للأموالِ في جلْبِ ما يضُرُّ، بلْ هي سبَبٌ لما يُسَمَّى بغسيلِ الأموالِ، ولا يخفَى ما في ذلك منْ ضَررٍ على اقتصادِ الأمَّةِ.
…منَ النَّاحيةِ الاجتماعيَّةِ: فأثرُها قدْ صارَ معلوماً في تدميرِ الأُسَرِ، وتقطيعِ العَلاقاتِ، وذهابِ الغَيْرةِ على الأعْراضِ، وضَياعِ البنينَ والبناتِ، فكمْ منْ أُسرةٍ تفَكَّكَتْ، وكمْ منْ رَحِمٍ تقطَّعَتْ، وكم من بيتٍ هُدِمَ، وكمْ منْ عِرْضٍ هُتِكَ، بسببِ هذه الآفةِ الخبيثةِ: المخدراتِ.
لكنَّه الإنسانُ في غَلَوَائِهِ…ضلَّتْ بصيرتُه فَجُنَّ جُنونا
قد صِيغَ من نورٍ وطينٍ فانْبرَى للنُّورِ يُطفئُه ولبَّى الطِّينا
ما أَضيعَ الإنسانَ إنْ يوماً رقَى سُبُلَ العلومِ إذا أَضاعَ الدِّينا
…معاشرَ المسلمينَ:
… إنَّ أولَ خُطْوةٍ في وصْفِ الدَّواءِ لهذا الدَّاءِ: هي تشخيصُه بمعرفةِ أسبابِهِ، وإنَّ من أَسبابِ انتشارِ هذا الداءِ الخطيرِ: إهمالَ الوالدينِ لتربيةِ الأولادِ، ومِنْ هنا يبدأُ الخلَلُ، عندما تضيعُ الأَمانةُ، والشعورُ بالمسؤوليَّةِ، فتضيعُ الرقابةُ، عندها يبحثُ الولدُ عن حُضنٍ غيرِ حُضنِ والديهِ لِيلجأَ إليه، فَتَتَخَطَّفُهُ شياطينُ الإنسِ والجنِّ، ويعظُمُ الخَطْبُ، والمطلوبُ: التوسطُ في التَّربيةِ بينَ القَسْوةِ واللِّينِ، فيتحقَّقُ المقصودُ من غيرِ إفراطٍ ولا تفريطٍ.
عبادَ اللهِ:
…ومنْ أسبابِ الوقوعِ في وحَلِ المخدراتِ كذلك: أصدقاءُ السُّوءِ، فَحَرِيٌّ بكلِّ أبٍ وأُمٍّ أنْ يعرِفَ جلساءَ أولادِه،ويرغِّبَهم في مُجالسةِ أهلِ الخيرِوالصَّلاحِ، ويحذرَهم من أهلِ السُّوءِ والفسادِ،(119/3)
فإن مثَلَ هؤلاءِ وأولئكَ؛ كحاملِ المسكِ ونافخِ الكيرِ، لا بُدَّ وأنْ يتأثرَ جلساؤُهم بهم، فكمْ مِنْ تائبٍ صدَّرَ قصةَ إدمانِِهِ بقولِه: "... ثمَّ تعرَّفتُ على أصدقاءِ السُّوءِ"، ولذلكَ بيَّن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أهميةَ اختيارِ الصَّديقِ الصّالحِ بقولِهِ: " الرجلُ على دينِ خليلِهِ، فلْينظرْ أحدُكمْ مَنْ يُخالِلْ " [أخرجَهُ أبو داودَ والتِّرمذيُّ].
…ومِمَّا يتعلَّقُ بمسؤوليَّةِ الآباءِ تُجاهَ الأولادِ، فيما هو من أسبابِ تعاطي المخدراتِ؛ السَّفَرُ إلى الخارجِ، وخاصَّةً إلى الأماكنِ المعروفةِ بانتشارِ الخمورِ والفجورِ، فكيفَ يُؤمَنُ على شابٍّ في مثلِ هذه الأوساطِ الفاسدةِ باسمِ السِّياحةِ الموهومةِ؟
…واعلموا رحِمَكم اللهُ أنَّ ضعفَ الإيمانِ لدَى الإنسانِ، هو الذي يجعلُه فريسةً سهلةً للشَّيطانِ، فحصِّنوا أنفسَكم وأولادَكم بالطَّاعاتِ، والإكثارِ من ذكرِ ربِّ الأرضِ والسَّمواتِ، فإنَّه الِحصْنُ الحصينُ، وملجأُ المؤمنينَ، بإذنِ ربِّ العالمينَ.
…باركَ اللهُ ليِ ولكمْ في القرآنِ العظيمِ، ونفَعَنِي وإيَّاكمْ بما فيه مِنَ الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ ما تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ، فاستغفروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ لله الذي أمرَنا بالطَّيباتِ، وحذَّرَنا مِنَ المُضِرَّاتِ، أحمَدُه حمْداً كثيراً، وأشكرُه شُكراً كبيراً، على نِعَمِه السابغاتِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الواحدُ القهَّارُ، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُهُ، القائلُ "لا ضررَ ولا ضرارَ"، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على رسولِك محمدٍ، وعلى آلِه وأصحابِهِ آناءَ اللَّيلِ وأطرافَ النَّهارِ.
…أمَّا بعدُ:
…فيا أيُّها المؤمنونَ:(119/4)
… اتقوا اللهَ تعالى، واذْكروا نِعَمَهُ عليكم، واعلمُوا أنَّه قدْ تبيَّنَ لكلِّ ذي لُبٍّ أنَّ خطرَ هذا الداءِ عظيمٌ، فالواجبُ على كلِّ مسلمٍ التعاونُ مع مجتمعِه في محاربتِهِ، ووسيلةُ ذلكَ: تلافي الأسبابِ التي سمِعْتُموها، بالإضافةِ إلى غَرْسِ الدِّينِ في نفوسِ الشبابِ مُنْذُ الصِّغَرِ، فهمُ الفئةُ العمريَّةُ الأكثرُ عرضً للوقوعِ في وَحَلِ المخدراتِ، كما تشيرُ إلى ذلك الإحصائياتُ، ودينُنا الإسلاميُّ – أيُّها الإخوةُ – يحثُّ على كلِّ طيِّبٍ، وينْأَى بالمسلمِ عن كلِّ خبيثٍ، ويأمرُنا بتعليمِ أولادِنا – من بنينَ وبناتٍ- الصلاةَ منذُ الصِّغَرِ؛ لأنَّها تنهَى عن الفحشاءِ والمُنكرِ، قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - "مرُوا أولادَكم بالصَّلاةِ، وهمْ أبناءُ سبعِ سنينَ، واضْربوهم عليها، وهم أبناءُ عشرٍ"[أخرجَه أبو داودَ].
…ومِنْ وسائلِ الوقايةِ مِنْ هذا الداءِ: غرْسُ الشعورِ بالخوفِ منَ اللهِ تعالى ومراقَبَتِهِ ، فمَنْ خافَ اللهَ اتقى عقابَه بتركِ معاصِيه، وهذه الرقابةُ الذاتيَّةُ أفضلُ ما يُغْرَسُ في نفوسِِ البشرِ، وأكثرُ الأسبابِ فاعليَّةً في مقاومةِ المنكراتِ؛ لأنَّ بها تعلقاً بالسميعِ البصيرِ، اللطيفِ الخبيرِ، الذي لا يخفَى عليه شيءٌ في الأرضِ ولا في السَّمواتِ.
إذا ما خلوتَ الدهرَ يوماً فلا تَقُلْ خَلَوْتُ ولكنْ قلْ عليَّ رقيبُ
ولا تحسبَنَّ اللهَ يغفلُ ساعةً ولا أنَّ ما يُخفَى عليه يغيبُ(119/5)
…ثمُّ اعْلموا – رحمكم اللهُ - أنَّ المؤمنَ الفَطِنَ هو الذي يعرفُ المغزَى من خَلْقِه ووجودِه، فهو إنَّما خُلِقَ لعبادةِ اللهِ وحدَه، وهو يسيرُ في هذه الدنيا، في رحلةِ الرُّجوعِ إليه تباركَ وتعالى، لكنَّ هناك أعداءً في الطَّريقِ وقُطَّّاعَ طُرُقٍ، أشدُّهم عليه: هو العدوُّ المبينُ إبليسُ، الذي يزيِّنُ للإنسانِ الشَّرَّ، ويجرُّه إليه خُطوةً خُطوةً بمكرٍ ودَهاءٍ، قال تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } { المائدة: 91 } .
…اللهمَّ يا مقلبَ القلوبِ ثبِّتْ قلوبَنا على دينِك، اللهمَّ اكْفِنا بحلالِك عن حرامِك، وأغنِنا بفضلِك عمَّنْ سواكَ، اللهمَّ قِنا شرَّ الفِتنِ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ، ربَّنا هبْ لنا من أزواجِنا وذرِّياتِنا قرةَ أعينٍ، واجعلْنا للمتقينَ إماماً، ربَّنا ارحمْ والدِينا كما ربَّونا صِغاراً، اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، ربَّنا اغفرْ لَنا ولإخوانِنا الذين سبقُونا بالإيمانِ، ولا تجعلْ في قلوبِنا غلاً للذينَ آمنوا، ربَّنا إنك رؤوفٌ رحيمٌ.
…اللهم وفِّقْ أَئِمتَنا وولاةَ أمرِنا لما تحبُّ وترضَى، وخُذْ بنواصِيهم إلى البِرِّ والتَّقوى، اللهمَّ وأسبِغْ على بلدِنا هذا، وسائرِ بلادِ المسلمينَ نعمةَ الأمْنِ والأمانِ، ورَغَدَ العيشِ في ظلِّ شرعِكَ المطهَّرِ، يا ربَّ العالمينَ، وصلِّ اللهمَّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.
… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(119/6)
اطبع هذه الصحفة
تفريجُ الكُرُبات
عبادَ اللهِ
…إنَّ ثَمَّةَ أسباباً لِِتفريجِ الكُرُباتِ، وقضاءِ الحاجاتِ، يحسُنُ بالمسلمِ أنْ يأخذَ بها، ويعملَ بمقتضاها، فمِنْ أعظمِ هذهِ الأسبابِ: تقَوى اللهِ – عزَّ وجلَّ – ,وطاعَتُه فيما أمرَ، وتركُ ما نهىَ عَنْه وزَجَرَ، حيثُ قالَ اللهُ تعالَى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } { الطلاق:2 - 3 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 26 من جمادى الآخرة 1427هـ الموافق 21/ 7/2006م
تفريجُ الكُرُبات
…الحمدُ للهِ رافعِ البليَّاتِ، كاشِفِ الكُرُباتِ، مُجيبِ دَعوَةِ المضطرينَ، أحمدُهُ سبحانهَ مُزيلَ الشَّدائدِ والمكْرُوهاتِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له وليُّ الصالحينَ، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُه إمامُ المتقينَ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبهِ الطيِّبينَ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ الدينِ.
…أمّا بعدُ:
…فأُوصيكمْ – عبادَ اللهِ – ونفسِي بتقوَى اللهِ تعالَى، فهيَ التِّجارةُ التي لا تَبورُ, وعاقبتُها دارُ الكَرامةِ والسُّرورِ, فَشمِّروا لِطاعتِهِ واحْذرُوا التَّوانِيَ والقُصُورَ قالَ اللهُ تعالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } { آل عمران: 102 } .
…أيُّها المسلمونَ:
…إنَّ الحياةَ الدُّنيا لا تخلُو منَ الْمُنغِّصاتِ والمكَدِّراتِ فأحوالُها مُتبدِّلةٌ، وتصاريفُها مُتغيِّرةٌ، إذا أَضحكَتْ أبكَتْ، وإذا أفرحَتْ أحزنَتْ, فلا فَرَحَ يدومُ فيها ولا حُزْنَ، ودوامُ الحالِ فيها مِنَ المحالِ.
هِيَ الأُمورُ كما شاهدْتُها دُوَلٌ مَنْ سَّرهُ زمنٌ ساَءتْهُ أزمانُ(120/1)
…والإنسانُ في هذِهِ الدُّنيا عُرضةٌ للرَّزايا والكُرباتِ، والبلايا والنَّكباتِ، لا يسلَمُ مِنْها غنيٌّ بِغِناهُ، ولا قوىٌّ بِقِواهُ، ولقَدْ هيَّأَ ربُّنا - جلَّ جلالُهُ وتقدَّسَتْ أسماؤُهُ- أُناساً ذَوِي قُلُوبٍ رحيمةٍ، ونُفُوسٍ كريمةٍ، يتجشَّمونَ المصاعِبَ، ويتحمَّلونَ المتاعِبَ، ويُشَمِّرونَ عِنْدَ كلِّ نازلةٍ: يقضونَ حوائِجَ المحتاجينَ, ويُعِينونَ المساكِينَ والبائسِينَ، يَعِيشُونَ في هذِهِ الدُّنيا لإخوانهِمْ أكثرَ مِمَّا يعيشونَ لأنفسِهِمْ، فهؤلاءِ – واللهِ - مِنْ صَفْوَةِ البشرِ، يحيَوْنَ نُجباءَ، ويموتونَ عُظماءَ، شغلَتْهُمْ هُمومُ النَّاسِ عَنْ هُمومِ أنفسِهمْ – عَنِ ابنِ عمرَ – رضِىَ اللهُ عنهما – قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أَحَبُّ النَّاسِ إلى اللهِ أنفعُهُمْ للنَّاسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ سرورٌ تُدخِلُهُ علَى مسلمٍ، أوْ تَكشِفُ عَنْه كُرْبةً، أوْ تقضِي عَنْه دَيْناً، أوْ تطردُ عنه جُوعاً، ولَأَنْ أمشِيَ معَ أخٍ لِيْ في حاجةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أنْ أعتكفَ في هذا المسجدِ- يعْنِي: مسجدَ المدينةِ- شهراً، ومَنْ كفَّ غضَبَهُ ستَرَ اللهُ عورتَهُ، ومَنْ كظَمَ غيظَهُ – ولو شاءَ أنْ يُمضِيَهُ أَمْضاه – ملأَ اللهُ- عزَّ وجلَّ- قلبَهُ أمْنَاً يومَ القيامةِ، ومَنْ مَشَى مَعَ أخيهِ في حاجةٍ حتَّى أثبتَها لَهُ أثبتَ اللهُ - عزَّ وجلَّ - قدمَهُ على الصِّراطِ يومَ تَزِلُّ فيهِ الأقدامُ" [أخرجَهُ الطَّبرانيُّ].
…إنَّ المسلمَ الذي يَعُدُّ المسلمِينَ كلَّهُم إخواناً لَهُ لنْ يتوانَى لحظةً عن مُداواةِ جِراحاتِهم والسَّعي في تفريجِ كُرُباتِهم، وقضاءِ حاجاتِهم؛ لأنّ هذا مِنْ أجلِّ الطاعاتِ، وأعظمِ القُرُباتِ، وأفضلِ الأعمالِ الْمُنجياتِ، يدفعُهُ إلى ذلك إيمانُهُ الصَّادقُ، وشعورُهُ النَّابِضُ بحقوقِ الأُخوَّةِ الإسلاميَّةِ.
…عبادَ اللهِ:(120/2)
…إنَّ ثَمَّةَ أسباباً لِِتفريجِ الكُرُباتِ، وقضاءِ الحاجاتِ، يحسُنُ بالمسلمِ أنْ يأخذَ بها، ويعملَ بمقتضاها، فمِنْ أعظمِ هذهِ الأسبابِ: تقَوى اللهِ – عزَّ وجلَّ – ,وطاعَتُه فيما أمرَ، وتركُ ما نهىَ عَنْه وزَجَرَ، حيثُ قالَ اللهُ تعالَى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } { الطلاق:2 - 3 } .
…قالَ ابنُ عباسٍ -رضِيَ الله عنهما-:" (ومَنْ يتقِ اللهَ يجعلْ له مخرجاً) أيْ: ينُجِيهِ مِنْ كُلِّ كُرَبِ الدنيا والآخرةِ، (ويرزقُه مِنْ حيثُ لا يحتسبُ) أيْ: مِنْ حيثُ لا يرجُو ولا يأملُ . وفي آيةٍ أخرَى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } { الطلاق: 4 } ، ومِنْ أسبابِ كشفِ الكُرَبِ: تنفيسُ الكَرْبِ عَنِ المكروبينَ، وطردُ الهمِّ عَنِ المهمومينَ، ومواساةُ المحرومينَ، والعطفُ علَى اليتامَى والمساكينِ، فقَدْ روَى أبو قَتادةَ - رضي الله عنه - قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"مَنْ سرَّهُ أنْ ينُجِيَهُ اللهُ مِنْ كُرَبِ يومِ القيامةِ فلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسرٍ، أوْ يضعْ عنْهُ" [أخرجَهُ مسلمٌ] .
…والدعاُء – يا عبادَ اللهِ – مِنْ أجلِّ الأسبابِ التى تدفَعُ النِّقَمَ ، وتكشِفُ الكَرْبَ، وتجعلُ العُسرَ يُسراً قالَ سبحانَه: { أَم مَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } { النمل: 62 } .(120/3)
… فالدعاءُ حِصنُ المسلمِ عِنْدَ الشدائدِ، وملاذُ الخائِفِ في النَّوازِلِ، وقَدْ كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا كربَهُ أمرٌ يقولُ:"يا حيُّ يا قيومُ برحمتِكَ أستغيثُ" [أخرجَه الترمذيُّ مِنْ حديثِ أنسٍ - رضي الله عنه -]، دعاهُ نوحٌ – عليه السلامُ – فأجاَب دعوَتَه،وفرَّجَ كربتَه، قالَ اللهُ تعالَى: { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ - وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } { الصافات:75-76 . }
…ودعاه موسى وهارونُ – عليهما السلامُ – فنجَّاهما ونصرَهما علَى القومِ الظَّالمينَ: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ - وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ - وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ } { الصَّافات: 114-116 } .
…وهذا أيوبُ – عليه السلامُ – يستغيثُ باللهِ فيجعلُ اللهُ له فرَجاًً ومخرَجاً كما قالَ سبحانَهُ: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } { الأنبياء:83-84 } .
…وهذا يونسُ – عليه السلامُ – استغاثَ ربَّه وهو في بطنِ الحوتِ فماذا كانَ؟: { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } { الأنبياء: 87-88 } .(120/4)
…والله – تباركَ وتعالَى– يُنَجِّي كُلَّ مُؤْمنٍ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ وما ذلِكَ عليه بعزيزٍ، فقَدْ قالَ جلَّ جلالُهُ: { قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ - قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ } { الأنعام: 63-64 } .
… أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ العليَّ العظيمَ لي ولكمْ ولجميعِ المسلمينَ مِنْ كلِّ ذنبٍ؛ فاستغفروه, إنَّه هُوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له يرحمُ مِنْ عبادِهِ الراحمينَ، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ أرسلَهُ رحمةً للعالَمينَ، وقُدوةً للعامِلينَ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ الرحماءِ المباركينَ، والتابعينَ ومَنْ تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
… أمَّا بعدُ:
… فيا أيُّها المسلمونَ:
…تعلمونَ أنَّ أمَّةَ الإسلامِ كجسدٍ واحدٍ؛ قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَثَلُ المؤمنينَ في توادِّهمْ وتراحمِهمْ وتعاطفِهمْ مَثَلُ الجسدِ، إذا اشتكَى مِنْه عضوُ تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهر والحمَّى " [ أخرجَه مسلمٌ]، وقالَ: - صلى الله عليه وسلم -:" المؤمنونَ تتكافَأُ دماؤُهم، ويسعَى بذمَّتِهم أدناهم وهم يدٌ علَى مَنْ سِواهم ألا لا يُقْتَلُ مؤمنٌ بكافرٍ، ولا ذو عهدٍ في عهدِهِ" [ أخرجَه أحمدُ]، وإنَّ مماَّ يدْمَى له القلبُ ويحزنُ له الفؤادُ؛ ما يتعرضُ له المسلمونَ في البلدينِ الشقيقينِ:لبنانَ وفلسطينَ علَى يدِ العُدوانِ الصُّهْيوني مِنْ قتلٍ للمدنيينَ الأبرياءِ، وتدميرٍ للبِنْيةِ التحتيَّةِ، وإفسادٍ لموارِدِ الاقتصادِ في هذينِ البلدينِ الشقيقينِ.(120/5)
يا مسلمونَ اصْدَعوا بالحقِّ والتئِمُوا… ماذا أفدْتُم مِنَ التمزيقِ والفَرَقِ
…عبادَ اللهِ:
…اعلموا رحمَنِي اللهُ وإيَّاكم – أنَّ نُصْرةَ المسلمِ المظلومِ واجبةٌ، وأنَّها مِنْ آكدِ حقوقِ الإخوةِ في الدينِ، قالَ اللهُ تعالَى: { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } { الأنفال: 72 } ، وقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"انصرْ أخاكَ ظالماً أوْ مظلوماً" [ أخرجَه مسلمٌ ]، لذلك فإنَّا نتوجَّهُ إلى اللهِ تعالَى في هذا المقامِ أنْ يُوَفِّقَ ولاةَ أمورِ المسلمينَ، والأمَّةَ الإسلاميةَ بأسْرِها إلى القيامِ بواجبِ النُّصْرةِ لإخوانِنا المسلمينَ في لبنانَ وفلسطينَ، عسى اللهُ أنْ يكفَّ بأسَ اليهودِ عَنْهم، { وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } { النساء: 84 } .
… اللهم انصرْ الإسلامَ وأهلَه، واخذلِ الباطِلَ وجندَه، وفرِّجْ كربَ المسلمينَ في لبنانَ وفلسطينَ، وفي كلِّ مكانٍ واحقِنْ دماءَهم ياذا الجلالِ والإكرامِ.
… اللهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ وفِّقْ ولاةَ أُمُورِ المسلمين لما تحبُّ وترضَى، وخُذْ بنواصِيهم إلى البِرِّ وَالتَّقوَى، اللهمَّ وأسبِغْ علَى بلَدِنا هذا، وسائرِ بلادِ المسلمينَ نعمةَ الأمْنِ والأمانِ، ورَغَدَ العيشِ في ظلِّ شرعِكَ المطهَّرِ.
…اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ, واجعلْ عملَهما في رِضاكَ، اللهمَّ احفظْهما بحفظِكَ, واكلأْهما بِرعايَتِكَ, وألبِسْهما ثوبَ الصحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ, وتقبَّلِ اللهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
…عبادَ اللهِ:(120/6)
… اذْكُروا اللهَ ذِكْراً كثيراً، وكبِّروهُ تَكْبيراً، { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } { العنكبوت:45 } .
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(120/7)
اطبع هذه الصحفة
عواقِبُ الظُلم
عبادَ اللهِ
…لمَّا كانَ الظُّلمُ والعُدوانُ: مُنافِيَينِ للعدْلِ والحقِّ الذي اتَّصفَ بهِ الملِكُ الديَّانُ، ومنافِيَينِ للميزانِ؛ الذي قامتْ بهِ الأرضُ والسماواتُ، وحُكِمَ بهِ قِسطاً وعدلاً بيْنَ جميعِ المخلوقاتِ، كانَ الظُّلمُ والعُدوانُ عندَ اللهِ تعالى مِنْ أكبرِ الكبائرِ والمُوبقاتِ، وكانتْ درَجتُهُ فِي الجُرْمِ والإثمِ بحسَبِ مفسدتِهِ فِي الأفرادِ والمُجتمعاتِ.
…قالَ اللهُ تباركَ وتعالى في الحديثِ القدسيِّ:" يَا عبادِي إنِِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفْسِي؛ وجعلتُهُ بينَكُمْ مُحرَّماً: فَلا تَظالَمُوا " [أخرجَهُ مسلمٌ مِنْ حديثِ أبي ذرٍّ الغفاريِّ - رضي الله عنه -]، وإنَّ مِنْ أشنعِ البريَّةِ ظُلماً؛ وأَبْشعِها جُرْماً: أئِمةَ الظُّلمِ والبَغْيِ والضَّلالِ؛ ووُلاةَ الجَوْرِ والبطْشِ والنَّكالِ، الذينَ طالَما رَوَّعُوا العبادَ، وهَتَكوا حرمةَ البُيوتِ والبلادِ، وأهدروا حقوقَ البهائمِ والجَمادِ، فرَفَعُوا أعلامَ البَغيِ والفَسَادِ، ونكَّسُوا راياتِ العدْلِ والرَّشادِ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة بتاريخ
3 من رجب 1427هـ الموافق 28/7/2006م
عواقِبُ الظُلم
…الحمدُ للهِ الَّذي أكرمَ بالإسلامِ أولياءَهُ، وشرَّفَ بالإيمانِ أصفياءَهُ، وأقامَ بالميزانِ والعدْلِ أرضَهُ وسماءَهُ، أحمدُ ربِّي حمداً كثيراً طيِّباً مُباركاً فيهِ يَستَنْزِلُ وابلَ نَعَمائِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ شهادةً أدَّخِرُها ليومِ لقائِهِ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنَا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه المختومُ به ديوانُ رسُلِ اللهِ وأنبيائِهِ، صلَّى اللهُ وسلَّم عليهِ وعلى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ الذين اصطفاهمُ اللهُ لنُصْرَةِ نبيِّهِ واقتفائِهِ.
أما بعدُ:(121/1)
…فأُوصيكمْ ونفسيَ بتقوى اللهِ تعالى أيُّها المؤمنونَ، فاتَّقُوا اللهَ: { وابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ وجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } { المائدة: 35 } .
…عبادَ اللهِ:
…لمَّا كانَ الظُّلمُ والعُدوانُ: مُنافِيَينِ للعدْلِ والحقِّ الذي اتَّصفَ بهِ الملِكُ الديَّانُ، ومنافِيَينِ للميزانِ؛ الذي قامتْ بهِ الأرضُ والسماواتُ، وحُكِمَ بهِ قِسطاً وعدلاً بيْنَ جميعِ المخلوقاتِ، كانَ الظُّلمُ والعُدوانُ عندَ اللهِ تعالى مِنْ أكبرِ الكبائرِ والمُوبقاتِ، وكانتْ درَجتُهُ فِي الجُرْمِ والإثمِ بحسَبِ مفسدتِهِ فِي الأفرادِ والمُجتمعاتِ.
…قالَ اللهُ تباركَ وتعالى في الحديثِ القدسيِّ:" يَا عبادِي إنِِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفْسِي؛ وجعلتُهُ بينَكُمْ مُحرَّماً: فَلا تَظالَمُوا " [أخرجَهُ مسلمٌ مِنْ حديثِ أبي ذرٍّ الغفاريِّ - رضي الله عنه -]، وإنَّ مِنْ أشنعِ البريَّةِ ظُلماً؛ وأَبْشعِها جُرْماً: أئِمةَ الظُّلمِ والبَغْيِ والضَّلالِ؛ ووُلاةَ الجَوْرِ والبطْشِ والنَّكالِ، الذينَ طالَما رَوَّعُوا العبادَ، وهَتَكوا حرمةَ البُيوتِ والبلادِ، وأهدروا حقوقَ البهائمِ والجَمادِ، فرَفَعُوا أعلامَ البَغيِ والفَسَادِ، ونكَّسُوا راياتِ العدْلِ والرَّشادِ.
…فيَا لَلَّهِ،كمِ استنصرَ بهمْ مِنْ قويٍّ جائرٍ فأعزُّوهُ؛ وكمْ استصرخَهمْ مِنْ ضعيفٍ حائرٍ فأذلُّوهُ، قدْ سَامُوا شعوبَهُمْ سُوءَ العذابِ والبَلاءِ، فقتلُوا الرِّجالَ والوِلدانَ والنِّساءَ، هُمْ أبغضُ الخلقِ إلى اللهِ تعالى وأبعدُهُمْ مِنهُ منْزِلةً يومَ القيامةِ، يومَ يَبْدُو لهُمْ مِنَ اللهِ تعالى مَالا يَحتسبونَ مِنَ الملامَةِ النَّدامةِ، فهُمْ على مَافَرَّطُوا يَتحسَّرونَ: { َ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } { الأنعام: 31 }(121/2)
…والظَّلَمَةُ والطُّغاةُ؛ يلعنُهُمْ مَنْ فِي الأرضِ ومَنْ فِي السَّماواتِ، بَلْ تلعنُهُمْ جميعُ المخلوقاتِ، حتَّى الحيتانُ فِي البحارِ؛ والطيورُ فِي الأَوْكارِ؛ والنَّمْلُ فوقَ ظُهورِ الأحجارِ، قدْ نَامَ الظالمُ وأعينُ العبادِ ساهرةٌ فِي جُنَحِ الأسحارِ، تدعُو عليهِ الواحدَ القهَّارَ، فإذا بدعوتِهِمْ تصعَدُ إلَى السَّماءِ كأنَّها شَرارةٌ مِنَ النَّارِ، قدْ كُشِفَ الحجابُ بينَها وبينَ العزيزِ الغفَّارِ، فإذا بخطابِ الفرَجِ والحنينِ، يُخالِطُ بَشاشةَ قلوبِ المُوقِنينَ: وعِزَّتِي وجلالِي لأنْصُرَنَّكِ ولَوْ بعدَ حينٍ: ?فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُ للهِ ربِّ العَالمَيِنَ? ?الأنعام: 45?.
لا تَظْلِمَنَّ إذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِراً فالظُّلْمُ آخِرُهُ يُفْضي إلى النَّدَمِ
واحْذَرْ أُخَيَّ مِنَ المَظْلُومِ دَعْوَتَهُ لا تَأْخُذَنْكَ سِهَامُ الليلِ فِي الظُّلَمِ
تَنَامُ عَيْنَاكَ وَالمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللهِ لَمْ تَنَمِ
لا شَكَّ دعوةُ مظلومٍ تَحِلُّ بِهَا دارَ الهَوانِ ودارَ الذُّلِ والنِّقَمِ
…فهلْ عَمِيَتْ أبصارُ الظَّالمينَ؛ وهلْ طُمِسَتْ بصائِرُ المُجرمينَ؛ عنْ رُؤيةِ مَا فَعَلَهُ اللهُ تعالى بالأُمَمِ السَّالفينَ: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * التِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلَادِ * وثَمُودَ الذِين َجَابُوا الصَّخْرَ بِالوَادِ * وفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ * الذِينَ طَغَوْا فِي البِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ } { الفجر: 6-14 } .(121/3)
…وهلْ صُمَّتْ آذانُ الملوكِ الجبابرَةِ عَنْ معرفةِ مصيرِ الطُّغاةِ الوَخِيمِ؛ ومُنقلَبِ العُتَاةِ الذَّميمِ، الذي أَخْبَرَ اللهُ تعالى عنهُ فِي مُحْكَمِ الذِّكرِ الحكيمِ: { فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلِيهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ولَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } { العنكبوت: 40 } .
…فاسْألِ النَّاسَ والأوطانَ، أينَ آثارُ المُلْكِ والسُّلطانِ، تجِدِ الجوابَ مُسطَّراً في القرآنِ: { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * ونَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمَاً آخَرِينَ* فَمَا بَكَتْ عَلِيْهِمُ السَّمَاءُ والأَرْضُ ومَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } { الدخان: 25-29 } ، قدْ أزَّتْهُمُ الكِبرياءُ إلى الطُّغيانِ أزاً، ولَبِسُوا ثوبَ الخُيَلاءِ ليكونَ لهُمْ عِزاً، ولمْ يَعْتَبِرُوا بِمَنْ أهلكَ اللهُ تعالى قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ؛ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزَاً.
…فالعبيدُ؛ ليسَ بينهُمْ وبينَ الحميدِ المجيدِ: حَسَبٌ ولا نَسَبٌ؛ إلا مَا كانَ مِنْ صالحِ العمَلِ والسَّببِ، ألمْ يَسمعُوا إلَى قولِ ربِّ العالمينَ: { أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ والذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } { الدخان: 37 } .(121/4)
…وواللهِ؛ ثُمَّ واللهِ؛ ثم والله؛ إنَّ مَا حلَّ بالأُمَمِ السَّالِفةِ؛ ومَا نَزَلَ بالقُرونِ الهالِكةِ التَّالفةِ: قريبٌ مِمَّنْ شاكَلَ أوصافَهُمْ؛ ومُوشِكٌ أنْ يَحِلَّ بِمَنْ حَاكَى أعرافَهُمْ، كمَا قالَ اللهُ تعالَى: { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ* مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّلِمِينَ بِبَعِيدٍ } { هود: 82-83 } .
…باركَ اللهُ لِي ولَكُمْ فِي القرآنِ العظيمِ، ونَفَعَنا بهديِ النَّبيِّ الكريمِ، الهادِي إلى الصِّراطِ المُستقيمِ، والدَّاعي إلى الدِّينِ القويمِ، فاستغفرُوا الله إنَّهُ هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ غافِرِ الذُّنوبِ، وقابلِ التَوْبِ وساترِ العُيوبِ، ومُفرِّجِ الهمِّ وكاشفِ الكُروبِ، سبحانَهُ وبحمدِهِ: يُؤتي المُلكَ مَنْ يشاءُ، ويَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ يَشاءُ، ويُعِزُّ مَنْ يَشاءُ، ويُذِلُّ مَنْ يَشاءُ، بيدِهِ الخيرُ، إنَّهُ عَلَى كُلِّ شيءٍ قديرٌ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له السَّميعُ البصيرُ، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ البشيرُ النَّذيرُ؛ والسِّراجُ المنيرُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ المصيرِ.
…أما بعدُ: فأُوصيكمْ عبادَ اللهِ تعَالى بالتَّقوى الَّتي بها تنتفعُون، فاتَّقوا اللهَ { ولْتنظُرْ نَفسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ واتَّقوا اللهَ إنَّ اللهَ خَبيرٌ بما تَعْملَونَ * ولا تكُونوا كالذِينَ نَسُوا اللهَ فأَنْساهُمْ أَنْفُسَهم أُولئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } { الحشر:18-19 }(121/5)
… أيُّها المؤمنونَ: ما أشبهَ الليلةَ بالبارحةِ، ومَا أقربَ ساعاتِ البَطَرِ والأشرِ مِنَ الليالِي التَّرِحَةِ، فهَا هَيِ القارعةُ تُصِيبُ طُغاةَ اليومِ وتَحِلُّ بدارِهِمْ وضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، كمَا قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ، فأهْلَكَهُمُ اللهُ تعالى كمَا أهلكَ القُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وهُدَىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
…وهَا هِيَ عاقبةُ رموزِ الطُّغيانِ؛ فِي هَذا الزَّمانِ؛ ومَا جَاوَرَنَا مِنَ البُلدانِ، يجعلُها ربُّ العالمينَ: { نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } { البقرة:66 } .(121/6)
…وصدقَ النَّبيُّ الكريمُ؛ عليهِ أفضلُ الصَّلاةِ وأتمُّ التَّسليمِ؛ فِي قولِهِ القويمِ: "إنَّ اللهَ لِيُملِي للظَّالِمِ حتَّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ" ثُمَّ قَرَأ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } ?هود: 102 } [أخرجَهُ البُخاريُّ مِنْ حديثِ أبي موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه - ]، فحَذَارِ ثُمَّ حَذَارِ يَا عبادَ اللهِ الأخيارِ، مِنْ سُلوكِ سبيلِ الظَّلَمَةِ الفُجَّارِ، فهَا هِيَ لذَّاتُهُمْ قَدْ ذَهَبَتْ وبَقِيَ لهُمْ العَارُ، ومَلَكَ غيرُهُمْ قُصُورَهُمُ التِي شيَّدُوهَا ومَلَؤُوا بِهَا الأقْطَارَ، فَتُرِكُوا بالعذَابِ مِنْ وَرَاءِ الأسْتَارِ؛ بَيْنَ أطباقِ الثَّرى والأحْجَارِ، فَلا مُغِيثَ ولا مُعِينَ ولا جَارَ، قدْ شَيَّدُوا بُنيانَ أمَلِهِمْ وطَمَعِهِمْ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، فإذا قَامُوا إلى القِيامَةِ وَبَرَزُوا للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ: زادَ البَلاءُ على المِقْدارِ، فإذا سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ، فعزاءُ المظلومينَ؛ تعزيةُ ربِّ العالمينَ: { َلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِرُّهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ } { إبراهيم: 42 }
…ولْيَكُنْ مِسْكُ الخِتَامِ، معشرَ الإخوةِ الكِرامِ: ترطيبَ ألسنتِكم بالصَّلاةِ والسَّلامِ، على خيرِ الأنامِ، امتثالاً لأمرِ الملِكِ القُدُّوسِ السَّلامِ، حيثُ قالَ في خيرِ كلامٍ: { إنَّ اللهَ وملائِكتَهُ يُصَلُّونَ علَى النبيِّ يا أيُّها الَذينَ آمنُوا صَلُّوا عليهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب: 56 } .(121/7)
…اللَّهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، وباركْ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّد، كمَا باركتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، في العالمينَ، إنَّك حميدٌ مجيدٌ.
…وارضَ اللَّهمَّ عن الأربعةِ الخُلفاءِ الراشدينَ؛ والأئمةِ الحنفاءِ المهديِّينَ، أولي الفضْلِ الجَليِّ؛ والقَدْرِ العليِّ: أبي بكرٍ الصديقِ؛ وعمرَ الفاروقِ؛ وذي النُّورينِ عُثمانَ؛ وأبي السِّبطينِ عليٍّ، وارضَ اللَّهمَّ عنْ آلِ نبيِّك وأزواجِهِ المُطَهَّرِينَ مِنْ الأرجاسِ؛ وصحابتِهِ الصَّفوةِ الأخيارِ من النَّاسِ.
…اللَّهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللَّهمَّ إنَّكَ سميعٌ عليمٌ لا يخْفَى عليكَ حالُ إخوانِنَا المُسلمينَ المُستضعفينَ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها، اللَّهمَّ أعِنهُمْ ولا تُعِنْ عليْهِمْ، وانْصُرْهُمْ ولا تَنْصُرْ عليْهم، وامْكُرْ لهم ولا تَمْكُرْ بِْهم، ويَسِّرِ الهُدى لَهُم، وانْصُرْهُمْ على مَنْ بَغَى عليْهم.
…اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِهِمْ شيئاً فَرَفِقَ بِهِمْ: فَارْفُقْ بِهِ، ومَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِهِمْ شيئاً فَشَقَّ عَلَيْهِمْ: فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، الَّلهُمَّ ولِّ عليهِمْ خِيارَهُمْ؛ واكْفِهِمْ شِرارَهُمْ، واجعلْ وِلايَتَهُمْ فيمَنْ خافَكَ واتَّقاكَ؛ واتَّبعَ دينَكَ والْتَمَسَ رِضَاكَ، الَّلهمَّ وفِّقْ وليَّ أمرِنا ووليَّ عهدِهِ لحملِ الأمانةِ، وارزقْهما صلاحَ البِطانةِ، وادْفعْ عنهما أهلَ الكيْدِ والبَغْي والخِيانةِ.
…………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(121/8)
اطبع هذه الصحفة
نعمة الأمن
معْشَرَ العِبَادِ:
إنَّ مِنْ أجَلِّ النِّعَمِ الظَّاهرةِ والباطِنَةِ الَّتي تَفُوق ُالإحصاءَ والتَّعدادَ، والَّتي يُسبِغُهَا علَيْنا الكَريمُ الجوَادُ: نعْمةَ الأمْنِ في البِلادِ، يقولُ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"مَن أصبحَ منكمْ مُعَافَىً في جَسَدِهِ،آمِناً في سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يومِهِ فَكَأنَّما حِيْزَتْ لَهُ الدُّنْيا"[رواهُ التِّرمذيُّ وابنُ ماجةَ مِنْ حديثِ عبيدِ اللهِ بنِ مِحْصَنٍٍ الأنصاريِّ - رضي الله عنه - ].فالأمنُ في الأوطانِ، والمعافاةُ في الأبدانِ: سببٌ لِتَفَرُّغِ الإنسانِ، لِعبادةِ الرَّحمنِ، { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ*الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } { قريش: 3-4 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ10 من رجب 1427هـ الموافق 4/ 8/2006م
نعمة الأمن
…الحمْدُ للهِ؛ الَّذي آمنَنَا مِنْ خَوْفٍ وأطْعَمَنا مِن جُوعٍ، أحمَدُ ربِّي حَمْدًا كثيراً طيِّباً مبارَكًا فِيْهِ وهُوَ الْمُستحِقُّ وحدَهُ للخشيَة والخُشُوعِ، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ في العُبُوديَّةِ مَعَ كمالِ الْحُبِّ والخُضُوع،ِ وأشْهدُ أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبْدٌ قانِتٌ تَوَرَّمَتْ قدماهُ مِنْ طُولِ القِيامِ والرُّكوعِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ خيرِ تابِعٍ ومَتْبُوعٍ.
أمَّا بَعْدُ:
فأُوصيكمْ ونفسي - أيُّها النَّاسُ - بتقوى اللهِ تعالى في السِّرِّ والعَلَنِ، واجْتِنَابِ الفَواحِشِ ما ظَهَرَ منْها وَما بَطَنَ، وإصْلاحِ ما بَرَزَ مِنْ ضمائِرِكُمْ وما اسْتَكَنَّ، والمحافظةِ على أداءِ الفرائضِ والسُّنَنِ، والإعراضِ عنْ كلِّ قبيحٍ والإقبالِ على كلِّ حَسَنٍ، { يَا أيُّها الذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حقَّ تُقاتِهِ ولا تَموتُنَّ إلا وأنْتُمْ مُسلمونَ } { آل عمران: 102 } .(122/1)
معْشَرَ العِبَادِ:
إنَّ مِنْ أجَلِّ النِّعَمِ الظَّاهرةِ والباطِنَةِ الَّتي تَفُوق ُالإحصاءَ والتَّعدادَ، والَّتي يُسبِغُهَا علَيْنا الكَريمُ الجوَادُ: نعْمةَ الأمْنِ في البِلادِ، يقولُ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"مَن أصبحَ منكمْ مُعَافَىً في جَسَدِهِ،آمِناً في سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يومِهِ فَكَأنَّما حِيْزَتْ لَهُ الدُّنْيا"[رواهُ التِّرمذيُّ وابنُ ماجةَ مِنْ حديثِ عبيدِ اللهِ بنِ مِحْصَنٍٍ الأنصاريِّ - رضي الله عنه - ].فالأمنُ في الأوطانِ، والمعافاةُ في الأبدانِ: سببٌ لِتَفَرُّغِ الإنسانِ، لِعبادةِ الرَّحمنِ، { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ*الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } { قريش: 3-4 } .
…فامْتنَّ اللهُ تعالى علَى أهلِ مكةَ بهاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ، اللَّتَيْنِ تَقَرُّ بهما العَيْنُ، كَما امْتنَّ الكبيرُ المتعالْ؛ على أهلِ سبأٍ بالرِّزقِ الحلالِ، والأمنِ في الأيامِ واللَّيالي، فقالَ في الامْتِنانِ: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وشِمَالٍ، كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ، بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ، ورَبٌّ غَفُورٌ } { سبأ: 15 } ، وقالَ في الأمانِ: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى التي بَارَكْنَا فِيهَا قُرَىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وأيَّاماً آمِنِينَ } { سبأ: 18 } .(122/2)
وإنَّ سَلْبَ نِعمةِ الأمنِ في الوَطَنِ، ونَزْعَ المعافاةِ في البَدَنِ: لَمِنْ أعظمِ الفِتَنِ، وأجْسَمِ الْمِحَنِ، لِذا فَقَدْ أَمَرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَهُ - رضيَ اللهُ عنهمْ - بالتَّعَوُّذِ مِنَ الفِتَنِ، فقالَ:"تَعَوَّذُوا باللهِ مِنَ الفِتَنِ، ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ. فقالوا: نَعُوذُ باللهِ من الفتنِ، ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ"[رواهُ مسلمٌ مِنْ حديثِ زيدِ بنِ ثابتٍ - رضي الله عنه -].
لِذا كانَ الصحابةُ - رضيَ اللهُ عنهمْ - يَتَخَوَّفُونَ مِنْ فتنةِ الخَوْفِ في الوَطَنِ، الَّذِي من أسبابِهِ انتهاكُ حرمةِ البَدَنِ، قالَ حذيفةُ بنُ اليمانِ - رضيَ اللهُ عنهما - كنَّا عِنْدَ عمرَ بنِ الخطَّابِ - رضي الله عنه - فقالَ: أيُّكمْ سَمِعَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يذْكُرُ الفِتَنِ؟.
…فقالَ قومٌ: نَحْنُ سَمِعْناهُ فقالَ عُمَرُ: لعلَّكمْ تَعْنُونَ فتنةَ الرَّجُلِ في أهلِهِ وجارِهِ؟ فقالوا: أجلْ.
فَقَالَ عُمَرُ: تِلكَ تكفِّرُها الصَّلاةُ والصِّيامُ والصَّدَقَةُ، ولكنْ أيُّكمْ سَمِعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ الفِتَنَ الَّتي تموجُ مَوْجَ البَحْرِ؟ قالَ حذيفةُ: فَسَكَتَ القَوْمُ، فَقُلْتُ: أَنَا. فقالَ عُمَرُ: أَنْتَ لِلَّهِ أبوكَ، فقالَ حذيفةُ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "تُعْرَضُ الفِتَنُ على القُلُوبِ كالحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها نُكِتَ فيهِ نُكْتَةٌ سوداءُ، وأيُّ قلبٍ أَنْكَرَها نُكِتَ فيهِ نُكْتَةٌ بيضاءُ، حتَّى تصيرَ على قَلْبَيْنِ: على أبيضَ مثلِ الصَّفا، فلا تضرُّهُ فتنةٌ ما دامَتِ السَّماواتُ والأَرْضُ، والآخَرُ أسودُ مُرباداً كالكُوزِ مجَخِّيَاً – أيْ: كالكُوبِ الْمَقلُوبِ-، لا يَعْرِفُ مَعْروفاً ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلا ما أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ".(122/3)
…فقالَ حُذَيفةُ: ما لَكَ ولَها يا أميرَ المؤمنينَ، إنَّ بينكَ وبَيْنَها بابًا مُغْلَقًا. فقالَ عُمَرُ: أَفَيُكْسَرُ البابُ أم يُفْتَحُ؟ فقالَ حُذَيْفةُ: لا بَلْ يُكْسَرُ. فقالَ عُمَرُ: أَكَسْرًا لا أبَالكَ، فلَوْ أنَّهُ فُتِحَ لعلَّهُ كانَ يُعادُ. فقالَ حُذَيْفةُ: لا بَلْ يُكْسَرُ، وحَدَّثْتُهُ أنَّ ذلكَ البابَ رجلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ.
… فقالَ القَومُ لِحُذَيْفَةَ: هَلْ كانَ عُمَرُ يَعلمُ مَنِ البابُ؟ فقالَ حذيفةُ:نَعَمْ، كَمَا يَعلمُ أنَّ دونَ غَدٍ اللَّيلةَ، إني حدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بالأَغالِيطِ. فهابَ القومُ أنْ يسألوا حُذيفةَ مَنِ البابُ؟ فقالوا لِمَسروقَ: سَلْهُ. فَسَأَلَهُ مَسْروقُ؛ فقالَ حُذيفةُ: عُمَرُ"[رواهَ البُخاريُّ ومسلمٌ]،فَعُمَرُ بنُ الخطَّابِ، لَمْ يطلبْ في سؤالِهِ عَنِ الفِتَنِ الجوابَ، إلا لَمَّا سَمِعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُها ويُحذِّرُ منها الأصحابَ، فاحْرِصُوا -رَحِمَني اللهُ وإيَّاكُمْ- على بَذْلِ صالحِ الأسبابِ؛ الَّتي تحقِّقُ لكمْ بإذنِ العزيزِ الوهَّابِ: الأمنَ في الأوطانِ، والمعافاةَ في الأبدانِ.
…بارَكَ اللهُ ليْ ولكمْ في القرآنِ العظيمِ، ونفَعَنا بهدي النَّبيِّ الكريمِ، الهادِي إلى الصِّراطِ المُستقيمِ، والدَّاعي إلى الدِّينِ القَوِيمِ.
… أقولُ ما تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ تعالى ليْ ولكمْ أيُّها المسلمونَ، فاستغفرُوهُ إنَّه كانَ للأوابينَ غفوراً، ولِلْمُحْسِنينَ شَكُوراً.
الخطبة الثانية(122/4)
…الْحَمْدُ للهِ؛ الَّذي لَمْ يَزَلْ بالمعروفِ معروفًا، وبالنَّوالِ والإفْضالِ مَوْصُوفًا، سبحانَهُ وبحمدِهِ: يُجْبِرُ الكسيرَ، ويُغْنِي الفقيرَ، ويُعلِّمُ الجاهلَ ويُرشِدُ الْحَيْرانَ، ويَهْدي الضَّالَّ ويُغيثُ اللَّهفانَ، ويُعافي الْمُبتَليَ ويَفُكُّ العانِي، ويُشْبِعُ الجائعَ ويَكْسُو العاري، ويُقيلُ العَثَراتِ، ويَسْتُرُ العَوْراتِ، يُؤْتي الملكَ مَنْ يشاءُ، ويَنْزِعُ الْمُلكَ مِمَّنْ يَشاءُ، ويُعِزُّ مَنْ يشاءُ، ويُذِلُّ مَنْ يشاءُ، بيدِهِ الخَيْرُ، إنَّهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأَشْهَدُ أْن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ اللَّطيفُ الخبيرُ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ البشيرُ النذيرُ؛ والسِّراجُ المنيرُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ علَيْهِ وعلى آلِهِ وَأزواجِهِ وأصحابِهِ ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ المصيرِ.
…أمَّا بَعْدُ:
…فأوصيكمْ ونَفْسِي بتقوى الْمَلِكِ القُدُّوسِ، فتقوى اللهِ تعالى خيرُ لِبَاسٍ تَسَرْبَلَتْ بِهِ النُّفُوسُ.
…عِبَادَ اللهِ الأحبابِ:
… إنَّ الحديثَ عَنِ الأمْنِ في الدِيارِ يَسْتَدعي معرفةَ ما يُوجِبُ ذلكَ مِنَ الأسبابِ، وأعلى هذِهِ الأسبابِ: هي تقوى العزيزِ الوَهَّابِ، الْمُتَمَثِّلةُ في الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ المُوجِبِ لِحُسْنِ العاقبةِ والمآبِ، كَمَا قالَ تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } { النور: 55 } .(122/5)
…ومِنْ هذِهِ الأسبابِ مَعْشَرَ الأخيارِ؛ الَّتي تُوجِبُ الأَمْنَ في الدِّيارِ: الانتهاءُ عَنِ الظُّلْمِ الَّذي هُوَ مِنْ أعظمِ الشُّرورِ والأخطارِ، لا سِيَّما ظُلْمُ العبدِ لِنَفْسِهِ، وشِرْكُهُ بالعزيزِ الغفَّارِ، كَمَا قالَ تعالى: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } { الأنعام:82 } .
…ومِسْكُ الخِتامِ، مَعْشَرَ الإخوةِ الكِرامِ: ترطيبُ الأفواهِ بالصَّلاةِ والسَّلامِ، على خيرِ الأنامِ، امتثالاً لأمرِ الْمَلِكِ القُدُّوسِ السَّلامِ، حيثُ قالَ في أصدقِ قيلٍ وأحسنِ حديثٍ وخيرِ كلامٍ: { إنَّ اللهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبيِّ يَأيُّها الذينَ آمنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً { } الأحزاب:56 } .
…اللَّهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ، كَمَا صلَّيتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وبارِكْ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ، كَمَا باركْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، في العالمينَ، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ.
وارضَ اللَّهمَّ عن الأربعةِ الخلفاءِ الراشدينَ؛ والأئِمَةِ الحُنفاءِ المهديِّينَ، أُولي الفَضْلِ الجَلِيِّ؛ والقَدْرِ العَلِيِّ: أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ؛ وعُمَرَ الفاروقِ؛ وذي النُّورَينِ عُثمانَ؛ وأبي السِّبطَينِ عليٍّ.
…وارضَ اللَّهمَّ عَنْ عمَّيْ نبيِّكَ حمزةَ والعبَّاسِ، وسِبْطَي نبيِّكَ الحَسَنِ والحُسَينِ سَيِّدَيْ شبابِ أهلِ الجنَّةِ بِلا الْتِبَاسِ، وآلِهِ وأزواجِهِ المُطَهَّرِينَ من الأرجاسِ؛ وصحابتِهِ الصَّفْوَةِ الأخيارِ من النَّاسِ.(122/6)
اللَّهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللَّهمَّ أعِنَّا ولا تُعِنْ عليْنَا، وانْصُرْنَا ولا تَنْصُرْ عليْنَا، وامْكُرْ لنَا ولا تَمْكُرْ عليْنَا، ويَسِّرِ الهُدى لنَا، وانْصُرْنَا على مَنْ بَغَى عليْنَا، اللَّهُمَّ إنِّا نسألُكَ النَّعيمَ يَوْمَ العَيْلَةِ؛ والأمنَ يومَ الخوفِ. اللهُمَّ إنِّا نعوذُ بِكَ من شرِّ ما أعْطَيْتَنَا؛ وشرِّ ما مَنَعْتَنَا، اللهُمَّ توفَّنا مُسلمِينَ، وأحيِنَا مُسلمِينَ، وألْحِقْنَا بالصَّالِحينَ، غيرَ خَزَايا ولا مَفتُونينَ، اللَّهمَّ آمِنَّا في الأوْطانِ والدُّورِ، وجَنِّبْنا الفِتَنَ والشُّرورَ، وأصلحِ اللَّهمَّ لنا وُلاةَ الأمورِ، وأسكنْ أرواحَ مَنْ تَقَبَّلْتَه مِنْ شهدائِنا في الرَّوضةِ والحُبُورِ، بِرَحْمَتِكَ يا عزيزُ يا غفورُ، ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً؛ وفي الآخرة حسنةً؛ وقنا عذاب النَّار.
…اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ,واجعلْ عملَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ, واكْلَأْهما بِرعايَتِكَ, وألبِسْهُما ثوبَ الصِّحةِ والعافِيَةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجعلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
…عبادَ اللهِ:
اذكروا الله ذِكْراً كثيراً، وكبِّرُوهُ تكبيراً، وسبِّحُوهُ بُكْرةً وأصيلاً، { وَأَقِمِ الصَّلاةَ، إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ، ولِذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ، واللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } { العنكبوت: 45 } .
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(122/7)
اطبع هذه الصحفة
الأعمال بالخواتيم
أيُّها المسلمونَ:
…وإنْ أردتُمْ أنْ تَقِفُوا على مدَى سِعَةِ رحمةِ ربِّنا الرَّحيمِ الرَّحمنِ, وكيفَ يقضِي بِالخاتمةِ الجليلةِ للصَّادقِ الْمُقبلِ مِنْ بَنِي الإنسانِ, فَهَاكُمْ ما أخْرَجَهُ الشَّيخانُ, عَنْ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -؛ أنَّ نبيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:" كانَ فِيمَنْ كانَ قبلَكُمْ رجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتسعِينَ نَفْسًا, فسَأَلَ عَنْ أعلمِ أهلِ الأرضِ فدُلَّ على راهبٍ, فأَتَاهُ فقالَ: إنَّهُ قَتَلَ تسعةً وتسعينَ نَفْسًا, فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فقالَ: لا. فقَتَلَهُ, فكمَّلَ بِهِ مائةً. ثمَّ سَأَلَ عَنْ أعلمِ أهلِ الأرضِ فدُلَّ على رجلٍ عالمٍ, فقالَ: إنَّهُ قَتَلَ مائةَ نَفْسٍ, فهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فقالَ: نَعَمْ, ومَنْ يَحُولُ بينَهُ وبينَ التَّوبَةِ ؟! اِنطلِقْ إلى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا؛ فإنَّ بِهَا أُناسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ, ولا تَرْجِعْ إلى أرضِكَ فإنَّها أرضُ سوءٍ.فانْطَلَقَ حتَّى إذا نَصَفَ الطَّريقُ أتاهُ الموْتُ, فاخْتَصَمَتْ فيهِ ملائكةُ الرَّحمةِ وملائكةُ العَذَابِ, فقالتْ ملائكةُ الرَّحمةِ: جاءَ تائبًا مقبلاً بقلبِهِ إلى اللهِ. وقالتْ ملائكةُ العذابِ: إنَّهُ لَمْ يعملْ خيرًا قطُّ, فأتاهُ ملكٌ في صورةِ آدميٍّ. فجَعَلوهُ بينَهُم, فقالَ: قِيْسُوا ما بينَ الأرْضَيْنِ؛ فإلى أيَّتِهما كانَ أدْنَى، فهُوَ لَهُ. فقاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أدْنَى إلى الأرضِ الَّتي أرادَ, فقَبَضَتْهُ ملائكةُ الرَّحمةِ".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 17 رجب 1427هـ الموافق 11/8/ 2006م
الأعمال بالخواتيم(123/1)
…الحمْدُ للهِ الَّذي هَدَانا لِدينِ الإسلامِ, وأمَرَنا بطاعتِهِ وعبادتِهِ إلى يومِ الخِتامِ, وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ ذو الفَضْلِ والجُودِ والإنعامِ, وأشْهَدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ سيِّدُ الأنامِ, وصفْوَةُ الرُّسُلِ الكِرامِ, عَبَدَ ربَّهُ وأطاعَهُ إلى أنْ أتاهُ اليَقِينُ مِنَ الملِكِ القُدُّوسِ السَّلامِ, فَصَلواتُ اللهِ تعالى وسلامُهُ علَيْهِ بتعاقُبِ اللَّيالي والأيامِ.
…أمَّا بَعْدُ:
…فأُوصيكُمْ – عبادَ اللهِ – ونَفْسِي أوّلاً بتقَوى ربِّ العَالمينَ؛ فإنَّها وصيتُهُ سبحانَهُ للأوَّلينَ والآخِِرينَ, قالَ تعالى: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ } { النساء:131 } .
… أيُّها المسلمونَ:
… إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لَمْ يَخْلقْنا عَبَثًا, ولَمْ يَتْرُكْنا سُدَىً, وإنَّمَا أمَرَنا بطاعتِهِ, ونَهَانا عَنْ معصيتِهِ, ورَغَّبَنا في جنتِهِ وثوابِهِ, وحذَّرَنا مِنْ نارِهِ وعقابِهِ, قالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } { المؤمنون: 115- 116 } , وقالَ سبحانَهُ: { أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } { القيامة:36 } .(123/2)
…فَالسَّعيدُ مَنِ اتَّبَعَ واقْتَفَى, وَالشَّقِيُ مَنْ أعْرَضَ وتَوَلَّى, وَليسَ المطلوبُ مِنَ العبدِ أنْ يَعْبُدَ ربَّهُ زَمَنًا محدُودًا مِنْ عُمُرِهِ فَحَسْبُ, بَلْ المطلوبُ والواجبُ مِنْهُ أنْ يعبُدَهُ عُمُرَهُ كلَّهُ, إلى أنْ يفارِقَ الدُّنيا ويقبلَ على الأُخْرَى, كَمَا أَمَرَ اللهُ تعالى بذلكَ نبيَّهُ محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فقالَ لَهُ: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } { الحجر:99 } .
…ولْيَعْلَمْ المسلمُ أنَّ الأمورَ بخواتِيمِها, وأنَّ مِنْ أعظمِ وأهمِّ وأخطرِ عُمُرِ الإنسانِ آخرَهُ؛ فَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعود - رضي الله عنه - قالَ:حَدّثَنَا رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ الصّادِقُ الْمَصْدُوقُ, فَذَكَرَ الحديثَ, وَفِيهِ:"فَوَ الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ:إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّىَ مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاّ ذِرَاعٌ, فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ, فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا, وَإِنّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ, حَتَّىَ مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ,فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ,فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.فَيَدْخُلُهَا"[متَّفقٌ علَيْهِ].(123/3)
واسْتَمِعُوا - معاشِرَ المسلمينَ, وفضلاءِ المؤمنينَ - إلى هذِهِ القصَّةِ العجيبةِ الَّتي تؤكِّدُ ما ذكرناهُ, وتُوَضِّحُ ما عَرَضْناهُ, فَعَنْ سهْلِ بنِ سعدٍ السَّاعِدِيِّ- رضِيَ الله عنهما- قالَ: نَظَرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى رجلٍ يقاتلُ المشركينَ، وكانَ مِنْ أعظمِ المسلمينَ غِنَاءً عَنْهُم، فقالَ:"مَنْ أحَبَّ أنْ ينظرَ إلى رجلٍ مِنْ أهلِ النَّار فلْيَنْظُرْ إلى هَذَا".فَتَبِعَهُ رجلٌ، فَلَمْ يَزَلْ على ذلِكَ حتَّى جُرِحَ، فاسْتَعْجَلَ الموْتَ، فقالَ بذُبابةِ(أي:طرفِهِ وحدِّهِ) سيفِهِ فوَضَعَهُ بينَ ثدْيَيْهِ، فتَحَامَلَ علَيْهِ حتَّى خَرَجَ مِنْ بينِ كَتِفَيْهِ، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"إنَّ العبدَ لَيَعْمَلُ- فِيْمَا يَرَى النَّاسُ- عَمَلَ أهْلِ الجنَّةِ وإنَّهُ لَمِنْ أهلِ النَّارِ، ويَعْمَلُ- فيما يَرَى النَّاسُ- عَمَلَ أهلِ النَّارِ وهُوَ مِنْ أهلِ الجنَّةِ،وإنَّما الأعمالُ بخواتيمِها"[متَّفقٌ علَيْهِ].
…أيُّها المسلمونَ:(123/4)
…وإنْ أردتُمْ أنْ تَقِفُوا على مدَى سِعَةِ رحمةِ ربِّنا الرَّحيمِ الرَّحمنِ, وكيفَ يقضِي بِالخاتمةِ الجليلةِ للصَّادقِ الْمُقبلِ مِنْ بَنِي الإنسانِ, فَهَاكُمْ ما أخْرَجَهُ الشَّيخانُ, عَنْ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -؛ أنَّ نبيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:" كانَ فِيمَنْ كانَ قبلَكُمْ رجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتسعِينَ نَفْسًا, فسَأَلَ عَنْ أعلمِ أهلِ الأرضِ فدُلَّ على راهبٍ, فأَتَاهُ فقالَ: إنَّهُ قَتَلَ تسعةً وتسعينَ نَفْسًا, فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فقالَ: لا. فقَتَلَهُ, فكمَّلَ بِهِ مائةً. ثمَّ سَأَلَ عَنْ أعلمِ أهلِ الأرضِ فدُلَّ على رجلٍ عالمٍ, فقالَ: إنَّهُ قَتَلَ مائةَ نَفْسٍ, فهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فقالَ: نَعَمْ, ومَنْ يَحُولُ بينَهُ وبينَ التَّوبَةِ ؟! اِنطلِقْ إلى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا؛ فإنَّ بِهَا أُناسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ, ولا تَرْجِعْ إلى أرضِكَ فإنَّها أرضُ سوءٍ.فانْطَلَقَ حتَّى إذا نَصَفَ الطَّريقُ أتاهُ الموْتُ, فاخْتَصَمَتْ فيهِ ملائكةُ الرَّحمةِ وملائكةُ العَذَابِ, فقالتْ ملائكةُ الرَّحمةِ: جاءَ تائبًا مقبلاً بقلبِهِ إلى اللهِ. وقالتْ ملائكةُ العذابِ: إنَّهُ لَمْ يعملْ خيرًا قطُّ, فأتاهُ ملكٌ في صورةِ آدميٍّ. فجَعَلوهُ بينَهُم, فقالَ: قِيْسُوا ما بينَ الأرْضَيْنِ؛ فإلى أيَّتِهما كانَ أدْنَى، فهُوَ لَهُ. فقاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أدْنَى إلى الأرضِ الَّتي أرادَ, فقَبَضَتْهُ ملائكةُ الرَّحمةِ".
…وفي روايةٍ لمسلمٍ:"فكانَ إلى القريةِ الصَّالحةِ أقربَ منها بشِبْرٍ, فجُعِلَ مِنْ أهلِها".وفي روايةٍ أُخْرَى لَهُ - أيضًا -"فأَوْحَى اللهُ إلى هَذِهِ: أنْ تبَاعَدِي, وإلى هذِهِ: أن تَقَرَّبي".(123/5)
…باركَ اللهُ لي ولكُمْ بالقرآنِ العظيمِ, ونفعَني وإياكمْ بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ, أقولُ قولي هَذَا وأستغفرُ اللهَ ليْ ولكُمْ ولسائرِ المسلمينَ فاستغفرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمْدُ للهِ الَّذِي أنْزَلَ الفرقانَ على عبدِهِ لِيَكونَ للعالمينَ نذيرًا، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ, بشَّرَ المؤمنينَ الَّذينَ يعملونَ الصَّالحاتِ بأنَّ لهُمْ أجرًا كبيرًا، وأشهَدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ, أرسلَهُ ربُّهُ بالحقِّ شاهدًا ومبشِّرًا ونذيرًا, وداعيًا إلى اللهِ بإذنِهِ وسِراجًا منيرًا, اللَّهمَّ صلِّ علَيْهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا.
… أمَّا بعدُ: فَيَا عبادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تعالى حقَّ تَقْوَاهُ, واعْمَلوا بطاعتِهِ ورضاهُ.
… أيُّها المسلمونَ:
… لَقَدْ أَمَرَنا اللهُ عزَّ وَجلَّ في كتابِهِ الكريمِ, بأَمْرٍ جليلٍ عظيمٍ, فقالَ – سبحانَهُ – وهُوَ أصدقُ القائلينَ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمرن:102 } .
وقَدْ يَسْأَلُ سائلٌ, أو يقولُ قائلٌ: وكَيْفَ لا نموتُ إلا على الإسلامِ والموتُ ليسَ بيدِ الإنسانِ, وإنَّما هُوَ بيدِ الواحدِ الدَّيَّانِ, جلَّ جلالُهُ, وتقدَّسَتْ أسماؤُهُ؟.
…والجوابُ - معاشِرَ المسلمينَ - أنَّ المقصودَ بهذا الأمرِ الإلهيِّ, والخطابِ الرَّبانيِّ: الاستمرارُ على الإسلامِ والطاعةِ والعبادةِ, وعدمِ الفُتُورِ أوِ الانفصالِ عَنْ ذلكَ, فإذا حقَّقَ المرءُ ذلكَ لَمْ يضرَّهُ متَى ما فاجَأَهُ الموتُ؛ إذْ أنَّهُ في هذِهِ الحالِ على الإسلامِ والإيمانِ, فَلْيَسْتَبْشِرْ بِمَا وَعَدَ الرَّحمنُ.(123/6)
…ولْيَحْرِصْ المسلمُ دائِمًا على الطَّاعاتِ, ولا سِيَّما إقامةُ الصَّلواتِ, والإكثارِ مِنْ ذكرِ اللهِ - عزَّ وجلَّ - والصَّيامِ والصَّدقاتِ؛ ولْيَحْذَرْ مِنْ أنْ يُقِيمَ على معصيةٍ أو فُجُورٍ؛ فإنَّ كلَّ عبدٍ يُبْعَثُ على ما ماتَ علَيْهِ, كَمَا قالَ رسولُنا - صلى الله عليه وسلم - في الحديثِ الَّذي أخرجَهُ مسلمٌ, عَنْ حُذَيفةَ - رضي الله عنه - قالَ: أَسْنَدْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إلى صَدْرِي فقالَ:" مَنْ قالَ لا إلهَ إلا اللهُ ابتغاءَ وجْهِ اللهِ خُتِمَ لَهُ بِها: دَخَلَ الجنَّةَ, ومَنْ صامَ ابتغاءَ وجْهِ اللهِ خُتِمَ لَهُ بِها: دَخَلَ الجنَّةَ, ومَنْ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ ابتغاءَ وجْهِ اللهِ خُتِمَ لَهُ بِها: دَخَلَ الجنَّةَ"[أخرجَهُ أحمدُ].
…وعلَّمَ رسولُنا الكريمُ - - صلى الله عليه وسلم - - البراءَ بنَ عازبٍ - رضي الله عنه -, آخِرَ ما يقولُ إذا أَوَى إلى فراشِهِ للنَّومِ, فقالَ لَهُ:"إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَة, ثُمَّ اضْطَجِعْ علَىَ شِقِّكَ الأَيْمَنِ, ثُمّ قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ, وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ, وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ؛ رَغْبَةً َرَهْبَةً إِلَيْكَ, لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ, وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، وَاجْعَلْهُنَّ مِنْ آخِرِ كَلاَمِكَ, فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، مُتَّ وَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَة".
…أيُّها المسلمونَ:(123/7)
…لِيَكُنْ حالُ المسلمِ عندَ فراقِهِ الدُّنيا: مُحْسِنًا ظنَّهُ باللهِ تعالى؛ فإنَّ اللهَ تعالى قالَ في الحديثِ القُدْسِيِّ:"أنَا عندَ ظنِّ عبدِي بِي:إنْ ظَنَّ خيرًا فلَهُ, وإنْ ظَنَّ شرًّا فلَهُ"[أخرجَهُ أحمدُ مِنْ روايةِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -], وعَنْ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ الأنصاريِّ رضِيَ اللهُ عنهما قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - - قَبْلَ موتِهِ بثلاثةِ أيامٍ- يقولُ:"لا يَمُوتَنَّ أحدُكُمْ إلا وهُوَ يحسِنُ الظَّنَّ باللهِ تعالى" [أخرجَهُ مسلمٌ].
…قالَ الإمامُ المزَنيُّ – رحِمَهُ اللهُ-: دَخَلْتُ على الشَّافعيِّ في مرضِهِ الَّذي ماتَ فيهِ, فقُلْتُ: كيفَ أصبَحْتَ؟قالَ: أصبحتُ مِنَ الدُّنيا راحلاً, وللإخوانِ مُفارِقًا, ولِكأسِ المنيَّةِ شاربًا, وعلى اللهِ – جلَّ ذكرُهُ – واردًِا, ولا واللهِ ما أدْرِي: رُوحي تصيرُ إلى الجنَّةِ فأُهَنِّيها, أمْ إلى النَّارِ فأُعَزِّيها ؟ ثمَّ بَكَى وأَنْشَأَ يقولُ:
… ولَمَّا قَسَى قَلبي وضاقَتْ مذاهِِبي جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْْوِكَ سُلَّمَا
تَعَاظَمَنِي ذَنِْبي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ بِعَفْوِكَ رَبِّي كانَ عَفْوُكَ أعظَمَا
فَمَا زِلْتَ ذا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ تَجُودُ وتَعْفُو مِنّةً وتَكَرُّما
… اللَّهمَّ أَحْسِنْ خاتِمَتَنا, وأصْلِحْ نِيَّاتِنا, وتَقَبَّلْ توباتِنا, واحْشُرْنا مَعَ الأبرارِ, يا عزيزُ يا غفَّارُ، اللَّهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ, والمسلمينَ والمسلماتِ, الأحياءِ منهمْ والأمواتِ, إنَّكَ سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ، اللَّهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ, وأذِلَّ الشِّركَ والمشركينَ, ودَمِّرِ اللهُمَّ أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ.(123/8)
… اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ, واجْعَلْ عملَهما في رضاكَ, اللَّهُمَّ احْفَظْهما بحفظِك, واكْلأْهُما برعايتِكَ, وألبِسْهُما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافيةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرام, واجعلِ اللَّهُمَّ هَذَا البلدَ آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ, وتَقَبَّلِ اللَّهُمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ, وآخرُ دعوانا أنِ الحمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(123/9)
اطبع هذه الصحفة
الإخلاص في العمل سر نجاح الأمم
فإن مشيئة الله تعالى أرادت لنا أن نعمل ونكد في هذه الحياة الدنيا، لنعمر الأرض، وننعم بثمرات أعمالنا {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود: 61] وكل عمل لنا فالله مطلع عليه، وكلنا مجزي بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر،وصدق الله العظيم إذ يقول {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعلمون} [التوبة: 105].
وقد جاء العمل الصالح قرين الإيمان بصورة مسجلة في القرآن الكريم من مثل قوله تعالى {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} [الكهف: 30].
كما نفى الإيمان عن أولئك الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً} [الحجرات: 14].
الإخلاص في العمل سر نجاح الأمم
الحمد لله الذي خلقنا لطاعته، وأخلصنا لعبادته، جعل الدنيا لنا دار ممر، وجعل الآخرة دار مقر، أمرنا بالعمل لنعمر الأرض، وننعم بما فيها، {... هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها}
[هود: 61].
سبحانه له الخلق والأمر، دبر الكون بحكمته، وسخر لنا ما في السموات والأرض بقدرته، نحمده حمد الشاكرين، ونتوب إليه توبة الأوابين إنه هو الغفور الرحيم... ونشهد أن لا إله إلا الله.. ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صدع بأمر ربه، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، أقام على الأرض دولة التوحيد، وأسس على التقوى أمة الإسلام... صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:(124/1)
فإن مشيئة الله تعالى أرادت لنا أن نعمل ونكد في هذه الحياة الدنيا، لنعمر الأرض، وننعم بثمرات أعمالنا {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود: 61] وكل عمل لنا فالله مطلع عليه، وكلنا مجزي بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر،وصدق الله العظيم إذ يقول {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعلمون} [التوبة: 105].
وقد جاء العمل الصالح قرين الإيمان بصورة مسجلة في القرآن الكريم من مثل قوله تعالى {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} [الكهف: 30].
كما نفى الإيمان عن أولئك الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً} [الحجرات: 14].
( 2 )
والله تعالى لا يتقبل العمل إلا إذا كان خالصاً لوجهه تعالى، ولذلك رد ادعاء المنافقين الكاذب عليهم وسجل ذلك في آيات الذكر الحكيم {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله و الله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} [المنافقون: 1].
ولذلك انهارت جبهة النفاق عند أول اختبار يقول تعالى في محكم كتابه العزيز {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون * لئن اخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون} الحشر: 11، 12].(124/2)
والإخلاص في العمل صنو الإيمان ودليله، وأول ركيزة يبني عليها المجتمع وتقوم عليها حضارات الأمم ولذلك أمرنا الله تعالى بالإخلاص في عبادته لكي تؤدي كل أعمالنا في الحياة على هذا النحو من الإخلاص الذي لا يقبل الله سبحانه وتعالى عبادة من دونه {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين * ألا لله الدين الخالص} [الزمر: 2، 3].
وقد أسس الرسول صلى الله عليه وسلم دولته على الإخلاص وتجلى هذا الإخلاص في أوقات الشدة في العديد من مواقف المسلمين على عهد الرسول صلي الله عليه وسلم ففى غزوة الأحزاب تخاذل المنافقون ونكصوا على أعقابهم وتبدلت أحوالهم، يقول المولى سبحانه وتعالى في وصف حالهم الخبيثة هذه {قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً * أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيراً}[الأحزاب: 18 - 19].
في حين كان موقف المؤمنين المخلصين موقف الثبات والتسليم المطلق والثقة فيما عند الله{ ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً * من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} [الأحزاب 22، 23] وعلى هذه المواقف الإيمانية قامت دولة الإسلام، وارتفع بناؤها، ولم يكن المؤمنون حينما خرجوا بدعوتهم إلى آفاق الأرض من حولهم أقوى التجمعات البشرية عدة وعتاداً ولا أكثرها جندا، ولا أوفرها مالاً وثروة ، وإنما كانوا دونها في كثير من هذه المجالات ولكنهم، كانوا أقوى إيماناً وأكثر إخلاصاً وأحرص على أداء العمل في أنقى صوره خالصاً.
( 3 )(124/3)
لوجه الله تعالى ولذلك تقول الآية الكريمة {صدقوا ما عاهدوا الله عليه} فالعهد بينهم وبين الله عهد صدق وتسليم بما وعد الله تعالى ولذلك قالوا للرسول r في غزوة بدر حينما أخبرهم أن القافلة قد نجت وأفلتت العير، وأنهم سيلقون النفير وهو جيش الشرك الكثير العدد والعدد فلم يكن من تلك الصفوة المؤمنة إلا أن قالوا للرسول صلي الله عليه وسلم امض لما أمرك الله فوالله لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك د، وكتب الله تعالى لهم النصر على الرغم من قلة عددهم وضعف عتادهم الحربي إذ كانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً وكان تعداد جيش المشركين حوالي ألف رجل وصدق الله العظيم {لقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون} [آل عمران: 123].
وكما أخلص المسلمون في ميادين القتال ووسط احتدام المعارك أخلصوا في أداء واجباتهم المدنية من أمانة فيما يوكل إلى كل منهم من عمل مصداقاً لقول الرسول صلي الله عليه وسلم "إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه" [رواه النسائي حديثه حسن / 1852] كما أسسوا مدارس علمية في جميع فروع المعرفة الإنسانية النافعة من قوانين وتشريعات وآداب وأخلاق ونظم اقتصادية واجتماعية، وقيم حضارية فقامت للإسلام دول متتابعة كلما ذهبت دولة قامت على اعقابها أخرى، وسواد الأمة الإسلامية ديدنه الوفاء لدينه والإخلاص لوجه الله تعالى، ولذلك وعدهم الله تعالى الجزاء الأوفى، وجعل مثوى المنافقين الدركات السفلى من النار، قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً * إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً } [145، 146 النساء].(124/4)
وإن أشد الأدواء خطراً على الأمم والشعوب هو أن تصاب في دخيلة نفسها بالنفاق والرياء وعدم الإخلاص، فلا يؤدي أحدهم عمله على الوجه المطلوب إلا تحت رقابة صارمة من رؤسائه، فإذا أمن من آثار هذه الرقابة تفلت من أداء الواجب وإن اداه أتى به على نحو هزيل ضعيف شأن المنافقين الذين يراؤون الناس، ولا يخلصون عملهم لله تعالى: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً} [النساء: 142].
( 4 )
وما منى المسلمون بالتخلف وما حاقت بهم الهزائم إلا يوم أن فقدوا الإخلاص في العمل، فانطفأت في نفوسهم جذوة الحماسة والتسابق لتحمل المسئولية وأداء الواجب وتفرقوا شيعاً وأحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون، فباتوا نهبا لأمم الأرض يتقاسمون ديارهم ويفتكون بالمستضعفين منهم.
عن أبي موسى عبدالله بن قيس الأِشعري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" [متفق عليه].
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(124/5)
اطبع هذه الصحفة
الإسراء والمعراج
أيُّها المسلمونَ
… إنَّ الإسراءَ والمعراجَ يحمِلُ في طيَّاتِهِ معانِيَ جليلةً، ومقاصِدَ نبيلةً، فمِنْها: تسليةُ فؤادِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقَدْ ماتَ عمُّه أبو طالبٍ الذي كانَ يحوطهُ ويعزِّرُهُ، وماتَتْ زوجُه خديجةُ - رضِيَ اللهُ عنها - التي كانَتْ تُعِينُهُ وتنصرُه، ثم ذهبَ إلى الطائفِ لِيُؤووهُ وينصروهُ فلمْ يجدْ بُغْيتَه، ثم تأتِي آيةُ الإسراءِ والمعراجِ مِنْ بعدِ ذلكَ، تكريماً مِنَ اللهِ تعالَي لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وتجديداً لعزمِهِ وثباتِهِ، فاللهُ سبحانهَ مَعِيَّتُهُ لا تنقطعُ عَنْ أنبيائِهِ وأوليائِهِ: { إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } { النحل:128 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 24 رجب 1427هـ الموافق 18/ 8 /2006م
الإسراء والمعراج
… الحمدُ للهِ الذي أسرَى بعبدِهِ ورسولِه المبعوثِ رحمةً للعالمينَ، وأراهُ مِنْ آياتِه ما يزدادُ به الإيمانُ ويقوَى به اليقينُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له الملكُ الحقُّ المبينُ، الذي فضَّلَ نبيَّنا محمدا ًعلى جميعِ الأنبياءِ والمرسلينَ، وجعلَ دينَه ظاهِراً علَى كلِّ دينٍ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُهُ ورسولُه أفضلُ الخلقِ أجمعينَ وسيِّدُ الأولينَ والآخرينَ، صلَّى اللهُ وسلَّم عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِه الطيبينَ الطاهرينَ، وعلَى التابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
…أمّا بعدُ:
…فأوصِيكم ـ أيُّها الناسُ ـ ونفسِي بتقوَى اللهِ تعالَى، فقدْ كساكُمْ مِنَ الإيمانِ سِرْبالاً، ولا تزالُ نِعَمُهُ عليكمْ تتوالَى، فاتقوه تَسْعدوا حالاً ومآلاً، يقولُ اللهُ سبحانَه وتعالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمران: 102 } .(125/1)
عليكَ بِتقْوَى اللهِ فالزمْها تَفُزْ إنَّ التَّقِيَّ هوَ البهيُّ الأهْيَبُ
…معاشِرَ المسلمينَ:
…لَقدْ أكرمَ اللهُ كثيراً مِنَ النبيِّينَ والمرسلينَ بالآياتِ الظاهرةِ، والمعجزاتِ الباهرةِ، فكانََتِ النَّارُ برداً وسلاماً علَى إبراهيمَ وغلَبَ موسى سَحَرةَ فرعونَ حينَ جاءوا بسحرٍ عظيمٍ، وكانَ عيسى ابنُ مريمَ يُحيِى الموتَى بإذنِ اللهِ ويُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأبرصَ ويعافِي السقيمَ، وأمَّا نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - فكانَ أكثرَهُمْ معجزاتٍ وأظهرَهُمْ آياتٍ وأوسعَهم دائرةً، وله القرآنُ معجزةٌ خالدةٌ وحجةٌ بالغةٌ في الدنيا والآخرةِ، فعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مِا مِنَ الأنبياءِ مِنْ نبيٍّ إلاَ قدْ أُعِطيَ مِنَ الآياتِ ما مِثْلُه آمنَ عليهِ البشرُ، وإنَّما كانَ الذي أوتيتُه وَحْياً أَوْحَى اللهُ إليَّ، فأرجو أنْ أكونَ أكثرَهم تابعاً يومَ القيامةِ"[أخرجَه مسلمٌ].
صلَّى الإلهُ علَى النبيِّ محمدٍ خيرِ الأنامِ وجاءَه التنْزِيلُ
وبفضلِهِ نطَقَ الكتابُ وبَيَّنتْ بِصفاتِهِ التوراةُ والإنجيلُ
ذاكَ النبيُّ الهاشميُّ المصطفَى قَدْ جاءَهُ الترفيعُ والتفضيلُ
أسرَى بهِ المولىَ إلى أُفْقِ السَّما فوقَ البراقِ وعندَهُ جبريلُ
…عبادَ اللهِ:
… أَلا وإنَّ مِنْ آياتِ هذا النبيِّ الكريمِ، ومعجزاتِهِ التي شُرِّفَ بها إلى مقامٍ عظيمٍ، معجزةَ الإسراءِ والمعراجِ كما جاءَ في الذكرِ الحكيمِ: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } { الإسراء:1 } .(125/2)
لقَدْ رأَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذهِ الرحلةِ العُظْمَى، مِنْ آياتِ اللهِ الكبرَى، ما قرَّتْ به عينُه، وقَوِيَ بهِ يقينُه، وصارَ الإسراءُ والمعراجُ مِنْ أكبرِ معجزاتِهِ، وأعظمِ آياتِهِ،التي قَدْ فرِحَ بها أهلُ الإيمانِ، واغتاظَ مِنْها أهلُ الكفرِوالطغيانِ، يقولُ اللهُ سبحانَه: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } { الإسراء:40 } ، وهِيَ رؤيا بَصَريَّةٌ وليستْ مناميَّةً؛ لأنَّ الإسراءَ والمعراجَ كانَ يقظةً بروحِهِ وبدنِهِ، ولَقدْ رأى في رحلتِه هذهِ بعضَ الأنبياءِ، وفُرِضَتْ عليهِ الصلاةُ وهوَ في السماءِ، وعايَنَ صُوَراً مِنَ العذابِ لأهلِ الشقاءِ.
… إخوةَ الإيمانِ:
… إنَّ الواجِبَ علَى المسلمينَ في كلِّ زمانٍ، أنْ يشكروا اللهَ علَى هذا الإكرامِ والإحسانِ، بأداءِ ما أوجبَ عليهِم فيها مِنَ الصلواتِ، محافظينَ على الجماعَةِ وعلَى تلكَ الأوقاتِ، يقولُ اللهُ سبحانَه: { إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً } { النساء: 103 } ، ومِنْ عظيمِ قَدْرِ الصلاةِ: أنَّها العبادةُ الوحيدةُ التي فُرِضَتْ في السماءِ، وبلا واسطةٍ بَلْ مباشرةً مِنَ اللهِ سبحانَه.
…ومِنَ الواجبِ اجتنابُ المعاصِي والذنوبِ، التي تُسخِطُ علَّامَ الغيوبِ، لاسيَّما تلكَ الذنوبُ، التي شاهدَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَها وهمْ يعذَّبون عذاباً تلينُ مِنْ هَوْلِهِ القلوبُ، ومِنْ تِلْكُمُ الذنوبِ: الرِّبا فقَدْ أخرجَ الإمامُ أحمدُ عَنْ سَمُرةَ بنِ جُنْدبٍ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "رأيتُ ليلةَ أُسْرِيَ بي رجلاً يسبحُ في نهرٍ ويُلْقَمُ الحجارةَ، فسألْتُ ما هذا ؟ فقِيلَ لي آكلُ الرِّبا".(125/3)
…ومِنْ صورِ العذابِ الأليمةِ، التي شاهدَها المصطفَى في هذهِ الرحلةِ الكريمةِ، عذابُ أهلِ الغِيبَةِ والنَّميمَةِ، فعَنْ أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لما عُرِجَ بي مررْتُ بقومٍ لهم أظفارٌ مِنْ نحاسٍ يَخْمِشونَ بها وجوهَهُمْ وصدورَهم فقلْتُ: مَنْ هؤلاءِ يا جبريلُ؟ قالَ: هؤلاءِ الذين يأكلونَ لحومَ الناسِ ويقعونَ في أعراضِهم "[ أخرجَه أبو داودَ].
…ومِنْ ألوانِ العذابِ، التي ينفرُ مِنْها أولو الألبابِ، عذابُ مخالفةِ ما يفوهُ بهِ المرءُ مِن الهُدَى والصَّوابِ، فَعنْ أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"مررتُ يومَ أُسْرِيَ بي علَى قومٍ تُقْرضُ شِفاهُهم بمقارِيضَ مَنْ نارٍ، قلْتُ مَنْ هؤلاءِ؟ قالَ: خطباءُ أُمَّتِكَ مِنْ أهلِ الدنيا كانوا يأمرونَ الناسَ بالبرِّ وينسونَ أنفسَهم وهم يتلونَ الكتابَ أفَلا يعقلونَ؟" [أخرجَه أحمدُ].
… أيُّها المسلمونَ:
… إنَّ الإسراءَ والمعراجَ يحمِلُ في طيَّاتِهِ معانِيَ جليلةً، ومقاصِدَ نبيلةً، فمِنْها: تسليةُ فؤادِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقَدْ ماتَ عمُّه أبو طالبٍ الذي كانَ يحوطهُ ويعزِّرُهُ، وماتَتْ زوجُه خديجةُ - رضِيَ اللهُ عنها - التي كانَتْ تُعِينُهُ وتنصرُه، ثم ذهبَ إلى الطائفِ لِيُؤووهُ وينصروهُ فلمْ يجدْ بُغْيتَه، ثم تأتِي آيةُ الإسراءِ والمعراجِ مِنْ بعدِ ذلكَ، تكريماً مِنَ اللهِ تعالَي لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وتجديداً لعزمِهِ وثباتِهِ، فاللهُ سبحانهَ مَعِيَّتُهُ لا تنقطعُ عَنْ أنبيائِهِ وأوليائِهِ: { إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } { النحل:128 } .(125/4)
…ومِنْ عظيمِ هذهِ المقاصِدِ، أنَّ الأنبياءَ إخوةٌ ودينَهُم واحدٌ: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } { الأنبياء:25 } ، وماجرَى في اليهوديَّةِ والنصرانيَّةِ مِنَ الانحرافِ، إنَّما هوَ بفعلِ أيدِيهمْ: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } { التوبة:30 } ، وصلاةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالأنبياءِ إماماً دليلٌ علَى أنَّه لا نبوَّةَ بعدَهُ، وأنَّ دِينَهُ ناسخٌ لمِا قبلَه مِنَ الأديانِ.
… أتباعَ خيرِ المرسلينَ:
…ومِنْ معانِي هذا الحدَثِ العظيمِ، أنَّ الإسلامَ ليسَ له حدودٌ يقِفُ عِنْدَها، ولا مَعَالِمَ يجبُ ألاَّ يتخطَّاها، فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولِدَ بمكةَ، ودعا في مكةَ والطائفَ، وأُسْرِيَ بهِ إلى بيتِ المقدسِ، وهاجَرَ إِلى المدينةِ، وهاجرَ أصحابُه إلى الحبشةِ، فالأرضُ للهِ يُورِثُها مَنْ يشاءُ مِنْ عبادِهِ، بلْ سيكونُ أهلُ هذِهِ البِقاعِ حَمَلَةَ الإسلاِم جيلاً في أعقابِ جيلٍ، فعَنْ أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ أُمَّتِي مَثلُ المطرِ لا يُدرَى أوَّلُهُ خيرُه أوْ آخرُه " [أخرجَه الإمامُ أحمدُ].
…بارَكَ اللهُ لي ولكم في الوَحْيينِ، ونفعنِي وإيَّاكم بِهَديِ سيِّدِ الثَّقلَينِ، أقولُ ما تسمعونَ واستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمينَ إنَّه خيرُ الغافرينَ.
الخطبة الثانية(125/5)
…الحمدُ للهِ الذي باركَ حولَ المسجدِ الأقصَى، أحمدَهُ حمداً كثيراً طيباً لا يُعَدُّ ولا يُحصَى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له قرَّبَ الطائِعينَ وأبعَدَ مَنْ أعرَضَ وعَصَى، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ المخصوصُ بالإسراءِ والمعراجِ والمقامِ المحمودِ والشفاعِة العُظْمَى، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِه ومَنْ تَبِعَهُ واهتدَى.
…أمّا بعدُ:
…فاتقوا اللهَ بامتثالِ ما أمرَ بهِ واجتنابِ ماعَنْه نهَى، وارغَبو فيما عِنْدَ اللهِ فما عندَ اللهِ خيرٌ وأبقَى: { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } { البقرة: 197 } ، واعلَموا أنَّ الواجِبَ علَى المسلمينَ أنْ يلتفتوا إلى مَسْرَى المصطفَى الحبيبِ،التفافةً تجلُو الأسَى عَنِ القلبِ الكئيبِ، فهاهُمْ إخوانُكم في أرضِ المقدسِ،في جهادٍ مَعَ يهودِ أهلِ الخِسَّةِ والرِّجْسِ، في كلِّ يومٍ قتلَى ومشردونَ، فماذا عسانا فاعلينَ؟ إنَّ علينا أنْ نعتبرَ بهذِهِ الأحوالِ، وأنْ نجتهدَ في سؤالِ الكبيرِ المتُعالِ، أنْ ينصرَ أولئِكَ الأبطالَ، وأنْ نمدَّهم بمزيدٍ مِنْ المالِ، وأنْ نتفاءَلَ بالعاقبةِ الحسنةِ فإنَّ اللهَ سبحانَه يحبُّ الفَأْلَ، فإنَّ البلاءَ مِنْ سنَّةِ اللهِ في الرُّسلِ، فعَنِ ابنِ عمرَ - رضِيَ اللهُ عنهما - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لَتقُاتِلُنَّ اليهودَ فَلَتَقْتُلُنَّهم حتَّى يقولَ الحجرُ يا مسلمُ هذا يهوديٌّ فتعالَ فاقتلْه" [ أخرجَهُ مسلمٌ].
صبراً قليلاً ما أقربَ الفرجَا مَنْ راقَبَ اللهَ في الأُمور نَجا(125/6)
…ثم صَلُّوا وسلِّموا ـ رحمكمُ اللهُ ـ علَى الهادِي البشيرِ والسراجِ المنيرِ، كما أمرَ بذلكمُ اللطيفُ الخبيرُ، فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب:56 } ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ علَى عبدِكَ ونبيِّكَ محمدٍ وعلَى آلهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، واحمِ حَوْزَةَ الدِّينِ، مِنَ الكفرةِ المعتدينَ، اللهمَّ خَلِّصِ المسجدَ الأقصَى مِنْ براثِنِ اليهودِ يا قويُّ يا عزيزُ، اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ,واجعلْ عملَهما في رِضاكَ.اللهمَّ احفظْهما بحفظِكَ, واكلأْهما بِرعايَتِكَ, وألبِسْهما ثوبَ الصحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ. اللهمَّ اجعلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتقبَّلِ اللهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(125/7)
اطبع هذه الصحفة
فضل شعبان
أيُّها المؤمنونَ
…قدْ أظلَّكُمْ شهْرٌ عظيمُ الشَّانِ، شهْرُ شعبانَ,فِيْهِ تَتَنَزَّلُ الرَّحمةُ مِنَ اللهِ المنَّانِ،وَقَدْ عظَّمَهُ رسولُكُمْ بصالحِ العَمَلِ،واجْتَهَدَ فِيْهِ مِنْ غيرِ تَعَبٍ ولا كَلَلٍ، فَصَامَ النَّهارَ وَقَامَ اللَّيْلَ، وَسارَ في طَرِيقِ الخيرِ مِنْ غيرِ مَيْلٍ، حتَّى إنَّ الصَّحابةَ - رضي الله عنهم - كَانُوا يظُنُّونَ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يترُكُ العَمَلَ في جميعِ الشَّهْرِ، فَتَأسُّوا برسولِكُم الكريمِ، و أَكْثِرُوا في شهْرِكُم هذا مِنَ الصِّيامِ والطَّاعاتِ، وتَجَنَّبُوا الفَوَاحِشَ والمنْهيَّاتِ، فَقَدْ أخرَجَ البخاريُّ ومسلمٌ في صحيحَيْهِما عَنْ أمِّ المؤمنينَ عائشةَ – رَضِيَ اللهُ عنها – أنَّها قالتْ: "كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يصومُ حتَّى نقولَ: لا يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ حتَّى نقولَ: لا يَصُومُ، وَمَا رأيْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَكْمَلَ صيامَ شهْرٍ قطُّ إلا رمضانَ، وَمَا رأيتُهُ في شهْرٍ أكثرَ مِنْهُ صيامًا في شعبانَ ". وأَخْرَجَ الإمامُ أحمدُ والنَّسائيُّ عَنْ أسامةَ بنِ زيدٍ – رَضِيَ اللهُ عنهما – أنَّهُ قالَ: " قلْتُ: يا رسولَ اللهِ ،لَمْ أرَكَ تصومُ شهْرًا مِنَ الشُّهورِ ما تَصُومُ مِنْ شعبانَ؟ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"ذلكَ شهْرٌ يَغْفَلُ النَّاسُ عنْهُ، بينَ رجبَ ورمضانَ، وهُوَ شهْرٌ تُرْفَعُ فِيْهِ الأعمالُ إلى ربِّ العالمينَ، فَأُحِبُّ أنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنا صائمٌ".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة بتاريخ
1 من شعبان 1427هـ الموافق 25/8/2006م
فضل شعبان(126/1)
…الحمْدُ للهِ الَّذي عظَّمَ بعضَ اللَّيالي قَدْرًا، وأَطْلَعَ لَها في سَمَاءِ الفضائِلِ فخْرًا، وَنَشَرَ فيها أعْلامَ نِعَمِهِ نَشْرًا، نحمَدُهُ تعالَى بكمالاتِهِ الَّتِي بَهَرَتِ العُقُولَ بَهْرًا، نشكرُهُ شُكْرًا يتوالَى علَى نِعَمِِهِ الّتي فاقَتِ العَدَّ حَصْرًا، ونرجُوهُ كَرَمًا وفَضْلاً أنْ يجلِّلَ الذُّنُوبَ سِتْرًا، وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ لا نَعْبُدُ إلهًا غيره أبدًا، وأشْهَدُ أنَّ سيِّدَنا محمَّدًا رسولُهُ ومصْطَفاهُ سَرْمَدًا، أرْفعُ العالمينَ قدْرًا، وأوْضَحُهُمْ فخْرًا، فصَلِّ اللَّهمَّ وسلِّمْ علَيْهِ وعلَى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ الأخيارِ الأَطْهَارِ.
… أمَّا بعْدُ:
…فأُوصيكمْ ونفْسي بتقوى اللهِ فإنَّها خيرُ زادٍ يتزودُ بِهِ العبدُ إلى دارِ المعادِ، قالَ اللهُ تعالى: { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ } { البقرة : 197 } .
…أيُّها المؤمنونَ:(126/2)
…قدْ أظلَّكُمْ شهْرٌ عظيمُ الشَّانِ، شهْرُ شعبانَ,فِيْهِ تَتَنَزَّلُ الرَّحمةُ مِنَ اللهِ المنَّانِ،وَقَدْ عظَّمَهُ رسولُكُمْ بصالحِ العَمَلِ،واجْتَهَدَ فِيْهِ مِنْ غيرِ تَعَبٍ ولا كَلَلٍ، فَصَامَ النَّهارَ وَقَامَ اللَّيْلَ، وَسارَ في طَرِيقِ الخيرِ مِنْ غيرِ مَيْلٍ، حتَّى إنَّ الصَّحابةَ - رضي الله عنهم - كَانُوا يظُنُّونَ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يترُكُ العَمَلَ في جميعِ الشَّهْرِ، فَتَأسُّوا برسولِكُم الكريمِ، و أَكْثِرُوا في شهْرِكُم هذا مِنَ الصِّيامِ والطَّاعاتِ، وتَجَنَّبُوا الفَوَاحِشَ والمنْهيَّاتِ، فَقَدْ أخرَجَ البخاريُّ ومسلمٌ في صحيحَيْهِما عَنْ أمِّ المؤمنينَ عائشةَ – رَضِيَ اللهُ عنها – أنَّها قالتْ: "كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يصومُ حتَّى نقولَ: لا يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ حتَّى نقولَ: لا يَصُومُ، وَمَا رأيْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَكْمَلَ صيامَ شهْرٍ قطُّ إلا رمضانَ، وَمَا رأيتُهُ في شهْرٍ أكثرَ مِنْهُ صيامًا في شعبانَ ". وأَخْرَجَ الإمامُ أحمدُ والنَّسائيُّ عَنْ أسامةَ بنِ زيدٍ – رَضِيَ اللهُ عنهما – أنَّهُ قالَ: " قلْتُ: يا رسولَ اللهِ ،لَمْ أرَكَ تصومُ شهْرًا مِنَ الشُّهورِ ما تَصُومُ مِنْ شعبانَ؟ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"ذلكَ شهْرٌ يَغْفَلُ النَّاسُ عنْهُ، بينَ رجبَ ورمضانَ، وهُوَ شهْرٌ تُرْفَعُ فِيْهِ الأعمالُ إلى ربِّ العالمينَ، فَأُحِبُّ أنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنا صائمٌ".
…أيُّها الإخوةُ الكِرامِ:
…هَلْ علِمْتُمْ سَبَبَ تخصيصِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لِهَذَا الشَّهرِ بالصِّيامِ؟ لأَنَّهُ شهْرٌ تُرْفَعُ فيهِ الأعمالُ، فطُوبَى لِمَنْ رُفِعَ عملُهُ وهُوَ شهيدٌ أمامَهُ يَدُلُّ عليهِ، وشفيعُ يَشْفَعُ لَهُ إلى ربِّه تبارَكَ وتعالَى في قَبُولِ ما اكْتَسَبَهُ بيدَيْهِ.(126/3)
وصُمْ يومَكَ الأَدْنَى لعلَّكَ في غدٍ … تفُوزُ بعيدِ الفِطْرِ والنَّاسُ صُوَّمُ
…مَعْشَرَ الأحبَّةِ:
…هذا شهرٌ يَطَلَعُ فيهِ الرَّبُّ تبارَكَ وتعالَى فَيَغْفِرُ لِجَميعِ خلقِهِ إلا مَنِ اتَّخَذَ مَعَ اللهِ إلَهَاً آخَرَ مِنَ الشُّرَكَاءِ، وَمَنْ كانَتْ بينَهُ وبَيْنَ أخِيْهِ المسلمُ شَحْنَاءُ، فَعَنْ أبي موسَى الأشعريِّ - رضي الله عنه - عنْ رسولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ:"إنَّ اللهَ لَيَطْلَعُ في ليلةِ النِّصفِ مِنْ شعبانَ، فَيَغْفِرُ لِجميعِ خلقِهِ، إلا لِمُشْركٍ أوْ مشاحِنٍ"[ أخرجَهُ ابنُ ماجَةَ ].
…فَيَا ويْحَ مَنْ جَعَلَ نفْسَهُ لِلمسلمينَ خَصِيمًا، تَاللهِ لَقَدِ ارْتَكَبَ إثْمًا عظِيمًا، واقْتَرَفَ جُرْمًا جسِيماً، فَمَا أعظمَ شحناءَ القُلُوبِ؛ يومَ قَرَنَها علاَّمُ الغُيُوبِ؛ بالشِّركِ الَّذي هُوَ أشنعُ الذُّنوبِ، فَهَلْ أنتَ منْتَهٍ عَنْ خُصُومةِ إخوانِكَ ؟ وهَلْ أنتَ مُرْتَدِعٌ عَنْ مشاحَنَةِ أقرانِكَ؟.
…واعْلَمْ أيُّها الإنسانُ: أنَّ اللَّيلَ والنَّهارَ خِزانَتَانِ، فانْظُرْ ما تَضَعُ فيهما مِنَ الإحسانِ أَوِ العُدْوَانِ؟ فَكُنْ أخِي المسلمُ مِنَ السُّعَداءِ الَّذينَ اغْتَنَمُوا مواسِمَ الخيراتِ، وَمَا فِيها مِنْ فضائلِ الشُّهورِ والأيامِ والسَّاعاتِ، وتَقَرَّبُوا إلى مولاهُمْ بِمَا فِيها مِنَ الطَّاعاتِ، عَسَى أنْ تُصَيبَهم نَفْحَةُ فضلٍ ورحمٍة مِنْ تِلْكَ النَّفَحاتِ، فَيَسْعَدُوا بِهَا سعادةً يأمًنُونَ بها مِِِِِِِنَ النَّارِ وَمَا فِيها مِنَ اللَّفَحاتِ.
مَضَى أَمْسُكَ الماضِي شهِيدًا مُعَدَّلاً … وأَعْقَبَُه يومٌ عليكَ جديدُ
فَيَومُكَ إِنْ أعْتَبْتَهُ عادَ نفعُُه … عليكَ وماضِي الأمْسِ لَيْسَ يَعُودُ
فَإِنْ كنتَ بالأمسِ اقْتَرَفْتَ إساءةً … فَثَنِّ بإحسانٍ وأنتَ حَمِيدُ
فَلا تَرْجُ فِعَْل الخيرِ يوْمًا إلى غَدٍ……لعلَّ غدًا يأتِي وأنتَ فَقِيدُ(126/4)
…بارَكَ اللهُ ليْ ولكمْ في الفُرْقانِ والذِّكرِ الحكيمِ، وَوَفَّقَنا للاعْتصامِ بِهِ وبِمَا كانَ عليهِ النَّبيُّ الكريمِ، عليهِ أفضَلُ الصَّلاةِ وأكْمَلُ التَّسليمِ، مِنَ الهدِي القويمِ، والصِّراطِ المستَقِيمِ.
أقولُ قولي هَذَا وأستغفرُ اللهَ الغفورَ الحليمَ، ليْ ولكمْ ولجميع المسلمين مِنْ كلِّ ذنبٍ فَتوبُوا إليهِ، إنَّهُ هُوَ التَّوابُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمْدُ للهِ الّذِي غَمَرَ العِبادَ بإِنْعامِهِ، وعَمَّرَ قُلُوبَ عبادِهِ بأنوارِ الدِّينِ وأحكامِهِ، وتعهَّدَهُمْ بِمَا شَرَعَ لَهُمْ بِلَطِيفِ حِكْمتِهِ، وفضَّلَ بعضَ الشُّهورِ على بعضٍ؛ لِيَجْتَهِدَ العبدُ فيه بصَلاتِهِ وصيامِهِ وصدقتِهِ، أحْمَدُهُ سبحانَهُ القائمُ على كلِّ نفْسٍ بما كَسَبَتْ، الرَّقيبُ على كلِّ جارحةٍ بِمَا اجْتَرَحَتْ، الَّذِي لا يَعْزُبُ عَنْ علمِهِ مثقالُ ذرةٍ في السَّمواتِ والأرْضِ تَحَرََّكَتْ أَوْ سَكَنَتْ، وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ ذُو الجلالِ والإكرامِ، وأشْهدُ أنَّ سيِّدَنا محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ أفضلُ مَنْ صامَ وقامَ، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمَّدٍ وعلَى آلِهِ وأصحابِهِ الكِرامِ.
… أمَّا بَعْدُ:
…فَيَا أيُّها المسلمونَ: اتَّقُوا اللهَ تعالى وقابِلُوا أوامرَهُ بالامتثالِ, واجْتَنِبُوا ما نَهَاكم عنْهُ في كلِّ حالٍ, وراقِبُوهُ وأخْلِصُوا لوجْهِهِ الأعمالَ, واعْمَلُوا ليومٍ لا بيعَ فيهِ ولا خِلالَ.
…عِبادَ اللهِ:(126/5)
…قَدْ َأْفَلَح المؤمنونَ وَنَجا الَّذينَ آمَنوا وكانُوا يتَّقونَ، وَكانتْ لَهُمُ البُشْرى في الحياةِ الدُّنيا والآخِرةِ كَمَا قالَ ربُّنا في كتابِهِ المصونِ، أَلا وإنَّ الإيمانَ اعتقادُ القلبِ وتصديقُهُ، وإقرارُ اللِّسانِ بِهِ وتحقيقُهُ، والمحافظةُ على أعمالِ الجوارحِ والتَّنَُّزهُ عَنِ الفَحْشَاءِ والقَبَائِحِ، أَلا وإنَّ شهرَكُمْ هَذَا مُقدِمَةٌ لِشَهْرٍ عظيمٍ تُمْحَى فيهِ الذُّنوبُ، وَيَتَجَلَّى فيهِ علاَّمُ الغُيُوبِ، نَزَلَ فيهِ مِنَ الأحكامِ آياتٌ بيِّناتٌ، وحَصَلَ فيهِ لنبيِّنا عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ معجزاتٌ باهراتٌ، كانَ يُفَضِّلُهُ بالدُّعاءِ والصَّدقةِ والصِّيامِ، أَخْرَجَ أبو داوودَ عَنْ عائشةَ - رَضِيَ اللهُ عنها- أنَّها قالتْ:" كانَ أحبُّ الشُّهورِ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يصومَهُ شعبانَ ثمَّ يَصِلُهُ بِرَمضانَ"، وكانَ مِنْ دُعَاءِ السَّلَفِ: "اللَّهمَّ بارِكْ لَنَا في رجبَ وشعبانَ، وَبَلِّغْنا رمضانَ".
…فَفِي هَذَا استحبابُ الدُّعاءِ بالبَقَاءِ إلى الأزْمانِ الفاضِلَةِ وعِمارتِها بالتُّقَى؛ لِيَغْتَنِمَها المؤمنُ بأعمالِهِ الصَّالحةِ، ولِيتوبَ بِهَا مِنَ الذُّنوبِ الفاضِحَةِ، قالَ تعالى: { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } { لتوبة :105 } .
… أيُّها المؤمنونَ:(126/6)
اِعلَمُوا أنَّ الصَّلاةَ أعظمُ أركانِ الإسلامِ بَعْدَ الإيمانِ باللهِ ورسولِهِ وإنَّها أمُّ العِباداتِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ بالمحافظةِ علَيْها، وَكَرَّرَ الأمرَ بإقامتِها في مُحْكَمِ تنزيلِهِ، وَقَدْ تكاثَرَتْ الأحاديثُ النَّبويَّةُ في بيانِ فضلِها، وحذَّرَتْ ِمْن إضاعتِها وإساءِةِ فعلِها, وَرَغَّبَتْ بِهَا أنْ تُقامَ في الجماعةِ والمساجدِ, وَقَدْ مَدَحَ اللهُ المحافظينَ علَيْها آناءَ اللَّيلِ والنَّهارِ, قالَ تعالَى: { رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } { النور:37 } .
… اللَّهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، في العالمينَ إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وارْضَ اللَّهمَّ عَن الأربعةِ الخُلفاءِ الرَّاشدينَ، والصَّحابةِ أجمعينَ، وارْضَ اللَّهمَّ عَنْ آلِ نبيِّكَ وأزواجِهِ الطَّاهرينَ المطَهَّرينَ.
…اللَّهمَّ آتِ نُفُوسَنا تَقْواها، وزكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها، أنتَ وليُّها وَمَوْلاها، اللَّهمَّ أصلِحْ لَنَا دينَنا الَّذي هُوَ عصمةُ أمرِنا، وأصلِحْ لَنَا دُنيانَا الَّتي فيها معاشُنا، وأصلِحْ لَنَا آخرتَنا الَّتي إلَيْها معادُنا، واجْعَلِ الحياةَ زيادةً لَنَا في كلِّ خيرٍ، واجْعَلِ الموتَ راحةً لَنَا مِنْ كلِّ شرٍّ.
…اللَّهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وَدَمِّرِ اللَّهمَّ أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ، اللَّهمَّ اغْفِرْ لِلمسلمينَ والمسلماتِ، والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، إنَّكَ سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدَّعواتِ.(126/7)
… اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ,واجعلْ عملَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ, واكلأْهما بِرعايَتِكَ, وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّّهمَّ اجعلْ هَذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخاءً رَخاءً وَسَائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
…عبادَ اللهِ:
… { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } { النحل:90 } .
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(126/8)
اطبع هذه الصحفة
إنّ الحلالَ بيِّن وإنّ الحرام بيِّن
عبادَ اللهِ:
…فقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الحلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحرامَ بيِّنٌ وبينَهما أمورٌ مشتبِهاتٌ",أيْ:أنَّ هناكَ حلالاً محْضًا لا شائبةَ فيه, كأكلِ الطيِّباتِ مِنَ الزروعِ والثمارِ وبهيمةِ الأنعامِ, وشربِ الأشربةِ الطيِّبةِ مِنَ الماءِ واللبنِ والعسلِ ونحوِها, ولبسِ ما يُحتاجُ إليه من القطنِ والصوفِ ونحوِهما.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 8 من شعبان 1427هـ الموافق 1/9/2006م
إنّ الحلالَ بيِّن وإنّ الحرام بيِّن
…إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه, ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنا. مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ له, ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له, وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له, وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ, صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبهِ وسلَّمَ.
…أمّا بعدُ:
…فيا عبادَ اللهِ: أوصِيكمْ ونفسِي أولاً بتقوَى اللهِ تعالَى وطاعتهِ, قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمران : 102 } .
…أيُّها المسلمونَ:(127/1)
…لقد خُصَّ رسولُنا الكريمُ - صلى الله عليه وسلم - بخصائصَ عظيمةٍ, ومِنَنٍ كريمةٍ, مِنْ أبرزِها أنَّه أُوتِيَ جوامعَ الكَلِمِ, فهو يتكلَّمُ بالكلماتِ اليسيرةِ, المشتملةِ علَى المعانِي الجامعةِ الكبيرةِ, ومِنْ أمثلةِ ذلك: الحديثُ الذي أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ في صحيحيهما, مِنْ روايةِ النُّعمانِ بنِ بشيرٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما قالَ: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"إنَّ الحلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحرامَ بيِّنٌ, وبينَهما أمورٌ مُشْتبِهاتٌ لا يعلمُهنَّ كثيرٌ مِنَ الناسِ, فمَنِ اتَّقىَ الشبهاتِ فقَدِ استبرأَ لدينهِ وعرضِهِ, ومَنْ وقعَ في الشُّبهاتِ وقعَ في الحرامِ, كالراعِِِي يرعَى حولَ الحِمَى يوشكُ أنْ يرتعَ فيه, ألَا وإنَّ لكلِّ مَلِكٍ حِمًى, أَلا وإنَّ حمىَ اللهِ محارمُه, ألا وإنَّ في الجسدِ مضغةً إذا صلَحَتْ صلَحَ الجسدُ كلُّه, وإذا فسدَتْ فسدَ الجسدُ كلُّه, ألا وهِيَ القلبُ".
…وقَدْ ذكرَ في أوَّلهِ مسألةَ الأحكامِ الشرعيَّةِ في دينِنا الحنيفِ, فقَدْ أَنزلَ اللهُ تعالَى على نبيِّهِ الكتابَ, وبيَّنَ فيهِ للأمَّةِ ما يُحتاجُ إليه مِنَ الأحكامِ مِنْ حلالٍ أوْ حرامٍ كما قالَ تعالَى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } { النحل:89 } , وما قُبِض - صلى الله عليه وسلم - حتى أكملَ له ولأمَّتِهِ الدينَ, ولهذا أنزلَ عليهِ بعرفةَ قبلَ موتهِ بمدةٍ يسيرةٍ قولَة سبحانَه: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } { المائدة:3 }(127/2)
…وقَدْ قالَ العِرباضُ بنُ سارِيَةَ - رضي الله عنه -:وعظَنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - موعظةً ذرَفَتْ مِنْها العيونُ, ووجِلَتْ منها القلوبُ, فقلْنا:يا رسولَ اللهِ: إنَّ هذهِ لمَوعظةُ مُودِّعٍ, فماذا تَعْهَدُ إلينا؟ قالَ: "قَدْ تركتُكمْ علَى البيضاءِ, ليلُها كنهارِها, لا يزيغُ عَنْها بعدِي إلا هالكٌ..."الحديث [أخرجَه أحمدُ وابنُ ماجَه].
…عبادَ اللهِ:
…فقولُه - صلى الله عليه وسلم -:"إنَّ الحلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحرامَ بيِّنٌ وبينَهما أمورٌ مشتبِهاتٌ", أيْ: أنَّ هناكَ حلالاً محْضًا لا شائبةَ فيه, كأكلِ الطيِّباتِ مِنَ الزروعِ والثمارِ وبهيمةِ الأنعامِ, وشربِ الأشربةِ الطيِّبةِ مِنَ الماءِ واللبنِ والعسلِ ونحوِها, ولبسِ ما يُحتاجُ إليه من القطنِ والصوفِ ونحوِهما.
…وهناكَ حرامٌ محْضٌ لا شائبةَ فيه, كأكلِ الميتةِ والدمِ ولحمِ الخنزيرِ, وشربِ الخمرِ, ولبسِ الحريرِ والذهبِ للرجالِ, وحرمةِ نكاحِ المحارمِ.
…وهناك أمورٌ مشتبِهةٌ بينَ الحلالِ المحْضِ والحرامِ المحْضِ, فأمرُها ليسَ بواضحٍ تمامَ الوضوحِ في الحِلِّ أوِ الحرمةِ, ولهذا يقعُ الخلافُ بينَ العلماءِ في حكمِها, كاختلافِهم في حكمِ بعضِ المطعوماتِ أوِ الملبوساتِ أوِ المعاملاتِ.
…وهذا الاشتباهُ إنَّما يقعُ لبعضِ العلماءِ لا كلِّهم, فهناكَ مَنْ يعرفُ الحكمَ الشرعيَّ في هذِهِ المسائِلِ أيضًا,ولهذا قالَ - صلى الله عليه وسلم -:"وبينَهما أمورٌ مشتبِهاتٌ لا يعلمُهنَّ كثيرٌ مِنَ الناسِ", ولهذا الاشتباهِ أسبابٌ كثيرةٌ ومتعدِّدةٌ, مِنْها: عدمُ بلوغِ النصِّ الشرعيِّ إليهم, ومِنْها: الاختلافُ في فهمِ النصوصِ الشرعيَّةِ الواردَةِ.(127/3)
…ومنها: الاختلافُ في تطبيقِ النصِّ الشرعيِّ علَى الواقعةِ المرادِ معرفةُ حُكمِها. وهذا السببُ قَدْ يقعُ للعلماءِ ولغيرِهم؛ إذْ قَدْ يكونُ النصُّ الشرعيُّ واضحًا, والحكمُ معروفًا, ولكنْ لا يُدرَى بحقيقةِ حالِ هذا الشيءِ المرادِ معرفةُ حُكمِه, كما لو وَجَدَ إنسانٌ شيئًا في بيتهِ ولم يَدْرِ: هلْ هوَ له أوْ لغيرِهِ ؟ فهذا مشتبِهٌ, ولا يَحْرُمُ عليهِ تناوُلُه, ولكنَّ الورَعَ اجتنابُه, فعنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"واللهِ, إنِّي لأنقلبُ إلى أهْلِي فأجدُ التمرةَ ساقطةً علَى فراشِي – أوْ في بيِتي – فأرفُعها لآكلَها ثم أخشَى أن تكونَ صدقةً فألقِيها"[ متفقٌ عليه].
…عبادَ اللهِ:
…فالناسُ في الأمورِ المشتبِهةِ قسمانِ:
أحدُهما: مَنْ يتَّقيِ الشبهاتِ ويبتعدُ عنها: فهذا – كما قالَ عنه في الحديثِ - قدِ استبرأَ لدينهِ وعرضِهِ, أيْ: طَلَبَ البراءَةَ لدينهِ وعرضهِ مِنَ النقصِ والشَّيْنِ, قالَ بعضُ السلَفِ: مَنْ عرَّضَ نفسََهُ للتُّهَمِ فلا يلومَنَّ مَنْ أساءَ الظنَّ بهِ.
…ولا شكَّ أنَّ مَنْ حملَ نفسَه علَى الأخذِ بالورَعِ فهوَ الأفضلُ والأكملُ, وسيكونُ مِنَ الحرامِ البيِّنِ أبعدَ وأنجَى, ولهِذا فقدَ جاءَ في روايةٍ للبخاريِّ في هذا الحديثِ:" فمَنْ تركَ ما يَشتبِهُ عليهِ مِِنَ الإثمِ, كانَ لِما استبانَ أتْرَكَ ".
…والقسمُ الثاني: مَنْ يقعُ في الشبهاتِ مَعَ كونهِا مشتبِهةً عِنْدَه, فهذا قالَ عنه في الحديثِ:" ومَنْ وقعَ في الشبهاتِ وقعَ في الحرامِ ", أيْ: أنَّ ارتكابَه للشبهةِ سيؤدِّي بهِ إلى ارتكابِ الحرامِ بعدَ ذلك؛ بسببِ التسامُحِ والتهاونِ. وقدْ جاءَ في روايةٍ للبخاريِّ في هذا الحديثِ:" ومَنِ اجترأَ علَى ما يَشُكُّ فيهِ مِنَ الإثمِ أوْشَكَ أنْ يواقِعَ ما استبانَ ".(127/4)
ويؤيِّدُ هذا المعنى: قولُه - صلى الله عليه وسلم - بعدَ هذهِ الجملةِ:" كالراعِي يرعَى حولَ الحِمَى يوشِكُ أن يَرتعَ فيهِ, ألا وإنَّ لكلِّ مَلِكٍ حِمًى, ألا وإنَّ حِمَى اللهِ محارِمُه".
…فهذا مَثَلٌ لمَنْ وقعَ في الشبهاتِ, أنَّهُ يقْرُبُ وقوعُهُ في الحرامِ المحْضِ, كالحِمَى الذي تحمِيهِ الملوكُ ويمنعونَ غيْرَهم مِنْ قُربانهِ, واللهُ عزَّ وجلَّ قدْ حمىَ هذِِه المحرَّماتِ, ومنَعَ عِبادَه من قُربانهِا, وسمَّاها حدودَه, فقالَ سبحانَه: { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } { البقرة 187 } .
…قالَ الحسنُ البصريُّ رحمَه اللهُ:ما زالَتِ التَّقوَى بالمتقينَ حتى تركوا كثيرًا مِنَ الحلالِ مخافةَ الحرامِ، وقالَ سُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ: لا يصيبُ عبدٌ حقيقةَ الإيمانِ حتى يجعلَ بيْنَه وبينَ الحرامِ حاجزًا مِنَ الحلالِ.
…باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيمِ, ونفعِني وإيَّاكمْ بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ, أقولُ قولِي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ فاستغفروهُ إنَّهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ, والعاقبةُ للمتقينَ, ولا عُدوانَ إلاَّ علَى الظالمينَ. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له, الإلهُ الحقُّ المبينُ, وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه, صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِه أجمعينَ, ومَنْ تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
…أمَّا بعدُ:
…فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ تعالَى حقَّ تقواه, واعمَلُوا بطاعتهِ ورِضاه.
… أيهُّا المسلمونَ:
…لقد خَتمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديثَ العظيمَ بقولهِ: "ألا وإنَّ في الجسدِ مضغةً إذا صَلَحَتْ صلَحَ الجسدُ كلُّه, وإذا فسدَتْ فسدَ الجسدُ كلُّه, ألَا وهِيَ القلبُ".(127/5)
… ففي هذهِ الجملةِ ارتباطٌ وثيقٌ بما سبقَها؛ فقَدْ أشارَ إلى أنَّ اجتنابَ العبدِ للمحرَّماتِ واتِّقاءَه للشبهاتِ, إنَّما هوَ بصلاحِ القلبِ, والقلبُ الصالحُ- وهوَ القلبُ السليمُ -: هو الذي ليسَ فيه إلاَّ محبَّةُ اللهِ و محبَّةُ ما يحبُّه اللهُ, وخشيةُ اللهِ وخشيةُ الوقوعِ فيما يكرهُه اللهُ. وأمَّا القلبُ الفاسِدُ: فهوَ الذي استولَى عليهِ اتباعُ الهوَى, وطلبُ ما يحبُّه ولَوْ كرِهَهُ اللهُ تعالَى, فتَفسدُ الجوارحُ بسببِ ذلكَ, فتنقادُ إلى المعاصِي والمشتبِهاتِ كلِّها.
…ولهذا يُقالُ: القلبُ مَلِكُ الأعضاءِ, وبقيَّةُ الأعضاءِ جنودُه, فهم طائعونَ له, منبعثونَ في تنفيذِ أوامرِهِ, لا يخالفونَه في شيءٍ مِنْ ذلكِ, فإنْ كانَ الملِكُ صالحًا كانَتِ الجنودُ صالحةً, وإنْ كانَ فاسدًا كانَتْ فاسدةً, ولا ينفعُ عنْدَ اللهِ إلاَّّ القلبُ السليمُ, كما قالَ تعالَى: { يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } { الشعراء:88 - 89 } .
…اللهمَّ إنَّا نسألكُ الثباتَ في الأمرِ, والعزيمةَ علَى الرشدِ, ونسألكَ شُكرَ نعمتِكَ, وحُسنَ عبادتِكَ, ونسألُكَ قلبًا سليمًا, ولسانًا صادقًا.
اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ, والمسلمينَ والمسلماتِ, الأحياءِ مِنْهمْ والأمواتِ, إنَّكَ سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ. اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ, وأذِلَّ الشركَ والمشركينَ, ودَمِّرِ اللهُمَّ أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ.(127/6)
اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ, واجعلْ عملَهما في رضاكَ, اللهُمَّ احْفَظْهما بحفظِكَ, واكْلأْهُما برعايتِكَ, وألبِسْهُما ثوبَ الصحَّةِ والعافيةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ, واجعلِ اللهُمَّ هذا البلدَ آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتقَّبلِ اللهُمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ, وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(127/7)
اطبع هذه الصحفة
عُلُوُّ الهِمَّةِ
أيُّها الإخوةُ في اللهِ:
يومَ كانتِ الهِمَمُ عاليةً، والعزائمُ شامخةً، والقلوبُ حيّةً، هَزَّ المسلمونَ أرجاءَ الدُّنيا، وأَذْهَلُوا الزمانَ، وأَقَضُّوا مضاجِعَ الكُفْرِ والطُّغيانِ، فَقَدْ غرسُوا أَلْوَِيةَ الحقِّ في قلبِ آسيا، وارتفعَ أذانُهُمْ في أدغالِ إِفْرِيقيا، ونالتْ فُتوحُهم أطرافَ أُوروبا، وطارَ صِيتُهم من شرقِ الأرضِ إلى غَرْبِها، ذلكَ التَّاريخُ المتوهِّجُ، والمَجْدُ المتألِّقُ، إنَّما كانَ ثمرةَ الهِمَمِ الشَّامخةِ، والمبادئِ الرَّاسخةِ، هِمَمٌ تَتَحَدَّى الجبالَ، وعِلْمٌ وإيمانٌ بالواحدِ الْمُتعالِ: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } { الزمر: 18 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 15 من شعبان 1427هـ الموافق 8 / 9/2006م
عُلُوُّ الهِمَّةِ
الْحَمْدُ للهِ بارئِ النَّسَمِ وباعثِ الرِّمَمِ، رَفَعَ لِهَذِهِ الأمَّةِ دينَها وهمتَها فَجَعَلَها خيْرَ الأُمَمِ، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ ذو الإنعامِ والكَرَمِ، وأَشْهَدُ أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ كريمُ الخِصال والشِيَمِ، أرفَعُ الخَلْقِ قَدْرًا وأَعْلاهُمْ هِمَّةً في شَرفِ الكَرَمِ ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ علَيْهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أُولي العِزِّ والشَّمَمِ، وعلى تابِعِيهمْ بإحسانٍ ما خَطَّ بَنَانٌ بقلَمٍ، وما بدَّدَ صُبْحٌ دياجيرَ الظُّلَمِ.
أمَّا بَعْدُ:
فأُوصيكم ـ أيُّها المسلمونَ ـ ونفسي بتقوى اللهِ وأنْ تُمَجِّدوا ربَّكم، وأنْ تُعظِّموا مولاكُمْ، فهُوَ أهلُ التَّقْوى والحمْدِ والجلالِ، الموصوفُ بصِفاتِ العِزِّةِ والجمالِ.
إخوةَ الإسلامِ:(128/1)
لا يُمكِنُ لِهذا الجِيلِ أنْ يتغيرَ إلى الأفضلِ، لِيَحْصُلَ على حالٍ أرْقى وأكمَلَ، إلا بعُلوِّ الهِمَّةِ والعملِ، وذلكَ أنَّ بلوغَ القِمَّةِ لا يكونُ إلا بِعُلُوِّ الهِمَّةِ، والفَوْزُ بالمقصودِ: لا يحصُلُ إلا ببذلِ المجهودِ، ومَتَى عَلَتِ الهِمَّة فلا تَقْنَعُ بالدُّونِ، ولا تَرْضَى بالذُّلِ، ولا تَخْضعُ لِلهوانِ، ولا تَستسْلِمُ للخَوَرِ.
وإِذَا كانتِ النُّفُوسُ كِبارًا تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ
أيُّها الإخوةُ في اللهِ:
يومَ كانتِ الهِمَمُ عاليةً، والعزائمُ شامخةً، والقلوبُ حيّةً، هَزَّ المسلمونَ أرجاءَ الدُّنيا، وأَذْهَلُوا الزمانَ، وأَقَضُّوا مضاجِعَ الكُفْرِ والطُّغيانِ، فَقَدْ غرسُوا أَلْوَِيةَ الحقِّ في قلبِ آسيا، وارتفعَ أذانُهُمْ في أدغالِ إِفْرِيقيا، ونالتْ فُتوحُهم أطرافَ أُوروبا، وطارَ صِيتُهم من شرقِ الأرضِ إلى غَرْبِها، ذلكَ التَّاريخُ المتوهِّجُ، والمَجْدُ المتألِّقُ، إنَّما كانَ ثمرةَ الهِمَمِ الشَّامخةِ، والمبادئِ الرَّاسخةِ، هِمَمٌ تَتَحَدَّى الجبالَ، وعِلْمٌ وإيمانٌ بالواحدِ الْمُتعالِ: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } { الزمر: 18 } .
شبابَ الإسلامِ:
الهِمَّةُ سِمَةُ المؤمنِ، وآيةُ المسلمِ، وعلامةُ الجادِّ، لقَدْ علَّمَنا الإسلامُ علوَّ الهِمِّةِ، حتَّى في الدُّعاءِ وسؤالِ الجَنَّةِ، فعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"إذا سألتُمُ اللهَ تعالى فاسْألُوهُ الفِرْدَوْسَ فإنَّهُ أوسطُ الجَنَّةِ، وأعلَى الجَنَّةِ، وفوقَهُ عرشُ الرَّحمنِ عزَّ وجلَّ، ومنْهُ تَفَجَّرُ أنهارُ الجَنَّةِ"[أخرجَهُ الإمامُ أحمدُ] واعلمُوا أنَّ ضعفَ الإرادةِ والطَلَبِ، مِنْ ضَعفِ حياةِ القلبِ، وكلَّما كانَ القلبُ أَتمَّ حياةً كانتْ هِمَّتُهُ أعلَى، وإرادتُهُ ومحبَّتُهُ أقوَى.(128/2)
على قَدْرِ أهلِ العَزْمِ تأتِي العزائمُ وتأتِي علَى قَدْرِ الكِرامِ المكارمُ
وتَعْظُمُ في عينِ الصَّغيرِ صغارُها وتَصْغُرُ في عينِ العظيمِ العظائمُ
أمَّةَ العِزِّ والمجدِ:
وهذِهِ بعضُ النَّماذجِ الفَذََّةِ، مِنْ تاريخِ أربابِ الهِمَمِ اْلعَالِيَّةِ، والعزائمِ المتَوَقِّدَةِ، في مجالاتٍ شتَّى متنوِّعةٍ، نَسُوقُ طَرَفًا منها لأخذِ العِبْرَةِ، ونَيْلِ العَظَمَةِ، وتذكيرِ النُّفُوسِ، وإحياءِ القُلُوبِ: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ } { يوسف:111 } .
فَهَذا مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ - رضي الله عنه - حينَما حَضَرَتْهُ الوفاةُ قالَ:"اللَّهمَّ إنَّكَ تعلمُ أنِّي لَمْ أكنْ أُحِبُّ البقاءَ في الدُّنيا لكَرْيِ الأنهارِ، ولا لغرسِ الأشجارِ، ولكنْ كنتُ أحبُّ البَقَاءَ لِمُكَابدةِ اللَّيلِ الطَّويلِ، ولِظَمَأِ الهواجِرِ في الحرِّ الشَّديدِ
ولِمُزاحمةِ العلماءِ بالرُّكَبِ عندَ حِلَقِ الذِّكْرِ" وهذا ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه - يقولُ:"والَّذِي لا إلهَ غيرُهُ، ما أُنْزِلَتْ سورةٌ مِنْ كتابِ اللهِ إلا أنا أعلمُ أينَ نَزَلَتْ، ولا أُنزلتْ آيةٌ مِنْ كتابِ اللهِ إلا أنا أعلمُ فِيمَنْ أُنزِلتْ، ولو أعلمُ أحدًا أعلمَ بكتابِ اللهِ منِّي تبلغُهُ المطَايَا لَرَكِبْتُ إِليهِ"
أيُّها المسلمونَ:(128/3)
هذا في مجالِ العلمِ والتَّحصيلِ، وأمَّا في مجالِ التَّطبيقِ والعَمَلِ، فشيءٌ يفوقُ ذلكَ، فَقَدْ قِيلَ لنافعٍ: "ما كانَ يصنعُ ابنُ عُمَرَ في منزلِهِ" ؟قال:"الوُضوءَ لكلِّ صلاةٍ، والمصحفَ فيما بينَهما" "وكانَ ابنُ عمرَ- رضيَ اللهُ عنهما - إذا فاتَتْهُ صلاةُ الجماعةِ صامَ يومًا، وأَحْيا ليلةً، وأعتقَ رقبةً"، واجتهدَ أبو مُوسَى الأشعريُّ - رضي الله عنه - قبلَ موتِهِ اجتهادًا شديدًا، فقيلَ لَهُ:" لو أَمْسَكْتَ أَوْ رَفِقْتَ بنفسِكَ بَعْضَ الرِّفْقِ؟" فقالَ:"إنَّ الخيْلَ إذا أُرْسِلَتْ فقارَبَتْ رأسَ مَجراها أَخْرَجَتْ جميعَ ما عندَها، والَّذي بَقِيَ مِنْ أجلِي أقلُّ مِنْ ذلكَ" قيلَ:"فلَمْ يَزِلْْ على ذلكَ حتَّى ماتَ".
أتباعَ سيِّدِ المرسلينَ:
وأمَّّا في الجِهادِ، ومقارعةِ أربابِ الكُفْرِ والفسادِ، فكانوا شُمُوسًا ساطعةً، ونُجُومًا لامِعةً، فهذَا المِقْدادُ بنُ الأسودِ - رضي الله عنه - يقولُ: لَمَّا استشارَهُ النَّبيُّ في قتالِ يومِ بدرٍ:"يا رسولَ اللهِ اِمضِ لِمَا أراكَ اللهُ فنحنُ معكَ، واللهِ لا نقولُ لكَ كَمَا قالَ بنُو إسرائيلَ لِمُوسى: "اِذهبْ أنتَ وربُّكَ فقاتِلا إنَّا هَهُنا قاعدونَ" ولكنْ اِذهبْ أنتَ وربُّكَ فقاتِلا إنَّا مَعَكُما مُقاتِلونَ".
هَذَا وَقَدْ كَتَبَ الإمامُ المجاهدُ عبدُ اللهِ بنُ المباركِ إلى الفُضَيلِ بنِ عياضٍ رَحِمَهما اللهُ:
يا عابدَ الحَرَمَيْنِ لَْو أبصرْتَنَا … لَعَلِمْتَ أنَّكَ في العِبادَةِ تَلْعَبُ
مَنْ كانَ يَخْضِبُ خدَّهُ بدُمُوعِهِ … فنحورُنا بدمائِنا تتَخَضَّبُ
أَوْ كانَ يُتْعِبُ خيلَهُ في باطلٍ… فخيولُنا يومَ الصَّبيحةِ تَتْعَبُ
رِيحُ العبيرِ لكمْ ونحنُ عبيرُنا … رَهَجُ السَّنابِكِ والغُبَارُ الأطيبُ
وَلَقَدْ أتانا مِنْ مَقالِ نبيِّنا … قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يَكْذِبُ
لا يستوِي وغُبارُ خيلِ اللهِ في أنْفِ امْرئٍ ودُخانُ نارٍ تَلْهَبُ(128/4)
هَذا كتابُ اللهِ يَنْطِقُ بينَنا … ليسَ الشَّهيدُ بميِّتٍ لا يُكْذَبُ
قالَ حامِلُ هَذِهِ الأبياتِ فَلَقِيتُ الفُضيلَ في المسجِدِ الحَرامِ، فلَمَّا قرأَها ذَرَفَتْ عيناهُ، فقالَ: صَدَقَ أبو عبدِ الرَّحمنِ عبدُ اللهِ بنُ المباركِ ونَصَحَنِي، ثمَّ قالَ: أنتَ ممَّنْ يَكْتُبُ الحديثَ؟ قلتُ: نَعَمْ، قالَ لي:اُكتبْ هَذَا الحديثَ، وأَمْلََى عليَّ الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ: حدَّثَنا منصورُ بنُ الْمُعْتَمِرِ عنْ أبي صالحٍ عن أبي هريرةَ: أنَّ رجلاً قالَ: يارسولَ اللهِ علِّمْني عَمَلاً أنالُ بِهِ ثوابَ المجاهدينَ في سبيلِ اللهِ فقالَ: "هَلْ تستطيعُ أنْ تصلِّيَ فلا تَفْتُرُ، وتصومَ فلا تُفْطِرُ؟"فقالَ: يا رسولَ اللهِ أنا أضعفُ مِنْ أنْ أستطيعَ ذلكَ، ثمَّ قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:" فَوَ الَّذي نَفْسِي بيدِهِ لَوْ طِقْتَ ذلكَ ما بَلَغْتَ فضلَ المجاهدِ في سبيلِ اللهِ، أمَا عَلِمْتَ أنَّ فَرَسَ المجاهدِ لَيَسْتَنُّ في طِوَلِه، فيُكْتَبُ لَهُ بذلكَ حسناتٍ".
باركَ اللهُ لي ولكُمْ بالوَحْيَيْنِ ونَفَعنِي وإياكُم بهديِ سيِّدِ الثَّقَلَينِ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكُم ولِسائرِ المسلمينَ فاستغفرُوهُ إنَّهُ خيرُ الغافرينَ.
الخطبة الثانية
الحمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والعاقبةُ للمتَّقينَ، ولا عُدوانَ إلا على الظالمينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ وليُّ المؤمنينَ، وأشْهَدُ أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ الصَّادقُ الأمينُ، وسيَّدُ الأولينَ والآخِرينَ،
صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، وعلى تابعِيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينَ.
أمَّا بَعْدُ: فاتَّقوا اللهَ أيُّها النَّاسُ، وتزيَّنوا بها فإنَّها خَيرُ لِباسٍ: { وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ } { الأعراف:26 }
معاشرَ المسلمينَ:(128/5)
هذِهِ صُوَرٌ مشرِقَةٌ،وصفحاتٌ نَيِّرَةٌ تُظْهِرُ عَظَمَةَ أولئكَ الرِّجالِ، وأنَّهم ما نالُوا عِزَّةَ الدُّنيا والآخرةِ إلا بعُلُوِّ الهِمَمِ، وقوَّةِ العزائمِ، وصفاءِ النَّوايا، وقسْ عليهِم غيرَهُمْ، مِنْ علماءِ الأمَّةِ، وعظماءِ التَّاريخِ، وقِمَمِ البشريَّةِ، مِنَ الَّذينَ عَمَرَتِ القُلُوبُ، وزَكَتِ النُّفُوسُ، وأُنِيرتِ العُقُولُ، بنورِ جهودِهم، ونتاجِ هِمَمِهِم، فرَحِمهم اللهُ جميعًا، وجَمَعَنا بِهِم في جنَّاتِ النَّعيمِ، ورَزَقَنا السَّيرَ على مِنوالِهم.
فاتَّقوا اللهَ أيُّها المسلمونَ ورَاجِعُوا أنفسَكم، وقَوُّوا هِمَمَكم، وتأَسُّوا بمَنْ قبلَكم، تُفْلِحوا كما أفْلَحُوا: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً { } الأحزاب:23 } .
ثمَّ صلُّوا وسلِّموا على الهادِي البشيرِ، والسِّراجِ المنيرِ، كَمَا أَمَرَ بذلِكُم اللَّطيفُ الخبيرُ، فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب:56 } ، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّمْ على نبيِّكَ محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللَّهمَّ أَبْرِمْ لهذِهِ الأمَّةِ أمْرَ رُشْدٍ، يُعَزُّ فيه أهلُ طاعتِكَ، ويُذَلُّ فيه أهلُ معصيتِكَ، ويُؤْمَرُ فيه بالمعروفِ، ويُنهى فيه عَنْ المنكرِ.
اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ,واجعلْ عملَهما في رِضاكَ،اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ, واكلأْهما بِرعايَتِكَ, وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.(128/6)
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(128/7)
اطبع هذه الصحفة
فضل العلم والعلماء
معشرَ الآباءِ والمعلمينَ:
يستعدُّ الأبناءُ في هذِه الأيامِ لاستقبالِ عامٍ دراسيٍّ جديدٍ، يقضونَه بينَ أروقةِ المدارسِ والجامعاتِ والمعاهدِ، لينهلوا مِنَ العلم ِوالمعرفةِ علَى حسبِ مستوياتِهم واتجاهاتِهم، فهذه الجموعُ المبارَكةُ مِنَ البناتِ والأبناءِ، المتجهينَ إلى دُورِ التربيةِ والتعليمِ صباحَ مساءَ، يغدونَ خِماصاً ويروحونَ بِطاناً، تُشْعِرُ الرائِي أنَّ في الأمُّةِ نبضَ حياةٍ، وأنَّ لها غدًا مشرقاً بإذنِ اللهِ.إنَّ الأعناقَ لَتشرئبُّ إلى استمرارِ النَّماءِ، في دُورٍ تحتضنُ براعِمَ وناشئةً أبرياءَ، تنتظرُ الأمّةُ مِنْهم ردَّ كيدِ الأعداءِ، ويكونون لمجتمعاتِهم أوفياءَ، وهذا لا يكونُ إلاّ بالتربيةِ الجادَّةِ، التي تسبقُ التعليمَ والإفادةَ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 22 شعبان 1427هـ الموافق 15/9/2006م
فضل العلم والعلماء
الحمدُ للهِ الذي علَّمَ بالقلمِ، علَّمَ الإنسانَ ما لم يعلمْ، أحمدُه سبحانَه وأشكرُه على ما يسَّرَ وأنعمَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له ذو الإِنعامِ والكرَمِ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُه ورسولُه المغفورُ له ما تأخَّرَ مِنْ ذنبِه وما تقدَّمَ، بدَّدَ ظلماتِ الجاهليِة بنورِ الوحيِ وعلَّمَ، صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابِه وأتباعِه إلى يومِ الدينِ وسلَّمَ.
أمّا بعدُ:
فأُوصيكم عبادَ اللهِ ونفسِي بتقوَى اللهِ الكريمِ، وأنْ تستمسكوا بدينهِ القويمِ، وصراطِ نبيِّهِ المستقيمِ، لتنالوا السعادةَ والرضوانَ والنعيمَ، يقولُ اللهُ سبحانَه: { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } { مريم: 63 } .
وحلَّ المتقونَ بدارِ صدقٍ وعيشٍ ناعمٍ تحتَ الظلالِ
لهم ما يشتهونَ وما تمنَّوْا مِنَ الأفراحِ فيها والكمالِ
…
أيُّها المسلمونَ:(129/1)
إنَّ أوَّلَ ما نزلَ مِنْ آياتِ القرآنِ قولُ اللهِ سبحانَه: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } { العلق5:1 } ، فهذهِ أولُ دعوةٍ تسمو بقَدْرِ القلَمِ، وتُنوِّهُ بقيمةِ العِلْمِ، وتُعَلِنُ الحربَ علَى الأميَّةِ الغافلةِ، وتبدِّدُ ظلماتِ الجهلِ الحالكةَ، وتَجعلُ اللبنةَ الأُولى في بناءِ كلِّ مسلمٍ: أنْ يقرأَ ويتعلَّمَ.
وقَدْ أعلَى القرآنُ درجاتِ العلماءِ فقالَ: { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } { آل عمران:18 } ، فبدأَ سبحانَه وتعالىَ بنفسهِ، وثنَّى بالملائكةِ، وثلَّثَ بأهلِ العلمِ، وكفَى بهذا شرفاً وفضلاً، وحثَّ المصطفَى - صلى الله عليه وسلم - على التزوُّدِ مِنَ العلمِ، وجعلَه طريقاً إلى الجنَّةِ فقالَ:"مَنْ سلكَ طريقاً يلتمِسُ فيه عِلْماً سهَّلَ اللهُ له به طريقاً إلى الجنَّةِ"[ أخرجَه مسلمٌ ].
إخوةَ الإيمانِ:(129/2)
لقد تميَّزتِ الأُمَّةُ الإسلاميَّةُ عبرَ التاريخِ عَنْ غيرها مِنَ الأممِ، بأنَّها أُمَّةُ المعرفَةِ والعِلْمِ، وأُمَّةُ القرطاسِ والقلمِ، قالَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنه -:"العلمُ خيرٌ مِنَ المالِ، العلمُ يحرسُكَ وأنتَ تحرسُ المالَ، والعلمُ حاكِمٌ والمالُ محكومٌ عليه، والمالُ تَنْقُصُه النفقةُ والعلمُ يزكُو بالإنفاقِ، ماتَ خُزّانُ المالِ وهم أحياءٌ، والعلماءُ باقونَ ما بَقِيَ الدهرُ، أعيانُهم مفقودةٌ وآثارُهم في القلوبِ موجودةٌ"، فالعلمُ الشرعيُّ تعليمُه خشيةٌ، وطلبُه عِبادةٌ، ومُذاكَرتُه تسبيحٌ، وهوَ الأنيسُ في الوحشةِ، والصاحبُ في الغُرْبةِ، بالعلمِ والعملِ يبلغُ العبدُ العِزَّ والفخارَ، وينالُ الدرجاتِ العُلا في دارِ القرارِ، به يُطاعُ الربُّ ويُعبَدُ، ويُوحَّدُ ويُتَّقَى ويُمَجَّدُ.
فلولا العلمُ ما سَعِدَتْ نفوسٌ ولا عُرِفَ الحلالُ ولا الحرامُ
فبالعلمِ النجاةُ مِنَ المخازِي وبالجهلِ المذلَّةُ والرَّغامُ
معشرَ الآباءِ والمعلمينَ:
يستعدُّ الأبناءُ في هذِه الأيامِ لاستقبالِ عامٍ دراسيٍّ جديدٍ، يقضونَه بينَ أروقةِ المدارسِ والجامعاتِ والمعاهدِ، لينهلوا مِنَ العلم ِوالمعرفةِ علَى حسبِ مستوياتِهم واتجاهاتِهم، فهذه الجموعُ المبارَكةُ مِنَ البناتِ والأبناءِ، المتجهينَ إلى دُورِ التربيةِ والتعليمِ صباحَ مساءَ، يغدونَ خِماصاً ويروحونَ بِطاناً، تُشْعِرُ الرائِي أنَّ في الأمُّةِ نبضَ حياةٍ، وأنَّ لها غدًا مشرقاً بإذنِ اللهِ.إنَّ الأعناقَ لَتشرئبُّ إلى استمرارِ النَّماءِ، في دُورٍ تحتضنُ براعِمَ وناشئةً أبرياءَ، تنتظرُ الأمّةُ مِنْهم ردَّ كيدِ الأعداءِ، ويكونون لمجتمعاتِهم أوفياءَ، وهذا لا يكونُ إلاّ بالتربيةِ الجادَّةِ، التي تسبقُ التعليمَ والإفادةَ.(129/3)
إنَّ هذا التعليمَ لا يُؤتِي ثمرتَهُ، ولا تَحصلُ بركتُه، إلاّ بأمورٍ مِنْها: الإخلاصُ في الطلَبِ، وابتغاءُ رِضا الربِّ، وتتويجُه بالخلقِ الحَسَنِ والأدَبِ، والاقتداءُ بمعلِّمٍ مخلصٍ مُهذَّبٍ، فيتعلمُ مِنْه الطالبُ أدبَ الجلوسِ وأدبَ الاستماعِ، وأدبَ السؤالِ وأدبَ الإنصاتِ، وأدبَ الاعتذارِ وأدبَ الاستدراكِ، يقولُ الإمامُ الشافعيُّ: "كنتُ أصفَحُ الورقةَ بينَ يَدَيْ شيخِي مالكٍ صَفْحاً رقيقاً هَيْبةً لِئلا يسمعَ وَقْعَها"، ويقولُ الربيعُ:"واللهِ ما اجترأْتُ أنْ أشربَ الماءَ والشافعيُّ ينظرُ إليَّ هَيْبةً له".
بِتسعٍ يُنالُ العلمُ : قوتٌ وصحَّةٌ وحِرْصٌ وفهمٌ ثاقبٌ في التعلُّمِ
ودرسٌ وحفظٌ للعلومِ وهِمَّةٌ وشَرْخُ شبابٍ واجتهادُ مُعلِّمِ
اعلموا إخوةَ الإسلامِ أنَّ المعلِّمَ له مكانتُه الساميةُ، ومنزِلتُه العاليةُ، فهوَ مُربِّي الأجيالِ، وصانِعُ الرجالِ، وعليهِ في ذلك تُعقدُ الآمالُ، وتحتَ إشرافهِ يتخرَّجُ المفكرونَ والعلماءُ، والفضلاءُ والأدباءُ، فالقوَّةُ البشريةُ للمجتمعِ، والدِعامةُ الأساسيةُ للأُمَّةِ تحتَ يديْهِ، فالمعلمُ الذي يُؤدِي رسالتَه عَنْ رغبةٍ وطَواعيةٍ، لا عَنْ تَملْمُلٍ وكراهيةٍ، هوَ الذي تَهَذَّبَ بالخلقِ القويمِ، وتحلَّى بالأدبِ الكريمِ، وتزيَّنَ بالحكمةِ والعطفِ واللينِ، والصبرِ والتحمُّلِ ابتغاءَ الأجرِ الجزيلِ، أمَّا المعلّمُ الذي لا يصدقُ في العملِ، يثورُ لأدنَى زَلَلٍ، وكلُّ هَفْوةٍ عِنْدَه أمرٌ جَلَلٌ، فهذا يَهدِمُ ولا يَبنِي، ولا يُصلِحُ ولا يَهدِي.
لا تحسبَنَّ العلمَ ينفعُ وحدَهُ ما لم يُتوَّجْ ربُّه بِخَلاقِ
وإذا رُزِقْتَ خَليقةً محمودةً فقدِ اصطفاكَ مقسِّمُ الأرزاقِ
معشرَ المعلمينَ:(129/4)
ليكنْ لكم في نبيِّ الرحمةِ، ومعلِّمِ الناسِ الخيرَ والحِكْمةَ، القدوةُ والأُسْوَةُ الحسنةُ، يقولُ اللهُ سبحانَه: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } { الجمعة:2 } ،فجعلَ مِنْهم هذا التعليمُ حملةَ رسالاتٍ، وصانعِي أحداثٍ ومُؤَسَّسِي حضاراتٍ، تخرَّجَ مِنْ مدرستهِ عظماءُ، ملؤوا الدنيا ذِكْراً وصلاحاً، وإعجاباً وفلاحاً، ثم انطلقَ صحابتُه علَى منهجِه في التعليمِ تربيةً وتزكيةً وتهذيباً، فهذا مصعبُ بنُ عُميرٍ - رضي الله عنه - أُرسِلَ إلى المدينةِ مُعلِّماً وحيداً، وكانَ أثرهُ فريداً، حيثُ عادَ إلى مكةَ قبلَ انقضاءِ العامِ، وقد هدَى كثيراً إلى الإسلامِ، وصاروا يردِّدونَ آياتِ القرآنِ، الرجالُ والنساءُ والفتيانُ، ما كانَ هذا الفتى الشابُّ، والمعلِّمُ الذي هجرَ الأهلَ والأحبابَ، أنْ يُحدِثَ هذا التَحوُّلَ العجيبَ، بمجرَّدِ ترديدِ الآياتِ وتخزينِ المعلوماتِ، بَلْ بالقُدوةِ الصالحةِ، ومخاطبةِ القلوبِ، وتهذيبِ السلوكِ، وتقويمِ الأخلاقِ، في أقلَّ مِنْ سنَةٍ حقَّقَ مُصْعبٌ - رضي الله عنه - المرادَ، وهدَى اللهُ به كثيراً مِنَ العبادِ.
العلمُ فيهِ حياةٌ للقلوبِ كما … تحيا البلادُ إذا ما مسَّها المطرُ
والعلمُ يجلو العمَى عَنْ قلبِ صاحِبه …كما يُجْلِي سوادَ الظُّلمةِ القمرُ
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ، ونفعَنا بما فيهِ مِنَ الهُدَى والبيانِ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم مِنَ الذنوبِ والعِصْيانِ، فاستغفروهُ إنَّه هوَ الغفورُ المنَّانُ.
الخطبة الثانية(129/5)
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وليُّ المؤمنينَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الأمينُ، - صلى الله عليه وسلم - وعلَى آلهِ وصحبِه الميامينِ، وعلَى تابعيهِمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أمَّا بعدُ:
فاتقوا اللهَ أيهُّا الناسُ،وتجمَّلُوا بالتقوَى فإنَّها خيرُ لباسٍ، { وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ { } الأعراف:26 } ومما ينبَغِي التذكيرُ به في مطلَعِ العامِ الجديدِ، ضرورةُ اهتمامِ الآباءِ والأمهاتِ بسلوكِ أولادِهم، وأنْ لا يُلْقوا بالتَّبِعةِ علَى المدارسِ والمعاهدِ، فكما نَحرصُ على تَحصِيلهمِ العِلْميِّ، ونِتاجِهمِ الفكريِّ، لا بدَّ أنْ نحرصَ علَى سلوكِهم ودِينِهم، وأنْ نأمرَهم بالمحافظةِ علَى الصلواتِ في كلِّ وقتٍ وحينٍ، ومجانبةِ صُحْبةِ السُّفهاءِ السيئينَ، مُحببِّين لهم كلَّ خلقٍ جميلٍ، مُبغِّضِينَ لهم كلَّ فعلٍ رذيلٍ، لا سيَّما مشاهدةُ سيِّىءِ القنواتِ، وإضاعةُ الأوقاتِ، وممَّا يعينُ علَى هذا المقصَدِ العظيمِ، حثُّهم على مُصاحبةِ الطيِّبينَ، وإلحاقُهم بحلقاتِ القرآنِ الكريمِ، فإنَّ للقرآنِ أثرَه في إحياءِ القلوبِ، وإصلاحِ النفوسِ، يقولُ اللهُ سبحانَه: { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } { الأنعام:122 } ، ثمَّ عليهم أنْ يتعاهدوا أبناءَهم ويزرعوا فيهمُ السلوكَ السويَّ في التعاملِ معَ مرافقِ الدراسةِ وأدواتِ العلمِ والمعرفةِ، وذلكَ بالاحترامِ والإجلالِ، وعدمِ التهاونِ بها في جميعِ الأحوالِ؛ إذْ بذلك تتمُّ فرحتُهم، وينتفعونَ بعلومِهم.(129/6)
ثم صَلُّوا وسَلِّموا – رحمكمُ اللهُ – علَى مَنْ أُمِرتُم بالصلاةِ والسلامِ عليه، كما جاءَ في أصدقِ بيانٍ، وأعظمِ تنزيلٍ، حيثُ يقولُ الربُّ الجليلُ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب:56 } ، فاللهمَّ صلِّ وسلِّمْ على محمدٍ وعلَى آلهِ وصحبِه أجمعينَ، وعلَى مَنْ تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
اللهمَّ أقِرَّ أعينَنا بصلاحِ أبنائِنا وبناتِنا، اللهمَّ اهدِهم لِمعالي الأمورِ، واصرفْ عَنْهم سفاسِفَها، اللهمَّ جنبِّهم مكرَ الأعداءِ، وإهمالَ الآباءِ، يا ربَّ العالمينَ، اللَّهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وَدَمِّرِ اللَّهمَّ أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ، اللَّهمَّ اغْفِرْ لِلمسلمينَ والمسلماتِ، والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، إنَّكَ سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدَّعواتِ، اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عملَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(129/7)
اطبع هذه الصحفة
يسروا ولا تعسروا
فإن مشيئة الله تعالى أرادت لنا أن نعمل ونكد في هذه الحياة الدنيا ، لنعمر الأرض، وننعم بثمرات أعمالنا {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود: 61] وكل عمل لنا فالله مطلع عليه، وكلنا مجزي بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر،وصدق الله العظيم إذ يقول {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعلمون} [التوبة: 105].
وقد جاء العمل الصالح قرين الإيمان بصورة مسجلة في القرآن الكريم من مثل قوله تعالى {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} [الكهف: 30].
كما نفى الإيمان عن أولئك الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً} [الحجرات: 14].
يسروا ولا تعسروا
الحمد لله الذي خلقنا لطاعته، وأخلصنا لعبادته، جعل الدنيا لنا دار ممر، وجعل الآخرة دار مقر، أمرنا بالعمل لنعمر الأرض، وننعم بما فيها، {... هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها}
[هود: 61].
سبحانه له الخلق والأمر، دبر الكون بحكمته، وسخر لنا ما في السموات والأرض بقدرته، نحمده حمد الشاكرين، ونتوب إليه توبة الأوابين إنه هو الغفور الرحيم... ونشهد أن لا إله إلا الله.. ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صدع بأمر ربه، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، أقام على الأرض دولة التوحيد، وأسس على التقوى أمة الإسلام... صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:(130/1)
فإن مشيئة الله تعالى أرادت لنا أن نعمل ونكد في هذه الحياة الدنيا ، لنعمر الأرض، وننعم بثمرات أعمالنا {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود: 61] وكل عمل لنا فالله مطلع عليه، وكلنا مجزي بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر،وصدق الله العظيم إذ يقول {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعلمون} [التوبة: 105].
وقد جاء العمل الصالح قرين الإيمان بصورة مسجلة في القرآن الكريم من مثل قوله تعالى {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} [الكهف: 30].
كما نفى الإيمان عن أولئك الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً} [الحجرات: 14].
( 2 )
والله تعالى لا يتقبل العمل إلا إذا كان خالصاً لوجهه تعالى، ولذلك رد ادعاء المنافقين الكاذب عليهم وسجل ذلك في آيات الذكر الحكيم {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله و الله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} [المنافقون: 1].
ولذلك انهارت جبهة النفاق عند أول اختبار يقول تعالى في محكم كتابه العزيز {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون * لئن اخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون} [الحشر: 11، 12].(130/2)
والإخلاص في العمل صنو الإيمان ودليله، وأول ركيزة يبني عليها المجتمع وتقوم عليها حضارات الأمم ولذلك أمرنا الله تعالى بالإخلاص في عبادته لكي تؤدي كل أعمالنا في الحياة على هذا النحو من الإخلاص الذي لا يقبل الله سبحانه وتعالى عبادة من دونه {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين * ألا لله الدين الخالص} [الزمر: 2، 3].
وقد أسس الرسول صلى الله عليه وسلم دولته على الإخلاص وتجلى هذا الإخلاص في أوقات الشدة في العديد من مواقف المسلمين على عهد الرسول(صلي الله عليه وسلم) ففى غزوة الأحزاب تخاذل المنافقون ونكصوا على أعقابهم وتبدلت أحوالهم، يقول المولى سبحانه وتعالى في وصف حالهم الخبيثة هذه {قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً * أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيراً} [الأحزاب: 18 - 19].
في حين كان موقف المؤمنين المخلصين موقف الثبات والتسليم المطلق والثقة فيما عند الله {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً * من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} [الأحزاب 22، 23] وعلى هذه المواقف الإيمانية قامت دولة الإسلام، وارتفع بناؤها، ولم يكن المؤمنون حينما خرجوا بدعوتهم إلى آفاق الأرض من حولهم أقوى التجمعات البشرية عدة وعتاداً ولا أكثرها جندا، ولا أوفرها مالاً وثروة، وإنما كانوا دونها في كثير من هذه المجالات ولكنهم، كانوا أقوى إيماناً وأكثر إخلاصاً وأحرص على أداء العمل في أنقى صوره خالصاً.
( 3 )(130/3)
لوجه الله تعالى ولذلك تقول الآية الكريمة {صدقوا ما عاهدوا الله عليه} "فالعهد بينهم وبين الله عهد صدق وتسليم بما وعد الله تعالى ولذلك قالوا للرسول(صلي الله عليه وسلم) في غزوة بدر حينما أخبرهم أن القافلة قد نجت وأفلتت العير، وأنهم سيلقون النفير وهو جيش الشرك الكثير العدد والعدد فلم يكن من تلك الصفوة المؤمنة إلا أن قالوا للرسول(ضلي الله عليه وسلم) امض لما أمرك الله فوالله لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، وكتب الله تعالى لهم النصر على الرغم من قلة عددهم وضعف عتادهم الحربي إذ كانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً وكان تعداد جيش المشركين حوالي ألف رجل وصدق الله العظيم {لقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون } [آل عمران: 123].
وكما أخلص المسلمون في ميادين القتال ووسط احتدام المعارك أخلصوا في أداء واجباتهم المدنية من أمانة فيما يوكل إلى كل منهم من عمل مصداقاً لقول الرسول(صلي الله عليه وسلم) "إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه" [رواه النسائي حديثه حسن / 1852] كما أسسوا مدارس علمية في جميع فروع المعرفة الإنسانية النافعة من قوانين وتشريعات وآداب وأخلاق ونظم اقتصادية واجتماعية، وقيم حضارية فقامت للإسلام دول متتابعة كلما ذهبت دولة قامت على اعقابها أخرى، وسواد الأمة الإسلامية ديدنه الوفاء لدينه والإخلاص لوجه الله تعالى، ولذلك وعدهم الله تعالى الجزاء الأوفى، وجعل مثوى المنافقين الدركات السفلى من النار، قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً * إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً }[145، 146 النساء].(130/4)
وإن أشد الأدواء خطراً على الأمم والشعوب هو أن تصاب في دخيلة نفسها بالنفاق والرياء وعدم الإخلاص، فلا يؤدي أحدهم عمله على الوجه المطلوب إلا تحت رقابة صارمة من رؤسائه، فإذا أمن من آثار هذه الرقابة تفلت من أداء الواجب وإن اداه أتى به على نحو هزيل ضعيف شأن المنافقين الذين يراؤون الناس، ولا يخلصون عملهم لله تعالى: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً} [النساء: 142].
( 4 )
وما منى المسلمون بالتخلف وما حاقت بهم الهزائم إلا يوم أن فقدوا الإخلاص في العمل، فانطفأت في نفوسهم جذوة الحماسة والتسابق لتحمل المسئولية وأداء الواجب وتفرقوا شيعاً وأحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون، فباتوا نهبا لأمم الأرض يتقاسمون ديارهم ويفتكون بالمستضعفين منهم.
عن أبي موسى عبدالله بن قيس الأِشعري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله(صلي الله عليه وسلم) عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" [متفق عليه].
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(130/5)
اطبع هذه الصحفة
أَقْبِلْ شهرَ القرآن
عبادَ اللهِ:
…ها هُوَ شهرُ القرآنِ قدْ نَزَلَ بنا, وها هو شهرُ الرحمةِ والبركةِ قدْ أظلَّنا. ها هُوَ شهرُ رمضانَ المباركِ, الذي خَصَّهُ المولى عزَّ وجلَّ بخصائصَ كبرى, وفضائلَ عُظْمى, مِنْ أجَلِّها: أنَّهُ أَنْزَلَ فيه كتابَه العظيمَ: القرآنَ الكريمَ, قال الله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } { البقرة:185 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 29 شعبان 1426هـ الموافق 22/9/2006م
أَقْبِلْ شهرَ القرآن
إنَّ الحمدَ لِلّهِ, نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه, ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِِنا. مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له, ومَن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له, وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمران:102 } .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } { النساء:1 }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } { الأحزاب:71:70 } .
…أمَّا بعدُ:(131/1)
فإنَّ خَيْرَ الكلامِ كلامُ اللهِ تَعالَى, وخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -, وشرَّ الأمورِ مُحْدَثاتُها, وكلَّ مُحْدَثةٍ بدعةٌ, وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ, وكلَّ ضلالةٍ في النارِ.
أيُّها المسلمونَ:
…أوصيكم ونفسِي أوّلاً بتقوى اللهِ تعالى وطاعتِه.
…عبادَ اللهِ:
…ها هُوَ شهرُ القرآنِ قدْ نَزَلَ بنا, وها هو شهرُ الرحمةِ والبركةِ قدْ أظلَّنا. ها هُوَ شهرُ رمضانَ المباركِ, الذي خَصَّهُ المولى عزَّ وجلَّ بخصائصَ كبرى, وفضائلَ عُظْمى, مِنْ أجَلِّها: أنَّهُ أَنْزَلَ فيه كتابَه العظيمَ: القرآنَ الكريمَ, قال الله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } { البقرة:185 } .
ولقدْ كان نزولُ القرآنِ الكريمِ على قِسْمَين: النزولُ جُمْلَةً واحدةً, وذلك مِنَ اللوحِ المحفوظِ في السماءِ السابعةِ إلى بيتِ العِزَّةِ في السماءِ الدنيا, وذلك في ليلةِ القدْرِ, كما قالَ حَبْرُ هذهِ الأُمَّةِ وعالِمُها: عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ رضي اللهُ عنهما, تفسيرًا للآياتِ الدَّالَّةِ على ذلك, كما قال عزَّ مِن قائلٍ: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ*فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } { الدخان 4:3 } وهيَ ليلةُ القدرِ, كما قال تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } { القدر:1 } والقسمُ الثاني: نزولُ القرآنِ مُنَجَّماً مُفَرَّقًا على نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثٍ وعشرينَ سنةً.(131/2)
القرآنُ الكريمُ هو حبلُ اللهِ المتينُ, ونورُهُ المبينُ, وهوَ الذِّكْرُ الحكيمُ, والصراطُ المستقيمُ, والعروةُ الوثقَى, والمُعتصَمُ الأقوَى، فيه نبأُ ما قبلَكُمْ, وخبرُ ما بعدَكم, وحُكْمُ ما بينَكم. هوَ الفَصْلُ ليس بالهَزْلِ. مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جبّارٍ قَصَمَهُ اللهُ, ومَنِ ابتغَى الهُدَى في غيرِه أضلَّهُ اللهُ. هو الذي لا تَزيغُ بهِ الأهواءُ, ولا تَلْتَبِسُ بهِ الألسِنةُ, ولا تَتَشَعَّبُ معه الآراءُ, ولا يَشْبَعُ منه العلماءُ, ولا يَمَلُّهُ الأتقياءُ, ولا يَخْلَقُ على كَثْرةِ الرَّدِّ, ولا تنقضِي عجائبُه, ولا تتناهَى غرائبُه { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } { فصلت:42 } .
…عبادَ الله:
وقدْ وردتْ في فضائلِ قراءتِهِ أحاديثُ كثيرةٌ جدًّا, فعنِ ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه -, قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كتابِ اللهِ فلَهُ بهِ حسنةٌ, والحسنةُ بعشرِ أمثالِها, لا أقولُ ( الم ) حرفٌ, ولكنْ أَلِفٌ حرف, ولامٌ حرف, وميمٌ حرف "[ أخرجَه الترمذيُّ].
…وعن أبي أمُامةَ - رضي الله عنه -, قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: " اقرؤوا القرآنَ؛ فإنّهُ يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِه"[أخرجه مسلمٌ].
…ولْيعلمِ المسلمُ أنَّهُ مأجورٌ على قراءتهِ ولوْ كانتْ تَثْقُلُ عليه؛ فقد أَخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ, عن عائشةَ رضي اللهُ عنها قالتْ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذي يقرأُ القرآنَ وهو ماهرٌ بهِ معَ السَّفَرةِ الكرامِ البَرَرَةِ [أيْ: معَ الملائكةِ في المنزلةِ ], والذي يقرأُ القرآنَ وهو عليهِ شاقٌّ له أجرانِ " .
أيُّها المسلمونَ:(131/3)
…ولقد كان سلفُنا الصالحُ رحمهُمُ اللهُ تعالى يَخُصُّونَ هذا الشهرَ المباركَ بمزيدٍ مِنَ العنايةِ بكتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ, قراءةً وتَدَبُّرًا, في الصلاةِ وفي خارجِها؛ لأنَّه شهرُ القرآنِ.
…فكان إبراهيمُ النَّخَعيُّ وقتادَةُ رحمَهُما اللهُ تعالى يختِمانِ القرآنَ في رمضانَ في كلِّ ثلاثِ ليالٍ مرةً, وفي العشرِ الأواخرِ في كلِّ ليلةٍ.
…وكانَ الزُّهْريُّ إذا دخلَ رمضانُ يقولُ: إنَّما هوَ تلاوةُ القرآنِ, وإطعامُ الطعامِ. وكانَ مالكُ بنُ أنسٍ رحمه اللهُ إذا دخل رمضانُ يتركُ قراءةَ الحديثِ ومجالسةَ أهلِ العلم, ويُقْبِلُ على تلاوةِ القرآنِ مِنَ المصحفِ. وكذلك يَفْعَلُ سفيانُ الثوريُّ رحمه اللهُ. وكان زُبيدٌ اليامِيُّ إذا حَضَرَ رمضانُ أحضرَ المصاحفَ وجَمَعَ إليه أصحابَه. وقد قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" ... وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ مِنْ بيوتِ الله, يتلونَ كتابَ اللهِ ويتدارسونَهُ بينَهم, إلاّ نَزَلَتْ عليهمُ السَّكينَةُ, وغَشِيَتْهُمُ الرحمةُ, وحفَّتهمُ الملائكةُ, وذكَرَهم اللهُ فيمَنْ عنْدَه " [أخرجَه مسلمٌ].
وقال خبَّابُ بنُ الأرَتِّ - رضي الله عنه - لرجلٍ: تَقَرَّبْ إلى اللهِ تعالى ما استطعتَ, واعلمْ أنَّكَ لَنْ تتقربَ إليه بشيْءٍ هو أَحَبُّ إليهِ مِنْ كلامِه. وقالَ عثمانُ بنُ عفّانَ - رضي الله عنه -: لوْ طَهُرَتْ قلوبُكم, ما شبِعتُم مِن كلامِ رَبِّكُم. وقال بعضُ السلفِ: إذا أردتَ أن تَعْرِفَ قدْرَكَ عندَ اللهِ, فانْظُرْ قَدْرَ القرآنِ عندَك.
باركَ اللهُ لي ولكمْ بالقرآنِ العظيمِ, ونفعنِي وإيَّاكُمْ بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ, أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ تعالى لي ولَكُمْ ولسائرِ المسلمينَ فاستغفروهُ, إنّهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية(131/4)
…الحمدُ لِلّهِ الذي أَنزَلَ على عبدِهِ الكتابَ ليكونَ للعالمينَ نذيراً, وأَرسلَ رسولَهُ شاهِدًا ومبشِّرًا ونذيراً, وداعيًا إلى اللهِ بإذنهِ وسِراجًا منيراً، …وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له تعالَى عمَّا يقولُ الظالمونَ عُلُوًّا كبيراً, وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ بعثه بالحقِّ إلى الخَلْقِ كافّةً نذيرًا وبشيراً, اللهمَّ صلِّ على عبدِك ورسولِك محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلِّمْ تسليمًا كثيراً.
…أمَّا بعدُ:
فيا عبادَ اللهِ:
اتقوا اللهَ تعالى حَقَّ تقواه, واعمَلوا بطاعتِه ورضاه.
…أيُّها المسلمونَ:
إنَّ مِن أعظمِ النِّعَمِ التي أَنعَمَ اللهُ تعالى بها علينا وأكرَمَنا بها: أنْ أَنزَلَ علينا كتابًا عظيماً ونورًا مبيناً, يُخرِجُ به الناسَ مِنْ ظُلُماتِ الجهلِ والكفرِ والطغيانِ, إلى نورِ العلمِ والهُدَى والإيمانِ, قال تعالى { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } { المائدة:15: 16 } .
إنَّه الكتابُ الذي تَنْشَرِحُ به الصدورُ, وتَطْمئنُّ بذكرِهِ القلوبُ, وتَشْعُرُ فيه النفسُ بالسعادةِ والراحةِ, ويَذْهَبُ عنها به كُلُّ قَلَقٍ واضطرابٍ, وتَجِدُ فيه جوابَ كُلِّ ما يجولُ فيها مِنْ حَيرةٍ وتساؤلٍ ولا غَرْوَ في ذلك ولا عَجَبَ؛ فإنهُ كلامُ اللهِ سبحانه { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } { الزمر: 23 } .(131/5)
فلْنَقْدُرْ لهذا الكتابِ الجليلِ قدرَه, ولْنَجْتَهِدْ في قراءتِهِ وتَدَبُّرِهِ والعملِ به, ولا سِيَّما في هذا الشهرِ الفضيلِ الذي نسألُ المولى عزَّ وجلَّ أن يَتَقَبَّلَ فيه مِنّا الصيامَ والقيامَ.
اللهمَّ إنّا نَسألُكَ أن تَرُدَّنا إلى كتابِكَ رَدًّا جميلاً, وأن تَرْزُقَنا قراءتَهُ آناءَ الليلِ وأطرافَ النهارِ, وأن تَرْزُقَنا العملَ بهِ والوقوفَ عندَ أوامرِهِ ونواهِيهِ. اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ, وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ, ودَمِّرِ اللهمَّ أعداءَك أعداءَ الدينِ. اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ, والمسلمينَ والمسلماتِ, الأحياءِ منهم والأمواتِ, إنَّك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ.
اللهمَّ وَفِّقْ أميرَنا وولِيَّ عهدِهِ لِهُداك, واجْعَلْ عملَهما في رِضاك. اللهمَّ احْفَظْهُما بِحِفْظِك, واكْلأْهُما بِرِعايتِكَ, وأَلْبِسْهُما ثوبَ الصحةِ والعافيةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ. اللهُمَّ اجعلْ هذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخاءً رَخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتَقَبَّلِ اللهمَّ شُهداءَنا وشُهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(131/6)
اطبع هذه الصحفة
الزكاة طهارة ونماء
…أيُّها المؤمنونَ :
…لقد وعدَ اللهُ سبحانَه المؤدِّيَ لزكاةِ مالهِ بالخلَفِ في الدنيا، ومُضاعفةِ الأجرِ والثوابِ يومَ القيامةِ، قالَ اللهُ تعالَى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } { سبأ:39 } ، وقالَ سبحانَه: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } { البقرة:110 } وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدْ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ فُلَانٌ لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ لِاسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ" [ أخرجه الإمام أحمد ] فأحسنوا الظنَّ بربِّكم وأنفِقُوا ممَّا آتاكم، طيِّبةً بهِ نفوسُكمْ، تحظَوْا بالموعودِ بالإخلافِ عليكم وما أعدَّه اللهُ مِنْ كريمِ الثوابِ لكم .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 7 رمضان 1427هـ الموافق 29/9/2006م
الزكاة طهارة ونماء(132/1)
…الحمدُ للهِ الذي فرضَ الزكاةَ علَى الأغنياءِ مِنَ المؤمنينَ، طُهْرةً لِلأموالِ، ومواساةً للفقراءِ والمساكينِ، وعوناً لسائرِ المستحقِّينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له أمرَ نبيَّه بأخذِ الزكاةِ منَ الموسرينَ { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } { التوبة:103 } ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المبعوثُ رحمةً لِلعالَمينَ ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبهِ ومَنِ اهتدَى بهديهِ إلى يومِ الدينِ .
…أمَّا بعدُ:
…فيا عِبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسِي بتقْوَى اللهِ وطاعتهِ، والحذرِ مِنْ سَخَطِهِ واجتنابِ معصيتهِ { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } { البقرة:197 } .
…أيُّها الإخوةُ المؤمنونَ:
…إنَّ الزكاةَ شأنُها عظيمٌ، فرضَها العزيزُ العليمُ ، وقَرَنَها بالصلاةِ في آيِ الذِّكرِ الحكيمِ في أكثرَ مِنْ ثمانينَ موضِعاً ، لأنَّهما برهانُ الإيمانِ إذا اجتمَعا.
في الأَقرَبينَ وَفي الأَباعِدِ تارَةً إِنَّ الزَكاةَ قَرينَةُ الصَلَواتِ
…فالزكاةُ هِيَ الركنُ الثالثُ في الإسلامِ، ومُنْكرُها لا حظَّ له في الإسلامِ، وقد فرضَها اللهُ لحِكَمٍ عظيمةٍ، وغاياتٍ نبيلةٍ، وأغراضٍ ساميةٍ، ولها فوائِدُ عديدةٌ، وعوائِدُ حميدةٌ، فهِيَ مثالٌ للتكافلِ الاجتماعيِّ، وفخرٌ للأُمَّةِ الإسلاميةِ في التعاونِ الجماعيِّ، لا تجدُه في أُمَّةٍ غيرِها ممنْ يبحثونَ عنِ الحلولِ الاقتصاديَّةِ، وحلِّ المشكلاتِ الماديَّةِ، فبها تتحقَّقُ الأُلفةُ والمحبَّةُ، ويذهبُ عنِ المجتمعِ الغِلُّ والحسدُ وسوءُ المغبَّةِ، وتقلُّ الجرائِمُ والمشكلاتُ، ويعمُّ الأمانُ وتتنزَّلُ الرحماتُ والبركاتُ.(132/2)
…كما أنَّها تغرِسُ في قلوبِ المسلمينَ الكرمَ، وتعوِّدُهُمُ البذلَ ومكارِمَ الشِّيَمِ، وإنفاقَ المالِ في أوْجُهِ الخيرِ، ومساعدةَ المحتاجينَ ورفعَ الضَّيْرِ، كما تعوِّدُهُمُ البعدَ عَنِ الشحِّ والطمعِ والرذائلِ، والتحلِّيَ بأجملِ الصفاتِ والفضائلِ، فِهيَ بركةٌ ونَماءٌ، وعِزٌّ ورخاءٌ، وشكرٌ لنعمَةِ العطاءِ، وهيَ حصنٌ للأموالِ، وحفظٌ لها مِنَ الضياعِ والزوالِ.
…أيُّها المؤمنونَ :
…لقد وعدَ اللهُ سبحانَه المؤدِّيَ لزكاةِ مالهِ بالخلَفِ في الدنيا، ومُضاعفةِ الأجرِ والثوابِ يومَ القيامةِ، قالَ اللهُ تعالَى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } { سبأ:39 } ، وقالَ سبحانَه: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } { البقرة:110 } وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدْ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ فُلَانٌ لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ لِاسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ(132/3)
بِثُلُثِهِ وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ" [ أخرجه الإمام أحمد ] فأحسنوا الظنَّ بربِّكم وأنفِقُوا ممَّا آتاكم، طيِّبةً بهِ نفوسُكمْ، تحظَوْا بالموعودِ بالإخلافِ عليكم وما أعدَّه اللهُ مِنْ كريمِ الثوابِ لكم .
…أيُّها الأغنياءُ الكرامُ:
…إنَّ اللهَ قد منَّ عليكم ورزقَكم مِنَ الخيراتِ، وأغناكُمْ عنِ السؤالِ وطلَبِ الحاجاتِ، وحفظَ وجوهَكم عنِ المذلَّةِ، وستَرَها عنِ العيبِ والخَلَّةِ، فوجبَ عليكم شكرُ هذهِ النِّعمةِ ببذلِ المزيدِ، حتى لا تحلَّ النِّقمةُ والوعيدُ، قالَ اللهُ تعالَى: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } { إبراهيم :7 } .(132/4)
…وإنَّ مما أعدَّ اللهُ لمانعيِ الزكاةِ مِنَ الهولِ والهوانِ، ما تقشعرُّ له الجلودُ والأبدانُ، وتُصعَقُ لسماعِهِ الآذانُ، قولَه تعالَى: { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } { التوبة:35:34 } ، وقولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ آتاهُ اللهُ مالاً فلم يُؤدِّ زكاتَه، مُثِّلَ له يومَ القيامةِ شُجاعاً أقْرَعَ له زَبيبتانِ، يُطوِّقهُ يومَ القيامةِ، ثُمَّ يأخذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ أيْ: شِدْقَيْهِ ثمَّ يقولُ: أنا مالُكَ، أنا كنزُكَ ثمَّ تلا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } { آل عمران:180 } [أخرجَه البخاريُّ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -].
يا مانِعاً زكاتَه لا تمنَعِ واحذرْ مُلاقاةَ الشُّجاعِ الأقْرَعِ(132/5)
…ومِنَ العقوباتِ التي تعمُّ الفردَ والمجتمَعاتِ، في الحياةِ الدنيا وبعدَ المماتِ، الجوعُ والقحطُ، فعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " ولم يمنَعُوا زكاةَ أموالهِم إلاَّ مُنعِوا القَطْرَ مِنَ السماءِ، ولولا البهائِمُ لَمْ يُمطَروا" [أخرجَه ابنُ ماجَه والبيهقيُّ]، وكذلك الأنانيةُ البغيضةُ، قالَ - صلى الله عليه وسلم - "إيَّاكم والشُّحَّ فإنَّما هلَكَ مَنْ كانَ قبلَكم بالشُّحِّ، أمرَهم بالبخلِ فبخِلُوا، وأمرَهم بالقطيعةِ فقطَعُوا، وأمرَهم بالفجورِ ففجَرُوا" [أخرجَه أبو داودَ مِنْ حديث عبدِاللهِ بنِ عمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما].
…بارَكَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ ، ونفعَنا بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ ، أقولُ قوليِ هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ مِنْ كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ الذي أفقرَ وأغنَى، ومنعَ وأعطَى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له في ذلك الحِكَمُ العُظْمَى، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ المجتبَى، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبهِ أُولي الإنفاقِ والعطاءِ.
…أمَّا بعدُ:
…فياأيُّها المزكُّونَ المحسنونَ :
…لقد بيَّنَ اللهُ تعالَى في القرآنِ المستحقِّينَ للزكاةِ والصدقةِ أتمَّ بيانٍ، وحدَّدَهم بثمانيةِ أصنافٍ لِذَوي العِرْفانِ، فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } { التوبة:60 } ، فلا تُصرفُ الزكاةُ لغيرِ هؤلاءِ، لا لكافرٍ ولا غنيٍّ ولا لآباءٍ ولا أبناءٍ، ولا لغيرِهم ممَّنْ ذكرَهم العلماءُ.(132/6)
…وجملةُ الأموالِ التي تجبُ فيها الزكاةُ ثلاثةٌ : بَهيمةُ الأَنْعامِ السائمةِ مِنَ الغنَمِ والإبلِ والبقَرِ، والخارجُ مِنَ الأرضِ مِنَ الحَبِّ والثَّمَرِ، والأثْمانُ مِنَ الذهبِ والفضَّةِ وعروضُ التجارةِ لِمَنِ اتجَّرَ، وقد حدَّدَتِ الشريعةُ السَّمْحَةُ أنصِبَةَ الزكاةِ ومقادِيرَها، ووَقْتَ إخراجِها، وجِهَةَ صَرْفِها، فاحرِصُوا علَى أداءِ حقِّ اللهِ عليكم بالعطاءِ، ولا تحتالوا للتخلُّصِ ومَنْعِ الأداءِ، فإنَّ اللهَ خبيرٌ بما تعملونَ، يعلمُ ما تُخفونَ وما تُعلنونَ.
…فأعطوا الزكاةَ لأربابِها، فإنَّ ما نراهُ اليومَ مِنَ الجوعِ والفقرِ إنَّما هو بسببِ مَنْعِها، والبُخْلِ في دَفْعِها.
قَبَّلَتْ راحَتَيهِ شُكراً وَصاحَتْ قَد نَجا صاحِبُ الأَيادي العِظامِ
قَد نَجا المُنعِمُ الجَوادُ مِنَ المَوتِ بِفَضلِ الزَّكاةِ وَالإِنعامِ
…أيُّها الأغنياءُ المسلمونَ :
…احرِصوا علَى إخراجِ الزكاةِ وحِسابِها، وعدمِ التهاونِ في إخراجِها في وقتِها، وفَتِّشوا بأنفسِكم عَنْ أهلِها، فإنَّ أعناقَهم قَدِ اشرَأَبَّتْ تنتظرُ الإحسانَ، فالإعراضُ عنْهم نوعٌ مِنَ الكُفْرانِ، يُلْحِقُ بهمُ اليأسَ والخُذلانَ، والدعوةَ على مالِكَ بالعَطَبِ والخُسْرانِ.
…وإنَّنا في هذا البلدِ الِمعْطاءِ، الذي بلغَ جودُه بفضلِ اللهِ تعالَى جميعَ الأنحاءِ، تجدُ الجهاتِ الخيريَّةَ تستقبلُ الزكَواتِ، لِتُوصِلَها إلى أهلِها مِنْ ذَوِي الحاجاتِ، ممَّا زادَ الأمرَ يُسْراً وتسهيلاً، وعَنْ جُهْدِ البحثِ والتنقيبِ بديلاً.
…اللهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ وفِّقْ ولاةَ أُمُورِ المسلمينَ لما تحبُّ وترضَى، وخُذْ بنواصِيهم إلى البِرِّ وَالتَّقوَى، اللهمَّ وأسبِغْ علَى بلَدِنا هذا، وسائرِ بلادِ المسلمينَ نِعمةَ الأمْنِ والأمانِ، ورَغَدَ العيشِ في ظلِّ شرعِكَ المطهَّرِ.(132/7)
…اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ علَى عبدِكَ ونبيِّكَ محمدٍ وعلَى آلهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، واحمِ حَوْزَةَ الدِّينِ، مِنَ الكفرةِ المعتدينَ، اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ,واجعلْ عملَهما في رِضاكَ.اللهمَّ احفظْهما بحفظِكَ, واكلأْهما بِرعايَتِكَ, وألبِسْهما ثوبَ الصحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ. اللهمَّ اجعلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتقبَّلِ اللهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(132/8)
اطبع هذه الصحفة
الوقفُ أصلٌ ثابتٌ
…عبادَ الله:
…وإنما كان الوقفُ من أكثرِ الصدقاتِ منفعةً، وأعظمِها أجراً؛ لأن الوقفَ هو الصدقةُ الجاريةُ التي لا ينقطعُ بها عملُ المتصدقِ حتى بعد موتهِ، وفي هذا يقولُ الحبيبُ المصطفي - صلى الله عليه وسلم - :" إذا مات الإنسانُ انقطع عملُه إلا مِن ثلاثٍ: إلا مِن صدقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتفَعُ به، أو وَلدٍ صالحٍ يدعو له" [أخرجه مسلم].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة بتاريخ
14من رمضان 1427هـ الموافق 6/10/2006م
الوقفُ أصلٌ ثابتٌ
…الحمدُ للهِ الذي بنعمتِهِ تتمُّ الصالحات، سُبحانَه سُبحانَه هو الغنيُّ ونحنُ الفقراءُ إليه، مُستَغنٍ عن خلقِه والخلقُ غيرُ مُستَغنينَ عنه، فعليه – سبحانه - رِزقُهم وإليهِ وحدَه مصيرُهم، ولو أنهم كانوا على أتقى قلْبِ رجلٍ واحدٍ منهم ما زادَ ذلك في ملكِهِ شيئاً، ولو كانوا على أفْجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ منهم ما نقصَ ذلك من مُلكه شيئاً، فسبحانَ الحيِّ القيومِ مالكِ المُلْكِ الرزّاقِ ذي الفضلِ العظيمِ.
…وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ يُحيي ويميتُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه وخِيرتُه من خَلقِهِ وخليلُه، أرسلَه اللهُ بين يَدَيِ الساعةِ بشيراً ونذيراً، وسراجاً منيراً، فأخرجَ به الناسَ مِن الظلماتِ إلى النورِ، ومِن ضِيقِ الدنيا إلى سَعَةِ الآخرةِ، ومن ظُلمةِ الشركِ إلى نورِ التوحيدِ، فاللهم صَلِّ وسَلِّمْ عليه وعلى آله وصَحِبه ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
…أما بعد:(133/1)
…فأوصيكم أيُّها المسلمونَ بتقوى الله، وأحضُّكم على طاعتِه وأُبَشِّرُكم بما بَشَّرَ اللهُ سبحانَه وتعالى المتقين، بقوله: { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } { الأنفال: 29 } .
…اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وَزَكِّها أنتَ خَيرُ مَن زكَّاها، أنتَ وليُّها ومولاها .
…عبادَ الله:
…اعلموا أنَّ آياتِ القرآنِ الكريمِ مازالت تَحضُّنا على الإنفاقِ في سبيلِ الله، يقولُ تعالى: { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } { آل عمران: 92 } ، ويقولُ عزَّ وجلَّ: { الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } { البقرة: 274 } .
…وجاءت أحاديثُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لتُؤكِّدَ هذا المعنى الكريمَ في نفوسِنا، فقد صَحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - قولُه:"ما مِن يومٍ يُصْبِحُ العبادُ فيه إلا مَلَكان يَنْزِلان فيقولُ أحدُهما: اللهم أَعْطِ مُنفِقاً خَلَفاً، ويقولُ الآخر: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً " .[ أخرجه البخاري ومسلم ].(133/2)
…وإنَّ مِن أعظمِ أبوابِ الإنفاقِ: الوقفَ، وهو حبسُ الأصلِ وتسبيلُ المنفعةِ، بأَنْ يختارَ الإنسانُ من طِيبِ مالهِ أصلاً، كأنْ يكونَ عَقَاراً أو مالاً فيخرجَه عن ملكِه، ويجعلَه صدقةً في سبيلِ اللهِ يستثمرُها وينفقُ رَيْعَها وربحَها في مصارفِ الخيرِ والبرِ وَفْقاً لشروطهِ، عن عثمانَ بنِ عفانَ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله- صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ المدينةَ وليس بها ماءٌ يُستعذَبُ غيرُ بئرِ روُمةَ فقال:" مَن يشتري بئرَ رُومةَ فيجعلَ دَلْوه من دِلاءِ المسلمين بخيرٍ له منها في الجنة " فاشتريتُها.[أخرجه البخاري والترمذيّ واللفظ له ]
…عبادَ الله:
…وإنما كان الوقفُ من أكثرِ الصدقاتِ منفعةً، وأعظمِها أجراً؛ لأن الوقفَ هو الصدقةُ الجاريةُ التي لا ينقطعُ بها عملُ المتصدقِ حتى بعد موتهِ، وفي هذا يقولُ الحبيبُ المصطفي - صلى الله عليه وسلم - :" إذا مات الإنسانُ انقطع عملُه إلا مِن ثلاثٍ: إلا مِن صدقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتفَعُ به، أو وَلدٍ صالحٍ يدعو له" [أخرجه مسلم].
…وذلك لأن المالَ الذي وَقَفَهُ الواقفُ لا يجوزُ بيعُه ولا هِبتُه ولا يُورَثُ عنه، فهو أصلٌ ثابتٌ يبقى قائماً ويُنفَقُ ريعُه في مصارفِ الخيرِ والبرِّ.(133/3)
…وقد جاء بيانُ ذلك في حديثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يَرويه عبدُ الله بنُ عمرَ رضي اللهُ تعالى عنهما قال: أصابَ عمرُ أرضاً بخيبرَ فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصَبْتُ أرضاً بخيبر،لم أُصِبْ مالاً قطُّ هو أنفسَ عندي مِنهُ، فما تأمرُني به؟ قال:"إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصلهَا وتصدقتَ بها" قال: فتصدق بها عمرُ: أنه لا يُباعُ أصلُها، ولا يُبْتاعُ، ولا يُورثُ، ولا يُوهبُ، قال: فتصدق عمر في الفقراءِ،وفي القربى، وفي الرقابِ، وفي سبيلِ اللهِ، وابنِ السبيلِ، والضيفِ، لا جُناحَ على من وَلِيها أن يأكلَ منها بالمعروفِ أو يُطعِم صَديقاً غيرَ مُتمَوِّلٍ فيهِ" [أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ واللفظ له].
…وإنَّ من خصائصِ الوقفِ أَنَّ الواقِفَ يمكنُ أَنْ يُوجِّهَ صرفَ ريعِ وقفِه إلى حيثُ يظنُّ أنَّه أعظمُ أجراً وأكثرُ نفعاً.
…فله أن يَشترطَ في وقفِه: أَنْ يُصْرَفَ ريعُ وقفِهِ في بناءِ المساجِد وعمارتِها، أو على الفقراءِ، أو طلبةِ العلمِ، أو الجهادِ في سبيلِ اللهِ، أو يجعلَه في أوجُهِ الخيرِ والبرِّ عامةً، عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - :"إنَّ مما يلحقُ المؤمنَ من عملهِ وحسناتهِ بعد موتهِ: عِلماً نَشَره، وولداً صالحاً تركه، ومُصحفاً ورَّثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابنِ السبيلِ بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقةً أخرجها من مالهِ في صحتهِ وحياتهِ؛ تَلحَقُهُ من بعدِ موتهِ"[أخرجه ابن ماجه].(133/4)
…وبهذا يمكنُ للواقفِ أن يُوجِّه صَرْفَ ريعِ وقفهِ لما يحقِّقُ مصالِحَ المجتمعِ وبما يدعَمُ خِطَطَ التنميةِ فيه، من تعليمٍ وخِدْماتٍ صحيةٍ، وتمويلِ المشاريعِ الخِدْميةِ، ونشرِ الثقافةِ النافعةِ المفيدةِ، وتلبيةِ احتياجاتِ الأقلياتِ الإسلاميةِ في العالمِ، ومواجهةِ آثارِ الكوارثِ والجوائحِ الطبيعيةِ، وغيرِ هذا فيما يعودُ نفعُه، على المجتمعاتِ الإنسانيةِ جمعاءَ.
…ومن خصائصِ الوقفِ أنه يُوفِّرُ مصدراً دائماً ثابتاً للإنفاقِ يدومُ ويستمرُ مادامَ الوقفُ قائماً، وذلك لأنَّ من شأنِ الوقفِ أن يُنفقَ على عمارتهِ وصيانتهِ من ريعهِ؛ حتى يبقَى أصلاً ثابتاً مُدِراًّ للرَّيعِِ، مُحَقِّقاً لشرطِ الواقفِ الذي وَجَّه به صَرْفَ وَقْفهِ، وبهذا لا يحتاجُ الوقفُ إلى جهةٍ أو مصدرٍ آخرَ لعمارتهِ وصيانتهِ، ولا يتحملُ الواقفُ كُلفةَ الصيانةِ والإعمارِ من مالهِ .
…ومما يُذكرُ في هذا الشأنِ ويُعَدُّ مفخرةً لبلادِنا هو القرارُ الذي صدَرَ بإنشاءِ الأمانةِ العامةِ للأوقافِ، وهي مؤسسةٌ رسميةٌ وشعبيةٌ تَدْعَمُ من خلالِ صناديقِها الوقفيةِ كافةَ احتياجاتِ المجتمعِ الصحيةِ، والاجتماعيةِ، والعِلميةِ، وكذلك تُسهِمُ بقوةٍ في إرساءِ المعنى والمفهومِ الحقيقي لِحِكْمةِ الوقفِ في الشريعةِ الإسلاميةِ، كأساسٍ مِنْ أساساتِ التعاضُد والتكافُلِ في أرقى صُوَرِه في المجتمعِ الإسلامي .
…اللهم باركْ لنا فيما استخْلَفْتنا فيه من أموالٍ، وأعِنَّا على طاعتِك فيها، ويَسِّرْ لنا أسبابَ الإنفاقِ في سبيلِك، واستغفروا الله عبادَ الله، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية(133/5)
…الحمدُ لله الذي تفرَّدَ بكلِّ كمالٍ، واختصَّ بأبهَى جمالٍ، وأعلى جلالٍ، وتفضَّل على عبادهِ بجزيلِ النَّوال، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تقدَّسَ عن الأشباهِ والأمثالِ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه المنعوتُ بأشرفِ الخلالِ، وأكرمِ الخصالِ - صلى الله عليه وسلم - وباركَ عليه وعلى آلهِ وصَحبهِ خيرِ صَحْبٍ وأفضلِ آلٍ، والتابعينَ ومَن تبَِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ المآلِ .
…أمَّا بعدُ:
…فيا إخوةَ الإيمانِ: اعلموا أنَّ حاجةَ المجتمعاتِ الإسلاميةِ إلى المالِ هي حاجةٌ كبيرةٌ؛ وذلك لتلبيةِ احتياجاتِ الإعمارِ والتنميةِ وبناءِ حضارتهِمُ المعاصرةِ، وإن من أوجبِ الواجباتِ الشرعيةِ أن يساهمَ المسلمونَ في إعمارِ أوطانهِم وتمويلِ احتياجاتهِم، والسعيِ لتوفيرِ مصدرِ تمويلٍ مستقلٍ يعتمدونَ فيه بعدَ اللهِ على أنفسهم في إقامةِ مصالحهِم، ولذلك فلْنتَواصَ على إحياءِ سُنّةِ الوقفِ والتوسُّعِ فيه ليكونَ هو الأصلَ الثابتَ الذي يُوفِّرُ لنا هذا التمويلَ الدائمَ والمستمرَّ، ولتكنْ أموالُ الوقفِ دُولَةً بين المجتمعاتِ الإسلاميةِ، والشأنُ في المسلمينَ هو ما أخبر به الرسولُ الكريمُ - صلى الله عليه وسلم - :"مَثَلُ المؤمنينَ في توادِّهِم وتراحُمهم وتعاطُفِهِم مَثلُ الجسدِ إذا اشتكى مِنه عضوٌ تَداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى" [أخرجه البخاري ومسلم ].
…اللهم إنا نسألُكَ برحمتِك التي وَسِعتْ كلَّ شيءٍ أن تُبرِمَ لنا أمرَ رُشدٍ يَعِزُّ فيه أهلُ طاعتِك، ويذِلُّ فيه أهلُ معصيتك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروفِ، ويُنهَى فيه عنِ المنكرِ، اللهمَّ اجعل بلادَنا هذهِ وسائرَ بلادِ المسلمين بلادَ أمنٍ وأمانٍ، وسخاءٍ ورخاءٍ، وجنِّبنْا اللهمَّ مُضِلاّتِ الفِتَنِ ما ظَهرَ منها وما بَطَن.(133/6)
…اللهم احفظْ أميرَ البلادِ ووليَّ عهدهِ الأمينَ بحفظِك وأَحِطْهما بعنايَتِك ورعايَتِك وانصرْ بهما دينَك، وأعنْهما بفضلك على تَحمُّلِ أمانةِ البلادِ والعبادِ، اللهم أصلِحْ لنا دنيانا التي فيها معاشُنا وأصلِحْ لنا أُخرانا التي إليها مَعادُنا، اللهم اغفرْ لأمواتِ المسلمينَ، وارحمْهُم وارحمْنا برحمتِك إذا صِرْنا إلى ما صاروا إليه، وارضَ اللهمَّ عن أصحابِ حبيبِك المصطفى، وأزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وعَنَّا معهم بفضلِك يا أرحمَ الراحمين، وقومُوا إلى صلاتِكم فإن الصلاةَ تنهى عن الفحشاءِ والمنكر وَلَذِكرُ اللهِ أكبرُ والله يعلم ما تصنعون.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(133/7)
اطبع هذه الصحفة
فضل العشر الأواخر
إخوةَ الإيمانِ:
…وفي العشرِ الأواخرِ مِنْ رمضانَ كانَ رسولُ اللهِ عليه الصلاةُ والسلامُ : يَجِدُّ في الطاعةِ ، ويجتهدُ في العبادةِ مِنْ صلاةٍ وصيامٍ وصدقةٍ وقراءةِ قرآنٍ، فعنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها – قالَتْ:"كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يجتهدُ في العشرِ الأواخرِ ما لا يجتهدُ في غيرهِ "[ أخرجَه مسلمٌ]. وما كانَ عليه الصلاةُ والسلامُ يقتصرُ علَى نفسِهِ في ذلِكَ بلْ كانَ يُوقِظُ أهلَه للعبادَةِ ، كما أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها قالَتْ:"كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلَ العشرُ شدَّ مِئزرَه، وأحَيا ليلَهُ، وأيقظَ أهلَه".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 21من رمضان 1427هـ 13/10/2006م
…فضل العشر الأواخر
…الحمدُ للهِ الذي فضَّلَ بعضَ الشهورِ علَى بعضٍ تفضيلاً، وزادَ شهرَ رمضانَ عليها غُرَّةً وتَحْجيلاً، واصطفَى مِنْ رمضانَ العَشْرَ ونزَّلَ القرآنَ فيها تنزيلاً، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، شرعَ لِعبادهِ مواسِمَ الطاعاتِ ليبتَغُوا عنَده جنَّةً وسلسبيلاً، وأشهدُ أنْ محمداً عبدُه ورسولُه،عَبدَ مولاهُ حقَّ عبادتهِ وذلَّلَ نفسَه لربِّه تذليلاً، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وما بدَّلُوا تبديلاً.
…أمَّا بعدُ:
…فأوصيكم – عبادَ اللهِ – ونفسِي بتقوىَ اللهِ الجليلِ ، والعملِ بالتنزيلِِ، واغتنامِ هذهِ الأيامِ المبارَكةِ بصيامِ النهارِ وقيامِ الليلِ { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ } { البقرة:197 } .
…أيهُّا المسلمونَ:(134/1)
…لقد شاءَ اللهُ – جلَّ ثناؤه وتقدَّسَتْ أسماؤهُ – أنْ يفضِّلَ بعضَ الخَلْقِ علَى بعضٍ في المنازلِ والدرجاتِ، فقد خلقَ اللهُ – عَّز وجلَّ – البشرَ واصطفَى مِنْهم رسلاً وفضَّلَ بعضَ الرسلِ علَى بعضٍ؛ كما قالَ سبحانَه: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } { البقرة: 253 } .
وفضَّلَ – سبحانَه – بعضَ الملائكةِ علَى بعضٍ؛ كما قالَ جلَّ جلالُه: { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ } { الحج:75 } .
…واختارَ – تباركَ وتعالَى – بعضَ الِبقاعِ علَى بعضٍ ؛ فمكَّةُ أُمُّ القُرَى ، والمسجدُ الحرامُ أفضلُ مِنْ غيرِه مِنَ المساجدِ، ثمَّ المسجدُ النبويُّ، ثمَّ المسجدُ الأقصَى، واصطفَى – سبحانَه – بعضَ الأزمَنةِ على بعضٍ ، فالعشرُ الأُوَلُ مِنَ ذي الحجَّةِ خيرُ أيامِ الدُّنيا، وليلةُ القدرِ في العشرِ الأواخرِ مِنْ رمضانَ خيرٌ مِنْ ألفِ شهرٍ، وحَسْبُ هذهِ الليالي الأخيرةِ مِنْ رمضانَ شرفاً وفضلاً أنَّ اللهَ اختصَّها بليلةِ القدرِ التي أنزلَ فيها القرآنَ. قالَ ابنُ عباسٍ رضِيَ اللهُ عنْهما : أنزلَ اللهُ القرآنَ جملةً واحدةً مِنَ اللوحِ المحفوظِ إلى بيتِ العِزَّةِ مِنَ السماءِ الدنيا، ثمَّ نزلَ مُفصَّلاً بحَسَبِ الوقائعِ في ثلاثٍ وعشرينَ سنةً علَى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - .(134/2)
…وعبادةُ اللهِ في هذهِ الليلةِ خيرٌ مِنْ عبادةِ ألفِ شهرٍ، وفيها يكثرُ تنَزُّل الملائكةِ لكثرةِ بركتهِا وفيها تُقضَى الأمورُ وتقدَّرُ الآجالُ والأرزاقُ؛ كما قالَ سبحانَه وتعالَى: { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } { الدخان:4 } ، وأخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ قامَ ليلةَ القدرِ إيماناً واحتساباً غُفرَ له ما تقدَّمَ مِنْ ذنبهِ"، وإنَّ السعيدَ مَنْ وفَِّقَ للعملِ الصالحِ في هذهِ العَشْرِ، وأصابَ القبولَ في ليلةِ القدرِ، ومَنْ حُرِمَ خيْرَها فقد حُرِمَ.
…إخوةَ الإيمانِ:
…وفي العشرِ الأواخرِ مِنْ رمضانَ كانَ رسولُ اللهِ عليه الصلاةُ والسلامُ : يَجِدُّ في الطاعةِ ، ويجتهدُ في العبادةِ مِنْ صلاةٍ وصيامٍ وصدقةٍ وقراءةِ قرآنٍ، فعنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها – قالَتْ:"كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يجتهدُ في العشرِ الأواخرِ ما لا يجتهدُ في غيرهِ "[ أخرجَه مسلمٌ]. وما كانَ عليه الصلاةُ والسلامُ يقتصرُ علَى نفسِهِ في ذلِكَ بلْ كانَ يُوقِظُ أهلَه للعبادَةِ ، كما أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها قالَتْ:"كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلَ العشرُ شدَّ مِئزرَه، وأحَيا ليلَهُ، وأيقظَ أهلَه".
…وكانَ جبريلُ – عليهِ السلامُ – يدارسُهُ القرآنَ في رمضانَ كما في البخاريِّ عنِ ابنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عنْهما . وقَدْ حثَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - علَى قراءةِ القرآنِ وتدبُّرِهِ وأخبرَ بعظيمِ الأجرِ الذي يَغْنَمُه قارئُ القرآنِ، فعنِ ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - – قالَ : قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ قرأَ حرفاً مِنْ كتابِ اللهِ فله حسنةٌ ، والحسنةُ بعشرِ أمثالهِا، لا أقولُ ألم حرفٌ، ولكنْ ألفٌ حرفٌ ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ"[ أخرجَه الترمذيُّ] .(134/3)
…وتأسَّى السلَفُ – رضوانُ اللهِ عليهم – برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فكانَ بعضُهم يختِمُ القرآنَ في كلِّ يومٍ مِنْ رمضانَ، وبعضُهم كانَ يختِمُه مرَّتينِ ، وبعضُهم كانَ يتركُ العِلْمَ والمدارسةَ ويعكِفُ علَى كتابِ اللهِ قراءةً وتدبُّراً، ومِنْ هَدْيِ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - في العشرِ المباركَةِ أنهَّ كانَ يعتكفُها في المسجدِ اغتناماً لفضلِها وابتغاءً لأجرِها، فعنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنْها أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -:"كانَ يعتكِفُ العشرَ الأواخِرَ مِنْ رمضانَ حتَّى توفَّاه اللهُ ثمَّ اعتكفَ أزواجُه مِنْ بعدِهِ"[ متفقٌ عليه].
…فاقْتَدُوا بنبيِّكم، وأخلِصُوا لربِّكم، واغتَنِمُوا أوقاتَكم، وما تقَدِّمُوا لأنفسِكم مِنْ خيرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هوَ خيراً وأعظمَ أجراً.
…بارَكَ اللهُ لي ولكم في كتابِهِ المبينِ، ونفعَنا جميعاً بِهَدْىِ سيِّدِ المرسلينَ ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ فاستغفروهُ إنَّه هوَ الغفَّارُ ذو القٌوَّةِ المتينُ .
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ مثيبِ الطائعينَ، والمِحسنِ إلى الخلقِ أجمعينَ، أحمدُه سبحانَه حمدَ المستزيدِ مِنْ إفْضالهِ، الشاكرِ لنعمائهِ، وهوَ خيرُ الشاكرينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ هوَ وحْدَهُ لا شريكَ له وليُّ الصالحينَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه اصطفاهُ واجتباهُ، وعبدَ ربَّه حتَّى تفطَّرَتْ قَدَماه، وأتَاهُ اليقينُ، اللهمَّ فصلِّ وسلِّمْ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبهِ والتابعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى أنْ يقومَ الناسُ لربِّ العالَمِينَ.
…أمَّا بعدُ:(134/4)
…فاتقوا اللهَ الذي خلقَكمْ ، واستعينُوا علَى طاعتِهِ بما رزقَكُمْ، واشكروهُ علَى أنْ هَداكمْ للإيمانِ، ومنَّ عليكم ببلوغِ مَوْسمِ الغُفرانِ وشهرِ البرِّ والإحسانِ، فإنَّ اللهَ لم يخلقْكمْ سُدَىً، ولم يتركُّمْ هَمَلاً؛ بلْ خلقَ الموتَ والحياةَ لِيبلوَكُم أيُّكم أحسنُ عملاً.
…أيُّها الأحبَّةُ:
…هذا شهرُ رمضانَ قدْ عزمَ علَى الرحيلِ، ولم يبقَ مِنْ أيامهِ ولياليهِ إلاَّ القليلُ، فاغتِنمُوا ما بَقِيَ مِنْه بما يقرِّبُكم إلى مولاكم مِنْ فعلِ الطاعاتِ واجتنابِ المعاصِي والشهواتِ، والإكثارِ مِنَ الصالحاتِ، أَلا واغْتَنِموا فضْلَ الأوقاتِ بالجُمَعِ والجماعاتِ، والزكاةِ والصدقاتِ، والذِّكْرِ والاستغفارِ وسائرِ القُرُباتِ؛ عسَى أنْ تكونوا ممَّنْ قالَ اللهُ فيهم :
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ *وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ { } الذاريات:15- 19 } ، واحذروا التوانِيَ والكسلَ فإنَّهما سببٌ للخُسْرانِ وخيبةِ الأملِ.
مَنْ فاتَه الزَّرْعُ والبِذارُ فما… تَراهُ يحصُدُ إلاّ الهمَّ والندَما
طوبىَ لمنْ كانَتِ التَّقْوَى بِضاعتَه في شهرِهِ وبحبلِ اللهِ مُعْتَصِما
…وتقربَّوُا إلى بارئِكُمْ في هذِهِ الأيامِ الفاضلةِ والليالِي المباركَةِ بخالصِ الدعاءِ، والطاعةِ وصدْقِ الرجاءِ، وعليكم بالقرآنِ فإنَّه نِعْمَ الشافِعُ والمشفَّعُ يومَ القيامةِ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رضِيَ اللهُ عَنْهما(134/5)
أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"الصيامُ والقرآنُ يشفعانِ للعبدِ يومَ القيامةِ، يقولُ الصيامُ: أيْ ربِّ إنيِّ منعتُهُ الطعامَ والشهواتِ بالنهارِ فشفِّعْنِى فيهِ، ويقولُ القرآنُ:ربِّ منَعْتُه النومَ بالليلِ فشفِّعْنِى فيه، فيشفَعانِ"[أخرجَه أحمدُ].
يا رجالَ الليلِ جِدُّوا…رُبَّ صوتٍ لا يُرَدُّ
لا يقومُ الليلَ إلاَّ مَنْ له عَزْمٌ وجِدُّ
…عبادَ اللهِ:
…لقدُ كانَ السلفُ _ رضِيَ اللهُ عَنْهم – يسألونَ اللهَ ستَّةَ أشهرٍ أنْ يبلِّغَهم رمضانَ، ويسألونَه ستَّةَ أشهرٍ أنْ يَتَقَبَّلَه مِنْهم ، ولقدْ كانَ عليٌّ - رضي الله عنه - ينادِي في آخرِ ليلةٍ مِنْ رمضانَ: يا ليتَ شِعْرِي مَنْ هذا المقبولُ فنُهَنِّيه؟ ومَنْ هذا المحرومُ فنُعَزِّيه؟، ومَنْ أحسنَ مِنْكم صُحْبةَ شهرِ الصيامِ فليكنْ ممَّنْ قالَ ربِّيَ اللهُ ثُمَّ استقامَ، ومَنْ فرَّطَ فيهِ فَليختِمْه بالحُسْنىَ فالعملُ بالخِتامِ، وطُوبَى لِمَنْ صامَه وقامَه إيماناً واحتساباً، وسارعَ إلى طاعةِ ربِّه وتابَ إليه متاباً.
غداً تُوَفَّى النفوسُ ما كسبَتْ ويحصدُ الزارعونَ ما زرعُوا
إنْ أحسُنوا أحسُنوا لأنفسِهِمْ … وإنْ أساءوا فَبِئْسَ ما صَنعُوا(134/6)
…فتوبوا إلى اللهِ، وسابِقُوا إلى مرضاتهِ؛ لعلَّكم تُفلحونَ بجنَّةٍ عرضُها السمواتُ والأرضُ أُعدَّتْ للمتقينَ، { وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } { المزمل:20 } ، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ موجِباتِ رحمتِكَ، وعزائمَ مغفرَتِكَ، والسلامةَ مِنْ كلِّ إثمٍ والغنيمةَ مِنْ كلِّ برٍّ والفوزَ بالجنَّةِ، والنجاةَ مِنَ النارِ، اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ وأذلَّ الكفرَ والكافريِنَ، ورُدَّنا إلى دينِنا أجمعينَ ردّاً جميلاً يا ربَّ العالمينَ . اللهمَّ وفِّقْنا لِحُسْنِ عبادتِكَ، ورَضِيِّ طاعتِكَ، وجليلِ مخافَتِكَ، وأحسِنْ خاتِمَتنا في الأمورِ كلِّها، وأجِرْنا مِنْ خِزْيِ الدنيا وعذابِ الآخرةِ، اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ,واجعلْ عملَهما في رِضاكَ.اللهمَّ احفظْهما بحفظِكَ, واكلأْهما بِرعايَتِكَ, وألبِسْهما ثوبَ الصحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ. اللهمَّ اجعلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتقبَّلِ اللهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(134/7)
اطبع هذه الصحفة
زكاة الفطر وآداب العيد
…عبادَ الله:
…وتجبُ زَكاةُ الْفِطْرِ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ, صغيراً كان أمْ كَبيراً, ذَكَراً أَمْ أُنْثَى, حُراً أَمْ عَبْداً, وتُسْتَحَبُّ عن الْجنين ولا تَجِبُ عَنْهُ.
…والَّذي يَجِبُ عَلَيْه أداؤها: هُوُ الْمُعِيلُ الْمُكلَّفُ بالنَّفَقَةِ, فَيُخْرِجُها الْمُسْلِمُ عَنْ نَفْسِه وعَنْ كُلِّ مَنْ تَلْزَمُه نَفَقَتُهمْ مِنْ أَوْلادِه الصِّغارِ, وأوْلاَدِهِ الْكِبَارِ الْعَاجِزِينَ عَنِ الْكَسْبِ, وَعَنْ زَوْجَتِه وعَبِيدِه.
…وأَمَّا المقدارُ الواجبُ إخراجُه في زكاةِ الفطرِ: فهو صاعٌ مِن طعامٍ، مِمَّا يُعَدُّ قُوتاً, كالبُرِّ والأُرزِ والتمرِ والدقيقِ؛ لحديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - المتَّفقِ على صِحته: " كنا نُخرِجُ زكاةَ الفِطْرِ صاعاً من طعامٍ, أو صاعاً من شعيرٍ, أو صاعاً من تمرٍ, أو صاعاً من أَقِطٍ, أو صاعاً من زبيبٍ".
…وقد أجاز بعضُ أهلِ العلم قديمًا وحديثًا أن يُخْرَجَ النقدُ بَدَلاً من الطعامِ, وبهذا أفتَت لجنةُ الفتوى الموَقَّرةُ بوزارةِ الأوقافِ عِندنا, وقدَّرَت قيمةَ الزكاةِ عن الفردِ الواحدِ بِدينارٍ كويتيٍّ.
…وإِنَّما تَجِبُ زَكاةُ الْفِطْرِ بغُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمضانَ, فأَمَّا مَنْ وُلِد أوْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلك, فلا زَكَاةَ عَلَيْهِ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة بتاريخ
28من رمضان 1427هـ الموافق 20/10/2006م
زكاة الفطر وآداب العيد(135/1)
…الْحَمْدُ لِله اَّلذِي أَوْجَبَ زكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى الصَّائِمَينَ تَطْهِيرًا لَهُمْ مِنَ النَّقْصِ والآثَامْ, وإظْهَارًا للشَّفَقَةِ والرَّحْمة بالْفُقَراء واْلأَيْتامْ. وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريكَ له، الْملِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامْ, وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُه أَرْسَلَهُ رَبُّهُ رَحْمةً للأنَامْ, اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ على سيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وعلى آله وأصْحَابه ما دامت اللَّياليْ واْلأيَّامْ.
…أمَّا بَعْدُ:
…فيا عبادَ الله, أُوصِيكُمْ وَنفْسِيْ أوَّلاً بتَقْوى الله تعالى وَطاعَتِه, قال اللهُ عزَّ وجلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ { } آل عمران:102 } .
…أيها المسلمون:
…إنَّ الزَّكاةَ هي أَحَدُ أَرْكان اْلإِسْلام, وهِيَ تَنْقَسِمُ مِنْ حَيْثُ سَبَبُها إلى قِسْمَيْنِ رَئيسَيْنِ: زَكَاةِ اْلأَمْوالِ وَزَكَاةِ اْلأَبْدَانِ, وزَكَاةُ اْلأَبْدَانِ هِيَ زَكَاةُ اْلفِطْرِ الَّتِي أَوْجَبها الشَّرْعُ عَلَيْنا إِذا أَفْطَرْنَا آخِرَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ.
…وَهِيَ مِنْ خَصائِصِ هذه اْلأُمَّةِ الْمُحمَّدِيَّةِ, وقَدْ فُرِضَتْ في السَّنَةِ الثَّانِيَّةِ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ, قَبْلَ عيدِ اْلفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ, وهِيَ السَّنَةُ نَفْسُها الَّتِي فُرِضَ فيها صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُبارَكِ.
…فَرَضَهَا الله عزَّ وجلَّ لِحِكَمٍ سَامِيَّةٍ, وأَهْدافٍ عَالِيةٍ, فَهِيَ طُهْرَةٌ لِلصَّائم مِمَّا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اْقتَرفَ مِنْ صِغار الذُّنُوب, وهي – أيضًا – طُعْمةٌ للفُقراء والْمَسَاكينِ فِي يَوْمِ اْلعِيدِ؛ لِيَكُونَ اْلفَرَحُ فيه عامًّا, والسَّرُورُ شَامِلاً, فَتَزُولَ عَنْهُمْ فيه وِحْشَةُ الْفَقْرِ وآلامُه.(135/2)
…عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضِيَ الله عَنْهُمَا, عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَرَضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً للصَّائم مِنَ اللَّغْوِ والْرَّفثِ, وَطُعْمةً للْمساكين..." [ أخرجه أبو داود ].
…وقال وكيعُ بْنُ الْجَّراحِ رحمه الله تعالى: زَكَاةُ الْفِطْرِ لشَهْرِ رَمضَان, كَسَجْدَةِ السَّهْوِ للصَّلاةِ, تَجْبُرُ نُقْصانَ الصَّوْمِ, كما يَجْبُرُ السُّجُودُ نُقْصَانَ الصَّلاةِ.
…عبادَ الله:
…وتجبُ زَكاةُ الْفِطْرِ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ, صغيراً كان أمْ كَبيراً, ذَكَراً أَمْ أُنْثَى, حُراً أَمْ عَبْداً, وتُسْتَحَبُّ عن الْجنين ولا تَجِبُ عَنْهُ.
…والَّذي يَجِبُ عَلَيْه أداؤها: هُوُ الْمُعِيلُ الْمُكلَّفُ بالنَّفَقَةِ, فَيُخْرِجُها الْمُسْلِمُ عَنْ نَفْسِه وعَنْ كُلِّ مَنْ تَلْزَمُه نَفَقَتُهمْ مِنْ أَوْلادِه الصِّغارِ, وأوْلاَدِهِ الْكِبَارِ الْعَاجِزِينَ عَنِ الْكَسْبِ, وَعَنْ زَوْجَتِه وعَبِيدِه.
…وأَمَّا المقدارُ الواجبُ إخراجُه في زكاةِ الفطرِ: فهو صاعٌ مِن طعامٍ، مِمَّا يُعَدُّ قُوتاً, كالبُرِّ والأُرزِ والتمرِ والدقيقِ؛ لحديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - المتَّفقِ على صِحته: " كنا نُخرِجُ زكاةَ الفِطْرِ صاعاً من طعامٍ, أو صاعاً من شعيرٍ, أو صاعاً من تمرٍ, أو صاعاً من أَقِطٍ, أو صاعاً من زبيبٍ".
…وقد أجاز بعضُ أهلِ العلم قديمًا وحديثًا أن يُخْرَجَ النقدُ بَدَلاً من الطعامِ, وبهذا أفتَت لجنةُ الفتوى الموَقَّرةُ بوزارةِ الأوقافِ عِندنا, وقدَّرَت قيمةَ الزكاةِ عن الفردِ الواحدِ بِدينارٍ كويتيٍّ.
…وإِنَّما تَجِبُ زَكاةُ الْفِطْرِ بغُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمضانَ, فأَمَّا مَنْ وُلِد أوْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلك, فلا زَكَاةَ عَلَيْهِ.(135/3)
…ويُسْتَحَبُّ إِخرَاجُها قُبَيْلَ صَلاةِ الْعِيدِ, ولا تُؤَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الْعِيد, وكانَ الصَّحَابةُ رضي الله عنهم يُخْرِجُونَها قَبْلَ الْعِيدِ بِيَوْمَيْنِ, كمَا ثَبَتَ في صحيح الْبُخَاري.
…وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عَنْ زَكاةِ الْفِطْرِ قال:"مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ, ومَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ" [ أخرجه أبو داود ].
…بارك اللهُ لي ولَكُمْ بالْقُرآن الْعَظِيمِ, وَنَفِعني وإيَّاكُمْ بما فِيهِ مِنَ الآيات والذِّكْرِ الحكيم, أقول قَوْلي هذا وأَسْتَغْفِرُ الله ليِ ولَكُمْ ولِسَائِرِ الْمُسْلِميِنَ فاسْتَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرحيم.
الخطبة الثانية
…الْحَمْدُ لله الذِي فَرَضَ عَلَيْنَا الصِّيَامَ في شَهْرِ رَمَضَانْ, وَجَعلَ الصِّيامَ والزَّكَاةَ رُكْنَيْنِ مِنْ أَرْكَان الإِسْلام وَشُعَب الْإِيمانْ. وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ذُو الْجُودِ والْبِرِّ والْإِحْسَانْ, وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا ونَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُه وَرَسُولُه سَيِّدُ وَلَدِ عَدْنَانْ, اللَّهُمَّ صّلِّ وسَلِّمْ عَلى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ وَعلى آله وصَحْبِه الْهُدَاةِ الْأَعْيَان.
…أما بَعْدُ: فاتَّقُوا الله – عبادَ الله - حَقَّ تَقْوَاهُ, واعْمَلُوا بِطاعَتِه ورِضَاهْ.
…أيها المسلمون:
…اعْلَمُواْ – رحمني الله وإياكم – أنَّ لِلْعِيدِ آدابًا كَرِيمةً, وَسُنَنًا شَرِيفةً, يَنْبَغي أَنْ نَحْرِصَ عَلَيْها, وَنسْعَى إِليْها؛ لِنَنَالَ اْلأَجْرَ الْوَافِرَ, مِنْ صَاحب الْعطاءِ واْلِإنْعام, والْفَضْلِ وَالْإِكْرَام, سُبْحَانَهُ وتعالى:(135/4)
…فمِنْها: أَنْ يُكَبِّرَ المسلمُ فيِ لَيْلَةِ عِيدِ الْفِطْرِ: ( اللهُ أَكْبَرُ, اللهُ أَكْبَرُ, اللهُ أَكْبَرُ, لَا إِلهَ إلَّا اللهُ. اللهُ أَكْبَرَ, اللهُ أَكْبَرَ, ولِلَّه اَلْحمْدُ ), مِنْ غُروب شَمْسِ آَخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ إلى أَنْ يُحْرِمَ الْإِمَامُ بصلاةِ الْعِيدِ؛ لقوْله تعالى: { وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } { البقرة:185 } .
…وقَدْ ثَبَتَ " أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ فَيُكَبِّرُ حَتَّى يَأْتيَ الْمُصَلَّى ويَقْضِيَ الصَّلاةَ ",[ أخرجه ابن أبي شيبة وغيره ], وكَانَ ابْنُ عُمُرَ رَضِيَّ الله عَنْهُمَا إِذا غَداَ يوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى: يَجْهرُ بِالتَّكْبِير حَتَّىَ يأْتي الْمُصَلَّى, ثُمَّ يُكَبِّرُ حَتَّى يِأْتِيَ الإِمَامُ, [ أخرجه ابن أبي شيبة والدارقطني ].
…ومِنْهَا: أَنْ يَتَجَمَّلَ في الْعِيدِ, فَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيابِه, ويَغْتَسِلَ قَبْلَ الذَّهَابِ لِلصَّلاةِ؛ فَإِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ بِإجْماع الْعُلَمَاءِ. وَعنْ نَافِع: أنَّ عَبْدَ الَّلهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ الَّلهُ عَنْهُمَا " كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ اْلفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَغْدُوَ إِلى الْمُصَلَّى", [ أخرجه مالك في الموطإ ].
…ومنها: أَنْ يَأْكُلَ فيِ عيدِ الْفِطْرِ تَمَرَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ لِصَلاةِ الْعِيدِ؛ فَعَنْ أَنَسِ - رضي الله عنه - قال:" كَانَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لاَ يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ" [أخرجه البخاري].
…ومنها: أَنْ يَسْتَمِعَ لِلْخُطْبَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ.(135/5)
…ومنها: أَنْ يُخَالِفَ في الطَّرِيقِ, فَيَرْجعَ مِنْ غَيْرِ الطَّرِيقِ التَّيِ جَاءَ مِنْهَا إلى الْمُصَلَّى, فَعَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه - قال: " كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ" [ أخرجه البخاري].
…ومنها: التَّهْنِئَةُ في الْعِيدِ بالْعِبارَاتِ الْمُناسِبَةِ للْمَقَامِ, فَعَنْ جُبَيْرٍ بْن نُفَيْرٍ قال: كَانَ أَصْحَابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذَا الْتَقَوْا يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَقَبَّلَ الَّلهُ مِنَّا وَمِنْكَ.
…ومنها: التَّوْسِعَةُ عَلى الْعِيالِ فيِ أَيَّامِ الْعِيِد بِمَا يُحَصِّلُ لَهُمْ فِيهَا بَسْطَ النَّفْسِ وَتَرْوِيحَ الْبَدَنِ وإظْهَارَ السُّرُورِ؛ فَعَنْ عائشةَ رضي الله عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ علَيَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءٍ يَوْمَ بُعَاثٍ ( وفي رواية: تُغَنِّيَانِ بِدُفٍّ ), فَاضْطَجَعَ عَلى الْفِرَاشِ وَحَّولَ وَجْهَهُ, وَدَخَلَ أَبوُ بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وقال: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ! فَأَقْبَلَ عليه رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:"دَعْهُمَا"، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُما, فَخَرَجَتَا.
…وفي رواية أُخْرَى: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنِّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا, وَهَذَا عِيدُنَا"[متفق عليه].
…وأُوصِيكُمْ – عبادَ الله – بالْمُدَاوَمةِ على الطَّاعات بَعْدَ انْقِضَاءِ شَهْرِ الصِّيَّامِ؛ فَإِنَّ رَبَّ رَمَضَانَ هُوَ رَبُّ سَائِرِ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ, وإِنَّ الْعَبْدَ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلى رَحْمَةِ ذِي الْجَلال وَالْإِكْرَام.(135/6)
…الَّلهُمَّ اجْعَلْ أَيَّامَنا أيَّامَ فَرَحٍ وَسُرُورٍ, وَخَيْرٍ وَحُبورٍ, وارْزُقْنا الْأَمْنَ والسَّعَادَةَ يَوْمَ الْبَعْثِ والنُّشُور. الَّلهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ, وأَرِنَا الباطلَ بِاطِلاً وارْزُقْنَا اجْتِنَابَه. اللَّهُمَّ اغْفِرْ للْمُؤْمِنينَ والمؤمنات, والمُسْلِمينَ والْمُسْلِمَاتِ, الْأَحْياءِ مِنْهُمْ والْأَمْوَاتِ, إنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَواتِ. الَّلهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلامَ وَالْمُسْلِمينَ, وأَذِلَّ الشِّرْكَ والْمُشْرِكين, ودَمِّرْ اللَّهُمَّ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الديِّنِ.
…اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِه لِهُدَاكَ, واجْعَلْ عَمَلَهُمَا فيِ رِضَاكَ, اللَّهُمَّ احْفَظْهُمَا بِحِفْظِكَ, واكْلَأْهُمَا بِرِعَايَتِكَ, وأَلْبِسْهُمَا ثَوْبَ الصِّحَّةِ والْعَافِيَةِ والْإِيمَانِ, يَا ذَا الْجلالِ والْإِكْرَام. اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمنًا مُطْمَئنًّا سَخَاءً رَخاءً وسَائِرَ بِلاد الْمُسْلِمينَ, وَتَقَبَّل اللَّهُمَّ شُهَداءَنا وشُهَداَء المسلمين أَجْمَعينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(135/7)
اطبع هذه الصحفة
خطبة عيد الفطر المبارك
…اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا اللهُ واللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ وللهِ الحمدُ.
…الحمدُ للهِ ذي المكارمِ والإحسانِ، والشكرُ له على أفضالِهِ والامتنانِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وهو عظيمُ الشانِ، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عبدُه ورسولُه المؤيدُ بالسنةِ والقرآنِ، صلى الله وسَلَّمَ عليه وعلى آلهِ وأصحابهِ ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ.
…أما بعدُ: فاتقوا الله عباد الله، { وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } { البقرة:281 } .
…إخوةَ الإسلام:
…إنَّ مِن واسعِ فضلِ الله على عبادِه: أن جعلَ لهم مواسمَ لزيادةِ الحسناتِ، ورفعةِ الدرجاتِ، وتكفيرِ السيئاتِ، فيها يُسَرُّ المؤمنونَ بما قدمُّوه مِنَ القُرُبات، فهي أيامٌ لِنَيْلِ الهدايا وتحصيلِ المَكرُمات، والفائزُ- حقاً- هو من اغتنمَ هذه المناسباتِ، ونالَ أعظمَ الدرجاتِ.
…ومِن هذه المواسمِ المباركةِ الأعيادُ الإسلاميةُ: عيدُ الفطرِ بعدَ صَوْمِ رمضانَ، وعيدُ الأضحى بعد الوقوفِ بعرفةَ، وأثناءَ حَجِّ بيتِ اللهِ الحرامِ، فهما عيدان يتَكرَّرانِ بعدَ أداءِ رُكنين من أركانِ الإسلامِ، فعن أنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: كان لأهلِ الجاهليةِ يومان في كلِّ سَنَة، يلعبون فيهما، فلما قَدِمَ صلى الله عليه وسلم المدينةَ قال:" كان لكم يومان تلعبون فيهما، وقد أبدَلَكُم اللهُ بهما خيرًا منهما، يومَ الفطر ويومَ الأضحى"[أخرجه النسائي].
الخطبة المذاعة والموزعة لعام 1427هـ
خطبة عيد الفطر المبارك
…اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ.(136/1)
…الحمدُ للهِ الذي سَهَّلَ لعبادِهِ طريقَ العبادةِ وَيَسَّر، وجعل لهم عيدًا يعودُ عليهم بعدَ إكمالِ صيامِهم ويتكرَّر، وواصلَ لهم مواسمَ الخيراتِ ليزيدَهم من فضلهِ الذي لا يُحْصَر، فما انقضى شهرُ الصيامِ إلا وأعقبَه أشهرُ الحجِ إلى بيته المُطَهَّر، أَحمدُهُ سبحانه وهو أَحقُّ أنْ يُحْمَد وَيُشْكر، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له شهادةً تُؤمِّنُ صاحبهَا يومَ الفزعِ الأكبرِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه صاحبُ المقامِ المحمودِ والكوثرِ، صلى الله وسلم عليه وعلى آلهِ وأصحابهِ السادةِ الغُرَرِ، وعلى التابعين لهم بإحسانٍ إلى يومِ البعثِ والمحشرِ.
…أمّا بعد :
…فأوصيكم – أيها الناسُ – ونفسي بتقوى الله، فمَن اتقى اللهَ وقاه، ومَن لجأ إليه حماه، وأسعدَه وما أشقاه، يقول الله جلّ في علاه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمران :102 } .
…معاشرَ المسلمين :
…إن حياةَ الإنسانِ محدودةُ الآجالِ، وأيّامَه سريعةُ التقَضِّي والزوالِ، والمرءُ يتنَقَّلُ خلالَ ذلك مِن موسمٍ إلى موسمٍ ومن حالٍ إلى حالٍ، يقول الله سبحانه: { قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى } { النساء: 77 } .
…ما أقربَ الأمسِ حين كنّا نُبَشِّرُ بدخولِ شهرِ رمضانَ، واليومَ نتحدّثُ عنه وقد صار من سالفِ الأزمان، وفي هذا أبلغُ العظاتِ لأولي الألبابِ والإيمانِ، والسؤالُ الذي يدور في الأذهان؛ ماذا يجبُ علينا بعدَ رمضان؟(136/2)
إن رمضانَ يجبُ أن يكونَ محطةً لتزكيةِ القلوب، ووسيلةً لتربيةِ النفوس، لينطلقَ المسلمُ منه إلى آفاقٍ واسعةٍ، ينتقلُ فيها بين مختلف العبادةِ وأنواعِ الطاعةِ، فعليكم بمراجعةِ أنفسِكُم، وتحققوا إن كنتم حققتم تقوى المولى، فتقواه سبحانه هي حكمةُ الصومِ الأُولى، ولقد كان أسلافُكم يَدْعُون الله ستةَ أشهرٍ أن يُبَلِّغَهم رمضان، ثم يَدْعُونَه سِتّةَ أشهرٍ أن يتقبَّلَه منهم، وهؤلاء وأمثالُهم هم الذين قال الله فيهم: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ - أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } { المؤمنون:60-61 } .
خَفِ اللهَ وارجوهُ لكلِّ عظيمةٍ ولا تُطِعِ النفسَ اللجوجَ فتندَما
وَكُن بين هاتينِ من الخوفِ والرّجَا وأبْشرْ بعفوِ اللهِ إن كنتَ مُسلما
…إخوةَ الإيمان:
…إن الواجبَ عليكم في سائرِ الأزمانِ، مراقبةُ الملَكِ الدّيان، والمحافظةُ على أركانِ الدينِ وأصولِ المِلّة، وذلك بتحقيقِ التوحيدِ، ومُجانَبةِ الشركِ والتنديدِ، بِصُوَرِه المُتنوِّعةِ ووسائِلهِ المُتكاثِرةِ، يقول اللهُ سبحانه: { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } { المائدة:72 } ، ثم لِتُتْبِعوا توحيدَ ربِّ العالمين، بسلوك هدي خير المرسلين، وخاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، فشرطا قبولِ كلِّ عملٍ، الإخلاصُ لله تعالى، ومتابعةُ نبيهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فالإسلامُ توحيدٌ خالصٌ، وعبادةٌ قويمةٌ، واتباعٌ صادقٌ، يجمع هذا قولُه سبحانه: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } { الكهف:110 } .
…اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا اللهُ واللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ وللهِ الحمدُ(136/3)
…إخوةَ الإسلام :
…أَقبِلوا على الملكِ العلاّمِ، واحفظوا جوارِحَكم عن الآثام، وغُضُّوا أبصارَكم عن النظرِ الحرامِ، وحَصِّنوا فروجَكم، وطيبَّوا مطاعِمَكُم، واحفظوا ألسنَتَكُم، وتجنبَّوا إيذاءَ المسلمين، فالمسلمُ الْحَقُّ مَن سَلِمَ المسلمون من لسانِه ويدِه، ألْزِموا نساءَكم بالسترِ والحجابِ والابتعادِ عن مُخالطةِ الرجالِ، والخَلوَةِ مع السائقِ والخادمِ، احذَرُوا أَخْذَ الرِّشوةِ وأكلَ الرِّبا، وأكلَ مالِ اليتيمِ فإنها من كبائرِ الذنوب، ومِن أخبَثِ المكاسب.
…وأنتِ يا أختي المسلمة:
…اتقي الله تبارَكَ وتعالَى، واستمِرِّي على طاعَتهِ، وأَدِّي ما عليكِ من حقوقٍ وواجباتٍ، مِن طاعةٍ للزوج وتربيةٍ حَسَنةٍ للبَنينَ والبناتِ، فأنتِ أيتها الكريمةُ دعامةُ البيتِ السعيدِ وأساسُه، وعنوانُ النجاحِ ونِبراسُه، احذري مِن الأصواتِ المُنحرفَةِ، والدِّعاياتِ المُضَلِّلةِ، التي تصفُ حياتَكِ المُلتزِمةَ بالرَّزِيّةِ، وَتَدَّعي أنَّ حقوقَكِ مُهْدَرةٌ، فإن الإسلامَ بشريعتهِ المُحْكَمةِ، قد دَحَضَ هذه الأفكارَ الآثمةَ، ولكنِ اتَّعِظي وتأمَّلي، يقول اللهُ سبحانه: { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } { الأنبياء:18 } .
…اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا اللهُ واللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ وللهِ الحمدُ.
…أيُّها الإخوةُ المؤمنون:(136/4)
…يقول الله تبارك وتعالى: { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينََ } { آل عمران:133- 134 } ، ويقول عليُّ بنُ أبي طالب - رضي الله عنه -: " إنَّ الدنيا قد ارْتحلَتْ مُدبِرةً، وإنَّ الآخرةَ قد ارْتحَلَتْ مُقْبِلةً، ولكلٍّ منهما بَنوُن، فكونوا مِن أبناءِ الآخرةِ، ولا تكونوا مِن أبناءِ الدنيا، فإنَّ اليومَ عملٌ ولا حسابٌ، وغداً حسابٌ ولا عمل"، وإنَّ غداً لِناظِرِهِ لقريبٌ، { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ } { الأنبياء:1 } ، واعلَموا أنكم في عِلمِ الله فريقان: { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } { الشورى:7 } ، فاعمَلوا بأعمالِ أهلِ الجنةِ تكونوا مِن أهلِها، وإياكم وأعمالَ أهلِ النار لِتَسْلَموا مِن أهوالِها، يقول الله تعالى: { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ - فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ - إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ - فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ - فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ - قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ - كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ - وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ - وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ - يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ - مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ - هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ - خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ - ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ - إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ(136/5)
بِاللَّهِ الْعَظِيمِ - وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ - فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ - وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ - لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ } { المعارج: 18- 33 } .
…بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بسنةِ النبيِ الكريمِ، عليه أفضلُ الصلاةِ وأزكى التسليمِ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا اللهُ واللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ وللهِ الحمدُ.
…الحمدُ للهِ ذي المكارمِ والإحسانِ، والشكرُ له على أفضالِهِ والامتنانِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وهو عظيمُ الشانِ، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عبدُه ورسولُه المؤيدُ بالسنةِ والقرآنِ، صلى الله وسَلَّمَ عليه وعلى آلهِ وأصحابهِ ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ.
…أما بعدُ: فاتقوا الله عباد الله، { وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } { البقرة:281 } .
…إخوةَ الإسلام:
…إنَّ مِن واسعِ فضلِ الله على عبادِه: أن جعلَ لهم مواسمَ لزيادةِ الحسناتِ، ورفعةِ الدرجاتِ، وتكفيرِ السيئاتِ، فيها يُسَرُّ المؤمنونَ بما قدمُّوه مِنَ القُرُبات، فهي أيامٌ لِنَيْلِ الهدايا وتحصيلِ المَكرُمات، والفائزُ- حقاً- هو من اغتنمَ هذه المناسباتِ، ونالَ أعظمَ الدرجاتِ.(136/6)
…ومِن هذه المواسمِ المباركةِ الأعيادُ الإسلاميةُ: عيدُ الفطرِ بعدَ صَوْمِ رمضانَ، وعيدُ الأضحى بعد الوقوفِ بعرفةَ، وأثناءَ حَجِّ بيتِ اللهِ الحرامِ، فهما عيدان يتَكرَّرانِ بعدَ أداءِ رُكنين من أركانِ الإسلامِ، فعن أنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: كان لأهلِ الجاهليةِ يومان في كلِّ سَنَة، يلعبون فيهما، فلما قَدِمَ صلى الله عليه وسلم المدينةَ قال:" كان لكم يومان تلعبون فيهما، وقد أبدَلَكُم اللهُ بهما خيرًا منهما، يومَ الفطر ويومَ الأضحى"[أخرجه النسائي].
…إنما العيدُ فرحةٌ لإتمامِ العبادةِ مِن حَجٍّ وصيامِ، واعترافٍ بفضلِ الملكِ العلاّمِ، العيدُ وسيلةٌ من وسائِلِ شُكرِ الآلاءِ، ومظهرٌ من مظاهرِ القوةِ والإخاءِ، العيدُ صِلَةٌ وزيارةٌ، وعطفٌ ورحمةٌ، وطاعَةٌ وعبادةٌ، إنه فرحةٌ بانتصارِ الطاعةِ علَى المعصيةِ، وسرورٌ بِتَغَلُّبِ النفْسِ اللوّامةِ على النفْسِ الأمّارةِ، وابتهاجٌ بوَعْدِ اللهِ الكريمِ بمغفرةِ الذنوبِ والفوزِ بالجنةِ والنجاةِ من النارِ. "مَن صامَ رمضانَ إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدَّم له من ذَنبِه"، " مَن قامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم مِن ذَنبِه" [ أخرجهما البخاري ].
فَرْحةُ العيدِ في بُلوغِ الأماني وقبولِ الرحمنِ والرضِّوانِ
ربِّ واغفرْ في غمرةِ السَّهْوِ ذَنبي وأنلني الرِّضى وبَرْدَ الأماني
…مَرَّ أحدُ الصالحين بقومٍ يَلْهونَ ويَلْغون يومَ العيدِ، فقال لهم: " إنْ كنتم أحسنتم في رمضانَ فليسَ هذا شكرَ الإحسانِ، وإن كنتم أسأتم فما هكذا يفعلُ من أساءَ مع الرحمنِ"، وإن ننسَى ـ يا عبادَ الله ـ فلا ننسى صيامَ سِتٍ من شوّال، فإنَّ صيامَها من عظيمِ الأعمالِ، حيث يُكتبُ لكم كصيامِ الدهرِ، كما صَحّ بذلكم الخَبَرُ، عن سيّدِ البَشَر - صلى الله عليه وسلم -.(136/7)
…ثُم صَلُّوا وسَلِّموا رَحِمَكم اللهُ على خيرِ الورى وإمامِ الهدى، كما أَمَرَ ربُّكم جَلَّ وعَلا: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب:56 } .
…اللهم صَلِّ وسَلِّمْ على محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِه وسَلِّمْ تسليماً كثيراً، اللهم تَقَبَّلْ صيامَنا وقيامَنا ودعاءَنا وسائرَ أعمالِنا،اللهم واجعلنا مِمَّنْ وُفِّقَ لقيامِ ليلةِ القدرِ، فكَتبْتَ له عظيمَ المثوبةِ والأجرِ، ومَحَوْتَ عنه السيئاتِ والوزرَ، اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشِّركَ والمشركين، وأَهْلِكِ الكفرةَ والملحدين يا قوِيُّ يا متين ،اللهم انصُرْ دينَكَ وكتابَكَ وسنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
…اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ,واجعلْ عملَهما في رِضاكَ.اللهمَّ احفظْهما بحفظِكَ, واكلأْهما بِرعايَتِكَ, وألبِسْهما ثوبَ الصحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ. اللهمَّ اجعلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتقبَّلِ اللهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(136/8)
اطبع هذه الصحفة
فاستقم كما أمرت
…أما بعد:
…فأُوصيكُمْ -أيُّها الناسُ- ونفسِي بتَقْوَى اللهِ تعالىَ، فاستقيمُوا إليهِ واستغفِرُوهُ، ولا تَتَّبِعُوا أهواءَكمْ فتكفُروهُ.
…واعْلَمُوا -رَحِمنيِ اللهُ وإياكُمْ- أنَّ الاستقامةَ: هيَ سلوكُ صراطِ اللهِ المُسْتقِيمِ، ولزومُ هديِ دينِهِ القوِيمِ، لذا فقدْ أُمِرَ بها نَبيُّنَا الكريمُ؛ عليه أفضلُ الصلاةِ وأزكَى التسليمِ، في مُحكمِ الذكرِ الحكيمِ، كما قالَ العليمُ الحكيمُ: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } { هود: 112 } .
…وقال تعالى: { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } { الشورى: 15 } .
…وهيَ وصيَّةُ ربِّ العالمينَ؛ لمَنْ قبلَهُ منَ الأنبياءِ والمرسلينَ، كمَا وصَّى بها المولىَ؛ هارونَ وموسىَ عليهمَا السَّلاَمُ: { قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } { يونس: 89 } .
…وهيَ وصيَّةُ البَرِّ الجوادِ؛ لجميعِ العبادِ: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ } { فصلت: 6 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة بتاريخ
5 من شوال 1427هـ الموافق 27/10/2006م
فاستقم كما أمرت(137/1)
…الحمدُ للهِ فاطرِ السماواتِ والأرضِ بارئِ الأنامِ، ومحييِ الأرضِ بعدَ موتِهاَ ومُجِّددِ الشهورِ والأعوامِ، ومطلقِ النفوسِ من وثائقِ الآثامِ، ومعتِقِ الضمائرِ بالتوبةِ من رِقِّ المعاصِي والإجرامِ، لتستقيمَ كما أُمِرَتْ على مَمَرِّ الليالي والأيامِ، وأشهدُ أن لاَّ إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ؛ إلهٌ لاَ تُحِيطُ بهِ العقولُ والأفهامُ، وأَشهدُ أنَّ سَيِّدَنَا محمداً عبدُاللهِ ورسولُهُ خاتَمُ الأنبياءِ الكرامِ، عليهِمُ الصلاةُ والسلامُ، صلى اللهُ وسلمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ الأئمةِ الأعلامِ.
…أما بعد:
…فأُوصيكُمْ -أيُّها الناسُ- ونفسِي بتَقْوَى اللهِ تعالىَ، فاستقيمُوا إليهِ واستغفِرُوهُ، ولا تَتَّبِعُوا أهواءَكمْ فتكفُروهُ.
…واعْلَمُوا -رَحِمنيِ اللهُ وإياكُمْ- أنَّ الاستقامةَ: هيَ سلوكُ صراطِ اللهِ المُسْتقِيمِ، ولزومُ هديِ دينِهِ القوِيمِ، لذا فقدْ أُمِرَ بها نَبيُّنَا الكريمُ؛ عليه أفضلُ الصلاةِ وأزكَى التسليمِ، في مُحكمِ الذكرِ الحكيمِ، كما قالَ العليمُ الحكيمُ: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } { هود: 112 } .
…وقال تعالى: { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } { الشورى: 15 } .(137/2)
…وهيَ وصيَّةُ ربِّ العالمينَ؛ لمَنْ قبلَهُ منَ الأنبياءِ والمرسلينَ، كمَا وصَّى بها المولىَ؛ هارونَ وموسىَ عليهمَا السَّلاَمُ: { قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } { يونس: 89 } .
…وهيَ وصيَّةُ البَرِّ الجوادِ؛ لجميعِ العبادِ: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ } { فصلت: 6 } .
…وقدْ أَمرَ بهاَ خيرُ البريَّةِ؛ عليهِ أفضلُ صلاةٍ وأزكىَ تحيةٍ؛ مَنْ سألهُ الوصيةَ، كمَا أخرجَ مسلمٌ في صحيحِهِ من حديثِ سفيانَ بن عبدِاللهِ الثَّقَفِيِّ - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رَسولَ اللهِ، قل لِّي فيِ الإسلامِ قولاً لا أسألُ عنهُ أحداً بعدَكَ. قالَ:" قُلْ: آمنتُ باللهِ ثم استقِمْ ".
…عبادَ اللهِ:
…إنَّ أصلَ الاسْتِقَامَةِ: هوَ استِقَامَةُ القَلْبِ على التوحيدِ؛ وتنزيهُ الربِّ جلَّ جلالُهُ عن الشِّركِ والنديدِ، فمتَى استقامَ القلبُ على معرِفَةِ اللهِ وخشيَتِهِ ورجائِهِ؛ والتوكلِ عَلَيْهِ ومَحَبَّتِهِ ودُعَائِهِ: استقامتْ جَوَارِحُهُ كُلُّهَا عَلَى طاعةِ اللهِ ورضَاهُ، لأنَّ باستِقامةِ الملِكِ استقَامَةَ جنودِهِ وَرَعَايَاهُ.
…وأولُ علامَاتِ استِقامَةِ الجَنانِ: استقامةُ اللسانِ، فلا ينطقُ بالإثمِ والعُدوانِ، ثم يَعقِبُ استقامةَ اللسانِ: استقامةُ الجوارحِ والأركانِ، ومصداقُ ذلِكَ في حديثِ أبِي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:" إذا أصبحَ ابنُ آدمَ فإنَّ الأعضاءَ كُلَّهَا تُكفِّرُ اللسانَ، فتقولُ: اتِق اللهَ فينَا، فإنَّماَ نحنُ بِكَ، فإنِ استقَمتَ استقمنَا، وإنِ اعوجَجْتَ اعْوَجَجْناَ "[ أخرجه أحمد والترمذي ].(137/3)
…فهنيئاً لمن رُزقَ الاستقامةَ، فنعمَّا هي منَ الكرامةِ، كما أخرجَ ابنُ ماجةَ في سُنَنِهِ من حديثِ أبِي أمامةَ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:" استقِيمُوا، ونِعمَّا إِنِ استقمتُمْ، وخيرُ أعمالِكُمْ الصَّلاَةُ، ولا يحافظُ على الوضوءِ إِلاَّ مؤمنٌ" .
…وقد بشَّر اللهُ تعالى أهلَ الاستقامةِ؛ بنُزُلِ الوَلايةِ والكرامةِ، وهذَا جزاؤُهُم في الدُّنيَا ويومَ القيامةِ: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ - نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ - نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } { فصلت: 30-32 } .
…رزقنِي اللهُ وإياكُمُ الاستقامةَ علَى ما أمَرَنَاَ بهِ فِي الفرقانِ والذكرِ الحكيمِ، ووفَّقناَ للاعتصامٍ بمَا كانَ عليهِ النبيُّ الكريمُ؛ عليهِ أفضلُ الصَّلاةِ وأزكَى التسليمِ؛ من الهديِ القويمِ؛ والصراطِ المستقيمِ.
أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ الغفورَ الحليمَ، لي ولكُم من كلِّ ذَنْبٍ وحَوْبٍ فتوبُوا إليهِ واستغفروهُ إنهُ هوَ التَّوَّابُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية(137/4)
…الحمدُ للهِ الكبيرِ المتعالِ، المنزَّهِ عنِ الشركاءِ والأمثالِ، المُتَحَبِّبِ إلى خلقِهِ بالإنعامِ والإفضالِ، الذي فضَّلَ شهرَ رمضانَ واصْطفاهُ ثم أتبعهُ بشهرِ شوالٍ، أحمدُ ربيِّ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيهِ؛ وهوَ المحمودُ علَى كلِّ حالٍ، وأشهدُ أن لاَّ إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ذُو المَلَكُوتِ والجَبَرُوتِ والجَلالِ، وأشهدُ أنَّ سيدَنَا محمداً عبدُاللهِ ورسولُه أفضلُ دَاعٍ إلى اللهِ بلسانِ الحَالِ والمقالِ، صلَّى اللهُ وسلمَ عليهِ وعلَى آلهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ المُتَّبعينَ لهُ في الظَّاهرِ والباطِنَِ وفيِ الأقوالِ والأفعالِ.
…أما بعدُ:
…فاتقُوا اللهَ أيُّهَا الناسُ بالانتهاءِ عمَّا نهاكُم عنهُ من سيئاتِ الأعمالِ، وقابِلوُا أوامرَهُ بالامتثالِ، واستقيمُوا علَى طَاعَتِهِ مخلِصِينَ لهُ الدِّينَ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، ولاَ تُكَدِّروُا في شوَّالٍ ما صَفَى لَكُمْ من الأعمالِ في رَمَضَانَ.
…واعلمُوا أنَّ اللهَ تعالىَ إذَا تَقَبَّلَ من أحدِكُمْ عَمَلاً: فإنَّهُ يوَفِّقُهُ لعملٍ صالحٍ بعدَهُ يكونُ متقَبَّلاً، كما قالَ بعضُ السلفِ:" إنَّ مِنْ ثوابِ الحسنَةِ: الحسنةَ بعدَهَا، وإنَّ من جزاءِ السِّيئَةِ: السيئةَ بَعدَهَا".
فالمكلَّفُ المؤمنُ لاَ ينقضِي عملُهُ؛ حتَّى يأتيَ عليهِ أَجَلُهُ، كمَا قالَ الحسنُ البصريُّ رحمهُ اللهُ تعالَى: "إنَّ اللهَ لَم يَجعَلْ لعملِ المؤمنِ أجلاً دونَ الموتِ"، ثم قرَأ قولَ اللهِ في كتابِهِ المبينِ: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } { الحجر: 99 } .(137/5)
…فياَ مَن مَنَعَ نفسَهُ فِي رَمَضَانَ مِن الذُّنُوبِ والآثامِ: امنَعْهَا فيمَا بعدَهُ من الليَالِي والأيَّامِ؛ وفِي سائِر الشُّهُورِ والأعوامِ، فهيَ كُّلهَا مقاديرُ للآجالِ؛ ومواقيتُ للأعمالِ، وهي تسيرُ بِكُمْ إلَى الآجالِ سيراً حثيثاً، وتستودِعُ من أعمَالِكمْ ما كان طيباً وخبيثاً.
…عبادَ اللهِ:
…أَلاَ وإنَّ منَ الأعمالِ الصالحةِ التِي توجبُ للْعَبْدِ المثوبةَ والكَرَامَةَ، وهيَ أمارةٌ علَى قَبولِ الحسنَةِ وعلامةٌ على الاستقامَةِ: صيامَ ستَّةِ أيامٍ من شوالٍ، فإنَّهُ يَعدلُ بإذنِ الكبيرِ المتعالِ: صيامَ حَوْلٍ تَتَعاقَبُ فيهِ الأيامُ واليالي، كما أخرجَ مسلمٌ في صحيحِهِ من حديثِ أبِي أيُّوبٍ الأنصارِيِّ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:" من صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أتبعَهُ سِتاً من شَوَّالٍ: كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ".
…ولْيَكُن مسكَ الختامِ، معشرَ الإخوةِ الكرامِ: ترطيبُ أَلْسِنَتِكُمْ بِالصلاةِ والسلامِ، علَى خيرِ الأنامِ، امتثالاً لأمرِ الملكِ القُدُّوسِ السَّلامِ، حيثُ قَالَ في أصدَقِ قيلٍ وأحسنِ حديثٍ وخيرِ كلامٍ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب: 56 } .
…اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، وبَاركْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركتَ علَى إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، في العالمينَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ.
…وارضَ اللهمَّ عن الأربعةِ الخلفاءِ الراشدينَ؛ والأئمةِ الحنفاءِ المهديِّينَ، أُولِي الفضلِ الجليِّ؛ والقدرِ العليِّ: أبي بكرٍ الصديقِ؛ وعمرَ الفاروقِ؛ وذي النورينِ عُثمانَ؛ وأبي السِّبطينِ عليٍّ.(137/6)
…وارضَ اللهمَّ عن آلِ نبيِّكَ وأزواجِه المُطَهَّرِينَ مِنَ الأرجاسِ؛ وصحَابَتِهِ الصفوةِ الأخيارِ من النَّاسِ.
…اللهمَّ اغفرْ للْمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهمْ وَالأمواتِ، اللهمَّ إنَّا نسألكَ من الخيرِ كلِّهِ، عاجلِهِ وآجلِهِ، ما عَلِمْنَا منهُ وما لم نعلَمْ، ونعوذُ بكَ من الشَّرِّ كلِّهِ، عاجلِهِ وآجلِهِ، ما علمنَا منهُ وما لَمْ نعلمْ، اللهمَّ إنا نسألكَ من خيرِ ما سألكَ عبدُكَ ونبيُّكَ - صلى الله عليه وسلم -، ونعوذُ بكَ من شرِّ ما عاذَ بهِ عبدُكَ ونبيُّكَ صلَّى الله عليهِ وسلمَ، اللهم إنا نسألك الجنةَ وما قرَّبَ إليها من قولٍ أو عملٍ، ونعوذُ بك من النارِ، وما قربَ إليها من قولٍ أو عملٍ، ونسألكَ أن تجعلَ كل قضاءٍ قضيتَهُ لنا خيراً.
…اللهمَّ آمنَّا في الوطنِ، وادفَع عنَّا الفتَنَ والمِحَنَ؛ ما ظهرَ منها وما بَطَنَ، اللهمَّ وفِّقْ ولاةَ أُمُورنَا لحمل الأمانةِ، وارزُقْهُم صَلاَحَ البطانَةِ، واحفَظْهُمَ منْ كيدِ أهلِ البغيِ والخيانةِ، ربَّناَ آتِناَ في الدُّنياَ حسنةً؛ وفي الآخرةِ حسنةً؛ وقنا عذاب النَّار.
…عبادَ اللهِ:
…اُذكرُوا اللهَ ذِكراً كثيراً، وكبِّروهُ تَكبيراً، { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } { العنكبوت: 45 } .
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(137/7)
اطبع هذه الصحفة
الشيخ عبدالله بن خلف الدحيان من علماء الكويت
معاشرَ المسلمين:
إن خيرَ ما تأنَسُ به الأرواحُ، وتجدُ فيه اللذةَ والأُنْسَ والارتياحَ، بعد نُصوصِ الوَحْيَيْنِ، وقَصَصِ الأنبياءِ والمرسلين، إنما هي أخبارُ العلماءِ العاملين، والأئمةِ الرَّبانِيين، حيث نجدُ فيها العظةَ والمعتبرَ، والصدقَ والنجاةَ والمُدَّكَر، لذلك جاء النصُّ عليها بالأمر: { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } { الأعراف: 176 } ، فأخبارُ العلماءِ العاملين، والنُّبَهاءِ الصالحين، من خَير الوسائلِ، التي تَغرِسُ في النفوسِ الفضائلَ، بل تَبعثُها إلى التأسِّي بِذَوِي التضحياتِ والعَزْمات، لِتَسْمُوَ إلى أعلى الدرجاتِ، وأشرفِ المقاماتِ، ومِن هنا قال أحدُ السَّلَفِ:" الحكاياتُ جُندٌ مِن جُنودِ الله تعالى، يُثَبِّتُ اللهُ بها قلوبَ أوليائهِ"، ويقول الإمامُ أبو حَنيفةَ:" الحكاياتُ عن العلماءِ ومحاسِنِهم أحبُّ إليَّ مِن كثيرٍ من الفقه، لأنها آدابُ القومِ ".
أيَّتُها الوجوهُ النَّضِرةُ:
وبين أيدينا أخبارٌ عَطِرَةٌ، لشيخِ العلماءِ الخِيَرَةِ، عالِمٌ جليلٌ من علماءِ الكُويَت، حَسَنُ السِّيرةِ والهيئةِ والسَّمْتِ، قال عنه المؤرخُ عبدُ العزيزِ الرشيدُ ـ رحمه الله ـ:" هو من أجَلِّ علماءِ الكويت وأصلحِهِم، وقد امتاز عليهم بالهدوءِ والسكونِ وحُسْنِ المعاشرةِ، وبالأخلاقِ الفاضلةِ، والآدابِ الجَمَّةِ التي يُغْبَطُ عليها ، قَلَّما يُسِيءُ إلى جليسِه، مَهما بَدرَ منه، صَبِرٌ على الشدائدِ،جَلْدٌ على المصائب"، وقال عنه الشيخُ عبدُ اللهِ البسَّام ـ رحمَه الله ـ:" ولازِلنا نسمعُ الأخبارَ العجيبةَ عن وَرَعِه وزُهدِه واستقامَتِه"
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة بتاريخ
12من شوال 1427هـ الموافق 3 /11/2006م
الشيخ عبدالله بن خلف الدحيان من علماء الكويت(138/1)
الحمدُ لله الذي جعلَ في كلِّ زمانٍ أئمةً عُدولاً، وجعل لهم في قلوبِ الخلقِ محبةً وقَبولاً، أحمدُه سبحانَه وأشكرُه ولا يزالُ فضلُه لعبادِه مأمولاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له أكْرِمْ به رَباً معبوداً ومسؤولاً، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه شَرُفَ عبداً ورسولاً، صلى الله وسلَّمَ عليه وعلى آله وصحبِه الذين كانوا في سبيلِ الله سيفاً مسلولاً، وعلى الحقِّ والصوابِ نُزولاً، وعلى تابعيهم بإحسانٍ ما تعاقب الجديدان بُزوغاً وأفُولاً.
أما بعدُ:
فأوصيكم - أيها الناسُ - ونفسي بتقوى الربِّ الأكرمِ، فمن عصاه خاب وخَسِرَ ونَدِمَ، ومن اتَّقاه أفلحَ في دنياه وسَلِمَ، واستبشر في أُخراه وغَنِمَ، فالمتقون خيارُ الناسِ في كلِّ الأممِ، يقول الله تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ } { الحجرات:13 } معاشرَ المسلمين:
إن خيرَ ما تأنَسُ به الأرواحُ، وتجدُ فيه اللذةَ والأُنْسَ والارتياحَ، بعد نُصوصِ الوَحْيَيْنِ، وقَصَصِ الأنبياءِ والمرسلين، إنما هي أخبارُ العلماءِ العاملين، والأئمةِ الرَّبانِيين، حيث نجدُ فيها العظةَ والمعتبرَ، والصدقَ والنجاةَ والمُدَّكَر، لذلك جاء النصُّ عليها بالأمر: { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } { الأعراف: 176 } ، فأخبارُ العلماءِ العاملين، والنُّبَهاءِ الصالحين، من خَير الوسائلِ، التي تَغرِسُ في النفوسِ الفضائلَ، بل تَبعثُها إلى التأسِّي بِذَوِي التضحياتِ والعَزْمات، لِتَسْمُوَ إلى أعلى الدرجاتِ، وأشرفِ المقاماتِ، ومِن هنا قال أحدُ السَّلَفِ:" الحكاياتُ جُندٌ مِن جُنودِ الله تعالى، يُثَبِّتُ اللهُ بها قلوبَ أوليائهِ"، ويقول الإمامُ أبو حَنيفةَ:" الحكاياتُ عن العلماءِ ومحاسِنِهم أحبُّ إليَّ مِن كثيرٍ من الفقه، لأنها آدابُ القومِ ".
أيَّتُها الوجوهُ النَّضِرةُ:(138/2)
وبين أيدينا أخبارٌ عَطِرَةٌ، لشيخِ العلماءِ الخِيَرَةِ، عالِمٌ جليلٌ من علماءِ الكُويَت، حَسَنُ السِّيرةِ والهيئةِ والسَّمْتِ، قال عنه المؤرخُ عبدُ العزيزِ الرشيدُ ـ رحمه الله ـ:" هو من أجَلِّ علماءِ الكويت وأصلحِهِم، وقد امتاز عليهم بالهدوءِ والسكونِ وحُسْنِ المعاشرةِ، وبالأخلاقِ الفاضلةِ، والآدابِ الجَمَّةِ التي يُغْبَطُ عليها ، قَلَّما يُسِيءُ إلى جليسِه، مَهما بَدرَ منه، صَبِرٌ على الشدائدِ،جَلْدٌ على المصائب"، وقال عنه الشيخُ عبدُ اللهِ البسَّام ـ رحمَه الله ـ:" ولازِلنا نسمعُ الأخبارَ العجيبةَ عن وَرَعِه وزُهدِه واستقامَتِه"، وقال عنه أحدُ شعراءِ زمانهِ:
فهو شيخُ العلمِ والأعمالِ في طُهْرِ الرضَّيعِ
وهو في التقوى مَلَكٌ ذُو سجودٍ وركوعِ
طَلَّقَ الدنيا ثلاثاً بائناً دونَ رجوعِ
أتدرونَ ـ يا رعاكم الله ـ من ذا الذي تُعَطِّرونَ أسماعَكم بذكرِ شيءٍ مِن سيرتِهِ، وقَبَسٍ مِن أخبارهِ وطريقَتهِ، إنه الشيخُ الأوحَد، والعالِمُ الأمجدِ، زينةُ علماءِ الكويت، ذائعُ السُّمعةِ الحَسَنَةِ والصِّيتِ، إنه الشيخُ العالِمُ: عبدُ اللهِ بنُ خَلَفِ بنِ دَحيانِ الحربي.
وُلدَ عامَ اثنينِ وتسعين ومائتينِ بعد الألفِ مِنَ الهجرةِ، نشأ نشأَةً دينيةً في كَنَفِ والدِه، ولازَمَ الشيوخَ والعلماءَ في الكويتِ وما حَوْلها، حتى كَثُرَت رحلاتُه، وتعدَّدت مَسمُوعاتُه، ولم تَمضِ سُدىً أوقاتهُ ، حتى حصل على عِلمٍ غزيرٍ ، وفضلٍ مُنير.
يقول عنه أحدُ طُلابِه :" كان الشيخُ من مفاخرِ زمانِنا هذا، كثيرَ الحياءِ، عظيمَ الوفاءِ، محباً للمساكين، جَوّاداً سَخِياًّ، مَن رآهُ كأنما رأى بعضَ الصحابةِ، وكأنَّ النورَ يخرجُ من وجهه، كثيرَ العبادةِ، ينتفعُ الرجلُ برؤيتهِ قبل أن يَسمَع كلامَه، ومجلسُه عامرٌ بأهل العلمِ والصلاحِ ".(138/3)
ويقول عنه تلميذه الشيخُ عبدُ الله النوري ـ رحمه الله ـ:" والذين عرفوا عبدَ الله بنَ خلف، عرفوا فيه رجلاً تقيّاً متواضعاً لله في نفسِه، عظيماً في أَعْيُنِ الناسِ، يقضي نهارَه مُعَلِّماً للناس، واعظاً لهم ، حَلّالاً لمشاكلهم، مُفْتِياً في قضاياهم، يقرأُ القرآنَ، ويتدبَّرُ معانيه، ويستنتجُ منه أحكامَه، يعبدُ اللهَ، ويختلطُ بالناسِ، يجلسُ في مجلسِه لهم، ويعودُ المرضَى، ويُهَنِّئُ أو يُعَزِّي، عَرَفه عارِفوه بأنه قويُّ الإرادةِ، مَضَّاءُ العزيمةِ، صادقُ القولِ، وفيٌّ بالعهدِ، محافظٌ على الوعدِ، لا تعرفُ همتُه الكسلَ ولا المللَ، ولم يُذكَر عنه أنه أضاعَ ساعةً من عُمُرِه في لَهْوٍ أو عَبَثٍ"، " لم يلبسْ فاخرَ اللباسِ، ولا انتعلَ بِغالِي النِّعالِ، بل كان يكتفي منها بما يَكفيهِ، بما يَرُدُّ عنه غائلةَ بَرْدٍ، أو يمنَعُ عنه وَقْدَةَ حرٍّ، وكان مَهِيبَ الطَّلْعةِ، نُورانِيَّ الوجه، خَفِيضَ الصوتِ، يرى فيه رائِيه جمالَ التقوى، وثُبوتَ الجَنان، فإذا تكلَّم تكلَّم لله، يُحِسُّ منه سامِعُه نُصْحاً وإرشاداً وتوجِيهاً، ودعوةً إلى اللهِ وإلى طاعةِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - ".
وإذا سَخَّرَ الإلهُ أُناساً لسعيدٍ، فإنهم سُعَدَاءُ
إخوةَ العِلمِ والعملِ:(138/4)
ولقد تَوَّجَ الشيخُ هذا العلمَ الجَمَّ، والتعبُّدَ والتواضعَ الفذَّ، بِوَرعِهِ المشهورِ عَنه، وإنَّه لعُمَلةٌ نادرةٌ في هذا الزمانِ، حتى مِن أهلِ العلمِ والإيمانِ، ومما ذُكِرَ عَن وَرَعِهِ – رَحِمَه الله- أن الشيخَ أحمدَ الجابرَ ـ رحمه الله ـ حاكمَ الكُويتِ آنذاك، أرسلَ له مبلغاً من المالِ عظيما، وقال له: إنه ليس من الجُمْركِ بل من خالصِ المالِ و حلالِه إكرامًا للعلماء، فأَخَذَها الشيخُ عبدُ الله وأخرجَها وعدَّها، و أظهرَ كأنه قَبِلَها، حتى لا يكونَ في الخاطرِ شيءٌ، ثم أعادَها إلى رسولِه، وقال: أرجِعْها و قل له: أنتم ذُخْرٌ إذا احتجتُ إليها أَخذْتُها " .
هكذا كانَ ورعُه، يَفِرُّ من الأغنياءِ والوُجهاءِ، مُتَحَبِّباً إلى المساكينِ و الفقراءِ، يكره أن يُذكَرَ بِحَمدٍ أو ثناءٍ، وهذه - وَأيمُ الله - أخلاقُ العلماءِ .
أيُّها النُّبلاءُ:
وحينَ شَغرَ منصبُ القضاءِ، توجَّه الأميرُ والوجهاء، طالبين من الشيخِ أن يَلِيَ هذا المنصبَ ، فأَبى ولكن أين المفرُّ والمهربُ، ولا نظيرَ له في العلمِ والتُّقى والأدبِ، فَقَبِلَ على أن يكونَ فيه نائباً لا أصيلاً، إلى أن يجدوا مكانَه بديلاً.
يقول تلميذُه عبدُ الله النوري ـ رحمه الله ـ:" وعدلُه المشهورُ يدلُّ على صِدقِ إيمانِه، وَثباتِ يقينهِ بِربِّهِ، وَلِيَ القضاءَ فحكمَ وعَدَل، ولم يَخَفْ في اللهِ لَوْمةَ لائمٍ، ولا بطشَ ظالمٍ، يأتيه الخَصْمان فيسمعُ من كلٍّ منهما حُجَّتهَ، ثم يعرضُ عليهما الصُّلحَ، فإن قَبلا و إلا حَكَم بما يعتقدُ أنه الحقُّ، فيخرج الخَصْمان وكلاهما راضٍ بِحُكمهِ العدلِ، داعٍ له بالخير" .(138/5)
وكان الشيخُ أحمدُ الجابرُ – رحمه الله - يحضُرُ بعض مجالِسِ القَضاء، فكلَّما صَدَر الحكمُ مِن قِبَلِ الشيخِ عبدِ الله أخذهَ الأميرُ ووضعهُ على رأسِهِ، توقيراً لِحُكْم الشَّرعِ، وتبجيلاً لهذا الشيخِ الوَرِعِ، ولم يلبثِ الشيخُ في هذا المنصبِ إلا عاماً واحداً حيثُ تُوُفِّيَ بعدَها، وقد أدَّى الذي عليه ، مُحْتَسِباً، لم يأخذْ عليه أُجرةً.
قد راوَدوك على القضا إِذ لم يَكُنْ أَوْلى بذلِك من جَنابِكَ يعلمُ
فأبيتَ جُهدَك هاربًا من منصبٍ قَلَّتْ سلامةُ مَن عليه تَسَنَّمُوا
حتى إذا لم ينتَهُوا ورأَيْتَهُم قَدْ أكْرَهوكَ لبِثتَ عاماً تَحْكُمُ
وتركتَ أرزاقَ القُضاةِ تَرَفُّعاً عنها فما الدينارُ أو ما الدرهمُ ؟
فعليكَ مِن مولاكَ أوْسَعُ رحمةٍ لا تنتهي وتحيةٌ و تَكَرُّمُ
بارك اللهُ لي و لكم في الوحيين، وَبِسِيَرِ العلماءِ العاملين، أقولُ ما تسمعون، و استغفر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين،إنه خيرُ الغافرين .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله القائل: { إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } { فاطر:28 } ، و أشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له المتفرِّدُ بالعزةِ والبقاءِ، و أشهدُ أن محمداً عبدُه و رسولُه سيدُ الأصفياء، و خاتَمُ الرُّسُلِ والأنبياءِ، صلى الله وسَلَّمَ عليه وعلى آلهِ وصحبه أُولي الفضلِ و الوفاءِ، صلاةً و سلاماً تامَّيْنِ دائمينِ أبداً إلى يومِ النِّداءِ.
أما بعدُ :
فاتقوا الله أيها العقلاءُ، وتأمَّلوا في أخبارِ مَن سَبَقَ من العلماءِ، ثم أَتْبِعوها العَملَ والاقتداءَ .
إِخوةَ الإسلامِ :
ومِن مَآثِرِ هذا الشيخِ الهُماَم، أنه لما قَعدَ الدهرُ ببعضِ خُصومِهِ وأَقْرَانِهِ، زارَه الشيخُ في منزلِه وعَطَفَ عليه، و دَسَّ النفقةَ سِراً تحتَ بِساطِهِ.(138/6)
وكان الناسُ يَقصِدُونه مِن أماكنَ بعيدةٍ، ليحضُروا خُطبةَ الجمعةِ عندَه، وكانوا يدفعون بجنائِزِهم من نواحِي الكويت، ليصلِّيَ عليها و يدعُوَ لها، لما رَأَوْا من صلاحِه وإخْباتِه.
أيها الأحبةُ في الله:
وبعد سبعةٍ و خمسين عاماً قضاها الشيخُ في العلمِ والتعليمِ والإِفادة، وفي العبادةِ والزَّهادَةِ، أَلَمَّ بالشيخِ مرضُ ذاتِ الجَنْب، حتى كانت مَنِيَّتُه قُبَيْلَ فجرِ يومِ الإثنينِ في الثامنِ والعشرينَ من رمضانَ لعامِ تِسعٍ وأربعينَ و ثَلاثِمَائةٍ من الهجرةِ(349هـ). يقول تلميذُه المؤرخُ الرشيدُ ـ رحمه الله ـ: " آهٍ ما أتعسَ الكويتَ، بعد أن انطفأَ مصباحُها الوضَّاء، وخَسَفَ قمرُها المنير، ونَضَب نهرُها العذْبُ، فإناّ لله و إناّ إليه راجعون ".
وقد كانت جِنازتُه حافلةً، شَهِدَها الشيخُ أحمدُ الجابرُ والأعيانُ والعامةُ، وكانَ أولُ المشيعِّين في المقبرةِ وآخرُهم عند المسجد، و لله دُرّ القائل:" عاش خَزَنَةُ العِلمِ و هم أموات ".
يموتُ الملوكُ و الأمراءُ، و الأغنياءُ و الوزراءُ، وكلُّ هؤلاءِ يُعوَضَّونَ، أما العلماءُ فلا، فعن عبدِ الله بن عمروٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنَّ الله لا يقَبِضُ العلمَ انتزاعاً ينتزِعُه من العبادِ ولكنْ يَقْبِضُ العلمَ بِقَبْضِ العلماءِ، حتى إذا لم يَبْقَ عالمٌ اتخذَ الناسُ رؤوسًا جُهَّالاً فسُئِلوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلمٍ فَضَلّوا وأضلُّوا ".[ أخرجه البخاري].
وهذه دروسٌ وعِبَرٌ، من أخبارِ العلماءِ علماء الخير، تُعينُ على الحقِّ والدين، والنجاحِ في شَتَّى الميادينِ، ألا فَلْنَعْتَبِرْ بأحوالِهم، وَلْنَسِرْ على مِنوالِهم، عَلّ اللهَ أن يُلحِقَنا بهم.(138/7)
ثم صلّوا و سَلِّمُوا ـ حَفِظَكَم اللهُ ـ على الهادي البشيرِ، والسِّراجِ المنيرِ، كما أمرَ اللطيفُ الخبيرُ، فقال سبحانه: { إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ علَى النَّبِيِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . { الأحزاب:56 } .
اللهمَّ إنّا نَسألُكَ أن تَرُدَّنا إلى كتابِكَ رَدًّا جميلاً, وأن تَرْزُقَنا قراءتَهُ آناءَ الليلِ وأطرافَ النهارِ, وأن تَرْزُقَنا العملَ بهِ والوقوفَ عندَ أوامرِهِ ونواهِيهِ. اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ, وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ, ودَمِّرِ اللهمَّ أعداءَك أعداءَ الدينِ. اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ, والمسلمينَ والمسلماتِ, الأحياءِ منهم والأمواتِ, إنَّك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ.
اللهمَّ وَفِّقْ أميرَنا وولِيَّ عهدِهِ لِهُداك, واجْعَلْ عملَهما في رِضاك. اللهمَّ احْفَظْهُما بِحِفْظِك, واكْلأْهُما بِرِعايتِكَ, وأَلْبِسْهُما ثوبَ الصحةِ والعافيةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ. اللهُمَّ اجعلْ هذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخاءً رَخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتَقَبَّلِ اللهمَّ شُهداءَنا وشُهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
لجنة الخطبة المذاعة الموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(138/8)
اطبع هذه الصحفة
المسلم أخو المسلم
فنعمة الإسلام هي النعمة الكبرى التي جمع الله تعالى المسلمين تحت ظلالها الوارفة، لينعموا بما في الإخاء الإسلامي من محبة وإيثار، وتعاون وتكافل ورحمة وصدق الله العظيم {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29]، وهذه الرحمة تتجاوز كل دواعي الشح والبخل، {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9].
ونعمة الإخاء هذه تجلت في أروع صورها في حياة الرسول(صلي الله عليه وسلم)، وسيرته مع أصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه.
المسلم أخو المسلم
الحمد لله الذي اجتبانا لطاعته، وأخلصنا لعبادته، أعز المؤمنين بعزته، وأذل المشركين بجبروته وقدرته، سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، جعل المؤمنين إخوة في الله، وحبب إليهم الإيمان، وملأ وجدانهم سكينة وأمناً، فائتلفت منهم القلوب، وصفت النفوس، ذكرنا سبحانه بجليل نعمته، وامتن علينا بكريم هدايته: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} [ آلعمران: 103].
فله الحمد في عليائه على ما تفضل وأنعم، وله الشكر على ما هدانا واجتبانا {وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} [الأعراف: 43].
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، جاءنا بالهدى وكتاب مبين، فرق به بين الحق والباطل وبين الهداية والضلال، جعل المسلمين أمة هي خير أمة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وترعى حرمة الدين والنفس والعرض والمال، تنصر الحق، وتدفع الظلم وتقيم موازين العدل، لا تأخذها في الحق لومة لائم.. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(139/1)
فإن من أجل نعم الله تعالى علينا ـ أمة الإسلام ـ وأحقها بالشكر نعمة الإيمان والإسلام والإخاء في الله تعالى، وهي نعمة تردد ذكرها في كتاب الله تعالى في أكثر من آية كريمة، قال تعالى:
{واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} [آل عمران: 103].
( 2 )
فنعمة الإسلام هي النعمة الكبرى التي جمع الله تعالى المسلمين تحت ظلالها الوارفة، لينعموا بما في الإخاء الإسلامي من محبة وإيثار، وتعاون وتكافل ورحمة وصدق الله العظيم {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29]، وهذه الرحمة تتجاوز كل دواعي الشح والبخل، {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9].
ونعمة الإخاء هذه تجلت في أروع صورها في حياة الرسول(صلي الله عليه وسلم)، وسيرته مع أصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه.
وكانت الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وهجرة المسلمين السابقين هي الصورة المثلى لذلك الإخاء الإسلامي الذي قدم للإنسانية أروع صور المحبة والإخاء والإيثار، وتتحدث كتب السير عن أنه لم ينزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة، وذلك من تسابق الأنصار على استضافة المهاجرين الوافدين من مكة إلى المدينة فراراً بدينهم من وجه طغيان الشرك والمشركين.
وقد حرم الإسلام كل ما يؤذي المسلم في أي جانب من جوانب حياته يقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه معلماً لنا وللإنسانية جمعاء "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله" [رواه مسلم].(139/2)
ويقول نبي الرحمة "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة" [متفق عليه] هذه آيات ربنا وسنة نبينا وأخلاق سلفنا الصالح بها عز المسلمون وسادوا ودانت لهم الدنيا، يوم أن كانوا إخوة متحابين في الله لا تشغلهم نزغات أنفسهم عن أنوار الهداية الربانية، يتوجهون إلى الله تعالى بالدعاء ضارعين {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} [الحشر: 10].
( 3 )
ومما يستوجب الحمد والثناء على الله تعالى منا في هذا البلد الطيب أن أنعم الله تعالى علينا بنعمة الإخاء والمودة والتكافل والتراحم، فلم تمتد يد بالإيذاء لمسلم، ولم تنتهك أية حرمة من حرماته أو ينتقص أي حق من حقوقه، وعلينا واجب الشكر على هذه النعمة، ليزيدنا الله من جليل نعمه {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديدْ} [إبراهيم: 7].
أما أولئك الذين بسطوا أيديهم إلينا بالسوء، وتجاوزوا حدود ما أنزل الله على رسوله، ولم يراعوا حرمة لمسلم ولا حقاً لجار ولا شكراً لنعمة فإن الله تعالى قد أخزاهم ورد كيدهم إلى نحورهم فباؤوا بغضب على غضب ولهم عذاب أليم.
والمسلم المسدد يأخذ العظة والعبرة من الأحداث التي تمر به، والتجارب التي يخوضها، وهذه العظة والعبرة ليست من أجل الثأر والانتقام فحاشاً لله أن يكون لذلك حظ في نفوسنا، لأننا وقافون عند أمر الله تعالى، وهذا ما يجب أن يستقيم عليه أمرنا فقد كنا ـ دائماً ـ ساعين إلى الصلاح والإصلاح مهتدين بقول الحق تبارك وتعالى:{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} [الحجرات: 9].(139/3)
وإن المسلم الحق هو الذي يزداد من الله قرباً كلما ألمت به نازلة أو أصابه مكروه {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة:155، 156، 157 ].
وقد عافانا الله تعالى مما نزل بنا من عدو غادر غاشم لم يرع حرمة، ولم يوفر كرامة، ولم يخش المنتقم الجبار، فأذاقه الله تعالى الخزي في الدنيا وله في الآخرة عذاب عظيم.
وواجبنا أن نركع في محراب الطاعة، ونقي أنفسنا وأهلينا مصارع التهلكة فها هي حروب جديدة ومدمرة يشنها علينا أعداء أشرار يريدون تحطيم بنية المجتمع وتدمير الأجيال الجديدة من أبنائنا بإذاعة الفساد ونشر المخدرات في حرب أشد خطراً وأعظم نكراً، لأنها تستهدف إرادتنا وقوة عزيمتنا، وثوابت الإيمان في نفوسنا.
( 4 )
ولما كان التجاؤنا إلى الله تعالى هو سلاحنا الأول في معركة العدوان الغاشم منذ عشر سنوات فكذلك اليوم يجب أن ندير المعركة ضد أوكار الفساد وجيوش الانحلال وتجار السموم، ونحشد لها ما أوتينا من قوة ولا عاصم لنا منها إلا بالتربية الإسلامية التي يجب أن نأخذ بها أبناءنا وبناتنا، وإلا بالقصاص العادل والعقاب الصارم بأولئك الأشرار الذين يريدون تدمير أعز ما نملك وأغلى ثروة حبانا الله إياها، وهم أولئك الأبناء الذين نعدهم للمستقبل ونعلق عليهم أمالاً كباراً نرجو بها الخير لهم ولهذا الوطن العزيز ولأمتهم الإسلامية جمعاء.
فلتكن لنا وقفة صادقة مع الله تعالى، ننصره فيها لينزل علينا نصره، ويدفع عنا هذا البلاء {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} [الحج: 38].
نسأل الله تعالى أن يهيئ لنا من أمرنا رشدا ويهدينا سواء السبيل.
إنه نعم المولى ونعم النصير.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:(139/4)
لقد اهتم الإسلام برعاية الشباب، وعمل على حسن تربيتهم، وتحصينهم من خطر الانحراف، وذلك لأن الشباب في كل أمة عماد مجدها، وبناة نهضتها، وهم الذين يدافعون عنها، ويذودون عن حماها، ولقد أثنى النبي(صلي الله عليه وسلم) على الشباب النافع المجد المؤمن بربه، الذين يبنون شخصيتهم بالعلم والعمل، ويحفظون أنفسهم من اتباع الهوى والشيطان، وشهوات النفس وقرناء السوء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي(صلي الله عليه وسلم) قال"سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله... وعد منهم: شاب نشأ في عبادة ربه". [الحديث رواه مسلم].
من أجل ذلك تعتزم إدارة الإعلام الديني بوزارة الأوقاف القيام بحملة إعلامية تحت عنوان
[قادمون] وتحت شعار [بارك الله فيكم] تستهدف بذلك مخاطبة الشباب من الجنسين لإبراز القيم الإسلامية الأصيلة، التي تسهم في الحفاظ على الهوية الإسلامية لشعبنا وأمتنا.
فقوموا أيها الشباب وانهضوا لبناء مجدكم ووطنكم، ولإثبات ذاتكم بالعمل البناء والعلم النافع المفيد، قوموا لإعمار وطنكم مع المحافظة على تراث الآباء والأجداد لنقول لكم [بارك الله فيكم]، ونفع بكم الوطن والإسلام والمسلمين، بروا آباءكم، وتواضعوا لهم، و حافظوا على تراثهم مع إضافة كل جديد نافع لكم ولوطنكم، يبني ولا يهدم، ينفع ولا يضر.
اللهم إنا نسألك أن تؤيد بنصرك الإسلام والمسلمين، اللهم احفظ بعينك التي لا تنام صاحب السمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين، وأن توفقهم لما فيه صلاح الدنيا والدين، وأن تشد أزرهم ببطانة صالحة، تعينهم على الخير وتنصح لهم بالمعروف.(139/5)
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل لأسرانا من عسرهم يسرا، ومن ضيقهم فرجاً، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً، سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين يار ب العالمين، اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم العظيم ذنباً إلا غفرته، ولا عيباً إلا سترته، ولا هماً إلا فرجته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ظالماً إلا أخذته وأهلكته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضا ولنا صلاح إلا قضيتها بمنك وكرمك، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين واختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين.
قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(139/6)
اطبع هذه الصحفة
الصلاةَ الصلاةَ
…أيُّها المسلمونَ:
…إنَّ مِن أعظمِ العباداتِ في الإسْلاَمِ وأكثرِهَا اتصالاً باللهِ سُبحانه خَالقِ الأنَامِ: الصلاةَ، قالَ اللهُ تعالىَ: { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } { البقرة : 43 } . تِلْكُمُ هِي العبادةُ التِي كانَ يفزَعُ إليهَا نبيُّنا محمدٌ عليهِ الصلاةُ والسلامُ إذاَ حزَبَهُ أمرٌ، وقُرَّةُ عينهِ إِذَا ضاقَتْ عليهِ المسالكُ " قُمْ ياَ بلالُ فأَرِحْنَا بالصَّلاةِ ".[ أخرجه أبو داود].
الخطبة المذاعة والموزعة بتاريخ
19من شوال 1427هـ الموافق 10 / 11 / 2006م
الصلاةَ الصلاةَ
…الحمدُ لله، أحمدُه سبحانَه وأشكُره، وأسبِّحُه وأقدسُه، لَم يزلْ بِنعُوتِ الجلاَلِ والكَمالِ متصفاً، وأشهدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لاَ شريكَ لهُ، مُقراً بوحدَانيَّتِه ومُعْترِفاً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسُولُه، الرسولُ المصطفَى، والنُّبي المُجتبَى، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وأصحاَبِه ومن سَار علَى نهِجِهم المُبَاركِ واقتفى.
…أمَّا بعدُ:
…فأُوصِيكُم بتقوَى اللهِ ربِّكُم ربِّ العَالمينَ، وكُونُوا بديِنكُم مُسْتمسِكِينَ، وبأركَانهِ قَائمِينَ، وعلى عمُودِه محافظِينَ، وفيِه خَاشِعينَ خَاضِعِينَ، تَسْلُكوا سَبِيلَ المفلِحينَ، وتفُوزُوا بمغفرةِ الغفورِ الحليمِ، وتهنؤُوا فِي الجِنَانِ بمعّيةِ مَنْ أنْعمَ اللهُ عليِهم من النبَّييِنَ والصدِّيقِينَ والشُّهدَاءِ والصالحينَ، وحَسُنَ أولئِكَ رفيقاً.
…أيُّها المسلمونَ:(140/1)
…إنَّ مِن أعظمِ العباداتِ في الإسْلاَمِ وأكثرِهَا اتصالاً باللهِ سُبحانه خَالقِ الأنَامِ: الصلاةَ، قالَ اللهُ تعالىَ: { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } { البقرة : 43 } . تِلْكُمُ هِي العبادةُ التِي كانَ يفزَعُ إليهَا نبيُّنا محمدٌ عليهِ الصلاةُ والسلامُ إذاَ حزَبَهُ أمرٌ، وقُرَّةُ عينهِ إِذَا ضاقَتْ عليهِ المسالكُ " قُمْ ياَ بلالُ فأَرِحْنَا بالصَّلاةِ ".[ أخرجه أبو داود].
…الصلاةُ فيِ الإسلامِ لهَا المنزلةُ العُلْيا والمرتبةُ السنيَّةُ، فَهِي عمودُ الدِّيانَةِ ورأسُ الأمَانةِ " رأسُ الأمْرِ الإسلامُ وعَمودُه الصلاةُ "[ أخرجه الترمذي ]. فرضَهَا اللهُ علَى عبادِه في أشرَفِ مَقامٍ وأرفعِ مكانٍ تنبيهاً علَى شرفِهَا وعلوِّ قَدْرِهَا: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى - فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى - فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } { النجم:8 – 10 } .
…الصَّلاةُ – عبادَ اللهِ – صِلَةٌ بينَ العبدِ وربِّهِ، قالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ :" أقربُ ما يكونُ العبدُ مِنْ رَبِّهِ وهُوَ سَاجِدٌ "[ أخرجه مسلم ]. وهِيَ المعينُ الأكبرُ علَى تركِ الفحشاءِ واجتنَابِ المنكَرِ: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } { العنكبوت :45 } . الصلاةُ مَجْلبةٌ للرِّزقِ: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ } { طه : 132 } . إنَّها أولُ ما يُسأَلُ عنهُ العبدُ يومَ القيامةِ، فإنْ قُبِلَتْ قُبِلَ سائرُ العمَلِ، وإنْ رُدَّتْ رُدَّ سَائرُ العملِ.وهِيَ: آخرُ مَا أوصَى بهِ النبُّي - صلى الله عليه وسلم - أمَّتهُ وهُوَ علَى فِراشِ الموتِ منادياً:" الصلاةَ الصلاةَ اتقوُا اللهَ فِيمَا ملكتْ أيمانُكُمْ " [أخرجه أبو داود].(140/2)
…الصلاةُ – عبادَ اللهِ – غِذَاءُ القلوبِ وزادُ الأرواحِ، فيهَا أُنْسُ المسلمِ وسلَواهُ، تجلُو صدأَ القلوبِ بأنْوارِهَا وتغيّرُ الوجُوهَ بأسرَارِهَا وآثَارِهَا.
…أيُّها المسلمونَ:
…الصلاةُ هي:ناصيةُ القُربَات وعِزٌ الطاعَاتِ، قالَ عليِه الصلاةُ والسلامُ:" الصلاةُ خيرُ موضوعٍ، فَمنْ استطاعَ أن يستكْثِرَ منهَا فليستَكْثِرْ "[ أخرجه الطبراني ]، وقالَ أيضاً:" استقِيمُوا ولَنْ تُحصوا، واعلمُوا أنَّ خيرَ أعمالِكُم الصلاةُ "[ أخرجه ابن ماجه ]، بل هِيَ: أحبُّ الأعمَالِ إلى اللهِ، فعنْ ابِن مسعودٍ - رضي الله عنه - قالَ: قلتُ ياَ رسولَ اللهِ: أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلىَ اللهِ؟ قالَ:"الصلاةُ علَى وقتِهَا". [أخرجه البخاري ومسلم] .
…والصلاةُ عبادةٌ عُظْمَى تُكفِّرُ السيئاتِ وتَمحُو الخََطايَا، قالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: " أرأيتُمْ لو أنَّ نهراً ببابِ أحدِكُم يغتسلُ مِنْه كلَّ يومٍ خَمْسَ مراتٍ، هلْ يبقَى من درنهِ شيءٌ؟ قالُوا: لا يبقَى مِنْ درنِه شيءٌ. قالَ: فذاكَ مَثلُ الصلواتِ الخمسِ يمحوُ اللهُ بهنَّ الخطايَا".[ أخرجه البخاري ومسلم ]، وعندمَا ذكَرَ النبُّي - صلى الله عليه وسلم - حُسْنَ الطهارةِ وإسباغَ الوضوءِ قالَ عَقِبَ ذلكَ:" فإنْ قامَ فصلَّى، فحَمِدَ اللهَ وأثْنَى عليهِ، ومَجَّدهُ بالذِي هُو لهُ أهلٌ، وفَرَّغَ قلبهُ للهِ إلاَّ انصرفَ مِنْ خطِيئَتِه كهيئَتِه يومَ ولدتْهُ أمُّه".[أخرجه مسلم]، في فَضَائِلَ لا تنحَصِرْ، ومآثِرَ لا تَنْقَضِي. قالَ ابنْ تيميةَ – رحِمَهُ اللهُ - :" أكثرُ أحاديثِ النبِّي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاةِ والجهادِ " .
…أيُّهاَ المسلمونَ:(140/3)
…إنَّ المسلمَ مأمورٌ بالمحافظةِ علَى الصلاةِ والمداومَةِ علَى أدائِهَا، فلا تَسْقُطُ عنهُ بحالٍ، ولَوْ كانَ حالَ الفَزعِ والقتَالِ: { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ - فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } { البقرة: 238–239 } .
ومن مأثُورِ الكَلِم عَنْ عمرَ الفاروقِ - رضي الله عنه - أنه كانَ يكتُبُ لأمراءِ الأمصَارِ:" إنَّ مِنْ أهمِّ أمُورِكُم عندِي الصلاةَ، فمنْ حفِظَها وحافظَ عليهَا حَفِظَ دينَهُ، ومن ضيعهَا فهُو لماَ سِوَاهَا أضيعُ".
…واعلموا عبادَ الله: أنَّ مِن أكبرِ الكبائرِ تركَ الصلاةِ تعمُّداً، وإخراجهَا عَن وقتِهَا كَسَلاً، بَلْ لا حظَّ فِي الإسلامِ لمنْ تركَ الصلاَة، فلاَ دِينَ لِمَنْ لا صلاةَ لهُ، قال عليهِ الصلاةُ والسلامُ:" بينَ الرجُلِ وبينَ الشركِ والكفرِ تركُ الصلاةِ "[أخرجه مسلم]، وقالَ أيضاً:" العهدُ الذِي بيننَا وبينهُم الصلاةُ، فمنْ تركَها فقدْ كفرَ "[أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه]، يقولُ الفاروقُ عمرُ - رضي الله عنه - :" لاَ إسلامَ لمنْ لاَ صلاةَ له ُ" ومِثْلُ هذا مرويٌ أيضاً عَنْ عليِّ بنِ أبِي طالبٍ - رضي الله عنه - قال عبد الله بن شقِيقٍ :" كانَ أصحابُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لا يرونَ شيئاً مِنَ الأعمالِ تركُه كفرٌ غيرَ الصلاةِ " .
…إنَّ تاركَ الصلاةِ محرومٌ مخذولٌ، مُتوعَدٌ بالهلاكِ والخُسْرانِ . قالَ تعالىَ: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً } { مريم : 59 } . وتأملُوا ملياً فيِ جوابِ أهلِ النَّارِ عندمَا يُسْألوُنَ عنْ سببِ دخولِهَا: { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ - قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } . { المدثر : 42 } .(140/4)
…إِنَّ تركَ الصلاةِ مصيبةٌ عظمىَ ونكبةٌ كُبْرى، بَل فواتُ صلاةٍ واحدةٍ مصيبةٌ تَعْدلُ مصيبةَ فقدِ الأهلِ وضياعَ المالِ، قالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ :" ومَنْ فاتتْه صلاةُ العصرِ فكأنماَ وُتِرَ أهلَهُ ومالَهُ ".[ أخرجه البخاري ومسلم ].
…أيُّهاَ المسلمونَ:
…أقِيمُوا الصلاةَ لوقتِهَا، وأسبِغُوا لهَا وضوءَهَا، وأتِّمُوا لهَا قِيامهَا وركُوعَها وسجودَها، تنالُوا خيرَها وتُدرِكُوا بركَتَها، قالَ تعالى: { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ..... } { النساء : 162 } .
باركَ اللهُ لِي ولكُم في القرآنِ العظيمِ. ونفعَنِي وإياكُم بمَا فيهِ من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ مَا تسمعونَ وأستغفِرُ اللهَ لِي ولكُم مِن كلِّ ذنبٍ فاستغفرُوه، إنَّه كانَ غفوراً حليماً.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ علَى إحسانِه، والشكرُ لهُ علَى توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ تعظيماً لشانِه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه الداعِي إلى رضوانهِ، صلَّى اللهُ عليِه وعلَى آلِه وأصحابِه وإخوانِه .
…أمَّا بعدُ: فياَ أيُّها المسلمونَ:
…اتقُوا اللهَ في السرِّ والعَلنِ، واجتنبُوا الفواحِشَ ما ظهرَ مِنْهَا وما بَطنَ واستمسِكُوا بالصلاةِ فإنَّها من أجلِّ القرباتِ والمننِ واعلمُوا أن مِن إقامِ الصلاةِ: المحافظةَ علَى الخشوعِ فيهَا فقدْ أثْنَى اللهُ علَى المؤمنينَ بالخشوعِ فِي صلاتِهم، فقالَ: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } { المؤمنون:1-2 } .
…أيها الأحبةُ في اللهِ:(140/5)
…إِنَّ الخشوعَ فِي الصلاةِ وحضورَ القلبِ فيهَا هُو روحُ الصلاةِ ولبُّهَا، فإذَا وقفَ العبدُ بينَ يَدَيْ خالِقه واستقرَّ فِي جنانِ عظمةِ اللهِ وجلالِه، وفرَّغَ قلبَه عن الصوارفِ عن اللهِ، وتخفَّفَ من مشاغِل الدنيَا، وقدرَ الأمرَ حقَّ قدِره، خَشعَ فِي صلاتهِ وأقبلَ عليهَا واستحقَ المدِيحَ القرآنَّي وكانتْ صلاتُه لهُ راحةً قلبيةً وطمأنينةً نفسيةً وقرةَ عينٍ حقيقية.
…وقد جاءَ فِي فضلِ الخُشوعِ في الصلاةِ أحاديثُ كثيرةٌ مِنْهَا قولُه - صلى الله عليه وسلم - :" خمسُ صلواتٍ افترضهنَّ اللهُ تعالىَ، من أحسنَ وضوءهُنَّ، وصلاهنَّ لوقتهنَّ، وأتمَّ ركُوعهنَّ وخشوعهُنَّ كانَ له علَى الله عهدٌ أنْ يغفِرَ لهُ"[أخرجه أبو داود]، ومنهَا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: " مَا مِن امرئٍ تحضُرهُ صلاةٌ مكتوبةٌ فأحسنَ وضوءَها وخشوعَها وركوعَها إلا كانتْ كفارةً لما قبلهَا من الذنوبِ ما لم يؤتِ كبيرة، وذلكَ الدهرَ كلَّه" [ أخرجه مسلم ].
…لقد ضربَ أسلافُكُم أروعَ الأمثلةِ في الخُشُوعِ، في سكُونٍ وإثباتِ ودموعٍ، فهذَا ابنُ الزبيرِ إذاَ قامَ في الصلاةِ، كأنَّهُ عُودٌ من الخشوعِ، وكانَ يسجُد فتنزلُ العصافيُر علَى ظهرِه لا تحسبُه إلا جذعَ حائطٍ.
…وكانَ عليُّ بنُ الحسينِ إذاَ توضأَ اصفرَّ لونُه، فقِيلَ لهُ: ما هذَا الذيِ يعتادُكَ عندَ الوضوءِ؟ فقالَ رحمهُ اللهُ:" أتدرُونَ بينَ يديْ مَنْ أريدُ أنْ أقومَ ".(140/6)
…ولمَّا سمعَ بعضُ السلفِ قولَ اللهِ تعالىَ: { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } { النساء:43 } قالَ:" كمْ من مُصَلٍّ لم يشربْ خمراً، هو في صلاتهِ لا يعلمُ ما يقولُ، قد أسكرتهُ الدنيَا بهمومِهَا". ألاَ وحافظُوا على أدائِها في الجماعاتِ، وفي بيوتِ اللهِ تعالى فإنَّها مِنْ أعظمِ القرباتِ، وأجلِّ الطاعاتِ ، قال الله تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } { النور:36 } ، وقالَ سبحانه: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } { التوبة : 18 } .
…اللهمَّ إنّا نَسألُكَ أن تَرُدَّنا إلى كتابِكَ رَدًّا جميلاً, وأن تَرْزُقَنا قراءتَهُ آناءَ الليلِ وأطرافَ النهارِ, وأن تَرْزُقَنا العملَ بهِ والوقوفَ عندَ أوامرِهِ ونواهِيهِ، اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ, وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ, ودَمِّرِ اللهمَّ أعداءَك أعداءَ الدينِ، اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ, والمسلمينَ والمسلماتِ, الأحياءِ منهم والأمواتِ, إنَّك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ.
…اللهمَّ وَفِّقْ أميرَنا وولِيَّ عهدِهِ لِهُداك, واجْعَلْ عملَهما في رِضاك، اللهمَّ احْفَظْهُما بِحِفْظِك، واكْلأْهُما بِرِعايتِكَ, وأَلْبِسْهُما ثوبَ الصحةِ والعافيةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اجعلْ هذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخاءً رَخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتَقَبَّلِ اللهمَّ شُهداءَنا وشُهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---(140/7)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(140/8)
اطبع هذه الصحفة
الحياة الزوجية: حقوقٌ وواجبات
أيُّها المسلمونَ:
…إنَّ مِنَ النِّعَمِ العظيمةِ الَّتي أسْداها إلينا ربُّنا الكريمُ جلَّ جلالُهُ: نعمةَ الزواجِ، نعمةَ اقترانِ الذَّكَرِ بالأنْثَى بالرِّباطِ الشَّرعيِّ والميثاقِ الغليظِ، بل إنَّ الزواجَ آيةٌ مِنْ آياتِ اللهِ تعالى الكُبرى الَّتي تدُلُّ على كمالِ عظَمَتِهِ وحِكْمَتِهِ, قالَ تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } { الروم: 21 } .
الخطبة المذاعة والموزعة بتاريخ
26من شوال 1427هـ الموافق 17/11/2006م
الحياة الزوجية: حقوقٌ وواجبات
…إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ, ومَنْ يضلِلْ فلا هاديَ لَهُ, وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ, وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ, صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ.
… { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمران:102 } .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } { النساء: 1 } .
… { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } { الأحزاب:70-71 } .
…أما بعد:(141/1)
…فأُوصيكم – عبادَ اللهِ – ونفسِي بتقوى اللهِ تعالَى وطاعتِهِ.
…أيُّها المسلمونَ:
…إنَّ مِنَ النِّعَمِ العظيمةِ الَّتي أسْداها إلينا ربُّنا الكريمُ جلَّ جلالُهُ: نعمةَ الزواجِ، نعمةَ اقترانِ الذَّكَرِ بالأنْثَى بالرِّباطِ الشَّرعيِّ والميثاقِ الغليظِ، بل إنَّ الزواجَ آيةٌ مِنْ آياتِ اللهِ تعالى الكُبرى الَّتي تدُلُّ على كمالِ عظَمَتِهِ وحِكْمَتِهِ, قالَ تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } { الروم: 21 } .
…فالعِلاقةُ الزَّوجيَّةُ عِلاقَةٌ خاصَّةٌ ومميَّزةٌ، وعقدُ الزَّواجِ عقدٌ فريدٌ ورباطٌ كريمٌ، جَعَلَ الإسلامُ لَهُ مكانةً عاليةً, ومنزلةً ساميةً, حتَّى قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :" إنَّ أحقَّ الشُّروطِ أنْ تُوَفُّوا بِهِ: ما اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوجَ " [متفق عليه من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -].
…عبادَ اللهِ:
…ولمّا كانَ الزواجُ بهذِهِ المنزلةِ والقداسَةِ, فَقََدْ شَرَعَ المولَى سبحانَهُ للزَّوْجَينِ أحكامًا, وجَعَلَ لكلِّ واحدٍ منهما على الآخَرِ حقوقًا؛ حتَّى تسيرَ حياتُهما في غايةِ الموَدَّةِ والوِئامِ، فعلَى الزَّوجينِ أنْ يتطاوَعَا وَلا يختلِفَا, وأنْ يتذاكرَا ويتناصحَا بطاعةِ اللهِ تباركَ وتعالى, فيتَّبِعَا الأحكامَ الشَّرعيَّةَ الثابتةَ بالكتابِ والسنَّةِ, وَلا يقدِّما علَيها عادةً مَوْروثةً, أو هوًى متَّبعًا, قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً } { الأحزاب:36 } .(141/2)
…وعلى الزَّوجينِ – كذلكَ - أنْ يلتزمَ كلٌّ منهمَا بما فَرَضَ اللهُ تباركَ وتعالى عليهِ مِنْ حقٍّ للآخَرِ, ونستطيعُ أنْ نُلَخِّصَ هذِهِ الحقوقَ لِنقولَ:
…إنَّ الواجبَ على المرأةِ تُجاهَ زوجِها: أنْ تطيعَهُ فيما يأمرُها بِهِ في جميعِ الأمورِ, سواءً أَكانتْ ممَّا تتعلَّقُ بخاصَّةِ نفسِهِ أمْ ممَّا يشتركانِ فيهِا مِنْ تربيةِ أولادِهما وصلاحِ أسرَتِهما, أمْ ممَّا تتعلَّقُ بالزَّوجةِ وحدَها, وذلكَ في حدودِ استطاعتِها وقدرتِها؛ فإنَّ اللهَ تعالى لا يكلِّفُ نفْسًا إلا وسعَها, وأنْ تكونَ طاعتُها لَهُ فيما ليسَ بمنكَرٍ؛ فإنَّما الطاعةُ في المعروفِ, ولا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالِقِ.
… عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قيلَ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أيُّ النِّساءِ خيرٌ ؟ قالَ:" الَّتي تسرُهُ إذا نَظَرَ, وتطيعُهُ إذا أَمَرَ, ولا تخالفُهُ في نفْسِها ولا مالِها بما يَكرَهُ"[أخرجَهُ أحمدُ والنَّسائيُّ].
…وحقُّ الزَّوجِ في الطَّاعةِ حقٌّ أكيدٌ وشديدٌ؛ فَقَدْ قالتْ عمَّةُ حُصينِ بنِ محصَنٍ: أتيْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في بعضِ الحاجَةِ فقالَ: " أيْ هذِهِ: أَذاتُ بَعْلٍ؟ " قلتُ: نعمْ. قالَ:"كيفَ أنتِ لَهُ؟" قالتْ: ما آلُوهُ أيْ: لا أقصِّرُ في طاعتِهِ وخدمتِهِ إلا ما عَجَزْتُ عنْهُ. قالَ:" فانظُرِي أين أنتِ منهُ ؟ فإنَّما هو جنتُكِ ونارُكِ"[ أخرجَهُ أحمدُ وغيرُهُ ].
…ولهذِهِ الطَّاعةِ فضلٌ عظيمٌ, وثوابٌ جزيلٌ؛ فَقَدْ قالَ - صلى الله عليه وسلم - :"إذا صَلَّتِ المرأةُ خَمْسَها, وحصَّنَتْ فرجَها, وأطاعَتْ بعلَها, دَخَلَتْ مِنْ أيِّ أبوابِ الجنَّةِ شاءَتْ "[ أخرجَهُ أحمدُ وغيرُهُ ].
…أيُّها المؤمنونَ:(141/3)
…وإنَّما كانتِ الطَّاعةُ واجبةً للزَّوجِ بسببِ ما فَضَّلَ اللهُ تعالى بِهِ الرِّجالَ على النِّساءِ, مِنَ القُوَّةِ والعقلِ والحَزْمِ, وَبما أوجبَ اللهُ تعالى عليهمْ مِنَ الإنفاقِ على النِّساءِ, كمَا قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء } { النساء:34 } أيْ: يَقُومُونَ عليهنَّ بالأمرِ والنَّهيِ, كما يقومُ الوُلاةُ على الرَّعايا { بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } { النساء :34 } , وكما قال سبحانه: { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } { البقرة:228 } .
…ومِنَ الأمورِ الَّتي يجبُ على الزَّوجةِ أنْ تطيعَ زوجَها فيهَا: أنْ لا تصومَ تطوُّعًا وهُوَ حاضِرٌ في البَلَدِ إلا بإذنِهِ, وأنْ لا تُدخِلَ بيتَهُ أحدًا إلا بإذنِهِ؛ لِما أخرجَهُ البُخاريُّ ومسلمٌ عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - ُ, عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ:" لا يحِلُّ لامرأةٍ أنْ تصومَ وزوجُها شاهِدٌ إلا بإذنِهِ, ولا تأذنَ في بيتِهِ إلا بإذنِهِ ", وفي روايةٍ لأحمدَ وأبي داودَ والنَّسائيِّ:" ولا تصومُ امرأةٌ وزوجُها شاهدٌ يومًا غيرَ رمضانَ إلا بإذنِهِ ".
…ويجبُ كذلكَ أن تطيعَهُ في دعوتِهِ لها إلى الفِراشِ؛ ففي صحيحِ البُخاريِّ ومسلمٍ, عنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إذا دعا الرَّجلُ امرأتَهُ إلى فراشِهِ فَلَمْ تأتِهِ فَبَاتَ عليها غضبانَ, لعنَتْها الملائكةُ حتَّى تصبحَ ", وفي روايةٍ:"... إلا كانَ الَّذي في السَّماءِ ساخِطًا علَيها حتَّى يرضَى عنْها ".(141/4)
…وعنْ عبدِ اللهِ بنِ أبي أوْفى - رضي الله عنه -, قالَ: لَمَّا قَدِمَ معاذٌ مِنَ الشَّامِ سَجَدَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.قالَ:"ما هذا يا معاذُ ؟! " قالَ: أتيْتُ الشَّامَ فوافَقْتُهم يسجدونَ لأَسَاقِفَتِهم وبَطَارِقَتِهم, فَوَدِدْتُ في نفسِي أنْ نفعلَ ذلكَ بكَ. فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :" فَلا تفعلُوا؛ فإنِّي لَوْ كنتُ آمِرًا أحدًا أن يَسجُدَ لغيرِ اللهِ, لأَمَرْتُ المرأةَ أنْ تسجدَ لزوجِها. والَّذي نفسي بيدِهِ, لا تُؤَدِّي المرأةُ حقَّ ربِّها حتَّى تؤديَ حقَّ زوجِها, وَلَوْ سألهَا نفْسَها وهِيَ على قَتَبٍٍِ أيْ: رَحْلِ بعيرٍ لمْ تمنعْهُ "[أخرجَهُ أحمدُ وابنُ ماجَةَ].
…باركَ اللهُ لي ولكُمْ بالقرآنِ العظيمِ, ونفعني وإياكمْ بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ, أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكُم ولسائرِ المسلمينَ فاستغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ, والعاقبةُ للمتقينَ, ولا عدوانَ إلا على الظَّالمينَ, وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ, الإلهُ الحقُّ المبينُ, وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ, إمامُ المتقينَ وخاتَمُ المرسلينَ, الَّلهمَّ صلِّ وسلِمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ, ومَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
…أمَّا بعدُ:
…فيا عبادَ اللهِ: اتقُوا اللهَ حقَّ تقواهُ, واعمَلُوا بطاعتِهِ ورضاهُ.
…أيُّها المسلمونَ:(141/5)
…وكما أنَّ للزَّوجِ على زوجتِهِ حقوقًا, فكذلك في المقَابِلِ: إنَّ للزَّوجةِ على زوجِها حقوقًا: فإنَّ عليهِ أنْ يُحسِنَ إلى زوجتِهِ ويعاشرَها بالمعروفِ, كمَا أَمَرَ بذلكَ ربُّ العِزَّةِ جلَّ جلالُهُ فقالَ: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } { النساء:19 } . وقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خطبتِهِ في حَجَّةِ الوداعِ:" ... ألا واسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خيرًا؛ فإنَّهنَّ عَوَانٌ عندَكم أيْ: أسيراتٌ, ليسَ تملكونَ منهنَّ شيئًا غيرَ ذلكَ, إلا أنْ يأتينَ بفاحشةٍ مبيِّنةٍ ... " الحديثُ,[أخرجَهُ التِّرمذيُّ وابنُ ماجَةَ مِن حديثِ عمرِو بنِ الأحَوْصِ - رضي الله عنه -].
…وعنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - , قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لا يَفْرَكْ أي: لا يُبغضْ مؤمنٌ مؤمنةً؛ إنْ كَرِهَ منها خُلُقًا رضِيَ منها آخرَ "[ أخرجَهُ مسلمٌ ].
…وأخرجَ البخاريُّ عن عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها أنَّها سُئِلَتْ: ما كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصنَعُ في بيتِهِ ؟ قالتْ:"كانَ يكونُ في مِهْنةِ أهلِهِ - تعني: خدمةَ أهلِهِ- فإذا حَضَرَتِ الصَّلاةُ خرَجَ إلى الصَّلاةِ".
…وأخرجَ أحمدُ عنها رضِيَ اللهُ عنها أنَّها سُئِلَتْ: ما كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يعمَلُ في بيتِهِ ؟ قالتْ:"كانَ بشرًا مِنَ البَشَرِ: يُفلِي ثوبَهُ, ويَحْلِبُ شاتَهُ, ويخدِمُ نفسَهُ".(141/6)
…وعلى الزَّوجِ – كذلكَ - أن لا يظلمَ زوجتَهُ, فلا يهجرَها إلا إذا كانتْ تستحِقُّ الهجْرَ فِعْلاً, وذلكَ في الأمرِ العظيمِ الَّذي يستحقُّ الهجْرَ, ولا يهجرَها إلا في المضجعِ فلا يتحولَ عنها إلى دارٍ أخرى, وكذلك لا يضربَها بدونِ حقٍّ, وإذا ضرَبَ للضَّرورةِ فلا يكونُ الضَّرْبُ مُبَرِّحًا أي: مؤذِيًا, ولا يضربُ الوجهَ؛ فقدْ قالَ معاويةُ ابنُ حَيْدَةَ - رضي الله عنه - : يا رسولَ اللهِ: ما حقُّ زوجةِ أحدِنا عليهِ ؟ قالَ:"أن تُطعمَها إذا طَعِمْتَ, وتَكسوَها إذا اكْتَسَيْتَ, ولا تُقَبِّحِ الوجهَ أي: لا تقُلْ: قبّحَ اللهُ وجهَكِ, ولا تضرِبْ أي: الوجهَ, ولا تهجُرْ إلا في البيتِ, كيفَ وقد أفْضَى بعضُكم إلى بعضٍ؟ إلا بما حلَّ عليهنَّ"[أخرجَهُ أبو داودَ وأحمدُ].
…عبادَ اللهِ: …
…إذا عََرَفَ الزَّوجانِ هذهِ الحقوقَ وعمِلا بها, أحياهما اللهُ تباركَ وتعالى حياةً ملؤُها الهناءُ والسَّعادةُ, وكان لهما الجزاءُ الأَوْفى عندَ ربِّهما؛ كما قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } { النحل:97 } .
…الَّلهمَّ أصلِحْنا وأصلِحْ ذريَّاتِِّنا وتبْ علَيْنا إنَّكَ أنتَ التَّوابُ الرَّحيمُ. الَّلهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ, والمسلمينَ والمسلماتِ, الأحياءِ منهمْ والأمواتِ, إنَّكَ سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدَّعواتِ. الَّلهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ, وأذِلَّ الشِّركَ والمشركينَ, ودمِّرِ الَّلهمَّ أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ.(141/7)
الَّلهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووَليَّ عهدِهِ لهداكَ, واجعلْ عَمَلَهما في رضاكَ, الَّلهمَّ احفظْهما بحفظِكَ, واكلأْهُما برعايَتِكَ, وألبسْهُما ثَوْبَ الصِّحةِ والعافيةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ. الَّلهمَّ اجعلْ هذا البَلَدَ آمِنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ, وتقبَّلِ الَّلهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(141/8)
اطبع هذه الصحفة
الغيبة والنميمة
عبادَ الله
…إنَّ مِنْ أهمِّ ما يدفعُ الناسَ إلى الغيبةِ: قِلَّةَ الناصحِ والمذكِّرِ في المجالسِ، وتأصُّلَ الحَسَدِ والحِقْدِ الذي يدفَعُ أهلَه إلى الانتقامِ والتشفِّي، وكَذا حُبُّ الفخرِ والمباهاةِ في المجالسِ معَ فَراغٍ روحيٍّ وخَواءٍ خُلُقيٍّ، وزيادةٌ على ذلك التسليةُ وقَتْلُ الفراغِ، وسوءُ الظنِّ الذي يدفعُ أصحابَه إلى البحثِ والتجسُّسِ, وحُبُّ الضحكِ واللهوِ بلا مراعاةٍ للمشاعرِ، ولا تقديرٍ للنتائجِ، قالَ أحدُ الحكماءِ: الغيبةُ فاكهةُ القُرَّاءِ، وضِيافةُ الفُسَّاقِ، ومراتِعُ النساءِ، وإدامُ كلابِ النارِ، ومزابلُ الأتقياءِ، والنميمةُ هِيَ الداءُ الفتَّاكُ الآخَرُ الذي يقتلُ الفضيلةَ، وينشرُ الرذيلةَ, ويَفُتُّ في عَضُدِ المجتمعِ، ويقطِّعُ أواصِرَه، ويهدِّمُ بنيانَه، ومعناها : نَقْلُ الكلامِ بينَ الناسِ علَى جهةِ الوقيعةِ والإفسادِ، وقَدْ أمرَنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - بمجانبةِ النمَّامينَ الذين يُفْسدونَ بالسِّعايَةِ، ويفرِّقونَ بينَ المتحابِّينَ بالوشايةِ فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: { وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ - هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ } { القلم:10-11 } .
الخطبة المذاعة والموزعة
بتاريخ3من ذي القعدة 1427هـ الموافق 24/11/2006م
الغيبة والنميمة
…إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فهوَ المهتدِ، ومَنْ يضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمران:102 } .(142/1)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } { النساء:1 } .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } { الأحزاب : 70-71 } .
…أمَّا بعدُ:
…فإِنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهَدْيِ هَدْيُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ مُحدَثةٍ بِدْعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ.
…معشرَ المؤمنينَ:
…لقدْ خلقَ اللهُ - سبحانَه وتعالَى- الإنسانَ وعلَّمَهُ البيانَ، إذْ خلقَ له لساناً يُعبِّرُ بهِ عَنْ مُرادِهِ، ويشيرُ بهِ إلى مكنوناتِ فؤادِه، قالَ المولَى يذكِّرُ بهذِه النعمَةِ العُظمَى: { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ - وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ - وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } { البلد 8-10 } .(142/2)
…فحَرِىٌّ بصاحبِ هذهِ النَّعْماءِ أنْ يصونَها عمَّا حرَّمَ خالقُ الأرضِ والسماءِ مِنَ السخريةِ والاستهزاءِ، والاستطالةِ في أعراضِ المسلمينَ الشرفاءِ؛ لِيعيشَ المجتمعُ المسلمُ قويَّ الصلاتِ، سليماً مِنَ الآفاتِ، مُتبادِلَ الحُبِّ والمودَّاتِ، وإنَّ الغِيبَةَ والنَّميمةَ مِنْ أخطرِ آفاتِ اللسانِ والذنوبِ التي عَظُمَ ضررُها، وفَدَحَ خطرُها، والغيبةُ والنميمةُ تُفسدانِ القلوبَ، وتُغضبانِ علاَّمَ الغيوبِ، وتَجلبانِ العَداواتِ واِلإحَنَ، وتُورِثانِ النزاعاتِ والفتنَ، مِنْ أجلِ ذلك حذَّرَ منهما الشرعُ الحنيفُ أشدَّ التحذيرِ، وأنكرَ عَلَى مُتعاطِيهما أعظمَ النكيرِ، وصوَّرَ المغتابَ بأبشعِ صورةٍ حيثُ قالَ جلَّ جلالُه: { وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } { الحجرات:12 } ، فالسكوتُ عنِ القبيحِ وما لا خيرَ فيهِ مِنْ علاماتِ الإيمانِ، فعنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"مَنْ كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فَلْيقلْ خيراً أوْ لِيَصْمُتْ" [متفقٌ عليه]، وقَدْ بيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - معنَى الغِيبَةِ أوضحَ بيانٍ حينَ سألَ الصحابةَ:" أتدرونَ ما الغيبةُ؟" قالوا: اللهُ ورسولُه أعلمُ. قالَ:"ذكرُكَ أخاكَ بما يكرَهُ "قيلَ: أفرأيتَ إنْ كانَ في أخي ما أقولُ ؟ قالَ:" إنْ كانَ فيهِ ما تقولُ فقدِ اغتبتَهُ، وإنْ لم يكنْ فيهِ ما تقولُ فقَدْ بَهتَّهُ" [أخرجَه مسلمٌ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -].
…
…فالغيبةُ- إذاً- أنْ تذكرَ أخاكَ المسلمَ وهو غائبٌ بما يكرَهُ في بدنِه أو خَلْقِه أوْ خُلقِه أوْ مالِه أوْ ثوبِه أوْ مِشْيَتِهِ أو سيارتِهِ، ذِكْرُ ذلِكَ بالإشارةِ أوِ الكتابةِ أوِ الحركةِ كلُّه سواءٌ.(142/3)
فكيفَ يسوغُ للمسلمِ أنْ يخوضَ في أعراضِ إخوانِه عرضاً وطولاً، لا يردعُه رادِعٌ مِنْ دينٍ، ولا ينهاهُ وازعٌ مِنْ حَياءٍ؟، ألمْ يعلمْ ما قالَ الرحمةُ المُهداةُ والنِعمةُ المُسْداةُ - صلى الله عليه وسلم - في أعظمِ جَمْعٍ في عرفاتٍ:"إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم حرامٌ عليكم"[متفقٌ عليه من حديثِ أبي بكرةَ - رضي الله عنه -].
…ورُبَّ كلمةٍ تَصْغرُ في عينِ قائِلها وتَخِفُّ على لسانِه تودِي بهِ إلى المزالِقِ, وتُردِيِه في المهالِكِ, كما روَى أبو هريرةَ - رضي الله عنه - عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"إنَّ العبدَ لَيتكلَّمُ بالكلمةِ مِنْ رِضوانِ اللهِ تعالَى ما يُلْقِي لها بالاً يرفعُه اللهُ بها درجاتٍ,وإنَّ العبدَ لَيتكلَّمُ بالكلمةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لا يُلقِي لها بالاً يَهْوِي بها في جهنَّمَ"[أخرجَه البخاريُّ].
وعَنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها قالَتْ :قلتُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:حَسْبُكَ مِنْ صفيةَ كَذا وكَذا- تَعْنِي قصيرةً - فقالَ: " لقَدْ قلتِ كلمةً لوْ مُزِجَتْ بماءِ البحرِ لمزجَتْه - يعنِي لغيَّرَتْ رائحتَه" [أخرجَه أبو داودَ والترمذيُّ].(142/4)
…فإذا كانَتِ الإشارةُ إلى قِصَرٍ في امرأةٍ لوْ مُزِجَتْ بماءِ البحرِ لأنتَنتْهُ فكيفَ يكونُ الحالُ في أقوامٍ يخوضونَ في أعراضِ المسلمينَ والمسلماتِ، بآلافِ الكلماتِ المُنْتِناتِ؛ التي تسخرُ بهم، وتُنْقِصُ مِنْ قَدْرِهم، وتحقِّرُ مِنْ شأنِهم، وتجعلُهم لُقَماً سائغةً في أفواهِ آكِلي لحومِ البشرِ؟! فليتقِ اللهَ هؤلاءِ في إخوانِهمُ المسلمينَ وَلْيدَعُوا حُرُمَهم وذِممهَم وما لهم عليهم مِنْ حقوقِ الأخوَّةِ الإسلاميَّةِ، والشَّراكَةِ الإنسانيَّةِ، وَلْيتوبوا إلى اللهِ أنْ ينالَهم عذابٌ لا مردَّ له مِنَ اللهِ العزيزِ الجبارِ, فعَنْ أنسٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"لمَّا عُرِجَ بي- يَعْنِي ليلةَ الإسراءِ والمعراجِ- مررتُ بقومٍ لهم أظفارٌ مِنْ نحاسٍ يَخْمِشونَ وجوهَهم وصدورَهم فقلتُ: مَنْ هؤلاءِ ياجبريلُ؟ قالَ: هؤلاءِ الذينَ يأكلونَ لحومَ الناسِ ويقعونَ في أعراضِهم" [أخرجَه أبو داودَ].
…ومِنَ الغيبةِ أنْ يُذْكَرَ عنْدَه إنسانٌ فيقولَ: الحمدُ للهِ الذي عافانا وهوَ يريدُ ذمَّ المغتابِ لا سؤالَ العافيةِ, أوْ يقولَ: فلانٌ هداه الله طيِّبٌ وكذا وكذا لولا أنَّ فيهِ كذا وكذا، ومِنَ الغيبةِ الاستماعُ إلى الغيبةِ, والتصديقُ بالغيبةِ غيبةٌ, والساكِتُ شريكُ المغتابِ في الإثْمِ والعقابِ، وأشدُّ أنواعِ الغيبةِ جُرْماً وأكثرُها شرّاً وأعظمُها ضرراً: غيبةُ العلماءِ الربانيِّينَ والفقهاءِ العامِلينَ الذين وُرِّثوا عِلْمَ النبوَّةِ.
قالَ بعضُ العلماءِ: لحومُ العلماءِ مسمومةٌ, وعادةُ اللهِ في مُنْتقصِهم معلومةٌ, فمَنِ ابتلاهُ اللهُ بالوقيعةِ فيهم بالسبِّ والثَّلْبِ ابتلاهُ بموتِ القلبِ، والواجبُ دفعُ الغيبةِ, والردُّ عَنْ أعراضِ المسلمينَ ولا سِيَّما العلماءِ والصالحينَ, وألاَّ يُترَكوا تَلوكُهم الألسنةُ وتخوضُ فيِهم خَوْضَ عَشْواءَ بِلا وَجَلٍ ولا حَياءٍ.(142/5)
قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أخيهِ بالغَيْبةِ كانَ حقاً علَى اللهِ أنْ يعتقَه مِنَ النارِ" [أخرجَه أحمدُ مِنْ حديثِ أسماءَ بنتِ يزيدَ رضىَ اللهُ عنها] .
…عبادَ الله:
…إنَّ مِنْ أهمِّ ما يدفعُ الناسَ إلى الغيبةِ: قِلَّةَ الناصحِ والمذكِّرِ في المجالسِ، وتأصُّلَ الحَسَدِ والحِقْدِ الذي يدفَعُ أهلَه إلى الانتقامِ والتشفِّي، وكَذا حُبُّ الفخرِ والمباهاةِ في المجالسِ معَ فَراغٍ روحيٍّ وخَواءٍ خُلُقيٍّ، وزيادةٌ على ذلك التسليةُ وقَتْلُ الفراغِ، وسوءُ الظنِّ الذي يدفعُ أصحابَه إلى البحثِ والتجسُّسِ, وحُبُّ الضحكِ واللهوِ بلا مراعاةٍ للمشاعرِ، ولا تقديرٍ للنتائجِ، قالَ أحدُ الحكماءِ: الغيبةُ فاكهةُ القُرَّاءِ، وضِيافةُ الفُسَّاقِ، ومراتِعُ النساءِ، وإدامُ كلابِ النارِ، ومزابلُ الأتقياءِ، والنميمةُ هِيَ الداءُ الفتَّاكُ الآخَرُ الذي يقتلُ الفضيلةَ، وينشرُ الرذيلةَ, ويَفُتُّ في عَضُدِ المجتمعِ، ويقطِّعُ أواصِرَه، ويهدِّمُ بنيانَه، ومعناها : نَقْلُ الكلامِ بينَ الناسِ علَى جهةِ الوقيعةِ والإفسادِ، وقَدْ أمرَنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - بمجانبةِ النمَّامينَ الذين يُفْسدونَ بالسِّعايَةِ، ويفرِّقونَ بينَ المتحابِّينَ بالوشايةِ فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: { وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ - هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ } { القلم:10-11 } .(142/6)
…إنَّ النمَّامينَ أعداءُ المحبَّةِ، أخلاَّءُ الفُرْقَةِ والمسبَّةِ، لا يدعونَ سبيلاً للإفسادِ إلا سلَكُوهُ، ولا باباً مِنْ أبوابِ الشرِّ إلاّ وَلَجوهُ, شرُّهم واضحٌ جَلِيٌّ، وقَدْرُهم في الناسِ غيرُ عَلِيٍّ، لا يَرْقُبونَ في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذِمَّةً؛ لهذا تُوُعِّدوا بالعذابِ الزاجرِ في حياةِ البرزخِ, ولَعذابُ الآخرةِ أشدُّ وأنكَى، فعَنِ ابنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بقبرينِ، فقالَ:"إنَّهما يُعذَّبانِ وما يُعذَّبانِ في كبيرٍ! بَلَى إنَّه كبيرٌ، أمَّا أحدُهما فكانَ يمشِي بالنميمةِ، وأمَّا الآخرُ فكانَ لا يستَتِرُ مِنْ بولهِ" [متفقٌ عليه].
…وأيُّ خَسَارةٍ لِلنمَّامِ أعظمُ مِنْ حِرْمانِه دخولَ الجنَّةِ، فقَدْ أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ حُذَيفةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"لا يدخلُ الجنَّةَ نمَّامٌ"، ويَنْبغِي علَى مَنْ نُقِلَ إليهِ حديثُ سِعايَةٍ، أوْ ذُكرَتْ عِنْده وِشايةٌ أنْ ينهرَ صاحبَها وَيغْلُظَ عليهِ بالقولِ؛ علَّهُ يقعُ موقِعاَ زاجِراَ مِنْ قلبِه؛ فيرتدعُ عَنْ إجرامِه وغيِّهِ، دخلَ رجلٌ علَى عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ- رحِمَهُ اللهُ – فذكرَ عِنْدَه وِشايةً في رَجُلٍ، فقالَ عمرُ: إنْ شئتَ حقَّقنا في هذا الأمرِ الذي تقولُ فيه وننظرُ فيما نسْبتَه إليهِ، فإنْ كنتَ كاذِباً فأنتَ مِنْ أهلِ هذهِ الآيةِ { إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } وإنْ كنتَ صادقاً فأنتَ مِنْ أهلِ هذهِ الآيةِ { هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ } وإنْ شئتَ عفَوْنا عَنْكَ! فقالَ العفوَ يا أميرَ المؤمنينَ، لا أعودُ إليهِ أبداً، وما أحسنَ ما قالَ القائلُ:
لا تَقبلَنَّ نميمةًُ بُلِّغْتهَا وتَحفًَّظَنَّ مِنَ الذي أَنْباكَها
إنَّ الذي أهدَى إليكَ نَميمةً سَينِمُّ عَنْكَ بِمثْلِها قَدْ حاكَها(142/7)
…باركَ اللهُ لي ولكم في الوَحْيَينِ، ونفعَنا جميعاً بهَدْيِ سيِّدِ الثقَليْنِ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ العليَّ العظيمَ؛ فاستغفروه إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ الكريمِ المنَّانِ، خلقَ الإنسانَ علَّمَه البيانَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له ، جعلَ الإيمانَ إقراراً باللسانِ واعتقاداً بالجَنانِ وعَملاً بالأركانِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، كانَ تَقِيَّ الجَنانِ وعفَّ اللسانِ، فصل اللهم عليه وعلَى آلهِ المبُشَّرِينَ بالجِنانِ، وصحبِهِ الذين حازوا الفضلَ والرِضوانَ، وسّلِّمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ العرضِ علَى الملكِ الدَّيَّانِ. أما بعد:
…فاتقوا اللهَ– عبادَ اللهِ– فإنَّ التقوَى مفتاحُ السعادةِ والسرورِ، ومركبُ النجاةِ والعبورِ، والتجارةُ التي لا تبورُ. قالَ اللهُ تعالَى: { وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الزمر:61 } .
…أيُّها المسلمونَ:
…اعلَمُوا رحِمَكم اللهُ أنَّ حِفْظَ اللسانِ عمَّا نهَى عَنْه الملكُ الديَّانُ: سبيلٌ للنجاةِ والفلاحِ، وطريقٌ للسلامةِ والصلاحِ؛ لأنَّ اللسانَ دليلُ الأعضاءِ؛ فإنِ استقامَ استقامَتْ, وإنِ اعوجَّ اعوجَّتْ، قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمعاذٍ - رضي الله عنه - وقَدْ أخذَ بِلسانِه:"كُفَّ عليكَ هذَا. قالَ معاذٌ فقلتُ: يا رسولَ اللهِ وإنَّا لمؤاخذونَ بما نتكلَّمُ بهِ؟ فقالَ: ثَكِلتْكَ أمُّكَ يا معاذُ وهَلْ يكبُّ الناسَ في النارِ على وجوهِهم أوْ مناخرِهم إلاَّ حصائِدُ ألسنتِهم؟"[أخرجَه أحمدُ والترمذيُّ].(142/8)
…كما أنَّ استقامةَ القلبِ لها تعلقٌ باستقامةِ اللسانِ؛ روَى أنسٌ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:" لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه، ولا يستقيمُ قلبُه حتى يستقيمَ لسانُه" [أخرجَه أحمدُ].
…فاتقوا اللهَ- عبادَ اللهِ- واحفَظوا ألسنتَكم عَنِ الخوضِ في ما لا ينبغِي مِنْ أحاديثِ اللغوِ والإيناسِ، وصونوها عَنِ الاستطالةِ في أعراضِ الناسِ، فإنّها ستكونُ شاهدةً علَى ما تقولونَ، وناطقةً بما تفعلونَ { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { النور:24 } ، واحذروا جِناياتِ اللسانِ، إذْ لا شيءَ أحقُّ بطولِ السَّجْنِ مِنْه، وراقِبوا ربَّكم فيما تقولونَ وما تَذَرونَ, فكلٌّ مُسَطَّرٌ في كتابٍ لا يَضِلُّ ربِّي و لا ينسَى { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } { ق:18 } ، ومَنْ تتبَّعَ عوراتِ الناسِ تتبَّعَ اللهُ عورتَه, ومَنْ تتبَّعَ اللهُ عورتَهُ يفضحْهُ ولَوْ في جَوْفِ بيتِه، والجزاءُ مِنْ جنسِ العملِ.
…اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ والمسلمينَ والمسلماتِ الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ آتِ نفوسَنا تَقْواها وزكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها أنتَ وليُّها ومولاها، اللهمَّ تقبَّلْ توبتَنا، واغسِلْ حَوْبتَنا، وأجِبْ دعوتَنا، وثبِّتْ حُجَّتنا، وسدِّدْ ألسنتَنا، وطهِّرْ قلوبَنا واسترْ عَوراتِنا، وآمِنْ رَوْعاتِنا.
…اللهمَّ وفِّقْ أميرَ البلادِ ووليَّ عهدِه لِهُداكَ، واجعلْ عملَهما في رِضاكَ، اللهمَّ ارزقْهما بِطانةَ الخيرِ والأمانةِ، وجنِّبْهما بِطانةَ الشرِّ والخيانةِ.واجعلْ هذا البلدَ آمِناً مطمئنّاً سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، يا ربَّ العالمينَ، ربَّنا تقبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنتَ السميعُ العليمُ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---(142/9)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(142/10)
اطبع هذه الصحفة
علماء من بلدي
أخوةَ العلمِ والعَمَلِ:
إنَّ للشَّيخِ رحِمَهُ اللهُ تعالى أعمالاً جليلةً، وخصالاً جميلةً، كانَ مواظباً عليها في يومِهِ وليلتِهِ، وطوالَ حياتِهِ، مِنْ أجلِّها:
تولِّيهِ الإمامةَ والخطابةَ، فَقَدْ عمِلَ رحمَهُ اللهُ تعالى إماماً وخطيباً أكثرَ من نصفِ قرْنٍ، حتَّى آخرِ رَمَقٍ في حياتِهِ، وكانتْ خطبتُهُ قصيرةً وبليغةً، يلتزمُ بتطبيقِ السُّنَّةِ فيها، فيُقَصِّرُ الخطبةَ، ويُطِيلُ الصلاةَ في الجُمَعِ، أما سائرُ الأيامِ فصلاتُهُ وَسَطٌ عَمَلاً بالسنَّةِ.
ومِنْها: ملازمتُه للمسجدِ، فكانَ رحمهُ اللهُ تعالى ملازماً للمسجد طوالَ حياتِهِ، في يومِهِ وليلتِهِ، ولا ينقطعُ عن الإمامةِ بالنّاسِ كلَّ يومٍ مهما كانتِ الأسبابُ، ولا يتأخرُ، بلْ يتواجدُ قبلَ المصلينَ بفترةٍ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة بتاريخ
10من ذي القعدة 1427هـ الموافق 1/12/2006م
علماء من بلدي
الشيح/محمد بن سليمان الجراح رحمه الله تعالى
الحمدُ للهِ الذي أرسلَ الرُّسَلَ مبشّرينَ ومُنذِرينَ، وجَعَلَ العلماءَ قُدوةً ومناراً للسالكينَ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ إلهُ الأوّلينَ والآخِرينَ، وأشهدُ أنَّ محمّداً عبدُهُ ورسولُهُ خاتمُ النبيينَ وإمامُ المتقينَ، اللّهمَّ صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمَّدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ الهداةِ المهتدينَ.
أمَّا بعدُ:
فيا أيُّها النَّاسُ:(143/1)
أوصيكمْ ونفسي بتقوى اللهِ تعالى، فإنَّها مِنْ أكبرِ نِعَمِهِ عليكمْ، حيثُ حَفِظَ عليكمْ هذا الدينَ برجالِهِ المخلصينَ، وبعلمائِهِ العاملينَ، الذينَ كانوا أئمةً أعلاماً يُهتدى بهم فيِ الدِّينِ، وأنواراً تتجلَّى بهمْ غياهِبُ الظُّلمةِ، وأقطاباً تدورُ عليهمْ معارفُ الأمَّةِ، لأنّهم السِّراجُ المنيرُ الذي يحولُ بين الدِّينِ وبينَ الأمورِ المدْلهَمَّةِ، وهمْ ورثَةُ الأنبياءِ في أُمَمهِمْ، وأُمناؤُهُم على دينِهم، فإنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثوا الدراهمَ ولا الدنانيرَ، وإنما وَرَّثُوا العلمَ الذي مَنْ أخذَ بهٍ فقدْ أَخَذَ بالحظِّ الوفيرِ.
ويكفيِ العلماءَ درجةً سَنِيَّةً، ومنزلةً عليَّةً: أنَّ اللهَ تعالى قَرَنَ الشّهادةَ لنفسِهِ بالتوحيدِ؛ بشهادَةِ الملائكةِ وأولي العِلمِ السّديدِ، كمَا قال تعالى: { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } { آل عمران:18 } .
فهُمْ شهداءَُُ اللهِ في الأرضِ بالحقِّ، الناطقونَ بتوحيدِهِ بالصِّدْقِ، وَقَدْ قالَ الإمامُ الحَسَنُ البصريُّ رحَمِهُ اللهُ تعالى: العالمُ مِنْ عبادِ اللهِ : مَنْ أحلَّ الحلالَ، وحرَّمَ الحرامَ، وخَشِيَ الرَّحمنَ بالغيبِ، ثَمَّ قَرَأَ : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } { فاطر:28 } .ولهذا تكاثَرَتِ النصُّوصُ في فَضْلِ العلمِ وأهلِهِ، الذينَ هم أهلُ خشيةِ اللهِ، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ يُردِ اللهُ به خيراً يُفَقّهْهُ في الدينِ" [أخرجَهُ البخاريُّ مِنْ حديثِ معاويةَ - رضي الله عنهم -].
أيُّها المسلمونَ :(143/2)
إذا كانَ هذا فضلُ العلمِ وحالُ العالِم أفلا يليقُ بنا أنْ نبذُلَ الجهدَ لتحصيلِ العلمِ النّافعِ؟، وإذا كانت هذِهِ منزلةُ العالِم مِنْ أمَّتِهِ ودينِهِ، أفلا يَجْدُرُ بِنا أنْ نَأْسَفَ على مَوْتِ العلماءِ؟، لأنَّ فَقْدَ العالِم ليسَ فقْداً لشخصِهِ فَحَسْبُ، ولكنَّهُ فقْدٌ لجزءٍ منْ تراثِ النُّبوَّةِ، وثُلْمةٌ في الدِّينِ، ومصيبةٌ على الإسلامِ والمسلمينَ، واعلَمُوا عبادَ اللهِ أنَّ مِنْ أبرزِ علماءِ الكويتِ الذينَ يَحِقُّ لنا أنْ نَذْكُرَ مآثِرَهُم العلّامةَ العاملَ، والفقيهَ الفاضلَ، شيخَ الكويتِ وعالِمَها وفَرَضيَّها، العلامةَ/ محمدًا بنَ سليمانَ بنِ عبدالِله الجرّاحِ، الّذي وُلِدَ في الكويتِ عامَ اثنينِ وعشرينَ وثلاثمِائَةِ وألفٍ مِنْ الهجرةِ، الموافقِ لعامِ اثنينِ بعدَ التسعمائَةِ والألفِ، وقد اجتهدَ رحِمَهُ اللهُ تعالى في طَلَبِ العلمِ، فَقَرَأَ القرآنَ الكريمَ، والفقهَ، وعلومَ العربيةِ، وعلمَ المواريثِ.
وقد لَازَمَ علماءَ الإسلامِ في عصرِهِ، وعلى الأخصِّ منهمْ: شيخَهُ العلامةَ قاضي الكويت الشيخَ/ عبدَالله بنَ خلفٍ الدِّحيانِ رحِمَهُ اللهُ تعالى، كما كانَتْ بينَهُ وبينَ كبارِ علماءِ الجزيرةِ مراسلاتٌ علميةٌ، ومساجلاتٌ فقهيةٌ، وذلك كالعلاَّمةِ الشيخِ/ عبدِالرحمنِ بنِ ناصرٍ السَّعديِّ، والعلامةِ الشيخِ/ عبدِاللهِ بن حُمَيدٍ، والعلامةِ الشيخِ/ محمدٍ بنِ إبراهيمَ آلِ الشَّيخِ، وهُمْ سادةَ العلمِ في تلكَ الحُقْبَةِ، كما الْتَقَى بعضَهم في رَحَلاتِهِ إلى الحجِّ، واستفادَ منهمْ واستفادُوا مِنْهُ رحِمَهُم اللهُ تعالى.
أخوةَ العلمِ والعَمَلِ:
إنَّ للشَّيخِ رحِمَهُ اللهُ تعالى أعمالاً جليلةً، وخصالاً جميلةً، كانَ مواظباً عليها في يومِهِ وليلتِهِ، وطوالَ حياتِهِ، مِنْ أجلِّها:(143/3)
تولِّيهِ الإمامةَ والخطابةَ، فَقَدْ عمِلَ رحمَهُ اللهُ تعالى إماماً وخطيباً أكثرَ من نصفِ قرْنٍ، حتَّى آخرِ رَمَقٍ في حياتِهِ، وكانتْ خطبتُهُ قصيرةً وبليغةً، يلتزمُ بتطبيقِ السُّنَّةِ فيها، فيُقَصِّرُ الخطبةَ، ويُطِيلُ الصلاةَ في الجُمَعِ، أما سائرُ الأيامِ فصلاتُهُ وَسَطٌ عَمَلاً بالسنَّةِ.
ومِنْها: ملازمتُه للمسجدِ، فكانَ رحمهُ اللهُ تعالى ملازماً للمسجد طوالَ حياتِهِ، في يومِهِ وليلتِهِ، ولا ينقطعُ عن الإمامةِ بالنّاسِ كلَّ يومٍ مهما كانتِ الأسبابُ، ولا يتأخرُ، بلْ يتواجدُ قبلَ المصلينَ بفترةٍ.
ومِنْ هذهِ الأعمالِ العظيمةِ، التّي تَبَوَّأَ بها الشيخُ رحمهُ اللهُ تعالى منزلةً كريمةً: مدارستُه للعلمِ وتعليمُهُ، فقدْ كانَ يعتني بالعلمِ أشدَّ العنايةِ، ويتعاهدُ طلبَةَ العلمِ بالتدريسِ والتعليمِ والرِّعايةِ، فيتدارسُ العلمَ معهمْ، ويرشدُهُم إلى أحسنِ السُبُلِ والآدابِ في تحصيلِهِ، ويتعاملُ معهُمْ بحَسَبِ قدراتهِمْ وفهمِهِمْ ، كما كانَ رحمَهُ اللهُ تعالى آمراً بالمعروفِ، وناهياً عنِ المنكرِ بقولِهِ وفعلِهِ مَا وَسَعَهُ ذلكَ، وبأحسنِ السُبُلِ وأنجعِِها، فإذا رأى ما يخالفُ الشرعَ: بادرَ إلى التَذكيرِ بأحسنِ العباراتِ وألطفِها، وكان يكتبُ كثيراً من الرسائلِ على جدرانِ المسجدِ، ليقرأَها روّادُ المسجدِ، ليتنبهُوا ويتجنبُوا ما نَهَى اللهُ تعالى ورسولُهُ - صلى الله عليه وسلم - عنْهُ، ويسلُكُوا ما دَعَا اللهُ تعالى ورسولُه - صلى الله عليه وسلم - إليهِ.
أتباعَ خيرِ المرسلينَ:(143/4)
لقدْ كانَ الشيخُ ملتزماً بسنَّةِ خاتمِ النبيينَ، ومتأدِّباً بأخلاقِ السلفِ الصالحينَ، وقدْ كانَ يُذِّكِّرُ المقصرينَ والمخالفينَ، ويوجهُهُم على الأخذِ بالهديِ المبينِ ، ناهِيْكُم عبادَ اللهِ تعالى عَنْ زهدِهِ وَتَقَلُّلِهِ مِنَ الدُّنيا، فكانَ رحِمَهُ اللهُ تعالى زاهِدَاً في الدنيا، مُتقلِّلاً منها في مَأكلِهِ ومَلْبَسِهِ وجميعِ عوائدِهِ، ومقبِلاً على الآخرةِ، تاركاً الدُّنيا وراءَهُ ظِهْرِيّاً.
ولا تسألُوا عبادَ اللهِ تعالى عن صبرهِ وقَّوتِهِ في الشّدائِدِ، فقدْ ظَهَرَ ذلك جلياً في فترةِ الغزوِ الغاشِمِ، حيثُ لم يَقْنُطْ ولم يَيْأَسْ، بل استَمرَّ إماماً للصلاةِ، يذكِّرُ الناسَ ويصبِّرُهم على أقدارِ اللهِ.
إخوةَ الإسلامِ:
وممّا جُبِلَ عليه هذا الشيخُ الهُمامُ: تَخَلُّقُهُ بأخلاقِ الكرامِ، وتواضُعُهُ للأنامِ، فقدْ كانَ رحَمِهُ اللهُ تعالى متواضِعَاً في كلامِهِ وهيئتِهِ، حَسَنَ الخُلُقِ، فيه مهابةُ العلماءِ، كما كان مجانِباً للكِبْرِ وصَعْرِ الخدِّ، يحدِّثُ الكبيرَ والصغيرَ وذا الحاجةِ والغنيَّ والفقيرَ على حدٍّ سواءٍ، واسمعْهُ رحَمِكَ اللهُ تعالى إذْ يقولُ: فإِنِّي طالبُ علمٍ مقصِّرٌ، محبٌّ للعلمِ، ولستُ بفقيهِ الكويتِ ولا فَرَضِيِّها، وما قيلَ فيَّ مِنَ الإطراءِ: فأنا بريءٌ منهُ، الّلهم لا تؤاخِذْني بما يقولونَ، واغفرْ لي ما لا يعلمونَ، واجعلْنِي خيراً ممّا يَظُنُّونَ .(143/5)
أمّا عن حفظِهِ للوقتِ وحسنِ استغلالِهِ: فَقَدْ كانَ يحافِظُ رحمَهُ اللهُ تعالى على الوقتِ ويُحْسِنُ استغلالَهُ في يومِهِ وليلتِهِ في كلِّ ما ينفعُ، وكان يحافظُ على الوعْدِ، ويتحرَّى الدقةَ في حديثِهِ، مَعَ مجانَبةٍ منهُ لإثارةِ الفِتَنِ، ودعوةٍ منهُ لوحدةِ الصَّفِّ وعدمِ التَّحَزُّبِ، وِفْقَ ما كان عليه السلفُ، كما كان يدعُو الناسَ إلى العملِ الصالحِ، وطاعةِ ولاةِ الأمرِ، والدعاءِ لهمْ بَالصَّلاحِ والتوفيقِ.
أعوذُ باللهِ مِنَ الشيطانِ الرجيمِ : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } { الزمر:9 } ، أخرجَ مسلمٌ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنهم - قالَ: قالَ - صلى الله عليه وسلم -:" مَنْ سَلَكَ طريقاً يلتمسُ فيهِ عِلماً سهَّلَ اللهُ به طريقاً إلى الجنَّةِ".
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ، ونفعني وإياكم بما فيه من البيانِ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ فاستغفِرُوهُ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ .
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذي خَلَقَ فسَوَّى، وقدَّرَ فهدَى، وأماتَ وأحْيَا، وأَنَّ عليه النَّشأةَ الأُخْرى، أحمدُهُ وله الحمدُ في الأُولى والأُخرى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ يعلمُ السِّرَّ وأَخَفَى، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه الذي بَصَّرَ به من العَمَى، وأقام بِهِ معالمَ الهُدَى، الّلهمَّ صلِّ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ الأئمَّةِ الحُنفَا ، أهلِ الصِّدْقِ والوَفَا ، ومَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ واقْتَفَى .
أمّا بَعْدُ:(143/6)
فاتقُوا اللهَ أيُّها الأنامُ، واعلَمُوا أنَّ اللهَ تعالى قَدْ أَحْيَا بالعلمِ سيرةَ السَلَفِ الكرامِ، وجَدَّدَ بِهِم الليالَىَ والأيامَ.
عبادَ اللهِ:
إنَّ هذا غَيْضٌ من فَيْضِ أخبارِ العلاّمَةِ ابن جراحٍ رحمَهُ اللهُ تعالى، وأسْكَنَهُ فسيحَ جنَّاتِهِ، الّذِي تَضَاعَفَتْ بفقدِهِ الكُرَبُ، وعَظُمَ بغيابِهِ الخَطْبُ، والّذي وافَتْهُ المنيةُ في عامِ 1417هـ الموافقِ 1997م، بعد أن داهَمَهُ المرضُ العُضَالُ، وكان صابراً عليه بلسانِ الحالِ والمقالِ ، نسألُ اللهَ تعالى أن يُيَسِّرَ لهذِهِ الأمَّةِ ما يحفَظُ به عليها دينَها، ويَنْصُرُ بِهِ أهلَ طاعتِهِ، ويُذِلُّ به أهلَ معصيتِهِ، إنَّهُ جوادٌ كريمٌ، رؤوفٌ رحيمٌ.
أخرَجَ البخاريُّ ومسلمٌ من حديثِ عبدِاللهِ بنِ عَمْرو بِنِ العاصِ رضيَ اللهُ عنهما قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"إنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ العلمَ انتزاَعاً ينتزعُهُ مِنَ النّاسِ، ولكنْ يَقْبِضُ العلمَ بقبضِ العلماءِ، حتَّى إذا لم يُبْقِ عالماً، اتخذَ الناسُ رؤوسًا جهالاً فَسُئِلوا، فأَفْتَوا بغيرِ علمٍ فَضَلُّواَ وأضلُّوا".
وإنَّ فَضْلَ العلمِ والعلماءِ: لا يخفَى على الفضلاءِ، وإنَّ فقيهاً واحداً أشدُّ على الشيطانِ من ألفِ عابدٍ، وقد قال الصّادقُ المصدوقُ - صلى الله عليه وسلم -: "فَضْلُ العالِمِ على العابِدِ كفضلِيْ على أدناكُم" [ أخرجَهُ التِّرمذيُّ ].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّمْ على سيدِّنا محمدٍ إمامِ المرسليَن وخاتَمِ النبيينَ، وارضَ اللّهمَّ عن الخلفاءِ الراشدينَ، والأئمةِ المهديينَ، أولي القدرِ العليِّ، والفضلِ الجليِّ: أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلىٍّ، وارضَ اللّهمَّ عن الصَّحابَةِ والتابعينَ، وتابعيِهم بإحسانِ إلى يومِ الدينِ، وعنّا معهمْ بجودِكَ وإحسانِكَ يا أرحمَ الراحمينَ.(143/7)
اللّهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشرْكَ والمشركينَ، وانصُرْ عبادَك الموحِّدينَ، واغفرِ اللّهمَّ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ منهمْ والأمواتِ. اللّهمَّ آمنَّا في أوطانِنِا، وأصلحْ وُلاَةَ أمورِنا، وأَعِنْهم على أمورِ دينِهم ودنياهُم، واجعلْ بطانَتَهم صالحةً، وتوفَّنا مسلمينَ، غيرَ خزايا ولا مفتونِينَ.
عبادَ اللهِ:
إن اللهَ يَأمرُ بالعدلِ والإحسانِ، وإيتاءِ ذي القُربى، ويَنْهَى عن الفحشاءِ والمنكرِ والبغي، يعظُكُم لعلَّكم تَذَكَّرُون، فاذكرُوا اللهَ العظيمَ يذْكُرْكم، واشكرُوهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُم، ولَذِكْرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تَصْنَعُون.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(143/8)
اطبع هذه الصحفة
علي بن أبي طالب t
معشرَ الأحباب:
…إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان يُلاطِفُ عليّاً - رضي الله عنه - بالخطابِ، ويتوددُ إليه بالعِتابِ، وربما دَعَاهُ أباَ تُرابٍ، كما قالَ سهلُ بنُ سعدٍ - رضي الله عنه -: ما كانَ لِعليٍّ اسمٌ أحبُّ إليه مِن أبي التراب، وإنْ كانَ لَيفرحُ إذا دُعِيَ به، فقال له رجلٌ: أخبرْنَا عَن قِصَّتِه لِمَ سُميَ أبا تراب؟ فقال سهلٌ:"جاءَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بيتَ فاطمةَ، فلم يجدْ علياً في البيت، فقال:" أينَ ابنُ عَمِّكِ؟" فقالت: كانَ بيني وبينَه شيٌء فَغَاضَبَني، فلم يَقِلْ عندي. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لإنسانٍ:" انظرْ أينَ هو؟" فجاءَ فقال: يا رسولَ اللهِ هو في المسجدِ راقدٌ. فجاءهَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجعٌ قد سقطَ رداؤُه عن شِقِّهِ فأصابَه تُرابٌ، فجعلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمسحُه عنه، ويقول: "قُمْ أبا الترابِ، قُم أبا التراب" [أخرجه البخاري ومسلم].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 17من ذي القعدة1427هـ الموافق 8/12/2006م
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -
…الحمدُ للهِ الذي وَعدَ فَوفَّى، وعصمَ وكَفَى، وأشهدُ أن لا إلَه إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له؛ الذي يعلمُ الجهرَ وما يَخفى، وأشهدُ أن نبيناَ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه سيدُ الشرفاءِ، - صلى الله عليه وسلم - وعلى أتباعِهِ الخلفاءِ، وعلى آلهِ وأزواجِه وأصحابِه أهل البِرِّ والوفاء.
…أما بعد: …فأوصيكُم ونفسِي بتقوَى المَلِكِ القدوس، فتقوى اللهِ تعالى خيرُ لباسٍ تَسربلتْ به النفوس، فيا عبادَ اللهِ المسلمين: { فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } { الأنفال:1 } .
…عبادَ اللهِ الأخيار:(144/1)
…إنَّ الحديثَ عن الصحابةِ الأبرارِ؛ مِن المهاجرينَ والأنصارِ؛ مِمَّن اصطفاهُم العزيزُ الغفار؛ لصحبةِ المصطفى المختارِ - صلى الله عليه وسلم -: حديثٌ لا تَملُّه الأسماع؛ ولا تضجَرُ منه الطباع، كيفَ لا؛ وهمْ الأُسوةُ في الصلاحِ؛ والقدوةُ في الفلاح.
ومناقبُ اليومِ؛ في فضائِل سيِّدٍ من ساداتِ القوم، إنه صهرُ خاتَمِ النبيين؛ ورابِعُ الخلفاِء الراشدين، أبو الحسِن عليُّ بنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنه - وأرضَاه ربُّ العالمين، وأيُّ مقالةٍ تَستَحْضِرُ خِصَالَه، وأيُّ رسالةٍ تَستذِكرُ خِلالَه، ولكنْ حسبُنَا أن نذكِّرَ الجالِسَ ببعضِها تذكيرا، ونعطِّرَ المجالسَ بِعبقها تعطيراً.(144/2)
…فعليٌ - رضي الله عنه - قد أدركَ المأمولَ، ففازَ بحبِّ اللهِ والرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ، فقد أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ من حديثِ سهلِ بنِ سعدٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال يومَ خيبر:"لَأَعْطيَنَّ هذه الرايةَ رجلاً يفتحُ اللهُ على يديْهِ، يُحبُّ اللهَ ورسولَه، ويحبُّه اللهُ ورسولُه"، فباتَ الناسُ يَدُوكُون – أي: يَخُوضُون- لَيلتَهُم أَيُّهُم يُعْطَاَها. فلما أصبحَ الناسُ غَدوْا على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كُلُّهمَ يرْجونَ أن يُعطَاهَا. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"أينَ عليُّ بنُ أبي طالب؟" فقالوا: هو يا رسولَ اللهِ يَشتِكى عينيْهِ. فَأرسَلوا إليه، فَأوتِيَ به، فبصقَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في عينيهِ، ودَعَا له، فبرأَ حتى كأن لم يكُنْ به وَجَع، فأعطاهُ الرايةَ، فقال عليٌّ: يا رسولَ اللهِ أقاتلُهم حتى يكونُوا مِثلَناَ؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - :"انفُذْ على رِسلِك حتى تنزلَ بِساحَتِهِم، ثم ادْعُهم إلى الإسلامِ، وَأخَِبْرهم بما يجبُ عليهم مِن حقِّ اللهِ فيه، فواللهِ لأن يَهدِيَ الله بكَ رجلاً واحداً خيرٌ لك مِن أن يكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَم".
وكان علىٌّ - رضي الله عنه - في القُربِ مِن الرسولِ عليه الصلاة والسلام، بمنزلةِ قربِ هارونَ مِن موسى عليهما السلام، كما أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ مِن حديثِ سعدِ بِن أبي وقاصٍ - رضي الله عنه - قال:"خَلّفَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّ بن أبي طالبٍ في غزوةِ تبوكٍ، فقال عليٌّ: يا رسولَ اللهِ، تُخَلِّفُني في النساءِ والصِّبيان؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - :"أما تَرضى أن تكونَ مِنِّي بمنزلةِ هارونَ مِن موسى؟ غيَر أنه لا نَبيَّ بعدي".
…عبادَ الرحمن:(144/3)
…إن حبَّ عليٍّ - رضي الله عنه - أَمارةٌ على الإيمانِ والإحسانِ، كما أنّ بُغْضَه علامةٌ على النفاقِ والطغيانِ، فقد أخرجَ الترمذيُّ والنسائيُّ وابنُ ماجه مِن حديثِ عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال:"لقدْ عَهِدَ إليَّ النبيُّ الأميُّ - صلى الله عليه وسلم - :"أنه لا يُحِبُّكَ إلا مؤمنٌ، ولا يُبغِضُكَ إلا منافق"، وهذا الحديثُ الشريفُ يشهدُ لعليٍّ - رضي الله عنه - بالخيريةِ، ويُصَدِّقُه كذلك حديثُ خيرِ البريةِ - صلى الله عليه وسلم -: "الحسنُ والحسينُ سَيِّدَا شبابِ أهلِ الجنة، وأبوهما خيرٌ منهما"[أخرجه ابن ماجه في سننه من حديث عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما].
…معشرَ الأحباب:
…إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان يُلاطِفُ عليّاً - رضي الله عنه - بالخطابِ، ويتوددُ إليه بالعِتابِ، وربما دَعَاهُ أباَ تُرابٍ، كما قالَ سهلُ بنُ سعدٍ - رضي الله عنه -: ما كانَ لِعليٍّ اسمٌ أحبُّ إليه مِن أبي التراب، وإنْ كانَ لَيفرحُ إذا دُعِيَ به، فقال له رجلٌ: أخبرْنَا عَن قِصَّتِه لِمَ سُميَ أبا تراب؟ فقال سهلٌ:"جاءَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بيتَ فاطمةَ، فلم يجدْ علياً في البيت، فقال:" أينَ ابنُ عَمِّكِ؟" فقالت: كانَ بيني وبينَه شيٌء فَغَاضَبَني، فلم يَقِلْ عندي. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لإنسانٍ:" انظرْ أينَ هو؟" فجاءَ فقال: يا رسولَ اللهِ هو في المسجدِ راقدٌ. فجاءهَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجعٌ قد سقطَ رداؤُه عن شِقِّهِ فأصابَه تُرابٌ، فجعلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمسحُه عنه، ويقول: "قُمْ أبا الترابِ، قُم أبا التراب" [أخرجه البخاري ومسلم].(144/4)
وهيهاتَ هيهاتَ أن نُحصيَ في هذهِ العجالةِ ما لأِميرِ المؤمنينَ عليٍّ؛ من الفضلِ الجليِّ؛ والقدرِ العليّ، ولكنْ حسبنُا أن نستحضرَ بعضاً من مَكارِمِه الكثيرة؛ ونستذكرَ شيئاً مِن مناقبِه الوفيرة.
…باركَ الله لي ولكم في الفرقانِ والذكرِ الحكيم، ووفقنا للاعتصامِ به وبما كانَ عليه النبيُّ الكريم؛ عليه أفضلُ الصلاةِ وأزكى التسليم؛ من الهدْيِ القويم؛ والصراطِ المستقيم.
أقولُ ما تسمعون وأستغفرُ اللهَ الغفورَ الحليم، لِي ولكم مِن كل ذَنْبٍ وحَوْبٍ فتوبُوا إليه، واستغفرُوه إنه هو التوابُ الرحيم.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ عددَ مَا ترطَّبَتِ الألسنُ بالثناءِ والدعاءِ من فجِ قلبها العميقِ، والحمدُ للهِ عددَ مَا أثنتْ على رَبِّها وسألته السَّدادَ والرَّشادَ والتوفيقَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ الهادِي إلى سواءِ السبيلِ والطَّريقِ، وأشهدُ أنَّ نبينَا مُحمداً رسولٌ مِنْ أنفسنا هُوَ بالمُؤمنينَ رؤوفٌ ورحيمٌ ورفيقٌ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى مَنْ أنعمَ اللهُ عليهِمْ مِنْ كلِّ نبيٍّ وشهيدٍ وصالحٍ وصِدِّيقٍ.
…أما بعدُ:
…فأوصيكم يا أهلَ الإيمانِ؛ بتقوى المنَّانِ، فهي مِن أماراتِ الصديقيَّةِ وعلاماتِ الإحسان.
…أيها المسلمون:(144/5)
…ألا وإنّ مِن فضائِلِ أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ - رضي الله عنه - ؛ التي رَقَى بها إلى أسنىَ المناقب: أنَّ نَسْلَه الشريفَ هم آلُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الذين أُمِرْنا بحبِّهِم وتوقيِرهِم؛ ونُصْرتِهمِ وتعزيرِهِم، فقد أخرجَ مسلمٌ في صحيحِه مِن حديثِ زيدِ بِن أرقمَ - رضي الله عنه - قال:" قامَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يوماً فِينا خطيباً بماءٍ يُدعى خُمًّا بينَ مكةَ والمدينة، فحمِدَ اللهَ وأثنىَ عليه، ووعَظَ وذَكَّر، ثم قال:"أما بعد، ألا أيها الناسُ فإنما أنا بَشَرٌ يُوشِكُ أن يأتيَ رسولُ رَبِّي فأجيبَ، وأنا تاركٌ فيكم ثقليْنِ: أوّلُهما كتابُ اللهِ فيه الُهدَى والنور، فخذُوا بكتابِ اللهِ واستمسِكُوا به"، فحثَّ على كتابِ اللهِ ورغَّبَ فيه، ثم قال:" وأهلُ بيتي، أذكرُكُم اللهَ في أهلِ بيتي، أذكّرُكم اللهَ في أهلِ بيتي، أذكرُكم اللهَ في أهلِ بيتي".
…لذا كانَ الصحابةُ؛ يُبَجِّلُون القَرَابةَ رَضِيَ الله عنهم أجمعين، فَرعوْا واجباتِهِم أكملَ الرِّعايةِ؛ واعتنوْا بحرماتِهمِ أنبلَ العناية، قالت عائشةُ رضي الله عنها:"فاضتْ عَينَا أبي بكرٍ - رضي الله عنه - فتكلمَ وقال: والذي نفسِي بيدِه، لقَرابةُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أحبُّ إليّ أنْ أصِلَ مِن قَرَابَتيِ"[أخرجه البخاري ومسلم].
وقال عبدُ اللهِ بنُ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنهما: قال أبو بكرٍ - رضي الله عنه -: "ارقبُوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - في أهلِ بيته"[ أخرجه البخاري].(144/6)
…فهذا تعظيمُ أبي بكرٍ الصديقِ - رضي الله عنه - لآلِ بيتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأماَّ تعظيمُ عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه - لهم فيتجلَّى فيما أخرجه البخاريُّ من حديثِ أنسِ بِن مالكٍ - رضي الله عنه - أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ - رضي الله عنه - كانَ إذا قحطوا اسْتسقَى بالعباسِ بِن عبِد المطلبِ - رضي الله عنه - فقال:"اللهمَّ إنَّا كُنَّا نتوسلُ إليك بنبيِّنَا فَتسقِينا، وإنا نتوسلُ إليك بعمِّ نبيِنا فاسقِنا. فَيُسْقَوْن".
وليكُنْ مِسكُ الختامِ، معشرَ الإخوةِ الكرِام: ترطيبَ ألسنتِكُم بالصلاةِ والسلامِ، على خيرِ الأنام، امتثالاً لأمرِ الملكِ القدوسِ السلام، حيثُ قال في أصدقِ قِيلٍ وأحسنِ حديثٍ وخيرِ كلام: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماًً } { الأحزاب: 56 } .
…اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، في العالمين، إنك حميدٌ مجيدٌ.
وارضَ اللهمَّ عن الأربعةِ الخلفاءِ الراشدين؛ والأئمةِ الحنفاءِ المهديِّين، أُوليِ الفضلِ الجليِّ؛ والقدرِ العليِّ: أبي بكرٍ الصديقِ؛ وعمرَ الفاروقِ؛ وذي النورينِ عُثمانَ؛ وأبي السِّبطينِ عليٍّ.
…وارض اللهم عن آل نبيِّك وأزواجِه المُطَهَّرِين من الأرجاس؛ وصحابتِه الصفوةِ الأخيارِ من الناس.(144/7)
اللهم اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهم إنا نسألُك مِن الخيرِ كُلِّه، عاجلِهِ وآجلهِ، ما عَلِمْنَا منه وما لم نَعلم، ونعوذُ بكِ من الشرِّ كلِّه، عاجلِهِ وآجِلهِ، ما علمنَا منه وما لم نعلمْ، اللهم إنا نسألكُ مِن خيِر ما سألكَ عبدُكَ ونبيُّك - صلى الله عليه وسلم -، ونعوذُ بك من شرِّ ما عاذَ به عبدُك ونبيك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم إنا نسألكُ الجنةَ وما قَرَّبَ إليها مِن قولٍ أو عملٍ، ونعوذُ بك من النارِ، وما قَرَّب إليها مِن قولٍ أو عمل، ونسألكَ أن تجعلَ كُلَّ قضاءٍ قضيتَه لنا خيراً، اللهم آمِنّا في الوطن، وادفعْ عنا الِفتَن والمحن؛ ما ظهرَ منها وما بطن، اللهم وَفِّقْ وُلاةَ أمورِنا لحمِل الأمانة، وارزقهم صلاحَ البِطانة، واحفظْهم من كيدِ أهلِ البغيِ والخيانة.
…اللهمَّ وَفِّقْ أميرَنا وولِيَّ عهدِهِ لِهُداك, واجْعَلْ عملَهما في رِضاك، اللهمَّ احْفَظْهُما بِحِفْظِك، واكْلأْهُما بِرِعايتِكَ, وأَلْبِسْهُما ثوبَ الصحةِ والعافيةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اجعلْ هذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخاءً رَخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتَقَبَّلِ اللهمَّ شُهداءَنا وشُهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرة حسنةً؛ وقنا عذاب النَّار.
…عباد اللهِ:
…اذكروا الله ذكراً كثيراً، وكبِّروه تكبيراً، { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } { العنكبوت: 45 } .
…………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(144/8)
اطبع هذه الصحفة
فضل عشر ذي الحجة
إخوةَ الإيمانِ
وفي هذهِ العشرِ المبُارَكةِ تجتمعُ أركانُ الإسلامِ، إذْ يُشْرَعُ فيها الصِّيَامُ؛ لأنَّه داخلٌ في الأعمالِ الصالحةِ التي أشارَ إليها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قالَ: "ما مِنْ أيامٍ العملُ الصالحُ فِيها أحبُّ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ مِنْ هذهِ الأيامِ"، وقَدْ أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ عبدٍ يصومُ يوماً في سبيلِ اللهِ إلاَّ باعدَ اللهُ بذلِكَ اليومِ وجْهَهُ عَنِ النَّارِ سبعينَ خَرِيفاً" وكَذَا الصدقةُ والصلاةُ والحَجُّ، وكلُّ عملٍ صالحٍ مبرورٍ يقومُ بهِ المسلمُ في هذِهِ الأيامِ الفاضلةِ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 24من ذي القعدة 1427هـ الموافق 15/12/2006م
فضل عشر ذي الحجة
…الحمدُ للهِ الذي له الخَلْقُ والأمرُ والتدبيرُ، بِفَضلِهِ تَتَعاقبُ الأَيَّامُ والأعوامُ والشُّهُورُ: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } { الملك:2 } ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له, اصطفَى مِنَ الأيامِ عَشْرَ ذي الحِجَّةِ وضُوعِفَتْ فيها الحسناتُ والأجورُ، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُه ورسولُه، اصطفاهُ اللهُ واجتباهُ، وعبدَ ربَّهُ حتَّى تفطَّرَتْ قدماهُ، البشيرُ النذيرُ والسراجُ المنيرُ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وأصحابِه، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
…أمَّا بعدُ:(145/1)
…فأُوصِيكمْ عبادَ اللهِ ونفسِي بتقوَى اللهِ، فاتَّقوهُ في السرِّ والعلَنِ، واجْتِنبُوا الفواحِشَ ما ظهرَ مِنْها وما بطَنَ، وحافِظُوا علَى القيامِ بالفرائضِ والسُّنَنِ، واغْتَنِمُوا هذِه الأيامَ الفاضلةَ بالأعمالِ الصالحةِ، واستعينوا علَى طاعَتِه بما رزقَكُمْ مِنَ العطايا والمِنَنِ. قالَ اللهُ تعالَى: { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } { الأنفال :29 }
…أيهُّا المسلمونَ:
…لقَدْ أظلَّتْكُم أيامٌ عظيمةٌ، ومواسِمٌ للخيرِ كريمةٌ، تُضاعَفُ فيها الحسناتُ، وتُكفَّرُ فيها السيئاتُ، وتُقالُ فيها العَثَراتُ، وتُجابُ فيها الدعَواتُ. وإنَّ ربَّكُم - عزَّ وجلَّ – قَدِ اختارَ الزمانَ ، وإنَّ مِنْ أحبِّ الزمانِ إلى اللهِ الأشهُرَ الحُرُمَ، وقَدِ اختارَ اللهُ سبحانَه العَشْرَ الأُوَلَ مِنْ ذي الحِجَّةِ لتكونَ أفضلَ أيامِ الدنيا، إذْ أقسَمَ بها في كتابهِ العزيزِ، فَعَزَّ مُقْسِماً وقائِلاً: { وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ } { الفجر1:2 } وهِيَ عَشْرُ ذي الحجَّةِ، واللهُ- تباركَ وتعالىَ- لا يُقْسِمُ إلا بعظيمٍ.وسمَّاها- جَلَّ وعَلا – الأيامَ المعلوماتِ، فقالَ سبحانَه وتعالَى: { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } { الحج: 28 } . وشَهِدَ لها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأنَّها أفضلُ أيامِ الدنيا، فعَنْ جابرٍ - رضي الله عنه - قالَ : قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أفضلُ أيامِ الدنيا أيامُ العَشْرِ" [أخرجَه البزَّارُ وابنُ حِبَّانَ].(145/2)
…وحثَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - علَى العملِ الصالِحِ فيها واغْتِنامِها، والإكثارِ مِنَ الطاعاتِ في ليالِيها وأيامِها، فعَنِ ابنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ أيامٍ العمَلُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى اللهِ مِنْ هذهِ الأيامِ – يَعْنِي أيامَ العَشْرِ– قالوا يا رسولَ اللهِ ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ قالَ: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ إلاَّ رجلٌ خرجَ بنفسِه ومالِه فلمْ يرجِعْ مِِنْ ذلِكَ بشيءٍ" [أخرجَه البخاريُّ وأبو داودَ واللفظُ له والترمذيُّ]، ومِنْ فضائِلها: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ بكثرةِ ذِكْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ فيها مِنَ التسبيحِ والتحميدِ والتهليلِ والتكبيرِ؛ فعَنِ ابنِ عمرَ رضِيَ اللهُ عَنْهما أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ما مِنْ أيامٍ أعظمُ عِنْدَ اللهِ ولا أحَبُّ إلى اللهِ العملُ فيهنَّ مِنْ أيامِ العَشْرِ فأكثِرُوا فِيهنَّ مِنَ التسبيحِ والتحميدِ والتهليلِ والتكبيرِ" [أخرجَه أحمدُ]. وكان ابنُ عمرَ وأبو هريرةَ رضِيَ اللهُ عَنْهما يَخْرجانِ إلى السوقِ في أيامِ العشرِ فيُكبرِّانِ ويكبِّرُ الناسُ بتكبيرِهما.(145/3)
…وفي العَشْرِ المباركةِ يومُ الترويةِ ،وليلَةُ مُزدَلِفةَ، ويومُ عرفةَ الذي أنزلَ اللهُ فيه قولَه: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } { المائدة:3 } وهوَ اليومُ الذي أقسمَ بهِ ربُّنا عزَّ وجلَّ مع يوم النحر، فقال: { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } { الفجر:2 } ، قالَ ابنُ عباسٍ رضِيَ اللهَ عَنْهما: الوَتْرُ يومُ عرفَةَ ، والشَّفْعُ يومُ الذَّبْحِ. وعَنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ما مِنْ يومٍ أكثرُ مِنْ أنْ يعتِقَ اللهُ فيهِ عبداً مِنَ النَّارِ مِنْ يومِ عرفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو ثُمَّ يُباهِي بِهمُ الملائكةَ فيقولُ: "ما أرادَ هؤلاءِ؟"[أخرجَه مسلمٌ]. ولما سُئِلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صومِِ يومِ عرفَةَ قالَ:"يُكَفِّرُ السَّنَةَ الماضِيَةَ والباقِِيَةَ" [أخرجَه مسلمٌ من حديثِ أبي قَتادَةَ - رضي الله عنه -].
…إخوةَ الإيمانِ:
وفي هذهِ العشرِ المبُارَكةِ تجتمعُ أركانُ الإسلامِ، إذْ يُشْرَعُ فيها الصِّيَامُ؛ لأنَّه داخلٌ في الأعمالِ الصالحةِ التي أشارَ إليها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قالَ: "ما مِنْ أيامٍ العملُ الصالحُ فِيها أحبُّ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ مِنْ هذهِ الأيامِ"، وقَدْ أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ عبدٍ يصومُ يوماً في سبيلِ اللهِ إلاَّ باعدَ اللهُ بذلِكَ اليومِ وجْهَهُ عَنِ النَّارِ سبعينَ خَرِيفاً" وكَذَا الصدقةُ والصلاةُ والحَجُّ، وكلُّ عملٍ صالحٍ مبرورٍ يقومُ بهِ المسلمُ في هذِهِ الأيامِ الفاضلةِ.(145/4)
…أقولُ ما تسمعون، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ، وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ، وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ على إحسانهِ، والشكرُ له علَى توفيقِهِِِ وامتنانِهِ، أحمدُهُ سبحانَه وأشكرُه، وأُثْنِي عليهِ الخيرَ كلَّه وأستغفِرُه، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له تعظيماً لِشانهِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الداعِي إلى رِضْوانهِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِه وإخوانِه، ومَنْ دَعا إلى سبيلهِ وجِنانِه.
…أمَّا بعدُ:
…فاتقوا اللهَ – عبادَ اللهِ – حقَّ التقوَى، واستَمْسِكوا في دينِكُمْ بالعُرْوَةِ الوُثْقىَ، واغتَنِموا أيَّامَكُمْ وليالِيَكم بالأعمالِ التي تُقَرِّبُكم إلى اللهِ زُلْفىَ، وراقِبوا مَوْلاكم فإنَّه – سبحانَه – يعلمُ السِّرَّ وأخْفَى.
…أيُّها المؤمنونَ:
…إنَّ أبوابَ الخيرِ في عَشْرِ ذي الحِجَّةِ مُتَعدِّدَةٌ، وميادينَ التَّسابُقِ إلى الفضائِلِ فيها مُتَجدِّدَةٌ، فطوبَى لِمَنِ اغتنَمَها بالجِدِّ والتشميرِ والعَمَلِ، وتجنَّبَ التوانِيَ والدَّعَةَ والكسَلَ، فإنَّ الحياةَ الدنيا مزرعةُ الآخرةِ.
لَيَاليِ العَشْرِ أوقاتُ الإجابَهْ فَبادِرْ رَغْبَةً تلحَقْ ثَوابَهْ
ألا لا وَقْتَ لِلْعمَّالِ فيهِ ثوابُ الخيرِ أقربُ لِلإْصَابَهْ
مِنَ اوْقاَتِ اللياليِ العَشْرِ حقّاً فَشَمِّرْ وَاطْلُبَنْ فِيها الإنابَهْ(145/5)
…ومِنَ خيرِ الأعمالِ في هذهِ الأيامِ العِظامِ: الإهلالُ بالحَجِّ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ؛ لإتمامِ الركنِ الخامسِ مِنْ أركانِ الإسلامِ، فاحرِصُوا- رعاكمُ اللهُ – على هذِهِ الغَنِيمَةِ، وابتَغُوا أجورَها العظيمةَ، فقَدْ قالَ أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَنْ حجَّ للهِ فلمْ يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجعَ كَيَوْمِ ولدَتْهُ أُمُّهُ"[أخرجهَ البخاريُّ ومسلمٌ].
…والحُجَّاجُ والعُمَّارُ هُمْ وفدُ اللِه، أجابُوهُ لما دعاهُم، وسألُوه فأعطاهُم، والنفَقَةُ فيهِ كالنفقَةِ في سبيلِ اللهِ، وليسَ للحجِّ المبرورِ جزاءٌ إلاّ الجنَّةُ.
…ويومُ النحرِ – وهوَ اليومُ العاشِرُ – أعظمُ الأيامِ عِنْدَ اللهِ؛ لما رَوَى عبدُ اللهِ بنُ قُرْطٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"أعظمُ الأيامِ عِنْدَ اللهِ يومُ النَّحْرِ ثُمَّ يومُ القَرِّ"[أخرجَه أبو داوود ]. ويومُ القَرِّ: هوَ اليومُ الحادِي عَشَرَ سُميِّ بذلك؛ لأنَّ الناسَ يستقِرُّونَ فيِه بِمنَى، ويومُ النحرِ فيهِ معظمُ مناسِكِ الحَجِّ مِنَ النَّحْرِ والتحْليقِ، والطوافِ بالبيتِ العتيقِ، والسَّعْيِ بينَ الصَّفا والمرْوَةِ ورَمْيِ الجمْرَةِ الكُبْرَى. ومما يُسَنُّ فِعْلُه في هذِه الأيامِ العَشَرةِ المبارَكَةِ: التقرُّبُ إلى اللهِ تعالَى بذَبْحِ الأضاحِي والهدَايَا، وشُكْرِ اللهِ علَى المِنَحِ والعَطايَا، حيثُ أمرَ اللهُ - عزَّ وجلَّ - نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بِذلِكَ فقالَ: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } { الكوثر:2 } .
…(145/6)
…وقِيلَ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الحجِّ أفضلُ؟ فقالَ"العَجُّ والثَّجُّ"[ أخرجَهُ الترمذيُّ مِنْ حديثِ أبي بكرٍ الصديقِ - رضي الله عنه -]. والعَجُّ: رفعُ الصوتِ بالتلبِيَةِ، والثَّجُّ: نَحْرُ الهَدْيِ وإراقَةُ الدماءِ.قالَ تعالَى: { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ } { الحج: 37 } .
…وإذا رُئِيَ هلالُ ذِي الحِجَّةِ تأكَّدَ لِمَنْ يريدُ أنْ يُضَحِّيَ ألاّ يأخُذَ شيئاً مِنْ شَعْرِهِ ولا ظُفُرِِهِ ولا جِلْدِهِ بحلقٍ أوْ غيرِهِ، فعَنْ أُمِّ سلَمَةَ رضِيَ اللهُ عَنْها عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"إذا رأيتمْ هِلالَ ذِي الحِجَّةِ وأرادَ أحدُكم أنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وأظفارِهِ"[أخرجَه مسلمٌ].
…فعظِّموا هذِهِ الأيامَ، فإنَّها عظيمةٌ عِنْدَ ذيِ الجلالِ والإكرامِ، واسْتَبِقُوا الخيراتِ، وتنافَسُوا في الباقِيَاتِ الصَّالحاتِ { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } { المطففين:26 } { وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ } { المزمل:20 } { وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } { البقرة:281 } .(145/7)
…اللهمَّ اقْسِمْ لنا مِنْ خَشْيَتِكَ ما تَحولُ بهِ بينَنا وبينَ معصِيَتِكَ، ومِنْ طاعَتِكَ ما تبلِّغُنا بهِ جنَّتَكَ، ومِنَ اليقينِ ما تُهوِّنُ بهِ علينا مصائِبَ الدُّنيا، ومتِّعْنا اللهمَّ بأسماعِنا وأبصارِنا وقُوَّتِنا ما أحييتَنا، واجعلْهُ الوارثَ مِنَّا، واجْعَل ثأْرَنا علَى مَنْ ظلَمَنا، وانصُرْنا علَى مَنْ عادانا، ولا تجعَلِ الدُّنيا أكبرَ هَمِّنَا ولا مَبْلَغَ عِلْمِنا، اللهمَّ انصرْ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الشِرْكَ والمشركينَ، وأَعْلِ كلمةَ الحقِّ والعَدْلِ والدِّينِ، وأعِزَّ عبادَك المؤمنينَ، اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ.
…اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألَبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
…… …………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(145/8)
اطبع هذه الصحفة
السلوك الإجتماعي عنوان المسلمين
إن من نهضة الأمم سلوكها الاجتماعي السليم، فهو عنوانها الناطق باسمها، وما سمى العالم قبل الإسلام بالجاهلية إلا لوجود جاهلية السلوك وجاهلية التعامل حتى كانت هي السمة الواضحة والعلامة المميزة لهؤلاء الناس، فأطلق عليهم: أمة جاهلية.. فكان حال العالم متقلباً بين أحضان هذه الجاهلية ينام ويصحو دون أن يفارقها، فالغني يأكل الفقير فانتشر الربا، والقوي يأكل الضعيف، فانتشر الظلم وتحولت المجتمعات إلى مجموعة من السادة تعد على الأصابع، والباقي أرقاء لهؤلاء السادة كالحيتان، في البحار أو الأسود في الغابات، فلا يسمع لضعيف رأي، ولا يرد لقوي قول.
السلوك الإجتماعي عنوان المسلمين
الحمد لله رب العالمين، يحق الحق بكلماته ولو كره الكافرون... ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون [ [الأنفال: 8].
أحمده على الهداية والرشاد، وعلى الإيمان وحسن الانقياد، وعلى نعمه الظاهرة والباطنة التى لا تعد ولا تحصى، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} [إبراهيم 34].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بالتقوى وحسن الخلق. 473
ولست أرى السعادة جمع مال ** ولكن التقي هو السعيد
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، النبي الأمي، معلم البشرية وداعيها إلى الخير ومنقذها من الشر، {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 157]، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، واجزه اللهم عنا خير ما جزيت نبياً عن قومه، ورسولاً عن أمته.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:(146/1)
إن من نهضة الأمم سلوكها الاجتماعي السليم، فهو عنوانها الناطق باسمها، وما سمى العالم قبل الإسلام بالجاهلية إلا لوجود جاهلية السلوك وجاهلية التعامل حتى كانت هي السمة الواضحة والعلامة المميزة لهؤلاء الناس، فأطلق عليهم: أمة جاهلية.. فكان حال العالم متقلباً بين أحضان هذه الجاهلية ينام ويصحو دون أن يفارقها، فالغني يأكل الفقير فانتشر الربا، والقوي يأكل الضعيف، فانتشر الظلم وتحولت المجتمعات إلى مجموعة من السادة تعد على الأصابع، والباقي أرقاء لهؤلاء السادة كالحيتان، في البحار أو الأسود في الغابات، فلا يسمع لضعيف رأي، ولا يرد لقوي قول.
( 2 )
والخلق يفتك أقواهم بأضعفهم ** كا لليث بالبهم أو كالحوت بالبلم
فساءت الأفعال وساءت على أثرها الظنون، وبات الناس في فوضى حتى جاءت بعثة النبي(صلي الله عليه وسلم)، فأحيت هذا الموات، وأعادت للبشرية اتزانها وصقلتها من جديد حين بثت فيها هذه التعاليم التي آمنتهم من خوف وأطعمتهم من جوع واستجاب من استجاب ففاز بالحياة الكريمة وتحرر من ذل هذه الجاهلية، فكان الإسلام هو أساس التعامل بين البشر بتعاليمه السمحة الميسرة التى لا تصادم فطرة الإنسان، {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} [الأنفال:24] {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} [الأنعام: 122].(146/2)
فكانت دعوة الإسلام إنقاذاً للبشرية من براثن الجهالة والضلال، ودخل الناس الإسلام وهم متعطشون إلى الحرية مشتاقون إلى السلامة والتآخي والتحاب في الله فنفضوا عن رؤوسهم غبار العبودية والاضطهاد.. فأقبلوا على رسول الإسلام يستمعون منه ما يبهرهم من تعاليم ترفع شأن الإنسان وتعطيه الحق في الحياة الكريمة، والعيش بين الناس تحت مظلة الإسلام دون تعصب لجنس أو لون.. {يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} [الحجرات: 13].
أيها المسلمون:
جاء الإسلام فحث الناس على الاتجاه والتآلف والتحاب، وعلمهم أن الأمة تؤتي فاعليتها في ظل وحدة منظمة قوامها العمل الصالح والعقيدة السليمة... فكانت الدعوة إلى وحدة الصف. {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} [الأنبياء: 92] ولا قوة ولا هيبة للأمة بدون هذه الوحدة، ولا تتأتى هذه الوحدة بدون قلوب مؤمنة فهمت تعاليم الإسلام وطبقتها في حياتها كلها، في البيت وفي العمل حتى في الشارع، نعرف أخلاق الناس حين يسيرون فيه: فمنهم المتغطرس الذي يتصرف بما يلحق الضرر بالآخرين، ومنهم المختل الذي لا يراعي شعور الناس، وهذا حق عام يتمتع به الجميع، فكان من تعاليم الله تعالى: {ولا تمش فى الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا} [الإسراء: 37]. {واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} [لقمان: 19].
( 3 )(146/3)
إن الذي يدخل إلى بلد من البلاد فيرى فيها سلوكيات أقرب إلى حركات السوائم منها إلى حركات الإنسان المستقيم، فيرى أصواتاً عالية صاخبة، وعدم مراعاة لشعور الغير فلا احترام لكبير ولا رحمة لضعيف وصغير، ولا توقير لعالم، ولا أدب في الأخذ والعطاء، ولا أمانة في التعامل، إنما يحكم على هؤلاء بأنهم مجموعة من الذئاب البشرية، أو من الغوغائية الذين لا يعرفون حقيقة أمر الحياة يقول الرسول(صلي الله عليه وسلم) "إن الله يبغض كل جعظري جواظ صخاب في الأسواق" [رواه البيهقي] والجعظري: الغليظ المتكبر، و الجواظ: الجموع المنوع.
ويقول(صلي الله عليه وسلم): "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا" [رواه الترمذي] [نزهة المتقين].
أيها المسلمون:
إن حالة التنافر التي تعتري المجتمعات اليوم فتحدث خللاً في سلوكياتها إنما نتجت عن ضعف الوازع الديني والأخلاقي عند هؤلاء الناس، لأن المسلم يتخلق بأخلاق الله فلا نراه قاسي القلب لأن الرحمة سكنت قلبه وملأت نفسه فهو يتعامل بها بين الناس لأن الله رحيم ولأن الرسول(صلي الله عليه وسلم) الرحمة المهداة، والمسلم يقتدي بالله ورسوله فهو يمد يده للقريب والبعيد ليفيض عليه من الرحمة التى ملأت قلبه بصرف النظر عن الجنس واللون، فالله هو القائل: {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف: 156].
إن مجتمع الإسلام مجتمع الرحمة والله تعالى وصفهم بقوله: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29] وهذه الرحمة تكون للعامة وليست للقريب فحسب، فالإسلام ربط الناس جميعاً برباط قوي فوق مستوى العائلة والقبيلة يقول الله تعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} [الأعراف: 56]، ويقول الرسول: (صلي الله عليه وسلم) "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله" [متفق عليه].
أيها المسلمون:
( 4 )(146/4)
إن المسلم لا بد أن يكون دعاية حسنة للإسلام وليس دعاية سيئة له وإذا أخلص الإنسان لله أحب أخاه المسلم لله، وأحب وطنه لله، وأعني بحبه لوطنه ليس حب الطين والتراب الموجود في أرض الوطن، ولكن حب الإنسان الذي هو محبوب الله في الأرض وأعز خلق الله وهذا يجعل حب الوطن من الإيمان، إن دعوى الوطنية أصبحت عبارة ذائعة الآن بين فئات من الناس، لكن ليس لها مدلول بين هذه الفئات ولو أخذوا بحقيقتها لأخذوا بيد الوطن إلى بر الأمان، إن سلفنا الصالح ملأوا الدنيا بالعمل الصالح من السلوكيات والأخلاقيات الطيبة حتى عرفوا يين الناس بأخلاقهم قبل أن يعرف الناس دينهم فلما عرفوه اتبعوهم لما وجدوه فيهم من صفات تشجع على الدخول في هذا الدين.
لقد أسلم أحد الفلاسفة الغربيين وهو رجاء جارودي الذي حسن إسلامه عن علم وبحث، ثم ذهب الرجل لأداء فريضة الحج فوجد تصرفات المسلمين سيئة للغاية، ليس هناك نظام ولا تعاليم إسلام مطبقة ولا تراحم ولا شيء من هذه التعاليم إلا النزر اليسير فقال عبارة لها مدلولها قال: الحمد لله الذي عرفني بالإسلام قبل أن يعرفني بالمسلمين، إن مدلول هذه الكلمة أن الإسلام لا يؤخذ من واقع المسلمين الآن لأنه ليس مطبقاً واقعياً وإنما هو حبيس الكتب فقط فإذا نظرنا إلى تعاليم الإسلام ثم نظرنا إلى واقع المسلمين نجد هوة سحيقة بين الواقع والتعاليم وهذا الأمر فتنة للناس جميعاً تجعل الناس يقولون: لو كان في دينهم خير لاتبعوه. {ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم} [الممتحنة: 5].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(146/5)
اطبع هذه الصحفة
وأذن في الناس بالحج
أيها المسلمون
…وأمَّا أفعالُ الحجِّ: فتبدأُ بالإحرامِ عندَ الميقاتِ - في أشهُرِ الحجِّ وهي شوالٌ وذو القعدةِ وعشرٌ مِن ذِي الحِجة أو كلِّه، ويكونُ بتعيينِ النيةِ إمَّا قارناً أو مُتَمتِّعاً أو مُفْرِدًا معَ التجرُّدِ من الثيابِ المخَيطة:ِ وهي المفصَّلَةُ على حَجْمِ الجسْمِ أو على حَجْمِ عُضوٍ منه، ولبسِ ثوبيِ الإحرامِ: وهما رداءٌ يَلِفُّ النصفَ الأعلَى مِن البَدَنِ دُونَ الرأسِ، وإزارٌ يَلِفُّ النصفَ الأسفلَ منه. وينبغِي أن يكونَا أبيضيْنِ؛ فإنَّ الأبيضَ أحبُّ الثيابِ إلى اللهِ تعالى، يَلبَسُهما الحاجُّ إشعاراً منه بأنه قد تجردَ مِن كُلِّ المظاهِرِ الدنيويةِ الزائلةِ، وخضعَ لعبادةِ اللهِ وحدَه، وتذكَّرَ كَفَنَه في القبرِ، قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما:"انطلقَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من المدينةِ بعدَما ترجَّلَ وادَّهنَ ولَبِسَ إزارَه ورِداءَه هو وأصحابُه"[أخرجه البخاريُّ].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة بتاريخ
1ذو الحجة 1427هـ الموافق 22/12/2006م
وأذن في الناس بالحج
…الحمدُ للهِ الذي جعلَ كلمةَ التوحيدِ لعبادهِ حِرْزاً وحِصْناً، وجعلَ البيتَ الحرامَ مثابةً للناسِ وأمناً، وأكرَمه بالنسبةِ إلى نفسِهِ تشريفاً وتحصيناً ومَنّاً، وأشهدُ أن لا إلَه إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، إلهاً أحداً، وفرداً صمداً، وأشهدُ أن سيدَنا محمداً عبدُه ورسولُه المصطفَى ونبيُّه المُجْتبَى، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه قادةِ الحقِّ وسادةِ الخلْقِ وسلَّم تسليماً كثيراً.
…أما بعد:
…فيا أيها المسلمون:(147/1)
…أُوصِيكُم ونفسِي أولاً بِتقوى اللهِ وطاعتِهِ، والإخلاصِ في عبادتِه، فإنَّ اللهَ تعالى يقول: { إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } [النحل:128]، واعلمُوا – رَحِمكُمُ اللهُ – أنَّ اللهَ قد فرضَ عليكم حَجَّ بيتهِ الحرامِ ، ليغفرَ لكم ما وقعتُم فيه مِنَ الذُّنوبِ والآثامِ، قال تعالى: { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [آل عمران:97]، وقد بَيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - أنه يَجِبُ مرةً واحدةً في العُمْرِ وليسَ في كُلِّ عامٍ. وذلك مِن تخفيفِ اللهِ علينا ورحمتِهِ بِنَا. أخرج الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ وغيرُهما عن ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهما قال: خَطَبنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال:"يا أيها الناسُ كُتِبَ عليكمُ الحجُّ" فقامَ الأقرعُ بنُ حابسٍ فقال: أَفِي كُلِّ عامٍ يا رسولَ اللهِ؟ قال:"لو قلتُ نعمْ لَوجبتْ، ولَوْ وَجَبت لم تَعملُوا بها ولم تَستطيعُوا، الحجُّ مرةٌ فمنْ زادَ فهو تطوّعٌ". وهو جهادُ النساءِ والضُّعَفاءِ،كما رَوى أبو هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال:"جهادُ الكبيرِ والصغيرِ، والضعيفِ والمرأةِ: الحجُّ والعمرةُ"[أخرجه النسائي].(147/2)
…والحجُّ يَنْفِِي الفقرَ والذنوبَ، وجزاءُ صاحِبِه الجنةُ، فعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال:"تَابِعُوا بينَ الحجِّ والعمرةِ فإنهما يَنْفِيَانِ الفقرَ كما يَنفِي الكِيرُ خبثَ الحديدِ والذهبِ والفضةِ، وليسَ للحَجَّةِ المبرورةِ ثوابٌ إلا الجنةُ"[أخرجه الترمذي والنسائي]، فعلى هذا؛ يجبُ القيامُ بهذه الفريضةِ على القادِرِ استجابةً لدعوةِ أبي الأنبياءِ إبراهيمَ عليه السلامُ، فإنه لَمَّا أتمّ بناءَ الكعبةِ هو وولدُه إسماعيلُ، أَمَره اللهُ أن يُؤذِّنَ في الناسِ بالحجِّ قائلاً: { وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } [الحج:27- 28]. قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: لَمَّا فرغَ إبراهيمُ مِن بناءِ البيتِ قالَ: رَبِّ قد فرغتُ، فقال اللهُ له: أَذِّنْ في الناسِ بالحجِّ، فقال:ربِّ وما يبلغُ صوتي؟ فقال الله: أَذِّنْ وعليَّ البلاغُ، فقال: يا ربِّ كيفَ أقولُ؟ قال:يا أيُّها الناسُ كُتِبَ عليكم الحجُّ إلى البيتِ العتيقِ، فأذَّنَ إبراهيمُ فسمِعَه كلُّ مَن هُمْ بينَ السماءِ والأرضِ، ألا تَرَى أنّهم يَجيئِون مِن أَقصى الأرضِ يُلَبُّون"[أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم وصححه].(147/3)
…والتلبيةُ: هي الإجابةُ الفوريةُ التي أجابَ بها كُلُّ مَنْ سَمِعَ نداءَ إبراهيمَ عليه الصلاةُ والسلامُ، ومنذُ ذلك الحينِ فقدْ صارتِ التلبيةُ هي الشِّعارَ الذي يرفعُه كُلُّ مَنْ يريدُ أداءَ هذه الفريضةِ استجابةً لهذه الدعوةِ الربانيةِ الصادرةِ عن أبي الأنبياءِ إبراهيمَ عليه السلام، والتلبيةُ مِن أفضلِ الأعمالِ، وقد أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عن نافعٍ عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما أنَّ تلبيةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -:"لبيْك اللهمَّ لبيكَ، لبيكَ لا شريكَ لك لبيك، إنََّ الحمدَ والنعمةَ لكَ والملكَ لا شريكَ لك".
…أيها المسلمون:
…وأمَّا أفعالُ الحجِّ: فتبدأُ بالإحرامِ عندَ الميقاتِ - في أشهُرِ الحجِّ وهي شوالٌ وذو القعدةِ وعشرٌ مِن ذِي الحِجة أو كلِّه، ويكونُ بتعيينِ النيةِ إمَّا قارناً أو مُتَمتِّعاً أو مُفْرِدًا معَ التجرُّدِ من الثيابِ المخَيطة:ِ وهي المفصَّلَةُ على حَجْمِ الجسْمِ أو على حَجْمِ عُضوٍ منه، ولبسِ ثوبيِ الإحرامِ: وهما رداءٌ يَلِفُّ النصفَ الأعلَى مِن البَدَنِ دُونَ الرأسِ، وإزارٌ يَلِفُّ النصفَ الأسفلَ منه. وينبغِي أن يكونَا أبيضيْنِ؛ فإنَّ الأبيضَ أحبُّ الثيابِ إلى اللهِ تعالى، يَلبَسُهما الحاجُّ إشعاراً منه بأنه قد تجردَ مِن كُلِّ المظاهِرِ الدنيويةِ الزائلةِ، وخضعَ لعبادةِ اللهِ وحدَه، وتذكَّرَ كَفَنَه في القبرِ، قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما:"انطلقَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من المدينةِ بعدَما ترجَّلَ وادَّهنَ ولَبِسَ إزارَه ورِداءَه هو وأصحابُه"[أخرجه البخاريُّ].
…فإذا وصلَ الحاجُّ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ طافَ به سبعاً بدْءاً بالحَجَرِ الأسودِ وانتهاءً إليه كَما فعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وينبغي على الحُجَّاجِ أَنْ يتعلمُوا أقسامَ الطوافِ وأحكامَها مِن الدُّعَاةِ والمرشدينَ ليؤدوا مناسِكَهُم على وجهِ التمامِ والكمالِ.(147/4)
…ومن السنَّةِ صلاةُ ركعتينِ بعدَ الطوافِ خلفَ مقامِ إبراهيمَ لقولهِ تعالى: { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [البقرة:125]. إِنْ تَيسَّرَ له وإلاَّ فَفِي أيِّ موضعٍ من المسجدِ، وبعدَ الطوافِ يَسعَى الحاجُّ بينَ الصفا والمروةِ استذكاراً لسعيِ هاجرَ أمِّ إسماعيلَ. فإنها لَمَّا استسلمتْ لأمرِ اللهِ وانقادتْ لمشيئتِه رفعَ اللهُ قدْرَها، وأعلَى شأنَهَا، وأزالَ عنها البأساءَ والضراءَ، ومنحَها وابنَها الخيرَ والرخاءَ، أخرجَ البخاريُّ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال:"جاءَ إبراهيمُ عليه السلام بهاجرَ وبابنِهَا إسماعيلَ عليه السلامُ وهي تُرِضِعُهُ حتى وضعَهما عندَ البيتِ عندَ دَوحةٍ فوقَ زمزمَ فوضعهما تحتَهَا، وليسَ بمكةَ يومئذٍ مِن أحدٍ، وليس بها ماءٌ، ووضعَ عندَها جِراباً فيه تمرٌ، وسِقاءً فيه ماءٌ، ثم قَفى إبراهيمُ منطلقا فَتبِعَتْهُ أمُّ إسماعيلَ ،قالت: يا إبراهيمُ أينَ تذهبُ وتترُكُنَا بهذا الوادِي الذي ليسَ به أنيسٌ ولا شيءٌ؟ فقالت له: ذلك مِراراً، فجعلَ لا يَلتفِتُ إليها، فقالت: آللهُ أمرَك بهذا؟ قال: نعمْ. قالت: إذنْ لا يُضَيِّعُنا"، ولم يُضَيِّعْهما اللهُ، حيثُ فجرَّ لهما زمزمَ، وأسبغَ عليهما مِن بركاتِه وأنعمَ، واجتمعَ الناسُ إليهم من كلِّ سبيلٍ، فتحققتْ بذلك دعوةُ أبينا إبراهيمَ الخليلِ { رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [إبراهيم:37]، وما زالتْ زمزمُ والحمدُ للهِ بَرَكةً مِن إنعامِ اللهِ عليهما، وأثراً طيِّباً مِن آثارِهما. وقد ثبتَ في الصحيحينِ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - "شَرِبَ مِن ماءِ زمزمَ، وأنه قال:[كما في رواية مسلمٍ]: إنَّها(147/5)
طعامُ طُعْمٍ".
…عبادَ اللهِ:
…إنَّ أعظمَ أركانِ الحجِّ: الوقوفُ بعرفةَ لقولهِ - صلى الله عليه وسلم -:"الحجُّ عرفة"[أخرجه أحمدُ وأصحابُ السننِ]،وأخرجَ مسلمٌ عن عائشةَ رضي الله عنها أنَّ النبَّيَّ - صلى الله عليه وسلم -قال:"ما مِن يومٍ أكثرَ مِنْ أن يَعْتِقَ اللهُ فيه عبداً مِنَ النارِ مِن يومِ عرفةَ، وإنه ليدنُو عزَّ وجلَّ ثم يُباهِي بهمُ الملائكةَ فيقولُ:ما أرادَ هؤلاءِ؟
يقولُ ابنُ القيِّمِ في وصفِ يومِ عرفة:
…… فللهِ ذاكَ الموقفُ الأعظمُ الذي … …كموقِفِ يومِ العرْضِ بلْ ذاكَ أعظمُ
…ويدنُو به الجبّارُ جلَّ جلالُه … …يُباهِي بهم أملاكَهُ فهوَ أَكرَمُ
يقولُ عَبادِي قد أتَوْنيِ محبةً … وإنِّي بهم بَرٌّ أجودُ وأُكرِمُ
فأُشْهِدُكُم أنّي غفرتُ ذنوبَهم وأعطيتُهُم ما أَمَّلُوه وأُنعِمُ
…أيُّها المسلمونَ:
…ولكي ينالَ المسلمُ أجرَ حجِّهِ كاملاً، ويحصلَ على الجزاءِ الأوفَى مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، فعليه أن يتخلَّقَ أثناءَ حَجه بالفضائِلِ والأخلاقِ الحميدةِ، وأن يبتعدَ عنِ الرذائِلِ والصفاتِ الذميمةِ، يقولُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"مَن حجَّ فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ رجعَ كيومِ ولدَتْه أمُّه"[أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -]، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروه، إنه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ الذي أنارَ لنا الطريقَ، وأرشدَنا إلى الخيرِ والتوفيقِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، الذي أمرَ ببناءِ بيتهِ العتيقِ، وأشهدُ أنَ محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابهِ، ومَنْ تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
…أما بعدُ: فأُوصيكم ونفسِي بتقوَى اللهِ وطاعتِه، والعملِ على مرضاتِه.
…أيُّها المسلمون:(147/6)
…إنَّ مِن شعائِرِ الحجِّ رميَ الجِمارِ وهو رجمٌ للشيطانِ عندَ وسوستِهِ وإغوائِه.و يذكِّرُنا بما قامَ به إبراهيمُ عليه السلامُ حينَ عرضَ له الشيطانُ وهو يُؤدِّي المناسكَ، أخرجَ البيهقيُّ والحاكمُ عن ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهما أنَّ النبِّيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال:"لَمَّا أَتَى إبراهيمُ عليه السلامُ المناسِكَ عرضَ له الشيطانُ عندَ العقبةِ فرماهُ بسبعِ حَصياتٍ فساخَ في الأرضِ ثم عرضَ له عندَ الجمرةِ الثانيةِ فرماه بسبعِ حصياتٍ حتى ساخَ في الأرضِ، ثم عرضَ له عند الجمرةِ الثالثةِ فرماه بسبعِ حصياتٍ حتى ساخَ في الأرض". قال ابنُ عباسٍ:"الشيطانَ تَرجُمونَ ومِلَّةَ أبيكم تَتَّبعونَ".
…وأمَّا الهدْيُ الذي يقدِّمُه القارِنُ والمتمتعُ في يومِ النحرِ وأيامِ التشريقِ تقرُّباً إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وشكراً له على أنعُمِهِ فهو يذكِّرُنا بإقدامِ إبراهيمَ عليه السلامُ لتنفيذِ أمِر رَبِّه لما رأَى في المنامِ أنَّه يذبحُ ولدَه، ورؤيا الأنبياءِ حقٌّ، ففداه اللهُ بذِبْحٍ عظيمٍ، قال تعالى عنِ الهَدْيِ: { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ } [الحج:36-37].(147/7)
…وفي الحجَّ أيُّها المسلمونَ الكثيرُ من الدروسِ والعِبَرِ، ويَكفِي أنه مُلْتقَى المسلمينَ كُلَّ عامٍ مِن كلِّ مكانٍ في العالمِ يجتمعونُ فيه فَيتوَحَّدُونَ تحتَ رايةِ التوحيدِ، ويؤدُّونَ شعائرَ دينِهِم معَ بعضِهِم، ويتعرفُونَ على مشاكِلِ أُمَّتِهِم ومُخطَّطاتِ أعدائِهِم، ويتعاونونَ فيما بينَهم على التَّصَدِّي لها، وعلى مؤازرةِ بعضِهم لبعضٍ، وينصرُونَ دينَ اللهِ فينصرُهُم اللهُ. قال تعالى: { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [الروم:47].
…اللهمَّ اقْسِمْ لنا مِنْ خَشْيَتِكَ ما تَحولُ بهِ بينَنا وبينَ معصِيَتِكَ، ومِنْ طاعَتِكَ ما تبلِّغُنا بهِ جنَّتَكَ، ومِنَ اليقينِ ما تُهوِّنُ بهِ علينا مصائِبَ الدُّنيا، ومتِّعْنا اللهمَّ بأسماعِنا وأبصارِنا وقُوَّتِنا ما أحَيْيتَنا، واجعلْهُ الوارثَ مِنَّا، واجعْل ثأْرَنا علَى مَنْ ظلَمَنا، وانصُرْنا علَى مَنْ عادانا، ولا تجعَلِ الدُّنيا أكبرَ هَمِّنا، ولا مَبْلَغَ عِلْمِنا، اللهمَّ انصرِ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الشِرْكَ والمشركينَ، وأَعْلِ كلمةَ الحقِّ والعَدْلِ والدِّينِ، وأعِزَّ عبادَك المؤمنينَ، اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
…………………
………………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(147/8)
اطبع هذه الصحفة
وقفة محاسبة
أيُّها الإخوةُ في اللهِ:
كمْ وَدَّعْنا في هذا العام ِمِنْ أبٍ وأمٍّ !، وكمْ نَعيْنا مِنْ ولدٍ وبنتٍ!، وكَمْ دفَنَّا مِنْ أخٍ وأختٍ!، ولكنْ أينَ المُعْتبرونَ؟! فأكثرُ الناسِ ـ إلاَّ مَنْ عَصَمَ اللهُ ـ مهمومٌ مغمومٌ في أمورِ الدَّنيا، لكنَّه لا يتحرَّكُ له طَرْفٌ، ولا يهتزُّ مِنْه ساكنٌ، إذا فاتَتْهُ مواسِمُ الخيراتِ، أوْ ساعاتُ تحرِّي الإجاباتِ.
ألاَ وإنَّ مِنْ أعظمِ الغَفْلةِ،أنْ يعلمَ الإنسانُ أنَّه يسيرُ في هذِه الحياةِ إلى أجَلٍ يُنْقِصُ عُمرَهُ،ويُدْنِي نِهايتَه،وهوَ معَ ذلِكَ لاهٍ غافلٌ لا يَحْسُبُ ليومِ الحسابِ،ولا يتجهَّزُ ليومِ المعادِ،وأمرُ اللهِ يطرقُ كلَّ ليلةٍ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 9من ذي الحجة 1427 هـ الموافق 29/12/2006م
وقفة محاسبة
الحمدُ للهِ مُنشِئِ الأيامِ والشهورِ، ومُفْنِي الأعوامِ والدُّهورِ، ومُيسِّرِ الميسورِ ومقدِّرِ المقدورِ، وأشهدُ أنْ لا إلَه إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له الغفورُ الشكورُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولهُ أفضلُ آمرٍ وأجلُّ مأمورٍ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وأصحابهِ أُوليِ الكرامةِ و السرورِ، وعلَى مَنْ تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ البعثِ والنشورِ.
أمَّا بعدُ:
فأُوصيكم معاشِرَ المسلمينَ بتقوَى اللهِ سبحانَه، فمَنِ اتقَّىَ اللهَ أعزَّه وما أهانَه، وأسعدَه وأذهبَ أحزانَه، وأسكنَه فِرْدوسَه وجِنانَه، يقولُ اللهُ سبحانَه: { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } [مريم:63].
عبادَ اللهِ:(148/1)
يقولُ اللهُ سبحانَه: { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [يونس:24]، فهذهِ موعظةٌ بليغةٌ، ووَقفَةٌ للمحاسبةِ عظيمةٌ، ونحنُ نعيشُ هذهِ الأيامَ في وداعِ عامٍ تصرَّمَتْ أيامُه، وقُوِّضَتْ خِيَامُه،كَوَمْضَةِ بَرْقٍ أو غَمْضَةِ عينٍ، عامٌ مضَى، ومِنْ أعمارِنا انقضَى، ولن يعودَ إلى يومِ القيامةِ، رحَلَ هذا العامُ مُخلِّفاً ذكرى وموعِظةً في قلوبِ المؤمنينَ أنَّ هذهِ الدنيا ليستْ بدارِ قرارٍ، كتبَ اللهُ عليها الفناءَ، وكتَبَ علَى أهلِها فيها الظَّعْنَ، فكَمْ مِنْ عامرٍ فيها عمَّا قليلٍ يَخْرَبُ!، وكم مِنْ مُقيمٍ مُغتبطٍ عمَّا قليلٍ يَرْحَلُ!.
إخوةَ الإسلامِ:
إنَّ الدنيا ظِلٌّ زائِلٌ، وسَرابٌ راحِلٌ، غِناها مصيرُه إلى فقرٍ، وصَفْوُها مآلُه إلى كَدَرٍ، وهيهاتَ أنْ يدومَ بها قَرارٌ، وتلكَ سنَّةُ اللهِ تعالىَ في خلقِه، أيامٌ يُداوِلُها بينَ الناسِ لِيعلمَ اللهُ الذينَ آمنوا ويمحَقَ الكافرينَ، إنَّما هِيَ منازِلُ، فراحِلٌ ونازِلٌ، وهِيَ بزينتِها وبريِقها كما قال القائلُ:
أحْلامُ نومٍ أوْ كظِلٍّ زائلٍ إنَّ اللبيبَ بِمثْلِها لا يُخْدَعُ(148/2)
جعلَ اللهُ ما عليها فتنةً للناسِ لِيبلوَهم أيهُّم أحسنُ عَمَلاً، وقَدْ وردَ في الأثَرِ: " إنَّ اللهَ تعالىَ لمْ يَخلُقْ خَلْقاً أبغضَ إليهِ مِنَ الدنيا، وإنَّه مُنْذُ خلَقَها لمْ ينظرْ إليها"، وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضِيَ اللهُ عَنْهما أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بالسوقِ داخلاً مِنْ بعضِ العاليةِ، والناسُ كَنَفَتَهُ، فمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ ـ والأَسَكُّ صغيرُ الأُذنينِ أوْ مقطوعُهما - فتناوَلَه فأخذَ بأذنهِ ثمَّ قالَ: "أيُّكُمْ يُحِبُّ أنَّ هذا له بِدِرْهمٍ؟"، فقالوا: ما نحبُّ أنَّه لنا بشيءٍ، وما نصنعُ به؟ قالَ: "أتحبونَ أنَّه لكم؟"، قالوا: واللهِ لوْ كانَ حيّاً كانَ عيْباً فيهِ لأنَّه أَسَكُّ، فكيفَ وهوَ مَيِّتٌ؟ فقالَ: "فو اللهِ لَلدُّنيا أهونُ علَى اللهِ مِنْ هذا عليكُمْ" [أخرجَه مسلمٌ]، وعَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"لَوْ كانَتِ الدنيا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقَى مِنْها كافراً شَرْبَةَ ماءٍ"[ أخرجَه الترمذيُّ]، وقالَ موسَى عليهِ الصلاةُ و السلامُ يوصِي أصحابَه:" الدنيا قَنْطَرَةٌ فاعبرُوها ولا تَعْمرُوها، ولا تُنازِعُوا أهلَ الدنيا في دنياهم فينازِعُوكم في دِينِكم، فلا دُنياهم أصبْتُم ولا دِينَكم أبقيتُمْ"
إذا أبقتِ الدُّنيا علَى المرءِ دِينَه فَما فاتَهُ مِنْها ليسَ بضائرِ
إذا كُنْتَ بالدنيا بصيراً فإنَّما بَلاغُكَ مِنْها مثلُ زادِ المسافرِ
وإنَّ امرَءًا يبتاعُ دُنْيا بدينِهِ لَمنُقَلِبٌ مِنْها بِصفْقَةِ خاسرِ
ولا تَعْدِلُ الدُّنيا جناحَ بعوضةٍ لدَى اللهِ أوْ مِعْشارَ ريشةِ طائرِ(148/3)
فعجباً لغِفلَتِنا في هذِه الحياةِ معَ كثرةِ العِبَرِ والمواعِظِ، يضحكُ أحدُنا مِلْءَ فيهِ ولعلَّ أكفانَهُ تُنْسَجُ، ويَلْهو ويلعبُ وربَّما مَلَكُ الموتِ واقفٌ عِنْدَ رأسِهِ يستأذِنُ ربَّه في قبضِ روحِهِ.
أيُّها الإخوةُ في اللهِ:
كمْ وَدَّعْنا في هذا العام ِمِنْ أبٍ وأمٍّ !، وكمْ نَعيْنا مِنْ ولدٍ وبنتٍ!، وكَمْ دفَنَّا مِنْ أخٍ وأختٍ!، ولكنْ أينَ المُعْتبرونَ؟! فأكثرُ الناسِ ـ إلاَّ مَنْ عَصَمَ اللهُ ـ مهمومٌ مغمومٌ في أمورِ الدَّنيا، لكنَّه لا يتحرَّكُ له طَرْفٌ، ولا يهتزُّ مِنْه ساكنٌ، إذا فاتَتْهُ مواسِمُ الخيراتِ، أوْ ساعاتُ تحرِّي الإجاباتِ.
ألاَ وإنَّ مِنْ أعظمِ الغَفْلةِ،أنْ يعلمَ الإنسانُ أنَّه يسيرُ في هذِه الحياةِ إلى أجَلٍ يُنْقِصُ عُمرَهُ،ويُدْنِي نِهايتَه،وهوَ معَ ذلِكَ لاهٍ غافلٌ لا يَحْسُبُ ليومِ الحسابِ،ولا يتجهَّزُ ليومِ المعادِ،وأمرُ اللهِ يطرقُ كلَّ ليلةٍ.
يا راقِدَ الليلِ مسروراً بِأوَّلِهِ إنَّ الحوادثَ قَدْ يَطرُقْنَ أسْحارا(148/4)
قالَ الإمامُ ابنُ الَجْوزِيِّ رحَمه اللهُ:"رأيتُ عمومَ الخلائقِ يدفعونَ الزمنَ دَفْعاً عجيباً،إنْ طالَ الليلُ فبشيءٍ لا ينفعُ، وإنْ طالَ النهارُ فبالنومِ المُغرِقِ، وهُمْ في أطرافِ النهارِ في الأسواقِ، ولقَدْ شاهدتُ خلقاً كثيراً لا يعرفونَ معنَى الحياةِ، فمِنْهم مَنْ يخلو باللهوِ واللعبِ، ومِنْهم مَنْ يَقطعُ الزمانَ بكثرةِ الحواديثِ، فعلمتُ أنَّ اللهَ تعالَى لم يُطِلعْ علَى شَرَفِ العُمْرِ، ومعرِفَةِ قدْرِ أوقاتِ العافيةِ إلاَّ مِنْ وفَّقَه وألهمَهُ اغتنامَ ذلِكَ"،كَمْ رأينا في هذه الحياةِ مَنْ بنَى وسكنَ غيرُه!،ومَنْ جمعَ وأكلَ وارِثُه!،ومَنْ تَعِبَ واستراحَ مَنْ بعدَه!، دخلَ أبو الدرْداءِ - رضي الله عنه - الشامَ فقالَ:"يا أهلَ الشامِ اسمعوا قولَ أخٍ ناصِحٍ"، فاجتمعوا عليه فقالَ:"مالي أراكم تبنونَ مالا تَسكنونَ، وتَجمعونَ مالا تَأكلونَ، إن الذين كانوا مِنْ قبلِكم بَنَوْا مَشِيداً، وأمَّلوا بعيداً،وجمعوا كثيراً، فأصبحَ أملُهم غروراً،وجمعُهم ثُبوراً،ومساكِنُهم قبوراً".
عبادَ اللهِ:(148/5)
ألمْ يأنِ للغافلينَ في هذهِ الحياةِ أنْ يُدْرِكوا حقيقتَها، فهِيَ كَدْحٌ وعَناء، ونَعِيمها ابتلاءٌ، جديدُها يَبْلَى، ومُلْكُها يفنَى، ونحنُ معَ ذلِكَ غافلونَ، كأنَّ الموتَ فيها علَى غيرِنا كُتِبَ، وكأنَّ الحقَّ فيها علَى غيرِنا وجَبَ، وكأنَّ الذي نُشيِّعُ إلى القبورِ سَفْرٌ عمَّا قليلٍ إلينا راجعونَ، لقَدْ كانَ سلفُكمُ الصالِحُ علَى غيرِ هذهِ الحالِ، مَعَ قوَّةِ إيمانِهم وتبشيرِهم بالجنَّةِ، يقولُ الحسنُ البصرِيُّ رحِمَهُ اللهُ: "أدركتُ أقواماً لا يَفْرحونَ بشيءٍ مِنَ الدنيا أُوتُوه، ولا يأسفونَ علَى شيءٍ مِنْها فاتَهم، ولقَدْ كانَتِ الدنيا أهونَ عليهِم مِنَ الترابِ الذي يمشونَ عليهِ"، وكانَ أحدُهم إذا بلغَ أربعينَ سنةً طوَى فِراشَه، لا ينامُ مِنَ الليلِ إلا قليلاً، يُصَلِّي ويُسبِّحُ ويَستغفرُ، لِيستدرِكَ ما مضَى مِنَ العمرِ، ولِيسَتعدَّ لِما أقبلَ مِنَ الأهوالِ والغِيَرِ، حتىَّ إنَّهم لَيَصدقُ فِيهم قولُ القائلِ:
إنَّ للهِ عِباداً فُطَنا … طَلَّقُوا الدُّنيا وخافُوا الفِتَنا
نَظَرُوا فِيها فلمَّا عَلِمُوا … … أنَّها ليسَتْ لِحَيٍّ سَكَنا
جعلوها لُجَّةً واتَّخذوا … … صَالحَ الأعمالِ فِيها سُفُنَا
بارَكَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ، ونفعنِي وإيَّاكم بما فيه مِنَ الهُدَى والبيانِ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمينَ فاستغفروه إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له وليُّ المؤمنينَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه الصادِقُ الأمينُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِه الطيِّبينَ الطاهرِينَ، وعلَى تابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أمَّا بعدُ:(148/6)
فاتقوا اللهَ جلَّ وعلاَ، واعلموا أنَّه معَ هذهِ الصفاتِ السيئةِ للدُّنيا، إلاّ أنَّها فرصةٌ ثمينةٌ، ومزرعَةٌ للآخرةِ نفيسةٌ، فهِيَ مَوْسِمٌ للطاعاتِ، وزمَنٌ للعباداتِ، وميدانٌ للتنافُسِ في الصالحاتِ، فيها يتزوَّدُ المسلمُ للآخرةِ، ويعملُ لِلْباقيةِ، فإنَّ الدُّنيا دارُ صدقٍ لمِنْ صَدَقَها، ودارُ نجاةٍ لِمنْ فَهِمَ عَنْها، ودارُ غِنىً لِمنْ تزوَّدَ مِنْها، فَعنِ ابنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لرَجُلٍ وهوَ يعِظُه: "اغتنمْ خمساً قبلَ خمسٍ: شبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ، وصحتَكَ قبلَ سقَمِك، وغِنَاكَ قبلَ فقرِكَ، وفراغَكَ قبلَ شَغْلِكَ، وحياتَكَ قبلَ موتِكَ"[ أخرجَه الحاكمُ].
إخوةَ الإسلامِ:
وفي توديعِ عامٍ واستقبالِ آخرَ تعظمُ مسؤوليةُ المسلمِ في مُحاسبَةِ نفسِه، فها نحنُ اليومَ نعيشُ آخِرَ هذا العامِ الذي تصرَّمَتْ أيامُه، وانقضَتْ لياليِه، وواللهِ لكأنِّي بالأمسِ القريبِ حينَ دخلَ هذا العامُ، وها هوَ ينتهِي وكأنَّه ما كانَ، وهكَذا الدُّنيا، وفي هذا عبادَ اللهِ تذكيرٌ بانقضاءِ الآجالِ، وانتهاءِ الأعمارِ، والانتقالِ إلى الدارِ الآخرةِ حيثُ الجزاءُ والحسابُ، والمنُصْرَفُ إمَّا إلى جنَّةٍ وإمَّا إلى نارٍ، وكم يفرحُ المَرْءُ بذهابِ اللياليِ والأيامِ، لِرغبةٍ أوْ مطمعٍ!، ولكنَّه معَ ذلك يجبُ ألاَّ ينسَى أنَّ ذلك يُنْقِصُ عُمرَه، ويُدْنِي أجلَه، وأنَّها مراحِلُ يقطعُها مِنْ سَفَرِه، وخُطوَاتٌ يمشِيها إلى قبرِه، فهلْ يفرحُ بِذلكَ إلاَّ مَنِ استعدَّ لِلقُدومِ علَى اللهِ بعملٍ صالحٍ يرضَى اللهُ عنْهُ.(148/7)
واعلموا عبادَ اللهِ أنَّنا رأينا مَنْ يملكُ هذهِ الحياةَ الفانيةَ وقَدْ رحلَ مِنْها بكَفَنٍ،والفقيرُ الذي لا يملكُ إلا قوتَ يومِه قَدْ رحلَ مِنْها بكفنٍ، فالجميعُ لا شكَّ متساوونَ في القبورِ، المعُظَّمُ والمُحتَقرُ، ولكنَّ بواطنَ القبورِ مختلفةٌ،فهِيَ إمَّا روضةًٌ مِنْ رياضِ الجنَّةِ،وإمَّا حفرةٌ مِنْ حُفَرِ النارِ،فاللهَ اللهَ بالعملِ، وتذكُّرِ الأجلِ، والاستزادةِ مِنْ هذِه الدنيا قبلَ انقطاعِ الأملِ،واعلَموا أنَّ شرَّ الناسِ مَنْ طالَ عمرُهُ وساءَ عملهُ،وخيرَ الناس ِمَنْ طالَ عُمُرهُ وحَسُنَ عملُه كما صحَّ بذلِكُمُ الخبرُ،عَنْ سِّيدِ البشرِ- صلى الله عليه وسلم -.
اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ والمسلمينَ والمسلماتِ الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ آتِ نفوسَنا تَقْواها وزكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها أنتَ وليُّها ومولاها، اللهمَّ تقبَّلْ توبتَنا، واغسِلْ حَوْبتَنا، وأجِبْ دعوتَنا، وثبِّتْ حُجَّتنا، وسدِّدْ ألسنتَنا، وطهِّرْ قلوبَنا واسترْ عَوراتِنا، وآمِنْ رَوْعاتِنا.
اللهمَّ وَفِّقْ أميرَنا وولِيَّ عهدِهِ لِهُداك, واجْعَلْ عملَهما في رِضاكَ، اللهمَّ احْفَظْهُما بِحِفْظِكَ، واكْلأْهُما بِرِعايتِكَ, وأَلْبِسْهُما ثوبَ الصحةِ والعافيةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اجعلْ هذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخاءً رَخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتَقَبَّلِ اللهمَّ شُهداءَنا وشُهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرةِ حسنةً؛ وقِنا عذابَ النَّارِ.
………………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(148/8)
اطبع هذه الصحفة
عيد الأضحى المبارك 1427هـ
…أيُّها المسلمونَ:
…إنَّ هذا اليومَ هوَ يومُ الوفاءِ والصدقِ والإخاءِ بينَ جماعةِ المسلمينَ، هذا يومُ تلاقِي الإخوانِ بنفوسٍ صافيةٍ وقلوبٍ صالحةٍ, هذا يومُ صلاحِ ذاتِ البَيْنِ وزيارةِ الأرحامِ، والإحسانِ إلى الفقراءِ والمساكينِ والأيتامِ، عنْ أنسٍ - رضي الله عنه -، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"لا تباغَضُوا، ولا تحاسَدُوا، ولا تدابَرُوا، ولا تقاطَعُوا، وكونُوا عبادَ اللهِ إخواناً، ولا يَحِلُّ لمسلمٍ أن يَهجُرَ أخاه فوقَ ثلاثٍ"[متفقٌ عليه]، وعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "تُفتحُ أبوابُ الجنَّةِ يومَ الاثنينِ والخميسِ، فَيُغفَرُ لكلِّ عبدٍ لا يشركُ باللهِ شيئاً, إلا رجلاً كانَتْ بينَه وبينَ أخيهِ شَحْناءُ، فيُقالُ:"أَنْظِرُوا هذينِ حتىَّ يَصْطَلِحا، أَنْظِرُوا هذينِ حتى يَصْطَلِحا, أَنْظِرُوا هذينِ حتى يَصْطَلِحا"[أخرجَه مسلمٌ].
الخطبة المذاعة والموزعة
عيد الأضحى المبارك 1427هـ
…الحمدُ للهِ الذي جَمَّلَ الأعيادَ بالسرورِ, وضَاعفَ للمتقينَ جزيلَ الأُجورِ, وقَبِلَ مِنَ الحُجَّاجِ والعُمَّارِ سعيَهمُ المشكورَ. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له مُعِزُّ أوليائهِ, وأشهدُ أنّ سيدَنا محمدًا رسولُ الله سيِّدُ رُسلهِ وأنبيائهِ, اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ وعلَى آلهِ وأصحابِهِ أجمعينَ, ومَنِ اهتدَى بهديِه إلى يومِ الدينِ.
…أمَّا بعدُ:
…فأَُوصيكم – أيُّها المسلمونَ – ونفسِي أولاً بِتقوَى اللهِ تعالَى وطاعَتهِ؛ فهيَ وَصِيَّتُه سبحانَه للأَوَّلينَ والآخِرينَ, كما قالَ تعالىَ في كتابهِ المبينِ: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ } { النساء:131 } .(149/1)
…اللهُ أكبرُ ما هَامَ قلبُ مشتاقٍ إلى حَجِّ بيتِ اللهِ الحرامِ. اللهُ أكبرُ ما تهيَّأَ للرحيلِ مُحِبٌّ هَزَّهُ الوَجْدُ والغَرامُ. اللهُ أكبرُ ما سارَ الحُجَّاجُ إلى أنْ وَصلوا إلى الميقاتِ واغتسلوا للإحرامِ. الله أكبرُ ما تجرَّدوا من المَخِيطِ وأحرموا منَ الميقاتِ وقدَ فَرِحَ كلٌّ مِنْهم بنوالِ مقصودِه واستبشَرَ.
…اللهُ أكبرُ, اللهُ أكبرُ, اللهُ أكبرُ.
…اللهُ أكبرُ ما جَدُّوا في المسيرِ حتَّى شاهدوا الكعبةَ البهيَّةَ. اللهُ أكبرُ ما غُفِرَتْ ذنوبُهم ونالوا المواهِبَ السَّنِيَّةَ. الله أكبرُ ما ضَجُّوا بالتلبيةِ إجابةً لأذانِ الخليلِ في البَرِيَّةِ. اللهُ أكبرُ ما طافوا وسَعَوا وشَرِبوا مِنْ ماءِ زمزمَ المُطَهرِّ.
…اللهُ أكبرُ, اللهُ أكبرُ, اللهُ أكبرُ.
…اللهُ أكبرُ ما هلَّتْ مَطايا الأشواقِ إلى عرفاتٍ. اللهَ أكبرُ ما ابتهلوا فيهِ وحُطَّتْ عنهُم جميعُ السيئاتِ. اللهُ أكبُر ما ازدلَفوا ووقَفُوا بالمشْعَرِ الحرامِ فارتفعوا إلى أعلَى الدرجاتِ. الله أكبرُ ما وصلُوا إلى مِِنىً ورمَوْا جمرةَ العقبةِ ونحروا هداياهم وحَلَقَ كُلٌّ أوْ قصَّرَ.
…اللهُ أكبرُ, اللهُ أكبرُ, اللهُ أكبرُ.
…اللهُ أكبرُ ما طافوا طوافَ الإفاضةِ بعدَ الرجوعِ لأمِّ القُرَى. اللهُ أكبُر ما سعَى مَنْ سعَى وضُوعِفَ لهمُ القِرَى. اللهُ أكبرُ ما تباعدَ عنهمُ الشيطانُ الرجيمُ ورجعَ القَهْقَرَى. اللهُ أكبُر ما رَمَوُا الجمارَ يومينِ لِمَنْ تعجَّلَ وثلاثةً لمَِِنْ تأخَّرَ.
…أيُّها المسلمونَ:(149/2)
…إنَّ هذا اليومَ هوَ يومُ الوفاءِ والصدقِ والإخاءِ بينَ جماعةِ المسلمينَ، هذا يومُ تلاقِي الإخوانِ بنفوسٍ صافيةٍ وقلوبٍ صالحةٍ, هذا يومُ صلاحِ ذاتِ البَيْنِ وزيارةِ الأرحامِ، والإحسانِ إلى الفقراءِ والمساكينِ والأيتامِ، عنْ أنسٍ - رضي الله عنه -، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"لا تباغَضُوا، ولا تحاسَدُوا، ولا تدابَرُوا، ولا تقاطَعُوا، وكونُوا عبادَ اللهِ إخواناً، ولا يَحِلُّ لمسلمٍ أن يَهجُرَ أخاه فوقَ ثلاثٍ"[متفقٌ عليه]، وعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "تُفتحُ أبوابُ الجنَّةِ يومَ الاثنينِ والخميسِ، فَيُغفَرُ لكلِّ عبدٍ لا يشركُ باللهِ شيئاً, إلا رجلاً كانَتْ بينَه وبينَ أخيهِ شَحْناءُ، فيُقالُ:"أَنْظِرُوا هذينِ حتىَّ يَصْطَلِحا، أَنْظِرُوا هذينِ حتى يَصْطَلِحا, أَنْظِرُوا هذينِ حتى يَصْطَلِحا"[أخرجَه مسلمٌ].
…عبادَ اللهِ:
…إنَّ اللهَ تعالَى خلقَكمْ لعبادتِه, وأمرَكم بطاعتِه, فأقيموا أركانَ الإسلامِ الخمسةَ, مِنَ الشهادتَيْنِ, وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ, وصيامِ رمضانَ, وحَجِّ بيتِ اللهِ الحرامِ لمنِ استطاعَ إليهِ سبيلاً, فإنَّ هذا هوَ دينُكم الذي رَضِيَهُ اللهُ تعالَى لكم, وأتمَّ به النعمةَ عليكم, كما قالَ عJزَّ مِنْ قائلٍ: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } { المائدة:3 } .(149/3)
…عَنْ طارقِ بنِ شِهابٍ - رضي الله عنه - قالَ: جاءَ رجلٌ مِنَ اليهودِ إلى عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه - فقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ: إنَّكم تقرؤون آيةً في كتابِكم, لوْعلينا معشرَ اليهودِ نزلَتْ لاتَّخَذْنا ذلكَ اليومَ عيداً. قالَ: وأيُّ آيةٍ ؟ قالَ: قولُه:"الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي". فقالَ عمرُ: واللهِ إنيِّ لأعلَمُ اليومَ الذي نزلَتْ علَى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -, والساعةَ التي نَزلَتْ فيها علَى رسولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم -:"نزلَتْ عَشِيَّةَ عرفةَ, في يومِ جمعةٍ"[أخرجَه البخاريُّ وأحمدُ واللفظُ له]، فأقيموا دينَكم دينَ الإسلامِ, وتعاونوا على البرِّ والتقوَى ولا تعاونوا على الإثْمِ والعُدوانِ, { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } { آل عمران:103 } .
…تمسَّكوا بالإخلاصِ والتوحيدِ للهِ ربِّ العالمينَ, وحافظوا علَى العهودِ والوعودِ وأَوْفوا بالعقودِ, وتخلَّقوا بمحاسنِ الأخلاقِ ومعالِيها, مِن برِّ الوالدينِ وصِلَةِ الأرحامِ, والصدقةِ والإحسانِ على الفقراءِ والمساكينِ والأيتامِ, والصدقِ والصبرِ والإنصافِ, وحُسنِ مُعاشرةِ الناسِ والأهلِ والأولادِ, وبَذْلِ المعروفِ وكَفِّ الأذَى عَنْ كلِّ الأنامِ, وابتعِدُوا عَنْ مساوئِ الأخلاقِ وسَفاسِفِها, مِنَ الكِبْرِ والمِراءِ والعنادِ, واللعنِ والفُحشِ وبَذِيءِ الكلامِ, والحسدِ والبغضاءِ والضغينةِ, والكذبِ والغِيبَةِ والنَّميمةِ وسائرِ الآثامِ.
…عبادَ اللهِ:…(149/4)
…يقولُ أنسٌ - رضي الله عنه -: قَدِمَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ ولأهلِ المدينةِ يومانِ يلعبونَ فيهما, فقالَ: "قدِمْتُ عليكم ولكم يومان تلعبونَ فيهما, فإنَّ اللهَ أبدلَكم يومينِ خيراً مِنْهما: يومَ الفطرِ ويومَ النحرِ"[أخرجه أحمدُ وأبو داودَ والنسائيُّ].
…باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيمِ, ونفعنِي وإيَّاكم بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذكرِ الحكيمِ, أقولُ قوليِ هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ, لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ فاستغفروه إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
……………الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ كثيراً, واللهُ أكبرُ كبيراً, وسبحانَ اللهِ بكرةً وأصيلاً. الحمدُ للهِ الذي خَلقَ فسوَّى, وقدَّرَ فهدَى, وأماتَ فأحيا. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له, تعالَى عمَّا يقولُ الظالمونَ عُلُوًّا كبيراً, وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه أرسلَه إلى الناسِ كافَّةً بشيرًا ونذيراً, وداعيًا إلى اللهِ بإذنِه وسراجًا منيراً. اللهمَّ صلِّ وسَلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ وعلَى آلهِ وأصحابهِ وطَهِّرْهم تطهيراً.
…أمَّا بعدُ:(149/5)
…فاعلَموا – رحمَنِي اللهُ وإيَّاكم – أنَّ يومَكم هذا يومٌ رفَعَ اللهُ تعالَى قَدْرَه, وعيدٌ أبانَ عَنْ فضلهِ وشرَّفَ ذِكْرَه, فهوَ يومُ الحجِّ الأكبرِ, والمَوْسِمِ الأنْوَرِ, يجتمعُ فيه وفدُ منىً لإكمالِ مناسِكِهم, والتقرُّبِ إلى المولى عزَّ وجلَّ بإراقةِ الدماءِ، وقدْ جعلَ اللهُ تعالَى لكم عيدًا كعيدِهم, ومَشْهدًا فيهِ مِنْ مشهدِهم؛ حيثُ تجتمعونَ علَى الذِّكْرِ والصلاةِ, وسماعِ كلامِ اللهِ, وشرَعَ لكم فيهِ التقرُّبَ بالضحايا, كما شرعَ لأهلِ ذلكمُ المكانِ بالتقرُّبِ إليهِ بالهدايا، والتقرُّبُ إلى اللهِ تعالَى بذلِكَ سُنَّةٌ قديمةٌ, وشِرْعةٌ قويمةٌ, فهِيَ مِنْ أعلامِ مِلَّةِ أبينا إبراهيمَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ, وشعيرةٌ مِنْ شعائِرِ دينِ نبيِّنا محمدٍ خاتمِ الرسلِ الكرامِ, - صلى الله عليه وسلم -.(149/6)
…وقد قَصَّ اللهُ عزَّ وجلَّ علينا قصةَ إبراهيمَ حينَ قرَّبَ ابنَه إسماعيلَ عليهما الصلاةُ والسلامُ, إلى الخالقِ جلَّ جلالهُ, فقالَ سبحانَه: { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ*فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ*وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ*قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ الْمُبِينُ*وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ*وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ*سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } { الصافات:102-109 } ، وأكَّدَ علينا نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - أَمْرَ الأُضحيَةِ فقالَ:"مَنْ وجدَ سَعَةً ولم يُضحِّ فلا يقربنَّ مُصَلَّانا" [أخرجه أحمدُ وابنُ ماجه]، واعلموا – معاشِرَ المسلمينَ – أنَّ أيامَ التشريقِ – وهِيَ الأيامُ الثلاثةُ بعدَ يومِ عيدِ الأضحَى - لا يحلُّ صومُها لحاجٍّ ولا لغيرِ حاجٍّ عندَ جميعِ العلماءِ, إلا لحاجٍّ لم يجدِ الهَدْيَ؛ لأنَّها أيامُ أكْلٍ وشُربٍ وذكرٍ للهِ عزَّ وجلَّ, كما قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -.
…عبادَ اللهِ:(149/7)
…ونوجِّهُ كلمةً لِنسائِنا الكريماتِ الفُضْلياتِ فنقولُ لهنَّ: حافِظْنَ علَى تقَوى اللهِ تعالَى, واحفَظْنَ حقَّ أزواجِكُنَّ, وارْعَيْنَ أولادَكنَّ بما يُرْضِي الربَّ تباركَ وتعالَى, واحذرْنَ مِن التبرُّجِ والسُّفورِ، ومِنْ كلِّ ما يُغضبُ المولىَ جلَّ جلالُه, فقدْ قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } { الأحزاب:33 } ، وقالَ - صلى الله عليه وسلم -:"صِنْفانِ مِنْ أهلِ النَّارِ لم أَرَهُما: قومٌ معهم سِياطٌ كأذنابِ البقَرِ يضربونَ بها الناسَ، ونساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ، مميلاتٌ مائلاتٌ، رؤوسُهُنَّ كأسْنِمَةِ البُخْتِ المائلةِ، لا يدخُلْنَ الجنَّةَ, ولا يجدْنَ رِيحهَا، وإنَّ ريحَها لَيوجَدُ مِنْ مَسيرةِ كَذا وكَذا" [أخرجَه مسلمٌ عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -].
………اللهمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، إنَّك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ، اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ, وأذِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ, ودَمِّرِ اللهمَّ أعداءَكَ أعداءَ الدينِ، اللهمَّ اقسمْ لنا مِنْ خشيَتِكَ ما تحولُ بهِ بينَنا وبينَ معاصِيكَ, ومِنْ طاعتِكَ ما تبلِّغنُا بهِ جنَّتَكَ, ومِنَ اليقينِ ما تهوِّنُ بهِ علينا مصائِبَ الدُّنيا، اللهمَّ متِّعْنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقُوَّتِنا ما أحييْتَنا, واجعلْهُ الوارِثَ مِنَّا, واجعلْ ثأْرَنا علَى مَنْ ظلمَنا, وانصرْنا علَى مَنْ عادانا, ولا تجعلْ مُصيبتَنا في دينِنا, ولا تجعلِ الدُّنيا أكبرَ هَمِّنا ولا مبلغَ عِلْمِنا, ولا تسلِّطْ علينا مَنْ لا يرحَمُنا.(149/8)
…اللهمَّ أصلحْ لنا دِينَنا الذي هوَ عِصْمَةُ أمرِنا, وأصلِحْ لنا دُنيانا التي فيها معاشُنا, وأصِلحْ لنا آخرَتَنا التي فيها مَعادُنا, واجعلِ الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ, واجعلْ الموتَ راحةً لنا مِنْ كلِّ شَرٍّ. ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النَّارِ، اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
…………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(149/9)
اطبع هذه الصحفة
مجابو الدَّعوة
مَعْشَرَ البرِيَّةِ:
…إنَّ الدعاءَ هوَ حقيقةُ العبُوديَّةِ، فاتخذوه يا عِبادَ اللهِ عُدَّةً وذُخْراً، فإنَّ النبيَّ الكريمَ قدْ قالَ " إنَّ ربَّكم تبارَكَ وتعالَى حَيِيٌّ كريمٌ يستحِي مِنْ عبدِهِ إذا رفعَ يدَيْهِ إليه أنْ يردَّهما صِفْراً " [كما أخرجَه أبو داودَ والترمذيُّ والنسائيُّ مِنْ حديثِ سلمانَ الفارسيِّ - رضي الله عنه - مرفوعاً]، فواجبٌ علَى مَنْ سمِعَ بهذا الفضلِ العظيمِ أنْ يسيرَ في تحصيِله سيرَ الحاثِّ، فقدْ قالَ نبيُّنا الكريمُ - صلى الله عليه وسلم -"ما مِنْ مسلمٍ يدعو بدَعْوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعةُ رَحِمٍ إلاّ أعطاهُ اللهُ بها إحدَى ثلاثٍ: إمَّا أنْ تُعجَّلَ له دَعوتُه، وإمَّا أنْ يدَّخِرَها له في الآخرةِ، وإمَّا أنْ يَصرِفَ عَنْه مِنَ السُّوءِ مِثْلَها"[كما أخرجَه أحمدُ مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - مرفوعاً]
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 14 من ذي الحجة 1427هـ الموافق 5 يناير 2007م
مجابو الدَّعوة
…الحمدُ للهِ الذي أمرَ عبادَه بالدعاءِ، ووعدَهم عليه الإجابةَ والقبولَ والجزاءَ، أحمدُ ربِّي حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه علَى تفَرُّدِه بالإماتةِ والإحياءِ؛ وبالمنعِ والإعطاءِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له المتوحِّدُ بالعزَّةِ والكبرياءِ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه خاتَمُ الرُّسلِ والأنبياءِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وأزواجِه وأصحابِه البررَةِ الأتقياءِ.
…أمَّا بعدُ:
…فأُوصيكم مَعْشَرَ الورَى: بتْقوَى الموْلَى، فتزوَّدُوا بها لأُخْراكم { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } { البقرة: 197 } .
إذا أنتَ لم ترحلْ بزادٍ مِنَ التُّقىَ…… ولاقَيْتَ بعدَ الموتِ مَنْ قَدْ تَزوَّدا
نَدِمْتَ علَى أنْ لا تكونَ كِمثْلِهِِ…… وأنَّكَ لم ترصُدْ كما كانَ أرْصدَا(150/1)
…مَعْشَرَ البرِيَّةِ:
…إنَّ الدعاءَ هوَ حقيقةُ العبُوديَّةِ، فاتخذوه يا عِبادَ اللهِ عُدَّةً وذُخْراً، فإنَّ النبيَّ الكريمَ قدْ قالَ " إنَّ ربَّكم تبارَكَ وتعالَى حَيِيٌّ كريمٌ يستحِي مِنْ عبدِهِ إذا رفعَ يدَيْهِ إليه أنْ يردَّهما صِفْراً " [كما أخرجَه أبو داودَ والترمذيُّ والنسائيُّ مِنْ حديثِ سلمانَ الفارسيِّ - رضي الله عنه - مرفوعاً]، فواجبٌ علَى مَنْ سمِعَ بهذا الفضلِ العظيمِ أنْ يسيرَ في تحصيِله سيرَ الحاثِّ، فقدْ قالَ نبيُّنا الكريمُ - صلى الله عليه وسلم -"ما مِنْ مسلمٍ يدعو بدَعْوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعةُ رَحِمٍ إلاّ أعطاهُ اللهُ بها إحدَى ثلاثٍ: إمَّا أنْ تُعجَّلَ له دَعوتُه، وإمَّا أنْ يدَّخِرَها له في الآخرةِ، وإمَّا أنْ يَصرِفَ عَنْه مِنَ السُّوءِ مِثْلَها"[كما أخرجَه أحمدُ مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - مرفوعاً]، وقد قصَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - علَى الصحابةِ - رضي الله عنهم -: مِنْ قَصَصِ الأُمَمِ السابقةِ مِمَّنْ دعا اللهَ تعالَى فأجابَه،كما أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"كانَ جُرَيجٌ رجلاً عابداً، فاتَّخذَ صومعةً فكانَ فيها، فأتَتْه أُمُّه وهو يُصلِّي فقالَتْ:يا جُريجُ.فقالَ:يا ربِّ، أُمِّي وصَلاتي، فأقبلَ على صلاتِه، فانصرفَتْ.فلمَّا كانَ مِنَ الغدِ أتَتْه وهوَ يُصلِّي فقالت: يا جريجُ. فقالَ: يا ربِّ، أُميِّ وصلاتِي، فأقبلَ علَى صلاتِه، فانصرفَتْ، فلمَّا كانَ مِنَ الغدِ أتَتْه وهوَ يُصلِّي فقالَتْ: يا جُريجُ. فقالَ: أيْ ربِّ، أُمِّي وصلاتِي، فأقبلَ علَى صلاتِه، فقالَتْ: اللهمَّ لا تُمِتْه حتىَّ ينظرَ إلى وجوهِ الموُمِسَاتِ فتذاكرَ بنو إسرائيلَ جريجاً وعِبادتَهُ، وكانَتِ امرأةٌ بَغِيُّ يُتمثَّلُ بحُسْنِها، فقالَتْ: إنْ شِئتمْ لأَفْتِننَّه لكم. فتعرَّضَتْ له، فلمْ(150/2)
يلتفتْ إليها، فأتَتْ راعياً كانَ يأَْوِي إلى صومعتِه فأمكنَتْهُ مِن نفسِها، فوقَعَ عليها فحمَلَتْ، فلمَّا ولدَتْ قالَتْ: هوَ مِنْ جُريجٍ، فأتَوْه فاستنزلوه وهدَموا صومَعَته، وجعلوا يضربونَه، فقالَ: ما شأنُكم؟ قالوا: زنَيْتَ بهذهِ البَغِيِّ، فولدَتْ مِنْك. فقالَ: أينَ الصبيُّ؟ فجاءوا به، فقالَ: دَعوني حتَّى أُصَلِّيَ، فصلَّى فلما انصرفَ أتى الصبيَّ فطعنَ في بطنِه وقالَ: يا غلامُ، مَنْ أبوك؟ قالَ: فلانٌ الراعِي، فأقبلوا علَى جريجٍ يُقبِّلونَه ويتمسَّحونَ به، وقالوا: "نبْنِي لكَ صومَعتَكَ مِنْ ذهبٍ. قالَ: لا، أعيدوها مِنْ طينٍ كما كانَتْ، ففعلوا"، فأفادَ هذا الحديثُ معشرَ المؤمنينَ: استجابةَ دعاءِ الوالدينِ علَى البنينَ، كما يفيدُ الحديثُ الآتيِ الذكرِ إجابةَ دعاءِ المضطرِّينَ، إذْ أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضِيَ اللهُ عَنْهما عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ: "بينما ثلاثةُ نَفَرٍ يتمشَّوْنَ أخذَهمُ المطرُ، فأوَوْا إلى غارٍ في جبلٍ، فانحطَّتْ على فمِ غارِهم صخرةٌ مِنَ الجبلِ فانطَبقَتْ علَيْهم، فقالَ بعضُهم لبعضٍ: انْظُروا أعمالاً عَمِلْتُموها صالحةً للهِ، فادْعُوا اللهَ تعالَى بها، لعلَّ اللهَ يَفْرُجُها عَنْكم فقالَ أحدُهم: اللهمَّ إنَّه كانَ لي والِدانِ شيخانِ كبيرانِ وامرأتِي؛ ولي صِبْيَةٌ صِغارٌ أرعَى عليهم، فإذا أرحْتُ عليهم حلبْتُ؛ فبدأْتُ بوالِديَّ فسقَيْتُهما قبلَ بَنِيَّ، وأنَّه نأَى بي ذاتَ يومٍ الشَّجَرُ؛ فلمْ آتِ حتىَّ أمسيتُ،فوجدْتُهما قدْ ناما، فحلَبْتُ كما كنتُ أحلِبُ، فجئتُ بالحِلابِ فقمتُ عندَ رؤوسِهما، أكرَهُ أنْ أوقِظَهما مِنَ نومِهما؛ وأكرَه أنْ أسْقِيَ الصِبْيَةَ قبلَهما، والصِبيَةُ يتضاغَوْنَ عندَ قدمَيَّ، فلمْ يزلْ ذلك دأْبِي ودأبُهم حتَّى طلعَ الفجرُ، فإنْ كنْتَ تعلمُ أنىَّ فعلتُ ذلكَ ابتغاءَ وجهِكَ فافْرُجْ لنا(150/3)
مِنْها فُرْجَةً نرَى مِنْها السماءَ، ففَرَجَ اللهُ مِنْها فرجةً فرأَوْا مِنْها السماءَ، وقالَ الآخرُ:اللهمَّ إنَّه كانَتْ لي ابنةُ عمٍّ أحبَبْتُها كأشدِّ ما يُحِبُّ الرجالُ النساءَ، وطلبْتُ إليها نفسَها فأبَتْ؛ حتىَّ آتِيَها بمائِة دينارٍ، فَتعِبْتُ حتَّى جمعتُ مائةَ دينارٍ؛ فجئْتُها بها، فلمَّا وقعْتُ بيْنَ رِجْلَيْها قالَتْ:يا عبدَ اللهِ؛ اتقِ اللهَ ولا تفتَحِ الخاتمَ إلاَّ بحقِّه. فقمتُ عَنْها، فإنْ كنتَ تعلمُ أنِّى فعلتُ ذلكَ ابتغاءَ وجهِكَ فافرُجْ لنا مِنْها فُرجةً، ففرجَ لهم، وقالَ الآخرُ: اللهمَّ إنيِّ كنتُ استأجرْتُ أجيراً بفَرَقِ أَرُزٍّ، فلمَّا قضَى عملَه قالَ: أعطِني حقِّي. فعرضْتُ عليهِ فَرَقَه فرغِبَ عَنْه، فلمْ أزلْ أزرعُه حتَّى جمعْتُ مِنْه بقراً ورعاءَها، فجاءني فقالَ: اتقِ اللهِ ولا تظلمْنِي حقِّي. قلتُ: اذهبْ إلى تِلكَ البقرِ ورعائِها فخُذْها. فقال: اتقِ اللهَ ولا تستهزِئْ بي. فقلتُ: إنيِّ لا أستهزئُ بكَ، خُذْ ذلكَ البقرَ ورعاءَها، فأخذَهُ فذهبَ بهِ، فإنْ كنتَ تعلمُ أنىِّ فعلتُ ذلكَ ابتغاءَ وجهكَ فافرجْ لنا ما بَقِيَ، ففَرَجَ اللهُ ما بَقِيَ".
…أيُّها المؤمنونَ:(150/4)
…هذهِ بعضُ سِيَرِ مَنْ سَلَفَ مِنَ الأُمَمِ مِمَّنْ كانَتْ دعوتُه مستجابةً، ولْنذكرْ سيرةً مِنْ سِيَرِ مَنْ كانَ مُجابَ الدعوةِ مِنَ الصحابةِ، فأَرْعِ يا عبدَ اللهِ هذا الأثرَ سمعَكَ وكُنْ بهِ عالماً، واحذرْ بعدَ سماعِه أنْ تكونَ للمظلومِ ظالماً، فقدْ أخرجَ البخاريُّ في صحيحهِ مِنْ حديثِ جابرِ بنِ سُمْرةَ - رضي الله عنه - قالَ:" شكا أهلُ الكوفةِ سعدَ بنَ أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه - إلى عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه - فعزلَه، واستعملَ عليهم عمَّارَ بنَ ياسرٍ - رضي الله عنه -، فشكَوْا حتَّى ذكروا أنَّه لا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فأرسلَ إليهِ فقالَ: يا أبا إسحاقَ، إنَّ هؤلاءِ يزعمونَ أنَّك لا تُحسِنُ تُصلِّي. قالَ أبو إسحاقَ: أمَّا أنا واللهِ؛ فإنِّي كنتُ أُصلِّي بهم صلاةَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ ما أخْرِمُ عَنْها، أُصَلِّي صلاةَ العِشاء فأركدُ في الأُولَيَيْنِ، وأخفُّ في الأُخْريَِيْنِ، قالَ عمرُ: ذاكَ الظنُّ بكَ يا أبا إسحاقَ، فأرسلَ معه رجُلاً أوْ رِجالاً إلى الكوفةِ، فسألَ عَنْه أهلَ الكوفةِ، ولم يَدَعْ مسجداً إلا سألَ عَنْه، ويُثنونَ معروفاً، حتى دخلَ مسجداً لبني عَبْسٍ، فقامَ رجلٌ مِنْهم - يُقالُ له أُسامةُ بنُ قَتادَةَ يُكنَّى أبا سَعْدَةَ- قالَ: أمَّا إذْ نَشَدْتنَا، فإنَّ سعداً كانَ لا يسيرُ بالسَّريَّةِ، ولا يَقْسِمُ بالسَّوِيَّةِ، ولا يعدِلُ في القضِيَّةِ. قالَ سعدٌ: أما واللهِ لأدعوَنَّ بثلاثٍ: اللهمَّ إنْ كانَ عبدُكَ هذا كاذِباً؛ قامَ رياءً وسُمْعةً؛ فأطِلْ عمرَه، وأطلْ فقرَه، وعَرِّضْهُ بالفِتَنِ. وكانَ بعدُ إذا سُئِلَ يقولُ: شيخٌ كبيرٌ مفتونٌ، أصابَتْنِي دعوةُ سعدٍ، قالَ عبدُ الملكِ بنُ عُمَيْرٍ: فأنا رأيتهُ بعدُ؛ قَدْ سَقَطَ حاجِباهُ علَى عينَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وإنَّه لَيتَعرَّضُ لِلْجوارِي في الطُّرُقِ يغمِزُهُنَّ".
…
…أيُّها الأحبابُ:(150/5)
…لقدْ كانَ في قَصَصِهم عبرةٌ لأُوليِ الألبابِ، فأسألُ اللهَ تعالَى أنْ يجعلَنيِ وإيَّاكمْ ممَّنْ تابَ إلى ربِّهِ وأنابَ، فتوبوا إلى ربكِّم واستغفروه إنَّه هوَ الغفورُ التَّوابُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ غافرِ الذنوبِ، وقابلِ التَّوْبِ وساترِ العُيوبِ، ومُفرِّجِ الهمِّ وكاشفِ الكُروبِ، سبحانَهُ وبحمدِهِ: يَجبرُ الكَسيرَ، ويُغنِي الفقيرَ، ويُعلِّمُ الجاهلَ ويُرشِدُ الحيرانَ، ويَهدِي الضالَّ ويُغيثُ اللهفانَ، ويُعافِي المُبتلَى ويَفِكُّ العانِيَ، ويُشبعُ الجائعَ ويَكسُو العارِيَ، ويُقِيلُ العَثَراتِ، ويَسترُ العَوْراتِ، يُؤتي المُلكَ مَنْ يشاءُ، ويَنزِعُ المُلكَ مِمَّنْ يَشاءُ، ويُعِزُّ مَنْ يَشاءُ، ويُذلُّ مَنْ يَشاءُ، بيدِهِ الخيرُ، إنَّهُ عَلَى كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأشهد أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له السميعُ البصيرُ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه البشيرُ النذيرُ؛ والسراجُ المنيرُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وأزواجهِ وأصحابهِ ومَنْ تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ المصيرِ.
أمَّا بعدُ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ*وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ*لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } { الحشر: 18-20 } .
…عبادَ اللهِ الأخيارَ:(150/6)
…لقَدْ تعدَّدَتِ الآثارُ؛ وتنوَّعَتِ الأخبارُ؛ في تسميةِ مَنْ وُصِفوا بأنَّهم مُجابو الدعاءِ، وتعيينِ وقتِ الإجابةِ والعطاءِ، فمِمَّنْ جاءتِ الآثارُ بجوابِ دعوتِهم؛ وثوابِ طَلْبتِهِم: الإمامُ العادلُ، والصائمُ حتَّى يُفطرَ، ودعوةُ المظلومِ، والمسافرُ حتَّى يرجعَ، ودعاءُ الرجلِ لأخيهِ المؤمنِ بظهرِ الغيبِ، ودعوةُ الوالدِ علَى ولدِه، ودعوةُ المضطرِّ، ودعاءُ الحاجِّ في عرفةَ وعندَ المشعرِ الحرامِ وبعدَ رمْيِ الجمرةِ وعلَى الصفا، ومِنَ الأوقاتِ التي هي مَظَنَّةُ الإجابةِ؛ ومِنْ دواعِي الإثابَةِ: ليلةُ القَدْرِ، وجوفُ الليلِ الآخِرُ، وبينَ الأذانِ والإقامةِ، وعنْدَ نزولِ الغيثِ، وآخِرُ ساعةٍ مِنْ يومِ الجمعةِ، وفي السجودِ، وليكنْ مِسْكُ الختامِ …معشرَ الإخوةِ الكرامِ: ترطيبَ ألسنتِكم بالصَّلاةِ والسلامِ، علَى خيرِ الأنامِ، امتثالاً لأمرِ الملكِ القدوسِ السلامِ، حيثُ قالَ في أصدقِ قِيلٍ وأحسنِ حديثٍ وخيرِ كلامٍ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب: 56 } .
…اللهمَّ صلِّ علَى محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، في العالَمينَ، إنَّك حميدٌ مجيدٌ،وارضَ اللهمَّ عَنِ الأربعةِ الخلفاءِ الراشدينَ؛ والأئمةِ الحُنفَاءِ المهديِّينَ، أولي الفضلِ الجليِّ؛ والقَدْرِ العَليِّ: أبي بكرٍ الصديقِ؛ وعمرَ الفاروقِ؛ وذي النورينِ عُثمانَ؛ وأبي السِّبطينِ عليٍّ، وارضَ اللهمَّ عنْ آلِ نبيِّكَ وأزواجِه المُطَهَّرِينَ مِنَ الأرجاسِ؛ وصحابتِه الصَّفْوةِ الأخيارِ مِنَ الناسِ.(150/7)
…اللهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ مِنَ الخيرِ كلِّهِ، عاجلِه وآجلِه، ما عَلِمْنا مِنْه وما لم نعلمْ، ونعوذُ بك مِنَ الشرِّ كلِّه، عاجلِه وآجلِه، ما عَلِمْنا مِنْه وما لم نعلمْ .
…اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألَبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
……………… لجنة إعداد الخطبة الموزعة والمذاعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(150/8)
اطبع هذه الصحفة
البعثُ والنُّشورُ
عبادَ الله:
…إنّ لكلِّ شيءٍ في هذهِ الحياةِ بدايةً, ولكلِّ بدايةٍ نهايةً, فهذا الكونُ العجيبُ الغريبُ الذي يَعجُّ بالمخلوقاتِ مما نعلَمُهُ ومما لا نعلَمُه, سيأتي اليومُ الذي يتوقفُ فيهِ عنِ الحركةِ, ويَهلِكُ فيه كلُّ شيءٍ إلا الخالقَ الديّانَ جلَّ جلالُه, وتباركتْ أسماؤُه وصفاتُه, قال الله عز وجل: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ*وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ { } الرحمن:26 } , ويقول سبحانه: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { } القصص:88 } .فالإيمانُ باليومِ الآخرِ الذي يُبعثُ فيه الناسُ إلى ربِّهم هو مِن أركانِ الإيمانِ, وأصولِ الدينِ, فلا يكونُ المرءُ مؤمنًا بالله تعالى حتى يؤمِنَ بذلك.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 21من ذي الحجة 1427هـ الموافق 12يناير 2007م
البعثُ والنُّشورُ
…الحمدُ للهِ الجبارِ الأعلَى, الذي خلقَ فسوّى, وأماتَ وأحيا، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له مُفنِي الخلائقَ كلَّهم فلا حِسٌ يُسمعْ ولا شخصٌ يُرى، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه خيرُ الأنبياءِ وأوّلُ من يُبْعثُ يومَ القيامةِ مِن الوَرى, فصلواتُ اللهِ تعالى وسلامُه عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه الغُرِّ أُولي الفضلِ والنُّهَى, وعلى مَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الرُّجعى.
…أما بعدُ:
…فأوصيكم – أيُّها المسلمونَ – ونفسيَ أولا بتقوى اللهِ تعالى وطاعتهِ؛ فهي وصيِّتُهُ سبحانَه للأولينَ والآخِرين, كما قال تعالى في كتابهِ المبينِ: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّه } َ { النساء:131 } .
…عبادَ الله:(151/1)
…إنّ لكلِّ شيءٍ في هذهِ الحياةِ بدايةً, ولكلِّ بدايةٍ نهايةً, فهذا الكونُ العجيبُ الغريبُ الذي يَعجُّ بالمخلوقاتِ مما نعلَمُهُ ومما لا نعلَمُه, سيأتي اليومُ الذي يتوقفُ فيهِ عنِ الحركةِ, ويَهلِكُ فيه كلُّ شيءٍ إلا الخالقَ الديّانَ جلَّ جلالُه, وتباركتْ أسماؤُه وصفاتُه, قال الله عز وجل: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ*وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ { } الرحمن:26 } , ويقول سبحانه: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { } القصص:88 } .فالإيمانُ باليومِ الآخرِ الذي يُبعثُ فيه الناسُ إلى ربِّهم هو مِن أركانِ الإيمانِ, وأصولِ الدينِ, فلا يكونُ المرءُ مؤمنًا بالله تعالى حتى يؤمِنَ بذلك.
…فهو سبحانُه يَبعثُ الأجسادَ مِنَ الترابِ كما يُخرِجُ النباتَ مِن الأرضِ, وقد أكثرَ ربَّنا – جلَّ جلالُه – في كتابِه المبينِ, مِنَ ضَرْبِ المثلِ للبعثِ والنشورِ, بإحياءِ الأرضِ بالنباتِ بعدَ نزولِ الغَيثِ, فقال عَزَّ مِن قائلٍ: { وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ } { فاطر:9 } .وقال سبحانه: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } { فصلت:39 } .(151/2)
…ولقد جاءَ أحدُ الكفارِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه عَظْمٌ بالٍ, فَفَتَّه, ثم نَفَخَه, ثم قالَ للرسول - صلى الله عليه وسلم -: يا محمدُ: أتزعُمُ أنَّ اللهَ يبعثُ هذا ؟! فأنزلَ اللهُ تباركَ وتعالى في الردَّ على هذا المُلْحِدِ قولَه: { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ*قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ*الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ*إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ*فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } { يس:77-83 } .
…أيُّها المسلمون:(151/3)
…عندما يأتي ذلكَ اليومُ الرهيبُ المَهِيبُ, يَنفخُ إسرافيلُ - عليه السلام -في الصورِ النفخةَ الأولى, فتنتهي حياةُ كلِّ مَن في السماءِ والأرضِ, وهي نَفخةٌ هائلةٌ مُدَمِّرةٌ, يسمعها المرءُ فلا يستطيعُ أن يوصِيَ بشيءٍ أو أنْ يَرجِعَ إلى أهلِه, ثم يَنفُخُ النفخةَ الثانيةَ فيُبعَثُ الناسُ مِن قبورِهم, قالَ الله تعالى: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ } { الزمر:68 } , وقال تبارك وتعالى: { مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ*فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ { } يس:49-51 } ، وقدْ جاءتِ الأحاديثُ النبويِّةُ مُصَرِّحةً بالنفختينِ, ففي صحيحَيْ البخاريِّ ومسلمٍ,عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -, قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"ما بينَ النفختينِ أربعونَ". قالوا: يا أبا هريرةَ: أربعونَ يوماً؟ قال: أبَيْتُ. قالوا: أربعونَ شهرًا؟ قال: أبَيْتُ. قالوا: أربعونَ سنةً ؟ قال: أبَيْتُ. قال الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -: ثم يُنزِل اللهُ مِن السماءِ ماءً فيَنبُتون كما يَنبُتُ البَقْلُ, وليسَ مِن الإنسانِ شيءٌ إلا يَبلَى, إلا عَظْمًا واحدًا, وهو عَجْبُ الذَّنَبِ" أي: العَظْمُ اللطيفُ الذي في أسفلِ الصُّلْبِ", ومنه يُركَّبُ الخلقُ يومَ القيامة"، وإنما تقومُ الساعةُ في يومِ الجمعةِ؛ ففي صحيحِ مسلم, من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -, أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال:"خيرُ يومٍ طلعَتْ عليهِ الشمسُ يومُ الجمُعةِ؛ فيه خُلِقَ آدمُ, وفيه أُدخِلَ الجنةَ, وفيه أُخرِجَ منها, ولا تقومُ الساعةُ إلا في يومِ الجمُعةِ".(151/4)
…باركَ الله لي ولكم بالقرآنِ العظيمِ, ونفعني وإياكم بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذكرِ الحكيمِ, أقولُ قولي هذا وأستغفرُ الله العظيمَ, لي ولكمْ ولسائرِ المسلمينَ فاستغفِرُوهُ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ, والعاقبةُ للمتقينَ, ولا عُدوانَ إلا على الظالمينَ, وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له, الإلهُ الحقُّ المبينُ, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه, إمامُ المتقينَ وخاتَمُ المرسلينَ, اللهم صلِّ وسلمْ على عبدِك ورسولِك محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِه أجمعينَ, ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
…أما بعدُ: فاتقوا الله – عبادَ الله - حقَّ تقواه, واعملوا بطاعتهِ ورِضاهُ.
…أيَّها المؤمنونَ:
…إنَّ يومَ القيامةِ يومٌ عظيمٌ أمرُه, شديدٌ هولُه, قالَ الله عزَّ وجلَّ: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ { } الحج:1- 2 } .
وقال تعالى: { فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ*يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ*وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ*وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ*لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } { عبس:33-37 } .
…ويَجمعُ الله تعالى العبادَ كلَّهم في هذا اليومِ, فلا يتخلّفُ منهم أحدٌ, لا إنسٌ ولا جنٌ ولا ملَكٌ ولا غيرُهم, قال الله عز وجل: { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً*لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً*وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً } { مريم:93-95 } . وقال تعالى: { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } { التكوير:5 } .(151/5)
ويُحشَرُ العبادُ يومَ القيامةِ حُفاةً عُراةً غُرْلاً, أيْ: غيرَ مختونين؛ ففي صحيحَيْ البخاريِّ ومسلمٍ, عن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهما قالَ, قامَ فينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا بموعظةٍ فقالَ:"يا أيها الناس:إنكم تُحشَرُونَ إلى اللهِ حُفاةً عُراةً غُرْلا" { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } { الأنبياء:104 } "الحديث، ثم يُكسَى العبادُ بعدَ ذلك, فالصالحونُ يُكسَوْنَ الثيابَ الكريمةَ, والطالحونَ يُسَرْبَلونَ بسرابيلِ القَطِران ونحوِها مِنَ الثيابِ المنُكَرةِ الفظيعةِ, وفي الصحيحينِ, عَنِ ابن عباسٍ رَضِيَ الله عنهما, عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:"إنَّ أوَّلَ الخلائقِ يُكسَى يومَ القيامةِ إبراهيمُ الخليلُ".
…أيُّها المسلمون:
…تأملوا كيف يكونُ حالُ الكفارِ حينَ خروجِهم مِنَ القبورِ, يقولُ الله تبارك وتعالى: { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ*خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } { المعارج: 43- 44 } .
…وفي مقابلِ ذلك, هناك أولياءُ الرحمنِ, الذين آمنوا وكانوا يتقون, لا يَفْزَعونَ عندما يَفْزَعُ الناسُ, ولا يحزنونَ عندما يحزَنُ الناسُ, وتستقبلُهم الملائكةُ عندما يُبعثون من قبورِهم فَتُهَدِّئُ مِن رَوْعِهم, وتُذْهِبُ مِن خَوْفِهم { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ*لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ*لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } { الأنبياء:101-103 } .(151/6)
…وهناك مَن يُظِلُّهُمُ اللهُ تعالى في ظلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظلُّه, ففي صحيحَيْ البخاريِّ ومُسلمٍ, عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -, قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:"سبعةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظلَّهِ يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهْ: الإمامُ العادلُ, وشابٌّ نشأ في عبادةِ ربِّه, ورجلٌ قلبُهُ مُعَلَّقٌ في المساجدِ, ورجلان تحابَّا في الله: اجتمعا عليه وتَفرَّقا عليه, ورجلٌ طلبتْهُ امرأةٌ ذاتُ مَنصِبٍ وجمالٍ فقال: إني أخافُ الله, ورجلٌ تصدَّقَ أخفَى حتى لا تَعلَمَ شمالُه ما تنفقُ يمينُهُ, ورجلٌ ذكرَ اللهَ خاليًا ففاضَتْ عَيْناهُ".
…اللهُمَّ اجعلنا مِن عبادِكَ المتقينَ, الذينَ لا خوفٌ عليهم ولا هُمْ يحزنون, واحشرْنا مع النبيينّ والصِّدِّيقينَ والشهداءِ والصالحينَ وحَسُنَ أولئكَ رَفيقاً، اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمين والمسلماتِ، الأحياءِ مِنهمْ والأمواتِ، إنَّكَ سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدَّعَواتِ.
… اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ, وأَذِلَّ الشَّرْكَ والمشركينَ, ودَمِّرِ اللهُمَّ أعداءَك أعداءَ الديِّنِ، اللهُمَّ اقسِمْ لنا مِن خَشْيَتِكَ ما تُحُولُ به بيننا وبينَ معاصِيكَ, ومِن طاعتِك ما تُبَلغَّنُاَ به جنَّتك, ومِنَ اليقينِ ما تُهَوَّنُ به علينا مَصائِبَ الدُّنيا.
…اللهُمَّ مَتِّعْناَ بأسماعنِا وأبصارِنا وقُوِّتِنا ما أحيَيتْنَا, واجعلْه الوارِثَ مِنّا, واجعلَ ثأرنا على مَن ظَلمَنا, وانصُرْنا على مَن عَادانا, ولا تجعلْ مُصيبتنا في دِينَنا, ولا تجعلِِ الدُّنيا أكبرَ هَمِّنَا ولا مَبْلَغَ عِلمنا, ولا تُسَلِّطْ علينا مَن لا يرحَمُنا، اللهُمَّ أصْلِحْ لنا ديِنَنا الذي هو عِصمةُ أمْرِنا, وأصْلِحْ لنا دُنْيانا التي فيها مَعاشُنا, وأصْلِحْ لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا, واجعلِ الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ, واجعَلِ الموتَ راحةً لنا مِن كلِّ شَرٍّ.(151/7)
… اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهُما في رِضاكَ، اللَّهُمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهُما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمِنًا مُطمئِنًّا سَخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهُمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
………………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(151/8)
اطبع هذه الصحفة
الأشهر الحرم
عبادَ اللهِ
…وإنَّ مِنْ تعظيمِ اللهِ عزَّ وجلَّ هذهِ الأشهرَ الحرُمَ أنْ نهانا عَنِ انتهاكِ حُرمَتِها, وإخفارِ ذِمَّتِها, قالَ تعالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ } { المائدة:2 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 29 من ذي الحجة 1427هـ الموافق 19/1/2007م
الأشهر الحرم
…الحمدُ للهِ الذي خلقَ كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديراً, وجعلَ الليلَ والنهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أرادَ أنْ يذكَّرَ أوْ أرادَ شُكوراً, وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له, تعالَى عمَّا يقولُ الظالمونَ عُلُوّاً كبيراً, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه المصطفَى, ونبيُّه المجتبَى, ورسولُه المرتضَى, هدَى به مِنَ الضلالةِ, وعلَّمَ به مِنَ الجَهالِة, وكثَّرَ به بعدَ القِلَّةِ, وأعزَّ به بعدَ الذِّلَّةِ, فكانَ بشيراً ونذيراً, وسِراجاً منيراً, فجزاهُ اللهُ عَنْ أُمَّتِه أفضلَ الجزاءِ, وصلَّى عليه وعلَى آلهِ وصحبِه صلاةً تملأُ أقطارَ الأرضِ والسماءِ, وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
…أمَّا بعدُ:
…فأُوصِيكم- أيُّها الناسُ – ونفسِي بتقوَى اللهِ الجليلِ, فإنَّ تقوَى اللهِ أكرمُ ما أسررْتُم, وأجملُ ما أظهرْتُم, وأحسنُ ما ادخرْتُم, اتقوا اللهَ في السرِّ والعلَنِ, واجتنبوا الفواحِشَ ما ظهرَ مِنْها وما بَطَنَ.
…أيُّها الإخوةُ المسلمونَ:(152/1)
…لقَدْ عَلِمَ كلُّ مَنْ رضِيَ باللهِ ربّاً وبالإسلامِ دِيناً وبمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -نبيّاً ورسولاً أنَّ للهِ الحُجَّةَ الدامِغَةَ والحِكْمَةَ البالِغَةَ في تشريِع ما يشاءُ مِنَ الأحكامِ, واصطفاءِ مَنْ يشاءُ مِنَ الأنامِ, وتفضيلِ ما يحبُّ مِنَ الأزمنةِ, واختيارِ ما يرضَى مِنَ الأمكنِة, فلَقدِ اصطفَى المولَى – جلَّ جلالُه – مِنَ الملائكةِ رُسُلاً ومِنَ الناسِ رُسُلاً, وفضَّلَ بعضَ الأمكَنةِ علَى بعضٍ, فمكَّةُ أفضلُ بِقاعِ الأرضِ, ثُمَّ المدينةُ, ثم بيتُ المقدسِ. وفضَّلَ بعضَ الأيامِ علَى بعضٍ, فعَشْرُ ذي الحِجَّةِ أفضلُ الأيامِ عِنْدَ اللهِ, ويومُ النحرِ أفضلُ أيامِ الدنيا, ويومُ الجمعةِ خيرُ يومٍ طلَعَتْ فيه الشمسُ, وليلةُ القَدْرِ خيرٌ مِنْ ألفِ شهرٍ, وعَدَدُ الشهورِ عِنْدَ اللهِ اثنا عشَرَ شهراً اختصَّ اللهُ مِنْها أربعةً فجعلَهنَّ حُرُماً وعظَّمَ حُرُماتِهنَّ, وجعلَ الذنبَ فيهنَّ أعظمَ والعملَ الصالحَ والأجرَ أكرَمَ. قالَ اللهُ تعالىَ: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ } { التوبة:36 } ، وهذهِ الأربعةُ الحُرُمُ بيَّنَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حجَّةِ الوداعِ, فعَنْ أبي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ:"إنَّ الزمانَ قَدِ استدارَ كهيئتِه يومَ خلقَ اللهُ السمواتِ والأرضَ, السنةُ اثنا عَشَرَ شهراً مِنْها أربعةٌ حُرُمٌ ثلاثةٌ متوالياتٌ: ذو القَعْدَةِ وذو الحِجَّةِ والمحرَّمُ ورجبٌ: شهُر مُضَرَ الذي بينَ جُمادَى وشعبانَ"[متفقٌ عليه].(152/2)
…ولقدْ كانَ العربُ يُعظِّمونَ هذِهِ الشهورَ ويتمسَّكُونَ بِملَّةِ إبراهيمَ – عليه الصلاةُ والسلامُ – في تحريمِها, وكانَ يَشُقُّ عليهم تأخيرُ القتالِ ثلاثةَ أشهرٍ متواليةٍ, فعمَدُوا إلى تحليلِ المحرَّمِ وتحريمِ صفَرٍ مكانَه, فيستحلُّونَ المحرَّمَ عاماً ويُحرِّمونَه عاماً, وهكَذا حتَّى اختلطَتْ عليهم الأمورُ, وصادفَتْ حَجَّةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تحريمَهُمُ الذي وافَقوا فيه الحسابَ, فأخبرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ استدارةَ الزمانِ صادفَتْ ما حكَمَ اللهُ به يومَ خلقَ السمواتِ والأرضَ. وتلاعُبُ العربِ بالأشهرِ الحرُمِ زيادةً ونُقصاناً, تقديماً وتأخيراً: هوَ الذي سَّماه اللهُ عزَّ وجلَّ: النَّسِيءَ فقالَ: { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } { التوبة: 37 } .
…عبادَ اللهِ:
…وإنَّ مِنْ تعظيمِ اللهِ عزَّ وجلَّ هذهِ الأشهرَ الحرُمَ أنْ نهانا عَنِ انتهاكِ حُرمَتِها, وإخفارِ ذِمَّتِها, قالَ تعالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ } { المائدة:2 } .(152/3)
…ويُسنُّ صيامُ شهرِ اللهِ المحرَّمِ؛ لما رواهُ أبو هريرةَ - صلى الله عليه وسلم - عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"أفضلُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ المكتوبةِ الصلاةُ في جوفِ الليلِ, وأفضلُ الصيامِ بعدَ شهرِ رمضانَ:صيامُ شهرِ اللهِ المحرَّمِ" [أخرجَه مسلمٌ]، ويتأكَّدُ صيامُ يومِ عاشوراءَ وهوَ العاشِرُ مِنْ محرَّمٍ؛ فقدْ حثَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على صِيامهِ, لنيلِ ثوابِهِ واغتنامِهِ, فعَنْ أبي قَتَادَةَ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عنْ صيامِ يومِ عاشوراءَ فقالَ: "يكفِّرُ السنةَ الماضيةَ"[أخرجَه مسلمٌ]، ويسنُّ صِيامُ التاسِع مَعَه؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:"لِئنْ بَقيتُ إلى قابلٍ لأصومَنَّ التاسعَ"[أخرجَه مسلمٌ مِنْ حديثِ ابنِ عباسٍ رضِىَ اللهُ عنهما]، ولم يكنْ صومُ يومِ عاشوراءَ بِدْعاً مِنَ الأعمالِ, ولا افتراءً مِنَ الأقوالِ, بَلْ صامَه نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - وحثَّ أُمَّتَه علَى صيامِه, وصامَه موسَى - صلى الله عليه وسلم - وقومُه, وكانَتِ العربُ تصومُه في الجاهليةِ. فقَدْ روَى ابنُ عباسٍ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ المدينةَ فوجَدَ اليهودَ صِياماً يومَ عاشوراءَ فقالَ لهم رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ما هذا اليومُ الذي تصومونَه؟" قالوا: هذا يومٌ عظيمٌ أنجَى اللهُ فيه موسَى وقومَه, وأغرَقَ فرعونَ وقومَه, فصامَه موسَى شُكراً فنحن نصومُه. فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"فنحنُ أحقُّ وأولىَ بموسى مِنْكم" فصامَه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأمرَ بصيامِه" [أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ ].
…أقولُ قوليِ هذا وأستغفُر اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ فاستغفروه إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية(152/4)
…الحمدُ للهِ وكفَى, وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له الذي وعَدَ فوفَّى, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المصطفَى, صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليه وعلَى آلهِ وأصحابهِ, ومَنْ تَبِعَهم مِنْ أهلِ الصدقِ والوَفا.
…أمَّا بعدُ:
…فيقولُ اللهُ تباركَ وتعالَى آمراً ومُرْشِداً: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } { الأحزاب:70 – 71 } .
…أيُّها الأحبَّةُ الكِرامُ:
…ومِنَ الأشهُرِ الحرُمِ شهرُ ذي الحجَّةِ الذي تَسَنَّمَتْهُ عَشْرُه, وفاقَ أيامَ الدنيا ذِكْرُه, وهيَ الأيامُ المعلوماتُ عِنْدَ كثيرٍ مِنْ أهلِ العِلْمِ التي ذكرَها اللهُ في قولهِ: { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } { الحج: 28 } .(152/5)
…وشَهِدَ لها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأنَّها أفضلُ أيامِ الدنيا, إذْ روَى جابرٌ - رضي الله عنه - فقالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"أفضلُ أيامِ الدنيا أيامُ العَشْرِ"[أخرجَه البزَّارُ وابنُ حِبَّانَ]، وهِيَ مَوْسِمُ الأعمالِ العظامِ, التي تجتمعُ فيها أركانُ الإسلامِ, فعنِ ابنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى اللهِ مِنْ هذهِ الأيامِ – يعنِي أيامَ العَشْرِ– قالوا يا رسولَ اللهِ ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ قالَ: "ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ إلا رجلٌ خرجَ بنفسِهِ ومالهِ فلمْ يرجِعْ مِنْ ذلكَ بشيءٍ"[ أخرجَه البخاريُّ وأبو داودَ واللفظُ له]، وفيه يومُ عرفَةَ الذي سُئِل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن صِيامِه فقالَ: "يكفِّرُ السنةَ الماضِيةَ والباقِيَةَ"[أخرجَه مسلمٌ من حديثِ أبي قَتَادَةَ - رضي الله عنه -].
… ويومُ النحرِ عاشِرُ أيَّامِه, وذِرْوَةُ سَنامِه, فقدْ روَى عبدُ اللهِ بنُ قُرْطٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"أعظمُ الأيامِ عندَ اللهِ يومُ النحرِ ثمَّ يومُ القَرِّ"[ أخرجَه النسائيُّ]. ويومُ القَرِّ هو الحادِي عشَرَ؛ لأنَّ الناسَ يستقرونَ فيه بمنَى.
…عبادَ اللهِ:(152/6)
…ولقَدْ نهَى ربُّنا– جلَّ جلالهُ– عنِ الظلمِ في الأشهرِ الحرُمِ, تشريفاً لها وتعظيماً, وإعزازاً لشأنِها وتكريماً, فقالَ – سبحانَه – ولم يزلْ قائلاً عليماً: { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ } { التوبة:36 } . وإنَّ مِنْ أعظمِ ما ينبغِي لاستشعارِ حُرْمَةِ الأشهرِ الحرمِ؛ أنْ يكفَّ المرءُ نفسَه عنِ البُهْتانِ والظُّلْمِ, إذِ الذنبُ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ سوءٌ وشؤمٌ, وهوَ في هذهِ الأشهرِ المعظَّمِة, أشدُّ وأعظمُ حُرْمةً. قالَ قتادةُ رحِمَه اللهُ: إنَّ الظلمَ في الأشهرِ الحرمِ أعظمُ خطيئةً ووِزْراً مِنَ الظلمِ فيما سِوَاها, وإنْ كانَ الظلمُ في كلِّ حالٍ عظيماً ولكنَّ اللهَ يُعظِّمُ مِنْ أمرِهِ ما شاءَ, فعظِّموا ما عظَّمَ اللهُ فإنَّما تعظُمُ الأمورُ بما عظَّمَها اللهُ عِنْدَ أهلِ الفهمِ وأهلِ العقلِ، { ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } { الحج: 32 } .
…قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الظلمُ ثلاثةٌ: فظلمٌ لا يغفِرُه اللهُ, وظلمٌ يغفِرُه, وظلمٌ لا يتركُه. فأمَّا الظلمُ الذي لا يغفُره اللهُ فالشِّرْكُ, قالَ اللهُ:"إنَّ الشركَ لظلمٌ عظيمٌ"، وأمَّا الظلمُ الذي يغفِرُه فظلمُ العِبادِ أنفسَهم فيما بَينْهَم وبينَ ربِّهم, وأمَّا الظلمُ الذي لا يتركُه اللهُ فظلمُ العِبادِ بعضَهم بعضاً حتى يُدْبِرَ لبِعضِهم مِنَ بعضٍ"[أخرجَه البزّارُ مِنْ حديثِ أنسٍ - رضي الله عنه -].(152/7)
…اللهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ ارزقْنا خَشْيَتَكَ في الغيبِ والشهادةِ, وكلمةَ الحقِّ في الرضا والغضبِ, والقَصْدَ في الغِنَى والفقرِ, واجعلْنا مِنَ المعظِّمينَ لِحُرُماتِكَ, الحافظينَ لحدودِكَ، اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ وأهلَه, وأذِلَّ الشركَ وأهلَه, وأعلِ كلمةَ الحقِّ والدينِ, وانصرْ أولياءَك الموَحِّدينَ, واخذلْ أعداءَكَ الكافرينَ, اللهمَّ أنزلْ علينا الغيثَ ولا تجعلْنا مِنَ القانِطينَ.
…اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
……………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(152/8)
اطبع هذه الصحفة
آل البيت و الصحابة محبة وقرابة
عبادَ اللهِ الأخيارَ:
…اعلموا رحمَنِي اللهُ وإيَّاكم؛ أنَّ رَوْضَ شَرْعِكُمُ الِمْعطارَ، قَدْ فاحَ مِنْه عَبَقُ الثَّناءِ علَى آلِ نبيِّنا المختارِ - صلى الله عليه وسلم -، فقَدْ سطَّرَتْ نصوصُ الوحيِ فضلَ الآلِ تَسْطيراً، كما في قولهِ تعالىَ: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } { الأحزاب: 33 } ، فقَدْ تضمَّنَتْ هذه الآيةُ المُحكَمَةُ بلا التباسٍ، فضلَ آلِ البيتِ وأنَّهم مُطَهَّرونَ مِنَ الأرجاسِ، ومِنْ هذِه الفضائلِ الكثيرةِ؛ والمناقِبِ الوفيرةِ: ما أخرجَه مسلمٌ في صحيحهِ مِنْ حديثِ زيدِ بنِ أرقمَ - رضي الله عنه - قالَ: "قامَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يوماً فينا خطيباً بماءٍ يُدعَى خُمّاً بينَ مكةَ والمدينةِ، فحمدَ اللهَ وأثنىَ عليهِ، ووعَظَ وذكَّرَ، ثمَّ قالَ: أمَّا بعدُ، ألا أيُّها الناسُ؛ فإنَّما أنا بَشَرٌ يوشِكُ أنْ يأتِيَ رسولُ ربِّي فأجيبَ، وأنا تاركٌ فيكم ثَقَلَيْنِ: أوَّلُهما كتابُ اللهِ فيه الهُدَى والنورُ، فخذوا بكتابِ اللهِ واستمسكوا بهِ، فحثَّ علَى كتابِ اللهِ ورغَّبَ فيهِ. ثَّم قالَ: وأهلُ بيتيِ، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ في أهلِ بيتِي، أذكِّركمُ اللهَ في أهلِ بيتِي، أذكِّركُم اللهَ في أهلِ بيتِي"، فقَدْ تضمَّنَتْ هذهِ الوصَّيةُ النبويَّةُ الشريفَةُ؛ وهذهِ الخُطْبَةُ المصطفَوِيَّةُ المنُيِفَةُ: حبَّ آلِ البيتِ وتعزيرَهم، وموالاتَهم وتوقيرَهم، لذا فقَدْ أُمِرَ المسْلِمُ أنْ يدعوَ اللهَ تعالىَ لهم في جميِع الصَّلَواتِ، وأنْ يسألَه أنْ يَذْكرَهم في الملإِ الأعلَى ويُنزِلَ عليهمُ البركاتِ، كما أخرجَ الشيخانِ مِنْ حديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلَى رحمَهُ اللهُ تعالَى قالَ: "لقِيَنِي كَعْبُ بنُ عُجْرَةَ - رضي الله عنه - فقالَ: ألا أُهْدِي لكَ هديَّةً(153/1)
سمعتُها مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فقلتُ:بلَى فأَهْدِها لي. قالَ: سألْنا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقلْنا: يا رسولَ اللهِ، كيفَ الصَّلاةُ عليكمْ أهلَ البيتِ؟ فإنَّ اللهَ قدْ علَّمَنا كيفَ نُسَلِّمُ عليكم؟ قالَ: قولوا:"اللهمِّ صلِّ علَى محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ كما صلَّيْتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ إنَّك حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ بارِكْ علَى محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ كما باركْتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ إنَّك حميدٌ مجيدٌ".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
7 من محرم 1428هـ الموافق 26/1/2007م
آل البيت و الصحابة محبة وقرابة
…الحمدُ للهِ الكبيرِ المُتَعالِ، الموصوفِ بأوصافِ الجَمالِ، والمنعوتِ بنعوتِ الجلالِ، فضَّلَ بعضَ خلقِه على بعضٍ بالإنعامِ والإفضالِ، وجعلَ بيتَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خيرَ بيتٍ وآلٍ، أحمدُ ربِّي حمداً كثيراً طيبِّاً مُبارَكاً فيهِ وهوَ المحمودُ علَى كلِّ حالٍ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له شديدُ المِحالِ، المنزَّهُ عنِ الشُّرَكاءِ والنُّظراءِ والأمثالِ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُاللهِ ورسولُه أصدقُ البريَّةِ لَهْجةً في جميلِ الأقوالِ، وأتقاهم وأخشاهم لربِّه في جليلِ الأفعالِ، أرسلَه اللهُ رحمةً للعالمَينَ لِيضعَ عَنْهُمُ الآصارَ والأغلالَ، فصلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وأزواجهِ وأصحابِه الراشدينَ المهديِّينَ في الحالِ والمقالِ، صلاةً وسلاماً مُتعاقِبَيْنِ ما تعاقبَتِ الأيامُ والليالِ.(153/2)
…أمَّا بعدُ: فأُوصيكم بتقوَى الكبيرِ المتعالِ، فقابلوا أوامِرَهُ بالامتثالِ، وسارِعُوا إلى مغفرةٍ مِنْ ربِّكم وتَزَلَّفوا إليه بصالحِ الأعمالِ، وحافِظُوا علَى الفرائضِ فإنَّها وسيلةٌ إلى بلوغِ الآمالِ، واتقوا يوماً ترجعونَ فيه إلى اللهِ لا بيعٌ فيهِ ولا خِلالٌ، واعلَمُوا رحِمَنِي اللهُ وإيَّاكم: أنَّ اللهَ تعالىَ هوَ مَوْلاكُم، وهوَ جلَّ جلالُه يخلقُ ما يشاءُ ويختارُ، ما كانَ لأحدٍ في ذلكَ مِنِ اختيارٍ، وإنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنِ اختارَهُم الربُّ تبارَكَ وتعالَى وفضَّلَهم علَى كثيرٍ ممَّنْ خلقَ تفضيلاً، وجعلَ نَسْلَهم خيرَ نسلِ العالمَينَ مَحْتِداً وقَبِيلاً: آلَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الذين هُدوا في شَرَفِ النَّسبِ سبيلاً، وجُعِلَتْ شمسُ فَضْلِهم في سماءِ العالَمِينَ دليلاً.
…عبادَ اللهِ الأخيارَ:(153/3)
…اعلموا رحمَنِي اللهُ وإيَّاكم؛ أنَّ رَوْضَ شَرْعِكُمُ الِمْعطارَ، قَدْ فاحَ مِنْه عَبَقُ الثَّناءِ علَى آلِ نبيِّنا المختارِ - صلى الله عليه وسلم -، فقَدْ سطَّرَتْ نصوصُ الوحيِ فضلَ الآلِ تَسْطيراً، كما في قولهِ تعالىَ: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } { الأحزاب: 33 } ، فقَدْ تضمَّنَتْ هذه الآيةُ المُحكَمَةُ بلا التباسٍ، فضلَ آلِ البيتِ وأنَّهم مُطَهَّرونَ مِنَ الأرجاسِ، ومِنْ هذِه الفضائلِ الكثيرةِ؛ والمناقِبِ الوفيرةِ: ما أخرجَه مسلمٌ في صحيحهِ مِنْ حديثِ زيدِ بنِ أرقمَ - رضي الله عنه - قالَ: "قامَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يوماً فينا خطيباً بماءٍ يُدعَى خُمّاً بينَ مكةَ والمدينةِ، فحمدَ اللهَ وأثنىَ عليهِ، ووعَظَ وذكَّرَ، ثمَّ قالَ: أمَّا بعدُ، ألا أيُّها الناسُ؛ فإنَّما أنا بَشَرٌ يوشِكُ أنْ يأتِيَ رسولُ ربِّي فأجيبَ، وأنا تاركٌ فيكم ثَقَلَيْنِ: أوَّلُهما كتابُ اللهِ فيه الهُدَى والنورُ، فخذوا بكتابِ اللهِ واستمسكوا بهِ، فحثَّ علَى كتابِ اللهِ ورغَّبَ فيهِ. ثَّم قالَ: وأهلُ بيتيِ، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ في أهلِ بيتِي، أذكِّركمُ اللهَ في أهلِ بيتِي، أذكِّركُم اللهَ في أهلِ بيتِي"، فقَدْ تضمَّنَتْ هذهِ الوصَّيةُ النبويَّةُ الشريفَةُ؛ وهذهِ الخُطْبَةُ المصطفَوِيَّةُ المنُيِفَةُ: حبَّ آلِ البيتِ وتعزيرَهم، وموالاتَهم وتوقيرَهم، لذا فقَدْ أُمِرَ المسْلِمُ أنْ يدعوَ اللهَ تعالىَ لهم في جميِع الصَّلَواتِ، وأنْ يسألَه أنْ يَذْكرَهم في الملإِ الأعلَى ويُنزِلَ عليهمُ البركاتِ، كما أخرجَ الشيخانِ مِنْ حديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلَى رحمَهُ اللهُ تعالَى قالَ: "لقِيَنِي كَعْبُ بنُ عُجْرَةَ - رضي الله عنه - فقالَ: ألا أُهْدِي لكَ هديَّةً سمعتُها مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فقلتُ:بلَى فأَهْدِها لي.(153/4)
قالَ: سألْنا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقلْنا: يا رسولَ اللهِ، كيفَ الصَّلاةُ عليكمْ أهلَ البيتِ؟ فإنَّ اللهَ قدْ علَّمَنا كيفَ نُسَلِّمُ عليكم؟ قالَ: قولوا:"اللهمِّ صلِّ علَى محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ كما صلَّيْتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ إنَّك حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ بارِكْ علَى محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ كما باركْتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ إنَّك حميدٌ مجيدٌ".
…يا مُحِبِّي الحقِّ وطلابَه: اعْلَموا هَدانِي اللهُ وإيَّاكمُ السدادَ والإصابةَ: أنَّ جميعَ الصَّحابةِ - رضي الله عنهم -؛ كانوا يُبَجِّلونَ قَرابةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
…فقَدْ رَعَوْا واجباتِهم أكملَ الرعايةِ؛ واعَتنَوْا بحرُماتِهم أنبلَ العِنايةِ، قالَتْ عائشةُ رضِيَ اللهُ عَنْها: (فاضَتْ عينا أبي بكرٍ - رضي الله عنه -فتكلَّمَ وقالَ:"والذي نفسِي بيدِهِ، لَقَرابةُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أحبُّ إليَّ أنْ أصِلَ مِنْ قرابَتِي"[ أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ]، وقالَ عبدُ اللهِ بنُ عمرَ بنِ الخطابِ رضِيَ اللهُ عَنْهما: قالَ أبو بكرٍ - رضي الله عنه -: "ارْقُبوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - في أهلِ بيتهِ"[ أخرجَه البخاريُّ]، فهذا تعظيمُ آلِ بيتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الذي كانَ يَدِينُ اللهَ تعالَى بهِ أبو بكرٍ الصدِّيقُ - رضي الله عنه -، وأمَّا إجلالُهُمُ الذي كانَ يُظْهِرُهُ عمرُ الفاروقُ - رضي الله عنه -؛ فيتجلَّى فيما أخرجَه البخاريُّ في صحيحِه مِنْ حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه -: "أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ - رضي الله عنه -كانَ إذا قَحَطوا استَسْقَى بالعباسِ بنِ عبدِ المطلبِ - رضي الله عنه - فقالَ: "اللهمَّ إنَّا كُنَّا نتوسَّلُ إليكَ بنبيِّنا فتَسْقِينا، وإنَّا نتوسَّلُ إليكَ بعمِّ نبيِّنا فاسْقِنا. فيُسْقَوْنَ".(153/5)
… فهذا التعظيمُ والإجلالُ؛ خُلُقٌ مُتبَادَلٌ بينَ الصَّحْبِ والآلِ، فكَما أنَّ الصحابةَ كانوا يَقْدُرُونَ القَرابةَ القَدْرَ العَلِيَّ، فكذا كانَ القَرابةُ يُجِلُّونَ الصحابةَ الإجلالَ الجَلِيَّ، فكانَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنه - يقولُ: "كنتُ إذا سمعتُ مِنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حديثاً نفعَنِي اللهُ بما شاءَ مِنْه، وإذا حدَّثِنَي عَنْه غيرِي استحْلَفْتُه، فإذا حلَفَ لي صَدَّقْتُه، وإنَّ أبا بكرٍ - رضي الله عنه - حدَّثَنِي، وصدَقَ أبو بكرٍ، قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"ما مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذنباً ثُمَّ يقومُ فيتطهَّرُ، ثمّ يُصَلِّي، ثمّ يسَتغفرُ اللهَ: إلاَّ غفرَ له، ثمّ قرأَ هذهِ الآيةَ: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ } { آل عمران :135 } إلى آخرِ الآيةِ"[أخرجَه أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ وابنُ ماجَه]، فهذا تقديرُ أبي السِّبْطَيْنِ لأبي بكرٍ الصدِّيقِ رضِيَ اللهُ عَنْهما؛ وأمَّا توقيرُه لعمرَ الفاروقِ رضِيَ اللهُ عَنهْما، فنورُ مِشْكاةِ الاقتباسِ؛ يُضيءُ مِنْ حديثِ ابنِ عمِّهِ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ؛ وهوَ يَرْوِي حديثَ استشهادِ أميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الخطابِ، فيقولُ رضِيَ اللهُ عَنْهما: "وُضِعَ عمرُ بنُ الخطابِ علَى سرِيرِه، فتكَنَّفَهُ الناسُ يَدْعونَ ويُثْنونَ؛ ويُصلُّونَ عليهِ قبلَ أنْ يُرْفَعَ وأنا فيهم، فلَمْ يَرُعْنِي إلاّ برجلٍ قَدْ أخذَ بِمَنْكِبِي مِنْ ورائِي، فالتفَتُّ إليه فإذا هوَ عليٌّ، فترحَّمَ علَى عمرَ وقالَ: ما خَلَّفْتَ أحداً أحبَّ إليَّ أنْ ألقَى اللهَ بمثْلِ عملِهِ مِنْكَ، وَايْمُ اللهِ إنْ كنتُ لأظنُّ أنْ يجعلَكَ اللهُ معَ صاحِبَيْكَ، وذاكَ أنِّي كنتُ كثيراً أسمعُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:جئتُ أنا وأبو بكرٍ وعمرُ، ودخلْتُ أنا وأبو بكرٍ(153/6)
وعمرُ، وخرجْتُ أنا وأبو بكرٍ وعمرُ،فإنْ كنتُ لأَرجُو أوْ لأَظنُّ أنْ يجعلَكَ اللهُ مَعَهُما"[أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ]، ذانِ الحديثانِ وما في معناهما كذلكَ: يكادُ سَنا برْقِهما يذهبُ بأبصارِ مَنْ أوْرَدَ نفسَه المهالِكَ، فظنَّ بالآلِ والأصحابِ خلافَ ذلِكَ، وهذا محمدُ بنُ الحنفيَّةِ؛ يسألُ أباه عليَّ بنَ أبي طالبٍ - رضي الله عنه - عنْ خيرِ البرِيَّةِ؛ بعدَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ البشريَّةِ، فيقولُ: "قلتُ لأبِي: أيُّ الناسِ خيرٌ بعدَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالَ: أبو بكرٍ.قلتُ:ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ عمرُ. وخشيتُ أنْ يقولَ: عثمانُ، قلتُ: ثُمَّ أنْتَ. قالَ:ما أنا إلا رجلٌ مِنَ المسلمينَ"[أخرجَه البخاريُّ]، وهَيْهاتَ هَيْهاتَ أنْ نحُصِيَ في هذهِ العُجالةِ ما لآلِ البيتِ مِنَ الفضْلِ الجَلِيِّ؛ والقدْرِ العَلِيِّ، ولكنْ حَسْبُنا ما استحضَرْناهُ مِنْ مكارِمِهمِ الكثيرةِ؛ وما استذكرْناهُ مِنْ مناقبِهمِ الوفيرةِ.
…باركَ اللهُ لي ولكم في الفرقانِ والذِّكرِ الحكيمِ، ووفَّقَنا للاعتصامِ به وبما كانَ عليهِ النبيُّ الكريمُ؛ عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأزكَى التسليمِ؛مِنَ الهَدْيِ القَويمِ؛ والصراطِ المستقيمِ، أقولُ ما تسمعونُ وأستغفرُ اللهَ الغفورَ الحليمَ، لي ولكم مِنْ كلِّ ذَنْبٍ وحَوْبٍ فتوبوا إليهِ واستغفروه إنَّه هوَ التوَّابُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية(153/7)
…الحمدُ للهِ عددَ مَا ترطَّبَتِ الألسنُ بالثناءِ والدعاءِ لآلِ البيتِ مِنْ فجِّ قلبِها العميقِ، والحمدُ للهِ عددَ مَا أثنَى المُثْنونَ عليهم وسألوا لهمُ السَّدادَ والرَّشادَ والتوفيقَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ الهادِي إلى سواءِ السبيلِ والطَّريقِ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنَا مُحمداً رسولٌ مِنْ أنْفُسِنا هُوَ بالمُؤمنينَ رؤوفٌ ورحيمٌ ورفيقٌ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى مَنْ أنعمَ اللهُ عليهِمْ مِنْ آلِ بيتِه فكانَ مِنْهمُ الشهيدُ والصالحُ والصِدِّيقُ.
…أمَّا بعدُ:
…فأوصِيكم يا أهلَ الإيمانِ؛ بتقْوَى المنَّانِ، فهيَ مِنْ أمَاراتِ الصدِّيقيَّةِ وعلاماتِ الإحسانِ.(153/8)
…عبادَ اللهِ: إنَّ المحبَّةَ بينَ القرابَةِ والصحابةِ بلغَتْ أسنَى المطالبِ، وذلكَ يتجلَّى في توقيرِ أبي بكرٍ وعمرَ في نفسِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، حيثُ سمَّى بعضَ أبنائِه باسْمَيْهما كما هو مُثْبَتٌ في كُتبِ جميعِ أهلِ المذاهبِ، فأمَّا أبو بكرٍ بنُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ: فأمُّه ليلَى بنتُ مسعودٍ، وكانَ مِنْ جُملةِ الشهداءِ؛ الذين استشهدوا معَ أخيهمُ الحسينِ - رضي الله عنهم - في كربلاءَ، وأمَّا عمرُ بنُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ:فأمُّه أمُّ حَبيبٍ الصهباءُ، ومما يدلُّ على تعانُقِ الآلِ والصَّحْبِ مُعانقةَ الأبدانِ للأرواحِ، ما وقعَ بيْنَهما مِنَ النكاحِ، فقد تزوَّجَ سِبْطُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الحسنُ بنُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ حفصةَ بنتَ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بكرٍ الصدِّيقِ - رضي الله عنهم - أجمعينَ، وأمَّا أُمُّ كلثومَ بنتُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ وأمُّها فاطمةُ بنتُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقد تزوَّجَها عمرُ بنُ الخطابِ فولَدَتْ له زيداً - رضي الله عنهم - أجمعينَ، فما أحَوْجَنا معشرَ الإخوةِ الأخيارِ؛ إلى قراءةِ تاريخِ أمَّتنا المِعْطارِ، لنتعرَّفَ علَى مكانةِ آلِ البيتِ الأطهارِ؛ في نفوسِ الصحابةِ الأبرارِ، لتلهجَ ألسنتُنا بقولِ العزيزِ الغفارِ: { رَبَّنا اغْفِرْ لنا ولإخوانِنَا الذينَ سَبقونَا بالإيمانِ ولا تَجْعَلْ في قُلوبِنَا غلاًًّ للذينَ آمنوا رَبَّنَا إنَّك رَؤوفٌ رَحيمٌ } { الحشر:10 } .(153/9)
…وليكنْ مِسْكُ الخِِتامِ، معشرَ الإخوةِ الكرامِ: ترطيبَ ألسنِتكم بالصلاةِ والسلامِ، علَى خيرِ الأنامِ، امتثالاً لأمرِ الملكِ القدوسِ السلامِ، حيثُ قالَ في أصدقِ قيلٍ وأحسنِ حديثٍ وخيرِ كلامٍ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } { الأحزاب: 56 } ، اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ، كما صلَّيْتَ علَى إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، وبارِكْ علَى محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ، كما باركْتَ علَى إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عنِ الأربعةِ الخلفاءِ الراشدينَ؛ والأئمةِ الحُنَفاءِ المهديِّينَ، أولي الفضلِ الجليِّ؛ والقدرِ العليِّ: أبي بكرٍ الصديقِ؛ وعمرَ الفاروقِ؛ وذِي النورينِ عُثمانَ؛ وأبي السِّبْطينِ عليٍّ، وارضَ اللهمَّ عَنْ عمَّيْ نبيِّكَ حمزةَ والعباسِ، وريحانَتَيْهِ الحسنِ والحسينِ سيِّدَيْ شبابِ أهلِ الجنَّةِ بلا التباسٍ، وآلهِ وأزواجِه المُطَهَّرِينَ مِنَ الأرجاسِ، وصحابتِهِ الصَّفْوَةِِ الأخيارِ مِنَ الناسِ.
…اللهم اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، ربنَّا آتِنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرةِ حسنةً؛ وقِنا عذابَ النَّارِ، اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---(153/10)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(153/11)
اطبع هذه الصحفة
الحلال والحرام وبناء المجتمع
الفرد وحده لا يستطيع أن يؤدي رسالته في الأرض، ما لم يلتق مع غيره من الأفراد، ويتعاون معهم، وقد فطر الله الإنسان على التآلف مع غيره من البشر، وقيل في هذا: (الإنسان مدني بالطبع) فرسالة الإنسان لا يمكن أن تؤدي إلا بتكوين مجتمع، والمجتمع في حاجة إلى تشريعات تنظمه ليعيش آمناً مستقراً، مترابطاً متماسكاً، يمكن للأفراد فيه أن يباشروا أعمالهم وهم آمنون في ظل مجتمع قوي بعيد عن الدمار والهلاك، والإنسان مزيج من الخير والشر، وإذا لم يهذب ويربي ويخضع للقوانين والنظم يغلب شره خيره {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 7- 10].
ولم تكن القوانين والنظم التي يضعها البشر وحدها كافية لاستقامة المجتمع كل الاستقامة، وبانية له البناء القوي المتين، ما لم تكن هذه القوانين وتلك النظم مستمدة من تشريع الحكيم العليم الخبير، خالق الإنسان والعالم به. {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك 14] وكذلك أفلحت الشرائع الإلهية، فيما أخفقت فيه القوانين الوضعية، وخبرات الإنسان وتجاربه
الحلال والحرام وبناء المجتمع
الحمد لله الذي أحل الحلال، وحرم الحرام، رحمة بالعباد، فقد أباح لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، جعل في الحلال ما يغني عن الحرام، وأعطى الفطرة حقها في الاستمتاع بالطيبات التي تشبع حاجتها، وتلبي مطالبها، وأبعدها عن الخبيث المهلك للفرد، والمدمر للمجتمع، وأشهد أن محمداً رسول الله، الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن دعا بدعوته واستن بسنته واهتدى بهديه وسلك طريقه إلى يوم الدين.
الاخوة المسلمون:(154/1)
الفرد وحده لا يستطيع أن يؤدي رسالته في الأرض، ما لم يلتق مع غيره من الأفراد، ويتعاون معهم، وقد فطر الله الإنسان على التآلف مع غيره من البشر، وقيل في هذا: (الإنسان مدني بالطبع) فرسالة الإنسان لا يمكن أن تؤدي إلا بتكوين مجتمع، والمجتمع في حاجة إلى تشريعات تنظمه ليعيش آمناً مستقراً، مترابطاً متماسكاً، يمكن للأفراد فيه أن يباشروا أعمالهم وهم آمنون في ظل مجتمع قوي بعيد عن الدمار والهلاك، والإنسان مزيج من الخير والشر، وإذا لم يهذب ويربي ويخضع للقوانين والنظم يغلب شره خيره {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 7- 10].
ولم تكن القوانين والنظم التي يضعها البشر وحدها كافية لاستقامة المجتمع كل الاستقامة، وبانية له البناء القوي المتين، ما لم تكن هذه القوانين وتلك النظم مستمدة من تشريع الحكيم العليم الخبير، خالق الإنسان والعالم به. {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك 14] وكذلك أفلحت الشرائع الإلهية، فيما أخفقت فيه القوانين الوضعية، وخبرات الإنسان وتجاربه
( 2 )
شاهدة على ذلك، فقد حرم الإسلام الخمر، فامتنع المسلمون عن تناولها، بل ألقوا ما لديهم من خمور فسالت في طرقات المدينة، وأخفقت دول الشرق والغرب في ذلك لأن الناس لم يستجيبوا للتحريم، كما استجاب المسلمون لأمر الله. {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} [المائدة: 90].
الإخوة المسلمون:
يتميز التشريع الإلهي بإعداد الفرد بالتربية والتهذيب، كي يتقبل القوانين ويستجيب لها، وقد ربى الإسلام المسلمين على اتباع الأوامر واجتناب النواهي طاعة لله وتقرباً إليه، وليس خوفاً فقط من العقوبات الدنيوية، فالذي نهاه الله عنه حرام عليه أن يأتيه، وما أحله الله له وأباحه كان من الطيب الذي يستمتع به ويحمد الله عليه.(154/2)
وقد جاء الإٍسلام لما بلغت البشرية رشدها العقلي، فكانت تشريعاته الصورة المتفقة مع فطرة الإنسان فلم يحرم عليه شيئاً من الطيبات، ولم يمنع عنه مطالب الفطرة، ولم يضيق عليه دائرة الحلال، بل جعل الأصل في الأشياء الإباحة، فللإنسان أن يستمتع بكل نعم الله تعالى إلا ما انزل فيه نص صريح بأنه حرام، وتفضل الله عليه بتسخير ما في السموات والأرض لينتفع بها دون مقابل، ويستمتع بما فيها من نعم {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20].
واتسعت دائرة الحلال في الإسلام، وضاقت دائرة الحرام، قال(صلي الله هليه وسلم): "إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" [رواه الدارقطني]. [ نزهة المتقين ].
الإخوة المسلمون:
لقد حدد الإسلام السلطة التي تملك التحريم والتحليل، وهي لله تعالى وحده، وقد نعى القرآن على أهل الكتاب [اليهود والنصارى] أنهم جعلوا التحريم والتحليل في أيدي الرهبان والأحبار {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]. ولما قرأ الرسول (صلي الله عليهوسلم) هذه الآيات
( 3 )
على عدي بن حاتم وكان نصرانياً قبل أن يسلم قال عدي: يا رسول الله إنهم لم يعبدوهم، فقال: "بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم" [رواه الترمذي]
وقد خص الإسلام المحرمين للحلال بالزجر الشديد لأنهم يضيقون على الناس بتشددهم، مع أن رسالة الإسلام رسالة سمحة.(154/3)
كما حدد الإسلام صراحة أصول المحرمات، منكراً على المحرمين للطيبات، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32- 33].
ومن رحمة الله بالناس أنه بين لهم الحلال والحرام بالتفصيل قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119].
فلا حرج في فعل الحلال الصريح، ولا رخصة في ارتكاب الحرام الواضح، وقد يلتبس الحل بالحرمة في منطقة الشبهات وهي التي لم يكن التحليل والتحريم فيها واضحاً وصريحاً، ومن الورع في الإسلام أن يتجنب المسلم هذه الشبهات، قال(صلي الله عليه وسلم): "إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرا .." [رواه البخاري ومسلم].
الاخوة المسلمون:
لم يحرم الله ويحلل للمسلمين إلا ما كان فيه مصلحة للبشر، فلم يحل إلا الطيب، ولم يحرم إلا الخبيث، وما كان ضرره أكبر من نفعه فهو حرام، وما كان نفعه أكبر من ضرره فهو حلال فما ينفع الناس ويقوي المجتمع ويبنيه أباحه الإسلام، ومن ذلك المعاملات التي يحتاجها المجتمع وتنفعه وتقويه فقد أحلها الشرع، وتدخله فيها كان للتهذيب والتصحيح.(154/4)
وما يضر الإنسان والمجتمع حرمه الإسلام، فقد حرم الظلم لأنه يؤذي الفرد ويدمر المجتمع، قال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [الحج: 71] وقال (صلي الله عليه وسلم): "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" [رواه مسلم] فالعدل يقيم المجتمعات، والظلم يدمر ويهلك المجتمعات، وفي ذلك
( 4 )
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأمور الناس إنما تستقيم مع العدل الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم يشترك في إثم "ويواصل ابن تيمية قوله [ولهذا قيل إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تقوم مع العدل والكفر، ولا تقوم مع الظلم والإسلام" انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله وكذلك حرم الله الخمر والميسر لأنهما يوقعان بين الناس العداوة والبغضاء، ويهدمان بناء المجتمع، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91].
الاخوة المسلمون:
الحلال والحرام أساسان متينان، وقاعدتان قويتان في بناء المجتمع، وقد تلاحم المجتمع المسلم وترابط وتماسك لما كان المسلمون حريصين على قيم الحلال والحرام، وبالتهاون في هذه القيم يضعف المجتمع ويقل تماسكه وترابطه، حتى لو أخذ الحرام تسميات أخرى فسيبقى كما هو حراماً يفكك المجتمع ويهلك الفرد ، فقد يسمى البعض الرشوة هدية، والخمر مشروباً روحياً، والخلاعة والميوعة والمجون فنا، وغير ذلك من المسميات التي يقصد بها تسهيل ارتكاب الحرام.
وطريقنا إلى بناء مجتمع قوي ومتين هو التمسك بشرع الله، والابتعاد عن مباشرة المحرمات.
وبهذا يكون فلاحنا في الدنيا قبل الآخرة قال (صلي االه عليه وسلم): "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس" [رواه مسلم].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
---(154/5)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(154/6)
اطبع هذه الصحفة
الغُلوّ في الدين
عباد الله
لقد شدَّدَ أقوامٌ حتَّى أخرَجُوا مِنَ الدِّينِ مَنْ فَعلَ كبيرةً مِنَ الكبائِرِ واستحَلُّوا دَمَه وعِرْضَه ومالَه, وأباحوا الخروجَ علَى الأئمةِ وولاة الأمر. وتساهَلَ آخرونَ فقالوا: إنَّ القتلَ والزِّنا وشربَ الخمرِ والسرقَةَ ونحوَهَا مِنَ الكبائرِ لا تُنْقِصُ مِنَ الإيمانِ شيئاً. وديِنُ اللهِ بريءٌ مِنْ قَوْلِ هؤلاءِ وَزَعْمِ أولئِكَ, فصاحِبُ الكبيرةِ لا يَكْفرُ إلاَّ إذا استحلَّها, والإيمانُ يتأثَّرُ بالطاعاتِ والمعاصِي, فيزَيدُ بالطاعةِ ويَنْقُصُ بالمعصيةِ,وليسَ كما قالَ أهلُ الغُلوِّ والتقصيرِ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 14 محرم 1428هـ الموافق 2/2/2007م
الغُلوّ في الدين
…الحمدُ للهِ القائلِ في كتابهِ قَوْلاًًًً مجيداً { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } ,وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له, إقراراً بهِ وتوحيداً, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه,وعَدَهُ ربُّه مقاماً محموداً وحَوْضاً مَوْروداً, وسدَّدَه بالوَحْيِ تسديداً, صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبهِ الذين عَبَدوا اللهَ بما أمَرَ,واجتنبَوا ما نَهَى عَنْه وزَجَرَ,وسلَّمَ تسليماً مَزيداً.
…أمَّا بعدُ:
…فأُوصِيكمْ - عبادَ اللهِ - ونفسِي بتقوَى اللهِ وطاعتِه, والحَذَرِ مِنْ معصيَتِه, واجتنابِ الغُلُوِّ في شريعتِه, روَى عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"هلَكَ المتُنَطِّعونَ, هلَكَ المُتَنَطِّعونَ, هلَكَ المتُنَطِّعونَ" [أخرجَه مسلمٌ] والمُتَنَطِّعونَ هُمُ المتُعمِّقونَ المُشَدِّدونَ في غيرِ مَوْضعِ التشديدِ.
…إخوةَ الإيمانِ والإسلامِ:(155/1)
…إنَّ اللهَ قَدْ ختَمَ الشرائِعَ بهذِه الشريعةِ الإسلاميَّةِ, وختَمَ بالقرآنِ إنزالَ الكُتُبِ السماويَّةِ, وبنبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - الأنبياءَ والرسلَ إلى البريَّةِ، ولقَدِ اصطفَى اللهُ – عزَّ وجلَّ – هذهِ الأُمَّةَ فجعلَها أُمَّةً وسَطاً وفضَّلهَا علَى الأُمَمِ تفضيلاً, واختارَ دِينَها علَى الأديانِ وكمَّلَه تكميلاً, فهوَ دينُ اللهِ في الأرضِ والسماءِ, للإنسِ والجنِّ وسائرِ الخَلْقِ علَى السَّواءِ، قالَ تباركَ وتعالَى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } { البقرة: 143 } ، ولقَدْ حثَّتْنا شريعتُنا السَّمْحَةُ علَى التوسُّطِ والاعتدالِ, وحذَّرَتْنا مِنَ الغُلوِّ وصَنِِيعِ الجُهَّالِ, لأنَّ الغُلوَّ يعُطِّلُ الأديانَ, ويُفْسِدُ الأبدانَ, ويُدْخِلُ في الدِّينِ ما ليسَ مِنْه, ويخُرِجُ مِنْه ما لا مَحيدَ عَنْه، قالَ ابنُ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما في قولِ اللهِ تعالَى: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } { نوح:23 } "هذِهِ أسماءُ رجالٍ صالحينَ مِنْ قومِ نوحٍ فلمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشيطانُ إلى قومِهم أَنِ انْصِبُوا إلى مجالسِهمِ التي كانوا يَجْلسونَ فيها أَنْصاباً وَسَمُّوها بأسمائِهم ففعَلُوا فلَمْ تُعبَدْ, حتَّى إذا هلَكَ أولئِكَ ونُسِخَ العِلْمُ عُبِدَتْ"[أخرجَه البخاريُّ]، …وقَدْ غَلا قومٌ في الأنبياءِ والرُّسلِ غُلوّاً كثيراً؛ حتَّى جعَلُوا بعضَهم آلهةً, وبعضَهم أبناءً للهِ, تعالَى اللهُ عَنْ ذلِكَ عُلُوّاً كبيراً؛ كما فعلَ اليهودُ الذين قالوا عزيرٌ ابنُ الله, ونسَبُوا عيسَى ابنَ مريمَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ إلى الزِّنا. وغَلَتِ النصارَى في عيسَى - عليه السلام - فجعلُوهُ ابنَ اللهِ, وثالثَ ثلاثَةٍ,(155/2)
بَلْ قالوا هوَ اللهُ. قالَ اللهُ تعالَى مُبيِّناً غُلوَّهم وغلوَّ اليهودِ { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَت النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ*اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } { التوبة: 30 } ، وقَدْ نَهاهمُ اللهُ – عزَّ وجلَّ – عَنِ الإفراطِ في الدِّينِ, وعَنْ نِسْبَةِ تلكَ القبائِحِ إلى ربِّ العالمينَ؛ فقالَ وهوَ أصدقُ القائلينَ: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } { النساء:171 } ، وغَلا أقْوامٌ في الصالحينَ فأنزَلُوهم منازِلَ هُمْ مِنْها يَتبرَّؤونَ, وأبلَغُوهمْ مراتِبَ لا تَنْبغِي إلاَّ لربِّ العالمينَ حتَّى صاروا يَدْعونَهم رَغَباً ورَهَباً, ويَذْبحونَ لهم وَيَنْذِرُونَ , ويَطوفونَ حَوْلَ قبُورِهم, ويَسْألونَهم الرِّزْقَ والوَلَدَ, ويَنْسَوْنَ الأحَدَ الصَّمَدَ. وقَدْ نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الإفراطِ والمبالَغَةِ في المدْحِ والثناءِ, فكيفَ إذا بلَغَ الأمرُ العِبادَةَ والدعاءَ؟! عَنْ عمرَ - رضي الله عنه - قالَ:سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:" لا تُطْرونِي– أيْ:لا تبالِغُوا في مِدْحِي–كما أطْرَتِ النَّصارَى ابنَ مريمَ,فإِِنَّما أنا عَبْدُهُ, فقولوا:عبدُ اللهِ ورسولُهُ"[أخرجَه البخاريُّ].
…عباد الله:(155/3)
لقد شدَّدَ أقوامٌ حتَّى أخرَجُوا مِنَ الدِّينِ مَنْ فَعلَ كبيرةً مِنَ الكبائِرِ واستحَلُّوا دَمَه وعِرْضَه ومالَه, وأباحوا الخروجَ علَى الأئمةِ وولاة الأمر. وتساهَلَ آخرونَ فقالوا: إنَّ القتلَ والزِّنا وشربَ الخمرِ والسرقَةَ ونحوَهَا مِنَ الكبائرِ لا تُنْقِصُ مِنَ الإيمانِ شيئاً. وديِنُ اللهِ بريءٌ مِنْ قَوْلِ هؤلاءِ وَزَعْمِ أولئِكَ, فصاحِبُ الكبيرةِ لا يَكْفرُ إلاَّ إذا استحلَّها, والإيمانُ يتأثَّرُ بالطاعاتِ والمعاصِي, فيزَيدُ بالطاعةِ ويَنْقُصُ بالمعصيةِ,وليسَ كما قالَ أهلُ الغُلوِّ والتقصيرِ.
…أيُّها المسلمونَ:
…وفي جانِبِ العباداتِ نَهَى الشرعُ الحنيفُ عَنْ تشديدِ العبدِ علَى نفسِهِ بالإفراطِ المؤدِّي إلى المَلَلِ,أوِ المبالَغَةِ المُفْضِيَةِ إلى تَرْكِ الأفضلِ؛كمَنْ يقومُ الليلَ ويفوتُ صلاةَ الفجرِ.والناسُ في الِعباداتِ طرَفانِ ووَسَطٌ:فمِنْهمُ المفْرِطُ الغالي,ومِنْهمُ المفرِّطُ الجافِي, ومِنْهمُ المتوسِّطُ بلا غُلوٍّ ولا جَفاءٍ، عَنْ أنسٍ - رضي الله عنه - قالَ: دخلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المسجدَ فإذا حَبْلٌ ممدودٌ بينَ السَّارِيَتيْنِ فقالَ:"ما هذَا الَحْبلُ؟ قالوا: هذا حبلٌ لزينبَ فإذا فَتَرَتْ تعلَّقَتْ بهِ فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"حُلُّوهُ, لِيُصَلِّ أحدُكم نشاطَه, فإذا فَتَرَ فَلْيََرْقُدْ"[أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ].وفي حجَّةِ الوداعِ دعا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عبدَ اللهِ بنَ عباسٍ– رضِيَ اللهُ عَنْهما– غَداةَ العَقَبَةِ وهوَ علَى راحلِتهِ فقالَ له:" هاتِ القُطْ لِي"قالَ: فلَقَطْتُ له حَصَياتٍ هنَّ حصَى الخَذْفِ فلمَّا وضعتُهنَّ في يدِه قالَ:"بأمثالِ هؤلاءِ– يَعْنِي فارْمُوا– وإيَّاكمْ والغُلوَّ في الدِّينِِ, فإنَّما أهلَكَ مَنْ كانَ قبلَكُمُ الغُلُوُّ في الدِّينِ"[أخرجَه أحمدُ والنسائيُّ واللفظُ له].(155/4)
…بارَكَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ والسُّنَّةِ, وأتمَّ علينا الِهدايَةَ والمِنَّةَ, أقولُ قوليِ هذا و أستغفرُ اللهَ العظيمَ؛ فاستغفروهُ إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ الذي أكرَمَنا بدينِهِ القويمِ, وهدانا لصراطِه المستقيمِ, ورضِيَ لنا الإسلامَ دِينا, وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له, وكفَى بهِ هادِياً ومُعِيناً, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه, أنْعِمْ بهِ رسولاً!، وأكِرمْ بهِ صادِقاً أميناً!, صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعلَى آلهِ وصحبِه؛ أحسنِ الناسِ خُلُقاً, وأكْمَلِ الخَلْقِ دِيناً.
…أمَّا بعدُ:
…أيُّها الناسُ اتقوا اللهَ الذي خلقَكمْ, واستَعِينوا علَى طاعتِه بما رزقَكُم, واجتَنِبُوا الفواحِشَ واللَّغَطَ, واحذروا الغُلوَّ والشَّطَطَ.
…عبادَ اللهِ:
…وليسَ الغُلوُّ قاصِراً على الاعتقاداتِ, ولا مُنْحصِراً في العباداتِ, بَلْ أمرُهُ يتعدَّى إلى المعاملاتِ والعاداتِ؛ إذْ إنَّ بعضَ الخَلْقِ يُفْرِطُ في التشدُّدِ في جانبِ المعاملاتِ حتَّى يُحرِّمَ كلَّ شيءٍ, فلا يُجَوِّزُ للإنسانِ أنْ يزيدَ علَى واجباتِ حياتِهِ الضروريَّةِ؛ لأنَّه– بزَعْمِهِ– يَشْغَلُه عَنِ الحياةِ الأُخْرَويَّةِ. وقابَلَهم طرَفٌ آخرُ فَرَّطُوا وتساهَلُوا حتَّى أحَلُّوا كلَّ شيءٍ يُنَمِّي المالَ ويُقَوِّي الاقتصادَ حتَّى الرِّبا والغِشِّ والاحتكارِ. ولا مكانَ – في الشريعةِ – لكلا الطرَفَيْنِ, فالمعامَلاتُ حلالٌ وَفْقَ ما جاءَتْ بهِ النصوصُ؛ كقولِه تعالَى: { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } { البقرة:275 } ،فإنَّ النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - باعَ واشترَى, وكانَ الصحابةُ يبيعونَ ويشترونَ, ولم يكنْ ذلِكَ ثَلْماً في دِينِهم, ولا نَقْصاً في وَرَعِهم.
…أيُّها المسلمونَ:(155/5)
…ولما كانَ الغلوُّ آفةً خطيرةً, وداءً فتَّاكاً مُسْتطيراً,كانَ لزِاماً معالجتُهُ قبلَ تجرُّعِ عواقِبِهِ الوخيمةِ, والتألُّم ِمِنْ آثارِه الجسيمةِ, وتلكَ مسؤوليةٌ تقعُ علَى عاتِقِ الأفرادِ والمؤسساتِ. وأهمُّ طُرُقِ العلاجِ أنْ يُفْهَمَ الإسلامُ فهماً صحيحاً في عُمومهِ وشُمولهِ, بحكمتِهِ ورحمتِهِ, بواقعيَّتِهِ ومثاليَّتِهِ, بمنأَى عَنِ الأهواءِ والأغراضِ الذاتيَّةِ, وبعيداً عَنِ التعصُّبِ المقِيتِ, والجَهْلِ المُُمِيتِ وأنْ نسلكَ مسلَكَ الوسطِيَّةِ والاعتدالِ, ونُنَفِّرَ مِنَ الغلوِّ والتشدُّدِ, وأنْ نتَّبِعَ منهجَ الحِوَارِ, كما يَلْزَمُنا الرجوعُ في المسائلِ المشْكِلاتِ والنوازِلِ المدْلَهِمَّاتِ إلى أهلِ العلمِ الذين أمرَنا اللهُ سبحانَه وتعالَى جميعاً بالرجوعِ إليهم قائلاً: { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } { الأنبياء:7 } . والأُمَّةُ في سفينةٍ واحدةٍ إنْ تَغْرَقْ غَرِقُوا جميعاً, وإنْ تَنْجُ نَجَوْا جميعاً, وهذا مِمَّا أوصانا بهِ ربُّنا عزَّ وجلَّ بقولِه: { وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ*إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } { العصر } ، كما أنَّ العِلْمَ بالغلوِّ وإفسادِه للدينِ والدُّنيا وسيلةٌ لتلافِي آثارِه, والتَّنَزُّهِ عَنْ نتائِجِه وأخطارِهِ, عَنْ أنس - رضي الله عنه - أنَّه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -"إنَّ هذا الدِّينَ متينٌ فأوغِلوا فيهِ برِفْقٍ"[أخرجَه أحمدُ]. كما أنَّ صاحبَ الغُلوِّ محرومٌ يومَ الدِّينِ؛ مِنْ شفاعَةِ سيِّدِ المرسلينَ, فعَنْ أبي أُمامةَ الباهليِّ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"صِنْفانِ مِنْ أُمَّتِي لن تنالَهما شفاعَتِي: إمامٌ ظَلومٌ غَشومٌ, وكل غالٍ مارقٍ" [أخرجَه الطبراني].فاحرِصوا – رحِمَكمُ(155/6)
اللهُ – علَى أنْ تكونوا مِمَّنْ عناهُمُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقولهِ:"يحمِلُ هذا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدولُه: يَنْفُونَ عَنْه تحريفَ الغالِينَ, وانتِحالَ المُبْطِلينَ, وتأويلَ الجاهلينَ" [أخرجَه الحاكمُ والبيهقيُّ والبزَّارُ]، فسدِّدوا وقارِبوا وأبْشِرُوا, والقَصْدَ القَصْدَ تبلُغُوا.
…اللهمَّ طهِّرْ قلوبَنا مِنَ النفاقِ, وأعمالَنا مِنَ الرِّياءِ, وألسنتَنا مِنَ الكذِبِ, وأعيُنَنا مِنَ الخيانَةِ، اللهمَّ أرِنا الحقَّ حقّاً وارزُقْنا اتباعَهُ, وأرِنا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجِتَنابَهُ، اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ, وأذِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ, وارحمْ أمواتَنا وأمواتَ المسلمينَ أجمعينَ. ونعوذُ بِكَ اللهمَّ مِنَ الغُلوِّ في الدِّينِ, ومِنْ سلوكِ غيرِ سبيلِ المؤمنينَ، اللهمَّ وَفِّقْ أميرَنا وولِيَّ عهدِهِ لِهُداك, واجْعَلْ عملَهما في رِضاكَ، اللهمَّ احْفَظْهُما بِحِفْظِكَ، واكْلأْهُما بِرِعايَتِكَ, وأَلْبِسْهُما ثوبَ الصحَّةِ والعافيةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اجعلْ هذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخاءً رَخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتَقَبَّلِ اللهمَّ شُهداءَنا وشُهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرةِ حسنةً؛ وقِنا عذابَ النَّارِ.
………………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(155/7)
اطبع هذه الصحفة
علماء من بلدي
معاشِرَ المسلمينَ
… لقدْ أثنىَ اللهُ سبحانَه علَى العلماءِ العاملينَ، وجعلَهم في المقامِ بعدَ الأنبياءِ والمرسلينَ، فهم مصابيحُ الزَّمانِ، ودُعاةُ التوحيدِ والإيمانِ، بهم حَفِظَ اللهُ الدِّينَ، وجعلَهُم قُدْوَةً للعالمَِينَ، وغُصَّةً في حُلُوقِ المُعْرِضِينَ والمفسدِينَ، وكانَ مِنْ عظيمِ ما شُرِّفوا به، أنْ جعلَهُمُ اللهُ شهداءَ على توحيدِه، فبدأَ سبحانَه بنفسِه ثُمَّ بملائكتِه، ثُمَّ بالأُمناءِ علَى دِينِه وحُفَّاظِ شريعتِه، فقالَ في مُحكَمِ آياتهِ: { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } { آل عمران:18 } ،قال القُرطبيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: في هذِه الآيةِ دليلٌ علَى فضِل العِلْمِ وشَرَفِ العلماءِ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 21 من المحرم 1428 هـ الموافق 9/2/2007
علماء من بلدي
الحمدُ للهِ المعبودِ الأوْحَدِ، والشكرُ له سبحانَه علَى ما أنْعَمَ وأوْجَدَ ، جعلَ في سِيَرِ العلماءِ خيرَ مَنْهَلٍ ومَوْرِدٍ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له القائِلُ في مُحكمِ تنزيلِهِ الممجَّدِ: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } { فاطر:2 } ، فهمْ أهلُ الخَشْيَةِ والرُّشْدِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ الكريمُ الأمجَدُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِه ذَوِي النَّهْجِ المسدَّدِ، وعلَى تابعيِهم بإحسانٍ ما شدَا طاِئرٌ وغرَّدَ.
…أمَّا بعدُ:(156/1)
…فأوصِيكم – عِبادَ اللهِ – ونفسِي بتقوَى اللهِ ربِّ البريَّةِ، فإنَّ تقواهُ مُستلزِمَةٌ للمَعِيَّةِ، وسببٌ مِنْ أسبابِ المحبَّةِ الإلهيَّةِ، والمتقونَ لهمْ في الجنَّةِ غُرَفٌ مِنْ فوقِها غُرَفٌ مبنيَّةٌ، يقولُ اللهُ سبحانَه: { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } { مريم : 63 } .
لَعَمْرُكَ ما يَنالُ الفضلَ إلاّ تَقِيُّ القلبِ مُحتَسِبٌ صَبورُ
… معاشِرَ المسلمينَ:
… لقدْ أثنىَ اللهُ سبحانَه علَى العلماءِ العاملينَ، وجعلَهم في المقامِ بعدَ الأنبياءِ والمرسلينَ، فهم مصابيحُ الزَّمانِ، ودُعاةُ التوحيدِ والإيمانِ، بهم حَفِظَ اللهُ الدِّينَ، وجعلَهُم قُدْوَةً للعالمَِينَ، وغُصَّةً في حُلُوقِ المُعْرِضِينَ والمفسدِينَ، وكانَ مِنْ عظيمِ ما شُرِّفوا به، أنْ جعلَهُمُ اللهُ شهداءَ على توحيدِه، فبدأَ سبحانَه بنفسِه ثُمَّ بملائكتِه، ثُمَّ بالأُمناءِ علَى دِينِه وحُفَّاظِ شريعتِه، فقالَ في مُحكَمِ آياتهِ: { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } { آل عمران:18 } ،قال القُرطبيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: في هذِه الآيةِ دليلٌ علَى فضِل العِلْمِ وشَرَفِ العلماءِ.
ما الفَضْلُ إلاَّ لأهلِ العِلْمِ إنَّهمُ …علَى الهُدَى لِمَنِ استهدَى أدِلاّءُ
وقَدْرُ كُلِّ امرئٍ ما كانَ يُحْسِنُهُ … والجاهلونَ لأهلِ العِلْمِ أعْداءُ
…… فَفُزْ بعِلْمٍ ولا تَطلُبْ بهِ بَدَلاً … فالنّاسُ مَوْتَى وأهلُ العِلْمِ أحْياءُ(156/2)
… وكانَ مِنْ فضلِ اللهِ على هذهِ البلادِ، أنْ أنبتَ فيها رِجالاً مِنْ ذَوِي العِلْمِ والرشادِ، كانوا مصابيحَ الظُّلْمةِ، وينابيعَ الحِكْمةِ، حَملوا علَى كَوَاهلِهمُ النُّصحَ للمجتمعِ، وتبليغَهم أحكامَ الشرعِ، ومحاربةَ المعاصِي والمُنْكَراتِ، والوقوفَ سدّاً مَنيعاً ضدَّ البِدَعِ والضلالاتِ، في جهودٍ طيِّبةٍ ودَوْرٍ فعَّالٍ، كانَ ذِكْرُهم لِزاماً علينا ذِكْرُه لِتَراهُ هذهِ الأجيالُ، لعلَّها تَلْحقُ بسَلَفِها مِنَ العلماءِ، في صِدْقٍ وعزٍّ وإباءٍ، فتَصْلُحُ بهمُ البلادُ، ويَسْعَدُ بهمُ الحاضِرُ والبادِ، يقولُ الإمامُ أبو حنيفةَ - رَحِمَهُ اللهُ -: "سِيَرُ الرِّجالِ أحبُّ إلينا مِنْ كثيرٍ مِنَ الفقْهِ، لأنَّها آدابُ القومِ ومحاسِنُهم".
إخوةَ العِلْمِ والعمَلِ:(156/3)
… وهذهِ صورٌ مشرقَةٌ، وصفحاتٌ نَيِّرَةٌ، سُجِّلَتْ لِعلماءَ خِيَرَةٍ، في مجالاتٍ شتَّى وأحوالٍ مُتنوِّعةٍ، ولقدْ سافرَ كثيرٌ مِنْهم إلى بلادٍ شتَّى، وضربُوا أكبادَ الإبلِ إلى أُولي العلمِ والنُّهَى، فنهَلُوا مِنَ العلماءِ الأماجِدِ، أطيبَ المناهِلِ وأعذبَ الموارِدِ، ثُمَّ حِينَ تأسَّستْ بعضُ المدارسِ النظامِيَّةِ، كمدرسةِ المباركِيَّةِ والأحمدِيَّةِ، أُسِّستْ علَى أساسٍ عظيمٍ، حيثُ يُبْدَأُ فِيها بحفظِ القرآنِ الكريمِ، ثُمَّ التنقُّلِ في عُلومِ اللغةِ العربيَّةِ، وما تنوَّعَ مِنْ علومِ الشريعةِ الإسلاميَّةِ، بحيثُ لا يتخرَّجُ فيها الطلاَّبُ، إلاَّ وهمْ علَى جانبٍ عظيمٍ مِنَ العلمِ والأخلاقِ والآدابِ، ثُمَّ جاءَتْ فكرةُ إنشاءِ المعهدِ الدينيِّ عامَ (1942)، وكانَ أولُ المدرسينَ فيهِ أربعةً مِنَ الفقهاءِ البارزينَ وهمْ: الشيخُ أحمدُ بنُ عطِيَّةَ الأثرِيُّ، والشيخُ عِيدُ بنُ ابداحِ المطيريُّ، والشيخُ عبدُاللهِ النورِيُّ، والشيخُ عبدُالعزيزِ حمادةُ، وكانَ عددُ الطلابِ يومَئذٍ نحوَ المائِة، وأمَّا واقِعُهم مَعَ أهلِيهم وأولادِهم، فقَدْ كانوا يُولونَهم عظيمَ اهتمامٍ، بحيثُ يُربُّونَهم علَى تعاليمِ الإسلامِ، فقدْ كانَ الشيخُ محمدُ بنُ عبدِاللهِ الفارسِ – رَحِمَهُ اللهُ - يجلسُ كلَّ يومٍ بعدَ صلاةِ الفجرِ في دارِه، ويجمعُ أولادَه وأحفادَه، لمُدَارسَةِ القرآنِ الكريم ِإلى أنْ ترتفعَ الشمسُ، وكانَ حريصاً علَى مُواظبَتِهم، فمَنْ يتخلَّفْ مِنْهم عَنِ الحضورِ يُعاتِبْه عِتاباً يَسيراً، ولقَدْ أثمرَتْ هذهِ التربيَةُ ثمراتٍ طيِّبةً، فأولادُه وأحفادُه مَوْضِعُ ثِقَةِ الناسِ واحترامِهم، بما يَتحلَّوْنَ بهِ مِنْ كريمِ الأخلاقِ التي اقْتبَسوها مِنْ مُؤسِّسِ أُسرَتهِم.
ويَنْشأُ ناشِئُ الِفتْيانِ مِنَّا عَلَى ما كانَ عَوَّدَهُ أبوهُ
وما دانَ الفتَى بحِجى ولكنْ يُعلِّمُهُ التديُّنَ أَقْرَبُوهُ(156/4)
عبادَ اللهِ:
…لقدْ كانوا يتعلَّمونَ الزُّهدَ والوَرَعَ، كما يتعلَّمونَ أحكامَ الشَّرْعِ، حتَّى إنَّكَ لترَى فيهم آثارَ مَنْ سبَقَ، مِنْ أهلِ العِلْمِ والتُّقَى والصِّدْقِ، فهذا الشيخُ عبدُالوهَّابِ الفارِسُ، كانَ علَى جانبٍ كبيرٍ مِنَ الورَعِ والتُّقَى؛ مُتَخلِّقٌ بأخلاقِ السلَفِ الصالحِ، فقيهٌ في مذهِبهِ الحنبلِيِّ، شديدُ التمسُّكِ بالشرعِ لا يُحابِي ولا يُجامِلُ ولا يُداهِنُ، ولا يَبيعُ الدِّينَ بالدُّنيا، ولا تأخذُهُ في كلمةِ الحقِّ لَوْمَةُ لائمٍ، ومِنْ وَرَعِهِ المعهودِ عَنْه، زهدُهُ في منصبِ القضاءِ، فقَدْ عَرَضَ عليه الشيخُ عبدُاللهِ الجابرُ الصَّبَاحُ – رئيسُ المحاكمِ سنةَ 1944م– منصِبَ القضاءِ، فاعتذَرَ بشدَّةٍ، يقولُ الشيخُ عبدُاللهِ النورِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: وكأنِّي أراهُ وقدْ جمعَ إليهِ ثيابَهُ وهوَ يستغفرُ اللهَ، ويستعيذُ بهِ ويردُّ علَى الرئيسِ قائلاً: لا يا شيخُ لا يا شيخُ أرجوكَ أعْفِني مِنْ هذا المنْصِبِ، فأنا غيرُ لائقٍ به، لأنِّي سريعُ الغضَبِ. وكانَ داِفعَهُ لهذا الرَّفْضِ، هوَ الورعُ والخوفُ مِنَ اللهِ سبحانَه فعنْ حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "فضلُ العِلْمِ خيرٌ مِنْ فضلِ العِبادةِ، وخيرُ دِينِكمُ الورَعُ" [أخرجَهُ الطبرانيُّ].
إخوةَ الإسلامِ:(156/5)
…وممَّا تميَّزَ بهِ هؤلاءِ العلماءُ الكرامُ، علاقتُهُمُ المتينةُ معَ الحكَّامِ، حيثُ الاحترامُ المتبادَلُ، والتناصُحُ بالمعروفِ لإحقاقِ الحقِّ ودَحْرِ الباطلِ، مِنْ ذلِكَ ما كانَ يقَومُ بهِ الشيخُ عبدُالعزيزِ الرشيدُ – رَحِمَهُ اللهُ – في مجلسِ الشيخِ أحمدَ الجابرِ الصَّباحِ - رَحِمَهُ اللهُ-، في صَدْرِ كُلِّ مجلسٍ مِنْ تفسيرٍ لبعضِ الآياتِ، أوْ شرحٍ للأحاديثِ النبويَّةِ والحاضرونَ في استماعٍ وإنصاتٍ، فعَنْ تَميمٍ الدارِيِّ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الدينُ النصيحةُ" قُلْنا: لِمَنْ يا رسولَ اللهِ، قالَ:"للهِ ولكتابِهِ ولرسولِهِ ولأئمَّةِ المسلمينَ وعامَّتِهم"[أخرجَه مسلمٌ]، وكثيراً ما تحصلُ المراسلاتُ بَيْنَهُم وبينَ أُمراءِ هذِهِ البلادِ، في أمرٍ بمعروفٍ أوْ نَهْيٍ عَنْ مُنكرٍ أوْ دَحْرٍ لفسادٍ، ولقَدْ أثمرَ هذا التعاونُ، فكانوا نِعْمَ المساعِدُ والمعاوِنُ، في إبطالِ كثيرٍ مِنَ البِدَعِ والضلالاتِ، التي انتشَرتْ في كثيرٍ مِنَ المجتمَعاتِ، فحِينَ تكلَّمَ أحدُ الشعراءِ، مُهْمِلاً شأنَ القَدَرِ والقَضاءِ، بقصيدةٍ يقولُ في مَطْلِعَها:
إذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياه فلا بُدَّ أنْ يستجيبَ القَدَرْ
ردَّ الشيخُ عبدُالرحمنِ الدوسريُّ – رَحِمَهُ اللهُ- بقصيدةٍ يقولُ في مَطْلَعِها:
إذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياه وجاءَ بمقْتضَياتِ القَدَرْ
وحينَ استهزأَ بعضُهم بالمُتدَيِّنينَ، ردَّ الشيخُ يوسفُ القناعيُّ بثباتٍ ويقينٍ، فقالَ رحِمَهُ اللهُ:
…… إنْ كانَ مَنْ يتَّبِعُ دِينَ الهُدَى … وَيقْتدِي بسيِّدِ المرسلينَ
…… تَدْعونَهُ الرَّجْعِيَّ في دِينِهِ … فإنَّنِي مِنْ أوَّلِ الراجِعينَ
…… فَقَلِّدُوا لِينينَ في هَدْيِكُمْ لأنَّه داعِيَةُ المُلْحِدينَ
أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروه إنَّه خيرُ الغافرينَ.
الخطبة الثانية(156/6)
الحمدُ للهِ الذي جعلَ للعُلَماءِ عظيمَ المقدارِ، وألبسَهم حُلَلَ المهابَةِ والوَقارِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له العزيزُ الغفَّارُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه المصطفَى المختارُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِه الأبرارِ، وعلَى تابعيهمْ بإحسانٍ ما تعاقَبَ الليلُ والنهارُ.
… أمَّا بعدُ:
… فاتقوا اللهَ أيُّها النبلاءُ، وتأمَّلُوا في أخبارِ مَنْ سبَقَ مِنَ العلماءِ، ثُمَّ أتْبِعوها العملَ والاقتداءَ.
… إخوةَ الإسلامِ:(156/7)
… وأمَّا عَنْ تفقُّدِهم أحوالَ الناسِ والإحسانِ إليهم، فكانوا أهلَ بِرٍّ وكرَمٍ، يُبادِرُونَ الفقيرَ قبْلَ أنْ يسألَ ويتكلَّمَ، يقولُ الشيخُ محمدُ بنُ جراحٍ عَنْ شيخِهِ عبدِاللهِ الدحيانِ - رَحِمَهُما اللهُ -:"خرجَ الشيخُ عبدُاللهِ مِنْ صلاةِ الظهرِ فالتَقَى بشخصٍ كفيفٍ فسألَه:مِنْ أينَ جِئْتَ؟ فقالَ: مِنْ فلانٍ وكانَ ينتظرُ عِنْدَهُ مِنَ الصباحِ لعلَّه يُعطِيهِ شيئاً مِنَ المالِ، فأخذَهُ الشيخُ وأدخلَهُ في منزلِهِ، وقدَّمَ له القهوةَ والتَّمْرَ ثُمَّ الغَداءَ، وبعدَ ذلِكَ أعطاهُ مالاً جَزيلاً، وقالَ له: عِنْدَنا قُلَّةُ تَمرٍ فهلْ تستطيعُ حملَها؟، ويقولُ الشيخُ أحمدُ الخميسُ عَنْ خالِه الشيِخ عبدِِِاللهِِِ الدحيانِِ - رَحِمَهُما اللهُ - : "كانَ عِنْدنا جِرارٌ فيها أُرْزٌ وتمرٌ ونحوُهما مِنَ الأطعمةِ، فكنَّا إذا أصبَحْنا نرَى فيها نَقْصاً فعلِمْنا أنَّ الشيخَ كانَ يُنْفِقُ مِنْها سِرّاً"، ويقولُ الشاعِرُ الأديبُ إبراهيمُ الجراحُ - رَحِمَهُ اللهُ -:"وكانَ مؤذِّنهُ بلالٌ يبيعُ الفواكِهَ مَنْ عِنَبٍ وغيرِهِ علَى بابِ المسجدِ، فإذا خرجَ الشيخُ عبدُاللهِ جاءَ إليه، ويَزِنُ للناسِ أُوقيةً، فيقولُ خذْ هذا لبيتِ فُلانٍ، وهذا لبيتِ فُلانٍ، وهيَ بيوتُ الذينَ يَذْهبونَ للغوصِ في البحرِ، وليسَ لهمْ مَنْ يقومُ بأمرِهم، حتَّى لا يبقَى عِنْدَ بلالٍ شيءٌ مِنَ الفواكِهِ".
…… فلَوْ لَمْ يكنْ في كَفِّهِ غيْرُ نفْسِهِ لجادَ بها فَلْيَتَّقِ اللهَ سائِلُه
إخوةَ الإيمانِ:(156/8)
…وأمَّا عَنْ تلاحُمِ هؤلاءِ العلماءِ، وسلامَةِ صدورِهم مِنَ الحسَدِ والشَّحْناءِ، فيتمثَّلُ ذلِكَ في مجلسِهمُ الأُسبوعيِّ، وكانَ هذا المجلسُ في منزلِ الشيخِ حسينِ التركيتِ، ويَضُمُّ المجلسُ ثُلَّةً مِنْ عُلماءِ الكويتِ، كالشيخِ عبدِاللهِ الدحيانِ، والشيخِ عبدِاللهِ بنِ خالدٍ العدسانيِّ، والشيخِ عبدِالعزيزِ حمادةِ، والشيخِ عطيةَ الأثريِّ، والشيخِ مساعدِ العازميِّ، والشيخِ أحمدَ الفارسِيِّ - رَحِمَهُمُ اللهُ-، وكانَتْ هذِهِ الجلْسةُ، عصرَ كُلِّ جمعةٍ، وهذا ما يْنبَغِي علَى الدُّعاةِ والعلماءِ، بَلِ الأُمَّةِ جمعاءَ، أنْ يكونوا صفّاً واحداً وعلَى قلبِ رجلٍ واحدٍ، يقولُ اللهُ سبحانَه: { وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ*مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } { الروم:32 } .
…اللهمَّ ارحمْ علماءَنا السابقينَ، ووفِّقْ مِنْهمُ الحاضرينَ، وتَوَلَّنا مَعَهُم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ، اللهمَّ علِّمْنا ما ينفَعُنا، وانفعْنا بما علَّمْتَنا، اللهمَّ اغفرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، إنَّكَ سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدَّعَواتِ،اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الشرْكَ والمشركينَ، ودمِّرِ اللهمَّ أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ، اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ. …
………………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---(156/9)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(156/10)
اطبع هذه الصحفة
الإصلاح بين الناس
أيُّها المسلمونَ
…ومعَ هذهِ الأوامرِ الأكيدةِ, والحقوقِ المتينَةِ, إلاّ أنَّ المسلمَ قَدْ يُخْطِئُ أوْ يُقَصِّرُ, فيخالِفُ الأمرَ الإلهيَّ, ويَحيدُ عَنِ التَّوْجيهِ النَّبَوِيِّ, فيعتَدِي علَى حقوقِ إخوانِه, أوْ يُقصِّرُ في بعضِ ما يجبُ لأخْدانِهِ, وقَدْ يتمادَى الأمرُ بسببِ ذلِكَ, فتقعُ المشاحَناتُ والخصُوماتُ, والتقاطُعُ والتدابُرُ, فيزدادُ الأمرُ سوءًا إلى سوءٍ, ومعصيةً إلى معصيةٍ؛ فإنَّ ذلِكَ ممَّا يكرَهُهُ اللهُ تعالَى ويَبْغُضُهُ, ولهذا نَهَى عَنْه نبيُّه الكريمُ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "لا يَحِلُّ لمسلمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاه فوقَ ثلاثِ ليالٍ, يلتقيانِ فيُعرِضُ هذا ويُعرِضُ هذا, وخيرُهما الذي يبدأُ بالسَّلامِ" [متفقٌ عليه, مِنْ حديثِ أبي أيوبَ الأنصاريِّ - رضي الله عنه -].
الخطبة المذاعة والموزعة بتاريخ
28من محرم 1428هـ الموافق 16/2/2007م
الإصلاح بين الناس
…إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ, ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنا. مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضلَّ له, ومَنْ يُضلِلْ فلا هادِيَ له, وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له, وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه, صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِه وسلَّمَ. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ { } آل عمران:102 } .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً { } النساء:1 } .(157/1)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } { الأحزاب:70 - 71 } .
…أمَّا بعدُ:
…فأوصِيكم – عبادَ اللهِ – ونفسِي أولاً بتقوَى اللهِ تعالَى وطاعِته.
…أيُّها المسلمونَ:
…إنَّ اللهَ تعالَى قَدْ خلقَ الخلْقَ وجعلَ كُلَّ واحدٍ مِنْهم بحاجةٍ إلى غيرِهِ لا يستطيعُ أنْ يعيشَ وحدَهُ, ولا أنْ ينفرِدَ بأمرِهِ, وإنَّما هوَ يأْنَسُ بهم, ويَسكُنُ بوجودِهم, ويحتاجُ إليهم, سواءً أكانوا أقرباءَ أمْ بُعداءَ, مِنَ الرجالِ أمِ النساءِ, كما قالَ تعالَى في شأنِ الزوجينِ: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَياتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } { الروم:21 } .
…وقدْ جعلَ اللهُ عزَّ وجلَّ عَلاقةً خاصةً بينَ المؤمنينَ, ورابطةً ساميةً بينَ المسلمينَ, فالمؤمنُ أخو المؤمنِ { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } { الحجرات:10 } , و"المسلمُ أخو المسلمِ", فلا رابطةَ أعلَى مِنْ رابطةِ الإيمانِ, ولا وَشيجَةَ أقْوَى مِنْ وشيجَةِ الإسلامِ, وقدْ أمرَنا اللهُ تباركَ وتعالَى بالإصلاحِ بينَ المؤمنينَ في حالِ اقتتالِهما, فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ*إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } { الحجرات:9-10 } .(157/2)
…ولهذا كانَ لهذهِ الأُخوَّةِ حقوقٌ عظيمةٌ, وواجباتٌ كريمةٌ, بَينَّهَا لنا ربُّنا سبحانَه وتعالَى في كتابِهِ الكريمِ, ووضَّحَها لنا رسولُه الأمينُ في سُنَّتِه عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأتَمُّ التَّسْليمِ, فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ*يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ *يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } { الحجرات:11-13 } .
…ويقولُ رسولنُا الكريمُ - صلى الله عليه وسلم -:"لا تَحاسَدُوا, ولا تَناجَشُوا, ولا تَباغَضُوا, ولا تَدابَرُوا, ولا يَبِعْ بعضُكم علَى بيعِ بعضٍ, وكونُوا عِبادَ اللهِ إخْواناً. المسلمُ أخو المسلمِ, لا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذُلُه ولا يَحْقِرُهُ. التقوَى هَهُنا(ويشيرُ إلى صدرِهِ ثلاثَ مَرَّاتٍ). بحَسْبِ امرئٍ مِنَ الشرِّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المسلمَ.كلُّ المسلمِ علَى المسلمِ حرامٌ: دَمَهُ ومالُه وعِرْضُه"[ أخرجَه مسلمٌ من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -].
…أيُّها المسلمونَ:(157/3)
…ومعَ هذهِ الأوامرِ الأكيدةِ, والحقوقِ المتينَةِ, إلاّ أنَّ المسلمَ قَدْ يُخْطِئُ أوْ يُقَصِّرُ, فيخالِفُ الأمرَ الإلهيَّ, ويَحيدُ عَنِ التَّوْجيهِ النَّبَوِيِّ, فيعتَدِي علَى حقوقِ إخوانِه, أوْ يُقصِّرُ في بعضِ ما يجبُ لأخْدانِهِ, وقَدْ يتمادَى الأمرُ بسببِ ذلِكَ, فتقعُ المشاحَناتُ والخصُوماتُ, والتقاطُعُ والتدابُرُ, فيزدادُ الأمرُ سوءًا إلى سوءٍ, ومعصيةً إلى معصيةٍ؛ فإنَّ ذلِكَ ممَّا يكرَهُهُ اللهُ تعالَى ويَبْغُضُهُ, ولهذا نَهَى عَنْه نبيُّه الكريمُ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "لا يَحِلُّ لمسلمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاه فوقَ ثلاثِ ليالٍ, يلتقيانِ فيُعرِضُ هذا ويُعرِضُ هذا, وخيرُهما الذي يبدأُ بالسَّلامِ" [متفقٌ عليه, مِنْ حديثِ أبي أيوبَ الأنصاريِّ - رضي الله عنه -].
وعنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"تُفْتَحُ أبوابُ الجنَّةِ يومَ الاثنينِ والخميسِ، فيُغْفَرُ لكُلِّ عبدٍ لا يُشْرِكُ باللهِ شيئاً, إلا رجلاً كانَتْ بَيْنَهُ وبيْنَ أخِيهِ شَحْناءُ، فيُقَالُ: أَنْظِروا هذَيْنَ حتَّى يَصْطَلِحا،أنْظِروا هذينِ حتَّى يَصْطَلِحا,أنظِروا هذيِن حتىَّ يَصْطَلِحا" [أخرجَهُ مسلمٌ].بلْ قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثٍ مُخِيفٍ, فيهِ أشَدُّ الوَعيدِ والتَّعْنِيفِ:"مَنْ هَجَرِ أخاهُ سَنَةً, فهوَ كسَفْكِ دَمِهِ" [أخرجَه أحمدُ وأبو داودَ, مِنْ حديِث أبي خِرَاشٍ السُّلَمِيِّ - رضي الله عنه -].(157/4)
…واعْلَموا – عِبادَ اللهِ – أنَّ مِنْ أشدِّ ما يُفْرِحُ الشيطانَ: أنْ يُفَرِّقَ بيْنَ المرْءِ وزوجِهِ, ففي صحيحِ مسلمٍ, عَنْ جابرٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"إنَّ إبليسَ يضَعُ عرْشَهُ علَى الماءِ, ثُمَّ يَبْعَثُ سَراياهُ, فأدْناهم مِنْه مَنْزِلةً أعظمُهم فِتْنةً, يجيءُ أحدُهُم فيقولُ: فعَلْتُ كَذا وكَذا, فيقولُ: ما صَنَعْتَ شيئاً". قالَ:" ثم يجيءُ أحدُهم فيقولُ: ما تركْتُهُ حتىَّ فرَّقْتُ بينَه وبينَ امرأتِهِ, قالَ: فيُدْنِيهِ مِنْه ويقولُ: نِعْمَ أنْتَ, فَيَلْتَزِمُه".
…بارَكَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيمِ, ونفعَنِي وإيَّاكم بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ, أقولُ قولِي هذَا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ فاستغفروه إنَّه هُوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ, والعاقِبةُ لِلمتقينَ, ولا عُدْوانَ إلاََّ علَى الظالمينَ, وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له, الإلهُ الحقُّ المُبِينُ, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ, إمامُ المتقينَ وخاتَمُ المرسلينَ, اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ علَى عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ وعلَى آلِه وصحبِه أجمعينَ, ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
…أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ – عِبادَ اللهِ - حقَّ تقواهُ, واعمَلوا بطاعتِهِ ورِضاه.
…أيُّها المؤمنونَ:(157/5)
…إنَّ مِنْ أعْظَمِ الواجِباتِ علَى المسلمِ حِينَ يَجِدُ الشِّقاقَ والقَطيعةَ بينَ المسلمينَ, أنْ يعملَ علَى توحيِد كلمتِهمْ, وجمْعِ شَمْلِهمْ, ورَأْبِ صَدْعِهمْ, وإنَّ له في ذلكَ لَلأَجْرَ الكبيرَ, والثوابَ الوفيرَ, مِنْ مَوْلاهُ العَلِيِّ القديرِ؛ الذي يقولُ جلَّ شأنُه: { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً { } النساء:114 } .وقالَ تعالَى في الإصلاحِ بينَ الزوْجَيْنِ: { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً { } النساء:128 } .
…ولِعَظيمِ مصالِحِ الإصلاحِ وثَمراتِهِ, فقَدْ أحَلَّ لنا الشَّرْعُ الكَذِبَ فيه؛ فعَنْ أُمِّ كُلثومٍ رضِيَ اللهُ عَنْها, أنَّها سمِعَتْ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهوَ يقولُ: "ليسَ الكذَّابُ الذي يُصْلِحُ بيْنَ الناسِ, ويقولُ خيراً, ويَنْمِي خيراً".قالَتْ: ولمْ أسمعْ يُرَخَّصُ في شيءٍ مِمَّا يقولُ الناسُ: كَذِبٌ إلاَّ في ثلاثٍ: الحربُ, والإصلاحُ بينَ الناسِ, وحديثُ الرجُلِ امرأتَهُ وحديثُ المرأةِ زوجَها [متفقٌ عليه,واللفظُ لمسلمٍ].(157/6)
…اللهمَّ اجمعْ علَى الخيرِ قلوبَنا, وأصْلِحْ ذاتَ بَيْنِنا, واغفِرْ لنا وتُبْ علينا, إنَّكَ أنتَ التوَّابُ الرحيمُ، اللهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ ارزقْنا خَشْيَتَكَ في الغَيْبِ والشَّهادَةِ, وكلمةَ الحقِّ في الرِّضا والغضَبِ, والقَصْدَ في الغِنَى والفقْرِ, واجعلْنا مِنَ المعظِّمِينَ لِحُرُماتِكَ, الحافظينَ لحدُودِكَ، اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ وأهلَه, وأذِلَّ الشِّركَ وأهلَه, وأعلِ كلمةَ الحقِّ والدينِ, وانصرْ أولياءَكَ الموَحِّدينَ, واخذُلْ أعداءَكَ الكافرينَ, اللهمَّ أنزلْ علينا الغيْثَ ولا تجعلْنا مِنَ القانِطينَ.
…اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ, وأذِلَّ الشرْكَ والمشركينَ, ودمِّرِ اللهمَّ أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ، اللهمَّ اقسمْ لنا مِنْ خَشْيَتِكَ ما تحولُ بهِ بينَنا وبَيْنَ معاصِيكَ, ومِنْ طاعتِكَ ما تبلِّغُنا بهِ جنَّتَكَ, ومِنَ اليقينِ ما تهوِّنُ بهِ علينا مصائِبَ الدُّنيا. اللهمَّ متِّعْنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقوَّتِنا ما أحَييْتَنا, واجعلْهُ الوارِثَ مِنَّا, واجعلْ ثأرَنا علَى مَنْ ظلَمَنا, وانصرْنا علَى مَنْ عادانا, ولا تجعلْ مُصِيَبتَنا في دِيننِا, ولا تجعَلِ الدُّنيا أكبرَ هَمِّنا ولا مَبْلَغَ عِلْمِنا, ولا تُسَلِّطْ علينا مَنْ لا يَرْحَمُنا.
…اللهمَّ أصْلِحْ لنا دِينَنا الذي هوَ عِصْمَةُ أمْرِنا, وأصْلِحْ لنا دُنْيانا التَّي فيها مَعاشُنا, وأصِلحْ لنا آخرَتَنا التي فيها مَعادُنا, واجعلِ الحياةَ زِيادَةً لنا في كُلِّ خيْرٍ, واجعلِ الموتَ راحةً لنا مَنْ كُلِّ شَرٍّ. ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النَّارِ.(157/7)
…اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(157/8)
اطبع هذه الصحفة
الفَرَجُ بعدَ الشِّدة
مَعْشرَ المؤمنينَ:
…مَنْ رامَ الفرَجَ بعدَ الشِّدَّةِ، فلا بُدَّ أنْ يُعِدَّ له عُدَّةً، فمِنْ ذلِكَ: الاسِتْرجاعُ عِنْدَ المُصابِ، كما جاءَ في مُحْكَمِ الكتابِ: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } { البقرة: 155-157 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 5 من صفر 1428هـ الموافق 23/2/2007م
الفَرَجُ بعدَ الشِّدة
…الحمدُ للهِ الذي جعلَ بعدَ كلِّ ضائقةٍ وشدَّةٍ فَرَجاً، ويسَّرَ لِمَنِ اعتصمَ به مِنْ كلِّ نازلةٍ مَخْرجاً، وجعلَ قلوبَ أوليائِهِ مُتنقِّلةً في منازِلِ عُبوديَّتِهِ حُبّاً وخوفاً ورَجاً.أحمدُ ربِّي حمداً كثيراً طيِّباً مُبارَكاً فيه؛ { فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } { الأنعام: 125 } ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له؛ شهادةَ مَنْ أصبحَ قلبُهُ بتوحيدِ اللهِ تعالَى مُبتهِجاً، وأشهدُ أنَّ مُحمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ النَّبيُّ الكريمُ، المُرسَلُ بالذِّكرِ الحكيمِ؛ والمبعوثُ بالنَّبأِ العظيمِ؛ والدَّاعِي إلى الصِّراطِ المُستقيمِ؛ الذي مَنِ استمسكَ به فازَ ونجا، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِه وأزواجِه وأصحابِه؛ صلاةً وسلاماً ترفعُهم إلى مراقِي الجِنانِ دَرَجاً.
…أمَّا بعدُ:
…فيا إِخوةَ الإسلامِ، أُوصِيكم ونفسِي بتقوَى الملِكِ القدوسِ السلامِ، فاستمسكوا بها فهيَ العُرْوَةُ الوُثْقَى التي ليسَ لها انفِصامٌ.
…واعلموا معشرَ المسلمينَ:(158/1)
…أنَّ الشِّدَّةَ لا تزالُ تتعاقَبُ علَى المؤمنِ علَى ممرِّ الأيامِ والسِّنينَ، لكنَّ فرجَ اللهِ قريبٌ مِنَ المؤمنينَ، وخيرُ شاهدٍ علَى ذلك ما جاءَ في مُحكمِ الكتابِ المبينِ.
فهذا خليلُ اللهِ إبراهيمُ، عليه أفضلُ الصلاةِ والتسليمِ، بعدَ أنْ أحْكَمَتِ الشِّدَّةُ عليهِ قبضَتَها إِحكاماً، أمرَ اللهُ تعالَى النَّارَ أنْ تكونَ عليه بَرْداً وسلاماً، وهذا يعقوبُ وابنُه يوسفُ الصِّديقُ، قَدْ تجلَّتْ في قصَّتِهما حقائِقُ الفَرَجِ بعدَ الضِّيقِ، وهذا نبيُّ اللهِ أيّوبُ، قَدْ كشفَ اللهُ عَنْه الأضرارَ والكُروبَ، وهذا يونسُ صاحِبُ الحوتِ الذي كانَ مِنَ المُسبِّحينَ، اجتباه ربُّه وجعلَه مِنَ الصَّالحينَ، وما تكرَّرَتْ قِصَّةُ موسى في جُلِّ السُّوَرِ، إلاّ لتُجَسِّدَ معانِيَ اليُسْرِ بعدَ العُسْرِ بأبهَى الصُّوَرِ، فصلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم أجمعينَ.
…ودونَكم سِيرةَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه فما هِيَ عَنْكمْ ببعيدٍ، وكيفَ فرَّجَ اللهُ تعالىَ عَنْهمُ الخَطْبَ الشَّديدَ، فبينَما هُمْ قليلٌ مُستضْعَفونَ في الأرضِ يخافونَ أنْ يتخطَّفَهمُ النَّاسُ، إذْ جاءَهم نصرُ اللهِ وفتحُهُ فتدثَّروا مِنَ العزَّةِ والتَّمْكِينِ بأَزْهَى اللِّباسِ، وهلْ أتاكُمْ نَبَأُ الإفْكِ والزُّورِ، الذي رُمِيَتْ بهِ المُتدثِّرَةُ بثوبِ العِفَّةِ والطَّهُورِ؟ فإنَّ فَرَجَ شِدَّتِها مُسَطَّرٌ في سُورةِ النُّورِ، وغيرُ خافٍ عليكُمْ فَرَجُ شِدَّةِ الثَّلاثةِ الذين خُلِّفُوا، وقدْ ضاقَتْ عليهمُ الأرضُ بما رَحُبَتْ وضاقَتْ عليهم أنفُسُهم كما وُصِفُوا، وذِكْرُ تفاصيلِ قَصَصِ مَنْ جعلَ اللهُ تعالَى له بعدَ عُسْرٍ يُسْراً فيها إِطالَةٌ، فنكتفِي بما سبَقَ مِنَ الإشارَةِ إليها والإحالَةِ.
…مَعْشرَ المؤمنينَ:(158/2)
…مَنْ رامَ الفرَجَ بعدَ الشِّدَّةِ، فلا بُدَّ أنْ يُعِدَّ له عُدَّةً، فمِنْ ذلِكَ: الاسِتْرجاعُ عِنْدَ المُصابِ، كما جاءَ في مُحْكَمِ الكتابِ: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } { البقرة: 155-157 } .
…ومِصْداقُ ذلكَ الوعْدِ المُنيفِ، ما جاءَ في الحديثِ الشريفِ، الذي أخرجَه مسلمٌ في صحيحِهِ مِنْ حديثِ أُمِّ المؤمنينَ أمِّ سلَمَةَ رضِيَ اللهُ عَنْها قالَتْ: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"ما مِنْ مسلمٍ تُصيبُهُ مُصيبةٌ فيقولُ ما أمَرَهُ اللهُ: { إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } { البقرة:156 } ، اللهمَّ أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وأَخْلِفْ لي خيراً مِنْها، إلاّ أَخْلَفَ اللهُ له خيراً مِنْها".قالَتْ: فلمَّا ماتَ أبوسَلَمَةَ قُلْتُ: أيُّ المسلمينَ خيرٌ مِنْ أبي سَلَمَةَ؟ أوَّلُ بيتٍ هاجرَ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ إنِّي قلْتُها، فأخلَفَ اللهُ لي رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قالَتْ: أرسلَ إليَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حاطِبَ بنَ أبي بَلْتَعَةَ يخطُبُنِي لَه، فقلْتُ: إنَّ لي بِنْتاً وأنا غَيُورٌ. فقالَ: أمَّا ابنَتُها فندعو اللهَ أنْ يُغْنِِيَها عَنْها، وأدعو اللهَ أنْ يَذْهَبَ بالغَيْرَةِ".(158/3)
…فيا مَنِ ابتلاكَ اللهُ بشدائِدِ الأمورِ، اصبرْ واصْطَبِرْ فنِعْمَ العبدُ الصَّبورُ، واعلمْ أنَّ بَعْدَ العُسْرِ يُسراً وأنَّ تفريجَ الشدَّةِ وَعْدٌ، وأنَّكَ لستَ المنفَرِدَ بالبلاءِ بلْ في كلِّ وادٍ بنو سَعْدٍ، وليَلْهَجْ لسانُكَ بدعَوَاتِ المكْروبِ، فإنَّها بإذنِ اللهِ تعالىَ سببٌ في تفريجِ الكروبِ، كما أخرجَ أحمدُ وأبو داودَ مِنْ حديثِ أبي بَكْرَةَ الثقَفِيِّ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "دَعَواتُ المكروبِ: اللهمَّ رحمتَكَ أَرْجو، فلا تَكِلْنِي إلى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وأَصْلِحْ لي شَأْنِي كُلَّه، لا إلهَ إلاّ أنْتَ".
…… دعِ المقاديرَ تجرِي في أَعِنَّتِها… ولا تَبِيتنَّ إلاّ خالِيَ البالِ
… ما بيْنَ غَمْضَةِ عَيْنٍ وانتباهَتِها … يُبَدِّلُ اللهُ مِنْ حالٍ إلى حالِ
…بارَكَ اللهُ لي ولكم في الفرقانِ والذِّكْرِ الحكيمِ، ووفَّقَنا للاعتصامِ به وبما كانَ عليهِ النَّبيُّ الكريمُ؛ عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأزكَى التسليمِ؛ مِنَ الهَدْيِ القويمِ؛ والصراطِ المستقيمِ.
أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ الغفورَ الحليمَ، لي ولكمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وحَوْبٍ فتوبوا إليهِ واستغفروه إنَّه هوَ التوابُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ علَى تَيْسيرِهِ بعدَ العُسْرِ وتفرِيجِهِ بعدَ الضِّيقِ، أحمدُ ربِّي حمداً كثيراً طيِّباً مُبارَكاً فيهِ وأسألُهُ السَّدادَ والرَّشادَ والتوفيقَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ الهادِي إلى سواءِ السبيلِ والطَّريقِ، وأشهدُ أنَّ نَبِيَّنا مُحمداً رسولٌ مِنْ أنفُسِنا هُوَ بالمُؤمنينَ رؤوفٌ ورحيمٌ ورفيقٌ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى مَنْ أنعمَ اللهُ عليهِمْ مِنْ آلهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ فكانَ مِنْهمُ الشَّهيدُ والصَّالِحُ والصِّدِّيقُ.
…أمَّا بعدُ:(158/4)
…فيا معشرَ المسلمينَ: أُوصيكم ونفسِي بتقوَى ربِّ العالمَينَ، فاستَمْسِكوا بها فهيَ وَصِيَّةُ اللهِ لِلأوَّلينَ والآخِرينَ.
…أيُّها الإخوةُ الكرامُ:
…إنَّكمْ ولا شكَّ تَسْتذكِرونَ في مِثْلِ هذهِ الأيَّامِ، ما أفاضَهُ اللهُ عليكم مِنَ الإكْرامِ والإنْعامِ، حيثُ فرَّجَ شِدَّتَكم وأذهَبَ عَنْكمُ الأحزانَ والآلامَ، وحرَّرَكم مِنْ قبضةِ أهْلِ البَطْشِ والإجرامِ، فاقْدُروا لهذهِ النِّعمَةِ قَدْرَها فهيَ لَعَمْرُ اللهِ مِنْ آلائِهِ العِظامِ، فقَدْ تأذَّنَ اللهُ لِمَنْ شكرَ بالزِّيادَةِ والتَّمامِ، فطُوبَى لعبدٍ آمَنَ باللهِ وعمِلَ صالحاً ثُمَّ استقامَ.
…ولَرُبَّ نازلةٍ يَضِيقُ بها الفَتَى… ذَرْعاً وعِنْدَ اللهِ مِنْها المخْرَجُ
… ضاقَتْ فلمَّا استحكَمَتْ حَلَقاتُها فُرِجَتْ وكُنْتُ أظنُّها لا تُفْرَجُ
…وَلْيَكنْ مِسْكُ الخِتامِ، معشرَ الإخوةِ الكرامِ: ترطيبَ ألسنتِكم بالصَّلاةِ والسلامِ، علَى خيرِ الأنامِ، امتثالاً لأمرِ الملكِ القدوسِ السلامِ، حيثُ قالَ في أصدقِ قِيلٍ وأحسنِ حديثٍ وخيرِ كلامٍ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } { الأحزاب: 56 } .
اللهمَّ صلِّ علَى محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ، كما صلَّيْتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ علَى محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ، كما باركْتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ، في العالمَِينَ، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ.وارضَ اللهمَّ عَنِ الأربعةِ الخلفاءِ الراشدِينَ؛ والأئمةِ الحُنَفاءِ المهديِّينَ، أُوليِ الفَضْلِ الجَلِيِّ؛ والقَدْرِ العَلِيِّ: أبي بكرٍ الصِّديِّقِ؛ وعمرَ الفاروقِ؛ وذي النُّورَيْنِ عُثمانَ؛ وأبي السِّبْطَينِ عليٍّ.وارضَ اللهمَّ عَنْ آلِ نبيِّكَ وأزواجِهِ المُطَهَّرِينَ مِنَ الأرْجاسِ، وصحابتِهِ الصَّفْوَةِ الأخيارِ مِنَ الناسِ.(158/5)
…اللهمَّ اغفرْ لِلمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ مِنَ الخيْرِ كلِّهِ، عاجلِهِ وآجلِهِ، ما عَلِمْنا مِنْه وما لمْ نعلَمْ، ونعوذُ بكَ مِنَ الشرِّ كلِّهِ، عاجلِهِ وآجلِهِ، ما عَلِمْنا مِنْه وما لمْ نعلمْ، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ مِنْ خيرِ ما سألَكَ عبدُكَ ونبيُّكَ - صلى الله عليه وسلم -، ونعوذُ بكَ مِنْ شرِّ ما عاذَ بهِ عبدُكَ ونبيُّكَ - صلى الله عليه وسلم -، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ الجنَّةَ وما قرَّبَ إليها مِنْ قوْلٍ أوْ عملٍ، ونعوذُ بكَ مِنَ النَّارِ، وما قرَّبَ إليها مِنْ قوْلٍ أوْ عَملٍ، ونسألُكَ أنْ تجعلَ كُلَّ قضاءٍ قضيْتَه لنا خَيْراً.
…اللهمَّ آمِنّا في الوطنِ، وادفعْ عنَّا الفِتَنَ والِمحَنَ؛ ما ظهرَ مِنْها وما بطَنَ، اللهمَّ وفِّقْ وُلاةَ أمورِنا لحَمْلِ الأمانةِ، وارزقْهُم صلاحَ البِطانَةِ، واحفظْهم مِنْ كَيْدِ أهلِ البَغْيِ والخِيانَةِ، ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرةِ حسنةً؛ وقِنا عذابَ النَّارِ.
…اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
…عبادَ اللهِ:
…اذكروا اللهَ ذِكْراً كثيراً، وكبِّروهُ تكبيراً، { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } { العنكبوت: 45 } .
……………… لجنة الخطبة الموزعة والمذاعة
---(158/6)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(158/7)
اطبع هذه الصحفة
وحرَّمَ الرِّبا
عبادَ اللهِ:
…ولعلَّ أعظمَ ما يدفَعُ الإنسانَ إلى الوقوعِ في الربا ضَعْفُ إيمانِهِ باللهِ عزَّ وجلَّ، إذْ إنَّ الإيمانَ الصادِقَ يملأُ قلبَ صاحِبهِ قَناعَةً بما قَسَمَ اللهُ، وخوفاً مِنْ سُخْطِ اللهِ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 12صفر1428 هـ الموافق 2/3/2007 م
وحرَّمَ الرِّبا
…الحمدُ للهِ الذي حرَّمَ الخبائِثَ وأحلَّ الطيباتِ، وجعلَ أكْلَ الرِّبا مِنَ السَّبْعِ الموبِقاتِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له؛ بنعمتِهِ تَتِمُّ الصالحاتُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ خيرُ البَرِيَّاتِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِهِ وأتباعِهِ وأزواجِهِ الطاهراتِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً مادامتِ الأرضُ والسمواتُ.
…أمَّا بعدُ:
…فأُوصِيكم ـ عبادَ اللهِ ـ ونفسِي بتقوَى اللهِ تعالَى؛ فإنَّها التجارةُ التي لا تبورُ، وأحثُّكم علَى مراقبتِهِ فإنَّه يعلمُ خائنةَ الأعْيُنِ وما تُخفِي الصدورُ. قالَ اللهُ تعالَى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } { الطلاق: 2ـ3 }
…أيُّها المسلمونَ:(159/1)
…إنَّ المالَ عَصَبُ الحياةِ، وشِِرْيانُ المعيشةِ، وهوَ في الإسلامِ وسيلةٌ لقضاءِ الحاجاتِ، وتَسْييرِ أُمورِ الحياةِ، وليس غايةً مِنَ الغايات؛ بحيثُ يُفْنِي المرءُ حياتَه في جَمْعِهِ وتَكْديسِهِ، والخوضِ فيه لمُتَعِهِ ولذَّاتِهِ، ولقدْ جعلَ الإسلامُ حِفْظَه مَقْصِداً مِنَ المقاصدِ الشرعيَّةِ الخمسةِ، ونهىَ عَنِ اكتسابِه بأيِّ سبيلٍ مِنْ سُبُلِ الحرامِ، ونهىَ عَنْ إضاعتِهِ وعَنْ أكْلِ أموالِ الناسِ بالباطلِ، والإنسانُ مُؤْتَمنٌ عليه ومُستَخْلَفٌ فيه، قالَ تباركَ وتعالَى: { وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } { الحديد: 7 } ، ولأنَّ الرِّبا أحدُ وجوهِ الكسبِ الحرامِ فقدْ حرَّمَهُ الإسلامُ، وعَدَّهُ كبيرةً مِنْ كبائرِ الذنوبِ والآثامِ؛ فقَرَنَهُ بالشِّرْكِ والسحرِ وقتلِ النفسِ بغيرِ حقٍّ، فقدْ أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "اجتنبوا السَّبْعَ الموبِقاتِ" قالوا: يا رسولَ اللهِ وما هنَّ؟ فقالَ: "الشركُ باللهِ والسحرُ وقتلُ النفسِ التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحقِّ وأكلُ الربا".(159/2)
…ولم يكنْ ذلكَ تَفْويتاً لمنْفَعَةٍ، ولا حِرْماناً مِنْ لذَّةٍ، وإنَّما كانَ إيثاراً للمصلحةِ العامَّةِ علَى المصلحةِ الخاصَّةِ، ومُراعاةً لِحكْمَةِ اللهِ ـ عزَّ وجلَّ - في حياةِ الناسِ مِنْ تحقيقِ السعادةِ البشريَّةِ، ودفْعِ الجشَعِ والأنانِيَّةِ، وإقامَةِ مجتمعٍ يتعاونُ علَى البرِّ والتقْوَى، وينأَى بنفسِهِ عَنِ الإثْمِ والعُدْوانِ، وعنْ هدْمِ المبادئِ الأخلاقِيَّةِ والقِيَمِ الإسْلامِيَّةِ, ولهذا لمْ تُحِلُّهُ شريعةٌ مِنَ الشرائعِ. ولمْ يُؤذِنِ اللهُ تعالَى في كتابِهِ عاصِياً بالحربِ سِوَى آكلِ الربا ؛حيثُ قالَ الحقُّ جلَّ جلالُه: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } { البقرة: 278ـ279 } .
…وتأمَّلُوا أيُّها الإخوةُ في قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:"دِرهمُ رِبا يأكلُه الرجُلُ ـ وهوَ يعْلمُ ـ أشدُّ عِنْدَ اللهِ مِنْ ستَّةٍ وثلاثينَ زَنْيَةً"[أخرجَه أحمدُ والطبرانيُّ مِنْ حديثِ عبدِاللهِ بنِ حَنْظَلَةَ - رضي الله عنه -]، بلْ الأمرُ أعظمُ مِنْ ذلك حِينَ يُصَوِّرُهُ النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بمَنْ يَنْكِحُ محارِمَه، فقدْ أخرجَ الحاكِمُ عنْ عبدِاللهِ بنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"الربا ثلاثةٌ وسبعونَ باباً أيْسَرُها مِثْلُ أنْ يَنْكِحَ الرجلُ أُمَّه".(159/3)
…واعلَموا أنَّ الربا نوعانِ: أوَّلهُما: رِبا الفَضْلِ: وهوَ البيعُ معَ زيادةِ أحدِ العِوَضَيْنِ المتَّفِقَيْنِ جِنْساً علَى الآخَرِ؛ كبيِع دينارٍ بنصفِ دينارٍ أوْ بدينارَيْنِ، وثانِيهُما: رِبا النَّسيئَةِ: وهوَ بيعُ المطعومَيْنِ أوِ النقدَيْنِ المتَّفِقَيْنِ أوِ المخَتِلفَينِ جِنْساً لكنْ معَ تأخيرِ أحدِهما ولوْ لمدةٍ يسيرةٍ. مِثْلُ أنْ يبيعَ صاعَ تمرٍ بصاعِ تمرٍ دونَ تقابضٍ، أوْ أنْ يبيعَ صاعَ شعيرٍ بصاعَيْنِ مِنَ التمرِ دونَ تقابُضٍ أيضاً، ولقدْ صارَ كثيرٌ مِنَ الناسِ يتحايَلونَ علَى الربا بصُوَرٍ مِنَ التحايُلِ عجيبةٍ، يُرِيدونَ أنْ يخادِعُوا اللهَ كما يُخادِعونَ الصِّبْيانَ.
… ومِنْ هذهِ الصُّوَرِ: بيعُ ذهبٍ قديمٍ بذهبٍ جديدٍ مُتَساوٍ معَه في الوزنِ مَعَ دفْعِ الفرْقِ، وبيعُ الذهبِ بالأجَلِ أوْ بالأقساطِ دونَ قبْضٍ للثَّمَنِ. ومِنْها القرْضُ بشرطِ الفائدةِ وهيَ النسبةُ المئويَّةُ التي يأخذُها الدائِنُ مِنَ المدينِ مُقابِلَ المُهْلَةِ الزمنِيَّةِ. ومِنْها القرضُ بالفائدةِ معَ زيادَتِها أكثرَ كلَّما تأخَّرَ المدينُ عَنِ السدادِ، وهوَ رِبا الجاهليةِ: تَقْضِي أمْ تُرْبِي؟ ومِنْها بيعُ السِّلْعةِ بثَمَنٍ مؤجَّلٍ ثُمَّ يقومُ البائِعُ بشرائِها مِنْ صاحبِها بثَمَنٍ مُعجَّلٍ أقلَّ وهوَ بيعُ العِينَةِ، وصُوَرُهُ كثيرةٌ, فعلَى المسلمِ أنْ يتعلَّمَها حتى لا يقَعَ فيها وهوَ لا يَشْعُرُ، قالَ عمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه -: لا يَبيعنَّ في أسواقِنا هذِهِ قوْمٌ لمْ يتفقَّهوا في الدِّينِ، ولمْ يُوفوا الكَيْلَ والميزانَ. وقالَ عليٌ - رضي الله عنه -: مَنِ اتَّجَرَ قبلَ أنْ يتَفقَّهَ في الدِّينِ فقَدِ ارتَطَمَ في الربا، ثُمَّ ارتطمَ، ثُمَّ ارتطمَ.
…عبادَ اللهِ:(159/4)
…ولعلَّ أعظمَ ما يدفَعُ الإنسانَ إلى الوقوعِ في الربا ضَعْفُ إيمانِهِ باللهِ عزَّ وجلَّ، إذْ إنَّ الإيمانَ الصادِقَ يملأُ قلبَ صاحِبهِ قَناعَةً بما قَسَمَ اللهُ، وخوفاً مِنْ سُخْطِ اللهِ.
…قالَ اللهُ سبحانَه: { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } { التغابن:11 } ، وإذا خَوَى قلبُ العبدِ مِنَ الإيمانِ اندفَعَ إلى طَرْقِ أبوابِ الحرامِ غَيْرَ آبهٍ بعظيمِ جُرْمِهِ، ولا مُكْتَرِثٍ بشناعَةِ فِعْلِهِ. ومِمَّا يدفَعُهُ إلى الوقوعِ في الربا – كذلكَ- ضَعْفُ يَقينِهِ بالقِسْمَةِ الإلهيَّةِ العادِلَةِ، فإنَّ اللهَ- عزَّ وجلَّ- خلَقَ فسَوَّى وقدَّرَ فهدَى وقَسَمَ كلَّ شيءٍ بحِكَمةٍ ومِقْدارٍ، كما قالَ سبحانَه وتعالَى: { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } { الزخرف: 32 } ، وقدْ فُِرغَ مِنْ أمرينِ: الرزْقُ والأجَلُ؛ فالرزْقُ مَقْسومٌ، والأجَلُ مَحْتومٌ، قالَ اللهُ جلَّ جلالُه: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } { الأعراف: 34 } ، ورِزْقُ اللهِ لا يَجْلِبُهُ حِرْصُ حريصٍ، ولا يَمْنعُهُ كُرْهُ كارِهٍ؛ بلْ قالَ اللهُ تعالىَ في كتابِهِ: { وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ*فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } { الذاريات:22- 23 } ، وفي الحديثِ الشريفِ:"إنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي - أيْ في قلبِه أوْ عقْلِه - أنَّ نَفْساً لنْ تموتَ حتىَّ تستكمِلَ أجَلَها وتستَوْعِبَ رِزْقَهَا"[أخرجَهُ الحاكِمُ وأبو نُعَيْمٍ واللفظُ له مِنْ حديثِ أبي أُمامَةَ - رضي الله عنه -]، ورِزْقُ المرءِ يطلُبُه طلَبا ًشديدا ًكما روَى أبو الدَّرْداءِ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"إنَّ الرزْقَ لَيَطْلُبُ العبدَ أكثرَ ممَّا(159/5)
يطلُبُه أجَلُهُ" [أخرجَهُ الطبرانِيُّ].ومِنَ الأسبابِ والدواعِي التي تدفَعُ المرءَ إلى الربا: استعجالُ الرِّزْقِ وقِلَّةُ الصبرِ، ولهذا أرشَدَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبرِ واليقينِ بموعودِ ربِّ العالمَينَ فقالَ:"فاتَّقوا اللهَ وأجْمِلُوا في الطَّلَبِ ولا يَحْمِلَنَّ أحدَكَمُ استبطاءُ الرِّزْقِ أنْ يَطْلُبَهُ بمعصيةِ اللهِ فإنَّ اللهَ تعالىَ لا يُنالُ ما عِنْدَهُ إلاَّ بطاعتِهِ"[أخرجَه أبو نُعَيْمٍ مِنْ حديثِ أبي أُمامَةَ - رضي الله عنه -]،كما أنَّ حُبَّ التَّرفِ والبحْثَ عَنِ الكمالِيَّاتِ في المسْكنِ والمرْكَبِ والملْبَسِ ونحوِها دفَعَ كثيراً مِنَ الناسِ إلى أكْلِ الربا والتعاملِ بهِ, دونَ التفكُّرِ في سُوءِ العاقِبَةِ, أوِ الحذَرِ مِنْ عذابِ الآخرَةِ.
…أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ واستغِفروهُ { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } { النور:31 }
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ حمدا ًكثيراً ًكما أمَرَ، وأشكرُهُ ـ سبحانَه ـ وقَدْ تأذَّنَ بالزيادَةِ لِمَنْ شكَرَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له؛ مَنِ اتَّقاهُ وقَاهُ، ومَنْ توكَّلَ عليهِ كَفاهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ومصطَفاه، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِهِ، ومَنْ نصرَهُ وآواه، واقتفَى أثرَهُ واتَّبعَ هُداه.
…أمَّا بعدُ: فاتَّقوا اللهَ، عِبادَ اللهِ؛ فإنَّ سعادَةَ الدَّاريْنِ في طاعَةِ اللهِ ورسولهِ، والخِزْيَ والخُسْرانَ في مَعْصيةِ اللهِ ورسولِه.(159/6)
…معشَرَ الأحِبَّةِ: اعْلَموا - عافانِي اللهُ وإيَّاكم - أنَّ الربا سَببٌ لبلايا كثيرةٍ، والتعامُلَ به جَلْبٌ لِشُرورٍ مُسْتَطيرَةٍ؛ فهوَ يُذْهِبُ بركَةَ المالِ في الدنيا، ويَجُرُّ علَى صاحبِهِ العذابَ والخِزْيَ في الآخرةِ؛ يومَ تبيضُّ وجوهٌ وتسوَدُّ وجوهٌ، وإن عواقِبَ الربا وخيمةٌ، ونتائِجَهُ جَسيمةٌ، ولَقَدْ أنذرَتِ الشريعةُ الغرَّاءُ مِنْ أكْلِ الربا, وحذَّرَتْ مِنْ عَواقِبهِ علَى النفْسِ والمالِ والمجتَمَعِ. فمِنْ هذِهِ العواقِبِ الوخيمَةِ أنَّ آكِلَ الربا يُبعَثُ يومَ القيامةِ مِنْ قبرِهِ مجنوناً يَتَخبَّطُ ويُقالُ له خُذْ سلاحَكَ للحربِ, قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } { البقرة: 275 } ، ومِنْها أنَّ صاحِبَ الربا مَطْرودٌ مِنْ رحَمةِ اللهِ؛ محارَبٌ مِنَ اللهِ ورسولِهِ, وذلكَ صَريحُ قولِ اللهِ تعالَى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ ورسولهِ { } البقرة:278-279 } ومِنْها أنَّ الربا يَمْحَقُ بركةَ المالِ ويَذْهَبُ بها؛ كما قالَ اللهُ تعالَى: { يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } { البقرة: 276 } ، وعَنْ عبدِاللهِ ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ما أحَدٌ أكْثَرَ مِنَ الربا إلاَّ كانَ عاقِبَةُ أمْرِهِ إلى قِلَّةٍ"[أخرجَه ابنُ ماجَه والحاكمُ]، ومِنْها حُلولُ اللَّعْنَةِ علَى كلِّ مَنْ يتعاَملُ به؛ إذْ روَى جابرٌ- رضي الله عنه -(159/7)
فقالَ:لعَنَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - آكِلَ الربا، ومُوكِلَهُ، وكاتِبَهُ، وشاهِدَيْهِ وقالَ: هُمْ سواءٌ"[ أخرجَه مسلمٌ]، كما أنَّ الربا يَجُرُّ علَى الأُمَّةِ الضعفَ والذُّلَّ والهَوانَ، ويُهَوِّنُ مِنْ شأنِها في أعْيُنِ أعدائِها المتربِّصينَ بها، ويُسلِّطُهم عليْها. قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"إذا تباَيعْتُمْ بالعِينَةِ، وأخذْتُم أذنابَ البقرِ، ورَضِيتُمْ بالزَّرْعِ، وتركْتُمُ الجِهادَ: سلَّطَ اللهُ عليكم ذُلاًّ لا يَنْزِعُهُ حتىَّ تَرْجِعوا إلى دِينِكم"[ أخرجَه أحمدُ وأبو داودَ عنِ ابنِ عمرَ رضِيَ اللهُ عنهما]، وكَفَى عقوبةً ونَكَالا ً لآكِلِ الربا أنَّ اللهَ - عزَّ وجلَّ- توعَّدَهُ بالخلودِ في النَّارِ إنْ لمْ ينْتَهِ عَنْه ويَتُبْ مِنْه، فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } { البقرة:275 } ، فلْنتَّقِ اللهَ بامتثالِ أوامِرِهِ، واجتنابِ زواجِرِهِ، ولْنُحافِظْ علَى الإسلامِ وشعائرِهِ، ولنَتْرُكِ الرِّبا وأبوابَه، ولنَهْجُرِ الحرامَ وأسبابَه؛ فإنَّ الدَّنيا حلالُها حِسابٌ، وحَرامُها عَذابٌ، واليومَ عمَلٌ ولا حِسابٌ وغداً حِسابٌ ولا عَمَلٌ، ونِعْمَ المالُ الصالِحُ للعبدِ الصالِحِ.(159/8)
…اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
……… … لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(159/9)
اطبع هذه الصحفة
الرؤى والأحلام
ومِنْ ذلكَ معْشَرَ الإخوةِ الفُضَلاءِ:
أنَّ تعبيرَ الرؤَى ربَّما أُخِذَ مِنْ ظاهِرِ الأسماءِ، كما جاءَ في حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"رأيْتُ ذاتَ ليلةٍ فيما يَرَى النائِمُ كأنَّا في دارِ عُقْبَةَ بنِ رافعٍ، وأُتِينا برُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابنِ طابٍ، فأوَّلْتُ أنَّ الرِّفْعَةَ لنا في الدنيا، والعاقِبَةَ في الآخرةِ، وأنَّ دِينَنا قَدْ طابَ"[ أخرجَه مسلمٌ].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
19 من صفر 1428هـ الموافق 9/3/2007م
الرؤى والأحلام
الحمدُ للهِ ذِي الجلالِ والإكرامِ، وعظيمِ النَّوالِ والإفْضالِ والإنْعامِ، اصطفَى بعضَ خلقِهِ علَى بعضٍ؛ فمِنْهم مَنْ زادَهُ بَسْطَةً في الأجسامِ، ومِنْهم مَنْ زادَهُ بَسْطةً في الأفْهامِ، فجعلَ مِنْهمُ المُنَبِّئينَ بتأْويلِ الرُّؤَى والأحْلامِ، فيَجيءُ تعبيرُهم مِثْلَ فَلَقِ الصُّبحِ بعدَ الظلامِ، أحمدُ ربِّي حمداً كثيراً طيِّباً مُبارَكاً فيه علَى تفرُّدِهِ بالمنْعِ والإعطاءِ؛ والإماتَةِ والإحْياءِ، والنَّقْضِ والإبْرامِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، الحيُّ القيُّومُ الذي لا ينامُ، ولا ينبغيِ لهُ أنْ ينامَ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا ورسولَنا، وحبيبَنا وخليلَنا خيرُ الأنامِ، أخرجَ اللهُ بهِ الناسَ إلى النورِ بعدَ تقَلُّبِهم في حَنادِسِ الظلامِ، فدعاهُم إلى الجنَّةِ دارِ السلامِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليْهِ وعلَى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ الكرامِ، صلاةً وسلاماً مُتَعاقِبَيْنِ ما تعاقَبَتِ اللَّياِلي والأيَّامُ.
…أَمَّا بعدُ:(160/1)
…فأُوصِيكمْ يا أَهلَ الإِيمانِ؛ بتقْوَى المنَّانِ، فهِيَ عَهْدُ اللهِ تعالَى إِليكمْ في مُحْكَمِ القُرْآنِ، فَتَدَثَّروا بها في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ، وأَلْجِمُوا بِها أَنْفُسَكمْ يقولُ اللهُ تعالَى: { يَا أيُّها الذينَ آمنُوا لا تُقدِّمُوا بينَ يديِ اللهِ ورسولِهِ، واتقُوا اللهَ، إن َّاللهَ سميعٌ عليمٌ } { الحجرات: 1 } .
عبادَ اللهِ:
اعلموا رحِمَنِي اللهُ وإيَّاكم أنَّ القَوْلَ علَى اللهِ تعالىَ بغيرِ عِلْمٍ: تَقَدُّمٌ بينَ يَدَيِ اللهِ تعالَى ورسولِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ، سواءً كانَ ذلكَ في الفُتْيا أوْ في تعبيرِ الرُّؤَى والأحْلامِ.
وقدْ جاءَ ذِكْرُ الرؤَى والأحلامِ في مواطِنَ مِنَ القرآنِ الكريمِ، كما في قِصَّةِ إبراهيمَ معَ ابنِهِ إسماعيلَ عليْهما أزكَى صلاةٍ وأتَمُّ تسليمٍ، وما جرَى بسببِ الرُّؤْيا مِنَ الِفدْيَةِ بذِبْحٍ عظيمٍ.
ودُونَكُمْ قِصَّةَ الصِّدِّيقِ يوسفَ عليهِ السلامُ، وما في سِياقِها مِنَ الحِكَمِ والأحْكامِ، التي حَدَثَتْ بسببِ ما تضَمَّنتْهُ مِنَ الرؤَى والأحلامِ.
وقَدْ تضمَّنَتْ أحاديثُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الشريفَةُ، طَرَفاً مماَّ في الرؤَى والأحلامِ مِنَ القواعِدِ والضوابِطِ المُنِيفَةِ، فمِنْ ذلكَ معْشَرَ المسلمينَ والمسلماتِ: أنَّ الرؤْيا الصالِحَةَ مِنَ المُبَشِّرَاتِ، كما أخرجَ البخاريُّ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لمْ يبقَ مِنَ النُبُوَّةِ إلاّ المُبَشِّراتُ" قالوا: وما المُبَشِّراتُ؟ قالَ: الرؤْيا الصالِحَةُ".(160/2)
ومِنْ ذلكَ مَعْشرَ الورَى: أنَّ تَواطُأَ الرؤَى؛ يدلُّ علَى تَحقُّقِها بإذْنِ الموْلَى، كما أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديثِ عبدِاللهِ بنِ عمرَ بنِ الخطابِ رضِيَ اللهُ عَنْهما أنَّ رِجالاً مِنْ أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أُرُوا ليلةَ القدْرِ في المنامِ في السَّبْعِ الأواخِرِ، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"أَرَى رُؤْياكم قَدْ تَواطَأَتْ في السَّبْعِ الأواخِرِ، فمَنْ كانَ مُتَحَرِّيَهَا: فلْيتَحَرَّها في السَّبْعِ الأواخِرِ".
وأصدقُ هذِهِ الرؤَى: ما كانَ صاحِبُها صادِقاً معَ الورَى، كما جاءَ في حديثِ المصطفَى - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اقتربَ الزمانُ لمْ تكَدْ رُؤْيا المسلمِ تكذِبُ، وأصْدَقُكم رُؤْيا: أصدقُكم حَديثاً، ورُؤْيا المسلمِ جُزْءٌ مِنْ خمسٍ وأربعينَ جُزْءاً مِنَ النبوَّةِ، والرؤْيا ثلاثةٌ: فرؤْيا الصالحةِ بُشْرَى مِنَ اللهِ، ورؤْيا تَحْزِينٌ مِنَ الشيطانِ، ورؤْيا ممَّا يُحَدِّثُ المرْءُ نفسَه، فإنْ رأَى أحدُكم ما يَكْرَه، فلْيَقُمْ فلْيُصَلِّ ولا يُحَدِّثْ بها الناسَ"[أخرجَه مسلمٌ مِنَ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -].
مَعْشَرَ البرِيَّةِ:(160/3)
ثَمَّةَ أحكامٌ شرعيةٌ؛ وآدابٌ مَرْعِيَّةٌ؛ مصطَفاةٌ مِنْ المِشْكاةِ النبويَّةِ، فمِنْ جُمْلةِ هذهِ الأحكامِ، معشرَ الإخوةِ الكرامِ: أنْ يُحدِّثَ الرائِي مَنْ يُحبُّهُ بالرؤْيا التي تُبْهِجُهُ، وأنْ لا يُحَدِّثَ أحداً بالحُلْمِ الذي يُزْعِجُهُ، ومِصْداقُ ذلك ما أخرجَهُ مسلمٌ مِنْ حديثِ أبي قَتادَةَ - رضي الله عنه - قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "الرؤْيا الصالحةُ مِنَ اللهِ، فإذا رأَى أحدُكم ما يُحِبُّ: فلا يُحَدِّثْ بها إلاّ مَنْ يُحِبُّ، وإنْ رأَى ما يَكْرَهُ: فلْيَتْفُلْ عَنْ يسارِهِ ثلاثاً، ولْيتَعَوَّذْ باللهِ مِنْ شَرِّ الشيطانِ وشَرِّها، ولا يُحَدِّثْ بها أحَداً، فإنَّها لنْ تَضُرَّه".
ومِنْ جُمْلةِ هذِه الآدابِ؛ معْشَرَ الإخوةِ الأحبابِ: أنَّ مَنْ حَلَمَ بحُلْمٍ يَكْرَهُ فيه سُوءَ أحوالِهِ، فَلْيَبْصُقْ ثلاثاً عَنْ شِمالِهِ، وليتعوَّذْ باللهِ مِنْ شرِّ الشيطانِ الذي ألقاهُ إليه، ولْيَتَحوَّلْ عَنْ مَضْجَعِهِ الذي كانَ عليه، ومِصْداقُ ذلكَ ما أخرجَه مسلمٌ مِنْ حديثِ جابرِ بنِ عبدِاللهِ الأنصاريِّ رضِيَ اللهُ عَنْهما عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ: "إذا رأَى أحَدُكم الرؤْيا يَكْرَهُها: فلْيَبْصُقْ عَنْ يسَارِهِ ثلاثاً، ولْيَسْتَعِذْ باللهِ مِنَ الشيطانِ ثلاثاً، ولْيتحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الذي كانَ عليه".
معْشَرَ الإخوةِ الكرامِ:(160/4)
ومَنْ رأَى مِنْكم في المنامِ النبيَّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، علَى هيئَتِهِ التي حكاها صحابَتُهُ الأعْلامُ فقَدْ رآه لأنَّها مِنَ الرؤَى لا مِنَ الأحْلامِ، ولا يترتَّبُ عليها شيءٌ مِنَ الأحكامِ، ومِصْداقُ ذلكَ ما أخرجَه مسلمٌ مِنْ حديثِ جابرِ بنِ عبدِاللهِ الأنصاريِّ رضِيَ اللهُ عَنْهما أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ رآنِي في النومِ فَقدْ رآني، إنَّه لا يَنْبغِي للشيطانِ أنْ يتمثَّلَ في صورتي، وإذا حَلَمَ أحَدُكم فلا يُخْبِرْ أحداً بِتَلعُّبِ الشيطانِ به في المنامِ".
ومِنْ ذلكَ معْشَرَ الإخوةِ الفُضَلاءِ:
أنَّ تعبيرَ الرؤَى ربَّما أُخِذَ مِنْ ظاهِرِ الأسماءِ، كما جاءَ في حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"رأيْتُ ذاتَ ليلةٍ فيما يَرَى النائِمُ كأنَّا في دارِ عُقْبَةَ بنِ رافعٍ، وأُتِينا برُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابنِ طابٍ، فأوَّلْتُ أنَّ الرِّفْعَةَ لنا في الدنيا، والعاقِبَةَ في الآخرةِ، وأنَّ دِينَنا قَدْ طابَ"[ أخرجَه مسلمٌ].
أكتَفِي بهذا القولِ، وأتبرَّؤُ إلى اللهِ تعالَى مما بي مِنَ القُوَّةِ والحَوْلِ، وأستغفِرُهُ لي ولكم مِنَ الخَلَلِ والزَّلَلِ، وأسألُهُ حُسْنَ الخِتامِ عنْدَ بُلوغِ الأجَلِ.
الخطبة الثانية(160/5)
الحمدُ للهِ الذي لا مانِعَ لما أعطَى مِنَ الخَيْراتِ الجِسامِ، ولا مُعْطِيَ لما منَعَ مِنَ الفضائِلِِ العِظامِ، أحمدُ ربِّي حمداً كثيراً طيِّباً مُبارَكاً فيهِ علَى ما أبدعَهُ مِنَ الشرائعِ واختارَهُ مِنَ الأحكامِ، التي تُهَذِّبُ النُفوسَ وتُنِيرُ الأفهامَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ الملكُ القُدُّوسُ السَّلامُ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا ورسولَنا خيرُ الأنامِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ الأئمَّةِ الأعْلامِ، صلاةً وسلاماً مُتَواطِئَيْنِ ما تواطَأَتِ الرؤَى في اللَّياليِ والأيَّامِ.
أمَّا بعدُ:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ* لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } { الحشر: 18-20 }
معْشَرَ الإخوةِ الكرامِ:
إنَّ أكْذَبَ كَذِبٍ علَى الأنامِ: أنْ يدَّعِيَ الإنسانُ ما لمْ يَرَهُ في المنامِ، كما قالَ رسولُ اللهِ عليه الصلاةُ والسلامُ: "إنَّ مِنْ أفْرَى الفِرَى: أن يُرِيَ عَيْنَهُ ما لَمْ تَرَ"[أخرجَهُ البخاريُّ مِنْ حديثِ عبدِاللهِ بنِ عمرَ بنِ الخطابِ رضِيَ اللهُ عنهما].(160/6)
ومَنْ تَقَحَّمَ هذا النَّهْيَ الشديدَ: فقَدْ عَرَّضَ نفسَهُ لهذا الوعيدِ: "مَنْ تَحلَّمَ بحُلْمٍ لمْ يَرَه كُلِّفَ أنْ يَعْقِدَ بينَ شَعِيرَتَيْنِ ولنْ يفعلَ، ومَنِ استمعَ إلى حديثِ قومٍ وهمْ له كارهونَ أوْ يَفِرُّونَ مِنْه صُبَّ في أُذنِهِ الآنُكُ يومَ القيامةِ، ومَنْ صَوَّرَ صورةً عُذِّبَ وكُلِّفَ أنْ ينْفُخَ فيها وليسَ بنافِخٍ" [أخرجَه البخاريُّ مِنْ حديثِ عبدِاللهِ بنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما مرفوعاً إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -]
ولْيكنْ مِسْكُ الختامِ، مَعْشَرَ الإخوةِ الكرامِ: ترطيبَ ألسنِتِكم بالصلاةِ والسلامِ، علَى خيرِ الأنامِ، امتثالاً لأمْرِ الملكِ القدوسِ السلامِ، حيثُ قالَ في أصْدَقِ قيلٍ وأحسنِ حديثٍ وخيرِ كلامٍ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } { الأحزاب: 56 } .(160/7)
اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ، كما صلَّيْتَ على إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ، كما باركْتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ، في العالَمينَ، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عَنِ الأربعةِ الخلفاءِ الراشدينَ؛ والأئمَّةِ الحُنَفاءِ المَهْديِّينَ، أُولِي الفضْلِ الجَلِيِّ؛ والقدْرِ العَلِيِّ: أبي بكرٍ الصدِّيقِ؛ وعمرَ الفاروقِ؛ وذي النورَيْنِ عُثمانَ؛ وأبي السِّبْطَيْنِ عليٍّ، وارضَ اللهمَّ عَنْ آلِ نبيِّكَ وأزواجِهِ المُطَهَّرِينَ مِنَ الأرْجاسِ، وصحابَتِهِ الصَّفْوَةِ الأخيارِ مِنَ الناسِ، اللهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ مِنَ الخيرِ كُلِّهِ، عاجِلِهِ وآجِلِهِ، ما عَلِمْنا مِنْه وما لمْ نعلَمْ، ونعوذُ بكَ مِنَ الشرِّ كُلِّهِ، عاجِلِهِ وآجِلِهِ، ما عَلِمْنا مِنْه وما لمْ نعلَمْ، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ مِنْ خيرِ ما سألَكَ عبدُكَ ونبيُّكَ - صلى الله عليه وسلم -، ونعوذُ بكَ مِنَ شَرِّ ما عاذَ بهِ عبدُكَ ونبيُّكَ - صلى الله عليه وسلم -، اللهمَّ وفِّقْ وُلاةَ أمورِنا لحملِ الأمانَةِ، وارزُقْهم صلاحَ البِطانَةِ، واحفظْهم مِنْ كيْدِ أهْلِ البَغْيِ والخِيانَةِ.
عبادَ اللهِ:
… اذكروا اللهَ ذِكْراً كثيراً، وكبِّروه تكبيراً، { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } { العنكبوت: 45 } .
………………… لجنة الخطبة المذاعة و الموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(160/8)
اطبع هذه الصحفة
دور المرأة في المجتمع
معاشِرَ المسلمينَ
…المرأةُ وإنْ كانَتْ قارَّةً في بَيْتِها إلاَّ أنَّها تَتَحَسَّسُ آلامَ المجتَمَعِ، وأحْزانَ اليتامَى، تدفَعُ مِنْ مالِها، وتُنْفِقُ للخيرِ مِنْ وَقْتِها،تقولُ عائشةُ عَنْ زينبَ بنتِ جَحْشٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما:"ولمْ أرَ امرأةً قَطُّ خيراً في الدينِ مِنْ زينبَ بنتِ جَحْشٍ، وأتْقَى للهِ، وأصدقَ حَدِيثاً، وأوْصَلَ للرَّحِمِ، وأعظمَ صَدَقةً، وأشدَّ ابتذالاً في العملِ الذي تَصَّدَّقُ به، وتَتَقرَّبُ به إلى اللهِ تعالَى"، ولذلِكَ كانَ يُقالُ لها أُمُّ المساكينِ.
خطبة الجمعة المذاعة و الموزعة
بتاريخ 26 من صفر 1428هـ الموافق 162007/3/م
دور المرأة في المجتمع
…الحمدُ للهِ خلَقَ الزوْجَينِ الذكرَ والأنثَى، مِنْ نُطْفَةٍ إذا تُمْنَى، وجعلَ لكلٍّ مِنْهما أثرَهُ في الحياةِ الدنيا، وجزاءَه فيِ الحياةِ الأخرَى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له خلَقَ فسَوَّى، وقدَّرَ فهَدَى، وهوَ سبحانَه مِنْ كلِّ شيءٍ أحْكَمُ وأعْلَى، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ المبعوثُ رحْمَةً لِلعالمَينَ فشَرْعُهُ أقْوَمُ وأهدَى، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وصحِبِه الذين كانوا له رِدْءاً وسَنَداً، وعلَى مَنْ تبِعَ سُنَّتَه واهْتَدَى.
…أمّا بعدُ:
…فأُوصِيكم إخوةَ الإسلامِ، بتقْوَى المَلِكِ العَّلامِ، اعْمُروا بها أوقاتَكم واقْطَعوا بها الأيامَ، تنالوا بها الرِّضا ويُكْتبْ لكم حُسْنُ الختامِ، وتُبَوَّؤوا الغُرَفَ العالِيَةَ في دارِ السلامِ، يقولُ سبحانَه: { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } { مريم: 63 } .
تَرَحَّلْ مِنَ الدنيا بزادٍ مِنَ التُّقَى فعُمْرُكَ أيامٌ وهُنَّ قلائِلُ
…عبادَ اللهِ:(161/1)
…بمبْعَثِ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أشرَقَ نورُ الإسلامِ، فاكتسحَ الظلامَ، واستأصلَ الأدواءَ والأسْقامَ، ونشرَ الخيرَ والعدلَ والسلامَ، بفضلِ شِرْعَتِهِ المُطهَّرةِ وعظيمِ ما اشتمِلَتْ عليه مِنْ الأحكامِ، التي ارتَقَتْ بالبشريَّةِ إلى ذُرَى العَلْياءِ، بعدَ أنْ كانَتْ في حَضيضِ الغَبْراءِ، حيثُ كانَتِ المرأةُ في أسوأِ الأوْضاعِ، معدودةً عندَ كثيرٍ مِنَ المجتمعاتِ في سَقَطِ المتَاعِ، ثُمَّ لما جاءَ الإسلامُ أعلَى شأْنَها غايَةَ الإعْلاءِ، وجعلَ جزاءَهَا كجزاءِ الرجُلِ سواءً بسواءٍ، يقولُ اللهُ سبحانَه: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } { النحل: 97 }
…إخوةَ الإيمانِ:
…إنَّ للمرأةِ في الإسلام تاريخاً مُشْرِقاً، وماضِياً زاهِياً، أثبتَتْ فيه مكانَتَها، وعظيمَ مَنْزِلَتِها، فبدونِها لا يَصْلُحُ المجتمعُ، ولا يَِكْمُلُ الخيرُ ولا يَعُمُّ النَّفْعُ، فعَنْ عائشةَ -رضِيَ اللهُ عَنْها- أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"إنَّما النساءُ شَقائِقُ الرجالِ"[أخرجَه أبو داودَ]، فهِيَ ليستْ كما يَزْعمونَ كَمّاً مُهْمَلاً، ولا طاقةً مُهْدرَةً، ولا رِئةً مُعطَّلَةً، ولا أسيرَةَ جُدْرانٍ أربعةٍ، تَفَحَّصوا الماضِيَ واقْرؤوا التاريخَ، تجدوا العِزَّةَ والشُّموخَ، في أبْهَى الصُّوَرِ وأعزِّ المقاماتِ، تمثَّلَتْ في نِساءٍ صالحاتٍ قانِتاتٍ.(161/2)
…فهذهِ أمُّ المؤمنينَ خديجةُ - رضِيَ اللهُ عَنْها- تُفْنِي حياتَها سنَداً للدعْوَةِ، وحامِيَةً للرسالةِ، وهيَ أوَّلُ قلبٍ آمنَ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولمْ يَزَلِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يذكرُ لها فضْلَها حتَّى بعدَ مماتِها، بلْ عدَّها مِنْ سيداتِ نساءِ العالَمينَ، فعَنِ ابنِ عباسٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهما ـ قالَ: خطَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الأرضِ أربعةَ خطوطٍ، قالَ: "أتدرونَ ما هذا؟"، قالوا: اللهُ ورسولُهُ أعْلَمُ، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"أفضلُ نساءِ أهلِ الجنَّةِ خديجةُ بنتُ خُوَيْلَدٍ، وفاطمةُ بنتُ محمدٍ، ومريمُ بنتُ عِمْرانَ، وآسِيَةُ بنتُ مُزاحِمٍ امرأةُ فرعونَ" [أخرجَه أحمدُ].
… وحينَ جاءَ أبو طَلْحَةَ يخْطُبُ أمَّ سُلَيمٍ- رضِيَ اللهُ عَنْها- قالَتْ له في اعتزازٍ بدينِها، واستمساكٍ بعقيدَتِها: "إنَّه لا يَنْبَغِي أنْ أتزوَّجَ مُشْرِكاً، أمَا تعْلَمُ يا أبا طلحةَ أنَّ آلهتَكمُ التي تعْبدونَ يَنْحِتُها عَبْدُ آلِ فُلانٍ النَّجَّارُ، وأنَّكم لَوْ أشَعلْتُمْ فيها ناراً لاحترقَتْ؟"، فوقَعَ في قلبِه مِنْ ذلِكَ مَوْقِعاً، ثُمَّ قالَتْ له: "فهلْ لكَ أنْ تشهدَ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وأنَّ محمداً رسولُ اللهِ وأُزوِّجُكَ نَفْسِي لا أُريدُ مِنْك صَداقاً غَيْرَه؟"، فأسلَمَ أبو طلحةَ وتزَّوجَها علَى الإسلامِ، فكانَ أكْرَمَ مَهْرٍ وأعزَّ صَداقٍ.
…إخوةَ الإسلامِ:
…لقَدْ كانَتِ المرأةُ وما زالَتْ لها أثرُها البارِزُ في التربِيَةِ والبِناءِ، والبُطولةِ والتضحِيَةِ والفِداءِ، والمشُورَةِ والمشارَكَةِ بحُسْنِ الآراءِ، بَلْ قدَّمَتِ المرأةُ حياتَها في سبيلِ اللهِ شهيدةً طاهرةً، بَلْ كانَتِ المرأةُ أوَّلَ شهيدةٍ في الإسلامِ، إنَّها سُمَيَّةُ زوجَةُ ياسرٍ وأمُّ عَمَّارٍ - رضي الله عنهم -.(161/3)
وكانَتِ المرأةُ فَقِيهَةً بارِعَةً، عالمِةً هادِيَةً، قالَ أبو موسَى الأشعريُّ - رضي الله عنه -:"ما أشَكَلَ علينا حديثٌ قَطُّ فسأَلْنا عائشةَ إلاّ وجَدْنا عِنْدها مِنْه عِلْماً"، أسهمَتِ الفتاةُ المسلمةُ بكلِّ جُهْدٍ لنُصْرَةِ الإسلامِ، ولذلِكَ وُصِفَتْ أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ- رضِيَ اللهُ عَنْهما- بذاتِ النِّطاقَيْنِ، لتضحيةٍ بذَلَتْها في الهِجْرةِ، أمَّا نساءُ قِيامِ الليلِ، …فالحديثُ عَنْهنَّ يطولُ، لكِنْ نقتطفُ مِنْ نَسَماتِهِ مَوْقِفَ امرأةِ حَبِيبٍ الفارِسِيِّ فلقَدْ كانَتْ تُوقِظُه بالليلِ، وتقولُ: "قُمْ يا حبيبُ، فإنَّ الطريقَ بعيدٌ، وزادُنا قليلٌ، وقوافِلُ الصالحينَ قَدْ سارَتْ مِنْ بَيْنِ أيْدِينا، ونحنُ قَدْ بَقِينا"، فيقومُ فيُصَلِّيانِ ما يَسَّرَ اللهُ لهما.
…معاشِرَ المسلمينَ:
…المرأةُ وإنْ كانَتْ قارَّةً في بَيْتِها إلاَّ أنَّها تَتَحَسَّسُ آلامَ المجتَمَعِ، وأحْزانَ اليتامَى، تدفَعُ مِنْ مالِها، وتُنْفِقُ للخيرِ مِنْ وَقْتِها،تقولُ عائشةُ عَنْ زينبَ بنتِ جَحْشٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما:"ولمْ أرَ امرأةً قَطُّ خيراً في الدينِ مِنْ زينبَ بنتِ جَحْشٍ، وأتْقَى للهِ، وأصدقَ حَدِيثاً، وأوْصَلَ للرَّحِمِ، وأعظمَ صَدَقةً، وأشدَّ ابتذالاً في العملِ الذي تَصَّدَّقُ به، وتَتَقرَّبُ به إلى اللهِ تعالَى"، ولذلِكَ كانَ يُقالُ لها أُمُّ المساكينِ.
…المرأةُ تُوَجِّهُ الأجْيالَ، وتُهذِّبُ أخلاقَ الرجالِ، وتصْنَعُ الأبْطالَ، فقَدْ كانَ نساءُ السَّلَفِ يُوصِينَ أزواجَهنَّ إذا خَرجوا لطَلَبِ المالِ:"اتَّقُوا اللهَ فينا ولا تُطْعِمونا الحرامَ، فإنَّا نصبرُ علَى الجوعِ ولا نصبرُ علَى النَّارِ"، وتقولُ أُمُّ سفيانَ الثوْرِيِّ لابنِها:"يابنيَّ اذهبْ واطلُبِ العلمَ وأنا أكْفيكَ بِمِغْزَلِي"، ثُمَّ تقولُ له: "يا بُنَيَّ إذا حَفِظْتَ شيئاًَ مِنَ العِلْمِ، فانظرْ هلْ تَزيدُ أمْ تَنْقُصُ".(161/4)
…وحينَ اجتمعَ الناسُ بالقادسيَّةِ للقتالِ، دَعَتِ الخَنْساءُ السُّلَمِيَّةُ بَنِيها الأربعةَ، فأَوْصَتْهم قائِلةً: "يا بَنِيَّ، إنَّكم أسلَمْتُمْ طائعينَ، وهاجَرْتُم مُخْتارينَ، واللهِ ما نَبَتْ بكمُ الدَّارُ، ولا أقْحَمَتْكُمُ السَّنَةُ، ولا أرْداكُمُ الطمَعُ، وقَدْ تعلمونَ ما أعَدَّ اللهُ لكم مِنَ الثوابِ الجزيلِ في حرْبِ الكافرينَ، واعْلَموا أنَّ الدارَ الباقِيَةَ خيرٌ مِنَ الدارِ الفانِيَةِ، فإذا أصبحْتُمْ غداً إنْ شاءَ اللهُ سالمينَ، فاغْدُوا إلى قِتالِ عَدُوِّكم مُستَبْصِرينَ، وباللهِ علَى أعدائِهِ مُستَنْصِرينَ، فإذا رأيتُمُ الحربَ قَدْ شَمَّرَتْ عَنْ ساقِها، واضطرَبَ لَظاها، فَتَيَمَّموا وطِيسَها، وجالِدُوا رئيسَها عِنْدَ احْتِدامِ خمَِيسِها، تَظْفَروا بالمَغْنَمِ والسلامَةِ، والفوزِ والكرامَةِ، في دارِ الخُلْدِ والمقامَةِ" فقاتَلَ أبناؤُها الأربعةُ، واسْتُشْهِدُوا في هذِهِ المعركَةِ، وفتحَ اللهُ سبحانَه للمسلمينَ، وتمزَّقَتْ جيُوشُ الكافرينَ، ولماّ بلَغَ الخنساءَ خَبَرُهم، قالَتْ: "الحمدُ للهِ الذي شَرَّفَنيِ بقَتْلِهم، وأرْجُو مِنْ ربِّي أنْ يجمَعَنِي بهم في مُسْتَقَرِّ رحْمَتِهِ".
فلَوْ كانَ النساءُ كَمَنْ ذَكَرْناَ لَفُضِّلَتِ النساءُ علَى الرجالِ
وما التأنيثُ لاسمِ الشمسِ عَيْبٌ وما التَذْكِيرُ فَخْرٌ للهِلالِ
…يقولُ اللهُ سبحانَه: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } { التوبة:71 }(161/5)
…بارَكَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ، ونفَعَنِي وإيَّاكم بما فيهِ مِنَ الهُدَى والبيَانِ، أقولُ ما سَمِعْتُم وأستغفِرُ اللهَ لي ولكمْ مِنَ الذُّنوبِ والعِصْيانِ، إنَّه هوَ الغفورُ المنَّانُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ الحكيمِ العليمِ، أحمدُهُ سبحانَه وأشكرُهُ علَى فضلِهِ العظيمِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له الملكُ البَرُّ الرحيمُ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ذو الخُلُقِ القَوِيمِ، والهادِي إلى الصراطِ المستقيمِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ ذَوِي النَّهْجِ الكريمِ، وعلَى تابِعيهم بإحسانٍ وجَمَعَنا بهم في جَنَّاتِ النَّعيمِ.
… أمّا بعدُ:
…فاتقوا اللهَ معاشِرَ المسلمينَ، وكونوا علَى دينِكم مُحافِظينَ، وبنسائِكم رَحيمِينَ ناصحِينَ، وفي أوْجِهِ الخيرِ لهَنَّ مُرَغِّبِينَ، وعَنْ مسالِكِ الشرِّ مُحَذِّرِينَ ومُخَوِّفِينَ.
… عبادَ اللهِ:
… إنَّ المرأةَ المسلمةَ ذاتُ خُلُقٍ جَمٍّ، وأدَبٍ رَفيعٍ، كُلُّها أدَبٌ وحَياءٌ، وحِشْمَةٌ ووفاءٌ، ذاتُ لِباسٍ شَرْعِيٍّ ساترٍ، بعيدةٌ كُلَّ البُعْدِ عَنِ التَبرُّجِ وزائِفِ المظاهِرِ بديِنها مُسْتَمْسِكَةٌ، ولبَيْتِها راعِيَةٌ، وعلَى حِجابِها مُحافِظَةٌ، وبِسِيَرِ الصالحاتِ مُقْتَدِيَةٌ، وعلَى طريقِهنَّ بحَوْلِ اللهِ سائِرَةٌ، ولقولِ ربِّها مُمْتَثِلَةٌ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا { } الأحزاب:59 } .
ولسانُ حالِها يقولُ:
بِيَدِ العفَافِ أصونُ عِزِّ حِجابِي وبعِصْمَتِي أعْلُو علَى أتْرابِي
ما ضَرَّنيِ أَدَبِي وحُسْنُ تَعلُّمِي إلاَّ بكَوْنِي زَهْرَةُ الألبابِ(161/6)
ما عاقَنِي خَجَلِي مِنَ العُلْيا ولا سَدْلُ الخِمارِ بِلِمَّتِي ونِقابِي
…ثُمَّ صَلُّوا وسَلِّموا -رحمَكُمُ اللهُ- علَى خيرِ الوَرَى، وإمامِ الهُدَى، كما أمرَ ربُّكم جَلَّ وعَلا، فقالَ عَزَّ مِنْ قائلٍ : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب: 56 } .
… اللهمَّ صلِّ وسَلِّمْ علَى عبدِكَ ونبيِّكَ محمدٍ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللهمَّ أصْلِحْ نساءَ المسلينَ، اللهمَّ اجعلْهنَّ صالحاتٍ مُصْلَحاتٍ تِقيَّاتٍ مُتَسَتِّراتٍ، واجعلْهنَّ اللهمَّ في الجنَّاتِ، اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الكفْرَ والكافرينَ، وأزْهِقِ النَّفاقَ والمنُافِقينَ، ياقَوِيُّ يا مَتينُ.
اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ.
………………… لجنة الخطبة المذاعة و الموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(161/7)
اطبع هذه الصحفة
الإعلام الهادف
إخوةَ الإيمانِ:
لقَدِ انتشرَتْ عِنْدَ العربِ قبلَ الإسلامِ وسائِلُ كثيرةٌ للاتصالِ، تتلاءَمُ معَ طبيعةِ تِلكَ المرْحَلَةِ، فعَنْ طريقِ التجارةِ كانوا يَنْقلونَ الأخْبارَ، ويَطَّلِعونَ علَى الأحْوالِ، وكذلكَ عَنْ طريقِ الشِّعْرِ والخَطابَةِ والأعْيادِ والأسَواقِ، وعَقْدِ الندَواتِ والمشاوَراتِ، وكانَتْ إمارتا الحِيرَةِ والغساسِنَةِ علَى تُخُومِ الفُرْسِ والرومِ صِلَةَ الوَصْلِ بينَ العربِ والأُمَمِ المجاوِرَةِ، وحينَ جاءَ الإسلامُ اسَتبْقَى ما هوَ صالحٌ للبقاءِ مِنْ هذِهِ الوسائِلِ وزادَ علَيْها، فكانَ المسجدُ قاعِدَةً ينطلقُ مِنْها المسلمونَ إِثْرَ تَجَمُّعِهم وتشاوُرِهم، وكانَتْ خُطبةُ الجمعةِ بَلاغاً للحاضِرِ والبادِ، ونافَحَ الشعراءُ والخطباءُ عَنِ الإسلامِ ونَبيِّ الإسلامِ، مُؤَيَّدينَ بالملائِكةِ الكِرامِ،"اهْجُهمْ أوْ هاجِهِمْ وجِبريلُ معَكَ" [ أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ عنِ البراءِ بنِ عازِبٍ - رضي الله عنه -]، وكتبَ - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوكِ الأرضِ، وأرسلَ الرُّسُلَ يَدْعوهم إلى الإسلامِ، وكانَتِ البَعَثاتُ التعليميَّةُ والدعَوِيَّةُ الموجَّهَةُ مِنَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - تَجوبُ الجزيرةَ وسَطَها وأطرافَها، فبلَغَتِ الدعوةُ اليمنَ والبحرينَ والحبشةَ, وأرضَ فارسٍ والرومِ، ومصرَ وغيرَها، ثُمَّ جاءَتْ حركَةُ الفتوحِ الإسلاميَّةِ لِتنشرَ دِينَ اللهِ في الآفاقِ، ولَمْ يَبْقَ بَيْتُ وَبَرٍ ولا مَدَرٍ، ولا أحمرَ ولا أسودَ إلاَّ بلغَتْهُمُ الدعوةُ.
خطبة الجمعة المذاعة و الموزعة
بتاريخ 4 من ربيع الأول 1428هـ الموافق 232007/3/م
الإعلام الهادف(162/1)
الحمدُ للهِ المتفضِّلِ بالإنْعَامِ وسابغِ المِنَنِ، حرَّمَ الفواحِشَ ما ظهرَ مِنْها وما بَطَنَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له شهادةً نَعْتَصِمُ بها مِنْ مَهاوِي الفِتَنِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ الأمينُ المؤتَمَنُ، خيرُ مَنْ دَعا إلى أقْوَمِ الهُدَى وأزْكَى السُّنَنِ، صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعلَى آلهِ وصحبِهِ المقْتَفينَ لخيرِ السَّنَنِ، ومَنْ تَرَسَّمَ هُداهم ما غَرَّدَتْ وَرْقاءُ بفَنَنٍ.
أمّا بعدُ:
فيا معْشَرَ السادَةِ الغُرَرِ، أوُصيكم ونفسِي بالتقْوَى فإنَّها العِزُّ والظَّفَرُ، وفي الحياةِ الدنيا خيرُ ما يُدَّخَرُ، وأوْلَى ما يُتَّعَظُ بهِ ويُزدَجَرُ، وخيرُ زادٍ حِينَ يُنادَى: { كَلّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } { القيامة:12 } .
معاشِرَ المسلمينَ:
إنَّ أيَّ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ تحتاجُ إلى وسائِلَ تنشرُ بها تُراثَها، وتُوصِلُ عَنْ طريقِها حضارَتها، ومُقَوِّماتِ فِكْرِها، أيّاً كانَتْ هذهِ الحضارةُ، وأيّاً كانَ نوعُ هذهِ الأفكارِ المصَدَّرَةِ، وتَتَشكَّلُ هذهِ الوسائِلُ لنقلِ الحضارةِ والأفكارِ، حَسَبَ ظُروفِ الزمانِ والمكانِ، وتتطوَّرُ وَفْقَ تَطَوُّرِ الحضاراتِ وتَفَوُّقِ الأُمَمِ، فمِنْ أحدثِ هذهِ الوسائِلِ في هذا الزمانِ، وأعظمِها تأثيراً في حياةِ بَنِي الإنسانِ، وسائلُ الإعْلامِ وهيَ للمسلمينَ إعلاءٌ لكلمةِ الواحدِ الديَّانِ، ولغيرِهم جُنْدِيٌّ مِنْ جنودِ الشيطانِ.
عبادَ اللهِ:(162/2)
لقَدِ استخدمَ الأنبياءُ- عليهمُ الصلاةُ والسلامُ- ما أمكنَهم مِنْ وسائِلَ مُؤَثِّرَةٍ، وأساليبَ مُشَوِّقَةٍ، في التعريفِ بخالقِ الكونِ، والحكمةِ مِنَ الوجودِ في هذِه الحياةِ، والدعوةِ إلى توحيدِ اللهِ توحيداً خالصاً، وذلكَ بالأُسلوبِ واللغةِ التي تناسِبُهم، كُلُّ ذلكَ لِيتحقَّقَ البلاغُ، ويَصِلَ البَيانُ، وتقومَ الحُجَّةُ، قالَ اللهُ تعالىَ: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } { إبراهيم:4 } ، فهذا موسَى- عليهِ السلامُ - رغِبَ أنْ يكونَ إحقاقُ الحقِّ وإبطالُ الباطِلِ علَى مَلأٍ مِنَ الناسِ، وفي يومِ اجتماعِهم: { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى } { طه:59 } ، ثُمَّ بعثَ فرعونُ في المدائِنِ حاشرينَ مُثيراً ومُضَلِّلاً: { إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ*وإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ*وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } { الشعراء:56 } ، ويَنْقَلِبُ السِّحْرُ على الساحِرِ ويعْلُو الحقُّ الأصيلُ، وينكَشِفُ الباطِلُ الدَّخِيلُ، وسليمانُ - عليهِ السلامُ - يستعملُ الكِتابَ أُسلوباً مِنْ أساليبِ الإعلامِ عَنْ دعوتِه، وذلكَ حِينَ أرسلَهُ إلى مَلِكَةِ سَبَأٍ حيثُ يقولُ سبحانَه عَنْها: { قالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ*إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ*أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } { النمل:31 } ، وكانَتِ النتيجةُ: { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { النمل:44 } .
إخوةَ الإيمانِ:(162/3)
لقَدِ انتشرَتْ عِنْدَ العربِ قبلَ الإسلامِ وسائِلُ كثيرةٌ للاتصالِ، تتلاءَمُ معَ طبيعةِ تِلكَ المرْحَلَةِ، فعَنْ طريقِ التجارةِ كانوا يَنْقلونَ الأخْبارَ، ويَطَّلِعونَ علَى الأحْوالِ، وكذلكَ عَنْ طريقِ الشِّعْرِ والخَطابَةِ والأعْيادِ والأسَواقِ، وعَقْدِ الندَواتِ والمشاوَراتِ، وكانَتْ إمارتا الحِيرَةِ والغساسِنَةِ علَى تُخُومِ الفُرْسِ والرومِ صِلَةَ الوَصْلِ بينَ العربِ والأُمَمِ المجاوِرَةِ، وحينَ جاءَ الإسلامُ اسَتبْقَى ما هوَ صالحٌ للبقاءِ مِنْ هذِهِ الوسائِلِ وزادَ علَيْها، فكانَ المسجدُ قاعِدَةً ينطلقُ مِنْها المسلمونَ إِثْرَ تَجَمُّعِهم وتشاوُرِهم، وكانَتْ خُطبةُ الجمعةِ بَلاغاً للحاضِرِ والبادِ، ونافَحَ الشعراءُ والخطباءُ عَنِ الإسلامِ ونَبيِّ الإسلامِ، مُؤَيَّدينَ بالملائِكةِ الكِرامِ،"اهْجُهمْ أوْ هاجِهِمْ وجِبريلُ معَكَ"[أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ عنِ البراءِ بنِ عازِبٍ - رضي الله عنه -]، وكتبَ - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوكِ الأرضِ، وأرسلَ الرُّسُلَ يَدْعوهم إلى الإسلامِ، وكانَتِ البَعَثاتُ التعليميَّةُ والدعَوِيَّةُ الموجَّهَةُ مِنَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - تَجوبُ الجزيرةَ وسَطَها وأطرافَها، فبلَغَتِ الدعوةُ اليمنَ والبحرينَ والحبشةَ, وأرضَ فارسٍ والرومِ، ومصرَ وغيرَها، ثُمَّ جاءَتْ حركَةُ الفتوحِ الإسلاميَّةِ لِتنشرَ دِينَ اللهِ في الآفاقِ، ولَمْ يَبْقَ بَيْتُ وَبَرٍ ولا مَدَرٍ، ولا أحمرَ ولا أسودَ إلاَّ بلغَتْهُمُ الدعوةُ.
أتباعَ سيِّدِ المرسلينَ:(162/4)
واستمرَّ المسلمونَ والعالَمُ الآخَرُ مِنْ حَوْلِهم يُعْنَوْنَ بوسائِلِ الإعلامِ وأساليبِ التأثيرِ- ولكُلٍّ وِجْهَةٌ هوَ مُوَلِّيها- حتَّى إذا كانَ العَصْرُ الحاضِرُ تطوَّرَتْ وسائِلُ الإعلامِ، وبلَغَ تَنَوُّعُها وتَقْنِيَتُها وأساليبُ تأثيرِِها شأْواً بعيداً، وأصبحَ العالمُ الكبيرُ يعيشُ كأنَّه قريةٌ واحدةٌ، ولكنَّ المؤْلِمَ المؤْسِفَ أنَّ مراكِزَ القيادَةِ الإعلامِيَّةِ، وقَنَواتِ التأثيرِ الكُبْرَى، ووكالاتِ الأنباءِ العالَمِيَّةَ أكثرُها مِنْ نصيبِ غيرِ المسلمينَ، ويمتَلِكُها مُناوِئُونَ للإسلامِ، وقومٌ خَصِمُونَ للمسلمينَ، ويكْفِي- دليلاً علَى ذلكَ - أنْ تعترفَ الصحفُ الغربيَّةُ نفسُها بسيطرةِ اليهودِ علَى الصحافَةِ العالميَّةِ، وهذا يُفسِّرُ التعتيمَ الإعلامِيَّ علَى كثيرٍ مِنْ قضايا المسلمينَ مِنْ جانبٍ، وإشغالَ الناسِ بقضايا غيرِ نافعةٍ وفَرْضَها علَى الإعلامِ العالمَِيِّ.
أيُّها الإخوةُ المؤمنونَ:(162/5)
ومَكْمَنُ الخطَرِ أنَّ وسائِلَ الإعْلامِ باتَتْ وِجْهَةً للرأْيِ العامِ، والمتُفَوِّقُ في هذا الميدانِ يَفْرِضُ حضارَتَه ويُصَدِّرُ أفكارَه، ويَحْشُرُ الآخَرِينَ مَعَه في اهتماماتِهِ ولوْ كانَتْ ساذِجَةً، ويُؤَثِّرُ في مشاعِرِ الناسِ في أحْداثِهِ ولوْ كانَتْ ساقِطَةً، نَعَمْ إنَّ مِنْ أبْرَزِ الآثارِ التي خَلَّفَها الإعْلامُ المعادِي في مُجتمعاتِ المسلمينَ زَعْزَعَةَ المُعْتَقَدِ عِنْدَ بعضِهِم، ونَشْرَ الأفكارِ الهدَّامَةِ عِنْدَ بعضِهِمُ الآخَرِ، كما أثَّرَتْ في تصديرِ العوائِدِ والأخلاقِ الرديئَةِ، وساهَمَتْ في خَلْخَلَةِ بناءِ الأُسْرةِ المسلمَةِ، ورَوَّجَتْ للاقتصادِ الحُرِّ- بزعمِهمْ- وهوَ عَيْنُ الرِّبا والاحتكارِ، وشَوَّهَتْ صورةَ الإسلامِ، واختارَتْ أبْشَعَ الصُّوَرِ لإلصاقِها بالمسلمينَ، ومُصيبَةٌ وأيُّ مصيبةٍ حينَ تُؤثِّرُ وسائِلُ الإعلامِ المعادِِيَةُ في مجتمعاتِ المسلمينَ، فيَسْتَوْردونَ مِنْ عوائدِهمُ القبيحةِ ما يستوردونَ، ويَنْقُلونَ مِنْ رَدِيءِ أفكارِهم ما يَنْقُلونَ، ممّا يجعلُهم في ذيْلِ القافِلَةِ، وهمْ مُؤَهَّلونَ للقيادَةِ، فلْتَحذَرْ- ياعبدَ اللهِِ- مَكْرَ الأعداءِ، فإنَّ حَرْبَ الإعلامِ والأفكارِ حربٌ شَعْواءُ، فليسَ كلُّ ما يُعْرَضُ يتابَعُ، وليسَ كلُّ ما يُكتَبُ يُصَدَّقُ، بَلْ كُنْ مُسلماً صادقاً في شَتَّى السُّبُلِ، في المسجدِ والبيتِ ومقرِّ العملِ، احفَظْ جوارِحَكَ عَنِ الآثامِ، وقلبَكَ مِنْ أنْ تُداخِلَهُ الشكوكُ والأوْهامُ، وأحِطْ أُسرَتَكَ بسِيَاجِ العِفَّةِ والدِّينِ والحياءِ، مُبَغِّضاً لهم إعلامَ الزَّيْفِ والشَّقاءِ، مُرَغِّباً لهمُ الإعلامَ الهادِفَ البنَّاءَ، يقولُ سبحانَه: { يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ*وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ(162/6)
عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً*يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً { } النساء: 28 } ، بارَكَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ والسُّنَّةِ, ونفعَنا بما فيهما مِنَ الهُدَى والحِكْمَةِ، أقولُ قولِي هذا وأَستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمينَ إنَّه واسِعُ المغفرةِ والرحمةِ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العالمَينَ، كتبَ العِزَّةَ والغَلَبةَ له ولرسولِهِ وللمؤمنينَ، وجعلَ الذُّلَّ والصَّغارَ علَى الكافرينَ والمنافِقينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له القَوِيُّ المتينُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ الصادِقُ الأمينُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ الطيبِّينَ الطاهرِينَ، وعلَى مَنْ تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أمّا بعدُ:
فاتقوااللهَ-إخوةَ الإسلامِ- حقَّ التقْوَى،وراقِبوا مَوْلاكم جَلَّ وعَلا، واحفظوا قلوبَكم وجوارِحَكم عَنْ أسبابِ الرَّدَى، وصُونوا نساءَكم وأولادَكم عَنْ سُبُلِ الغَوايَةِ والعَمَى، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } { التحريم:6 } .
إخوةَ الإسلامِ:(162/7)
بَيْنَ إشراقَةِ الصُّورةِ في نماذِجِ الإعلامِ الإسلاميِّ فيما مضَى، ونتائِجِهِ المُثْمِرَةِ في الوجودِ أَمْناً وإيماناً، وسلاماً وإسلاماً، وعَمَلاً وصِدْقاً، وَبْينَ قَتامَةِ الصُّورَةِ ونتائِجِها المُرَّةِ، وظُلْمَةِ الواقِعِ وجَوْرِ الإعلامِ العالميِّ المعاصِرِ، لابُدَّ للإعلامِ الإسلاميِّ المعاصِرِ مِنْ دَوْرٍ بَنَّاءٍ، ومَوْقِعٍ مُتَميِّزٍ، وتحمُّلِ المسؤوليةِ بصِدْقٍ وأمانَةٍ، وعلَى كاهِلِ رجالِهِ الأوْفِياءِ تقومُ مسؤولياتٌ عظيمةٌ، فمِنْها:رِعايةُ التنْمِيَةِ بمفهومِها الشامَلِ، وبجوانِبِها المُخْتَلِفَةِ، الإسلامِيَّةِ، والاجتماعِيَّةِ، والاقتصادِيَّةِ، والفِكْرِيَّةِ ونَحْوِها، ومِنْها: حِمايةُ مُكْتَسَباتِ الأُمَّةِ – عَبْرَ تاريخِها الطويلِ- والتنَبُّهُ لكُلِّ مَنْ يريدُ العبَثَ بها، أوْ بَتْرَ حاضِرِ الأُمَّةِ عَنْ ماضِيها، أوْ صِياغَةَ مُستقَبَلِها خارجَ إطارِ الشريعةِ الإسلاميَّةِ، ونُظُمِ الإسلامِ الكاملَةِ المُتَفَوِّقَةِ، ومِنْها: فَضْحُ بَهْرَجِ الإعلامِ المعادِي، ومَنْعُ تَسَرُّبِ أخلاقِهِ الموبوءَةِ وعوائِدِهِ النَّكِدَةِ، وحِمايةُ الأُمَّةِ مِنْ مخاطِرِها الآنِيَّةِ، رابِعُها:الحِرْصُ علَى جَمْعِ الكلمَةِ علَى الحقِّ والهُدَى، والدِّقَّةِ في نَقْلِ الأخْبارِ، وعَدَمِ إثارَةِ الشُّبَهِ والشائعاتِ وردِيءِ الأفكارِ، فاللهُ سبحانَه أمرَ بالتثَبُّتِ فقالَ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ { } الحجرات:6 } ، خامِسُها: الحِرْصُ علَى اجتماعِ الكلمةِ علَى الحقِّ والهُدَى، وتَجْنيبِ المُشاهِدِ والقارِئِ والمُستَمِعِ مالا يُرْضِي اللهَ سبحانَه مِنَ البرامِجِ والكتاباتِ، فالإنسانُ مُحاسَبٌ علَى مِثْقالِ الذَّرَّةِ: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ(162/8)
ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } { الزلزلة:8 } .
وما مِنْ كاتبٍ إلاَّ سيَفْنَى وَيُبْقِي الدَّهْرُ ما كتَبَتْ يَدَاهُ
فلا تَكْتُبْ بكفِّكَ غيرَ شيءٍ يَسُرُّكَ في القِيامَةِ أنْ تَراهُ
ثُمَّ صَلُّوا وسلِّموا - حَفِظَكمُ الموْلَى- علَى خيرِ الوَرَى، وإمامِ الهُدَى، كما أمرَ ربُّكم جَلَّ وعَلا، فقالَ سبحانَه: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب:56 } ، اللهمَّ طَهِّرْ قلوبَنا مِنَ النِّفاقِ، وأعمالَنا مِنَ الرِّياءِ، وألسنَتَنَا مِنَ الكَذِبِ، وأَعْيُنَنا مِنَ الخِيانَةِ، إنَّكَ تْعلَمُ خائِنَةَ الأعْيُنِ وما تُخْفِي الصدورُ، اللهمَّ احفظْنا وجميعَ المسلمينَ مِنْ كَيْدِ الفُجَّارِ، ومِنْ شَرِّ طَوارِقِ الليلِ والنهارِ, إلاّ طارِقاً يَطْرُقُ بخيرٍ يارحمنُ، اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ.
…………………لجنة الخطبة المذاعة و الموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(162/9)
اطبع هذه الصحفة
التوبة صلاح للفرد وقوة للمجتمع
إننا لسنا ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وإنما نحن بشر نأكل ونشرب، ونلهو ونلعب، ونتزوج النساء، وأودع الله فينا من الغرائز والقوى، والدوافع البشرية ما يجعلنا دائماً في صراعات مستمرة مع عوامل الخير والشر، والحق والباطل، و الهدى والضلال، وما يضعنا باستمرار في بوتقة الاختبار، وتحت أشعة الابتلاء المسلطة علينا من كل جانب.
فأمامنا الإسلام يرشدنا ويهدينا، ومن ورائنا الشيطان يضلنا ويغوينا، وفي صدورنا قلوب تنبض بالحسنى، وبجانبها نفوس أمارة بالسوء.. والإنسان بين هؤلاء وهؤلاء مسكين حائر، لا عاصم له من أمر الله إلا من رحم.. فكان من لطف الله بنا، ورحمته التي وسعت كل شىء أن فتح لنا باب الرجاء، وقدم لنا قوارب النجاة، وأرشدنا إلى ما يبدد مخاوفنا، ويزيل همومنا، ويخفف أعباءنا، وذلك بتوبة صادقة نصوح.
قال عمر رضي الله عنه: [التوبة النصوح أن تبغض الذنب كما أحببته، وتستغفر منه إذا ذكرته، فإذا جزم العبد بالتوبة، وصمم عليها، فإنها تجب ما قبلها من الخطايا.
التوبة صلاح للفرد وقوة للمجتمع
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين... وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}[ البروج :13-16]. سبحانه إليه المرجع والمآب ، ويتوب على من تاب.. وأشهد أن سيدنا محمداً عبدالله ورسوله: بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك..
صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اتبع سنته، واهتدى بهديه، واستن بسنته، إلى يوم الدين.(163/1)
اتقوا الله – عباد الله – {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2، 3].
أما بعد:
فيقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8].
أيها الإخوة المؤمنون:
( 2 )
إننا لسنا ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وإنما نحن بشر نأكل ونشرب، ونلهو ونلعب، ونتزوج النساء، وأودع الله فينا من الغرائز والقوى، والدوافع البشرية ما يجعلنا دائماً في صراعات مستمرة مع عوامل الخير والشر، والحق والباطل، و الهدى والضلال، وما يضعنا باستمرار في بوتقة الاختبار، وتحت أشعة الابتلاء المسلطة علينا من كل جانب.
فأمامنا الإسلام يرشدنا ويهدينا، ومن ورائنا الشيطان يضلنا ويغوينا، وفي صدورنا قلوب تنبض بالحسنى، وبجانبها نفوس أمارة بالسوء.. والإنسان بين هؤلاء وهؤلاء مسكين حائر، لا عاصم له من أمر الله إلا من رحم.. فكان من لطف الله بنا، ورحمته التي وسعت كل شىء أن فتح لنا باب الرجاء، وقدم لنا قوارب النجاة، وأرشدنا إلى ما يبدد مخاوفنا، ويزيل همومنا، ويخفف أعباءنا، وذلك بتوبة صادقة نصوح.
قال عمر رضي الله عنه: [التوبة النصوح أن تبغض الذنب كما أحببته، وتستغفر منه إذا ذكرته، فإذا جزم العبد بالتوبة، وصمم عليها، فإنها تجب ما قبلها من الخطايا.(163/2)
وهذا الإنسان الضعيف بالتجائه إلى ربه، وطلبه الحماية من خواء النفس في داخله، ومن عواء الشيطان من خارجه، إذا خضع لإرادة الله فتاب، يكون قد تخفف من أوزاره، وتخلص من أثقالها ولو كانت كزبد البحر.. يقول الحق جل وعلا: {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء: 27، 28].
وليسأل المسلمون أنفسهم: لماذا يريد الله أن يتوب عليهم؟ هل لحاجته سبحانه إليهم؟ كلا { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر: 15- 17].
ولكن لأنه سبحانه لا يريد أن يعذبهم، يريد أن يرحمهم: { مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً} [النساء: 147].. {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].
فالله سبحانه وتعالى يريد أن يتوب علينا، فضلاً منه ورحمة، ورسول الله (صلي الله عليه وسلم) يقول: [إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها] [رواه مسلم].
( 3 )
ومعنى ذلك أن الله يقبل التوبة من المذنبين ليلاً ونهاراً، ولا يختص قبولها بوقت معين.. وبسط اليد صفة من صفاته عز وجل تليق بذاته، وهو أعلم بحقيقتها.. وطلوع الشمس من المغرب يعد من علامات الساعة الدالة على قربها. وعندئذ لا تقبل التوبة من أحد.(163/3)
ويبلغ الفضل أقصى ما يتصور الإنسان حين يقدم الله توبته على توبتنا، فيقول: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ}[التوبة: 118] كما قدم سبحانه محبته على محبتهم، فيقول: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].
ويقول سبحانه: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] ويسوق مغفرته لعباده بصيغة المبالغة فيقول: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82].. ويفرح بتوبة عبده إذا رجع إليه وأناب، لرحمته به، وحبه إياه، يقول الرسول صلوات الله عليه وسلامه: لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة] [متفق عليه].
بل يجعل قبوله للتوبة في صورة وثيقة كتبها على نفسه، وأودعها أعظم كتبه، فيقول جل من قائل: } كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم} [الأنعام: 54] ويقول عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: 17 ،18].
أيها الإخوة المؤمنون:
( 4 )(163/4)
إن الإسلام لا يغلق الأبواب في وجوه الخاطئين والخاطئات، ولا يطردهم من المجتمع إن أرادوا أن يعودوا إليه متطهرين تائبين، بل يفسح لهم الطريق، ويشجعهم على سلوكه، ويبلغ من التشجيع أن يجعل الله قبول توبتهم – متى أخلصوا فيها – حقاً عليه سبحانه، يكتبه على نفسه، وذلك لأن نفس صاحبها قد أنشئت نشأة أخرى، وقد هزها الندم من الأعماق، ورجها رجا شديداً حتى استفاقت، فتابت وأنابت، وهي في فسحة من العمر، وبحبوحة من الأمل" [ظلال القرآن ج 1]
أما إذا وصل الإنسان إلى حد الاستهتار، وبلغ به التبجح حدا فقد فيه صحوة النفس، ويقظة الضمير، وجاهر الله بالمعصية، وفقد الإحساس والحياء، وسقط بإصراره على الذنب إلى عالم الحيوان، ولا يمد يده إلى الله الذي مد إليه يده، ويذنب ولا يستغفر، ويعصي ولا يتوب، ويموت يوم يموت وهو على ذلك فإنما يكون – والعياذ بالله – قد انتهى إلى طريق مسدود، ولا يستحق رحمة الله التى كتبها على نفسه...
كم تكون صورة المجتمع إذا تفلت أفراده من ضوابط الآداب والقيم، وقادتهم شهواتهم الدنيوية إلى مهاوي الضلال والرذيلة والفتنة، دون وقفة من حساب النفس، ومراجعة الضمير؟
لا شك أنه سيتحول إلى غابة سوداء ، وإلى مصير مظلم، حيث يأكل القوى الضعيف، ويعتدي الكبير على الصغير، ويسود الفساد.
أما إذا أصلح كل ما بينه وبين الله، وما بينه وبين المجتمع، وما بينه وبين نفسه، فإن الله تعالى سيصلح أحوالنا، ويصلح مجتمعاتنا من جميع المفاسد والأهواء، ويحفظ الأمة من كل سوء.
أيها الأخوة المؤمنون:
كم تكلف التوبة صاحبها أكثر من ندم على ما فعل، وعزم على عدم العودة إلى المعصية، ورد الحقوق إلى أصحابها، بعزيمة صادقة، وتوبة نصوح، وشفافية بخطورة الذنب، وفساد الطوية، والبعد عن الحقول المزروعة بالألغام؟ {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الملك: 22].(163/5)
نفعني الله وإياكم بما أنزل من الآيات والذكر الحكيم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(163/6)
اطبع هذه الصحفة
خُلُقُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
أخِي الكريمَ
فإذا سألْتَ عَنْ كَرَمِهِ وجُودِهِ، فكانَ - صلى الله عليه وسلم - لا يَرُدُّ أحَداً عَنْ مَنْشودِهِ، يُعْطِي الشَّاةَ والبَعِيرَ، وليسَ في بيتِهِ صاعٌ مِنْ شعيرٍ، وإذا سألْتَ عَنْ زُهْدِهِ في هذهِ الدارِ، فكانَ لا تُوقَدُ في بَيْتِهِ النَّارُ، يَمُرُّ عليهِ الِهلالُ والهِلالانِ، لا طعامَ له إلاّ الأسْوَدانِ التمرُ والماءُ، ورُبَّما باتَ أيّاماً طاوِياً لا يجِدُ العَشَاءَ، وكانَ يجُيبُ الدَّعْوَةَ علَى الإهالَةِ السَّنِخَةِ والشَّعيرِ، وكانَ يجلسُ علَى الأرضِ والبِساطِ والحصيرِ، ومعَ هذا فقَدْ كانَ عبداً شكوراً، حامداً للهِ ولِنَعْمائِهِ ذَكُوراً، وإذا سألْتَ عَنْ موْقِفِهِ فيمَنْ أخطأَ في حَقِّهِ وأساءَ، فالعَفْوُ شِيمَتُهُ كما قالَ لأهلِ مكَّةَ:"اذْهبوا فأنتمُ الطُّلقَاءُ"، وما انتقَمَ لنفسِهِ - صلى الله عليه وسلم - يوماً، ما لمْ يَرَ أمراً مُحرَّماً، فيكونُ النَّكِيرُ حِينَئذٍ مُحتَّماً، وأمَّا عنِ اللقاءِ والمُصَافحَةِ، فكانَ لا يَنْزِعُ يدَهُ عَنِ الرَّجُلِ حتَّى يَنْزِعَ، سامعاً لحديثِهِ غيرَ مالٍّ ولا سَئِمٍ، وإذا سألْتَ عَنْ مُعامَلِتِه للخَدَمِ، فلا تجريحَ ولا عِتابَ ولاذَمَّ، ولَمْ يَقُلْ يوماً لخادِمِه أُفٍّ قَطُّ، لِسوءِ خِدْمَةٍ أوْ فِعْلِ غَلَطٍ، وأمَّا خُلُقُهُ مَعَ أهلِهِ، فكانَ خيرَ الناسِ، يقومُ في مِهْنَةِ أهلِهِ، يخَيطُ ثوبَهُ، ويَخْصِفُ نَعْلَهُ، ويَحْلِبُ شاتَهُ، وكانَ يقولُ: "خيرُكمْ خيرُكمْ لأهْلِهِ وأنا خيرُكمْ لأهْلِي"[أخرجَهُ الترمذيُّ]، وإذا أردْتَ معرِفَةَ رحْمَتِهِِ بالوَليدِ، فالتَّحْنِيكُ والتَّبْريكُ والدعاءُ الرَّشيدُ، وأمَّا معاملتُهُ للصغيرِ والغُلامِ، فتَقْبيلُهما وإلقاءُ السلامِ، وأمَّا هَدْيُهُ - صلى الله عليه وسلم - معَ سائِرِ البَشَرِ، فقَدْ وَسِعَتْ رحمتُهُ مَنْ آمنَ(164/1)
بهِ ومَنْ كفَرَ، بلْ تجاوَزَتْ حتىَّ بلَغَتِ البهائِمَ والدَّوابَّ، لِينالَ مِنَ اللهِ تعالىَ عظيمَ الثوابِ، قالَ اللهُ تعالَى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } { الأنبياء:107 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 11 من ربيع الأول 1428هـ الموافق 30 / 3 /2007م
خُلُقُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
الحمدُ للهِ البرِّ الرحيمِ، المُنْعِمِ علَى عبادِهِ بفضلِهِ العَميمِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له الودودُ الكريمُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ الموصوفُ بالخُلُقِ العظيمِ، صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعلَى آلِهِ وأصحابِهِ، الذينَ تَخَلَّقوا بأخْلاقِهِ، وساروا علَى نَهْجِهِ القَوِيمِ.
أمَّا بعدُ:
فأُوصيكم ونفسِي أوَّلاً بتقوَى اللهِ وطاعتِهِ، والمسارعَةِ في طَلَبِ مَرْضاتِهِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } { الحشر:18 } .
أيُّها الإخوةُ المؤمنونَ:(164/2)
إنَّ أسْمَى شيءٍ يُضْرَبُ فيهِ المِثالُ، ويُجنَّدُ لذِكْرِهِ اللسانُ والمقالُ، سِيرَةُ خيْرِ البَرايا، عالِي الأَخلاقِ والمزَايا، نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - كريمِ الخِصالِ والسَّجايا، وسنشيرُ إلى بعضِ خُلُقِهِ الكريمِ إشارةً، ونَضَعُ لِسَمْتِهِ الجليلِ مَنارةً، فإنَّ شمائِلَهُ الفاضِلَةَ لا يُحْصيها كِتابٌ، وأخلاقَهُ الطيِّبَةَ لا يَحْوِيها خِطابٌ، فقَدْ بلَغَ في الوَصْفِ الجميلِ غايَتَهُ، ووصَلَ في الخُلُقِ النبيلِ نِهايَتَهُ، فلمْ يَجِدْ مِنْهُ المشركونَ – قبلَ بِعْثََتِهِ – أيَّ خُلُقٍ مَشِينٍ، ممَّا جعلَهم يُلَقِّبونَهُ بالصادِقِ الأمينِ، فصَلَواتُ ربِّي وسلامُهُ عليهِ إلى يومِ الدِّينِ، فما ظَنُّكم برَجُلٍ قالَ عَنْهُ العظيمُ - عزَّ وجلَّ-: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } { القلم: 4 } ، وحينَ سُئِلَتْ زوجُهُ عائشةُ – رضِيِ اللهُ عَنْها - عَنْ خُلُقِهِ قالَتْ:"كانَ خلُقُهُ القرآنَ"[أخرجَهُ مسلمٌ] أيْ: صارَ امتثالُ القرآنِ أمْراً ونَهْياً سَجِيَّةً له وخُلُقاً، فكانَ أحْسنَ الناسِ طَبْعاً ومَنْطِقاً.
فإذاسَخَوْتَ بَلَغْتَ بالجُودِ المدَى… وفَعلْتَ مالا يَفْعَلُ الكُرَماءُ
… وإذا عَفَوْتَ فقادِراً ومُقَدِّراً… لا يَسْتهينُ بِعَفْوِكَ الجُهَلاءُ
وإذا رَحِمْتَ فأنْتَ أُمٌّ أوْ أبٌ… هَذانِ في الدُّنْيا هُما الرُّحَماءُ
… وإذا غَضِبْتَ فإنَّما هِيَ غَضْبَةٌ… … لِلْحَقِّ لا ضِغْنٌ ولا بَغْضاءُ
وإذا رَضِيتَ فَذاكَ في مَرْضاتِهِ… ورِضَى الكَثيرِ تَحَلُّمٌ ورِياءُ
وإذا خَطَبْتَ فَلِلْمنا بِرِ هِزَّةٌ……تَدْعُو النَّدِيَّ ولِلقُلوبِ بُكاءُ
وسِيَرتُهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ خيرُ دليلٍ، علَى اتصافِهِ بكُلِّ خُلُقٍ جَميلٍ .
أخِي الكريمَ:(164/3)
فإذا سألْتَ عَنْ كَرَمِهِ وجُودِهِ، فكانَ - صلى الله عليه وسلم - لا يَرُدُّ أحَداً عَنْ مَنْشودِهِ، يُعْطِي الشَّاةَ والبَعِيرَ، وليسَ في بيتِهِ صاعٌ مِنْ شعيرٍ، وإذا سألْتَ عَنْ زُهْدِهِ في هذهِ الدارِ، فكانَ لا تُوقَدُ في بَيْتِهِ النَّارُ، يَمُرُّ عليهِ الِهلالُ والهِلالانِ، لا طعامَ له إلاّ الأسْوَدانِ التمرُ والماءُ، ورُبَّما باتَ أيّاماً طاوِياً لا يجِدُ العَشَاءَ، وكانَ يجُيبُ الدَّعْوَةَ علَى الإهالَةِ السَّنِخَةِ والشَّعيرِ، وكانَ يجلسُ علَى الأرضِ والبِساطِ والحصيرِ، ومعَ هذا فقَدْ كانَ عبداً شكوراً، حامداً للهِ ولِنَعْمائِهِ ذَكُوراً، وإذا سألْتَ عَنْ موْقِفِهِ فيمَنْ أخطأَ في حَقِّهِ وأساءَ، فالعَفْوُ شِيمَتُهُ كما قالَ لأهلِ مكَّةَ:"اذْهبوا فأنتمُ الطُّلقَاءُ"، وما انتقَمَ لنفسِهِ - صلى الله عليه وسلم - يوماً، ما لمْ يَرَ أمراً مُحرَّماً، فيكونُ النَّكِيرُ حِينَئذٍ مُحتَّماً، وأمَّا عنِ اللقاءِ والمُصَافحَةِ، فكانَ لا يَنْزِعُ يدَهُ عَنِ الرَّجُلِ حتَّى يَنْزِعَ، سامعاً لحديثِهِ غيرَ مالٍّ ولا سَئِمٍ، وإذا سألْتَ عَنْ مُعامَلِتِه للخَدَمِ، فلا تجريحَ ولا عِتابَ ولاذَمَّ، ولَمْ يَقُلْ يوماً لخادِمِه أُفٍّ قَطُّ، لِسوءِ خِدْمَةٍ أوْ فِعْلِ غَلَطٍ، وأمَّا خُلُقُهُ مَعَ أهلِهِ، فكانَ خيرَ الناسِ، يقومُ في مِهْنَةِ أهلِهِ، يخَيطُ ثوبَهُ، ويَخْصِفُ نَعْلَهُ، ويَحْلِبُ شاتَهُ، وكانَ يقولُ: "خيرُكمْ خيرُكمْ لأهْلِهِ وأنا خيرُكمْ لأهْلِي"[أخرجَهُ الترمذيُّ]، وإذا أردْتَ معرِفَةَ رحْمَتِهِِ بالوَليدِ، فالتَّحْنِيكُ والتَّبْريكُ والدعاءُ الرَّشيدُ، وأمَّا معاملتُهُ للصغيرِ والغُلامِ، فتَقْبيلُهما وإلقاءُ السلامِ، وأمَّا هَدْيُهُ - صلى الله عليه وسلم - معَ سائِرِ البَشَرِ، فقَدْ وَسِعَتْ رحمتُهُ مَنْ آمنَ بهِ ومَنْ كفَرَ، بلْ تجاوَزَتْ حتىَّ بلَغَتِ البهائِمَ والدَّوابَّ،(164/4)
لِينالَ مِنَ اللهِ تعالىَ عظيمَ الثوابِ، قالَ اللهُ تعالَى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } { الأنبياء:107 } .
يا أحبابَ رسولِ اللهِ:
إنَّ نبيَّنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - كانَ لا يأْنَفُ عَنْ عَمَلٍ فيهِ للهِ قُرْبَةٌ وطاعةٌ، ولا يستَنْكِفُ عَنِ المَشْيِ معَ أرمَلَةٍ مُحتاجَةٍ، ولا يتأخَّرُ في تلبيةِ حاجَةِ المساكينِ والأيتامِ، ورُبَّما تَجَوَّزَ في الصلاةَ حِينَ سَمِعَ بُكاءَ الغُلامِ، ولَمْ تَمْنَعْهُ منزِلَتُهُ أنْ يكونَ مُتواضِعاً، ولمْ تَصُدَّهُ أنْ يكونَ للجميعِ سامِعاً، فكانَ لا يختَلِفُ عَنْ أصحابِهِ بِجِلْسَةٍ ولا لِباسٍ، وإذا دخَلَ عليهِ الغَريبُ لمْ يُمَيِّزْهُ عَنْ سائِرِ الناسِ، ولمْ يكُنْ بيْنَ يَدَيْهِ حُرَّاسٌ ولا حُجَّابٌ، ولمْ تُوصَدْ دُونَ مُقابَلَتِهِ الأبوابُ، وقَدْ بلَغَ فيهِ الحَيَاءُ، كأنَّما في خِدْرِها العذْراءُ، ويكْفِي في ذلِكَ شَهادَةُ الحقِّ تبارَكَ وتعالَى: { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } { الأحزاب:53 } ، وتُوفِّيَتِ امرأةٌ سَوْداءُ كانَتْ تَقُمُّ المسجدَ – لَمْ يشهَدْ دفْنَها – فذهبَ إلى قبرِها وقامَ عليهِ وصلَّى ودَعَا، وعِنْدَما رأَى مهابَتَهُ أَعرابيٌّ اشتدَّ خَوْفُهُ هَوَّنَ عليهِ وقالَ:"إنِّي لستُ بمَلِكٍ، إنَّما أنا ابنُ امرأةٍ تأكُلُ القَدِيدَ"[أخرجَه ابنُ ماجَه]:والقديدُ: اللحمُ المملَّحُ المجفَّفُ في الشمْسِ.
معاشِرَ المسلمينَ:(164/5)
لقدْ كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا خطَبَ فَصَّلَ في الشَّريعَةِ والأحْكامِ، بإيجازٍ ووضوحٍ وقِلَّةِ كلامٍ، علَى مبدَأِ التَّيْسيرِ والرحْمَةِ والسلامِ، ولا يُصرِّحُ باسمِ مُذْنِبٍ وإنَّما يقولُ:"ما بالُ أقْوامٍ"، ولمْ يُعَنِّفْ الأَعرابِيَّ حِينَ بالَ في المسجدِ بَلْ علَّمَهُ طريقَ الرُّشْدِ والصَّوابِ، ونَهَى أنْ يُنْهَرَ أوْ يُعابَ، وكما أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كانَ رحيماً بالأحْياءِ، القَرِيبينَ مِنْه والغُرَباءِ، كانَ كذلِكَ معَ الأمواتِ، فإذا جَنَّ الليلُ خرجَ إلى بَقيعِ الغَرْقَدِ، فاستغفرَ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، ودعا لهمْ بصالِحِ الدعواتِ، بأَنْ يُسْبِغَ اللهُ عليهم شَآبِيبَ الرحَماتِ.
يا أتباعَ رسولِ اللهِ:
وإذا سألتُمْ عَنْ إقدامِهِ - صلى الله عليه وسلم - وشجاعَتِهِ، وخروجِهِ للعَدُوِّ وملاقاتِهِ، فقَدْ كانَ إذا حَمِيَ وَطِيسُ الحربِ، احتمَى بهِ أصحابُهُ مِنْ شِدَّةِ الخَطْبِ، فهوَ شُجاعٌ مِقْدامٌ بلا عُنْفٍ، رؤوفٌ رحيمٌ بلا ضَعْفٍ، فهذا نَزْرٌ يَسيرٌ مِنْ أخلاقِ البشيرِ النذيرِ، ليكونَ نِبْراساً للصغيرِ مِنَّا والكبيرِ.
بارَكَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيمِ، ونفعَنِي وإيَّاكم بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ، أقولُ قولِي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروهُ إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذي يسَّرَ لعبادِهِ أسبابَ السعادةِ، وكتبَ لأوليائِهِ الرِّفْعةَ والسِّيادَةَ، وجعلَ حُسْنَ الخُلُقِ مِنْ أفضلِ العبادَةِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له إلهُ الأوَّلينَ والآخِرينَ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ المصطفَى الأمينُ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِه الطيِّبينَ الطاهرينَ، وعلَى صحبِهِ الغُرِّ الميامينِ، ومَنْ سارَ علَى نَهْجِهم واهتدَى بهَدْيِهم إلى يومِ الدينِ.(164/6)
أمَّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ أُوصيكم ونفسِي بالتقْوَى، فهِيَ خيرُ زادٍ وأبقَى.
أيُّها الناسُ:
إنَّ حُسْنَ الخُلُقِ مِنَ الإيمانِ، وصِفَةٌ مِنْ صفاتِ أهلِ الإحسانِ، وحِلْيَةُ المتَّقينَ في واسِعِ الجِنانِ، كما أنَّ سُوءَ الخُلُقِ مِنْ فِعْلِ الشيطانِ، وسببٌ للانْغماسِ في النيرانِ، واعلَمُوا أنَّه ليسَ للعِلْمِ والمالِ أيَّةُ قِيمةٍ، ما لَمْ تَكْتَنِفْهُ أخلاقٌ قَوِيمَةٌ.
… فالناسُ هذا حَظُّهُ مالٌ وذا… عِلْمٌ وذاكَ مَكارِمُ الأخْلاقِ
… فإذا رُزِقْتَ خَليقةً محمودةً… فقَدِ اصطفاكَ مُقَسِّمُ الأَرزاقِ
…
أُمَّةَ الأخلاقِ:(164/7)
إنَّ اللهَ تَعالَى عظَّمَ الأخلاقَ وشرَّفَها، وأحْيا مَنارَها، ورفعَ مقامَها، فأوْلَى الناسِ برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أحفَظُهم لحقِّها، وأدْوَمُهم للعَمَلِ بما جاءَ مِنْ مَكارِمِها، واعْلَموا أنَّ حُسْنَ الخُلُقِ أجملُ ما يَتَحلَّى به الإنسانُ، وهوَ أَثْقَلُ شيءٍ في الميزانِ، وأكثرُ ما يُدْخِلُ العبدَ الجِنانَ، ولا يزالُ الإنسانُ مُتَّصِفاً بحُسْنِ الخُلُقِ، حتَّى يضعَ اللهُ له طِيبَ الذِّكْرِ في السماءِ وبينَ الخَلْقِ، عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ:سُئِلَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أكثرِ ما يُدْخِلُ الناسَ الجنَّةَ فقالَ:"تقْوَى اللهِ وحُسْنُ الخُلُقِ" [أخرجَه الترمذيُّ]، ولا يكونُ كذلِكَ إلاَّ إذا نُقِّيَتِ السَّريرَةُ، وصَلُحَتِ السِّيرَةُ، وكانَ القلبُ خالِصَ الصَّفاءِ، مليئاً للمسلمينَ بالمحبَّةِ والإخاءِ، ولا أخلاقَ لمِنْ كانَ في قلْبِهِ الشَّحْناءُ والبغْضاءُ، فإذا فَسَدَتِ القلوبُ فسَدَتِ القوالِبُ، وحَلَّتْ بالمجتمعاتِ أسْوَأُ العواقِبِ، ومِنْ حُسْنِ الخُلُقِ - عبادَ اللهِ - أنْ يكونَ العبدُ واسعَ الصَّدْرِ، مُجْتَنِباً الخِيانةَ والغَدْرَ، زَكِيَّ النَّفْسِ رحيمَ القلبِ، بعيداً عَنِ الفخْرِ والعُجْبِ، كثيرَ الحياءِ، حَسَنَ الرجاءِ، سَمْحَ المعاملةِ، طيِّبَ المجامَلةِ، طَلْقَ الوجْهِ مَليحاً، بسَّاماً فَليحاً، برّاً رحيماً، عَفّاً كريماً، وقوراً حليماً، هيِّناً ليِّناً، عَطوفاً حَنوناً، لا لعَّاناً ولا سبَّاباً، ولا نَمَّاماً ولا مُغْتاباً، ولا ظَلوماً ولا كَذوباً، ولا فاحِشاً ولا مُتَفَحِّشاً، ولا حَسوداً ولا حَقوداً، ولا قَتوراً ولا بَخيلاً، وأنْ يكونَ عَمَلُهُ للهِ مُخلَصاً، وعَنِ الرياءِ والسُّمْعةِ مُمَحَّصاً.
أيُّها المؤمنونَ:(164/8)
إنَّ هذهِ الأخلاقَ الحميدةَ، والأوصافَ الرشيدةَ، بها جاءَتِ الرسالاتُ، لِتَدعُوَ الشعوبَ إلى محامِدِ الصِّفاتِ، وتنأَى بهم عَنْ أسْوَأِ العاداتِ، وتَنْهاهُمْ عَنْ أقْبَحِ المُنْكَراتِ، فعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخلاقِ"[أخرجَه أحمدُ].
وإنَّما الأُمَمُ الأخلاقُ ما بَقِيَتْ فإنْ هُمُ ذهبَتْ أخلاقُهُمْ ذَهَبُوا
فاقْتَدُوا – أيُّها المسلمونَ – بأخلاقِ النبيِّ الكريمِ، عليه أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليمِ، وتجمَّلوا بِحُلَلِ
أصْحابِ النَّهْجِ القوِيمِ، وأصْلِحوا ما بينَكُم وبينَ اللهِ مِنَ المخافَةِ والتعظيمِ، لِتفوزوا بجنَّاتِ النعيمِ.
اللهمَّ اهدنا لأحْسَنِ الأخلاقِ لا يَهْدِي لأحْسَنِها إلاَّ أنتَ، واصْرِفْ عنَّا سيِّئَها لا يصْرِفُ عنَّا سيِّئَها إلاَّ أنتَ، اللهمَّ كما حسَّنْتَ خَلْقَنا فحَسِّنْ خُلُقَنا، اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وأَلْبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
……………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(164/9)
اطبع هذه الصحفة
وأزواجه أمهاتهم
أيُّها الإخوةُ المؤمنونَ
وسليمةُ القلبِ سَوْدَةُ بنتُ زَمْعَةَ رضِيَ اللهُ عَنْها، أوَّلُ مَنْ تزوَّجَ بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ خديجةَ، وانفردَتْ بهِ نحواً مِنْ ثلاثِ سنينَ، كانَتْ جليلةً نبيلةً، رُزِقَتْ صفاءَ السَّريرةِ، وهَبَتْ يومَها لِعائشةَ، رِعايةً لقلبِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تبتغِي رِضا ربِّها. والقَوَّامَةُ الصوَّامَةُ حَفْصَةُ بنتُ أميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الخطابِ رضِيَ اللهُ عَنْهما، نشَأَتْ في بيتِ نُصْرَةِ الديِّنِ وإظهارِ الحقِّ، سَبْعَةٌ مِنْ أهلِها شَهِدوا بدراً. والمُنْفِقَةُ زينبُ بنتُ خُزَيْمَةَ الهلالِيَّةُ رضِيَ اللهُ عَنْها، ذاتُ البَذْلِ والمسُارعَةِ إلى الخَيْراتِ، مكثَتْ عِنْدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - شهرينِ ثُمَّ تُوفِّيَتْ. والمهاجِرَةُ المُحتسِبَةُ أُمُّ حَبِيبةَ رَمْلَةُ بنتُ أبي سُفْيانَ رضِيَ اللهُ عَنْهما، ليسَ في أزواجِهِ مَنْ هِيَ أقرَبُ نَسَباً إليه مِنْها، ولا في نسائِهِ مَنْ هِيَ أكثرُ صَداقاً مِنْها، ولا فيهنَّ مَنْ تزوَّجَ بها وهِيَ نائِيَةُ الدارِ أبْعَدُ مِنْها، عقَدَ علَيْها وهِيَ في الحبشةِ، فارَّةً بدينِها، وأصْدَقَها عَنْهُ النجاشِيُّ صاحِبُ الحبشةِ - رضي الله عنه - وجهزَّها إليهِ. والصابِرَةُ الحَيِيَّةُ أُمُّ سلَمَةَ هِنْدُ بنتُ أبي أُميَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها مِنْ المهاجراتِ الأُوَلِ، ولماَّ أرادَتِ الِهجْرةَ إلى المدينةِ مَعَ زوجِها أبي سَلَمَةَ - رضي الله عنه - فرَّقَ قومُها بيْنَها وبْينَ زوجِها وطِفْلِها، قالَتْ: فكنتُ أخْرُجُ كُلَّ غَداةٍ وأجلسُ بالأبْطَحِ، فما أزالُ أبْكِي حتَّى أُمْسِيَ سنةً كاملةً أوْ قريباً مِنْها، حتَّى أشفَقوا عَلَيَّ فأعادوا إليَّ طِفْلِي، يَقيِنُها باللهِ راسِخٌ، تُوفِّيَ عَنْها زوجُها أبو سَلَمَةَ - رضي الله عنه -، فقالَتْ: دُعَاءً(165/1)
نَبَويّاً، فعوَّضَها اللهُ برسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - زَوْجاً لها.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 18 من ربيع الأول 1428 هـ الموافق 6/4/2007م
وأزواجه أمهاتهم
الحمدُ للهِ الواحدِ القهَّارِ، الرحيمِ الغفَّارِ، مُقلِّبِ القلوبِ والأبصارِ، مقدِّرِ الأَمورِ كما يشاءُ ويختارُ، أحمدُهُ سبحانَهُ وأشكرُهُ وفضلُهُ علَى مَنْ شكرَهُ مِدْرارٌ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له عالِمُ الجَهْرِ والإِسْرارِ، جعَلَ في أخْبارِ الصالحاتِ عظيمَ العِظَةِ والاعْتِبارِ، وما أسْعَدَ المؤْمِنَ حِينَ يَقْتَفِي أثَرَ مَنْ سبَقَ إلى اللهِ وسارَ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ المُصْطفَى المختارُ، والبَدْرُ جبينُهُ إذا سُرَّ استنارَ، واليَمُّ يَمِينُهُ فإذا سُئِلَ أَعْطَى عَطاءَ مَنْ لا يَخْشَى الإقْتارَ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وأزواجِهِ الأطهارِ، وأصحابِهِ السَّادَةِ الأبْرارِ، وعَلَى أتْباعِهِ إلى يومِ القَرارِ.
أمَّا بعدُ: إخوةَ الإيمانِ، فأُوصِيكم بتقْوَى اللهِ الملَِِكِ الدَّيَّانِ، فتقْوَى اللهِ ذِكْرَى لِكُلِّ أوَّابٍ، ونَجاةٌ لِلْعِبادِ مِنَ العَذابِ، حِينَ تُنْصَبُ الموازينُ ويقَعُ الحسابُ، { وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } { مريم: 72 } .
لَعَمْرُكَ ما تُغْنِي المغانِي ولا الغِنَى إذا سَكَنَ المُثْرِيُّ الثَّرَى وثَوَى بهِ
فحافِظْ علَى تَقْوَى الإلهِ وخَوْفِهِ لِتَنْجُوَ ممَّا يُتَّقَى مِنْ عِقابِهِ
معاشِرَ المسلمينَ:(165/2)
كَمْ يَسْعَدُ أهلُ الإيمانِ بالتعرُّفِ علَى أخبارِ ذَوَاتِ الفضْلِ والعِرْفانِ، مِنْ خَيْرِ نِساءٍ عِشْنَ في أفْضَلِ الأزْمانِ، ونزَلَ بالثَّناءِ علَيْهِنَّ القرآنُ فرفَعَ قَدْرَهُنَّ، وأعْلَى مكانَتَهُنَّ، { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ } { الأحزاب:32 } ، إنَّهنَّ أمهاتُ المؤمنينَ، وأزواجُ خاتَمِ المرسلينَ، زوجاتٌ مُبارَكاتٌ، ونساءٌ عظمياتٌ، أُولاهُنَّ المرأةُ العاقِلَةُ الحاذِقَةُ، ذاتُ الدِّينِ والنَّسَبِ والسابِقَةُ، خديجةُ بنتُ خُوَيْلِدٍ رضِيَ اللهُ عَنْها، نشأَتْ علَى الأخلاقِ والقِيَمِ، والتحَلِّي بالآدابِ والكرَمِ، والعِفَّةِ والنَّزاهَةِ والشَّرَفِ، كانَتْ تُدْعَى بَيْنَ نساءِ مكةَ بالطاهِرَةِ، لاحَ الإسلاُمُ في دارِها، فكانَتْ أوَّلَ مَنْ آمَنَ مِنْ هذهِ الأُمَّةِ قالَ ابنُ الأِثيرِ رحِمَهُ اللهُ: خديجةُ أوَّلُ خَلْقِ اللهِ إسلاماً بإجماعِ المسلمينَ لَمْ يتقدَّمْها رجلٌ ولا امرأةٌ، عَظُمَتِ الشدائِدُ علَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في مَطْلَعِ دعْوَتِهِ، واشتدَّ الإيذاءُ، وعظُمَ الكَرْبُ والبلاءُ، فكانَتْ له قَلْباً حانِياً، ورأْياً ثاقِباً، يَبُثُّ إليها هُمومَهُ، ويَطْرُدُ مَعَها أحزانَهُ، قالَ عَنْها المصطفَى - صلى الله عليه وسلم -:" قَدْ آمنَتْ بِي إذْ كفَرَ بِيَ الناسُ، وصَدَّقَتِنْي إذْ كذَّبَنِيَ الناسُ، وواسَتْنِي بمالِها إذْ حَرَمَنِيَ الناسُ، ورزَقَنِي اللهُ عزَّ وجلَّ ولَدَها إذْ حَرَمَنِي أولادَ النساءِ"[أخرجَهُ أحمدُ مِنْ حديثِ عائشةَ رضِيَ اللهُ عَنْها]، وكانَتْ عَظيمةً بارَّةً بزوْجِها، جميعُ أولادِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْها سِوَى إبراهيمَ، أدبهُا رَفيعٌ وخُلُقُها جَمٌّ، لَمْ تُراجِعِ المصطفَى - صلى الله عليه وسلم - يوماً في كلامٍ، ولَمْ تُؤْذِهِ في خِصامٍ، يقولُ النبيُّ - صلى الله(165/3)
عليه وسلم -:"أتانِي جبريلُ فقالَ: بَشِّرْها ببيتٍ في الجنَّةِ مِنْ قَصَبٍ- لُؤلُؤٍ مُجوَّفٍ- لا صَخَبَ فيهِ ولا نَصَبَ"[متفقٌ عليهِ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -]، قالَ السُّهَيْلِيُّ رحِمَهُ اللهُ: إنَّما بشَّرَها ببيتٍ في الجنَّةِ لأنَّها لَمْ ترفَعْ صَوْتَها علَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولَمْ تُتْعِبْهُ يوماً مِنَ الدَّهْرِ، فلمْ تَصْخَبْ عليهِ يوماً، ولا آذَتْهُ أبداً، كانَتْ راضِيَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ رَبِّها، يقولُ - صلى الله عليه وسلم -:" قالَ لي جبريلُ: إذا أتَتْكَ خديجةُ فاقْرَأْ عليها السلامَ مِنْ ربِّهاومِنِّي"[متفقٌ عليهِ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -]، قالَ ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللهُ: وهِيَ فضيلةٌ لا تُعْرَفُ لامرأةٍ سِوَاها.(165/4)
واعْلَموا أنَّ مِنْ أزواجِ خيرِ الأنامِ ـ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ـ مَنْ وُلِدَتْ في بَيْتِ التُّقَى والتَّصْدِيقِ، عائشةَ بنتَ أبي بكرٍ الصدِّيقِ رضِيَ اللهُ عَنْهما، تَرَعْرَعَتْ في بَيْتِ عِلْمٍ، مَنَحَها اللهُ ذَكاءً مُتَدَفِّقاً، وحِفْظاً ثاقِباً، قالَ ابنُ كثيرٍ رحمَهُ اللهُ: لَمْ يكنْ في الأُمَمِ مِثْلُُ عائشةَ في حِفْظِها وعِلْمِها وفَصاحَتِها وعَقْلِها، رُزِقَتْ في الفِقْهِ فَهْماً، وفي الشِّعْرِ حِفْظاً، وكانَتْ لعلومِ الشريعةِ وِعاءً، يقولُ الذَّهَبِيُّ رحمَهُ اللهُ: أفْقَهُ نساءِ الأُمَّةِ علَى الإطلاقِ، ولا أعْلَمُ في أُمَّةِ محمدٍ بَلْ ولا في النساءِ مطلقاً امرأةً أعْلَمَ مِنْها. سَمَتْ علَى النساءِ بفضائِلِها وجَميلِ عِشْرَتِها، يقولُ المصطفَى - صلى الله عليه وسلم -:"فَضْلُ عائشةَ علَى النساءِ كفَضْلِ الثَّريدِ علَى سائِرِ الطعامِ"[متفقٌ عليه مِنْ حديثِ أنسٍ - رضي الله عنه -]، واعْلَموا أنَّ اللهَ يَبْتَلِي مَنْ يُحِبُّ، والابتلاءُ علَى قَدْرِ الإيمانِ في القلْبِ، بُهِتَتْ بالإفْكِ المبُينِ وعُمْرُها اثنا عشَرَ عاماً، قالَتْ: فبكَيْتُ حتىَّ لا أكْتَحِلَ بنومٍ، ولا يَرْقَأَ لي دَمْعٌ، حتَّى ظَنَّ أبوايَ أنَّ البكاءَ فالِقٌ كَبدِي. واشتَدَّ بها البلاءُ حتَّى قَلَصَ دَمْعُها، فلا تَحُسُّ مِنْه قَطْرةً، قالَ ابنُ كثيرٍ رحمَهُ اللهُ: فغارَ اللهُ لها، وأنزلَ براءَتَها في عَشْرِ آياتٍ تُتْلَى علَى الزَّمانِ، فسَما ذِكْرُها، وعَلا شأْنُها، لِتسمَعَ عفافَها وهيَ في صِباها، فشهِدَ لها بأنَّها مِنَ الطيِّباتِ، ووعَدَها بمغفرةٍ ورزقٍ كريمٍ. لَمْ تَزلْ ساهِرَةً علَى نبيِّنا، تُمَرِّضُهُ وتقومُ بخِدْمَتِهِ، حتَّى تُوُفِّيَ في بيتِها وليلَتِها، وبينَ سَحْرِها ونَحْرِها.
أيُّها الإخوةُ المؤمنونَ:(165/5)
وسليمةُ القلبِ سَوْدَةُ بنتُ زَمْعَةَ رضِيَ اللهُ عَنْها، أوَّلُ مَنْ تزوَّجَ بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ خديجةَ، وانفردَتْ بهِ نحواً مِنْ ثلاثِ سنينَ، كانَتْ جليلةً نبيلةً، رُزِقَتْ صفاءَ السَّريرةِ، وهَبَتْ يومَها لِعائشةَ، رِعايةً لقلبِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تبتغِي رِضا ربِّها. والقَوَّامَةُ الصوَّامَةُ حَفْصَةُ بنتُ أميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الخطابِ رضِيَ اللهُ عَنْهما، نشَأَتْ في بيتِ نُصْرَةِ الديِّنِ وإظهارِ الحقِّ، سَبْعَةٌ مِنْ أهلِها شَهِدوا بدراً. والمُنْفِقَةُ زينبُ بنتُ خُزَيْمَةَ الهلالِيَّةُ رضِيَ اللهُ عَنْها، ذاتُ البَذْلِ والمسُارعَةِ إلى الخَيْراتِ، مكثَتْ عِنْدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - شهرينِ ثُمَّ تُوفِّيَتْ. والمهاجِرَةُ المُحتسِبَةُ أُمُّ حَبِيبةَ رَمْلَةُ بنتُ أبي سُفْيانَ رضِيَ اللهُ عَنْهما، ليسَ في أزواجِهِ مَنْ هِيَ أقرَبُ نَسَباً إليه مِنْها، ولا في نسائِهِ مَنْ هِيَ أكثرُ صَداقاً مِنْها، ولا فيهنَّ مَنْ تزوَّجَ بها وهِيَ نائِيَةُ الدارِ أبْعَدُ مِنْها، عقَدَ علَيْها وهِيَ في الحبشةِ، فارَّةً بدينِها، وأصْدَقَها عَنْهُ النجاشِيُّ صاحِبُ الحبشةِ - رضي الله عنه - وجهزَّها إليهِ. والصابِرَةُ الحَيِيَّةُ أُمُّ سلَمَةَ هِنْدُ بنتُ أبي أُميَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها مِنْ المهاجراتِ الأُوَلِ، ولماَّ أرادَتِ الِهجْرةَ إلى المدينةِ مَعَ زوجِها أبي سَلَمَةَ - رضي الله عنه - فرَّقَ قومُها بيْنَها وبْينَ زوجِها وطِفْلِها، قالَتْ: فكنتُ أخْرُجُ كُلَّ غَداةٍ وأجلسُ بالأبْطَحِ، فما أزالُ أبْكِي حتَّى أُمْسِيَ سنةً كاملةً أوْ قريباً مِنْها، حتَّى أشفَقوا عَلَيَّ فأعادوا إليَّ طِفْلِي، يَقيِنُها باللهِ راسِخٌ، تُوفِّيَ عَنْها زوجُها أبو سَلَمَةَ - رضي الله عنه -، فقالَتْ: دُعَاءً نَبَويّاً، فعوَّضَها اللهُ برسولِهِ - صلى الله عليه وسلم(165/6)
- زَوْجاً لها.
وأُمُّ المساكينِ زينبُ بنتُ جَحْشٍ رضِيَ اللهُ عَنْها بنتُ عَمَّةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، زوَّجَها اللهُ نبيَّهُ بنَصِّ كتابِهِ، بلا وَلِيٍّ ولا شاهدٍ، { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } { الأحزاب:37 } ، تقولُ عائشةُ رضِيَ اللهُ عَنْها:" فكانَتْ زينبُ تَفْخَرُ علَى أزواجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تقولُ: زوَّجَكُنَّ أهالِيكُنَّ، وزوَّجَنِيَ اللهُ تعالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَواتٍ"[أخرجَه البخاريُّ]، كانَ زواجُها بَرَكَةً علَى المسلماتِ إلى قيامِ الساعةِ، إذْ فُرِضَ الحجابُ بعدَ أنْ تزوَّجَها، ليكونَ صِيانَةً للشَّرَفِ والعفافِ والنَّقاءِ، تقولُ عائشةُ ـ رضِيَ اللهُ عَنْها ـ في وَصْفِها: "مارأيتُ امرأةً خيراً في الدِّينِ مِنْ زينبَ، أتْقَى للهِ وأصدقَ حديثاً وأوْصَلَ للرَّحِمِ وأعظمَ صدَقَةً". والعابِدَةُ جُوَيْرِيَةُ بنتُ الحارِثِ - رضِيَ اللهُ عَنْها - مِنْ بَنِي المُصْطَلِقِ، أبوها سَيِِّدٌ مُطاعٌ في قومِهِ، وهِيَ مُباركَةٌ في نَفْسِها وعلَى أهْلِها، تقولُ عائشةُ عَنْها: ما رأيتُ امرأةً كانَتْ أعظمَ بركةً علَى قَوْمِها مِنْها، كثيرةَ التعبُّدِ لربِّها، قانتةً لموْلاها، كانَتْ تجلسُ في مُصَلاَّها تذكرُ اللهَ إلى نصفِ النهارِ، فعَنْها ـ رضِيَ اللهُ عَنْها ـ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرجَ مِنْ عِنْدِها بُكْرَةً حِينَ صلَّى الصبحَ، وهيَ في مسجدِها، ثُمَّ رجَعَ بعدَ أنْ أضْحَى، وهِيَ جالسةٌ فقالَ:"مازِلْتِ علَى الحالِ التي فارقْتُكِ عَلَيْها؟"، قالَتْ نَعَمْ. [أخرجَه مسلمٌ].
أتباعَ خاتَمِ المرسلينَ:(165/7)
والوجِيهَةُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ رضِيَ اللهُ عَنْها مِنْ ذُريَّةِ هارونَ عليهِ السلامُ، كانَتْ شريفةً عاقِلَةً ذاتَ مكانةٍ ودِينٍ، وحِلْمٍ وَوَقارٍ، قالَ لها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "وإنَّكِ لابْنَةُ نَبِيٍّ، وإنَّ عَمَّكِ لَنبيٌّ، وإنَّكَ لتَحْتَ نبيٍّ"[أخرجَهُ الترمذيُّ]، كانَتْ وليمةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَليْها في زواجِها السَّمْنَ والأَقِطَ والتمرَ، فكانَ زَواجاً مُيَسَّراً مُبارَكاً. وواصِلَةُ الرَّحِمِ أُمُّ المؤمنينَ، مَيْمُونَةُ بنتُ الحارِثِ الهلاليَّةُ رضِيَ اللهُ عَنْها، مِنْ عُظماءِ النساءِ، مَنَحَها اللهُ صفاءَ القلبِ، ونقاءَ السَّرِيرةِ وملازَمَةَ العِبادَةِ، تقولُ عائشةُ رضَِي اللهُ عَنْها: أمَا إنَّها كانَتْ مِنْ أتقانا للهِ وأوْصَلنِا للرَّحِمِ, يقولُ سبحانَه: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } { الأحزاب: 6 } .
فَلوْ كانَ النساءُ كمَنْ ذُكِرْنَ لَفُضِّلَتِ النساءُ علَى الرجالِ
وما التأنيثُ لاسمِ الشمسِ عَيْبٌ وما التذكيرُ فَخْرٌ للهلالِ
أقولُ ما سمعتُمْ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الأوَّلِ بلا ابتداءٍ، والآخِرِ بلا انتهاءٍ، والحيِّ القيومِ بلا فَناءٍ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له فاطِرُ الأرضِ والسماءِ، وأشهدُ أنَّ نبَّينا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ خاتَمُ الرُّسلِ والأنبياءِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِه وأزواجِهِ وأصحابِهِ الأتقْيِاءِ، وعلَى مَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الجزاءِ.
أمَّا بعدُ:
فاتقوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وتَأَسَّوْا بمَنْ سبَقَكُم ومضَى إلى اللهِ، فما أجمَلَ الأخبارَ والقَصَصَ والسِّيَرَ، حِينَ يكونُ المقصودُ مِنْها أخذَ العِظاتِ والعِبَرِ.(165/8)
معشَرَ الفُضَلاءِ: إنَّ زوجاتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عِشْنَ في بيتٍ مُتَواضِعٍ، في حُجُراتٍ بُنِيَتْ مِنَ اللَّبِنِ وسَعَفِ النخلِ، ولكنَّهُ مُلِئَ بالإيمانِ والتقْوَى، صَبَرْنَ معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - علَى ضِيقِ العَيْشِ، كانَ يأتِي عَلَيْهِنَّ الشهرُ والشهرانِ، وما يُوقَدُ في بيوتهِنَّ نارٌ، وتأتي أيَّامٌ وليس في بيوتهِنَّ سِوَى تمرةٍ واحدةٍ، وَيُمُّر زمَنٌ مِنَ الدَّهْرِ وليسَ فيهِ سِوَى الماءِ، إنَّها القَناعَةُ في العَيْشِ، والصَّبْرُ علَى مَوْعودِ اللهِ، { وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } { الأعلى: 17 } ، خَمْسٌ مِنْهُنَّ تَزوَّجَهُنَّ وأعمارُهُنَّ ما بَيْنَ الأربعينَ و الستينَ عاماً، حَقَّقَ بذلكَ رِعايةَ الأرامِلِ وكَفالَةَ صِبْيَانِهنَّ الأيتامِ، تَزَوَّجهنَّ مِنَ الأقارِبِ مِنْ بناتِ عَمِّهِ وعَمَّاتِهِ، وتزوَّجَ مِنَ الأباعِدِ، وكانَ لَهنَّ زوْجاً رحيماً، برّاً كريماً، جَميلَ العِشْرَةِ معَهُنَّ، فمَنْ طلبَ السعادةَ فَلْيَجْعَلْ خيرَ البَّشَرِ قُدْوَةً له، ثُمَّ صَلُّوا وسَلِّموا- رحمَكُمُ اللهُ- علَى الهادِي البشيرِ، والسِّراجِ المنُيرِ، كما أمرَ بذلِكُمُ اللطيفُ الخبيرُ فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب:56 } .اللهمَّ صَلِّ وسلِّمْ وبارِكْ علَى محمدٍ وعلَى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ الطيِّبينَ الطاهِرينَ، وعلَى أتباعِهِ إلى يومِ الدَّينِ، اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الكفرَ والكافِرينَ، وأزْهِقِ النِّفاقَ والمنافِقينَ يا قَوِيُّ يا مَتِينُ، اللهمَّ أصْلِحْ أحْوالَ أُمَّةِ خيرِ المُرْسلينَ في كُلِّ مكانٍ، اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما(165/9)
بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ.
لجنة الخطبة المذاعة و الموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(165/10)
اطبع هذه الصحفة
العدل في الإسلام
إخوةَ الإسلامِ والإيمانِ
وإنَّ مِنْ أكثرِ العِدْلِ نَفْعاً، وأعظَمِهِ أثَراً ووَقْعاً: عَدْلَ السُّلْطانِ، إذِ الناسُ تَنْزَجِرُ بالسلطانِ مالا تَنْزَجِرُ بالقرآنِ، فالحاكِمُ الذيِ يَقْسِمُ بالسَّوِيَّةِ، ويَعْدِلُ في القَضِيَّةِ، ويُشْفِقُ علَى الرعِيَّةِ، ويُرْسِي دعائِمَ الحَقِّ والعَدْلِ والمساواةِ؛ أثَرُهُ عظيمٌ في إقامَةِ دِينِهِ، ونُصْرَةِ أُمَّتِهِ، ورِفْعَةِ شَعْبِهِ، مِنْ أجْلِ ذلكَ كانَ أوَّلَ السَّبْعَةِ الذينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ، كمَا رَوَى أبو هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"سبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ: إمامٌ عادِلٌ" [أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 25 ربيع الأول 1428هـ الموافق 13/4/2007م
العدل في الإسلام
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الرحمنِ الرحيمِ مالكِ يومِ الدينِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له القائلُ في كتابِهِ المبين: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } { الأنبياء:47 } ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ الأمينُ، أرسلَهُ ربُّه رحمةً للعالَمينَ، وقُدْوَةً لِلْعَامِلِينَ، فقوَّمَ اعْوِجاجَ الدنيا بعَدْلِ الدِّينِ، فصلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ والتابِعينَ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ:(166/1)
فأُوصِيكمْ أيُّها الناسُ ونفسِي بتقْوَى الموْلَى، فإنَّ أوْثَقَ العُرَى كلمةُ التقْوَى، وأحذِّرُكم وإيَّاها مِنَ المعاصِي فإنَّ أجسادَنا عَلَى النارِ لا تَقْوَى، وإيَّاكُمْ ومُحْدَثاتِ الأُمورِ، فإنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ،وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وكُلَّ ضَلالةٍ في النَّارِ.
معْشَرَ المؤمنينَ الأخْيارِ:
لقَدْ تَواطَأَتِ الشرائِعُ السماوِيَّةُ، واتفَقَتِ الفِطَرُ السَّوِيَّةُ، وتوافَقَتِ العقولُ الحكيمةُ، والنفوسُ المستقيمةُ علَى أنَّ العَدْلَ تاجُ الأُمَمِ، وبانِي أمجادِها، وأنَّهُ نِظامُ الحياةِ، وأساسُ المُلْكِ، وهوَ مِيزانُ الحقِّ، فلا دِينَ بلا عَدْلٍ، ولا دَوْلَةَ بلا عَدَالَةٍ، ولا نِظامَ بلا عُدولٍ، إنَّه أُمْنِيَّةُ البشَرِيَّةِ وغايَةُ الرسالاتِ الإلهِيَّةِ؛ كما قالَ ربُّ البرِيَّةِ: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } { الحديد: 25 } .(166/2)
وإنَّ العدْلَ لَمفْخَرَةٌ مِنْ مفاخِرِ الإسلامِ، وتاجُ عِزَّةِ هذِهِ الأُمَّةِ علَى الأنامِ، فقَدْ وَسِعَ الأقْرِباءَ والغُرَباءَ، والأَقْوِياءَ والضُّعَفاءَ، والأصدِقاءَ والأعداءَ، والمرؤوسينَ والرؤساءَ، فحَقَّ لأهْلِ الإسلامِ أنْ يَفْخَروا بِعدْلِ دِينِهم، وإنصافِ أئِمَّتِهمْ. رَوَتْ عائشةُ رضِيَ اللهُ عَنْها أنَّ قريشاً أهَمَّهُمْ شَأْنُ المرأةِ المخزومِيَّةِ التي سَرَقَتْ، فقالوا: مَنْ يُكَلِّمُ فيها رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقالوا: ومِنْ يجْتَرِىءُ عليهِ إلاَّ أُسامَةُ بنُ زيدٍ حِبُّ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَأُتِيَ بها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فكلَّمَهُ فيها أُسامَةُ بنُ زيدٍ فَتلَوَّنَ وَجْهُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "أتشْفَعُ في حَدٍّ مِنْ حدودِ اللهِ؟"فقالَ أُسامَةُ: استَغْفِرْ لي يا رسولَ اللهِ. فلمَّا كانَ العَشِيُّ قامَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فاخْتَطَبَ فأثْنَى علَى اللهِ بما هوَ أهْلُهُ ثُمَّ قالَ:" أمَّا بعدُ فإنَّما أهلَكَ الذينَ مِنْ قَبْلِكمْ أنَّهم كانُوا إذا سَرَقَ فيهمُ الشريفُ تَرَكُوهُ، وإذا سَرَقَ فِيهمُ الضعيفُ أقامُوا عليهِ الحَدَّ، وإنِّي والذي نَفْسِي بيَدِهِ لَوْ أنَّ فاطمةَ بنْتَ محمدٍ سَرَقَتْ لقَطَعْتُ يَدَها" ثُمَّ أمَرَ بتلكَ المرأةِ التِي
سرقت فقُطِعَتْ يَدُها".[أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ واللفظُ له].(166/3)
فانْظُروا إلى العَدْلِ الذي لا يُجَامَلُ فيهِ قَوِيٌّ ولا نَسِيبٌ، ولا يُحابَى فيهِ بَعيدٌ أوْ قريبٌ. ولمَّا تَوَلَّى أبو بكرٍ الصدِّيقُ - رضي الله عنه - الخلافَةَ بعدَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أعْلَنَها مُدَوِّيَةً حِينَ قالَ وهوَ يخاطِبُ المسلمينَ: أَلا إنَّ أقْواكُمْ عِنْدِي الضعيفُ حتَّى آخُذَ الحقَّ له، وأضعفَكُمْ عِنْدَي القوِيُّ حتَّى آخُذَ الحَقَّ مِنْه. وللهِ درُّ عمرَ الفاروقِ - رضي الله عنه - حِينَما أرسَلَ إلى أبي موسَى الأشعريِّ - رضي الله عنه - يقولُ له: سَوِّ بينَ الناسِ في وَجْهِكَ وعَدْلِكَ ومَجْلِسِكَ؛ حتَّى لا يَطْمَعَ شَريفٌ في حَيْفِكَ، ولا يَيْأَسَ ضعيفٌ مِنْ عَدْلِكَ.
عِبادَ اللهِ:
وهلْ نالَتْ هذهِ الأُمَّةُ شرَفَ الرِّيادَةِ والسِّيادَةِ، وحَظِيَتْ بكَوْنِها خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ إلاَّ بالعَدْلِ والعادِِلِينَ، حِينَ عَدَلَتْ في كُلِّ شئٍ، وأوَّلُهُ وأهَمُّهُ، وأوْجَبُهُ وأقْوَمُهُ: توحيدُ اللهِ، فأقامَتِ التوحيدَ، وأخْلَصَتِ العِبادَةَ للعزيزِ الحميدِ.
ولقَدْ أمرَ اللهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ المسلمينَ بإقامَةِ العَدْلِ وأداءِ الأمانَةِ والحُكْمِ بيْنَ الناسِ بالقِسْطاسِ المستقيمِ فسَمِعُوا وأطاعُوا. قالَ اللهُ تعالَى: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } { النساء:58 } ، وإنَّما يخالِطُ العَدْلُ شَغَافَ القلوبِ، ويُرْضِي عَلاَّمَ الغيوبِ؛ إذا كانَ أوَّلاً عَلَى النَّفْسِ والوالِدَيْنِ والأَقْرَبينَ، كمَا قالَ ربُّ العالمينَ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ } { النساء:135 } .
إخوةَ الإسلامِ والإيمانِ:(166/4)
وإنَّ مِنْ أكثرِ العِدْلِ نَفْعاً، وأعظَمِهِ أثَراً ووَقْعاً: عَدْلَ السُّلْطانِ، إذِ الناسُ تَنْزَجِرُ بالسلطانِ مالا تَنْزَجِرُ بالقرآنِ، فالحاكِمُ الذيِ يَقْسِمُ بالسَّوِيَّةِ، ويَعْدِلُ في القَضِيَّةِ، ويُشْفِقُ علَى الرعِيَّةِ، ويُرْسِي دعائِمَ الحَقِّ والعَدْلِ والمساواةِ؛ أثَرُهُ عظيمٌ في إقامَةِ دِينِهِ، ونُصْرَةِ أُمَّتِهِ، ورِفْعَةِ شَعْبِهِ، مِنْ أجْلِ ذلكَ كانَ أوَّلَ السَّبْعَةِ الذينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ، كمَا رَوَى أبو هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"سبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ: إمامٌ عادِلٌ" [أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ].
ولقَدْ أحسَنَ مَنْ قالَ:
……عليكَ بالعَدْلِ إنْ وُليِّتَ مَمْلَكَةً واحْذَرْ مِنَ الجَوْرِ فيها غايَةَ الحَذَر ِ
……فالمُلْكُ يَبْقَى علَى عَدْلِ الكَفُورِ ولا يَبْقَى مَعَ الجَوْرِ في بَدْوٍ ولا حَضَرِ(166/5)
ومِنَ العَدْلِ المطلوبِ العَدْلُ بَيْنَ الزوجاتِ والعَدْلُ بينَ الأولادِ فهوَ واجِبٌ شَرْعِيٌ، وحَقٌّ مَرْعِيٌّ؛ فأمَّا الذي بينَ الزوجاتِ فيكونُ في النَّفقَةِ والكِسْوَةِ والمَبِيتِ. فقَدْ رُوِيَ عَنْ أُمِّنا عائشةَ رضِيَ اللهُ عَنْها أنَّها قالَتْ:كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْسِمُ فيَعْدِلُ ويقولُ:" اللهمَّ هَذا قَسْمِي فيمْا أمْلِكُ، فلا تَلُمْنِي فيما تَمْلِكُ ولا أَمْلِكُ"يَعْنِي: مَيْلَ القَلْبِ [ أخرجَهُ أحمدُ وأصحابُ السُّنَنِ]، ولمَّا كانَ الظُّلْمُ يَكْسِرُ النفوسَ، ويجرَحُ المشاعِرَ، ويُثيرُ الأحقادَ والعَدَاوَاتِ بينَ الأزواجِ فقَدْ حذَّرَ مِنْهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تحذيراً شديداً إذْ روَى أبو هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:" مَنْ كانَتْ له امرأتانِ فمالَ إلى إِحْدَاهُما جاءَ يومَ القِيامَةِ وشِقُّهُ مائِلٌ"أيْ ساقِطٌ"[أخرجَهُ أحمدُ وأبو داودَ].(166/6)
وأمَّا العَدْلُ الذي بينَ الأولادِ فعَلَى الوالِدِِ أنْ يعْدِلَ بينَ أولادِهِ، فلا يُفَضِّلُ أحَداً مِنْهم علَى أحَدٍ، بَلْ يُسَوِّي بينَهم في الهَدِيَّةِ والعَطِيَّةِ، والابتِسامَةِ والمعامَلَةِ ؛ لِكَيْ تَصْفُوَ قُلوبُهم، وتَسْلَمَ نُفوسُهم، ولِئَلا يُؤدِّيَ التَفْضِيلُ إلى وُقوعِ المظالِمِ، وقَطْعِ الأرْحامِ. فعَنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما قال: تصدَّقَ عَلَيَّ أبِي بِبَعْضِ مالِهِ، فقالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بنتُ رَوَاحَةَ: لا أرْضَى حتَّى تُشْهِدَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فانطلَقَ أبِي إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِيُشْهِدَهُ علَى صَدَقَتِي، فقالَ له رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" أفَعَلْتَ هذا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟" قالَ:لا. قالَ:" اتَّقُوا اللهَ واعْدلِوا في أولادِكمْ " فرجَعَ أبِي فرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ [أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ واللفظُ له].
بارَكَ اللهُ لي ولكم في كتابِهِ المبينِ، ونفَعَنا جَمِيعاً بَهَدْيِ سَيِّدِ المرسلينَ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكمْ ولسائِرِ المسلمينَ؛ فاستغروهُ إنَّه هوَ خيرُ الغافرينَ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذي أقامَ بِعدْلِهِ السماواتِ والأَرضِينَ، أحمدُ ربِّي حمْداً كثيراً طيِّباً مُبارَكاً فيهِ وهوَ أحْكَمُ الحاكِمينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شريكَ له، المَلِكُ الحَقُّ المبينُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ المبعوثُ إلى الثَّقَلَيْنِ بالعَدْلِ والنورِ واليَقينِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحْبِهِ والتابعينَ، وعلَى مَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يومٍ تُنْصَبُ فيهِ الموازِينُ.(166/7)
أمَّا بعدُ: فاتَّقُوا اللهَ ـ عِبادَ اللهِ ـ وأطِيعُوهُ، واستَجِيبُوا لأمْرِهِ واعْبُدُوهُ، وأقِيمُوا العَدْلَ قَوْلاً وعَمَلاً، واحْذَرُوا الظُّلْمَ كَسْباً وفِعْلاً.
إخوةَ العقيدةِ:
إنَّ ظِلالَ عَدْلِ الإسلامِ الوارِفَةَ لَتَمْتَدُّ حتَّى يَنْضَوِيَ تَحْتَها الإنْسُ والجَانُّ، ودائِرَتَهُ تَتَّسِعُ لِتَشْمَلَ المسلمَ والكافِرَ، والبَرَّ والفاجِرَ، وهلْ سادَتْ حضَارَةُ الإسلامِ والمسلمينَ إلاَّ بالعَدْلِ والإنْصافِ، والبُعْدِ عَنِ الظُّلْمِ والإجْحافِ؟ قالَ اللهُ جلَّ شَأْنُه: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } { المائدة:8 } .
وفي القضاءِ ضُرِبَتْ أرْوَعُ الأَمْثِلَةِ في العَدْلِ والإنْصافِ، إذْ شَمِلَ البعيدَ والقريبَ، والقَوِيَّ
والضعيفَ، والغَنِيَّ والفقيرَ، صِدْقٌ في المَبْدَأِ، ونَزَاهَةٌ في الحُكْمِ، وإِخْلاصٌ في العَقيدَةِ، جَعَلَ القضاءَ(166/8)
في الإسلامِ مَضْرِبَ المَثَلِ ومُبْتَغَى المظلومِينَ، فَقَدْ جَعَلوا نُصْبَ أعْيُنِهم قَوْلَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:" القضاةُ ثلاثَةٌ: واحِدٌ في الجنَّةِ، واثنانِ في النَّارِ، فأمَّا الذي في الجنَّةِ فرجُلٌ عرَفَ الحَقَّ فقَضَى بهِ، ورجُلٌ عرَفَ الحَقَّ فجارَ في الحُكْمِ فهوَ في النَّارِ، ورجُلٌ قضَى للناسِ علَى جَهَلٍ فهوَ في النارِ"[أخرجَهُ أبو داودَ مِنْ حديثِ بُرَيْدَةَ بنِ الحُصَيْبِ - رضي الله عنه -]. فرَغِبُوا في العَدْلِ وأقامُوهُ، ورَهِبُوا الظُّلْمَ واجْتَنَبُوهُ. وقَدْ أمرَ ربُّنا ـ جلَّ جلالُهُ ـ بالعَدْلِ والإقْساطِ بينَ المؤمنينَ فقالَ عَزَّ مِنْ قائلٍ: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } { الحجرات:9 } .
فَلِلَّهِ دَرُّ العَدْلِ في الإسلامِ، كَمْ أنْصَفَ مِنْ أقْوامٍ، وأحْيا مِنْ أنامٍ! وجَبَرَ مِنْ ضَعْفٍ، وحَدَّ مِنْ عُنْفٍ، ورَدَّ مِنْ حُقُوقٍ، وسَدَّ مِنْ فُتُوقٍ!عَدْلٌ في الأقْوالِ والأفْعَالِ، وعَدْلٌ في الأبْدانِ والأمْوالِ، انْتَظَمَ الأبْعَدِينَ والأقْرَبِينَ، وأنْصَفَ المظلومِينَ مِنَ الظَّالمِينَ، وقَرَّتْ بهِ عُيونُ المؤمنينَ، ويا بُشْرَى العادِلِينَ علَى لسانِ سَيِّدِ المرسلينَ - صلى الله عليه وسلم - إذْ قالَ:"إنَّ المُقْسِطينَ عِنْدَ اللهِ علَى مَنابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمينِ الرحمنِ ـ عزَّ وجلَّ ـ وَكِلْتا يَدَيْهِ يَمينٌ، الذينَ يَعْدِلونَ في حُكْمِهمْ وأهْلِيهِمْ وما وَلُوا " أيْ مِنْ وِلايَةٍ عامَّةٍ أوْ خاصَّةٍ" [أخرجَهُ مسلمٌ مِنْ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رضِيَ اللهُ عَنْهما].(166/9)
ثَمَّ صَلُّوا وسَلِّمُوا ـ رَحمَكُمُ اللهُ ـ علَى خَيْرِ مَنْ وَطِئَتْ قَدَماهُ الثَّرَى، وسَيِّدِ الخَلْقِ والوَرَى، اللهمَّ صلِّ علَى نبيِّنا محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ؛ كمَا صلَّيْتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ علَى محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ؛ كمَا بارَكْتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ .
اللهمَّ إنَّا نسألُكَ مُوجِباتِ رحْمَتِكَ، وعَزائِمَ مَغْفِِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثْمٍ، والغنيمةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، والفَوْزَ بالجنَّةِ والنَّجاةَ مِنَ النارِ، يا عزيزُ يا غفَّارُ، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ والعَدْلِ في الرِّضا والغَضَبِ؛ في الأقْوَالِ والأفْعالِ، اللهمَّ اغْفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمْواتِ، اللهمَّ وَفِّقْ أميرَنا ووَلِيَّ عَهْدِهِ لهُدَاكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، وألْبِسْهما لِباسَ العافِيَةِ والإيمانِ، وخُذْ بِنَوَاصِيهما إلى البِرِّ والتقْوَى، واجعلْ هَذا البَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنّاً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ.
عِبادَ اللهِ:
{ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } { النحل:90 } .
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(166/10)
اطبع هذه الصحفة
من ترك شيئاً لله
مَعشَرَ المسلمينَ والمسلماتِ
إنَّ العاقِلَ الذي يَلْمَحُ المآلاتِ ويُراقِبُ، ويعمَلُ بمقتَضَى المصالِحِ والعواقِبِ: هوَ الذي يُقاوِمُ الهوَى فَيَرُدُّ جيشَهُ مَفْلولاً، ويستعينُ بالصبرِ حتَّى يظْفرَ علَى نفسِهِ الأمارةِ بالسُّوءِ بعْدَ أنْ كانَ بسهامِها مَقْتولاً، ويشُدُّ أزْرَ العزْمِ لِيَسْتَوِيَ علَى سُوقِهِ علَى التحقيقِ، وَيَلْبَسُ لَأْمَةَ الحزْمِ حتَّى يحْظَى مِنَ اللهِ تعالَى بالتوفيقِ، فحينئذٍ يَستجْلِبُ ما يَزِينُ، ويَنْفِي ما يَشِينُ، ويأتَمِرُ بالفضائِلِ، وينْزَجِرُ عَنِ الرذائِلِ، فإذا اقترَبَ مِنْ هذا العاقِلِ جنودُ الهوَى ودَنَوْا مِنْه: فإنَّه يأْسِرُهم في حَبْسِ"مَنْ ترَكَ شيئاً للهِ عَوَّضَهُ اللهُ خيراً مِنْه".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 3 من ربيع الآخر 1428هـ الموافق 20/4/ 2007م
من ترك شيئاً لله
الحمدُ للهِ الذي أعاضَ مَنْ تَركَ محارِمَهُ وجعلَ له بَدَلاً، أحمدُ ربِّي حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيهِ لا أبغِي عَنْ شُكْرِ نِعَمِهِ حِوَلاً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له خلَقَ الموتَ والحياةَ لِيَبْلُوَ عِبادَهُ أيُّهمْ أحسَنُ عَمَلاً، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمداً المرسَلُ بالهُدَى ودينِ الحقِّ لِئلا يُتْرَكَ الخَلْقُ هَمَلاً، فصلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِه وأزواجِهِ وأصحابِهِ الذين اتبَّعوا صِراطَ اللهِ المستقيمَ ولم يتَّبِعوا سِواهُ سُبَلاً.
أمَّا بعدُ:
فأُوصِيكُمْ مَعْشَرَ الوَرَى: بتقْوَى الوَليِّ الموْلَى، فتزوَّدوا بها لأُخْراكم { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَاب ِ } { البقرة: 197 } .
مَعشَرَ المسلمينَ والمسلماتِ:(167/1)
إنَّ العاقِلَ الذي يَلْمَحُ المآلاتِ ويُراقِبُ، ويعمَلُ بمقتَضَى المصالِحِ والعواقِبِ: هوَ الذي يُقاوِمُ الهوَى فَيَرُدُّ جيشَهُ مَفْلولاً، ويستعينُ بالصبرِ حتَّى يظْفرَ علَى نفسِهِ الأمارةِ بالسُّوءِ بعْدَ أنْ كانَ بسهامِها مَقْتولاً، ويشُدُّ أزْرَ العزْمِ لِيَسْتَوِيَ علَى سُوقِهِ علَى التحقيقِ، وَيَلْبَسُ لَأْمَةَ الحزْمِ حتَّى يحْظَى مِنَ اللهِ تعالَى بالتوفيقِ، فحينئذٍ يَستجْلِبُ ما يَزِينُ، ويَنْفِي ما يَشِينُ، ويأتَمِرُ بالفضائِلِ، وينْزَجِرُ عَنِ الرذائِلِ، فإذا اقترَبَ مِنْ هذا العاقِلِ جنودُ الهوَى ودَنَوْا مِنْه: فإنَّه يأْسِرُهم في حَبْسِ"مَنْ ترَكَ شيئاً للهِ عَوَّضَهُ اللهُ خيراً مِنْه".
قالَ أميرُ المؤمنينَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنه -: "واللهِ؛ لقَدْ سبَقَ إلى جنَّاتِ عَدْنٍ أقوامٌ، ما كانوا بأكثرِ الناسِ صَلاةً ولا صِياماً ولا حَجّاً ولا اعْتِماراً، ولكنَّهم عَقَلوا عَنِ اللهِ مَواعِظَهُ، فَوَجِلَتْ قُلوبُهم، واطمأَنَّتْ إليهِ النفوسُ، وخَشَعَتْ مِنْهُمُ الجوارِحُ، فَفاقُوا الخَلِيقَةَ بطيبِ المنْزِلَةِ، وبحُسْنِ الدرجَةِ عِنْدَ الناسِ في الدنيا، وعِنْدَ اللهِ عزَّ وجلَّ في الآخِرَةِ".وتأَمَّلوا مَعْشرَ الورَى؛ في قَوْلِ الموْلَى: { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } { النور:30 } فجعلَ اللهُ تبارَكَ وتعالَى زكاةَ النفوسِ والأرْواحِ؛ عِوَضاً عَنْ غَضِّ البصَرِ عَنِ الحرامِ وحِفْظِ الفرْجِ عَنِ السِّفاحِ، هَذا مَعَ استراحَةِ الفؤادِ؛ مِنْ كُلْفَةِ طَلَبِ المرُادِ، لأنَّ مَنْ أطلَقَ اللحَظاتِ، دامَتْ له الحسَراتُ، كما قِيلَ:
……… وكنْتَ مَتَى أرسَلْتَ طَرْفَكَ رائداً لقلبِكَ يوماً أتعبَتْكَ المناظِرُ(167/2)
……… رأيتَ الذي لا كُلُّهُ أنتَ قادِرٌ عليْهِ ولا عَنْ بعضِهِ أنتَ صابِرُ
ودونَكم مَعْشَرَ الجَمْعِ الكريمِ؛ قِصَّةَ الكريمِ بنِ الكريمِ؛ يوسفَ الصدِّيقِ عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأزكَى التسليمِ، فيوسفُ عليهِ السلامُ؛ ترَكَ إجابةَ دَعْوَةِ امرأةِ العزيزِ بالحرامِ، لإخلاصِهِ للمَلِكِ القدُّوسِ السلامِ، واختارَ أنْ يُسْجَنَ بالظُلْمِ والظلامِ؛ علَى لذَّةٍ مُنغَّصَةٍ بالآثامِ، فعوَّضَهُ اللهُ أنْ مَكَّنَ له في الأرضِ وأقامَ خيرَ مُقامٍ.
وقد قصَّ اللهُ تعالىَ علينا قِصَّةَ يوسفَ الصديقِ، وجعلَها خيرَ شاهِدٍ علَى صِحَّةِ هذِهِ القاعدِةِ الشرعيَّةِ علَى التحقيقِ: "مَنْ تَركَ شيئاً للهِ عوَّضَهُ اللهُ خيراً مِنْه"، لأنَّ الأمرَ الذي ابتُلِيَ به لا يصْبِرُ عليهِ إلا مَنْ صبَّرَهُ اللهُ تعالَى عليهِ، لما فيهِ مِنْ قُوَّةِ الدَّواعِي وتزيُّنِها بينَ يدَيْهِ، فمِنْ هذِهِ الدواعِي يا عبادَ اللهِ، أنَّ يوسفَ عليهِ السلامُ كانَ شابّاً تفورُ مِنْهُ الفُتُوَّةُ، وداعِي الشَّهْوَةِِ يَحْدوهُ بالقُوَّةِ، ومعَ ذلكَ فقَدْ ترَكَ إجابةَ هذا الداعِي للهِ تعالَى. ومِنْها، أنَّ يوسفَ عليهِ السلامُ كان شابّاً عَزَباً، لم يقْضِ مِنْ زوجَةٍ وَطَراً ولا مأْرَباً، ومعَ ذلِكَ فقَدْ ترَكَ إجاَبةَ هذا الداعِي للهِ تعالَى. ومِنْها، أنَّ يوسفَ عليهِ السلامُ كانَ شابّاً مُغْتَرِباً عَنْ وطنِهِ، ولا يعرِفُ أحدٌ في المدينةِ طِيبَ مَعْدِنِهِ، ومعَ ذلِكَ فقَدْ ترَكَ إجابةَ هذا الداعِي للهِ تعالَى.
ومِنْ هذِه الدواعِي يا عبادَ اللهِ:(167/3)
أنَّ يوسفَ عليهِ السلامُ كانَ مَملُوكاً لها في الدارِ، بحيثُ يدخُلُ ويخرُجُ ولا يَلْحقُهُ الإنْكارُ، ومَعَ ذلَكَ فقَدْ ترَكَ إجابةَ هذا الداعِي للهِ تعالَى. ومِنْها، أنَّ امرأةَ العزيزِ كانَتْ ذاتَ مَنْصِبٍ وجمالٍ، وهيَ قادِرَةٌ علَى أنْ تصْرِفَ عَنْهُ النَّكالَ والوَبالَ، ومعَ ذلِكَ فقَدْ ترَكَ إجابَةَ هذا الداعِي للهِ تعالَى. ومِنْها، أنَّ امرأةَ العزيزِ هيَ التي تقدَّمَتْ بينَ يدَيْهِ بالطَّلَبِ، وكَفَتْهُ ذُلَّ الخوْفِ والرَّهَبِ، ومعَ ذلك فقَدْ ترَكَ إجابةَ هذا الداعِي للهِ تعالَى.
ومِنْ هذِهِ الدواعِي يا عبادَ اللهِ:
أنَّ امرأةَ العزيزِ كانَتْ في سُلطانِها ودارِها، ويخْشَى إنْ لم يطاوِعْها مِنْ أذاها وعارِها، ومعَ ذلِكَ فقَدْ ترَكَ إجابةَ هذا الداعِي للهِ تعالَى. ومِنْها، أنَّ امرأةَ العزيزِ قَدْ غَلَّقَتِ الأبوابَ رغْبَةً إليهِ، فلا يَخْشَى أنْ تَنُمَّ بالتقوُّلِ عليهِ، ومعَ ذلِِكَ فقَدْ ترَكَ إجابةَ هذا الداعِي للهِ تعالَى. ومِنْها، أنَّ امرأةَ العزيزِ كانَتْ مُسْتَعينةً عليهِ بأئِمَّةِ المكْرِ والاحْتِيال، فأَرَتْهُ النِّسْوَةَ وشَكَتْ إليهنَّ الحالَ، ومَعَ ذلِكَ فقَدْ ترَكَ إجابَةَ هذا الداعِي للهِ تعالَى. ومِنْها، أنَّ امرأةَ العزيزِ كانَتْ قَدْ توعَّدَتْهُ بالسَّجْنِ والصَّغارِ، وهدَّدَتْهُ إنْ لم يَصْبُ إليها بالعارِ والشَّنارِ، ومَعَ ذلِكَ فقَدْ ترَكَ إِجابَةَ هَذا الداعِي للهِ تعالَى.
ومَعَ اجتماعِ هذهِ الدواعِي التي تُجَرِّعُ المدْعُوَ كأْسَ المنُونِ؛ { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ { يوسف: 23 } وبثَباتِ جَنانٍ ورَباطَةِ جَأْشٍ وقُوَّةِ يَقينٍ تَرَكَ إِجابَةَ هَذا الداعِي للهِ تعالَى.(167/4)
فيا عِبادَ اللهِ الفُضَلاءَ، تأمَّلوا كيفَ جُوزِيَ يوسفُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بَعْدَ حَبْسِهِ معَ السُّجَناءِ؛أنْ مكَّنَ اللهُ تعالَى له في الأرضِ يتَبَوَّأُ مِنْها حيثُ يشاءُ، وأقَرَّتِ المرأةُ والنِّسْوَةُ ببراءتِهِ مِنَ السُّوءِ والادِّعاءِ، وهذِهِ سُنَّةُ اللهِ تعالَى قديماً وحديثاً فيمَنِ اصطفاهُم مِنَ الأوْلياءِ، ومِصْداقُ ذلِكَ ما أخرجَهُ أحمدُ في مُسْنَدِهِ مِنْ أنَّ رجُلاً مِنْ أهلِ الباديةِ قالَ: أخذَ بِيَدِي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فجعلَ يُعَلِّمُنِي ممّا علَّمَهُ اللهُ، فكانَ فِيما حَفِظْتُ عَنْه أنْ قالَ: " إنَّكَ لنْ تَدَعَ شيئاً اتِّقاءَ اللهِ إلاّ آتاكَ اللهُ خَيْراً مِنْه" رَزَقَنِي اللهُ وإيَّاكمُ الاستقامةَ علَى ما أمَرَنا بهِ في الفُرْقانِ والذِّكِر الحكيمِ، ووفَّقَنا للاعتصامِ بما كانَ عليهِ النبيُّ الكريمُ؛ عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأزْكَى التسليمِ؛ مِنَ الهَدْي القَويمِ؛ والصراطِ المستقيمِ.
أقولُ ما تسمعونَ وأستغفِرُ اللهَ الغفورَ الحليمَ، لي ولكم مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وحَوْبٍ فتُوبوا إليهِ واستغفروه إنَّه هوَ التَّوابُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذي جعلَ المحبَّةَ إلى الظَّفَرِ بالمحبوبِ سَبيلاً، وحرَّكَ بها النُّفوسَ إلى أنْواعِ الكَمالاتِ إيثاراً لطَلَبِها وتَحْصيلاً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له لا أبْغِي سِواهُ ربّاً ولا أتخِذُ مِنْ دونِهِ وَلِيّاً ولا وَكيلاً، وأشهدُ أنَّ محمداً نبيُّ اللهِ المُرْسَلُ للإيمانِ القَويمِ مُنادِياً؛ وللصراطِ المستقيمِ هادِياً؛ ولجنَّةِ النعيمِ دَليلاً، فصلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ صلاةً وسلاماً لا أرُومُ عَنْها انْتقالاً ولا تَحْوِيلاً.
أمّا بعدُ:(167/5)
فيا معشرَ المسلمينَ: أُوصيكم ونفسِي بتقْوَى ربِّ العالمينَ، فاستَمْسِكوا بها فهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ للأوَّلينَ والآخِرينَ.معشرَ المؤمنينَ والمؤمناتِ، إنَّما يجدُ المشقَّةَ فى تَرْكِ المألُوفاتِ؛ مَنْ تركَها لغيرِ رِضَى الربِّ، فأمَّا مَنْ تركَها صادِقاً مُخْلِصاً مِنَ القلبِ؛ فإنَّه لا يجِدُ في تَرْكِها مَشَقَّةً إلاَّ في أوَّلِ ساعةٍ، ليُمْتَحَنَ الصادِقُ مِنَ الكاذِبِ في العبوديَّةِ والطاعَةِ، فإنْ صبرَ علَى تِلكَ المشَقَّةِ قليلاً، عُوفِيَ مِنْ بلائِهِ بعْدَ أنْ كانَ عَليلاً، وعُوِّضَ بعْدَ تَرْكِها للهِ تعالَى خيراً جَليلاً، وأجَلُّ ما يُعوَّضُ بهِ الصابرُ المُحتَسِبُ الأُنْسُ بعلاَّمِ الغيوبِ، الموجِبُ لانشراحِ الصدورِ وطمأنينةِ القُلوبِ، قالَ اللهُ تعالَى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } { الطلاق: 2-3 }
عبادَ الرحمنِ:
إنَّ اللهَ قدْ أمرَكم بأمْرٍ بدأَ فيهِ بنفسِهِ التي كلَّ يومٍ هِيَ في شَأْنٍ، وثَنَّى بملائكتِهِ التي لا تَفْتُرُ في ليلٍ ولا نَهارٍ عَنِ الحَمْدِ والسُّبْحَانِ، وثلََّثَ بكمْ أيُّها الخَلْقُ من إنسٍ وجانٍّ، فقالَ إعلاءً لقَدْرِ نبيِّهِ وتعظيماً، وإرشاداً لكم وتَعْليماً: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } { الأحزاب:56 } .(167/6)
اللهمَّ صلِّ علَى محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ، كما صلَّيْتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ علَى محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ، كما باركْتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ، في العالمينَ، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ.وارضَ اللهمَّ عَنِ الأربعةِ الخُلفَاءِ الراشِدينَ؛ والأئمَّةِ الحُنفَاءِ المهديِّينَ، أُولي الفَضْلِ الجَلِيِّ؛ والقَدْرِ العَلِيِّ: أبي بكرٍ الصديقِ؛ وعمرَ الفاروقِ؛ وذي النورَيْنِ عُثمانَ؛ وأبِي السِّبْطَيْنِ عليٍّ.
وارضَ اللهمَّ عَنْ آلِ نبيِّكَ وأزواجِهِ المُطَهَّرِينَ مِنْ الأْرجاسِ، وصحابتِهِ الصَّفْوَةِ الأْخيارِ مِنَ الناسِ.اللهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ آمِنَّا في الوطنِ، وادفَعْ عنَّا الفِتَنَ والمِحَنَ؛ ما ظهرَ مِنْها وما بَطَنَ، اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرةِ حسنةً؛ وقِنا عذابَ النَّارِ.
عِبادَ اللهِ:
اذكروا اللهَ ذِكْراً كثيراً، وكبِّروهُ تكبيراً، { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } { العنكبوت: 45 }
لجنة الخطبة الموزعة والمذاعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(167/7)
اطبع هذه الصحفة
عيش النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه
إخوةَ الإسلامِ
وأمَّا لِباسُهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فقَدْ كانَ يَلْبَسُ ما تَيَسَّرَ مِنَ الصوفِ وغيرِهِ، وقَدْ لَبِسَ الشَّعْرَ الأسْوَدَ، فعَنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عَنْها قالَتْ:"خرجَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وعليه مِرْطٌ مُرَحَّلٌ ـ أيْ كِساءٌ فيهِ خطوطٌ ـ مِنْ شَعْرٍ أسْوَدَ"[أخرجَهُ مسلمٌ]، قالَ أبو بُرْدَةَ بنُ أبي موسَى الأشْعَرِيِّ - رضي الله عنه -: أخرجَتْ لنا عائشةُ رضِيَ اللهُ عَنْها كسِاءً وإزاراً غليظاً. قالَتْ:"قُبِضَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في هَذينِ"[متفقٌ عليه]. وكانَ غالِبُ ما يَلْبَسُ هوَ وأصحابُهُ ما نُسِجَ مِنَ القطنِ وربَّما لَبِسُوا ما نُسِجَ مِنَ الصوفِ والكَتَّانِ، وكانَ له حُلَّةٌ يلبَسُها للعيدينِ والجمعةِ. وأمَّا فِراشُهُ فوَصَفَتْهُ عائشةُ رضِيَ اللهُ عَنْها بقولِها: كانَ فِراشُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ أَدَمٍ"أيْ جِلْدٍ"وحَشْوُه مِنْ لِيفٍ".[متفقٌ عليهِ]، وكانَ ينامُ علَى الحصيرِ فيؤثِّرُ في جَنْبِه، فعَنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - قالَ: نامَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - علَى حصيرٍ فقامَ وقَدْ أثَّرَ في جنبِهِ، فقُلْنا يا رسولَ اللهِ لَوِ اتَّخذْنا لكَ وِطاءً- أيْ فِراشاً ليِّنا ًـ فقالَ:"مالِي وللدُّنيا، ما أنا في الدنيا إلا ّكراكِبٍ استظَلَّ تحتَ شجرةٍ ثُمَّ راحَ وتَركَها" [أخرجَه الترمذيُّ]. ولمْ يكنْ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لِيَسْكُنَ قصوراً مُنِيفةً، ولا دُورا ًبالزينةِ موصوفةً، وإنَّما كانَ يسكنُ حُجَراتٍ متواضِعَةً مِنْ طينٍ، لكلِّ زَوْجٍ مِنْ أزواجِهِ حُجْرَةٌ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ10من ربيع الآخر 1428هـ الموافق 27/4/2007م
عيش النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه(168/1)
الحمدُ للهِ المحمودِ بكُلِّ لسانٍ وعلَى كلِّ حالٍ، وهوَ أهلُ الحمدِ والثناءِ، والشكرُ له ـسبحانَه ـ علَى ما أوْلَى مِنَ النِّعَمِ وأسْدَى مِنَ الآلاءِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له؛ جعلَ أهلَ الإيمان والصَّبْرِ هُمُ السُّعَداءَ، وصيَّرَ أهلَ الكُفْرانِ والضَّجَرِ للشَّقاءِ، وأشهدُ أنَّ محمداً …عبدُ اللهِ ورسولُهُ؛ سيِّدُ الرُّسُلِ وصَفْوَةُ الأنبياءِ، ابْتُلِيَ فصبَرَ علَى البلاءِ، وأُعْطِيَ فشكَرَ علَى …النَّعْماءِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِهِ البرَرَةِ النُّجَباءِ؛ الذين صبَروا في البأْساءِ والضرَّاءِ؛ حتَّى بَلَغوا مراتِبَ الأوْلياءِ وتَبوَّؤُوا منازِلَ الشُّهداءِ، وسلَّمَ تسليما ًكثيرا ً إلى يومِ البعثِ واللقاءِ.
أمَّا بعدُ: فأوصِيكمْ ـ عِبادَ اللهِ ـ ونفسِي بتقْوَى اللهِ تعالَى؛ فاتقوا اللهَ واشْكُروه علَى ما أوْلاكُمْ مِنَ النِّعَمِ، وراقِبُوهُ واحْذَروا المعاصِيَ فإنَّ الموْلَى سَريعُ النِّقَمِ، وتأسُّوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - معدن الأخلاق والشيم { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } { الأحزاب: 21 }
أيُّها الإخوةُ المؤمنونَ:
قالَ ربُّنا تباركَ وتعالَى { : اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } { الحديد:20 } .(168/2)
لقَدْ جعلَ نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - هذهِ الآيةَ وأمْثالَها نُصْبَ عَيْنَيْهِ فعَلِمَ أنَّ الدنيا ظِلٌّ زائِلٌ، وخَيالٌ راحِلٌ؛ فلَمْ يَنْشَغِلْ بها، ولَمْ يعملْ لها، وإنَّما كانَ هَمُّهُ الدارَ الآخرةَ ؛ لأنَّها دارُ القرارِ، فعاشَ ـ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ـ عَيْشَ القَناعَةِ ورضِيَ مِنْها بالقليلِ، وعَمِلَ جاهداً مُخلِصا ً مُتزَوِّدا ً ليومِ الرحيلِ، لا يأخذُ مِنَ الدنيا إلاَّ ما تَدْعوه الحاجَةُ أوِ الضَّرورَةُ إلى أخْذِهِ، يأْكلُ كما يأْكُلُ أيُّ إنسانٍ، ويَلْبَسُ كما يَلْبَسُ أيُّ مَخْلوقٍ، وينامُ علَى فِراشٍ مِنْ جِلْدٍ حَشْوُهُ لِيفٌ، لا يَرَدُّ مَوْجودا ً ولا يتَكَلَّفُ مَفْقوداً، وما عابَ طعاماً قَطُّ، إنِ اشتَهاهُ أكلَهُ وإلاّ ترَكَه. يَرْكَبُ البَغْلَةَ والحِمارَ، ويَخْصِفُ نَعْلَه، وَيرْقَعُ ثوبَه، ويُعينُ أهلَهُ في البَيْتِ، هَذا عمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه - يَصِفُ لنا بعضَ عَيْشِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وحالِهِ إذْ يقولُ: دَخَلْتُ علَى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهوَ مُضْطَجِعٌ علَى حَصيرٍ فجلَسْتُ، فأدْنَى عليهِ إزارَهُ وليسَ عليهِ غَيْرُه، وإذا الحَصيرُ قَدْ أثَّرَ في جَنْبِه، فنَظَرْتُ ببَصَرِي في خِزانَةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فإذا أنا بقَبْضَةٍ مِنْ شعيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، ومِثْلِها قَرَظاًً"ورقُ السَّلَمِ يُدْبَغُ به"في ناحيةِ الغُرْفَةِ، وإذا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ"جِلْدٌ لمْ يُدْبَغْ "قالَ: فابتَدرَتْ عَيْنايَ"يَعْنِي بَكَى". قال:"ما يُبكِيكَ يا ابنَ الخطابِ؟!" قلْتُ: يا نبيَّ اللهِ ومالِي لا أبْكي وهَذا الحصَيرُ قَدْ أثَّرَ في جَنْبِكَ، وهذِهِ خِزانَتُكَ لا أرَى فيها إلاّ ما أرَى، وذاكَ قَيْصَرُ وكِسْرَى في الثمارِ والأنهارِ وأنتَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وصَفْوَتُهُ، وهذِهِ خِزاَنتُكَ ؟! فقالَ"يا ابنَ(168/3)
الخطابِ أَلا تَرْضَى أنْ تكونَ لنا الآخرةُ ولهمُ الدُّنيا؟"[ أخرجَه مسلمٌ ]. قالَتْ عائشةُ رضِيَ اللهُ عَنْها وهِيَ تخاطِبُ ابنَ أُخْتِها عُرْوَةَ: واللهِ يا ابنَ أُختِي إنْ كنَّا ننظرُ إلى الهلالِ ثُمَّ الهلالِ ثُمَّ الهلالِ ثلاثةُ أهِلَّةٍ في شهرينِ وما أُوقِدَ في أبياتِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نارٌ. قالَ:يا خالَةُ فما كانَ يُعيشُكُمْ؟ قالَتْ: الأسْوَدانِ:التمرُ والماءُ"[أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ]، وربَّما باتَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طاوِياً بلا عَشَاءٍ كَما قالَ ابنُ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما: "كانَ يَبيتُ اللياليَ المتَتابعةَ طاوِياً، وأهلُهُ لا يَجِدونَ عَشاءً، وكانَ أكثرُ خُبْزِهمْ خبزَ الشعيرِ".[أخرجَه الترمذيُّ]، وكانَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ يَرْبِطُ بطنَهُ بالحَجَرِ مِنَ الجوعِ؛ كما روى عن أبي طَلْحَةَ - رضي الله عنه -: شَكَوْنا ـ أيْ يومَ الخندقِ ـ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الجوعَ فرفَعْنا عَنْ بُطونِنا عَنْ حَجَرٍ، فرفَعَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ حَجَريْنِ. [أخرجَهُ الترمذيُّ].
إخوةَ الإسلامِ:(168/4)
وأمَّا لِباسُهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فقَدْ كانَ يَلْبَسُ ما تَيَسَّرَ مِنَ الصوفِ وغيرِهِ، وقَدْ لَبِسَ الشَّعْرَ الأسْوَدَ، فعَنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عَنْها قالَتْ:"خرجَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وعليه مِرْطٌ مُرَحَّلٌ ـ أيْ كِساءٌ فيهِ خطوطٌ ـ مِنْ شَعْرٍ أسْوَدَ"[أخرجَهُ مسلمٌ]، قالَ أبو بُرْدَةَ بنُ أبي موسَى الأشْعَرِيِّ - رضي الله عنه -: أخرجَتْ لنا عائشةُ رضِيَ اللهُ عَنْها كسِاءً وإزاراً غليظاً. قالَتْ:"قُبِضَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في هَذينِ"[متفقٌ عليه]. وكانَ غالِبُ ما يَلْبَسُ هوَ وأصحابُهُ ما نُسِجَ مِنَ القطنِ وربَّما لَبِسُوا ما نُسِجَ مِنَ الصوفِ والكَتَّانِ، وكانَ له حُلَّةٌ يلبَسُها للعيدينِ والجمعةِ. وأمَّا فِراشُهُ فوَصَفَتْهُ عائشةُ رضِيَ اللهُ عَنْها بقولِها: كانَ فِراشُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ أَدَمٍ"أيْ جِلْدٍ"وحَشْوُه مِنْ لِيفٍ".[متفقٌ عليهِ]، وكانَ ينامُ علَى الحصيرِ فيؤثِّرُ في جَنْبِه، فعَنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - قالَ: نامَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - علَى حصيرٍ فقامَ وقَدْ أثَّرَ في جنبِهِ، فقُلْنا يا رسولَ اللهِ لَوِ اتَّخذْنا لكَ وِطاءً- أيْ فِراشاً ليِّنا ًـ فقالَ:"مالِي وللدُّنيا، ما أنا في الدنيا إلا ّكراكِبٍ استظَلَّ تحتَ شجرةٍ ثُمَّ راحَ وتَركَها" [أخرجَه الترمذيُّ]. ولمْ يكنْ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لِيَسْكُنَ قصوراً مُنِيفةً، ولا دُورا ًبالزينةِ موصوفةً، وإنَّما كانَ يسكنُ حُجَراتٍ متواضِعَةً مِنْ طينٍ، لكلِّ زَوْجٍ مِنْ أزواجِهِ حُجْرَةٌ.(168/5)
لقدْ ماتَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولمْ يتركْ وراءَهُ شيئا ًإلاّ ما كانَ لا بُدَّ مِنْه . قالَ عَمْرُو بنُ الحارثِ - رضي الله عنه -: "ما تركَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ موتِهِ درهما ًولا ديناراً، ولا عَبْدا ًولا أَمَةً ولا شيئاً، إلاّ بغلَتَهُ البيضاءَ وسلاحَهُ وأرضاً جعلَها صدقةً". [أخرجَهُ البخاريُّ]، وهكَذا بالقناعَةِ والزُّهْدِ وحَمْلِ هَمِّ الرسالَةِ، والتجافِي عَنْ دارِ الغُرورِ والعملِ الدؤوبِ للدارِ الآخرةِ عاشَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ غَنِيَّ النَّفْسِ وإنْ كانَ قليلَ المالِ، بعيدا ًعَنْ زخارِفِ الدنيا ولَوْ أرادَها لأتَتْهُ وهِيَ راغِمَةٌ، عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"ليسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، ولكنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ"[متفقٌ عليه].ورحِمَ اللهُ مَنْ قالَ:
… والفَقْرُ في النَّفْسِ لا في المالِ نعرِفُهُ ومِثْلُ ذاكَ الغِنَى في النَّفْسِ لا المال ِ
بارَكَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ المبينِ، ونفعَنِي وإيَّاكم بَهَدْيِ سيِّدِ المرسلينَ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ العليَّ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ؛ فاستغفروهُ إنَّه هوَ خيرُ الغافرينَ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ علَى إحسانِهِ، والشكرُ له علَى تَوْفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلَهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له تعظيماً لشانِهِ، وأشهدُ أنَّ محمدا ًعبدُهُ ورسولُهُ الداعِي إلى رضوانِهِ، صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعلَى آلهِ وصحبِهِ ومَنْ دعا إلى سبيلِهِ وجِنانِهِ.(168/6)
أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ ـ أيُّها الناسُ ـ واعبدوهُ، واشكروهُ علَى جليلِ نَعَمِهِ ومَزِيدِ آلائِهِ واحْمَدوهُ، واعلَموا أنَّ تِلْكَ صفحاتٌ ناصِعَةٌ مِنْ حياةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وعَيْشِهِ، ولقَدْ ربَّى رسولُ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَهُ علَى التقَلُّلِ مِنَ الدنيا، والرغْبَةِ في ما عِنْدَ اللهِ في الدارِ الآخرةِ، والآخرةُ خيرٌ وأبقَى. فعَمِلُوا ليلَ نهارَ، وجاهَدوا في سبيلِ اللهِ في كُلِّ ميدانٍ ووادٍ، وتجشَّموا المصاعِبَ، وصَبَروا علَى المصائِبِ، ورضُوا بالعَيْشِ اليسيِر، وأخَذوا الزَّادَ لسَفَرٍ بعيدٍ، مَعَ أنَّ كثيراً مِنْهم كانَ عِنْدَهُ مالٌ ومتاعٌ كثيرٌ؛ غيرَ أنَّهم فَضَّلوا الزُّهْدَ والقَناعَةَ، والعَيْشَ لِدينهمْ وآخرتِهم، كُلَّما سَمِعوا صَيْحَةً في سبيلِ اللهِ طارُوا ولسانُ حالِ كلِّ واحدٍ مِنْهم يقولُ:
إذا القَوْمُ قالوا مَنْ فتىً خِلْتُ أنَّنِي عُنِيتُ فلَمْ أكْسَلْ ولَمْ أَتَبَلَّد ِ(168/7)
هَذا مُصْعَبُ بنُ عُمَيرٍ - رضي الله عنه - فَتَى قريشٍ المدلَّلُ والشابُّ المنَعَّمُ، كانَ يلبسُ أجملَ اللباسِ، ويتطيَّبُ بأفضلِ الطيبِ، تحوَّلَ بعدَ إسلامِهِ إلى فَتىً زاهِدٍ مُتَقلِّلٍ مِنَ الدنيا أيَّما تَقَلُّلٍ، ولما قُتِلَ يومَ أُحُدٍ تركَ نَمِرَةً "بُرْدَةٌ أوْ إزارٌ مِنْ صوفٍ مُخَّططٍ"يقولُ خَبَّابٌ - رضي الله عنه -:"فإذا غَطَّيْنا رأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاه، وإذا غَطَّيْنا رِجلَيْهِ بَدا رأْسُهُ فأمَرنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ نُغَطِّيَ رأْسَهُ ونجعلَ علَى رِجَليْه ِشيئاً مِنَ الإذْخِرِ."نَبْتٌ طيِّبُ الرائحِة"[أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ]، وهذا سَعْدُ بنُ أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه - يقولُ: "لقَدْ كنَّا نغزُو مَعَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ما لنا طعامٌ إلاَّ وَرَقُ الحُبْلَةِ وهذا السَّمُرُ "نوعانِ مِنْ شجرِ الباديةِ"، حتىَّ إنَّ أحَدَنا لَيَضَعُ ـ كنايةً عَنِ الغائِطِ ـ كما تَضَعُ الشاةُ ما لَهُ خِلْطٌ"[متفقٌ عليه]، ودونَكم مَثَلاً عَلِيَّ بنَ أبي طالبٍ - رضي الله عنه - يقولُ: ما كانَ لنا إلاّ إِهابُ كَبْشٍ أيْ جِلْدُ كَبْشٍ، ننامُ علَى ناحيةٍ، وتَعْجِنُ فاطمةُ علَى ناحيتِهِ الأُخْرَى. ورَوَى فَضَالةُ بنُ عُبَيْدٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا صَلَّى بالناسِ يَخِرُّ رجالٌ مِنْ قامَتِهم في الصلاةِ مِنَ الخَصاصَةِ"أيْ مِنَ الجوعِ الشديدِ" وهُمْ أصحابُ الصُّفَّةِ حتَّى يقولَ الأعرابُ: هؤلاءِ مجانينُ.فإذا صلَّى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - انصرفَ إليهمْ فقالَ: "لوْ تعلمونَ ما لكمْ عِنْدَ اللهِ تعالَى لأَحْبَبْتُمْ أنْ تَزْدادوا فاقَةً وحاجَةً"[أخرجَه الترمذيُّ].(168/8)
فيا عِبادَ اللهِ: هؤلاءِ صحابَةُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَخَلَّوْا عَنْ مَلاذِّ الدنيا وتركُوا التبسُّطَ فيها، فلَمْ يَشْبَعوا كما شَبِعَ الناسُ، ولمْ يلْبَسُوا كما لَبِسَ الناسُ، ولمْ يناموا علَى مِثْلِ ما كانَ ينامُ عليهِ الناسُ، جاعُوا وعَرُوا، وكابَدُوا كَدَرَ الحياةِ وتحمَّلُوا شَظَفَ العَيْشِ، ولكنَّ ذَلِكَ لمْ يَمْنَعْهم مِنْ أنْ يُتَوِّجُوا رأْسَ التاريخِ بالفتوحاتِ والبُطولاتِ، ويُقَلِّدوا صدْرَهُ أوْسِمَةَ الشجاعَةِ والتضحياتِ، فتَحوا الشرقَ والغربَ ولانَتْ لهمْ قَنَواتُ الرجالِ، واستسْلَمَتْ لإرادَتِهمِ بلادٌ وعِبادٌ. لقَدْ عاشوا عَيْشَ الزُّهَّادِ، ولكنَّهم ماتوا مَوْتَ العُظماءِ، وخلَّدَ التاريخُ أسماءَهم كأعْظمِ ما يُخَلِّدُ النُّجَباءَ، فأسماؤُهم فَوْقَ كُلِّ أرْضٍ وتحْتَ كلِّ سماءٍ، كانُوا فقراءَ ولكنَّهم عاشُوا بغِنَى النَّفْسِ الذي ليس وراءَهُ غِنىً، وشَرَفُ الأعمالِ والخِصالِ خيرٌ وأبقَى مِنْ شَرفِ الجاهِ والمالِ. وَللهِ دَرُّ مَنْ قَالَ:
قَدْ يُدْرِكُ الشَّرفَ الفتَى ورِداُؤهُ خَلَقٌ وجَيْبُ قَمِيصِهِ مَرْقوعُ
ويَكْفِيهم شَرَفا ًوسُمُوّا ًوذِكْرا ً أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ رضِيَ عَنْهم ورَضُوا عَنْه. اللهمَّ فأَلْحِقْنا بِهمْ واجْمَعْنا وإيَّاهم في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ إنّا نسأَلُكَ عَيْشَ السُّعَداءِ، ومنازِلَ الشهداءِ، والصبْرَ علَى البلاءِ، والشكرَ علَى النَّعْماءِ، والنصرَ علَى الأعداءِ، ربَّنا اغفرْ لنا ولإخوانِنا الذينَ سَبَقُونا بالإيمانِ ولا تجعلْ في قلوبِنا غِلاّ للذينَ آمنُوا ربَّنا إنَّكَ رؤوفٌ رحيمٌ، اللهمَّ وفِّقْ وُلاةَ أمورِنا لحَمْلِ الأمانَةِ، وارزُقْهمْ صلاحَ البِطانَةِ، واحفظْهمْ مِنْ كيْدِ أهْلِ البَغْيِ والخِيانَةِ.(168/9)
… لجنة الخطبة المذاعة و الموزعة …
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(168/10)
اطبع هذه الصحفة
الزهد والقناعة
إخوةَ الإسلامِ:
إنَّ ما سمعْتُم به شيءٌ نَزْرٌ، مما رواهُ لنا أهلُ الحديثِ والأثرِ، وأصحابُ التراجمِ والسِّيَرِ، لقد كانوا مع شِدَّةِ أحوالِهم، وعظيمِ فَقْرِهِم، أهْلَ قَناعةٍ وسعادةٍ، وأهلَ رِضاً عَنِ اللهِ سبحانه، إنها جنةُ الإيمانِ، والأُنْسِ بالرحيمِ الرحمنِ، يقولُ إبراهيمُ بنُ أدهمَ رحِمَهُ اللهُ:" إننا لَفيِ سعادةٍ لو عَلِمَ بها الملوكُ وأبناءُ الملوكِ لجالَدُونا عليها بالسُّيوفِ"، ثُمَّ لْنَعْلَمْ أنَّ الزُّهدَ لا يعني التَّقتيرَ علَى النفسِ، وتحميلَها ما لا تَحتمِلُ من الضِّيقِ والبُؤسِ، بل للمرءِ أن يأخذَ ما يَكفيهِ مِنَ المبُاحاتِ لكنْ دُونَ إسرافٍ، أَوْ أنْ تَستَحْوِذَ على قلبِه فتكونَ أكبرَ هَمِّهِ، ويبتعدَ عَنِ المُحرَّماتِ والمُشْتَبِهاتِ، ويتزَوّدَ بالصالحاتِ ليومِ الكُرُبات، فلا يكونُ بذلكَ قَدْ خرجَ عن الزُّهدِ المرادِ، يقولُ اللهُ سبحانَه: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } { القصص: 77 } ، قال ابنُ القَيِّم – رحمه الله -: " الزهدُ فَراغُ القلبِ مِنَ الدنيا، لا فراغُ اليَدِ منها".
أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ .
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، جعلَ طُلاَّبَ الآخرةِ في هُدىً ويقينٍ، وأشهدُ أن لاّ إله َإلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ الملكُ الحقُّ المبينُ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُه رسولُه الأمينُ، خيرُ مَنْ عَبَدَ اللهَ حتى أتاهُ اليقينُ، صلَّى اللهُ وسلَّم عليهِ وعلى آلهِ وأصحابهِ وأتباعِه إلى يومِ الدينِ.
أمّا بعدُ:
فاتقوا اللهَ أيُّها الناسُ، وتجمَّلُوا بالتقوَى فإنَّها خيرُ لِباسٍ، { وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } { الأعراف:26 } .(169/1)
عبادَ اللهِ: إنَّ المتأمِّلَ في بعضِ أهلِ زمانِنا، يَرى حُبَّ المادةِ قَدْ سَيْطَرَ على نفوسِهم، وإيثارَ المالِ هَيْمَن على قُلوبِهم، عليها يَتهافَتون، ومِن أجْلِها يَتنافَسون، إن زادَتْ أموالُهم فُتِنُوا، وإن نَقَصَت حَزِنوا، يَركُضون في الدنيا بغيرِ عَنانٍ، ويملؤُونَ أيدِيَهم بغيرِِ مِيزانٍ، لو مُنِيَ بِخَسَارةٍ في دُنياه ضاقَتْ نَفْسُه، واعتَلًَّتْ صِحَّتُهُ، وهذه الآفاتُ يجمعُها قِلَّةُ الرِّضا عن ربِّ البرَيَّاتِ.
هِيَ القناعةُ فالزمْها تَعِشْ مَلِكاً لو لم يَكُنْ منك إلا راحةُ البدنِ
وانظر لمن مَلَكَ الدنيا بأجْمَعِهَا هل راحَ منها بغيرِ القُطْنِ والكَفَنِ
إخوةَ الإيمانِ:
إنَّ مما يُعينُ على الزُّهدِ في الدنيا، والرغبةِ فيما عِندَ اللهِ جلَّ وعلا، أموراً ثلاثة: عِلْمُ العبدِ أنَّ الدنيا ظلٌّ زائلٌ وسرابٌ راحلٌ فهي: { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً } { الحديد:20 } ، وَعِلْمُ العبدِ أنّ وراءَ الدنيا داراً أعظمَ منها قَدْراً، وأجلَّ منها خَطَراً، { وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } { النساء:77 } ، وعِلْمُ العبدِ أنَّ زُهْدَهُ فيها لا يمنَعُهُ شيئاً كتُِبَ لهُ منها، وحِرْصَهُ عليها لا يَزِيدُهُ على ما قُسِمَ له منها،" واعلم أنّ ما أصابَكَ لم يَكُن ليِخُطِئَكَ، وما أخَطَأَك لم يكن لِيُصِيبك"[أخرجه أحمد]، يقولُ بعضُ الحكماءِ: "لو كانت الدنيا مِن ذَهَبٍ يَفنَى، والآخرةُ من خَزَفٍ يبقَى، لكان الواجبُ علَى العاقلِ أن يُقدِّمَ الخزفَ الباقِي، على الذهبِ الفاني، فكيف والآخرةُ من ذَهَبٍ يَبقَى، والدنيا من خَزَفٍ يَفنَى"!.(169/2)
ألا فاتقوا اللهَ إِخْوَةَ الإيمانِ، وأقبِلوا على طاعةِ الرحمنِ، فإنَّ في القلب شَعَثاً، لا يَلُمُّهُ إلا الإقبالُ على اللهِ، وفيه وَحْشَةً لا يُزِيلُها إلا الأنسُ بالله، وفيه حَسْرةً لا يُطْفِئُها إلا الرضا باللهِ، وإنّ في القلبِ قَلَقاً، لا يُسْكِنُهُ إلا الفرارُ إلى اللهِ، { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } { الذاريات:50 } .
اللهم اجْعلَنا مِنَ القانِعين برزقِكَ، الراضِينَ بقضائِكَ، المتَّبِعِينَ لنبيِكَ، اللهم لا تجعلِ الدُنيا أكبرَ هَمِّنا، ولا مَبْلَغَ علمنا، ولا إلى النار مصيرَنا، واجعل الجنةَ دارَنا وقرارَنا، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الكفرَ والكافرين، اللهم اهزِم مَن عادَى الإسلامَ والمسلمين وآذَى أمَّةَ خيرِ المرسلين، اللهم انصُرْ دينَك وكتابَك وسُنَّةَ نَبِيِّك وعبادَك المؤمنين، اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، اللهم صلِّ على نبيِّك محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأتباعِه إلى يومِ الدين، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
………………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 17 من ربيع الآخر 1428هـ الموافق 4/ 5/ 2007م
الزهد والقناعة(169/3)
الحمدُ للهِ الواحدِ القهَّارِ، مُكَوِّرِ النَّهارِ على الليلِ ومُكَوِّرِ اللَّيلِ على النَّهارِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له عالمُ الجَهْرِ والإِسرارِ، أيقظَ مَن شاءَ مِن عبادهِ وزَهَّدَهم في هذهِ الدَّارِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه المصطفَى المختارُ، رَغِبَ عَن هذِهِ الحياةِ وَفَرَّ إلى العزيزِ الغفَّارِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِهِ السادةِ الأبرارِ، أُوليِ التَّفَكُّرِ والأَبصارِ، وأصحابِ القناعةِ والاعْتبارِ، وعلَى تابِعيهِم بإحسانٍ ما تَعَاقَبَ اللَّيلُ والنَّهارُ.
أمَّا بعدُ:
فأُوصِيكم – عِبادَ اللهِ – وَنَفْسِي بتقوَى اللهِ حَقَّ تَقْوَاهُ، واستَعِدُّوا بالأعمالِ الصَّالحةِ ليِومِ لُقْياهُ، فَطُوبَى لِمَنْ خافَ مِنَ الجليلِ، وَعَمِلَ بالتنزيلِ، وقَنَعَ مِنْ دُنْياهُ بالقليلِ، واستَعدَّ لِيَوْمِ الرَّحيلِ، إذِ الوقوفُ فيه طويلٌ، والحسابُ فيه ثقيلٌ، يقولُ سبحانَه: { وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } { البقرة :281 } .
فَلَن يَصحَبَ الإنسانَ مِن قبلِ موتِهِ ولا بعدَهُ إلا الذي كانَ يَعْمَلُ
أَلا إِنما الإنسانُ ضَيفٌ لأهلِهِ يُقيمُ قليلاً بينهُم ثُم يَرْحَلُ
مَعاشِرَ المسلمينَ:
إنَّ مِن سُنَّةِ اللهِ تعالَى في هذهِ الدَّارِ، أَلاَّ يَقِرَّ لها قَرارٌ، دارُ شقاءٍ وتَعَبٍ، وَعَناءٍ وَنَصَبٍ، مَتاعُها قليلٌ، وكثيرُها ضئيلٌ، حلالُها حسابٌ، وحَرامُها عِقابٌ، لا تَصفُو لِشارِبٍ، ولا يَبقَى لها صاحِبٌ، مَن أحبَّها أذَلَّتْهُ، ومَن تَبِعَها أعْمَته.
هِيَ الدَّارُ دارُ الأذَى والقَذَى… ودَارُ الفَناءِ ودَارُ الغِيَرْ
فلو نِلْتَهَا بِحذافِيرِها… لَمُتَّ ولم تَقْضِ مِنها الوَطَرْ(169/4)
لو تَفَكرْتُم – يَرعاكُمُ الله – فِيمَنْ حولَكم مِنَ البَشَرِ، لمَاَ وَجَدْتم أَحَداً سالِماً مِنَ المصائِبِ والأحزانِ والكَدَرِ، إلا مَن شاءَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فواحِدٌ مُصابٌ بالأسْقامِ والعِلَلِ، وآخرُ مُصابٌ بِعُقُوقِ الوَلدِ، وهذا مُبتلًى بِسُوءِ خُلُقِ زوجتِهِ، وهنا تاجرٌ قد خَسِرَ تجارتَهُ، وهناك فقيرٌ يشكو سُوءَ حالتِهِ، وهذا يَجِدُّ ويجتهدُ ولا ينالُ مُناهُ، وذاك يَشقَى ويتعبُ ولا يُحَصِّلُ مُبتغَاهُ.
…… جُبِلَتْ على كَدَرٍ وأنت تُريدُها… صَفْواً مِنَ الأقذارِ والأكْدارِ
…… ومَكَلِّفُ الأيامِ ضِدَّ طِباعِها … مُتَطَلِّبٌ في الماءِ جَذْوَةَ نارِ
هكذا هِيَ الدنيا، وهكذا العيشُ فيها، ليس فيها راحةٌ أبديَّةٌ، ولا سعادةٌ حقيقيَّةٌ، إنما الراحةُ والنعيمُ المقيمُ، والسعادةُ والفوزُ العظيمُ، لمن رَحِمَهُ اللهُ فَزَحْزَحَهُ عَنِ الجحيم، { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } { آل عمران:185 } ، سُئِلَ الإمامُ أحمدُ رَحِمَهُ اللهُ: متى الراحةُ يا أبا عَبدِ اللهِ؟ فقال:" عِندَما نضعُ أوَّلَ رِجْلٍ في الجنةِ ".(169/5)
هكذا فَهِمَ سَلَفُنا الصالحُ الدنيا، وهكذا وَعَواْ طبيعَتهَا وعرفوا كُنْههَا، ولذلك تجافَوْا عنها، ولم يغتَرُّوا بها وبزُخْرُفِها، بل كانوا فيها غُرباءَ مسافرينَ، لِوَصَيَّةِ نبيهِم وقُدْوَتِهم - صلى الله عليه وسلم - مُمْتَثلين:" كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ"[أخرجه البخاري]، لقد كانت حياتُه - صلى الله عليه وسلم - تطبيقاً عَمَلياً لقوله، كان مَثلاً أعلَى في الزُّهدِ والقَناعةِ، وقُدوةً عظيمةً في الإقبالِ على الطاعةِ، عَن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - قال:نام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على الحصيرِ فقام وقَدْ أثَّر في جَنبهِ، فَقُلنا يا رسولَ اللهِ لو اتخذنا لك وِطاءً، فقال:" ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استَظَلَّ تحتَ شجرةٍ ثم راح وتَرَكها" [أخرجه الترمذي]، وعَن عائشةَ رضيَ الله عنها أنها قالت لعُروَةَ:" ابنَ أختي إنْ كنا لننظُرُ إلى الهلالِ ثُم الهلالِ، ثلاثَةَ أَهِلَّةٍ في شهرين وما أُوقِدَتْ في أبياتِ رسولِ اللهِ نارٌ"، فقلتُ: يا خالةُ ما كان يُعيِشُكُم؟ قالت:" الأسودانِ التمرُ والماءُ، إلا أنّه قد كان لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - جيرانٌ من الأنصارِ، وكانت لهم منَائِحُ، وكانوا يمنحونَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن ألبانهم فَيَسْقِينا"[ أخرجه البخاري].(169/6)
وعن عائشةَ رضي اللهُ عنها قالت:"لقد مات رسولُ الله وما شَبِعَ من خُبزٍ وزَيتٍ في يومٍ واحدٍ مرتين" [ أخرجه مسلم]، وفي الصحيحين عن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"ما يَسُرُّني أنّ عِندي مثلَ أُحُدٍ هذا ذَهَباً، تمضي عليَّ ثالثةٌ وعندي منه دينارٌ، إلا شيئاً أرصده لِدَيْنٍ، إلا أنْ أقولَ به في عبادِ اللهِ هكذا وهكذا وهكذا"، عن يمينهِ وعن شمالهِ ومِن خِلفْه، ثم مشىَ فقال: "إن الأكثرينَ هم الأقلُّونَ يومَ القيامةِ، إلا مَن قال هكذا وهكذا وهكذا ـ عَن يمينِهِ وعن شمالِهِ ومِن خَلفهِ ـ وقليلٌ ما هُم"، هذا ما عاش عليه رسولُ الله، وهذا ما مات عليه، فعن عمرِو بنِ الحارثِ قال:"ما تَرَك رسولُ اللهِ عِندَ موتِهِ درهماً ولا ديناراً ولا عبداً ولا أَمَةً ولا شيئاً إلا بغْلَتَهُ البيضاءَ وسلاحَهُ، وأرضاً جعلها صَدقةً" [ أخرجه البخاري].(169/7)
واعلموا أتباعَ سيِّدِ المرسلين أنَّ علَى هذا النهجِ المتينِ، سار الصحابةُ ومَن بعدَهم مِنَ التابعين، فقد كان عمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه - وهو خليفةٌ يخطبُ الناسَ، عليه إزارٌ غليظٌ فيه ثِنْتَا عَشْرَةَ رُقْعةً، فتقولُ له ابنتُهُ حفصةُ رضي الله عنها: يا أميرَ المؤمنينَ لو اكْتَسَيْتَ ثوباً هُو أَلْيَنُ مِن ثوبِكَ، وأكلْتَ طعاماً هو أطْيبُ من طَعامِكَ، فَقَدْ وَسَّعَ اللهُ مِنَ الرزقِ، وأكثرَ مِنَ الخيرِ، فقال: "إني سَأُخاصِمُكِ إلى نفسِكِ، أمَا تَذْكُرينَ ما كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَلقَى من شِدَّةِ العيشِ، وكذا أبو بكرٍ"، فما زال يُذَكِّرُها حتّى أبكاها، ثم قال: " أمَا واللهِ لأُشارِكَنَّهُما في مِثلِ عَيشِهِما الشديدِ، لَعلِّي أُدْرِكُ عيشَهُما الرَّخِيَّ"، يقول الحسنُ البَصرِيُّ رَحِمه الله:"أدرَكْتُ أقواماً لا يفرحونَ بشيءٍ مِنَ الدنيا أُوتُوهُ، ولا يَأسفونَ على شيءٍ منها فَاتَهم، ولقد كانت الدنيا أهونَ عليهم مِنَ التُرابِ الذي يمشونَ عليه".
إخوةَ الإسلامِ:(169/8)
إنَّ ما سمعْتُم به شيءٌ نَزْرٌ، مما رواهُ لنا أهلُ الحديثِ والأثرِ، وأصحابُ التراجمِ والسِّيَرِ، لقد كانوا مع شِدَّةِ أحوالِهم، وعظيمِ فَقْرِهِم، أهْلَ قَناعةٍ وسعادةٍ، وأهلَ رِضاً عَنِ اللهِ سبحانه، إنها جنةُ الإيمانِ، والأُنْسِ بالرحيمِ الرحمنِ، يقولُ إبراهيمُ بنُ أدهمَ رحِمَهُ اللهُ:" إننا لَفيِ سعادةٍ لو عَلِمَ بها الملوكُ وأبناءُ الملوكِ لجالَدُونا عليها بالسُّيوفِ"، ثُمَّ لْنَعْلَمْ أنَّ الزُّهدَ لا يعني التَّقتيرَ علَى النفسِ، وتحميلَها ما لا تَحتمِلُ من الضِّيقِ والبُؤسِ، بل للمرءِ أن يأخذَ ما يَكفيهِ مِنَ المبُاحاتِ لكنْ دُونَ إسرافٍ، أَوْ أنْ تَستَحْوِذَ على قلبِه فتكونَ أكبرَ هَمِّهِ، ويبتعدَ عَنِ المُحرَّماتِ والمُشْتَبِهاتِ، ويتزَوّدَ بالصالحاتِ ليومِ الكُرُبات، فلا يكونُ بذلكَ قَدْ خرجَ عن الزُّهدِ المرادِ، يقولُ اللهُ سبحانَه: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } { القصص: 77 } ، قال ابنُ القَيِّم – رحمه الله -: " الزهدُ فَراغُ القلبِ مِنَ الدنيا، لا فراغُ اليَدِ منها".
أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ .
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، جعلَ طُلاَّبَ الآخرةِ في هُدىً ويقينٍ، وأشهدُ أن لاّ إله َإلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ الملكُ الحقُّ المبينُ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُه رسولُه الأمينُ، خيرُ مَنْ عَبَدَ اللهَ حتى أتاهُ اليقينُ، صلَّى اللهُ وسلَّم عليهِ وعلى آلهِ وأصحابهِ وأتباعِه إلى يومِ الدينِ.
أمّا بعدُ:
فاتقوا اللهَ أيُّها الناسُ، وتجمَّلُوا بالتقوَى فإنَّها خيرُ لِباسٍ، { وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } { الأعراف:26 } .(169/9)
عبادَ اللهِ: إنَّ المتأمِّلَ في بعضِ أهلِ زمانِنا، يَرى حُبَّ المادةِ قَدْ سَيْطَرَ على نفوسِهم، وإيثارَ المالِ هَيْمَن على قُلوبِهم، عليها يَتهافَتون، ومِن أجْلِها يَتنافَسون، إن زادَتْ أموالُهم فُتِنُوا، وإن نَقَصَت حَزِنوا، يَركُضون في الدنيا بغيرِ عَنانٍ، ويملؤُونَ أيدِيَهم بغيرِِ مِيزانٍ، لو مُنِيَ بِخَسَارةٍ في دُنياه ضاقَتْ نَفْسُه، واعتَلًَّتْ صِحَّتُهُ، وهذه الآفاتُ يجمعُها قِلَّةُ الرِّضا عن ربِّ البرَيَّاتِ.
هِيَ القناعةُ فالزمْها تَعِشْ مَلِكاً لو لم يَكُنْ منك إلا راحةُ البدنِ
وانظر لمن مَلَكَ الدنيا بأجْمَعِهَا هل راحَ منها بغيرِ القُطْنِ والكَفَنِ
إخوةَ الإيمانِ:
إنَّ مما يُعينُ على الزُّهدِ في الدنيا، والرغبةِ فيما عِندَ اللهِ جلَّ وعلا، أموراً ثلاثة: عِلْمُ العبدِ أنَّ الدنيا ظلٌّ زائلٌ وسرابٌ راحلٌ فهي: { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً } { الحديد:20 } ، وَعِلْمُ العبدِ أنّ وراءَ الدنيا داراً أعظمَ منها قَدْراً، وأجلَّ منها خَطَراً، { وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } { النساء:77 } ، وعِلْمُ العبدِ أنَّ زُهْدَهُ فيها لا يمنَعُهُ شيئاً كتُِبَ لهُ منها، وحِرْصَهُ عليها لا يَزِيدُهُ على ما قُسِمَ له منها،" واعلم أنّ ما أصابَكَ لم يَكُن ليِخُطِئَكَ، وما أخَطَأَك لم يكن لِيُصِيبك"[أخرجه أحمد]، يقولُ بعضُ الحكماءِ: "لو كانت الدنيا مِن ذَهَبٍ يَفنَى، والآخرةُ من خَزَفٍ يبقَى، لكان الواجبُ علَى العاقلِ أن يُقدِّمَ الخزفَ الباقِي، على الذهبِ الفاني، فكيف والآخرةُ من ذَهَبٍ يَبقَى، والدنيا من خَزَفٍ يَفنَى"!.(169/10)
ألا فاتقوا اللهَ إِخْوَةَ الإيمانِ، وأقبِلوا على طاعةِ الرحمنِ، فإنَّ في القلب شَعَثاً، لا يَلُمُّهُ إلا الإقبالُ على اللهِ، وفيه وَحْشَةً لا يُزِيلُها إلا الأنسُ بالله، وفيه حَسْرةً لا يُطْفِئُها إلا الرضا باللهِ، وإنّ في القلبِ قَلَقاً، لا يُسْكِنُهُ إلا الفرارُ إلى اللهِ، { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } { الذاريات:50 } .
اللهم اجْعلَنا مِنَ القانِعين برزقِكَ، الراضِينَ بقضائِكَ، المتَّبِعِينَ لنبيِكَ، اللهم لا تجعلِ الدُنيا أكبرَ هَمِّنا، ولا مَبْلَغَ علمنا، ولا إلى النار مصيرَنا، واجعل الجنةَ دارَنا وقرارَنا، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الكفرَ والكافرين، اللهم اهزِم مَن عادَى الإسلامَ والمسلمين وآذَى أمَّةَ خيرِ المرسلين، اللهم انصُرْ دينَك وكتابَك وسُنَّةَ نَبِيِّك وعبادَك المؤمنين، اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، اللهم صلِّ على نبيِّك محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأتباعِه إلى يومِ الدين، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
………………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(169/11)
اطبع هذه الصحفة
إن الشرك لظلم عظيم
مَعْشَرَ الإِخْوَةِ الكِرَامِ:
أَلاَ وَإِنَّ مِنْ مَظَاهِرِ الشِّرْكِ في هَذِهِ الأيامِ؛ التي تَفَشَّتْ بَيْنَ أَوْسَاطِ كَثِيرٍ مِنَ الأَنَامِ: دُعَاءَ الأَمْوَاتِ؛ وَالاسْتِغَاثَةَ بِهِمْ في المُلمَّاتِ، وَتَصْدِيقَ السَّحَرَةِ والكَهَنَةِ والعَرَّافيِنَ، وَتعْلِيقَ التمَّاَئِمِ والوَدَائِعِ والحَلِفَ بِغَيْرِ رَبِّ العَالمَينَ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 24 من ربيع الآخر 1428هـ الموافق 11/5/ 2007م
إن الشرك لظلم عظيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والعاقبةُ للمتَّقينَ، ولا عُدوانَ إلا على الظالمينَ، أَحمدُ رَبي حَمْدَ الشَّاكرينَ، وَأَشكُرُهُ شُكْرَ الحامِديِنَ، وأُنَزِّهُهُ عَنْ شِرْكِ المشرِكِين، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ؛ إلهُ الأولينَ والآخِرِينَ، وقَيوُّمُ السَّمَاوَاتِ والأَرَضِينَ، وَمَالِكُ يَوْمِ الدينِ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عَبْدُ اللهِ ورسولُه خَاتَمُ النبيينَ، وإِمَامُ المُرْسَلِينَ، المنَُزَّلُ عَلَيْهِ في مُحْكَمِ الكِتَابِ المُبِينِ { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } { الزمر: 65 } ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عليهِ وعَلَى آلِهِ الطيبينَ؛ وأَزْواجِهِ المُطَهَّرِينَ؛ وأصحابِه الغُرِّ الميَاَمِينِ؛ ومَنْ تَبِعَهُم بِإحْسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أمّا بَعْدُ:
فياَ عبادَ اللهِ:
أُوصِيكُمْ وَنَفْسِيَ بِتَقْوَى اللهِ أَيُّها الأَنَامُ، واجتَنِبُوا الشِّرْكَ فإِنَّهُ أَعْظَمُ الآثَامِ، واعْلَمُوا مَعْشَرَ البرِيَّةِ: أنَّ الشِّرْكَ هَضْمٌ لِحَقِّ الأُلوُهِيَّةِ، وَانْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ.(170/1)
وَقَدْ دَبَّ هَذَا الدَّاءُ العظيمُ في العَالمَيِنَ، في قَوْمِ نُوحٍ عليهِ السَّلامُ وَهُوَ أَوَّلُ المُرْسَلِينَ، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ سُبْحانَهُ وتعَالى عَنْهُمْ فِي كِتابِهِ المُبِينِ: { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَاراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالاً } { نوح: 21-24 } .
وَقَدْ أَخْرَجَ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَبدِالله بنِ عباسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ فِي حَقِّ هَؤُلاءِ الخمْسَةِ: أَسْماءُ رِجَالٍ صَالحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلى قَوْمِهِمْ: أَنِ انْصِبُوا إِلى مَجاَلِسهم التي كَانُوا يَجلِسُونَ أَنْصَاباً، وَسَمُّوها بِأَسمِائهم، فَفَعلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتى إِذا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ العِلْمُ؛ عُبِدَتْ.(170/2)
فَجَمَعَ هؤلاءِ بَيْنَ أَعْظمِ الفِتَنِ وأَجْسَمِ الشُّرُورِ، بينَ فِتْنَةِ التَّماثِيلِ وَفِتْنَةِ القُبُورِ، وَهُما الفِتْنَتَانِ اللَّتَانِ حَذَّرَ مِنهُما رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالقَوْلِ الصَّرِيحِ، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فيِ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ، فَقَدْ أَخْرَجَ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها: أنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما ذَكَرَتَا لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالحَبَشَةِ فيها تَصَاويِرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالحُ فَمَاتَ: بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِداً، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلك الصُّوَرَ، أُولِئكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيامَةِ".
أيُّها المسُلِمُونَ:
إِنَّ التوحيدَ: هُوَ إفرادُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وتَعَالَى بِأَسماءِ الجَمَال وَصِفَاتِ الكَمَالِ وَأَفْعَالِ الجَلاَلِ التَِّي تُوجِبُ لَه السِّيَادَةَ، وَيَسْتَحقُّ بها سُبْحَانَهُ وَتَعالَى وَحْدَهُ الإِفْرَادَ بِالعبادَةِ.(170/3)
فَمَنْ جَعَلَ لِلّهِ تَعَالَى نِدّاً في أَسْمائِهِ أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ: فَقَدْ أَشْرَكَ بِهَ وافْترَىَ عَلَيْهِ إِثْماً عَظِيماً، وَلا حَظَّ لَهُ فيِ الإِسْلامِ؛ وَلَوْ كَانَ مِنْ صَفْوَةِ الأَنَامِ، وَدُونَكُمْ قَوْلَ رَبِّ العَالمين؛ فيِ حَقِّ الأنبياءِ والمُرْسَلِينَ: { ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } { الأنعام: 88 } ، وَقَوْلَه في حَقِّ خَاتَمِهِم الصادِقِ الأمِينِ: { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ* وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ* بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ } { الزمر: 64-66 } .
لِذَا فَقَدْ اشْتَدَّ فَرَقُ الخليلَيْنِ إبراهيمَ ومحمدٍ عليهما السلامُ مِنَ الوُقُوعِ في شِرَاكِهِ، وَخَافَا عَلَى أَتبْاَعِهِمَا الرَّعْيَ حَوْلَ حِمَاهُ والدُّنُوَّ مِنْ شِبَاكِهِ، فقالَ الخليلُ إبراهيمُ عليهِ أفضلُ الصلاةِ وَأَزْكَى التَّسْلِيمِ: { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } { إبراهيم: 35 } .
وَيقولُ خَيْرُ الأَنَامِ؛ عليهِ أَفْضَلُ الصَّلاةِ وأَزْكى السَّلامِ: "ألا أُخْبِرُكُمْ بَمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ المَسِيحِ الدَّجَّالِ؟ قُلْنا: بَلىَ. فَقَالَ: الشِّركُ الخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيْزَيِّنُ صَلاَتَه ِلماَ يَرىَ مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ" [أخرجه ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ].(170/4)
فَالشِّرْكُ مَعْشَرَ المؤمنينَ، أَعْظَمُ ذَنْبٍ عُصِيَ بِهِ رَبُّ العالمينَ، كما في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ مَسْعودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سألتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: أَنْ تَجعَلَ للهِ نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ. قُلْتُ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ. قُلْتُ: ثُمّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخاَفَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ. قُلتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ".
مَعْشَرَ الإِخْوَةِ الكِرَامِ:
أَلاَ وَإِنَّ مِنْ مَظَاهِرِ الشِّرْكِ في هَذِهِ الأيامِ؛ التي تَفَشَّتْ بَيْنَ أَوْسَاطِ كَثِيرٍ مِنَ الأَنَامِ: دُعَاءَ الأَمْوَاتِ؛ وَالاسْتِغَاثَةَ بِهِمْ في المُلمَّاتِ، وَتَصْدِيقَ السَّحَرَةِ والكَهَنَةِ والعَرَّافيِنَ، وَتعْلِيقَ التمَّاَئِمِ والوَدَائِعِ والحَلِفَ بِغَيْرِ رَبِّ العَالمَينَ.
فَالحذَرَ الحَذَرَ عِبادَ اللهِ مِنَ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ، وِمِنْ كُلِّ وَسِيلَةٍ وَذَرِيعَةٍ يُتَوَصَّلُ بها إليه وَهُوَ الشِّرْكُ الأصْغَرُ، فإنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ؛ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ؛ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ.(170/5)
والمغْبُونُ مَنْ أَتَى يَوْمَ القِيَامَةِ بِعَمَلٍ كَثِيرٍ يَظُنُّهُ مَبْرُوراً، فَيجْعَلُهُ اللهُ تعَالَى لَهُ هَبَاءً مَنْثُوراً، كَمَا أَخْرجَ أحمدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مَحمودِ بنِ لُبَيْدٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ: الشِّرْكُ الأصْغَرُ. قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ. يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ اذْهَبُوا إِلى الذينَ كُنتم تُرَاؤُونَ فِي الدُّنيا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟"، رَزَقَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ الاسْتقامةَ عَلَى مَا أُمِرْنَا بِهِ فِي الفُرْقَانِ والذِّكْرِ الحَكِيمِ، وَوَفَّقَناَ للاعْتِصَامِ بِما كَانَ عَليهِ النََّبِيُّ الكَرِيمُ؛ عليهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ وأَزْكَى التَّسْلِيمِ؛ مِنَ الهَدْيِ القَوِيمِ؛ والصِّراطِ المُسْتَقيمِ.
أَقُوُل مَا تَسْمَعُونَ وأستغْفِرُ اللهَ الغَفُورَ الحَلِيمَ، ليِ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وحَوْبٍ فَتوُبُوا إِليْهِ واسْتغفِرُوه إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
…………… الخطبة الثانية(170/6)
الحَمْدُ لِلهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، القَائلِ في مُحْكَم الذِّكرِ الحكيمِ: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } { لقمان: 13 } ، أَحْمَدُ رَبِّي حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُباَرَكاً فِيهِ عَلى تَفَرُّدِه بالخَلْقِ والرَّزْقِ والمُلكِ وهو بِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٍ، وأشهدُ أَن لاّ إلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ؛ ذُو الفَضْلِ الواسِعِ العميمِ، والعطاءِ السَّابِغِ الجَسِيمِ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنَا مُحمّداً عبْدُ اللهِ ورَسُولُه المبعوثُ بالتَّزْكِيَةِ والتَّعليمِ، وهِدايَةِ الأُمِّيِّينَ إِلى الصِّرَاطِ المستقيمِ، صَلَّى اللهُ وسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آِلهِ وَأزْوَاجِهِ وَأصْحَابِهِ ذَوِي النَّهْجِ القَوِيمِ.
أمّا بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ أيُّها النَّاسُ، واجتَنِبُوا الشِّرْكَ كَبِيرَهُ وَصَغِيرَهُ فَإِنَّهُ مِنَ الأرْجَاسِ، واعلموا أنَّ ثَمَّةَ فُرُوقاً لطيفةً؛ وَمُفارَقاتٍ مُنِيفَةً؛ بينَ الشِّرْك الأكْبَرِ؛ والشِّرْكِ الأصغرِ، فَمِنْ ذَلِكَ: أَنّ صَاحِبَ الشِّرْكِ الأكْبَرِ لا يُغْفَرُ لَهُ إِلا إِنْ تَابَ وأَنَابَ، وَأمَّا صَاِحبُ الشِّرْكِ الأصْغَرِ فَهُوَ تحتَ المشيئةِ إمَّا أَنْ يَلْحَقَهُ الغُفْرَانُ وَإِمَّا أَنْ يَلْحَقَهُ العَذَابُ.
وَصَاحِبُ الشِّرْكِ الأكْبَرِ قَدْ حَبِطَ جَميعُ ما اكتَسَبَهُ مِنَ الأعمالِ، وأمَّا صَاحِبُ الشِّرْكِ الأصْغَرِ فلا يُحْبَطُ إلا مَا خَالَطَهُ مِنَ الأقْوَالِ والأفعاَلِ، وَكَذَلِكَ فإنَّ صَاحِبَ الشِّركِ الأكْبَرِ خَارِجٌ مِنَ المِلَّةِ والدِّينِ، وأَماَّ صَاحِبُ الشِّرْكِ الأصْغَرِ فَيُعاَمَلُ مُعاَمَلَةَ فَسَقَةِ المسلمينَ.(170/7)
كَمَا أَنَّ صَاحِبَ الشِّرْكِ الأكْبَرِ يُخَلَّدُ فيِ النَّارِ، وأَمَّا صَاحِبُ الشِّرْكِ الأصْغَرِ فَيُلْحَقُ بِزُمْرَةِ الفُجَّارِ؛ المُتَوَعَّدِينَ بِصَلْي النَّارِ، وَعَدَمِ الخُلُودِ فيها مَعَ الكُفَّارِ، فَالْزَمُوا هَذَا الأمْرَ السَّدِيدَ؛ وعَلَيْكُمْ بهذا الرَّأيِ الرَّشِيدِ؛ وَهُوَ إِفرادُ الرَّبِّ الحميدِ المجيدِ؛ بما يَجبُ له عَلَى جميعِ العَبِيدِ، مِنْ تَحقِيقِ مَا عَلَيْكمُ مِنَ الإخلاصِ والتوحيدِ؛ والتَّنَزُّهِ عَنْ جَميعِ مَظَاهِرِ الشِّرْكِ والتَّنْدِيدِ.
عبادَ الرحمن:
إنَّ الله قد أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه التي كلَّ يومٍ هي في شَانٍ، وثنَّى بملائِكَتِهِ التي لا تَفْتُرُ في ليلٍ ولا نهارٍ عن الحَمْدِ والسُّبْحَانِ، وثلَّثَ بكم أيُّها الخلقُ من إِنسٍ وجانٍّ، فقال إعلاءً لِقَدْرِ نَبِيِّهِ وتعظيماً، وإرشاداً لكم وتعليماً: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب: 56 } .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، في العالمينَ، إنك حميدٌ مجيدٌ.
وارضَ اللهمَّ عن الأربعةِ الخلفاءِ الراشدينَ؛ والأئمةِ الحنفاءِ المهديِّينَ، أولي الفضلِ الجليِّ؛ والقَدْرِ العَليِّ: أبي بكرٍ الصديقِ؛ وعمرَ الفاروقِ؛ وذي النورَيْنِ عُثمانَ؛ وأبي السِّبطينِ عليٍّ، وارضَ اللهم عن آلِ نبيِّكَ وأزواجِه المُطَهَّرِين من الأرجاسِ، وصحابَتِه الصفْوةِ الأخيارِ مِنَ الناسِ.(170/8)
اللهم اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهم إنا نسألُكَ مِنَ الخيرِ كلِّه، عاجِله وآجِله، ما عَلِمْنا منه وما لم نعلَم، ونعوذُ بك من الشرِّ كلِّه، عاجِله وآجِله، ما علِمْنا منه وما لم نعلم، اللهم إنا نسألك مِنَ خَيرِ ما سألك عبدُك ونبيُّك - صلى الله عليه وسلم -، ونعوذ بك من شر ما عاذ به عبدُك ونبيُّك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم إنا نسألُك الجنةَ وما قَرَّب إليها من قولٍ أو عمل، ونعوذ بك من النار، وما قَرَّب إليها من قولٍ أو عمل، ونسألُك أن تجعلَ كلَّ قضاء قَضَيْتَه لنا خيراً، اللهم آمِنَّا في الوطنِ، وادفَعْ عنا الفِتن والمِحَن؛ ما ظهرَ منها وما بَطَن.
اللهم وَفِّقْ ولاةَ أمورِنا لحمْلِ الأمانَةِ، وارزقهم صلاحَ البِطانة، واحفظهُم من كَيْدِ أهلِ البَغْي والخيانةِ، ربَّنا آتِنا في الدنيا حَسنةً؛ وفي الآخرةِ حَسنةً؛ وقِنا عذابَ النَّار.
عباد اللهِ:
اذكروا اللهَ ذِكراً كثيراً، وكبِّروه تكبيراً، { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } { العنكبوت: 45 } .
………………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(170/9)
اطبع هذه الصحفة
أتدرون من المفلس؟
عِبادَ اللهِ:
وكيفَ يكونُ حَالُ الظالمِ حينَ يَلْقَى اللهَ تعالَى بِدَمٍ سَفَكَهُ بغيرِ وَجْهِ حَقٍّ؛ فيريدُ المقتولُ القِصاصَ مِنْهُ عِندَ أَعْدَلِ العادِلينَ وأَحْكَمِ الحاكِمينَ، فَيُؤْخَذُ لذاكَ المظلومِ حقُّهُ مِنْ هذا الظالِمِ؛ لأنَّه تَجَرَّأَ علَى حُدُودِ اللهِ، ولَمْ يَعْبَأْ بِقَتْلِ النَّفْسِ التي حَرَّمَ اللهُ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ الأول من جمادى الأولى 1428 هـ الموافق 18/5/2007م
أتدرون من المفلس؟
الحمدُ للهِ إلهِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، والعاقبةُ للمتقينَ، ولا عُدوانَ إلاّ علَى الظالمينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، لا فَوْزَ إلاّ في طاعَتِهِ، ولا عِزَّ إلاّ في التَّذَلُّلِ لِعَظَمَتِه، ولا غِنَى إلاّ في الافتقارِ إلى رَحْمَتِهِ، مَن اتَّقاهُ نَجا، ومَنْ خالَفَ أمرَهُ كانَ مِنَ المُفْلِسينَ. وأشهدُ أنَّ محمّداً عبدُهُ ورسولُهُ، وأمينُه علَى وَحْيِهِ وَخَلِيلُهُ، أرسلَهُ رحمةً للعالمَِينَ، فبلَّغَ رِسَالتَهُ، وأدَّى أمانَتَهُ؛ فصلواتُ اللهِ عليهِ وعلَى آلهِ وصَحْبِهِ الذينَ آمَنوا وكانوا مِنَ المتَّقينَ، وَسَلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ يَقومُ الناسُ لِرَبِّ العالمِيَنَ.
أمَّا بَعدُ:
فأُوصِيكُمْ- عِبادَ اللهِ ـ ونَفْسِي بِتقوَى اللهِ تعالَى؛ فإنَّ التقوى دَارُ حِصْنِ العَزِيزِ، وإنَّ الفُجُورَ دَارُ حِصنِ الذَّليلِ، أَلا وباليقينِ تُدْرَكُ الغايةُ القُصْوَى { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ { } البقرة: 197 } .
إِخوةَ الإيمانِ والإسلامِ:(171/1)
لِكُلِّ عاملٍ في هذهِ الحياةِ أهدافٌ، وَلِكُلِّ مُجتَهِدٍ غاياتٌ، والناسُ بينَ عاملٍ يريدُ الدُّنيا وزينَتَهَا، ومجتَهِدٍ يريدُ اللهَ والدارَ الآخرةَ، يَصْرِفُ لذلكَ أوقاتَه، وَيُضْنِي نفسَهُ، ويُجهِدُ بدَنَهُ، يبتغِي بذلكَ الأجرَ والمثوبَةَ، يَتَورَّعُ عَنِ المُحَرَّماتِ، ويبتعدُ عَنِ الموبِقَاتِ. وبينَ عاملٍ خَلَطَ عَمَلاً صَالحاً وآخَرَ سَيِّئاً، أكثَرَ مِنَ الصالحاتِ فصَامَ وصَلَّى وزَكَّى وفعلَ الخيرَ؛ بَيْدَ أنَّه لم يَتَوَرَّعْ عَنِ المظالمِ، ولم يتجنَّبِ المحارِمَ وأَكْلَ حُقوقَ النّاسِ وتَعدَّي عليهِم ،ولم يستَنْكِفْ عَنِ القبيحِ، ولم يتجافَ عَنِ الظُّلمِ، فَيُفْضِي إلى ربِّهِ يومَ القيامةِ وَلَدَيْهِ رَصيدٌ مِنَ الحسناتِ، وآخرُ مِنَ المظالمِ والسيِّئاتِ، فإذا نُصِبَتْ مَوازينُ رَبِّ العالمينَ، واقْتُصَّ للمظلومِينَ مِنَ الظالمينَ، تبيَّنَ له الخُسْرانُ المبينُ، والإفلاسُ الحقيِقيُّ، يومَ لا يكونُ دِرْهَمٌ ولا دِينارٌ، ولا شاةٌ ولا بعيرٌ، ليس ثَمَّ إلاّ الحسناتُ والسيئاتُ. عَنْ ذلكَ الموقِفِ العظيمِ رَوَى أبو هُرَيرةَ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال:"أتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟" قالوا: المُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ له ولا مَتَاعَ فقالَ:"إنَّ المُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يأتي يومَ القيامةِ بِصَلاةٍ وصِيامٍ وزَكاةٍ، ويأتِي قَدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مَالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِه، وهذا مِن حَسَناتِه، فإنْ فَنِيتْ حَسَناتُه قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَاياَهُم فطُرِحَتْ عليهِ، ثم طُرِحَ في النَّارِ"[ أخرجَه مسلمٌ ].(171/2)
إذاً، ليسَ المُفْلِسُ الحقيِقيُّ مَنْ ليسَ له مالٌ أوْ قَلَّ مالُه، وإنْ سَمَّاهُ الناسُ كذلِكَ، وإنَّما المُفْلِسُ الحقيقِيُّ الذي يعمَلُ صَالِحاً في الدنيا ويَظْلِمُ الناسَ ويأكلُ الحقوقَ، فتُؤخَذُ حسناتُهُ لِغُرَمائِهِ فإذا فَرَغَتْ حَسَناتُهُ أُخِذَ مِنْ سيِّئاتِهم فَوُضِعَتْ عليهِ، ثم أُلِقْيَ في النَّارِ، فَتَمَّتْ خَسَارَتُهُ وهلاكُهُ وإِفْلاسُهُ.
أَجَلْ ـ أيُّها الإِخوةُ ـ لقَدْ صَلَّى وصامَ وزكَّى، ولكنَّه أضاعَ أعمالَهُ بالتَّعَدِّي عَلَى النَّاسِ، والتَّطَاوُلِ عَلَى أعرَاضِهِم؛ فشَتَمَ مَنْ شَتَم مِنْهم، ولَيسَ هذا مِنْ خُلُقِ المُسْلِمِ، فقدْ قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:" ليسَ المُؤْمِنُ بالطَّعَّانِ ولا اللَّعَّانِ، ولا الفاحِشِ ولا البَذِيِّ" [أخرجَهُ الترمذيُّ مِنْ حديثِ ابنِ مسعودٍ- رضي الله عنه - ]، وَكذلكَ قَذَفَ أعرَاضا ً للمُسلمينَ بريئةً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ أوْ نَقْصٍ، فَدَنَّسَ طُهْرَها، وَثَلَمَ حِصْنَها، إذْ رَمَاها بالزِّنا وَوَصَمَها بالفاحِشِةِ، فأتىَ باباً مِنْ أبوابِ الكبائرِ بِظُلْمٍ وبُهْتانٍ، وقدْ حَذَّرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ذلكَ فقالَ:"اجْتنِبُوا السَّبْعَ الموبِقَاتِ" وذَكَرَ مِنْها:" قَذفَ المُحْصَنَاتِ المؤُمِناتِ الغافِلاتِ"[متفقٌ عليه مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - ].(171/3)
واعلَموا أيُّها المؤمنونَ أنَّ مِنْ عَظِيمِ جُرْمِ هذا المُفْلِسِ الحقيقيِّ أَنَّهُّ يتناولُ أموالَ النَّاسِ بالظُّلمِ، ويأكُلُها بالباطِلِ، يسوقُه طَمَعُهُ الشَّديدُ، ويَؤُزُّهُ جَشَعُهُ إِلى المزيدِ، لا يُفَرِّقُ بينَ مالٍ حَلالٍ أوْ حَرامٍ، ولا يتيمٍ أوْ مسكينٍ، ولم يَحْسُبْ لهذِه الآيةِ حِساباً: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } { النساء:10 } ، ورُبَّما أَكَلَ أموالَ العِبادِ بأِخْذِهَا قَرْضاً وَسَلَفاً وهُوَ لا يَنْوِي رَدَّها إليهم؛ فَقَدْ رَوَى أبو هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"مَنْ أَخَذَ أموالَ الناسِ يُرِيدُ أدَاءَها أدَّى اللهُ عَنْه، ومَنْ أَخَذَ يريدُ إِتلافَهَا أتلفَهُ اللهُ "[ أخرجَهُ البخاريُّ].
أوْ يكونُ اقتطَعَهَا بِيَمينٍ فاجِرَةٍ كاذِبَةٍ؛ كَمَا روَى أَبو أُمَامَةَ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله- صلى الله عليه وسلم - قالَ:"مَنِ اقْتطَعَ حَقَّ امْرِىءٍٍ مُسلمٍ بِيَمينِهِ فَقَدْ أوجَبَ اللهُ لَهُ النارَ،وحَرَّمَ عليهِ الجنَّةَ" فقالَ له رجلٌ: وإنْ كانَ شَيئاً يَسِيراً يا رسولَ اللهِ؟ قالَ"وإنْ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ"[أخرجَه مسلمٌ ]، والأمرُ يكونُ عليهِ أشدَّ حينَ يكونُ اللهُ- تباركَ وتَعَالى- خَصْمَهُ يومَ القيامةِ، فَعَنْ أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: قالَ اللهُ تعالَى:" ثلاثةٌ أنا خَصْمُهُم يومَ القيامةِ: رَجَلٌ أعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باَعَ حُرّاً فأكَلَ ثَمنَهُ، ورجلٌ استَأجَرَ أجيراً فاستوفَى مِنْه ولم يُعْطِهِ أَجْرَه" [أخرجَهُ البخاريُّ].
عِبادَ اللهِ:(171/4)
وكيفَ يكونُ حَالُ الظالمِ حينَ يَلْقَى اللهَ تعالَى بِدَمٍ سَفَكَهُ بغيرِ وَجْهِ حَقٍّ؛ فيريدُ المقتولُ القِصاصَ مِنْهُ عِندَ أَعْدَلِ العادِلينَ وأَحْكَمِ الحاكِمينَ، فَيُؤْخَذُ لذاكَ المظلومِ حقُّهُ مِنْ هذا الظالِمِ؛ لأنَّه تَجَرَّأَ علَى حُدُودِ اللهِ، ولَمْ يَعْبَأْ بِقَتْلِ النَّفْسِ التي حَرَّمَ اللهُ.
قالَ اللهُ تعالَى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ } { الإسراء: 33 } ، وَلِعِظَمِ أَمرِ الدِّماءِ عندَ اللهِ تعالَى كانَ أَوَّلَ ما يُقضَى بينَ الناسِ فِيها؛ فَعَنِ ابنِ مَسعودٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"أوَّلُ ما يُقْضَى بَيْنَ الناسِ يومَ القيامةِ في الدِّمَاءِ " [متفقٌ عليه]. بَلْ إِنَّ زَوَالَ الدُّنيا أَهْوَنُ عِنْدَ اللهِ مِنْ قَتْلِ امرِىءٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ كما ثَبَتَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ:"لَزَوَالُ الدُّنْيا أَهْوَنُ عِندَ اللهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ"[أخرجَه ابنُ ماجَه مِنْ حديثِ البراءِ - رضي الله عنه -]، ولا يزالُ المؤمنُ في سَعَةٍ مِنْ دِينهِ ما لم يُصِبْ دَماً حَراماً.
أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ العليَّ العظيمَ لي ولكمْ وَلِساَئِرِ المُسْلِمينَ؛ فاستغفِرُوه وتوبُوا إليه إنِّهُ هوَ التوّابُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية(171/5)
الحمدُ للهِ الذي شَرَحَ صُدورَ المؤمنينَ لِطاعَتِهِ، ويَسَّرَ لهم سُبُلَ الخيرِ ودَعَاهم لجنَتَّهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وَحْدَهُ لا شريكَ لَهُ في أسمائهِ وصفاتِهِ ولا في ألُوهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ اصطفاهُ اللهُ لرسالَتِهِ، صَلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ الذينَ عَبَدُوا ربَّهمُ وخَافُوا يومَ بَطْشِهِ وَسَطْوَتِهِ، وَسَلَّمَ تَسليِماً كَثِيراً إِلى يومِ يُحْشَرُ المتقونَ وَفْداً إلى مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِهِ وَدَارِ كَرَامَتِهِ.
أمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ ـ عِبادَ اللهِ ـ واعْمَلُوا بِرِضَاهُ، فإنَّهُ مَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، ومَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ.
مَعْشَرَ المسُلِميِنَ:
إنَّه لا يَنْجُو مِنْ خَطَرِ الميزانِ إلاّ مَنْ حَاسَبَ نَفْسَه وَوَزَنَ بميزانِ الشَّرْعِ أعمالَهُ وأقْوَالَهُ، وخَطَرَاتِهِ ولحظاتِه، وَرُبَّ أقوامٍ عَمِلوا في الدُّنيْاَ مِنَ الصالحاتِ كثيراً، غيرَ أنَّهمْ ظَلَمُوا كَثيراً، فيُحِيطُ بهم خُصَمَاؤُهُمْ يومَ القيامةِ حتى يأخُذُوا حسنَاتِهمِ قِصَاصاً، في يومٍ يَبْدُو فيه الفقرُ والخَصَاصَةُ، فَتَشْتَدُّ حَسْرَتُهم، وتَعْظُمُ نَدَامَتُهُم. والأمرُ لا يَقِفُ عِنْدَ أَخْذِ المظلومِ مِن حَسَناتِ الظالمِ، بِلْ إنَّ الظالِمَ إذا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ أُخِذَ مِنْ خَطَاياَ المظلومينَ فَأُلْقِيَتْ عليه ثُمَّ أُلْقِيَ في النَّارِ، عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" مَنْ كانَتْ عِندَهُ مَظْلَمَةٌ لأخيهِ مِنْ عِرضِهِ أوْ شَيْءٍ فَلْيتحَلَّلْهُ مِنْهُ اليومَ قَبْلَ أن لا يكونَ دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ، إنْ كَانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وإنْ لم تَكُنْ له حَسنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سيئاتِ صاحِبِهِ فَحُمِلَ عليهِ"[أخرجَهُ البخاريُّ].(171/6)
واعْلَموا عبادَ اللهِ أنَّه لماَّ نَزَلَ قولُ اللهِ تعالَى: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } { الزمر:30-31 } ، قالَ الزُّبيرُ بنُ العَوَّامِ - رضي الله عنه -: أيْ رسولَ اللهِ أَيُكَرَّرُ علينا ما كَان بَيْنَنَا في الدنيا مَعَ خَواصِّ الذُّنوبِ؟ قالَ:"نَعَمْ، لَيُكَرَّرَنَّ عليكم حتى يُؤَدَّى إلى كُلِّ ذي حقٍّ حقُّهُ" فقالَ الزبيرُ: واللهِ إنَّ الأمرَ لشديدٌ.[أخرجَهُ أحمدُ]، فَأعْظِمْ بِشِدَّةِ يومٍ لا يُسامَحُ فيه بِخُطْوَةٍ، ولا يُتَجَاوَزُ عَن لَطْمَةٍ ولا كَلِمَةٍ، قالَ عبدُ اللهِ بنُ أُنَيْسٍٍ - رضي الله عنه - سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"يُحْشَرُ العبادُ أوِ النَّاسُ عُرَاةً غُرْلاً [أيْ غيرَ مَخْتونِينَ ]بُهْماً قالَ:وما بُهْماً؟ قالَ:"ليس مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثم يُنادِيهم بِصوتٍ يسمعُهُ مَنْ بَعُدَ كما يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ:أنَّا المَلِكُ، أنَّا الدَّيَّانُ، لا يَنْبَغِي لأحدٍ مِنْ أهلِ الجنَّةِ أنْ يدخُلَ الجِنَّةَ، ولا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ أهلِ النَّارِ أنْ يَدْخُلَ النارَ وعِندَهُ مَظْلَمَةٌ؛ حَتىَّ أَقُصَّهُ مِنْهُ، حتىَّ اللَّطْمَةُ.قالَ: قلْنا:كيفَ ذَا وإنَّما نأتِي اللهَ غُرْلاً بُهْماً؟! قالَ:"بالحسَنَاتِ والسَّيئِّاتِ"قالَ: وتَلا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } { غافر:17 } [أخرجَه أحمدُ والحاكمُ واللفظُ له].(171/7)
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، واتَّقُوا مظَالِمَ الخلائِقِ، فإنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامَةِ، وَلَنْ يَدَعَنَّ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - ظالما ًإلاّ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْه للمظلومِ؛ حَتَّى البهائمَ التي لا تَعْقِلُ سَيَقْضِي اللهُ بْينَها وَيَقْتَصُّ لها.فَعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"لَتُؤَدُّنَّ الحقوقَ إلى أهلِها يومَ القيامةِ حتىّ يُقَادَ للشَّاةِ الجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ القَرْناءِ [والجَلْحَاءُ: التي لا قَرْنَ لها][أخرجَهُ مسلمٌ]، فاحْسُبُوا لذلكَ اليومِ حِسَابَهُ، وأَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، واحذَرُوا أنْ تَبْخَسُوا الناسَ أشياءَهم، أوْ أَنْ تأكُلُوا أموالهَم، أوْ تَلوُكُوا أعرَاضَهُم، قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنكُم مِنْ أَحَدٍ إلا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ ليسَ بينَه وبينَه تُرْجُمَانٌ، فينظرُ أيمنَ مِنهُ فلا يَرَىَ إلا مَا قَدَّمَ، وينظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فلا يَرى إلا مَا قَدَّمَ، وينظرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فلا يَرَى إلاَّ النَّارَ تِلْقاءَ وَجْهِهِ فاتقوا النارَ ولوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ" [متفقٌ عليه مِنْ حديثِ عَدَيِّ بنِ حاتمٍ- رضي الله عنه - ].(171/8)
اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ. ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النَّارِ. ربَّنا أعِذْنا مِنْ شرورِ أنفُسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنا، اللهمَّ إنَّك عَفُوٌ كريمٌ تحبُّ العفْوَ فاعفُ عنَّا، وعلَى غيرِكَ لا تَكِلْنا، وعلَى طاعَتِكَ أعِنَّا، ومِنْ شَرِّ كُلِّ ذي شَرٍّ سَلِّمْنا، واغْفِرِ اللهمَّ لنا ولِوَالِدِينا ولِلمؤمنينَ، وأحْسِنْ عاقِبَتَنا في الأمورِ كُلِّها، وأجِرْنا مِنْ خِزْيِ الدُّنيا وعذابِ الآخِرَةِ، اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنّاً سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(171/9)
اطبع هذه الصحفة
ورحمة ربك خير مما يجمعون
لقد افتتح الله تعالى كتابه الكريم بأسلوب بليغ، ولفظ فصيح ينبىء عن صفة جليلة يحبها سبحانه، ويحب من تحلى بها، وكرر ذكرها في أول سورة في المصحف ألا إنها صفة الرحمة قال الله تعالى: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1, 3].
فالرحمة صفة تخلق الحق سبحانه بها، فشمل بها جميع الكائنات قال سبحانه: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً} [غافر: 7].
وخص الحق سبحانه المؤمنين بمزيد فضله من هذه الرحمة فعفا عن المسيىء منهم إذا تاب، والكافر إذا أسلم وأناب، سبقت رحمته غضبه قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} [الأعراف 156: 157] وقال سبحانه في الحديث القدسي: "رحمتي تغلب غضبي" [رواه مسلم].
ورحمة ربك خير مما يجمعون
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستهديه، و نؤمن به، ونتوكل عليه، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يرحم الرحماء، ويعاقب أهل الكبرياء، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رحم أهل المسكنة والضعفاء، وعطف على البؤساء والفقراء، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأتقياء
أما بعد:
أخوة الإسلام:
لقد افتتح الله تعالى كتابه الكريم بأسلوب بليغ، ولفظ فصيح ينبىء عن صفة جليلة يحبها سبحانه، ويحب من تحلى بها، وكرر ذكرها في أول سورة في المصحف ألا إنها صفة الرحمة قال الله تعالى: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1, 3].(172/1)
فالرحمة صفة تخلق الحق سبحانه بها، فشمل بها جميع الكائنات قال سبحانه: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً} [غافر: 7].
وخص الحق سبحانه المؤمنين بمزيد فضله من هذه الرحمة فعفا عن المسيىء منهم إذا تاب، والكافر إذا أسلم وأناب، سبقت رحمته غضبه قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} [الأعراف 156: 157] وقال سبحانه في الحديث القدسي: "رحمتي تغلب غضبي" [رواه مسلم].
عباد الله:
لقد من الله على الإنسانية ببعثة رسول الله محمد (صلي الله عليه وسلم) الذي اتصف بكمال الأخلاق، أرسله رحمة للعالمين، وجعله الله أزكى عباد الله رحمة، وأوسعهم عاطفة، وأرحبهم صدراً،
( 2 )
قال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[التوبة: 128 ].
لقد كان(صلي الله عليه وسلم) يعطف على القريب والبعيد، والكافر والمؤمن، ويعفو عمن أساء إليه مع قدرته على العقاب، ويحسن إلى من أذاه، فحينما آذاه قومه أشد الإيذاء وهو يدعوهم إلى ما فيه خير لهم في الدنيا والآخرة جاءه جبريل ومعه ملك الجبال ليأذن له في إنزال العقاب بهم لم يكن منه وهو الرحمة المهداه إلا أن قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" [رواه البخاري].
معشر المسلمين:(172/2)
لقد امتن الله على البشرية بهذا الدين الحنيف، دين الرحمة، الذي جاءت أحكامه ميسرة سهلة، تهدف إلى إسعادهم في الدارين، وإنقاذهم من دجى الشرك إلى الإيمان، ومن ظلمات الجهل إلى العلم، من اتبعها هدى إلى صراط مستقيم، قال تعالى:{ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] وقال جل شأنه:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً} [الإسراء: 82]
إن خلق الرحمة يعبر عن شخصية المسلم، حيث يتمتع بروح طاهرة، تحب الخير وتحرص عليه، وتقدمه للغير وتبغض الشر وتنفر منه، يعطف الغني على الفقير، ويرحم القوي الضعيف، يتواصون بالصبر والحق، هم كالجسد الواحد، قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وقال(صلي الله عليه وسلم) "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" [رواه مسلم] وقال تعالى:
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 17, 18] وقال (صلي الله عليه وسلم): "إنما يرحم الله من عباده الرحماء" [رواه البخاري].
إن قسوة القلب، وغلظة الفؤاد يبغضها الإسلام وينفر منها، ومن كان هذا طبعه فقد أوجب غضب الله عليه، وكراهية الخلق له، وأنزل نفسه درك الشقاء قال (صلي الله عليه وسلم) "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله" [رواه الشيخان].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي (صلي الله عليه وسلم) أنه قال "عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت، فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" [متفق عليه].
( 3)
إخوة الإسلام:(172/3)
للرحمة مواطن كثيرة، فهناك موطن الرحمة بالأبوين، والرحمة بالأولاد والزوجات، والرحمة بالأقارب وذوى الأرحام، والرحمة باليتامى والمساكين، والضعفاء كالمرضى والصبيان، وذوى العاهات، ثم الرحمة بالحيوان وهكذا تتسع آفاق الرحمة حتى تشمل جوانب فسيحة من الحياة وعدداً ضخماً واضحاً من الأحياء. إن أولى الناس بالبر هم الآباء والأمهات، الذين سهروا على راحة أولادهم، وقد مدوا لهم كل عون فهم ينتظرون من أبنائهم الإحسان إليهم جزاء ما صنعوا بهم قال تعالى:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24].
إن ينابيع الرحمة إنما تنبثق من الأسرة فإذا فاضت على أفرادها ما سرت في المجتمع كله،قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
ففي الأسرة يرحم الرجل زوجته، وتوقر المرأة بعلها، ويعطف الوالدان على أولادهم، ورسول الله (صلي الله عليه وسلم) قدوة لنا، فقد كان يعامل زوجاته معاملة طيبة، ويرعى أولاده بعين العطف والرحمة فكان (صلي الله عليه وسلم) يقبل فاطمة، ويتجوز في صلاته عندما يسمع بكاء الصبي، ويقول عليه الصلاة والسلام: إني لأدخل في الصلاة فأريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه" [رواه البخاري].
أيها الأخوة المؤمنون:(172/4)
إن في مقدمة من أمر الله بوصلهم والبر بهم بعد الوالدين الأقارب وذوي الأرحام على درجات متفاوتة حسب صلتهم بالإنسان، وحسب استحقاقهم لهذه الصلة، فمن وصل رحمه رزقه الله رزقاً حسناً، وأجلاً مباركاً فيه، قال(صلي الله عليه وسلم): من أحب أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أجله فليصل رحمه" [رواه البخاري] أما الإنسان الجافي القاطع لرحمه فإنه يعود بالخسران المبين، وباللعنة من رب العالمين، قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23,22].
( 4 )
أيها المسلمون:
إن من آثار الرحمة العفو عن ذي الزلة، و المغفرة لصاحب الخطيئة، وإغاثة الملهوف، ومساعدة الضعيف، وإطعام الجائع وكسوة العاري، ومداواة المريض، ومواساة الحزين، كل هذه الآثار إذا فشت في المجتمع قوى عوده واشتد أزره، وعلا شأنه، وتمتع من فيه بالرخاء والمجد والسؤدد.
قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" [رواه مسلم].
ولقد ظهرت أسمى صور الرحمة عند صحابة رسول الله (صلي الله عليه وسلم) الذين اقتبسوا الأخلاق الكريمة من رسول الله (صلي الله عليه مسلم) فنراهم يرحمون الضعيف مسلماً كان أم كافراً، فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يجعل لشيخ يهودي نصيباً من بيت المال عندما رآه يسأل الناس ويقول له: ما رحمناك أكلنا شبابك ولم نرحم شيخوختك.(172/5)
ولقد وصل العطف منهم رضوان الله عليهم إلى الحيوان فهذا ابن عمر رضي الله عنهما ينذر الفتيان الذين مر بهم وهم يترامون طيراً حتى أماتوه، بالعذاب الأليم في الآخرة فقال: من فعل هذا ؟ لعن رسول الله من فعل هذا، إن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) لعن من اتخذ شيئاً فيه روح غرضاً" رواه البخاري ومسلم
عباد الله:
بادروا إلى التخلق بهذا الخلق الحميد، ولتكن الرحمة عندكم كالنهر الجاري، يشرب منه المسلم والكافر، والطير والإنسان، والحيوان والنبات لا يمنع أحد أن يرتوي من مائه.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني الله وإياكم بآيات الذكر الحكيم وهداني الله وإياكم إلى صراطه المستقيم.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(172/6)
اطبع هذه الصحفة
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
عبادَ اللهِ
وفي أوائِلِ صَفَرٍ مِنَ العامِ الحادِيَ عشَرَ خرَجَ إلى شُهَداءِ أُحُدٍ فصلَّى عليهم كالمُوَدِّعِ للأحياءِ والأمواتِ جميعاً، ثُمَّ انصرفَ إلى المِنْبرِ فقالَ:"إنِّي فَرَطُكُم، وأنا شهيدٌ عليكم، وإنِّي واللهِ لأنظرُ إلى حَوْضِيَ الآنَ، وإنِّي أُعطِيتُ خزائنَ مفاتيحِ الأرضِ، وإنِّي واللهِ ما أخافُ عليكم أنْ تُشرِكوا بَعْدِي، ولكنْ أخافُ عليكم أنْ تَنَافَسُوا فيها" [أخرجَه البخاريُّ].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 8 من جمادى الأولى 1428هـ الموافق 25007/ 5 /2م
وفاة الرسول- صلى الله عليه وسلم -
إنَّ الحمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أنفسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِهِ أجمعينَ.
أمَّا بعدُ:
فأُوصيكم - مَعاشِرَ المسلمينَ- بِتقوَى اللهِ - عز وجل -، فإنَّ تقواهُ عليها المُعَوَّلُ، وهيَ وصِيَّتُهُ للآخِرِ مِن عبادِهِ وللأوَّلِ، وإنَّ آثارَها عظيمةٌ ظاهرةٌ لمَنْ يَتأمَّلُ، يقولُ اللهُ: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً - ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } { الطلاق:4-5 } .(173/1)
واعلموا أتباعَ خاتَمِ المرسلينَ أنَّ أعظمَ نِعْمَةٍ امتنَّ اللهُ بها علَى البشريَّةِ جَمعاءَ هيَ بِعْثَةُ خاتَمِ الرُّسُلِ والأنبياءِ - صلى الله عليه وسلم -، بعثَهُ اللهُ علَى حينِ فَتْرَةٍ مِن الرُّسُلِ، وقَدْ أَظْلمَتِ الدُّنيا واستَحْكَمَ الْجَهْلُ، وعَمَّتِ الوثنِيَّةُ، وفَشَتِ الجاهليَّةُ، فجاءَتْ نُبُوَّةُ المصطفَى - صلى الله عليه وسلم - كالغيثِ بعدَ طُولِ الجدْبِ، وكالفَرَجِ بعدَ عُمومِ الكرْبِ، قالَ اللهُ - سبحانه وتعالى - مُبَيِّناً هذِهِ النِّعْمَةَ: { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } { آل عمران:164 } .
عبادَ اللهِ:
وتمرُّ الأيامُ وتنقضِي السِّنونَ، وتمضِي علَى بِْعثَةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثٌ وعشرونَ سنةً، قضاها في الجِهادِ والتضحيةِ، والثباتِ والدَّعْوَةِ، رَفعَ فيها رايةَ التوحيدِ، وقَمَعَ الشِّرْكَ وطهَّرَ الجزيرةَ العربيَّةَ مِنَ الجاهليةِ، ونصحَ للأُمَّةِ، وكَمُلَتْ بهِ الشريعةُ، وتَمَّتْ بهِ النِّعْمَةُ علَى البشريَّةِ، وما كادتْ أعْيُنُ الصحابَةِ - رضي الله عنهم - تَكتَحِلُ بِرؤيةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقَدِ اطمأنَّ إلى نصرِ اللهِ له، وانتشارِ الإسلامِ، حتى فُجِعُوا بكارثةٍ عظيمةٍ وخَطْبٍ جَلَلٍ، إنِّها مُصيبةٌ وأيُّ مصيبةٍ، أَجهَشَتْ نُفوساً، وأبكَتْ عُيوناً، وأدْمَتْ قلُوباً، وفَتَنَتْ أقْواماً، إنَّها مصيبةُ فَقْدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
إخْوةَ الإسلامِ:(173/2)
حَجَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في العامِ العاشِرِ مِنْ هجرتِهِ حَجَّةَ الوَداعِ، وكانَ بينَ الفَيْنَةِ والأُخرَى يُوَدِّعُهم قائلاً:" لِتَأْخُذوا عَنِّي مناسِكَكُم؛ فإنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بعدَ حَجَّتِي هذِهِ" [أخرجَه مسلمٌ مِنْ حديثِ جابرِ بن عبدِاللهِ رضِيَ اللهُ عَنْهما]، ثم أَنزَلَ اللهُ - عز وجل - عليه وهو في عرفاتٍ قولَهُ - سبحانه وتعالى -: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } { المائدة:3 } ، وفي أوْسَطِ أيامِ التشريقِ أُنْزِلَتْ عليه: { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً { } النصر: 3 } ، فَعرَفَ أنَّهُ الوَداعُ، وأنَّهُ نُعِيَتْ إليه نَفْسُهُ.
عبادَ اللهِ:
وفي أوائِلِ صَفَرٍ مِنَ العامِ الحادِيَ عشَرَ خرَجَ إلى شُهَداءِ أُحُدٍ فصلَّى عليهم كالمُوَدِّعِ للأحياءِ والأمواتِ جميعاً، ثُمَّ انصرفَ إلى المِنْبرِ فقالَ:"إنِّي فَرَطُكُم، وأنا شهيدٌ عليكم، وإنِّي واللهِ لأنظرُ إلى حَوْضِيَ الآنَ، وإنِّي أُعطِيتُ خزائنَ مفاتيحِ الأرضِ، وإنِّي واللهِ ما أخافُ عليكم أنْ تُشرِكوا بَعْدِي، ولكنْ أخافُ عليكم أنْ تَنَافَسُوا فيها" [أخرجَه البخاريُّ].(173/3)
وخرجَ ليلةً إلى البقيعِ فاستغفرَ لهم، ودعا لهم وودَّعَهم فعَنْ أبي مُوَيْهِبَةَ - رضي الله عنه - مَوْلَى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"بَعثَنِي رسولُ اللهِ مِنْ جوفِ الليلِ، فقالَ:"يا أبا مُوَيْهِبَةَ إنِّي قَدْ أُمِرتُ أنْ أَسْتغفرَ لأهلِ البقيعِ فانطَلِقْ معي " فانطلقْتُ معه، فلما وقفَ بيْنَ أَظْهُرِهِم قالَ: "السلامُ عليكم يا أهلَ المقابرِ لِيَهْنِ لكم ما أصبَحْتم فيه ممّا أصبحَ فيه النّاسُ، لوْ تعلمونَ ما نجَّاكمُ اللهُ مِنْه، أَقْبَلَتِ الفِتَنُ كَقِطَعِ الليلِ المُظْلِمِ، يَتْبَعُ أوَّلُها آخِرَها الآخرةُ شَرٌّ مِنَ الأُولى" قالَ: ثم أقبَلَ علَيَّ فقالَ: "يا أبا مُوَيْهِبَةَ! إنِّي قَدْ أُوتِيتُ مفاتيحَ خزائنِ الدُّنيا والخُلْدَ فيها ثُمَّ الجنَّةَ، وخُيِّرْتُ بينَ ذلك وبينَ لقاءِ ربِّي - عز وجل - والجنَّةِ" قالَ: قلتُ بأبي وأُمِّي! فَخُذْ مفاتيحَ الدُّنيا والخلدَ فيها ثُمَّ الجنَّةَ، قالَ: " لا واللهِ يا أبا مُوَيْهِبَةَ! لقَدِ اخترتُ لقاءَ ربِّي - عز وجل - والجنَّةَ " ثم استغفرَ لأهلِ البقيعِ، ثم انصرفَ، فَبُدِئَ رسولُ اللهِ في وَجَعِهِ الذي قَبَضَهُ اللهُ فيه حينَ أصْبحَ" [أخرجَه الأمامُ أحمدُ]، وحينَ اشتدَّ به الوَجَعُ والحُمَّى أُغمِيَ عليه، ثم لمَّا أفاقَ خرَجَ إلى الناسِ فصلَّى لهم وخَطَبَهم، ثم عَرَضَ نفسَهُ للقِصاصِ ليتَحَلَّلَ مِنْ مظالمِ العِبادِ، قبلَ وقوعِ يومِ التَّنَادِ، ثم جاءتْ ساعةُ الاحتضارِ وبشَّرَ ابنتَهُ فاطمةَ - رضي الله عنه - بأنَّها سيِّدَةُ نِساءِ العالمينَ في الجنَّةِ، وأنَّها أوَّلُ أهلِهِ لحُوقاً به، وكانتْ تَرَى ما بهِ مِنَ الكَرْبِ الذي يَغْشَاهُ فتقولُ: وَاكَرْبَ أبَتاه، فيقولُ لها:" ليسَ على أبيكِ كَرْبٌ بعدَ اليومِ"[أخرجَهُ البخاريُّ مِنْ حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ- رضي الله عنه - ].(173/4)
ودعا - صلى الله عليه وسلم - أزواجَهُ فوعَظَهُنَّ وذكَّرَهُنَّ، وأوصَى الناسَ. ففيما أخرجَه أحمدُ عَنْ أنسِ بنِ مالكٍ- رضي الله عنه - قالَ: " كانَتْ عامَّةُ وصيَّةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حينَ حضَرَهُ الموتُ: "الصلاةَ وما ملكَتْ أيمانُكم" حتى جعلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُغَرْغِرُ بها صدرُهُ وما يكادُ يَفيضُ بها لسانُهُ، وبدأَ احتضارُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأسنَدَتْهُ عائشةُ - رضي الله عنه - إليها وكانَتْ تقولُ: "إنَّ مِنْ نِعَمِ اللهِ عليَّ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تُوُفِّيَ في بيتِي، وفي يَوْمِي، وبينَ سَحْرِي ونَحْرِي، وأنَّ اللهَ جمعَ بينَ ريقِي وريقِهِ عندَ موتِهِ، دخلَ عليَّ عبدُالرحمنِ بنُ أبي بكرٍ ـ رضِيَ اللهُ عنَهْما ـ وَبِيَدِهِ السِّواكُ وأنا مُسْنِدَةٌ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فرأيتُهُ ينظرُ إليه، وعرفْتُ أنَّه يُحبُّ السواكَ فقلتُ: آخُذُه لك؟ فأشارَ برأسِهِ أِنْ نَعَمْ، وبين يدَيْهِ رَكْوَةٌ فيها ماءٌ فجعلَ يُدْخِلُ يدَيْهِ في الماءِ فيمسَحُ بهما وجهَهُ يقولُ: " لا إلهَ إلاّ اللهُ، إنَّ للموتِ سَكَراتٍ" ثم نصَبَ يدَهُ فجعلَ يقولُ: "اللهمَّ في الرفيقِ الأعلَى"حتى قُبِضَ ومالَتْ يدُه"[ أخرجَهُ البخاريُّ].(173/5)
نَعَمْ عبادَ اللهِ! رفعَ المصطفَى - صلى الله عليه وسلم - يدَهُ وشَخَصَ بَصَرُه إلى السماءِ، وتحركَتْ شَفَتاهُ، وأصْغَتْ إليه عائشةُ وهوَ يقولُ: "اللهمَّ اغفرْ لي وارحمْنِي وألحِقْنِي بالرفيقِ الأعلَى"، ثم مالَتْ يدُه ولَحِقَ بالرفيقِ الأعلَى، ضُحَى يومِ الإثنينِ الثانِيَ عشَرَ مِنْ ربيعٍ الأوَّلِ سنَةَ إحدَى عَشْرَةَ للهجرةِ، صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه، وجزاهُ عنِ الإسلامِ والمسلمينَ خَيرَ ما جَزَى نبيّاً عَنْ أُمَّتِهِ، علَى صبرِهِ وجهادِهِ وتبليغِهِ ودعوتِهِ. بلَغَ الخبرُ الصحابةَ - رضي الله عنهم - فكانَ كالصاعقةِ في نفوسِهم، أظلَمَتْ عليهِمُ الدُّنيا، وضاقَتْ عليهِمُ الأرضُ بما رَحُبَتْ، واستوحَشَتْ لهم المدينةُ فما هِيَ بالتي يَعرِفونَ، يقولُ أنسُ بنُ مالكٍ - رضي الله عنه -: " فَشَهِدتُّه يومَ دخلَ المدينةَ فما رأيتُ يوماً قَطُّ كانَ أحْسَنَ ولا أضْوَأَ مِنْ يومٍ دخلَ علينا فيه، وشهدتُّه يومَ ماتَ فما رأيتُ يوماً كانَ أقبحَ ولا أظلمَ مِنْ يومٍ ماتَ فيه - صلى الله عليه وسلم -" [أخرجَه الإمامُ أحمدُ].
كذا فَلْيَجِلَّ الخَطْبُ وَلْيَفْدَحِ الأمْرُ فليس لعينٍ لم يَفِضْ ماؤُها عُذْرُ
ثَوَى طاهِرُ الأردَانِ، لم تَبْقَ بُقْعَةٌ غَداةَ ثَوَى إلاّ اشتَهَتْ أنَّها قَبْرُ
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ، ونفعنِي وإيَّاكم بما فيه مِنَ الهُدَى والبيانِ.
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ فاستغفِرُوهُ إنَّه هوَ الغفورُ المنَّانُ.
الخطبة الثانية(173/6)
الحمدُ للهِ الذي أكملَ لنا الدينَ، وجعلَنا مُسلِمِينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له إلهُ الأوَّلِينَ والآخرِينَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ الأمينُ، أرسلَهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ،فبَلَّغَ وجاهدَ حتى أتاهُ اليقينُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آِلهِ وأصحابِهِ والتابعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أمَّا بعدُ:
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واتقوا يوماً تُرجعونَ فيه إلى اللهِ، وتأمَّلوا في هذا الحَدَثِ العظيمِ ففيهِ الألمُ والحسَرَاتُ، علَى فَقْدِ أكْرَمِ البريَّاتِ وسيِّدِ الكائناتِ- صلى الله عليه وسلم - وفيه عظيمُ العِبَرِ والعِظاتِ.
وكانَتْ في حياتِكَ لي عِظاتٌ وأنتَ اليومَ أوْعَظُ مِنْكَ حَيَّا
لقَدْ ذاقَ طعمَ الموتِ ليكونَ ذلكَ يقيناً جازِماً، بأنَّ كلَّ مَنْ عليها فانٍ إلاّ مَنْ تفرَّدَ بالبقاءِ، الأحدُ الذي لا يزولُ، والحيُ الذي لا يموتُ، مَنْ كَتبَ الموتَ علَى العبيدِ، وتعالَى سبحانَهُ أنْ يَفْنَى أوْ يَبِيدَ، { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } { الرحمن:26-27 } .
{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } { الزمر:30 } فعلَى كُلِّ مسلمٍ أنْ يُدرِكَ أنَّ هذهِ الحياةَ مَمَرٌّ لا مَقَرٌّ، فليتزوَّدْ مِنْ مَمَرِّهِ إِلى مَقَرِّهِ.
وكانَ- صلى الله عليه وسلم - وهَو يُصارِعُ سكراتِ الموتِ حريصاً علَى تحقيقِ التوحيدِ، وقَمْعِ صُوَرِ الشِّرْكِ والتنديدِ، حيثُ كانَ يقولُ في لحظاتِهِ الأخيرةِ فيما أخرجَهُ الشيخانِ:" لَعْنَةُ اللهِ علَى اليهودِ والنصارَى، اتخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجِدَ" يحذِّرُ ما صَنَعوا.(173/7)
وكانَ - صلى الله عليه وسلم - وهوَ يصارِعُ سكراتِ الموتِ حريصاً علَى الصلاةِ، بلْ لم تَفُتْهُ الصلاةُ معَ المسلمينَ معَ اشتدادِ الألمِ بهِ، وزيادَةِ الوجَعِ عليه، وهوَ القائُل فيما أخرجَهُ الشيخانِ:"إنِّي أُوعَكُ كما يُوعَكُ رجلانِ مِنْكم" وهوَ المبَشَّرُ بالجنَّةِ، المغفورُ له ما تقدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وما تأخَّرَ، ليكونَ ذلكَ حُجَّةً علَى المتواكلينَ علَى رحمةِ اللهِ - سبحانه وتعالى -، المُفَرِّطينَ في الصَّلَواتِ، لقَدْ كانَ المصطفَى - صلى الله عليه وسلم - وهوَ ينازِعُ سكراتِ الموتِ حريصاً علَى التحلُّلِ مِنْ مظالمِ العِبادِ، فليتقِ اللهَ مَنْ لم يُبَالِ بحقوقِ الناسِ، يضربُ هذا، ويشتُمُ ذاكَ، ويغتابُ هذا، ويأكلُ مالَ ذاكَ، ويسفكُ دمَ أولئكَ، ألَمْ يقرأْ أوْ يسمعْ قولَهُ تعالَى: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } { الفجر:14 } ، لقَدْ عُرِضَتْ علَى نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - الدنيا بكنوزِها وأموالِها ولذائذِها، فرفَضَها واختارَ لقاءَ ربِّهِ، وجوارَ الرفيقِ الأعلَى، ومَنْ أحَبَّ لقاءَ اللهِ أحَبَّ اللهُ لقاءَه، فقَدْ خَرَجَ مِنَ الدنيا ما يملِكُ مِنْها إلاَّ سلاحَه، ودِرْعاً مرهونةً في طعامٍ، وبغلَتَهُ التي يجاهدُ عليها، وهوَ الذي أُعطِيَ مفاتيحَ خزائنِ الأرضِ، ودانَتْ له العربُ والعَجَمُ، وهكذا العظماءُ لا يَشترون بعهدِ اللهِ ثمناً قليلاً، ومِنْ عظيمِ العِظاتِ والعِبَرِ، في وفاةِ خيرِ البَشَرِ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ الدِّينَ يقومُ بذاتِهِ وكِيانِهِ، ولا يقومُ علَى الأشخاصِ، فهذا نبيُّ الهُدَى - صلى الله عليه وسلم - يموتُ، ولا يموتُ الدِّينُ، فمهما حصَلَ لِصالحِي الأُمَّةِ، فإنَّ الدينَ باقٍ ولوْ كَرِهَ الكافرونَ، ثم صَلُّوا وسلِّموا - رحمَكُمُ اللهُ - علَى الهادِي البشيرِ، والسراجِ المنيرِ، كما أمَرَ بذلكمُ اللطيفُ الخبيرُ فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: { إِنَّ اللَّهَ(173/8)
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب:56 } .
اللهمَّ اغفرْ لِلمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ, وأذِلَّ الشرْكَ والمشركينَ, ودمِّرِ اللهمَّ أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ، اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنّاً سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
………………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(173/9)
اطبع هذه الصحفة
الإسراف والتبذير
معشرَ الأحبَّةِ
ولا يخفَى أنَّ الإسرافَ والتبذيرَ قدْ تعدَّدَتْ مظاهِرُهما، وتنوَّعَتْ أشكالُهما إذْ كادا أنْ يَعُمَّا حياةَ المجتمَعاتِ والأفرادِ، وُيفْسِدا حياةَ العِبادِ والبلادِ، ويُنَكِّدَا عَيْشَهم. ومِنْ وجوهِ الإسرافِ والتبذيرِ ومظاهِرِهما التي عَمَّتْ: الإسرافُ في المآكِلِ والمشارِبِ خصوصاً في المناسباتِ بحيثُ تُوضَعُ أطْعِمَةٌ كثيرةٌ وأشْرِبَةٌ مُتنوِّعَةٌ ثُمَّ ينفَضُّ الناسُ عَنْ أكثرِها تاركينَ سبيلَها إلى حاوِيَاتِ النُّفَاياتِ، وأُمَمٌ كثيرةٌ يموتونَ جوعاً لا يجدونَ ما يَسُدُّ رمَقَهم أوْ يدْفَعُ جوعَهم.قالَ أبو بكرٍ الصدِّيقُ - رضي الله عنه -:" إنِّي لأُبْغَضُ أهلَ بيتٍ يُنفقونَ رِزْقَ أيَّامٍ في يومٍ واحدٍ". و قدْ نهَى الشرعُ عَنْ ذلكَ حِفاظاً علَى المالِ مِنَ التبذيرِ، وخَوْفاً علَى جسمِ الإنسانِ مِنَ التُّخَمَةِ وصِحَّتِهِ مِنَ الأمراضِ. قالَ اللهُ تعالَى: { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } { الأعراف: 31 } ، قالَ بعضُ السَّلَفِ: جمعَ اللهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ الطِّبَّ كُلَّه في نِصْفِ هذهِ الآيةِ. ولمَّا كانَ الإفْراطُ في الطعامِ ضارّاً ببدنِ الإنسانِ ومالِهِ وصحتِهِ فقَدْ نهَى عَنْه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ روَى المِقْدامُ بنُ مَعْدِ يكَرِبَ - رضي الله عنه - فقالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"ما ملأَ آدميٌّ وعاءً شرّاً مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإنْ كانَ لا مَحالَةَ فُثلُثٌ لطعامِهِ، وثُلُثٌ لِشَرابِهِ، وثُلُثٌ لِنَفَسِهِ"[أخرجَه أحمدُ والترمذيُّ]، وبالغَ أُناسٌ في المراكِبِ والمساكِنِ والملابِسِ وتسابَقوا فيها، وربَّما كلَّفوا أنفسَهم ما لا يُطيقونَ، وتحمَّلوا مِنَ الديونِ ما لا يستطيعونَ؛ حتَّى أرهَقوا أنفسَهم وشغَلوا(174/1)
ذِمَمَهم بما لا تحْتَمِلُ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 15 جمادى الأولى 1428هـ 1/ 6 / 2007م
الإسراف والتبذير
الحمدُ للهِ ذي الطَّوْلِ والإنْعامِ، المحسنِ بفضلِهِ إلى جميعِ الخَلْقِ والأنامِ، الذي خَلَقَ كلَّ شيءٍ فقدَّرَهُ تقديراً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له؛ أحلَّ الحلالَ وحرَّمَ الحرامَ، ونَهَى أنْ يُبَذَّرَ المالُ تبذيراً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ، وصفوتُهُ مِنْ خَلْقِهِ وخليلُهُ، وأفضلُ رُسلِهِ الكرامِ، أرسلَهُ ربُّهُ هادِياً ومُبشِّراً ونذيراً، وداعِياً إلى اللهِ بإذنِهِ وسِراجاً مُنيراً، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِهِ الذينَ اقتصدوا في عَيْشِهم فلم يُسْرِفوا ولم يُقتِّروا تَقْتيراً، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
أمّا بعدُ:
فأوصيكم ـ أيُّها الناسُ ـ ونفسِي بتقوَى العزيزِ الغفورِ، فإنَّ في تقوَى اللهِ نجاةً وتجارةً لنْ تبورَ، قالَ اللهُ تعالَى: { وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ { } الزمر:61 } .
إخوةَ الإسلامِ:(174/2)
إنَّ مِنْ عظيمِ فضلِ اللهِ علينا أنْ شرَعَ لنا دِيناً قِيَماً ومِنْهاجاً، وجعلَنا في الأُمَمِ أُمَّةً وَسَطاً فزادَ الشريعةَ رحمةً وحِكْمةً، والنفوسَ قَبولاً وابْتهاجاً. جعلَها سبحانَه وَسَطاً في الشرائعِ والأحْكامِ؛ لتكونَ صالحةً لجميعِ الأنامِ، وإنَّ مِنْ مظاهِرِ هذِهِ الوسَطِيَّةِ: الاعتدالَ في الإنفاقِ وسائرِ الأمورِ الدِّينيَّةِ والدُّنْيَوِيَّةِ، فقَدْ أثنَى ربُّنا سبحانَه وتعالَى علَى أوليائِهِ مِنْ عبادِهِ؛ وأصفيائِهِ مِنْ خَلْقِهِ، فجعلَ العَدْلَ والوسَطَ مِنْ صفاتِهمُ الملازمةِ لهم فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } { الفرقان: 67 } ، وذمَّ ربُّنا ـ عزَّ وجلَّ ـ الإسرافَ والتبذيرَ وجعلَهما مِنْ صفاتِ إخوانِ الشياطينِ فقالَ تعالَى: { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً } { الإسراء:26 ـ 27 } ، وأخبرَ جلَّ جلالُه أنَّهُ لا يحبُّ أهلَ السَّرَفِ الذين يتجاوَزونَ حدودَ ما شرعَ اللهُ لعبادِهِ فقالَ: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } { الأعراف:31 } .
عبادَ اللهِ:(174/3)
الإسرافُ داءٌ قتَّالٌ، ومرَضٌ عُضَالٌ، يَهْدِمُ مُقَوِّماتِ الأُمَمِ والمجتَمَعاتِ، ويُبعْثِرُ الأموالَ ويبدِّدُ الثرواتِ، ثُمَّ يكونُ سبباً للوقوعِ في المُهْلكاتِ، وكثيرًا ما تُصابُ النفوسُ عندَ كثرةِ العَرَضِ والغِنَى بالطُّغْيانِ والإسرافِ، وهوَ توجيهٌ غيرُ سَوِيٍّ لنِعْمَةِ المالِ التي استودَعها اللهُ الإنسانَ واستخلَفَهُ فيها، واسترسالٌ في المُتعِ واللذَّاتِ، واستغراقٌ في الانِحدارِ والشهواتِ، واعْلَموا عبادَ اللهِ أنَّ المتتبِّعَ لظاهِرَةِ الإسرافِ والتبذيرِ، والمراقِبَ لأحوالِها، لَيرَى أسباباً تدعو إليها، ودوافعَ تَبْعَثُ عليها، وتُوقعُ أهْلَها فيها، ومِنْ هذهِ الأسبابِ:جهلُ المسرفينَ بأحكامِ الدِّينِ الذي ينْهَى عَنِ الإسرافِ والتبذيرِ، أوْ تجاهلُ مَنْ لا يجهلُ أحكامَ الإسرافِ وتغاضِيهِ عنْ ذلكَ، اتباعاً لرَغْبَةٍ في نفسِهِ، أوْ شهوةٍ في قلْبِهِِ، مِنْ حُبٍّ لِلْمُباهاةِ والتفاخُرِ، ورغبةٍ عارِمَةٍ في التسابُقِ والتكاثُرِ، في مظاهِرِ الدُّنيا ومفاخِرِ العَيْشِ، ومِنْها الغفلةُ عَنْ حقيقةِ الحياةِ الدنيا، وأنَّها دارُ مَمَرٍّ لا دارُ مَقَرٍّ، فإذا غَفَلَ المرءُ عَنْ حقيقَتِها وأنَّها لوْ كانَتْ تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَناحَ بعوضةٍ ما سقَى مِنْها كافراً شربةَ ماءٍ، وأنَّ الحالَ قَدْ يتغَّيرُ مِنَ الغِنَى إلى الفقرِ، ومِنَ الفقرِ إلى الغِنَى ما بينَ غَمْضَةِ عينٍ وانتباهَتِها، إذا غَفَلَ عَنْ ذلكَ أسرفَ علَى نفسِهِ وبدَّدَ أموالَهُ، فالحياةُ الدنيا مَيْدانٌ للتَّسابُقِ في الصالحاتِ لا في الشَّهَواتِ، وفي الخَيْراتِ فَلْيَتنافَسِ المتنافِسُونَ، ومِنْها: مُصاحَبَةُ المُسْرفينَ، لأنَّ الصاحِبَ يتأثَّرُ بأخلاقِ صاحبِهِ، ويتطبَّعُ بطباعِهِ، والصاحِبُ ـ كما قِيلَ ـ ساحِبٌ، والطيورُ علَى أشكالِها تَقَعُ. قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "الرجلُ علَى دين خليلِهِ،(174/4)
فَلْينظُرْ أحدُكم مَنْ يُخالِلُ" [أخرجَه أبو داودَ والترمذيُّ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - ].
عبادَ اللهِ:
ومِنْ هذهِ الأسبابِ التقليدُ واتباعُ العاداتِ، فإذا نشأَ الإنسانُ في بيئةٍ تعوَّدَتِ السَّرَفَ والتبذيرَ حاكاهم وقلَّدَهم، وحاوَلَ مُسايَرَتَهم في حياةِ البذَخِ والإسرافِ، حتَّى أُصيبَ كثيرٌ مِنَ الناسِ بسُعارِ التقليدِ الأعمَى، والتَبعِيَّةِ الجَوْفاءِ بلا تمحيصٍ ولا بصيرةٍ، ومِنْها أيضاً: قِلَّةُ النظرِ في عواقِبِ السَّرَفِ والتبذيرِ، وضعفُ الاهتمامِ بآثارِهِ الضارَّةِ علَى الفردِ والمجتمعِ، والدِّينِ والدُّنيا، فلَوْ تأمَّلَ الإنسانُ تلكَ العواقِبَ، ووضَعَها في عَقْلِهِ وقلبِهِ لما رأيْنا كثيراً مِنْ مظاهِرِ السَّرَفِ، وتبديدِ الثرْوَةِ؛ التي طَغَتْ حتىَّ أصبحَتْ جُزْءاً مِنْ حياةِ كثيرٍ مِنَ الناسِ.
معشرَ الأحبَّةِ:(174/5)
ولا يخفَى أنَّ الإسرافَ والتبذيرَ قدْ تعدَّدَتْ مظاهِرُهما، وتنوَّعَتْ أشكالُهما إذْ كادا أنْ يَعُمَّا حياةَ المجتمَعاتِ والأفرادِ، وُيفْسِدا حياةَ العِبادِ والبلادِ، ويُنَكِّدَا عَيْشَهم. ومِنْ وجوهِ الإسرافِ والتبذيرِ ومظاهِرِهما التي عَمَّتْ: الإسرافُ في المآكِلِ والمشارِبِ خصوصاً في المناسباتِ بحيثُ تُوضَعُ أطْعِمَةٌ كثيرةٌ وأشْرِبَةٌ مُتنوِّعَةٌ ثُمَّ ينفَضُّ الناسُ عَنْ أكثرِها تاركينَ سبيلَها إلى حاوِيَاتِ النُّفَاياتِ، وأُمَمٌ كثيرةٌ يموتونَ جوعاً لا يجدونَ ما يَسُدُّ رمَقَهم أوْ يدْفَعُ جوعَهم.قالَ أبو بكرٍ الصدِّيقُ - رضي الله عنه -:" إنِّي لأُبْغَضُ أهلَ بيتٍ يُنفقونَ رِزْقَ أيَّامٍ في يومٍ واحدٍ". و قدْ نهَى الشرعُ عَنْ ذلكَ حِفاظاً علَى المالِ مِنَ التبذيرِ، وخَوْفاً علَى جسمِ الإنسانِ مِنَ التُّخَمَةِ وصِحَّتِهِ مِنَ الأمراضِ. قالَ اللهُ تعالَى: { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } { الأعراف: 31 } ، قالَ بعضُ السَّلَفِ: جمعَ اللهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ الطِّبَّ كُلَّه في نِصْفِ هذهِ الآيةِ. ولمَّا كانَ الإفْراطُ في الطعامِ ضارّاً ببدنِ الإنسانِ ومالِهِ وصحتِهِ فقَدْ نهَى عَنْه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ روَى المِقْدامُ بنُ مَعْدِ يكَرِبَ - رضي الله عنه - فقالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"ما ملأَ آدميٌّ وعاءً شرّاً مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإنْ كانَ لا مَحالَةَ فُثلُثٌ لطعامِهِ، وثُلُثٌ لِشَرابِهِ، وثُلُثٌ لِنَفَسِهِ"[أخرجَه أحمدُ والترمذيُّ]، وبالغَ أُناسٌ في المراكِبِ والمساكِنِ والملابِسِ وتسابَقوا فيها، وربَّما كلَّفوا أنفسَهم ما لا يُطيقونَ، وتحمَّلوا مِنَ الديونِ ما لا يستطيعونَ؛ حتَّى أرهَقوا أنفسَهم وشغَلوا ذِمَمَهم بما لا تحْتَمِلُ.
أيُّها الإخوةُ:(174/6)
إنَّ اللهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ، ويحبُّ أنْ يَرى أثرَ نِعْمَتِهِ علَى عبدِهِ، لكنَّه سبحانَه يكْرَهُ إضاعَةَ المالِ، والسَّرَفَ والمَخِيلَةَ في الإنفاقِ، وَوَضْعَ النِّعْمَةِ في غيرِ مَوْضِعِها، ألَمْ يقلِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُوا واشربُوا وتصَدَّقوا والْبِسوا في غيرِ إسْرافٍ ولا مَخِيلَةٍ"؟[أخرجَه أحمدُ مِنْ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمروٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما]، ومِنَ الإسرافِ ما يكونُ في بعضِ الأعْراسِ والحفَلاتِ والمناسباتِ، حيثُ يَظْهَرُ السَّرَفُ والبذَخُ فيها إلى حَدِّ التباهِي والتفاخُرِ؛ والرياءِ والسُّمْعَةِ، وفي هذا كَسْرٌ لنفوسِ الفقراءِ مِنَ الناسِ، وبَطَرُ النِّعْمَةِِ، واستخفافٌ بعواقِبِ الأمورِ ونتائِجِها وفي المَثَلِ: مَنِِ اشترَى مالا يحتاجُ إليهِ باعَ ما يحتاجُ إليهِ.
عبادَ اللهِ:
ومِنَ الإسرافِ المذمومِ الإسرافُ في المرافِقِ العامَّةِ والمنافِعِ الحيَوِيَّةِ التي لا تتخَلَّى عَنْها الحياةُ اليومِيَّةُ في هذا الزمنِ؛ كالماءِ والكهرباءِ، فكَمْ تُهْدَرُ مِنْ مياهٍ بلا داعٍ ولا حاجةٍ؛ وكَمْ تَضِيعُ مِنْ طاقاتٍ كهربائِيَّةٍ بلا موجبٍ ولا مُسَوِّغٍ، وكمْ مِنْ مصابيحَ لا تُطْفَأُ في ليلٍ ولا نهارٍ؟!!وكُلُّ ذلكَ مِنَ الإسرافِ الممقوتِ والتبذيرِ المُسْتَقْبَحِ، أَمَا قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" إنَّ اللهَ كَرِهَ لكم ثلاثاً: قِيلَ وقَالَ، وكَثْرةَ السُّؤَالِ، وإضاعَةَ المالِ"؟ [ متفقٌ عليهِ مِنْ حديثِ المغيرةِ بنِ شُعْبَةَ - رضي الله عنه -].(174/7)
لقَدْ نَهانا دِينُنا الحنيفُ عنِ الإسرافِ في الصَّدَقَةِ، وعنِ الإسرافِ في الوضوءِ؛ وهما مِنَ العبادَةِ، فكيفَ إذا كانَ الإسرافُ في غيرِهما ؟! عَنْ عبدِاللهِ بنِ عمروٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - توضَّأَ ثلاثاً ثلاثاً ثُمَّ قالَ:" هَكَذا الوضوءُ فمَنْ زادَ علَى هذا فقَدْ أساءَ وتعدَّى وظَلَمَ " [أخرجَه أحمدُ والنسائيُّ واللفظُ له]، ولقَدْ كانَ نبيُّنا عليهِ الصلاةُ والسلامُ يغتَسِلُ ويتَوضَّأُ باليَسيرِ مِنَ الماءِ، فعَنْ أنسٍ - رضي الله عنه - قالَ: " كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يتوضَّأُ بالمُدِّ ويغَتسِلُ بالصَّاعِ إلى خمسةِ أمدادٍ"[متفقٌ عليه].
أَلاَ فاسْتَقِمْ في كُلِّ أَمْرِكَ وَاقتَصِدْ فذلِكَ نَهْجٌ لِلصِّراطِ قَوِيمُ
ولا تَكُ فيها مُفْرِطاً أوْ مُفَرِّطاً كِلاَ طَرَفَيْ كُلِّ الأمورِ ذَمِيمُ
أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ العليَّ العظيمَ لي ولكم مِنْ كُلِّ ذنبٍ؛ فاستغفروهُ إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ علَى إحسانِهِ، وله الشكرُ علَى توفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له؛ مُعِزٌّ أهلَ طاعتِهِ، ومُذِلٌّ أهلَ عِصْيانِهِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ الداعِي إلى رِضْوانِهِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ وإخوانِهِ؛ الذين دَعَوْا إلى سبيلِ اللهِ وجِنانِهِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ:
فاتقوا اللهَ ـ عِبادَ اللهِ ـ واعْمَلوا بطاعتِهِ، واحْذَروا مواقِعَ سُخْطِهِ، ومواضِعَ معصيَتِهِ.
معشرَ المسلمينَ:(174/8)
اعلموا أنَّ للإسرافِ والتبذيرِ عواقِبَ وخيمةً، وآثاراً جِدَّ جسيمةٍ، تصيبُ الأفرادَ والمجتَمَعاتِ، وتَجْلِبُ علَى النفوسِ الكسلَ عَنِ الطاعاتِ، والميلَ إلى الشهواتِ، وتدعو إلى شرورٍ مُسْتطيرةٍ، وتوقِعُ في مهالِكَ كثيرةٍ، ومِنَ العواقِبِ التي تترتَّبُ علَى الإسرافِ والتبذيرِ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُهْلِكُ المسرفينَ ويعاقِبُهم عِقاباً شديداً، فهما هَلاكٌ في الدنيا وعذابٌ في الآخرةِ. قالَ اللهُ تعالَى عَنِ رُسلِهِ: { ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ } { الأنبياء: 9 } .
والإسرافُ والتبذيرُ من أسبابِ الضلالِ، وعدَمِ الهِدايَةِ لمصالِحِ الدِّينِ والدُّنيا. قالَ المولَى جلَّ جلالُه: { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } { غافر: 28 } ، وقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: { وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } { غافر: 43 } ، ومِنْها: أنَّ الإسرافَ والتبذيرَ سببٌ في ذهابِ المالِ وتبديدِهِ؛ فيعيشُ المسرِفُ والمبذِّرُ حياةَ الفقرِ بعدَ الغِنَى، والضيقِ بعدَ السَّعَةِ. قالَ اللهُ تعالَى: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } { الإسراء: 29 } ، أيْ: لا تكُنْ بخيلاً ولا تسرفْ في الإنفاقِ فتعطِي فوقَ طاقَتِكَ فتقعدَ حَسِيراً، وقالَ سبحانَهُ وتعالَى: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } { القصص: 58 } .
عِبادَ اللهِ:(174/9)
اتقوا اللهَ، وحافِظوا علَى النِّعْمَةِ مِنَ الزوالِ، واعمَلوا فيها بالحلالِ؛ تُؤْجَرُوا وتُرْزَقُوا ويبارَكْ لكم فيها، وإيَّاكم والإسرافَ والتبذيرَ، واحذروا الإمساكَ والتقتيرَ، فكلاهما مخالفٌ لشرْعِ اللطيفِ الخبيرِ.
اللهمَّ ألهِمْنا شُكْرَ نِعْمَتِكَ، ودوامَ عافِيَتِكَ، وجَنِّبْنا فُجاءَةَ نِقْمَتِكَ وجميعَ سَخَطِكَ، وبارِكْ اللهمَّ لنا في أوقاتِنا وأموالِنا، وأولادِنا وأزواجِنا، واغْفِرِ اللهمَّ لنا ولوالِدِينا وللمسلمينَ أجمعينَ، اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنْاً سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
………………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(174/10)
اطبع هذه الصحفة
إن الشيطان لكم عدو
معشرَ الأخْيارِ
لماَّ ابْتُلِيَ إبليسُ عَدُوُّ اللهِ بالسجودِ قَدَحَ في حِكْمَةِ العزيزِ الغفَّارِ، ولا ندِمَ علَى الزَّلَّةِ وما سألَ ربَّهُ الإقالةَ ولا طرَقَ بابَ الاعتذارِ، ولماَّ ابتُلِيَ آدمُ وليُّ اللهِ بتَرْكِ الأكْلِ مِنَ الشجرةِ تضرَّعَ واستكانَ وفزِعَ إلى الاستغفارِ، وأقْلَعَ عَنِ الذنْبِ ونَدِمَ علَى الحَوْبِ وعَزَمَ علَى عَدَمِ الإصْرارِ، ونحنُ بنو آدمَ ومَنْ أشْبَهَ أباهُ فما ظَلَمَ، ومَنْ كانَتْ شِيمَتُهُ التوبةَ والاستغفارَ فقَدْ هُدِيَ لأحْسَنِ الشِّيَمِ، واعْلَموا معشرَ المسلمينَ والمسلماتِ أنَّ الشيطانَ الرجيمَ يريدُ أنْ يظْفَرَ بكم في عَقَبَةٍ مِنْ سَبْعِ عَقَباتٍ، ولا يَنْزِلُ مَعَكم مِنَ العقبَةِ الشاقَّةِ إلى ما دُونَها إلاّ إذا عَجَزَ عَنْ كَيْدِكم بما مَعَه مِنَ الشُّبُهاتِ والشَّهَواتِ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 22 من جمادى الأولى 1428هـ الموافق 8007/ 6 /2م
إن الشيطان لكم عدو
الحمدُ للهِ الذي أنارَ قلوبَ أوليائِهِ بالتفَقُّهِ في صِفاتِ كَمالِهِ؛ والتبَصُّرِ في نُعوتِ جَلالِهِ، رحمةً بهم فهوَ أرحمُ بهم مِنَ الوالِدَةِ بوَلَدِها الرَّفيقَةِ به في حَمْلِهِ ورَضاعِهِ وفِصالِهِ، فلا يَهْلِكُ عليه إلاَّ شَقِيٌّ هالِكٌ قاطِعَ سَيِّدَهُ وصَالِحَ عَدُوَّهُ مَعَ إغوائِهِ وإضلالِهِ، أحمدُ ربِّي حمداً كثيراً طيِّباً مُبارَكاً فيه علَى ما أسْداه إلينا مِنْ كريمِ إنْعامِهِ وعظيمِ إفْضالِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له المنْفَرِدُ بالبقاءِ بعدَ فَناءِ كُلِّ مخلوقٍ وزوالِهِ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمداً المعصومُ مِنَ الضلالَةِ والغَوايَةِ في أحوالِهِ وأقوالِهِ وأفعالِهِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ ما تَدَثَّرَ عبدٌ بِدِثارِ التعبُّدِ وتَسَرْبَلَ بسِرْبالِهِ.(175/1)
أمَّا بعدُ:
فأوصِيكم مَعْشَرَ الأحبابِ؛ بتقوَى العزيزِ الوهَّابِ، فهيَ خيرُ أنيسٍ وصاحبٍ ليومِ المآبِ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمران: 102 } .
رُوَيْدَكَ جانِبْ رُكوبَ الهَوَى فِبئْسَ المطِيَّةُ للراكِبِ
وحَسْبُكَ باللهِ مِنْ مُؤْنِسٍ وحَسْبُكَ باللهِ مِنْ صاحِبِ
مَعْشَرَ المؤمنينَ:
إنَّ اللهَ تعالىَ جعلَ العِزَّةَ في حَشْوِ الخُضوعِ لهذا الدِّينِ، فمَنِ ابتغَى العِزَّةَ بغيرِهِ فهوَ ذَليلٌ ومَهينٌ، وتأمَّلوا رحِمَكُمُ اللهُ تعالَى في حالِ إبليسَ اللعينِ، لما أبَى السجودَ لآدَمَ واستكبرَ وكانَ مِنَ الكافرينَ، أخرجَهُ اللهُ تعالَى مِنَ الملأِ الأعلَى وأتْبعَهُ اللعْنَةَ إلى يومِ الدِّينِ.
معشرَ الأخْيارِ:
لماَّ ابْتُلِيَ إبليسُ عَدُوُّ اللهِ بالسجودِ قَدَحَ في حِكْمَةِ العزيزِ الغفَّارِ، ولا ندِمَ علَى الزَّلَّةِ وما سألَ ربَّهُ الإقالةَ ولا طرَقَ بابَ الاعتذارِ، ولماَّ ابتُلِيَ آدمُ وليُّ اللهِ بتَرْكِ الأكْلِ مِنَ الشجرةِ تضرَّعَ واستكانَ وفزِعَ إلى الاستغفارِ، وأقْلَعَ عَنِ الذنْبِ ونَدِمَ علَى الحَوْبِ وعَزَمَ علَى عَدَمِ الإصْرارِ، ونحنُ بنو آدمَ ومَنْ أشْبَهَ أباهُ فما ظَلَمَ، ومَنْ كانَتْ شِيمَتُهُ التوبةَ والاستغفارَ فقَدْ هُدِيَ لأحْسَنِ الشِّيَمِ، واعْلَموا معشرَ المسلمينَ والمسلماتِ أنَّ الشيطانَ الرجيمَ يريدُ أنْ يظْفَرَ بكم في عَقَبَةٍ مِنْ سَبْعِ عَقَباتٍ، ولا يَنْزِلُ مَعَكم مِنَ العقبَةِ الشاقَّةِ إلى ما دُونَها إلاّ إذا عَجَزَ عَنْ كَيْدِكم بما مَعَه مِنَ الشُّبُهاتِ والشَّهَواتِ.(175/2)
فأمَّا العقبةُ الأولَى: فهِيَ عقبةُ الكُفْرِ بربِّ العالمينَ، وبما أخبرَ بهِ خاتَمُ الأنبياءِ والمرسلينَ - صلى الله عليه وسلم -، فإنْ ظَفِرَ الشيطانُ بوَلِيِّهِ في هذِه العقبةِ وبانَ كُفْرُهُ ولاحَ: برَدَتْ نارُ عَداوَتِهِ له واستراحَ، فإنْ أدْرَكَتِ العبدَ مِنْ ربِّهِ تبارَكَ وتعالَى الرعايةُ، واقتحَمَ هذِهِ العقبةَ ونَجا مِنْها بِبَصيرَةِ الهِدايَةِ، طلَبَهُ عَدُوُّه علَى العقبةِ الثانيةِ وهيَ عقبةُ البِِدْعَةِ في الإسلامِ، وهي الإحْداثُ في الدِّينِ الذي شَرعَهُ اللهُ للأنامِ، مِنَ الأوْضاعِ والرُّسومِ المُحْدَثَةِ التي تَنْسِلُ صاحِبَها مِنَ الدِّينِ؛ كما تُنْسَلُ الشَّعْرَةُ مِنَ العَجينِ، لَذا قالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ رحمَهُ اللهُ تعالَى: "البِدْعَةُ أحبُّ إلى إبليسَ مِنَ المعصيةِ، المعصيةُ يُتابُ مِنْها، والبدعَةُ لا يُتابُ مِنْها"[أخرجَهُ الأصْبَهانِيُّ والبيْهَقِيُّ]، فإنْ قطَعَ العبدُ هذِهِ العقبةَ بفَضْلٍ مِنَ اللهِ ومِنَّةٍ، وخَلَصَ مِنْها بنورِ مُوافَقَتِهِ للسُّنَّةِ: طلبَهُ عدوُّهُ علَى العقبةِ الثالثةِ وهيَ عقبةُ الكبائِرِ، فزيَّنَ للْعُيونِ هذِهِ الموبِقاتِ وغرَسَ لَذَّتهَا في السرائِرِ، فإنْ قطَعَ العبدُ هذِهِ العقبةَ بالعِصْمَةِ أوْ بالتوبَةِ والندَمِ، طلبَهُ عدوُّهُ علَى العقبةِ الرابعةِ وهيَ عقبةُ الصغائِرِ واللَّمَمِ، فأوْحَى بزُخْرُفِ القَوْلِ والغُرورِ إلى البصائِرِ: ما عليكَ بِغِشْيانِ الصغائِرِ؛ إذا اجتَنَبْتَ الكبائِرَ، فلا يزالُ يُدْنِيهِ إليها؛ حتَّى يُصِرَّ العبدُ علَيْها، فيكونَ مَنِ ارتكبَ كبيرةً وخافَ مِنَ الحَوْبِ: أحسَنَ حالاً مِنْ هذا المُصِرِّ علَى الذنْبِ، فلا كبيرةَ مَعَ الاستغفارِ، ولا صغيرةَ مَعَ الإصْرارِ.(175/3)
وقَدْ قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"إيَّاكم ومُحقَّراتِ الذنوبِ، فإنَّما مَثَلُ مُحَقَّراتِ الذنوبِ كقَوْمٍ نَزَلوا بَطْنَ وادٍ، فجاءَ ذا بعودٍ، وجاءَ ذا بعودٍ، حتىَّ أنْضَجوا خُبْزَتَهم، وإنَّ مُحَقَّراتِ الذُّنوبِ متى يُؤْخَذْ بها صاحِبُها تُهْلِكْه"[ أخرجَه أحمدُ مِنْ حديثِ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ الساعِدِيِّ - رضي الله عنه -]، فإنْ نَجا العبدُ مِنْ هذِهِ العقبةِ بالتَحرُّزِ والتحَفُّظِ وإتْباعِ السيئاتِ الحسناتِ: طلبَهُ علَى العقبةِ الخامسةِ وهيَ عقبةُ المُباحاتِ، فَشغَلَهُ بها عَنِ الاسْتِكْثارِ مِنَ الطاعاتِ، ثُمَّ يستَدْرِجُه مِنْها إلى تَرْكِ السُّنَنِ والواجِباتِ، وأقَلُّ ما ينَالُ مِنْه عَدُوُّهُ تَفْوِيتُهُ الأرباحَ والمكاسِبَ العظيمةَ في أعْلَى الدرجاتِ، ولَوْ عَرَفَ الثمَنَ لما فَوَّتَ علَى نفسِهِ شَيْئاً مِنَ القُرُباتِ، فإنْ نَجا العبدُ مِنْ هذِهِ العقبةِ ببصيرةٍ تامَّةٍ ونورٍ هادٍ ومَعْرِفَةٍ بقَدْرِ الطاعاتِ: طلبَهُ العدوُّ علَى العقبةِ السادسةِ وهيَ عقبةُ الأعْمالِ المفْضولَةِ المرْجوحَةِ مِنَ القُرُباتِ، فقاسَمَهُ عدُوُّهُ إنَّهُ لِوَلِيِّهِ لَناصِحٌ، فشغَلَهُ بالمَفْضولِ عَنِ الفاضِلِ وبالمرْجوحِ عَنِ الراجِحِ، فإنْ نجا العبدُ مِنْها بفِقْهٍ في مَراتِبِ الأعمالِ؛ ومنازِلِها في الفضلِ عِنْدَ الكبيرِ المُتَعالِ: لمْ يَبْقَ هُناَكَ عقبةٌ يطلبُهُ العدُوُّ عَلَيْها؛ ويضْطرُّهُ إلى أضْيَقِ طريقٍِ إليها: سِوَى واحدةٍ لا بُدَّ مِنْها، ولا مَناصَ لأحدٍ مِنَ الخَلْقِ عَنْها، وهيَ عقبةُ تَسْلِيطِ جُنْدِهِ وحِزْبِهِ علَيْهِ بأنْواعِ الأذَى، والجَلْبِ علَيْهِ بِخَيْلِهِ ورَجِلِهِ لِيُورِدَهُ مَعاطِبَ الرَّدَى، وهذِهِ العقبةُ لا حِيلَةَ للعَبْدِ في التخلُّصِ ممَّا فِيها مِنَ الخَطْبِ والكَرْبِ؛ لأنَّ عدوَّهُ سيَجِدُّ في إيذائِهِ كُلَّما جَدَّ في إصْلاحِ القلْبِ؛(175/4)
والاستقامَةِ علَى أمْرِ الرَّبِّ، وصدَقَ اللهُ العظيمُ؛ إذْ يقولُ في مُحْكَمِ الذِّكْرِ الحكيمِ؛ في وَصْفِ عَداوَةِ الشيطانِ الرجيمِ: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } { فاطر: 6 } ، رَزَقَنِي اللهُ وإيَّاكُمُ الاستقامَةَ علَى ما أمرَنا بهِ في الفُرْقانِ والذِّكْرِ الحكيمِ، وجنَّبَنَا اتْباعَ سُبُلِ الشيطانِ الرجيمِ؛ الصادِّ عَنِ الصِّراطِ المستقيمِ؛ والداعِي إلى صِراطِ الجحيمِ.
أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ الغفورَ الحليمَ، لي ولكم مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وحَوْبٍ فتوبوا إليهِ واستغفروه إنَّه هوَ التوَّابُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذي جعلَ المحبَّةَ إلى الظَّفَرِ بالمحبوبِ سبيلاً، وحرَّكَ بها النفوسَ إلى أنواعِ الكَمالاتِ إيثاراً لِطَلَبِها وتَحْصيلاً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له لا أبْغِي سِواهُ رَبّاً ولا أتَّخِذُ مِنْ دونِهِ وَلِيّاً ولا وَكِيلاً، وأشهدُ أنَّ محمداً نبيُّ اللهِ المرسَلُ للإيمانِ القويمِ مُنادِياً؛ وللصِّراطِ المستقيمِ هادِياً؛ وَلجنَّةِ النعيمِ دَليلاً، فصلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ صلاةً وسلاماً لا أرومُ عَنْها انْتِقالاً ولا تَحْويلاً.
أمَّا بعدُ:
فأُوصِيكم مَعْشَرَ المؤمنينَ؛ بتَقْوَى ربِّ العالمَينَ، فهيَ وَصِيَّةُ اللهِ للأوَّلينَ والآخِرينَ.
معشرَ الفُضلاءِ:(175/5)
إنَّ مِنَ الطُّرقِ الشرعيَّةِ التي يُكادُ بها الأعداءُ: مُراغَمَتَهم وإغاظَتَهم كما هوَ مَثَلُ الأوْلياءِ، كما قالَ اللهُ سبحانَه وتعالَى في مَثَلِ رسولِهِ المصطفَى المختارِ - صلى الله عليه وسلم -؛ ومَثَلِ أتباعِهِ الأبْرارِ: { وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } { الفتح: 29 } ، ولماَّ ذكرَ اللهُ تعالَى في كتابِهِ المبينِ: صِفاتِ عبادِهِ المجاهدينَ؛ نَعَتَهم بإغاظَةِ الكافرينَ: { مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } { التوبة:120 } .(175/6)
فإذا كانَتْ مُغايَظَةُ الكافرينَ: غايةً محبوبةً لرَبِّ العالمَينَ، فما ظَنُّكم بمغايَظَةِ الشياطِينِ؟ لذا شُرِعَ للمُصَلِّي إذا سَها في صلاتِهِ أنْ يَسْجُدَ سجْدَتَيِنْ كما جاءَ في قَوْلِ خاتَمِ النبيِّينَ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْساً شَفَعْنَ لَهُ صَلاتَهُ وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لأَرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ" [أخرجَه مسلمٌ مِنَ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - ]، فكُلَّما حَدا بِكَ الشيطانُ إلى الذنْبِ: فرَاغِمْهُ بالنَّدمِ والاستغفارِ والتوْبِ، ولا تكُنْ بينَ يَدَيْهِ:
كَعُصْفورةٍ في كَفِّ طِفْلٍ يَسُومُها حِياضَ الرَّدَى والطفلُ يَلْهُو ويَلْعَبُ
عبادَ الرحمنِ:
إنَّ اللهَّ قَدْ أمرَكم بأمرٍ بدأَ فيهِ بنفسِهِ التي كلَّ يومٍ هِيَ في شانٍ، وثَنَّى بملائكتِهِ التي لا تَفْتُرُ في ليلٍ ولا نَهارٍ عَنِ الحَمْدِ والسُّبْحَانِ، وثلَّثَ بكم أيُّها الخلقُ من إنسٍ وجانٍّ، فقالَ إعلاءً لقَدْرِ نبيِّهِ وتعظيماً، وإرشاداً لكم وتعليماً: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً { } الأحزاب: 56 } .(175/7)
اللهمَّ صلِّ علَى محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ، كما صلَّيْتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ علَى محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ، كما باركْتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ، في العالمَينَ، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عَنِ الأربعةِ الخُلفَاءِ الراشدينَ؛ والأئمةِ الحُنَفاءِ المْهْديِّينَ، أُوليِ الفضْلِ الجَلِيِّ؛ والقَدْرِ العَلِيِّ: أبي بكرٍ الصدِّيقِ؛ وعمرَ الفاروقِ؛ وذِي النورينِ عُثمانَ؛ وأبي السِّبْطَيْنِ عَلِيٍّ، وارضَ اللهمَّ عَنِ آلِ نبيِّكَ وأزواجِهِ المُطَهَّرِينَ مِنْ الأرْجاسِ، وصحابَتِهِ الصَّفْوَةِ الأخْيارِ مِنَ الناسِ، اللهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ مِنَ الخيرِ كُلِّهِ، عاجلِهِ وآجلِهِ، ما عَلِمْنا مِنْه وما لَمْ نعْلَمْ، ونعوذُ بكَ مِنَ الشرِّ كُلِّهِ، عاجلِهِ وآجلِهِ، ما عَلِمْنا مِنْه وما لَمْ نَعْلَمْ، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ مِنْ خَيْرِ ما سألَكَ عبدُكَ ونبيُّكَ - صلى الله عليه وسلم -، ونعوذُ بكَ مِنْ شَرِّ ما عاذَ بهِ عبدُكَ ونَبِيُّكَ - صلى الله عليه وسلم -، اللهمَّ إنّا نسألُكَ الجنَّةَ وما قَرَّبَ إليها مِنْ قَوْلٍ أوْ عَمَلٍ، ونعوذُ بكَ مِنَ النَّارِ، وما قَرَّبَ إليها مِنْ قَوْلٍ أوْ عَمَلٍ، ونسألُكَ أنْ تجعلَ كُلَّ قَضاءٍ قَضَيْتَه لنا خيْراً، اللهمَّ آمِنَّا في الوطَنِ، وادْفَعْ عنَّا الفِتَنَ والمِحَنَ؛ ما ظهرَ مِنْها وما بَطَنَ، اللهمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أمورِنا لحَمْلِ الأمانَةِ، وارْزُقْهم صلاحَ البِطانَةِ، واحفَظْهم مِنْ كيدِ أهلِ البَغْيِ والخِيانَةِ، ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرةِ حسنةً؛ وقِنا عذابَ النَّارِ.
عبادَ اللهِ:(175/8)
اذكروا اللهَ ذِكْراً كثيراً، وكبِّروهُ تكبيراً، { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } { العنكبوت: 45 } .
…………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(175/9)
اطبع هذه الصحفة
الإجازة والسفر
معاشِرَ المسلمينَ:
عِنْدَ الحديثِ عَنِ الإجازاتِ، لابُدَّ مِنَ التذكيرِ بأهميَّةِ حِفْظِ الأوْقاتِ، فلا مَجالَ عِنْدَ المسلمِ للتَّفْرِيطِ في وقتِهِ، فوقتُهُ هوَ حياتُهُ، لابُدَّ أنْ نُرَبِّيَ أنفُسَنا علَى استغلالِ الوقْتِ خيرَ استغلالٍ، فعَنِ ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"لا تزولُ قَدَما ابنِ آدمَ يومَ القيامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حتىَّ يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ، عَنْ عُمُرِهِ فيمَ أفناهُ، وعَنْ شبابِهِ فِيمَ أبْلاهُ، ومالِهِ مِنْ أينَ اكتسَبَهُ وفِيمَ أنفَقَهُ، وماذا عَمِلَ فيما عَلِمَ" [أخرجَهُ الترمذيُّ]، ويقولُ بعضُ الحُكَماءِ: "مَنْ أمضَى يوماً مِنْ عُمْرِهِ في غيرِ حقٍّ قَضَاهُ، أوْ فَرْضٍ أدَّاهُ، أوْ مَجْدٍ أصَّلَهُ، أوْ فِعْلٍ محمودٍ حصَّلَهُ، أوْ عِلْمٍ اقْتبسَهُ، فقَدْ عَقَّ يَوْمَهُ، وظَلَمَ نفْسَهُ، وخَانَ عُمُرَهُ".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 29 جمادى الأولى 1428هـ الموفق15/6/2007م
الإجازة والسفر
الحمدُ للهِ الذي عَمَّ برحمتِهِ جميعَ العِبادِ، وخَصَّ أهلَ طاعتِهِ بالهدايَةِ إلى سبيلِ الرشادِ، ووفَّقَهُم بلُطْفِهِ لصالِحِ الأعمالِ ففازوا ببلوغِ المُرادِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، شَهادةً أدَّخِرُها ليومِ المعادِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ مُوَضِّحُ طريقِ الهُدَى والسدادِ، وقامِعُ أهْلِ الزَّيْغِ والعِنادِ، صلَّى اللهُ وسلَّم عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ الأَجْوادِ، ومَنْ تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ يقومُ الأشهادُ.
أمَّا بعدُ:(176/1)
فأُوصيكم- عِبادَ اللهِ-ونفسِي بتقوَى اللهِ، فالفرجُ واليُسْرُ والمغفرةُ في تَقْواه، وبها النجاةُ والفوزُ يومَ لُقْياهُ، يقولُ اللهُ جلَّ في عُلاهُ: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً - ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } { الطلاق :4-5 } .
إنَّ التَّقِيَّ جِنانُ الخُلْدِ مَسْكَنُهُ يَنالُ حُوراً عَلَيْها التّاجُ والحُلَلُُ
والمُجْرِمينَ بنارٍ لا خُمودَ لها في كُلِّ وَقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ تَشْتَعِلُ
أيُّها الإخوةُ المؤمنونَ:
إنَّ النَّفْسَ إذا كَلَّتْ مَلََّتْ، وإذا أُرْهِقَتْ صَدَّتْ، وإذا عُولَجِتْ نَهَضَتْ ونَشِطَتْ، فهيَ في حاجةٍ إلى الترويحِ، ولابُدَّ لها مِنْ تَخْفيفٍ وتَنْفيسٍ، ترويحٌ وتنفيسٌ تَنْسَى بهما هُمومَ الحياةِ، وتُتابِعُ الواجباتِ، وتَنْشَطُ بعدَها لمُزاوَلَةِ الأعمالِ والنهوضِ بالحقوقِ والأعْباءِ، معَ التقَيُّدِ بالضوابِطِ الشرعِيَّةِ التي تَحولُ دونَ العَبَثِ أوِ الفسادِ، والنَّزْعَةُ إلى الترويحِ فِطْرَةٌ بشريَّةٌ، وجِبِلَّةٌ غَريزيَّةٌ، أرشدَ الشارعُ الناسَ إليها لما لها مِنْ أهميَّةٍ، شكا حَنْظَلةُ - رضي الله عنه - يوماً إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يارسولَ اللهِ، نكونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنا بالنارِ والجنّةِ، حتّى كأنّا رَأْيُ عَيْنٍ، فإذا خَرجْنا مِنْ عِنْدِكَ عافَسْنا الأزْواجَ والأولادَ والضَّيْعاتِ نَسِينا كثيراً، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"والذي نفسِي بيدِهِ إنْ لَوْ تَدومونَ عَلَى ما تكونونَ عِنْدِي وفي الذِّكْرِ لَصافَحَتْكُمُ الملائِكَةُ عَلَى فُرُشِكم، وفي طُرُقِكُم ولكنْ يا حَنْظَلَةُ ساعةً وساعةً، ثلاثَ مَرَّاتٍ"[أخرجَه مسلمٌ].
معاشِرَ المسلمينَ:(176/2)
عِنْدَ الحديثِ عَنِ الإجازاتِ، لابُدَّ مِنَ التذكيرِ بأهميَّةِ حِفْظِ الأوْقاتِ، فلا مَجالَ عِنْدَ المسلمِ للتَّفْرِيطِ في وقتِهِ، فوقتُهُ هوَ حياتُهُ، لابُدَّ أنْ نُرَبِّيَ أنفُسَنا علَى استغلالِ الوقْتِ خيرَ استغلالٍ، فعَنِ ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"لا تزولُ قَدَما ابنِ آدمَ يومَ القيامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حتىَّ يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ، عَنْ عُمُرِهِ فيمَ أفناهُ، وعَنْ شبابِهِ فِيمَ أبْلاهُ، ومالِهِ مِنْ أينَ اكتسَبَهُ وفِيمَ أنفَقَهُ، وماذا عَمِلَ فيما عَلِمَ" [أخرجَهُ الترمذيُّ]، ويقولُ بعضُ الحُكَماءِ: "مَنْ أمضَى يوماً مِنْ عُمْرِهِ في غيرِ حقٍّ قَضَاهُ، أوْ فَرْضٍ أدَّاهُ، أوْ مَجْدٍ أصَّلَهُ، أوْ فِعْلٍ محمودٍ حصَّلَهُ، أوْ عِلْمٍ اقْتبسَهُ، فقَدْ عَقَّ يَوْمَهُ، وظَلَمَ نفْسَهُ، وخَانَ عُمُرَهُ".
عبادَ اللهِ:
وكَمْ هِيَ كثيرةٌ تلكَ البرامِجُ النافِعَةُ، التي تُحْفَظُ بها الأوقاتُ، وتُنَمِّي في صاحِبِها القُدُراتِ، وتَحْفَظُ عليهِ دِينَهُ وحياءَهُ، فمِنْها: اغتنامُ الفراغِ بأنواعِ العِباداتِ، والتقَرُّبُ إلى اللهِ بشَتَّى القُرُبَاتِ، كما قالَ سبحانَه: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ - وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } { الشرح:8 } ، قالَ أحدُ السَّلَفِ: "ما سمعتُ عَنْ أحَدٍ تعبَّدَ للهِ بعبادَةٍ إلاّ تعَبَّدْتُ اللهَ بِمثْلِها وزِدْتُ عليهِ"، فكَمْ مِنَ العِباداتِ قَدْ تَشُقُّ علَى صاحبِها أثناءَ الدراسَةِ والعَملِ، لكنَّها في أوقاتِ الفراغِ مُيَسَّرةُ السُّبُلِ، كالصيامِ وقراءَةِ القرآنِ وأداءِ العُمْرَةِ والتَفكُّرِ في خَلْقِ اللهِ - عز وجل -.(176/3)
ومِنْ هذِهِ البرامِجِ الحافِلَةِ، القراءةُ ومطالَعَةُ الكُتُبِ النافِعَةِ، فهِيَ أداةٌ لإثْراءِ الفِكْرِ، وتَوْسيعِ دائرَةِ المَعْرِفةِ، والرُّقِيِّ بالنفْسِ، كانَ عبدُاللهِ بنُ المبارَكِ - رحمَهُ اللهُ - يُكْثِرُ الجلوسَ في بيتِهِ فقيلَ له: إنَّك تكْثِرُ الجلوسَ وحْدَكَ؟ فغضِبَ وقالَ: أنا وَحْدِي؟! أنا مَعَ الأنبياءِ والأوْلياءِ والحُكَماءِ والنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِهِ - رضي الله عنهم - - أيْ بمطالَعَةِ أخبارِهم وتَذَكُّرِ أحوالِهم- ثُمَّ أنشَدَ - رحِمَهُ اللهُ - هذِهِ الأبياتَ:
وَلِي جُلساءٌ ما أمَلُّ حَدِيثَهمْ أَلِبَّاءُ مَأْمونونَ غَيْباً ومَشْهَدَا
إذا ما اجْتَمَعْنا كانَ حُسْنُ حَدِيثِهمْ مُعِيناً عَلَى دَفَعِ الهُمومِ مَؤَيَّدَا
يُفيِدُونَنِي مِنْ عِلْمِهِمْ عِلْمَ ما مَضَى وعَقْلاً وتَأْدِيباً ورَأْياً مُسَدَّدَا
بلا رِقْبَةٍ أخْشَى ولا سُوءَ عِشْرَةٍ ولا أتَّقِي مِنْهُمْ لِساناً ولا يَدَا
فإنْ قُلْتُ: أَحْيَاءٌ فلَسْتُ بكاذِبٍ وإنْ قُلْتُ: أَمْواتٌ فَلَسْتُ مُفَنَّدَا
أيُّها الأحِبَّةُ في اللهِ:(176/4)
ومِنْ هذِهِ البرامِجِ السديدَةِ، استغلالُ الفراغِ بالرياضاتِ المُفيدَةِ، ولا سِيَّما تِلْكَ الرياضاتِ الرجولِيَّةِ، التي تُقَوِّي الأبْدانَ، وتَشْحَذُ الأذْهانَ، كالرِّمايةِ والسِّباحَةِ ورُكوبِ الخَيْلِ، فعَنْ سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ - رضي الله عنه - قالَ: مَرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى نَفَرٍ مِنْ أسْلَمَ يَنْتَضِلُوَن فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"ارْمُوا بَنِي إسماعيلَ فإنَّ أباكم كانَ رامِياً، ارْموا وأنا مَعَ بَنِي فُلانٍ"، قالَ: فأمْسَكَ أحَدُ الفريقَيْنِ بأيْدِيهمْ، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"مالَكُمْ لا تَرْمُونَ؟"، قالوا:كيْفَ نَرْمِي وأنْتَ مَعَهم؟، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"ارْموا فأنا مَعَكم كُلِّكُمْ"[أخرجَه البخارِيُّ]، وعَنْ عَطاءِ بنِ أبي رَباحٍ قالَ: رأيْتُ جابِرَ بنَ عبدِاللهِ وجابِرَ بنَ عُمَيْرٍ الأنصارِيَّ- رضِيَ اللهُ عَنْهما - يَرْتَمِيانِ فمَلَّ أحدُهما فجلسَ فقالَ الآخَرُ: كَسِلْتَ سَمِعَتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"كُلُّ شيءٍ ليسَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ - عز وجل - فهوَ لَهْوٌ أوْ سَهْوٌ إلاّ أرْبَعَ خِصالٍ: مَشْيُ الرَّجُلِ بَيْنَ الغَرَضَيْنِ-أيْ الرِّماَيةُ-وتأدِيبُهُ فَرسَهُ، وملاعَبَةُ أهْلِهِ، وتَعَلُّمُ السِّباحَةِ" [أخرجَه الطبرانِيُّ].
أيُّها الإخْوَةُ المؤمنونَ:(176/5)
ومِنَ البرامِجِ الحافِلَةِ لشَغْلِ الإجازَةِ الصيفيَّةِ، السَّفَرُ فهوَ ذو فوائِدَ عِظامٍ، في النُّفوسِ والعُقولِ والأجْسامِ، بَلْ قدْ يكونُ مَطْلوباً لمقاصِدَ ومَهامٍّ، فالماءُ السَّاكِنُ يَأْسَنُ، والشمسُ لوْ بَقِيَتْ في الأُفُقِ واقفةً لَمُلَّتْ، والنَّفْسُ لوْ وَطَدَتْ علَى مكانٍ ضاقَتْ وكَلَّتْ، وعَنْ بديعِ صُنْعِ اللهِ غَفَلَتْ، يقولُ - سبحانه وتعالى - { قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } { العنكبوت:20 } ، ويقولُ بعضُ السَّلَفِ:"مِنْ فضائِلِ السَّفَرِِ أنَّ صاحِبَهُ يَرَى مِنْ عجائِبِ الأمْصارِ، وبدائعِ الأقْطارِ، ومحاسِنِ الآثارِ، ما يَزيدُهُ عِلْماً بقُدْرَةِ الواحِدِ القهَّارِ، وَيْدعوهُ شُكْراً عَلَى نِعَمِهِ الغِزارِ".
تِلْكَ الطبيعةُ قِفْ بِنَا يا سارِي حتَّى أُرِيكَ بَدِيعَ صُنْعِ البَارِي
فَالأرضُ حَوْلَكَ والسماءُ اهتَزَّتَا لِروائِعِ الآياتِ والآثارِ
ما أجمَلَ السفَرَ حِينَ يكونُ وسيلةً لصلةِ الأرْحامِ، أوْ زِيارَةً للمسجدِ الحَرامِ، أوْ مسجدِ نبيِّه عليهِ الصلاةُ والسلامُ، أوْ للتجارَةِ والكَسْبِ، أوْ لِطَلَبِ العِلْمِ والأَدَبِ، أوْ رِحْلَةً عائليَّةً مُمْتِعَةً، أوْ مَعَ رُفْقَةٍ مُؤْمنَةٍ طيِّبةٍ، فالترْفيهُ البريءُ، والسفرُ المُباحُ، لا غَضاضَةَ علَى الإنسانِ فيهِ، وإنَّما يَسوءُ السَّفَرُ، حِينَ يكونُ طريقاً لفِعْلِ المُنْكَرِ، حيثُ المستَنْقَعاتُ الْمَحْمومةُ، والبِقاعُ الموْبوءةُ، فحذارِ أنْ يَفْهمَ العالَمُ عَنِ المسلمينَ أنَّهم صَرْعَى لَذَّاتٍ، وأرْبابُ شَهَواتٍ، بَلْ أَفْهِموهُمْ بسلوكِكُمْ أنَّكم أصْحابُ شريعةٍ خالِدَةٍ، ودِينٍ يَرْعَى العقيدةَ والأخلاقَ السامِيَةَ.(176/6)
حَياءَكَ فاحْفَظْهُ عَلَيْكَ فإنَّما يَدُلُّ علَى وَجْهِ الكريمِ حَيَاؤُهُ
أيُّها المسلمُ الكريمُ:
وحيِنَ تَشُدُّ أمْتِعَةَ السفرِ، ويَجِدُّ بكَ السَّيْرُ، فتَذَكَّرْ أنَّك في هذِهِ الدارِ علَى جَناحِ سَفَرٍ، وفي أيِّ لحْظَةٍ تُوشِكُ أنْ تَرْتَحِلَ، وتُفْضِيَ إلى اللهِ - عز وجل -، فَهَلاّ أخَذْتَ لسَفرِكَ الأخيرِ، ما يَدْفَعُ عَنْكَ الوَحْشَةَ في ظُلْمَةِ القُبورِ، ويكونُ زادَكَ في ذلِكُمُ الموْقِفِ العسَيرِ، يقولُ جلَّ ذِكْرهُ: { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ } { البقرة:197 } ، وقَدْ أوْصَى أحَدُ السَّلَفِ ابنَهُ فقالَ: "يابُنَيَّ، جَدِّدِ السفينةَ فإنَّ البحرَ عميقٌ، وأكْثرِ الزَّادَ فإنَّ السَّفَرَ بعيدٌ، وأحْسِنِ العَمَلَ فإنَّ الناقِدَ بصيرٌ".
وَمَا الموتُ إلاَّ رِحْلَةٌ غَيْرَ أنَّها مِنَ المَنْزِلِ الفانِي إلى المَنْزِلِ الباقِي
بارَكَ اللهُ لي ولكم في الوَحْيَيْنِ، ونفَعَنِي وإيَّاكم بِهَدْيِ سَيِّدِ الثقَلَيْنِ - صلى الله عليه وسلم -، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمينَ، فاستغفروه إنَّه خَيْرُ الغافرِينَ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عالِمِ السِّرِّ والخَفِيَّاتِ، وفَّقَ مَنْ شاءَ إلى اغتنامِ الأوْقاتِ في الباقِيَاتِ الصالحاتِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له شَهادةً تُوِصلُنا إلى الجنَّاتِ الخالداتِ، وأشهدُ أنَّ نبَيَّنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ المؤيَّدُ بالآياتِ والمُعْجزاتِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليه وعلَى آلِهِ وصحبِهِ الأئمَّةِ الثقاتِ، وعلَى تابعيهم بإحسانٍ ما دامَتِ الأرضُ والسمواتُ.(176/7)
أمّا بعدُ: فاتقوا اللهَ إخوةَ الإسلامِ، واستَغِلِّوا أوقاتَ فراغِكُم في هذهِ الأيامِ، وتذكَّروا أنَّكم مُقْبِلونَ علَى أهْوالٍ عِظامٍ، فاستَعِدُّوا لذلِكَ غايةَ الاستعدادِ، وتزوَّدوا بالتقْوَى فإنَّها خيرُ الزادِ.
معاشِرَ الآباءِ والمُرَبِّينَ:
إنَّ الشبابَ همْ عِمادُ الأُمَّةِ، وقَلْبُها النابِضُ، وبُناةُ الحضارَةِ، وصُنَّاعُ المجْدِ، فلا بُدَّ لنا مِنْ ترْبِيَتِهم تربيةً صحيحةً، وشَغْلِ أوقاتِهم بطريقةٍ مُتَوازِنَةٍ، فهذِهِ الأشهرُ التي يَمُرُّون بها في فَراغٍ مِنَ المشاغِلِ الدراسِيَّةِ، لابُدَّ أنْ تُسْتَثْمرَ بالنشاطاتِ البنَّاءَةِ، والمراكِزِ الصيفِيَّةِ المفيدَةِ، أَلْحِقوهم بحَلَقِ التحفيظِ والأعمالِ الخيريَّةِ، مَعَ ضرورةِ استمرارِ التوجِيهِ والمُراقَبَةِ، حتَّى لا يَقَعوا فَريسةَ الإنتَرْنِتِ وشَبَكاتِ المعلوماتِ، وضَحايا لسَيِّءِ القَنَواتِ والفضائِيَّاتِ، وغنائِمَ بارِدَةً لقُرَناءِ السُّوءِ، فيَجرُّوهم رُوَيْداً رويداً إلى الشرِّ والبلاءِ، ثُمَّ صَلُّوا وسَلِّموا- حفِظَكمُ اللهُ- علَى خَيْرِ الوَرَى طُرّاً، وأفضلِ الخَلِيقَةِ شَرَفاً وطُهْراً، كما أمرَ ربُّكم فقالَ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب:56 } .(176/8)
اللهمَّ صَلِّ وسَلِّمْ علَى نبيِّنا محمدٍ وعلَى آِلهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللهمَّ احْفَظْ شبابَ المسلمينَ، اللهمَّ رُدَّهم إليكَ الردَّ الجميلَ، اللهمَّ اجعلْهم قُرَّةَ عَيْنٍ لمجتَمَعاتِهم، اللهمَّ أصْلِحْ لنا دِينَنا الذي هُوَ عِصْمَةُ أمْرِنا، ودُنْيانا التي فيها مَعاشُنا، وآخِرَتَنا التي هِيَ مَآلُنا، واجْعَلِ اللهمَّ الحياةَ الدُّنيا زِيادَةً لنا في كُلِّ خيرٍ، والموتَ راحَةً لنا مِنْ كُلِّ شَرٍّ. اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنّاً سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(176/9)
اطبع هذه الصحفة
عاقبة الإدمان
عبادَ اللهِ
ومِنْ عواقِبِ الإدْمانِ، ذَهابُ الحياءِ والغَيْرَةِ وضعفُ الإيمانِ، فعَنْ أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"لايَزْنِي الزانِي حِينَ يَزْنِي وهُوَ مُؤْمِنٌ، ولايَشْرَبُ الخمرَ حِينَ يَشْرَبُها وهوَ مؤمنٌ"[متفقٌ عليه]، ورُبَّما ذهَبَ الإدْمانُ بالإيمانِ، وخَلَفَ صاحِبَهُ قَلِقَ القَلْبِ حَيْرانَ، كما قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"مُدْمُنُ الخمرِ كعابِدِ وَثَنٍ"[أخرجَهُ ابنُ ماجَه عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -]ويقولُ عثمانُ بنُ عفَّانَ - رضي الله عنه -:"اجتنبوا الخمرَ، فإنَّها واللهِ لا يجتمعُ الإيمانُ وإدْمانُ الخمرِ إلاّ لَيُوشِكُ أنْ يُخْرِجَ أحَدُهما صاحِبَهُ"[أخرجَهُ النسائِيُّ]، وإذا غابَ الإيمانُ استحوذَ الشيطانُ، وأغرَقَ المُدْمِنَ في أحوالِ الذنوبِ والعِصَيانِ، فعَنْ عبدِاللهِ بنِ عمروٍ رضي الله عنهما أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"إنَّ مَلِكاً مِنْ مُلوكِ بَنيِ إسرائيلَ أخَذَ رجلاً فخيَّرَهُ بينَ أنْ يشْرَبَ الخمرَ، أوْ يقْتُلَ نَفْساً، أوْ يَزْنِيَ، أوْ يأكُلَ لَحْمَ خِنْزيرٍ، أوْ يَقْتلوه إنْ أبَى، فاختارَ أنْ يشرَبَ الخمرَ، وأنَّهُ لماَّ شَرِبَها لَمْ يمتَنِعْ مِنْ شيءٍ أرادوهُ مِنْه" [أخرجَه الحاكِمُ].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 7 من جمادى الآخرة 1428هـ الموافق22 2007/6/
عاقبة الإدمان(177/1)
الحمدُ للهِ العليمِ بكُلِّ سِرٍّ مَكْنونٍ، القائِلِ: { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } { المائدة:90 } ، فامْتثَلَ أمْرَهُ الصالحونَ، وَعَصاهُ الفاسِقونَ، أحمدُهُ سبحانَه وتعالَى يقولُ للشيءِ كُنْ فيكونُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له لا تُحيطُ بهِ الظنونُ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ الناصِحُ الحنَونُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ الذينِ كانوا علَى الشَّرْعِ المَصُونِ، لا يتأخَّرونَ عَنْه ولا يَتقدَّمونَ، وعلَى مَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ يُبْعَثونَ.
أمّا بعدُ:
فأُوصيكُمْ- عِبادَ اللهِ- بتقْوَى المَلِكِ العَلاَّمِ، ففي التقْوَى تَتلاشَى الأسْقامُ، وتنتظِمُ أمورُنا علَى تَعاليمِ الإسلامِ، فتَنْقَشِعُ سَحائِبُ الظُّلماتِ، وتنطَفِئُ نارُ الشَّهَواتِ، يقولُ اللهُ - سبحانه وتعالى -: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً - ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } { الطلاق:4- 5 } .
المتَّقونَ هُمُ الملُوكُ وإنْ أبَوْا رَغْدَ الحياةِ ولِينَها فتقَشَّفُوا
عَكَفُوا علَى آيِ الكتابِ فأفْلَحوا والجاهِلونَ علَى المآثِمِ عُكَّّفُ
مَعْشَرَ المسلمينَ:(177/2)
إنَّ فَضْلَ اللهِ علينا عظيمٌ، حيثُ خَصَّنا بمزيدٍ مِنَ الإنْعامِ والتكْريم، فقَدْ خَلَقَنا في أحْسَنِ تَقْويمٍ، ووَهَبَنا العَقْلَ السليمَ، وميَّزَنا عَنْ سائِر الحيوانِ، بالعَقْلِ والفَهْمِ واللسانِ، بَلْ جعلَ العقلَ مِنَ الضروراتِ الخَمْسِ، التي تَقي مَنْ حافَظَ عليها التلَفَ وَالنقْصَ، فبالعقلِ يفكِّرُ الإنسانُ ويُبْدِعُ، ويُنْتِجُ ويخْتَرِعُ، والعقلُ يَحْمِلُ الإنسانَ علَى التحلِّي بالفضائِلِ، والتخَلِّي عَنِ الرذائِلِ، وقَدْ سمَّى اللهُ العقلَ حِجْراً ونُهَىً ولُبّاً، وهيَ أسماءٌ تَدُلُّ علَى مَعانٍ عُظْمَى، لأنَّه يْعقِلُ ويَحْجُرُ الإنسانَ، عَمّا يخْدِشُ المُروءةَ ويُضْعِفُ الإيمانَ، لذا ذَمَّ اللهُ الذينَ لا يَعْقِلونَ، وجَعلَهم في مَرْتَبةٍ دُونَ البهائِمِ، فقالَ سبحانَه: { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } { الفرقان:44 } .
وأفْضَلُ قَسْمِ اللهِ للمرءِ عَقْلُهُ فليسَ مِنَ الخيْراتِ شيءٌ يُقارِبُهْ
إذا أكْمَلَ الرحمنُ للمرءِ عَقْلَهُ فَقَدْ كَمُلَتْ أخلاقُهُ ومآرِبُهْ
وَيُزْرِي بهِ في الناسِ قِلَّةُ عَقْلِهِ وإنْ كَرُمَتْ أعْراقُهُ ومناسِبُهْ
…
إخوةَ الإيمانِ:
إنَّ مِنَ الجرائِمِ المُنْكَرةِ، التي أزْرَتْ بالعقولِ المفكِّرَةِ، إزْهاقَها بالأشْرِبَةِ المُسْكِرَةِ والموادِّ المُخَدَّرَةِ، حتىَّ يَخْرُجَ المدْمِنُ مِنْ إنسانيَّتِهِ التي جُبِلَ علَيْها، إلى البهَيِمِيَّةِ بَلْ إلى شَرٍّ مِنْها، ومَنْ تأمَّلَ عواقِبَ الإدْمانِ، وما يَصيرُ أربابُهُ إليهِ مِنَ الذُّلِّ والهَوانِ، نَأَى بنفسِهِ عَنْ هذهِ المُهْلِكاتِ، وحَفِظَ دِينَهُ وعقلَهُ عمَّا تُسبِّبُهُ مِنْ آفاتٍ.(177/3)
إنَّ عواقِبَ الإدْمانِ خطيرةٌ، وهيَ بالتفكُّرِ والاحْتِرازِ لجَديرةٌ، فهوَ عِلَّةٌ للخَرابِ والدَّمارِ، ومَجْلَبَةٌ لسُخْطِ الجبَّارِ، وسبيلٌ مُظْلِمٌ يَهْدِي إلى النارِ، فهوَ إنْ لمْ يُتْلِفِ النفْسَ، ألحقَ بها الأمراضَ والأوْجاعَ والبأْسَ، يقولُ - سبحانه وتعالى -: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً - وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } { النساء:29-30 } ، وعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"ومَنْ تَحَسَّى سُمّاً فقتَلَ نفسَهُ، فسُمُّهُ في يدِهِ يتحسَّاهُ في نارِ جهنَّمَ خالِداً مُخَلَّداً فيها أبَداً"[متفقٌ عليهِ].
عبادَ اللهِ:(177/4)
ومِنْ عواقِبِ الإدْمانِ، ذَهابُ الحياءِ والغَيْرَةِ وضعفُ الإيمانِ، فعَنْ أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"لايَزْنِي الزانِي حِينَ يَزْنِي وهُوَ مُؤْمِنٌ، ولايَشْرَبُ الخمرَ حِينَ يَشْرَبُها وهوَ مؤمنٌ"[متفقٌ عليه]، ورُبَّما ذهَبَ الإدْمانُ بالإيمانِ، وخَلَفَ صاحِبَهُ قَلِقَ القَلْبِ حَيْرانَ، كما قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"مُدْمُنُ الخمرِ كعابِدِ وَثَنٍ"[أخرجَهُ ابنُ ماجَه عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -]ويقولُ عثمانُ بنُ عفَّانَ - رضي الله عنه -:"اجتنبوا الخمرَ، فإنَّها واللهِ لا يجتمعُ الإيمانُ وإدْمانُ الخمرِ إلاّ لَيُوشِكُ أنْ يُخْرِجَ أحَدُهما صاحِبَهُ"[أخرجَهُ النسائِيُّ]، وإذا غابَ الإيمانُ استحوذَ الشيطانُ، وأغرَقَ المُدْمِنَ في أحوالِ الذنوبِ والعِصَيانِ، فعَنْ عبدِاللهِ بنِ عمروٍ رضي الله عنهما أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"إنَّ مَلِكاً مِنْ مُلوكِ بَنيِ إسرائيلَ أخَذَ رجلاً فخيَّرَهُ بينَ أنْ يشْرَبَ الخمرَ، أوْ يقْتُلَ نَفْساً، أوْ يَزْنِيَ، أوْ يأكُلَ لَحْمَ خِنْزيرٍ، أوْ يَقْتلوه إنْ أبَى، فاختارَ أنْ يشرَبَ الخمرَ، وأنَّهُ لماَّ شَرِبَها لَمْ يمتَنِعْ مِنْ شيءٍ أرادوهُ مِنْه" [أخرجَه الحاكِمُ].
أيُّها العقلاءُ:
كَمْ مِنْ جَرائِمَ ارْتُكِبَتْ، وفواحِشَ وآثامٍ اقْتُرِفَتْ، ونفوسٍ أُتْلِفَتْ، وصِحَّةٍ تَدَهْوَرَتْ، تَحْتَ تأثيرِ الخمرةِ والمخدِّراتِ!!، وكَمْ أعْراضٍ انْتُهِكَتْ، وأموالٍ سُرِقَتْ، وحوادِثِ سَيْرٍ وَقَعَتْ، حِينَ غُيِّبَتِ العقولُ والإراداتُ!!، وكَمْ مِنْ أُسَرٍ شُتِّتَتْ، وأولادٍ يُتِّمَتْ، ونساءٍ رُمِّلَتْ، وأرْحامٍ قُطِّعَتْ، ومُجتَمَعاتٍ صُدِّعَتْ، مِنْ جَرَّاءِ إدْمانِ هذِهِ الآفاتِ!!، وللهِ دَرُّ القائِلِ:
دَعِ الخَمْرَ نُصْحَ أخٍ إنَّها لَتُوهِي القُلوبَ وتُرْدِي النُّهَى(177/5)
وَكُلُّ المُرَبِّينَ مِنْ كُلِّ جِيلٍ وكُلُّ النبيِّينَ عَنْها نَهَى
أَمَا هِيَ تِلْكَ التِي خَرَّبَتْ بُيوتاً بتَقْويضِها رُكْنَهَا
أمَا هِيَ تِلْكَ التِي ضَعْضَعَتْ شعوباً ودَكَّتْ بِها مُدْنَها
أيُّها الناسُ:
ومِنْ عَواقِبِ الإدْمانِ المتكاثِرَةِ، ذلكُمُ العذابُ المُهينُ في الآخِرَةِ، فعَنْ جابِرٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ، إنَّ علَى اللهِ عزَّ وجَلَّ عَهْداً لِمَنْ يشْرَبُ المُسْكِرَ أنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الخَبَالِ" قالوا:يا رسولَ اللهِ وما طِيَنةُ الخبَالِ؟ قالَ:"عَرَقُ أهْلِ النَّارِ أوْ عُصارَةُ أهْلِ النَّارِ" [أخرجَه مسلمُّ].
فاتقوا اللهَ معاشِرَ المسلمينَ، واجتَنِبوا هَذا الفِعْلَ المَشِينَ، ، وحَذِّروا مِنْهُ البناتِ والبنينَ، وكونوا لهم مُراقِبينَ مُتَيقِّظينَ، ولإخْوانِكُمُ المُدمِنينَ خَيْرَ مُعينٍ، لانْتِشالِهم مِنْ مُسْتَنْقَعاتِ هَذا السُّمِّ الزُّعافِ، ودَفْعِهم نَحْوَ الخيرِ والهِدايَةِ والائتِلافِ { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } { المائدة:91 } .
أقولُ ما تسمعونَ وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمينَ، فاستْغِفروهُ إنَّه خَيْرُ الغافِرينَ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ بارِئِ النَّسَمِ، الحليمِ المتجاوِزِ عَنْ زَلَّةِ عَبْدِهِ إذا نَدِمَ، اللطيفِ بعبدِهِ إذا اشتَكَى ما أصابَهُ مِنْ أَلَمٍ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ خلَقَ الإنسانَ مِنْ عَدَمٍ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ سيِّدُ العَربِ والعَجَمِ، صلَّى اللهُ وسلَّم عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ أهْلِ المرُوءةِ والشِّيَمِ، وعلَى مَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ ما خَطَّ بنانٌ بقَلَمٍ.(177/6)
أمَّا بعدُ:
فاتقوا اللهَ أيُّها المسلمونَ حَقَّ التقْوَى، وراقِبُوهُ في السرِّ والنجْوَى، واستَمْسِكُوا بالعُرْوَةِ الوُثْقَى، واعْلَموا أنَّ الطُّرُقَ لإنقاذِ المُدْمِنينَ كثيرةٌ والوسائِلَ عديدَةٌ، وذلكَ بسُؤالِ المُخْتَصِّينَ مِنْ أهْلِ الخِبْرَةِ والآراءِ السديدَةِ.
وإنَّ أجْدَى هذِهِ الوسائِلِ، تَقْويَةُ الوازِعِ الدينيِّ لَدَى المُتَعاطينَ، هَذا الوازِعُ الذي أراقَ الخمرَ في شوارِعِ المدينةِ أنْهاراً، بمُجرَّدِ أنْ طَرَقَ السمعَ نبأُ تحريمِ الخمرِ والأمرِ باجْتِنابِها: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } { المائدة:90 } .
فنادَى مُنادٍ: "أَلاَ إنَّ الخمرَ قَدْ حُرِّمَتْ" [أخرجَه البخاريُّ]، فقالَ أحدُهم: "فما دخَلَ علينا داخِلٌ ولا خَرجَ مِنَّا خارِجٌ حتى أهْرَقْنا الشرابَ وكَسَرْنا القِلالَ، قالَ: "وبعضُ القومِ شَرْبَتُهُ في يدِهِ أراقَها قائِلاً: انَتَهَيْنا رَبَّنا"، ومِنَ الوسائِلِ المُهِمَّةِ: تَنْحِيَةُ المُدْمِنِ عَنِ المُسْتنقعاتِ الموْبوءَةِ، والبيئةِ المشْبوهَةِ، والصُّحْبَةِ السيِّئَةِ، وإرشادِهِ إلى صُحْبَةِ الخَيِّرينَ، مِنَ الذين يُعينونَهُ علَى التوْبةِ والدِّينِ، هذا مَعَ اتخاذِ الطُّرُقِ الصحيحةِ لِمُعالجَةِ المُدْمِنينَ، ومَلْءِ أوْقاتِهم بالنافِعِ المُفيدِ، فمَنْ تابَ تابَ اللهُ عليهِ، أخرجَ الترمذيُّ عَنِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما مرفوعاً :"مَنْ شَرِبَ الخمرَ لمْ يَقْبَلِ اللهُ له صلاةً أربعينَ صَباحاً، فمَنْ تابَ تابَ اللهُ عليهِ".(177/7)
اللهمَّ آتِ نُفوسَنا تَقْواها، وَزكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زَكَّاها، أنتَ وَلِيُّها ومَوْلاها، اللهمَّ اهْدِنا لأَحْسَنِ الأخلاقِ لا يَهْدِي لأحسَنِها إلاّ أنتَ، واصْرِفْ عنَّا سيِّئَهَا لا يَصْرِفُ عنَّا سَيِّئَها إلاَّ أنتَ.
اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ودَمِّرِ اللهمَّ أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ، اللهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ، والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، إنَّكَ سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ، وصَلِّ اللهمَّ علَى نبيِّنا محمدٍ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ وسَلِّمْ.
اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووَلِيَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمِنًا مُطْمئِنّاً سَخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(177/8)
اطبع هذه الصحفة
أمسك عليك هذا
عبادَ اللهِ
مِنَ الناسِ مَنِ ابْتُلِيَ بضَعْفِ الإيمانِ، وسَلاطَةِ اللسانِ, فصرَفَ هِمَّتَهُ، ووَجَّهَ طاقتَهُ، وضَيَّعَ أوقاتَهُ، سَبّاً وَتَجْريحاً، وتَنْقيصاً وتَسْفيهاً، لعُلَماءِ الأُمَّةِ ورِجالِها المُخْلِصينَ، مِمَّنْ نَذَروا أَنْفُسَهم لحِمايةِ حَوْزَةِ الدِّينِ، وإرشادِ المسلمينَ، وتَنْبيهِ الغافلينَ، يقولُ الحافِظُ ابنُ عَساكِرَ رحمَهُ اللهُ:"اعْلَمْ يا أخِي وفَّقَنِي اللهُ وإيَّاكَ لِمَرْضاتِهِ، وجَعَلَنِي وإيَّاكَ مِمَّنْ يَخْشاهُ ويتَّقيهِ حَقَّ تُقاتِهِ، أنَّ لُحومَ العُلَماءِ مَسْمومَةٌ، وسُنَّةَ اللهِ فيمَنْ هَتَكَ أسْتارَهم مَعْلومَةٌ، وأنَّ مَنْ رَمَى العُلماءَ بالثَّلْبِ، ابْتلاهُ اللهُ قبْلَ مَوْتِهِ بموتِ القَلْبِ".
خطبة الجمعة المذاعة و الموزعة
بتاريخ 14 جمادى الآخرة 1428هـ الموافق 29/6/2007
أمسك عليك هذا
الحمدُ للهِ المَلِكِ المنَّانِ، القويِّ العظيمِ السُّلْطانِ، خلَقَ الإنسانَ وميَّزَهُ بالعَقْلِ واللسانِ، أحمدُهُ حمداً طيِّباً كثيراً يملأُ الميزانَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له تنَزَّهَ عَنِ الأنْدادِ والشُّرَكاءِ والأعْوانِ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ المؤيَّدُ بالحُجَّةِ والبُرْهانِ، حذَّرَ أيَّما تحذيرٍ مِنْ خَطَرِ اللسانِ، بَلْ جعلَ الصَّمْتَ مِنْ كمالِ الإيمانِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ أُولي الفضلِ والعِرْفانِ، وعلَى تابعيهم بإحسانٍ علَى مرِّ الأزْمانِ.
أمّا بعدُ:(178/1)
فأوصيكم- أيُّها الناسُ- ونفسِي بتقْوَى اللهِ تعالَى، فقَدْ كساكم مِنَ الإيمانِ سِرْبالاً، ولاتزالُ نِعَمُهُ عليكم تَتَوالَى، والمتقونَ هم خيرٌ حالاً وأسعدُ مآلاً { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً - ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } { الطلاق:4-5 } .
وإنْ صافَيْتَ أوْ خالَلْتَ خِلاًًّ فَفي الرحمنِ فاجعَلْ مَنْ تُؤاخِي
… ولا تَعْدِلْ بتقْوَى اللهِ شَيْئاً ودَعْ عَنْكَ الضَّلالَةَ والتَّراخِي
… فكيفَ تَنالُ في الدنيا سُروراً وأيَّامُ الحياةِ إلى انْسِلاخِ
معاشِرَ المسلمينَ:(178/2)
إنَّ اللهَ سبحانَه وهَبَ لكم جارِحَةً كُبرَى، وآلةً عُظْمَى، لها مالها مِنَ الفوائِدِ العِظامِ، والغاياتِ الجِسامِ، لكنَّها معَ ذلكَ تُمثِّلُ الخطَرَ الفعَّالَ، علَى الإنسانِ في الحالِ والمآلِ، تلكَ الجارحةُ هِيَ اللسانُ، فعَنْ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ:"إذا أصبحَ ابنُ آدمَ فإنَّ الأعضاءَ كُلَّها تُكَقِّرُ اللسانَ فتقولُ: اتقِ اللهَ فينا فإنَّما نحنُ بكَ، فإنِ استقَمْتَ استَقَمْنا، وإنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنا"[أخرجَهُ الترمذيُّ]، وعَنْ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ له:"أَلاَ أُخْبِرُكَ برَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وعَمودِهِ وذِرْوَةِ سَنامِهِ؟"قلْتُ: بلَى يا نبيَّ اللهِ، فأخَذَ بلسانِهِ قالَ:"كُفَّ عليكَ هذا" فقلْتُ: يانبيَّ اللهِ وإنَّا لَمُؤاخَذونَ مِمَّا نتكلَّمُ بهِ؟ فقالَ:"ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا معاذُ، وهَلْ يَكَُبُّ الناسَ في النارِ علَى وُجوهِهم أوْ علَى مناخِرِهم إلاّ حصائدُ ألسنَتِهم"[أخرجَهُ الترمذيُّ]، وبهذا يُبيِّنُ لنا - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ مَنْ أحْكَمَ زِمامَ لِسانِهِ غايةَ الإحْكامِ، وأمسَكَهُ لِئَلا يَقَعَ في الخَطايا والآثامِ، فهوَ حَرِيٌّ بدارِ الرِّضْوانِ، بعيدٌ عَنْ سَخَطِ الديَّانِ، مُجْتَنِبٌ لمسالِكِ الشيطانِ.
إنْ كانَ يُعْجِبُكَ السكوتُ فإنَّهُ قَدْ كانَ يُعْجِبُ قَبْلَكَ الأخْيارا
ما إنْ نَدِمْتَ علَى سُكوتٍ مَرَّةً فلقَدْ نَدِمْتَ علَى الكلامِ مِرارا
إنَّ السُّكوتَ سلامةٌ فلَرُبَّما زرَعَ الكلامُ عَداوَةً وضِرارا
فكَمْ أثارَ مِنْ عَداوَةٍ!، وكَمْ أعَقَبَ مِنْ شَقاوَةٍ!، وكم أفْسَدَ شَمْلَ الأحِبَّةِ!، وكمْ أهانَ صاحِبَهُ !، وأوجَبَ له النارَ، وحَمَّلَهُ مالا يُطيقُ مِنَ الآثامِ والأوْزارِ!.
إخْوَةَ الإسلامِ:(178/3)
إذا كانَ هذا اللسانُ بهذهِ الخُطورَةِ، فإنَّ مَعْرِفَةَ آفاتِهِ في غايةِ الضَّرورَةِ، حتَّى نأخذَ بأسبابِ النجاةِ، ونتلافَى تلكَ الآفاتِ، مُمْتَثِلينَ قَوْلَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:"أمْسِكْ عليكَ لِسانَكَ"[أخرجَهُ الترمذيُّ مِنْ حديثِ عُقْبةَ ابنِ عامرٍ - رضي الله عنه -]، فمِنْ عظيمِ آفاتِ اللسانِ، الوقوعُ في الشِّرْكِ والكُفْرانِ، فبكَلِمَةٍ واحدةٍ قَدْ يَكْفُرُ الإنسانُ، ثُمَّ يُخَلَّدُ بعدَها في النيرانِ، يقولُ - عز وجل -: { وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } { التوبة:74 } .
ومِنْ مُوبقاتِهِ الكبيرةِ، وآفاتِهِ الخطيرةِ، القولُ علَى اللهِ بلا عِلْمٍ، والتسرُّعُ في إطلاقِ الفتاوَى دونَ دِرايَةٍ وفَهْمٍ { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } { النحل: 116 } .
إخوةَ الإيمانِ:
ومِنْ آفاتِ اللسانِ وأخطارِهِ، شَهادَةُ الزُّورِ فهيَ مِنْ أسْوَأِ آثارِهِ، عَدَلَتْ أوْ كادَتْ تعْدِلُ الشِّرْكَ باللهِ، فعَنْ أبي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"ألا أُنْبِئُكمْ بأكبرِ الكبائِرِ"ثلاثاً، قُلْنا بلَى يا رسولَ اللهِ قالَ:"الإشراكُ باللهِ وعقوقُ الوالِدَيْنِ– وجَلَسَ وكانَ مُتَّكِئاً فقالَ- أَلاَ وقولُ الزُّورِ"، فما زالَ يُكَرِّرُها حتَّى قُلْنا ليتَهُ سَكَتَ. [أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ].(178/4)
ومِنْ هذِهِ الخِصالِ الذَّميمَةِ، التي تَجْلِبُ الإثْمَ وتُقَطِّعُ حِبالَ المَوَدَّةِ الحميمةِ، الكَذِبُ والغِيبَةُ والنَّميمَةُ، وها هُوَ سيِّدُ المرسلينَ - صلى الله عليه وسلم -، يُنادِي هؤلاءِ المُبْتَلَيْنَ:"يا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بلسانِهِ ولمْ يدْخُلِ الإيمانُ قلبَهُ لا تَغْتابوا المسلمينَ"[أخرجَه أبو داودَ مِنْ حديثِ أبي بَرْزَةَ الأسْلَمِيِّ- رضي الله عنه -]، فالعاقِلُ اللبيبُ، مَنْ أخذَ بوَصِيَّةِ المصطفَى الحبيبِ - صلى الله عليه وسلم -، وتجنَّبَ غِيبَةَ المسلمينَ، وإنِ اختلَفَ مَعَ إخوانِهِ، وسَوَّلَ له شيطانُهُ، وكادَ أنْ ينطِقَ بالغِيبَةِ أوِ النميمَةِ لسانُهُ، فَلْيَتذكَّرِ العُقوبَةَ الوَخِيمَةَ، التي تَزْجُرُ عَنِ الغِيبَةِ وَالنميمَةِ، ففي الحديثِ:"لا يَدْخُلُ الجنَّةَ نَمَّامٌ"[أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ واللفظُ له مِنْ حديثِ حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه -]، وفي حديثِ أنسٍ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"لمّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بقومٍ لهم أظْفارٌ مِنْ نُحاسٍ يَخْمِشونَ وُجُوهَهم وصدورَهم فقُلْتُ: مَنْ هؤلاءِ يا جبريلُ؟ قالَ هؤلاءِ الذينَ يأكُلونَ لحُومَ الناسِ ويَقَعون في أعراضِهم" [أخرجَه أبو داودَ].
عبادَ اللهِ:(178/5)
مِنَ الناسِ مَنِ ابْتُلِيَ بضَعْفِ الإيمانِ، وسَلاطَةِ اللسانِ, فصرَفَ هِمَّتَهُ، ووَجَّهَ طاقتَهُ، وضَيَّعَ أوقاتَهُ، سَبّاً وَتَجْريحاً، وتَنْقيصاً وتَسْفيهاً، لعُلَماءِ الأُمَّةِ ورِجالِها المُخْلِصينَ، مِمَّنْ نَذَروا أَنْفُسَهم لحِمايةِ حَوْزَةِ الدِّينِ، وإرشادِ المسلمينَ، وتَنْبيهِ الغافلينَ، يقولُ الحافِظُ ابنُ عَساكِرَ رحمَهُ اللهُ:"اعْلَمْ يا أخِي وفَّقَنِي اللهُ وإيَّاكَ لِمَرْضاتِهِ، وجَعَلَنِي وإيَّاكَ مِمَّنْ يَخْشاهُ ويتَّقيهِ حَقَّ تُقاتِهِ، أنَّ لُحومَ العُلَماءِ مَسْمومَةٌ، وسُنَّةَ اللهِ فيمَنْ هَتَكَ أسْتارَهم مَعْلومَةٌ، وأنَّ مَنْ رَمَى العُلماءَ بالثَّلْبِ، ابْتلاهُ اللهُ قبْلَ مَوْتِهِ بموتِ القَلْبِ".
إخوةَ الإيمانِ:(178/6)
ومِنْ عظيمِ هذِهِ الآفاتِ الاستهزاءُ بالدِّينِ وأهْلِهِ، سَواءً كانَ ذلكَ برُسوماتٍ ساخِرَةٍ أوْ كتاباتٍ هازِلَةٍ، أوْ بألْسِنَةٍ بذيئَةٍ،كَما قالَ أسْلافُهم: ما رأينْا مِثْلَ قُرَّائِنا هؤلاءِ، أكذَبَ أَلْسُناً ولا أرْغَبَ بُطوناً ولا أجْبَنَ عِنْدَ اللقاءِ،فنزَلَ فيهم مِنْ فَوْقِ سابِعِ سماءٍ { قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ - لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } { التوبة: 65-66 } ، ومِنْ عظيمِ هذهِ الآفاتِ، قَذْفُ المُحْصَناتِ المؤمناتِ الغافِلاتِ، وهوَ يُعْتَبرُ مِنَ السَّبْعِ المُوبِقاتِ، كما قالَ سبحانَه: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { النور:23_24 } ، يقولُ ابنُ القَيِّمِ رحمَهُ اللهُ:"مِنَ العَجَبِ أنَّ الإنسانَ يَهونُ عليهِ الاحْتِرازُ مِنْ كثيرٍ مِنَ المُحَرَّماتِ، ويَصْعُبُ عليهِ التحرُّزُ مِنْ حرَكَةِ لسانِهِ، فترَى الرجلَ يُشارُ إليه بالدِّينِ والزُّهْدِ والعِبادَةِ، وهوَ يتكلَّمُ بالكلماتِ مِنْ سَخَطِ اللهِ تعالَى، لا يُلْقِي لها بالاً، يَزِلُّ بالواحِدَةِ مِنْها أبْعَدَ ما بَيْنَ المشْرِقِ والمغْرِبِ".
احْذَرْ لِسانَكَ أيُّها الإنسانُ لا يَلْدَغَنَّكَ إنَّهُ ثُعْبانُ
كَمْ في المقابِرِ مِنْ قَتيلِ لِسانِهِ كانَتْ تَهابُ لقاءَهُ الشُّجْعانُ
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ، ونفَعَنِي وإيَّاكمْ بما فيهِ مِنَ الهُدَى والبيَانِ.
أقولُ ما تسمعونَ وأستغِفرُ اللهَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمينَ فاستغفروهُ إنَّه هُوَ الغفورُ الرحيمُ.(178/7)
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أبانَ لنا السبيلَ وأكمَلَ لنا الدِّينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له المَلِكُ الحقُّ المُبِينُ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ سيِّدُ الأوَّلينَ والآخِرينَ، أمَرَ بحِفْظِ اللسانِ وعظَّمَ أعْراضَ المؤمنينَ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ السادَةِ الأكْرَمينَ، وعلَى التابِعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أمّا بعدُ: فاتقوا اللهَ معاشِرَ المسلمينَ، وراقِبوا مَوْلاكم في كُلِّ حِينٍ، تَحْظَوْا بمَحبَّةِ رَبِّ العالمَينَ، { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } { آل عمران:76 } .
أيُّها الإخْوَةُ في اللهِ:
لقَدْ كانَ أسلافُكم خيرَ مَثَلٍ، للامْتِثالِ لأمْرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وفي حِفْظِ اللسانِ والجوارِحِ عَنِ الخطيئَةِ والزَّلَلِ، فها هوَ الربيعُ بنُ خَثْيَمٍ- رحِمَهُ اللهُ- كانَ إذا أصْبَحَ وضَعَ قِرْطاساً وقَلَماً، وكانَ لا يتكَلَّمُ بشيءٍ إلا كتبَهُ ثُمَّ إذا أتَى المساءُ حاسَبَ نَفْسَهُ، فهَكَذا كانَ عَمَلُ القَوْمِ، كانوا يُحاسِبونَ أنْفُسَهم قبْلَ الندَمِ واللوْمِ، لِذلكَ يقولُ أحدُ أصْحابِ الربيعِ:"صَحِبْتُ الربيعَ أكثرَ مِنْ عشرينَ سنةً، فما سمعتُ مِنْه كَلِمَةً يُعاقَبُ علَيْها"، وقَدْ عُوتِبَ الإمامُ الشافِعيُّ- رحِمَهُ اللهُ- لطولِ صَمْتِهِ، وكثْرَةِ سُكوتِهِ، فأنشَدَ قائلاً: قالوا سَكَتَّ وقَدْ خُوصِمْتَ قُلْتُ لهم إنَّ الجَوابَ لِبابِ الشَّرِّ مِفْتاحُ
أمَا تَرَى الأُسْدَ تُخْشَى وَهْيَ صامِتَةٌ والكَلْبَ يُخْسَى لَعَمْري وَهْوَ نَبَّاحُ(178/8)
ويقولُ الحَسَنُ البَصْرِي ُّرحِمَهُ اللهُ:"يا عَجَباً لابنِ آدَمَ: حافِظاهُ علَى رأْسِهِ، لِسانُهُ قَلَمُهما، وَرِيقُهُ مِدادُهما، وهُوَ بَيْنَ ذلِكَ يتكَلَّمُ فِيما لا يَعْنِيهِ"، ويقولُ عمرُ - رضي الله عنه -: "مَنْ كَثُرَ كلامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ، ومَنْ كثُرَ سَقَطُهُ كثُرَتْ ذُنوبُهُ، ومَنْ كثرَتْ ذنوبُهُ كانَتِ النارُ أوْلَى بهِ".
فاتقوا اللهَ معاشِرَ المسلمينَ، واحْفَظوا ألْسَنَتَكم عَنْ كُلِّ ما يَشينُ، وأكْثِروا مِنْ ذِكْرِ رَبِّ العالَمينَ، كما أمرَ سبحانَه في كتابِهِ المُبينِ: { وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار ِ } { آل عمران:41 }
اللهمَّ طَهِّرْ ألسِنَتَنا مِنَ الكَذِبِ والمَعْصِيَةِ، وقُلوبَنا مِنَ الغِشِّ والخدِيعَةِ،وأعْيُنَنا مِنَ الخِيانَةِ والنَّظْرَةِ الآثِمَةِ، اللهمَّ أعِزَّ دِينَكَ، وأعْلِ كَلِمَتَكَ، وَاكْبِتْ عَدُوَّكَ، وانْصُرْ دِينَكَ، وكِتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّكَ.
اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمِناً مُطمئِنّاً سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(178/9)
اطبع هذه الصحفة
المسجد الأقصي يناديكم
خلق الله الكائنات كلها، وفضل بعضها على بعض، ففضل بعض الرسل على بعض {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253] وفضل بعض الأماكن على بعض فأفضل البقاع المساجد، وأفضل المساجد ثلاثة، قال رسول (صلي الله عليه وسلم): "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" [رواه البخاري ومسلم].
إن هذه المساجد الثلاثة تهوى إليها النفوس، وتتشوق إليها القلوب، وتهفوا لمشاهدتها العيون، لما فيها من بركة، والأجر العظيم لمن جاءها، وإن المسلم يتمكن الآن من زيارة مسجدين من هذه المساجد، المسجد الحرام بمكة المكرمة ومسجد الرسول بالمدينة المنورة، فيؤدي فيهما عبادته لربه آمناً مطمئناً، أما المسجد الثالث وهو المسجد الأقصى فلم يتمكن المسلم من الإتيان إليه والصلاة فيه، لأن هناك عصابة اليهود المجرمة ممسكة بزمام أمره، باسطة سيادتها عليه، تقيم سداً منيعاً يحول بين المسلم والوصول إليه، والتنسك فيه، فهي تريد إزالته، وتحويله إلى معبد يهودي لتحقق حلمها المزعوم، وهو بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى.
المسجد الأقصي يناديكم
الحمد لله الذي جعل المساجد في الأرض مثابة للمؤمنين، ومحراباً للعابدبن، ومأوى للمتقين.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ينصر المناضلين من أجل العقيدة، ويؤيد بمعونته من يدافع عن مقدساته من المؤمنين. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
معشر المسلمين:(179/1)
خلق الله الكائنات كلها، وفضل بعضها على بعض، ففضل بعض الرسل على بعض {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253] وفضل بعض الأماكن على بعض فأفضل البقاع المساجد، وأفضل المساجد ثلاثة، قال رسول (صلي الله عليه وسلم): "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" [رواه البخاري ومسلم].
إن هذه المساجد الثلاثة تهوى إليها النفوس، وتتشوق إليها القلوب، وتهفوا لمشاهدتها العيون، لما فيها من بركة، والأجر العظيم لمن جاءها، وإن المسلم يتمكن الآن من زيارة مسجدين من هذه المساجد، المسجد الحرام بمكة المكرمة ومسجد الرسول بالمدينة المنورة، فيؤدي فيهما عبادته لربه آمناً مطمئناً، أما المسجد الثالث وهو المسجد الأقصى فلم يتمكن المسلم من الإتيان إليه والصلاة فيه، لأن هناك عصابة اليهود المجرمة ممسكة بزمام أمره، باسطة سيادتها عليه، تقيم سداً منيعاً يحول بين المسلم والوصول إليه، والتنسك فيه، فهي تريد إزالته، وتحويله إلى معبد يهودي لتحقق حلمها المزعوم، وهو بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى.
( 2 )
إن المسجد الأقصى أحد المساجد الثلاثة المباركة، من أتاه فصلى فيه ظفر بمغفرة لذنوبه، وأجر له مضاعف، فعن عبدالله بن عمرو عن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال:"لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي أحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد يريد الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فقال رسول الله (صلي الله عليه وسلم) أما اثنتان فقد أعطيهما وارجوا أن يكون أعطى الثالثة" [رواه أحمد وابن ماجة] وقال (صلي الله عليه وسلم) الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي هذا بألف صلاة، والصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة" [رواه الطبراني وسنده حسن].
إخوة الإسلام:(179/2)
إن المسجد الأقصى والقدس أمانة في أعناقنا سلمهما لنا رسول الله (صلي الله عليه وسلم) حين أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الإسراء:1] ثم أكد أهمية هذا المكان، ومسئولية المسلمين من بعده نحوه حين أعد جيش مؤتة وتبوك نحو الشام لمحاربة الروم، وتطهير هذه البقعة المقدسة من دنس شركهم، ثم أكمل المسيرة من بعده أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فما إن دخل بيت المقدس حتى توجه إلى المسجد الأقصى فصلى فيه وحوله قادة جنده، وحرر فلسطين وبلاد الشام من الشرك وأصبحت القدس تستظل بظل الإسلام، وفي حماية الله ثم حماية الأمة المسلمة، ثم ضعفت شوكة المسلمين بسبب تطلعهم إلى الدنيا وتفريطهم في دينهم، فسيطر عليه الصليبيون ما يقرب من مائة عام حتى قيض الله لإنقاذه بطلاً شجاعاً، مؤمناً صادقاً هو صلاح الدين الأيوبي، الذي أرجع إلى هذا المسجد حريته ومكانته، ولكن لم يستمر هذا الأمر حتى جاءت الصليبية الحديثة الثانية، التى مكنت اليهود من الاستيطان في فلسطين، وشدت من أزرهم حتى أقامت دولة إسرائيل، وأصبحت القدس والأرض المباركة كلها في قبضة اليهود الصهاينة.
أيها المسلمون:
( 3 )
إن المسجد الأقصى مسرى رسول الله (صلي الله عليه وسلم) وأولى القبلتين وثالث الحرمين ينادينا لإنقاذه من عبث العابثين، وفساد المفسدين، يهود بني إسرائيل الذين لم يهنأ لهم بال، ولن تلن لهم قناة حتى(179/3)
يزال هذا المسجد من أرض الواقع، فها نحن نراهم بين فترة وأخرى يحدثون فيه خللاً بالحفر من حوله مرة، ومن تحته أخرى، حتى بلغ عدد الحفريات منذ عام 1967 إلى الآن عشر، كل هذا من أجل أن يتعرض للانهيار والسقوط فإن حدث قالت هذا كان بسبب الكوارث الطبيعية، وفي يوم 21/8/1969م قام بعضهم بحرق المسجد الأقصى وساعدت الشرطة الإسرائيلية على زيادة اشتعال النار فيه بمنعهم رجال الإطفاء من القيام بأعمالهم، ولم تكتف إسرائيل بذلك بل أقدمت على عدة محاولات لنسف المسجد الأقصى بما اكتشف من متفجرات شديدة الانفجار كانت بالقرب منه، وها هي الآن تسعى جاهدة لإقامة معبد يهودي بجوار المسجد تمهيداً لإزالته في المستقبل القريب
معشر المسلمين:
كيف يهدأ لنا بال، ويسكن لنا فؤاد، والمسجد الأقصى أسير في يد اليهود، تعيث فيه فساداً، وتتربص الدوائر بمن يدخله من المسلمين المجاورين له، لقد مكنت إسرائيل اليهود من السكنى بجواره فأقامت لهم المستوطنات، ومكنتهم من دخوله بحجة السياحة، وطردت المسلمين العرب من ديارهم التي تجاور الحرم، وصادرت الأراضي الوقفية وأملاك المسلمين، وهدمت العمائر الإسلامية حتى وصل ما اغتصبته من أراض بالقدس أكثر من 90 % كما شجعت المنظمات المتطرفة من اليهود - التي تسعى جاهدة لهدم المسجد الأقصى وبناء هيكل سليمان على أنقاضه - بمساعدتها في تصرفاتها الإجرامية.
كل هذا لكي تبرهن على أن القدس عاصمة إسرائيل الأزلية، محاولة تغيير حقائق التاريخ، وتبذل أقصى ما يمكن من أجل ذلك، فتشجع اليهود على السكنى بجوار المسجد الأقصى، وتطلب من الدول نقل سفاراتها إلى القدس لتكون القدس عاصمة لها، كما تسعى لكسب التأييد العالمي لها بهذا الشأن.
أيها المسلمون:
( 4)(179/4)
إن المؤامرة على المسجد الأقصى، مسرى رسول الله (صلي الله عليه وسلم) أصبحت حقيقة واقعة، تتسارع خطواتها يوماً بعد يوم بل لحظة بعد لحظة، فماذا ننتظر؟ هل ننتظر حتى يهدم المسجد الأقصى حجراً بعد حجر؟! وأي عاراً على المسلمين بعد ذلك؟ فواجب على المسلمين أن يهبوا حكومات وشعوب لفك قيد هذا المسجد الأسير من يد اليهود.
هذا وقد أثلج صدورنا ما تقوم به اللجان الخيرية بدولة الكويت من جهد مشكور انطلاقاً من مسئوليتها الإسلامية والعقائدية المنوطة بها نحو المسجد الأقصى، فأقامت المشاريع الخيرية والإنتاجية بجوار المسجد الأقصى، وأقامت ما أفسده اليهود من مبان بالمسجد وما يجاوره، وأنشأت المعالم الإسلامية من معاهد ومدارس رمزاً لإسلامية القدس، فعلت ذلك امتثالاً لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * {س} وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 77، 78].
اللهم بلغنا اليوم الذي نرى فيه المسجد الأقصى حراً طليقاً، نقيم فيه الصلاة، ويؤمه المسلمون من كل حدب وصوب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(179/5)
اطبع هذه الصحفة
وقال ربكم ادعوني أستجب لكم
مَعْشَرَ الإخوةِ الفُضلاءِ
ولا تُخْلُوا التضرُّعَ والدُّعاءَ؛ مِنَ الصلاةِ والسلامِ علَى خاتَمِ الأنبياءِ، فعَنْ فَضالةَ بنِ عُبَيْدٍ - رضي الله عنه - يقولُ:"سَمِعَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو في صلاتِهِ لم يُمَجَّدِ اللهَ تعالَى؛ ولم يُصَلِّ علَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:عَجِلَ هذا، ثُمَّ دَعاهُ فقالَ له أوْ لغيرِهِ:"إذا صلَّى أحدُكم فَلْيَبدأْ بتحميدِ ربِّهِ جلَّ وعزَّ والثَّناءِ عليهِ، ثُمَّ يُصَلِّي علَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم يدعو بعدُ بما شاءَ" [أخرجَه أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ والنسائيُّ]، ومَنْ أرادَ أنْ يُستجابَ له الدعاءُ: فَلْيُطِبِ المطْعَمَ وَالمشْرَبَ والملْبَسَ والغِذاءَ، كما أخرجَ مسلمٌ في صحيحِهِ عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"أيُّها الناسُ إنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طَيِّباً، وإنَّ اللهَ أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بهِ المُرسلينَ، فقالَ: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } { المؤمنون: 51 } ، وقالَ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } { البقرة:172 } ، ثُمَّ ذكرَ الرجلَ يُطيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السماءِ: يا ربِّ يا ربِّ، ومَطْعمُهُ حرامٌ؛ ومَشْربُهُ حرامٌ؛ ومَلْبسُهُ حرامٌ؛ وَغُذِيَ بالحرامِ، فأنَّى يُسْتجابُ لِذلِكَ؟".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
1من جمادى الآخر 1428هـ الموافق6/7/ 2007م
وقال ربكم ادعوني أستجب لكم(180/1)
الحمدُ للهِ الذي أمرَ عِبادَهُ بالدُّعاءِ، ووَعَدَهم عليهِ الإجابَةَ والقَبولَ والجزاءَ، أحمدُ ربِّي حمداً كثيراً طيِّباً مُبارَكاً فيه علَى تفرُّدِهِ بالإماتَةِ والإحْياءِ؛ وبالمنْعِ والإعْطاءِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له المُتوحِّدُ بالعزَّةِ والكِبْرياءِ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا مُحمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ خاتَمُ الرُّسلِ والأنبياءِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ البرَرَةِ الأتْقياءِ.
أمّا بعدُ:
فأوصيكم مَعْشَرَ المؤمنينَ: بتقْوَى اللهِ ربِّ العالَمينَ، فهيَ وصيَّةُ اللهِ للأوَّلينَ والآخِرينَ، وهيَ حَبْلُ اللهِ المتينُ، { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } { البقرة: 194 } .
…… واشْدُدْ يَدَيْكَ بحَبْلِ اللهِ مُعْتَصِماً فإنَّهُ الرُّكْنُ إنْ خانَتْكَ أرْكانُ
…… مَنْ يتَّقِ اللهَ يُحْمَدْ في عَواقِبِهِ ويَكْفِهِ شَرَّ مَنْ عَزُّوا ومَنْ هانُوا
…… مَنِ استعانَ بغيرِ اللهِ في طَلَبٍ فإنَّ ناصِرَهُ عَجْزٌ وخِذْلانُ
مَعْشَرَ البرِيَّةِ:(180/2)
إنَّ الدُّعاء َ هوَ حقيقةُ العُبودِيَّةِ، وهوَ ذِكْرٌ وشَرَفٌ للبشرِيَّةِ، فأَنْزِلوهُ مِنْ أنفُسِكم خَيْرَ المنازِلِ واقْدِرُوا له قَدْراً، واتَّخِذوهُ يا عِبادَ اللهِ عُدَّةً وذُخْراً، فإنَّ ربَّكم تبارَكَ وتعالَى حَيِيٌّ كريمٌ يسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إذا رفَعَ يدَيْهِ إليهِ أنْ يَرُدَّهما صِفْراً" [كما أخرجَه أبو داودَ والترمذيُّ وابنُ ماجَه مِنْ حديثِ سَلْمانَ الفارِسيِّ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ]، فواجِبٌ علَى مَنْ سَمِعَ بهذا الفضلِ العظيمِ؛ وأيقنَ بهذا الخيرِ العَميمِ: أنْ يسيرَ في تحصيلِهِ سَيْرَ الحاثِّ، وأنْ يجتهدَ في الغَرْسِ والحِراثِ، فـ "ما مِنْ مسلمٍ يدعو بدَعْوَةٍ ليسَ فيها إثمٌ ولا قطيعةُ رَحِمٍ إلاّ أعْطاه اللهُ بها إحدَى ثلاثٍ: إمَّا أنْ تُعَجَّلَ له دَعْوَتُهُ، وإمّا أنْ يَدَّخِرَها له في الآخرةِ، وإمَّا أنْ يَصْرِفَ عَنْه مِنَ السُّوءِ مِثْلَها. قالوا: إذاً نُكْثِرُ؟ قالَ: اللهُ أكْثرُ"[كما أخرجَه أحمدُ مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضِيَ اللهُ عنه عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -].
يا أتباعَ خيرِِ البشريَّةِ:
اعْلَموا أنَّ دعاءَ اللهِ تعالَى له آدابٌ شرعيَّةٌ؛ ومُقدِّماتٌ مَرْعِيَّةٌ، ومتى ما وُفِّقَ العبدُ فيها للسَّدادِ والإصابَةِ: كانَ أكمَلَ وأرْجَى للقبولِ والإجابَةِ، فما أغْنَى الدَّاعِيَ حِينَئذٍ بعدَ فقْرِهِ؛ وما أعزَّهُ بعدَ ذُلِّهِ؛ وما أقْواهُ بعدَ ضَعْفِهِ؛ وما آنسَهُ بعدَ وَحْدَتِهِ، فهوَ الغَنِيُّ بلا مالٍ؛ القويُّ بلا سُلطانٍ؛ العزيزُ بلا عَشيرةٍ؛ المكفيُّ بلا عَتَادٍ.(180/3)
وآدابُ الدُّعاءِ بمنزلَةِ الثَّناءِ والتَّحِيَّةِ؛ الذي تُخاطِبُ به الرَّاعِيَ الرَّعيَّةُ، فمِنْ هذِهِ الآدابِ؛ مَعْشَرَ الإخْوَةِ الأحبابِ: أنْ يَسْتَفْتِحَ العبدُ دعاءَهُ بجوامِعِ أسماءِ اللهِ الحُسْنَى، وهِيَ كَلِمَةُ: اللهمَّ، وذلكَ أنَّ السَّائِلَ إذا قالَ: اللهمَّ؛ كأنَّهُ قالَ: أدعو اللهَ تعالَى بأسمائِهِ الحُسْنَى وصفاتِهِ العُلَى، كما قالَ الحسنُ البصريُّ رحمَهُ اللهُ تعالَى: اللهمَّ: مَجْمَعُ الدُّعاءِ. وقالَ النَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ: مَنْ قالَ: اللهمَّ؛ فقَدْ دعَا اللهَ بجميعِ أسمائِهِ، أوْ يتوسَّلَ الدَّاعِي إلى ربِّ العالَمينَ؛ بربوبيَّتِهِ علَى الخَلْقِ أجمعينَ، لذا كانَ سيِّدُ الثَّقَلَيْنِ - صلى الله عليه وسلم -؛ يَقْرِنُ بينَ هذينِ الأدَبيْنِ، كما أخرجَ البخاريُّ في صحيحِهِ عَنْ عبدِالعزيزِ بنِ صُهَيْبٍِ البُنانِيِّ رحمَهُ اللهُ تعالَى قالَ:"دخَلْتُ أنا وثابتٌ علَى أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه -، فقالَ ثابتٌ: يا أبا حَمْزةَ، اشتكَيْتُ. فقالَ أنسٌ: ألا أَرْقيكَ برُقْيَةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قالَ: بلَى. قالَ: "اللهمَّ ربَّ النَّاسِ، مُذهِبَ الباسِ، اشفِ أنتَ الشَّافِي، لا شافِيَ إلاّ أنتَ، شِفاءً لا يُغادِرُ سَقَماً"، أوْ يتوسَّلَ الدَّاعِي بما عليهِ مَدارُ أسماءِ اللهِ الكريمةِ؛ وإليها مَرْجِعُ مَعانِيها العظيمةِ، وهما اسما اللهِ تعالَى: الحيُّ القيُّومُ، كما أخْرجَ الترمذيُّ عنِ أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه - قالَ: "كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا كَرَبَهُ أمرٌ قالَ: يا حيُّ يا قَيُّومُ برحمَتِكَ أَستَغيثُ"، معَ ضَرورَةِ مُراعاةِ الدَّاعِي ما يُناسِبُ مَطْلوبَهُ مِنْ أسماءِ اللهِ الحُسْنَى، كما قالَ نبيُّ اللهِ سليمانُ عليهِ السلامُ: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ(180/4)
الْوَهَّابُ } { ص: 35 } .
مَعْشَرَ الإخوةِ الفُضلاءِ:
ولا تُخْلُوا التضرُّعَ والدُّعاءَ؛ مِنَ الصلاةِ والسلامِ علَى خاتَمِ الأنبياءِ، فعَنْ فَضالةَ بنِ عُبَيْدٍ - رضي الله عنه - يقولُ:"سَمِعَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو في صلاتِهِ لم يُمَجَّدِ اللهَ تعالَى؛ ولم يُصَلِّ علَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:عَجِلَ هذا، ثُمَّ دَعاهُ فقالَ له أوْ لغيرِهِ:"إذا صلَّى أحدُكم فَلْيَبدأْ بتحميدِ ربِّهِ جلَّ وعزَّ والثَّناءِ عليهِ، ثُمَّ يُصَلِّي علَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم يدعو بعدُ بما شاءَ" [أخرجَه أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ والنسائيُّ]، ومَنْ أرادَ أنْ يُستجابَ له الدعاءُ: فَلْيُطِبِ المطْعَمَ وَالمشْرَبَ والملْبَسَ والغِذاءَ، كما أخرجَ مسلمٌ في صحيحِهِ عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّها الناسُ إنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طَيِّباً، وإنَّ اللهَ أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بهِ المُرسلينَ، فقالَ: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } { المؤمنون: 51 } ، وقالَ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } { البقرة:172 } ، ثُمَّ ذكرَ الرجلَ يُطيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السماءِ: يا ربِّ يا ربِّ، ومَطْعمُهُ حرامٌ؛ ومَشْربُهُ حرامٌ؛ ومَلْبسُهُ حرامٌ؛ وَغُذِيَ بالحرامِ، فأنَّى يُسْتجابُ لِذلِكَ؟".(180/5)
ومِنْ هذِهِ الآدابِ؛ يا ذَوِي الألْبابِ: أنْ يَجْمَعَ العبدُ في دعائِهِ بينَ أُمورٍ ثَلاثَةٍ: ذِكْرِ أسماءِ اللهِ الحُسْنَى، وذِكْرِ فَقْرِهِ وذُلِّهِ، وذِكْرِ حاجَتِهِ ومَسْألَتِهِ، كما قالَ اللهُ تعالَى: { وَأَيّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } { الأنبياء: 83 } ، ويُصدِّقُ هذِهِ الأمورَ الثَّلاثةَ المُنيفَةَ: ما جاءَ في السُّنَِّة الشَّريفَةِ: عَنْ عبدِ اللهِ بن عمروِ بنِ العاصِ رضِيَ اللهُ عَنْهما عَنْ أبي بَكْرٍ - رضي الله عنه -أنَّه قالَ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "عَلِّمْنِي دُعاءً أدعو بهِ في صَلاتِي، قالَ: قُلِ: اللهمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كثيراً، ولا يَغْفِرُ الذُّنوبَ إلاّ أنْتَ، فاغْفِرْ لي مَغْفِرةً مِنْ عِنْدِكَ وارْحَمْنِي، إنَّكَ أنتَ الغفورُ الرحيمُ"[أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ].
ومِنْ هذِهِ الآدابِ مَعْشَرَ البَرايا: اعْتِرافُ العَبْدِ بالظُّلْمِ والخَطايا، كما جاءَ في دَعْوَةِ ذي النُّونِ عليه السَّلامُ؛ التي دعا اللهَ تعالَى بها في الظَّلام { لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } { الأنبياء :87 } فإنَّ فيها مِنْ كَمالِ التَّوحيدِ والتَّنْزيهِ لربِّهِ؛ واعترافِهِ بظُلْمِهِ وذَنْبِهِ: ما هوَ مِنْ أبْلَغِ أدْوِيَةِ الكُرُباتِ؛ وأبلَغِ الوسائِلِ إلى اللهِ تعالَى في قَضاءِ الحاجاتِ، كما أخرجَ أحمدُ والتِّرمذيُّ عَنْ سَعْدِ بنِ أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه - قالَ:قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:"دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إذْ دَعا وهوَ في بَطْنِ الحوتِ:لا إلهَ إلاّ أنْتَ سُبحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمينَ،فإنَّهُ لمْ يَدْعُ بها رجلٌ مُسلمٌ في شيْءٍ قطُّ:إلا استجابَ اللهُ له".(180/6)
ومِنْ ذلكَ مَعْشَرَ الإخوةِ الفُضَلاءِ: أنْ يُلِِحَّ العبدُ في المسألَةِ ويتَمَلَّقَ في الدُّعاءِ، قالَ مُوَرِّقٌ العِجْلِيُّ رحِمَهُ اللهُ تعالَى:"ما وَجَدْتُ للمؤمنِ مَثَلاً إلا كمَثَلِ رَجُلٍ في البحرِ علَى خَشَبةٍ، فهوَ يدعو: يا ربِّ يا ربِّ، لعلَّ اللهَ يُنجِيه"[ أخرجَه البيهقيُّ ]، فسِهامُ الدعاءِ تَحيدُ عَنِ السَّدادِ والإصابَةِ: إذا استعجَلَ الداعِي العَطاءَ واستبطَأَ الإجابَةَ، كما أخرَجَ مُسلمٌ في صحيحِهِ عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ:" لا يزالُ يُستجابُ للعبدِ ما لَمْ يَدْعُ بإثمٍْ أوْ قطيعةِ رَحِمٍ؛ ما لمْ يَسْتَعْجِلْ" قيلَ: يا رسولَ اللهِ، ما الاستعجالُ؟ قالَ: يقولُ: قَدْ دَعَوْتُ وقَدْ دعوتُ؛ فَلمْ أَرَ يَسْتجيبُ لي، فيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذلكَ ويَدَعُ الدعاءَ "، ومِنْ ذلكَ مَعْشَرَ المؤمنينَ: أنْ يعتَرِفَ العبدُ بعَجْزِهِ وتقصيرِهِ في الثَّناءِ علَى ربِّ العالَمينَ، كما أخرَجَ مُسلمٌ في صحيحِهِ عَنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عَنْها قالَتْ:" فَقَدْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ليْلَةً مِنَ الفراشِ، فالتمَسْتُهُ فوَقَعَتْ يَدِي علَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وهَو في المسجِدِ وهما مَنْصوبتانِ، وهوَ يقولُ: اللهمَّ أعوذُ برِضاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وبمُعافاتِكَ مِنْ عُقوبَتِكَ، وأعوذُ بكَ مِنْكَ، لا أُحْصِي ثناءً عليكَ، أنتَ كما أثْنَيْتَ علَى نفسِكَ". فطوبَى لعبدٍ واظَبَ علَى هذِهِ الآدابِ، وتابَ إلى ربِّهِ وأنابَ، فغَفَرَ له ما تقدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِِ إنَّه هوَ الغفورُ التوَّابُ.
الخطبة الثانية(180/7)
الحمدُ للهِ الذيِ رغَّبَ المُحسِنينَ بِوَعْدِهِ فَضْلاً فَوَفىَّ، ورهَّبَ المُسيئينَ بِوَعيدِهِ عَدْلاً فعَفا،أحمدُ ربِّي حمداً كثيراً طيِّباً مُبارَكاً فيه أحاطَ عِلْماً بالجَهْرِ وما يَخْفَى، وأشهدُ أنْ لا إلِهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له اجتَبى مَنْ شاءَ مِنْ عبادِهِ واصْطَفَى،وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا مُحمَّداً المغفورُ له ما تقدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وما تأخَّرَ وإنَّ له عِنْدَ ربِّهِ لَزُلْفَى،اللهمَّ صلِّ وسَلِّمْ علَى عبدِكَ ورسولِكَ مُحمَّدٍ وعلَى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ أهْلِ البِرِّ والوَفا.
أمَّا بعدُ:
فأُوصِيكمْ ونفسِي بتقْوَى المَلِكِ القُدُّوسِ، فتقْوَى اللهِ تعالَى خَيْرُ لِباسٍ تَسَرْبَلَتْ بهِ النُّفوسُ.
مَعْشَرَ البريَّةِ:(180/8)
إنَّ السَّعيدَ مَنِ اقتبسَ مِنْ هذِهِ الآدابِ، وقدَّمَ بْينَ يَدَيْ دُعائِهِ هذهِ الأسبابَ، فهَذا الذِي تُرْجَى له بإذْنِ اللهِ تعالَى الإجابَةُ، وأنْ يُفَرِّجَ عَنْه ربُّهُ عزَّ وجلَّ ما أصابَهُ، قالَ الحسنُ البصريُّ رحمَهُ اللهُ تعالَى: "كانَ رجلٌ مِنْ أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الأنصارِ يُكَنَّى: أبا مِعْلَقٍ، وكانَ تاجِراً يتَّجِرُ بمالٍ له ولِغَيْرِهِ يَضْرِبُ بهِ في الآفاقِ، وكانَ ناسِكاً وَرِعاً، فخرَجَ مَرَّةً فلَقِيَهُ لصٌّ مُقَنَّعٌ في السِّلاحِ، فقالَ له: ضَعْ ما معَكَ؛ فإنِّي قاتِلُكَ. قالَ: ما تُريدُ إلى دَميِ؟ شَأْنُكَ بالمالِ. قالَ: أمَّا المالُ فَلِي، ولسْتُ أريدُ إلاّ دَمَكَ. قالَ: أمّا إذا أَبَيْتَ؛ فَذَرْنِي أُصَلِّي أرْبعَ رَكَعاتٍ. قالَ: صلِّ ما بَدا لكَ. فتَوضَّأَ ثمَّ صلَّى أرْبَعَ رَكَعاتٍ، فكانَ مِنْ دُعائِهِ فى آخِرِ سَجْدَةٍ أنْ قالَ: يا وَدُودُ؛ يا ذا العَرْشِ المجيدِ؛ يافَعَّالُ لما يُريدُ: أسألُكَ بعِزِّكَ الذي لا يُرامُ؛ وبمُلْكِكَ الذي لا يُضامُ؛ وبنورِكَ الذي مَلأ أركانَ عَرْشِكَ: أنْ تَكْفِيَنِي شرَّ هذا اللصِّ، يا مُغيثُ أغِثْنِي، يا مُغيثُ أغِثْنِي، يا مُغيثُ أغِثْنِي، فإذا هوَ بفارِسٍ قَدْ أقبلَ بيدِهِ حَرْبةٌ واضِعُها بَيْنَ أُذُنَيْ فَرَسِهِ، فلمَّا بَصَرَ بهِ اللصُّ: أقْبَلَ نَحْوَهُ فطَعَنَهُ - أيْ: الفارسُ- فقَتَلَه، ثم أقْبَلَ إليه فقالَ: قُمْ. قالَ: مَنْ أنْتَ بأبي أنتَ وأُمِّي؟ فقَدْ أغاثَنِي اللهُ بِكَ اليومَ. قالَ: أنا مَلَكٌ مِنْ أهْلِ السَّماءِ الرَّابِعَةِ، دَعَوْتَ بدعائِكَ الأوَّلِ، فسَمِعْتُ لأبوابِ السَّماءِ قَعْقَعَةً، ثم دعوتَ بدعائِكَ الثَّاني فسَمِعْتُ لأهل السَّماء ضَجَّةً، ثم دعوتَ بدعائك الثَّالثِ فقيلَ لي: دعاءُ مَكْروبٍ، فسألتُ اللهَ تعالَى أنْ يُوَلِّيَنِي قَتْلَهُ، قالَ الحسَنُ: فاعْلَمْ(180/9)
أنَّهُ مَنْ تَوَضَّأَ؛ وصلَّى أرْبَعَ رَكَعاتٍ؛ ودَعا بهذا الدعاءِ: اسْتُجيبَ له؛ مَكْروباً كانَ أوْ غيرَ مَكْروبٍ" [أخرجَه ابنُ أبي الدُّنيا].
أيُّها الإخوةُ الكرامُ:
مَنْ رامَ مِنْكم فَتْحَ أبوابِ السماءِ لِيرْفَعَ دَعْوَتَهُ فوْقَ الغَمامِ: فَلْيُرَطِّبْ لِسانَهُ بكَثْرَةِ الصَّلاةِ والسَّلامِ، علَى خيرِ الأنامِ، امْتثالاً لأمْرِ المَلِكِ القدُّوسِ السَّلامِ، حيثُ قالَ في خيرِ كلامٍ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا { } الأحزاب: 56 } .
اللهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ آمِنّا في الوطَنِ، وادْفَعْ عنَّا الفِتَنَ والمِحَنَ؛ ما ظهرَ مِنْها وما بَطَنَ، اللهمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أمورِنا لحَمْلِ الأمانَةِ، وارْزُقْهُم صَلاحَ البِطانَةِ، واحفَظْهم مِنْ كَيْدِ أهْلِ البَغْيِ والخِيانَةِ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(180/10)
اطبع هذه الصحفة
وقوموا لله قانتين
عبادَ اللهِ:
إنَّ الخشوعَ في الصَّلاةِ عظيمٌ شَأْنُهُ، سَريعٌ فَقْدُهُ، نادِرٌ وُجودُهُ، لا سِيَّما في آخِرِ الزَّمانِ، مَعَ فَسادِ الأحْوالِ وضَعْفِ الإيمانِ، فعَنْ أبي الدَّرْداءِ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أوَّلُ شَيْءٍ يُرفَعُ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ الخشوعُ، حتَّى لا تَرَى فيها خاشِعاً" [أخرَجَهُ الطبرانيُّ]، ويقولُ حُذَيْفَةُ بنُ اليَمانِ - رضي الله عنه -: "أوَّلُ ما تَفْقِدونَ مِنْ دينِكُمُ الخُشوعُ، وآخِرُ ما تَفْقِدونَ الصَّلاةُ، ورُبَّ مُصَلٍّ لا خَيْرَ فيهِ، يوُشِكُ أنْ َتدْخُلَ المسجِدَ فلا تَرَى فيهم خاشِعاً".
بارَكَ اللهُ لي ولكم في الوَحْيَيْنِ ونَفَعَنِي وإيَّاكم بَهَدْيِ سَيِّدِ الثَّقَلَيْنِ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروهُ إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 28 جمادى الآخرة 1428هـ الموافق13/7/2007
وقوموا لله قانتين
الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ، أمَرَ بالخُشوعِ في الصلاةِ فقالَ: { وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } ، وجعلَهُ سِمَةً مِنْ سِماتِ المؤمنينَ، وطَريقاً للوْصولِ إلى مَراتِبِ المُفْلِحينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له القَوِيُّ المَتينُ، أعَدَّ ثَواباً عَظيماً للخاشِعينَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ إمامُ المُتَّقينَ، وأشْرَفُ الراغِبينَ والرَّاهِبينَ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ المُهْتَدينَ، وصحابَتِهِ الأكْرَمينَ، وعلَى تابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أمّا بعدُ:(181/1)
فأُوصيكم- أيُّها الناسُ- ونفسِي بتقْوَى اللهِ فإنَّها خيرُ زادٍ، ومُجْلِبَةٌ للهُدَى والرِّضا والسَّدادِ، وأَمَنَةٌ لِصاحِبِها يومَ الفَزَعِ وَالتَّنادِ، يقولُ اللهُ سبحانَه: { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ } { البقرة: 179 } .
مَنْ يتَّقِ اللهَ يُحْمَدْ في عَواقِبِهِ ويَكْفِهِ شَرَّ مَنْ عَزُّوا ومَنْ هانُوا
فَالْزَمْ يَدَيْكَ بحَبْلِ اللهِ مُعْتَصِماً فإنَّهُ الرُّكْنُ إِنْ خانَتْكَ أَرْكانُ
معاشِرَ المسلمينَ:
مِنْ أجْلِ مُحاسَبَةٍ صادِقَةٍ، ومُعالَجَةٍ لأحْوالِ النَّفْسِ دقيقةٍ، واختبارٍ للعَمَلِ بَيِّنٍ، فهذِهِ وقَفْةٌ مَعَ فَريضَةٍ مِنْ فرائِضِ اللهِ سبحانَه، لَيْسَتْ بمَوْسِمٍ مُرْتَبِطَةً، ولاعلَى مُناسَبَةٍ مَوْقُوفَةً، فَريضَةٌ لَيْسَتْ في العُمْرِ مَرَّةً، ولا في العامِ مَرَّةً، ولا في اليومِ مَرَّةً، ولكنَّها في اليومِ والليلةِ خَمْسُ مَرَّاتٍ.
إنَّها قُرَّةُ عَيْنِ سَيِّدِ المُرْسَلينَ، وأَمانٌ لِلْمؤمنينَ، ومِعْراجٌ لأِفْئِدَةِ المُتقينَ، إنّها الصلاةُ - عِبادَ اللهِ- رُكْنُ الدِّينِ وعَمُودُهُ، فعَنْ جابرِ بنِ عبدِاللهِ - رضِيَ اللهُ عَنْهما- قالَ سَمِعْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ بَيْنَ الرجلِ وبَيْنَ الشِّرْكِ والكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ" [أخرجَهُ مسلمٌ].
إخْوَةَ الإسلامِ:(181/2)
تَفَقَّدوا أنْفُسَكم في صَلَوَاتِكم، مُحافَظَةً على أوْقاتِها، وأداءً لأرْكانِها وخُشُوعِها، فَصِفاتُ المُفْلِحينَ مَبْدوءَةٌ بها، ومُخْتَتَمَةٌ بالمحافَظَةِ علَيْها، يقولُ سبحانَه: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } { المؤمون:1- 2 } ثُمَّ في خاتِمَةِ هذِهِ الصِّفاتِ يقولُ سبحانَه: { َالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ - أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ - الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } { المؤمنون:9-11 } .
وفي اسْتِعْراضٍ آخَرَ مِنْ كلامِ الرحمنِ، للمُكْرَمينَ مِنْ أهْلِ الجِنانِ، تَأْتِي المُداوَمَةُ علَى الصلاةِ في أَوَّلِ الصِّفاتِ الحِسَانِ، { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً - إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً - وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً - إِلَّا الْمُصَلِّينَ - الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ } { المعارج:19-23 } ، ثُمَّ في خاتِمَةِ هذِهِ الصفاتِ يقولُ سبحانَه: { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُون َ - أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } { المعارج:34-35 } .
أيُّها الجَمْعُ الكَريمُ:(181/3)
إنَّ رُوحَ الصلاةِ وَلُبَّها هوَ الخشوعُ، وحضورُ القَلْبِ والإِخْباتُ والخُضوعُ، كما قِيلَ: "صَلاةٌ بلا خُشوعٍ جُثَّةٌ هامِدَةٌ بلا رُوحٍ"، وإذا خشَعَ القلبُ خَشَعَتِ الجوارِحُ والحَواسُّ، وقَدْ كانَ مِنْ ذَكْرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في رُكوعِهِ: "خَشَعَ لكَ سَمْعِي وبَصَرِي ومُخِّي وعَظْمِي وعَصَبِي" [أخرجَهُ مسلمٌ] مِنْ حديثِ عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ - رضي الله عنه -، وفي روايةِ الإمامِ أحمدَ: "وما اسْتَقَلَّتْ بهِ قَدَمِي للهِ ربِّ العالمينَ"، وحِينَ رَأَى ابنُ المُسَيَّبِ رَجُلاً يْعبَثُ في صلاتِهِ قالَ: "لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذا لَخَشَعَتْ جَوارِحُهُ"، وعَنْ عُبادَةَ بنِ الصَّامِتِ - رضي الله عنه - قالَ:سمعتُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"خَمْسُ صَلَواتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللهُ تعالَى، مَنْ أحْسَنَ وُضوءَهُنَّ، وصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ، وأَتَمَّ رُكوعَهُنَّ وخُشَوعَهُنَّ، كانَ له علَى اللهِ عَهْدٌ أنْ يَغْفِرَ له، ومَنْ لَمْ يَفْعَلْ فليسَ له علَى اللهِ عَهْدٌ، إنْ شاءَ غَفَرَ له، وإن شاءَ عَذَّبَهُ" [أخرجَه أبو داودَ].
أيَُّها الأحِبَّةُ في اللهِ:
لقَدْ ضرَبَ أسلافُكُم أرْوَعَ الأمْثِلَةِ في الخُشوعِ، فكانوا في صَلاتِهم تَسْكُنُ جَوارِحُهم وتَنْهَمِرُ مِنْهمُ الدُّموعُ، فهَذا ابنُ الزُّبَيْرِ كانَ إذا قامَ في الصلاةِ كأنَّهُ عُودُ شَجَرةٍ مِنَ الخُشوعِ، وكانَ إذا سَجَدَ نَزَلَتِ العصافِِيرُ علَى ظَهْرِهِ، لا تَحْسَبُهُ إلاّ جِذْعَ حائطٍ.(181/4)
ويقولُ مَيْمونُ بنُ مِهْرانَ رحِمَهُ اللهُ:" مارأَيْتُ مُسْلِمَ بنَ يَسارٍ مُلْتَفِتاً في صَلاةٍ قَطُّ، ولقَدِ انْهَدَّتْ ناحِيَةٌ مِنَ المَسْجِدِ، ففَزِعَ أهْلُ السوقِ لِهَدَّتِها، وإنَّه لَفِي المسجِدِ يُصَلِّي فَما الْتَفَتَ"، وكانَ عَلِيُّ بنُ الحسينِ زينُ العابِدينَ إذا تَوَضَّأَ اصْفَرَّ لَوْنُه، فقِيلَ له: ما هَذا الذِي يَعْتادُكَ عِنْدَ الوُضُوءِ؟ فقالَ رحِمَهُ اللهُ: "أتَدْرونَ بيْنَ يَدَيْ مَنْ أُرِيدُ أنْ أقُومَ".
إذا ما الليلُ أظلَمَ كابَدُوهُ فَيُسْفِرُ عَنْهُمُ وهُمْ رُكوعُ
أطارَ الخَوْفُ نومَهُمُ فقامُوا وأَهْلُ الأمْنِ في الدُّنيا هُجُوعُ
أيْنَ هَذا مِنْ نُفوسٍ استَحْوَذَ علَيْها الشيطانُ، فلا تَرَى مِنْ صَلاتِها إلاَّ أجْساداً تَهْوِي إلى الأرْضِ خَفْضاً ورَفْعاً، أمَّا قلوبُها فخاوِيَةٌ، وأرْواحُها بالدُّنيا مُتَعلِّقَةٌ، ونُفوسُها بالأموالِ والأهْلِينَ مَشْغولَةٌ.
لماَّ سَمِعَ بَعْضُ السَّلَفِ قَوْلَ اللهِ تعالَى: { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } { النساء:43 } ، قالَ:"كَمْ مِنْ مُصَلٍّ لمْ يَشْرَبْ خَمْراً وهوَ في صلاتِهِ لا يَعْلَمُ ما يقولُ، قَدْ أسْكَرَتْهُ الدُّنيا بهُمومِها"!!.
ويقولُ آخَرُ: "الصلاةُ كجاريةٍ تُهْدَى إلى مَلِكٍ، فما الظَّنُّ بمَنْ يُهْدِي إليْكَ جارِيَةً شَلَّاءَ، أوْ عَوْراءَ أوْ عَمْياءَ أوْ مَقْطوعَةَ اليدِ أوِ الرِّجْلِ، أوْ مَريضَةً أوْ قَبيحَةً، حتَّى يُهْدِي إليهِ جارِيةً مَيِّتَةً بِلا روحٍ، فكيفَ يُهْدِي إلى اللهِ صَلاةً مَيِّتةً بلا روحٍ وخُشوعٍ".
عبادَ اللهِ:(181/5)
إنَّ الخشوعَ في الصَّلاةِ عظيمٌ شَأْنُهُ، سَريعٌ فَقْدُهُ، نادِرٌ وُجودُهُ، لا سِيَّما في آخِرِ الزَّمانِ، مَعَ فَسادِ الأحْوالِ وضَعْفِ الإيمانِ، فعَنْ أبي الدَّرْداءِ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أوَّلُ شَيْءٍ يُرفَعُ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ الخشوعُ، حتَّى لا تَرَى فيها خاشِعاً" [أخرَجَهُ الطبرانيُّ]، ويقولُ حُذَيْفَةُ بنُ اليَمانِ - رضي الله عنه -: "أوَّلُ ما تَفْقِدونَ مِنْ دينِكُمُ الخُشوعُ، وآخِرُ ما تَفْقِدونَ الصَّلاةُ، ورُبَّ مُصَلٍّ لا خَيْرَ فيهِ، يوُشِكُ أنْ َتدْخُلَ المسجِدَ فلا تَرَى فيهم خاشِعاً".
بارَكَ اللهُ لي ولكم في الوَحْيَيْنِ ونَفَعَنِي وإيَّاكم بَهَدْيِ سَيِّدِ الثَّقَلَيْنِ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروهُ إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ وكفَى، وَعَدَ فَوَفَّى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له أذهَبَ الأسْقامَ وشَفَى، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ المُصْطفَى، صلَّى اللهُ وسلَّمَ علَيْهِ وعلَى آلِهِ الشُّرَفا، وأصحابِهِ أهْلِ الخُشوعِ والصَّفا، ومَنْ سارَ علَى نَهْجِهم وَاقْتَفَى.
أمّا بعدُ:
فاتقوا اللهَ أيُّها المصلونَ، وحافِظوا علَى الخُشوعِ في صلاتِكم، واعْلَموا أنَّ هُناكَ أموراً تُعِينُ علَى الخشوعِ في الصَّلاةِ، وهِيَ كثيرةٌ مِنْ أبْرَزِها: تَذَكُّرُ الموْتِ في الصلاةِ، وأنْ يُصَلِّيَ المسلمُ
صَلاةَ مُوَدِّعٍ، فعَنْ أنسِ بنِ مالِكٍ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "اذْكُرِ الموْتَ في صلاتِكَ فإنَّ الرجلَ إذا ذكرَ الموْتَ في صلاتِهِ لَحَرِيٌّ أنْ يُحَسِّنَ صَلاتَهُ، وصَلِّ صَلاةَ رَجُلٍ لا يَظُنُّ أنَّه يُصَلِّي غيرَها" [أخرجَهُ الديْلَمِيُّ في مُسْنَدِ الفِردَوْسِ].(181/6)
ومِمَّا يُعِينُ علَى الخشوعِ: تَذَكُّرُ ثَوابِ الخاشِعينَ، والتأَمُّلُ في الآياتِ المَقْروءَةِ في الصَّلاةِ، وتَذَكُّرُ مَشاهِدِ يومِ القيامَةِ، والتَّأَمُّلُ في أسماءِ اللهِ تعالَى وصِفاتِهِ، ومدافَعَةُ الشَّواغِلِ، فلا يُصَلِّي في مكانٍ فيه نُقوشٌ أوْ تَصاوِيرُ، ولا يُصَلِّي بحَضْرَةِ طَعامٍ يَشْتَهِيهِ، أوْ مَعَ مُدافَعَةِ الأخْبَثَيْنِ، ومِنْها الاسِتعاذَةُ مِنَ الشيطانِ، فعَنْ عُثْمانَ بنِ أبي العاصِ - رضي الله عنه - أنَّه أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسولَ اللهِ إنَّ الشيطانَ قَدْ حالَ بَيْنِي وبَيْنَ صَلاتِي وقراءَتِي يَلْبِسُها عَلَيَّ، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ذاكَ شيطانٌ يُقالُ له خِنْزَبٌ، فإذا أحْسَسْتَهُ فَتَعوَّذْ باللهِ مِنْه، وَاتْفُلْ عَلَى يَسارِكَ ثلاثاً"[أخرجَه مسلمٌ].
ومِنْها التَّبْكيرُ إلى الصَّلاةِ والإكثارُ مِنَ الذِّكْرِ والاستِغْفارِ، فَفِي الحديثِ:"الملائِكَةُ تُصَلِّي علَى أحَدِكُم مادامَ في مُصَلَّاهُ ما لَمْ يُحْدِثْ اللهمَّ اغْفِرْ له اللهمَّ ارْحَمْهُ، لا يَزالُ أحَدُكم في صَلاةٍ ما دامَتِ الصَّلاةُ تَحْبِسُهُ، لا يَمْنَعُهُ أنْ يَنْقَلِبَ إلى أهْلِهِ إلاّ الصلاةُ"[متَّفقٌ عليه مِنْ حديثِ أبي هريرةَ].
أيُّها الأحبَّةُ في اللهِ:
ومِنْ أعظَم هذِهِ الأمورِ، تَخْلِيصُ القُلوبِ مِنْ سِوَى اللهِ، تَخْلِيصُها مِنْ دُنْيا فانِيَةٍ، وأُمورٍ لا تُدانِي الآخِرَةَ، وكُلُّ بحَسَبِ هِمَّتِهِ، يقولُ اللهُ سبحانَه: { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ - الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } { البقرة :45-46 } ، نَسْألُ اللهَ تعالَى أنْ يجعَلَنا مِنَ الخاشِعينَ المُخْبِتينَ الشَّاكِرينَ الصَّابِرينَ.(181/7)
اللهمَّ لا تْجعَلِ الدُّنْيا أكَبرَ هَمِّنا، ولا مَبْلَغَ عِلْمِنا، ولا إلى النَّارِ مَصِيرَنا، واجْعَلِ الجنَّةَ دارَنا وقَرارَنا، اللهمَّ اغفرْ لِلمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ, وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ, ودَمِّرِ اللهُمَّ أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِِ، اللهُمَّ اقسِمْ لنا مِنْ خَشْيَتِكَ ما تَحُولُ به بَيْنَنا وبَيْنَ مَعاصِيكَ, ومِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُناَ بهِ جَنَّتَكَ, ومِنَ اليقَينِ ما تُهَوِّنُ بهِ علَيْنا مَصائِبَ الدُّنيا، واجْعَلِ اللّهمَّ هذا البلَدَ آمِناً مُطمئنّاً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، اللّهمَّ إنّا نسألُكَ الهُدَى والتُّقَى والعَفافَ والغِنَى ومِنَ العَمَلِ ما تَرْضَى، اللّهمَّ إنّا نسأَلُكَ فَواتِحَ الَخْيرِ وخَواتِمَهُ وجَوامِعَهُ وأوَّلَهُ وآخِرَهُ وظاهِرَهُ وباطِنَهُ، اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمِنًا مُطمئِنّاً سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
……………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(181/8)
اطبع هذه الصحفة
الدعوة إلى الله
أيُّها الإخوةُ المسلمونَ:
ولمّا كانَتَ الدعوةُ إلى دينِ اللهِ عزَّ وجلَّ مَنوطَةً بكُلِّ مسلمٍ: كانَ علَى كُلِّ بالغٍ عاقِلٍ مِنْ أُمَّةِ الإسلامِ عَلِمَ مِنْ مَعانِي الإسلامِ وأحكامِهِ شيئاً أنْ يُبَلِّغَهُ لمَنْ يَجْهَلُه كائِناً مَنْ كانَ، كُلٌّ بِحَسَبِ عِلْمِهِ وطاقَتِهِ ومَجالِهِ؛ إذِ الأُمَّةُ شَريكةٌ لِرَسولِها - صلى الله عليه وسلم - في الدَّعْوَةِ إلى اللهِ؛ فقَدْ رَوَى عبدُ اللهِ بنُ عمروٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"بَلِّغوا عَنِّي ولَوْ آيةً" [أخرجَه البخاريُّ]، وإنّ مماّ يَدْعو إلى الاعتزازِ، ويستَحِقُّ الذِّكْرَ والإبْرازَ؛ ما تقومُ بهِ وزارةُ الأوقافِ والشؤونِ الإسلامِيَّةِ في هَذا البَلَدِ المُبارَكِ مِنْ جهودٍ بنَّاءَةٍ وأعْمالٍ مُثْمِرَةٍ في حَقْلِ الدعوةِ إلى اللهِ، إذْ حَمَلَتْ علَى عاتِقِها هَمَّ الدعوةِ، وعَمِلَتْ علَى تَيْسيرِ سُبُلِها؛ لتبليغِ دينِ اللهِ تعالَى إلى الناسِ، ونَشْرِ الخيرِ والحقِّ والفضيلةِ، ولمْ تَأْلُ جُهْداً في التعاوُنِ مَعَ اللجانِ الدَّعَوِيَّةِ المَعْنِيَّةِ بدَعْوَةِ الجالياتِ غَيْرِ العربية، مِنْ خِلالِ التنسيقِ مَعَ مُراقَبَةِ الجالياتِ بالوزارةِ؛ لتأْدِيَةِ واجِبِها الشَّرْعِيِّ بالوسائِلِ المشروعَةِ والإمْكاناتِ المُتاحَةِ مِنْ طِباعةِ كُتَيِّباتٍ، وتَوْزيعِ أشْرِطَةٍ ونَشَراتٍ ومَطْوِيَّاتٍ ونَحْوِها باللغةِ العربيةِ وغيرِها مِنَ اللغاتِ، وكُلِّ ما يُعينُ علَى نَشْرِ الإسلامِ والتعريفِ بهِ، وتَبْيينِ حقائِقِهِ، وإظهارِ محاسِنِهِ؛ دونَ غُلُوٍّ أوْ تَقْصيرٍ؛ استجابةً لأمْرِ اللهِ جَلَّ جلالهُ: { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } { النحل:125 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة(182/1)
بتاريخ 6رجب 1428هـ الموافق20/ 7/2007
الدعوة إلى الله تعالى
الحمدُ للهِ الذي خلَقَ كُلَّ شيْءٍ فقَدَّرَهُ تَقْديراً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له؛ سبحانَهُ خلَقَ فسَوَّى، وقَدَّرَ فهَدَى، وكفَى باللهِ هادِياً ونَصيراً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ أرسَلَهُ رَبُّهُ شاهِدا ًومُبَشِّراً ونَذيراً، وداعِياً إلى اللهِ بإذْنِهِ وسِراجاً مُنيراً، فأدَّى الأمانَةَ، وبلَّغَ الرِّسالَةَ، ونصَحَ للأُمَّةِ، وكشَفَ اللهُ بهِ الغُمَّةَ، وجاهَدَ المعُانِدينَ بالقرآنِ العظيمِ جِهاداً كَبيراً، فصلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وأصحابِهِ الذين دَعَوْا بدَعْوَتِهِ، وماتُوا علَى مِلَّتِهِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
أمّا بعدُ:
فأُوصِيكم ـ أيُّها الناسُ ـ ونفسِي بتقْوَى ذِي العِزَّةِ والجَلالِ، والعَمَلِ ليومٍ لا بَيْعٌ فيهِ ولا خِلالٌ { وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } { البقرة:281 } .
إخوةَ الإسلامِ والإيمانِ:(182/2)
إنَّ مِنْ أوْجَبِ الواجِباتِ، وأحَبِّ الأعْمالِ إلى رَبِّ البَرِيَّاتِ: الدعْوَةَ إلى دِينِ اللهِ، وإنَّ أشْرَفَ مَقاماتِ العَبْدِ، وأجَلَّ منازِلِ الفَرْدِ؛ أنْ يَتَرَسَّمَ خُطَى الأنبياءِ عليهمُ الصلاةُ والسلامُ، ويقْتَفِيَ آثارَهم؛ فيكونَ داعِياً إلى اللهِ تعالَى، إذْ لا أحَدَ أحْسَنُ قَوْلاً ومُعْتَقداً، ولا أشْرَفُ عَمَلاً ومَقْصِداً؛ مِمَّنْ نذَرَ نفْسَهُ للدَّعْوَةِ إلى اللهِ، وبذَلَ طاقاتِهِ في سبيلِ اللهِ، إنَّها وَظيفَةُ الأنبياءِ والمُرْسَلينَ، وسِرٌّ مِنْ أسْرارِ خُلودِ هذا الدِّينِ، وما مِنْ نَبِيٍّ مِنَ النبيِّينَ عليهمُ الصلاةُ والسلامُ إلاّ دَعا قوْمَهُ إلى خَيْرِ ما يَعْلَمُهُ لهم، وحَذَّرَهم مِنْ شَرِّ ما يعْلَمُهُ لهم. قالَ اللهُ تعالَى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } { النحل: 36 } ، فأكْرِمْ بها مِنْ وَظيفَةٍ! ،وأعْظِمْ بها مِنْ رِسالةٍ!، قالَ اللهُ تعالَى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } { فصلت: 33 } .
أيُّها المسلمونَ:(182/3)
وهَلْ يَتَجَشَّمُ المتاعِبَ، ويتَحمَلُ المصاعِبَ؛ إلاّ جَسورٌ غَيورٌ يَدْعو إلى الهُدَى والرشادِ، ويُذَكِّرُ الناسَ بيومِ المَعادِ؛ لِينالَ أُجورَ مَنْ يَتْبَعُهُ علَى هُدَىً وبَصيرَةٍ؟ عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"مَنْ دَعا إلى هُدَىً كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلَ أُجورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يُنْقِصُ ذلكَ مِنْ أُجورِهم شَْيئاً، ومَنْ دَعا إلى ضَلالَةِ كانَ عليهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلَ آثامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يُنْقِصُ ذلك مِنْ آثامِهم شَْيئاً"[أخرجَه مسلمٌ]. وإنَّ هدايَةَ رَجُلٍ واحدٍ علَى يَدَيِ الدَّاعِي لِهيَ خَيْرٌ مِنْ أَنْفَسِ الأموالِ وأعَزِّها؛ فعَنْ سَهل بِن سَعْدٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لعَلِيٍّ - رضي الله عنه - يومَ خَيْبَرَ: لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رجُلاً واحداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ"[أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ]، وقَدْ دَعا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمَنْ دَعا إلى سُنَّتِهِ، وبَلَّغَ العِلْمَ لأُمَّتِهِ فقالَ:"نضَّرَ اللهُ امْرَءاً سَمِعَ مَقالَتِي فَوَعاها وحَفِظَها وبَلَّغَها، فَربَّ حامِلِ فَقْهٍ إلى مَنْ هوَ أفْقَهُ مِنْه " [أخرجَه الترمذيُّ مِنْ حديثِ عبِداللهِ بنِ مَسْعودٍ - رضي الله عنه -].
عِبادَ اللهِ:(182/4)
ولقَدْ أمرَ رَبُّنا سبحانَه وتعالَى نبيَّنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالدعْوَةِ إلى دِينِهِ وإيضاحِ سَبيلِهِ ولماّ أَنْزَلَ عليهِ قولَهُ { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } { الشعراء:214 } ، لبَّى نِداءَ اللهِ، واستجابَ لأمِرْ مَوْلاهُ؛ فدَعا قريشاً فاجتَمَعوا، فَعَمَّ وخَصَّ فقالَ:"يا بَنِي كَعْبِ بنِ لُؤَيٍ أنْقِذوا أنْفُسَكم مِنَ النارِ، يا بَنِي مُرَّةَ بنِ كَعْبٍ أنْقِذوا أنْفُسَكم مِنَ النارِ، يا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أنْقِذوا أنْفُسَكم مِنَ النارِ، يا بَنِي عبدِ منَافٍ أنْقِذوا أنْفُسَكم مِنَ النارِ، يا بَنِي هاشِمٍ أنْقِذوا أنُْفُسَكم مِنَ النارِ، يا بَنِي عبدِ المُطَّلبِ أنْقِذوا أنْفُسَكم مِنَ النارِ، يا فاطِمَةُ أنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النارِ؛ فإنِّي لا أمْلِكُ لكم مِنَ اللهِ شَيْئاً غيرَ أنَّ لكم رَحِماً سَأَبُلُّها بِبَلَالِها" [أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ واللفظُ له].
ولماّ نَزَلَ عليهِ قَوْلُ رَبِّهِ تعالَى: { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } { الحجر: 94 } ، صَدَعَ بأمْرِ اللهِ لا تَأْخُذُهُ فيهِ لَوْمَةُ لائمٍ، فدَعا إلى اللهِ الصغيرَ والكبيرَ، والذَّكَرَ والأُنْثىَ، والحُرَّ والعَبْدَ، والأحْمَرَ والأَسْوَدَ، وكان يُوافيِ مَوْسِمَ الحَجِّ كُلَّ عامٍ يَتَّبِعُ الحُجَّاجَ في منازِلِهم، والناسَ في أسْواقِهم بِعُكاظَ ومِجِنَّةَ وذِي المَجازِ،وكانَ يَخرُجُ إلى القبائِلِ والقُرَى يَدْعوهم إلى اللهِ وهوَ يقولُ:"يا أيُّها الناسُ: قولوا لا إلِهَ إلاَّ اللهُ تَفْلَحوا " [أخرجَه أحمدُ].(182/5)
ولَمْ يَكْتَفِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بدَعْوَةِ الناسِ بلسانِهِ بَلْ كاتَبَ الملوكَ والأُمراءَ فقَدْ كتَبَ إلى هِرَقْلَ عظيمِ الرومِ، وكِسْرَى عظيمِ فارِسٍ، والنَّجاشِيِّ مَلِكِ الحَبشَةِ، وإلى المقَوْقِسِ مَلِكِ مِصْرَ وغيرِهم مِنَ المُلوكِ يَدْعوهم وأقْوامَهم بدِعايَةِ الإسلامِ، فإنْ تَوَلَوْا فإنَّ عليهم إثْمَهُمْ وآثامَ أقْوامِهم.
إخوةَ الإسلامِ:
لقَدْ كانَ حِرْصُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - علَى هِدايَةِ قَوْمِهِ كبيراً، وكانَ أسَفُهُ وحُزْنُهُ علَى إعْراضِهم شَديداً، حتَّى إنَّ اللهَ تعالَى خاطَبَهُ بقولِهِ : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } { الكهف: 6 } ، وقَدْ بَعَثَ - صلى الله عليه وسلم - مُصْعَبَ بنَ عُمَيْرٍ - رضي الله عنه - إلى يَثْرِبَ بعدَ بَيْعَةِ العَقَبَةِ الأُولَى؛ لِيُقْرِئَ أهْلَها القرآنَ ويُعَلِّمَهمُ الإسلامَ ويُفَقِّهَهم في الدِّينِ، حتَّى أسْلَمَ علَى يدِهِ خَلْقٌ كثيرٌ. وأرسَلَ مُعاذَ بنَ جَبَلٍ - رضي الله عنه - إلى اليمَنِ وقالَ له:"إنَّكَ تَأْتِي قَوْماً مِنْ أهْلِ الكتابِ فادْعُهم إلى شَهادَةِ أنْ لا إِلهَ إلاّ اللهُ وأنِّي رسولُ اللهِ"وأنِّي رسولُ اللهِ" [أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ ].(182/6)
وبعْدَ أنْ لَحِقَ – عليهِ الصلاةُ والسلامُ – بالرفيقِ الأعْلَى حَمَلَ أصحابُهُ الأُمنَاءُ الأَغْيارُ لِواءَ الدَّعْوَةِ وهَمَّ الرِّسالَةِ؛ فَشرَّقُوا وغَرَّبُوا؛ يَحْمِلونَ مِشْعَلَ الهِدايَةِ والإصْلاحِ للبَشرِيَّةِ؛ فَجاهَدوا بالإيمانِ والقُرْآنِ، وجَالَدوا بالسيْفِ والسِّنانِ؛ حتَّى فُتِحَتْ لهم قلوبُ العِبادِ وحُصونُ البِلادِ. لَقَدْ آثروا البُعْدَ عَنِ الأهْلِ والوَطَنِ والأصْحابِ مِنْ أَجْلِ تَبْليِغِ دَعْوَةِ اللهِ، ونُصْرَةِ الحَقِّ ؛ فنِعْمَ ما صَنَعوا، وتِلْكَ قُبورُهم في شَتَّى بِقاعِ المَعْمُورَةِ شاهِدَةٌ علَى تَضْحِيَاتِهمُ العِظامِ. فرَحِمَ اللهُ امْرَءاً نَهَجَ نَهْجَهم وسَلَكَ سَبِيلَهم فدَعا إلى اللهِ علَى عِلْمٍ وبَصيرَةٍ.
أقولُ ما تسمعونَ وأستَغْفِرُ اللهَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فاستغفروهُ إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ العَلِيِّ الأعْلَى؛ الذي أحاطَ بكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له؛ جعلَ في كُلِّ زمانٍ بَقايا مِنْ أهْلِ العِلْمِ يَدْعونَ مَنْ ضَلَّ إلى الهُدَى، ويَصْبِرون علَى الأذَى، ويُبَصِّرونَ بكتابِ اللهِ أهْلَ العَمَى، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ قُدْوَةُ الوَرَى وخَيْرُ مَنْ وطِئَتْ قَدَماهُ الثَّرَى، - صلى الله عليه وسلم - وعلَى آلِهِ وأصحابِهِ الذينَ دَعَوْا إلى سبيلِ رَبِّهم واجتَنَبوا سُبَلَ الرَّدَى.
أمّا بعدُ:
فاتقوا اللهُ الذي خَلَقَكم، واستَعينوا علَى طاعتِهِ بما رزَقَكم، وأَدُّوا ما عليكم مِنَ الواجباتِ المفْروضَةِ، وَاصْدُقوا في أعمالِكم وأقْوالِكم فإنَّها علَى اللهِ مَعْروضةٌ.
أيُّها الإخوةُ المسلمونَ:(182/7)
ولمّا كانَتَ الدعوةُ إلى دينِ اللهِ عزَّ وجلَّ مَنوطَةً بكُلِّ مسلمٍ: كانَ علَى كُلِّ بالغٍ عاقِلٍ مِنْ أُمَّةِ الإسلامِ عَلِمَ مِنْ مَعانِي الإسلامِ وأحكامِهِ شيئاً أنْ يُبَلِّغَهُ لمَنْ يَجْهَلُه كائِناً مَنْ كانَ، كُلٌّ بِحَسَبِ عِلْمِهِ وطاقَتِهِ ومَجالِهِ؛ إذِ الأُمَّةُ شَريكةٌ لِرَسولِها - صلى الله عليه وسلم - في الدَّعْوَةِ إلى اللهِ؛ فقَدْ رَوَى عبدُ اللهِ بنُ عمروٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"بَلِّغوا عَنِّي ولَوْ آيةً" [أخرجَه البخاريُّ]، وإنّ مماّ يَدْعو إلى الاعتزازِ، ويستَحِقُّ الذِّكْرَ والإبْرازَ؛ ما تقومُ بهِ وزارةُ الأوقافِ والشؤونِ الإسلامِيَّةِ في هَذا البَلَدِ المُبارَكِ مِنْ جهودٍ بنَّاءَةٍ وأعْمالٍ مُثْمِرَةٍ في حَقْلِ الدعوةِ إلى اللهِ، إذْ حَمَلَتْ علَى عاتِقِها هَمَّ الدعوةِ، وعَمِلَتْ علَى تَيْسيرِ سُبُلِها؛ لتبليغِ دينِ اللهِ تعالَى إلى الناسِ، ونَشْرِ الخيرِ والحقِّ والفضيلةِ، ولمْ تَأْلُ جُهْداً في التعاوُنِ مَعَ اللجانِ الدَّعَوِيَّةِ المَعْنِيَّةِ بدَعْوَةِ الجالياتِ غَيْرِ العربية، مِنْ خِلالِ التنسيقِ مَعَ مُراقَبَةِ الجالياتِ بالوزارةِ؛ لتأْدِيَةِ واجِبِها الشَّرْعِيِّ بالوسائِلِ المشروعَةِ والإمْكاناتِ المُتاحَةِ مِنْ طِباعةِ كُتَيِّباتٍ، وتَوْزيعِ أشْرِطَةٍ ونَشَراتٍ ومَطْوِيَّاتٍ ونَحْوِها باللغةِ العربيةِ وغيرِها مِنَ اللغاتِ، وكُلِّ ما يُعينُ علَى نَشْرِ الإسلامِ والتعريفِ بهِ، وتَبْيينِ حقائِقِهِ، وإظهارِ محاسِنِهِ؛ دونَ غُلُوٍّ أوْ تَقْصيرٍ؛ استجابةً لأمْرِ اللهِ جَلَّ جلالهُ: { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } { النحل:125 } .
عبادَ اللهِ:(182/8)
لقَدْ ضَرَبَ سَلَفُنا الصالِحُ - رِضْوانُ اللهِ عليهم - أكْبادَ رَواحِلِهم شَرْقاً وغَرْباً؛ ليُخْرِجوا الناسَ مِنْ ظُلُماتِ الشِّرْكِ إلى نورِ التوحيدِ، ومِنْ جَوْرِ الأدْيانِ إلى عَدْلِ الإسلامِ. ونحنُ اليومَ قَدْ هَيَّأَ اللهُ تعالَى لنا مَنْ نَدْعوهم إلى دِينِنا فهم يَعيشونَ بَيْنَنا؛ في بيوتِنا وأسْواقِنا، ومَدارِسِنا ومَرافِقِنا، فهيَ فُرْصَةٌ - وأيُّ فرصةٍ- لِدَعْوَتِهم إلى الإسلامِ ؛وإطْلاعِهم علَى أحكامِهِ وحقائِقِهِ وأخلاقِهِ، ومبادِئِهِ وقِيَمِهِ. فبادِرُوا -أيُّها المسلمونَ - بدَعْوَتِهم فَوَ اللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بكُلِّ واحدٍ مِنَّا امْرَءاً إلى الإسلامِ خَيْرٌ له مِنْ أَنْفَسِ أموالِ الدُّنيا وأعَزِّها. ثمَّ لِنعلمَ – أيُّها الأحبَّةُ - أنَّ أيَّ دَعْوَةٍ مَهْما كانَتْ أحَقِيَّتُها لا تُؤْتِي ثِمارَها، ولا يْنَتِفعُ الناسُ بها إلا إذا كانَ أهلُها ذَوِي أخلاقٍ كريمةٍ، ومعامَلةٍ طيَّبةٍ مُسْتقيمةٍ؛ تُظْهِرُ حقيقةَ هذا الدِّينِ ومَزاياهُ، وتُبْرِزُ أخلاقَهُ وسَجاياهُ، وقَدْ أمَرَ الرَبُّ جَلَّ جلالُهُ أنْ نُحْسِنَ إلى الخَلْقِ بالقَوْلِ فقالَ سبحانَه: { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً } { البقرة: 83 } ، وعَنْ أبي ذَرٍّ ومُعاذٍ – رضِيَ اللهُ عَنْهما- عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"اتَّقِ اللهَ حَيْثُما كُنْتَ، وأتْبِعِ السيِّئَةَ الحسنَةَ تَمْحُها، وخَالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ"[أخرجَه الترمذيُّ].(182/9)
فإذا تَسَلَّحَ الداعِي إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ بالفَهْمِ الدَّقيقِ ، والإيمانِ العميقِ، واتصالٍ بالناسِ وَثيقٍ: أيْنَعَتْ دعوتُهُ ،ورَسَخَتْ حُجَّتُهُ، وأثْمَرَتْ جُهودُه { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { يوسف: 108 } ، جَعَلَنِي اللهُ وإيَّاكم مِنَ الدَّاعِينَ إلى دِينِهِ، والسائِرِينَ علَى سَبيلِهِ.
اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمْواتِ، ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً، وفي الآخرِةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النارِ، اللهمَّ اجَعلْنا هُداةً مُهْتَدينَ؛ لا ضالَّينَ ولا مُضِلِّينَ، وتَقَبَّلْنا في عِبادِكَ الصالِحينَ، اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنْاً سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
……………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(182/10)
اطبع هذه الصحفة
ولله العزة
أيُّها المسلمونَ
لا سبيلَ إلى العِزَّةِ، ولا طريقَ إلى الكرامَةِ، ولا أمَلَ في النَّصْرِ والرِّفْعَةِ، ولا رَجاءَ في دَفْعِ العُقوبَةِ والنِّقْمَةِ؛ إلاّ بالرُّجوعِ إلى دِينِ اللهِ تعالَى، وصِدْقِ التمَسُّكِ بأوامِرِهِ ونَواهِيهِ، والتَّسْليمِ التامِّ لِدينِ الإسلامِ، وصِدْقِ الاتِّباعِ لسيِّدِ الأنامِ - صلى الله عليه وسلم -؛ { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } { الأنعام:82
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 13 من رجب 1428هـ 27/ 7 / 2007م
ولله العزة
الحمدُ للهِ الكبيرِ المُتَعالِ، ذِي القُوَّةِ والسُّلْطانِ والجبروتِ شديدِ المِحالِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، أَعَزَّ جُنْدَهُ فنصرَهم بْعدَ أنِ ابْتَلاهم، وأذَلَّ أعداءَهُ فقهرَهم بَعْدَ إذْ فَرِحوا بالذي آتاهم، كتبَ العِزَّةَ والتَأْيِيدَ للحَقِّ وأوليائِهِ الموحِّدينَ، وأرْغَمَ بالذِّلَّةِ وَالصَّغارِ الكَفَرَةَ المُجرمينَ { وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } يُِعزُّ مَنْ يشاءُ حِكْمَةً مِنْهُ وفَضْلاً، ويُذِلُّ مَنْ يشاءُ قُدْرَةً مِنْه وعَدْلاً، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمّداً عبدُهُ ورسولُهُ، أعزَّهُ ربُّهُ بالرِّسالةِ وأكرَمَهُ، وأسْبَغَ عليه التوفيقَ وعظَّمَهُ، صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ وعلَى آلِهِ وأصحابِهِ ومَنِ اتَّبَعَه.
أمّا بعدُ:
فأُوصِيكم أيُّها النّاسُ ونفسِي بتقْوَى اللهِ وطاعتِهِ، وأحذِّرُ نفسِي وإيَّاكم مِن عِصْيانِهِ ومُخالَفَةِ أمْرِهِ؛ فاتقوا اللهَ - عِبادَ اللهِ- حَقَّ التقْوَى، وراقِبوا رَبَّكم في السِّرِّ والنَّجْوَى، قالَ سبحانَه: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمران:102 } .(183/1)
أيُّها المسلمونَ:
إنَّ الإسلامَ وحدَهُ بكُلِّ شعائِرِهِ ومشاعِرِهِ كافٍ لأنْ يُكْسِبَ مَنْ تَمسَّكَ به كُلَّ معانِي العِزَّةِ والإباءِ، وذلكَ مَعْنَى قَوْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ: { وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَاكِنَّ المنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } { المنافقون:8 } ، وقولِهِ سبحانَه: { مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } { فاطر:10 } .
روَى الطَّبَرانيُّ في المُعْجَمِ الكبيرِ أَنَّ حَكِيمَ بنَ حِزَامٍ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - أَحَبَّ رَجُلٍ مِنَ النَّاسِ إِلَيَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا نُبِّئَ - صلى الله عليه وسلم - وَخَرَجَ إِلَى المدِينَةِ شَهِدَ حَكِيمٌ الموْسِمَ وَهُوَ كَافِرٌ، فَوَجَدَ حُلَّةً لِذِي يَزَنَ تُبَاعُ، فَاشْتَرَاهَا لِيُهْدِيَهَا لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ فَقَدِمَ بِهَا عَلَيْهِ المدِينَةَ، فَأَرَادَهُ عَلَى قَبْضِهَا هَدِيَّةً فَأَبَى، فَقَالَ:"إِنَّا لا نَقْبَلُ مِنَ المشْرِكِينَ شَيْئاً، وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ أَخَذْتُهَا مِنْكَ بِالثَّمَنِ"، فَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا حِينَ أَبَى عَلَيَّ الْهَدِيَّةَ فَلَبِسَهَا، فَرَأَيْتُهَا عَلَيْهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ أَرَ شَيْئاً أَحْسَنَ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ أَعْطَاهَا أُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ، فَرَآهَا حَكِيمٌ عَلَى أُسَامَةَ، فَقَالَ: يَا أُسَامَةُ، أَنْتَ تَلْبَسُ حُلَّةَ ذِي يَزَنَ؟! فَقَالَ: نَعَمْ، وَاللَّهِ لأَنَا خَيْرٌ مِنْ ذِي يَزَنَ، وَلَأَبِي خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ، قَالَ حَكِيمٌ: فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ أُعَجِّبُهُمْ بِقَوْلِ أُسَامَةَ.(183/2)
إنّ هذهِ الحكايةَ لَهِيَ مَحَلُّّ اعتبارٍ عجيبٍ؛ إذْ ما الذي غَرَسَ في نَفْسِ أُسامَةَ بنِ زيدٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما هذِهِ المعانِي السَّامِيَةَ التي أخْرَجَها مِنْ فَمِهِ كالسَّهْمِ بِلا تَلَكُّؤٍ ولا استحياءٍ؛ إنَّهُ الإيمانُ الذي عَمَرَ قلْبَهُ وملأَ عليهِ جَوانِحَهُ لا غَيْرُ.
وفي الأثَرِ أنَّ رِبْعِيَّ بنَ عامرٍ - رضي الله عنه - في وَقْعَةِ القادِسيَّةِ، وَفَدَ رسولاً مِنْ سعدِ بنِ أبي وقّاصٍ - رضي الله عنه - علَى رُسْتُمَ يفاوِضُهُ قْبلَ أنْ يَبدأَ القتالُ، فدخَلَ عليهِ وقَدْ زَيَّنوا مَجْلِسَهُ بالنَّمارِقِ المُذَهَّبَةِ والحريرِ، وأظْهَرِ اليواقيتِ والّلآلِئِ الثَّمينَةِ، وقَدْ جلسَ رُسْتُمُ علَى سريرٍ مِنْ ذَهَبٍ، ودخَلَ رِبْعِيٌّ - رضي الله عنه - بثيابٍ خَشِنَةٍ وسيفٍ وتُرْسٍ وفَرَسٍ قَصيرةٍ، ولم يَزَلْ راكِبَها حتَّى داسَ بها علَى طَرِفِ البِساطِ، ثُمَّ نزَلَ ورَبَطَها ببعضِ تِلكَ الوسائِدِ، وأقبلَ وعليهِ سلاحُهُ ودِرْعُهُ، فقالوا له: ضَعْ سلاحَكَ، فقال: إنّي لم آتِكِم وإنّما جِئْتُكم حِينَ دَعَوْتُمونِي، فإنْ تَرَكتُمونِي هَكَذا وإلاَّ رَجَعْتُ، فقالَ رستمُ: ائْذَنوا له، فأقبَلَ يَتَوَكَّّأُ علَى رُمْحِهِ فوْقَ تلكَ النَّمارِقِ، فقالوا له: ما جاءَ بكم؟ قالَ: إنَّ اللهَ ابْتَعَثَنا لِنُخرِجَ مَنْ شاءَ مِنْ عِبادَةِ العِبادِ إلى عِبادَةِ اللهِ، ومِنْ ضِيقِ الدّنيا إلى سَعَتِها، ومِنْ جَوْرِ الأَدْيانِ إلى عَدْلِ الإسلامِ، فأرسَلَنَا بدينِهِ إلى خَلْقِهِ لِنَدْعُوَهم إليه، فمَنْ قَبِلَ ذلك قَبِلْنا مِنْه ورجَعْنا عَنْه، ومَنْ أبى قاتلناهُ أبدًا حتَّى نُفْضِيَ إلى مَوْعودِ اللهِ، قالوا: وما مَوْعودُ اللهِ؟ قالَ: الجنّةُ لِمَنْ ماتَ عَلَى قتالِ مَنْ أبَى، والظَّفَرُ لِمَنْ بَقِيَ!.(183/3)
فقالَ رستمُ: قَدْ سمعتُ مَقالَتَكم؛ فهلْ لكم أنْ تُؤَخِّروا هذا الأمْرَ حتَّى نَنْظُرَ فيه وتَنْظُروا؟ قالَ: نَعَمْ ! كَمْ أَحَبُّ إليكم؟ أيوماً أوْ يومينَ؟ قالَ: لا، بَلْ حتَّى نكاتِبَ أهْلَ رَأْيِنا ورؤساءَ قَوْمِنا.
فقالَ: ما سَنَّ لنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ نُؤخِّرَ الأعداءَ عِنْدَ اللِّقاءِ أكْثَرَ مِنْ ثَلاثٍ، فانظُرْ في أمرِكَ وأمرِهم، واخْتَرْ واحدةً مِنْ ثَلاثٍ بَعْدَ الأجَلِ، فقالَ: أسيِّدُهُم أنْتَ ؟ قالَ: لا، ولكنِ المسلمونَ كالجسَدِ الواحِدِ يُجيرُ أدْناهم عَلَى أعلاهُم.
فاجتمعَ رستمُ برؤوساءِ قومِه فقالَ: هَلْ رأيتُمْ قَطُّ أعَزَّ وأرْجَحَ مِنْ كلامِ هذا الرَّجُلِ؟
فقالوا: معاذَ اللهِ أنْ تَمِيلَ إلى شيءٍ مِنْ هذا وتَدَعَ دِينَكَ، أمَا تَرَى إلى ثيابِهِ؟ فقالَ: وَيْلَكُم! لا تَنْظُروا إلى الثِّيابِ، وانْظُروا إلى الرّأْيِ والكلامِ والسِّيرَةِ؛ إنَّ العربَ يستَخِفُّون بالثِّيابِ والمأْكَلِ، ويَصونونَ الأحْسابَ.
إنَّ هذا الفارسَ الأَشَمَّ - رضي الله عنه - تَعَلَّمَ هذِهِ الخَطَراتِ الإيمانِيَّةَ التي تَنْبعِثُ مِنْها شُهُبُ العِزَّةِ والكرامَةِ والصَّرامَةِ في دينِ اللهِ تعالَى مِنْ دُروسِ النُّبوَّةِ، وما أدْراكَ ما هِيَ!.
أيُّها المسلمونَ:(183/4)
طاعةُ اللهِ طريقُكم إلى كُلِّ عِزٍّ ومَنْقَبَةٍ، ومعصيةُ اللهِ سببُ كُلِّ ذُلٍّ وهَوانٍ وَوَبالٍ ومَثْلَبَةٍ، وللهِ أنْ يفعَلَ بمَنْ عَصاهُ ما يشاءُ، فيُذِلَّهُ في الَمَلأِ وَيَقْهَرَهُ، ويَكُبَّهُ في الحَسَراتِ ويَخْذُلَهُ؛ لأنَّ الذُّنوبَ عِلَّةٌ العِلَلِ، وسبَبُ تَسَلُّطِ الأعْداءِ وحُلولِ البَلاءِ ونزولِ البأْساءِ والضَّرَّاءِ، فعَنِ ابنِ عمرَ - رضي الله عنه - قالَ: سمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"إذا تبايَعتُم بالعِينَةِ وأخَذْتُمْ أذنابَ البقرِ ورَضِيتُم بالزَّرْعِ وتركْتُمُ الجِهادَ سلَّطَ اللهُ عليكم ذُلّاً لا يَنْزِعُهُ حتَّى تَرْجِعوا إلى دِينِكم"[أخرجَه أبو داودَ].
يقولُ الحسنُ البصريُّ -رحمَهُ اللهُ- في أهْلِ المعاصِيِ: "إنَّهم وإنْ طَقْطَقَتْ بِهمُ البَرَاذينُ، وهَمْلَجَتْ بِهمُ البِغالُ، إنَّ ذُلَّ المعصِيَةِ قَدْ عَلاهُم، أبَى اللهُ إلاّ أنْ يُذِلَّ مَنْ عَصاه"، قالَ تعالَى: { وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } { الحج:18 } .(183/5)
كُلُّ هذا الذُّلِّ والهَوانِ إذا حَلَّ فإنَّما يُحيطُ بمَنْ أذَلَّ نفسَهُ، وابتَعَدَ عَنْ هَدْيِ رسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ أمَّا دينُ اللهِ تعالىَ فَحاشاهُ أنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ مِنْ ذلكَ، ومَنْ ظَنَّ أنَّ الإسلامَ يُذَلُّ ويُمْتَهَنُ فقَدْ ظَنَّ سُوءاً واعتَقَدَ إِثْماً، فدينُ اللهِ غالِبٌ مَنْصورٌ وعَدُوُّهُ خاسِئٌ مَدْحورٌ، فَعنْ تَميمِ الدَّارِيِّ - رضي الله عنه - قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"لَيَبْلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلَغَ الليلُ والنَّهارُ، ولا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مدَرٍ ولا وَبَرٍ إلاَّ أدْخَلَهُ اللهُ هذا الدِّينَ، بعِزِّ عَزيزٍ أوْ بذُلِّ ذَليلٍ، عِزّاً يُعِزُّ اللهُ بهِ الإسلامَ، وذُلاًّ يُذِلُّ بهِ الكُفْرَ"[أخرجَه أحمدُ]، وعَنْ جابِر بنِ سَمُرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ:"لَنْ يبرَحَ هذا الدِّينُ قائماً يُقاتِلُ عليه عِصابَةٌ مِنَ المسلمينَ حتَّى تقومَ السّاعَةُ"[أخرجَه مسلمٌ]، والعِصابَةُ الجماعَةُ مِنَ المسلمينَ.
أيُّها المسلمونَ:(183/6)
لا سبيلَ إلى العِزَّةِ، ولا طريقَ إلى الكرامَةِ، ولا أمَلَ في النَّصْرِ والرِّفْعَةِ، ولا رَجاءَ في دَفْعِ العُقوبَةِ والنِّقْمَةِ؛ إلاّ بالرُّجوعِ إلى دِينِ اللهِ تعالَى، وصِدْقِ التمَسُّكِ بأوامِرِهِ ونَواهِيهِ، والتَّسْليمِ التامِّ لِدينِ الإسلامِ، وصِدْقِ الاتِّباعِ لسيِّدِ الأنامِ - صلى الله عليه وسلم -؛ { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } { الأنعام:82 } ؛ وإنَّ قِصَّةَ خُبَيْبِ بنِ عَدِيٍّ - رضي الله عنه - لهِيَ المثالُ الحَيُّ المُتَجَدِّدُ في نُفوسِ الصَّادِقينَ مِنَ المؤمنينَ؛ حيثُ أمْسَكَ بهِ المشركونَ مِنْ قريشٍ، ثمَّ جاؤوا بهِ لِيَصْلُبوهُ ويَقْتُلوهُ عَلَى جِذْعِ نخلَةٍ في مَكَّةَ، فالتَفَتَ - رضي الله عنه - إلى مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الكفَّارِ، وطلَبَ إليهم أنْ يُناجِيَ ربَّهُ؛ فصَلَّى رَكْعتينِ، ثم قامَ مِنْ صَلاتِهِ ونظَرَ إليهم وقالَ:
ولَسْتُ أُبالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً… عَلَى أيِّ جَنْبٍ كانَ في اللهِ مَصْرَعِي
وذلِكَ فِي ذاتِ الإلَهِ وإنْ يَشَأْ… يُبَارِكْ علَى أَوْصالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
باَركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعَنِي اللهُ وإيَّاكم بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ، أقولُ قوْلِي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، فاستغفروهُ إنَّه هوَ الغفورُ الرّحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ العزيزِ الحكيمِ، وليِّ الصَّالِحينَ ونَصيرِ المتقينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ سَيِّدَنا محمّداً عبدُهُ ورسولُهُ، صلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ ومَنِ اهْتَدَى بهدْيِهِ إلى يومِ الدِّينِ.
أمّا بعدُ:
فاتقوا اللهَ أيُّها المسلمونَ في السِّرِّ والعَلَنِ، فإنَّ التقْوَى هِيَ الزَّادُ المُنَجِّي مِنَ الضَّلالاتِ والفِتَنِ.
عِبادَ اللهِ:(183/7)
ثَبَتَ في مُسْتدرَكِ الحاكِمِ عَنْ طارقِ بنِ شِهابٍ قالَ: خرَجَ عمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه - إلى الشامِ ومَعَنا أبو عُبَيْدةَ - رضي الله عنه -، فأتَوْا عَلَى مَخاضَةٍ وعمرُ عَلَى ناقةٍ له، فنزَلَ وخلَعَ خُفَّيْهِ فوضَعَهما علَى عاتِقهِ، وأخذَ بزمامِ ناقتِهِ فخاضَ بها المخاضَةَ؛ فقالَ أبو عُبيْدةَ : يا أميرَ المؤمنينَ: أأنْتَ تفعلُ هذا؟ تَخْلَعُ خُفَّيْكَ وتضَعُهُما علَى عاتِقِكَ، وتأْخُذُ بزمامِ ناقتِكَ، وتخوضُ بها المخاضَةَ؟ ما يَسُرُّنِي أنَّ أهْلَ البَلَدِ اسْتَشْرَفوكَ، فقالَ عمرُ: أَوَّهْ، لَوْ قال ذا غيرُكَ - أبا عُبيدة - جعلتُه نَكالاً لأُمَّةِ محمّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، إنَّا كُنَّا أذَلَّ قَوْمٍ فأعزَّنا اللهُ بالإسلامِ، فمَهْما نَطْلبِ العِزَّ بَغَيْرِ ما أعَزَّنا اللهُ بهِ أذَلَّنا اللهُ.
اللهمَّ صَلِّ وسلِّمْ علَى عبدِكَ ورسولِكَ محمّدٍ، وارضَ اللّهمَّ عَنِ الأربعةِ الخلفاءِ الرّاشدينَ والأئمَّةِ الهُداةِ المَهْدِيِّينَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ، وعنِ آلِ نبيِّنا الأطْهارِ وصحابَتِهِ البَرَرةِ الأخْيارِ، وارضَ عَنَّا معَهم برحمَتِكَ يا أرحمَ الرّاحِمينَ.(183/8)
اللهمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ اجْعَلْنا هُداةً مُهْتَدينَ؛ لا ضَالِّينَ ولا مُضِلِّينَ، وتَقَبَّلْنا في عبادِكَ الصالِحينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ, وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ, ودَمِّرِ اللهُمَّ أعداءَكَ أعداءَ الديِّنِ، اللهُمَّ اقسِمْ لنا مِنْ خَشْيَتِكَ ما تُحُولُ به بَيْنَنا وبينَ معاصِيكَ, ومِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنا به جنَّتَكَ, ومِنَ اليقينِ ما تُهَوِّنُ به علينا مَصائِبَ الدُّنيا، وَاجْعَلِ اللّهمَّ هذا البلَدَ آمِناً مُطمئنّاً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، اللّهمَّ إنّا نسألُكَ الهُدىَ والتُّقَى والعَفافَ والغِنَى ومِنَ العَمَلِ ما ترضَى، اللّهمَّ إنّا نسألُكَ فواتِحَ الخيْرِ وخَوَاتِمَهُ وجَوَامِعَهُ وأوَّلَهُ وآخِرَهُ وظاهِرَهُ وباطِنَهُ، اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرةِ حسنةً؛ وقِنا عذابَ النَّارِ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(183/9)
اطبع هذه الصحفة
ولا تقربوا الزنا
أيُّها الكِرامُ:
إنَّ الزِّنا لا يَنْبُتُ إلاَّ في نُفُوسٍ عَلِيلَةٍ، وقُلوبٍ مَرِيضَةٍ يُسَيْطِرُ علَيْها حُبُّ الشَّهَواتِ، وَقِلَّةُ النَّظَرِ في العَواقِبِ وَالمآلاتِ، وإنَّ ثَمَّةَ أسْباباً تَدْعُو إليهِ، وتَؤُزُّ عَلَيْهِ، وأعْظَمُ هذِهِ الأسْبابِ: ضَعْفُ الإيمانِ، فإنَّ النُّفوسَ إذا فَرَغَتْ مِنْ وَازِعِ الإيمانِ، وَخَلَتِ القلوبُ مِنْ خَوْفِ ذِي الجَبرَوتِ والسُّلْطانِ؛ انْساقَتْ وراءَ الشَّهَواتِ، وَانْقادَتْ لِلَّذائِذِ والنَّزَواتِ؛ حتَّى يكونَ عَبْداً لها، وإلى ذلِكَ أشارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمّا قالَ:"لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وهُوَ مُؤْمِنٌ" [أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -] . وعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"كتَبَ اللهُ عَلَى ابْنِ آدمَ نَصيبَهُ مِنَ الزِّنا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فالعَيْنانِ زِناهُما النَّظَرُ، والأُذُنانِ زِناهُما الاسْتِماعُ، وَاللسانُ زِناهُ الْكَلامُ، وَالْيَدُ زِناها البَطْشُ، والرِّجْلُ زِناها الخُطَا، والقَلْبُ يَهْوَى ويتَمَنَّى، ويُصَدِّقُ ذلِكَ الفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ" [أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ واللفظُ له]، وقَدْ قِيلَ: إنَّ حَبْسَ النَّظَراتِ أَيْسَرُ مِنْ دَوامِ الحَسَراتِ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ20 من رجب 1428هـ الموافق3/8/2007 م
ولا تقربوا الزنا(184/1)
الحمدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ، الذي جعَلَ الطيِّباتِ للطيبِّينَ، والخَبِيثاتِ للخَبِيثينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له؛ إلهُ الأوَّلينَ وَالآخِرينَ، وقَيُّومُ السمواتِ والأرَضِينَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ بَلَّغَ البلاغَ المُبينَ، وأنارَ المحَجَّةَ للسَّالِكينَ، - صلى الله عليه وسلم - وعلَى آلِهِ وأصحابِهِ وأتباعهِ إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ:
فأُوصيكم ـ عِبادَ اللهِ ونَفْسِي- بتقْوَى اللهِ الجليلِ،والاستعدادِ ليومِ الرَّحيلِ. قالَ تعالَى: { وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } { البقرة: 281 } .
أيُّها الإخْوَةُ المسلمونَ:
إنَّ الإسلامَ دِينٌ عظيمٌ يُزَكِّي النُّفوسَ بالفضائِلِ ويُنَمِّيها، ويَحْفَظُ المُجْتمَعاتِ بسِيَاجِ الأخْلاقِ والعِفَّةِ ويُرَبِّيها، وصانَ الدِّينَ والدِّماءَ والأعْراضَ والعُقولَ والأمْوالَ، وشرَعَ لها مِنَ الأحْكامِ ما يَحْفَظُهَا مِِنْ عَبَثِ العابِثينَ، وتَرَبُّصِ المُجْرِمينَ.(184/2)
فمِنْ أجْلِ ذلِكَ حَرَّمَ الإسلامُ الفواحِشَ ما ظهَرَ مِنْها وما بَطَنَ ومِنْ أعْظَمِها وأشْنَعِها فاحِشَةُ الزِّنا -أعاذَنا اللهُ وإيَّاكم مِنْها- فقَدْ حَرَّمَها الإسلامُ تحريماً أكيداً، وجَرَّمَ مُقْتَرِفيها تجريماً شديداً؛ لأنَّها مُنافِيَةٌ لِنظامِ حِفْظِ الأنْسابِ، وحِمايةِ الفُروجِ، وصِيانَةِ الأعْراضِ، بَلْ نَهَى الشَّرْعُ المُطَهَّرُ عَنِ الزِّنا وعَنْ كُلِّ ما يُقَرِّبُ مِنْه أوْ يَدْعو إليهِ مِنَ النَّظَرِ وَالخَلْوَةِ ونَحْوِهما فقالَ الحقُّ جلَّ جلالُه: { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً } { الإسراء: 32 } .وأكَّدَ سبحانَه حُرْمَتَهُ بقولِهِ : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا } { الفرقان: 68-69 }(184/3)
فَقَرنَ الزِّنا بالشِّرْكِ وقَتْلِ النَّفْسِ بغَيْرِ حَقٍّ. وقَدْ شرَعَ المَوْلَى - عَزَّ وجَلَّ ـ عُقُوبةً رادِعَةً لِمَنِ ارْتكَبَ هذِهِ الكَبِيرَةَ؛ فجعَلَ عُقوبَةَ الزَّانِي المُحْصَنِ (أيِ المتزوِّجِ) الرَّجْمَ بالحِجارَةِ حتَّى الموتِ، وعقوبةَ الزَّانِي غَيْرِ المُحْصَنِ مِاَئةَ جَلْدَةٍ وتَغْريبَ عامٍ؛ حَيْثُ قالَ سبحانَه وَتعالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ { } النور: 2 } ، وعَنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مسلمٍ يشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وأنِّي رسولُ اللهِ إلاّ بإحْدَى ثلاثٍ: النَّفْسُ بالنَّفْسِ، والثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالمفارِقُ لِديِنهِ التارِكُ للجَماعَةِ" [أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ].
عِبادَ اللهِ:(184/4)
وليسَ الزِّنا عَلَى مَرْتَبَةٍ واحِدَةٍ في الحُرْمَةِ وَالضَّرَرِ بَلْ تَتَفاوَتُ حُرْمَتُهُ؛ فالزِّنا بالمحَارِمِ أعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ غَيْرِهِ، والزِّنا بامْرَأةِ الجارِ أشَدُّ قُبْحاً مِنَ الزِّنا بغيرِها؛ إذْ رَوَى الِمقْدادُ بنُ الأسْوَدِ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -قالَ:"لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أنْ يَزْنِيَ بامرَأةِ جارِهِ"[أخرجَه أحمدُ والطبرانيُّ] والزِّنا بالمرْأَةِ الأجْنَبِيَّةِ ذاتِ الزَّوْجِ أشْنَعُ مِنَ الزِّنا بغَيْرِ ذاتِ زَوْجٍ، وزِنا العالِمِ أفْظَعُ مِنْ زِنا الجاهِلِ، وفي رمَضانَ أوْ في البَلَدِ الحرامِ أعْظَمُ جُرْماً وأقْبَحُ أثَراً، وَزِنا الشَّيْخِ الكَبيرِ أقْبَحُ مِنْ زِنا الشَّابِّ؛ فعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"ثَلاَثةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يومَ القِيامَةِ ولا يُزَكِّيهم وَلا يَنْظُرُ إليْهِم ولَهمْ عَذابٌ أليمٌ: شَيْخٌ زانٍ، ومَلِكٌ كَذَّابٌ، وعائِلٌ "أيْ فقيرٌ"مُسْتَكْبِرٌ"[أخرجَه مسلمٌ].
أيُّها الكِرامُ:(184/5)
إنَّ الزِّنا لا يَنْبُتُ إلاَّ في نُفُوسٍ عَلِيلَةٍ، وقُلوبٍ مَرِيضَةٍ يُسَيْطِرُ علَيْها حُبُّ الشَّهَواتِ، وَقِلَّةُ النَّظَرِ في العَواقِبِ وَالمآلاتِ، وإنَّ ثَمَّةَ أسْباباً تَدْعُو إليهِ، وتَؤُزُّ عَلَيْهِ، وأعْظَمُ هذِهِ الأسْبابِ: ضَعْفُ الإيمانِ، فإنَّ النُّفوسَ إذا فَرَغَتْ مِنْ وَازِعِ الإيمانِ، وَخَلَتِ القلوبُ مِنْ خَوْفِ ذِي الجَبرَوتِ والسُّلْطانِ؛ انْساقَتْ وراءَ الشَّهَواتِ، وَانْقادَتْ لِلَّذائِذِ والنَّزَواتِ؛ حتَّى يكونَ عَبْداً لها، وإلى ذلِكَ أشارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمّا قالَ:"لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وهُوَ مُؤْمِنٌ" [أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -] . وعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"كتَبَ اللهُ عَلَى ابْنِ آدمَ نَصيبَهُ مِنَ الزِّنا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فالعَيْنانِ زِناهُما النَّظَرُ، والأُذُنانِ زِناهُما الاسْتِماعُ، وَاللسانُ زِناهُ الْكَلامُ، وَالْيَدُ زِناها البَطْشُ، والرِّجْلُ زِناها الخُطَا، والقَلْبُ يَهْوَى ويتَمَنَّى، ويُصَدِّقُ ذلِكَ الفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ" [أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ واللفظُ له]، وقَدْ قِيلَ: إنَّ حَبْسَ النَّظَراتِ أَيْسَرُ مِنْ دَوامِ الحَسَراتِ.
إخْوَةَ الإسلامِ:(184/6)
وإهْمالُ الصَّلاةِ بتَرْكِ المُحافَظَةِ عَلَيْها، أوْ عَدَمِ أدَائِها بخُشُوعٍ للهِ وخُضُوعٍ له عَزَّ وجَلَّ سَبَبٌ لِلْمَيْلِ إلى اللذَّاتِ وَاسْتِحْواذِ الشَّهَواتِ؛ فقَدْ قالَ رَبُّنا عَزَّ وجَلَّ: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } { مريم: 59 } كَما أنَّ تَبَرُّجَ النِّساءِ يَلْفِتُ أنظارَ الرِّجالِ إليْهِنَّ، وهُوَ مَدْعاةٌ لاسْتِثارَةِ شَهَواتِ القُلوبِ المَرِيضَةِ، والنُّفوسِ الضَّعِيفَةِ، وقَدْ أمَرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ المؤمنينَ والمؤمناتِ بِغَضِّ الأَبْصارِ وحِفْظِ الفُرُوجِ وَبِلِباسِ الحِشْمَةِ والعَفافِ فقالَ سبحانَه: { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ*وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } { النور:30ـ31 } .ونَهَى النبيُّ-عليهِ الصلاةُ والسلامُ ـ المرأَةَ عَنِ التَّعَطُّرِ أَوِ التَّبَخُّرِ إذا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِها ولوْ كانَ خُروجُها إلى المسْجِدِ؛ مِنْ أَجْلِ صِيَانَةِ المُجْتمَعِ، وحِفْظِ حَياءِ المرْأَةِ، وحِرَاسَةِ الأخْلاقِ والفَضِيلَةِ.(184/7)
عَنْ أبي مُوسَى الأشْعَريِّ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:"إذا اسْتَعْطَرَتِ المرْأَةُ فمَرَّتْ عَلَى القَوْمِ لِيَجِدُوا رِيحَها فهِيَ كَذا وكَذا" قالَ: قَوْلاً شديداً"[أخرجَه أبو داودَ]، ولا يَخْفََى أنَّ الخَلْوَةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالمرْأَةِ الأجْنَبِيَّةِ يُثِيرُ كَوامِنَ الشَّهْوَةِ في النُّفوسِ، عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما قالَ:سِمْعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -يَخْطُبُ يقولُ:"لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بامْرَأةٍ إلاَّ ومَعَها ذُو مَحْرَمٍ، ولا تُسافِرُ المرأةُ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ"[أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ واللفظُ له].
إخوَةَ الإيمانِ:
ولَقَدْ عَلِمَ كُلُّ عاقِلٍ ما لِفاحِشَةِ الزِّنا مِنْ آثارٍ خَطيرَةٍ، وشُرورٍ مُسْتَطِيرَةٍ عَلَى الأفْرادِ والمُجْتمَعاتِ، وَالِقيَمِ والأَخْلاقِ، إذِ الزِّنا يَنْزِعُ الإيمانَ مِنَ القُلوبِ، ويَطْمِسُ نورَ البَصيرَةِ في الصُّدورِ، قالَ ابنُ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما: ما مِنْ عَبْدٍ يَزْنِي إلاَّ نَزَعَ اللهُ نُورَ الإيمانِ مِنْ قَلْبِهِ.
عبادَ اللهِ:
ومِنْ هذِهِ الآثارِ: ظُهورُ الأَوْجاعِ والأمْراضِ الَّتي لَمْ تَظْهَرْ في أقْوامٍ سابِقِينَ كما قالَ النبيُّ- صلى الله عليه وسلم - :"يا مَعْشَرَ المُهاجِرِينَ: خِصالٌ خَمْسٌ إذا ابْتُلِيتُم ِبهِنَّ وأَعُوذُ باللهِ أنْ تُدْرِكُوهُنَّ:لَمْ تَظْهَرِ الفاحِشَةُ في قَوْمٍ قَطُّ حتَّى يُعْلِنُوا بِها إلاَّ فَشا فيِهمُ الطَّاعُونُ وَالأوْجاعُ التيِّ لَمْ تَكُنْ مَضَتْ في أسْلافِهمُ الذينَ مَضَوْا"[أخرجَه ابنُ ماجَه مِنْ حديثَ ابنِ عمرَ رضِيَ اللهُ عَنْهما]، وما مَرَضُ نَقْصِ المَناعَةِ المُكْتَسَبَةِ (الإيدْزُ) عَنْ عِلْمِنا وَأسْماعِنا بِبَعِيدٍ .(184/8)
والزِّنا ـ يا عِبادَ اللهِ ـ مِنْ عَوامِلِ هَلاكِ الأُمَمِ وانْدِثارِ الحَضاراتِ، ونَذِيرُ حُلولِ سَخَطِ اللهِ وعِقابِهِ عَلَى العِبادِ، فَعنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"ما ظَهَرَ في قَوْمٍ الرِّبا والزِّنا إلاَّ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهم عِقابَ اللهِ" [أخرجَه أحمدُ]، والزِّنا يُضَيِّعُ الأنْسابَ، وَيُفَرِّقُ الأُسَرَ، ويُفَكِّكُ المُجْتمَعاتِ، ويُحَطِّمُ القِيَمَ، وهُوَ سَبَبٌ عظيمٌ مِنْ أسْبابِ دُخُولِ النَّارِ والحِرْمانِ مِنَ الجنَّةِ؛ فقَدْ سُئِلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أكْثَرِ ما يُدْخِلُ الناسَ النَّارَ فقالَ:"الفَمُ والفَرْجُ" [أخرجَه الترمذيُّ من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -].
بارَكَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونَفَعَنا جميعاً بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحكَيمِ، وأستغفرُ اللهَ الغفورَ الحَلِيمَ وأتوبُ إلى البارِئِ الكريمِ؛ فاستَغْفِروهُ وتُوبوا إليهِ إنَّه هوَ التَّوابُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذي رَضِيَ الإسلامَ لِلمؤمنينَ دِيناً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شريكَ له؛ خَلَقَ الخَلْقَ لِعبادَتِهِ وأَعانَهم عَلَى طاعَتِهِ، وكَفَى باللهِ هادِياً وَمُعيناً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ بَعَثَهُ رَبُّهُ داعِياً إلى الأَخْلاقِ وَصادِقاً أَميناً، - صلى الله عليه وسلم - وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ الذين اطْمَأَنُّوا بالإسلامِ قُلُوباً وَقَرُّوا بهِ عُيُوناً.
أمَّا بعدُ:
فأُوصيكم ـ أيُّها الناسُ ـ ونفسِي بتقْوَى اللهِ فهِيَ التجارَةُ الَّتي لا تَبورُ، وأَحُثُّكم علَى مُراقَبَتِهِ فإنَّه يَعْلَمُ خائِنَةَ الأَعْيُنِ وما تُخْفِي الصدورُ.
أيُّها الأحِبَّةُ:(184/9)
إنَّ العاقِلَ إذا رأَى أسبابَ الهَلاكِ تَجَنَّبَها، وإذا دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلى الشَّهَواتِ لَجَمَها، إذِ اللبيبُ يُفَكِّرُ في المآلِ والثَّمَرةِ فإذا هِيَ كالعَلْقَمِ بَلْ أَشَدُّ مَرارةً، فَهلْ ثَمَّةَ إلاّ العَار والشَّنَارُ؟!وانْتِهاكُ الحُرُماتِ وتَخْريبُ الدِّيارِ؟!. وإذا شاءَ العَبْدُ المُبْتَلَى بهذِهِ الفاحِشَةِ المُنْكَرَةِ أنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ أُوَارِها وَلَظَى نارِها فَلْيَعْمَلْ عَلَى تَقْوِيَةِ إيمانِهِ، وزِيادَةِ صِلَتِهِ بَربِّهِ، وأنْ يُحافِظَ علَى الصَّلَواتِ حَيْثُ يُنادَى بِهنَّ، وَيْبتَعِدَ عَنِ الصُّوَرِ والنَّظَرِ المُحرَّمِ الذي يُثيرُ الغَريزَةَ ويُلْهِبُ الشَّهْوَةَ، وَلْيَتَذكَّرْ أنَّ الجزاءَ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، وأنَّ الشَّأْنَ كما تَدِينُ تُدانُ، وما أحَسَنَ قَوْلَ القائِلِ:
مَنْ يَزْنِ يُزْنَ ولَوْ بجِدارِهِ إنْ كُنْتَ يا هَذا لَبيباً فَافْهَمِ
إنَّ الزِّنا دَيْنٌ فإنْ أقْرَضْتَهُ كانَ الوَفا مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ فَاعْلَمِ
لَوْ كُنْتَ حُرّاًً مِنْ سُلالَةِ ماجِدٍ ما كُنْتَ هَتَّاكاً لِحُرْمَةِ مُسْلِمِ(184/10)
عَنْ أبي أُمامَةَ - رضي الله عنه - قالَ: إنَّ فَتىً شابّاً أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسولَ اللهِ ائْذَنْ لي في الزِّنا فأقبَلَ القومُ علَيْهِ فزَجَروهُ وقالُوا: مَهْ مَهْ، فقالَ:"ادْنُهْ" فَدَنا مِنْهُ قريباً قالَ: فجلَسَ. قالَ"له النبيُّ- صلى الله عليه وسلم - :أتحبُّهُ لأُمِّكَ؟ قالَ لا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِداءَكَ، قالَ: ولا الناسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهاتِهم. قالَ: أَفَتُحِِبُّهُ لابْنَتِكَ؟ قالَ: لا وَاللهِ يا رسولَ اللهِ، جعلَنِي اللهُ فداءَكَ، قالَ: ولا الناسُ يُحبُّونَهُ لبناتِهم.قالَ أفتحبُّهُ لأُخْتِكَ؟ قالَ: لا وَاللهِ، جعلَنِي اللهُ فداءَكَ. قالَ: ولا الناسُ يحبُّونَهُ لأخَوَاتِهم. قالَ: أفتحبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ قالَ: لا وَاللهِ، جعلَنِي اللهُ فداءَكَ، قالَ: ولا الناسُ يحبُّونَهُ لعَمَّاتِهم. قالَ: أفتُحِبُّهُ لخالَتِكَ؟ قالَ: لا واللهِ، جعلَنِي اللهُ فداءَكَ، قالَ: ولا الناسُ يحبُّونَهُ لخالاتِهم. قالَ: فوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وقالَ:"اللهمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وطَهِّرْ قَلْبَهُ، وحَصِّنْ فَرْجَهُ" فَلْمَ يَكُنْ بعدَ ذلِكَ الفَتَى يِلْتَفِتُ إلى شَيْءٍ.[أخرجَه أحمدُ والطبرانيُّ].(184/11)
اللهمَّ اغفِرْ ذُنوبَنا واسْتُرْ عُيوبَنا واجْبُرْ كَسْرَ قُلوبِنا، اللهمَّ حَبِّبْ إلينا الإيمانَ وَزَيِّنْهُ في قُلوبِنا، وَكَرِّهْ إلينا الكُفْرَ والفُسوقَ والعِصْيانَ، واجْعَلْنا يا رَبَّنا مِنَ الراشِدينَ. اللهمَّ اشْفِ مَرْضانا، وعَافِ مُبْتلانا، وأجِبْ دُعاَءنا وأهْلِكْ أَعْداءَنا. اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكينَ، اللهمَّ جَنِّبْنا الفواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ، وعافِنا مِنْ مُضِلَّاتِ الأَهْواءِ وَالفِتَنِ، وَاغفِرْ لنا وَلِوالِدِينا وَلِلْمسلمينَ أجمعينَ. اللهمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أُمورِنا لحَمْلِ الأَمانَةِ، وارْزُقْهم صَلاحَ البِطانَةِ، وَاحْفَظْهم مِنْ كَيْدِ أهْلِ البَغْيِ والخِيانَةِ. ………
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(184/12)
اطبع هذه الصحفة
الإسراء والمعراج
أيُّها المسلمونَ:
إنَّ مِنْ أعْظَمِ فرائِضِ الإسلامِ ليلةَ المعْراجِ؛ الصّلاةَ، فهِيَ عِمادُ الدِّينِ ورُكْنُهُ المتينُ، فَفِيها يَقِفُ المسلِمُ بيْنَ يَدَيْ ربِّهِ يُناجِيهِ ويَطْلُبُهُ، ويتضرَّعُ إليهِ ويتَمَلَّقُهُ؛ أخرَجَ الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ مِنْ حديثِ الحارِثِ الأشْعَرِيِّ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إِنَّ اللهَ أَمَرَ يَحْيَى بنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا"، فذكرَ مِنْها: "وَإِنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلا تَلْتَفِتُوا فَإِنَّ اللهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 18 من شعبان 1428هـ10/ 8 / 2007م
الإسراء والمعراج
الحمدُ للهِ الكريمِ الوهَّابِ، الجَوادِ البَرِّ التوَّابِ، يُعْطِي مَنْ يشاءُ مِنْ فضْلِهِ وإحسانِهِ، ويُفيضُ علَى مَنْ أَحَبَّ مِنْ خَيْراتِهِ وَامْتنِانِهِ، لَطَفَ بعبدِهِ ورسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فأنْعَمَ عليهِ بنِعْمَةِ الإسراءِ وَالمِعْراجِ، وهَدَاهُ لأقْوَمِ السُّبُلِ وأدَلِّ الحِجاجِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمّداً عبدُهُ ورسولُهُ، المكرَّمُ بالمُعْجزاتِ الباهِرَةِ، والآياتِ الظّاهِرَةِ القاهِرَةِ، صلَّى اللهُ وسلَّم عليهِ وعلَى آلِهِ الغُرِّ الميَامِينِ وأصحابِهِ البرَرَةِ الأكْرَمينَ وأتباعِهِ إلى يومِ الدِّينِ.
أمّا بعدُ:(185/1)
فأُوصيكم -أيُّها النّاسُ- ونفسِي بتقْوَى اللهِ تعالَى والوَجَلِ مِنْ نُذُرِهِ، والَحذَرِ مِنْ عِصْيانِهِ ومُخالَفَةِ أمْرِهِ؛ فاتقوا اللهَ ربَّكم وراقِبوهُ، وأطيعوهُ ولا تَعْصوهُ، قالَ تعالَى: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمران:102 } .
أيُّها المسلمونَ:
يقولُ اللهُ تعالَى: { سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } { الإسراء:1 } .
لقَدْ أكْرَمَ اللهُ تعالَى نبيَّهُ المصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - بهذِهِ المَكْرُمَةِ العظيمَةِ بعْدَ أنْ بلَغَتِ الدَّعْوَةُ أشَقَّ المراحِلِ وأضْناهَا، وأمَرَّ لحَظاتِها وأقْساها، وأرْبتْ مُناوأةُ خُصومِ الدِّينِ علَى الطّاقَةِ، وقدَّرَ اللهُ تعالَى أنْ يَقْبِضَ إليهِ مَنْ كانَ سَنَداً مَكِيناً ورُكْناً رَكِيناً لنبيِّهِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ورسالَتِهِ؛ حَمِيَّةً وعَصَبِيَّةً، إنَّهُ عَمُّهُ الشَّهْمُ أبو طالبٍ؛ الذي كانَ يحْميهِ ويدافِعُ عَنْه، ولم يُسْلِمْهُ لحظةً للعُتاةِ المجرِمينَ الذين أحْرَجوهُ مَرَّاتٍ ومَرَّاتٍ، وشاءَ اللهُ سبحانَه أنْ تموتَ المرأةُ الصّالحةُ الخاشعةُ العاقِلَةُ الرَّؤومُ؛ زوجُهُ خديجةُ رضِيَ اللهُ عَنْها، التي كانَتْ تُواسِيهِ وتُسَلِّيهِ، ففَقَدَ - صلى الله عليه وسلم - برحيلِ العَمِّ والزَّوْجَةِ الأُنْسَ والسَّنَدَ لولا حِمايةُ اللهِ تعالَى وحُسْنُ كلاءَتِهِ ورِعايَتِهِ.(185/2)
ولمّا زادَ طُغْيانُ مُجْرِمِي مكَّةَ خرَجَ - صلى الله عليه وسلم - إلى الطّائِفِ يَعْرِضُ دعْوَتَهُ علَى ثقيفٍ، فلمْ تَكُنْ عنْدَ ظَنِِّّه الحَسَنِ بها، بَلْ رَدَّتْهُ رَدّاً عَنيفاً قاسِياً؛ حيثُ أغرَتْ بهِ السُّفَهاءَ، وتَدَاعَى علَى أذِيَّتِهِ المجرمونَ الأشْقِياءُ، حتىَّ أدْمَوْا قَدَمَيْهِ الكريمتَيْن وأرْهَقوهُ، وعادَ مُجْبَراً إلى جَبابِرَةِ مكَّّةَ طَريداً وَحيداً؛ فلَمْ يستَطِعْ دُخولَها إلّا بجوارِ المُطْعَمِ بنِ عَدِيٍّ علَى كُفْرِهِ!.
وفي هذِهِ الحوادِثِ المُدْلَهِمَّةِ بالسَّوادِ تَفيضُ رحمَةُ اللهِ تعالَى علَى عَبْدِهِ ورسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأكْرَمِ خَليقَتِهِ عليه، وأحَبِّ رسُلِهِ إليهِ، فَيُسْرَى بهِ مِنْ مَكَّةَ إلى بيتِ المقدسِ، ثم يُعْرَجُ بهِ إلى السماواتِ العُلَى.(185/3)
ثَبَتَ في الصَّحيحينِ عَنْ أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ في بيتِهِ، فجاءَهُ جِبْريلُ - عليه السلام -، فأخذَهُ إلى المسجدِ الحَرامِ، وفي الحِجْرِ فَرَجَ صَدْرَهُ، ثُمَّ غسَلَهُ بماءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جاءَ بِطِسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمتَلئٍ حِكْمَةً وإيمانًا؛ فأفَرغَهُ في صدرِهِ ثُمَّ أطْبَقَهُ، ثم أسْرَى بِه إلى بيتِ المقدسِ علَى البُراقِ، وهُناكَ صلَّى بالأنبياءِ عليهمُ الصّلاةُ والسّلامُ، ثم عَرَجَ بهِ إلى السماءِ الدُّنيا، وتَنقَّلَ مِنْ سماءٍ إلى التي تَليها، ولَقِيَ في السماواتِ بَعْضَ إخوانِهِ مِنَ الأنبياءِ والمرسلينَ: آدمَ في السماءِ الدّنيا، وعيسى ويحيى بنِ زكريا في السماءِ الثانيةِ، ويوسفَ في السماءِ الثالثةِ، وإدريسَ في الرّابعةِ، وهارونَ في الخامسةِ، وموسَى في السّادسةِ، وإبراهيمَ في السابعةِ؛ علَى نبيِّنا وعليهم جميعاً صَلَواتُ اللهِ وسلامُهُ، ثم عَرَجَ بهِ جبريلُ حتَّى ظهَرَ لِمُسْتَوىً يَسْمَعُ فيه صَرِيفَ أقْلامِ الملائكَةِ، ثم انطلَقَ به جبريلُ حتَّى انتَهَى إلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، وهِيَ شَجرةٌ عظيمةٌ جدّاً فوْقَ السماءِ السابعةِ، يَنْتَهِي إليها ما يَعْرُجُ مِنَ الأرضِ، ويَنْزِلُ إليها ما يَنْزِلُ مِنَ اللهِ تعالَى مِنَ الوَحْيِ وغيرِهِ، وهُناكَ فَرَضَ اللهُ تعالَى عليهِ خمسينَ صلاةً في اليومِ والليلةِ، فراجَعَ ربَّهُ بمَشُورَةٍ مِنْ أخيهِ مُوسَى - عليه السلام - حتَّى صارَتْ خَمْساً.
أيُّها المسلمونَ:(185/4)
إنَّ مِنْ أعْظَمِ فرائِضِ الإسلامِ ليلةَ المعْراجِ؛ الصّلاةَ، فهِيَ عِمادُ الدِّينِ ورُكْنُهُ المتينُ، فَفِيها يَقِفُ المسلِمُ بيْنَ يَدَيْ ربِّهِ يُناجِيهِ ويَطْلُبُهُ، ويتضرَّعُ إليهِ ويتَمَلَّقُهُ؛ أخرَجَ الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ مِنْ حديثِ الحارِثِ الأشْعَرِيِّ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إِنَّ اللهَ أَمَرَ يَحْيَى بنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا"، فذكرَ مِنْها: "وَإِنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلا تَلْتَفِتُوا فَإِنَّ اللهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ".
وفي صحيحِ مسلمٍ عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ"، ولا زالَ نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - يأمرُ بالصّلاةِ ويعلِّمُها أصحابَهُ حتَّى كانَتْ آخِرَ وَصاياهُ قَبْلَ أنْ يُفارِقَ الدُّنيا؛ فقَدْ أوْصَى النّاسَ في مرضِهِ الذِي ماتَ فيهِ بها، قالَ أنسٌ - رضي الله عنه -: "كَانَتْ عَامُّ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَهُوَ يُغَرْغِرُ بِنَفْسِهِ: الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ"[أخرجَه أحمدُ وابنُ ماجَه].
أَلاَ وإنَّ نبيَّكم - صلى الله عليه وسلم - رأَى في تِلكَ الليلةِ أقْواماً يُعَذَّبونَ لِذنوبٍ ارْتَكَبُوها، ومَعاصٍ اقْترَفوها، مِنْهمُ: المُضَيِّعونَ للصّلَواتِ والمرابُونَ والزُّناةُ وغيرُهم، ألاَ فارْحَموا أنفَسَكم وقُوها مِنَ الوقوعِ في مثلِ ما وقَعوا فيهِ تَفْلَحوا، وبادِروا بالأعمالِ الصالِحَةِ تَرْبَحوا.
أيُّها النّاسُ:(185/5)
إنّ مُعْجزةَ الإسراءِ والمعراجِ بنبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - تجعلُ المسجدَ الأقْصَى أمانَةً في أعْناقِ أهلِهِ المُرابطينَ أوّلاً، ثُمَّ في أعْناقِ عُمومِ المسلمينَ، لا يَحِلُّ للجميعِ التهاوُنُ في حِمايَتِهِ ورِعايَتِهِ وَدَرْءِ الأخْطارِ عَنْه.
بارَكَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفَعَنِي اللهُ وإيَّاكم بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ، أقولُ قَوْليِ هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، فاستغفروهُ إنُّه هوَ الغفورُ الرّحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يَنْبغِي لجلالِ وجْهِهِ وعظيمِ سُلْطانِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمّداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رِضْوانِهِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وأصحابِهِ، ومَنِ اهتدَى بهدْيِهِ مِنْ أتباعِهِ وإخْوانِهِ.
أمّا بعدُ:
فاتّقوا اللهَ - عِبادَ اللهِ- حَقَّ تُقاتِهِ، وقَدِّموا مِنَ الأعْمالِ ما يُقرِّبُكم مِنْ مَرْضاتِهِ.
أيُّها المسلمونَ:
إنَّ مِنْ حِكَمِ مُعجزةِ الإسراءِ والمعراجِ: أنَّ الإسراءَ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المسجدِ الحرامِ إلى المسجِدِ الأقْصَى فيهِ إشارةٌ إلى أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَيَرِثُ قِيادَةَ الأُمَّةِ، وستَرِثُ أُمَّتُهُ هذِهِ البلادَ، ذلِكَ أنَّ اليهودَ لمَّا حرَّفُوا وبدَّلُوا لَمْ يَعُودوا يَصْلُحونَ لِلْقِيَادَةِ؛ فأُسْرِيَ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجِدِ الأقْصَى تبشيراً له بأنَّ قِيَادَةَ هَذا المسجدِ سَتَنْتَقِلُ إليهِ، وأنَّ هذِهِ الأرضَ ستَرِثُها أُمَّتُهُ.(185/6)
ومِنْها: أنَّ في صلاتِهِ - صلى الله عليه وسلم - بالأنبياءِ جميعاً إشارةً إلى أنَّهم وهُمْ في عالَمِ البَرْزَخِ قَدِ اقْتَدَوْا بهِ وَائْتَمُّوا بِه؛ فَفِيهِ دِلالةٌ علَى أنَّ شريعةَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - هِيَ الخاتِمَةُ، وقَدْ أخذَ اللهُ تعالَى مِنَ النَبِيِّينَ جميعاً العَهْدَ والمِيثاقَ لَئِنْ جاءَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - وهمْ أحياءٌ لَيُؤْمِنُنَّ به ولَيتَّبِعُنَّهُ، فأعْطَوْا اللهَ عزَّ وجلَّ علَى ذلِكَ عُهودَهم ومَواثِيقَهم، وكأنَّ الأنبياءَ عليهمُ السّلامُ بصَلاتِهم خَلْفَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُريدونَ أنْ يَقولوا لِمَنْ لَمْ يَتَّبِعْهُ مِنَ اليهودِ والنّصارَى وغيرِهم: لوْ كُنَّا أحياءً لاتَّبَعْناه، فما بالُكمْ لا تَتَّبِعونَهُ وهوَ بَيْنَ أظْهُرِكم، قالَ سبحانَه: { وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } { آل عمران: 81-82 } .(185/7)
اللهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ آمِنّا في الوطَنِ، وادْفَعْ عَنّا الفِتَنَ والمِحَنَ؛ ما ظهرَ مِنْها وما بَطَنَ ،اللهمَّ صَلِّ وسَلِّمْ علَى عبدِكَ ورسولِكَ سيِّدِنا محمّدٍ وعلَى آلِهِ وصحابتِهِ أجمعينَ، وعنَّا مَعَهم بفَضْلِكَ وإحسانِكَ يا كريمُ. اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ, وأذِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ، واجْعَلِ اللهمَّ هَذا البلَدَ آمِناً مُطمئنّاً سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، وتقبَّلِ اللَّهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ، وآخرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ.
عِبادَ اللهِ: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } { النحل:90 } .
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(185/8)
اطبع هذه الصحفة
الشباب أمل المستقبل
أيُّها الشبابُ:
اعْلَموا أنَّ مَنْ أخَذَ بالعِلْمِ فقَدْ أخَذَ بحَظٍّ وافِرٍ، ومَلَكَ ناصِيَةَ التَّقَدُّمِ والحَضارَةِ؛ فإنَّ العِلْمَ شَرَفٌ ورِفْعَةٌ في الدُّنيا، ودَرَجاتٌ في الجنَّةِ يومَ القيامَةِ، ومَنْ سَلَكَ طريقاً يَلْتَمِسُ فيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ له طريقاً إلى الجنَّةِ. ويَكْفِي أهْلَ العِلْمِ فَخْراً وعِزّاً ما قالَهُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهم:"العُلَماءُ وَرَثَةُ الأنبياءِ وإنَّ الأنبياءَ لمْ يُوَرِّثوا دِيناراً ولادِرْهَماً وإنَّما وَرَّثُوا العِلْمَ فمَنْ أخَذَهُ أخَذَ بحَظٍّ وافِرٍ"[أخرجَه أبوداودَ والترمذيُّ مِنْ حديِث أبي الدَّرْداءِ - رضي الله عنه -].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ4 من شعبان 1428هـ الموافق17/8/2007 م
الشباب أمل المستقبل
الحمدُ للهِ الذي خلَقَ الإنسانَ أطْواراً وفضَّلَهُ علَى كثيرٍ ممَّنْ خلَقَ تفضيلاً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له؛ أعَدَّ الجنَّةَ لِعبادِهِ الذينَ آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ فلا يَبْغُونَ عَنْها تَحْويلاً ولا يَرْضَوْنَ بِسواها بَديلاً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ، وصَفْوَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ وخَليلُهُ، اصْطَفاهُ رَبُّهُ فأقامَ بهِ المِلَّةَ وكَمَّلَ بهِ الأخلاقَ تَكْميلاً، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ الذينَ تَسامَوْا إلى العُلا شَباباً وكُهُولاً، وصَدَقُوا ما عاهَدوا اللهَ عليهِ فمِنْهم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهم مَنْ يَنْتَظِرُ وما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً.
أمَّا بعدُ:(186/1)
فأُوصيكم – عِبادَ اللهِ – ونفسِي بتَقْوَى اللهِ تعالَى؛ فإنَّ تَقْوَى اللهِ أكْرَمُ ما أسْرَرْتُم، وأجملُ ما أظْهَرْتُم، وأفضلُ ما ادَّخَرْتم، اتقوا اللهَ في السرِّ والعَلَنِ، واجْتَنِبوا الفواحِشَ ما ظهَرَ مِنْها وما بَطَنَ. قالَ اللهُ تعالَى { :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمران: 102 } .
معاشِرَ المؤمنينَ:
اعْلَمُوا – بارَكَ اللهُ فِيكم – أنَّ خَيْرَ مَراحِلِ العُمْرِ هِيَ مَرْحَلَةُ الشبابِ؛ ففَضْلُها لا يَخْفَى، وقَدْرُها لا يُنْسَى؛ فالشبابُ هُمْ عِمادُ الأُمَمِ، وبُناةُ الحضاراتِ، وثَرْوَةُ الأوْطانِ الأغْلَى، وَحَظُّها الأوْفَى، ومَجْدُها الأبْقَى، وسِلاحُها الأمْضَى، إذْ لم تَزْدَهِرْ حَضارةٌ، ولم تَرْتَقِ أُمَّةٌ، ولم يُصْنَعْ مَجْدٌ، ولم يُحَقَّقْ نصرٌ– بعدَ فَضْلِ اللهِ – إلاّ بجُهْدِ الشَّبابِ.
فَها هِيَ ذِي دَعْوَةُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - قامَتْ في بِدايَتِها عَلَى جُهودِ الشبابِ، وعَلَى عَواتِقِهم كانَ النجاحُ المُكَلَّلُ والنَّصْرُ المُظَفَّرُ في ساحاتِ المعارِكِ وميادِينِ السلاحِ، ومَضامِيرِ الدَّعْوَةِ والكفاحِ.
وهَذا نَبِيُّ اللهِ إبراهيمُ الفَتَى – عليه الصلاةُ والسلامُ – يَدْعو قَوْمَهُ إلى توحيدِ اللهِ الخالِصِ ويُنْكِرُ عَلَيْهم عِبادَتَهمُ الأصْنامَ مِنْ دُونِ اللهِ، ويقومُ بتَكْسيرِها وتَحْطِيمِها كَما ذَكَرَ القرآنُ نَبَأَهُ { قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } { الأنبياء:60 } ، فما كانَ مِنْه – عليهِ السلامُ - إلاّ أنْ صَدَعَ بما يُسَفِّهُ أحْلامَهم ويَسْتَخِفُّ عُقولَهم { أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } { الأنبياء: 67 } .(186/2)
إنَّنا بحاجةٍ إلى فِتْيَانٍ يَقُومونَ بِدَحْضِ المبادِئِ الهدَّامَةِ، والعقائِدِ الفاسِدَةِ، والتقاليدِ البالِيَةِ التي تَنْخَرُ في جَسَدِ الأُمَّةِ ليْلَ نَهارَ. وهَذا نَبِيُّ اللهِ يوسُفُ – عليهِ الصلاةُ والسلامُ – يضْرِبُ مَثَلا غايَةً في الرَّوْعَةِ في عِفَّةِ النَّفْسِ ونَقاءِ السَّرِيرَةِ وكَرَمِ العُنْصُر لمّا ألْقَى بشَهْوَةِ النَّفْسِ الأمَّارَةِ، وغريزَةِ الشَّبابِ الفَوَّارَةِ وراءَهُ ظِهْرِياً مُؤْثِراً مَرْضاةَ رَبِّهِ – عَزَّ وجَلَّ– علَى كُلِّ عَرَضٍ وَشَهْوَةٍ، ومُتَرَفِّعاً عَنْ كُلِّ دَنِيئَةٍ وخَطِيئَةٍ، رَغْمَ تَهَيُّؤِ الأسْبابِ وتَوافُرِ الدَّوَاعِي لارْتِكابِ الفاحِشَةِ والوُقوعِ في المْحظُورِ، أبىَ ذلِكَ كلَُّّهُ قائلِاً: { مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } { يوسف: 23 } .
بَلْ آثَرَ فِتْنَةَ السِّجْنِ عَلَى فِتْنَةِ الفاحِشَةِ، ورِضَا اللهِ عَلَى نِداءِ الشَّهْوَةِ إذْ قَالَ: { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ } { يوسف: 33 } .(186/3)
وهَذا الفتَى إسماعيلُ – عليهِ الصلاةُ والسلامُ – يُعْطِي المثَلَ الحَيَّ في بِرِّ الوالِدَيْنِ، والاستجابَةِ لأمْرِ اللهِ ولَوْ كانَ ذلِكَ يُكَلِّفُهُ حَياتَهُ الغالَيِةَ وشبابَهُ الثَّمِينَ، إذْ أجابَ والدَه عليهِ السلامُ – الذي رأَى في المنامِ أنََّهُ يَذْبَحُهُ – ورُؤْيا الأنبياءِ حَقٌّ – أجابَهُ قائلِاً { يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } { الصافات: 102 } ، وعَلِيُّ بنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنه - الفَتىَ الذي تَرَعْرَعَ في حِجْرِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْدِي رسولَ اللهِ بنفسِهِ فَيبَيتُ في دارِهِ لكَيْ لا يَصِلَ إليهِ المشركونَ بأذَىً أوْ يُصِيبُوهُ بمَكْروهٍ.
وجَعْفَرٌ الطيَّارُ الشابُّ المْتَلَهِّبُ، والمجاهِدُ المْحتَسِبُ، سَلِيلُ المَجْدِ وحَفِيدُ العِزِّ والكَرامَةِ يُقاتِلُ بِشجاعَةِ الأبْطالِ ويَسْتَبْسِلُ في مَعْركَةِ مُؤْتَةَ استبسالاً قَلَّ نَظيرُهُ، وعَزَّ مَثِيلُهُ، حتى إذا أرْهَقَهُ القِتالُ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ فعَقَرَها ثُمَّ قاتَلَ باستماتَةٍ حتَّى قُطِعَتْ يَمينُهُ فأخَذَ الرَّايَةَ بِشِمالِهِ ولمْ يَزَلْ كَذلِكَ حتَّى قَضَى نَحْبَهُ شهيداً في سبيلِ اللهِ.
كَذلِكَ أخْرَجَ الإسلامُ قَوْمِي … شَبَاباً مُخْلِصاً حُرّاً أَمِيناً
أيُّها الإخوةُ المؤمنونَ:(186/4)
هذا أُسامةُ بنُ زيدٍ– رضِيَ اللهُ عَنْهما– يقودُ جيشاً عَرَمْرَماً لمقُارَعَةِ الرُّومِ القُوَّةِ العُظْمَى وَقْتَذاكَ وهوَ دونَ السابِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهِ، وهَذا محمدُ بنُ القاسِمِ – رحِمَهُ اللهُ – يَفْتَحُ بلادَ الهندِ والسِّنْدِ ولماَّ يَبْلُغِ العِشْرينَ، هذِهِ – وغَيْرُها كثيرٌ– أمْثِلَةٌ حَيَّةٌ، وصُوَرٌ رائِعَةٌ، ونماذِجُ فَذَّةٌ في الشجاعَةِ والبُطولَةِ، والشَّهامَةِ والرُّجولَةِ، والتضْحِيَةِ والفِداءِ.فكُونوا – أيُّها الشبابُ – كما كانوا، وَاصْنَعوا مِثْلَ ما صَنَعُوا ولا تَتَّكِلوا عَلَى ما فعَلُوا:تُوهَبْ لكُمُ الحياةُ وتَتَحَقَّقْ لكُمُ الآمالُ، وتَظْفَروا بعِزِّ الدنيا وسعادَةِ الآخرةِ.
أيُّها الشبابُ:(186/5)
ولا يغيبُ عَنْ أذْهانِنا ما للصُّحْبَةِ مِنْ أثَرٍ عظيمٍ في شَخْصِيَّةِ المَرْءِ ونَفْسِيَّتِهِ، فالإنسانُ بطَبْعِهِ يَتأثَّرُ بمَنْ حَوْلَهُ سَلْباً أوْ إيجاباً، والصَّاحِبُ ساحِبٌ، وكُلُّ امْرِئٍ عَلَى خُلُقِ صاحبِهِ وخَليلِهِ؛ كما قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَليلِهِ فَلْيَنْظُرْ أحَدُكم مَنْ يُخالِلُ"[أخرجَه أبو داودَ والترمذيُّ] مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -. فعَلَى الشابِّ أنْ يختارَ لنَفْسِهِ الصاحِبَ الخَيِّرَ الذي يُذَكِّرُهُ إذا نَسِيَ، ويُنَبِّهُهُ إذا غَفَلَ، ولا يَسيرُ بهِ إلاَّ إلى خَيْرٍ، ويحفَظُهُ شاهِداً وغائِباً، وإنَّ المسلمَ الصادِقَ الغَيُورَ لا يْملِكُ أنْ يَكْتُمَ أسَفَهُ علَى شَبابٍ مالَتْ بِهمُ الأهْواءُ، وَزَلَّتْ بِهمُ الأقْدامُ؛ فتَنَكَّبوُا الصِّراطَ وَاتَّبَعُوا أهْلَ الكُفْرِ والفُسوقِ والعِصْيانِ؛ فإنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حذَّرَ مِنْ ذلكَ أيَّما تَحْذيرٍ فقالَ:"مَنْ تَشَبَّهَ بقَوْمٍ فهوَ مِنْهم"[أخرجَه أبو داودَ والطبرانِيُّ] مِنْ حديثِ ابنِ عمرَ رضِيَ اللهُ عَنْهما.(186/6)
وإنَّ الرُّجولَةَ تَكْمُنُ في التَّمَسُّكِ بالعقيدَةِ الصحيحَةِ، واتَّباعِ الهَدْيِ النَّبَوِيِّ، والسَّيْرِ عَلَى مِنْهاجِ الصَّالِحينَ، والغَيْرَةِ عَلَى النَّفْسِ والعِرْضِ والدِّينِ، والتشَبُّثِ بالأخْلاقِ الحَميدَةِ، والصِّفاتِ المجيدةِ، والِهمَمِ العالِيَةِ والعزائِمِ الماضِيَةِ والإيمانِ الراسِخِ المتينِ. إنَّ الرجالَ هُمُ الذينَ يَصْدُقونَ في عَهْدِهم معَ اللهِ في اتِّباعِ الحَقِّ والذَّوْدِ عَنْهُ بالغالِي والنَّفيسِ كما قالَ الحقُّ جلَّ جلالُه: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } { الأحزاب: 23 } والرجالُ هُمُ الذينَ يَنْشَغِلونَ بأداءِ حُقوقِ اللهِ وحقوقِ الناسِ وحقوقِ أنْفُسِهم { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } { النور: 36-38 } . وبمِثْلِ هَذا تُورِقُ الرُّجولَةُ والرِّجالُ. فاجْعَلوا مِنْ أنْفُسِكم – أيُّها الشبابُ – قادَةً لا مَقُودِينَ، وسادَةً لا مَسُودِينَ، وارْضَوْا لأنْفُسِكم أنْ تكونوا رُؤوساً في رَكْبِ الَخيْرِ والفضيلَةِ، واحْذَروا أنْ تكونُوا مُقَلِّدينَ تَقْليداً أعْمَى أوْتَتَّبِعوا تَبَعِيَّةً جَوْفاءَ.
أيُّها الشبابُ:(186/7)
اعْلَموا أنَّ مَنْ أخَذَ بالعِلْمِ فقَدْ أخَذَ بحَظٍّ وافِرٍ، ومَلَكَ ناصِيَةَ التَّقَدُّمِ والحَضارَةِ؛ فإنَّ العِلْمَ شَرَفٌ ورِفْعَةٌ في الدُّنيا، ودَرَجاتٌ في الجنَّةِ يومَ القيامَةِ، ومَنْ سَلَكَ طريقاً يَلْتَمِسُ فيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ له طريقاً إلى الجنَّةِ. ويَكْفِي أهْلَ العِلْمِ فَخْراً وعِزّاً ما قالَهُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهم:"العُلَماءُ وَرَثَةُ الأنبياءِ وإنَّ الأنبياءَ لمْ يُوَرِّثوا دِيناراً ولادِرْهَماً وإنَّما وَرَّثُوا العِلْمَ فمَنْ أخَذَهُ أخَذَ بحَظٍّ وافِرٍ"[أخرجَه أبوداودَ والترمذيُّ مِنْ حديِث أبي الدَّرْداءِ - رضي الله عنه -].(186/8)
فَيَا لَسَعادَةِ أهْلِ العِلْمِ، ويَا لحََظِّهِمُ العظيمِ في الدُّنيا والآخِرَةِ. فتَزَيَّنوُا – أيُّها الشبابُ – بالعِلْمِ، وتجَمَّلُوا بالحِلْمِ، وتَفاضَلُوا بالتَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا بَحبْلِ اللهِ المتينِ؛ تَكونُوا علَى نورٍ مُبينٍ مِنْ رَبِّكم، وتَقْدِروا علَى مُواجَهَةِ عَواصِفِ الغَزْوِ الثَّقافِيِّ والفَكْرِيِّ الذي يَسْتَهْدِفُكم قَبْلَ كُلِّ أحَدٍ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ، وتَسْتَطيعوا – بإذْنِ اللهِ – أنْ تَقِفُوا سَدّاً مَنِيعاً في وَجْهِ وسائِلِ الإعْلامِ الحديثَةِ بأنْواعِها المُخْتَلِفَةِ مِنْ قَنَواتٍ فَضائِيَّةٍ، وشَبَكاتِ اتصالاتٍ عالمَيَّةٍ، وغْيرِها مِنَ الوسائِلِ المُدَمِّرَةِ للأخْلاقِ والدِّينِ والأعْرافِ والتقاليدِ إنْ أُسِيءَ اسْتِعْمالُها، وأُخْطِئَ في التَّعامُلِ مَعَها. واغْتَنِموا أوْقاتَ فَرَاغِكم بما يَنْفَعُكم في دِينِكُم ودُنْياكم إذْ مَرْحَلَةُ الشبابِ نِعْمَةٌ عُظْمَى لا يمكِنُ تَعْويضُها إذا وَلَّتْ ،فقَدْ قالَ المصطَفَى - صلى الله عليه وسلم -:"اغتنمْ خَمْساً قبلَ خَمْسٍ وذَكَرَ مِنْها: وفَرَاغَكَ قَبْلَ شَغْلِكَ وشَبابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ"[ أخرجَه الحاكِمُ مِنْ حديثِ ابنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما].
إنَّ الشبابَ أمَانةٌ في الدُّنيا، ومسؤوليةٌ أمامَ اللهِ يومَ القيامَةِ، وعَلَى قَدْرِ الأهَمِيَّةِ تكونُ المسؤوليةُ، عَنِ ابنِ مَسْعودٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ"لا تزولُ قَدَما ابنِ آدَمَ يومَ القيامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فيمَ أفْناه؟ وعَنْ شَبابِهِ فيمَ أبْلاه؟ ومالِهِ مِنْ أينَ اكتَسبَهَ وفيمَ أنْفَقَه؟ وماذا عَمِلَ فيما عَلِمَ"[أخرجَه الترمذيُّ].(186/9)
بارَكَ اللهُ لى ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعَنِي وإيَّاكم بما فيه مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ فاستغفروه إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ .
… الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ وكَفَى، والصلاةُ والسلامُ علَى عِبادِهِ الذينَ اصطَفَى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ المصطَفَى، صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعلَى آلِهِ وأصْحابِهِ أهْلِ المَكْرُماتِ والوَفَا.
أمَّا بعدُ: فيا أيُّها الناسُ اعبدُوا اللهَ واشْكُروهُ، وأطِيعُوا أمْرَهُ وَاتَّقُوهُ { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًاوَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } { الطلاق: 2-3 } .
أيُّها الشبابُ:(186/10)
اعْتَزُّوا بدِينِكم وتمسَّكُوا بهَدْيِ نبيِّكُم، فإنَّ الدِّينَ مَصْدَرُ قُوَّتِنا وَعُنْوانُ عِزَّتِنا، إذْ بهِ أعَزَّنا اللهُ وكبَتَ عَدُوَّنا، وبهِ رَفَعَ اللهُ شَأْنَنا ووَفَّقَنا لِبناءِ حَضارَتِنا، فمَهْما ابْتَغَيْنا العِزَّةَ بغَيْرِهِ أذَلَّنا اللهُ، احْيَوْا مَعَ أُمَّتِكم وعِيشُوا آمالَها وشارِكُوها آلامَهَا، واعْمَلُوا علَى بَعْثِ عِزِّها التَّلِيدِ ومَجْدِها الفَريدِ، ومِنْ دُونِكم لنْ تَتَحقَّقَ للأُمَّةِ غايةٌ ولنْ تُرْفَعَ لها رايَةٌ. كونوا أصْحابَ عَقيدَةٍ راسِخَةٍ وإيمانٍ ثابِتٍ لا تُزَحْزِحُهُ الجِبالُ الرَّاسِيَاتُ ولا تُبَدِّلُهُ المُغْرِيَاتُ وتَغَيُّرُ الأحْوَالِ. ولا تَتَوانَوْا أنْ تكونُوا أصحابَ مبادِىءَ وحَمَلَةَ رِسالَةٍ، بارِّينَ بآبائِكم وأُمَّهاتِكم، مُحِبِّينَ لجِيرَانِكم وإخْوَانِكم، مُتَعاونينَ علَى البِرِّ وَالتَّقْوَى، مُتَناهِينَ عَنِ الإثْمِ وَالعُدْوانِ، مُتَواصِينَ بالحَقِّ وبالصِّبْرِ، رُهْباناً بالليلِ فُرْساناً بالنَّهارِ، ذَوِي إرادَةٍ قَوِيَّةٍ وعَزِيمَةٍ ماضِيَةٍ وطُموحٍ عَظيمٍ، وعَلَى قَدْرِ أهْلِ العَزْمِ تَأْتِي العَزائِمُ.
… عُبَّادُ لَيْلٍ إذا جَنَّ الظَلامُ بِهِمْ كَمْ عابِدٍ دمْعُهُ في الخَدِّ أجْرَاهُ
وأُسْدُ غابٍ إذا نادَى الجِهادُ ِبهِمْ هَبُّوا إلى الموْتِ يَسْتَجْدونَ رُؤْياهُ
يارَبِّ فابْعَثْ لنا مِنْ مِثْلِهِم نَفَراً يُشَيِّدُونَ لَنا مَجْداً أضَعْناهُ(186/11)
اللهمَّ اغْفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ اهْدِ شَبابَنا للإسلامِ، وَوَفِّقْ فَتَياتِنا للسَّتْرِ وَالاحْتِشامِ، وأحْسِنْ عاقِبَتَنا في الأمورِ كُلِّها وأجِرْنا مِنْ خِزْيِ الدُّنيا وعَذابِ الآخِرَةِ، اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرةِ حسنةً؛ وقِنا عذابَ النَّارِ.وَأقِمِ الصَّلاةَ.
… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(186/12)
اطبع هذه الصحفة
الحجاب عفة وطهارة
إخوةَ الأخلاقِ والفضيلَةِ:
إنَّ مِنْ أعْظَمِ مَقاصِدِ هَذا الدِّينِ، إقامَةَ مُجتَمَعٍ طاهِرٍ، الخُلُقُ سِيَاجُهُ، والعِفَّةُ طابَعُهُ، والحِشْمَةُ شِعارُهُ، وَالوَقارُ دِثارُهُ، مُجْتَمَعٍ لا تُهاجُ فيهِ الشَّهَواتُ، وتُقْطَعُ فيهِ أسْبابُ الإِثاراتِ، تُضَيَّقُ فيهِ فُرَصُ الغَوَايَةِ، وتَتَّسِعُ فيهِ عَوامِلُ الهِدايَةِ؛ فَلِذا شُرِعَ الحِجابُ حِفْظاً للمُؤْمِناتِ، وَصَوْناً لهَنَّ مِنْ أصْحابِ الشَّهَواتِ، يقولُ اللهُ سبحانَه: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } { الأحزاب: 59 } ، تقولُ أُمُّ سَلَمَةَ رضِيَ اللهُ عَنْها: لماّ نَزَلَتْ { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } خَرَجَ نِساءُ الأنْصارِ كأنَّ علَى رُؤوسِهنَّ الغِرْبانَ مِنَ الأَكْسِيَةِ!!، والجِلْبابُ: كُلُّ ساتِرٍ مِنْ أعْلَى الرَّأْسِ إلى أسْفَلِ القَدَمِ مِنْ مُلاَءَةٍ وعَباءَةٍ، وكُلِّ ما تَلْتَحِفُ بهِ المرأَةُ فَوْقَ دِرْعِها وخِمارِها، وإدْناءُ الجِلْبابِ يَعْنِي: سَدْلَهُ وَإرخاءَهُ عَلَى بَدَنِِها.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ11من شعبان 1428هـ الموافق 24/8/2007 م
الحجاب عفة وطهارة(187/1)
الحمدُ للهِ الذي أنزلَ الكتابَ، وأمرَ فيهِ بالعِفَّةِ والحِجابِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له غافِرُ الذَّنْبِ وقابِلُ التَّوْبِ شديدُ العِقابِ، مَنِ استقامَ علَى هَدْيِهِ نالَ التكْريمَ والثوابَ، ومَنْ زاغَ فهوَ مُتَوَعَّدٌ بأليمِ العذابِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ المبعوثُ بالحِكْمَةِ وفَصْلِ الخِطابِ، والمأمورُ بالفضائِلِ وكريمِ الأخْلاقِ والآدابِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ ذَوِي النَّهْجِ الأَرْشَدِ والخُلُقِ المُسْتطابِ، وعلَى مَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ المآبِ.
أمَّا بعدُ:
فأُوصيكم - إِخوةَ الإسلامِ - ونفْسِي بتقْوَى اللهِ سبحانَه، فمَنِ اتَّقَى اللهَ أكرَمَهُ وأعانَهُ، وثَبَّتَ علَى الحَقِّ فؤُادَهُ وجَنانَه، وأدْخَلَهُ الجِنانَ، يقولُ سبحانَه: { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } { مريم: 63 } .
عبادَ اللهِ:
ذُكِرَ في إحْدَى الغَزَواتِ أنَّ امرأةً مِنَ الأنْصارِ تُدْعَى أُمَّ خَلاَّدٍ، جاءَتْ تَبْحَثُ عَنْ وَلَدِها بيْنَ جُثَثِ الشُّهداءِ، وكانَتْ هذِهِ المرأةُ مُحَجَّبَةً مُنْتَقِبَةً، لا تَظْهَرُ مِنْها إلا عَيْنٌ واحدةٌ، فتعجَّبَ الصحابَةُ - رضِيَ اللهُ عَنْهم- وقالوا: يا أُمَّ خَلاَّدٍ كيفَ تَبْحثينَ عَنْ وَلَدِكِ بينَ القَتْلَى وبِكِ ما بِكِ مِنَ الحُزْنِ ومازِلْتِ تَنْتَقِبينَ؟! أَمَا دفَعَكِ حَرُّ المُصابِ وأَلَمُ الفِراقِ إلى أنْ تَخْلَعِي عَنْكِ حِجابَكِ؟ فماذا كانَتْ إِجابَةُ هذِهِ المؤمنةِ الصادِقَةِ، والعفيفَةِ الطاهِرَةِ، التِي اسْتَقَتِ الهَدْيَ مِنْ مَعينِ الكتابِ المُبيِنِ وَسُنَّةِ النبيِّ الكريمِ عليهِ أفضلُ الصَّلاةِ وأزْكَى التسليمِ، قالَتْ لهم: يا إخْوَتاهُ إنْ أُرْزَأْ في وَلَدِي وَفَلْذَةِ كَبِدِي فلَنْ أُرْزَأَ في إيمانِي وحيائِي.(187/2)
بِيَدِ العَفافِ أَصُونُ عِزَّ حِجابِي وبعِصْمَتِي أَعْلُو عَلَى أَتْرابِي
ما ضَرَّنِي أَدَبِي وَحُسْنُ تَعَلُّمِي إلاّ بِكَوْنِي زَهْرَةَ الأَلْبابِ
ما عاقَنِي خَجَلِي عَنِ العَلْيَا وَلا سَدْلُ الخِمارِ بِلِمَّتِي ونِقابِي
فمَعِي النِّساءُ السائِراتُ عَلَى الهُدَى ومَعِي الحَياءُ وفِطْرَتِي وكِتابِي
سأَظَلُّ أرْقَى للسَّمَواتِ العُلَى وأَظَلُّ أحْيَا في هُدَى المِحْرابِ
إخوةَ الأخلاقِ والفضيلَةِ:
إنَّ مِنْ أعْظَمِ مَقاصِدِ هَذا الدِّينِ، إقامَةَ مُجتَمَعٍ طاهِرٍ، الخُلُقُ سِيَاجُهُ، والعِفَّةُ طابَعُهُ، والحِشْمَةُ شِعارُهُ، وَالوَقارُ دِثارُهُ، مُجْتَمَعٍ لا تُهاجُ فيهِ الشَّهَواتُ، وتُقْطَعُ فيهِ أسْبابُ الإِثاراتِ، تُضَيَّقُ فيهِ فُرَصُ الغَوَايَةِ، وتَتَّسِعُ فيهِ عَوامِلُ الهِدايَةِ؛ فَلِذا شُرِعَ الحِجابُ حِفْظاً للمُؤْمِناتِ، وَصَوْناً لهَنَّ مِنْ أصْحابِ الشَّهَواتِ، يقولُ اللهُ سبحانَه: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } { الأحزاب: 59 } ، تقولُ أُمُّ سَلَمَةَ رضِيَ اللهُ عَنْها: لماّ نَزَلَتْ { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } خَرَجَ نِساءُ الأنْصارِ كأنَّ علَى رُؤوسِهنَّ الغِرْبانَ مِنَ الأَكْسِيَةِ!!، والجِلْبابُ: كُلُّ ساتِرٍ مِنْ أعْلَى الرَّأْسِ إلى أسْفَلِ القَدَمِ مِنْ مُلاَءَةٍ وعَباءَةٍ، وكُلِّ ما تَلْتَحِفُ بهِ المرأَةُ فَوْقَ دِرْعِها وخِمارِها، وإدْناءُ الجِلْبابِ يَعْنِي: سَدْلَهُ وَإرخاءَهُ عَلَى بَدَنِِها.
معاشِرَ المسلمينَ:(187/3)
وفي مقامٍ آخَرَ يقولُ اللهُ تعالَى: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً - وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } { الأحزاب: 32-33 } ، فنَهَى عَنِ الخُضوعِ بالقَوْلِ والتَّبَرُّجِ تَبَرُّجَ الجاهِلِيَّةِ الأُولَى، وأَمَرَ بالقَرارِ في البُيُوتِ، وأَمَرَ بقَوْلِ المَعْروفِ وإِقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ، فإنْ تَمَّ ذلِكَ حَصَلَتِ العِفَّةُ والطَّهارَةُ، وَالخِطابُ وإنْ كانَ مُوَجَّهاً لنِسَاءِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلاّ أنَّ نِساءَ المؤمنينَ يَدْخُلْنَ فيهِ تَبَعاً، والجاهليَّةُ الأُولَى هِيَ الزَّمَنُ الذي كانَ قَبْلَ الإسلامِ حَيْثُ كانَتِ المرأةُ يَبْدو مِنْها عُنُقُها وصَدْرُها، وكانَتْ تَخْرُجُ تَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ الرِّجالِ.
أيُّها الناسُ:(187/4)
وفي سُنَّةِ المُصْطفَى - صلى الله عليه وسلم - تَوْجِيهاتٌ سَنِيَّةٌٌ، للنساءِ اللائِي يَبْغِينَ الحَيَاةَ الرَّضِيَّةَ، تَوْجِيهاتٌ تَأْمُرُ بالحجابِ والعَفافِ، والتَّسَتُّرِ والانْكِفافِ، وتَنْهَى عَنِ التبرُّجِ والسُّفُورِ، وَكُلِّ ما يُوقِعُ المرأَةَ في الآثامِ والشُّرورِ، فَفي حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُما قَوْمٌ مَعَهم سِياطٌ كأذْنابِ البقَرِ يضرِبونَ بها النَّاسَ، ونِساءٌ كاسِيَاتٌ عارِياتٌ، مُمِيلاتٌ مائِلاتٌ، رُؤوسُهُنَّ كأَسْنِمَةِ البُخْتِ المائِلَةِ، لا يَدْخُلْنَ الجنَّةَ ولا يَجِدْنَ رِيحَها وإنَّ رِيحَها لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذا وكَذا" [أخرجَه مسلمٌ].(187/5)
ومِنْ هذِهِ التَّوْجِيهاتِ للنساءِ الفُضْلَيَاتِ، ألَّا يَخْتَلِطْنَ بالرجالِ أوْ يُزاحِمْنَهم في الطُّرُقاتِ، ولا يَخْرُجْنَ مُتَزَيِّناتٍ مُتَعَطِّراتٍ، إلاّ عِنْدَ المحارِمِ أوْ في مَجامِعِ النِّساءِ، فَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ الأَنْصارِيِّ - رضي الله عنه - أنَّه سَمِعَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ- وهوَ خارِجٌ مِنَ المسجِدِ فاخْتلَطَ الرجالُ بالنساءِ في الطريقِ، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - للنساءِ -: "اسْتَأْخِرْنَ، فإنَّه ليسَ لكنَّ أنْ تَحْقُقْنَ الطَّريقَ، عَلَيْكُنَّ بحافَّاتِ الطريقِ - فكانَتِ المرأةُ تَلْتَصِقُ بالجِدارِ حتَّى إنَّ ثَوْبَها لَيَتعَلَّقُ بالجدارِ مِنْ لُصُوقِها بهِ" [أخرجَه أبو داودَ]، وعَنْ أبي موسَى - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ: "إذا اسْتَعْطَرَتِ المرأةُ وَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا رِيحَها فهِيَ كَذا كَذا، قالَ قَوْلاً شَدِيداً"[أخرجَه أبو داودَ]، قالَ الإمامُ القُرْطُبيُّ: "والشريَعةُ طافِحَةٌ بِلُزومِ النساءِ بيوتَهنَّ، والاْنِكفافِ عَنِ الخُروجِ مِنْها إلاّ لِضَرورَةٍ" انْتَهَى كلامُهُ رحِمَهُ اللهُ، فإنْ مَسَّتِ الحاجَةُ إلى الخُروجِ فَلْيَكُنَّ عَلَى تَسَتُّرٍ تامٍّ.
أُخْتاهُ يا أَمَةَ الإِلَهِ تَحَشَّمِي لا تَرْفَعِي عَنْكِ الخِمارَ فَتَنْدَمِي
لا تُعْرِضِي عَنْ هَدْيِ رَبِّكِ ساعةً عَضِّي عَلَيْهِ مَدَى الحياةِ لِتَغْنَمِي
ما كانَ رَبُّكِ جائِراً في شَرْعِهِ فاسْتَمْسِكي بِعُراهُ حتَّى تَسْلَمِي
بارَكَ اللهُ لي ولكمْ في القُرآنِ والسُّنَّةِ، ونَفَعَنِي وإيَّاكم بما فِيهما مِنَ الهُدَى والحِكْمَةِ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمينَ فاستغفروهُ إنَّه هوَ الغفورُ ذُو الرَّحْمَةِ.
الخطبة الثانية(187/6)
الحمدُ للهِ الذي أنَعمَ عَلَيْنا بِنِعَمِ الدُّنيا وَالدِّينِ، وجَعلَنا مِنَ المسلمينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له المَلِكُ الحَقُّ المُبيِنُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ خاتَمُ النبيِّينَ، صَلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ الطاهِرينَ المُطَهَّرينَ، وعَلَى التابِعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ بالقيامِ بحَقِّهِ وحقوقِ العِبادِ، واتَّقوا النارَ التي أُعِدَّتْ لِمَنْ أهمَلَ الواجباتِ وارْتَكَبَ الفَسادَ، وَاعْلَموا أنَّ مِنْ أَوْجَبِ الواجِباتِ عَلَيْكم مُلاحَظَةَ الأَهْلِ والأَوْلادِ؛ يقولُ سبحانَه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } { التحريم: 6 } .
أيُّها القَوَّامُونَ عَلَى النساءِ:
قُومُوا بِوَاجِبِكم تِجَاهَ نسائِكم، فإنَّهنَّ أَسِيراتٌ عِنْدَكم، فأَلْزِمُوهنَّ السِّتْرَ وَالحِجابَ، ورَغِّبُوهنَّ في التَّعَفُّفِ والاحْتِشامِ، ضارِبينَ لهنَّ المَثَلَ فيمَنْ سَبَقَهنَّ مِنَ الصَّالحاتِ، مُبَيِّنينَ لَهنَّ الحِجابَ الشَّرْعِيَّ الساتِرَ، الخالِيَ مِنَ الفِتْنَةِ وزائِفِ المظاهِرِ.
وقَدْ ذكَرَ أهْلُ العِلْمِ ضَوَابِطَ وشُروطاً للحِجابِ المُرادِ، وهِيَ أنْ يكونَ ساتِراً لجميعِ البَدَنِ، وأنْ يكونَ كَثيفاً غَيْرَ رَقيقٍ ولا شَفَّافٍ، وأنْ يكونَ واسِعاً لا يُجَسِّمُ المرأَةَ، ولا يُظْهِرُ مَفاتِنَها، وألاَّ يكونَ زِينَةً في نَفْسِهِ أوْ ذا ألوانٍ جَذَّابَةٍ يَلْفِتُ الأَنْظارَ، وألاَّ يَكونَ مُعَطَّراً.
أيُّها الإخْوَةُ المؤمنونَ:(187/7)
إيَّاكم وَأنْ تَغْتَرَّ نِساؤُكم بِفِعْلِ المُتَبَرِّجاتِ، فإنَّهُنَّ مِنْ نَظَرِ اللهِ ساقِطاتٌ، وعُرْضَةٌ للنَّظَرِ المُحَرَّمِ وَالمُضايقاتِ، يَجْلِبْنَ الِفْتنَةَ، ويُذْكِينَ نارَ الشَّهْوَةِ فَعَنْ أُسامَةَ بنِ زيدٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ: "ما تَرْكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرجالِ مِنَ النساءِ" [متفقٌ عليهِ]، وَلْيَكُنْ لَهنَّ في العَفِيفاتِ خَيْرُ مَثَلٍ، كَما جاءَ وَصْفُهنَّ في قَوْلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: { فالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ } { النساء:34 } ويقولُ سبحانَه: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } { التوبة:71 } .
ثُمَّ صَلُّوا وسَلِّموا- مَعاشِرَ المسلمينَ - عَلَى خاتَمِ النبيِّينَ وخَيْرِ المُرْسَلينَ، كَما أَمَرَ بِذلِكُمْ رَبُّ العالَمينَ، فقالَ عَزَّ مِنْ قائِلٍ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب: 56 } .
اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نبيِّنا محمدٍ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجْمعَينَ، اللهمَّ أَصْلِحْ نساءَنا ونساءَ المسلمينَ، اللهمَّ زَيِّنْهُنَّ بالحِجابِ والعَفافِ، وجَنِّبْهُنَّ التبرُّجَ وَالسُّفورَ وَالاخْتِلاطَ اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ وَالمسلمينَ، وأَذِلَّ الكُفْرَ وَالكافرينَ وأَزْهِقِ النِّفاقَ وَالمنُافِقينَ، وَانْصُرِ اللهمَّ دِينَكَ وكِتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّكَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وعِبادَكَ المؤمنينَ.(187/8)
اللهمَّ اغفِرْ للمسلمينَ وَالمسلماتِ؛ وَالمؤمنينَ وَالمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم وَالأمواتِ، اللهمَّ جَنِّبْنا مُنْكَراتِ الأَخْلاقِ وَالأَهْواءِ وَالأَعْمالِ وَالأَدْواءِ، اللهمَّ إنَّا نعوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ البَلاءِ، وَدَرَكِ الشَّقاءِ، وَسُوءِ القَضاءِ، وشَماتَةِ الأَعْدَاءِ، اللهمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وتَحَوُّلِ عافِيَتِكَ، وفُجاءَةِ نِقْمَتِكَ، وجَمِيعِ سَخَطِكَ، اللهمَّ وَفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، وَاجْعَلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احْفَظْهما بحفظِكَ، وَاكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمِناً مُطمئِنّاً سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ.
…………………لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(187/9)
اطبع هذه الصحفة
اشف أنت الشافي
الحمدُ للهِ الذي جعَلَ الدَّواءَ إلى الظَّفَرِ بالشِّفاءِ سَبيلاً، وحَرَّكَ النُّفوسَ إلى الأخْذِ بالأسبابِ إيثاراً لطَلَبِهِ وتَحْصِيلاً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له لا أبْغِي سِوَاهُ رَبّاً ولا أتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ وَلِيّاً ولا وَكِيلاً،وأشهدُ أنَّ محمداً نبيُّ اللهِ المُرْسَلُ للإيمانِ القَوِيمِ مُنادِياً؛ وللصِّراطِ المُستقيمِ هادِياً؛ولجنَّةِ النعيمِ دَليلاً، فصلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ؛ صَلاةً وسلاماً لا أرومُ عَنْها انْتِقالاً ولا تَحْوِيلاً.
أمَّا بعدُ: فيا مَعْشَرَ المسلمينَ: أُوصيكم ونفسِي بتَقْوَى رَبِّ العالمَينَ، فاسْتَمْسِكوا بها فهِيَ { شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } { الإسراء: 82 } .(188/1)
أيُّها الأحبابُ: إنَّ مِنْ جُمْلَةِ ما شرَعَهُ اللهُ تعالَى مِنَ الأسبابِ؛ التَّي تُذْهِبُ الأحْزانَ وتُبْرِئُ الأمْراضَ وتُخَفِّفُ المُصابَ: عِيَادَةَ مَنْ مَسَّهُ النُصْبُ والعَذابُ، لِذا فقَدْ أمَرَ بها النبيُّ الكريمُ؛ عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأزْكَى التسليمِ، فعَنْ أبي موسى الأشْعَريِّ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "فُكُّوا العانِيَ- يَعْنِي الأسيرَ-، وأطْعِموا الجائَعَ، وعُودوا المريضَ" [أخرجَه البخاريُّ]، ويُشْرَعُ لمِنْ عَادَ المريضَ أنْ يَخُصَّهَ بالدُّعاءِ، وأنْ يَسْأَلَ اللهَ تعالَى له الشِّفاءَ، فعَنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عَنْها قالَتْ: "كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا أَتَى المريضَ يَدْعو لَه قالَ: أذْهِبِ الباسَ؛ رَبَّ الناسِ، وَاشْفِ أنْتَ الشَّافِي، لا شِفاءَ إلاّ شِفاؤُكَ، شِفاءً لا يُغادِرُ سَقَماً"[أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ]، ومَنْ حَضَرَ مَريضاً قبْلَ أنْ يَدْنُوَ مِنْه الأجَلُ المَسْطورُ، فَلْيَدْعُ له الرحيمَ الغفورَ؛ بهذا الدُّعاءِ المأْثورِ؛ الذي أخرَجَه أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ مِنْ حديثِ عبدِاللهِ بنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"ما مِنْ عَبْدٍ مُسلمٍ يَعودُ مَريضاً لمْ يَحْضُرْ أجَلُهُ؛ فيقولُ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسأَلُ اللهَ العظيمَ؛ رَبَّ العرشِ العظيمِ؛ أنْ يَشْفِيَكَ: إلاّ عُوفِيَ"، ويُسَنُّ أنْ يُمْسَحَ عَلَى وَجْهِ المريضِ وبَطْنِهِ، لما في ذلِكَ من الرحْمَةِ بهِ المُذْهِبَةِ لهَمِّهِ وَحُزْنِهِ، فعَنْ سَعْدِ بنِ أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه - قالَ: " تَشَكَّيْتُ بمكةَ شَكْوىً شديدةً، فجاءَنِي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي، فقُلْتُ: يا نبيَّ اللهِ إنِّي أتْرُكُ مالاً، وإنِّي لَمْ أتْرُكْ إلاّ ابْنَةً واحِدَةً، فَأُوصِي بثُلُثَيْ مالِي؛ وأتْرُكُ(188/2)
الثُّلُثَ؟ فقالَ:لا.قلْتُ: فأُوصِي بالنِّصْفِ؛ وأتْرُكُ النِّصْفَ؟ قالَ: لا.قُلْتُ:فأُوصِي بالثُّلُثِ؛ وأتْرُكُ لها الثُلُثَيْنِ. قالَ: الثُّلُثُ؛ والثُّلُثُ كَثيرٌ،ثُمَّ وضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِي، ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِي وبَطْنِي، ثُمَّ قالَ: اللهمَّ اشْفِ سَعْداً، وأَتْمِمْ له هِجْرَتَهُ. فما زِلْتُ أَجِدُ بَرْدَهُ عَلَى كَبِدِي فِيما يُخالُ إليَّ حتَّى الساعَةِ"[أخرجَه البخاريُّ].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 18 من شعبان 1428هـ الموافق 31/8/2007 م
اشف أنت الشافي
الحمدُ للهِ الذي أنْزَلَ معَ كُلِّ داءٍ الدَّواءَ، وأسْبَلَ علَى المرضَى ثَوْبَ الطَّهورِ والشِّفاءِ، فلا رادَّ لأمْرِهِ يحكُمُ ما يُريدُ ويَفْعَلُ ما يشاءُ، أحمدُ ربِّي حمداً كثيراً طيِّباً مُبارَكاً فيه؛ وهوَ المحمودُ علَى السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له مِنَ الأمْثالِ والشُّرَكاءِ والنُّظَراءِ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا مُحمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ أفضلُ الرُّسُلِ وخاتَمُ الأنبياءِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ البرَرَةِ الأتْقِيَاءِ.
أمّا بعدُ: فأُوصيكم ونفسِي مَعْشَرَ الوَرَى، بتقْوَى الوَلِيِّ الموْلَى، فهيَ دَواءٌ لكُلِّ داءٍ وبَلْوَى، وهِيَ سَبَبُ الشِّفاءِ الأقْوَى.
مَعْشَرَ الأحْبابِ: إنَّ اللهَ تعالَى قَدَّرَ لكلِّ شيءٍ الأسبابَ، وجعلَ مِنْ أسبابِ ما يَنالُ بهِ العبدُ الثوابَ: ما يجرِي عليهِ مِنَ البلاءِ والمُصابِ، فإنَّ الصبرَ علَيْها علامةٌ علَى الخَيْريَّةِ بلا ارْتِيابٍ، فعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يُردِ اللهُ بهِ خَيْراً: يُصِبْ مِنْه" [أخرجَه البخاريُّ].(188/3)
وهذا عامٌّ في جميعِ المصائِبِ والعُيوبِ؛ فكلُّ ذلِكَ يَعُمُّهُ تكفيرُ الذُّنوبِ، فعَنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عَنْها أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"ما مِنْ مُصيبةٍ يُصابُ بها المسلمُ: إلا كُفِّرَ بها عَنْه، حتَّى الشَّوكةِ يُشاكُها" [أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ]، فمَنْ صبَرَ علَى هذهِ المصائِبِ والآلامِ: فإنَّهُ موعودٌ بدُخولِ الجنَّةِ دارِ السَّلامِ، واسْمَعُوا رَعاكمُ اللهُ تعالَى ما يُشَنِّفُ الأسْماعَ؛ ويَدْعُو إلى الصَّبْرِ علَى الأمراضِ والأوْجاعِ: قالَ عَطاءُ بنُ أبي رَباحٍ رحِمَهُ اللهُ تعالَى: قالَ لي ابنُ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما: أَلاَ أُرِيكَ امرأةً مِنْ أهْلِ الجنَّةِ؟ قلْتُ: بَلَى.قالَ:"هذِهِ المرأةُ السَّوداءُ، أتَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَتْ:"إنِّي أُصْرَعُ، وإنِّي أتكَشَّفُ، فادْعُ اللهَ لي. قالَ: إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ؛ولَكِ الجنَّةُ، وإنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أنْ يُعافِيَكِ.قالَتْ: أصْبِرُ، قالَتْ: فإنِّي أتكَشَّفُ، فادْعُ اللهَ أنْ لا أتكَشَّفَ، فدَعا لهَا"[أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ]، وكانَ مِنْ رحْمَةِ اللهِ تعالَى عَلَيْنا مَعْشَرَ الإخْوَةِ الفُضَلاءِ، أنْ شَرَعَ لنا ما نَدْفَعُ بهِ هذِهِ الآلامَ والأضْرارَ والأدْواءَ، فرَغَّبَنا في تَطَلُّبِ الدَّواءِ، الذي نُؤمِّلُ بهِ الشِّفاءَ، فعَنْ أُسامةَ بنِ شُرَيْكٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَتِ الأعرابُ يا رسولَ اللهِ؛ أَلاَ نَتَداوَى؟ قالَ: نَعَمْ يا عِبادَ اللهِ تَدَاوَوْا، فإنَّ اللهَ لم يَضَعْ داءً إلاّ وضَعَ له شِفاءً - أوْ قالَ دَواءً -؛ إلاّ داءً واحداً.قالوا: يا رسولَ اللهِ وما هُوَ؟ قالَ: الهَرَمُ" [أخرجَه أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ]، فمِنْ هذِهِ الأمورِ التي يُبْتَغَى بها الدواءُ والشفاءُ ما هُوَ مَعْنَويٌّ شَرْعيٌّ؛ ومِنْه ما هوَ حِسِّيٌّ مَرْعِيٌّ ، فأمَّا الأدْوِيَةُ المعنويَّةُ(188/4)
الشرعِيَّةُ: فأَجَلُّها قَدْراً مَعْشَرَ البَرِيَّةِ: قراءةُ القرآنِ الكريمِ، كما جاءَ في مُحْكَمِ الذِّكْرِ الحكيمِ: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } { يونس: 57-58 } .
وأرْجَى سُوَرِهِ الكريمةِ مَعْشَرَ الإخْوةِ الأحبابِ؛ التي يُرْجَى بقِراءتِها البُرْءُ مِنَ المُصابِ: فاتِحَةُ الكتابِ، فعَنْ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ - رضي الله عنه -: "أنَّ ناساً مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانوا في سَفَرٍ، فمرُّوا بحَيٍّ مِنْ أحياءِ العربِ فاستضافوهم فلَمْ يُضِيفوهم، فقالوا: هَلْ فيكم راقٍ؛ فإنَّ سَيِّدَ الحَيِّ لَديغٌ أوْ مُصابٌ؟ فقالَ رجلٌ مِنْهم: نَعَمْ، فأتاه فَرَقَاهُ بفاتحةِ الكتابِ، فَبَرَأَ الرَّجُلُ، فأُعْطِيَ قَطيعاً مِنْ غَنَمٍ، فأبَى أنْ يقبَلَها؛ وقالَ: حتَّى أذْكُرَ ذلك للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكَرَ ذلِكَ له، فقالَ: يا رسولَ اللهِ، واللهِ ما رَقَيْتُ إلاّ بفاتَحةِ الكِتابِ، فتبسَّمَ وقالَ: وما أدْراكَ أنَّها رُقْيَةٌ؟ ثُمَّ قالَ: خُذوا مِنْهم، واضْرِبوا لي بَسْهمٍ مَعَكم" [أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ].(188/5)
وكما أنَّ البرَكَةَ معْشَرَ المسلمينَ والمسلماتِ؛ في أوائِلِ ما في هذا القرآنِ الكريمِ مِنَ الآياتِ: فكذلِكَ هِيَ في أواخِرِ ما فيهِ مِنَ المُعَوِّذاتِ، فعَنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عَنْها قالَتْ: "كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا مَرِضَ أحَدٌ مِنْ أهْلِهِ: نَفَثَ عليهِ بالمُعَوِّذاتِ، فلمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الذي ماتَ فيهِ: جَعَلْتُ أنْفُثُ عليهِ، وأمْسَحُهُ بيَدِ نَفْسِهِ، لأنَّها كانَتْ أعظمَ بركَةً مِنْ يَدِي" [أخرجَه مسلمٌ] وقَدْ جعلَ اللهُ تعالَى البركَةَ في جَميعِ الرُّقَى؛ التي فيها تَوَسُّلٌ بالأسْماءِ الحُسْنَى والصِّفاتِ العُلَى، فعَنْ عُثمانَ بنِ أبي العاصِ الثقَفِيِّ - رضي الله عنه - أنَّه شَكا إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعاً يَجِدُهُ في جسدِهِ مُنْذُ أسْلَمَ، فقالَ له رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"ضَعْ يَدَكَ عَلَى الذي تَأَلَّمَ مِنْ جسَدِكَ وقُلْ:باسْمِ اللهِ ثلاثاً، وقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أعوذُ باللهِ وقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ ما أجِدُ وأُحاذِرُ"[أخرجَه مسلمٌ].(188/6)
ولا بُدَّ مِنَ التَّنَبُّهِ وَالتَّنْبِيهِ مَعْشَرَ البَرِيَّةِ؛ إلى أنَّ الرُّقْيَةَ الشَّرْعِيَّةَ:هيَ ما تَضَمَّنتْ ثلاثَةَ شروطٍ مَرْعِيَّةٍ: فأمَّا شَرْطُها الأوَّلُ:فأنْ تكونَ مُقْتَبسَةً مِنْ مُحْكَمِ الذِّكْرِ الحكيمِ، أوْ مِنْ كلامِ الرسولِ الكريمِ؛ عليهِ أفْضَلُ الصلاةِ وأزْكَى التَّسليمِ، وأمَّا شَرْطُها الثانِي:فأنْ تكونَ باللِّسانِ العربيِّ المُبينِ، أوْ بما يُفْقَهُ مَعْناهُ في ألْسِنَةِ العالَمِينَ، وأمَّا شرطُها الثالِثُ:فأنْ يُعْتَقَدَ أنَّها مِنْ جُمْلَةِ الأسبابِ، وأنَّ النَّفْعَ والضُّرَّ إنَّما بِيَدِ العزيزِ الوهَّابِ، وأمَّا الأدْوِيَةُ الحِسِّيَّةُ المرعِيَّةُ: فأنْفَعُها ما أوْصَى بهِ خَيْرُ البشريَّةِ، فمِنْ ذلِكَ ما أخرجَهُ البخاريُّ في صحيحِهِ مِنْ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الشِّفاءُ في ثلاثَةٍ: في شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أوْ كَيَّةٍ بنارٍ، وأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الكَيِّ".
فقَدِ اسْتَحَبَّ لنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - التَّداوِيَ بالحِجامَةِ والعَسَلِ وأخْبَرَ بأنَّ فيهما الشِّفاءَ، كما رَغَّبَنا في التَّداوِي كذلِكَ بالحبَّةِ السَّوْداءِ، فعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّه سَمِعَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ في الحبَّةِ السَّوْداءِ شِفاءً مِنْ كُلِّ داءٍ، إلاّ السَّامَ. والسَّامُ الموْتُ"[أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ]، ولا بَأْسَ أنْ يَسيرَ العَبْدُ في بَذْلِ سَبَبِ التَّداوِي السَّيْرَ الحَثيثَ، إذا اجْتَنَبَ مِنْ هذِهِ الأدْوِيَةِ ما هوَ مُحَرَّمٌ وخَبِيثٌ، فعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: " نَهَىَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الدَّواءِ الخَبِيثِ" [أخرجَه أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ وابنُ ماجَه].
معْشَرَ المؤمنينَ:(188/7)
إنَّ مِنْ أركانِ الإيمانِ بربِّ العالمَينَ؛ وأوْثَقِ عُرَى المِلَّةِ والدِّينِ: أنْ يصْبِرَ العبدُ علَى مُرِّ القَضاءِ والقَدَرِ، وأنْ يُقابِلَ بالتَّسليمِ ما نَزَلَ بهِ مِنَ الضَّرَرِ، فحَذَارِ حَذَارِ؛ مَعْشَرَ الإخوةِ الأخْيارِ: أنْ يستَبْدِلَ الْمُبتَلَى تَمنِّيَ الموْتِ بالصَّبْرِ والاصْطِبارِ، فعَنْ أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه -قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكمُ الموْتَ لضُرٍّ نزَلَ بهِ، فإنْ كانَ لا بُدَّ مُتَمنِّياً فَلْيَقُلْ: اللهمَّ أحْيِنِي ما كانَتْ الحياةُ خَيْراً لي، وتَوَفَّنِي إذا كانَتِ الوَفاةُ خيراً لي" [أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ]، رَزَقَنِي اللهُ وإيَّاكمُ الاستقامَةَ علَى ما أمرَنا بهِ في الفُرْقانِ والذِّكْرِ الحكيمِ، ووَفَّقَنا للاعتصامِ بما كانَ عليهِ النبيُّ الكريمُ؛ عليهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ وأزْكَى التسليمِ؛ مِنَ الهَدْيِ القَويمِ؛ والصِّراطِ المُسْتقيمِ.
أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ الغفورَ الحليمَ، لي ولكم مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وحَوْبٍ فتوبوا إليهِ واستغفروهُ إنَّه هوَ التَّوابُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذي جعَلَ الدَّواءَ إلى الظَّفَرِ بالشِّفاءِ سَبيلاً، وحَرَّكَ النُّفوسَ إلى الأخْذِ بالأسبابِ إيثاراً لطَلَبِهِ وتَحْصِيلاً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له لا أبْغِي سِوَاهُ رَبّاً ولا أتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ وَلِيّاً ولا وَكِيلاً،وأشهدُ أنَّ محمداً نبيُّ اللهِ المُرْسَلُ للإيمانِ القَوِيمِ مُنادِياً؛ وللصِّراطِ المُستقيمِ هادِياً؛ولجنَّةِ النعيمِ دَليلاً، فصلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ؛ صَلاةً وسلاماً لا أرومُ عَنْها انْتِقالاً ولا تَحْوِيلاً.(188/8)
أمَّا بعدُ: فيا مَعْشَرَ المسلمينَ: أُوصيكم ونفسِي بتَقْوَى رَبِّ العالمَينَ، فاسْتَمْسِكوا بها فهِيَ { شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } { الإسراء: 82 } .
أيُّها الأحبابُ: إنَّ مِنْ جُمْلَةِ ما شرَعَهُ اللهُ تعالَى مِنَ الأسبابِ؛ التَّي تُذْهِبُ الأحْزانَ وتُبْرِئُ الأمْراضَ وتُخَفِّفُ المُصابَ: عِيَادَةَ مَنْ مَسَّهُ النُصْبُ والعَذابُ، لِذا فقَدْ أمَرَ بها النبيُّ الكريمُ؛ عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأزْكَى التسليمِ، فعَنْ أبي موسى الأشْعَريِّ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "فُكُّوا العانِيَ- يَعْنِي الأسيرَ-، وأطْعِموا الجائَعَ، وعُودوا المريضَ" [أخرجَه البخاريُّ]، ويُشْرَعُ لمِنْ عَادَ المريضَ أنْ يَخُصَّهَ بالدُّعاءِ، وأنْ يَسْأَلَ اللهَ تعالَى له الشِّفاءَ، فعَنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عَنْها قالَتْ: "كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا أَتَى المريضَ يَدْعو لَه قالَ: أذْهِبِ الباسَ؛ رَبَّ الناسِ، وَاشْفِ أنْتَ الشَّافِي، لا شِفاءَ إلاّ شِفاؤُكَ، شِفاءً لا يُغادِرُ سَقَماً"[أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ]، ومَنْ حَضَرَ مَريضاً قبْلَ أنْ يَدْنُوَ مِنْه الأجَلُ المَسْطورُ، فَلْيَدْعُ له الرحيمَ الغفورَ؛ بهذا الدُّعاءِ المأْثورِ؛ الذي أخرَجَه أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ مِنْ حديثِ عبدِاللهِ بنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"ما مِنْ عَبْدٍ مُسلمٍ يَعودُ مَريضاً لمْ يَحْضُرْ أجَلُهُ؛ فيقولُ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسأَلُ اللهَ العظيمَ؛ رَبَّ العرشِ العظيمِ؛ أنْ يَشْفِيَكَ: إلاّ عُوفِيَ"، ويُسَنُّ أنْ يُمْسَحَ عَلَى وَجْهِ المريضِ وبَطْنِهِ، لما في ذلِكَ من الرحْمَةِ بهِ المُذْهِبَةِ لهَمِّهِ وَحُزْنِهِ، فعَنْ سَعْدِ بنِ أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه - قالَ: " تَشَكَّيْتُ بمكةَ شَكْوىً شديدةً، فجاءَنِي النبيُّ - صلى(188/9)
الله عليه وسلم - يَعُودُنِي، فقُلْتُ: يا نبيَّ اللهِ إنِّي أتْرُكُ مالاً، وإنِّي لَمْ أتْرُكْ إلاّ ابْنَةً واحِدَةً، فَأُوصِي بثُلُثَيْ مالِي؛ وأتْرُكُ الثُّلُثَ؟ فقالَ:لا.قلْتُ: فأُوصِي بالنِّصْفِ؛ وأتْرُكُ النِّصْفَ؟ قالَ: لا.قُلْتُ:فأُوصِي بالثُّلُثِ؛ وأتْرُكُ لها الثُلُثَيْنِ. قالَ: الثُّلُثُ؛ والثُّلُثُ كَثيرٌ،ثُمَّ وضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِي، ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِي وبَطْنِي، ثُمَّ قالَ: اللهمَّ اشْفِ سَعْداً، وأَتْمِمْ له هِجْرَتَهُ. فما زِلْتُ أَجِدُ بَرْدَهُ عَلَى كَبِدِي فِيما يُخالُ إليَّ حتَّى الساعَةِ"[أخرجَه البخاريُّ].
ويُكْرَهُ أنْ يُشَقَّ عَلَى المريضِ بما يَكْرَهُهُ مِنَ الأشْيَاءِ، بَلْ يُسْتَحَبُّ أنْ يُرْأَفَ بحالِهِ وما يُعالِجُهُ مِنَ الشِّدَةِ والبَلاءِ، فعَنْ عُقْبَةَ بنِ عامرٍ الجُهَنِيِّ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"لا تُكْرِهُوا مَرْضاكَمْ عَلَى الطَّعامِ، فإنَّ اللهَ يُطْعِمُهمْ وَيَسْقِيهم"[أخرجَه الترمذيُّ وابنُ ماجَه]، ولا بَأْسَ بِعيَادَةِ الكافِرِ إذا أصابَتْهُ الَّلأْوَاءُ وَالآلامُ، إذا رُجِيَ بعِيَادَتِهِ أنْ يَدْخُلَ في دِينِ الإسلامِ، فعَنْ أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه - قالَ:"كانَ غُلامٌ يهوديٌّ يَخْدِمُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فمَرِضَ، فأتاهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعودُهُ فقَعدَ عِنْدَ رأْسِهِ، فقالَ له: أَسْلِمْ، فنظَرَ إلى أبِيهِ وهوَ عِنْدَهُ، فقالَ لَه: أَطِعْ أبا القاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -، فخَرجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهَو يقولُ:الحمْدُ للهِ الذي أنقَذَهُ مِنَ النَّارِ" [أخرجَه البخاريُّ].(188/10)
اللهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ جنِّبْنا مُنْكَراتِ الأخْلاقِ والأهْواءِ والأَعْمالِ والأدْواءِ، اللهمَّ إنَّا نعوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ البَلاءِ، ودَرَكِ الشَّقاءِ، وَسُوءِ القَضاءِ، وشَماتَةِ الأعْداءِ، اللهمَّ إنَّا نَعوذُ بِكَ مِنْ زَوالِ نِعْمَتِكَ، وتَحَوُّلِ عافِيَتِكَ، وفُجاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجميعِ سَخَطِكَ، اللهمَّ إنَّا نَعوذُ بِكَ مِنَ البَرَصِ والجُنونِ والجُذامِ، ومِنْ سَيِّءِ الأَسْقامِ، اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احفظْهما بحفظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمنًا مُطمئِنّاً سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ.
…………………لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(188/11)
اطبع هذه الصحفة
وجاهدوا في الله حق جهاده
بعد أن أمر سبحانه بالصلاة ثم العبادة، وهما أمران مهمان في بناء شخصية المسلم وإنشاء علاقة حميمة بينهم وبين خالقهم تقيم صلة دائمة بين الخالق والمخلوق، وبعد العبادة الحقة أمر بفعل الخيرات، وجعله أساس الفلاح في الدنيا والآخرة، وهو العبادة في صورتها العملية لأن العبادة إذا اقتصرت على ترانيم يتمتم بها حاملوا الكتب، ويرددها سامعوا المواعظ والخطب فهي عبادة لم تحقق مراد الله، فما الفائدة من ادعاء الصلاح، وهو لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين، وقد نعى الله على فريق من الناس يصلون فقال الله تعالى لهم {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4، 5، 6، 7] فهو يصلى دون خشوع وحضور مكب، فلم تؤثر الصلاة على سلوكه، فنجده من المرائين عباد المظاهر الكاذبة، الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ونجده يتقاعس عن شىء بسيط ولو كان شيئاً من حاجيات البيت، كآلات الطبخ وغيرها، لا يرضى أن يعيرها لمحتاج إليها، ومع ذلك نراه يصلي، فويل لهم ثم ويل لهم فهم مكذبون بالدين، يدفعون اليتامى عن أبوابهم دفعاً فيه غلظة، ولا يمدون أيديهم لإعانة مسكين محتاج أو فقير مهتاج.
وجاهدوا في الله حق جهاده
الحمد لله رب العالمين، سبحانه هو أهل التقوى وأهل المغفرة، أحمده بما يليق بذاته، وأثنى عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له الملك الحق المبين.. وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، الرحمة المهداه، أرسله ربه بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً ليظهره على الدين كله، فوعى بحكمه، ودعا على بصيرة ، وساس بحزم... صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وأتباعه وأحبابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، واجزه اللهم عنا خير ما جزيت نبياً عن قومه، ورسولاً عن أمته.(189/1)
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
إن الله تعالى يأمر عباده المؤمنين بأوامر، هم أهل لتحملها وتنفيذها، فهو سبحانه لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولا يطلب من عباده إلا ما كان في مقدورهم، وحسب طاقاتهم، فهو رحيم بعباده، عالم بأحوالهم، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] فأصدر سبحانه الأوامر إلى عباده المؤمنين – وهم أحبابه يحبهم ويحبونه – فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * {س} وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 77 ،78].
( 2 )(189/2)
بعد أن أمر سبحانه بالصلاة ثم العبادة، وهما أمران مهمان في بناء شخصية المسلم وإنشاء علاقة حميمة بينهم وبين خالقهم تقيم صلة دائمة بين الخالق والمخلوق، وبعد العبادة الحقة أمر بفعل الخيرات، وجعله أساس الفلاح في الدنيا والآخرة، وهو العبادة في صورتها العملية لأن العبادة إذا اقتصرت على ترانيم يتمتم بها حاملوا الكتب، ويرددها سامعوا المواعظ والخطب فهي عبادة لم تحقق مراد الله، فما الفائدة من ادعاء الصلاح، وهو لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين، وقد نعى الله على فريق من الناس يصلون فقال الله تعالى لهم {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [الماعون: 4، 5، 6، 7] فهو يصلى دون خشوع وحضور مكب، فلم تؤثر الصلاة على سلوكه، فنجده من المرائين عباد المظاهر الكاذبة، الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ونجده يتقاعس عن شىء بسيط ولو كان شيئاً من حاجيات البيت، كآلات الطبخ وغيرها، لا يرضى أن يعيرها لمحتاج إليها، ومع ذلك نراه يصلي، فويل لهم ثم ويل لهم فهم مكذبون بالدين، يدفعون اليتامى عن أبوابهم دفعاً فيه غلظة، ولا يمدون أيديهم لإعانة مسكين محتاج أو فقير مهتاج.
أيها المسلمون:(189/3)
بعد ذلك البيان العظيم لحقيقة الإيمان الصادق، نرى دعوة من الله تعالى للبذل والتضحية والفدائية، وليس بذل أي شيء، أو التضحية بأي شيء، وإنما هو بذل النفس والمال والتضحية بالأهل والولد، بل بالدنيا كلها رخيصة في سبيل مرضاة الله تعالى حين يدعو عباده للجهاد في سبيله لإعلاء كلمة الحق، والدفاع عن الإيمان بالله في الأرض {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ} [البقرة: 193] وهو أمر شاق على النفس لا يقبله كل إنسان، فليس كل إنسان مؤمناً وليس كل مؤمن عاملاً، وليس كل عامل مجاهداً، وليس كل مجاهد صادقاً، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] وكيف لا؟ وفيه قتل وإصابة، وبيع للنفس والمال والأهل، وترك لمتع الدنيا الفانية، وتفضيل ما عند الله على ما عند الناس، مواقف صعبة يبتلى الإنسان بها وهو واقف أمام الموت غير مبال به.
وهذا حنظلة بن أبي عامر حين يسمع النداء للجهاد في غزوة أحد يترك زوجته ليلة زفافها وهي ليلة يفرح بها الشباب، وينزل إلى أرض المعركة فيقع شهيداً فيراه الرسول صلى الله عليه وسلم بين القتلى فيقول: لقد خرج حنظلة جنباً فغسلته الملائكة.
( 3)
وهذا عمير بن الحمام يسمع نداء رسول الله على الجنود: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض فيقول: بخ بخ أهي جنة عرضها السماوات والأرض يا رسول الله؟ فيقول الرسول (صلي الله عليه وسلم) نعم. وكانت في يده تمرات فألقى بها وقال: لئن بقيت حتى أفرغ من أكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة، ونزل إلى المعركة فاستشهد فرآه رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فقال: صدق الله فصدقه الله.(189/4)
وكان الرجل من المسلمين يخرج إلى الجهاد فيقول: اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك ولا تردنا خائبين، هذا هو منطق المؤمن الحق حين يقبل الجهاد في سبيل الله فريضة محببة إلى نفسه، فهو يبرم صفقة رابحة مع الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111] إنها صفقة رابحة، وتجارة لن تبور لأنها مع الله، فالأنفس لله والأموال لله ومع ذلك يعطينا عليها جزاء حسناً ألا وهو الجنة.
أيها المسلمون:(189/5)
كثير من الناس يحسنون القول في الجهاد وليسوا مجاهدين، فنراهم أول الفارين عندما يحمى الوطيس وتدور رحى الحرب، ونراهم أول الساكتين عن قول الحق وشهادة الحق، فرجل القول غير رجل العمل، ورجل العمل غير رجل الجهاد، ورجل الجهاد الصادق، غير رجل الجهاد غير الصادق، ولقد ضرب الله تعالى لنا المثل بقصة طالوت وجنوده حين طلبت بنو إسرائيل من نبيهم ملكاً يقاتلون به في سبيل الله، فلما جاءهم الملك تولوا إلا قليلاً منهم، وثبت بعضهم مع الملك، فلما اختبروا بالنهر حيث طلب منهم ألا يشربوا منه، فشربوا منه إلا قليلاً منهم وبقيت قلة قليلة مع الملك نجحت في هذا الاختبار، فلما رأوا جيش العدو قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، ثم بقيت فئة من أقل القليل هم الصادقون المخلصون الذين يظنون أنهم ملاقوا الله هم الذين خاضوا المعركة وانتصروا مع قلتهم، يقول الله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ..} [البقرة: 249، 250، 251].
إن الجهاد لا بد أن يسبقه إعداد ونية صادقة، وقوة إيمانية خارقة، تغيظ أعداء الله وتؤمن أولياءه
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
( 4 )(189/6)
إن الجهاد في الإسلام لم يشرع لإذلال الشعوب وإرهابهم وإنما شرع لإعلاء كلمة الله بإزاحة الطواغيت التي تقف حجر عثرة في وجه دعوة الله، وقد شرع لنا ربعي بن عامر رضي الله عنه أهداف الجهاد حين خاطب بها قائد الفرس قائلاً له: إن الله قد ابتعثنا إليكم لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، إن الجهاد فيه عز الأمم وإعلاء لكرامة الإنسان، وتحريره من الجبابرة الشداد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5، 6] يقول الرسول (صلي الله عليه وسلم): "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة، وذروه سنامه الجهاد" [رواه الترمذي].
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(189/7)
اطبع هذه الصحفة
المعجزة الخالدة
قالَ اللهُ تعالَى: { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } { الإسراء: 88 } ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ فقالَ: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلَِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } { هود 13ـ 14 }
فَما أَحَارُوا جَوَاباً.ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ أنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُ فقالَ سبحانَهُ: { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } { البقرة 23ـ24 } فلَمْ يَسْتَطِيعوا إلى ذلِكَ سَبِيلاً، واسْتَمَرَّ التَّحَدِّي إلى الأَبَدِ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 25 من شعبان 1428هـ الموافق 7/9/2007 م
المعجزة الخالدة(190/1)
الحمدُ للهِ الذي نَزَّلَ الفُرْقَانَ علَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالمَينَ نَذيراً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، أَنْزَلَ كِتابَهُ العَزيزَ يَهْدِي لِلَّتي هِيَ أقْوَمُ، ويُبَشِّرُ المؤمنينَ الذينَ يَعْمَلونَ الصَّالِحاتِ أنَّ لَهم أَجْراً كَبِيراً، وجَعَلَهُ مُعْجِزاً فلَوِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ لا يَأْتُونَ بمِثْلِهِ ولَوْ كانَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ ظَهيراً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ بَعَثَهُ رَبُّهُ هادِياً وبَشيراً، وداعِياً إلى اللهِ بإذْنِهِ وَسِراجاً مُنيراً،- صلى الله عليه وسلم - وعَلَى آلِهِ وأصْحابِهِ الذين عَمِلُوا بالقرآنِ علَى عِلْمٍ، وانْشَرَحُوا بِهِ صُدُوراً.
أمَّا بعدُ:
فأُوصيكم ـ أيُّها المؤمنونَ ـ ونَفْسِي بتقْوَى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فإنَّ الفَوْزَ في أنْ تَتَّقُوا، وأنْ تَعْتَصِمُوا بحَبْلِ اللهِ جَميعاً وَلا تَتَفَرَّقُوا،واعْلَمُوا أنَّ أصْدَقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وعَلَيْكُم بالجَماعَةِ فإنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الجَماعَةِ، ومَنْ شَذَّ شَذَّ في النَّارِ.
مَعْشَرَ المسلمينَ الأخْيارِ:(190/2)
لَقَدْ أرْسَلَ اللهُ الرُّسُلَ مُبَشِّرينَ ومُنْذِرينَ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكُتُبَ، وأيَّدَهُمْ بالمُعْجِزاتِ الَّتي تَدُلُّ علَى صِدْقِهم ، وتُبَرْهِنُ عَلَى أمانَتِهم. ولمَّا كانَ الناسُ مُتَفاوِتينَ في عُقُولِهم ومَدارِكِهم، وَمُخْتَلِفينَ في بِيئَاتِهم وطَبائِعِهِم فَقْد آتَى اللهُ كُلَّ نَبِيٍّ مِنَ الأنْبِياءِ- علَيْهمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ مُعْجِزَةً تُناسِبُ قَوْمَه، فلمَّا كانَ السِّحْرُ فاشِياً في قَوْمِ مُوسَى - عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ـ أيَّدَ اللهُ تعالَى مُوسَى بالْعَصا فتَلَقَّفَتْ ما صَنَعُوا مِنْ باطِلٍ في حِبالِهم وعِصِيِّهمُ الَّتي سَحَرُوا بِها أعْيُنَ النَّاسِ { فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ*فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ*وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ*قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ*رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } { الأعراف 118ـ122 } .(190/3)
وحِينَ كانَ الزَّمَنُ الذي يَعِيشُ فيه عِيسَى ـ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ـ قَدْ فَشَا فيهِ الطِّبُّ وبَرَعَ فيهِ قَوْمُه؛ آتاهُ اللهُ تعالَى مُعْجِزَةً مِنْ جِنْسِ ما تَفَوَّقَ فيهِ قَوْمُهُ؛ فكانَ يُحْيِي المَوْتَى؛ ويُبْرِئُ الأَبْرَصَ و الأَكْمَهَ الذي يُولَدُ أعْمَى، ويَخْلُقُ لَهمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئِةِ الطَّيْرِ فَينْفُخُ فيهِ فَيَكُونُ طَيْرا ًبإذْنِ اللهِ، فلَمْ يَكُنْ لَهم مِنْ بُدٍّ في وَجْهِ هذِهِ المُعْجِزاتِ الباهِرَةِ التي فاقَتْ طاقاتِهم وقُدُراتِهم إلاَّ أنْ أذْعَنُوا أنَّها مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ. ولمَّا كانَ العَرَبُ أَرْبابَ الفَصاحَةِ وَالبَلاغَةِ، وفُرْسانَ الخَطابَةِ وَالبَيَانِ، جَعَلَ اللهُ مُعْجِزَةَ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ جِنْسِ ما تَفَوَّقُوا فيهِ، وقَدْ تَحَدَّى اللهُ الإِنْسَ والجِنَّ أنْ يَأْتُوا بِمثْلِهِ فَعَجَزُوا.
قالَ اللهُ تعالَى: { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } { الإسراء: 88 } ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ فقالَ: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلَِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } { هود 13ـ 14 }(190/4)
فَما أَحَارُوا جَوَاباً.ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ أنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُ فقالَ سبحانَهُ: { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } { البقرة 23ـ24 } فلَمْ يَسْتَطِيعوا إلى ذلِكَ سَبِيلاً، واسْتَمَرَّ التَّحَدِّي إلى الأَبَدِ.
عِبادَ اللهِ:(190/5)
إنَّ اللهَ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ أنزَلَ كِتابَهُ العَزيزَ هُدًى للنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الهُدَى والفُرْقانِ، أَنْزَلَهُ سبحانَهُ بعِلْمِهِ: مَنْهَجَ حَياةٍ، وأُسَّ شَريعَةٍ، ودُسْتُورَ أُمَّةٍ، وجعَلَهُ خاتِمَ الكُتُبِ لخاتِمَةِ الرِّسالاتِ وعَلَى خاتَمِ المُرْسَلِينَ - صلى الله عليه وسلم -، وقَدْ حَوَى كَثيراً مِنْ عُلومِ الشَّرائِعِ الأُولَى ومبادِئِها وَأَخْلاقِها، وزادَ عَلَيْها حتَّى صارَ ناسِخاً لَها ومُهَيْمِناً عَلَيْها. فيهِ نَبَأُ ما قَبْلَنا، وخَبَرُ ما بَعْدَنا، وحُكْمُ ما بَيْننَا، هُوَ الفَصْلُ ليْسَ بالهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، ومَنِ ابْتَغَى الهُدَى في غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللهُ، وهُوَ حَبْلُ اللهِ المَتِينُ، وهوَ الذِّكْرُ الحَكيمُ وَالصِّراطُ المُسْتَقيمُ، لا تَزِيغُ بهِ الأَهْواءُ، ولا يَشْبَعُ مِنْهُ العُلَماءُ، ولا تَلْتَبِسُ مِنْهُ الأَلْسُنُ،ولا يَبْلَى عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، ولا تَنْقَضِي عَجائِبُهُ، وهوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الجِنُّ إذْ سَمِعَتْهُ حتَّى قالوا: إنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إلى الرُّشْدِ. مَنْ قالَ بهِ صَدَقَ، ومَنْ حَكَمَ بهِ عَدَلَ، ومَنْ عَمِلَ بهِ أُجِرَ، ومَنْ دَعا إليْهِ هُدِيَ إلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ. إنَّه مُعْجِزَةُ المُعْجِزاتِ، وأعْظَمُ الآياتِ الخَالِدَاتِ، سَمَّاهُ اللهُ نُوراً وذِكْراً وفُرْقاناً وَوَحْياً وَرُوحاً، أَحْيَا بهِ أَرْوَاحا ًبالنُّورِ وَالهِدايَةِ، فَفَرَّقَ بهِ بَيْنَ الحَقِّ وَالباطِلِ، وَوَصَفَهُ سبحانَهُ وتعالَى بقولِهِ: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } { يونس: 57 } .(190/6)
وجَعلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ الخَيْرِيَّةَ لأَهْلِهِ، وَالأَفْضَلِيَّةَ لحَمَلَتِهِ، فَقَدْ رَوَى أَنَسٌ رضِيَ اللهُ عَنْه أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"إنَّ للهِ – عَزَّ وجَلًَّ – أهْلِينَ مِنَ النَّاسِ. قِيلَ مَنْ هُمْ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ:" أَهْلُ القُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخاصَّتُهُ"[أخرجَه أحمدُ وابنُ ماجَه].
وسَيَكونُ شَفيعاً لأَصْحابِهِ يَوْمَ القِيامَةِ، فعَنْ أَبِي أُمامَةَ - رضي الله عنه -قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ شَفِيعاً لأَصْحابِهِ"[أخرجَه مسلمٌ].
وجعَلَ اللهُ تعالَى الخَيْرِيَّةَ لِمَنْ تَعَلَّمَهُ ثُمَّ عَلَّمَهُ النَّاسَ؛ فَفِي البخاريِّ عَنْ عُثْمانَ بنِ عَفَّانَ- رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ".
وكَمْ مِنْ أقْوامٍ رُفِعُوا بالقرآنِ العَظيمِ فَسَمَا بِهِمْ مِنْ رُعَاةٍ لِلْغَنَمِ إلى قادَةٍ لِلْأُمَمٍ!!، وكَمْ مِنْ أنُاسٍ وُضِعُوا بِبُعْدِهِمْ عَنْ هَدْيِهِ الكَريمِ وتَجَنُّبِهِمْ صِرَاطَهُ المُسْتَقيمَ!!، وصَدَقَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذْ قالَ:"إنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذا الكِتابِ أَقْوَاماً ويَضَعُ بهِ آخَرِينَ" [أخرجَه مسلمٌ مِنْ حديثِ عمرَ - رضي الله عنه -].
مَنْ أَجادَهُ وأَتْقَنَ لَفْظَهُ وحَفِظَ حُدُودَهُ رُفِعَ في عِلِّيِّينَ، وَكانَ مَعَ البَرَرَةِ المُطِيعينَ؛ كَما رَوْتَ عائشةُ رضِيَ اللهُ عَنْها عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ:" الماهِرُ بالقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ، وَالذي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرانِ"[أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ واللفظُ له].
إخْوَةَ الإيمانِ:(190/7)
ومَنْ قَرَأَ مِنْهُ حَرْفاً كانَ لَه بهِ حَسَنَةٌ، والحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثالِها إلى أَضْعافٍ كَثِيرَةٍ، وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ؛ فعَنِ ابنِ مَسْعودٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ قَرَأَ حَرْفاً مِنْ كِتابِ اللهِ فلَهُ حَسَنَةٌ، والحسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثالِها، لا أقولُ:(ألم) حَرْفٌ، ولَكِنْ:أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ"[أخرجَه الترمذيُّ]. وعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عمروِ بنِ العاصِ رضِيَ اللهُ عَنْهما عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:" يُقَالُ لِصاحِبِ القُرْآنِ:اقْرَأْ وارْتَقِ وَرَتِّلْ كَما كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيا فإنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا " [أخرجَه أبو داودَ والترمذيُّ].
بارَكَ اللهُُ لي ولكمْ في القُرْآنِ العظيمِ، ونفَعَنِي وإيَّاكم بما فيهِ مِنَ الآياتِ وَالذِّكْرِ الحَكيمِ، أقُولُ ما تَسْمعونَ وأستغفرُ اللهَ العَلِيَّ العظيمَ لي ولكم؛ فاستغفروهُ إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ .
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذِي أنْزَلَ القُرْآنَ في شَهْرِ رَمضانَ؛ هُدًى للناسِ و بَيِّناتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقانِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، عامَلَ أهْلَ الإحْسانِ بالإحْسانِ، وأهْلَ الإساءَةِ بالعَفْوِ والغُفْرانِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ المبعوثُ بالهُدَى وَالرَّحْمَةِ إلى الإنْسِ والجانِّ، صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعَلَى آلِهِ وصحْبِهِ أُولِي الفضْلِ وَالعِرْفانِ.
أمَّا بعدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبادَ اللهِ ـ وتَزَوَّدُوا فإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا مِنَ الدِّينِ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى، وأَقْبِلوا عَلَى كتابِ رَبِّكمْ ـ جَلَّ وعَلا ـ فإنَّهُ الحُجَّةُ البالِغَةُ والسَّبَبُ الأَقْوَى.
أُمَّةَ القُرْآنِ العَظيمِ:(190/8)
سَتَسْتَقْبِلونَ ـ بعْدَ أيامٍ قَليلةٍ ـ شَهْراً مِنْ أَفْضَلِ الشُّهورِ، تُمْحَى فيهِ السيِّئاتُ وتُضاعَفُ فيهِ الحَسَناتُ والأُجورُ، فاستَعِدُّوا لاسْتِقْبالِهِ؛ فإنَّهُ الوافِدُ الكَرِيمُ، وَالمَوْسِمُ المُبارَكُ العَظيمُ، وَاسْتَعِينُوا باللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ عَلَى صِيَامِ نَهارِهِ وقِيَامِ لَيالِيهِ، وتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَبِّكم ـ سبحانَهُ وتعالَى ـ فِيهِ .
إنَّهُ - يا عِبادَ اللهِ - شَهْرُ الصِّيامِ والقِيَامِ، وَالصَّدَقَةِ وَإطْعامِ الطَّعامِ، شهرُ مُوَاساةِ الفُقَراءِ والأَرامِلِ والأيْتامِ، شَهْرُ القُرآنِ وَالِبرِّ وَالإحْسانِ. فأَقْبِلُوا ـ يا رَعاكُمُ اللهُ ـ عَلَى مائِدَةِ القُرآنِ، فهوَ حَبْلُ اللهِ المتَينُ والنُّورُ المُبِينُ، أَحِلُّوا حَلالَهُ، وحَرِّمُوا حَرَامَهُ، اقْرَؤُوهُ بتَدَبُّرٍ وَسَكِينَةٍ؛ فَفِي قِراءَتِهِ انْشِرَاحٌ وطُمَأْنِينَةٌ.(190/9)
وَقدْ كانَ سَلَفُنا الصَّالِحُ ـ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهم ـ يَتَسابَقُونَ إلى الطَّاعَةِ وَتِلاوَةِ القُرْآنِ في شَهْرِ رمضانَ حتَّى كأنَّما خُصَّ رمضانُ بالقرآنِ، فكانُوا يَعْكُفُونَ علَيْهِ قِراءَةً وَتَدَبُّراً، وبُكاءً وَتَخَشُّعاً، يَهْجُرونَ المضاجِعَ لأَجْلِهِ، ويَسْتَغْنُونَ عَنِ الطَّعامِ والشَّرابِ غَنَاءً بِفَضْلِهِ. وكانَ جِبْريلُ ـ عليهِ السَّلامُ ـ يُدارِسُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - القرآنَ في رمضانَ. وكانَ عُثمانُ - رضي الله عنه - يَخْتِمُهُ في كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً، وكانَ للشَّافِعيِّ ـ رحِمَهُ اللهُ ـ في رمضانَ سِتُّونَ خَتْمَةً، ومِنْهم مَنْ كانَ يَخْتِمُهُ في قِيامِ رَمضانَ في كُلِّ ثَلاثِ لَيَالٍ، وبَعْضُهم في كُلِّ سَبْعٍ، وبَعضُهم في كُلِّ عَشْرٍ. وكانَ قَتادَةُ ـ رحِمَهُ اللهُ ـ يَخْتِمُهُ في رَمضانَ في كُلِّ ثَلاثٍ، وَفِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ يَخْتِمُهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ. وكانَ الزُّهْرِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ـ رحِمَهما اللهُ ـ إذا دَخَلَ رمضانُ تَرَكا مجالِسَ العِلْمِ وعَكَفا عَلَى تِلاوَةِ القرآنِ الكريمِ.
قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ - رضي الله عنه -:"يَنبْغِي لِقارِئِ القرآنِ أنْ يُعْرَفَ بِلَيْلِهِ إذِ النَّاسُ نائِمُونَ، وبنَهارِهِ إذِ النَّاسُ مُفْطِرونَ، وَبِبُكِائهِ إذِ النَّاسُ يَضْحَكُونَ، وَبِوَرَعِهِ إذِ النَّاسُ يَخْلِطُونَ، وبِصَمْتِهِ إذِ النَّاسُ يَخُوضُونَ، وَبِخُشُوعِهِ إذِ النَّاسُ يَخْتالُونَ".(190/10)
اللهمَّ اجْعَلِ القُرآنَ العَظيمَ رَبِيعَ قُلُوبِنا وَنُورَ صُدُورِنا، وذَهَابَ هُمُومِنا وجَلاءَ أَحْزَانِنَا، وقائِدَنا وَسَائِقَنا إليْكَ وإلى جَنَّاتِكَ جَنَّاتِ النَّعيمِ، ودَارِكَ دَارِ السَّلامِ. اللهمَّ ذَكِّرْنا مِنْهُ ما نُسِّينَا، وَعَلِّمْنا مِنْه ما جَهِلْنا، وَارْزُقْنا تِلاوَتَهُ آناءَ الليلِ وأطْرافَ النَّهارِ، وَاجْعَلْهُ حُجَّةً لَنا وَلا تَجْعَلْهُ حُجَّةً عَلَيْنا.اللهمَّ بَلِّغْنا رَمَضانَ، وَوَفِّقْنا فيهِ لأَعْمالِ القَبُولِ وَالرِّضْوانِ، اللهمَّ اغْفِرْ للمسلمينَ والمسلماتِ وَللِمْؤمنينَ والمؤمناتِ؛ الأحياءِ مِنْهم والأَمْواتِ. اللهمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أمْرِنا لما فيهِ خَيْرُ العِبادِ والبِلادِ. رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنْتَ السَّميعُ العليمُ.
…………لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(190/11)
اطبع هذه الصحفة
كتب عليكم الصيام
أمَّا بعدُ:
فاتَّقُوا اللهَ في السرِّ والإِعْلانِ، وراقِبُوهُ فإنَّهُ مَعَكم بعِلْمِهِ في كُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ، وتَزَوَّدُوا مِنَ التَّقْوَى في شهرِ رمضانَ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } { البقرة: 183 } .
وَاعْلَمُوا أنَّ الصِّيامَ مِنْ أركانِ الدِّينِ وشُعَبِ الإِيمانِ، وشَهْرَهُ الذِي فُرِضَ فيهِ مِنْ أفْضَلِ الشُّهُورِ وأَشْرَفِ الأَزْمانِ، فعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"أَتاكم رَمَضانُ، شَهْرٌ مُبارَكٌ، فَرَضَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ علَيْكم صِيامَهُ، تُفْتَحُ فيهِ أَبْوابُ السَّماءِ، وتُغْلَقُ فيهِ أَبْوابُ الجَحِيمِ، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشََّياطِينِ، للهِ فيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَها فَقَدْ حُرِمَ" [رواه أحمدُ والنسائيُّ واللفظُ له]، شهرُ رمضانَ للمُتَّقينَ أيَّامُ صَوْمٍ وصَلاةٍ، وصِلَةٍ وزَكاةٍ، وَبِرٍّ ومُواساةٍ، وَعُكُوفٍ علَى تِلاوَةِ كتابِ اللهِ، وإقْبالٍ علَى طاعَتِهِ ورِضاهُ، والمَحْرومُ عَنْ هَذا كُلِّهِ سَاهٍ، لاهٍ، لَمْ يَعْرِفْ حَقَّ رَبِّهِ الذي خَلَقَهُ فسَوَّاهُ، بَلْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ وَاتَّبَعَ هَواهُ، فيا لَيْتَ شِعْرِي أَلَمْ يَسْمَعْ إلى قَوْلِ مَوْلاهُ:"الصَّوْمُ لِي وأَنا أَجْزِي بهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وأَكْلَهُ وشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، ولِلصَّائِمِ فَرْحَتانِ: فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ، وفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ، ولَخُلُوفُ فَمِ الصائِمِ:أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ" [أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة(191/1)
بتاريخ 2 من رمضان 1428هـ الموافق 14/9/2007 م
كتب عليكم الصيام
الحمدُ للهِ الكريمِ الوهَّابِ، جَعَلَ الصِّيامَ جُنَّةً مِنَ العَذابِ، وأَضافَهُ إليهِ وجَعَلَ ثَوابَهُ لَدَيْهِ بغَيْرِ حِسابٍ، وفضَّلَ شهرَ رمضانَ علَى غَيْرِهِ مِنَ الشُّهورِ فأنْزَلَ فيهِ خَيْرَ كِتابٍ، وخَصَّ فيهِ هذِهِ الأُمَّةَ بمَزيدِ التَّكْريمِ وَالثَّوابِ، ومَنَحَهم ما لا يُحْصَى مِنْ فَيْضِ النَّوالِ وقَبُولِ الأَعْمالِ ورَفْعِ الكَلامِ المُسْتَطابِ، وقَبُولِ الدُّعاءِ المُسْتجابِ، أحْمَدُ رَبِّي حَمْدَ مَنْ تابَ إليهِ وأَنابَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له غافِرُ الذَّنْبِ وقابِلُ التَّوْبِ شَديدُ العِقابِ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ المبعوثُ بالحِكْمَةِ وفَصْلِ الخِطابِ، صَلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعَلَى الآلِ والأَصْحابِ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يَوْمِ المآبِ.
أمَّا بعدُ:
فاتَّقُوا اللهَ في السرِّ والإِعْلانِ، وراقِبُوهُ فإنَّهُ مَعَكم بعِلْمِهِ في كُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ، وتَزَوَّدُوا مِنَ التَّقْوَى في شهرِ رمضانَ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } { البقرة: 183 } .(191/2)
وَاعْلَمُوا أنَّ الصِّيامَ مِنْ أركانِ الدِّينِ وشُعَبِ الإِيمانِ، وشَهْرَهُ الذِي فُرِضَ فيهِ مِنْ أفْضَلِ الشُّهُورِ وأَشْرَفِ الأَزْمانِ، فعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"أَتاكم رَمَضانُ، شَهْرٌ مُبارَكٌ، فَرَضَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ علَيْكم صِيامَهُ، تُفْتَحُ فيهِ أَبْوابُ السَّماءِ، وتُغْلَقُ فيهِ أَبْوابُ الجَحِيمِ، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشََّياطِينِ، للهِ فيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَها فَقَدْ حُرِمَ" [رواه أحمدُ والنسائيُّ واللفظُ له]، شهرُ رمضانَ للمُتَّقينَ أيَّامُ صَوْمٍ وصَلاةٍ، وصِلَةٍ وزَكاةٍ، وَبِرٍّ ومُواساةٍ، وَعُكُوفٍ علَى تِلاوَةِ كتابِ اللهِ، وإقْبالٍ علَى طاعَتِهِ ورِضاهُ، والمَحْرومُ عَنْ هَذا كُلِّهِ سَاهٍ، لاهٍ، لَمْ يَعْرِفْ حَقَّ رَبِّهِ الذي خَلَقَهُ فسَوَّاهُ، بَلْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ وَاتَّبَعَ هَواهُ، فيا لَيْتَ شِعْرِي أَلَمْ يَسْمَعْ إلى قَوْلِ مَوْلاهُ:"الصَّوْمُ لِي وأَنا أَجْزِي بهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وأَكْلَهُ وشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، ولِلصَّائِمِ فَرْحَتانِ: فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ، وفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ، ولَخُلُوفُ فَمِ الصائِمِ:أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ" [أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -].
فهَنِيئاً لَكَ إِذا تَعَرَّضْتَ في هَذا الشهرِ الكريمِ: لخَيْرِ الرَّبِّ العَميمِ، فالخَيْرُ مِدْرارٌ؛ في النَّهارِ وفي الأَسْحارِ.(191/3)
فَفِي النَّهارِ مَعْشَرَ الإِخْوَةِ الأَحْبابِ: دُعاؤكُمْ مُسْتَجابٌ؛ بإذْنِ العزيزِ الوَهَّابِ، فقَدْ أخرَجَ أحمدُ وَابنُ ماجَه عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهم: الإِمامُ العَادِلُ، والصّائِمُ حتَّى يُفْطِرَ، ودَعْوَةُ المَظْلُومِ".
ولا تَنْسَوْا مَعْشَرَ الإِخْوَةِ الأخْيارِ: أنْ تَتَعَرَّضُوا في الأَسْحارِ، لنَفَحاتِ العزيزِ الغفَّارِ، فَادْعُوا اللهَ وأَكْثِرُوا مِنَ الاسْتِغْفارِ، فقَدْ أخرَجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنا تبارَكَ وتعالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ الليْلِ الآخِرُ، فيقولُ: مَنْ يَدْعُونِي فأَسْتَجِيبَ له، ومَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، ومَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فأغْفِرَ له".
وَاجْعَلُوا أيْدِيَكُم بالإِنْفاقِ مَنُوحَةً، وَاعْلَمُوا أنَّ أبْوابَ الجَنَّةِ لِلْمُتَصَدِّقينَ مَفْتُوحَةٌ، فعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ في سبيلِ اللهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوابِ الجنَّةِ: يا عبدَ اللهِ؛ هَذا خَيْرٌ، فمَنْ كانَ مِنْ أهْلِ الصَّلاةِ: دُعِيَ مِنْ بابِ الصلاةِ، ومَنْ كانَ مِنْ أهْلِ الجِهادِ: دُعِيَ مِنْ بابِ الجِهادِ، ومَنْ كانَ مِنْ أهْلِ الصِّيامِ: دُعِيَ مِنْ بابِ الريَّانِ، ومَنْ كانَ مِنْ أهْلِ الصَّدَقَةِ: دُعِيَ مِنْ بابِ الصَّدَقَةِ" [أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ].(191/4)
وهَنِيئاً لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ تعالَى لِعُمْرَةٍ في هَذا الشهْرِ، فإنَّ فَضْلَها يَعْدِلُ حَجَّةَ العُمْرِ، فاسْمَعْ لِهذا الحديثِ الشريفِ وَعِ: "إنَّ عُمْرَةً في رمَضانَ تَقْضِي حَجَّةً مَعِي" [أخرجَه البخاريُّ مِنْ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما]، وَيا وَيْحَ مَنِ انْقَطَعَ في هَذا الشهرِ الكريمِ عَنْ رُفْقَةِ الْمُتَّقِينَ الأَبْرارِ، { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } { ص: 28 } .
فَيا أَيُّها العامِلُ: هَذا أَوَانُ الجِدِّ وَالاجْتِهادِ، ويا أَيُّها الغافِلُ: هَذا زَمانُ التَّيَقُّظِ وإِعْدادِ الزَّادِ.
يا ذَا الذِي ما كَفَاهُ الذَّنْبُ في رَجَبٍ حتَّى عَصَى رَبَّهُ في شَهْرِ شَعْبَانِ
لَقَدْ أَظَلَّكَ شَهْرُ الصَّوْمِ بَعْدَهُما فَلا تُصَيِّرْهُ أَيْضاً شَهْرَ عِصْيَانِ
وَاتْلُ القُرَانَ وَسَبِّحْ فيهِ مُجْتَهِداً فإنَّهُ شَهْرُ تَسْبيحٍ وَقُرْآنِ
فاحْمِلْ علَى جَسَدٍ تَرْجُو النَّجاةَ لَهُ فَسوْفَ تُضَمُّ أجْسَادٌ بِنيرانِ
كَمْ كُنْتَ تَعْرِفُ مِمَّنْ صامَ في سَلَفٍ مِنْ بَيْنِ أهلٍ وَجيرانٍ وإِخْوَانِ
أَفْناهُمُ الموْتُ وَاسْتَبْقاكَ بَعْدَهُمُ حَيّاً فَما أقْرَبَ القاصِي مِنَ الدَّانِي
وَمُعْجَبٌ بِثيابِ العِيدِ يَقْطَعُها فأَصْبَحَتْ في غَدٍ أثْوابَ أَكْفانِ
حتَّى متَى يَعْمُرُ الإنسانُ مَسْكَنَهُ مَصِيرُ مَسْكَنِهِ قَبْرٌ لإنْسانِ
جَعَلَنِي اللهُ وإيَّاكم مِمَّنْ تَابَ في هَذا الشَّهْرِ وأَنابَ، واسْتَغفَرَ رَبَّهُ فغَفَرَ له ومَنَّ عَلَيْهِ بِعِتْقِ الرِّقابِ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذي جعَلَ الصِّيامَ جُنَّةً مِنَ النَّارِ، وفَضَّلَ شَهْرَ رَمَضانَ بِما حَبَاهُ مِنَ الخَصائِصِ وَالآثارِ.(191/5)
أحمدُ رَبِّي حمداً كثيراً طيِّباً مُبارَكاً عَلَى ما أَوْلاهُ مِنَ الخَيْراتِ الغِزارِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له العزيزُ الغفَّارُ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ المصْطَفَى المُخْتارُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ علَيْهِ وعَلَى آلِهِ الأبْرارِ؛ وأزْواجِهِ الأَطْهارِ؛ وأَصْحابِهِ الأَخْيَارِ؛ المُهاجِرينَ مِنْهم والأَنْصارِ، ومَنْ تَبِعَهم بإِحسانٍ إلى يَوْمِ القَرارِ، صَلاةً وَسلاماً مُتَعاقِبَيْنِ ما تَعاقَبَ الليْلُ والنَّهارُ.
أمَّا بَعْدُ:
فيا أَيُّها الناسُ اتَّقُوا اللهَ في السرِّ والعَلَنِ، وحافِظُوا عَلَى أداءِ الفرائِضِ وَالسُّنَنِ، وَاجْتَنِبُوا الْفَواحِشَ وَالفِتَنَ، ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ.
وَاعْلَمُوا أنَّكم في شَهْرٍ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ فيهِ الصِّيامَ، وتَكَفَّلَ لكم بِمُضاعَفَةِ أُجورِ التِّلاوَةِ وَالصِّيامِ وَالقِيامِ، فاغْتَنِمُوا أَوْقاتَهُ الغَالِيَةَ، وتَدَارَكُوا بِالتَّوْبَةِ والأَوْبَةِ ما فَرَّطْتُم في جَنْبِ اللهِ تعالَى في الأيَّامِ الخالِيَةِ.(191/6)
فَيَا مَنْ يَرْجُو في شَهْرِ رَمضانَ القَبُولَ والإِجابَةَ، هَلْ أنْتَ مُشَمِّرٌ لِقِراهُ بالتَّوْبَةِ والإِنابَةِ؟ وهَلْ بَذَلْتَ في ضِيافَتِهِ مَقْدُورَكَ مِنَ الأَعْمالِ المُسْتَطاَبةِ؟ وهَلْ أمْسَكْتَ في أيَّامِهِ ولَيالِيهِ عَنِ الزُّورِ وَالفُجُورِ الذي يُحْبِطُ ثَوَابَه؟ وهَلْ عَلِمْتَ أَنَّ: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بهِ والجَهْلَ فلَيْسَ للهِ حاجَةٌ أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وَشَرابَه"، فقَدْ فَاتَ عَبْداً حَظُّهُ مِنَ الصِّيامِ: يَوْمَ أمْسَكَ عَنِ الشَّرابِ وَالطَّعامِ، وأطْلَقَ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ ولِسانَهُ في الحَرَامِ وَالآثامِ، وقَدْ فاتَ الأَمَةَ حَظُّها مِنْ صِيامِ رَمضانَ: يَوْمَ أخْلَتِ الكَبِدَ وأظْمَأَتِ اللسانَ، وأَرْخَتْ للتَّبَرُّجِ الحَبْلَ والعَنانَ، وخَرَجَتْ مِنْ بَيْتِها سافِرَةً مِنْ لِباسِ التَّقْوَى وَالرِّضْوانِ، مُتَدَثِّرَةً بِجِلْبابِ الذُّنوبِ والعِصْيانِ.
إذا لَمْ يَكُنْ فِي السَّمْعِ مِنِّي تَصَاوُنٌ وفِي بَصَرِي غَضٌّ وَفِي مَنْطِقِي صَمْتُ
فَحَظِّي إذنْ مِنْ صَوْمِيَ الجُوعُ وَالظَّمَا فإنْ قُلْتُ إنِّي صُمْتُ يَوْمِي فمَا صُمْتُ(191/7)
فاجْتَهِدْ يا عَبْدَ اللهِ في تَحْقِيقِ مَقْصِدِ الصِّيامِ وهوَ التقْوَى، واجْتَهِدِي يا أَمَةَ اللهِ في إدْراكِ التقْوَى الموُجِبَةِ لِرِضَى الْمَوْلَى، وَلْيَحْرِصْ كُلُّ واحِدٍ مِنَّا عَلَى التَزَوُّدِ مِنَ التَّقْوَى الّتي هِيَ زُبْدَةُ الصَّوْمِ في جَميعِ الأَيَّامِ، فالرَبُّ تبارَكَ وتعالَى الذي افترَضَ عَلَيْنا في شَهْرِ رَمضانَ الصِّيامَ: هوَ الذي افْتَرَضَ عَلَيْنا في غَيْرِهِ مِنَ الشُّهورِ الصَّلاةَ والزَّكاةَ والحَجَّ إلى بيتِهِ الحَرامِ، وهوَ الذي افْتَرَضَ عَلَيْنا في جَميعِ الأيَّامِ والأَعْوامِ: هَجْرَ المُنْكَراتِ والْحَرَامِ؛ وَاجْتِنابَ الفَوَاحِشِ وَالآثامِ، مِنْ عُقُوقِ الوالِدَيْنِ وقَطِيعَةِ الأَرْحامِ؛ وَأَكْلِ الرِّبا وأَخْذِ المالِ الحَرامِ، وقُرْبَانِ الزِّنا وتَناوُلِ المُسْكِرَاتِ والمخُدِّراتِ الجالِبَةِ للأَمْراضِ وَالسِّقامِ.
عِبادَ الرَّحَمنِ:
إنَّ اللهَ قَدْ أَمرَكُم بأَمْرٍ بَدَأَ فيهِ بنَفْسِهِ الَّتي كُلَّ يَوْمٍ هِيَ في شَانٍ، وثَنَّى بملائِكَتِهِ الَّتي لاتَفْتُرُ في لَيْلٍ وَلا نَهارٍ عَنِ الحَمْدِ وَالسُّبْحَانِ، وثَلَّثَ بِكم أيُّها الخَلْقُ مِنْ إِنْسٍ وجَانٍّ، فَقالَ إعلاءً لِقَدْرِ نَبيِّهِ سيِّدِ وَلَدِ عَدْنانَ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } { الأحزاب: 56 } .
اللهمَّ صَلِّ علَى محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ، كَما صَلَّيْتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ علَى محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ، كَما بارَكْتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ، في العَالَمِينَ، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ.(191/8)
وَارْضَ اللهمَّ عَنِ الأَرْبَعَةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ؛ وَالأَئِمَّةِ الحُنَفاءِ المّهْدِيِّينَ، أُولِي الفَضْلِ الَجِليِّ؛ وَالقَدْرِ العَلِيِّ: أبي بكرٍ الصدِّيقِ؛ وعمرَ الفاروقِ؛ وذِي النُّورَيْنِ عُثمانَ؛ وأَبِي السِّبْطَيْنِ عَلِيٍّ.
وارْضَ اللهمَّ عَنْ عَمَّيْ نَبيِّكَ حَمْزةَ وَالعبَّاسِ، وَسِبْطَيْ نَبيِّكَ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ سَيِّدَيْ شَبابِ أهْلِ الجنَّةِ بِلا الْتِباسٍ، وَآلِهِ وأزْواجِهِ المُطَهَّرِينَ مِنَ الأَرْجاسِ؛ وصَحابَتِهِ الصَّفْوَةِ الأَخْيَارِ مِنَ النَّاسِ.
اللهمَّ اجْعَلْنا مِمَّنْ صامَ رَمضانَ وقامَهُ إيماناً وَاحْتِساباً، فَغَفَرْتَ لَهُ ذَنْبَهُ وَضاعَفْتَ لَهُ ثَواباً، وَأَحْسَنْتَ لَهُ مَآباً، اللهمَّ آمِنَّا في الأَوْطانِ وَالدُّورِ، وَادْفَعْ عَنَّا الفِتَنَ وَالشُّرُورَ، وَأَصْلِحْ لَنا وُلاةَ الأُمورِ، وَاشْرَحْ لِتَحْكيمِ كِتابِكَ الصُّدورَ، بَرَحْمَتِكَ يا عَزيزُ يا غَفورُ، رَبَّنا آتِنا في الدُّنيا حَسَنةً؛ وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً؛ وقِنا عَذابَ النَّارِ.
عِبادَ اللهِ: اذْكُروا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً، وكبِّروهُ تَكْبِيراً، { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } { العنكبوت: 45 } .
………………لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(191/9)
اطبع هذه الصحفة
وآتوا الزكاة
عِبادَ اللهِ:
إنَّ اللهَ سبحانَهُ رَغَّبَ في أداءِ الزَّكاةِ، وأثْنَى عَلَى المُزَكِّينَ والمُتَصَدِّقينَ، فقالَ سبحانَهُ: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } { المؤمنون 1-3 } ، وفي مواضِعَ كثيرةٍ مِنْ كتابِهِ ذكَرَها في مُقَدَّمِ الأعْمالِ، التَّي تُسْتَنْزَلُ بها رَحْمَةُ الكبيرِ المُتَعالِ يقولُ سبحانَه: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { الأعراف : 156 } ، لكِنْ متَى ما بَخِلَ بها صاحِبُ المالِ، فَقدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ للوَعيدِ بالعذابِ والنَّكالِ، فعَنْ أبي هريرةَ- - رضي الله عنه - - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ آتاهُ اللهُ مالاً فلَمْ يُؤَدِّ زكاتَهُ مُثِّلَ له ماَلُهُ يومَ القِيامَةِ شُجَاعاً أقْرَعَ له زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يومَ القيامَةِ، ثُمَّ يأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ- يَعْنِي شِدْقَيْهِ - ثُمَّ يقولُ أنا مَالُكَ أنا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلا: "وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } { آل عمران: 180 } [أخرجَه البخاريُّ]، فَيا مَنْ جَمَعَ المالَ وأَوْعاهُ، ومَنَعَ حَقَّ اللهِ فيهِ وأَوْكاهُ، وكَنَزَهُ وأخْفَاهُ، سَتَنالُ عِقابَ ما بَخِلْتَ، وسَتُعايِنُ شُؤْمَ ما عَمِلْتَ { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم(192/1)
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } { التوبة :34-35 } ، فَيَالَها مِنْ عُقُوبَةٍ مُغَلَّظَةٍ، تَرْجُفُ مِنْها القُلوبُ المؤمِنَةُ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 9 من رمضان 1428هـ الموافق 21/9/2007 م
وآتوا الزكاة
الحمدُ للهِ الذي جعَلَ الزَّكاةَ أحَدَ أرْكانِ الإسلامِ، وأَوْجَبَها في أَمْوالِ الأغْنياءِ طُهْرَةً لهم مِنَ الشُّحِّ وَالآثامِ، ومُوَاساةً لِذَوِي الحاجاتِ مِنَ الفقراءِ والأرامِلِ والأيْتامِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له ذُو الطَّوْلِ والإنْعامِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ البَدْرُ التَّمامُ، بعثَهُ اللهُ رحمةً لِلْعِبادِ وفارِقاً بيْنَ الحَلالِ والحرَامِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وأصحابِهِ أفْضَلَ صلاةٍ وأزْكَى سلامٍ.
أمّا بعدُ:
فأُوصِيكم- أيُّها الناسُ- ونفسِي بالتقْوَى، فَبِها تُنالُ كَرامَةُ الآخِرَةِ والأُولَى، يقولُ اللهُ جلَّ وعَلاَ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } { لحشر: 18 } .
أيُّها المسلمونَ:(192/2)
إنَّ الإسلامَ دِينُ المِلَّةِ الكامِلَةِ، وَالشريعَةِ العادِلَةِ، تَتَجَلَّى في أحكامِهِ حِكَمُهُ، وفي تَشْريعاتِهِ مَحاسِنُهُ، وفي تكاليفِهِ آثارُهُ ومقاصِدُهُ، وفي أركانِهِ عَظَمَتُهُ ورِفْعَتُهُ، يقولُ اللهُ سبحانَهُ: { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { الأنعام : 161 } ، ويقولُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "بُنِيَ الإسلامُ علَى خَمْسٍ: شهادَةِ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وأنَّ محمداً رسولُ اللهِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ والحَجِّ وصَوْمِ رمضانَ" [متفقٌ عليهِ مِنْ حديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما].(192/3)
وكانَ مِنْ بَيْنِ هذِهِ الأركانِ، ومِنْ دَعائِمِ الإسلامِ والإيمانِ، بَلْ رُبَّما رفَعَ صاحِبَهُ إلى مَرْتَبَةِ الإحسانِ، فريضةُ الزكاةِ، فَريضَةٌ واجِبَةٌ في آياتٍ وأخْبارٍ، وإجْماعِ المسلمينَ عَلَى مَرِّ الأَعْصارِ، حَقٌّ مَعْلومٌ، وجُزْءٌ مَقْسومٌ، وسَهْمٌ مَحْتُومٌ، أوجَبَها اللهُ لحِكَمٍ سامِيَةٍ، ومقاصِدَ نَبيلَةٍ: فَبِها يَقْوَى الإيمانُ، وتُنالُ الجِنانُ، وهِيَ سبَبٌ لحُصولِ البَرَكاتِ، وَوِقايَةٌ للمالِ مِنَ الآفاتِ، وتَطْهيرٌ للنُّفوسِ مِنْ أَدْرانِها، ومُعالَجَةٌ للقلوبِ مِنْ أَمْراضِها، تَعاطُفٌ بَيْنَ المسلمينَ، وتَواصُلٌ بَيْنَ الأغْنياءِ وَالْمُحْتاجينَ، تَكافُلٌ اجْتِماعِيٌّ، وتَعاوُنٌ جَماعِيٌّ، بُرْهانٌ عَلَى صِدْقِ الإيمانِ، وتَقْليصٌ لِدائِرَةِ الفَقْرِ والحِرْمانِ، وَفُرْقانٌ بَيْنَ المُنافِقِ الجَمُوعِ المَنُوعِ، وبَيْنَ المؤْمِنِ الخاضِعِ للواجِبِ المشْروعِ، فقَدْ أخرَجَ الإمامُ أحمدُ عَنْ بَشيرِ بنِ الخَصَاصِيَّةِ - رضي الله عنه - أنهَّ قالَ: أتَيْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لأُبايِعَهُ، قالَ: فاشْتَرَطَ عَلَيَّ شَهادَةَ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وأنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ وأنْ أُقيمَ الصَّلاةَ وأنْ أُؤَدِّيَ الزَّكاةَ وأنْ أَحُجَّ حَجَّةَ الإسلامِ وأنْ أَصومَ شَهْرَ رَمضانَ وأنْ أُجاهِدَ في سبيلِ اللهِ، فَقُلْتُ يا رسولَ اللهِ أمَّا اثْنَتانِ فَو اللهِ ما أُطِيقُهُمَا: الجِهادُ والصَّدَقَةُ فإنَّهم زَعَمُوا أنَّهُ مَنْ وَلَّى الدُّبُرَ فقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ، فأخافُ إنْ حَضَرْتُ تِلْكَ جَشِعَتْ نَفْسِي وكَرِهْتُ الموْتَ، والصَّدقَةُ فَوَ اللهِ ما لي إلاَّ غُنَيْمَةٌ وعَشْرُ ذَوْدٍ- أيْ مِنَ الإبِلِ- هُنَّ رَسَلُ أهْلِي وحَمُولَتُهُمْ، قالَ: فقبَضَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ ثُمَّ حَرَّكَ يَدَهُ ثُمَّ قالَ: "فلا جِهَادَ(192/4)
ولا صَدَقَةَ فلِمَ تَدْخُلُ الجنَّةَ إذاً؟" قالَ: قُلْتُ يارسولَ اللهِ أنا أُبايِعُكَ، قالَ: فبايَعْتُ عَلَيْهِنَّ كُلِّهِنَّ.
عِبادَ اللهِ:
إنَّ اللهَ سبحانَهُ رَغَّبَ في أداءِ الزَّكاةِ، وأثْنَى عَلَى المُزَكِّينَ والمُتَصَدِّقينَ، فقالَ سبحانَهُ: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } { المؤمنون 1-3 } ، وفي مواضِعَ كثيرةٍ مِنْ كتابِهِ ذكَرَها في مُقَدَّمِ الأعْمالِ، التَّي تُسْتَنْزَلُ بها رَحْمَةُ الكبيرِ المُتَعالِ يقولُ سبحانَه: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { الأعراف : 156 } ، لكِنْ متَى ما بَخِلَ بها صاحِبُ المالِ، فَقدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ للوَعيدِ بالعذابِ والنَّكالِ، فعَنْ أبي هريرةَ- - رضي الله عنه - - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ آتاهُ اللهُ مالاً فلَمْ يُؤَدِّ زكاتَهُ مُثِّلَ له ماَلُهُ يومَ القِيامَةِ شُجَاعاً أقْرَعَ له زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يومَ القيامَةِ، ثُمَّ يأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ- يَعْنِي شِدْقَيْهِ - ثُمَّ يقولُ أنا مَالُكَ أنا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلا: "وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } { آل عمران: 180 } [أخرجَه البخاريُّ]، فَيا مَنْ جَمَعَ المالَ وأَوْعاهُ، ومَنَعَ حَقَّ اللهِ فيهِ وأَوْكاهُ، وكَنَزَهُ وأخْفَاهُ، سَتَنالُ عِقابَ ما بَخِلْتَ، وسَتُعايِنُ شُؤْمَ ما عَمِلْتَ {(192/5)
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } { التوبة :34-35 } ، فَيَالَها مِنْ عُقُوبَةٍ مُغَلَّظَةٍ، تَرْجُفُ مِنْها القُلوبُ المؤمِنَةُ.
إخوةَ الإيمانِ:
ولَمْ يَقِفِ الْحَدُّ عِنْدَ العُقوبَةِ الأُخْرَوِيَّةِ، بَلْ يَتَعدَّى ذلِكَ إلى العُقوبَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فعَنْ بَهْزِ بنِ حَكيمٍ عَنْ أبيهِ عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهم أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ في الزَّكاةِ:" مَنْ أعْطاها مُؤْتَجِراً فلهُ أَجْرُهَا، ومَنْ مَنَعَها فإنَّا آخِذُوها وشَطْرَ مالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَماتِ رَبِّنا "[أخرجَه أبو داودَ].
ومِنْها ذَهابُ المالِ بأيِّ نوعٍ مِنَ الآفاتِ، أوْ بَقاءُ عَيْنِهِ ومَحْقُ ما بهِ مِنْ بَرَكاتٍ، فترَى المالَ الكثيرَ الذي لم تُؤَدَّ زَكاتُهُ، لا يَفِي بغَرَضِ الشَّخْصِ وحاجَتِهِ، ورُبَّما أثْقَلَ الدَّيْنُ كاهِلَهُ، وعَرَّضَ نَفْسَهُ للإفْلاسِ(192/6)
والمُساءَلَةِ، يقولُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ* فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } { القلم : 17-33 } .
إخوةَ الإسلامِ:(192/7)
ولا تَقْتَصِرُ الَعُقوبَةُ علَى مانِعِ الزَّكَواتِ، بَلْ رُبَّما جَلَبَ البلاءَ للمُجَتَمعاتِ، فتَمْنَعُ السماءُ قَطْرَها، وتَمْنَعُ الأرضُ نَباتَها وشَجَرَها، فعَنِ ابنِ عمرَ- رضِيَ اللهُ عَنْهما- قالَ: كُنَّا عِنْدَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "كيفَ أنْتُم إذا وَقَعَتْ فِيكمْ خَمْسٌ وأعوذُ باللهِ أنْ تكونَ فِيكم أوْ تُدْرِكوهنَّ ما ظَهَرَتِ الفاحِشَةُ في قَوْمٍ قَطُّ يُعْمَلُ بها فِيهم عَلانِيَةً إلاَّ ظَهَرَ فِيهمُ الطَّاعونُ وَالأَوْجاعُ الَّتي لَمْ تَكُنْ في أسْلافِهم، وما مَنَعَ قَوْمٌ الزَّكاةَ إلا مُنِعوا القَطْرَ مِنَ السماءِ ولَوْلا البهائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وما بَخَسَ قَوْمٌ المِكْيالَ والمِيزانَ إلاّ أُخِذوا بالسِّنينَ وشِدَّةِ المُؤْنَةِ وجَوْرِ السُّلْطانِ عَلَيْهم، ولا حَكَمَ أُمَراؤُهم بغَيْرِ ما أنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ إلاّ سَلَّطَ عَلَيْهم عَدُوَّهم وَاسْتُفْقِدوا بَعْضَ ما في أيْدِيهم، وما عَطَّلوا كِتابَ اللهِ وسُنَّةَ رسولِهِ إلاَّ جَعلَ اللهُ بَأْسَهم بَيْنَهم"[أخرجَه البيهقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ]، وعَنْ بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ما مَنَعَ قَوْمٌ الزَّكاةَ إلاَّ ابْتَلاهُمُ اللهُ بالسِّنينَ" أيْ بالقَحْطِ [ أخرجَه الطبرانِيُّ].
فَبادِرُوا بزَكاةِ المالِ إنَّ بِها للنَّفْسِ وَالمالِ تَطْهِيراً وتَحْصِينَا
ألَمْ تَرَوْا أنَّ أهْلَ المالِ في وَجَلٍ يَخْشَوْنَ مَصْرَعَهم إلاَّ المُزَكِّينَا
فهَلْ تَظُنُّونَ أنَّ اللهَ أوْرَثَكُم مَالاً لِتُشْقُوا بهِ جَمْعاًوتَخْزِينَا
أوْ تَقْصُرُوهُ عَلَى مَرْضاةِ أَنْفُسِكم وتَحْرِمُوا مِنْهُ مَعْدُوماً وَمِسْكِينَا
ما أنْتُمُ غَيْرُ أَقْوَامٍ سيَسْأَلكُم إِلَهُكُم عَنْ حِسابِ الْمُسْتَحِقِّينَا(192/8)
وَلَنْ تَنالُوا نَصِيباً مِنْ خِلافَتِهِ إلاَّ بأَنْ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَا
بارَكَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعَنِي وإيَّاكم بَهَدْيِ نبيِّهِ الكريمِ، عليهِ أفضلُ الصَّلاةِ وأزْكَى التَّسْليمِ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروهُ إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ذِي الإحْسانِ، الحَيِّ القَيُّومِ وكُلُّ مَنْ عَليْها فانٍ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له شَهادةً تُثْقِلُ الميزانَ، وَتُوصِلُنا برحْمَةِ اللهِ إلى الجِنانِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ الذي نَسَخَ بدينِهِ الأدْيانَ، والمبعوثُ إلى الإنْسِ والجانِّ، صَلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعَلَى آلِهِ وأصْحابِهِ ذَوِي الْفَضْلِ والعِرْفانِ، وعَلَى تابِعيهم بإحسانٍ ما تعاقَبَ الزَّمانُ.
أمَّا بعدُ:(192/9)
فاتَّقوا اللهَ إخْوَةَ الإسلامِ، وقُوموا بأداءِ الزَّكاةِ خَيْرَ قِيامٍ، وَاصْرِفُوها في مَصارِفِها الشَّرْعِيَّةِ المُعْتَبَرَةِ، وتَعَلَّمُوا أحْكامَها فإنَّها مُيَسَّرَةٌ، وسَلُوا أهْلَ العِلْمِ عَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْكم مِنْها، حتَّى تَقَعَ الزَّكاةُ في مَوْقِعها ويُؤَدَّى الْمَقْصودُ مِنْها، فإنَّهُ ما اشْتَكَى فَقِيرٌ إلاَّ بقَدْرِ ما قَصَّرَغَنِيٌّ، ولَوْ أدَّى اْلأَغنياءُ زَكاةَ أمْوالِهم في مَصارِفِها، لَما وَجَدْتَ فقيراً أوْ مِسْكيناً أوْ مُعْدَماً، وهَذا ما حَصَلَ في عَهْدِ الخليفَةِ الزَّاهِدِ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ رحِمَهُ اللهُ مَعَ اتِّساعِ دَوْلَتِهِ، وكَثْرَةِ النَّاسِ، فقَدْ فاضَ المالُ في بَيْتِ مالِ المسلمينَ، وَانْعَدَمَ الفَقْرُ والفاقَةُ، فصُرِفَتْ أمْوالُ الزَّكاةِ في سَدِّ دُيونِ الغارِمينَ، وإعْتاقِ العَبيدِ، يقولُ اللهُُ سبحانَهُ: { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } { البقرة:110 }
ثُمَّ صَلُّوا وسَلِّموا عَلَى الهادِي البشيرِ والسِّراجِ المُنيرِ، كَما أمَرَ بذلِكُمُ اللطيفُ الخبيرُ فقَالَ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب: 56 } ، فاللهمَّ صَلِّ وسَلِّمْ علَى محمدٍ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ.
اللهمَّ تَقَبَّلْ صِيامَنا وقِيامَنا وَزَكَوَاتِنا وسائِرَ أعْمالِنا، اللهمَّ آتِ نُفُوسَنا تَقْواها وَزكِّها أنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاها أنْتَ وَلِيُّها وَمَوْلاها.(192/10)
اللهمَّ اغْفِرْ للمسلمينَ وَالمسلماتِ؛ وَالمؤمنينَ وَالمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم وَالأمواتِ، اللهمَّ جَنِّبْنا مُنْكَراتِ الأَخْلاقِ وَالأَهْواءِ وَالأَعْمالِ وَالأَدْواءِ، اللهمَّ إنَّا نعوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ البَلاءِ، وَدَرَكِ الشَّقاءِ، وَسُوءِ القَضاءِ، وشَماتَةِ الأَعْدَاءِ، اللهمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتحَوُّلِ عافِيَتِكَ، وفُجاءَةِ نِقْمَتِكَ، وجَمِيعِ سَخَطِكَ، اللهمَّ وَفِّقْ أميرَنا ووَلِيَّ عهدِهِ لِهُداكَ، وَاجْعَلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احْفَظْهما بحفظِكَ، وَاكْلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، اللَّهمَّ اجْعَلْ هَذا البلدَ آمِناً مُطمئِنّاً سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(192/11)
اطبع هذه الصحفة
العشر الأواخر
فيا عِبادَ اللهِ تَدَثَّرُوا بِلِباسِ التَّقْوَى لا سِيَّما في أواخِرِ شَهْرِكُمُ الكَرِيمِ، { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } { الأنفال: 29 } .
عِبادَ اللهِ المؤمنينَ:
قَدْ أقْبَلَتْ إليْكُم لَيالِي العَشْرِ، وقَدْ تَسَرْبَلَتْ بِكساءِ الشَّرَفِ وبَسَطَتْ أَكُفَّ الأَجْرِ، عَشْرُ لَيَالٍ شَرَّفَها اللهُ تعالَى علَى غَيْرِها، ومَنَّ علَى عِبادِهِ بجَزيلِ خَيْرِها، فِيها ليْلَةُ القَدْرِ التي أَنْزَلَ اللهُ تعالَى فِيها القرآنَ، وأَجْزَلَ فيها عَلى عِبادِهِ الإِفْضالَ والإِحْسَانَ، فَطُوبَى لِعَبْدٍ آمَنَ برَبِّهِ واحْتَسَبَ الأَجْرَ، وَوُفِّقَ في العَشْرِ لِقيامِ لَيْلَةِ القَدْرِ، فعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيماناً واحْتِساباً غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" [أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 16 من رمضان 1428هـ الموافق 28/9/2007 م
العشر الأواخر(193/1)
الحمدُ للهِ ذِي الجَلالِ والإكْرامِ، أكْرَمَ عِبادَهُ بِرمضانَ شَهْرِ الصِّيامِ والقِيَامِ، وفَضَّلَهُ بالعَشْرِ الأَواخِرِ الّتي هِيَ أفْضَلُ لَيَالِي العامِ، أحمدُ رَبِّي حمداً كثيراً طَيِّباً مُبارَكاً فيهِ علَى ما أوْلاهُ مِنَ الإفْضالِ وأسْدَاهُ مِنَ الإنْعامِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهْ لا شريكَ له المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ، الحَيُّ القَيُّومُ الذي لا يَنامُ ولا يَنْبَغِي له أنْ يَنامَ، وأشهدُ أنَّ نَبِِيَّنا ورسولَنا محمداً خَيْرُ الأنَامِ، وأفْضَلُ مَنْ صَلَّى وزَكَّى وحَجَّ وصامَ، وأَقْنَتُ مَنْ قامَ الليلَ حتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَماهُ في دُجَى الظَّلامِ، صَلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعَلَى آلِهِ وأزْواجِهِ وَأصْحابِهِ الكِرامِ، صَلاةً وسَلاماً ما تعاقَبَتِ الليالِي والأَيَّامِ.
أمَّا بعدُ:
فيا عِبادَ اللهِ تَدَثَّرُوا بِلِباسِ التَّقْوَى لا سِيَّما في أواخِرِ شَهْرِكُمُ الكَرِيمِ، { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } { الأنفال: 29 } .
عِبادَ اللهِ المؤمنينَ:(193/2)
قَدْ أقْبَلَتْ إليْكُم لَيالِي العَشْرِ، وقَدْ تَسَرْبَلَتْ بِكساءِ الشَّرَفِ وبَسَطَتْ أَكُفَّ الأَجْرِ، عَشْرُ لَيَالٍ شَرَّفَها اللهُ تعالَى علَى غَيْرِها، ومَنَّ علَى عِبادِهِ بجَزيلِ خَيْرِها، فِيها ليْلَةُ القَدْرِ التي أَنْزَلَ اللهُ تعالَى فِيها القرآنَ، وأَجْزَلَ فيها عَلى عِبادِهِ الإِفْضالَ والإِحْسَانَ، فَطُوبَى لِعَبْدٍ آمَنَ برَبِّهِ واحْتَسَبَ الأَجْرَ، وَوُفِّقَ في العَشْرِ لِقيامِ لَيْلَةِ القَدْرِ، فعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيماناً واحْتِساباً غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" [أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ].
فاجْتَهِدُوا رَحِمَكُمُ اللهُ تعالَى في هذِهِ الْعَشْرِ، وَالْتَمِسوا في وِتْرِها لَيْلَةَ القَدْرِ، فعَنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عَنْها أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "تَحَرَّوْا ليْلَةَ القَّدْرِ فيِ الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأواخِرِ مِنْ رَمضانَ" [أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ]، وأرْجَى ليالِي الوِتْرِ الشَّرِيفَةِ، ما كانََ في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ المُنِيفَةِ، فعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ بنِ الخطابِ رضِيَ اللهُ عَنْهما أنَّ رِجالاً مِنْ أَصْحابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ في المَنامِ في السَّبْعِ الأواخِرِ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ في السَّبْعِ الأواخِرِ، فمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا: فَلْيَتَحَرَّها في السَّبْعِ الأوَاخِرِ" [أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ].(193/3)
فاحْرِصْ يا عَبْدَ اللهِ عَلَى اغْتِنامِ الخَيْرِ بِنَفْسٍ مُسَارِعَةٍ مُسَابِقَةٍ مُنَافِسَةٍ، لا سِيَّما في لَيْلَةِ العَشْرِ التَّاسِعَةِ والسَّابِعَةِ وَالخَامِسَةِ، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الْتَمِسُوها في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمضانَ، لَيْلَةُ القَدْرِ في تَاسِعَةٍ تَبْقَى، في سابِعَةٍ تَبْقَى، في خامِسَةٍ تَبْقَى" [أخرجَه البخاريُّ].
فمَنْ حُرِمَ لِعارِضٍ مِنْ قِيامِ هذهِ الليالِي العَشْرِ، فَلْيَحْرِصْ عَلَى قِيَامِ لَيْلَتِها السَّابِعَةِ فهِيَ أَدْعَى بأَنْ تكونَ لَيْلَةَ القَدْرِ، فَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما: "أنَّ رَجُلاً أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا نبيَّ اللهِ، إنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ عَلِيلٌ، يَشُقُّ عَلَيَّ القِيامُ، فَأْمُرْنِي بَلَيْلَةٍ لعلَّ اللهَ يُوَفِّقُنِي فِيها لَيْلَةَ القَدْرِ. قَالَ: عَلَيْكَ بالسَّابِعَةِ" [أخرجَه أحمدُ].
مَعْشَرَ الإخْوَةِ الكِرامِ:
مَنْ رامَ مِنْكُمُ التَأَسِّيَ بخَيْرِ الأَنامِ؛ عَلَيْهِ أفضلُ الصَّلاةِ وأَزْكَى السَّلامِ: فَلْيَجْتَهِدْ في العَشْرِ الأَخِيرِ، بعَمَلِ الخَيْرِ الكَثِيرِ، فعَنْ عائِشةَ رضِيَ اللهُ عَنْها قالَتْ: "كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يجتهدُ في العَشْرِ الأَواخِرِ ما لا يَجْتَهِدُ في غَيْرِهِ" [أخرجه مسلمٌ].(193/4)
فمِنْ هذِهِ الخَيْراتِ العِظامِ: اجتهادُ العَبْدِ في القِيامِ، وأنْ يَحُثَّ عَلَيْهِ ذَوِي الأَرْحامِ، فعَنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عَنْها قالَتْ:"كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا دخَلَ العَشْرُ: شَدَّ مِئْزَرَهُ، وأَحْيا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أَهْلَهُ"[ أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ]، وكانَ سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ رحِمَهُ اللهُ تعالَى يقولُ لأَهْلِ بَيْتِهِ:"لا تُطْفِئُوا سُرُجَكُمْ لَيَالِيَ العَشْرِ".
ويَا سَعَادَةَ عَبْدٍ نَظَرَ اللهُ تعالَى إليْهِ وهُوَ راكِعٌ وساجِدٌ، قانِتٌ لِرَبِّهِ عَاكِفٌ في المساجِدِ، مُتَأَسِّياً بنبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْرِ عابِدٍ، فعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ بنِ الخطابِ رضِيَ اللهُ عَنْهما قالَ: "كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَواخِرَ مِنْ رمضانَ"[أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ].
فمَنْ وُفِّقَ لِسُنَّةِ الاعْتِكافِ بَعْدَما دُلَّ عَلَيْها، فَلْيَلْزَمْ مُعْتَكَفَهُ ولا يَخْرُجَنَّ إلاَّ لحاجَةٍ اضْطُرَّ إليْها، فَعَنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عَنْها قالَتْ: "إنْ كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رأْسَهُ وهُوَ في المَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ، وكانَ لا يَدْخُلُ البَيْتَ إلاّ لحاجَةٍ إذا كانَ مُعْتَكِفاً" [ أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ].
وَلْيُرَطِّبِ الْعَبْدُ لِسانَهُ بالدُّعاءِ فإنَّهُ مَرْجُوُّ الإجابَةِ، وَلْيَسْأَلْ رَبَّهُ العَفْوَ مِمَّا اقَتَرَفَهُ وأَصابَهُ، فعَنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عَنْها قالَتْ: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، أرأَيْتَ إنْ عَلِمْتُ أيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ، ما أقولُ فِيها؟ قالَ: "قُولِي: اللهمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ العَفْوَ فاعْفُ عَنِّي" [أخرجَه أحمدُ التِّرمذيُّ وابنُ ماجَه].(193/5)
أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ*لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } { القدر: 1- 5 } .
أخرَجَ أحمدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ في ليْلَةِ القَدْرِ:"إنهَّا لَيْلَةُ سابِعَةٍ أوْ تاسِعَةٍ وَعِشْرِينَ، إنَّ الملائِكةَ تِلْكَ الليْلَةَ في الأرْضِ أكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الحَصَى".
بَارَكَ اللهُ لِي ولَكُمْ فِي القُرآنِ العَظيمِ، ونَفَعَنَا بِهَدْيِ النَّبيِّ الكريمِ، الهادِي إلى الصِّراطِ المُسْتَقيمِ، والدَّاعِي إلى الدِّينِ القَوِيمِ.
أكْتَفِي بهذَا القَوْلِ، وأتَبَرَّؤُ إلى اللهِ تعالَى مِمَّا بِي مِنَ القُوَّةِ وَالحَوْلِ، وأَسْتَغْفِرُهُ لي ولكم مِنَ الخَلَلِ وَالزَّلَلِ، وأَسْأَ لُهُ حُسْنَ الخِتامِ عِنْدَ بُلُوغِ الأَجَلِ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذِي اخْتَتَمَ شَهْرَ رمضانَ بِلَيْلَةِ القَدْرِ وجَعَلَ فِيها بَرَكَةً وشَرَفاً، وأهْدَى فِيها للقائِمينَ المُؤْمنينَ المُحْتَسبينَ مِنَ الثَّوابِ تُحَفاً.
أحْمَدُ رَبِّي حَمْدَ عَبْدٍ جَبَرَهُ سَيِّدُهُ وأَجْرَاهُ عَلَى عبادَتِهِ وأَنْجَزَ له وَعْدَهُ وَوَفَّى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهْ لا شريكَ له؛ شَهادَةَ مَنْ لَمْ يَزَلْ مُقِرّاً بِعُبُودِيَّتِهِ ومُعْتَرِفاً، وأشهدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحمَّداً عبدُهُ ورسولُهُ الذي فَضَّلَهُ عَلَى كافَّةِ البَرِيَّةِ سَلَفاً وخَلَفاً، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وأزْواجِهِ وأصحابِهِ صَلاةً وسَلاماً مُتَعاقِبَيْنِ طَرَفَيِ اليَوْمِ وَزُلَفاً.(193/6)
أمّا بعدُ:
فيا أيُّها النَّاسُ؛ اتَّقُوا اللهَ بامْتِثالِ أوَامِرِهِ، وَاجْتِنابِ نَوَاهِيهِ وزَوَاجِرِهِ، { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } { النور: 31 } ، { وأنيبُوا إلى ربِّكمْ وأسلِمُوا لهُ مِنْ قَبْلِ أنْ يأتِيَكُمْ العَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ* واتَّبعُوا أحَسْنَ مَا أُنْزِلَ إليكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِيَكُمْ العَذابُ بَغتةً وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } { الزمر: 54-55 } .
يا أَيُّها المُسْلِمُ:
اجْتَهِدْ رَحِمَكَ اللهُ تعالَى فِيما بَقِيَ مِنْ شَهْرِكَ هَذا فإنَّهُ مَغْنَمٌ، وَاسْتَدْرِكْ ما فاتَ مِنْهُ بالحَسْرَةِ والنَّدَمِ، وَاعْلَمْ أنَّهُ مَنْ أصْلَحَ ما بَقِيَ واسْتَدْرَكَ ما مَضَى: نالَ الفَوْزَ بإذْنِ رَبِّهِ تَبارَكَ وتعالَى وأدْرَكَ الرِّضَا، ومَنْ أَنِسَ بالمعاصِي أيَّامَ عَشْرِهِ: نَدِمَ حِينَ يُؤْخَْذُ بالنَّوَاصِي يَوْمَ حَشْرِهِ.
فأَفِقْ عافاكَ اللهُ مِنْ غَفْلَةِ سِنَتِكَ وَاسْتَيْقِظْ مِنْ رَقْدَةِ نَوْمِكَ، قَبْلَ أنْ تَلْحَقَ بِمَنْ قَدْ مَضَى مِنْ سَلَفِ آبائِكَ وقَوْمِكَ، وَاجْتَهِدْ في هذِهِ الليالِي فإنَّما أنْتَ ابنُ لَيْلَتِكَ ويَوْمِكَ.
وَتَفَكَّرْ كَمْ في المقابِرِ مِنْ مُتَمَنٍّ لِقاءَ هذِهِ العَشْرِ فَما لَقِيَها!، قَدْ صَدَّتْهُ عَنْها سِهَامُ الموْتِ فَما وُقِيَهَا.(193/7)
وتَذَكَّرِ ارْتحِالَكَ عَنِ الدُّنيا فإنْ لَمْ تَبْكِ فتَبَاكَ، وَاحْذَرْ أنْ تكونَ مِمَّنْ نَصَبَ له الشَّيْطانُ أَشْرَاكاً، فأَسَرَهُ في شِباكِهِ فَلمْ يَسْتَطِعْ مِنْهُ خَلاصاً وَلا فِكَاكاً، فهذِهِ ليالِي التَّوْبَةِ فَتُبْ فَما بَقِيَ مِنْ عُمُرِكَ إلاّ القَلِيلُ، وَاعْتَبِرْ بِتَصَرُّمِ الشَّهْرِ فهُوَ مُؤْذِنٌ بالفَناءِ وقُرْبِ الرَّحيلِ، وَاسْأَلْ رَبَّكَ العَفْوَ مِنْ ذَنْبِكَ فإنَّ عَطاءَ رَبِّكَ جَزِيلٌ، قالَتْ مُعاذَةُ العَدَوِيَّةُ رَحِمَها اللهُ تعالَى: "عَجِبْتُ لِعَيْنٍ تَنامُ وقَدْ عَلِمَتْ طُولَ الرُّقادِ في ظُلَمِ القُبُورِ"، واعْلَمُوا أنَّ اللهَ تعالَى أمَرَكُمْ في مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ، فِي أصْدَقِ حَدِيثٍ وأَقْوَمِ قِيلٍ، بالصَّلاةِ والتَّسْلِيمِ، عَلَى النبيِّ الكَريمِ، فقَالَ إعلاءً لِقَدْرِ نبيِّهِ وَتَعْظِيماً، وإِرْشاداً لَكُم وَتَعْلِيماً: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } { الأحزاب: 56 } .
اللهمَّ صَلِّ عَلَى محمدٍ وعَلَى آلِ محمدٍ، كَما صَلَّيْتَ عَلَى إبراهيمَ وعَلَى آلِ إبراهيمَ، وبَارِكْ عَلَى محمدٍ وعَلَى آلِ محمدٍ، كما بارَكْتَ علَى إبراهيمَ وعَلَى آلِ إبراهيمَ، في العالَمِينَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وَارْضَ اللهمَّ عَنِ الأرْبَعَةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ؛ وَالأئِمَّةِ الحُنَفاءِ المَهْدِيِّينَ، أُولِي الفَضْلِ الجَلِيِّ؛ وَالقَدْرِ العَلِيِّ: أبي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وعَلِيٍّ….
وَارْضَ اللهُمَّ عَنْ آلِ نبيِّكَ الخِيَرَةِ، وأزْواجِهِ البَرَرَةِ، وبَقِيَّةِ المُبَشَّرِينَ العَشَرَةِ، وأهْلِ بَدْرٍ والشَّجَرَةِ، أصحابِ الوُجُوهِ النَّضِرَةِ المُسْفِرَةِ؛ الضَّاحِكَةِ المُسْتَبْشِرَةِ.(193/8)
اللهمَّ اغْفِرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم وَالأمواتِ، اللهمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنَّا، اللهمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِنا لِما فيهِ خَيْرُ العِبادِ والبِلادِ. رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ.
عبادَ اللهِ: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } { النحل: 90 } .
فاذكُرُوا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } { العنكبوت: 45 } .
……… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(193/9)
اطبع هذه الصحفة
كفالة اليتيم
أيُّها المسلمونَ:
يقولُ اللهُ سبحانَهُ في آيةٍ هِيَ مِنْ أجْمَعِ آياتِ الواجِباتِ: { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا } { النساء:36 } ؛
جَمَعَ سبحانَه في أثْناءِ هذِهِ الآيَةِ حُقُوقاً عُظْمَى، وَوَصايَا كُبْرَى، التَّقْصِيرُ فِيها مِنَ البَلايَا، والتَّفْرِيطُ في شَأْنِها مِنَ الرَّزايَا؛ إنَّها حقوقُ الوالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ، واليَتامَى والمسَاكِينِ، وأبناءِ السَّبِيلِ والجِيرانِ، وعُمومِ الأَصْحابِ والخَدَمِ والعَبِيدِ.(194/1)
وفي هذِهِ الأيَّامِ المُبارَكَةِ؛ أيَّامِ الخَيْرِ والنَّفَحاتِ، لَنا وَقْفَةٌ مَعَ حَقٍّ عَظيمٍ مِنْ هذِهِ الحقوقِ يَتَأَكَّدُ التَّذْكِيرُ بهِ، والعِنايَةُ بأَمْرِهِ، إنَّهُ حَقُّ اليَتِيمِ؛ أَلا فاعْلَمُوا - وَفَّقَنا اللهُ وإيَّاكم لما يُحِبُّهُ ويَرْضاهُ- أنَّ لِكَفالَةِ اليَتِيمِ والإحْسانِ إليهِ فَضْلاً عَظِيماً يُوَفِّقُ اللهُ تعالَى لِلْقيامِ بهِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، لِينالَ يَوْمَ القِيامَةِ ثَوابَهُ وأَجْرَهُ، قالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا } { آل عمران:30 } ، ويقولُ سبحانَهُ: { يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } { النبأ:40 } ، فَالسَّعيدُ المحْظوظُ حَقّاً مَنْ وُفِّقَ لهذِهِ الخَيْراتِ وَأُنْعِمَ علَيْهِ بتِلْكَ الباقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وكانَ عاقِلاً حَكيماً فاستَعْمَلَ مالَهُ في صالِحِ الأعْمالِ مِنْ كَفَالَةِ الأيْتَامِ والسَّعْيِ عَلَى الأرامِلِ والمساكِينِ وسَدِّ الخَلَّاتِ، والسَّعْيِ عَلَى ذَوِي الحاجاتِ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 23 من رمضان 1428هـ الموافق5/10/2007 م
كفالة اليتيم
الحمدُ للهِ الذي خَلَقَ الخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ، وأنْزَلَ عَلَيْهم كُتُبَهُ وأرْسَلَ إليْهِم رُسُلَهُ لِيَعْرِفُوهُ، وأسْبَغَ عَلَيْهِم نِعَمَهُ لِيَشْكُروهُ، أحْمَدُهُ سبحانَهُ وأشْكُرُهُ، وأتوبُ إليهِ وأسْتَغْفِرُهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، شَهادَةَ مَنْ خَافَ رَبَّهُ ورَجاه، وَاتَّبَعَ ما أمَرَهُ خالِقُهُ ومَوْلاه، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا وحَبِيبَنا محمّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وبارَكَ علَيْهِ، وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ الأكْرَمينَ، والتَّابِعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أمّا بعدُ:(194/2)
فأُوصِيكُم - عِبادَ اللهِ ونفسِي- بتقْوَى اللهِ تعالَى، فَفيها رَجاءُ الرَّاجِي وأمَلُ المُؤَمِّلِ، وَالْزَمُوا سُنَّةَ نبيِّكم محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وما كانَ عليهِ الصَّدْرُ الأَوَّلُ، قالَ اللهُ تعالَى: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمران:102 } .
أيُّها المسلمونَ:
يقولُ اللهُ سبحانَهُ في آيةٍ هِيَ مِنْ أجْمَعِ آياتِ الواجِباتِ: { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا } { النساء:36 } ؛
جَمَعَ سبحانَه في أثْناءِ هذِهِ الآيَةِ حُقُوقاً عُظْمَى، وَوَصايَا كُبْرَى، التَّقْصِيرُ فِيها مِنَ البَلايَا، والتَّفْرِيطُ في شَأْنِها مِنَ الرَّزايَا؛ إنَّها حقوقُ الوالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ، واليَتامَى والمسَاكِينِ، وأبناءِ السَّبِيلِ والجِيرانِ، وعُمومِ الأَصْحابِ والخَدَمِ والعَبِيدِ.(194/3)
وفي هذِهِ الأيَّامِ المُبارَكَةِ؛ أيَّامِ الخَيْرِ والنَّفَحاتِ، لَنا وَقْفَةٌ مَعَ حَقٍّ عَظيمٍ مِنْ هذِهِ الحقوقِ يَتَأَكَّدُ التَّذْكِيرُ بهِ، والعِنايَةُ بأَمْرِهِ، إنَّهُ حَقُّ اليَتِيمِ؛ أَلا فاعْلَمُوا - وَفَّقَنا اللهُ وإيَّاكم لما يُحِبُّهُ ويَرْضاهُ- أنَّ لِكَفالَةِ اليَتِيمِ والإحْسانِ إليهِ فَضْلاً عَظِيماً يُوَفِّقُ اللهُ تعالَى لِلْقيامِ بهِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، لِينالَ يَوْمَ القِيامَةِ ثَوابَهُ وأَجْرَهُ، قالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا } { آل عمران:30 } ، ويقولُ سبحانَهُ: { يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } { النبأ:40 } ، فَالسَّعيدُ المحْظوظُ حَقّاً مَنْ وُفِّقَ لهذِهِ الخَيْراتِ وَأُنْعِمَ علَيْهِ بتِلْكَ الباقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وكانَ عاقِلاً حَكيماً فاستَعْمَلَ مالَهُ في صالِحِ الأعْمالِ مِنْ كَفَالَةِ الأيْتَامِ والسَّعْيِ عَلَى الأرامِلِ والمساكِينِ وسَدِّ الخَلَّاتِ، والسَّعْيِ عَلَى ذَوِي الحاجاتِ.
إخوةَ الإسلامِ:
إنَّ المَيِّتَ - ساعَةَ يُحْتَضَرُ- يَتَلَظَّى شَفَقَةً عَلَى بَنِيهِ مِنْ بَعْدِهِ، فقَدْ كانَ يُحِبُّهم مِنْ سُوَيْداءِ قَلْبِهِ، ويُقَدِّمُ حَظَّهم عَلَى حَظِّهِ، ويَرْجو لهم مِنَ الخَيْرِ العاجِلِ وَالآجِلِ ما لَمْ يَرْجُهُ لِنَفْسِهِ، فَها قَدْ نَزَلَتْ بهِ مَنِيَّتُهُ وحَلَّتْ ساعَتُهُ، فإلى مَنْ يَصِيرُ أَبْناؤُهُ وَعِيالُهُ فَيَرْعاهُم، ومَنْ لَهم مِنْ بَعْدِهِ يَتَوَلَّاهُم، قَدْ كانَ والِدُهُم يَخْشَى عَلَيْهِم صُروفَ الأيَّامِ ومَصائِبَها، وَيُضْمِرُ لهم مِنْ حَوَادِثِ الليالِي أسْعَدَها، وما كانَ يَدْرِي أنَّ الأيَّامَ وَالليالِيَ حَبَالَى يَلِدْنَ كُلَّ عَجيبٍ!.(194/4)
وها هُوَ ذا في لَحظَاتِهِ القاسِيَةِ تِلْكَ يَأْمُلُ عَبْداً مِنْ أوْلِياءِ اللهِ الصَّالحِينَ، ومُنافِساً في أعْمالِ الآخِرَةِ مِنَ المتَّقينَ، يقومُ في ذُرِّ يَّتِهِ مِنْ خَلْفِهِ مَقَامَهُ، يَرْعاهم كَرِعايَتِهِ، ويَسُوسُهم بِمِثْلِ سِياسَتِهِ، يَحْنُو عَلَيْهِم وَيرْحَمُهم بعَطْفِهِ، ويَتَلقَّاهُم بِبَشاشَتِهِ وبِرِّهِ ولُطْفِهِ، قالَ الحقُّ سبحانَه: { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } . { النساء:9 } .
أيُّها المسلمُ البَرُّ التَّقِيُّ:
أَلا تَرْجُو أنْ تكونَ أنْتَ صاحِبَ هذِهِ المَنْقَبَةِ الرَّابِحَةِ، وَزعِيمَ هذِهِ التِّجارَةِ النَّاجِحَةِ، أَلا تَرْجُو أَنْ تكونَ حَرِيّاً بمَرْتَبَةِ القُرْبِ مِنْ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يومَ القيامَةِ؛ فقَدْ أخرَجَ البخاريُّ عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أنا وكافِلُ اليَتِيمِ في الجنَّةِ هَكَذا"، وقالَ بإصْبَعَيْهِ: السَّبابَةِ والوُسْطَى؛ أَيْ قَرَنَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ؛ دِلالَةً عَلَى قُرْبِ كافِلِ اليَتِيمِ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - يومَ القِيامَةِ، وفي هذا تَرْغِيبٌ في كَفالَةِ الأيْتامِ وَالْعِنايَةِ بأُمُورِهم، فَلَهم حَقٌّ عَظيمٌ عَلَى المسلمينَ، ولعلَّ السِّرَّ في قُرْبِ الكافِلِ مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه - صلى الله عليه وسلم - هَدَى اللهُ بهِ أَقْواماً بَعْدَ ضَلالَةٍ وأرْشَدَ بهِ آخَرِينَ بَعْدَ غَوَايَةٍ؛ قامَ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِم وأصْلَحَ مِنْ شَأْنِهم، وعَلَّمَهم مِنْ بَعْدِ جَهْلِهم وأرْشَدَهُم، ودَلَّهُم عَلَى الحَقِّ وإلَى الخَيْرِ أَوْصَلَهُم.(194/5)
وكذلِكَ كافِلُ اليَتِيمِ، يَحْفَظُ اليَتيمَ صَغِيراً، لا يَعْقِلُ ولا يَفْقَهُ قَليلاً ولا كَثيراً، فَيَدُلُّهُ وَيَهْدِيهِ، ويُهَذِّبُ أخْلاقَهُ ويُرَبِّيهِ، ثُمَّ يَحْفَظُ اليَتِيمَ كَبِيراً سَوِيّاً، عَزيزاً كَريماً وَفِيّاً، مَعَ ما يَتَحَمَّلُهُ الكافِلُ مِنَ التَّبِعاتِ المالِيَّةِ والبَدَنِيَّةِ والدِّينِيَّةِ.
عِبادَ اللهِ:
ولَقَدْ أوْصَى اللهُ تعالَى بِالْيَتَامَى؛ فقالَ سبحانَهُ: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } . { سورة البقرة:220 } ، وإذا ضَيَّعَ المسلمونَ تِلْكَ الأَمانَةَ؛ فَحَسْبُ اليَتَامَى أنْ يكونَ أُسْوَتُهُم محمّداً - صلى الله عليه وسلم -؛ فقَدْ تَيَتَّمَ - صلى الله عليه وسلم - فَرَعاهُ رَبُّهُ الكريمُ وتَوَلاهُ، وآوَاهُ وأنْعَمَ عَلَيْهِ وهَدَاهُ؛ قالَ تعالَى: { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى } { الضّحى:6 } .
إنَّ الأُمَّةَ إذا ضَيَّعَتْ ضَعِيفَها ويَتِيمَها، فَقَدْ حَكَمَتْ عَلَى نَفْسِها بالذِّ لَّةِ وَالهَوانِ وَالضَّيَاعِ وَالخُسْرانِ، ولَسَوْفَ تَتَعَطَّلُ مَصالِحُها ولا بُدَّ، أخرَجَ البخاريُّ مِنْ حديثِ مُصْعَبِ بنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَى سَعْدٌ - رضي الله عنه - أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاّ بِضُعَفَائِكُمْ".
بارَكَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعَنِي اللهُ وإيَّاكم بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ، أقولُ قَوْلِي هَذا وأستَغْفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، فاستَغْفِروهُ إنَّهُ هوَ الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية(194/6)
الحمدُ للهِ الْبَرِّ الجَوادِ الكريمِ، القابِضِ الباسِطِ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ، أحمدُهُ تعالَى عَلَى فَضْلِهِ العظيمِ، وإحْسانِهِ العَميمِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، أمَرَنا بِصِلَةِ الأرْحامِ وَمُواساةِ الفُقَراءِ وكَفالَةِ الأيْتامِ، وأشهدُ أنْ سيِّدَنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، أنْفَقَ مالَهُ في سبيلِ اللهِ، وفي الدُّنْيا لَمْ يَتَوَسَّعْ، وِبملاذِّها وَشَهَواتِها لَمْ يَتَمَتَّعْ، بَلْ كَرِهَ الحِرْصَ عَلَيْها والتَّنافُسَ فِيها، وذَمَّ ذَلِكَ وَشَنَّعَ، فما رُزِقْتَ يابْنَ آدَمَ فلا تُخَبِّئْ وَما سُئِلْتَ فلا تَمْنَعْ، اللهمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنا محمدٍ الشافِعِ المُشَفَّعِ، صاحِبِ الوَسيلَةِ والفَضيلَةِ والمقَامِ الأرْفَعِ، وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ وَالسَّالِكينَ مَنْهَجَهُ القَوِيمَ وصِراطَهُ المُسْتَقيمَ.
أمّا بعدُ: فاتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إليْهِ الوسيلَةَ بتَوْحيدِهِ وذِكْرِهِ وشُكْرِهِ، وَالنُّزولِ عِنْدَ شَريعَتِهِ وحُكْمِهِ.
أيُّها المسلمونَ:
تَوافَرَتْ نُصوصُ الكِتابِ والسُّنَّةِ عَلَى رِعايَةِ اليَتِيمِ، وحِفْظِ حَقِّهِ، زاجِرَةً عَنْ إيذائِهِ وتَضْيِيعِهِ، فقَدْ قالَ اللهُ تعالَى لنبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ } { الضحى:9 } ، وقالَ سبحانَهُ: { أَرَءيْتَ الَّذِى يُكَذّبُ بالدّينِ* فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ? { الماعون:1-2 } ،وقالَ تعالَى: { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ } { الفجر:17 } .
وفي الأَثَرِ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عمرَ رضِيَ اللهُ عنْهُما كانَ لا يَجْلِسُ عَلَى طَعامٍ إلاّ ومَعَهُ أيْتامٌ.(194/7)
أَلاَ وإنَّ خَفْضَ الجَناحِ لِلْيَتامَى وَالبائِسينَ دَليلٌ عَلَى نُبْلِ الأَصْلِ وطَهارَةِ المَعْدِنِ وكَمالِ المرُوءَةِ، والجزاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "صَنائِعُ المَعْروفِ تَقِي مَصارِعَ السُّوءِ"[أخرجَه الطبرانيُّ مِنْ حديثِ أبي أُمامَةَ - رضي الله عنه -]، فإذا رَجَوْتَ - أَخِي المسلمَ- أنْ تَتَّقِيَ لَفْحَ جَهَنَّمَ فارْحَمِ اليَتامَى وأحْسِنْ إليْهم؛ فقَدْ قالَ تعالَى: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا*إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا*إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا*فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا } { الإنسان:8-11 } ، وفي الحديثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَسْوَةَ قَلْبِهِ؛ فَقَالَ: "امْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ وَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ".[أخرجَه أحمدُ].
والأَوْصِياءُ عَلَى الأَيْتامِ تَكْلَؤُهُم عَيْنُ الرَّحْمَنِ إنْ أَحْسَنُوا، ويَحِيقُ بِهِم عِقابُهُ إذا أَساؤُوا وأفْسَدُوا، قالَ تعالَى:?إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ? { النساء:10 } ، وفي الحديثِ عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ فذكَرَ مِنْها:"وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ" [أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ].(194/8)
اللّهمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ ورسولِكَ محمّدٍ، وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ أجْمَعينَ. اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ, وأذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكينَ. اللهمَّ آمِنَّا في أوْطانِنا وأصْلِحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أُمُورِنا.
اللهمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ اجْعَلْنا هُدَاةً مُهْتَدِينَ؛ لا ضَالِّينَ ولا مُضِلِّينَ، وتَقَبَّلْنا في عِبادِكَ الصالِحينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ, وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ, ودَمِّرِ اللهُمَّ أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ، اللهُمَّ اقْسِمْ لنا مِنْ خَشْيَتِكَ ما تَحُولُ بهِ بَيْنَنا وبَيْنَ مَعاصِيكَ, ومِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنا بهِ جنَّتَكَ, ومِنَ اليَقينِ ما تُهَوِّنُ بهِ عَلَيْنا مَصائِبَ الدُّنيا، وَاجْعَلِ اللّهمَّ هذا البلَدَ آمِناً مُطمئنّاً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ، اللّهمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ الهُدَى وَالتُّقَى والعَفافَ وَالغِنَى ومِنَ العَمَلِ ما تَرْضَى، اللّهمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ فَواتِحَ الخيْرِ وخَوَاتِمَهُ وجَوَامِعَهُ وأوَّلَهُ وآخِرَهُ وظاهِرَهُ وباطِنَهُ، اللَّهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووَلِيَّ عَهْدِهِ لِهُداكَ، وَاجْعَلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللَّهمَّ احْفظْهما بحفْظِكَ، واكلأْهما بِرعايَتِكَ، وألبِسْهما ثوبَ الصِّحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، ياذا الجلالِ والإكرامِ، ربَّنا آتِنا في الدنيا حَسَنَةً؛ وفي الآخرةِ حَسَنَةً؛ وقِنا عذابَ النَّارِ، وَآخِرُ دَعْوَانا أنِ الحمدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(194/9)
اطبع هذه الصحفة
في وداع رمضان
إِخْوَةَ الإسلامِ:
إنَّ مِنْ شُكْرِ نِعْمَةِ التَّمامِ صَوْنَ عِيدِكِم عَنِ المُجاهَرَةِ بالذُّنُوبِ وَالْمعَاصِي وَالآثامِ؛ فاحْرِصُوا رَحِمَكُمُ اللهُ عَلَى ذلِكَ حِرْصَ الضَّنِينِ بِمالِهِ، وَإيَّاكُمْ وَالْوُقُوعَ فِيما حُرِّمَ عَلَيْكم، وَاللهَ اللهَ أَنْ تَكُونُوا فِي الْعِيدِ مُتَنَكِّرِينَ لأَمْسِكُمُ الكَرِيمِ، الذِي كانَ عامِراً بِالطَّاعاتِ، وَمَلِيئاً بِالصَّالحاتِ، لا تَسْتَبْدِلُوا بالذِي هُوَ خَيْرٌ الذِي هُوَ أَدْنَى، وَلا تَلْبَسُوا ثَوْبَ الضَّلاَلَةِ بَعْدَ ثَوْبِ الْهُدَى.
إِخْوَةَ الإيمانِ:
إنَّ مِنَ الأَعْمالِ الصَّالِحَةِ بَعْدَ رمضانَ صيامَ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، فقَدْ أخرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أبي أَيُّوبَ الأنصاريِّ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ صامَ رمضانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتّاً مِنْ شَوَّالٍ كانَ كِصِيامِ الدَّهْرِ".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 12/10/2007م
في وداع رمضان
الحمدُ للهِ مُسْدِي النِّعَمِ ومُهْدِيها، ومُتِمِّها ومُحْصِيها؛ له الحمدُ بِلا انْقِطاعٍ، وَلَهُ الشُّكْرُ بأَقْصَى ما يُسْتَطاعُ، لا خَيْرَ إلاّ مِنْهُ، ولا فَضْلَ إلاّ مِنْ لَدُنْهُ؛ سبحانَهُ ما أجْمَلَ عَوَائِدَهُ وأجْزَلَ فَوَائِدَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، أكْرَمُ مَنْ سُئِلَ، وأوْسَعُ مَنْ أُمِّلَ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمّداً عبدُهُ ورسولُهُ الصَّادِقُ الأمِينُ، ورَحْمتُهُ لِلْعالمَِينَ، وَنذيرُهُ للأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وبارَكَ عليهِ، وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ الغُرِّ المُحَجَّلِينَ والتَّابِعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحْسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ:(195/1)
فَأُوصِيكم -أيُّها الناسُ- ونفسِي بتقْوَى اللهِ تعالَى، فاتَّقُوا اللهَ رَبَّكم وأَصْلِحُوا النِّيَّةَ، وراقِبُوا مَوْلاكُم المُطَّلِعَ عَلَى الطَّوِيَّةِ، قالَ تعالَى: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون } { آل عمران:102 } .
أيُّها المسلمونَ:
جَعَلَ اللهُ تعالَى لكُلِّ أجلٍ كِتاباً، ولكُلِّ قَوْلٍ وفِعْلٍ حِسَاباً، وأيّامُ النَّاسِ مَرَاحِلُ مِنَ العُمْرِ تَفْنَى وتَبِيدُ، وتَصِيرُ عَوَاقِبُ المُحْسِنينَ فِيها وَالمُسِيئِينَ إلى المُبْدِي المُعِيدِ.
ها قَدْ مَضَتْ أيَّامٌ مُبَجَّلَةٌ بِخَيْراتِها، وتَصَرَّمَتْ لَيالٍ غُرٌّ بفَضائِلِها ونَفَحاتِها، وهَذا شَهْرُكُمُ الكريمُ وَدَّعَكُمْ عَلَى أَمَلِ لُقِيِّهِ، وَقُلوبُكم حَزِينَةٌ بِوَدَاعِهِ ومُضِيِّهِ، فاحْمَدُوا اللهَ تعالَى عَلَى اسْتِكْمالِكُم عِدَّتَهُ، وَإِتْمامِكُم طاعَتَهُ، فكَمْ مِنْ مُسْتَقْبِلٍ له ما اسْتَكْمَلَهُ!، ورَاجٍ قُدُومَهُ ما أدْرَكَهُ!.
عِبادَ اللهِ:
إنَّ مَرَّ الأيَّامِ يُذَكِّرُ بانْقِضاءِ الآجالِ وَالأَعْمارِ، ويُؤْذِنُ بقُرْبِ الوِفادَةِ عَلَى الواحِدِ القَهَّارِ، وَالعاقِلُ لا يَرْكَنُ إلى سَلامَةِ عيْشِهِ وهَنَاءَةِ بَالِهِ، ولا يَغْتَرُّ بالعافِيَةِ في نَفْسِهِ وَمالِهِ وآلِهِ، لَكِنَّهُ في مِثْلِ هذِهِ المَحَطَّاتِ الإيمانِيَّةِ يَشْحَذُ هِمَّتَهُ، ويُشْبِعُ مِنَ الصَّالِحاتِ نَهْمَتَهُ، يَبْكِي عَلَى الخَطيئَةِ والتَّقْصِيرِ في جَنْبِ اللهِ، وَيْندَمُ عَلَى التَّفْرِيطِ في حِفْظِ ما أوْلاهُ مَوْلاهُ.(195/2)
وإنَّ مِنْ تَمامِ شُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ تعالَى أنْ يَحْمِلَ المسلمُ نَفْسَهُ علَى صُنُوفِ الطَّاعاتِ وعُمُومِ الخَيْراتِ، ومِنْ ذلِكَ: دَوَامُ المحافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ في المساجِدِ، وبِرُّ الوالِدَيْنِ، وَصِلَةُ الأَرْحامِ، وتَطْهِيرُ المالِ مِنَ المُحَرَّماتِ وَالشُّبُهاتِ، وحِفْظُ اللِّسانِ مِنْ سائِرِ المُحَرَّماتِ، يقولُ ابنُ حِبَّانَ- رَحِمَهُ اللهُ-: "أفْضَلُ ذَوِي الْعُقُولِ مَنْزِلَةً أَدْوَمُهم لنَفْسِهِ مُحاسَبَةً، وَالسَّعِيدُ مَنِ اسْتَوْدَعَ صالِحاً مِنْ عَمَلِهِ، والشَّقِيُّ مَنْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ جَوارِحُهُ بِقَبِيحِ زَلَلِهِ".
أيُّها المسلمونَ:
صِيامُكم بابُ مِنْحَةِ المَغْفِرَةِ لكم، فَطُوبَى لِمَنِ اغْتُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَزَلَّاتُهُ، وتُقُبِّلَتْ تَوْبَتُهُ وصالِحاتُهُ، وأُقِيلَتْ هَفَواتُهُ وعَثَرَاتُهُ، وحَقِيقٌ بمَنْ رَجَا ذلِكَ أنْ يَشْكُرَ اللهَ سبحانَهُ شُكْراً لا يُحْصِيهِ العَدُّ عَلَى نِعْمَةِ التَّوْفِيقِ للصِّيامِ وَالقِيَامِ، قالَ اللهُ تعالَى: { وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون } . { البقرة:185 } .(195/3)
واعْلَمُوا - عِبادَ اللهِ- أنَّ الاستغفارَ هوَ خِتامُ الأعْمالِ الصَّالِحَةِ دائِماً؛ إذْ بِهِ يُدْفَعُ عَنِ النَّفْسِ شُعُورُها بالْكِبْرِ وَالزَّهْوِ وَالعُجْبِ، وهَذا ابنُ القَيِّمِ -رحِمَهُ اللهُ- يُبَيِّنُ حاجَةَ الطَّائِعينَ إلى الاسْتِغْفارِ؛ فَيَقُولُ: «الرِّضا بالطَّاعَةِ مِنْ رُعُوناتِ النَّفْسِ وحَمَاقَتِها، وأَرْبابُ العَزائِمِ وَالبَصائِرِ أشَدُّ ما يكونونَ اسْتِغْفاراً عَقِبَ الطَّاعاتِ؛ لِشُهودِهم تَقْصِيرَهم فِيها، وتَرْكَ القِيامِ للهِ بها كَما يَلِيقُ بجَلالِهِ وكِبْرِيائِهِ، وأنَّهُ لَوْلا الأَمْرُ لَما أقْدَمَ أحَدُهم عَلَى مِثْلِ هذِهِ العُبُودِيَّةِ ولا رَضِيَها لِسَيِّدِهِ"؛ قالَ اللهُ تعالَى: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا*يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا*وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا { } نوح:10-12 } .
مَعْشَرَ الْمُسلِمينَ:
أرَأَيْتُم لَوْ أنَّ عَزيزاً مِنَ الضُّيُوفِ عَلَيْكُم نَزَلَ، وحَبِيباً غائِباً طالَتْ غُرْبَتُهُ وَفَدَ وَحَلَّ، ومَعَ الشَّوْقِ إليْهِ غَمَرَكُم بإحسانِهِ وخَيْراتِهِ، وَأَفاضَ عَلَيْكم مِنْ نِعَمِهِ وبَرَكاتِهِ؛ فأحبَبْتُمُوهُ وأَحَبَّكُم، وأَلِفْتُمْ ظِلَّهُ وأَلِفَكُم، أَمَا كانَ يُشْجِيكُم فِراقُهُ وَوَداعُهُ؟ بَلَى إنَّ وَداعَهُ لَيُؤْلِمُ، وإنَّ فِراقَهُ لَيُسْقِمُ، وهَلْ هُناكَ فِراقٌ أشدُّ وَقْعاً وَوَدَاعاً، وأكْثَرُ أسًى وَالْتِياعاً؛ مِنْ وَدَاعِكُم شَهْرَ البِرِّ والجُودِ والإحسانِ، شَهْرَ القُرْآنِ والغُفْرانِ والعِتْقِ مِنَ النِيرانِ، شهرَ رمضانَ المُبارَكِ.
إخوةَ الإسلامِ:(195/4)
لِقَبُولِ العَمَلِ الصَّالِحِ عَلاَماتٌ، وَلِلرَّدِّ وَالخَيْبَةِ - والعِياذُ باللهِ- دَلائِلُ وأَماراتٌ، وإنَّ آيَةَ قَبُولِ الحَسَنةِ فِعْلُ الحَسَنَةِ بَعْدَها، وآيةَ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَها، فَتابِعوا الحَسَناتِ بالحَسَناتِ تُزَيِّنْهَا، وأَتْبِعُوا السيِّئاتِ بالحَسَناتِ تُكَفِّرْها، قالَ جلَّ وعَلا: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } { هود: 114 } ، وعَنْ أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ لي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"اتَّقِ اللهَ حَيْثُما كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحسَنةَ تَمْحُها، وَخالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ"[ رواه الترمذيُّ ].
بارَكَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفَعَنِي اللهُ وإيَّاكم بما فِيهِ مِنَ الآياتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ. أقولُ ما تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فاسْتَغْفِروهُ وتُوبُوا إليهِ، إنَّهُ هوَ التوَّابُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلَى تَوْفيقِهِ وإحْسانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى هِدايَتِهِ وَامْتِنانِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلِهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له تَعْظِيمًا وتَبْجِيلاً، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، وأصْدَقُ الخَلْقِ فِعْلاً وَقِيلاً؛ صلَّى اللهُ علَيْهِ وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ، وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيراً.
أمَّا بعدُ: فاتَّقُوا اللهَ، وتَضَرَّعُوا إليهِ وَاسْتَغْفِروهُ.
عِبادَ اللهِ:(195/5)
إنَّ مِنَ الشعائِرِ في خِتامِ شَهْرِكُمُ الكَرِيمِ إِخْراجَ زَكَاةِ الفِطْرِ؛ فَفِيها أُلْفَةُ القُلُوبِ وَجَبْرُ الخَوَاطِرِ، شُرِعَتْ طُهْرَةً للصَّائِمِ وطُعْمَةً لِلْمَساكِينِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:"فَرَضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ"[أخرجَه البخاريُّ]،
وعَنِ ابنِ عباسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهما قالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَكاةَ الْفِطْرِ؛ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاها قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، ومَنْ أَدَّاها بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ"[أخرجَهُ أبو داوودَ].
إِخْوَةَ الإسلامِ:
إنَّ مِنْ شُكْرِ نِعْمَةِ التَّمامِ صَوْنَ عِيدِكِم عَنِ المُجاهَرَةِ بالذُّنُوبِ وَالْمعَاصِي وَالآثامِ؛ فاحْرِصُوا رَحِمَكُمُ اللهُ عَلَى ذلِكَ حِرْصَ الضَّنِينِ بِمالِهِ، وَإيَّاكُمْ وَالْوُقُوعَ فِيما حُرِّمَ عَلَيْكم، وَاللهَ اللهَ أَنْ تَكُونُوا فِي الْعِيدِ مُتَنَكِّرِينَ لأَمْسِكُمُ الكَرِيمِ، الذِي كانَ عامِراً بِالطَّاعاتِ، وَمَلِيئاً بِالصَّالحاتِ، لا تَسْتَبْدِلُوا بالذِي هُوَ خَيْرٌ الذِي هُوَ أَدْنَى، وَلا تَلْبَسُوا ثَوْبَ الضَّلاَلَةِ بَعْدَ ثَوْبِ الْهُدَى.
إِخْوَةَ الإيمانِ:(195/6)
إنَّ مِنَ الأَعْمالِ الصَّالِحَةِ بَعْدَ رمضانَ صيامَ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، فقَدْ أخرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أبي أَيُّوبَ الأنصاريِّ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ صامَ رمضانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتّاً مِنْ شَوَّالٍ كانَ كِصِيامِ الدَّهْرِ".
ثُمَّ اعْلَمُوا - رحِمَكُمُ اللهُ - أنَّ اللهَ أمَرَكم بالصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَى نبيِّهِ وخَليلِهِ؛ فقالَ في مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا?. { الأحزاب:56 } .
اللهمَّ صَلِّ وسَلِّمْ علَى عَبْدِكَ ورَسُولِكَ محمّدٍ، وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ الأَخْيَارِ، وَارْضَ عَنَّا معَهَم برحْمَتِكَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمينَ.
اللهمَّ احْفَظْنا بالإسلامِ قائِمِينَ وَاحْفَظْنا بالإسلامِ قاعِدِينَ وَاحْفَظْنا بالإسلامِ راقِدِينَ، ولا تُشْمِتْ بِنَا الأَعْداءَ والحاسِدِينَ، وَاجْعَلْنا هُدَاةً مُهْتَدِينَ.
اللهُمَّ إِنَّا قَدْ تَوَلَّيْنا صِيامَ شَهْرِنا وقِيامَهُ عَلَى تَقْصِيرٍ، وأَدَّيْنا فيهِ مِنْ حَقِّكَ قَلِيلاً مِنْ كَثيرٍ، وقَدْ أَنَخْنا بِبابِكَ سائِلينَ، وَلِمَعْرُوفِكَ طالِبينَ، فَلا تَرُدَّنا خائِبينَ، ولا مِنْ رَحْمَتِكَ آيِسِينَ، فنحنُ الفقراءُ إِليكَ الأُسَرَاءُ بَيْنَ يَدَيْكَ، إِليكَ تَوَجَّهْنا ولِمَعْروفِكَ تَعَرَّضْنا، ولِبابِكَ قَرَعْنا، ومِنْ رَحْمَتِكَ سَأَلْنا، فَارْحَمْ خُضُوعَنا وَاجْبُرْ قُلُوبَنا وَاستُرْ عُيُوبَنا، وَاغفِرْ ذنُوبَنا، وَأَقِرَّ في القيامةِ عُيُونَنا ولا تَصرِفْ وَجْهَكَ الكريمَ عَنَّا وَاجْعَلْ عَمَلَنا مقبولاً، وَسَعْيَنا مَشْكُوراً وَحَظَّنا مَوْفُوراً.(195/7)
اللهمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنَّا، اللهمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنَّا، اللهمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنَّا، اللهمَّ أَعْتِقْ رِقابَنا مِنَ النَّارِ، اللهمَّ أَعْتِقَ رِقابَنا مِنَ النَّارِ، اللهمَّ أَعْتِقْ رِقابَنا مِنَ النَّارِ.
اللهمَّ أَيْقِظْ قُلُوبَنا مِنَ الغَفَلاتِ، وطَهِّرْ جَوَارِحَنا مِنَ المعاصِي وَالسَّيِّئاتِ، وَنَقِّ سَرَائِرَنا مِنَ الشُّرورِ وَالبَلايا، وَباعِدِ اللهمَّ بَيْنَنا وَبَيْنَ الآثامِ وَالْخَطايا، اللهمَّ اخْتِمْ بالصَّالحِاتِ أعْمَالَنا، وَبالْخَوَاتِيمِ الْحَسَنَةِ آجَالَنا، اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الشِّرْكَ وَالمُشْرِكينَ، ودَمِّرْ أعْداءَ الدِّينِ، وَاجْعَلْ هَذا البَلَدَ آمِنًا مُطْمَئنّاً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ.
اللهمَّ اغْفِرْ لِلْمسلمينَ وَالمسلماتِ، وَالمؤمنينَ وَالمؤمناتِ، وأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهم وأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهم وَاهْدِهِم سُبُلَ السَّلامِ، وجَنِّبْهُمُ الْفَواحِشَ وَالفِتَنَ ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ.
اللهمَّ وَفِّقْ جميعَ وُلاةِ المسلمينَ لِتَحْكِيمِ شَرْعِكَ، وَاتِّباعِ سُنَّةِ نَبِيِّكَ - صلى الله عليه وسلم - يا سميعَ الدُّعاءِ، رَبَّنا آتِنا في الدنيا حَسَنةً وفي الآخِرَةِ حَسَنةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ.
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(195/8)
اطبع هذه الصحفة
إنما يتقبل الله من المتقين
فأَبْشِرُوا فقَدْ وعَدَ رَبُّنا ـ عَزَّ وجَلَّ ـ أهْلَ التقْوَى بقَبُولِ أعْمالِهم فقالَ تعالَى: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } { المائدة: 27 } .
أيُّها المسلمونَ الأخْيَارُ:
إنَّ الأعْيادَ لَمْ تُشْرَعْ في مِلَّةِ الإسلامِ إلاّ لإظْهارِ البَهْجَةِ وَالسُّرورِ، وإِذْهابِ وَغْرِ الصُّدُورِ، ولإِبْرازِ شَعائِرِ الإسلامِ، وشُكْرِ المَوْلَى ـ جَلَّ جَلالُهُ ـ عَلَى ما أَوْلَى مِنَ الإِنْعامِ، فَصِلُوا في هَذا اليومِ المُبارَكِ أرْحامَكم، وَزُورُوا إِخْوَانَكم، وأَشْعِروا بفَرْحَةِ العِيدِ جِيرَانَكم، وَاجْبُروا ضُعفاءَكم، وأَعِينُوا فُقَراءَكم، وأَصْلِحُوا أَحْوَالَكم؛ لِتَدْخُلَ الفَرْحَةُ كُلَّ بَيْتٍ، وتَمْلأَ البَهْجَةُ كُلَّ قَلْبٍ مُسْلِمٍ.قالَ اللهُ تعالىَ: { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا } { النساء: 36 } .(196/1)
ومَنْ كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ أخِيهِ عَداوَةٌ أوْ شَحْناءُ، أوْ خُصُومَةٌ أوْ بَغْضاءُ؛ فَلْيَضَعْ يَدَهُ في يَدِهِ، وَلْيَغْسِلْ ما قَدْ عَلِقَ في قَلْبِهِ؛ حَذَراً مِنْ سَدِّ أَبْوَابِ الْقَبُولِ،وخَوْفاً مِنِ ارْتِهانِ الأَعْمالِ في سُلَّمِ الْوُصولِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ مُسلمٌ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ :" تُفْتَحُ أبوابُ الجنَّةِ يومَ الاثنينِ ويومَ الخميسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ باللهِ شيئاً إلاّ رَجُلاً كانَتْ بَيْنَهُ وبَيْنَ أَخِيهِ شَحْناءُ فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحَا".
خطبة عيد الفطر
بتاريخ 1من شوال 1428هـ
إنما يتقبل الله من المتقين
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ .
اللهُ أكبرُ كبيراً، والحمدُ للهِ كثيراً، وسبحانَ اللهِ بُكْرَةً وأَصِيلاً، سبحانَ خالِقِ العِبادِ، ومُجَدِّدِ الأَعْيادِ، سبحانَ مَنْ يُغْنِي الفقيرَ، وَيَجْبُرُ الكَسِيرَ، ويَكْلَأُ الصَّغِيرَ والكَبِيرَ، سبحانَ مَنْ يَكْسُو العارِيَ ويُطْعِمُ الجائِعَ ويُؤْوِي التائِبينَ، سبحانَ مَنْ يُغْدِقُ النِّعَمَ ويَدْفَعُ النِّقَمَ ويُجيبُ دَعْوَةَ المُضْطَرِّينَ.(196/2)
الحمدُ للهِ الذِي وَفَّقَنا لطاعَتِهِ، وهَدَانا لِلْقِيَامِ بِعِبادَتِهِ، وشَرَحَ صُدُورَنا لِتَوْحيدِهِ ومعرِفَتِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، فتَحَ للمُتَّقينَ أبوابَ رحْمَتِهِ ومغْفِرَتِهِ، وأغْلَقَ عَنْهم أبوابَ عَذابِهِ وسَطْوَتِهِ. وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ قامَ بحَقِّ دَعْوَتِهِ، واستجابَ لرَبِّهِ في تَبْلِيغِ رِسالَتِهِ؛ فكانَ مَناراً علَى مَحَجَّتِهِ، وبُرْهاناً قاطِعاً في حُجَّتِهِ، رَهَّبَ مِنْ عَذابِ اللهِ ورَغَّبَ في جَنَّتِهِ، ونَصَحَ فأخْلَصَ النُّصْحَ لأُمَّتِهِ، اللهمَّ صَلِّ وسَلِّمْ علَى هَذا الرسولِ النبيِّ الأُمِّيِّ وعلَى آلِهِ وصحابَتِهِ؛ إلى يَوْمِ يُحْشَرُ المُتَّقُونَ إلى دارِ كَرامَتِهِ ومُسْتَقَرِّ رَحْمَتِهِ.
أمِّا بعدُ:
فاتَّقُوا اللهَ ـ عِبادَ اللهِ ـ وأَطِيعُوهُ، واحْذَرُوا عِقابَهُ وارْجُوا ثوابَهُ ولا تَعْصُوهُ، قالَ اللهَ تعالَى: { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } { الأنفال: 33 } .
وَاعْلَموا أنَّ يَوْمَكم هَذا يومٌ عظيمٌ، وعِيدٌ كَريمٌ، أوْجَبَ اللهُ عَلَيْكم فِطْرَهُ، وحَرَّمَ علَيْكم صَوْمَهُ، تَوَّجَ اللهُ بهِ شَهْرَ الصِّيامِ، وَافْتَتَحَ بهِ أشْهُرَ الحَجِّ إلى بيْتِهِ الحرامِ . وإنَّه لمِنْ محاسِنِ دِينِ الإسلامِ : هَذا العِيدَ الذي تَتِمُّ فيهِ الفَرْحَةُ والسُّرورُ للأَنامِ، ويَتَلاقَى المسلمونَ فيهِ بالبِشْرِ وَالتَّهْنِئَةِ وَالسَّلامِ، ويُكَبِّرونَ اللهَ تعالَى علَى ما أَوْلاهُم مِنَ الفَضْلِ وَما أسْبَغَ مِنَ الإِنْعامِ . اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلاّ اللهُ، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، وللهِ الحَمْدُ .(196/3)
يا مَعْشَرَ مَنْ كُنْتُم بالأَمْسِ صائِمينَ قائمينَ، لقَدْ صُمْتُم نهارَ رمضانَ صابرينَ، وقُمْتُم لَيَالِيَهُ عابِدينَ مُتَقَرِّبينَ، تَرْجُونَ رَحْمَةَ رَبِّكم وَتَخافُونَ عَذابَ يَوْمِ الدِّينِ . يا مَنْ لَهِجَتْ أَلْسِنَتُكُم بِذِكْرِ اللهِ، يا مَنْ تَعَطَّرَتْ أَفْواهُكم بِتِلاوَةِ كِتابِ اللهِ، يا مَنْ بَكَتْ عُيُونُكُم لِسَماعِ كَلامِ اللهِ، يا مَنْ اطْمَأََ نَّتْ قُلُوبُكم بطاعَةِ الرَبِّ جَلَّ في عُلاهُ . كَمْ فَطَّرْتُم مِنْ صائِمٍ!، وأَعَنْتُم مِنْ قائِمٍ!، وعَفَوْتُم عَنْ مُخْطِئٍ أوْ ظالِمٍ!، يا مَنْ بَذَلْتُم وتَقَرَّبْتُمْ تَبْتَغونَ الأجْرَ والمغانِمَ، بُشْراكُم فهَذا يَوْمُ الجَوائِزِ للعامِلِ وصاحِبِ النِيَّةِ العاجِزِ، هَذا يَوْمُ إِتْمامِ الأَجْرِ لِلأَجيرِ، وَآنُ جَبْرِ القَلْبِ الكَسِيرِ. يا مَنْ أَخْرَجْتُم زَكاةَ فِطْرِكم للفُقَراءِ وَالمُحتْاجِينَ ، وأَدَّيْتُمُوها راضِينَ مُسْتَبْشِرِينَ؛ إِيماناً بما جاءَ في شَرِيعَتِكم عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهما حَيْثُ قالَ:"فَرَضَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَكاةَ الفِطْرِ؛ طُهْرَةً للصَّائِمِ مِنَ اللغْوِ والرَّفَثِ، وطُعْمَةً لِلْمَساكِينِ"[أخرجَه أبو داودَ وابنُ ماجَه].
إنَّ القُلُوبَ لَتَجْمَعُ في هَذا اليَوْمِ الأغَرِّ بيْنَ الفَرَحِ وَالسُّرورِ علَى إِسْباغِ النِّعْمَةِ وإتْمامِ الِمنَّةِ، والتوْفيقِ لِصيامِ رمضانَ وقِيامِهِ، وبَيْنَ الأَسَى علَى وَداعِ مَوْسِمِ الطاعاتِ وشَهْرِ البرَكاتِ وسُوقِ الحَسَناتِ. اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ،لا إلهَ إلاّ اللهُ، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، وللهِ الحمدُ .
أيُّها المؤمنونَ الأعِزَّةُ:(196/4)
إنَّكم صُمْتُم شهرَ رمضانَ المُبارَكِ، ولَقَدْ قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ صامَ رمضانَ إيماناً وَاحْتِساباً غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"[أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -]. وقُمْتُم لَيالِيَهُ تَلْتَمِسونَ لَيْلَةَ القَدْرِ فعَسَى أنْ تَكُونُوا حَظِيتُم بفَضْلِها وثَوابِها الذِي جاءَ علَى لسانِ نَبيِّكم - صلى الله عليه وسلم -إذْ قالَ:"مَنْ قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيماناً وَاحْتِساباً غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"[أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديِث أبي هريرةَ - رضي الله عنه -].
وهذِهِ بِشارَةٌ أُخْرَى أُشَنِّفُ بها أسْماعَكم وَأُثْلِجُ بها صُدُورَكم؛ فقَدْ رَوَى عَمْرُو بنُ مُرَّةَ الجُهَنِيُّ - رضي الله عنه - فقالَ: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسولَ اللهِ أَرِأَيْتَ إنْ شَهِدْتُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وأنَّكَ رسولُ اللهِ، وصَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ، وأَدَّيْتُ الزَّكاةَ، وصُمْتُ رَمضانَ وقُمْتُهُ فَمِمَّنْ أنا؟ قالَ :"مِنَ الصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ"[أخرجَه ابنُ حِبّانَ].
فأَبْشِرُوا فقَدْ وعَدَ رَبُّنا ـ عَزَّ وجَلَّ ـ أهْلَ التقْوَى بقَبُولِ أعْمالِهم فقالَ تعالَى: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } { المائدة: 27 } .
أيُّها المسلمونَ الأخْيَارُ:(196/5)
إنَّ الأعْيادَ لَمْ تُشْرَعْ في مِلَّةِ الإسلامِ إلاّ لإظْهارِ البَهْجَةِ وَالسُّرورِ، وإِذْهابِ وَغْرِ الصُّدُورِ، ولإِبْرازِ شَعائِرِ الإسلامِ، وشُكْرِ المَوْلَى ـ جَلَّ جَلالُهُ ـ عَلَى ما أَوْلَى مِنَ الإِنْعامِ، فَصِلُوا في هَذا اليومِ المُبارَكِ أرْحامَكم، وَزُورُوا إِخْوَانَكم، وأَشْعِروا بفَرْحَةِ العِيدِ جِيرَانَكم، وَاجْبُروا ضُعفاءَكم، وأَعِينُوا فُقَراءَكم، وأَصْلِحُوا أَحْوَالَكم؛ لِتَدْخُلَ الفَرْحَةُ كُلَّ بَيْتٍ، وتَمْلأَ البَهْجَةُ كُلَّ قَلْبٍ مُسْلِمٍ.قالَ اللهُ تعالىَ: { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا } { النساء: 36 } .
ومَنْ كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ أخِيهِ عَداوَةٌ أوْ شَحْناءُ، أوْ خُصُومَةٌ أوْ بَغْضاءُ؛ فَلْيَضَعْ يَدَهُ في يَدِهِ، وَلْيَغْسِلْ ما قَدْ عَلِقَ في قَلْبِهِ؛ حَذَراً مِنْ سَدِّ أَبْوَابِ الْقَبُولِ،وخَوْفاً مِنِ ارْتِهانِ الأَعْمالِ في سُلَّمِ الْوُصولِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ مُسلمٌ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ :" تُفْتَحُ أبوابُ الجنَّةِ يومَ الاثنينِ ويومَ الخميسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ باللهِ شيئاً إلاّ رَجُلاً كانَتْ بَيْنَهُ وبَيْنَ أَخِيهِ شَحْناءُ فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحَا".
أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ العَلِيَّ العَظِيمَ لي ولَكُمْ وَلسائِرِ المسلمينَ؛ فاسْتَغْفِرُوهُ إنَّه هوَ خَيْرُ الغافِرِينَ .(196/6)
الخطبة الثانية
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ.
الحمدُ للهِ الذي مَنَّ عَلَيْنا فأَفْضَلَ، وَالذي أَعْطانا فأَجْزَلَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له؛ خَلَقَنا لِعبادَتِهِ وتَوْحيدِهِ، وأَنْطَقَنا بِتَحْميدِهِ وتَسْبيحِهِ وتَمْجيدِهِ، تَفَرَّدَ بالعِزِّ والبَقاءِ، وتَوَحَّدَ بالعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، سبحانَهُ خَلَقَ فسَوَّى، وقَدَّرَ فهَدَى، وشَرَعَ الدِّينَ وأَكْمَلَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ومُصْطَفاهُ، وخَلِيلُهُ مِنْ خَلْقِهِ وَمُجْتَباهُ، صَاحِبُ الخُلُقِ الأَعْظَمِ وَالخَلْقِ الأَكْمَلِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعلَى آلِهِ وأصْحابِهِ الخِيَرَةِ الكُمَّلِ.
أمَّا بعدُ:
فاتَّقُوا اللهَ الذي تَساءَلُونَ بهِ والأَرْحامَ، وَاسْتَمْسِكوا بما شَرَعَهُ لكم مِنَ الهُدَى وَالأحْكامِ، وَاسْتَقِيمُوا علَى طاعَتِهِ في كُلِّ حَالٍ، وَاسْتَعِدُّوا لِيومٍ لا بَيْعٌ فيهِ ولا خِلالٌ .
عبادَ اللهِ:(196/7)
لقَدْ خَلَقَكُمُ اللهُ تعالَى لِعبادَتِهِ فاعْبُدُوهُ، وأَمرَكُم بإخْلاصِ الدِّينِ لَهُ فأَخْلِصُوهُ، وجعَلَ الشِّرْكَ بهِ أكْبَرَ الكبائِرِ فاجْتَنِبُوهُ، وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وحافِظُوا عَلَيْها فِي الجُمَعِ وَالْجَماعاتِ، وَآتُوا الزَّكاةَ، وحُجُّوا البَيْتَ قَبْلَ الفَوَاتِ، وحافِظُوا علَى أرْكانِ الإسلامِ وأُصولِ الإيمانِ، ودَاوِمُوا عَلَى المعروفِ والإِحْسانِ . أَوْفُوا بِالعُقُودِ، وحَافِظُوا عَلَى العُهُودِ، مُرُوا بالمعروفِ وَانْهَوْا عَنِ المُنْكَرِ، وأَحْسِنُوا إلى نِسائِكم فإنَّهُنَّ أَسِيرَاتٌ عِنْدَكم، وقَدْ وَصَّانا بذلِكُمُ المُصْطَفَى البَشِيرُ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ:"أكْمَلُ المؤمنينَ إيماناً أَحْسَنُهُم خُلُقاً، وخِيارُكُم خِيارُكُم لِنسائِهم"[أخرجَه الترمذيُّ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -].وَاحْرِصُوا عَلَى صَنائِعِ المعَرْوفِ، وإِغاثَةِ المَلْهُوفِ، ونُصْرَةِ المظْلُومِ وإِرْشادِ الظَّالِمِ، ورَدِّ المظالِمِ، والنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلمٍ ومُسْلِمَةٍ. عَنْ أبي أُمامَةَ - رضي الله عنه - قالَ : قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"صَنَائِعُ المَعْروفِ تَقِي مَصارِعَ السُّوءِ، وصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَبِّ، وصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ في العُمْرِ"[أخرجَه الطبرانيُّ] اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلاّ اللهُ، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، وللهِ الحمْدُ.
أيَّتُها المؤمناتُ المُبارَكاتُ:(196/8)
شَكَرَ اللهُ سَعْيَكُنَّ، وتَقَبَّلَ الموْلَى طاعَتَكُنَّ،وجعَلَ الجنَّةَ مَأْوَانا ومَأْواكُنَّ، أَطِعْنَ اللهَ ورسولَهَ، وأحْسِنَّ إلى أزْواجِكُنَّ، وقُمْنَ بأَداءِ الواجِبِ في تَرْبِيَةِ أوْلادِكُنَّ والإحسانِ إلى جِيرانِكُنَّ، تَمَسَّكْنَ بِقِيَمِ دِينِ رَبِّنا القَوِيمِ، وتَخَلَّقْنَ بأخْلاقِ القُرآنِ العظيمِ، وَاهْتَدِينَ بِسُنَّةِ الرَّسولِ الكريمِ عليهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ وأزْكَى التَّسْليمِ، وَاقْتَدِينَ بسيرَةِ أُمهَّاتِ المؤمنينَ: تُفْلِحْنَ في الدُّنيا ويومَ الدِّينِ. قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إذا صَلَّتِ المرأَةُ خَمْسَها، وصامَتْ شَهْرَها، وحَصَّنَتْ فَرْجَها، وأطاعَتْ بَعْلَها "أَيْ زَوْجَها" قِيلَ لها: ادْخُلِي مِنْ أَيِّ أبوابِ الجنَّةِ شِْئتِ "[أخرجَه ابنُ حِبّانَ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -].
أيُّها المسلمونَ:
لقَدْ عَلِمْتُم أنَّ العِيدَ ليسَ لِمَنْ لَبِسَ الجَدِيدَ، إذْ كُلُّ جَدِيدٍ يَبْلَى، ولكنَّ العيدَ لِمَنْ طاعاتُهُ تَزِيدُ، فَتَزوَّدُوا فإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التقْوَى.قالَ تعالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } { الأحزاب:71:70 } . أَلاَ وَأَتْبِعُوا صِيامَ رمضانَ بسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ؛ فإنَّ الحسنَةَ بعَشْرِ أَمْثالِها وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ واللهُ واسِعٌ عَليمٌ .عَنْ أبي أَيُّوبَ الأنصاريِّ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"مَنْ صامَ رمضانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتّاً مِنْ شَوَّالٍ كانَ كَصيامِ الدَّهْرِ"[أخرجَه مسلمٌ].(196/9)
اللهمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ مِنْهم وَالأمواتِ، إنَّكَ يا رَبَّنا سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدَّعَواتِ،اللهمَّ اهْدِ قُلُوبَنا، واسْتُرْ عُيوبَنا، وَاشْفِ مَرْضانا، وَعافِ مُبْتَلانا، وأَهْلِكْ أعْداءَنا، وَارْحَمْ شُهَداءَنا، وَاجْعَلِ الجنَّةَ مَأْوانا، وَقنِا مِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ ومِنْ عَذابِ النَّارِ، يا عَزِيزُ يا غَفَّارُ، اللهمَّ انْصُرِ الإسلامَ والمسلمينَ ، وأَعْل ِ كَلِمَةَ الحَقِّ والعَدْلِ وَالدِّينِ، وَانْصُرْ عِبادَكَ المؤمنينَ وجُنْدَكَ المُوَحِّدِينَ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِم يا رَبَّ العالَمينَ. اللهمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أُمورِنا لِهُداكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَهم في رِضاكَ، وَاجْعَلْ وِلايَتَنَا فِيمَنْ خَافَكَ وَاتَّقاكَ، وَاجْعَلْ بَلَدَنا هَذا آمِناً مُطْمَئنّاً سَخاءً رَخاءً وسائَرَ بِلادِ المسلمينَ، وآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الحمدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ .
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(196/10)
اطبع هذه الصحفة
الرفق بالخدم
مَعْشَرَ المسلمينَ والمسلماتِ:
إذا احْتَاجَ أحَدُكُم إلى الاسْتِعانَةِ بمَنْ يَخْدُمُهُ في قَضاءِ الحاجاتِ: فَعَليْهِ بِمُراعاةِ ما سَيَأْتِي مِنَ الحُقُوقِ وَالواجِباتِ، فمِنْ ذَلِكَ:أنْ يَقْدِرَ لِلْخادِمِ قَدْرَهُ؛ وأنْ يُعْطِيَهُ أجْرَهُ، فعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "قالَ اللهُ: ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهم يَوْمَ القِيامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرّاً فأكَلَ ثَمَنَهُ، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً فاسْتَوْفَى مِنْهُ ولَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ" [أخرجَه البخاريُّ].
وعليكَ أنْ لا تُكْثِرَ عَلَى الخادِمِ المسْأَلَةَ وَالطَّلَبَ، وأنْ لا تُقابِلَهُ إنْ قَصَّرَ بالتأَفُّفِ وَالعَتَبِ، فعَنْ أنسِ ابنِ مالكٍ - رضي الله عنه - قالَ: "خَدَمْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ سِنينَ، وَاللهِ ما قالَ لي أُفّاً قَطُّ، ولا قَالَ لي لِشَيْءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ وهَلاَّ فَعَلْتَ كَذَا" [أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ].
وتَذَكَّرْ تَقْصِيرَكَ في حَقِّ مَوْلاكَ وكُنْ مِنْهُ عَلَى وَجَلٍ، وَاعْفُ عَمَّا اقْتَرَفَهُ الخادِمُ مَعَكَ مِنَ الزَّلَلِ، وَاصْفَحْ عَمَّا قَصَّرَ فِيهِ مِنَ العَمَلِ، فعَنْ عبدِاللهِ بنِ عمرَ بنِ الخطابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهما قالَ: "جاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسولَ اللهِ؛ كَمْ أَعْفُو عَنِ الخادِمِ؟ فصَمَتَ عَنْهُ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قالَ: يارسولَ اللهِ، كَمْ أَعْفُو عَنِ الخادِمِ؟ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً"[أخرجَهُ أبوداودَ والترمذيُّ].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 8من شوال 1428هـ الموافق 19/10/2007 م
الرفق بالخدم(197/1)
الحمدُ للهِ الذي كتَبَ الإحْسانَ علَى كُلِّ شَيْءٍ ورَغَّبَ في حُسْنِ صَحَابَةِ الخادِمِ والأَجِيرِ، أحمدُ ربِّي حمداً كثيراً طيِّباً مُبارَكاً فيهِ علَى ما لَهُ مِنَ الْعَلْياءِ وَالْكِبْرِيَاءِ وهوَ العَلِيُّ الكبيرُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } { الشورى: 11 } .
وأشهدُ أنَّ نبيَّنَا ورسولَنَا: البشيرُ النذيرُ، والسِّراجُ المُنيرُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وعلَى آلِهِ وأزْواجِهِ وأَصْحابِهِ المُسارِعِينَ في الخَيْراتِ بالجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ، ومَنْ تبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يَوْمِ المصيرِ.
أمَّا بعدُ:
فأُوصِيكم ونفسِي بتَقْوَى المَلِكِ القُدُّوسِ، فتَقْوَى اللهِ تعالَى خَيْرُ لِباسٍ تَسَرْبَلَتْ بِه النُّفُوسُ، { يَا أيُّها الذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حقَّ تُقاتِهِ ولا تَموتُنَّ إلا وأنْتُمْ مُسلمونَ } { آل عمران:102 } .
مَعْشَرَ المؤمنينَ والمؤمناتِ:
إنَّ الرَّبَّ الحَكِيمَ تبارَكَ وتعالَى قَسَمَ بَيْنَ خَلْقِهِ المعَايِشَ في الحَياةِ الدُّنْيا ورَفَعَ بَعْضَهم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، وسَخَّرَهم لخِدْمَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً وأَوْصاهُم بحِفْظِ ما بَيْنَهم مِنَ الحُقُوقِ وَالوَاجِبَاتِ.
ومَعَ كَثْرَةِ الأَعْباءِ وَالمشاغِلِ الدُّنْيَوِيَّةِ: فقَدْ رَغَّبَتِ الشَّريعةُ الإسلامِيَّةُ المسلمَ وَالمسلمةَ في الاسْتِعانَةِ بأَسْبابِ الإعانَةِ المعْنَوِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، كَما أَذِنَتْ لَهُما بالأَخْذِ بِوَسائِلِ المساعَدَةِ الحسِّيَّةِ المرْعِيَّةِ.(197/2)
فمِنْ ذلكَ أنْ يَسْتَعينَ المؤمنُ والمؤمِنَةُ عَلَى كَثْرَةِ الأَعْباءِ وَالمشاغِلِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ بالمحافَظَةِ علَى الأذْكارِ والأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ، كَما أخْرَجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ - رضي الله عنه - قالَ: "إنَّ فاطِمَةَ رضِيَ اللهُ عَنْها اشْتَكَتْ ما تَلْقَى مِنَ الرَّحَى في يَدِها، وأَتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَبْيٌ، فانْطَلقَتْ فلَمْ تَجِدْهُ، ولَقِيَتْ عائشَةَ فأَخْبَرَتْها، فلمَّا جاءَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أخبَرَتْهُ عائِشَةُ بمَجِيءِ فاطِمَةَ إليْها، فجاءَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلَيْنا وقَدْ أَخَذْنا مَضاجِعَنا، فذَهَبْنا نَقومُ فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: عَلَى مَكانِكُما، فقَعَدَ بَيْنَنا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمِهِ عَلَى صَدْرِي، ثُمَّ قالَ: أَلا أُعَلِّمُكُما خَيْراً مِمَّا سأَلْتُما؟ إِذا أَخَذْتُما مَضاجِعَكُما أنْ تُكَبِّرا اللهَ أَرْبَعاً وَثلاثينَ، وَتُسَبِّحاهُ ثَلاثاً وثلاثينَ، وَتَحْمَدَاهُ ثَلاثاً وثلاثينَ، فهوَ خَيْرٌ لَكُما مِنْ خادِمٍ. فقالَ عَليٌّ: ما تَرَكْتُهُ مُنْذُ سَمِعْتُهُ مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قِيلَ له: وَلا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قالَ: وَلا لَيَلَةَ صِفِّينَ".
مَعْشَرَ المسلمينَ والمسلماتِ:(197/3)
إذا احْتَاجَ أحَدُكُم إلى الاسْتِعانَةِ بمَنْ يَخْدُمُهُ في قَضاءِ الحاجاتِ: فَعَليْهِ بِمُراعاةِ ما سَيَأْتِي مِنَ الحُقُوقِ وَالواجِباتِ، فمِنْ ذَلِكَ:أنْ يَقْدِرَ لِلْخادِمِ قَدْرَهُ؛ وأنْ يُعْطِيَهُ أجْرَهُ، فعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "قالَ اللهُ: ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهم يَوْمَ القِيامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرّاً فأكَلَ ثَمَنَهُ، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً فاسْتَوْفَى مِنْهُ ولَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ" [أخرجَه البخاريُّ].
وعليكَ أنْ لا تُكْثِرَ عَلَى الخادِمِ المسْأَلَةَ وَالطَّلَبَ، وأنْ لا تُقابِلَهُ إنْ قَصَّرَ بالتأَفُّفِ وَالعَتَبِ، فعَنْ أنسِ ابنِ مالكٍ - رضي الله عنه - قالَ: "خَدَمْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ سِنينَ، وَاللهِ ما قالَ لي أُفّاً قَطُّ، ولا قَالَ لي لِشَيْءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ وهَلاَّ فَعَلْتَ كَذَا" [أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ].
وتَذَكَّرْ تَقْصِيرَكَ في حَقِّ مَوْلاكَ وكُنْ مِنْهُ عَلَى وَجَلٍ، وَاعْفُ عَمَّا اقْتَرَفَهُ الخادِمُ مَعَكَ مِنَ الزَّلَلِ، وَاصْفَحْ عَمَّا قَصَّرَ فِيهِ مِنَ العَمَلِ، فعَنْ عبدِاللهِ بنِ عمرَ بنِ الخطابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهما قالَ: "جاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسولَ اللهِ؛ كَمْ أَعْفُو عَنِ الخادِمِ؟ فصَمَتَ عَنْهُ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قالَ: يارسولَ اللهِ، كَمْ أَعْفُو عَنِ الخادِمِ؟ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً"[أخرجَهُ أبوداودَ والترمذيُّ].
مَعْشَرَ الإِخْوةِ الكرامِ:(197/4)
ومَنْ أَذِنَ لخادِمِهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بفاضِلِ الطَّعامِ، عَلَى الفُقَراءِ وَالأَرَامِلِ وَالأَيْتَامِ: فهُوَ شَرِيكٌ له في أَجْرِ الإِكْرامِ، فعَنْ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها قالَتْ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تَصَدَّقَتِ المرْأَةُ مِنْ طَعامِ زَوْجِها غَيْرَ مُفسِدَةٍ: كانَ لها أجْرُها، وَلِزَوْجِها بما كَسَبَ، وَلِلْخازِنِ -أيِ: الخادِمِ ونَحْوِهِ- مِثْلُ ذَلِكَ" [أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ].
وَالْزَمْ رَحِمَكَ اللهُ تعالَى صِفاتِ خَيْرِ الناسِ، فأَشْرِكِ الخادِمَ فِيما تَأْكُلُ وما تَرْتَدِي مِنَ اللِّباسِ، فعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا أَتَى أحَدَكُم خادِمُهُ بطعامِهِ فإنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَه: فَلْيُناوِلْهُ أُكْلَةً أوْ أُكْلَتَيْنِ، أَوْ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، فإنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وعِلاجَهُ –أيْ: مَشَقَّةَ صُنْعِهِ وتَهْيِئَتِهِ" [أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ].
مَعْشَرَ الإِخْوَةِ الأَحْبابِ:
طَهِّرُوا أَلْسِنَتَكم مِنَ الشَّتائِمِ وَالسِّبابِ، فإنَّها مُوجِبَةٌ لِلْمَحْقِ وَالعَذابِ، فعَنْ زيدِ بنِ أَسْلَمَ قالَ: إنَّ عبدَ الْمَلِكِ بنَ مَرَوانَ بَعَثَ إلى أُمِّ الدَّرْداءِ بأَنْجادٍ مِنْ عِنْدِهِ - أيْ: مِنْ مَتاعِ بَيْتِهِ-، فلمَّا أنْ كانَ ذاتَ لَيْلَةٍ قامَ عبدُ الْمَلِكِ مِنَ الليلِ فَدَعا خادِمَهُ، فكأنَّهُ أبْطَأَ عَلَيْهِ فَلَعَنَهُ، فلمَّا أَصْبَحَ قالَتْ لَهُ أُمُّ الدَّرْداءِ: سَمِعْتُكَ الليْلَةَ لَعَنْتَ خادِمَكَ حِينَ دَعَوْتَهُ، فَقالَتْ: سَمِعْتُ أبا الدَّرْداءِ يَقولُ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لايَكونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعاءَ وَلا شُهَداءَ يَوْمَ القِيامَةِ" [أخرجَه مسلمٌ].(197/5)
فإِنْ دَعَتْكَ قُدْرَتُكَ عَلَى الخادِمِ إلى الاعْتِدَاءِ علَيْهِ: فَتَذَكَّرْ قُدُومَكَ عَلَى اللهِ تعالَى يَوْمَ القِيامَةِ وَوُقُوفَكَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فعَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها: "أنَّ رَجُلاً قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يُكَذِّبُونَنِي ويَخُونُونَنِي ويَعْصُونَنِي، وَأَشْتُمُهُم وَأَضْرِبُهُم، فكيَفَ أنَا مِنْهم؟ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: يُحْسَبُ ما خانُوكَ وَعَصَوْكَ وكَذَّبُوكَ وعِقابُكَ إيَّاهُم، فإنْ كانَ عِقابُكَ إيَّاهم بِقَدْرِ ذُنُوبِهم: كانَ كَفَافاً لا لَكَ ولا عَلَيْكَ، وإنْ كانَ عِقابُكَ إيَّاهُم دُونَ ذُنُوبِهِم: كانَ فَضْلاً لَكَ، وإنْ كانَ عِقابُكَ إيَّاهم فَوْقَ ذُنُوبِهِم: اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الفَضْلُ. فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فجَعَل يَبْكِي ويَهْتِفُ، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَمَا تَقْرَأُ كِتابَ اللهِ: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } { الأنبياء: 47 } ،فقالَ الرَّجُلُ: وَاللهِ يا رسولَ اللهِ ما أَجِدُ لِي وَلَهم شَيْئاً خَيْراً مِنْ مُفارَقَتِهِم، أُشْهِدُكَ أنَّهم أَحْرارٌ كُلُّهُم" [أخرجَهُ الترمذيُّ]،رَزَقَنِي اللهُ وإَّياكُمُ الاسْتِقامَةَ عَلَى ما أَمَرَنَا بهِ في الفُرْقانِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، وَوَفَّقَنا لِلاعْتِصامِ بما كانَ عَلَيْهِ النبيُّ الكريمُ، عليهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ وأزْكَى التَّسْلِيمِ، مِنَ الهَدْيِ القَوِيمِ، وَالصِّراطِ المستَقيمِ.
أقولُ ما تسمعونَ وأَستغفرُ اللهَ الغفورَ الحليمَ، لي ولكم مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وحَوْبٍ فَتُوبوا إليهِ وَاسْتغفِروهُ إنَّهُ هوَ التَّوَّابُ الرَّحيمُ.(197/6)
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذي لَمْ يَزَلْ بِالمعْروفِ مَعْروفاً، وَبِالنَّوالِ والإِفْضالِ مَوْصُوفاً، سبحانَهُ وَبحَمْدِهِ: يَجْبُرُ الكَسيِرَ، ويُغْنِي الْفَقِيرَ، ويُعَلِّمُ الجاهِلَ وَيُرْشِدُ الحَيْرانَ، ويَهْدِي الضَّالَّ ويُغِيثُ اللهْفانَ، وَيُعافِي المُبْتَلَى وَيَفُكُّ الْعانِيَ، ويُشْبِعُ الجائِعَ ويَكْسُو العارِيَ، ويُقِيلُ العَثَراتِ، ويَسْتُرُ العَوْراتِ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشاءُ، ويَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ يَشاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشاءُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، إنَّهُ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، وَصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ عَلَى عَبْدِهِ الأَمينِ، ورسولِهِ خاتَمِ النبيِّينَ، وَعَلَى آلِهِ وَأزْواجِهِ وَأصْحابِهِ أَجْمَعينَ.
أمَّا بعدُ فَيا مَعْشَرَ المسلمينَ:
أُوصِيكم وَنَفْسِي بتقْوَى رَبِّ العالَمِينَ، فاسْتَمْسِكوا بها فهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ لِلأوَّلِينَ وَالآخِرينَ.
مَعْشَرَ المسلمينَ والمسلماتِ:
لَقَدْ دَأَبَتْ وِزارَةُ الأَوْقافِ والشؤونِ الإسلامِيَّةِ بدولَةِ الكُوَيتِ عَلَى الاهْتِمامِ الاجْتِماعِيِّ وَالثقافِيِّ بِالجالياتِ، ومِنْ ذَلِكَ ما قامَتْ بِتَبَنِّيهِ مِنَ (المشروعِ الوطَنِيِّ لِتَوْعِيَةِ العَمَالَةِ المنْزِلِيَّةِ)، وَالذِي يَهْدِفُ إلى تَوْعِيَتِهِم وَكُفَلائِهم بالحُقوقِ الاجْتِماعِيَّةِ، التي كَفَلَتْها لِكِلا الطَّرَفَيْنِ سَماحَةُ الشريعَةِ الإسلامِيَّةِ.
وهَذا المشروعُ الذِي أَطْلَقَتْ عَلَيْهِ وِزارةُ الأوْقافِ وَالشؤونِ الإسلامِيَّةِ: اسْمَ (بَرِيرَةَ) هُوَ أَحَدُ المشارِيعِ الإنْسانِيَّةِ التي تُجَلِّي مَحاسِنَ الدِّينِ، وتُظْهِرُ جَمالَ وَسَطِيَّتِهِ بَيْنَ العالَمِينَ.(197/7)
فاسْتَمْسِكوا عِبادَ اللهِ تعالَى بهذِهِ الآدابِ وَالخِصالِ الكَرِيمَةِ، وتَخَلَّقُوا مَعَ مَنْ يَلِي شُؤونَ خِدْمَتِكم بالأَخْلاقِ العظيمَةِ، فإنَّما يَرْحَمُ اللهُ تعالَى مِنْ عِبادِهِ أَصْحابَ القُلُوبِ الرَّحِيمَةِ.
عِبادَ الرَّحْمنِ:
إنَّ اللهَ قَدْ أَمَرَكُم بأَمْرٍ بَدَأَ فيهِ بنفسِهِ التي كُلَّ يَوْمٍ هِيَ في شَانٍ، وَثَنَّى بملائِكَتِهِ التي لا تَفْتُرُ في لَيْلٍ ولا نَهارٍ عَنِ الحَمْدِ وَالسُّبْحَانِ، وَثَلَّثَ بِكم أيُّها الخَلْقُ مِنْ إِنْسٍ وَجَانٍّ، فقالَ إِعْلاءً لِقَدْرِ نَبيِّهِ وتَعْظِيماً، وإِرْشاداً لكم وَتَعْلِيماً: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } { الأحزاب: 56 } .
اللهمَّ صَلِّ عَلَى محمدٍ وعَلَى آلِ محمدٍ، كَما صَلَّيْتَ عَلَى إبراهيمَ وعَلَى آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ عَلَى محمدٍ وعَلَى آلِ محمدٍ، كَما بارَكْتَ عَلَى إبراهيمَ وعَلَى آلِ إبراهيمَ، في العالَمِينَ، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ.
وَارْضَ اللهمَّ عَنِ الأَرْبَعةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ، والأَئِمَّةِ الحُنَفَاءِ المَهْدِيِّينَ، أُولِي الفَضْلِ الجَلِيِّ، والقَدْرِ العَلِيِّ: أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وعمرَ الفاروقِ، وذِي النورينِ عُثْمانَ، وأَبِي السِّبْطَيْنِ عَلِيٍّ، وارْضَ اللهمَّ عَنْ آلِ نَبيِّكَ وأزواجِهِ المُطَهَّرِينَ مِنَ الأَرْجاسِ، وصَحابَتِهِ الصَّفْوَةِ الأَخْيارِ مِنَ الناسِ.(197/8)
اللهمَّ اغْفِرْ للمسلمينَ والمسلماتِ، والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم وَالأمْواتِ، اللهمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ، عاجلِهِ وآجِلِهِ، ما عَلِمْنا مِنْه وما لمْ نَعْلَمْ، ونَعوذُ بِكَ مِنَ الشرِّ كُلِّهِ، عاجِلِهِ وآجِلِهِ، ما عَلِمْنا مِنْهُ وما لم نَعْلَمْ، اللهمَّ إنَّا نسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ ما سَأَلَكَ عَبْدُكَ ونبيُّكَ - صلى الله عليه وسلم -، ونعوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما عاذَ بِهِ عَبْدُكَ ونَبِيُّكَ - صلى الله عليه وسلم -، اللهمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ الجَنَّةَ وما قَرَّبَ إلَيْها مِنْ قَوْلٍ أوْ عَمَلٍ، ونعوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وما قَرَّبَ إلَيْها مِنْ قَوْلٍ أوْ عَمَلٍ، ونسأَلُكَ أنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضاءٍ قَضَيْتَهُ لنا خَيْراً.
اللهمَّ آمِنَّا في الوَطَنِ، وادْفَعْ عَنَّا الفِتَنَ وَالمِحَنَ، ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ،اللهمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أُموُرِنا لِحَمْلِ الأَمانَةِ، وَارْزُقْهُم صَلاحَ البِطانَةِ، وَاحْفَظْهُم مِنْ كَيْدِ أَهْلِ البَغْيِ وَالخِيانَةِ.رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنةً، وفيِ الآخرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ.
عِبادَ اللهِِ: اذْكُروا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَكَبِّرُوهُ تَكْبِيراً، { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } { العنكبوت: 45 } .
………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(197/9)
اطبع هذه الصحفة
خطر الأمية علي الشعوب
فقد شاءت إرادة الله تعالى وحكمته البالغة أن تكون معجزة محمد صلوات الله وسلامه عليه كتاباً أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، وهو النبي الأمي الذي لم يجلس إلى معلم ولم يتخرج من مدرسة، وإنما تولته يد العناية الربانية، فشرح الله تعالى له صدره، وأعلى بين العالمين ذكره، فأقام شرع الله في أرضه، وربى خير أمة أخرجت للناس فقامت على العلم للإسلام دولة، وتربت على مائدة القرآن الكريم أمة ، امتدحها المولى في محكم كتابه بقوله سبحانه {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران: 110]، ولن يتأتى لنا – معشر المسلمين - ذلك إلا إذا كنا أمة عالمة متعلمة قادرة على أن تقرأ بالعلم كتاب الكون وتكتشف أسراره ، وتقف على قوانينه وسننه التي أودعها الباري جل علاه، لأنها قرأت كتاب ربها ودعت إلى ما فيه وعملت بأحكامه وتشريعاته وآدابه.
خطر الأمية علي الشعوب
الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأنزل عليه الكتاب والحكمة، وهداه الصراط المستقيم،، علم الإنسان ما لم يعلم، وامتن على صفوة خلقه بما أنعم عليه وتفضل، فقال سبحانه {وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء: 113].
سبحانه تنزلت آياته البينات على خاتم رسله وأنبيائه فكانت أول آية نزلت من القرآن الكريم(198/1)
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، إيذاناً بميلاد أمة جديدة معجزتها {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] أمة متعلمة تعلم الناس مما علمها الله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، علم آدم الأسماء كلها، فرفع بالعلم قدره، فخر الملائكة له سجدا بأمر ربه، وأعلى منزلة العلماء فجعلهم أهل طاعته وخشيته {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28].
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، أرسله ربه بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بأذنه وسراجاً منيراً، معجزته قرآن كريم تحدى به الإنسان والجن فعجزوا عن الإتيان بآية من مثله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون:
( 2 )
فقد شاءت إرادة الله تعالى وحكمته البالغة أن تكون معجزة محمد صلوات الله وسلامه عليه كتاباً أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، وهو النبي الأمي الذي لم يجلس إلى معلم ولم يتخرج من مدرسة، وإنما تولته يد العناية الربانية، فشرح الله تعالى له صدره، وأعلى بين العالمين ذكره، فأقام شرع الله في أرضه، وربى خير أمة أخرجت للناس فقامت على العلم للإسلام دولة، وتربت على مائدة القرآن الكريم أمة ، امتدحها المولى في محكم كتابه بقوله سبحانه {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران: 110]، ولن يتأتى لنا – معشر المسلمين - ذلك إلا إذا كنا أمة عالمة متعلمة قادرة على أن تقرأ بالعلم كتاب الكون وتكتشف أسراره ، وتقف على قوانينه وسننه التي أودعها الباري جل علاه، لأنها قرأت كتاب ربها ودعت إلى ما فيه وعملت بأحكامه وتشريعاته وآدابه.
الاخوة المسلمون:(198/2)
لقد نهض المسلمون في بواكير نهضتهم نهضة علمية غير مسبوقة، لأنهم وعوا بعقولهم، وفقهوا بقلوبهم تلك الآيات الكريمة التي كانت أول ما نزل على الرسول الكريم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1, 5].
فكان القرآن الكريم وعلومه المدرسة الأولى التي تعلموا فيها، فكانوا خير من تعلم وعلم وصدق الرسول الكريم" خيركم من تعلم القرآن وعلمه"[رواه البخاري].
وتوجهوا بهدى من كتاب ربهم ونور بصائرهم المؤمنة إلى كتاب الكون فوعوه، وإلى تراث التجارب الإنسانية في ميادين البحث العلمي فأفادوا منها ما أمكنهم من قدرات الحياة وعلوم الكون، والسنن التي أودعها الله تعالى مخلوقاته فكانت مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم عامرة بالطلاب، مزدانة بالعلماء، زاخرة بالباحثين، مليئة بالمؤلفات والمخترعات، فقهوا مدلول الحديث النبوي الشريف
"طلب العلم فريضة على كل مسلم" [البيهقي]، فكانت دور العبادة – المساجد – هي دور العلم والتعليم، وكان الركع السجود في محاريب الإيمان هم أنفسهم القائمون على أمر العلم والتعليم في شتى فروع المعرفة من علوم الفقه والعقيدة والتفسير والحديث واللغة والأدب ومن العلوم التجريبية كعلوم الطب والصيدلة والهندسة والكيمياء والعلوم الزراعية وعلوم الفلك والبحار والعلوم الجغرافية من وصف للأرض وتقسيم لها وبيان لميزات أقاليمها المختلفة.
ولذلك كانت حواجز العالم الإسلامي في مشرقه ومغربه مقصداً للعلماء من شتى أقطار الأرض ومن مختلف الديانات فالعديد من بابوات روما تلقوا تعليمهم في معاهد وجامعات الأندلس، وهذا التاريخ العريق لن يجدينا في شىء وأن نتغنى به ونقعد عن بلوغ منزلة أولئك الآباء والأجداد الذين عبدوا طريق العلم، وأعلوا له في كل قطر مناراً.
( 3 )
معشر المسلمين:(198/3)
إن الناظر في أحوال المسلمين اليوم يجد أنهم دون كثير من شعوب العالم المتقدم عناية بالعلم وتقديراً للعلماء، وبصرا بأحوال الكون، واكتشافاً لأسراره، فالعلم قد اجتاز أقطار الأرض، وحمل الشعوب التي جعلته زادها وقوتها إلى أجواء الفضاء فلامست أرجلهم سطح القمر، وشقوا طريقهم إلى كواكب أبعد منه بما اخترعوه من آلات ومعدات.
ولم يكن بدعاً أن تصبح مفاتيح العلوم بأيديهم، ونصبح نحن عالة عليهم في كل أمور حياتنا، لأن الأمية بين شعوبنا العربية والإسلامية لا تزال تشكل نسبة خطيرة تبلغ 50 % بل تتجاوزها في بعض هذه الدول في حين نجد دولاً كثيرة من العالم غير الإٍسلامي قد احتفلت بمحو أمية آخر فرد فيها منذ عشرات السنين.
فتأهيل الشعوب للحياة الحرة الكريمة لا بد أن ينطلق من قاعدة أساسية هي أن يتأهل الإنسان ليعيش عصره ، ويمتلك من المهارات والمعرفة والعلم ما يسابق به غيره من بني الإنسان في كشف أسرار الكون ومعرفة سننه وقوانين سيره.
اخوة الإسلام:
يقول المولى جل وعلا في محكم كتابه {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [العنكبوت: 20] ويقول سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز}[الحديد: 25].
فالله تعالى يطالبنا أن نسير في الأرض وندرس كل مكوناتها، لنقف على أسرار الحياة، ونعرف كيف نتعامل مع ما أودع الله تعالى فيها من كنوز، لنستفيد منها في حياتنا.(198/4)
وقد جمع سبحانه في آية واحدة بين إرسال الرسل وإنزال البيانات والكتب السماوية وخلق الحديد الذي ينتفع به الناس، ويفيدون مما فيه من قوة وبأس وصلابة تجعله صالحاً لصناعة الآلات والمعدات والأسلحة التي نحمي بها مقدساتنا وحرماتنا وأوطاننا فكيف يتأتى لأمة لا تقرأ ولا تكتب أن تفتح صفحة الكون، وتمتلك قدرة الإبداع والاختراع ؟!
( 4 )
إخوة الإيمان والإسلام:
إن ديننا هو دين العلم والتعلم، دين الثقافة والحضارة، فجدير بنا أن نقف على قدم المساواة مع الأمم الأخرى غير المسلمة التي سبقتنا في المضمار العلمي، وحتى النابهين في كثير من الدول الإسلامية تضيق بهم دولهم، ولا يجدون لهم متنفساً إلا في دول غير إسلامية ترعاهم وتقدم لهم كل عون ومساعدة، ليبتكروا ويخترعوا وتستفيد هي من ثمرات عقولهم ومن نتاج عبقرياتهم.
إن خطر الأمية على الشعوب ماحق ومدمر يدمر القيم، ويدمر المقدرات الروحية والمادية، ويجعل هذه الشعوب فريسة للأمراض العضوية والنفسية ونهباً للخرافات، وتربة صالحة لكل عوامل التخلف والتأخر، وتشير إحصاءات اليونسكو إلى أن عدد الأميين في العالم العربي كان 61 مليوناً في 1995م من بين مائتي مليون.
إننا نريد أمة دائمة التعلم، فلم تعد المدرسة أو الجامعة هي وحدها مصدر العلم والثقافة، ولم يعد ما نعلمه منذ عام هو نهاية المطاف، ففي خلال عام واحد تتجدد الكثير من المعارف وتكتشف العديد من الحقائق وفي الأثر "لا طلعت علي شمس يوم لم أزدد فيه علماً".
إننا ندعو أمة الإسلام إلى التسلح بالعلم والثقافة، لتعود من جديد أمة الريادة والسبق العلمي، لتزداد رفعة وقوة بإيمانها وعلمها {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].
نسأل الله تعالى أن يهيئ لنا من أمرنا رشدا، ويأخذ بنواصينا إلى طريق الحق، ويهدينا سواء السبيل، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.(198/5)
ويتوب علينا توبة نصوحا على ما فرطنا في جنب الله، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، نحمده - سبحانه وتعالى- ونشكره، ونتوب إليه جل شأنه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، المنزل عليه في الكتاب الكريم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيما} [الأحزاب: 56].
اللهم أدم صلواتك وتسليماتك على خير خلقك سيدنا محمد، وعلى إخوانه النبيين وآل بيته الطاهرين وصحابته أجمعين، واحشرنا اللهم في زمرتهم يارب العالمين.
أوصيكم - عباد الله - بتقوى الله العظيم في السر والعلن، وأحذركم - وإياي - من الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، والله - تعالى - أسأل أن يغفر لي ولكم وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.
ربنا لا تدع لنا في هذا اليوم العظيم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ظالماً إلا أخذته وأهلكته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضا، ولنا صلاح إلا قضيتها بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين، يارب العالمين، واختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين.
اللهم إنا نسألك أن تؤيد بنصرك الإسلام والمسلمين، اللهم احفظ بعينك التي لا تنام صاحب السمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين وأن توفقهم لما فيه صلاح الدنيا والدين، وأن تشد ازرهم ببطانة صالحة تعينهم على الخير، وتنصح لهم بالمعروف، وتشير عليهم بما يصلح أمر المسلمين، وتأخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه يارب العالمين.(198/6)
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار وأجعل لأسرانا من عسرهم يسراً، ومن ضيقهم فرجا، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أغثنا ، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علينا مدراراً
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(198/7)
اطبع هذه الصحفة
المشكلات الأسرية
أيُّها النَّاسُ:
إنَّ الأُسْرَةَ المسلمةَ هِيَ البِدايَةُ الصَّحيحةُ لِلْمُجْتَمَعِ الصَّالِحِ المُتَرابِطِ؛ إِذْ بصَلاحِ الفَرْدِ تَصْلُحُ الأُسْرَةُ، وبِصَلاحِهما يَصْلُحُ المجتمَعُ بأَسْرِهِ، ولَقَدِ اهْتَمَّ الإسلامُ بالأُسْرَةِ اهْتِماماً لا مَزِيدَ عَلَيْهِ، فشَرَعَ أَسَاسَاتِ تَكْوِينِها، وبيَّنَ وَسائِلَ تَرابُطِها؛ لتَبْقَى الأسْرَةُ المسلمةُ مُتَماسِكَةً مُتَراحِمَةً، لا يَنْخَرُ في أجْزائِها البَلاءُ، ولا تَهْتَزُّ أرْكانُها بأَوْهَى لَأْوَاءَ، قالَ سبحانَهُ وتعالَى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } . { الرّوم:21 } .
ولأَجْلِ سَعادَةِ الأُسَرِ دَعا الإسلامُ إلى حُسْنِ المُعامَلَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلُزومِ طِيبِ العِشْرَةِ ودَماثَةِ الأَخْلاقِ وَلِينِ الجانِبِ، حتَّى تَسُودَ المودَّةُ والرَّحْمَةُ، وحذَّرَ مِنْ كُلِّ ما يُنَغِّصُ الحيَاةَ الأُسَرِيَّةَ، ويُؤَدِّي إلى تَعْكِيرِ صَفْوِها، وتَشْتِيتِها في أوْدِيَةِ الانْقِسامِ وَالتَّباغُضِ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزّعة
بتاريخ: 15 شوال 1428هـ. الموافق: 26 /10/2007م
المشكلات الأُسريّة(199/1)
الحمدُ للهِ القاهِرِ فَوْقَ عِبادِهِ عِزّاً وجَبَروتاً وَسُلْطاناً، أحمدُهُ سبحانَهُ وأَشْكُرُهُ علَى ما عَمَّ بهِ مِنَ الجُودِ والفَضْلِ إِكْراماً وإِحْساناً، هَدَى إلى النَّجْدَيْنِ، وبَيَّنَ سُبُلَ الْمَحَجَّتَيْنِ؛ فمُرْتَكِسٌ مِنَ العِبادِ في الكُفْرِ ومُنْتَحِلٌ مِنْهم هِدايَةً وإِيماناً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ؛ دَعا إلى دِينِ اللهِ سِرّاً وإعْلاناً، صَلَّى اللهُ وسلَّمَ وبارَكَ علَيْهِ وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ الذينَ كانوا له عَلَى الحقِّ أنْصاراً وَأعْواناً.
أمَّا بعدُ: فأُوصِيكم -أيُّها الناسُ ونفسِي- بتقْوَى اللهِ تعالَى في السِّرِّ والعَلانِيَةِ، ولا تَغُرَّنَّكُم عَنِ النُّزُلِ الخالِدَةِ الدَّارُ الفانِيَةُ، قالَ اللهُ تعالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمران:102 } .
أيُّها النَّاسُ:
إنَّ الأُسْرَةَ المسلمةَ هِيَ البِدايَةُ الصَّحيحةُ لِلْمُجْتَمَعِ الصَّالِحِ المُتَرابِطِ؛ إِذْ بصَلاحِ الفَرْدِ تَصْلُحُ الأُسْرَةُ، وبِصَلاحِهما يَصْلُحُ المجتمَعُ بأَسْرِهِ، ولَقَدِ اهْتَمَّ الإسلامُ بالأُسْرَةِ اهْتِماماً لا مَزِيدَ عَلَيْهِ، فشَرَعَ أَسَاسَاتِ تَكْوِينِها، وبيَّنَ وَسائِلَ تَرابُطِها؛ لتَبْقَى الأسْرَةُ المسلمةُ مُتَماسِكَةً مُتَراحِمَةً، لا يَنْخَرُ في أجْزائِها البَلاءُ، ولا تَهْتَزُّ أرْكانُها بأَوْهَى لَأْوَاءَ، قالَ سبحانَهُ وتعالَى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } . { الرّوم:21 } .(199/2)
ولأَجْلِ سَعادَةِ الأُسَرِ دَعا الإسلامُ إلى حُسْنِ المُعامَلَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلُزومِ طِيبِ العِشْرَةِ ودَماثَةِ الأَخْلاقِ وَلِينِ الجانِبِ، حتَّى تَسُودَ المودَّةُ والرَّحْمَةُ، وحذَّرَ مِنْ كُلِّ ما يُنَغِّصُ الحيَاةَ الأُسَرِيَّةَ، ويُؤَدِّي إلى تَعْكِيرِ صَفْوِها، وتَشْتِيتِها في أوْدِيَةِ الانْقِسامِ وَالتَّباغُضِ.
عِبادَ اللهِ:
كثيرةٌ هِيَ الأَسْبابُ التي قَدْ تَعْصِفُ بِوَحْدَةِ الأُسْرَةِ وتُفَرِّقُ شَمْلَها، وتَأْتِي عَلَى بُنْيانِها بِالْهَدْمِ وَالنَّقْضِ، وَلَرُبَّما امْتَدَّتْ سَرَايَا الجِراحاتِ إلى الْمُجْتَمَعِ بأَسْرِهِ فَفَكَّكَتْهُ وَدَمَّرَتْهُ، ومِنْ تِلْكَ الأسْبابِ: سُوءُ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ أوِ الزَّوْجَةِ؛ إذْ عَلَى الرَّجُلِ وَالمرْأَةِ أنْ يَعْمَلا جاهِدَيْنِ عَلَى اخْتِيارِ ذِي الدِّينِ والخُلُقِ؛ فإنَّ الدِّينَ بَوَّابَةُ السَّلامَةِ والعَافِيَةِ، وفأْلُ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ، أَخْرَجَ التِّرْمِذيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"، وَأَكَّدَ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ضَرُورَةِ حُسْنِ الاخْتِيَارِ، وأَمَرَ بِالبَحْثِ وَالسُّؤَالِ وطُولِ التَّحَرِّي عَنْ صِفَةِ الدِّينِ في الزَّوْجَيْنِ؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" تُنْكَحُ المرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا؛ فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"[أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ]؛ فإذا فُقِدَتْ هذِهِ الصِّفَةُ الأَساسِيَّةُ وَالْخَصْلَةُ الذَّهَبِيَّةُ كانَ اسْتِمْرارُها ودُوَامُها مُتَعَذِّراً،(199/3)
ومَنْ كانَ باللهِ أَعْرَفَ، كانَ إليهِ أَقْرَبَ ومِنْ جَنَابِهِ أَخْوَفَ.
أيُّها المسلمونَ:
ومِنْ تِلْكَ الأَسْبابِ: تَقْصِيرُ كُلٍّ مِنْهما في حَقِّ الآخَرِ، فَكَما أنَّ لهما حُقُوقاً، فإنَّ عَلَيْهما واجِباتٍ يَلْزَمُ أَداؤُها والعِنايَةُ بها، قالَ اللهُ تعالَى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ } . { البقرة:228 } ، فعَلَى كُلٍّ مِنْهما مُراعاةُ الآخَرِ، وَحِفْظُهُ في كُلِّ حالٍ، قالَ اللهُ سبحانَه: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } . { النساء:19 } .(199/4)
ومِنْها: تَطَاوُلُ الزَّوْجَةِ وتَمَرُّدُها عَلَى أَوامِرِ زَوْجِها، وعَدَمُ انْصِيَاعِها لِقَوَامَتِهِ عَلَى بَيْتِهِ، وتِلْكَ المُعامَلَةُ السَّيِّئَةُ هِيَ بابُ الشَّرِّ الذي إنِ انْفَتَحَ صَعُبُ غَلْقُهُ، ولَوْ كانَتِ الزَّوْجَةُ مِنَ العَاقِلاتِ لَعَمِلَتْ عَلَى تَأْدِيَةِ حُقوقِ زَوْجِها، التي مِنْ أَهَمِّها طاعَتُهُ في الْمَعْروفِ، فعَنْ قَيْسِ بنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: " أَتَيْتُ الْحِيرَةَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِمَرْزُبَانٍ لَهُمْ؛ فَقُلْتُ: رَسُولُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُسْجَدَ لَهُ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: إِنِّي أَتَيْتُ الْحِيرَةَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِمَرْزُبَانٍ لَهُمْ فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ، قَالَ:" أَرَأَيْتَ لَوْ مَرَرْتَ بِقَبْرِي أَكُنْتَ تَسْجُدُ لَهُ؟" قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: " فَلَا تَفْعَلُوا؛ لَوْ كُنْتُ آمِراً أَحَداً أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ النِّسَاءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لِأَزْوَاجِهِنَّ لِمَا جَعَلَ اللهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنَ الْحَقِّ" وَالمرْزُبانُ: كبيرٌ مِنْ كُبَرائِهم؛ [أخرجَه أبو داودَ].
مَعْشَرَ الأَزْواجِ:(199/5)
ومِنْ هذِهِ الأَسْبابِ: عَدَمُ مُراعاةِ الزَّوْجِ أوِ الزَّوْجَةِ لِمَا يُعْجِبُ أَحَدَهما مِنَ الآخَرِ، وإهْمالُ ذَلِكَ بالكُلِّيَّةِ، فَمِمَّا يُخْطِئُ فيهِ كَثِيرٌ مِنَ الزَّوْجاتِ مَثَلاً: تَعَمُّدُ التَّزَيُّنِ والمُبالَغَةُ فِيهِ، ولُبْسُ أَحْسَنِ الملابِسِ، وَالظُّهورُ بأَجْمَلِ مَظْهَرٍ عِنْدَ خُروجِها مِنَ البَيْتِ لِحُضورِ مُناسَبَةٍ مَا، أوْ عِنْدَ اسْتِقْبالِها الزَّائِراتِ وَالصَّدِيقَاتِ في مَنْزِلِها، بَيْنَما تَكونُ عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ إذا كانَتْ في البَيْتِ أمامَ زَوْجِها، ولَرُبَّما قَابَلتْهُ بِوَجْهٍ باهِتٍ شاحِبٍ، وبهَيْئَةٍ غَيْرِ لائِقَةٍ؛ فمِثْلُ هَذا التَّصرُّفِ يُنَغِّصُ عَلَى الزَّوْجِ حَياتَهُ، ويُحْدِثُ في نَفْسِهِ رَدَّةَ فِعْلٍ مِنْ شَأْنِها أَنْ تُؤَدِّيَ بهِ إلى بُغْضِ زَوْجَتِهِ ونُفْرَتِهِ مِنْها، لا سِيَّما إذا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْها وَداوَمَتْ عَلَيْهِ، وكَذلِكَ الأمْرُ بِالنِّسْبَةِ إلى الزَّوْجِ؛ لا فَرْقَ؛ حَيْثُ يُقابِلُ أَصْحابَهُ بِالبَشاشَةِ وَالبِشْرِ، فإذا دَخَلَ دارَهُ انْقَلَبَتْ أَخْلاقُهُ وطِباعُهُ، واللهُ تعالَى يقولُ: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } { البقرة:228 } .
أيُّها المسلمونَ:(199/6)
ويُعَدُّ مِنْ هذِهِ الأسبابِ: اسْتِخْدامُ الأَلْفاظِ النَّابِيَةِ وَالعِباراتِ اللاَّذِعَةِ وَالكَلِماتِ الجارِحَةِ في التَّخاطُبِ، فَيُسْمِعُ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ صاحِبَهُ ما لا يَتَحَمَّلُهُ ولا يُطِيقُهُ، وَالزَّوْجانِ الصَّالِحانِ يَسْتَخْدِمانِ الكَلِمَةَ المُناسِبَةَ والعِبارَةَ اللَّطِيفَةَ في المَوْقِفِ المُنَاسِبِ، وَبحِكْمَتِهما وتَعَقُّلِهِما يُحَوِّلانِ المَوْقِفَ الكلامِيَّ المتأزِّمَ إلى مُفاهَمَةٍ ولُطْفٍ، وما أجَمَلَ البيْتَ الذي تَرْعاهُ زَوْجَةٌ دَيِّنَةٌ مَصُونَةٌ، فَطِنَةٌ لَبِقَةٌ مَأْمونَةٌ، تَنْتَقِي ألفاظَها بِكُلِّ عِنَايَةٍ، وَترْعَى كَلِماتِها خَيْرَ رِعايَةٍ، بَعِيدَةٌ عَنِ القِيلِ وَالقَالِ وَالثَّرْثَرَةِ، نائِيَةٌ عَنِ الغِلْظَةِ وَالجَفاءِ وَالقْسْوَةِ، أَنيقَةٌ في مَظْهَرِها، نَقِيَّةٌ في سِرِّها ومَخْبَرِها، عَذْبَةٌ في مَنْطِقِها، فتِلْكَ التي تَمْلأُ المنْزِلَ فَرْحَةً وسَعادَةً، وتُضْفِي عَلَى الأُسْرَةِ جَوًّا مِنَ الهَناءِ وَالموَدَّةِ وَاللَّطافَةِ، وَأَمْثالُها في مُجْتَمَعِنا كَثيرٌ، وَالحمدُ للهِ.
خُذِي العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمي مَوَدَّتِي ولا تَنْطِقِي في سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ
ولا تَنْقُرِينِي نَقْرَكِ الدُّفَّ مَرَّةً إنَّكِ لا تَدْرِينَ كَيْفَ المُغَيَّبُ
ولا تُكْثِرِي الشَّكْوَى فتَذْهَبَ بالْقُوَى ويَأْباكِ قَلْبِي وَالقُلُوبُ تَقَلَّبُ
فإنِّي رأيتُ الحُبَّ في القَلْبِ وَالأذَى إذا اجْتَمَعا لَمْ يَلْبَثِ الحُبُّ يَذْهَبُ
بارَكَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفَعَنِي وإيَّاكُم بما فيهِ مِنَ الآياتِ وَالذِّكْرِ الحكيمِ، أقولُ قَوْلِي هَذا، وأَستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم فاستَغْفِروهُ، إنَّه هوَ الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية(199/7)
الحمدُ للهِ مَلأَ بنُورِ الإيمانِ قُلوبَ السُّعَداءِ مِنْ أَوْلِيائِهِ المتَّقينَ، وعَجَّلَ بِالفَرَجِ لِلْمؤمِنينَ الصَّابِرينَ، أحمدُهُ سبحانَه وأشكُرُهُ وقَدْ أَذِنَ بالمَزيدِ للشَّاكِرينَ، وأَسْتغفِرُهُ وهُوَ أَهْلٌ لِلْمَغْفِرَةِ لِلْمُسْتَغْفِرينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له المَلِكُ الحَقُّ المُبِينُ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ الأمينُ، صلَّى اللهُ وَسلَّمَ وبارَكَ علَيْهِ وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ وأتْباعِهِ إلى يَوْمِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ: فاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ- وعَظِّمُوهُ، وتَضَرَّعُوا إليهِ وَاسْتَغْفِروهُ.
إِخوةَ الإسلامِ:
إنَّ بِناءَ الأُسْرَةِ عَلَى وَفْقِ مَقْصودِ الشَّارِعِ أمرٌ جِدُّ خَطِيرٍ، وهُوَ واجِبٌ لا يَحْتَمِلُ الإخْلالَ وَالتَّقْصِيرَ، بَلْ هوَ تَبِعاتٌ ومَسْؤُولِيَّاتٌ، ومَنْ تَعَرَّضَ لإنْشاءِ أُسْرَةٍ دُونَ صَلاحٍ أوْ قُدْرَةٍ كانَ غافِلاً عَنْ حِكَمِ الشَّرْعِ وَمَقاصِدِهِ، وَلِذلِكَ يَنْبَغِي أنْ يكونَ الإنسانُ صالِحاً لهذِهِ الحَياةِ، قادِراً عَلَى النُّهوضِ بِتَبِعاتِها، قالَ اللهُ تعالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } { التحريم:6 } .
ثُمَّ اعْلَمُوا أنَّ اللهَ أَمَرَكُم بالصَّلاةِ وَالسَّلامِ عَلَى نَبيِّهِ وحَبِيبِهِ؛ فقالَ في مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . { الأحزاب:56 } .
اللهمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ ورَسُولِكَ محمّدٍ، وَارْضَ اللهمَّ عَنْ آلِهِ وأصْحابِهِ الأَخْيارِ، وعَنَّا مَعَهم بِرَحْمَتِكَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمينَ.(199/8)
اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ وَالمسْلِمينَ وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالمشْرِكينَ ودَمِّرْ أعْداءَكَ أعْداءَ الدِّينِ، اللهمَّ انْصُرْ أُمَّةَ محمدٍ- صلى الله عليه وسلم -، اللهمَّ أَخْرِجْهُم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، اللهمَّ احْفَظِ المسلمينَ في كُلِّ مَكانٍ يا رَبَّ العالَمِينَ.
اللهمَّ ارْفَعْ كُرُباتِهم، اللهمَّ بَدِّلْ ذُلَّ المسلمينَ عِزّاً وتَمْكِيناً ونَصْراً وتَأْيِيداً، اللهمَّ أَصْلِحْ أَحْوَالَهم وَثَبِّتْ عَلَى الحَقِّ قُلُوبَهم، اللهمَّ ثَبِّتْ قُلُوبَنا عَلَى مَحَبَّتِكَ ومَحَبَّةِ رَسولِكَ - صلى الله عليه وسلم -.
اللهمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنا لِمَا تُحِبُّ وتَرْضَى، وَخُذْ بِناصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللهمَّ انْصُرْ بهِ دِينَكَ وأَعْلِ بِهِ كَلِمَتَكَ.
اللهمَّ أَبْدِلْ ضائِقَةَ المسلمينَ سَعَةً وفَرَجاً، وَشَقَاوَتَهم هَنَاءً وسَعادَةً يا رَبَّ العالمَِينَ. اللهمَّ اغْفِرْ لِلمؤمنينَ وَالمؤمناتِ وَالمسلمينَ وَالمسلماتِ.
اللهمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ العافِيَةَ وَالمُعَافاةَ في دِينِنا وَدُنْيَانا، اللهمَّ يا حَيُّ يا قَيُّومُ يا بَديعَ السماواتِ والأرْضِ، نَسْأَلُكَ أنْ تُهَيِّئَ لهذِهِ الأُمَّةِ أَمْرَ رُشْدٍ، يُعَزُّ فيهِ أَهْلُ طاعَتِكَ ويُهْدَى فيهِ أَهْلُ مَعْصِيَتِكَ وَيُؤْمَرُ فيهِ بِالْمَعْروفِ وَيُنْهَى فيهِ عَنِ المُنْكَرِ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(199/9)
اطبع هذه الصحفة
أثر الإيمان في بناء الإنسان
عِبادَ اللهِ: وكَمْ صَنَعَ الإيمانُ مِنْ رِجالٍ شُجْعانٍ!، وأَبْطالٍ فُرْسانٍ!، دَكُّوا حُصُوناً ومَعاقِلَ، وخالَفُوا كُلَّ جَبَانٍ ومُتَثاقِلٍ؛ حتَّى صارَ جَبِينُ التاريخِ ناصِعاً بسِجِلِّ بُطُولاتِهم، وغَدَا كِتابُهُ حافِلاً بعَظائِمِ تَضْحِيَاتِهم.
هَذا جَعْفَرٌ الطيَّارُ الشَّابُّ المُتَلَهِّبُ والمجاهِدُ المُحْتَسِبُ قاتَلَ في غَزْوَةِ مُؤْتَةَ بشَجاعَةِ الأَبْطالِ، وَاسْتَبْسَلَ استبسالاً عَزَّ مَثِيلُهُ في الرِّجالِ، حتَّى إذا أَرَهَقَهُ القِتالُ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ فعَقَرَها ثُمَّ قاتَلَ باسْتِماتَةٍ حتَّى قُطِعَتْ يَمِينُهُ فأخَذَ الرَّايَةَ بشِمَالِهِ، ثُمَّ قُطِعَتْ شِمالُهُ فجعَلَ الرَّايَةَ بَيْنَ عَضُدَيْهِ، ولَمْ يَزَلْ كَذلِكَ حتَّى قَضَى شَهِيداً في سبيلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ .
وقاتَلَ سَيْفُ اللهِ خالِدُ بنُ الوَليدِ في تِلْكُمُ الغَزْوَةِ قِتالَ الأَبْطالِ وقَدْ قَالَ عَنْ نَفْسِهِ - رضي الله عنه -:" لقَدْ قُطِعَتْ في يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيافٍ فَما بَقِيَ في يَدِي إلاَّ صَفِيحَةٌ يَمانِيَّةٌ "[ أخرجَهُ البخاريُّ]. وصدَقَ اللهُ إذْ يقولُ: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } { الأحزاب: 23 } .(200/1)
والإيمانُ ـ أَيُّها الإخوةُ الأَعِزَّةُ ـ يَغْرِسُ في نَفْسِ المؤمِنِ الرِّضَا بقَضاءِ اللهِ والتَّسْليمِ لِقَدَرِهِ، والصَّبْرِ عَلَى بَلائِهِ، فكَمْ يَتَعرَّضُ المَرْءُ للابتلاءِ وَالمِحَنِ، والمصائِبِ والإِحَنِ، بَيْدَ أنَّ المؤمنَ يَجْعَلُ المِحْنَةَ مِنْحَةً، ويُبَدِّلُ اليَأْسَ إلى تَفَاؤُلٍ ورجاءٍ، والمُصِيبَةَ إلى فُرْصَةٍ لِلأَجْرِ وحُسْنِ الجَزاءِ، ولِسانُ حَالِهِ وقَالِهِ يُرَدِّدُ قَوْلَ الحَقِّ جَلَّ جَلالُهُ : { قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } { التوبة:51 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 21من شوال/1428هـ الموافق 2/11/2007م
أثر الإيمان في بناء الإنسان
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمَدُهُ ونَسْتعِينُهُ ونَسْتغفِرُهُ، ونَعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فهوَ المهْتَدِ ومَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمران:102 } .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } { النساء:1 } .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } { الأحزاب:70-71 } .(200/2)
أمَّا بعدُ: فاعْلَمُوا أنَّ خَيْرَ الحديثِ كتابُ اللهِ تعالَى، وخيرَ الهَدْيِ هَدْيُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، وشَرَّ الأُمورِ مُحْدَثاتُها، وكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وكُلَّ ضَلالَةٍ في النَّارِ.
إخْوَةَ الإيمانِ والإسلامِ : لَقَدْ بَعَثَ اللهُ تعالَى محمداً - صلى الله عليه وسلم - نبيّاً ورَسُولاً؛ فهَدَى بهِ مِنَ الضَّلالَةِ، وعَلَّمَ بهِ مِنَ الجَهالَةِ، وكَثَّرَ بهِ بَعْدَ القِلَّةِ، وأَعَزَّ بِه بَعْدَ الذِّلَّةِ، وَرَبَّى بالإيمانِ الصادِقِ، وَالعِلْمِ النافِعِ وَالعَمْلِ الصالِحِ قَوْماً أَضْحَوْا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ؛ قادُوا إلى العَلْيَاءِ الأُمَمَ، وبَعَثُوا في النفوسِ العِزَّةَ وَالهِمَمَ، فكانُوا الصَّفْوَةَ الأَخْيارَ، وَالنُّجَباءَ الأَبْرارَ، وَالمتَّقِينَ الأَطْهارَ، فمَنْ كأبِي بَكْرٍ في صِدْقِهِ وإيمانِهِ ؟ وعمرَ في عَدْلِهِ وجُرْأَتِهِ؟ وعُثْمانَ في حيائِهِ وسَماحَتِهِ ؟ ومَنْ كعَلِيٍّ في بَأْسِهِ وشجاعَتِهِ؟ وأَبي عُبَيْدَةَ في إخلاصِهِ وأمانتِهِ ؟ وابنِ عباسٍ في فِقْهِهِ ودِرايَتِهِ؟ ومَنْ مِثْلُ مُعاذٍ في عِلْمِهِ وشِدَّةِ مُحاسَبَتِهِ؟ وخالِدٍ في إِقْدامِهِ وَحُنْكَتِهِ؟ وَابْنِ عمرَ في وَرَعِهِ وعِبادَتِهِ؟ أوْ أبي ذَرٍّ في زُهْدِهِ وقَناعَتِهِ؟
إنَّهُمُ الجِيلُ الربَّانِيُّ، وَالرَّعِيلُ الإِيمانِيُّ؛ الذين تَخَرَّجُوا في مَدْرَسَةِ الإيمانِ والتَّقْوَى، وَرُبُّوا عَلَى مائِدَةِ العُرْوَةِ الوُثْقَى، فَذَلَّلُوا بإيمانِهم كُلَّ الصِّعَابِ، وَاسْتَعْذَبُوا لأَجْلِ دِينِهِمْ كُلَّ عَذابٍ، حتَّى نالُوا شَرَفَ العبُودِيَّةِ للهِ الخالِقِ الوهَّابِ.(200/3)
إنَّ الإيمانَ مَصْدَرُ القُوَّةِ والإِباءِ، ومَنْبَعُ التضحِيَةِ والفِدَاءِ، وقُطْبُ رَحَى العِزَّةِ وَالبَقاءِ ، إنَّهُ حَقّاً يَصْنَعُ الأَعاجِيبَ. فهؤلاءِ أَصْحابُ الأُخْدُودِ الذينَ آمَنوُا باللهِ عَزَّ وجَلَّ، وَتَرَكُوا مِلَّةَ الشِّرْكِ وَالوَثَنِيَّةِ، فأَمَرَ مَلِكُهُمُ الظالِمُ بِالأَخادِيدِ فَشُقَّتْ وَبِالنيِّرانِ فَأُضْرِمَتْ، وقالَ لِزَبانِيَتِهِ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَقْحِمُوهُ فِيها فَفَعَلُوا، ولكنَّ المؤمنينَ ثَبَتُوا عَلَى مَبْدَئِهم، وأَنْسَتْهُمْ حَلاوَةُ الإيمانِ ما يَجِدُونَ مِنْ أَلَمِ النَّارِ، وَآثَرُوا مَرْضَاةَ اللهِ عزَّ وجَلَّ عَلَى ما هُمْ فيهِ مِنْ طِيبِ العَيْشِ والأَمْنِ في الدِّيارِ. ودُونَكَم مَثَلاً السَّحَرَةَ مِنْ قَوْمِ فْرِعونَ الذين آمَنوا لمَّا رَأَوْا آياتِ اللهِ البيِّناتِ، وتَخَلَّوْا عَنِ الدُّنْيا وما فِيها مِنَ الشَّهَواتِ، وقالُوا لِفرْعونَ حِينَ تَوَعَّدَهم بأَنْ يُقَطِّعَ أَيْدِيَهم وأَرْجُلَهم مِنْ خِلافٍ وَيُصَلِّبَهم في جُذوعِ النَّخْلِ قَالُوا بِثَباتِ المؤمنينَ ويَقِينِ الصَّادِقِينَ: { قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } { طه 72ـ73 } .
عِبادَ اللهِ: وكَمْ صَنَعَ الإيمانُ مِنْ رِجالٍ شُجْعانٍ!، وأَبْطالٍ فُرْسانٍ!، دَكُّوا حُصُوناً ومَعاقِلَ، وخالَفُوا كُلَّ جَبَانٍ ومُتَثاقِلٍ؛ حتَّى صارَ جَبِينُ التاريخِ ناصِعاً بسِجِلِّ بُطُولاتِهم، وغَدَا كِتابُهُ حافِلاً بعَظائِمِ تَضْحِيَاتِهم.(200/4)
هَذا جَعْفَرٌ الطيَّارُ الشَّابُّ المُتَلَهِّبُ والمجاهِدُ المُحْتَسِبُ قاتَلَ في غَزْوَةِ مُؤْتَةَ بشَجاعَةِ الأَبْطالِ، وَاسْتَبْسَلَ استبسالاً عَزَّ مَثِيلُهُ في الرِّجالِ، حتَّى إذا أَرَهَقَهُ القِتالُ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ فعَقَرَها ثُمَّ قاتَلَ باسْتِماتَةٍ حتَّى قُطِعَتْ يَمِينُهُ فأخَذَ الرَّايَةَ بشِمَالِهِ، ثُمَّ قُطِعَتْ شِمالُهُ فجعَلَ الرَّايَةَ بَيْنَ عَضُدَيْهِ، ولَمْ يَزَلْ كَذلِكَ حتَّى قَضَى شَهِيداً في سبيلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ .
وقاتَلَ سَيْفُ اللهِ خالِدُ بنُ الوَليدِ في تِلْكُمُ الغَزْوَةِ قِتالَ الأَبْطالِ وقَدْ قَالَ عَنْ نَفْسِهِ - رضي الله عنه -:" لقَدْ قُطِعَتْ في يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيافٍ فَما بَقِيَ في يَدِي إلاَّ صَفِيحَةٌ يَمانِيَّةٌ "[ أخرجَهُ البخاريُّ]. وصدَقَ اللهُ إذْ يقولُ: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } { الأحزاب: 23 } .
والإيمانُ ـ أَيُّها الإخوةُ الأَعِزَّةُ ـ يَغْرِسُ في نَفْسِ المؤمِنِ الرِّضَا بقَضاءِ اللهِ والتَّسْليمِ لِقَدَرِهِ، والصَّبْرِ عَلَى بَلائِهِ، فكَمْ يَتَعرَّضُ المَرْءُ للابتلاءِ وَالمِحَنِ، والمصائِبِ والإِحَنِ، بَيْدَ أنَّ المؤمنَ يَجْعَلُ المِحْنَةَ مِنْحَةً، ويُبَدِّلُ اليَأْسَ إلى تَفَاؤُلٍ ورجاءٍ، والمُصِيبَةَ إلى فُرْصَةٍ لِلأَجْرِ وحُسْنِ الجَزاءِ، ولِسانُ حَالِهِ وقَالِهِ يُرَدِّدُ قَوْلَ الحَقِّ جَلَّ جَلالُهُ : { قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } { التوبة:51 } .(200/5)
لَقَدْ أَسَرَ المشركونَ خُبَيْبَ بنَ عَدِيٍّ - رضي الله عنه - فمَكَثَ عِنْدَهم سَجيناً، ثُمَّ أجْمَعوا عَلَى قَتْلِهِ، فخَرَجُوا بهِ مِنَ الحَرَمِ إلى الحِلِّ، ولمَّا أرادُوا صَلْبَهُ قالَ لهم: دَعُونِي حتَّى أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكوهُ فَصَلَّاهما فلمَّا سَلَّمَ قالَ: واللهِ لَوْلا أنْ تَقُولوا: إنَّ ما بِي جَزَعٌ لَزِدْتُ، ثُمَّ قالَ: (اللهمَّ أَحْصِهِمْ عَدَداً، وَاقْتُلْهُم بَدَداً، ولا تُبْقِ مِنْهُم أَحَداً) ، ثُمَّ أنْشَدَ أبْياتاً مِنْها:
وَلَسْتُ أُبالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً عَلَى أَيِّ شِقٍّ كانَ في اللهِ مَصْرَعِي
وذَلِكَ في ذاتِ الإِلَهِ وإنْ يَشَأْ يُبَارِكْ عَلَى أَوْصالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
فَانْظُروا ـ يارَعاكُمُ اللهُ ـ إلى قُوَّةِ الإيمانِ، وثَبَاتِ الجَنَانِ، وَعَظِيمِ الاحْتِسابِ مَعَ التَّسْليمِ لِقَضاءِ اللهِ وقَدَرِهِ مِنْ هَذا الصَّحابِيِّ الصِّنْدِيدِ.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } { ق:37 } .
بارَكَ اللهُ لي ولكم في الوَحْيَيْنِ، ونَفَعَنِي وإيَّاكُم بما فِيهما مِنَ الهُدَى والحَقِّ المُبِينِ، وأَسْتغفِرُ اللهَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمينَ، فاستغفروهُ إنَّه هُوَ خَيْرُ الغافِرِينَ.
الخطبة الثانية(200/6)
الحمدُ للهِ الذِي أرسَلَ رَسولَهُ بالهُدَى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ علَى الدِّينِ كُلِّهِ ولُوْ رَغِمَتْ أُنوفُ المشْرِكينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له مَنَّ عَلَى المؤمنينَ؛ إذْ بَعَثَ فِيهم رَسُولاً مِنْهم يَتْلُو عَلَيْهِم آياتِهِ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ ويُزَكِّيهِم وإنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ؛ قُدْوَةُ المؤمنينَ، وخَاتَمُ المرْسَلِينَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وصَحابَتِهِ البَرَرَةِ المتَّقِينَ، الذينَ شَهِدُوا بالوَحْدَانِيَّةِ لرَبِّ العالَمِينَ، ولِرسُولِهِ بالبَلاغِ المُبينِ، وسَلَّمَ تَسْليماً كثيراً إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ: فيا أَيُّها الناسُ،اتَّقُوُا اللهَ الذي خَلَقَكُم، وَاسْتَعِينوا عَلَى طاعَتِهِ بما رَزَقَكُم، وَاسْتَمْسِكوا بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى، وتَعاوَنوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى.(200/7)
أَيُّها المؤمنونَ: لَقَدْ شُغِفَ العَرَبُ في جاهِلِيتَّهِم بالخَمْرِ حتَّى تَغَنَّوْا بها في أَشْعارِهم، وتَغَالَوْا بِثَمَنِها في أَسْوَاقِهم، ولَمْ يُحَرِّمْها الإسلامُ تَحْرِيماً أَكِيداً حتَّى أنزَلَ اللهُ عَزَّ وجلَّ قَوْلَه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } { المائدة:90ـ91 } فما كانَ مِنَ المؤمنينَ إلاّ أَنْ قالُوا: انْتَهَيْنا رَبَّنا انْتَهَيْنا، وعَمَدُوا إلى الخُمُورِ فَأَراقُوها، وإلى أَوْعِيَتِها فكَسَّروها؛ حتَّى جَرَتْ في طُرِقِ المدينَةِ، وتَرَكُوها مَعَ شَغَفِهم وَشِدَّةِ تَعَلُّقِهم بها.
وفي الجُودِ والإنْفاقِ: نَمَّى الإيمانُ في النُّفُوسِ حُبَّ البَذْلِ وَالعَطاءِ، وَالجُودِ وَالسَّخاءِ؛ إلى دَرَجَةِ أنْ يَنْخَلِعَ بعضُهم مِنْ مالِهِ كُلِّه للهِ ورسولِهِ.
فقَدْ جاءَ أبو بكرٍ بمالِهِ كُلِّهِ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، وجاءَ عمرُ بنصْفِ مالِهِ رضِيَ اللهُ عَنْهما، ولَمْ يُمْسِكْ أحَدٌ يَدَهُ، ولَمْ يَبْخَلْ بمالِهِ إلاّ المنافِقونَ.
وتَصَدَّقُ عثمانُ - رضي الله عنه - بمائتَيْ بعيرٍ عَلَيْها أَقْتابُها وأَحْلاسُها[والقَتَبُ الرَّحْلُ، والحِلْسُ تَحْتَهُ مِمَّا يَلِي ظَهْرَ الدَّابَّةِ].(200/8)
ثُمَّ تَصَدَّقَ بمائةِ بَعيرٍ أُخْرَى، وجاءَ بأَلْفِ دِينارٍ فنَثَرَها في حِجْرِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فكانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَلِّبُها ويقولُ:"ما ضَرَّ عُثْمانَ ما عَمِلَ بَعْدَ اليومِ" قالَها مَرَّتَيْنِ [أخرجَهُ الترمذيُّ والحاكمُ].
وهذِهِ صُورَةٌ رائِعةٌ أُخْرَى مِنْ صُوَرِ الإنْفاقِ عِنْدَ النُّفوسِ المؤمِنَةِ باللهِ، المُطْمَئِنَّةِ بِمَوْعودِ اللهِ.
قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ - رضي الله عنه -: لمَّا نَزَلَتْ : { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } { البقرة:245 } قالَ أبو الدَّحْدَاحِ الأنصارِيُّ: يا رَسولَ اللهِ وإنَّ اللهَ يُريدُ مِنَّا القَرْضَ؟ قالَ :"(نَعَمْ يا أبا الدَّحْدَاحِ) قالَ: أَرِنِي يَدَكَ يا رسولَ اللهِ، فنَاوَلَهُ يَدَهُ، قالَ: أَقْرَضْتُ رَبِّي حائِطِي ـ وحائِطُهُ فيهِ سِتُّمائةِ نَخْلَةٍ - قالَ فجاءَ[ أبو الدَّحْداحِ] يَمْشِي حتَّى أَتَى الحائِطَ وأُمُّ الدَّحْداحِ فيهِ وعِيالُها فنادَى: يا أُمَّ الدَّحْداحِ، قالَتْ: لَبَّيْكَ.قالَ: اخْرُجِي فقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي [عَزَّ وجَلَّ ]"[أخرجَهُ أبو يَعْلَى والطبرانِيُّ] وفي رِوايَةِ الحاكِمِ مِنْ حديثِ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:" كَمْ مِنْ عَذْقٍ رَدَاحٍ لأَبِي الدَّحْداحِ في الجنَّةِ " قالَها مِراراً.(200/9)
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ: وهَكَذا يَصْنَعُ الإيمانُ حِينَ تُخالِطُ بَشاشَتُهُ القُلوبَ، يَبْنِي الإِنْسانَ ظاهراً وباطِناً، ويَفِيضُ عَلَى الجوارِحِ وَالأَرْكانِ الخَشْيَةَ وَالخشُوعَ، وَالسَّكِينَةَ وَالخُضُوعَ؛ فَتبْكِي العَيْنانِ، ويَوْجَلُ الجَنَانُ، وتَتَنَزَّهُ الأُذُنانِ، وتَسْكُنُ الجوارِحُ، ويَعِفُّ اللسانُ، ويُرَبِّي صاحِبَهُ علَى الخَيْرِ والفَضِيلَةِ، ويُجَنِّبُهُ مَهاوِيَ الرَّدَى وَالرَّذِيلَةِ، ويُجَمِّلُهُ بالأخلاقِ الحَمِيدَةِ، والآدابِ المجِيدَةِ، ويجعَلُ أهْلَهُ يَبْنُونَ ولا يَهْدِمونَ، ويُصْلِحونَ ولا يُفْسِدونَ، يَعْملونَ لآخِرَتِهم ولا يَنْسَوْنَ نَصِيبَهم مِنَ الدُّنْيا، ويُحْسِنونَ كَما أحْسَنَ اللهُ إليْهِم، أولئِكَ هُمُ الذينَ يَسْتَحِقُّونَ قِيادَةَ الدُّنْيا بجَدَارَةٍ، ويَصُونونَ القِيَمَ ويَبْنُونَ الحَضارَةَ، وفي الآخِرَةِ يَفُوزونَ بنَعِيمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ مِمَّا لا عَيْنٌ رَأَتْ ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
اللهمَّ اغْفِرْ لِلْمؤمنينَ وَالمؤمناتِ، وَالمسلمينَ وَالمسلماتِ، الأحْياءِ مِنْهم وَالأمْواتِ.
اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ وأهْلَهُ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ وأهْلَهُ، اللهمَّ حَبِّبْ إِليْنا الإيمانَ وزَيِّنْهُ في قُلُوبِنا، وكَرِّهْ إلينا الكُفْرَ وَالفُسوقَ وَالعِصْيانَ وَاجْعَلْنا يا رَبَّنا مِنَ الرَّاشِدِينَ، وأحْسِنْ خاتِمَتنَا في الأُمُورِ كُلِّها وَأَجِرْنا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيا وعَذَابِ الآخِرَةِ.
اللهمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِنا لِحِفْظِ الأَمانَةِ، وَجَنبِّهْم أَهْلَ النِّفاقِ وَالخِيانَةِ، وانْفَعْ بِهمُ البلادَ والعِبادَ يا أكْرَمَ الأَكْرَمِينَ، وَاجْعَلْهُم هُدَاةً مُهْتَدِينَ، وآخِرُ دَعْوانا أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---(200/10)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(200/11)
اطبع هذه الصحفة
عبادةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
أَيُّها المسلمونَ:
جَعَلَ اللهُ تعالَى الأرضَ ذَلولاً لِعبادِهِ؛ لِيَعْمُروها ويَتزَوَّدُوا مِنْها زاداً يَحْمِلُهم إلى آخِرَتِهم، مُحْتَرِزِينَ مِنْ مَصايِدِها ومَعاطِبِها، ويَتَحقَّقُونَ خِلالَ ذلِكَ أنَّ العُمْرَ يَسيرُ بهم سَيْرَ السَّفِينَةِ بِراكِبِها، وأَنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ تعالَى مِنْ أعْلَى المنازِلِ في هذِهِ الدَّارِ وأرْفَعِها، ولَنْ تَصْلُحَ القلوبُ إلاّ بِذِكْرِ اللهِ سبحانَه وعِبادَتِهِ، وإنَّ قُدْوَةَ النّاسِ وأُسْوَتَهُمْ في تَمامِ ذلِكَ وكَمالِهِ: إمامُ المرسَلِينَ، وسيِّدُ الخَلْقِ أَجْمعينَ { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } { الأحزاب:21 } ؛ فَلقَدْ تَغَلْغَلَ حُبُّ العِبادَةِ وتَرسَّخَ في قَلْبِهِ إلى مَدًى لا يعلَمُهُ إلّا اللهُ سبحانَه.
إنَّ أعْظَمَ مَظْهرٍ لِعبادَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كانَ مُسْلِماً وَجْهَهُ للهِ تعالَى في جَميعِ أحوالِهِ, يُطِيلُ القُنوتَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، ويتَوَكَّلُ عليْهِ، ويُفَوِّضُ أَمْرَهُ إليهِ، ومَعَ ضَماناتِ اللهِ تعالَى له بِتَمامِ المغْفِرَةِ والنُّزُلِ الكَريمِ الدَّائِمِ؛ إلاّ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَتعبَّدُ رَبَّهُ ويُصَلِّي مِنَ اللّيلِ حتَّى تَنْتَفِخَ قَدَماهُ؛ فَيُقالُ له: يا رسولَ اللهِ، تَفْعَلُ هَذا وقَدْ غَفَرَ اللهُ لكَ ما تقدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تأَخَّرَ؟ فيقولُ:" أفَلا أكونُ عَبْداً شَكُوراً؟". [أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حَديثِ المُغِيرَةِ - رضي الله عنه -]، وكانَ - صلى الله عليه وسلم - يستغفِرُ اللهَ بُكْرَةً وعَشِيّاً، ويقولُ:" واللهِ إنِّي لَأَستغفِرُ اللهَ وأتوبُ إليهِ في اليومِ أكْثَرَ مِنْ سبعينَ مَرَّةً "[أخرجَهُ البخاريُّ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -].(201/1)
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 29من شوال 1428هـ الموافق 9/11/2007
عبادةُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
إنَّ الحمدَ للهِ نَحمَدُهُ ونَستَعينُهُ ونَستَغْفِرُهُ، ونَعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا وسيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمّداً عبدُهُ ورسولُهُ، صلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ ومَنْ دَعا بدَعْوَتِهِ وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ:
فأُوصيكم- أيُّها النّاسُ ونفسِي- بتقْوَى اللهِ تعالَى وطاعتِهِ، قالَ تعالَى: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } . { آل عمران:102 } .
أَيُّها المسلمونَ:
جَعَلَ اللهُ تعالَى الأرضَ ذَلولاً لِعبادِهِ؛ لِيَعْمُروها ويَتزَوَّدُوا مِنْها زاداً يَحْمِلُهم إلى آخِرَتِهم، مُحْتَرِزِينَ مِنْ مَصايِدِها ومَعاطِبِها، ويَتَحقَّقُونَ خِلالَ ذلِكَ أنَّ العُمْرَ يَسيرُ بهم سَيْرَ السَّفِينَةِ بِراكِبِها، وأَنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ تعالَى مِنْ أعْلَى المنازِلِ في هذِهِ الدَّارِ وأرْفَعِها، ولَنْ تَصْلُحَ القلوبُ إلاّ بِذِكْرِ اللهِ سبحانَه وعِبادَتِهِ، وإنَّ قُدْوَةَ النّاسِ وأُسْوَتَهُمْ في تَمامِ ذلِكَ وكَمالِهِ: إمامُ المرسَلِينَ، وسيِّدُ الخَلْقِ أَجْمعينَ { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } { الأحزاب:21 } ؛ فَلقَدْ تَغَلْغَلَ حُبُّ العِبادَةِ وتَرسَّخَ في قَلْبِهِ إلى مَدًى لا يعلَمُهُ إلّا اللهُ سبحانَه.(201/2)
إنَّ أعْظَمَ مَظْهرٍ لِعبادَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كانَ مُسْلِماً وَجْهَهُ للهِ تعالَى في جَميعِ أحوالِهِ, يُطِيلُ القُنوتَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، ويتَوَكَّلُ عليْهِ، ويُفَوِّضُ أَمْرَهُ إليهِ، ومَعَ ضَماناتِ اللهِ تعالَى له بِتَمامِ المغْفِرَةِ والنُّزُلِ الكَريمِ الدَّائِمِ؛ إلاّ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَتعبَّدُ رَبَّهُ ويُصَلِّي مِنَ اللّيلِ حتَّى تَنْتَفِخَ قَدَماهُ؛ فَيُقالُ له: يا رسولَ اللهِ، تَفْعَلُ هَذا وقَدْ غَفَرَ اللهُ لكَ ما تقدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تأَخَّرَ؟ فيقولُ:" أفَلا أكونُ عَبْداً شَكُوراً؟". [أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حَديثِ المُغِيرَةِ - رضي الله عنه -]، وكانَ - صلى الله عليه وسلم - يستغفِرُ اللهَ بُكْرَةً وعَشِيّاً، ويقولُ:" واللهِ إنِّي لَأَستغفِرُ اللهَ وأتوبُ إليهِ في اليومِ أكْثَرَ مِنْ سبعينَ مَرَّةً "[أخرجَهُ البخاريُّ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -].
عِبادَ اللهِ:
كانَ نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - كَثيرَ الذِّكْرِ لربِّهِ سبحانَه، يَذْكُرُ اللهَ قائِماً وقاعِداً وعَلَى جَنْبٍ، فقَدْ أخرجَ مسلمٌ في صحيحِهِ عَنِ الأَغَرِّ المُزَنِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:" إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ "، و"يُغانُ"؛ بمَعْنَى: يُغْشَى، والمرادُ: السَّهْوُ؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - لا يَزالُ في مَزيدٍ مِنَ الذِّكْرِ ودَوامِ المُرَاقَبَةِ، فإذا سَهَا عَنْ شَيْءٍ مِنْها في بَعْضِ الأَوْقاتِ أوْ نَسِيَ؛ عَدَّهُ ذَنْباً وفَزِعَ إلى الاسْتغْفارِ.
إخوةَ الإيمانِ:(201/3)
وأمَّا خَوْفُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ اللهِ تعالَى واجتهادُهُ في ذلِكَ؛ فَقدْ بَلَغَ حَدّاً لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِنَ الخَلِيقَةِ؛ فقَدْ كانَ ينْزِلُ عليهِ الوَحْيُ في اليومِ الشَّديدِ البَرْدِ، فَيُفْصِمُ عَنْهُ-أَيْ: يَذْهَبُ عَنْه- وإنَّ جَبِينَهُ ليَتَفَصَّدُ عَرَقاً-أَيْ:يَسِيلُ-؛ كَما ثَبَتَ ذلِكَ عِنْدَ البخاريِّ ومسلمٍ، ولأَجْلِ هَذَا قالَ اللهُ تعالَى: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا } { سورة المزمّل:5 } ، فصَلَّى - صلى الله عليه وسلم - حتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَماهُ، وصامَ والرَّمْضاءُ مُحْرِقةٌ لا يُطِيقُها الجَلْدُ مِنَ النَّاسِ، وكانَتْ عِبادتُهُ دائِمةً، وبها أَرْشَدَ أُمَّتَهُ؛ فقالَ - صلى الله عليه وسلم -:" سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ"[أخرجَهُ البخاريُّ مِنْ حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها]؛ فكانَ - صلى الله عليه وسلم - لا يُضَيِّعُ شَيْئاً مِمَّا كَلَّفَهُ رَبُّهُ؛ خَوْفاً مِنْهُ وتَعْظيماً لأَمْرِهِ.(201/4)
ومِنْ مَظاهِرِ خَوْفِهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ اللهِ تعالَى: أنَّه كانَ دائِمَ التَّعْظيمِ لِجَنَابِ رَبِّهِ سبحانَه؛ لا يَأْمَنُ سَطْوَتَهُ، ولا يَسْتَبْعِدُ بَطْشَهُ ونِقْمَتَهُ، ومِصْداقُ ذَلِكَ ما أخرجَهُ مسلمٌ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَجْمِعاً ضَاحِكاً حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ، قَالَتْ: وَكَانَ إِذَا رَأَى غَيْماً أَوْ رِيحاً عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَرَى النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عَرَفْتُ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةَ، قَالَتْ: فَقَالَ:" يَا عَائِشَةُ مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ. قَدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا: { هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا } { سورة الأحقاف:24 } .
أيُّها المسلمونَ:
لَقَدْ كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خاشِعاً، دائِمَ الفِكْرَةِ في اللهِ تعالَى، وكانَتْ دَمْعَتُهُ خَلْفَ كَلِمَةِ القُرآنِ إذا قَرَأَها أَوْ قُرِئَتْ عَلَيْهِ، وقَدْ ثَبتَ في الصَّحيحينِ وَاللَّفْظُ لمسلمٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ " قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ. أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ! قَالَ:" إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي "؛ فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } { سورة النّساء:41 } رَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ.(201/5)
وكانَ بُكاؤُهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ صِدْقِ عِبادَتِهِ وطُولِ خَشْيَتِهِ وشَوقِهِ إلى رَبِّهِ جَلَّ وعَلا؛ ولأنَّه أَعْلَمُ الأُمَّةِ باللهِ تعالَى؛ فكانَ لَأَجْلِ ذلِكَ يَبْكِي حتَّى يُسْمَعَ مِنْهُ الصَّوْتُ العَجيبُ الْمُحْزِنُ؛ عَنْ عَبْدِ اللهِ ابنِ الشِّخِّيرِ - رضي الله عنه - قَالَ: " أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ "؛ يَعْنِي: يَبْكِي.[أخرجَهُ النَّسائيُّ]، والأَزِيزُ: خَنِينٌ مِنْ الخَوْفِ، وهُوَ صَوْتُ البُكاءِ، والِمرْجَلُ: إناءٌ له صَوْتٌ عِنْدَ غَلَيَانِ الماءِ فِيهِ.
وفي حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى لِكُسوفِ الشَّمْسِ، وأنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ يَنْفُخُ وَيَبْكِي، وَيَقُولُ:" رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لَا تُعَذِّبَهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ؟ رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لَا تُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ؟ وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُكَ، فلمَّا صَلَّى رَكْعَتينِ اْنجَلَتِ الشَّمْسُ ".[أخرجَهُ البيهقيُّ في السُّنَنِ الكُبْرَى والتّرمذيُّ في الشَّمائِلِ].
وهَكَذا -أَيُّها المسلمونَ- كانَتْ أيَّامُهُ - صلى الله عليه وسلم - وليالِيهِ عامِرَةً بأَنْواعِ العِبادَةِ الصَّادِقَةِ ومَظاهِرِها المُخْلِصَةِ، وهوَ - صلى الله عليه وسلم - أُسْوَتُنا ومُرَبِّينا، وبِحُسْنِ عِبادَتِهِ وكَمالِها يُرْشِدُنا وَيَهْدِينا، فالحمدُ للهِ عَلَى ما أنْعَمَ بِهِ عَلَيْنا، وَزادَنَا مِنَ التَّوْفيقِ لاتِّباعِهِ وساقَ بهِ الخَيْرَ إِلينا.
بارَكَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعَنِي اللهُ وإيَّاكم بما فيهِ مِنَ الآياتِ وَالذِّكْرِ الحكيمِ، أَقولُ قَوْلِي هَذا وأَستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، فاستغفروهُ إنَّهُ هوَ الغفورُ الرَّحيمُ.(201/6)
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذي أعَزَّنا بالإسلامِ، وأكرَمَنا بالإيمانِ، ورَحِمَنَا بنبيِّهِ عليهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، فهَدَى بهِ مِنَ الضَّلالَةِ، وجَمَعَ بهِ مِنَ الشَّتاتِ، وأَلَّفَ بهِ مِنَ الفُرْقَةِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، صَدَقَ أولياءَهُ الوَعْدَ، وأنزَلَ علَيْهمُ النَّصْرَ وَالسَّعْدَ، وأشْهَدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمّداً عبدُهُ ورسولُهُ، خاتَمُ رُسُلِهِ وأنبيائِهِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً. أمَّا بعدُ: فاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وتقرَّبُوا إلى اللهِ تعالَى بالسَّبَبِ الأَقْوَى.
أيُّها المسلمونَ:(201/7)
قالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ في شَأْنِ رسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } { الكهف:110 } ، ولا يَحْصُلُ العَمَلُ الصَّالِحُ إلاّ بتَعْظيمِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بإجْلالِ أمْرِهِ ونَهْيِهِ، وَالاهْتِداءِ بِسُنَّتِهِ وهَدْيِهِ؛ فبِطاعَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - تَتَنَزَّلُ الرَّحَماتُ، وَبِاتِّباعِهِ تَتَوَالَى الخَيْرَاتُ، كَما قالَ اللهُ تعالَى: { وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } { آل عمران:132 } ، يقولُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رحِمَهُ اللهُ واصِفاً اجْتِهادَ الصَّحابَةِ وتابِعيهِم في العِبادَةِ:" لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَقْوَاماً وَصَحِبْتُ طَوَائِفَ؛ فَما كانُوا يَفْرَحونَ بشيءٍ مِنَ الدُّنْيا أقْبَلَ، وَلا يَحْزَنونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْها أَدْبَرَ، وكانَتْ في أَعْيُنِهم أهْوَنَ مِنَ التُّرابِ الذي يَطَأُونَ عَلَيْهِ، وكانُوا عامِلينَ بكتابِ رَبِّهم وسُنَّةِ نَبِيِّهم - صلى الله عليه وسلم -، كانُوا إذا جَنَّ الليلُ قامُوا عَلَى أَقْدامِهم، وَافْتَرَشُوا وُجُوهَهُم، وجَرَتْ دُمُوعُهُم عَلَى خُدُودِهم ".
أَلاَ فاهْتَدوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- بِسُنَّةِ نَبيِّكم تُفْلِحُوا، وتَشَبَّهُوا بعَمَلِ الصَّالحِينَ مِمَّنْ مَضَى قَبْلَكم تَنْجَحُوا، ثُمَّ اعْلَمُوا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بالصَّلاةِ وَالسَّلامِ عَلَى نبيِّهِ فبادِروا، اللهمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنا محمّدٍ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعينَ.(201/8)
ثُمَّ اعْلَمُوا أنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بالصَّلاةِ وَالسَّلامِ عَلَى نَبيِّهِ وحَبِيبِهِ؛ فقالَ في مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . { الأحزاب:56 } .
اللهمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ ورَسُولِكَ محمّدٍ، وَارْضَ اللهمَّ عَنْ آلِهِ وأصْحابِهِ الأَخْيارِ، وعَنَّا مَعَهم بِرَحْمَتِكَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمينَ.
اللهمَّ إنَّا نَسْألُكَ الثَّباتَ عَلَى الأَمْرِ وَالعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ وَالمسلمينَ وأذِلَّ الشِّرْكَ وَالمُشْرِكينَ، ودَمِّرْ أَعداءَ الدِّينِ، اللهمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلاةَ أُمورِنا، اللهمَّ وَاجْعَلْ وِلايَتَنا فِيمَنْ خافَكَ وَاتَّقاكَ وَاتَّبَعَ رِضاكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(201/9)
اطبع هذه الصحفة
بين الخوف والرجاء
أيُّها الناسُ:
الخَوْفُ مِنَ اللهِ مَنْهَجُ الأنبياءِ وَالمرسلينَ، وطَريقُ الصَّالحِينَ إلى يَوْمِ الدِّينِ، فقَدْ رُوِيَ أَنَّ آدَمَ - عليه السلام - بَكَى عَلَى الجَنَّةِ أربعينَ عاماً، ولمَّا عاتَبَ اللهُ سبحانَهُ نُوحاً في ابْنِهِ بَكَى - عليه السلام - خَوْفاً مِنَ اللهِ، وكانَ يُسْمَعُ لإبراهيمَ - عليه السلام - في الصَّلاةِ أَزِيزٌ مِنْ بُعْدٍ، وأمَّا نَبِيُّنا - صلى الله عليه وسلم - فشيءٌ لا يُبَارَى، ونَهْجٌ لا يُجارَى، فقَدْ كانَ يقومُ الليْلَ حتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَماهُ، ويُسْمَعُ لِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كأَزِيزِ المِرْجَلِ مِنَ البُكاءِ، وهُوَ أعْلَمُ الخَلْقِ باللهِ وَأَخْشاهُم له.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 6 من ذي القعدة 1428هـ الموافق16 /11 /2007م
بين الخوف والرجاء
الحمدُ للهِ عظيمِ الصِّفاتِ وَالأسماءِ، جَزيلِ البِرِّ وَالعَطاءِ، جعلَ قُلوبَ أوليائِهِ بَيْنَ الخَوْفِ وَالرَّجاءِ، أحمدُهُ سبحانَهُ حمداً يملأُ ما بَيْنَ الأرضِ وَالسماءِ، وأشكرُهُ عَلَى عظيمِ الهِبَةِ وَالنَّعْماءِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له المتَفَرِّدُ برِداءِ الكِبْرِياءِ، وَالمُتَوَحِّدُ بصِفاتِ المجْدِ وَالعَلاءِ، وأشهدُ أنْ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صَفْوَةُ الخَلْقِ وسَيِّدُ الأنبياءِ، عَطَّرَ أَرِيجُ شَمائِلِهِ الأَرْجاءَ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ السَّادَةِ الأتْقِياءِ، أُولِي الفَضْلِ وَالثَّناءِ، وعَلَى مَنْ تَبِعَهم بإحْسانٍ إلى يَوْمِ النِّداءِ.
أمَّا بعدُ:(202/1)
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، { وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ } { البقرة:281 } ، فقَدْ كَثُرتِ الفِتَنُ، ونحنُ نَعيشُ في أعْقابِ هَذا الزَّمَنِ، ولا مُخَلِّصَ مِنْها إلاّ الاعْتِصامُ بِكتابِ اللهِ وَالسُّنَنِ { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } { الأنعام:153 } .
وَبِالسُّنَّةِ الغَرَّاءِ كُنْ مُتَمَسِّكًا هِي الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى التِي لَيْسَ تُفْصَمُ
تَمَسَّكْ بِها مَسْكَ الْبَخِيلِ بِمالِهِ وَعَضَّ عَلَيْها بِالنَّوَاجِذِ تَسْلَمُ
ودَعْ عَنْكَ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَها فَمَرْتَعُ هَاتِِيكَ الْحَوَادِثِ أَوْخَمُ
عِبادَ اللهِ:
لَيْسَ مِنْ مَنْهَجِ الإسلامِ أنْ لا تَتَرَجَّى النُّفُوسُ، وأنْ لا يَطْرُقَ الأَسْماعَ إلاّ تَخْوِيفٌ وَتَهْدِيدٌ، وزَجْرٌ وَوَعِيدٌ، بدونِ رَجاءٍ، وَلاطَمَعٍ في عَفْوِ رَبِّ الأرْضِ وَالسَّماءِ، وليسَ مِنَ الْمَنْهَجِ الحَقِّ، أنْ تَتَشَبَّثَ النُّفوُسُ بأَمانِيِّ الْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، وَالظَّفَرِ بالجنَّةِ وَالمغْفِرَةِ، دُونَ سَعْيٍ وعَمَلٍ، وخَوْفٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ*وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ } { الحجر:49-50 } .(202/2)
تَتَمادَى النُّفُوسُ في طُغْيانِهَا، ويَأْسِرُها هَوَاها، تَرْتَكِبُ المعاصِيَ، وتَنْتَهِكُ الحُرُماتِ، وتَتَحايَلُ عَلَى المحْظُوراتِ، حِينَ لا تَسْتَوْعِبُ نُصُوصَ الرَّجاءِ، فَهُمْ لا يَتَذَكَّرونَ مِنْ أسْماءِ اللهِ إلاّ الغفورَ الرَّحِيمَ، الوَدُودَ الكَرِيمَ، وتَنَاسَوْا أنَّهُ سريعُ الحِسابِ وشَدِيدُ العِقابِ يَقولُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: "إنَّ قَوْماً ألْهَتْهُمُ الأمانِيُّ حتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيا بغَيْرِ تَوْبَةٍ، يقولُ أحَدُهُم: إِنِّي لأُحْسِنُ الظَنَّ بِرَبِّي، وكَذَبَ؛ لَوْ أحْسَنَ الظَنَّ لأَحْسَنَ العَمَلَ".
وَاعْلَمُوا- إِخْوَةَ الإيمانِ- أنَّ الخَوْفَ وَالرَّجاءَ جَناحانِ يَطيرُ بهما المُقَرَّبونَ إلى كُلِّ مَقامٍ مَحْمودٍ، ومَطِيَّتانِ بهما يَقْطَعُ مَنْ طَرَقَ الآخِرَةَ كُلَّ عَقَبةٍ كَؤُودٍ، فَلا يُقَرِّبُ إلى الرَّحمنِ، ويُدْنِي مِنْ رَوْحِ الجِنَانِ، إلاَّ الرجاءُ، ولا يَصُدُّ عَنْ نارِ الجَحيمِ، والعَذابِ الأليمِ، إلاَّ الخَوْفُ، فعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:"...فَلَوْ يَعْلَمُ الكافِرُ بِكُلِّ الذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الجنَّةِ، ولَوْ يعْلَمُ المؤمِنُ بكُلِّ الذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ العَذابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ"[أخرجَهُ البخاريُّ].
أتباعَ سَيِّدِ المرسلينَ:(202/3)
تأَمَّلُوا كيفَ كانَ النبيُّ الكريمُ عليهِ أفضلُ الصَّلاةِ وأَزْكَى التَّسْليمِ، يُرَبِّي أصحابَهُ عَلَى هَذا المنْهَجِ العظيمِ، فعَنْ أبِي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"يقولُ اللهُ تعالَى: يا آدَمُ ، فيقولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ في يَدَيْكَ، فيقولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قالَ: وما بَعْثُ النَّارِ؟ قالَ:مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وتِسْعَةً وتسعينَ، فَعِنْدَهُ يَشيبُ الصَّغيرُ، وتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها، وتَرَى النَّاسَ سُكارَى وما هم بِسُكَارَى، ولكنَّ عَذابَ اللهِ شديدٌ، قالوا: يا رسولَ اللهِ وَأَيُّنا ذلِكَ الواحِدُ؟ قالَ: أَبْشِروا، فإنَّ مِنْكُم رَجُلاً ومِنْ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ ألفٌ ثُمَّ قالَ: والذِي نَفْسِي بيدِهِ إنِّي لأَرْجُو أنْ تكونوا رُبْعَ أَهْلِ الجنَّةِ، فكَبَّرْنا، فقالَ: أرْجُو أنْ تكونُوا ثُلُثَ أهْلِ الجنَّةِ، فكَبَّرْنا، فقالَ: أرْجُو أنْ تكونُوا نِصْفَ أهْلِ الجنَّةِ، فكَبَّرْنا، فقالَ: ما أنْتُمْ في النَّاسِ إلاَّ كَالشَّعْرَةِ السَّوْداءِ في جِلْدِ ثَوْرٍ أبْيَضَ، أوْ كَشَعْرَةٍ بَيْضَاءَ في جِلْدِ ثَوْرٍ أسْوَدَ"[أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ].
وهَذا لمَّا لانَتْ قُلُوبُهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ، وَازْدادَ خَوْفُها، وأقْبَلَتْ عَلَى رَبِّها، سَكَبَ فِيها الطُّمَأْنِينَةَ بِحُسْنِ الظَّنِّ، وَالطَّمَعِ بِالعَفْوِ وَالمغْفِرَةِ.
خَفِ اللهَ وَارْجُوهُ لِكُلِّ عَظِيمةٍ وَلا تُطِعِ النَّفْسَ اللجُوجَ فَتَنْدَمَا
وكُنْ بَيْنَ هاتَيْنِ مِنَ الخَوْفِ وَالرَّجَا وأَبْشِرْ بِعَفْوِ اللهِ إنْ كُنْتَ مُسْلِمَا
أيُّها الناسُ:(202/4)
الخَوْفُ مِنَ اللهِ مَنْهَجُ الأنبياءِ وَالمرسلينَ، وطَريقُ الصَّالحِينَ إلى يَوْمِ الدِّينِ، فقَدْ رُوِيَ أَنَّ آدَمَ - عليه السلام - بَكَى عَلَى الجَنَّةِ أربعينَ عاماً، ولمَّا عاتَبَ اللهُ سبحانَهُ نُوحاً في ابْنِهِ بَكَى - عليه السلام - خَوْفاً مِنَ اللهِ، وكانَ يُسْمَعُ لإبراهيمَ - عليه السلام - في الصَّلاةِ أَزِيزٌ مِنْ بُعْدٍ، وأمَّا نَبِيُّنا - صلى الله عليه وسلم - فشيءٌ لا يُبَارَى، ونَهْجٌ لا يُجارَى، فقَدْ كانَ يقومُ الليْلَ حتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَماهُ، ويُسْمَعُ لِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كأَزِيزِ المِرْجَلِ مِنَ البُكاءِ، وهُوَ أعْلَمُ الخَلْقِ باللهِ وَأَخْشاهُم له.
أيُّها الأَحِبَّةُ في اللهِ:
وعَلَى هَذا النَّهْجِ المتينِ سارَ الصَّحابَةُ ومَنْ بَعْدَهم مِنَ التَّابِعِينَ، فقَدْ كانَ شَدَّادُ بنُ أَوْسٍ الأنصارِيُّ، إذا دَخَلَ الفِراشَ يَتَقَلَّبُ عليهِ لا يأتِيهِ النَّوْمُ فيقولُ:"اللهمَّ إنَّ النَّارَ أذْهَبَتْ عَنِّي النومَ فَيُصَلِّي حتَّى يُصْبِحَ"، وبَكَى أبو هريرةَ في مَرَضِهِ فقيلَ له: ما يُبْكِيكَ؟ فقالَ: "أما إنِّي لا أبْكِي عَلَى دُنْيَاكم هَذِهِ، ولكنْ أبْكِي عَلَى بُعْدِ سَفَرِي، وقِلَّةِ الزَّادِ، وإنِّي أمْسَيْتُ في صُعودٍ مَهْبِطُهُ عَلَى جَنَّةٍ أوْ نارٍ، لا أَدْرِي إلى أيَّتِهِما يُؤْخَذُ بِي"، قالَ بعضُ السَّلَفِ:"كُلُّ قَلْبٍ ليسَ فيهِ خَوْفٌ مِنَ اللهِ فهوَ قَلْبٌ خَرِبٌ، ومَنْ كانَ باللهِ أعْرَفَ كانَ مِنْهُ أَخْوَفَ".
عِبادَ اللهِ:(202/5)
إنَّ الخائِفِينَ الرَّاجِينَ، إذا سَمِعُوا آياتِ اللهِ تُتْلَى، وأحادِيثَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تُرْوَى، وَالمواعِظَ تُلْقَى، اقْشَعَرَّتْ جُلُودُهم، وَوَجِلَتْ قُلُوبُهم، وانْهَمَرَتْ دُمُوعُهم، يقولُ سبحانَه: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } { الزمر:23 } .
الخائِفُونَ لا يَسْكُنُ حَالُهُمْ، ولا يَهْدَأُ رَوْعُهُمْ، ولا تَحْسُنُ مِنْهُمُ الأَحْوالُ، حتَّى يُجاوِزُوا تِلْكَ الأَهْوالَ، يقولُ مُعاذُ بنُ جَبَلٍ - رضي الله عنه -: "إنَّ المؤْمِنَ لا يَسْكُنُ رَوْعُهُ حتَّى يَتْرُكَ جِسْرَ جَهَنَّمَ وَراءَهُ".
الخائِفونَ: إذا وَسْوَسَ لَهُمُ الشَّيْطانُ، وَزيَّنَ لَهُمُ الحَرامَ، لا يَبِيعُونَ دِينَهم، وَلا يُغْضِبُونَ رَبهَّم، في سَبيلِ لَذَّةٍ عاجِلَةٍ، أوْ شَهْوَةٍ آثِمَةٍ وفي الحديثِ المتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ:"ورَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ فقالَ: إنِّي أخافُ اللهَ".
الخائفونَ: يُؤَمَّنُونَ عِنْدَ الفَزَعِ، وَيُطَمْأَنُونَ عِنْدَ النَّزْعِ، فعَنْ أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخَلَ عَلَى شابٍّ، وهوَ في الموْتِ، فقالَ:" كيفَ تَجِدُكَ؟ " قالَ: وَاللهِ يا رسولَ اللهِ إنِّي أرْجُو اللهَ وإنِّي أخافُ ذُنُوبِي، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" لا يَجْتَمِعانِ في قَلْبِ عَبْدٍ في مِثْلِ هَذا المَوْطِنِ إلاَّ أعطاهُ اللهُ ما يَرْجُو، وَآمَنَهُ مِمَّا يَخافُ" [أخرجَهُ الترمذيُّ].(202/6)