اطبع هذه الصحفة
الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب
الحمد لله نستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، فهدى الله به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعيناً عميا وآذاناً صما، وقلوباً غلفا، حيث بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً وبعد..
فيقول الله سبحانه وتعالى :} يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً { [ النساء :1 ] } يأيها الذين آمنوا أتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون {
[ آل عمران : 102 ] .
أيها الاخوة المسلمون :
خرج الإمام أحمد والترمذي من حديث الزبير بن العوام عن النبي r دب إليكم داء الأمم قبلكم : الحسد والبغضاء ، البغضاء هي الحالقة - حالقة الدين لا حالقة الشعر - والذي نفس محمد بيده لا تؤمنون حتى تحابوا أولا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم " وأخرج أبو داود من حديث " أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r قال " إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو قال العشب " .
والحاسد في تعريفه هو الذي يكره النعمة التي أنعم الله بها على غيره من المسلمين سواء انتقلت إليه أم لا ، فإذ لم يكره النعمة التي أسبغها الله على غيره ولم يحب زوالها ولكنه يشتهي مثلها فإن هذه غبطة وليست من الحسد المذموم ولذلك قيل : المؤمن يغبط والمنافق يحسد .
( 2 )(1/1)
وقد ورد ذكر الغبطة بلفظ الحسد في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله r قال : " لا حسد إلا في اثنتين " رجل آتاه الله مالاً فسلط على هلكته في الحق ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس " وهو في هذا الموضع بمعنى الغبطة .
أيها الاخوة من الظلم الذي نهى عنه الإسلام الحسد وكثيراً ما يتولد الحسد من الحقد الذي هو وليد الغضب فلا تهدأ نفس الحاسد الحاقد حتى ينتقم من المحسود ويدمره ، ويقضي عليه ، أو على النعمة التي هي سبب الحسد وبذلك يكون الحسود في المجتمع عامل هدم وأداة إفساد وتخريب وفرقة ولو بحثت عما يحدث بين الأقارب أو بين العاملين أو إدارة واحدة أو بين الجيران وأمثالهم من الهجر والخصام ومن النزاع والشقاق ،والغيبة والنميمة ،ومن الشماتة عند المصيبة والفرحة عند نزول البلاء لوجدت السبب الوحيد الذي يكمن وراء ذلك كله هو الحسد .
والحسود لا يسود . ولا يبلغ المقصود كما قيل ، قال الصحابي الجليل معاوية رضي الله عنه " كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة ، فإنه لا يرضيه إلا زوالها ولذلك قيل .
كل العداوة قد ترجى إماتتها إلا عداوة من عاداك من حسد
وقال بعض الحكماء : ما رأيت ظالماً أشبه بالمظلوم من حاسد إنه يرى النعمة عليك نقمة عليه ،ولما سئل علي رضي الله عن الحسد قال : لله ما أعد له ، بدأ بصاحبه فقتله .
أيها الاخوة المؤمنون :
غم الحاسد لا ينقطع ، وقلبه لا يستريح ، ونفسه لا تطمئن ، وثائرته لا تسكن ، ومصيبته لا يجير فيها ، وعمله لا يرضى به أحد ، ولا يقره عليه إلا خبيث مثله ، وربه ساخط عليه ، والناس له مبغضون وعنه متباعدون ومعرضون ، والمحسود إما كاره لحاسده وحاقد عليه ، وإما ساخر به وضاحك عليه وعالم بما يقاسيه ويعانيه من سوء نية وخبث طوية يفعل في رأسه الحسد ما تفعل الخمر برأس شاربها ، ولا تراه إلا كئيباً حزيناً معارضاً لقضاء الله وقدره ، ولله در من قال :(1/2)
اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله *** كالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله
( 3 )
أيها الأخوة :
ما من ذي نعمة إلا كان له حاسدون ، وكان له من حاسديه ظلم وإثم ، فذو نعمة في عقله وعلمه له حاسدون واشون يفسدون ما بينه وبين ذي سلطان بالكذب والبهتان فناله من حسد هم بلاء وهم ، أو حزن وغم … وذو نعمة في ماله وتجارته له حاسدون واشون ، يفسدون بينه وبين زبائنه وشركائه … وكم من زوجين حبيبين يظلهما سرادق السعادة والهناء ويمتعها نعيم المودة والصفاء ويمدهما العطاء الكريم بالصحة والرخاء كان لهما حاسدون واشون أفسدوا ما بينهما بالكذب والبهتان والظلم والعدوان فنالهما من حسدهما بلاهم أو حزن وغم ، وربما منيا بالفراق والطلاق … وكم من أصحاب متآخين في الله متصافين متحابين يجتمعون على الله ويفترقون عليه قد دخل بينهم حاسدون واشون ، أفسدوا ما بينهم بالغيبة والنميمة ، كذباً وبهتاناً ، وظلماً وعدواناً فنالهم من حاسديهم هم وبلاء وعداوة وبغضاء ، ثم تفرقوا تفرق الأعداء … وكم من ولد أفسده الحاسدون على أبيه ، فبات عاقاً له بعد أن كان باراً به … وكم من محصنة عفيفة شريفة أشاع الحاسدون عنها الفواحش ما لم تفعل وأساءوا لسمعتها ودنسوا شرفها كذباً وبهتاناً … وكم من محصن عفيف شريف فعل به الحاسدون مثل ذلك الخ ما في المجتمعات الإٍسلامية من حسد الحاسدين وبغي الباغين على أهل الفضل والسماحة والخلق، والدين والعلم والصدق ، وكلها لها أمثلة وشواهد في أحداث التاريخ وقانا الله وإياكم شر الحسد والحاسدين .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(1/3)
اطبع هذه الصحفة
العمل الصالح طريق العزة
إن العمل الصالح نتيجة الإيمان الصادق، فبه تسير الحياة ، فتعمر الأرض بعد صلاح القلوب، وتنتظم حركة الحياة فتكون مصدر عطاء وخير للناس جميعاً ويعم النظام ويزداد الإنتاج ويكثر الخير في كل مجالات الحياة، والعمل لا بد أن ينبع من عقيدة سليمة ويكون داخل دائرة إيمانية حتى يعمر ولا يدمر، ويصلح ولا يفسد، ويحقق المصلحة للناس فيتحقق مقصود الشرع به وقد بين ربنا تبارك وتعالى أن العمل الصالح هو طريق الهداية والإصلاح فقال تعالى : {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الأنهار في جنات نعيم } [يونس : 9]
{الحمد لله رب العالمين، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور [فاطر : 10].
وأشهد أن لا إله إلا الله يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً رسول الله أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فوعى بحكمة ودعا على بصيرة وساس بحزم.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين . أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
إن العمل الصالح نتيجة الإيمان الصادق، فبه تسير الحياة ، فتعمر الأرض بعد صلاح القلوب، وتنتظم حركة الحياة فتكون مصدر عطاء وخير للناس جميعاً ويعم النظام ويزداد الإنتاج ويكثر الخير في كل مجالات الحياة، والعمل لا بد أن ينبع من عقيدة سليمة ويكون داخل دائرة إيمانية حتى يعمر ولا يدمر، ويصلح ولا يفسد، ويحقق المصلحة للناس فيتحقق مقصود الشرع به وقد بين ربنا تبارك وتعالى أن العمل الصالح هو طريق الهداية والإصلاح فقال تعالى : {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الأنهار في جنات نعيم } [يونس : 9](2/1)
وقال تبارك وتعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} [الكهف:30]فانظر إلى هاتين الآيتين،ففي الآية الأولى بين ربنا جل وعلا أن العمل
طريق الهداية في الدنيا والآخرة، وفي الثانية حث على إحسان العمل وإتقانه حتى يؤتي
( 2 )
ثماره ويفوز صاحبه بالأجر في الدنيا والآخرة.
ولا يتحقق الإيمان الكامل إلا إذا كان هناك عمل صالح يدعمه ويبرز ثماره للناس فيحس به الناس جميعاً، وهذا يظهر في إعمار الأرض وإخراج مكامنها ليتمتع بها البشر، وبذل الجهد لإسعادهم وذلك بإعمال الفكر لتحسين منتج من المنتجات وزيادة كميته حتى يسد حاجة الناس من مأكل وملبس ومشرب أو ابتكار في طرق تعليم تيسره على المتعلم حتى تتحقق زيادة أعداد المتعلمين، أو بصناعة توفر الراحة مع سرعة الإنجاز كوسائل المواصلات والاتصالات وغيرها من الأمور التي تصلح معايش الناس، والناظر إلى المبتكرات في عالم اليوم يرى عجباً في هذه الوسائل وكيف أن الإنسان يستطيع أن يسافر إلى البلاد البعيدة جداً في ساعات بعد أن كان يقطعها في أشهر، كل هذا بفضل العمل المتقن الذي بذله أصحابه لإسعاد ذويهم وتقوية جانبهم.
أيها المسلمون:(2/2)
أليس هذا الأمر فيه عزة لمن ملكه؟ وفيه قوة لمن سيطر عليه فهو يعطي منه ويمنع، يعطيه من يشاء بثمن غال ويمنعه إذا أراد، أليست هذه هي العزة الناتجة عن العمل وإحسانه والابتكار فيه حتى يملك العالم بين أصابعه.. إن العالم يتسابق اليوم ليصل إلى الكمال في كل شيء، فبفضل سواعد قوية وعقول ذكية تحول تراب الأرض إلى ذهب وربح منه العاملون فيه وباعوه بأغلى الأثمان وملكوا مقدرات العالم وتحكموا فيها، هذا بفضل عملهم الجاد النافع والله تعالى هو القائل: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون} [هود : 15] هذه الإنجازات التي تراها الآن في واقع حياتنا هي أعمال صالحة انتفع بخيرها الناس جميعاً في كل مجالات الحياة حتى تدخلت هذه الأعمال في أدق الأشياء، وفتتت الذرة، وتدخلت في أضخم الأشياء أيضاً فاجتازت المجرة،
وصعدوا إلى الفضاء الخارجي يجرون فيه تجاربهم وبثت الأقمار الصناعية التي ملأت الغلاف الجوي بالأخبار والمعلومات، وفي مجال الطب حدث ولا حرج، إنما أردت بهذا السرد
( 3 )
بيان أن العمل الذي يجلب نفعاً للناس وييسر عليهم مشقات الحياة ويوفر لهم متطلباتهم ويعينهم على قضاء حوائجهم في شتى مجالات الحياة، إنه عمل صالح وهو طريق العزة لأن من ملك هذا العمل قويت شوكته واستغنى عن الناس وملك زمام الأمر، ويا حبذا لو صاحب هذا العمل عقيدة سليمة وإيمان صادق بالله لكان فعلاً هو العمل الصالح الذي بين الله تعالى أن صاحبه لن يضيع أجره عند الله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} [الكهف : 30] {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا} الكهف107 ـ 108
أيها المسلمون :(2/3)
لا يكفي إيمان بلا عمل ولا عمل بلا إيمان، فإن الإيمان بلا عمل تراجع عن الأخذ بأسباب الحياة ، واقتصار المرء في النفع على نفسه فقط وعدم اهتمامه بالآخرين إن العبادة التي يتعدى نفعها إلى غيرك مقدمة على العبادة التي تخص نفسك وقد قام ابن عباس رضي الله عنه من معتكفة في مسجد رسول الله(صلي الله عليه وسلم) ليقضى حاجة رجل مسلم وجده مهموماً لدين أصابه، ولما ذكره الرجل باعتكافه بين له ابن عباس رضي الله عنه أن قضاء حاجات الناس مقدمة على الاعتكاف حتى ولو كان ذلك في مسجد رسول الله (صلي الله عليه وسلم) وذكره بقول الرسول (صلي الله عليه وسلم) من مشي في حاجة أخيه وبلغ فيها [قضاها] كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين .."رواه الطبراني والبيهقي" عن ابن عباس رضي الله عنه. ومن هنا نعلم أنه لا يكفي الإيمان بدون عمل، والله تعالى لما قدم لنا صفاته سبحانه في كتابه الكريم لم يقدمها لنا مجردة بل قدم الصفة والعمل التي تقوم به فقال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوي*والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى} [الأعلى] فبين مدلول صفة الأعلى من الخلق والتسوية والهداية والأرزاق إلى آخر هذه المدلولات، وهذا توجيه من الله تعالى إلى ضرورة العمل وأنه لا يوجد إيمان مجرد عن العمل الصالح و إلا فلا فائدة منه.
وأما العمل بلا إيمان فهو تهريج يدفع صاحبه إلى الشر وهو لا يدري فربما أكل التاجر الربا
( 4 )(2/4)
وهو لا يدري وربما ظلم نفسه وغيره وهو لا يدري، وفرق بين أن تعمل العمل تبتغي به وجه الله تعالى مخلصاً لله فيه تراقب ربك ترجو رحمته وتخشى عذابه وبين أن تعمل العمل فتطلب به باباً من الدنيا فقط ، فما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل، وفي ذلك يقول الرسول (صلي الله عليه وسلم): لا يقبل إيمان بلا عمل ولا عمل بلا إيمان [رواه الطبراني] بل إن العبد المحترف الذي يجيد حرفة من الحرف يأكل من ورائها وينفع الناس بها خير من غير المحترف الذي يعيش عالة على غيره يمد يديه بالسؤال ويطويها في ذل ومسكنة، يقول الرسول (صلي الله عليه وسلم):" إن الله يحب العبد المحترف، ومن كد على عياله كان كالمجاهد في سبيل الله عز وجل" [رواه أحمد].
أيها المسلمون:
إن عزة الله لا تنال إلا بالإيمان الصادق والعمل الصالح {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [ المنافقون : 8 ] والله تعالى لا يعطي عزة للمتكاسلين المتخاذلين ولكن يعطي عزته للمؤمنين العاملين، يقول الله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين} [الأنبياء : 105 ].
فنرى في هذه الآية الكريمة كيف أن الله تعالى جعل ميراث الأرض لعباده المؤمنين العاملين، وهم الذين وصفهم بالصالحين.
لقد استخلف الله آدم في الأرض لعمارتها وإصلاحها وتنميتها وتحويرها واستخدام الكنوز والطاقات المرصودة فيها واستغلال الثروات الظاهرة والمخبوءة، والبلوغ بها إلى الكمال
المقدر لها في علم الله، ولقد وضع الله للبشر منهجاً كاملاً للعمل على وفقه في هذه الأرض منهجاً يقوم على الإيمان والعمل الصالح، وفي هذا المنهج ليست عمارة الأرض واستغلال
الثروات والانتفاع بها هو وحده المقصود ولكن المقصود هو هذا مع العناية بضمير الإنسان ليبلغ الإنسان كماله المقدر له في هذه الحياة فلا ينتكس حيواناً في وسط الحضارة المادية،
( 5 )(2/5)
ولا يهبط إلى الدرك بإنسانيته وهو يرتفع إلى الأوج في استغلال موارد الثروة، وفي النهاية يكون ميراث الأرض لعباد الله الصالحين.
أدعو الله وأنتم موقنون بالإجابة .... دعاء.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(2/6)
اطبع هذه الصحفة
الآداب العامة في الإسلام
إن الإسلام دين يقوم على الخلق العظيم والأدب الكريم، ويجعل ذلك من صميم رسالته، بل هو قوامها وعنوانها وثمرتها، وكل العبادات في الإسلام تلتقي عند هذه الغاية فقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم مهمة رسالته في قوله الكريم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" رواه مالك.
وكان صلى الله عليه وسلم ولا يزال، المثل الأعلى في ذلك، وحسبه قول ربه له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) كما رتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كمال الإيمان على حسن الخلق وتمام الأدب فقال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) رواه الترمذي وصححه.
والآداب التي شرعها الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، آداب شاملة وعامة، آداب في الأكل، وآداب في الشرب، وآداب في اللباس والنوم، وآداب في معاملة الناس وآداب في كل شيء….
وتمثل هذه الآداب الإسلامية في شتى نواحي الحياة، حضارة رائعة، لأنها شرعت لترتقي بالحياة الإنسانية إلى أعلى مراتب الكمال الخلقي والنفسي والاجتماعي، مشتملة على الولاء والإخاء والمحبة والتعاون على البر والتقوى، تحت نور الإسلام وهداه، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71).
وقال صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (متفق عليه).
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 5 رجب الموافق 20/8/ 2004م
الآداب العامة في الإسلام
الحمد لله رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم.(3/1)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وفق من شاء من عباده لمكارم الأخلاق، وهداهم لما فيه صلاحهم وسعادتهم في الدنيا ويوم التلاق.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل الخلق على الإطلاق، أدّبه ربه فأحسن تأديبه، وأنزل عليه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيماً، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل: 128).
إخوة الإيمان:
إن الإسلام دين يقوم على الخلق العظيم والأدب الكريم، ويجعل ذلك من صميم رسالته، بل هو قوامها وعنوانها وثمرتها، وكل العبادات في الإسلام تلتقي عند هذه الغاية فقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم مهمة رسالته في قوله الكريم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" رواه مالك.
وكان صلى الله عليه وسلم ولا يزال، المثل الأعلى في ذلك، وحسبه قول ربه له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) كما رتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كمال الإيمان على حسن الخلق وتمام الأدب فقال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) رواه الترمذي وصححه.
والآداب التي شرعها الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، آداب شاملة وعامة، آداب في الأكل، وآداب في الشرب، وآداب في اللباس والنوم، وآداب في معاملة الناس وآداب في كل شيء….(3/2)
وتمثل هذه الآداب الإسلامية في شتى نواحي الحياة، حضارة رائعة، لأنها شرعت لترتقي بالحياة الإنسانية إلى أعلى مراتب الكمال الخلقي والنفسي والاجتماعي، مشتملة على الولاء والإخاء والمحبة والتعاون على البر والتقوى، تحت نور الإسلام وهداه، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71).
وقال صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (متفق عليه).
أيها المسلمون:
ومن هذه الآداب العامة: "أدب الطريق"، والطريق نعمة من الله تعالى على خلقه، ومن أهم شرايين الحياة التي لا يمكن الاستغناء عنها، قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الزخرف: 10).(3/3)
وقد بلغ اهتمام الإسلام بالطريق مبلغاً عظيماً، حتى حماه من مجرد صوت خلخال المرأة تحت ثيابها، قال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31).
كما دعا الإسلام إلى عدم الجلوس في الطرقات إلا لضرورة، فإن هم جلسوا فعليهم الالتزام بآداب الطريق وقانونه الصارم، فعن أبي سعيد الخدرى – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد، نتحدث فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه فقالوا وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" متفق عليه.
ومن الآداب الإسلامية العامة "أدب الموظف".(3/4)
وهو المكلف من قبل الدولة بالقيام بأمور تتعلق بمصالح الناس وحوائجهم، وعلى المؤمن الصادق أن يقوم بعمله الوظيفي على أكمل وجه وأن يبذل وسعه في قضاء مصالح الناس المتعلقة به، وأن يعاملهم معاملة كريمة، وأن يراقب الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، والقائل جل شأنه: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (يونس: 61).
وليعلم الموظف أن إخلاصه في عمله هو الجزء الأكبر من عبادته لربه فحري به أن يؤديه وكأنه في صلاة، خاشعاً لله، راغباً فيما عنده، ليكون من عباد الله الذين اختصهم بقضاء حوائج الناس، الآمنين من عذاب الله يوم القيامة.
أيها المسلمون:
ومن الآداب الإسلامية العامة "المحافظة على المرافق العامة".
وهي شرايين الحياة للناس على مختلف أنواعها ودرجاتها، فمنها (الماء) الذي به حياة كل شيء، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: 30) فعلينا أن نحافظ عليه ولا نسرف فيه حتى لا نحرم من حب الله تعالى القائل: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف: 31).
ومنها الكهرباء وهي في غاية الأهمية لكل الناس، إذ ينتفع بها كل صغير وكبير، فواجب علينا شرعاً المحافظة عليها بلا إتلاف أو إسراف.(3/5)
وهناك مرافق عامة كثيرة، كالوزارات والمستشفيات والمدارس والجامعات، وكل المؤسسات التي أنشئت لمصالح الناس، فعلينا أن نحافظ عليها وأن نتعامل معها بالرفق والحرص كما نتعامل مع أشيائنا الخاصة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله" متفق عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمسلمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله المحمود بكل لغة ولسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الرحيم الرحمن، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأنام، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا عباد الله:
اتقوا الله تعالى، وتأدبوا بما أدبكم الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وراقبوا الله في السر والعلن، واتقوا الله ويعلمكم الله، والله بكل شيء عليم.
إخوة الإيمان:
إن للاهتمام بالآداب الإسلامية العامة ثمرات عظيمة في حياة الفرد والمجتمع، وذلك أن هذه الآداب قد انتظمت شتى جوانب الحياة ومختلف مناشط الأفراد، فكان للإسلام في كل موقف أدب وفي كل حركة توجيه.
ومن أهم الثمرات التي تجتنى عن طريق التخلق بتلك الآداب:
أنها طاعة ومرضاة لله عز وجل وسبب لدخول الجنة فقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي في طريق إذ وجد غصن شوك فأخره فشكر الله له فغفر له".
ومن ثمراتها: أنها صلاح للفرد وعون له على التمسك بالسنن والواجبات قال عبدالله بن المبارك رحمه الله تعالى: من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة.(3/6)
ومن ثمرات الآداب والتمسك بها: أنها صلاح للمجتمع، تورثه التراحم والتعاطف والتوادد، وتنقيه من الشحناء والبغضاء، ومن أسباب ذلك ما علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم كافأتموه" أخرجه النسائي وأبو داود (وهو حديث صحيح).
ومن تلك الثمرات: توجيه اهتمام الأفراد وطاقاتهم إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) أخرجه مالك وأحمد.
ومن ثمرات الآداب كذلك: أنها دعوة إلى فضائل القيم ومحاسن الأخلاق، تشيع في المجتمع النظافة والطهارة الحسية والمعنوية، بما فيها من معاني المروءة والنبل واتقاء ما يشين من الأخلاق والعادات، ومن ذلك القبيل قوله صلى الله عليه وسلم: "من أكل من هذه الشجرة فلا يقرب مساجدنا يؤذينا بريح الثوم" أخرجه الشيخان وغيرهما.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.
اللهم احفظ أمير البلاد الحبيب وولي عهده الأمين، واحفظ هذا البلد وأهله ومن فيه، واجعله آمناً مطمئناً، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(3/7)
اطبع هذه الصحفة
الإيمان بالقضاء والقدر
إن من أعظم أركان الإيمان المعلومة لدى كل مسلم ومسلمة الإيمان بالقضاء والقدر، خيره وشره، حلوه ومره، لأنه من عند الله تعالى ولا راد لحكمه سبحانه. ولا يقبل إيمان امرئ حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور لمّا سأله عن الإيمان: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره". رواه مسلم.
ولهذا كانت وصية عبادة بن الصامت رضي الله عنه لابنه عند موته: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى يوم القيامة". ثم قال عبادة: يا بني، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس مني" رواه أبو داود.
فالمؤمن من يؤمن بأن الله سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الناس لو اجتمعوا على أن ينفذوا أمراً لم يشأه الله جل وعلا في ملكوته لم يقع، وهذا من معنى قوله سبحانه: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (التوبة: 51).
ويؤكد ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس حين كان رديفه: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 27جمادى الآخرة الموافق 13/8/ 2004م
الإيمان بالقضاء والقدر(4/1)
الحمد لله الواحد القهار، العلي الغفار، النافع الضار، وكل شيء عنده بمقدار، قدر المقادير بعلمه، وقضى القضاء بحكمته، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير.
أحمده سبحانه وتعالى وأشكره على السراء والضراء، والنعماء والبأساء، والقدر والقضاء.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق كل شيء بقدر، وقضى وغفر، وملك وستر.
مازالت الأيام تأتي بالعبر *** أفق وسلم للقضاء والقدر
وقل بما جاء به خير البشر *** هب لي الرضاء بالقضاء والقدر
وفي قضاء الله ثم في القدر*** من بعد هذا عبرة للمعتبر
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وهو أعظم مؤمن بالقضاء والقدر، عليه وعلى آله وأصحابه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله سبحانه وطاعته.
أيها المسلمون:
يقول الحق سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى {1} الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى {2} وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (الأعلى: 1، 3).
ويقول سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49) ويقول عز وجل:
{اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: 8).
إن من أعظم أركان الإيمان المعلومة لدى كل مسلم ومسلمة الإيمان بالقضاء والقدر، خيره وشره، حلوه ومره، لأنه من عند الله تعالى ولا راد لحكمه سبحانه. ولا يقبل إيمان امرئ حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور لمّا سأله عن الإيمان: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره". رواه مسلم.(4/2)
ولهذا كانت وصية عبادة بن الصامت رضي الله عنه لابنه عند موته: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى يوم القيامة". ثم قال عبادة: يا بني، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس مني" رواه أبو داود.
فالمؤمن من يؤمن بأن الله سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الناس لو اجتمعوا على أن ينفذوا أمراً لم يشأه الله جل وعلا في ملكوته لم يقع، وهذا من معنى قوله سبحانه: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (التوبة: 51).
ويؤكد ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس حين كان رديفه: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
أيها المؤمنون:
إن لفظي القضاء والقدر إذا وردا في موضع واحد، فإن القضاء يراد به الشيء الذي وقع، وأما القدر فيراد به ما كتبه الله تعالى وعلمه قبل وقوعه.
فالمؤمن يؤمن بعلم الله سبحانه وإحاطته الأزليه بمقادير الأشياء وأحوالها التي ستكون عليها، فلا يقع مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا طبقاً لما أحاط به علمه سبحانه، وسبق به كتابه.(4/3)
فإذا علم الإنسان وأيقن أن ما أصابه فإنما هو بعلم الله وحكمه وليس خطأ أو عبثاً أو حظاً، وأن ما أخطأه فإنما هو أيضاً بعلم الله وحكمه، إذا علم ذلك استراحت نفسه، وسلم أمره لله، ورضي بحكمه وقضائه، فلا يجزع ولا يرهب، ولا يتوجس ولا يقلق، بل يكون مطمئن القلب هادئ البال، راضيا بكل ما يصيبه، صابرا عليه، شاكراً لكل فضل من الله وإحسان، وذلك مثل المؤمن مع القدر، كما قال عليه الصلاة والسلام: "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن" رواه مسلم.
أيها المؤمنون:
إن من ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر كذلك أنه يهدئ روع المؤمن عند المصائب وعند فوات المكاسب، فلا تذهب نفسه عليها حسرات، ولا يلوم نفسه أو يعنفها، بل يصبر ويرضى بحكم الله تعالى، ويعلم أن هذا هو عين قضاء الله وقدره، قال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد: 22، 23).(4/4)
وهنا نجد الفرق بين المؤمن بالله سبحانه وبقضائه وقدره وغير المؤمن بذلك، فنسمع – مثلا - عن النسب المرتفعة للانتحار في بلاد الكفر بسبب مصائب هي في الحقيقة هينة، وما ذلكم إلا بسبب انعدام الإيمان بالله سبحانه وبقضائه وقدره، إذ لا يلجأ إلي الانتحار إلا من كان كذلك، أو كان ضعيف الإيمان منعدم الهمة، فاقد الصبر، كثير الحرص على الدنيا، يظن أن نهاية العالم بتلك المصيبة التي أصابته، لا يعرف الصبر على المقادير ولا الأجر على ذلك، ولا حمد الله عليها أو الرضى بها، غاب عنه قول النبي صلي الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً" رواه الإمام أحمد.
أما المؤمن بقضاء الله وقدره فهو راض بحكم الله سبحانه، صابر على قضائه، حامد لله على السراء والضراء، قال وهب بن منبه: قرأت في بعض كتب بني إسرائيل: قال الله لأيوب عليه السلام: يا أيوب: أتدري من أسرع الناس مروراً على الصراط؟ الذين يرضون بحكمي وألسنتهم رطبة بذكري.
وقد مدح الله سبحانه المؤمنين بقضائه وقدره، الصابرين على ما يصيبهم منه مما لا يحبون وذلك بقوله سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: 155، 157).
إن إيمان المؤمن بقضاء الله وقدره يدفعه إلي العمل والاجتهاد، يقول النبي صلي الله عليه وسلم: "اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له" متفق عليه.
وتأمل أيها المسلم قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (الليل: 5، 7).(4/5)
حيث رتب التيسير على العمل الصالح الذي هو الإعطاء والتصديق، وكذلك رتب التعسير على العمل السيء الذي هو التكذيب والاستغناء وعدم البذل: {وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (الليل: 8، 10).
وهذا ينبهك على أن إيمانك بقضاء الله وقدره يجعلك تعمل وتتوكل على الله سبحانه وتسأله القبول، لا أن تتواكل وتترك العمل ثم تقول: إنه مقدر لي عدم العمل، فما أدراك ما هو المقدر؟ وما أدراك ما هو المكتوب؟ فالمؤمن عليه أن يعمل الصالحات ويسأل الله تعالى القبول والتوفيق.
اللهم اجعلنا من الموقنين، واجعلنا من المتقين، واغفر لنا يوم الدين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مقدر الأقدار، ومصرف الأمور والأحوال. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق تقواه، واعملوا بطاعته ورضاه.
أيها المسلمون:
لا مكان في الإسلام للقول بأن الإنسان مجبر على أفعاله فيما يؤمر وينهى، بل هو مخير في الأمر والنهي وليس مسيرا، فهو يختار إما طريق الخير وإما طريق الشر، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 9، 10).
ثم إن علم الله تعالى السابق وكتابته وتقديره للأشياء ليس من أجل الجبر، إنما كان ذلك لقيام الحجة على العباد، وأنه لا يحصل شيء إلا والله جل وعلا عالم به كمال العلم: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب 40).(4/6)
فالمؤمن متزن في عقيدته، متزن في أعماله، متزن في نظره وفكره، وبسبب أنه مؤمن بالقضاء والقدر فهو يخاف من السوابق ومن الخواتيم، فهو بين أمرين: أمرٍ قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه فيسأل الله قبول الصالحات والعفو عن الزلات، وأجلٍ قد بقي لا يدري ما الله خالق فيه فيسأل الله حسن الختام، وهذا من عجائب إيمان المؤمن بقضاء الله وقدره، وقد قال بعض السلف: ما أبكى العيون ما أبكاها سر الخواتيم والكتاب السابق. وقال آخر: قلوب الأبرار معلقة بالسوابق يقولون: ماذا كتب لنا؟ وقلوب المحسنين معلقة بالخواتيم يقولون: بماذا يختم لنا؟ وهذا هو حال المؤمن.
أيها المؤمنون:
إن الأسئلة التي يطرحها بعض المسلمين حول القضاء والقدر كثيرة، والواجب على المؤمن أن يسلم لقضاء الله وقدره، وأن يؤمن به خيره وشره، فليس من شأن المسلم أن ينازع القدر بقيل وقال وكثرة السؤال فيما لا يفيد، فإن كثرة السؤال منهي عنها، وإن الشيطان يحاول جلب الشبه والوساوس على قلب الإنسان، فليدفعها المؤمن بقوة، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وليقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وليستعن بالله في طرد الوساوس حتى يبقى له يقينه قويا ثابتاً كالجبال.
وفي الحديث الذي أخرجه مسلم عن النبي صلي الله عليه وسلم: "… احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان".
اللهم إنا نسألك إيماناً صادقاً، ولساناً ذاكرا، وقلباً خاشعاً.
اللهم ثبتنا على الإسلام، وارزقنا حلاوة الإيمان، واجعلنا من أهل السعادة يا كريم يا منان.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.(4/7)
اللهم تقبل شهداءنا الأبرار، واغفر لنا ولهم يا عزيز يا غفار، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(4/8)
اطبع هذه الصحفة
التدخين وأثره على الصحة
لقد أنعم الله سبحانه عليكم بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى، كما قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النحل: 18) ومن أعظم هذه النعم نعمة الصحة، فإنها رأس مال الإنسان، يقضي بها حياته في راحة وسعادة ولا يعرف قيمتها إلا من فقدها، أخرج البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ". فالصحة في الأبدان نعمة عظيمة، وهي كما قيل: تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضي، فعن وهب بن منبه قال: مكتوب في حكمة آل داود: (العافية: الملك الخفي) وهذه النعمة يا عبد الله تسأل عن شكرها يوم القيامة، وتطالب بها، كما قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (التكاثر: 8). قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، النعيم: صحة الأبدان والأسماع والأبصار يسأل الله العباد فيم استعملوها، وهو أعلم بذلك منهم.
فالإسلام حريص على أن يتمتع أهله بالصحة الجسمية والنفسية، وينظر إلى الصحة على أنها ركن من أركان السعادة في هذه الحياة الدنيا، أما سمعتم ما رواه الترمذي وغيره بإسناد حسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ20جمادى الآخرة الموافق6/8/ 2004م
التدخين وأثره على الصحة(5/1)
الحمد لله الذي من علينا بالإسلام والإيمان، وتفضل علينا ببيان الشرائع والأحكام، وأحل الحلال وحرم الحرام، أحمده على نعمه الكاملة في كل آن، وأشكره على آلائه الشاملة لكل إنس وجان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نهى العباد عن الإضرار بالأبدان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله آخر الأنبياء زمانا وأولهم بحسب الشان، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الأطهار.
أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله فهي التجارة التي لا تبور، وأحثكم على مراقبته، فإنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فشمروا لطاعاته، واحذروا التواني والقصور، وإياكم والمحارم فإنها حمى الله، وهو عند انتهاك محارمه غيور، وحاذروا هذه الدنيا فإنها متاع الغرور.
يا من أسا فيما مضى ثم اعترف كن محسنا فيما بقي تلق الشرف
واسمع كلام الله في تنزيله (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)
معاشر الأحباب:
لقد أنعم الله سبحانه عليكم بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى، كما قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النحل: 18) ومن أعظم هذه النعم نعمة الصحة، فإنها رأس مال الإنسان، يقضي بها حياته في راحة وسعادة ولا يعرف قيمتها إلا من فقدها، أخرج البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ". فالصحة في الأبدان نعمة عظيمة، وهي كما قيل: تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضي، فعن وهب بن منبه قال: مكتوب في حكمة آل داود: (العافية: الملك الخفي) وهذه النعمة يا عبد الله تسأل عن شكرها يوم القيامة، وتطالب بها، كما قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (التكاثر: 8). قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، النعيم: صحة الأبدان والأسماع والأبصار يسأل الله العباد فيم استعملوها، وهو أعلم بذلك منهم.(5/2)
فالإسلام حريص على أن يتمتع أهله بالصحة الجسمية والنفسية، وينظر إلى الصحة على أنها ركن من أركان السعادة في هذه الحياة الدنيا، أما سمعتم ما رواه الترمذي وغيره بإسناد حسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
واعلموا عباد الله أن من مظاهر عناية الإسلام بالصحة، أنه وضع الوسائل الوقائية، والمناهج العلاجية، للوقاية من العلل والأسقام والأمراض قبل حدوثها، فالوقاية خير من العلاج، وقديما قالوا: "درهم وقاية خير من قنطار علاج" ومن مظاهر الاهتمام بالصحة، أن الله سبحانه أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، لأنها تفسد جسد الإنسان وتضر به، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157).(5/3)
ألا وإن من أخبث الخبائث التي ابتلي بها المجتمع اليوم شرب الدخان، هذا الداء الخطير الذي يؤدي إلى الإصابة بالوهن والضعف العام، وإلى كثير من الأمراض، مثل ارتفاع ضغط الدم، وتصلب الشرايين بما فيها شرايين القلب وجلطات أوعية المخ الدموية، ويؤدى أيضا إلى زيادة عدد ضربات القلب، والذبحة الصدرية، وضيق التنفس، والالتهاب الشعبي المزمن، والإصابة بمرض السل الرئوي، والربو المزمن، ومرض السعال، ويسبب انهيار الفم والبلعوم، والإصابة بقرحة المعدة والاثني عشر، وبسرطان المثانة، وقرحة المثانة، وسرطان الرئة، والتهاب الرئة المزمن، وسرطان الحنجرة.
وقد ذكرت منظمة الصحة العالمية أن الوفيات الناتجة عن التدخين أكثر من الوفيات الناتجة عن أي وباء آخر، فهو يقتل أربعة ملايين شخص كل عام، والعدد في ازدياد بسبب الزيادة السكانية وخاصة في العالم الثالث، وتقدر منظمة الصحة العالمية أن يصل العدد إلى 10 ملايين شخص يتوفون سنوياً بحلول عام 2020م، وبالمقارنة، فإن القنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا على هيروشيما وناجازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945م قتلتا مباشرة 140 ألفا ثم مات بعد ذلك عدد آخر بسبب الأشعة القاتلة ويقدر العدد الإجمالي لضحايا القنبلتين الذريتين بربع مليون شخص.
فكيف يمكن أن نقارن ضحايا التدخين (أربعة ملايين شخص يتوفون سنوياً) بضحايا القنابل الذرية (ربع مليون شخص)؟(5/4)
وإليكم قصة شاب في قوة شبابه، وهو زوج وأب ومعيل أسرة، ابتلي بشرب الدخان منذ سنين طويلة، لا تكاد يده تنقطع عنه، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي خرج فيه من باب بيته ليركب سيارته، فإذا به يسقط على الأرض، وإذا بقواه تنهار، والصوت لا يسمع، وحركة الجسم توقفت، ولكن رحمة الله تعالى بعباده عظيمة، وفضله واسع، إذ رآه أحد الجيران على هذه الحال، فأسعفه إلى المستشفى، وعولج، وقال الطبيب: لو أنك تأخرت قليلاً، لكنت خرجت عن هذه الحياة، وحذار من العودة إلى التدخين، فإنه سبب البلاء، فترك هذا الشاب التدخين، ولم يعد له أبداً فعادت له صحته وعافيته، ورجعت له قوته ونضارته، والحمد لله.
فيا أيها الأحباب:
لقد تكلم أهل العلم عن هذه الآفة الفتاكة وبنوا الحكم بتحريمها على عدة أسباب منها:
أولاً: ضرر الدخان على صحة الإنسان، حيث ثبت علمياً وطبياً وهو أمر مشاهد ومعلوم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (النساء: 29).
ثانياً: الإسراف والتبذير، فهو إنفاق فيما يضر ولا ينفع، وقد نهى الله عن ذلك بقوله سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف: 31)
وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} (الإسراء: 27)، وقد أصبح لبعض بيوت المسلمين ميزانية خاصة لهذا البلاء، وكأنما هو طعام أو قوت لا يستغنى عنه في الحياة الدنيا، فلا حول ولا قوة إلا بالله.(5/5)
ثالثاً : خبث رائحته وما يتركه في الأسنان والرئة والحلق من آثار كريهة ، ففي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم"
وإذا حرم الإسلام شيئاً حرم بيعه وتعاطيه، وكل ما جاء النص بتحريمه حرم أكله وتأكد خبثه، فالمال الحرام مال خبيث، إذا أكل الإنسان أو شرب أو لبس من حصيلته أصبح خبيثاً، وبعدها لا يرتفع لصاحبه دعاء، لأن الله جل وعلا طيب لا يقبل إلا طيباً، روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: "ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يارب يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟ نعم كيف يستجاب له وقد سرى هذا الضرر الفتاك في دمه وعروقه وخالف أمر الله تعالى: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} (المائدة: 88).(5/6)
فرحم الله امرأ أقلع عما كان عليه من المخالفات، وأخلص لله قلبه معتبراً بالنصيحات، وندم على ما مضى، وعزم على أن لا يعود إلى تلك المهلكات، قال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور:31)، وقال تعالى {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82)، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أمرنا بالطيبات، وحذرنا من المضرات، أحمده حمداً كثيراً، وأشكره شكراً كبيراً، على نعمه الفائضات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله القائل: "لا ضرر ولا ضرار" اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه آناء الليل وأطراف النهار.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله تعالى واذكروا نعمه عليكم.
عباد الله:(5/7)
كم تعالت الأصوات على إنكار شرب الدخان! وكم صدرت التحذيرات الطبية عن أضراره! وكم نادت الفتاوى الشرعية بتحريمه! والملاحظ أن شاربيه لا يجيبون داعياً، ولا يصغون لناصح، بل صمت آذانهم وعميت أبصارهم، فتراهم يدافعون بشدة عن هذا الضرر الفتاك، ويلتمسون لأنفسهم العذر بكل ثقة غير مبالين بتلك الفتاوى والتحذيرات، فنسأل الله لنا ولهم العافية، وإننا ندعوهم بدافع النصيحة الخالصة إلى ترك هذه الآفة الخطيرة، فقد جاء في الصحيحين من حديث تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة قلنا لمن؟ قال "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".(5/8)
فبادروا بالتوبة منه، واتركوه طاعة لربكم، وحفاظاً على صحتكم، فمن ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه، ثم لا تنس يا من ابتليت بالتدخين أنك ستكون قدوة سيئة لأولادك إن كنت أباً، ولطلابك إن كنت معلماً، ولمجتمعك ولجلسائك أيما كنت، روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قال: "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة" وأيضاً هو من التعاون على الإثم والعدوان، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة: 2) والعاقل تكفيه الإشارة، قال تعالى: {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} (الأنعام: 104).
عليك بما يفيدك في المعاد وما تنجو به يوم التناد
فمالك ليس ينفع فيك وعظ؟ ولا زجر كأنك من جماد(5/9)
فهلا اتعظت أيها المبتلى بشرب الدخان، وسارعت إلى تركه، فكفيت نفسك وغيرك ضرره، فجاهد نفسك وهواك، فقد روى فضالة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المجاهد من جاهد نفسه في الله" أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "أول ما تنكرون من جهادكم جهاد أنفسكم" فجاهد نفسك يا عبد الله في الرجوع إلى الحق ولا تتماد في الباطل لتكون قدوة حسنة في الخير.
اللهم عافنا فى أبداننا وأسماعنا وأبصارنا لا إله إلا أنت، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم حسن أخلاقنا ويسر أرزاقنا، وخذ إلى الخير بنواصينا، اللهم فرج كرب المسلمين في كل مكان وأصلح ذات بينهم، اللهم فك قيد أسرانا، وارحم شهداءنا الأبرار، وارزقنا شكر نعمتك، وحسن عبادتك، اللهم احفظ سمو أمير البلاد، وسمو ولي عهده الأمين، واجعل بلدنا هذا آمنا مطمئناً، سخاء وسائر بلاد المسلمين.
وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(5/10)
اطبع هذه الصحفة
الخشية من الله تعالى
إنّ قمةَ إيمان المرء, وغايةَ ما يُطلب أن يصل إليه نحوَ خالقه ومولاه, أن يخشاه حقَّ خشيته, وأن يشعر بجلاله وعظمته؛ فإنّ هذا هو حقيقة الإيمان, وهو ثمرة الأعمال الصالحة التي شرعها الله تعالى لنا, ولهذا فقد عاتب الله تعالى بعض المسلمين على تأخر خشوع قلوبهم لذكره فقال سبحانه: }أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ{ [الحديد: 16], والمعنى: أما حان وجاء الوقتُ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ؟!.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 6 جمادى الآخر الموافق 23 / 7 / 2004م
الخشية من الله تعالى
الحمد لله المستحق للحمد والخشية, المتفردِ بالجبروت والعزة والعظمة, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, أنزل من الحكمة والبيان ما تخشع له القلوب وتقشعر الأبدان, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, أرسله الله تعالى بالهدى والحق والفرقان, أكملُ وأجلُّ من خَشِي الواحدَ الديّان, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين , ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله تعالى وطاعته.
أيها المسلمون:(6/1)
إنّ قمةَ إيمان المرء, وغايةَ ما يُطلب أن يصل إليه نحوَ خالقه ومولاه, أن يخشاه حقَّ خشيته, وأن يشعر بجلاله وعظمته؛ فإنّ هذا هو حقيقة الإيمان, وهو ثمرة الأعمال الصالحة التي شرعها الله تعالى لنا, ولهذا فقد عاتب الله تعالى بعض المسلمين على تأخر خشوع قلوبهم لذكره فقال سبحانه: }أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ{ [الحديد: 16], والمعنى: أما حان وجاء الوقتُ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ؟!.
أخرج مسلمٌ في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: " ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربعُ سنين ".
فالمطلوب – عباد الله – أن لا نكون كاليهود والنصارى الذين بدَّلوا كتاب الله واشتروا به ثمنًا قليلا, فأصبحت قلوبهم قاسيةً, لا تقبل موعظةً ولا ترِقُّ لها ولا تلين, فاستحقت اللعنةَ والطرد من رحمة الله, قال تعالى – واصفًا بني إسرائيل -: }ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ{ [البقرة: 74].(6/2)
إذًا فخشية الله تبارك وتعالى دليل لين القلب ورقته, كما أن انتفاء الخشية دليلُ قسوة القلب وغلظته, فما أعجبَ حالَ الإنسان حين يصل به الجمود إلى عدم التأثر بكتاب الله تعالى الكريم, وأن لا يشعر بعِظم خالقه المجيد, الذي تخاف منه الملائكة, وتتصدع من كلامه الجبال }لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{ [الحشر:21].
أيها المسلمون :
إن صفة المسلم الصادق, والمؤمن الحق, أنه يخشى ربه ومولاه, بل تجد أن هذا هو الغايةُ في إيمانه وتقواه, فلا يقول قولاً أو يعمل عملاً إلا وهو يراقب الله تعالى فيه, سواء أكان في عملٍ صغير أم كبير, في ليلٍ أو نهار, في سرٍّ أو علن, فالخشية وصفٌ لصيقٌ بالمؤمن لا ينفك عنه, قال تعالى في وصف المتقين: }الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ{ [الأنبياء: 49], وقال سبحانه: }قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ{ [المؤمنون: 1, 2], والخشوع هو أثرٌ للخشية, وقال تعالى عن آل زكريا – عليهم السلام -: }فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ{ [الأنبياء: 90].
عباد الله :
وبسبب الخشية من الله تعالى كان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرامُ يبكون, ويجتهدون في العبادة.(6/3)
ثبت في مستدرك الحاكم وغيره, عن زيد بن أرقم رضي الله عنه: أن أبا بكر رضي الله عنه استسقى (أي طلب الشراب), فقُدِّم له قدحٌ من عسلٍ مشوبٍ بالماء, فلما رفعه إلى فيه بكى حتى أبكى من حوله, فسكتوا وما سكت, ثم ازداد بكاؤه رضي الله عنه فبكى من حوله, فسكتوا بعد ذلك وسكت, فقالوا: يا أبا بكر, يا خليفة رسول الله: ما الذي أبكاك ؟ قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وليس معنا أحد وهو يقول بيده: إليكِ عني إليكِ عني! فقلت: يا رسول الله: من تخاطب وليس هاهنا أحد ؟! قال: هذه الدنيا تمثلت لي, فقلت لها: إليكِ عني إليكِ عني, فقالت: إن نجوتَ مني فلن ينجو مني مَن بعدكَ. [قال أبو بكرٍ لمن حوله]: هذا الذي أبكاني.
وكان القانت عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر يبكي حتى تخضلَّ لحيتُه من البكاء, أي تبتلّ, وكان يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما رأيت منظرًا إلا والقبر أفظع منه ", وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "القبر أول منزل من منازل الآخرة, فإن نجا منه فما بعده أيسر, وإن لم ينج منه فما بعده أعظم " أخرجه أحمدُ وغيره.
وعن بلال بن الحارث المزَني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يَظن أن تبلغ ما بلغت, يَكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه, وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يَظن أن تبلغ ما بلغت, يَكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه ". فكان علقمة – راوي هذا الحديث عن بلال – يقول: كم من كلام قد منعَنِيهِ حديثُ بلاِل بن الحارث. أخرجه أحمد وأهل السنن إلا أبا داود.(6/4)
ورُوِي عن ميسرة بن أبي ميسرة أنه كان إذا أوى إلى فراشه يقول: يا ليتني لم تلدني أمي, فقالت له أمه حين سمعته: يا ميسرة: إن الله تعالى قد أحسن إليك؛ هداك للإسلام, قال: أجل, ولكن الله تعالى قد بيّن لنا أنا واردون على النار ولم يبين لنا أنا صادرون عنها (أي ناجون منها).
وتأملوا هذا الأثر العظيمَ للفاروق المبشرِ بالجنة: عمرَ بنِ الخطاب, رضي الله عنه وأرضاه, فقد أخرج الإمام أبو داود في كتابه " الزهد " – بإسناد حسن – عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " كان رأس عمرَ في حِجري -وذلك عند وفاته-, فقال: يا عبد الله : ضع رأسي بالأرض. قال: فجمَعتُ ردائي فوضعته تحت رأسه, فقال: ضع رأسي بالأرض لا أُمَّ لك. ثم قال [أي عمر]: ويلُ عمرَ وويل أُمِّهِ إن لم يَغفر الله له ".(6/5)
أيها المسلمون: إذا كان هذا هو حال خيار الناس من الأنبياء والصحابة والتابعين في خشيتهم من الله تعالى والعملِ من أجل النجاة من يوم يشيب له الوِلدان, فكيف المفترض أن يكون حال مَن بعدهم ممن هو لا يدانيهم ولا يقاربهم في المنزلة والفضل ؟! أليس الأجدر بنا – معاشر المسلمين – أن نتأسف لحالنا, وأن نتندم على ما فات من أعمارنا, وأن نعقد العزم ونَجِدَّ الجِدّ للعمل لآخرتنا, وأن نخشى من الله تعالى حق الخشية حيث أمرنا سبحانه بذلك, فقال – عَز من قائل -: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ{ [لقمان: 33] ؟ وقال تعالى} :وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ{ [البقرة: 150].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, الإله الحق المبين, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين, وخاتم المرسلين, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق تقواه, واعملوا بطاعته ورضاه.
أيها المسلمون:(6/6)
مَن أراد أن يخشى الله تعالى حق الخشية, فلْيسع لتحقيق بعض الأمور التي توصله إلى ذلك, وأولها: العلم بالله سبحانه وبعظيم خَلقه وصنعه, ؛ فإن الله تعالى قد بين لنا هذه الحقيقة العظيمة في كتابه الكريم بيانًا جليًّا, حيث نبّه سبحانه وتعالى على كمال قدرته في خلقه الثمارَ المختلفةَ المتنوعة في الألوان من الشيء الواحد الذي هو الماء, وكذلك في اختلاف ألوان الجبال والناس والدواب, ثم قال: }وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ{ [فاطر/28] , قال الإمام ابن كثير – رحمه الله – : "أي: إنما يخشاه حق خشيته: العلماءُ العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم - المعروفِ بصفاتِ الكمال, المنعوت بالأسماء الحسنى - كلما كانت المعرفة به أتمَّ والعلمُ به أكمل, كانت الخشيةُ له أعظمَ وأكثر.
ويفسر هذا المعنى ويوضحه قوله تعالى: }أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ{ [الزمر: 9].(6/7)
ومن الأمور المحققة للخشية من الله تعالى: أن يتفكر المؤمن في الآخرة وما أعد فيها سبحانه لعباده الطائعين من النعيم المقيم, وما أعد لعباده الكافرين من العذاب المهين }يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ{ [الحج/1, 2]. وقال تعالى عن الساعة: }يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ{ [الشورى: 18].
ومنها: القراءة في سِيَر الأسلاف والماضين, والاقتداء بهم في أعمالهم وحياتهم قدر المستطاع؛ فلقد حازوا في ذلك على القِدْحِ المعلّى, فكانوا خير أمة أخرجت للناس.
ومما يؤدي إلى الخشية ويقويها في النفوس: الازدياد من الطاعات ؛ فإن الطاعة تدعو إلى أختها, كما أن المعصية تدعو إلى مثلها, والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, فبالطاعات والقُرُبات تَرِقُّ القلوب وتخشع, وباقتراف المعاصي والمنكرات تقسو القلوب وتضعف.
فلْنحافظ على الجُمع والجماعات, ولنُكثر من الصيام والصدقات, ولْيكن القرآنُ أنيسَ جلوسنا, وونيسَ حديثنا, ولنتحلَّ بمعالي الأخلاقِ وكريمها, ولنبتعد عن سيء الأخلاق وسِفْسافها, ولْنطهر قلوبنا من أدرانها وأدوائها, ولْنجعل الآخرة هي همَّنا ورجاءنا.
اللهم ارزقنا الخشية والإنابة إليك, وألهمنا الرشد والهداية في دينك, ولا تجعل الدنيا أكبر همنا, ولا مبلغ علمنا, وأدخلنا برحمتك الجنة مع الأبرار, يا عزيز يا غفار.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات.(6/8)
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين, وأذلَّ الشرك والمشركين, ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين, يا قويُّ يا متين, واحفظ اللهم أميرَنا وولي عهدنا الأمناء, وارزقهم الصحة والعافية, وتقبل شهداءنا الأبرار, يا أكرم الأكرمين.
وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(6/9)
اطبع هذه الصحفة
كيف نستقبل العام الدراسي
ها نحن بعد قرابة ثلاثة أشهر من الراحة والاستجمام، يدور بنا الزمن دورته لنقف على بوابة عام دراسي جديد نحتاج فيه إلى كثير من الجهد ، وإلى كثير من البذل والتشمير، حتى نستغله أحسن استغلال ونوظفه أحسن توظيف، وذلك منذ البداية ، قبل أن تتراكم الدروس، وتتكاثر الواجبات، ويتفلت الزمن السريع التصرم والانقضاء.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 3 شعبان 1425هـ الموافق 17 / 9 / 2004م
كيف نستقبل العام الدراسي
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً" [الأحزاب: 70, 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
إخوة الإيمان:
ها نحن بعد قرابة ثلاثة أشهر من الراحة والاستجمام، يدور بنا الزمن دورته لنقف على بوابة عام دراسي جديد نحتاج فيه إلى كثير من الجهد ، وإلى كثير من البذل والتشمير، حتى نستغله أحسن استغلال ونوظفه أحسن توظيف، وذلك منذ البداية ، قبل أن تتراكم الدروس، وتتكاثر الواجبات، ويتفلت الزمن السريع التصرم والانقضاء.
أيها المؤمنون:
إننا بحاجة ونحن نقف على أعتاب سنة علمية جديدة إلى أن نقف قليلاً لنتذاكر في مكانة العلم في الشرع الإسلامي، وأهميته في بناء الحضارات وصناعة الأمجاد.(7/1)
إن الدين الإسلامي قد وضع العلم في مكانة من السمو والأهمية تقاصرت دونها المراتب وعجزت عن مطاولتها القمم، كيف لا؟ وأول آية نزلت من كتاب الله جاءت آمرة بالقراءة، منوهة بالعلم، يقول الله عز وجل: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" [العلق: 1, 5 ].
أي تنويه ، وأي إشادة، وأي رفع لمنزلة العلم أكثر من ذلك؟ غير أن القرآن لا يقف عند هذا الحد في الإشادة بالعلم، بل يتجاوزه إلى أن يقسم الله سبحانه وتعالى بالقلم وما يسطره من كتابه وعلم، فيقول جل من قائل: "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ" [القلم: 1]، ويصل الرفع من منزلة العلم ذروته حين يشهد الله سبحانه وتعالى أهل العلم على ألوهيته ووحدانيته في سياق قرآني مهيب، فيقول تعالى: "شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" [آل عمران: 18].
عباد الله:
ولقد عظّمت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن العلم، ورفعت منزلة العلماء، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله وملائكته وأهل السماوات وأهل الأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير" (أخرجه الترمذي وقال حديث حسن).
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" (متفق عليه).
ومن أوضح الدلائل على رفعة مكانة العلم، وعظم الثواب فيه ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من استمرار الجزاء عليه بعد الموت، حيث جاء في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث، إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".(7/2)
ولقد فهم الصدر الأول من هذه الأمة تلك النصوص الشرعية، وجسدوها في مثال واقعي حي، فعظّموا العلم وأهله وأنزلوهم المكانة العليا، واعتاضوا بالعلم عن النسب، والحسب، والمنزلة المتوارثة، أخرج مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أن نافع بن عبد الحارث الخزاعي لقيه بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى فقال: ومن ابن أبزى قال: مولى من موالينا، قال فاستخلفت عليهم مولى؟ قال فإنه قارئ لكتاب الله عز وجل، عالم بالفرائض، قال عمر: "أما إنّ نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين".
إخوة الإسلام:
ومما هو جدير بالتنبيه أن مستقبل أبنائنا ومستقبل مجتمعنا مرتبط بهذا العلم، الذي لا يمكن أن ينهض بدونه عمران، أو تقوم حضارة، أو تزدهر أمة، فما غاب العلماء عن مجتمع إلا أظلم نهاره، وخبت أنواره، ولفه التاريخ في ثوب النسيان، ويتضاعف الأمر أهمية في عصرنا الحاضر عصر الثورة العلمية والانفجار الثقافي، حيث انعدمت الحواجز والحدود، وأصبح الشخص ما لم يأخذ حصانة كافية من العلم الشرعي والثقافة الإسلامية ريشة في مهب رياح الأفكار والثقافة المنحرفة.
إن مستقبل أبنائنا غداً مرهون بما يأخذونه اليوم من علم ويتزودون به من ثقافة نافعة لهم في دينهم ودنياهم، وهم لا يزالون على كراسي الدراسة بعد.
معاشر المسلمين:(7/3)
ومن الأمور التي يقع فيها الخلط لدى بعض الناس ما يتعلق بما يسمى اليوم (المواد العلمية)، فلا يراها تحظى من الأهمية والعناية في الشرع الإسلامي بالشئ الكثير، والأمر ليس كذلك، فلقد عدّ كثير من العلماء تعلّم العلوم التي تحتاج إليها الأمة في دنياها ومعاشها واجباً دينياً على الكفاية، لا تسقط عن الناس المطالبة به حتى يقوم به من يكفي، ولقد انعكس هذا الفهم واضحاً في التاريخ الإسلامي، حيث كان المسلمون سبّاقين إلى تلك العلوم، من رياضيات، وطب وفلك، وغيرها، ولم ينس التاريخ أن أوربا قد أفاقت على صوت علماء المسلمين، وهم يدرسون تلك العلوم في مساجد إشبيليه، وقرطبة، وغرناطه، وغيرها.
وفي الوقت الذي كان فيه علماؤنا يتحدثون في حلقاتهم العلمية، ومؤلفاتهم، عن دوران الأرض وكرويتها وحركة الأفلاك والأجرام السماوية، كان الأوربيون بعيدين عن ذلك أشد البعد، بل هو داخل عندهم في باب الخرافة، والوهم، فلم يعرفوا تلك المعارف والعلوم إلا من خلال ما ترجموه من كتب علماء المسلمين ككتاب (القانون) لابن سينا في الطب، وكتاب (الحاوي) للرازي في الطب، كذلك وغيرهما من الكتب التي ظلت تدّرس في الجامعات الأوربية بل ويُعتمد عليها حتى القرن السادس عشر.
عباد الله:
وإن من الأمور الضرورية لتحصيل علمي ناجح ما ينبغي أن يتمتع به التلميذ من خلق وأدب، يجعله قرة عين أستاذه في المدرسة، وقدوة لزملائه من حوله، ويكون طريقاً له إلى النجاح في دراسته وحياته المستقبلية، وإن هناك بعض الأخلاق والآداب، التي يجب على الطالب أن يتحلى بها في المدرسة وقاعات التحصيل، ومن تلك الأمور:(7/4)
احترام الطالب لأستاذه، فإن ذلك شرط في التحصيل العلمي وهو اللائق بمن يؤخذ عنه العلم، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه (تعلموا العلم، وعلموه الناس، وتعلموا له الوقار والسكينة، وتواضعوا لمن تعلمتم منه ولمن علمتموه). ومن تجليات هذا الاحترام: حسن الاستماع والإنصات له أثناء الشرح، وعدم الكلام إلا بإذنه وعدم الدخول في حديث جانبي بحضرته، وإبداء الاهتمام بكل ما يقول، وطاعته في ما يصدر من أوامر وتوجيهات تربوية.
ومن هذه الآداب كذلك: العلاقة الحسنة بالطلاب، ومصادقة المتميزين والجادين منهم، فإن المرء على دين خليله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) أخرجه الترمذي (وهو حديث حسن)، ونحن نرى من خلال مشاهداتنا الواقعية كم من طالب نجيب انتكس وانقلب صلاحه فساداً وجده هزلا، بتأثير الزملاء، كما نشاهد عكس ذلك طلاباً يتفوقون في دراستهم، وينجحون في حياتهم، بفضل الله تعالى، ثم بتأثير زملائهم الصالحين المجتهدين وقديماً قال الشاعر:
عن المرء لا تسل وسل عن قرينه*** فكل قرين بالمقارن يقتدي
فإن كان ذا شر فجانب بسرعة*** وإن كان ذا خير فقارنه تهتد
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله:
فأوصيكم بتقوى الله وطاعته وأحذركم من معصيته ومخالفته.
أيها المسلمون:(7/5)
إننا في هذه الوقفة المباركة، بحاجة إلى التذكير ببعض النصائح الضرورية، لدراسة أبنائنا وتحصيلهم وتفوقهم العلمي، فلنأخذ هذه النصائح، ولنحرص على أن يمتثلها الأبناء، ومن أهم هذه النصائح: - الجدية في الدراسة والمثابرة عليها في وقت مبكر من السنة، وليكن شعارهم قول النبي صلى الله عليه وسلم "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز" أخرجه مسلم.
ومنها: اتباع منهجية واضحة في المذاكرة والاستيعاب، ترتب المواد حسب ما تحتاجه من جهد، ومنها أيضاً: المبادرة إلى استيعاب المواد قبل تكاثر الدروس وتراكمها، والاتصال بالأساتذة المعنيين لحل ما أشكل من المقررات.
وتبقى أهم وصية توجه إلى الأبناء هي الوصية بتقوى الله تعالى، والالتجاء إليه بالدعاء فإن ذلك أقرب طريق إلى التوفيق والنجاح، ولا شك أن المسئولية بالدرجة الأولى، في هذه التوجيهات وغيرها، تقع على الآباء وأولياء الأمور إشرافاً ومتابعة فعليهم أن يحتسبوا ذلك عند الله وليخلصوا النية له أنهم يريدون بناء أفراد مسلمين صالحين ينهض بهم المجتمع في دينه، ودنياه، وليكن هذا البعد الديني حاضراً في توجيههم للأبناء ليفهموا أهمية تعلمهم في إطار العبادة الشاملة لله عز وجل، وذلك من صميم المسئولية التي يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" متفق عليه.
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، اللهم ارزقنا الاستقامة على منهج النبي صلى الله عليه وسلم من غير إفراط ولا تفريط، اللهم اجعلنا ممن يمسّكون بالكتاب ويقيمون الصلاة واجعلنا من المصلحين، اللهم انصر دينك وأعز جندك وخذ بنواصي البشرية إلى الهداية والتوفيق، اللهم تقبل شهداءنا الأبرار، واحفظ اللهم سمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين.
وأقم الصلاة
---(7/6)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(7/7)
اطبع هذه الصحفة
نظرات في رحلتي الإسراء والمعراج
في الأسبوع الأخير من رجب: يتذكر المسلمون حدثاً جللاً من أحداث السيرة النبوية، ذلكم هو حدث الإسراء والمعراج برسول الله صلى الله عليه وسلم، الإسراء الذي وقع بنص القرآن الكريم، وقد سميت سورة من سوره بسورة الإسراء، وافتتح الله تعالى بذكره هذه السورة، حينما قال عز وجل: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ" (الإسراء: 1).
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 25 رجب 1425هـ الموافق 10 / 9 / 2004م
نظرات في رحلتي الإسراء والمعراج
الحمد لله الذي رفع قدر المؤمنين وأعزهم، وأوهى منزلة الكافرين وأذلهم وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، شرح له صدره وأعلى ذكره، ورفع مقامه في الدنيا والآخرة.
صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته، ومن سار على سنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وراقبوه في السر والعلن، واعلموا أن التقوى هي المخرج من كل ضيق، والسبيل إلى كل رزق قال تعالى: "فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً" (الطلاق: 2 ,3).
أيها المسلمون:(8/1)
في الأسبوع الأخير من رجب: يتذكر المسلمون حدثاً جللاً من أحداث السيرة النبوية، ذلكم هو حدث الإسراء والمعراج برسول الله صلى الله عليه وسلم، الإسراء الذي وقع بنص القرآن الكريم، وقد سميت سورة من سوره بسورة الإسراء، وافتتح الله تعالى بذكره هذه السورة، حينما قال عز وجل: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ" (الإسراء: 1).
ومن هنا كان من كذّب بالإسراء، ولم يؤمن به كافراً بإجماع المسلمين، لأنه كذّب صريح القرآن المقطوع به، المجتمع عليه، المعلوم من حياة النبي صلى الله عليه وسلم بالضرورة.
وأما المعراج فلم يذكر في القرآن إلا من باب الإشارة لكنه ثبت صريحاً في أحاديث الصحيحين وغيرهما، وقد جاءت الإشارة إلى المعراج في القرآن في سورة النجم، حيث قال تعالى: "وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى" (النجم: 13, 18)، والكلام هنا عن جبريل عليه السلام، الذي كان يأتي بالقرآن للنبي صلى الله عليه وسلم حيث رآه النبي صلى الله عليه وسلم، على صورته الملكية مرتين، مرة في الأرض، وهى الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء، والمشار إليها في قوله تعالى: "وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ" (التكوير: 23) والرؤية الثانية وهي التي كانت عند سدرة المنتهى في ليلة المعراج هذه.
أيها المؤمنون:(8/2)
إن الإسراء رحلة أرضية بين المسجدين المباركين المقدسين: مسجد مكة، ومسجد القدس "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ" (الإسراء: 1) ربط الله تعالى بينهما بهذه الرحلة المباركة، أما المعراج فهو رحلة سماوية تبتدئ من المسجد الأقصى وتنتهي في السموات العلا إلى مستوى لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى كما قال الشاعر:
حتى بلغت سماء لا يطار لها على جناح ولا يسعى على قدم
هنالك بلغ مستوى لم يبلغه بشر قبله صلى الله عليه وسلم، حيث وزع الله أعاظم الأنبياء على السموات، فكانوا يرحبون بمقدمه صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد أن صلى بجميع الأنبياء بالأرض.
أيها المسلمون:
لقد جاء هذا التكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن نال من إعراض الخلق، ومن إيذاء البشر، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يسري عنه وأن يعوضه، وأن يقيم له هذا التكريم في الأرض والسماء.
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاسى ما قاسى هو وأصحابه عشر سنوات، وهو يعرض على القوم دعوته يتلو عليهم القرآن، ويبلغهم الإسلام ولكنهم استقبلوه بأشد ما يستقبل به نبي، فصبر عليه الصلاة والسلام، وما وهن، وما ضعف، وما استكان، حتى كتب الله تعالى له النصر والتمكين،.
عباد الله:(8/3)
إن الإسلام قد ورث الديانات السابقة كما قال الله تعالى: "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" (المائدة: 48) وقد جاءت بعض وقائع الإسراء والمعراج لتترجم هذه الوراثة عملياً وذلك من خلال صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنبياء، واقتضت هذه الوراثة الربط بين المسجد الحرام، وأبرز المقدسات الأخرى وهو المسجد الأقصى، وقد اقتضت هذه الوراثة تنبيه المسلمين إلى أهمية أرض النبوات فجاء الحديث عن علو بني إسرائيل وإفسادهم، وسيطرتهم على المسجد الأقصى مرتين ثم انتزاعه منهم قال تعالى: "وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً" (الإسراء: 4).
أيها المسلمون:(8/4)
إن التحفة والهدية والذخيرة التي بقيت لنا من ذكرى الإسراء والمعراج، هي هذه الصلوات التي هي معراج كل مؤمن إلى ربه، والتي يستطيع أن يرقى بها إلى الله في اليوم خمس مرات، تلك الصلوات التي تنتزعك - أيها المسلم – من دنيا الصراع إلى حيث تقف بين يدي ربك تناجيه، فتناجي قريباً مجيبا، وتسأله، فتسأل كريماً معطاءً، وتستعينه، فتستعين قوياً معينا، وكأنك تسمعه وهو يقول في الحديث القدسي: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى: حمدني عبدي، فإذا قال: "الرحمن الرحيم" قال: أثنى على عبدي فإذا قال: "مالك يوم الدين" قال: مجدني عبدي، فإذا قال: "إياك نعبد وإياك نستعين" قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فهناك تجاوب بين الله تعالى وعبده المصلي.
وتلك هي الصلاة التي نرى كثيراً من المسلمين يفرطون فيها ويضيعونها وصدق الله إذ يقول: "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً" (مريم: 59) نرى من أبناء المسلمين من يتسمى بأسماء المسلمين، وبأسماء الأنبياء وبأسماء الصحابة، من اسمه محمد، وأحمد، وعلي، وعمر، ومع هذا لا يعرفون المساجد، ولا ينحنون لله راكعين، ولا يعفرون الجباه لله ساجدين.
أيها المسلمون:
لقد أطلع الله تعالى نبيه الكريم، على أصناف من الناس، يواجهون عواقب ما عملوا في الدنيا، ليكون في ذلك موعظة لمن تبلغهم الرسالة، فقد أخرج أحمد وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون في وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم".
ولقد رأى غير ذلك من ألوان العذاب الواقع على العصاة والمذنبين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية:(8/5)
الحمد لله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الذي جعل السعادة في طاعته، والشقاء والذلة في معصيته.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، الذي جاء بالحبل المتين، والصراط المستقيم، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحابته، ومن سار على سنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واطلبوا توفيقه ورضاه.
أيها المسلمون:
إن هناك دروساً وعبراً كثيرة في هذه الرحلة غير ما ذكرنا منها:
أنها تؤكد وحدة الأنبياء في دعوتهم فالكل جاء بالتوحيد الخالص من عند الله تعالى، فالأنبياء إخوة، دينهم واحد "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء: 25).
ومن هذه الدروس أيضاً: أنها درس في بناء الرجال، حيث لا يمكن بناء الرجال إلا من خلال المواقف، والشدائد، التي يتعرضون لها فيثبتون، ويتحملون، ويسيرون في طريق دعوتهم وهدفهم حتى يصلوا.
أيها المؤمنون:
إن هذه الرحلة درس في معية الله عز وجل، لأنبيائه وأوليائه، ويتجلى ذلك حينما طلبت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصف لهم بيت المقدس ورسول الله قد جاءه ليلاً ولم يكن قد رآه من قبل وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لما كذبتني قريش قمت في الحجر فجلا الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه" (أخرجه البخاري ومسلم)، وصدق الله إذ يقول: "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" (غافر: 51).
إنها دروس لكل صاحب هم، لكل صاحب قلب مكلوم، ألا يلتفت قلبه إلا إلى الله عز وجل، لأنه سبحانه هو صاحب الأمر والنهي، وهو القادر على كل شيء وإليه ترجع الأمور.(8/6)
إن هذه الرحلة مملوءة بالعبر والمواعظ، التي لا يمكن حصرها في هذه العجالة، لكن في الإشارة ما يغني عن العبارة، وفي التلميح ما يغني عن التصريح.
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم ارزقنا الاستقامة على منهج النبي صلى الله عليه وسلم من غير إفراط ولا تفريط، اللهم اجعلنا ممن يمسكون بالكتاب ويقيمون الصلاة واجعلنا من المصلحين، اللهم انصر دينك وأعز جندك وخذ بنواصي البشرية إلى الهداية والتوفيق، اللهم تقبل شهداءنا الأبرار، واحفظ اللهم سمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين.
وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(8/7)
اطبع هذه الصحفة
مخاطر تواجه الشباب
إن حياة الإنسان هي عمره الذي يقضيه في هذه الحياة الفانية, وإن هذا العمر ينقسم إلى مراحل يختلف بعضها عن بعض, فمنها ما يكون الإنسان فيها قويًّا, ومنها ما يكون فيها ضعيفًا, ومنها ما يكون فيها بين هذا وذاك, قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِير}ُ [الروم/54].
وقد قسم بعض العلماء مراحل عمر الإنسان إلى خمس مراحل: مرحلة الصِّبا: وذلك من الولادة إلى البلوغ, ومرحلة الشباب: من البلوغ إلى الأربعين سنةً, ومرحلة الكهولة: من الأربعين - أو قبلها - إلى تمام الخمسين سنةً, ومرحلة الشيخوخة: من الخمسين إلى تمام السبعين, ومرحلة الهرم: من السبعين إلى آخِر العمر.
وما من شكٍّ أنَّ كل لحظة في عمر الإنسان تعتبر غاليةً نفيسةً؛ إذ أنها لا تعوّض ولا ترجع
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 10 شعبان 1425هـ الموافق 24 / 9 / 2004م
مخاطر تواجه الشباب
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:-
فأوصيكم ونفسيَ أولا بتقوى الله عز وجل وطاعته.
أيها المسلمون:(9/1)
إن حياة الإنسان هي عمره الذي يقضيه في هذه الحياة الفانية, وإن هذا العمر ينقسم إلى مراحل يختلف بعضها عن بعض, فمنها ما يكون الإنسان فيها قويًّا, ومنها ما يكون فيها ضعيفًا, ومنها ما يكون فيها بين هذا وذاك, قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِير}ُ [الروم/54].
وقد قسم بعض العلماء مراحل عمر الإنسان إلى خمس مراحل: مرحلة الصِّبا: وذلك من الولادة إلى البلوغ, ومرحلة الشباب: من البلوغ إلى الأربعين سنةً, ومرحلة الكهولة: من الأربعين - أو قبلها - إلى تمام الخمسين سنةً, ومرحلة الشيخوخة: من الخمسين إلى تمام السبعين, ومرحلة الهرم: من السبعين إلى آخِر العمر.
وما من شكٍّ أنَّ كل لحظة في عمر الإنسان تعتبر غاليةً نفيسةً؛ إذ أنها لا تعوّض ولا ترجع:
دقاتُ قلبِ المرء قائلةٌ له إن الحياة دقائق وثوانِ
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذِّكْرُ للإنسان عمرٌ ثانِ
ولكنْ لِنعلم – يا عبادَ الله – أن أعظم مراحل عمر الإنسان هو مرحلة الشباب. يقول إمام الواعظين الشيخ الفقيه ابن الجوزي – رحمه الله -: "وهذا هو الموسم الأعظم الذي يقع فيه جهاد النفس والهوى, وغلبةُ الشيطان. وبصيانة هذا الموسم يحصل القرب من الله عز وجل, وبالتفريط فيه يقع الخسران العظيم, وبالصبر فيه عن الزلل يُثْنَى على الصابرين, كما أثنى الله فيه على الصابرِ يوسفَ الصِّدِّيقِ لمّا خالف هواه فصار أمرًا عظيمًا يُضرب به الأمثال, وكل ذلك كان بصبر ساعة, ولو أنه زَّل فوافق هواه: من كان سيكون ؟!" [ا هـ بتصرف].
عباد الله :-(9/2)
ولمّا كانت مرحلة الشباب في غاية الخطورة والأهمية, جاء الثواب العظيم, والأجر الجزيل, لمن صبَر منهم وأطاع, ووقف عند حدود الله تعالى وأناب, ففي حديث الصحيحين في السبعة الذين يظلهم الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله, قال: "وشابٌّ نشأ في عبادة الله"؛ وذلك لأن داعية المعصية وحبَّ الشهوة عند الشباب أقوى منها عند غيرهم, فكان الجزاء عظيمًا نظير الفتنة العظيمة.
أيها المسلمون:-
إن الشباب هم عُدَّةُ المستقبل, وأمل الأمة, وهم ريحانتها وسبب قوتها, فما من أمة من الأمم إلا وتعتمد في بناء دولتها وقيام نهضتها على سواعد الشباب, فهذه جيوش العالم إنما تقوم بهم, وهذه وظائفها وإداراتها تعتمد أساسًا عليهم؛ وذلك لما للشباب من القوة ما ليس لغيرهم, ولما لهم من الأمل والطموح ما لا يوجد عند غيرهم, فالشباب طاقةٌ فذّةٌ, ومخزونٌ هائل, سريع التفاعل, وشديدُ التأثر, وقوي الانفجار, فإن أُحسن استخدامُ هذه الطاقة كان الخيرُ والنجاح, وإلا كان الشرُ والدمار:
إن الشباب والفراغ والجِدة مفسَدةٌ للمرء أيَّ مفسدة
فمن أجل ذلك, لا نستغرب – معاشر المسلمين – إذا رأينا أن أعداء الإسلام يركزون – جُلَّ تركيزهم - على الشباب والفتيات من أمة الإسلام, فيغرونهم ويغرقونهم بأبواب الشهوات والملذات المحرمة؛ إذ هي أقرب وسيلة وأسهل طريق لهدم دينهم, وإفساد معتقدهم, أو إضعاف إيمانهم وعزيمتهم على أقل الأحوال, وقد قال أحد أعداء الإسلام كلمته المشهورة: كأسٌ وغانيةٌ تفعلان في المسلمين ما لا يفعله ألف مدفع.
أيها المسلمون:-
إن ثمةَ مخاطرَ عظيمةً هائلةً تواجه الشباب المسلم اليوم:(9/3)
فأبرزها: الغزو الثقافي والفكري لشباب الأمة؛ مِن أجل إغراقها في وحَل الثقافة الغربية الزائفة, وفَتنها بمظاهر الحياة المادية التي تقوم على إشباع حياة الجسد والبدن دون أدنى مراعاة لحياة القلب والروح, يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد/12].
ومن هذه المخاطر: وسائل الإعلام والاتصال الحديثة التي ظهرت ويظهر الجديدُ منها في كل يوم, من القنوات الفضائية, وشبكات الإنترنت, وهواتف التصوير وغيرها من الوسائل التي غزت معظم البيوت, حتى لا يكاد يسلم منها أحد, بما فيها من شر ومنكر, وضرر وإضرار, وعري وفساد, وليس يعني هذا تحريمَ أو منعَ هذه الوسائلِ على الإطلاق, بل هي على حسب استعمالها: فإن استُعملت بما فيها من خير ونفع فهي مباحة, وإن استُعملت بما فيها من شر وضرر فهي محرمة, ولكنّ المطلوبَ هو بيانُ خطورة هذه الوسائل وحسَاسيتها, فهي تتطلب التنبه لها من الشباب والفتيات وأولياء الأمور, وأن يكون التوجيه الدائم والمستمر في التحذير من المحرمات والمنكرات التي فيها, يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة/2].(9/4)
ومن تلكم المخاطر التي تهدد شبابنا: العادات والأخلاق الدخيلة على مجتمعاتنا التي لم تكن في يوم من الأيام من عاداتنا وأخلاقنا, مما فيه التشبه بأهل الكفر في عاداتهم أو لباسهم أوهيئتهم التي يختصون ويتميزون بها عن المسلمين, فأصبحت شعارًا لهم وعَلمًا عليهم؛ وقد نهانا الشرع عن التشبه بالمشركين في أشياءَ كثيرة, حتى قال صلى الله عليه وسلم: "... ومن تشبه بقوم فهو منهم" أخرجه أحمد وأبو داود, وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بالأنبياء الذين قبله فقال عز وجل: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام/9], وحثنا الشرع على أن نقتدي برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب/21].
ومن المخاطر التي تواجه شباب المسلمين اليوم: تشبه الرجال منهم بالنساء, وتشبه النساء بالرجال, وذلك في اللباس وقَصة الشعر ونحو ذلك, وقد ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه, عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلَ يلبس لِبْسةَ المرأة, والمرأةَ تلبَس لِبْسةَ الرجل".
عباد الله:-(9/5)
فلْيعلم فلذاتُ أكبادنا, وثروةُ أمتنا, وأمل شعوبنا: أنّ باب الشهوات بابٌ ظاهره الرحمة والسعادة, ولكنْ باطنُه العذاب والشقاء, واسألوا كلَّ مجرب ينبئْكم عن حقيقة الحال, وهذه دول الكفر التي أفرطت في إعطاء الحريات لشعوبها, أصبحت اليومَ ترزح في وادي التِّيه والحَيْرة, وفي ألم الشقاء والنَّكَد, فلا يجد كثيرٌ منهم - ممن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت - طريقًا للخلاص من دنياهم التي انقلبت إلى جحيم إلا بالانتحار, وقد وصلت النسبة في بعض تلك البلدان إلى وقوع حالة انتحار في كل خمس دقائق, يقول تعالى: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم/33].
إن على كل مسلم أن يعِيَ ويوقن بأن ما فتح الله تعالى لعباده وخلقه مِن أبواب الحلال إنما هو أضعافُ أضعافِ ما أَغلق عليهم من أبواب الحرام, وهو كافٍ ومغنٍ لسدِّ حاجاتهم في باب الشهوات والملذات, ففي شهوة الفرج أحل الله تعالى لنا الزواج إلى أربع نساء لمن كان يرجو من نفسه العدل, وأحل لنا عامة الأطعمة والأشربة ولم يحرم علينا إلا ما فيه ضررٌ لنا كالمسكرات, وهو مما تنفر منه أصلاً النفس السوية, وأحل لنا من اللهو ما ليس فيه إثارةُ العداوة والبغضاء بيننا, أو فيه صدٌّ عن ذكر الله تعالى أو إضاعةٌ للصلاة, إلى غير ذلك مما فيه سماحة الإسلام ويسره {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج/78].(9/6)
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:-
الحمد لله على عظيم نعمه وجزيل إحسانه, وأشهد أن لا إله إلا الله الناصر الحافظ لأوليائه, وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله وخيرة خلقه وأنبيائه, اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه.
أما بعد:-
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق تقواه, واعملوا بطاعته ورضاه.
أيها المسلمون:-
لِيعلم الشاب أنه من يوم بلوغه قد وجبت عليه الواجبات الشرعية, وجرى عليه قلم التكليف, ونزل عليه ملَكان يكتبان عمله طول عمره, يقول عز من قائل: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [ الانفطار/10-12].
قال الإمام ابن الجوزي – رحمه الله -:
"فلينظر العبد فيم يرتفع من عمله, فإن زلَّ فلْيرفع الزلل بتوبة واستدراك. ولْيَغُضَّ طرفه؛ فقد قال الله عز وجل: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور/30]...
وكان خلقٌ كثيرٌ من الأشياخ يتأسّفون في حالة الكِبَر على تضييع موسم الشباب, ويبكون على التفريط فيه, فلْيُطل القيام من سيقعد, ولْيُكثر الصيام من سيعجِز.
والناس ثلاثة: مَن استكثر عمره بالخير ودام عليه فذلك من الفائزين, ومَن خلَط وقصّر فذاك من الخاسرين, ومَن صاحَب التفريط والمعاصي فذاك من الهالكين, فلينظر الشابُّ: في أي مقام هوَ فليس لمقامه مثل.
ومَن زلَّ مِن الشباب فلْينظر: أين لذتها ؟! وهل بقي إلا حسرتُها الدائمة التي كلما خطر ذكرُها للقلب تألّمَ فصار ذكرها للقلب عقبة ؟...
وكان بعض السلف – رحمه الله – يقول: ودِدت لو أن يدي قُطِعت, وعُفِي لي عن ذنوب الشباب".ثم أنشد ابن الجوزي - رحمه الله - هذه الأبيات:(9/7)
أمّا الشباب فظلمة للمهتدي وبه ضلال الجاهل المتمردِ
فاقمعْه بالصبر الجميل ودم على الصوم الطويلِ فإنه كالمِبْرَدِ
واكفُف لسانك عن فضول كلامه واحفظه حِفظ الجوهرِ المتبدِّدِ
واغضض جفونك عن حرامٍ واقتنعْ بحلالِ ما حصّلتَ تُحمدْ في غدِ
ودع الصِّبا فالله يَحمد صابرًا يا نفسُ هذا موسمٌ فتزودي
اللهم احفظ شباب المسلمين وفتياتهم, اللهم وفق المسلمين لما فيه خير الدنيا والآخرة.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, إنك سميعٌ قريب مجيب الدعوات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين, واجعل اللهم هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين, وتقبل اللهم شهداءنا وشهداء المسلمين أجمعين.
وأقم الصلاة.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(9/8)
اطبع هذه الصحفة
العفاف
إن موضوع العفاف من أهم الموضوعات التي ينبغي أن تسترعي انتباه المسلم الحريص على دينه اليوم، وهو يعيش عصر المغريات والفتن، الذي أصبحت فيه المرأة تستخدم وسيلة من وسائل الإشهار، والإعلان، والدعاية التجارية مما يتطلب التوقف عند هذا الموضوع باهتمام وحزم كبيرين، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" متفق عليه.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 17 شعبان 1425هـ الموافق 1 / 10 / 2004م
العفاف
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما}ً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخوة الإيمان:(10/1)
إن موضوع العفاف من أهم الموضوعات التي ينبغي أن تسترعي انتباه المسلم الحريص على دينه اليوم، وهو يعيش عصر المغريات والفتن، الذي أصبحت فيه المرأة تستخدم وسيلة من وسائل الإشهار، والإعلان، والدعاية التجارية مما يتطلب التوقف عند هذا الموضوع باهتمام وحزم كبيرين، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" متفق عليه.
أيها المسلمون:
ولقد اقتضت مشيئة الله سبحانه وتعالى أن يركب في الإنسان ـ من بين ما ركب فيه – غرائز جسمية نزاعة إلى نيل رغباتها وشهواتها، وأن يجعلها من مواطن اختبار إيمانه وابتلاء يقينه، وهو سبحانه القائل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (العنكبوت: 2).
ولكن الله سبحانه وتعالى رحمة منه وتفضلاً لم يشق على الإنسان، ولم يكلفه فوق طاقته، فلم يحرم عليه الاقتراب من قضاء شهوته في كل الظروف والأحوال، ولا طالبه بأن يتنكر لإنسانيته، بل أباح له قضاء شهوته بالطرق الشرعية المنضبطة التي تضمن سلامة المجتمع، واستقراره، وعدم اختلاط أنساب أهله ونصاعة أعراضهم، ففتح له باب الزواج لقضاء هذه الشهوة، وأجاز له التعدد بشرط العدل، وحيث بين سبحانه الجائز من ذلك أوجب على المسلم الاقتصار عليه، وحرم عليه أن يبتغي لشهوته طريقاً غيره، وذلك هو العفاف الذي ربط الله به الفلاح في قوله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} . [المؤمنون: 1-7](10/2)
يقول ابن القيم - رحمه الله - تعليقاً على هذه الآيات: وهذا يتضمن ثلاثة أمور: من لم يحفظ فرجه لم يكن من المفلحين، وأنه من الملومين، ومن العادين، ففاته الفلاح واستحق اسم العدوان ووقع في اللوم. ومقاساة ألم الشهوة ومعاناتها أيسر من بعض ذلك.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى من لم يقدر على النكاح بطلب العفاف حتى يجعل الله له سبيلاً إلى الزواج، قال الله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 33] ومن ذلك الاستعفاف ما بيّنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" متفق عليه . (والوجاء: قطع الشهوة ).
عباد الله:(10/3)
ولقد رغب الشرع الإسلامي في العفاف أشد ترغيب، وأجزل عليه الأجر والمثوبة في الدنيا والآخرة، ففي الصحيحين أن النبي – صلى الله عليه وسلم –قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"… وذكر منهم: ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله) فقد بين النبي – صلى الله عليه وسلم – كيف تعرض ذلك الرجل لتلك الفتنة، وذلك الإغراء، فثبت وصبر، وتعالى على رغبات الجسد ودواعي الغريزة بإيمانه ويقينه، فكان له بشارة من النبي – صلى الله عليه وسلم – بأنه من أولئك السبعة الذين يظلهم الرحمن في ظله يوم القيامة، وكان له ذلك الموقف ذخراً يعول عليه في الدنيا قبل الآخرة، كما حدثنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم – عن أصحاب الغار الثلاثة فقال: "بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها، لعل الله يفرجها عنكم "فكل واحد منهم دعا الله بعمل صالح فانفرج عنهم جزء من الصخرة إلى أن انفرجت بالكامل، فانطلقوا يمشون، وكان بينهم رجل دعا الله تعالى بعفافه فقال: "اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، وطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فتعبت حتى جمعت مائة دينار فجئتها بها، فلما وقعْتُ بين رجليها قالت يا عبد الله: اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة ففرج لهم…" أخرجه الشيخان، واللفظ لمسلم.
أيها المسلمون:(10/4)
وتلكم الأمم التي انحرفت عن شرع الله تئن تحت وطأة الأمراض الفتاكة والمصائب، وما مرض (الإيدز) الذي يحصد أرواح الملايين من البشر اليوم إلا مثال صارخ لما نقول، ولهذا حذر القرآن الكريم من الزنا، فقال الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء: 32] فأخبر عن غايته بأنه ساء سبيلا فإنه سبيل هلكة وبوار وافتقار في الدنيا، وسبيل عذاب في الآخرة وخزي ونكال.
إن مفسدة الزنا لا تتوقف عند ما ذكر – وإن كان فيه ما يكفى وزيادة – ولكنها تتجاوز ذلك بكثير، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله -: ولما كانت مفسدة الزنا من أعظم المفاسد وهي منافية لمصلحة نظام العالم في حفظ الأنساب، وحماية الفروج، وصيانة الحرمات، وتوقي ما يوقع أعظم العداوة والبغضاء بين الناس، من إفساد كل منهم امرأة صاحبه، وبنته، وأخته، وأمه، وبذلك خراب العالم، كانت تلي مفسدة القتل في الإثم، ولذا قرنها الله به في القرآن الكريم ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – في السنة، قال الإمام أحمد – رحمه الله -: لا أعلم بعد قتل النفس شيئاً أعظم من الزنا.
وقد عظم الله حرمته بقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: 68, 70] فقرن الزنا بالشرك، وقتل النفس، وجعل جزاء ذلك الخلود في النار، في العذاب المضاعف، المهين، ما لم يرفع العبد موجب ذلك بالتوبة والإيمان والعمل الصالح.
أيها المؤمنون:(10/5)
إن على المجتمع المسلم أن يبذل أقصى جهده، لتوفير الأجواء المناسبة لعفاف الأبناء، والبنات ، وإن من أهم أسباب ذلك: التربية الإسلامية الصحيحة التي تغرس معاني الفضيلة في نفوس الأبناء، وتربيهم على الالتزام بأحكام الشرع منذ الصغر.
ومنها تسهيل سبل العفاف لمن أراده عن طريق تيسير الزواج للشباب بتخفيف المهور، وإشاعة ثقافة التيسير في هذا المجال، وتزويج البنات ممن يطلبهن إذا توافرت فيه الشروط التي بيّنها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" أخرجه الترمذي.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:-
فأوصيكم بتقوى الله وطاعته، وأحذركم من معصيته ومخالفته.
أيها المسلمون:-
إن مما يجدر بنا ونحن نتحدث عن العفاف: أن نُذكِّر ببعض النماذج المشرقة، التي هي معالم على طريق العفة، ومنارات على طريق الهدى، وسرج يهتدى بها في ليل الفتن.(10/6)
وإن من أعظم هذه القصص والنماذج قصة نبي الله يوسف الصديق -عليه السلام-، الذي ابتلي في عنفوان الشباب والقوة والجمال، لا بأية امرأة جمعته معها الأقدار، ولكن بامرأة العزيز التي هو في بيتها صباح مساء، فيحدث الاختبار، وتفقد المرأة أعصابها، وتغلق الأبواب، وتلقي آخر نداء تملكه صريحاً مكشوفاً بعدما لم يفد التلميح، قال تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23] ولكن ذلك الشاب المؤمن المطمئن الشاكر لنعمة الله يقول في إيمان وثقة {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23](10/7)
ولا تتوقف فتنة يوسف عند هذا الحد، بل إن امرأة العزيز تواصل مراودته، ويخرج الأمر من حدود السر، وتتوالى حلقات الابتلاء فيظل يوسف صامداً صمود الجبال، قال الله تعالى {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 30، 33].
وإنها لأسوة باقية على الدهر، لكل شاب ينشد العفاف، وقد ألمت به المغريات وأحاطت به الفتن، فجرد لها من صبره ما تتحطم عليه الشهوات، ولم يتكل على نفسه بل لجأ إلى الله.
ومن تكن العلياء همة نفسه فكل الذي يلقاه فيها محبب
ألا وإن سر الأخلاق الفاضلة ومنبعها الذي لا ينضب هو كتاب الله عز وجل، ذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فما أحرانا بالإقبال عليه، وأخذ الأخلاق والفضائل منه، والتخلق بأخلاقه، فإنه سبيل النجاة في دنيا الفتن الحالكة.(10/8)
وإن بلادنا لتعطي أهمية كبرى لكتاب الله تعالى تترجمها مسابقة أمير البلاد -حفظه الله - في القرآن الكريم ، التي تقام كل سنة في عموم البلاد، كما تترجمها جهود الأمانة العامة للأوقاف، وجهود دور القرآن الكريم، ومراكز التحفيظ، وللخيرين من أبناء هذا البلد جهدهم المشكور في ذلك إن شاء الله، فما علينا إلا استغلال هذا الجو بتوجيه أبنائنا لكتاب الله تعالى وتشجيعهم على حفظه، فإن ذلك أعظم ما يمكن أن نقدمه لأبنائنا.
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، اللهم ارزقنا الاستقامة على منهج النبي -صلى الله عليه وسلم - من غير إفراط ولا تفريط، اللهم اجعلنا ممن يُمَسِّكون بالكتاب ويقيمون الصلاة واجعلنا من المصلحين، اللهم انصر دينك، وأعز جندك، وخذ بنواصي البشرية إلى الهداية والتوفيق، اللهم تقبل شهداءنا الأبرار، واحفظ اللهم سمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين.
وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(10/9)
اطبع هذه الصحفة
نعمة الأمن في الأوطان
إن نعم الله سبحانه وتعالى علينا نعم كثيرة وفيرة ونحن عاجزون عن إحصائها ولو أنفقنا في ذلك العمر كله، قال تعالى {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم : 34) فكل لحظة تمر، وكل نفس يجري ينعم الله علينا فيه أنواعاً من النعم تفوق كل التقديرات لو أردنا قياسها بالمعيار المادي، وإن من أعظم هذه النعم بعد نعمة الإيمان بالله سبحانه وتعالى وتوحيده، نعمة الأمن في الأوطان والطمأنينة في الأهل والديار، ذلك الأمن الذي بدونه تفقد الحياة كل معنى جميل وكل طعم رائق، وتصبح قطعة من الجحيم الذي لا يطاق، لا يعرف المرء حين يصبح فيها هل يمسي؟ أو حين يمسي هل يصبح؟ فلا هو يأمن على مال، ولا أهل ولا عرض، تراه معذب القلب مشتت البال لا يقر له قرار ولا يهنأ له عيش كما وصف الله تعالى حال المسلمين في مكة {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال : 26).
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 14 جمادى الآخر الموافق 30 / 7 / 2004م
نعمة الأمن في الأوطان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران 102)(11/1)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء : 1).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (الأحزاب : 70-71).
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثه بدعة ، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون:(11/2)
إن نعم الله سبحانه وتعالى علينا نعم كثيرة وفيرة ونحن عاجزون عن إحصائها ولو أنفقنا في ذلك العمر كله، قال تعالى {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم : 34) فكل لحظة تمر، وكل نفس يجري ينعم الله علينا فيه أنواعاً من النعم تفوق كل التقديرات لو أردنا قياسها بالمعيار المادي، وإن من أعظم هذه النعم بعد نعمة الإيمان بالله سبحانه وتعالى وتوحيده، نعمة الأمن في الأوطان والطمأنينة في الأهل والديار، ذلك الأمن الذي بدونه تفقد الحياة كل معنى جميل وكل طعم رائق، وتصبح قطعة من الجحيم الذي لا يطاق، لا يعرف المرء حين يصبح فيها هل يمسي؟ أو حين يمسي هل يصبح؟ فلا هو يأمن على مال، ولا أهل ولا عرض، تراه معذب القلب مشتت البال لا يقر له قرار ولا يهنأ له عيش كما وصف الله تعالى حال المسلمين في مكة {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال : 26).
عباد الله:
وإنها لنعمة عظيمة ومنة جليلة قد امتن الله علينا بها، إذ أزاح عنا الخوف ونجانا من المكاره وأمننا في ديارنا وكبت أعداءنا ، وذلك ما قد امتن به الله سبحانه وتعالى على قريش في قوله جل من قائل{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} (قريش : 1-4).(11/3)
يقول المفسرون: كان أهل مكة تجاراً يسافرون في تجارتهم صيفاً وشتاءً آمنين في العرب لا يتعرض لهم أحد، وكانت العرب يغير بعضها على بعض، فلا يقدرون على ما تقدر عليه قريش من التنقل في التجارة والضرب في الأرض لخوف بعضهم من بعض حتى إن كان الرجل منهم ليصاب في حي من أحياء العرب وإذا قيل حرمي (نسبة إلى الحرم) خُلِّي عنه تعظيماً لمكة وتجنباً لإيذاء أهلها، وذلك من الأمن الذي امتن الله به على أهل الحرم. وهكذا لفت الله سبحانه وتعالى أنظار قريش إلى عظم هذه النعمة المستوجبة للشكر وأمرهم أن يعبدوه شكراً لها واعترافاً بها.
إخوة الإيمان:
هنالك نعمة أخرى عظيمة وكثيراً ما صاحبت نعمة الأمن في امتنان القرآن، هذه النعمة هي ما يعرف اليوم بالأمن الغذائي أو الأمن الاقتصادي الذي هو من أعظم مقومات حياة الإنسان وبقائه، ولذلك فقد اقترنت المنة به مع المنة بالمؤامنة من الخوف، بل جاء هو الأول في السياق أحياناً { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} (قريش :3-4).
ومثل ذلك قول الله تعالى {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (القصص :57).
وذلك ما يذكرنا بالحكمة العظيمة من دعاء أبينا إبراهيم عليه السلام لمكة حين أراد إعمارها وتوطينها {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} (البقرة :26).(11/4)
فإنه دعى لها بدعوتين دعوة الأمن، ودعوة الرزق، وهاتان أساس الحياة، وبهما يحصل الأمن النفسي والراحة القلبية، إذا انضافا إلى التوحيد والإيمان بالله قال أهل العلم: على قدر الإيمان تتحقق الهداية والأمن، قال الله تعالى {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 82)، وحين يتحقق للإنسان ذلك الأمن فإنه قد حاز أهم ما في الحياة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده معه قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) (أخرجه الترمذي وغيره بإسناد حسن).
أيها الإخوة المؤمنون:
إن علينا اليوم ونحن نعيش في بحبوحة الأمن ورغد العيش أن نعود بأذهاننا قليلاً إلى الوراء لنتذكر بعض أيام الله التي مرت على هذا المجتمع بما فيها من خوف وفزع وفقد للأموال والأرواح لندرك مدى ما أنعم الله به علينا من رفع لتلك الغمة وتفريج لتلك الكروب التي هي من سنة الله في الابتلاء {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة : 155)، إن تذكرنا لتلك الأحداث أدعى للاعتبار وأجلب لشكر الله سبحانه وتعالى على نعمة الأمن والاطمئنان قال الله سبحانه {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7).
عباد الله:
إن أهم سؤال ينبغي أن يطرح في هذا السياق هو كيف نشكر نعمة الأمن؟ ولقد نص العلماء على أن شكر نعم الله سبحانه وتعالى إنما يكون بصرفها فيما يرضي الله.(11/5)
فما أجدرنا أن نجعل من أمن وطننا مناسبة شكر دائمة لله عز وجل، وذلك بالتوجه إلى مرضاته والابتعاد عن كل ما يغضبه سبحانه ، فنتوجه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فنربي عليهما الأجيال، ونوجه إليهما العامة والخاصة ونسوس بهما مختلف جوانب الحياة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الواحد القهار، الكريم الغفار، مكور الليل على النهار، الواحد الباقي على تبدل الأحوال، وتعاقب الأعصار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالق الكون ومدبر الأقدار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير من حمد الله وبالغ في الاستغفار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته واقتفى أثره إلى يوم الدين..
أما بعد:
عباد الله:
فأوصيكم بتقوى الله وطاعته، وأحذركم من معصيته ومخالفته، قال تعالى {وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً} (النساء:131).
إخوة الإسلام:
إذا أردنا أن نقف على مثال رائع لشكر الله على نعمه التي من أعظمها: نعمة الأمن فإن علينا أن نشخص أبصارنا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين عاشوا معه تلك الأوضاع الصعبة أوضاع التعذيب والأذى الشديد ثم تبدلت الحال بعدما أعز الله الإسلام ومكن لأهله في الأرض.(11/6)
من أولئك الأصحاب الكرام خباب بن الأرت وشأنه معروف فيما جرى له من أذى واضطهاد في مكة بعدما أسلم، لدرجة أنه جاء يوماً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة (يقول):قد لقينا من المشركين شدة فقلت يا رسول الله ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال لقد كان مَن قَبْلكم ليُمَشَّط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه. (أخرجه البخاري)، ولقد شاهد خباب بأم عينه وعاش ما وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمن والاطمئنان، يقول أهل السير (واغتنى خباب في الشطر الأخير من حياته بعد فقر، وملك ما لم يحلم به من الذهب والفضة، غير أنه تصرف في ماله تصرفا لا يخطر ببال أحد فقد وضع دراهمه ودنانيره في موضع من بيته يعرفه ذوو الحاجات من الفقراء والمساكين ولم يشدد عليه رباطاً، ولم يحكم عليه قفلا فكانوا يأتون داره ويأخذون منه ما يشاؤون دون سؤال أو استئذان ، ومع ذلك فقد كان يخشى أن يحاسب على ذلك المال وأن يعذب.
إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها فما تدرى السكون متى يكون
وإن درت نياقك فاحتلبها فما تدرى الفصيل لمن يكون
اللهم تب علينا إنك أنت التواب الرحيم واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدينا وأن نعمل صالحاً ترضاه .
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وفرج كروبنا وكروب المسلمين، اللهم واجعل بلادنا آمنة مطمئنة وسائر بلاد المسلمين، واحفظ اللهم سمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين.
---(11/7)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(11/8)
اطبع هذه الصحفة
في استقبال شهر رمضان المبارك
هذا شهر شعبان قد قوض للرحيل خيامه، وآذن بالفراق بعد الإقامة، وجاءت بشائر الهناء تهنئ الأمة بقدوم شهر رمضان، وتبشرهم بنيل الكرامة, وطالع السعد في أفق الهناء لنا ظهر، ولم يبق سوى أيام قليلة على حلول شهر رمضان المبارك.
سيهل عليكم هلال الشهر العظيم الأكبر, وسيهل عليكم موسم من مواسم الخيرات، يتجلى فيه ربكم بالرحمات والبركات، فتشهدون فيه بالخير والفضل من الله العلي المنان؛ إذ ستطوى صفحات شعبان، وتفتح لكم صفحات رمضان، وتغلق فيه أبواب النيران، وتفتح فيه أبواب الجنان، ويقال فيه : يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر،
فقد أتاكم شهر رمضان، شهر بركة وإحسان، ينزل الله فيه الرحمة، ويعمكم فيه بالفضل والنعمة، ينظر الله إلى تنافسكم في طاعته ويباهي بكم صنوف ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً, ألا فاستعدوا لصوم هذا الشهر ولا تحرموا أنفسكم من رحمات الله فيه؛ فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله، وابتعد عن رضوان الله, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 24 شعبان 1425هـ الموافق8 / 10 / 2004م
في استقبال شهر رمضان المبارك
الحمد لله الذي جعل شهر رمضان موسماً للطاعات، وأفاض على الصائمين نعيم الرضوان والنفحات، وأشهد أن لا إله إلا الله شرع الصوم صحةً للأبدان والأرواح، وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله هيأ لأمته طريق الهدى والفلاح، اللهم صل وسلم على سيدنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:(12/1)
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله تعالى وطاعته، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون}َ [البقرة/183, 184].
أيها الإخوة المؤمنون:
هذا شهر شعبان قد قوض للرحيل خيامه، وآذن بالفراق بعد الإقامة، وجاءت بشائر الهناء تهنئ الأمة بقدوم شهر رمضان، وتبشرهم بنيل الكرامة, وطالع السعد في أفق الهناء لنا ظهر، ولم يبق سوى أيام قليلة على حلول شهر رمضان المبارك.
سيهل عليكم هلال الشهر العظيم الأكبر, وسيهل عليكم موسم من مواسم الخيرات، يتجلى فيه ربكم بالرحمات والبركات، فتشهدون فيه بالخير والفضل من الله العلي المنان؛ إذ ستطوى صفحات شعبان، وتفتح لكم صفحات رمضان، وتغلق فيه أبواب النيران، وتفتح فيه أبواب الجنان، ويقال فيه : يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر،
فقد أتاكم شهر رمضان، شهر بركة وإحسان، ينزل الله فيه الرحمة، ويعمكم فيه بالفضل والنعمة، ينظر الله إلى تنافسكم في طاعته ويباهي بكم صنوف ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً, ألا فاستعدوا لصوم هذا الشهر ولا تحرموا أنفسكم من رحمات الله فيه؛ فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله، وابتعد عن رضوان الله, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المؤمنون:(12/2)
إن شهراً هذا بعض فضائله لحقيق بالإجلال والتعظيم, وجدير بالترحيب والتكريم، فمرحباً بك يا شهر رمضان, مرحبا بك شهر الطاعة والغفران، مرحبا بك شهر النور والبرهان، مرحبا بك شهر الهداية والفرقان، مرحبا بك شهر الإسلام والقرآن, مرحبا بك موسم العبادة والسعادة وأيام التوبة والإنابة.
لك أيها الشهر في قلوب المؤمنين أسمى مقام، وأعلى مكان، كيف لا وقد أكرمك الله وفضلك على الأشهر كلها، وفرض على المؤمنين صيام أيامك وضاعف في إجلالك وإكرامك ونزل فيك كتابه المبين {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة 185).
وقد جعلك الله حجة على الناس، فمن رعاك رعاه الله، ومن ضيعك ضيعه الله، وجعلك شهراً دوريًّا تأتي في الصيف والشتاء، وفي فصول السنة الأخرى وإذا ما جئت في الحر، كنت شهر محنة واختبار ليميز الله بك الخبيث من الطيب، ويفرق بين الصادقين وغير الصادقين، وبين المؤمنين والمنافقين، {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت 1, 3) وإذا ما جئت في البرد كنت غنيمة باردة للمؤمنين.(12/3)
أيها الشهر المبارك: إن أيامك معدودات, وإنها تمر مرّ السحاب, فالسعيد السعيد من وقى نفسه وصانها من عبودية الشهوات، فصام نهارك وقام ليلك, فجئت له يوم القيامة شاهداً عدلا عند ربك فأكرمه الله بشهادتك ونعمه وجعله في عليين، والشقي الشقي من أضاعك وأضاع نفسه بالسقوط في أودية الشهوات المظلمة، فأفطر في نهارك وأساء في ليلك، فجئت عليه شاهداً عدلاً عند ربك، فأذله الله وأشقاه وجعله من الخاسرين.
أيها الشهر المكرم:
إن ربك العظيم قد خصك بمميزات ظاهرة وباطنة، فجعلك غرة شهور السنة، وفضل أيامك على أيام العام كله, وإن فيك ليلةً هي خير من ألف شهر {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}ِ (القدر4, 5).
فيك أيها الشهر الجليل تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وتصفد وتقيد مردة الشياطين بالسلاسل والأغلال.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين)) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
والصائم المحتسب فيك لا يرد الله دعوته، ففي الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم )) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
وفيك أيها الشهر الكريم تزكّى الأجساد من أدرانها، وتطهر الأنفس من شهواتها فلكل شيء زكاة كما ورد في الحديث، وزكاة الجسد الصوم، والصوم نصف الصبر، والصبر ثوابه الجنة، والصوم جنة ووقاية من عذاب الله.(12/4)
هكذا يجزي الله فيك العاملين أيها الشهر المبارك، فأنت أيها الشهر موسم التقوى، وعيد المؤمنين, وفيك تشترى الجنان, فمرحباً بك وبقدومك الميمون. فعظموا عباد الله شهركم؛ فإنه شهر عظيم, وقوا أنفسكم عذاب الجحيم، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله سيد المرسلين، وإمام المتقين، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله:
اتقوا الله تعالى وأطيعوه .
أيها الإخوة المسلمون إن لشهر رمضان فضائل لا تحصى, وكرامات لا تستقصى فهي منحة إلهية كبرى، وفرصة حقيقية عظمى لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكورا.
عباد الله: لقد كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم يجتهدون في عبادة ربهم اجتهاداً عظيماً, ليس في رمضان فحسب وإنما طوال الشهور والأيام، يجتهدون في قراءة القرآن، وفي قيام الليل، وفي الصدقة وفي الذكر والاستغفار، وفي الصيام والطاعة وكل ما يقرب الله تعالى، فهم رهبان بالليل فرسان بالنهار يقول الله عز وجل في كتابه الكريم(12/5)
في وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 29 ).
فعلينا معاشر المسلمين، أن نقتدي بأولئك السلف الأخيار, والأصحاب الأطهار في الاجتهاد في الطاعة والعبادة، والتقرب إلى الله تعالى ولو في هذا الشهر الكريم على أقل الأحوال، الذي تتهيأ فيه الأجواء لذلك، فضلا من الله تعالى ونعمةً، والله واسع عليم.
فأجيبوا داعي الله إن كنتم مؤمنين، وادخلوا دار الصوم راشدين، واحرصوا على شعائر الدين, واحذروا أن تكونوا متهاونين, من الذين فسدت قلوبهم، وضلت عقولهم، وساءت تربيتهم, فيفطرون في رمضان، ويعرضون عن ربهم الديان، ويهدمون من الإسلام الأركان فيحلهم الله دار البوار، جهنم يصلونها وبئس القرار .
وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه عموما بقوله تعالى – ولم يزل قائلاً عليماً-: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56).(12/6)
فأكثروا من الصلاة والسلام عليه تكونوا من الفائزين، اللهم صل وسلِّم عليه، وارض عن الأربعة الخلفاء، وبقية العشرة الكرام، وأزواج نبيك المصطفى، وعن عمي حبيبك وسبطيه ذوي الإخلاص والصفا، وعن الأنصار والمهاجرين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، واجعلنا معهم بمنّك، وكرمك يا أكرم الأكرمين.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(12/7)
اطبع هذه الصحفة
رمضان شهر القرآن
قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : "أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان, فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا ثم نزل به جبريل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نجوماً في ثلاث وعشرين سنة" فذلك قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (الإسراء 106)0
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 1 رمضان الموافق 15/10/2004م
رمضان شهر القرآن
الحمد لله الذي خص شهر رمضان بالفضل والإحسان, وجعله موسماً لنيل العفو والغفران, أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان, أحمده حمد الشاكرين، وأشكره في كل حين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحكيم الخلاق, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أ فضل الخلق على الإطلاق, اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه صلاة وسلاماً دائمين إ لى يوم التلاق.
أما بعد:
فيا عباد الله:
أوصيكم بتقوى الله تعالى الذي خلقكم, واستعينوا على طاعته بما رزقكم, وتمسكوا بكتابه, واعتصموا بحبله, وأكثروا من ذكر الله فإن ذكره يعدل عتق الرقاب, وتوبوا إليه واتقوه يا أولي الألباب.
أيها المؤمنون:
اعلموا أن القرآن الكريم هو كلام الله عز وجل, المعجز المنزل على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ, المكتوب بالمصاحف, المنقول بالتواتر, المتعبد بتلاوته, تلقاه جبريل ـ عليه السلام ـ من لدن حكيم عليم, ثم نزل به على قلب خير البرية محمد ـ عليه أفضل الصلاة والتسليم ـ بلسان عربي مبين, {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 192-195)(13/1)
وقد بدأ هذا التنزيل في هذا الشهر الفضيل، يقول الله تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون}َ (البقرة: 185)
قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : "أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان, فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا ثم نزل به جبريل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نجوماً في ثلاث وعشرين سنة" فذلك قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (الإسراء 106)0
بمعنى: أنزلناه منجماً مفرقاً في ثلاث وعشرين عاماً وهي مدة الرسالة في العهدين المكي والمدني على حسب الحوادث.
ألا وإن الحكمة من ذلك, هي تثبيت قلب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليصدع بالدعوة, ويتحمل أذى قومه, ويبلغ رسالة ربه بشيراً ونذيراً, {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
(البقرة: 23). فكانوا إذا أحدثوا شيئاً أنزل الله تعالى في ذلك جواباً, أخرج البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: "إنما نزل أول مانزل منه سورة المفصل فيها ذكر الجنة والنار, حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام, ولو نزل أول شيء " لاتشربوا الخمر" لقالوا: لاندع الخمر أبداً, ولو نزل "لاتزنوا" لقالوا: لاندع الزنا أبداً ".(13/2)
ولهذا كان التدرج في تربية الأمة وفق ما يمر بها من أحداث,كما أن نزول القرآن الكريم دليل قاطع على أنه كلام الله عز وجل, ولا دخل للبشر فيه, {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} (النساء: 82).
فالقرآن من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فمن قال به صدق, ومن عمل به أجر, ومن حكم به عدل, ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.
فعليكم عباد الله بتلاوته في هذا الشهر العظيم, لما لهذا الشهر من خاصية بالقرآن على غيره من الشهور, اقتداءً بنبيكم ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ فقد كان يلقاه جبريل ـ عليه السلام ـ فيدارسه القرآن في شهر رمضان, وقد أخرج الترمذي ـرحمه الله ـ عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: قال رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة, والحسنة بعشر أمثالها, لا أقول
[الم] حرف, ولكن ألف حرف, ولام حرف, وميم حرف" وكان السلف الصالح ـ رحمهم الله ـ يكثرون من تلاوة القرآن في هذا الشهرالفضيل, ويحفظونه ويتعلمون منه الفهم والعلم والعمل ولم يكونوا يفرقون بين ذلك, وأخبارهم في ذلك مشهورة, قال الزهري ـ رحمه الله ـ: "إذا دخل رمضان إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام".(13/3)
ولقد أخبر سبحانه وتعالى عن فضل وأجر عباده المؤمنين, الذين يتلون كتابه, ويؤمنون به,ويعملون بما فيه, {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر: 29-30)، أي ليوفيهم ثواب ما فعلوه,غفور لذنوبهم, شكور للقليل من أعمالهم وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب, ومثل المؤمن الذي لايقرأ القرآن كمثل التمرة لاريح لها وطعمها حلو, ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة, ريحها طيب وطعمها مر, ومثل المنافق الذي لايقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر" فهذه الأحاديث ومثلها كثير تدل على فضل قراءة القرآن الكريم.
شهد الأنام بفضله حتى العدا والفضل ما شهدت به الأعداء
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من البيان, أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولكافة المسلمين, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي فضل شهر رمضان وأنزل فيه الكتاب, وخص فيه أمّة محمدـ صلى الله عليه وسلم ـ بمزيد من التكريم والثواب, أحمده سبحانه واشكره, وأتوب إليه واستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه, ومن تبعهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله في شهر الصيام والقرآن, فسارعوا إلى مغفرة من ربكم ورضوان.
عباد الله:(13/4)
إن بركة هذا القرآن العظيم تكون في تلاوته, وتدبره, وتفهمه, وتعقله, والعمل بمبادئه وأحكامه, {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (ص: 29)، وطريقة السلف في التدبر والعلم حكاها بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن" ولقد كان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ قرآناً يسير في الأرض يجسدون أخلاقه وآدابه ومبادئه قدوتهم في ذلك خلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث سئلت عائشة عن ذلك فأجابت: " كان خلقه القرآن" ر واه مسلم . قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: " والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى أن أحدهم ليقول قرأت القرآن كله ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل".(13/5)
فاغتنموا عباد الله شهركم, وتعرضوا لنفحات دهركم, وأكثروا من قراءة القرآن, ولتكن تلاوتكم له بتدبر واعتبار, وحضور قلب وسكينة ووقار, فإن القرآن حبل الله المتين ودينه القويم,فاعملوا بمحكماته, وآمنوا بمتشابهاته, واعتبروا بأمثاله, وقفوا عند حلاله وحرامه, ورتلوه ترتيلا,واجعلوا لبيوتكم حظاً من قراءته بكرة وأصيلا, وحسنوا أصواتكم بالتلفظ به ما استطعتم, ألزموا أولادكم بتلاوته ومعرفة معانيه, ولا تتركوهم يضيعون الأوقات في اللعب, فإنهم يشبون على ما عودتموهم, لأنه يأتي شفيعاً لأصحابه يوم القيامة, ولأن أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصبحت بهذا القرآن العظيم شاهدة وقائدة ورائدة, وهي سيدة الأمم في ذلك طالما رفعت لواءه وعملت به, ودافعت عنه واحتكمت إليه, وعملت بأوامره, واجتنبت نواهيه, والقرآن هوجماع العلم والإيمان, {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى: 52) فيا أيها المسلم يا من منّ الله عليك بحفظ كتابه العظيم, أشكره على هذه النعمة العظيمة, وداوم على تلاوته وتعاهده لاسيما في هذا الشهر المبارك, تلذذ بألفاظه وتفكر في معانيه, فما أحلى كلام الله عز وجل وأجمله وأطيبه.
رزقنا الله وإياكم حلاوة مناجاته, وجعل قرة أعيننا في تلاوة آياته,وسلك بنا سبيل أهل السعادة والتقى, وأعاذنا من موجبات الخذلان والشقا,اللهم اجعل صومنا مقبولا, وثواب أعمالنا موفورا, وسعينا مشكورا, اللهم تقبل شهداءانا الأبرار، واغفر لنا ولوالدينا ولمن نصحنا وعلمّنا ولجميع المسلمين يا عزيز يا غفار, واحفظ سمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
---(13/6)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(13/7)
اطبع هذه الصحفة
شهر الغنيمة
هذا هو شهر رمضان المبارك. شهر تضاعف فيه الحسنات،وتمحى السيئات، لفيض رحمات الله على عباده،وتعرضهم لنفحاته وبركاته، والتي جاءت في الحديث النبوي الشريف الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين". رواه البخاري ومسلم، وفي رواية له: "ونادى مناد يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة" (رواه الترمذي وابن ماجة وابن خزيميه).
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ8 من رمضان الموافق 22/10/2004م0
شهر الغنيمة
إن الحمد لله أحمده سبحانه وأستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المؤمنين المتقين، وسعت رحمته كل شيء، بيده الخلق والأمر وهو على كل شيء قدير0 وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله، بعثه الله رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ،صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وسار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد :(14/1)
فيا أيها المؤمنون الصائمون، الراكعون الساجدون،أوصيكم بتقوى الله عز وجل فإنها خير زاد ليوم المعاد، وهنيئاً لكم بهذا الشهر الكريم المبارك الذي سعدت باستقباله القلوب، واطمأنت به النفوس، وانشرحت له الصدور، وسمت فيه الأرواح0 وكيف لا وهو شهر الخيرات والبركات، شهر الرحمات والنفحات، شهر تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، شهر الصيام والقيام، شهر نزول القرآن حياة القلوب، وشفاء الصدور وقرة العيون، ونور الأسماع والأبصار، يقول عز من قائل:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون}َ (البقرة 185)
ويقول سبحانه: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً} (الإسراء 082)
وتلك هي الغنيمة الكبرى التي يحصل عليها المؤمن في هذا الشهر الكريم فيكثر من ترتيل آياته، ويتدبر عبره وعظاته، ويجتهد في العبادة والطاعة، مستجيباً لأوامر الله ومجتنباً لنواهيه، يقول سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (ص 29)
أيها المؤمنون الصائمون:(14/2)
هذا هو شهر رمضان المبارك0 شهر تضاعف فيه الحسنات،وتمحى السيئات، لفيض رحمات الله على عباده،وتعرضهم لنفحاته وبركاته، والتي جاءت في الحديث النبوي الشريف الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين". رواه البخاري ومسلم، وفي رواية له: "ونادى مناد يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة" (رواه الترمذي وابن ماجة وابن خزيميه).
فسارعوا معشر الصائمين القائمين إلى نيل الغنائم في هذا الشهر الفضيل.
سارعوا إلى فعل الخيرات وعمل الصالحات،واغتنموا أيامه ولياليه فاجعلوها لله طاعة، ذكراً واستغفاراً، وتوبةً وإنابةً، وسخاءً وبراً، وجودا وكرماً، وعفواً ومرحمة، استبقوا الخيرات واستبشروا بما أعده الله لعباده المتقين المحسنين في قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 132, 134).
معشر المؤمنين الصائمين:(14/3)
هذا هو شهر الفوز والفلاح، والتقى والنجاح، غنائمه كثيرة وعطاياه جليلة، فأقبلوا فيه على طاعة الله والتقرب إليه، فمن تقرب إلى الله فيه بخصلة من الخير ضوعفت له الحسنات، وهو شهر الصبر، والصبر نصف الإيمان، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه أجر المؤمن، من فطر فيه صائماً كان مغفرة ً لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء0 وهو شهر أوله رحمة،ووسطه مغفرة،وآخره عتق من النار، من خفف فيه عن خادمه ومملوكه غفر الله له، وأعتقه من النار. فاغتنموا معشر الصائمين أوقات هذا الشهر الكريم،واستكثروا فيه من أربع خصال:
خصلتين ترضون بهما ربكم،وخصلتين لا غنى لكم عنهما: فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وأن تستغفروه، وأما الخصلتان اللتان لا غنىً بكم عنهما فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار.
أيها المؤمنون الصائمون:(14/4)
إغتنموا من هذا الشهر الكريم قوة الروح، وتربية الإرادة، وعافية البدن، وشكر النعمة، وسعة الرحمة، وسيروا على هدي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح الذين أثنى الله عليهم بقوله عز من قائل: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 29) فاحرصوا – رحمكم الله – على صيام نهار رمضان وقيام ليله، لما أمركم ربكم حتى تنالوا مغفرة الله ورضوانه.
فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". ورطبوا قلوبكم وألسنتكم بذكر الله وتلاوة القرآن الكريم في شهر القرآن الكريم وتحروا ليلة القدر في العشر الأواخر منه فهي خير من ألف شهر واسألوه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.(14/5)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفّعان"(رواه أحمد والطبراني) وفي الصحيحين: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة". أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين يحب المؤمنين المتقين، ويتوب على العصاة والمذنبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين وإمام المرسلين ورحمة الله للعالمين.
أما بعد:
فأوصيكم عباد الله بتقوى الله عز وجل، فإن ثمرة الصيام التقوى وجائزة الصائم الجنة، فاحرصوا –وفقني الله وإياكم– على صيام نهار رمضان وقيام ليله وتذكروا قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل: إني صائم" رواه الحاكم0 ومما أثر عن جابر بن عبد الله قال: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار،وسكينه يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء".(14/6)
فاللهم تقبل صيامنا وقيامنا، وركوعنا وسجودنا، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور أسماعنا وأبصارنا، وجلاء همومنا وأحزاننا0 اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه،وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه،واغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات،إنك سميع قريب مجيب الدعوات. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واحفظ أمير بلادنا وولي عهده الأمين ووفقهم لما تحبه وترضاه.
عباد الله:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهىعن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.
وأقم الصلاة.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(14/7)
اطبع هذه الصحفة
فريضة الزكاة
ففي الزكاة تطهير لصاحب المال مما يتعلق به من أثر الذنوب؛ فالزكاة كفارة لها، بل في الزكاة تطهير بالغ وعظيم للإنسان في ذلك، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة: 103). ومعنى "وصل عليهم” أي ادع لهم.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 15 من رمضان الموافق 29/10/2004م
فريضة الزكاة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله عز وجل وطاعته.
أيها المسلمون:
لقد أقام الله عز وجل دين الإسلام على خمسة أعمدة هي أركان لهذا الدين القويم، وأسس لبنائه المتين، لو انهار واحد منها لسقط هذا البنيان على صاحبه.
في الصحيحين، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج".
ولما كان عامّة المسلمين يخرجون زكاة أموالهم في هذا الشهر الكريم المبارك، فإننا سنتحدث اليوم إن شاء الله عن هذه الشعيرة العظيمة من شعائر الإسلام، وهذه الميزة التي امتاز بها المسلمون عن غيرهم من سائر الأديان.
معاشر المسلمين:(15/1)
فرضت الزكاة على المسلمين في السنة الثانية من الهجرة، وقد قرن الله بينها وبين الصلاة التي هي عمود الدين في كثير من آيات الذكر الحكيم حتى وصلت إلى اثنتين وثمانين آية قرآنية كريمة،: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 43), {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج: 78)
وإنما فرض الله سبحانه وتعالى الزكاة لحكم عالية وأغراض سامية:
ففي الزكاة تطهير لصاحب المال مما يتعلق به من أثر الذنوب؛ فالزكاة كفارة لها، بل في الزكاة تطهير بالغ وعظيم للإنسان في ذلك، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة: 103). ومعنى "وصل عليهم” أي ادع لهم.
وفي الزكاة –أيضاً- تعويد الإنسان على البذل والعطاء، والكرم والسخاء، والابتعاد عن الجشع والطمع والأثرة.(15/2)
وفي الزكاة –أيضا-ً عطف المسلمين بعضهم على بعض، فالغني يشعر بحاجة الفقير، ويعينه ويساعده، فتكون نفس الغني طيبةً قوية الإيمان، وتكون نفس الفقير خالية من الغل والحسد، فيسود الحب والوئام بين الناس، وينتشر الأمن والأمان ،وينال الكل بذلك رضى الملك الديان.
ولنعلم أيها المؤمنون أن الزكاة ومثلها صدقة التطوع سبب لنماء المال وبركته، وهذه حقيقة لا مرية فيها ولاشك، فقد أفصح عنها الكتاب العزيز، وأكدتها السنة المطهرة، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(إبراهيم: 7) {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ: 39) وقال صلى الله عليه وسلم "ما نقّصت صدقةٌ من مال ..." الحديث أخرجه مسلم في صحيحه.
معاشر المسلمين:
ألا فليحذر امرؤ من التهاون في أداء حق الفقراء من الزكاة، فإنها ركن من أركان الإسلام، وقد جاء الوعد الشديد في حق من ترك إخراجها، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 34, 35).(15/3)
وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع، له زبيبتان (وهما الزَّبدتان اللتان في شدقيه) يطوَّقه يوم القيامة، ثم يأخذ بِلهزمِتيه – يعني شدقيه – ثم يقول: أنا مالُك أنا كنزك، ثم تلا (أي رسول الله صلى الله عليه وسلم) BHDG *9'DI: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (آل عمران: 180).
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي فرض الزكاة على الأغنياء وجعلها ركناً من أركان الإسلام، وأشهد أن لا إله الله ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله وسيد الأنام، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه البررة الكرام.
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله حق تقاته، واعملوا بطاعته ورضاه.
أيها المسلمون:
اعلموا – رحمكم الله وإياي – أن الزكاة إنما تجب في خمسة أصناف من الأموال، وهي: الأثمان، والمواشي, والزروع والثمار، وعروض التجارة.
فأمّا الأثمان: فهي الذهب والفضة وكل نقد يتعامل به. ولا تجب الزكاة فيها حتى تبلغ نصاباً ويحول عليها الحول، أي عام هجري كامل، والنصاب: هو المقدار الذي لا تجب الزكاة فيما كان دونه. ونصاب الذهب يقدر في زمننا بالجرامات: بخمسة وثمانين جراماً من الذهب الخالص، على المشهور من أقوال العلماء المعاصرين، وفيه ربع العشر.
ونصاب الفضة بالجرامات يقدر بخمسمائة وخمسة وتسعين جراماً، وفيه ربع العشر كذلك.
فما عادل قيمة نصاب الذهب والفضة من الأوراق النقدية، أخرجت عنه الزكاة.(15/4)
وأما المواشي فلا تجب الزكاة إلا في ثلاثة أجناس منها فقط، وهي الإبل والبقر والغنم، وذلك بشرط النصاب والحول، وأن تكون سائمة، أي ترعى في الكلأ المباح في الصحراء كل الحول أو أكثره، وهذا عند جمهور العلماء خلافاً للإمام مالك رحمه الله.
ونصاب الإبل خمس، وفيها شاة، و يرجع فيما بعد ذلك إلى كتب الفقه حيث التفصيل، ونصاب البقر ثلاثون وفيها تبيع وهو ابن سنة ودخل في الثانية، وفي أربعين مسنة (وهي التي لها سنتان ودخلت في الثالثة)، وهكذا أبداً في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة.
ونصاب الغنم أربعون، وفيها شاة (جذعة ضأن أو ثنية معز)، وفي مائة وإحدى وعشرين: شاتان، وفي مائتان وواحدة: ثلاث شياه، وفي أربعمائة أربع شياه، ثم في كل مائة شاة، ففي خمسمائة: خمس شياه وهكذا.
وأمّا الزروع والثمار ففيها تفصيل للعلماء فيما يجب فيه الزكاة من أجناسها، وقد اتفقوا على وجوبها في الحنطة والشعير من الزروع، والتمر والزبيب من الثمار.
وأما عروض التجارة، فتقوم عند آخر الحول بما اشتريت به، فإن بلغت قيمته نصاباً زكّاه بأن يخرج منه ربع العشر.
أيها المسلمون:
وتصرف الزكاة في الأصناف الثمانية التي نص الله تعالى عليها في كتابه الكريم حيث قال سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 60).
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.
اللهم احفظ إمامنا وولي عهده بحفظك، وارعهما برعايتك، ووفقهما لما تحب وترضى، واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً،سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
---(15/5)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(15/6)
اطبع هذه الصحفة
العشر الأواخر
إن كان في النفوس زاجر، وإن كان في القلوب واعظ، فقد بقيت من أيامه بقية، بقية وأي بقية إنها العشرة الأخيرة ، بقية كان يحتفي بها نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم أيما احتفاء فإذا دخلت العشر شمّ.ر وجد وشد المئزر وهجر فراشه وأيقظ أهله، يطرق الباب على فاطمة وعليّ رضي الله عنهما قائلاً: "ألا تقومان فتصليان" أخرجه البخاري ومسلم. يطرق الباب وهو يتلو قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه: 132) ويتجه إلى حجرات نسائه آمراًً: "أيقظوا صواحب الحجر فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة" أخرجه البخاري.
"ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقى من رمضان عشرة أيام لا يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه" ؟.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 22 من رمضان الموافق5/11/2004م
العشر الأواخر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فتقوى الله أكرم ما أسررتم، وأجمل ما أظهرتم، وأفضل ما ادخرتم، أعاننا الله على لزومها، وأوجب لنا ثوابها.(16/1)
أيها المسلمون، هذه أيام شهركم تتقلص ولياليه الشريفة تنقضي وهي شاهدة بما عملتم وحافظة لما أودعتم، هي لأعمالكم خزائن محصنة، ومستودعات محفوظة تدعون بها يوم القيامة {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} (آل عمران: 30) ينادي ربكم : (( ياعبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)).
هذا هو شهركم وهذه هي نهاياته، كم من مستقبل له لم يستكمله.. وكم من مؤمل بعود إليه لم يدركه.. هلا تأملتم الأجل ومسيره، وهلا تبينتم خداع الأمل وغروره.
أيها الإخوة:
إن كان في النفوس زاجر، وإن كان في القلوب واعظ، فقد بقيت من أيامه بقية، بقية وأي بقية إنها العشرة الأخيرة ، بقية كان يحتفي بها نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم أيما احتفاء فإذا دخلت العشر شمّ.ر وجد وشد المئزر وهجر فراشه وأيقظ أهله، يطرق الباب على فاطمة وعليّ رضي الله عنهما قائلاً: "ألا تقومان فتصليان" أخرجه البخاري ومسلم. يطرق الباب وهو يتلو قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه: 132) ويتجه إلى حجرات نسائه آمراًً: "أيقظوا صواحب الحجر فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة" أخرجه البخاري.
"ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقى من رمضان عشرة أيام لا يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه" ؟.
أيها المسلمون:
اعرفوا شرف زمانكم، واقدروا أفضل أوقاتكم، وقدموا لأنفسكم، لا تضيعوا فرصة في غير قربة.(16/2)
إحسان الظن ليس بالتمني، ولكن بحسن العمل، والرجاء في رحمة الله مع العصيان ضرب من الحمق والخذلان، والخوف ليس بالبكاء ومسح الدموع فحسب ولكن الخوف خوف القلوب بمراقبة علام الغيوب.
أيها الأحبة قدموا لأنفسكم وجدوا وتضرعوا. تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: يا رسول الله: أرأيت إن علمت ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال قولي: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" أخرجه الترمذي.
نعم أيها الأخوة: الدعاء الدعاء. عجوا في عشركم هذه بالدعاء. فقد قال ربكم عز شأنه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة: 186). أتعلمون من هم هؤلاء العباد؟ الخلائق كلهم عباد الله، ولكن هؤلاء عباد مخصوصون إنهم عباد الدعاء، عباد الإجابة، إنهم السائلون المتضرعون سائلون مع عظم رجاء، ومتضرعون في رغبة وإلحاح: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة 186).
إن للدعاء – أيها الأخوة – شأناً عجيباً في حسن العاقبة، وصلاح الحال والمآل والتوفيق في الأعمال والبركة في الأرزاق.
أرأيتم هذا الموفق الذي أدرك حظه من الدعاء ونال نصيبه من التضرع والالتجاء يلجأ إلى الله في كل حالاته، ويفزع إليه في جميع حاجاته، يدعو ويدعى له، نال حظه من الدعاء بنفسه وبغيره، والداه الشغوفان، وأبناؤه البررة
والناس من حوله كلهم يحيطونه بدعواتهم، أحبه مولاه فوضع له القبول، فحسن منه الخلق وزان منه العمل، فامتدت له الأيدي، وارتفعت له الألسن تدعو له وتحوطه، ملحوظ من الله بالعناية والتسديد، وبإصلاح الشأن مع التوفيق.(16/3)
أين هذا من محروم مخذول لم يذق حلاوة المناجاة يستنكف عن عبادة ربه، ويستكبر عن دعاء مولاه محروم سد على نفسه باب الرحمة، واكتسى بحجب الغفلة.
أيها الإخوة، إن نزع حلاوة المناجاة من القلب أشد ألوان العقوبات والحرمان. ألم يستعذ النبي صلى الله عليه وسلم من قلب لا يخشع وعين لا تدمع ودعاء لا يسمع؟!!.
إن أهل الدعاء الموفقين حين يعُجّون إلى ربهم بالدعاء، يعلمون أن جميع الأبواب قد توصد في وجوههم إلا باباً واحدًا هو باب السماء. باب مفتوح لايغلق أبداً فتحه من لا يرد داعيا ولا يخيب راجيا. فهو غياث المستغيثين وناصر المستنصرين ، ومجيب الداعين.
أيها المجتهدون، تجتمع في هذه الأيام أوقات فاضلة وأحوال شريفة. العشر الأخيرة، جوف الليل من رمضان، والأسحار من رمضان، دبر الأذان والمكتوبات، أحوال السجود، وتلاوة القرآن، مجامع المسلمين في مجالس الخير والذكر، كلها تجتمع في أيامكم هذه. فأين المتنافسون؟!!.
ألظوا بالدعاء- رحمكم الله- سلوا ولا تعجزوا ولا تستبطئوا الإجابة. فيعقوب عليه السلام فقد ولده الأول ،ثم الثاني في مدد متطاولة، ما زاده ذلك بربه إلا تعلقا: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (يوسف: 83) ونبي الله زكريا عليه السلام؛ كبر سنه واشتعل بالشيب رأسه، ولم يزل عظيم الرجاء في ربه حتى قال محققاً: كما {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} (مريم: 4) لا تستبطئ الإحابة – ياعبد الله- فربك يحب تضرعك، ويحب صبرك، ويحب رضاك بأقداره، رضا بلا قنوط يبتليك بالتأخير لتدفع وسواس الشيطان، وتصرف هاجس النفس الأمارة بالسوء، وقد قال نبيك محمد صلى الله عليه وسلم: "ويستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يستجب لي" أخرجه البخاري ومسلم.(16/4)
أيها الإخوة:
ويجمل الدعاء وتتوافر أسباب الخير ويعظم الرجاء حين يقترن بالاعتكاف، فقد اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأيام حتى توفاه الله.
عجيب هذا الاعتكاف في أسراره ودروسه!!!.
المعتكف ذكر الله أنيسه والقرآن جليسه، والصلاة راحته، ومناجاة الحبيب متعته، والدعاء والتضرع لذته.
إذ أوى الناس إلى بيوتهم وأهليهم ورجعوا إلى أموالهم وأولادهم لازم هذا المعتكف بيت ربه وحبس من أجله نفسه، ويقف عند أعتابه يرجو رحمته ويخشى عذابه، لايطلق لسانه في لغو ولا يفتح عينه لفحش ولا تتنصت أذنه لبذاء. سلم من الغيبة والنميمة جانب التنابز بالألقاب، والقدح في الأعراض، استغنى عن الناس وانقطع عن الأطماع علم واستيقن أن رضا الناس غاية لا تدرك.
في دروس الاعتكاف انصرف المتعبد إلى التفكير في زاد الرحيل وأسباب السلامة، السلامة من فضول الكلام، و فضول النظر، وفضول المخالطة.
في مدرسة الاعتكاف يتبين للعابد أن الوقت أغلى من الذهب فلا يبذله في غير حق، لا يشتري به ما ليس يحمد، يحفظه عن مجامع سيئة، بضاعتها أقوال لا خير في سماعها ويتباعد به عن لقاء وجوه لا يسر لقاؤها.
أيها المسلمون، أوقاتكم فاضلة تشغل بالدعاء والاعتكاف وتستغل فيها فرص الخير وإن من أعظم ما يرجى فيها ويتحرى ليلة القدر: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}(القدر: 2) من قامها إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه.
ليلة خير من ألف شهر أخفي تعيينها اختبارا وابتلاء ليتبين العاملون وينكشف المقصرون، فمن حرص على شيء جد في طلبه وهان عليه ما يلقى من عظيم تعبه.
إنها ليلة تجري فيها أقلام القضاء بإسعاد السعداء وإشقاء الأشقياء {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) ولا يهلك عند الله إلا هالك.(16/5)
فاتقوا الله رحمكم الله واعملوا وجدوا وأبشروا وأملوا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (القدر: 1-5).
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفورالرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظم شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره عم امتنانه وجزل إحسانه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها الناس: أوصيكم بتقوى الله عز وجل فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل 128).
أيها المسلمون أيامكم هذه أعظم الأيام فضلاً وأكثرها أجراً، يصفو فيها لذيذ المناجاة، وتسكب فيها العبرات، كم لله فيها من عتيق من النار!! وكم فيها من منقطع قد وصلته توبته؟؟.(16/6)
المغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حرم رحمة الله، والمأسوف عليه من فاتته فرص الشهر، وفرط في فضل العشر، وخاب رجاؤه في ليلة القدر، مغبون من لم يرفع يديه بدعوة، ولم تذرف عينه بدمعة، ولم يخشع قلبه لله لحظة. ويحه ثم ويحه أدرك الشهر ولم يحظ بمغفرة!! ولم ينل رحمة!! يا بؤسه لم تُقَل له عثرة! ساءت خليقته، وأحاطت به خطيئته، قطع شهره في البطالة وكأنه لم يبق للصلاح عنده موضع، ولا لحب الخير في قلبه منزع. طال رقاده حين قام الناس! هذا والله غاية الإفلاس والإبلاس!! عصى رب العالمين، واتبع غير سبيل المؤمنين!! أمر بالصلاة فضيعها ووجبت عليه الزكاة فانتقصها ومنعها!! دعته دواعي الخير فأعرض عنها، مسؤولياته قصر فيها، وقصر فيمن تحت يديه من بنين وبنات يفرط في مسئولياته وقد علم أن من سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه يوقظ أهله. أما هذا فقد اشتغل بالملهيات وقطع أوقاته في الجلبة في الأسواق والتعرض للفتن!!.
فاتقوا الله رحمكم الله وقوا أنفسكم وأهليكم ناراً فإن الشقي من حرم رحمة الله. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.
اللهم احفظ إمامنا وولي عهده بحفظك، وارعهما برعايتك، ووفقهما لما تحب وترضى، واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً،سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(16/7)
اطبع هذه الصحفة
أحكام وآداب العيد
هاهو شهر الخير والجود قد أزف للرحيل، وهاهي لوعة الفراق تتردد في قلوب المؤمنين الصادقين؛ فإنهم سيودِّعون أعز صاحب ، وأغلى حبيب، ولكنّ سُلوانهم هو أمل تجدد اللقاء، وقبول المولى عز وجل ما قدموا فيه من صالح القول والعمل، نسأل الله تعالى أن يتقبل منا الصيام والقيام، وأن يبلغنا رمضان لأعوام وأعوام.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 29 من رمضان الموافق12/11/2004م
أحكام وآداب العيد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا0 من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له0
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين0
أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله عز وجل وطاعته، {وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً }(النساء 131).
أيها المسلمون:
هاهو شهر الخير والجود قد أزف للرحيل، وهاهي لوعة الفراق تتردد في قلوب المؤمنين الصادقين؛ فإنهم سيودِّعون أعز صاحب ، وأغلى حبيب، ولكنّ سُلوانهم هو أمل تجدد اللقاء، وقبول المولى عز وجل ما قدموا فيه من صالح القول والعمل، نسأل الله تعالى أن يتقبل منا الصيام والقيام، وأن يبلغنا رمضان لأعوام وأعوام.
سلام من الرحمن كل أوان على خير شهر قد مضى وزمان
سلام على شهر الصيام فإنه أمان من الرحمن كل أمان
لئن كنت ياشهر الصيام منوراً لكل فؤاد مظلم وجنان
تعّبد فيك المسلمون فأقبلوا على ذكر تسبيحٍ ودرس قرآن
فيا أسفاً حزناً عليك وحرقة تزيد على الأعوام كل أوان(17/1)
فيا أيها الشهر المبارك كن لنا شفيعاً إلى ديّان كلِّ مدان
فيا شهرنا غير مودَّع ودعناك، وغير مكره فارقناك0 كان نهارك صدقة وصياما، وليلك قراءةً وقياماً، فعليك منا تحية وسلاما.
شهر رمضان ترفَّق ، دموع المحبين تتدفَّق ، قلوبهم من ألم الفراق تشقق، عسى وقفة للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع تصلح من الصيام ما تخرق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يطلق، عسى من استوجب النار يعتق.
أيها المسلمون:
ولما كان الإنسان بطبعه محل النقص والعثرات، فقد يعتري صومه ما يعتريه من الزلات أو الهفوات ، ومن أجل أن يكون يوم العيد يوم فرح وسرور لجميع المسلمين، ولا سيما الفقراء والمساكين فقد فرض الله تعالى علينا زكاة الفطر التي هي زكاة البدن، يخرجها الرجل من ماله عن نفسه وولده وأهله0
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث ، وطعمةً للمساكين، من أداها قبل الصلاة (أي صلاة العيد) فهي زكاة مقبولة، ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات".
وقد اتفق الأئمة المجتهدون على أن زكاة الفطر واجبة على كل مسلمٍ قادرٍ على أدائها عن نفسه وعن كل من تلزمه نفقتهم، من زوجته، وأولاده الصغار وأولاده الكبار العاجزين عن الكسب، وعن عبيده وأما الخادم أو الخادمة – ونحوهما- ممن له أجرة ففطرته على نفسه ولا تجب على سيده ، لكن لو أحب أن يخرجها عنهم فله ذلك، ويعلمهم قبل إخراجها حتى ينووا ذلك.
ولا يجب إخراج الفطرة عن الجنين عند جمهور العلماء، ويستحب إخراجها عند الحنابلة.(17/2)
وأما الجنس الذي تخرج منه الفطرة، فهو محل اختلاف بين أهل العلم: فذهب الإمام أحمد -رحمه الله- إلى أنها تخرج من الأصناف الخمسة التي كانت تخرج في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ما دامت موجودةً ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب" متفق عليه ، وفي رواية: "أو صاعاً من أقط ".
وذهب الإمام مالك والشافعي – رحمهما الله تعالى– إلى أنها تخرج من غالب قوت البلد الذي يسكنه المزكي، والمقدار الواجب هو صاع عن كل شخص، ويقدر من الرز بكيلوين ونصف الكيلو تقريباً.
وذهب الإمام الثوري وأبو حنيفة إلى جواز إخراج القيمة بدلاً من الطعام إذ قد يكون أنفع للفقير من غيرها، وقد أخذت بهذا لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف، وقدرت قيمة الزكاة عن الفرد بدينار.
وأما وقت أدائها: فعند المالكية والحنابلة: فيجوز إخراجها قبل العيد بيومين لا أكثر ، وعند الشافعية: يجوز تعجيلها من أول يوم من رمضان وعند الحنفية: يجوز تعجيلها من قبل رمضان ، أي في أول الحول.
وينبغي أن لا تؤخر عن صلاة العيد؛ لما رواه الشيخان، عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ".
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله خصنا من بين سائر الأمم بشهر الصيام والصبر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها النجاة من أهوال القيامة، ومن فتنة القبر، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله شفيع يوم الحشر ، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد ، وعلى آله وصحبه ما دارت الأفلاك وتعاقب الدهر.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقواه ، واعملوا بطاعته ورضاه.
أيها المسلمون:(17/3)
إن من تمام نعمة الله عز وجل علينا، أن شرع لنا بعد عبادته سبحانه في هذا الشهر الكريم: عيداً عظيماً، يفرح فيه المسلمون ويسرون؛ فإنهم قد أتموا صيامهم، وأدوا قيامهم، ورجوا فيه من الله تعالى القبول والثواب.
قال الله عز وجل {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (الأعلى 14-15)، عن علي رضي الله عنه قال: (تزكى) أي تصدق صدقة الفطر (وذكر اسم ربه فصلى) أي كبَّر يوم العيد ، وعلى هذا التفسير جماعة من السلف.
وأول عيد صلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: عيد الفطر في السنة الثانية للهجرة، ولم يترك النبي صلى الله عليه وسلم صلا ة العيد أبداً، فهي متأكدة جداً، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بخروج النساء العواتق والحيض وذوات الخدور إلى مصلى العيد ، وأمر الحيَّض أن يعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين ، كما في الصحيحين.
واعلموا – أيها المسلمون رحمكم الله وإياي – أن للعيد آداباً وسنناً ، ينبغي أن نحرص عليها ؛ لننال الأجر العظيم من صاحب الجود والإحسان الجزيل سبحانه:- منها: أن نكبر في العيد؛ لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة 185).
ولهذه الآية ، فقد ذهب الإمام الشافعي و أحمد رحمهما الله تعالى، إلى أن التكبير في عيد الفطر يبدأ من غروب الشمس في آخر يوم في رمضان إلى أن يحرم الإمام بصلاة العيد.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الفطر فيكبر حتى يأتي المصلى وحتى يقضي الصلاة، كما رواه ابن أبي شيبة وغيره، وكان ابن عمر إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى، يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى، ثم يكبر حتى يأتي الإمام، رواه ابن أبي شيبة والدار قطني بإسناد صحيح.(17/4)
و منها: أن يتجمل في العيد، فيلبس أحسن ثيابه، ويغتسل قبل الذهاب للصلاة فإنه مستحب بالإجماع، وعن نافع: "أن عبد الله بن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى" رواه مالك وغيره بسند صحيح.
- ومنها: أن يأكل تمرات قبل أن يذهب لصلاة العيد، فعن أنس رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات" رواه البخاري0
- ومنها: أن يستمع للخطبة بعد الصلاة0
- ومنها: أن يخالف في الطريق ، فيرجع من غير الطريق الذي جاء منه إلى المصلى، فعن جابر رضي الله عنه قال : "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم العيد خالف الطريق".
- ومنها: التهنئة بالعيد بالعبارات المناسبة للمقام، وذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني – رحمه الله – أنه ثبت بإسناد حسن، عن جبير ابن نفير قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: "تقبل الله منا ومنك".
- ومنها: التوسعة على العيال في أيام العيد بما يحصل لهم بسط النفس وترويح البدن، وإظهار السرور فيها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث (وفي رواية تغنيان بدف)، فاضطجع على الفراش وحوَّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم! فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعهما ، فلما غفل غمزتهما، فخرجتا وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا" متفق عليه.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.(17/5)
اللهم احفظ إمامنا وولي عهده بحفظك، وارعهما برعايتك، ووفقهما لما تحب وترضى، واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً ،سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اتقوا الله عباد الله، وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(17/6)
اطبع هذه الصحفة
عيد الفطر
الحمد لله الذي جعل لنا في الإسلام عيداً، وأجزل لنا فيه فضلاً ومزيداً، ومنّ علينا بإكمال شهر رمضان، شهر الرحمة والغفران، تعبدنا فيه بالصيام والقيام، وأمرنا سبحانه أن نشكره وكيف لا يشكر؟ وله الفضل على من صام وأفطر، سبحانه ما أعظم شانه، وعد للصائمين والقائمين الفوز برضوانه والنجاة من مهالك يوم الوعيد، {لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (ق: 35)، وأعاد علينا عوائد الإحسان، وأنعم علينا بيوم العيد
خطبة عيد الفطر المبارك
بتاريخ 1 من شوال الموافق 13/11/2004م
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلا.
الحمد لله الذي جعل لنا في الإسلام عيداً، وأجزل لنا فيه فضلاً ومزيداً، ومنّ علينا بإكمال شهر رمضان، شهر الرحمة والغفران، تعبدنا فيه بالصيام والقيام، وأمرنا سبحانه أن نشكره وكيف لا يشكر؟ وله الفضل على من صام وأفطر، سبحانه ما أعظم شانه، وعد للصائمين والقائمين الفوز برضوانه والنجاة من مهالك يوم الوعيد، {لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (ق: 35)، وأعاد علينا عوائد الإحسان، وأنعم علينا بيوم العيد.
أحمده وله الحمد في الأولى والآخرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مالك الدنيا والآخرة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي هدى الخلق إلى الصراط المستقيم، وأخرجهم من حفرة النار إلى دار النعيم، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه صلاة وسلاماً تامّين إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله يا أولي الألباب، ولا تقنطوا من رحمة الله، فإنه غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب.
أيها الناس:(18/1)
إنّ يومكم هذا من أشرف الأيام، أوجب الله فيه الفطر وحرّم فيه الصيام، فهو يوم شكر وذكر ومغفرة من الله ورضوان، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ "إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر" أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح.
واعلموا عباد الله:
أنّ العيد عند العرب هو كل اجتماع موسمي للسرور، وسمي به لتكرره كل عام، أو لعود السرور بعوده، وأعياد المسلمين، تأتي بعد أداء عبادات عظيمة في الإسلام، فعيد الفطر المبارك، يأتي بعد اكتمال شهر الصيام والقيام، الذي فيه ليلة خير من ألف شهر وهي ليله القدر، وعيد الأضحى الذي يعد أكبر الأعياد الإسلامية وأفضلها، يأتي بعد إتمام الحج الذي هو الركن الخامس من أركان الإسلام ومبانيه العظام0 فهذان العيدان يا عباد الله، شرعا لأجل إقامة ذكر الله وشكره, لا للهو والتبذير.
ألا وإن من شعائر الدين في هذا اليوم، أداء صلاة العيد، وإدخال السرور على قلب كل مسلم، فليس العيد لمن لبس الجديد، وانهمك في قضاء الشهوات مما نهى الله عنه ورسوله، إنما العيد لمن خاف مقام ربه الأعلى، ونهى النفس عن الهوى، وغفر له ذنبه،وصلى صلاة العيد فرحاً بفطره بعد إتمام صيامه، ورجع من مصلاه بجائزة مولاه وإكرامه, فعظموا عباد الله حرمات الله فهو أولى بالتعظيم والاحترام.
أيها المؤمنون:(18/2)
تذكروا باجتماعكم هذا يوم المحشر، يوم يسمع النداء من قبل العلي الأكبر، أين فلان بن فلان؟ فيرتعد جميع أهل المحشر, فيؤمر بهذا إلى النار, وهذا إلى الجنة, {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} (هود: 103, 105).
جعلني الله وإياكم ممن ذكّر فتذكر، وغفر لي ولكم ما تقدم من ذنب وما تأخر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر،الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ـ لا إله إلا الله ـ والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله الذي خلقنا لعبادته، وشرح صدورنا لمعرفته، وهدانا لتوحيده، ووفقنا لتسبيحه وتحميده، وتكبيره وتمجيده، أحمده حمداً كثيراً كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله سيد البشر، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد،وعلى آله وأصحابه ما هلل مهلل وكبر.
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.(18/3)
ثم اعلموا عباد الله، أن الإسلام ليس بالتسمي والانتساب، من غير التزام لأحكامه، وقيام بواجباته، وابتعاد عن منقصاته، فالمسلم من أدى الواجبات واجتنب المحرمات، وسلم المسلمون من لسانه ويده في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وتواضع لله، فإن الله جل وعلا لا يحب المتعالين المستكبرين، وعليكم ببر الوالدين، والإحسان إليهما، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} (الإسراء: 23). فاحرصوا على رضاهما، واحذروا غضبهما، ثم أحسنوا إلى نسائكم، وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوصي بالنساء خيراً، ويأمر الرجال أن يعاشروهن بالمعروف، ويقول: " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم " أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
أيها المؤمنون:(18/4)
عليكم بصلة الأرحام، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، واحذروا ترك الصلاة وغيرها من فرائض الإسلام، واجتنبوا الفواحش والمظالم، فإن ربكم عدل ليس بظلام {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة: 2)، وقد افتتح الله هذا اليوم بالتكبير فلا تختموه بالآثام، وصوموا بعد يومكم هذا ستاً من شوال، فإنها مع صوم رمضان تعدل صيام العام، أخرج مسلم عن أبي أيوب الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال، كان كصيام الدهر".
وإذا رجعتم إلى منازلكم فاسلكوا غير الطريق الذي أتيتم منه، أخرج البخاري عن جابرـ رضي الله عنه ـ قال: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا كان يوم العيد خالف الطريق" وأولى ما أوصي به نفسي وإياكم تقوى الله تعالى، فإنها سبيل من استقام.
أعاد الله علينا وعليكم من بركات هذا العيد السعيد، وحشرنا وإياكم في زمرة أهل الفضل والمزيد، {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (الحديد: 11, 12).(18/5)
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها أمرنا، وتعصمنا بها من كل سوء، وتوفقنا للقيام بكل ما فرضت علينا، من صلاة وزكاة وصيام وحج وجهاد، اللهم فكما بلغتنا شهر الصيام والقيام، اجعل عامه من أبرك الأعوام، وأيامه من أسعد الأيام، ومغفرة لنا بمحو الذنوب والآثام، اللهم تقبل شهداءنا الأبرار،واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يا عزيز يا غفار، وأحفظ سمو أمير البلاد، وسمو ولي عهده الأمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(18/6)
اطبع هذه الصحفة
ماذا بعد رمضان؟
هذا هو شهر رمضان قد آذن بالرحيل في أيام مرت مر السحاب، وبالأمس القريب كنا نتلقى التهاني بقدومه، واليوم نتلقى التهاني بقدوم عيد الفطر، ترقبناه بكل فرح وخشوع، وودعناه بالأسى والدموع وتلك سنة الله في خلقه {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} (الفرقان: 62).
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 6 من شوال الموافق 19/11/2004م.
ماذا بعد رمضان؟
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فياعباد الله أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله عز وجل وطاعته، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 102).
أيها المسلمون:
هذا هو شهر رمضان قد آذن بالرحيل في أيام مرت مر السحاب، وبالأمس القريب كنا نتلقى التهاني بقدومه، واليوم نتلقى التهاني بقدوم عيد الفطر، ترقبناه بكل فرح وخشوع، وودعناه بالأسى والدموع وتلك سنة الله في خلقه {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} (الفرقان: 62).
مضى هذا الشهر المبارك فسلام الله عليه، سلام الله على شهر الصيام والقيام، سلام الله على شهر القرآن والغفران، كان مضمارًا يتنافس فيه المتنافسون، فكم من أكف ضارعة رفعت ودموع ساخنة ذرفت وعبرات حرّى قد سكبت، وحق لها ذلك في موسم المتاجرة مع الله سبحانه.(19/1)
لقد ظل المسلمون شهراً كاملاً ينالون من نفحات ربهم ما بين ساجد وقائم وراكع لله، وتال لآيات الله ، وخاشع لجبروت الله ، وسرعان ما انقضت الأيام وكأنها أوراق الخريف عصفت بها الريح على أمر قد قدر وإلى الله المصير.
ثم ماذا بعد رمضان؟ أين أثر رمضان في النفوس؟ هل أثرت التقوى المنشودة في رمضان على أعمالنا وأخلاقنا وسلوكنا؟ أم أننا ودعنا الأعمال الصالحة بوداع رمضان؟! واغتررنا بأعمالنا الصالحة التي أديناها في ذاك الشهر العظيم؟!
إنه ليس من صفات المسلمين أن يتركوا طاعة الجبار مع غروب شمس رمضان بل المؤمنون الصادقون بعد رمضان على حالين: حال الوجل والخوف والشفقة من أن تدفع أعمالهم الصالحة فلا تقبل، فهم يرجون الله ويدعونه ويسألونه أن يتقبل منهم أعمالهم كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي تسأل عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (المؤمنون: 60) يا رسول الله: هل هم الذين يزنون ويشربون الخمر ويسرقون؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ويخافون ألا يتقبل منهم) [ أخرجه أحمد والترمذي]... الله أكبر.. ما أعظم حال المؤمنين!! يؤدون الطاعة تلو الطاعة ويخافون عدم القبول! ولهذا نقل أن بعض السلف كانوا يدعون الله بعد رمضان ستة أشهر أن يتقبله الله منهم، قال علي رضي الله عنه (كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل ألم تسمعوا قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة: 27) ( أخرجه أبو نعيم في الحلية) وقال فضالة بن عبيد: ( لو أني أعلم أن الله تقبل مني مثقال حبة خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها).(19/2)
وأما الحال الثانية للمؤمنين الصادقين بعد رمضان: فهي الاستمرار في الطاعة والمداومة على الخيرات وتلاوة القرآن، إنهم لم يكونوا يعبدون رمضان، بل كانوا يعبدون رب رمضان، ورب رمضان هو رب الشهور كلها، فليت شعري ما بالنا نكون في رمضان أوابين خاشعين ساجدين راكعين تالين للقرآن ثم بعد رمضان نعود فننغمس في المعصية ونهدم كل بناء جميل بنيناه في رمضان {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (النحل: 92).
لقد كان الواحد منا يقرأ القرآن، عدة مرات، ختمة تلو ختمة في رمضان، أفلم نكن نتدبر آيات القرآن ونحن نقرأها {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24)(19/3)
ألم نقرأ قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)؟! ألم نتدبر قول الله تعالى {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام: 162)؟! ألم نستمع في دروس المساجد لوصف السيدة عائشة رضي الله عنها عبادة النبي صلى االله عليه وسلم حيث قالت: ( كان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدوم عليه صاحبه )؟ "أخرجه البخاري" ألم ننصت لقول زاهد البصرة الحسن البصري رحمه الله وهو يقول (لا يكون لعمل المؤمن أجل دون الموت)؟ وقرأ قوله تعالى {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر 99) [أخرجه ابن المبارك في الزهد]، ولما سئل بشر الحافي عن أناس يتعبدون في رمضان ويجتهدون فيه فإذا انسلخ رمضان تركوا، فقال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان0 لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو من أن يترك قيام الليل بعد أن اعتاده فقال له: (يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل) فإذا كان هذا في قيام الليل وهو من السنن والفضائل فما بالك بمن يهجر الصلاة بعد رمضان؟! أو يهجر المساجد والجماعة؟! فما بالك بمن ينهمك في المعاصي والكبائر والقبائح وينسى طاعة الله بعد رمضان؟!
أيها المؤمنون:
إن من علامة قبول الحسنة، الحسنة بعدها. ومن علامة قبول الله للعبد في رمضان أن يستمر في طاعته دائم التوبة لله، دائم الاستغفار والذكر، دائم التلاوة لكتاب الله عز وجل، دائم الحضور في المساجد، دائم المحبة للمسلمين.. وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قد قال: (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة)
[ رواه مسلم ] فما بالنا ونحن أهل التفريط والتقصير.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم(19/4)
{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}َ (النور: 31).
بارك الله لي ولكم بالقرآن وبسنة النبي الكريم، ونفعنا بما فيهما من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين.. رب رمضان ورب شوال ورب الشهور كلها الملك الواحد الديان وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداّ عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه العابد الصوام القوام في رمضان وكل الشهور والأعوام.. أما بعد،،،،
فيقول الملك الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6) إنه على أرباب الأسر وأولياء الأمور كما كانوا في رمضان حريصين على أسرهم وأبنائهم في الصيام والعبادة والبعد عن الذنوب والخطايا أن يتقوا الله عز وجل في مسئولياتهم بعد رمضان كذلك، ويحافظوا على أماناتهم بمتابعتهم وتربيتهم والعناية بهم، وأن يجعلوا من شهر الخيرات الفائت نقطة انطلاق وتصحيح لتربية الأبناء وتوجيههم الوجهة الصالحة وليستمروا على حثهم على حفظ القرآن الكريم وتلاوته وتدبره.
ونداء ملؤه المودة والإشفاق إلى الذين عزموا على العودة إلى المعاصي بعد رمضان أن يتقوا الله عز وجل فالعمر قصير والآجال محدودة فكفى مخادعة للنفس وانزلاقاً في طرق الغي والضلال وعبثاً بشعائر الإسلام، وإلى متى الاسترسال في الغفلة؟ فلنعلنها توبة صادقة نصوحا لا رجعة فيها أبداً إلى الذنوب والمعاصي فهذا إن شاء الله من علامة القبول.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.(19/5)
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.
اللهم احفظ إمامنا وولي عهده بحفظك، وارعهما برعايتك، ووفقهما لما تحب وترضى، واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً، سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اتقوا الله عباد الله، وأقم الصلاة.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(19/6)
اطبع هذه الصحفة
الإمام أبو حنيفة النعمان
إن في تاريخ العظماء لخبرا، وإن في سير العلماء لعِبراً، وإن في أحوال النبلاء لمدّكراً، وأمتنا الإسلامية أمة أمجاد وحضارة، وتاريخ عز وأصالة، وقد ازدان سجلها الحافل عبر التاريخ بكوكبة من الأئمة العظام، والعلماء الأفذاذ الكرام، يمثلون عقد جيدها وتاج رأسها ودُرِّي كواكبها، كانوا في الفضل شموسًا ساطعة، وفي العلم نجوما لامعة، فعدوا بحق أنوار هدى، ومصابيح دجى، وشموعاً تضيء بمنهجها المتلألئ وبعلمها المشرق الوضاء.
يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون به أهل العمى، ويرشدون من ضل منهم إلى الهدى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 14 من شوال الموافق 26/11/2004م
الإمام أبو حنيفة النعمان
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنها عروة ليس لها انفصام، وجذوه تضيء القلوب والأفهام، وزادٌ يبلغ إلى دار السلام، قال تعالى: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ } (النساء 131)
عباد الله:
إن في تاريخ العظماء لخبرا، وإن في سير العلماء لعِبراً، وإن في أحوال النبلاء لمدّكراً، وأمتنا الإسلامية أمة أمجاد وحضارة، وتاريخ عز وأصالة، وقد ازدان سجلها الحافل عبر التاريخ بكوكبة من الأئمة العظام، والعلماء الأفذاذ الكرام، يمثلون عقد جيدها وتاج رأسها ودُرِّي كواكبها، كانوا في الفضل شموسًا ساطعة، وفي العلم نجوما لامعة، فعدوا بحق أنوار هدى، ومصابيح دجى، وشموعاً تضيء بمنهجها المتلألئ وبعلمها المشرق الوضاء.(20/1)
يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون به أهل العمى، ويرشدون من ضل منهم إلى الهدى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه.
إخوة الإيمان:
إن ارتباط الأجيال اللاحقة والناشئة المعاصرة، - بسلفهم من العلماء الأفذاذ ينتفعون بسيرتهم، ويسيرون على منهجهم، ويقتبسون من نور علمهم وفضلهم - لهو من الأمور التي ينبغي أن نعنى بها دائمًا وأبدًا !، ولذا يقول بعض أهل العلم: "سِيَرُ الرجال أحب إلينا من كثير من الفقه".
أمة الإسلام:
وكان من أجلّ هؤلاء الأئمة، وأفضل العلماء، عالم لا كالعلماء، وعلم لا كالأعلام، جبل أشمّ، وبحر خِضم، فريد عصره، ونادرة دهره، الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله.
قال عنه وكيع بن الجراح: "كان عظيم الأمانة، وكان يؤثر رضى الله تعالى على كل شيء، ولو أخذته السيوف في الله تعالى لاحتملهم". وقال عنه الإمام الشافعي: "ما طلب أحدٌ الفقه إلا كان عيالاً عليه، وما قامت النساء على رجل أعقل منه". وقال عنه أحمد بن حنبل: "إنه من العلم والورع والزهد وإيثار الآخرة بمحلّ لا يدركه أحد" وقال عنه سفيان الثوري: "ما مقلت عيناي مثله".
وهو القائل عن نفسه رحمه الله تعالى:
لقد شمرت ذيلي طول عمري ……لخدمة ما به إتمام فخري
هو الفقه الذي قد جلّ قدراً ……فجلّ لقدره قدري وذكري
به نلت المعاني في حياتي……به عمري وجاهي كل دهري
لقد ولد الإمام أبو حنيفة سنة ثمانين، وأيام الخليفة عبد الملك بن مروان، ونشأ بالكوفة في أسرة مسلمة صالحة غنية كريمة، حفظ القرآن الكريم في صغره، وكان لا يفارق متجر والده، حتى قدر الله له أن يلتقي بشعبة فقال له رحمه الله: "عليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء فإني أرى فيك يقظة وحركة" يقول أبو حنيفة: "فوقع في قلبي من قوله، فتركت القعود في المتجر، وأخذت في العلم فنفعني الله تعالى بقوله".
معاشر المسلمين:(20/2)
لقد جالس أبو حنيفة شيوخًا كثيرين، مما يدل على حرصه وهمته، لكنه لازم أكثر من لازم، شيخه حماد بن أبي سليمان، فأخذ عنه الفقه حتى بزّ أقرانه وتجاوز أمثاله وسابقيه، وذلك بتوفيقٍ من الله أولا ثم لحِفظه وفهمه وأدبه، حتى أدناه منه شيخه فجعله في صدر حلقته، وكان أدبه مع شيخه حماد موضع العجب، فلقد كان يقصده في بيته، ينتظره عند الباب حتى يخرج لصلاته وحاجته، فيسأله ويصحبه، وكان إذا احتاج شيخه إلى شيء قام هو على خدمته، وكان إذا صلى دعا لشيخه مع والديه.
واستمر على هذه الحال، من الصحبة والملازمة ثماني عشرة سنة، حتى مات حماد رحمه الله، واتفق أصحاب الحلقة، على أن يخلفه أبو حنيفة في الدرس، فكان خير خلف لخير سلف.
أيها المسلمون:
يقول بعض من معاصري الإمام: "كان أبو حنيفة طويل الصمت كثير التفكر، دقيق النظر في الفقه، لطيف الاستخراج في العلم والبحث، لا يطلب المال على تعليمه، وإن كان الطالب فقيرا أغناه وأجرى عليه وعلى عياله حتى يتعلم، فإذا تعلم قال له أبو حنيفة: قد وصلت إلى الغنى الأكبر، معرفة الحلال والحرام، وكان كثير العقل قليل المجادلة"
ذكر الذهبي بسنده إلى مجالد قال: "كنت عند الرشيد إذ دخل عليه أبو يوسف أحد تلاميذ أبي حنيفة فقال له هارون: صف لي أخلاق أبي حنيفة، فقال أبو يوسف: كان والله شديد الذب عن حرمات الله، مجانبًا لأهل الدنيا، لم يكن مهذاراً ولا ثرثاراً، إن سئل عن مسألة كان عنده بها علم أجاب، وما علمته يا أمير المؤمنين إلا صائناً لنفسه ودينه، مشتغلاً بنفسه عن الناس، ولا يذكر أحداً إلا بخير، فقال هارون الرشيد: هذه أخلاق الصالحين".
أيها المسلمون:(20/3)
كان أبو حنيفة رحمه الله يختم القرآن في كل ثلاثة أيام ولياليها، وكان يتصدق كل يوم بصدقة، يقول بكير بن معروف أحد معاصريه: "كنت بطانة أبي حنيفة في السفر والحضر، وأشهده في الليالي في منزله، وكان قلّ ما يستتر عليّ أمرٌ من أموره، فما رأيت أحداً أكثر اجتهاداً منه !! صائمًا بالنهار، قائمًا بالليل، تالياً لكتاب الله، خاشعاً، دائباً في طاعة الله، محتسباً في التعليم".
وكان إذا دخل مكة لا يُرى إلا في صلاة أو طواف، وقد أحصوا له خمسًا وخمسين حجة. يقول عبد الله بن المبارك: قلت لسفيان الثوري: ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة، ما سمعته يغتاب عدوا، قال سفيان: واللهِ هو أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها.
مات أبوه ثابت، وخلف له مائتي ألف درهم ما عدا الأملاك، فأنفقها في طلب العلم وطلبته، حتى جعل قوته في الشهر درهمين، وكان الناس يدخلون عليه في بيته، فلا يرون إلا الحصير.
مات أبو حنيفة - رحمه الله – سنة مائة وخمسين من الهجرة، وتولى الحسين بن عمارة تغسيله وتكفينه، فلما فرغ وقف على رأسه وقال: "رحمك الله وغفر لك، لم تفطر منذ ثلاثين سنة، ولم تتوسد يمينك بالليل منذ أربعين سنة، وقد أتعبت من بعدك وفضحت القراء.
ثم شيع جنازته جمع غفير، قدر بخمسين ألفاً، وصُلّي عليه ست مرات أخرها صلاة ولده حماد، ومكث الناس يصلون على قبره عشرين يوماً. فمات رحمه الله وقد خلف للأمة الإسلامية تراثًا علميّاً ومذهبا فقهيا، وتلاميذ نجباء حملوا الراية من بعده، كأمثال القاضي أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وزفر، رحمهم الله تعالى.
لعمرك ما الرزية فقد مال……ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حرّ……يموت بموته خلق كثير
رحم الله الإمام أبا حنيفة، وأسكنه فسيح الجنات، وجزاه الله خير ما جزى عالماً على تعليمه وجهاده ودعوته.(20/4)
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين، وخاتم المرسلين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقواه، واعملوا بطاعته ورضاه.
أيها المسلمون:
إن الأمة الإسلامية إذا لم تعتزّ بماضيها وسير علمائها، ولم تفد من تاريخها وأمجاد سلفها، ضيعت حاضرها ومستقبلها، واضطربت مكانتها، وتخبطت أجيالها.
وسير سلفنا الصالح شموع على طريق العلم والدعوة والإصلاح، بهم يستفاد في تصحيح المسار وتوجيه المسيرة وتوازن الخطى، ولقد ضل أقوام زهدوا بسير سلفهم، والتفتوا يمنة ويسرة، يتخبطون في شتى المذاهب، ويتذبذبون بين جديد المشارب.
فالعلماء هم حفظة الدين، وهم هداة الناس، وزينة في الأرض، ولهذا فقد رفع الله تعالى شأنهم، وأعلى منزلتهم، فقال سبحانه: { وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } (المجادلة 11)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "..وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر والنملة في جحرها، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر" أخرجه أبو داود وغيره.
عباد الله:
اتقوا الله تعالى ، وسيروا على ما سار عليه الأولون تفلحوا.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات(20/5)
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين.
اللهم احفظ أميرنا وولي عهده بحفظك، وارعهما برعايتك، ووفقهما لما تحب وترضى، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئناً، سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(20/6)
اطبع هذه الصحفة
الترغيب في الحج
لقد اقتربت أيام الفضل والاغتنام, أيام الحج إلي بيت الله الحرام, قال تعالي: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران 97].
أخرج مسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فقال: "يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا" فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت, حتى قالها ثلاثاً. فقال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "لو قلت نعم لوجبت, ولما استطعتم...", و قوله (صلي الله عليه وسلم) "لو قلت نعم لوجبت": أي لوجب الحج كل عام, وديننا الإسلامي فيه من التيسير ورفع الحرج بحيث لا يكلف الإنسان ما يشق عليه ويرهقه, وقد انعقد الإجماع علي وجوبه علي كل مسلم بالغ عاقل مستطيع حر, مرة واحده في العمر.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 21 من شوال الموافق 3/12/2004م
الترغيب في الحج
الحمد لله الذي فضل بحكمته البيت الحرام, وفرض حجه على من استطاع إليه السبيل من أهل الإيمان والإسلام, وغفر لمن حج واعتمر ما اكتسبه من الذنوب والآثام, أحمده وأستغفره, وأعوذ به من الخزي والهوان, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, المبعوث بأفضل الأديان, اللهم صل وسلم عي عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه البررة الكرام.
أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله فالزموها, فإنها خير ذخر يُدَّخر فاغتنموها.
أيها المؤمنون:(21/1)
لقد اقتربت أيام الفضل والاغتنام, أيام الحج إلي بيت الله الحرام, قال تعالي: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران 97].
أخرج مسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فقال: "يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا" فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت, حتى قالها ثلاثاً. فقال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "لو قلت نعم لوجبت, ولما استطعتم...", و قوله (صلي الله عليه وسلم) "لو قلت نعم لوجبت": أي لوجب الحج كل عام, وديننا الإسلامي فيه من التيسير ورفع الحرج بحيث لا يكلف الإنسان ما يشق عليه ويرهقه, وقد انعقد الإجماع علي وجوبه علي كل مسلم بالغ عاقل مستطيع حر, مرة واحده في العمر.
أيها المؤمنون:
لقد تضافرت نصوص شرعيه كثيرة في بيان فضل الحج, وعظمة ثوابه عند الله سبحانه, منها قول الحق سبحانه: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 27, 28].
ومنها ما رواه أبو هريرة –رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله (صلي الله عليه وسلم) يقول: "من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" متفق عليه. والرفث: الجماع وما يتعلق به, والفسوق: هو الخروج عن الطاعة والعياذ بالله.
وعنه أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "العمرة إلي العمرة كفارة لما بينهما, والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" متفق عليه. فالحج المبرور لا يقتصر ثوابه على تكفير الذنوب فحسب, وإنما يتعدى ذلك إلي إدخال الجنة.
عباد الله:(21/2)
إن الحج واجب على كل من كان مستطيعاً ومن الاستطاعة أن يجد راحلة تصلح لمثله, ويجد من الزاد ما يكفيه لذهابه ورجوعه, وأن تكون نفقته حلالاً خالصةً من الشُبَه, فإن الله تعالي طيب لا يقبل إلا طيباً. فإن خالف وحج بمال مغصوب, أو كان من رباً ونحو ذلك, فحجه غير مبرور, ومما قيل في ذلك:
إذا حججت بمال أصله سحت…فما حججت ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كل صالحة…ما كل من حج بيت الله مبرور
وأن يكون الزاد فاضلاً عن نفقه من تلزمه نفقتهم وكسوتهم, وعن دين كان عليه, وأن يكون الطريق آمناً, فمن توفرت له هذه الأمور وجب عليه السعي إلي الحج, أخرج الإمام أحمد وابن ماجة بإسناد حسن عن ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "تعجلوا الحج –يعني الفريضة-, فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له".
أيها المؤمنون:
إن في الحج منافع عظيمة دينية ودنيوية, قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] ومن تلك المنافع: تطهير النفس, وتقوية الإيمان, وتجديد العهد مع الله, والتعود علي الصبر, وتحمل المتاعب, وتذكر الوقوف بين يدي الله سبحانه, وطلب المغفرة, ومناجاة رب العالمين في الأماكن التي وقف فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصحبه الكرام, وتقوية الأخوة والرابطة بين المسلمين على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم, والمذاكرة فيما بينهم, فيتعارفون ويتآلفون حول أعز بيت, وأقدس مطاف, فما أروع هذا البيت, وما أروع تأثيره في تجميع الأمم والشعوب, تحت راية "لا إله إلا الله, محمد رسول الله", فطوبى لعبد أجاب داعي الله, وقصد بيت الله الحرام في تلك البقاع الطاهرة, وقام بهذه الشعائر المقدسة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية(21/3)
الحمد لله الذي جعل البيت الحرام مثابة للناس وأمنا, وكتب حجه على من استطاع إليه سبيلا, ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أكمل البرية خلقاً وخلقاً, اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الذين يسارعون في الخيرات, وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الناس:
اتقوا الله تعالى وأطيعوه, فقد دعاكم إلى بيت حرام في بلد حرام, ووعدكم به أسنى الضيافة وأهنأ الإكرام, من قبول الأعمال ومحو الخطايا والآثام, فعلام التسويف من عام إلي عام؟ تذكروا كم من غافل كان معكم في مثل هذه الأيام, فخطفه هادم اللذات, أتظنون أنكم خالدون أم تظنون أنكم ماكثون؟
أمر على المقابر كل حين ……ولا أدري بأي الأرض قبري
وأفرح بالغنى إن زاد مالي……ولا أبكي على نقصان عمري
فالغنيمة الغنيمة يا عباد الله بالرحيل إلي بيت الله الحرام, بيت حجه أبونا أدم عليه السلام, وحجته ملائكة الرحمن قبله بألفي عام, وحجه أنبياء الله ورسله الكرام, وأذن إبراهيم الخليل بحجه فأجابوه.
ألا وإن مؤذن الحج ينادي بينكم بالرحيل, ويستحث منكم من استطاع السبيل, فهل من متعرض لنفحات الإحسان؟ وهل من مشمر لأداء فرض أمر الله تعالى به في كتابه الكريم, فقال سبحانه: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97].(21/4)
أخرج مسلم عن عائشة – رضي الله عنها- أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة", فهنالك تسكب العبرات, وتقال العثرات, وترتجى الطلبات, وتغفر السيئات, فهم في صعيد واحد, ووقت واحد, ومظهر واحد, مهللين مكبرين, لا فرق فيه بين كبير وصغير, وغني وفقير, وعظيم وحقير, والله إنه لمشهد عظيم, وموقف جسيم, كيف لا، والله يباهي بهم الملائكة الأبرار, ويشملهم برحمته التي ملأت الأقطار, ألا يحب أحدكم أن تشمله بركة القبول مع الواقفين, ويعود عليكم بعظيم الرحمة مع الطائفين والعاكفين؟
أيها المسلمون:
أعلموا أنه ينبغي لمن يريد الحج أن يشاور من يثق بدينه وخبرته في حجه, فإن استقر عزمه بدأ بالتوبة من جميع المعاصي, ويخرج من مظالم العباد, ويقضي ما عليه من ديون, ويرد الودائع, ويطلب المسامحة من كل من كانت له معاملة أو مصاحبة, ويترك لأهله ومن تلزمه نفقتهم ما يكفيهم إلى حين رجوعه, ويجتهد في رضا والديه, ثم عليه أن يختار الصحبة الصالحة, التي تعينه على مناسك الحج ومكارم الأخلاق, وأن يتعلم أحكام الحج.
وأعظم ما ينبغي أن يهتم به العبد: مجاهدة النفس على الإخلاص, ورفض الريا, سئل سهل بن عبد الله –رحمه الله-: أي شيء أشد على النفس؟! فقال الإخلاص, لأنه ليس له فيه نصيب! فهل ترضى يا عبد الله أن لا يكون لك من حجك إلا التعب والنصب؟! ففي الصحيحين أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "من سمّع سمّع الله به, ومن يرائي يرائي الله به". فالإخلاص الإخلاص يا عباد الله, حتى تفوز بحج مقبول, وعمل نافع.(21/5)
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا, وتجمع بها أمرنا اللهم وفقنا لحجة إلى بيتك الحرام, اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان واجمع على الحق شملهم, اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, اللهم تقبل شهدائنا الأبرار, اللهم احفظ أميرنا وولي عهده الأمين, إنك سميع قريب مجيب الدعوات, برحمتك يا أرحم الراحمين.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(21/6)
اطبع هذه الصحفة
السفر
بعد سنة دراسية مملوءة بالتكاليف والواجبات يحتاج الإنسان إلى شيء من الراحة والاستجمام ليعود بعدها إلى مواصلة العمل، والمثابرة بجد، وهمة عالية، ونفس مقبلة، غير مدبرة، وقد راعى ديننا الحنيف هذا الأمر الفطري فأباح للإنسان أن يعمل المباح ليرفه عن نفسه، ويذهب عنها السآمة والملل الذي هو ملازم لها، ولقد راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر حتى في مواعظه وخطبه، فكان يتجنب الإطالة والإكثار مخافة أن يصيبهم بالسآمة والملل حيث كان يتخولهم بالموعظة كما نقل ذلك عن صحابته الكرام، ومن هذه الأمور المباحة التي يحصل بها الترفيه والراحة: السفر تلكم الوسيلة التي نبه الله تعالى إلى شيء من منافعها بقوله: وفي الأرض آيات للموقنين*وفي أنفسكم أفلا تبصرون (الذاريات 020-021)، وأنكر على من سافر ولم يعتبر بقوله سبحانه: وكأيّن من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون (يوسف 105) وبقوله جلا وعلا: وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وباليل أفلا تعقلون (الصافات 137-138).
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 14 جمادى الأولي الموافق 2 يوليو 2004
السفر
الحمد لله الذي فتح بصائر أوليائه بالحكم والعبر، واستخلص هممهم لمشاهدة عجائب صنعه في الحضر والسفر.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (فصلت 053)
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً.
اللهم صل و سلم عليه وعلى آله وصحابته ومن سار على سنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وراقبوه في السر والعلن واعلموا أن التقوى هي جماع كل خير، وسبيل كل فلاح.
أيها المسلمون:(22/1)
بعد سنة دراسية مملوءة بالتكاليف والواجبات يحتاج الإنسان إلى شيء من الراحة والاستجمام ليعود بعدها إلى مواصلة العمل، والمثابرة بجد، وهمة عالية، ونفس مقبلة، غير مدبرة، وقد راعى ديننا الحنيف هذا الأمر الفطري فأباح للإنسان أن يعمل المباح ليرفه عن نفسه، ويذهب عنها السآمة والملل الذي هو ملازم لها، ولقد راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر حتى في مواعظه وخطبه، فكان يتجنب الإطالة والإكثار مخافة أن يصيبهم بالسآمة والملل حيث كان يتخولهم بالموعظة كما نقل ذلك عن صحابته الكرام، ومن هذه الأمور المباحة التي يحصل بها الترفيه والراحة: السفر تلكم الوسيلة التي نبه الله تعالى إلى شيء من منافعها بقوله:وفي الأرض آيات للموقنين*وفي أنفسكم أفلا تبصرون (الذاريات 020-021)، وأنكر على من سافر ولم يعتبر بقوله سبحانه : وكأيّن من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون (يوسف 105) وبقوله جلا وعلا : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وباليل أفلا تعقلون - (الصافات 137-138).
إن سفر العبرة هو السفر الذي لا تضيق فيه المناهل والموارد ولا يضر فيه التزاحم والتوارد، بل تزيد بكثرة المسافرين غنائمه وتتضاعف ثمراته وفوائده، فغنائمه دائمة غير ممنوعة، وثمراته متزايدة غير مقطوعة.
تغرب عن الأوطان تكتسب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم، واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد
فإن قيل في الأسفار ذل وشدة وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد
فموت الفتى خير له من حياته بدار هوان بين واش وحاسد
أيها المؤمنون:
إن مما يفرح المسلم الصالح المسافر أن الأعمال الصالحة التي كان يعملها حالة إقامته والتي يمكن أن تفوته بسبب سفره ،إن هذه الأعمال يكتبها الله تعالى له أثناء سفره حتى وإن لم يعملها فقد روى البخاري بسنده عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمله مقيما صحيحا".(22/2)
وإن من نعم الله تعالى على المسافر أن جعله مستجاب الدعوة في سفره فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث دعوات مستجابان، لاشك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة الوالد، ودعوة المسافر. رواه أبو داود والترمذي.
أيها الأحبة في الله
إن مما يكمل فرحة المسلم ويكون سببا في سعادته في الدنيا والآخرة أن يحرص على معرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في سفره، ومعرفة ما يحل، وما يحرم، ومعرفة الآداب والأحكام التي تقربه من ربه سبحانه ويمكن أن نوجز هذه الآداب في الآتي:
الحرص على صلاح النية، بأن ينوي بسفره القرب والطاعات، وليعلم بأن النية الصالحة يؤجر عليها، و أن المباحان إذا نوى بها التقوى على الطاعة انقلبت إلى عبادات يثاب عليها.
عباد الله:
إن من الأمور التي ينبغي مراعاتها في السفر الحذر من النية السيئة كنية فعل المعصية أو مقارفة الذنوب والآثام، فإن الشيطان يتربص بالإنسان، وينتظر غفلته حتى يوقعه في المعصية، ويخرجه عن الجادة.
وإننا أصبحنا - وللأسف - نسمع عن بعض الممارسات والسلوكيات الشائنة التي تصدر من بعض ضعاف النفوس أثناء سفرهم وكأنهم بغيابهم عن أهليهم وأوطانهم غابوا عن ربهم، وخالقهم الذي يراهم، ويراقبهم، أما يعلم هؤلاء أن الله مطلع عليهم عالم بسرائرهم، وخبايا نفوسهم، ألم يقرؤوا قول الله تعالى :يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور (غافر 019) ألم يسمعوا قوله سبحانه :هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير (الحديد 4-) ألا فليتق الله هؤلاء، وليخشوا يوما قال الله فيه :يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد (الحج 002)
أيها المسلمون:(22/3)
إن من عزم على السفر فليبدأ بالتوبة من المعاصي، ويخرج من المظالم ويعطي ما أمكنه من الديون التي عليه، ويرد الودائع ويكتب وصيته، ولا ينس دعاء السفر الذي رواه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، و من العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا، واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل، وإذا رجع قالهن وزاد آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ’’
أيها الإخوة الأكارم:
يستحب لمن أراد السفر أن يطلب رفيقاً موافقاً راغباً في الخير وليحذر الوحدة في السفر إن أمكن له ذلك لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أن الناس يعلمون من الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده ’’ رواه البخاري
سافر تجد عوضا عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني وجدت وقوف الماء يفسده والعود في أرضه نوع من الحطب
ومن أحكام السفر أنه يستحب للمسافر التكبير إذا ارتفعت به الأرض والتسبيح إذا انخفضت به لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا ’’ رواه البخاري
وإذا خاف المسافر من قوم أثناء سفره دعا بما رواه أبو داود عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خاف قوماً قال: اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، ويستحب للمسافر أن يخرج مبكراً إن أمكنه ذلك لحديث صخر بن وداعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم بارك لأمتي في بكورها، وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم من أول النهار رواه أبو داود والترمذي.(22/4)
وكان صخر تاجراً فكان يبعث تجارته أول النهار فأثرى وكثر ماله.
ويستحب للمسافر أن يخرج في سفره يوم الخميس إن أمكن له ذلك لحديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إلا في يوم خميس.
ارحل بنفسك من أرض تضام بها ولا تكن من فراق الأهل في حرق
فالعنبر الخام روث في مواطنه وفي التغرب محمول على العنق
والكحل نوع من الأحجار تنظره في أرضه وهو مرمي على الطرق
لما تغرب حاز الفضل أجمعه فصار يحمل بين الجفن والحدق
أيها المسافرون إلى الله
إن المسافر قد يحتاج إلى الراحة بعض الوقت أثناء الطريق خصوصاً آخر الليل فعليه أن يجتنب الطريق لحديث خالد بن معدان يرفعه ثم قال وعليكم بسير الليل فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار، وإياكم والتعريس على الطرق فإنها طرق الدواب ومأوى الحيات رواه مالك.
والتعريس هو نزول المسافر آخر الليل ساعة للاستراحة.
ومن أحكام السفر جواز الفطر في رمضان لقوله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام آخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون (البقرة 185)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس ’’ متفق عليه.
فالمسافر مخير بين الصيام والفطر بحسب مقدرته لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم '' متفق عليه.
أيها المؤمنون:(22/5)
يجوز للمسافر قصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، والجمع بين الظهر والعصر، وبين والمغرب والعشاء ما دام مسافرا، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنا نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة لا نخاف إلا الله عز وجل نصلي ركعتين رواه النسائي.
وعن موسى بن سلمة الهزلي قال: سألت ابن عباس كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام ؟ فقال: ركعتين سنة أبي القاسم,, رواه مسلم .
وعن عامر بن واثلة أن معاذ بن جبل أخبره أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، قال فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً. متفق عليه.
وتسقط عن المسافر السنن الرواتب التي كان يصليها مقيما وهى راتبه الظهر والمغرب والعشاء، أما راتبه الفجر والوتر فما كان يدعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حضراً ولا سفراً.
ويجوز للمسافر أداء النوافل ومنها الوتر على الدابة أو السيارة وهى تسير وإن لم تكن إلى جهة القبلة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي السنة على راحلته حيث توجهت به يومئ إيماءً. وصلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته، متفق عليه.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته نحو المشرق فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة ’’رواه البخاري.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين الذي جعل الطاعة شعار المفلحين، وجعل المعصية عادة إخوان الشياطين.(22/6)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله إمام المتقين وسيد المرسلين اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين وصحابته البررة المكرمين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن التقوى هي سبيل الفرج من الضيق قال تعالى :ومن يتق الله يجعل له مخرجاً *ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً (الطلاق 002-003).
أيها المؤمنون:
إن المسافر سفير لبلده، وصورة عن مجتمعه فليحذر أن يكون صورة لا تعكس الحقيقة ولا تدل على الواقع، وليحرص أن يظهر شعائر دينه، ومظاهر إسلامه فإن في ذلك عزة، ورفعة وفي غيرها ذله وشقاؤه، ولتحذر المرأة أن تسافر وحدها من غير محرم يصاحبها حتى لا تقع في النهي، وترتكب المحظور.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشريك والمشركين ودمر أعداءك أعداء الدين واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، واحفظ اللهم سمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
وأقم الصلاة
إعداد
لجنة الخطبة النموذجية
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(22/7)
اطبع هذه الصحفة
الإيمان بالملائكة
من تأمل في هذا الكون الفسيح, ونظر في أقطار السماوات و الأرضين, وتفكر في ملكوت الله تعالى وصنعه, علم وتيقن أن الخالق عظيم, وأن إلهنا – سبحانه – جليل, يعجز الوصف عن الإحاطة بحقيقة وصفه, ويذعن الفرد لجلاله وكماله, وتخر له الجباه ساجدة طوعاً أو كرهاً, فتبارك الله رب العالمين.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 4 ذو القعدة 1425هـ الموافق 17/12/2004م
الإيمان بالملائكة
الحمد لله جاعل الملائكة رسلاً أولي أجحنة مثنى وثلاث ورباع, يزيد في الخلق ما يشاء إن الله علي كل شيء قدير, وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الرسل الكرام, اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته.
أيها المسلمون:
من تأمل في هذا الكون الفسيح, ونظر في أقطار السماوات و الأرضين, وتفكر في ملكوت الله تعالى وصنعه, علم وتيقن أن الخالق عظيم, وأن إلهنا – سبحانه – جليل, يعجز الوصف عن الإحاطة بحقيقة وصفه, ويذعن الفرد لجلاله وكماله, وتخر له الجباه ساجدة طوعاً أو كرهاً, فتبارك الله رب العالمين.(23/1)
ومن عظيم خلقه – سبحانه- وصفاته, وبديع آياته ومخلوقاته: ملائكته الكرام العظام, الذين يخرجون عن نطاق العد فلا يحصيهم إلا الله عز وجل الذي خلقهم, فهم عباد لربهم في الليل والنهار, لا يسأمون ولا ينقطعون, ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون, قال الله تعالى – راداً على من زعم من العرب أن الملائكة بنات الله: "وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ" (الأنبياء: 26, 28)
وقال تعالى: "وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ" (الأنبياء: 19, 20).
وفي حديث الإسراء الطويل المتفق على صحته, قال فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ثم رفع لي البيت المعمور, فقلت: يا جبريل: ما هذا؟ قال: هذا البيت المعمور, يدخله كل يوم سبعون ألف ملك, إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخر ما عليهم" أي ذلك آخر ما عليهم من دخول
وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ قال لهم: "أتسمعون ما أسمع؟" قالوا. ما نسمع من شيء, "قال: إني لأسمع أطيط السماء, وما تلام أن تنط, وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم" أخرجه الطبراني وغيره, وهو حديث صحيح. والأطيط: صوت من الثقل.
أيها المسلمون:(23/2)
إن الإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان الستة, فلا يصح إيمان إنسان أو يقبل إلا بأن يقبل بملائكة الرحمن, أي أن يصدق بوجودهم, وأنهم خلق عظيم من خلق الله سبحانه, قال تعالى: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" (البقرة: 285).
وفي حديث جبريل المشهور – في مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم على هيئة رجل ليعلم الصحابة دينهم – أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر, وتؤمن بالقدر خيره وشره" أخرجه مسلم من حديث عمر رضي الله عنه.
أيها المسلمون:
لقد خلق الله تعالى الملائكة من نور, فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور, وخلق الجان من مارج من نار, وخلق آدم مما وصف لكم" أخرجه مسلم وهذا من الأدلة على أن إبليس لم يكن من الملائكة وإنما كان من الجن, لأنه مخلوق من نار والملائكة خلقت من نور, ولكنه كان – يعبد الله تعالى مع الملائكة.
ولا نعلم على وجه التحديد متى خلقت الملائكة, ولكننا نعلم أنهم خلقوا قبل آدم عليه السلام, فقد قال الله تبارك وتعالى: "وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُوم" الحجر(27). وقال الله تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً" (البقرة: 30).(23/3)
والملائكة – ياعباد الله – لا يوصفون بالذكورة ولا بالأنوثة, وإنما هم خلق من خلق الله عز وجل يختلفون عن البشر, وقد رد الله تعالى في كثير من الآيات على مَن زعم من العرب أن الملائكة إناث, فمن ذلك قوله تعالى: "وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ" (الزخرف: 19).
أيها المسلمون:
وقد كلف الله تعالى الملائكة بأعمال مختلفة يقومون بها, وذلك يبين غاية تصرف الله في الكون, وتنوع جنوده, وأن له مقاليد السماوات والأرض, يفعل ما يشاء, ويحكم ما يريد, ففي ذلك بيان عظم الله تعالى, وأن كل ما في الوجود فهو خاضع لسلطانه, ومذعن لأمره, فسبحانه ما أعظمه من خالق.
فمن هؤلاء الملائكة وأعظمهم: جبريل عليه السلام, فهو الموكل بالوحي, ينزل به من عند الله تعالى علي من يشاء من رسله وأنبيائه, فهو الذي نزل بالقرآن من عند الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, وقال تعالى: "وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ" (الشعراء: 192, 195). وقد كان اليهود يكرهون جبريل عليه السلام ويعتبرونه عدواً لهم, ويحبون ميكائيل ويعتبرونه ولياً لهم, فأنزل الله تعالى قوله: "قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ" (البقرة: 97, 98).ولقد رآه النبي على صورته الحقيقية مرتين: الأولى: في بطحاء مكة قبل الإسراء, وله ستمائة جناح قد سد الأفق. والثانية: في ليلة المعراج.(23/4)
ومنهم: إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور يوم القيامة حين الصعق وحين النشور, قال تعاليى: "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ" (الزمر: 68). وقال صلى الله عليه وسلم: "كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وأصغى سمعه, ينظر متى يؤمر؟" قال المسلمون: يا رسول الله: فما نقول؟ قال: "قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل, على الله توكلنا" أخرجه أحمد وغيره من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
ومنهم ملك الجبال, الذي أرسله الله تعالى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم أن آذاه قومه ولم يستجيبوا له –كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها- فسلم على النبي صلي الله عليه وسلم وقال: يا محمد: إن الله قد سمع قول قومك لك, وأنا ملك الجبال, وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك, فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحدة لا يشرك به شيئاً"
ومنهم: ملك الموت, ولم يثبت في السنة تسميته بعزرائيل, وإنما في الكتاب والسنة ملك الموت, قال تعالى: "قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ" (السجدة: 11). وفي حديث البراء المشهور في السنن في قبض روح المؤمن والكافر, قال صلى الله عليه وسلم: "ثم يجيء ملك الموت عليه السلام".
ومنهم: مالك خازن النار, وقد بين الله تبارك وتعالى إستنجاد أهل النار به للخلاص مما هم فيه, فقال تعالى: "وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ" (الزخرف: 77). قال ابن عباس رضي الله عنهما: مكث ألف سنه ثم قال: إنكم ماكثون, أخرجه ابن أبي حاتم.(23/5)
ومنهم ملائكة موكلون بحفظ بني آدم, ومنهم ملائكة موكلون بكتابة أعمالهم, فلكل شخص ملكان: أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال, ويتصف كل منهما بأنه رقيب عتيد, أي حاضر ومهيأ لهذا العمل, فرقيب عتيد صفتان لكل واحد من هذين الملكين وليسا اسمين لهما, قال تعالى: "إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" (ق: 17, 18).
ومنهم ملائكة موكلون بسؤال الميت في قبره عن ربه وعن دينه وعن نبيه, وهما منكر و نكير, وحين ذاك: "يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ" (إبراهيم: 27).
أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المبين, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين, وخاتم المرسلين, صلوات الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق تقواه, واعملوا بطاعته ورضاه.
أيها المسلمون:
إن لعقيدتنا الإسلامية الراسخة ثمرات عظيمة جليلة, ولإيماننا بالملائكة على وجه الخصوص فوائد كبيرة:
فمنها: العلم بعظمة خالقهم, وهو الله تعالى, ربنا وخالق كل شيء, وأن كل ما في الوجود إنما هو جند من جنود الله عز وجل: "وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ" (المدثر: 30).
ومنها: استشعار أثر الملائكة على العبد في كل موقف, فيستحي العبد من الملكين الذين يكتبان جميع أقواله, ويعلم إطلاع الكرام الكاتبين على جميع أفعاله, إضافة إلى إطلاع من لا تخفى عليه خافية ويعلم السر والنجوى.(23/6)
ويحمد العبد ربه ويشكره على تسخير الملائكة لحفظه ونصره وحمايته, كما أنزل الله تعالى ملائكته على المسلمين في بدر والخندق, قال تعالى: "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ". (آل عمران: 123, 126).
ومنها: محبة العبد لملائكة الرحمن الذين يقومون بعبادة الله تعالى على الوجه الأكمل, وأن خيارهم يستغفرون للمؤمنين, كما قال الله تعالى: "الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ" (غافر: 7).
اللهم ارزقنا الخشية والإنابة إليك, وألهمنا الرشد والهداية في دينك, ولا تجعل الدنيا أكبر همنا, ولا مبلغ علمنا, وأدخلنا برحمتك الجنة مع الأبرار, يا عزيز يا غفار.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين, يا قوي يا متين, واحفظ اللهم أميرنا وولي عهدنا الأمناء, وارزقهم الصحة والعافية, وتقبل شهداءنا الأبرار, يا أكرم الأكرمين.
---(23/7)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(23/8)
اطبع هذه الصحفة
مكارم الأخلاق
إن حسن الخلق من الإيمان، وصفة من صفات أهل الإحسان، وحلية المتقين في واسع الجنان، كما أن سوء الخلق من فعل الشيطان، وسبب لانغماس العبد في النيران.
إن الأخلاق الفاضلة من أسس الإسلام، في بناء الفرد وإصلاح المجتمع، فسلامة الأمة وقوة بنيانها، وسمو مكانتها وعزة أبنائها، بتمسكها بفاضل الأخلاق، كما أن شيوع الانحلال والرذيلة، ونحر القيم ووأد الفضيلة، بنبذ الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 12 من ذي القعدة 1425هـ الموافق 24/ 12/ 2004م
مكارم الأخلاق
الحمد لله الذي يسر لعباده أسباب السعادة، وكتب لأوليائه السيادة، وجعل حسن الخلق عبادة، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. …
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فإنها أمنة من الفتن والبلايا، ومنعة من الرزايا، وتكفير للذنوب والخطايا "يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" (الأنفال: 29).
عباد الله:
…إن حسن الخلق من الإيمان، وصفة من صفات أهل الإحسان، وحلية المتقين في واسع الجنان، كما أن سوء الخلق من فعل الشيطان، وسبب لانغماس العبد في النيران.
إن الأخلاق الفاضلة من أسس الإسلام، في بناء الفرد وإصلاح المجتمع، فسلامة الأمة وقوة بنيانها، وسمو مكانتها وعزة أبنائها، بتمسكها بفاضل الأخلاق، كما أن شيوع الانحلال والرذيلة، ونحر القيم ووأد الفضيلة، بنبذ الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة.
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه ……فقوم النفس بالأخلاق تستقم
والنفس من خيرها في خيرِ عافيةٍ ……والنفس من شرها في مرتع وخم(24/1)
بل بين لنا التاريخ أن كل أمة نهضت نهضة جبارة، وكل حضارة ازدهرت وحققت السعادة، فإنما هو لتمسك أفرادها بكريم الأخلاق وطيب الخلال.
…أمة الأخلاق:
إن المسلمين الأوائل فتحوا بلاداً إسلامية لم تتحرك إليها جيوش، ولم تزلزل بها عروش، ولم تقم بها تروس، ولم يرفع فيها سيف ولا رمح، بل تجار صالحون بأخلاقهم حققوا الفتح، فكان فتحاً خلقياً، ذهبوا يتعاملون بالدرهم والدينار، فحقق الله لهم بأخلاقهم الانتصار، بأخلاق أدهشت العقول والأفكار، وسلوك حسن لفت الأنظار.
أيها المسلمون:
إن الخلق الحسن أجمل شيء يتحلى به الإنسان، وهو أثقل شيء يوضع في الميزان، وإن مجاله واسع، وشعبه كثيرة، فمن أبرزها أن يكون المرء واسع الصدر، رحيم القلب، زكي النفس، قوي الإرادة، جميل الصبر، حميد المعاشرة، صدوق اللسان، مخلص الجنان، كامل الرجولة، كثير الحياء، حسن الرجاء، سمح المعاملة، حلو المعاشرة، طلق الوجه، بساماً فليحاً، براً رحيماً، عفاً كريماً، وقوراً حليماً، هيناً ليناً، سهلاً قريباً، لا فاحشاً ولا متفحشاً، لا سباباً ولا لعاناً، لا نماماً ولا مغتاباً، لا حسوداً ولا حقوداً، لا بخيلاً ولا كذوباً ولا ظلوماً، يحب في الله، ويبغض في الله، يرضى لله ويغضب لله، ولقد جمع هذه المعاني بعبارة موجزة، وكلمة جزلة، الإمام عبدالله بن المبارك – فيما يرويه الترمذي في سننه – فقال: "حسن الخلق: طلاقة الوجه وبذل المعروف وكف الأذى".
أيها المسلم الكريم:
اقرأ سير العظماء, وتصفح تاريخ النبلاء، لن تجد أعظم من خاتم الأنبياء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلقد كان أحسن الناس خلقاً، فأحبته القلوب، وهابته النفوس، واجتمعت عليه الأفئدة،"وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" (القلم: 4).(24/2)
وروى الترمذي بإسناد صحيح عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله المدينة انجفل الناس إليه (أي أسرعوا إليه) وقيل: قدم رسول الله، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت الناس لأنظر إليه، فلما استثبت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول شيء تكلم به أن قال: "يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".
تأملوا سيرته حين دخل مكة فاتحاً منتصراً، على أولئك الذين طردوه وآذوه وحاصروه حتى أكل مع أصحابه ورق الشجر فما رحموه، دخل مكة مطأطئ الرأس، متذللاً لله، متواضعاً لعباد الله، قائلاً لأولئك: "ما تظنون أني فاعل بكم؟" قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم ، فقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
قال الله عز وجل: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" (فصلت: 34).
ثم كم يحمل – صلوات ربي وسلامه عليه – من الهموم والغموم، هموم الأمة وهموم القيادة، وهو الأب والزوج، وهو المعلم والحاكم، ومع ذلك يقول عبد الله بن الحارث رضي الله عنه: "ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله" رواه الترمذي بإسناد صحيح.
أيها الناس:
وعلى نهج سيد المرسلين، سار أصحابه وخلفاؤه من بعده، فكانوا - والله – نعم الناس في حسن التعامل والخلق، كان أبو بكر رضي الله عنه يحلب للضعفاء أغنامهم كرماً منه ورفقاً بهم، فلما تولى الخلافة وعظمت منزلته وعلت مرتبته, سمع جارية تقول: "اليوم لا يحلب لنا" فقال: "بلى لعمري لأحلبنها لكم".
وهو الذي يمشي على قدميه مع جيش أسامة، وأسامة راكب فقال أسامة:
"يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن" فقال: "لا والله، لا نزلت ولا أركب، وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله".(24/3)
ولا تنعدم الأخلاق حتى مع الأشرار، فمن الناس من تحسن إليه اتقاء شره، ولو اشتغلت بتأديب كل جهول لأعيتك الحيل، قالت عائشة رضي الله عنها: استأذن على النبي رجل، فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل، قالت له عائشة: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه؟ فقال رسول الله: "يا عائشة متى عهدتني فحاشاً، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره" (رواه البخاري).
عباد الله:
إن الله تعالى - وهو الغني الكريم سبحانه -، رتب على حسن الخلق أجراً عظيماً، وثواباً جزيلاً، والجزاء من جنس العمل، فكما أنهم عاملوا الناس بالحسنى، جازاهم الله تعالى بالجزاء الأحسن، فقد أخرج أبو داود بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم" .( أخرجه الترمذي بإسناد صحيح ) .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً"، ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال: "تقوى الله وحسن الخلق" (أخرجه الترمذي بإسناد حسن).
وإن أكثر ما يلقي بالناس في النار، بعدهم عن أخلاق الأبرار، وتخلقهم بأخلاق الفجار، وإن أتوا بأعمال عظام، من كثرة الصلاة والصدقة والصيام، فقد روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: هي في النار، قال: يا رسول الله فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها وإنها تصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها بلسانها، قال: هي في الجنة".(24/4)
…بارك الله لي ولكم بالقرآن، ونفعنا بما فيه من الهدي والبيان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى، ومن سار على نهجه واقتفى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وخاتم المرسلين اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس، وتشبهوا بأخلاق الكرام، يكتب لكم حسن الختام، ويبقى ذكركم بين الأنام، لا ينسيه مرور الليالي والأيام.
فالعودة العودة إلى مكارم الأخلاق، قولاً وعملاً، ولا سيما أن البعض زهد فيها ورحل إلى أخلاق غير المسلمين، وبعضهم جمع من العلم فأوعى، وخلا من الخلق الأوفى، فتراه يقول ما لا يعمل، ويأمر بما لا يأتي، وربما نفر الناس عن دين الله.
لا تحسبن العلم ينفع وحده ما لم يتوج ربه بخلاق
وإذا رزقت خليقة محمودة فقد اصطفاك مقسم الأرزاق
وفقد آخرون الإخلاص والنية، فأخلاقهم نفعية، لمصالح دنيوية، فهو يبتسم للمصلحة، ويرحب للمنفعة، أخلاقه توصف بأنها عالية، لكنها لمطالب دنيوية فانية يتكلفها المسكين على حظوة مال أو جاه، أو ثناء من بشر، فأنى له أن ينال أجراً وثواباً، لعمل صار هدراً أو هباء.
أيها المسلمون:
…عاملوا الناس بما تحبون لأنفسكم، فإنها علامة كمال الإيمان، وأمارة البر والإحسان, وبها ينال المرء عالي الجنان، ويزحزح عن درك النيران، فقد روى مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه".(24/5)
ثم سلوا الله حسن الأخلاق، وتعوذوا به من سيئها، فلقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم كثير السؤال لربه، مقبلاً عليه بقلبه، يسأله كريم الأخلاق، ويتعوذ به من سيء الصفات.
…اللهم ارزقنا محاسن الأخلاق, وقنا مساوئها, وجمِّلنا بالإيمان والتقوى.
…اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين, وتقبل اللهم شهداءنا وشهداء المسلمين أجمعين, واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين, برحمتك يا أرحم الراحمين.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(24/6)
اطبع هذه الصحفة
أسرار العبادة في الإسلام
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان لمهمة عظيمة وهدف نبيل،وهو طاعته وعبادته سبحانه وذلك ما أوضحه في كتابه الكريم، فقال جل من قائل: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ??الذاريات(56-58)
الخطبة المذاعة والموزعة
بتاريخ 19 ذو القعدة 1424هـ الموافق 31/12/2004م
أسرار العبادة في الإسلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله "أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" (آل عمران [102]) "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً" (النساء [1]) "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً" (الأحزاب 70-71).
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله تعالى وطاعته.
…أيها المسلمون:(25/1)
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان لمهمة عظيمة وهدف نبيل،وهو طاعته وعبادته سبحانه وذلك ما أوضحه في كتابه الكريم، فقال جل من قائل: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" الذاريات(56-58) وقد جعل هذه المهمة ميدان ابتلاء واختبار وجعل ذلك الابتلاء قدراً لازمًا وأمرا دائما، فقال تعالى: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" العنكبوت(2-3)
وإذا كانت العبادة هي الغرض الأول من خلق الإنسان، وهي مهمته الكبرى في الوجود, فما المقصود بالعبادة هنا ؟ هل هو هذه الفرائض والنوافل والشعائر فحسب ؟ أن لها امتداداً أوسع ومجالا أرحب ؟ ماهي مقاصدها الكبرى؟ ماهي حكمها وأسرارها؟
أيها المسلمون:
…إن العبادة هي الطاعة والعبودية،و الخضوع والذل .
والقرآن الكريم صريح في وجوب هذه المحبة وفي أنه لا يجوز أن يطاولها غيرها، يقول الله سبحانه: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ" التوبة(24).(25/2)
والآية واضحة في أن هذه المحبة مشروطة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا ولما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" (أخرجه البخاري ومسلم), وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله: لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال : "لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك" ، فقال: فوالله لأنت أحب إلي من نفسي . فقال: "الآن يا عمر".
عباد الله:
…إذا كنا قد عرفنا أن الله إنما خلقنا لنعبده ، ونطيعه طاعة ممزوجة بأقصى الخضوع الممزوج بغاية الحب, ففيم تكون هذه الطاعة – طاعة الخضوع والحب ؟ وفي أي مجال يجب أن تكون ؟
…إن الإجابة على السؤال تضعنا أمام حقيقة هامة، هي : شمول معنى العبادة ، وسعة آفاقها، ورحابة مجالها .
ومن أجمل ما شرح به شمول العبادة للدين كله شيخ الإسلام ابن تيمية، حين سئل عن قول الله عز وجل: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ" البقرة(21) ما العبادة وما فروعها ؟ وهل مجموع الدين داخل فيها أم لا؟ فأجاب عن ذلك برسالته المعروفة باسم "العبودية " ، وقال في بدايتها ": العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار، واليتيم، والمساكين، وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم, والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة....".
أيها المؤمنون:(25/3)
ومن هنا ندرك أن عبادة الله تعالى تسع الحياة كلها وتنتظم أمورها قاطبة: من أدب الأكل والشرب وقضاء الحاجة، إلي بناء الدولة وسياسة الحكم، وسياسة المال، وشئون المعاملات، والعقوبات، وأصول العلاقات الدولية، ولهذا نلاحظ أن القرآن يأمر بتكاليف وأحكام شرعية في مجالات شتى، وميادين مختلفة من ميادين الحياة، فتأتي تلك الأوامر بصيغة واحدة، مع اختلاف مجالات هذه الأحكام، ففي سورة البقرة مثلا جاءت هذه الأوامر المختلفة بصيغة واحدة, "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى" البقرة (178)( "كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ" البقرة(180) "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" البقرة(183) "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ" البقرة (216 ).
فهذه الأمور كلها من القصاص والوصية، والصيام، والقتال مكتوبة من الله تعالى على عباده، أي مفروضة عليهم، فعليهم أن يعبدوا الله بالتزامها والانقياد لها.
أيها الأحبة في الله:(25/4)
إن الإنسان مخلوق متنوع الأبعاد، معقد التكوين، متوزع الرغبات، هو في شق منه كتلة من طين الأرض وفي شق آخر نفخة من روح الله، وهذه البنية الخاصة لا يمكن أن يصلحها ويراعي احتياجاتها ويسبر أغوارها إلا من خلقها, "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" الملك(14)، وقد شاء الله - سبحانه وتعالى - أن يفرض على هذا الإنسان فرائض ويتعبده بعبادات ، هي في مصلحة الإنسان في الأولى والآخرة، تصله بالله عز وجل، وتحرره من أسر المادة، ترفع همته إلى أعلى، وتظل تعظه أن يركن إلى الأرض، أو يغتر بالحياة، ولو لم نلاحظ من أسرار هذه العبادات إلا تأثيرها الواقعي هذا، لكفى، ولكنا نعلم أنها مليئة بالأسرار والحكم البالغات، التي يكتشف كل منا ما يستطيع منها بحسب ما آتاه الله من العلم والفهم وهي أكثر من ذلك بكثير.
أيها المسلمون:
ولنتأمل في أسرار عبادتين تعدان من أعظم العبادات, بل هما من أركان الإسلام: الصلاة والزكاة.
ونبدأ بالصلاة التي هي عماد الدين، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام، ننظر في بعض أسرارها ومقاصدها فنجد أن الصلاة نظافة وتطهر، وتزين وتجمل، اشترط الله لها طهارة الثوب، والبدن، والمكان، من كل خبيث مستقذر، وأوجب التطهر بالغسل والوضوء، فمفتاح الجنه الصلاة, ومفتاح الصلاة الطهور, "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ" (المائدة: 6).(25/5)
والصلاة قوة روحية ونفسية تعين المؤمن على مواجهة متاعب الحياة ومصائب الدنيا ، ولذا قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" البقرة (153)، قال الإمام ابن القيم – رحمه الله -: إن أعظم ما يستعين به العبد على نوائب الدنيا والدين: الصبر والصلاة كما أن الصلاة قوة خلقية، تمد المؤمن بطاقة عظيمة، يقتدر بها على مجانية الفحشاء والمنكر، ومقاومة الجزع عند الشر، والمنع عند الخير ، فهي تغرس في القلب مراقبة الله تعالى ورعاية حدوده ، والحرص على المواقيت ، والدقة في المواعيد، والتغلب على نوازع الكسل والهوى، وجوانب الضعف الإنساني، وفي هذا يقول القرآن الكريم: "إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ" العنكبوت (45).
كما أن الصلاة تربية بدنية، لما فيها من الطاعة والنظام، وهل هناك أجمل أو أكمل من صفوف الجماعة وقد وقفت مستقيمة فلا عوج، متلاصقة فل افرج: المنكب إلى المنكب، والقدم إلى القدم, يعلمهم إمامهم أن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة، ويحدثهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم: أن سدوا الفرج وسووا الصفوف ولا تختلفوا فتخلف قلوبكم، فإذا كبر الإمام كبروا وإذا قرأ أنصتوا وإذا ركع ركعوا وإذا سجد اسجدوا , ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار" (أخرجه الشيخان).
عباد الله:(25/6)
ثم نأتي إلى الزكاة التي هي حكم وأسرار ، فهي طهارة لنفس الغني من الشح البغيض، وهو آفة نفسية خطرة، تدفع إلى سفك الدماء، وبيع الأعراض وضياع الذمم، ولن يفلح فرد أو مجتمع سيطر الشح عليه وملك ناصيته, "وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" الحشر (9)، والزكاة كذلك طهارة لنفس الفقير من الحسد والضغن على ذلك الغني الكانز لمال الله عن عباد الله, "الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ" الهمزة (2, 3) وهي طهارة للمجتمع كله- أغنيائه وفقرائه- من عوامل الهدم والتفرقة والصراع والفتن، ولعل هذا كله ما تهدي إليه الآية الكريمة "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا" التوبة (103). ثم إن الزكاة نماء للمال وبركة فيه, "وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" سبأ(39) وهي أيضاً نماء لشخصية الغني وكيانه بما يحس من انشراح في نفسه واتساع في صدره ، كما أنها نماء لشخصية الفقير حيث يشعر بأنه ليس ضائعا في المجتمع ولا متروكاً لضعفه وفقره.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته وأحذركم من معصيته ومخالفته.
أيها المسلمون(25/7)
إن حديثنا عن أسرار العبادات، وما نحاول أن نكتشف من تلك الأسرار لا يعني ادعاء إحاطة بها، بل لا يعني ضرورة البحث والتعمق في استخراجها، إذ الأصل أن العبادات تؤدى امتثالاً لأمر الله عز وجل، وأداءً لحقه على عباده، وشكراً لنعمائه التي لا تنكر، وليس من الضروري أن تكون لها حكمة يدركها عقله محدود، فالأصل فيها أنها ابتلاء لعبودية الإنسان لربه، وحسب المؤمن أن يعلم بالإجمال أن الله غني عن العالمين, غني عن عبادتهم وطاعتهم "وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ" لقمان (12) "وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" آل عمران(97). الله تعالى غني عن عباده كل الغنى، وإذا تعبدهم بشيء فإنما يتعبدهم بما يصلح أنفسهم و يعود عليهم بالخير في حياتهم الروحية والمادية، الفردية والاجتماعية، الدنيوية والأخروية، غير أن الإنسان المحدود قد تخفى عليه حكمة الله جل في علاه
وكم لله من سر خفي ……يدق خفاه عن فهم الذكي
اللهم ارزقنا الخشية والإنابة إليك, وألهمنا الرشد والهداية في دينك, ولا تجعل الدنيا أكبر همنا, ولا مبلغ علمنا, وأدخلنا برحمتك الجنة مع الأبرار, يا عزيز يا غفار.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين, وأذلَّ الشرك والمشركين, ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين, يا قويُّ يا متين, واحفظ اللهم أميرَنا وولي عهدنا الأمناء, وارزقهم الصحة والعافية, وتقبل شهداءنا الأبرار, يا أكرم الأكرمين.
واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين, برحمتك يا أرحم الراحمين.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(25/8)
اطبع هذه الصحفة
ادعوني استجب لكم
إن الإنسان في هذه الحياة وأمام ابتلاءاتها المتلاحقة وفتنها الطاغية معرض للتيه والضياع إن لم يلجأ إلى الله ويفر إليه. قال الله تعالى: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين (الذاريات:50) فإنه لا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه.
يا من ألوذ به فيما أأمله … ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره … ولا يهيضون عظماً أنت جابره
وإن الطريق الوحيد الذي لا طريق غيره للفرار من الله إلى الله هو طريق التوحيد والعبادة الخالصة التي من أجلى صورها وأنصعها: الدعاء والتضرع إلى الله قال الله سبحانه :قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما (الفرقان:77).
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمين (آل عمران 102) يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا (النساء: 1).
يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً *يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما (الأحزاب 70:71).
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثه بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله :
إن الإنسان في هذه الحياة وأمام ابتلاءاتها المتلاحقة وفتنها الطاغية معرض للتيه والضياع إن لم يلجأ إلى الله ويفر إليه. قال الله تعالى: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين (الذاريات:50) فإنه لا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه.(26/1)
يا من ألوذ به فيما أأمله … ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره … ولا يهيضون عظماً أنت جابره
وإن الطريق الوحيد الذي لا طريق غيره للفرار من الله إلى الله هو طريق التوحيد والعبادة الخالصة التي من أجلى صورها وأنصعها: الدعاء والتضرع إلى الله قال الله سبحانه :قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما (الفرقان:77).
فقد أعلمنا الله سبحانه وتعالى أنه لولا دعاؤنا وتضرعنا وانطراحنا بين يديه لما عبأ بنا، ومن يعبأ بنا إذن فيفرّج كروبنا ويصلح أحوالنا ويجيب دعاءنا ؟ ولكن الله رحمة منه وإحساناً عرّفنا الطريق وعلّمنا ما ينفعنا ويصلح أحوالنا قال جل من قائل: وقال ربكم ادغوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (غافر:60) ، وهنا يسجل القرآن أن الدعاء عبادة ، مآل من تكبر عنها وأعرض هو دخول النار.
وذلك حال الكافرين، أما المؤمنون الذين يعلمون ما في الدعاء من خير في الدنيا والآخرة فما هم عنه بمعرضين، فبه تقضى لهم الحوائج قال الله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (البقرة: 186).
ويذكر بعض العلماء فائدة في هذه الآية، وهي أن أكثر الآيات التي ورد فيها سؤال موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قد ورد في جوابها (قل) أما في الجواب المتعلق بالدعاء فلم ترد عبارة (قل)، وتولى الله تعالى إجابة السائلين إشعاراً بقربه وسرعة إجابته للدعاء، وبالدعاء يكشف السوء وترفع الغمة ويجاب المضطر، قال الله عز وجل: أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكّرون (النمل :62).(26/2)
والدعاء يرد البلاء بإذن الله فقد روى الحاكم في المستدرك من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يغني حذر من قدر ، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة.
إخوة الإيمان :
إن الدعاء من أهم العبادات وأفضل القرب وأعظم أبواب الفلاح ، غير أن لهذا الدعاء شروطاً وآداباً فمن شروط إجابة الدعاء :
أولاً : إخلاص التوحيد لله عز وجل قال الله تعالى فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون (غافر 14) ، وقد جاء في الحديث القدسي : يا بن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) (أخرجه الترمذي).
ثانياً : تجنب الحرام مأكلا ومشرباً وملبساً فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (يأيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال:يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم (المؤمنون : 51) .
وقال: ياأيها الذين أمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون (البقرة 172) .
ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يارب يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك.
ثالثاً: حضور القلب وقوة الرجاء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاهٍ (أخرجه الترمذي)
رابعاً: أن يقدّم بين يدي حاجته الثناء على الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لما ورد في ذلك من السنة الصحيحة.
عباد الله:
وعلى المؤمن وهو يمثل بين يدي ربه عز وجل ضارعاً خاشعاً أن يتأدب بالآداب الشرعية للدعاء، ومن هذه الآداب:(26/3)
1-أن يكون على طهارة فإن الدعاء ذكر وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تيمم من جدار حائط لرد السلام وقال: كرهت أن أذكر الله إلا على طهر (أخرجه أبو داود).
2-رفع اليدين لما ورد في الحديث (إن ربكم حيي كريم يستحيي من عباده إذا رفعوا أيديهم إليه أن يردها صفرا) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
3-أن يعزم الدعاء لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقولن: اللهم إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له ) (أخرجه البخاري).
4-أن يتحرى الصيغ المأثورة، وبخاصة تلك التي ورد أنها قد تضمنت الاسم الأعظم، فقد جاء في صحيح ابن حبان من حديث عبدالله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فقال لقد سأل الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب، وفي لفظ (لقد سألت الله باسمه الأعظم) حديث صحيح.
وفي السنن من حديث أنس بن مالك أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ورجل يصلي ثم دعا فقال اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى) (حديث صحيح).
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب "لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم".
أيها المسلمون:
وهنالك أوقات ومواطن شهد الشرع بأن الدعاء فيها مستجاب، على المسلم أن يحرص على معرفتها وانتهاز فرصتها بالدعاء، ومن هذه المواطن:(26/4)
1-وقت السجود فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً (أقرب ما يكون فيه العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء) أخرجه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم (ألا إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمِنٌ أن يستجاب لكم) رواه مسلم.
2-بين الأذان والإقامة فعن أنس مرفوعاً: (الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
3-ثلث الليل الأخير لما ثبت في صحيح البخاري من قول النبي صلى الله عليه وسلم (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له.
4-ساعة الجمعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها)، متفق عليه.
ولأهل العلم مذاهب متعددة في تعيين ساعة الجمعة، ومما ورد في تعيينها: حديث أبي موسى الأشعري عند مسلم: (هي ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقضى الصلاة.
وقد وردت أحاديث أخرى صحيحة بأنها آخر ساعة بعد العصر كما في حديث أبي داود وغيره وفيه (يوم الجمعة ثنتا عشرة – يريد ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله عز وجل شيئاً إلا آتاه الله عز وجل فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر) فعلى المسلم أن يحافظ على الدعاء يوم الجمعة وخاصة في هذين الوقتين.
ومن مواطن الإجابة التي ورد بها الشرع ليلة القدر، ويوم عرفة، وعند الحجر الأسود، وعند نزول المطر، ودبر الصلوات المكتوبات.
عباد الله:(26/5)
ولقد كان السلف من هذه الأمة على أعظم مستوى من الثقة بموعود الله الذي تضمنته تلك النصوص، فكانوا يقبلون على الله بالدعاء وهم موقنون بالإجابة، قد أعدوا للأمر عدته الشرعية وهيئوا له الأسباب فيستجاب دعاؤهم على نحو عجيب، ومن ذلك ما جرى لعاصم بن ثابت رضي الله عنه حين أعطى الله عهداً أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً، وكان قبل استشهاده دعا بقوله (اللهم إني أحمي لك اليوم دينك فاحم لحمي) فلما استشهد أرادت هذيل أخذ رأسه رضي الله عنه ليبيعوه لامرأة نذرت إن قدرت على رأسه لتشربن في قحفها الخمر لأنه رضي الله عنه قتل ابنين لها يوم أحد، فحمى الله جسده بالدبر (وهي ذكور النحل) فلم يستطع أحد من المشركين أن يقترب منه وهكذا أجاب الله دعاءه فلم يمس مشركاً ولم يمسه مشرك لا حياً ولا ميتاً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أمر بالدعاء وتكفل بالإجابة وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فأوصيكم بتقوى الله وطاعته وأحذركم من معصيته ومخالفته.
أيها المؤمنون:
إن للدعاء آثاراً عظيمة في حياة الفرد والمجتمع، فإنه من أوسع أبواب السعادة والرزق والحياة الآمنة والعيش الكريم، وكل واحد وهمته فبقدر رغبته إلى الله ودعائه له تتحقق آماله في الدنيا والآخرة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.(26/6)
فما أحوجنا ونحن نعيش الفتن ونتعرض للابتلاءات المتلاحقة أن نلجأ إلى الله بالدعاء فنكسب كل خير ونأمن كل شر قال مطرف بن عبدالله: (تفكرت في جماع الخير فإذا الخير كثير ، صيام ، وصلاة ، وغيرها ، وكل ذلك بيد الله وأنت لا تقدر على ما في يد الله إلا أن تسأله فيعطيك فإذا جماع الخير الدعاء) .
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم ارزقنا الإنابة والإخبات إليك وارزقنا حلاوة التضرع والاستكانة بين يديك، أجب دعاءنا وحقق رجاءنا ولا تردنا خائبين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وأوهن كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، واحفظ اللهم سمو أمير البلاد وسمو ولي عهده الأمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(26/7)
اطبع هذه الصحفة
فضل العشر الأوائل من ذي الحجة
إنكم في استقبال عشرة أقسم الله بلياليها في الكتاب, وأيام عظم الله شأنها في محكم الخطاب, أيام فضل واحترام, أيام حج بيت الله الحرام, قال الله تعالى: "وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ" [الفجر:1, 2], أخرج البخاري في ـ صحيحه ـ من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه, قالوا: ولا الجهاد ؟ قال : ولا الجهاد, إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء", فدل هذا الحديث على أن العمل في هذه الأيام العشر أفضل من الجهاد في سبيل الله إلا جهاداً واحداً, وهو جهاد من خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء.
26من ذي القعدة 1425هـ الموافق 7/1/2005م
فضل العشر الأوائل من ذي الحجة
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله,اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليماً كثيراً...
أما بعد:
فيا أيها الناس:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن, فاتقوا لله واحذ رو الفواحش ما ظهر منها وما بطن, وأكثروا ذكر الله فإن ذكره يعدل عتق الرقاب, وتوبوا إليه واستغفروه يا أولي الألباب.
عباد الله:(27/1)
إنكم في استقبال عشرة أقسم الله بلياليها في الكتاب, وأيام عظم الله شأنها في محكم الخطاب, أيام فضل واحترام, أيام حج بيت الله الحرام, قال الله تعالى: "وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ" [الفجر:1, 2], أخرج البخاري في ـ صحيحه ـ من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه, قالوا: ولا الجهاد ؟ قال : ولا الجهاد, إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء", فدل هذا الحديث على أن العمل في هذه الأيام العشر أفضل من الجهاد في سبيل الله إلا جهاداً واحداً, وهو جهاد من خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء.
ألا وإن لهذه الأيام المباركات ميزات متعددة كريمة, فمنها: أنها أقسم الله تعالى بها لفضلها,ومنها أنها واقعة في الأشهر الحرم,التي لها فضل مشهود في كتاب الله عز وجل, ومنها أنها أيام شرع الله فيها ذكره على ما رزق من بهيمة الأنعام , قال سبحانه : "وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ" [الحج:27, 28], ومنها أن صيامها له ميزة على غيره من الصيام, حيث شرع الله تعالى لعباده صيام هذه الأيام, ماعدا اليوم العاشر, وهو يوم النحر, ومنها أن فيها يوم عرفة الذي يكفر ذنوب سنتين, أخرج مسلم في ـ صحيحه ـ عن أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ قال : "سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن صوم يوم عرفة فقال : "يكفر السنة الماضية والباقية", ومنها أن فيها يوم الحج الأكبر يوم النحر, الذي يكمل المسلمون فيه حجهم, ومنها أنها وقت للتكبير المطلق,
عباد الله:(27/2)
إن في مثل هذه الأيام المباركة, من السنة العاشرة للهجرة, توجه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج, فأحرم ولبى ثم طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة, وفي اليوم التاسع من ذي الحجة توجه إلى عرفات وخطب الناس وودعهم, وبين لهم أمور دينهم ودنياهم,وكان مما قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع بعد أن حمد الله وأثنى عليه "أيها الناس: اسمعوا مني أبين لكم, فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا,أيها الناس: إن ربكم واحد, وإن أباكم واحد, كلكم لآدم وآدم من تراب, إن أكرمكم عند الله أتقاكم, ليس لعربي على عجمي فضل, إلا بالتقوى, ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد", وفي هذا الموقف العظيم نزل قول الله تعالى "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً" [المائدة: 3] جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين إنكم تقرءون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: وأي آية؟ قال: (اليوم أكملت لكم دينكم) الآية، فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت ، والمكان الذي أنزلت فيه ، نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد.
أيها المسلمون:
إنه لما كان الله سبحانه وتعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنيناً إلى مشاهدة بيته الحرام, وليس كل أحد قادراً على مشاهدته في كل عام, فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره, وجعل موسم العشر مشتركاً بين السائرين والقاعدين, فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته, يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج.
ليالي العشر أوقات الإجابة …فبادر رغبة تلحق ثوابه
ألا لا وقت للعمال فيه …ثواب الخير أقرب للإصابة
من اوقات الليالي العشر …حقاً فشمر واطلبن فيها الإنابة(27/3)
بارك الله لي ولكم في القرآن, ونفعني وإياكم بما فيه من البيان, أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الواحد الأحد, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الفرد الصمد, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أفضل من وحد الله وعبد, اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه صلاة وسلاماً دائمين بلا عدد.
أما بعد:
فأوصيكم أيها المؤمنون ونفسي بتقوى الله, فإنكم بالتقوى مكلفون, وأخلصوا لوجه الله, فإنكم بذلك مطالبون, وتهيئوا للقدوم على الله, فإنكم إليه راجعون.
عباد الله:
إن لكم إخواناً في هذه الأيام قد عقدوا الإحرام, وقصدوا البيت الحرام, وملئوا الفضاء بالتلبية والتكبير والتهليل والتحميد والإعظام, لقد ساروا وقعدنا, وقربوا وبعدنا, فإن كان لنا معهم نصيب سعدنا,والقاعد لعذر شريك السائر, وربما سبق السائر بقلبه السائرين بأبدانهم.
ياسائرين إلى البيت العتيق لقد …سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وقد رحلوا …ومن أقام على عذر كمن راحا
فطوبى لعبد تذكر واعتبر, واغتنم خيرات هذا الشهر, فاستغل زهرة شبابه, ولم يترك مثل هذه الأيام وغيرها تذهب من عمره سدى, فقدم بين يديه أعمالاً صالحةً تقعده مقاعد الشرف في الدنيا والآخرة, فالغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة, فما منها عوض ولا لها قيمة, أكثروا من التسبيح والتهليل, والذكر والتبجيل, والدعوات والتكبير, صوموا نهارها, وقوموا لياليها, وصلوا أرحامكم, وتصدقوا بما تجود به أنفسكم.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات,الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.(27/4)
اللهم احفظ أمير بلادنا, وولي عهده الأمين, واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(27/5)
اطبع هذه الصحفة
مقاصد الحج
إن بيت الله المعظم ملتقى جموع المؤمنين، وقبلة جميع المسلمين، تتوجه إليه النفوس، وتذل عنده الرؤوس، في شوق يلهب القلوب، ومحبّة لعلام الغيوب. إنه أثر خالد، وبناء شامخ، ورمز للحنفية السمحة، رفع قواعده إبراهيم الخليل، بمساعدة ابنه إسماعيل –عليهما الصلاة والسلام-، وما برح هذا البيت العتيق يطاول الزمان، شامخ البنيان، ثابت الأركان في منعة من الله وأمان، تتعاقب الأجيال على حجه، ويتنافس المسلمون في كل مكان لبلوغ رحابه، "وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ" الحج [27].
الخطبة المذاعة والموزعة بتاريخ 3 ذو الحجة 1424هـ
الموافق 14/1/2005م
مقاصد الحج
الحمد لله الذي أمر خليله ببناء البيت الحرام، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه العظام، وخيراته الجسام، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مبرأه من الشرك والجهل والأوهام، ,وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، أفضل من حجَّ وصلىّ وصام، صلىّ الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فأوصيكم –أيها الناس– ونفسي بتقوى الله، فهي وصيته للأوائل والأواخر، وبها تسمو الضمائر، وترق المشاعر، وتُقبل الشعائر.
بها السعادة في الحاضر، والأنس في غياهب المقابر، والنجاة يوم تبلى السرائر، يقول سبحانه "وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ" النساء[131].
ويقول أيضاً" "أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ" يونس [62, 63].
ألا إنما التقوى هي العز والكرم……وفخرك بالدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة… …إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم
عباد الله:(28/1)
إن بيت الله المعظم ملتقى جموع المؤمنين، وقبلة جميع المسلمين، تتوجه إليه النفوس، وتذل عنده الرؤوس، في شوق يلهب القلوب، ومحبّة لعلام الغيوب.
إنه أثر خالد، وبناء شامخ، ورمز للحنفية السمحة، رفع قواعده إبراهيم الخليل، بمساعدة ابنه إسماعيل –عليهما الصلاة والسلام-، وما برح هذا البيت العتيق يطاول الزمان، شامخ البنيان، ثابت الأركان في منعة من الله وأمان، تتعاقب الأجيال على حجه، ويتنافس المسلمون في كل مكان لبلوغ رحابه، "وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ" الحج [27].
أيها المسلمون:
لقد فرض الله على المسلمين حج بيته الحرام، وجعله ركنا من أركان الإسلام، ومبانيه العظام، فرضه لحكم سامية، ومقاصد عالية، وغايات نبيلة، من أعظمها:
امتثال أمر رب الأرض والسموات، حيث ابتلى العباد بالمأمورات والمنهيات، ليميز أهل الطاعات من المضيّعين للواجبات، فهل يستوي من أخذ بأمر الله ومن ضيّع حدوده وأكب على المحرمات، يقول سبحانه: "تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ" النساء[13, 14].(28/2)
ومن هذه المقاصد العليّة: التأكيد على توحيد رب البريّة، فشعار الحجاج خير شعار: الهتاف بتوحيد العزيز الغفار (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لاشريك لك)، وخير ما ندبوا إليه في عرفة قول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، بل إن أساس البيت أقيم على التوحيد، فكان الطواف به والحج إليه تذكيرا بهذا الأصل العظيم، "وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" الحج[26].
أيها المسلمون:
ومن هذه المقاصد الحسان: الدعوة إلى تجديد الإيمان، ففي الحديث الصحيح: "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم" رواه الحاكم عن عبد الله بن عمرو مرفوعا.
ففي الحج تكثر الطاعات، وتتنوع العبادات والقربات- يتوجها شرف الزمان وشرف المكان؛ طواف وسعي، ووقوف بعرفة، ومبيت بمبنى ومزدلفة، وتكبير، واستغفار، وتلبية، وذبح، ونحر، لجلال الله سبحانه. ومضاعفة للأجور، ومن ومغفرة من الرب الغفور، كل ذلك يعني تصفية للأرواح والأبدان، وتخليصا لها من ربقة الشيطان، وتثبيتا لها على درب الإيمان.
أيها الإخوة في الله:…
في الحج انتقال وسفر، وتوسيع لدائرة المعرفة والفكر، واكتساب لفضيلة الصبر، تجديد يدخل على النفوس الفرح، وترويح يسعد القلوب.
…
في الحج يرى المسلمون المواطن الأولى التي انطلقت منها دعوة نبي الهدى؛ فيتذكرون جهاد خاتم المرسلين، وكفاح صحبه الميامين، في سبيل إعزاز الدين، فيرجع الحاج يحمل بين جوانحه هموم دينه وأمته، فيسعى جاهدا لاتباع سنة نبيه وتبليغ دعوته.(28/3)
في الحج تتضح المساواة الإسلامية في أبهى صورها، وأجلى معانيها، حيث يقف الحجيج في موقف واحد، والجميع في مظهر واحد، لا فرق بين صغير وكبير، وغني وفقير، وأيضا هو عامل فعال لتوحيد كلمة المسلمين، فتتقوى الروابط بين المؤمنين، وتزداد ألفتهم، وتقوى شوكتهم، فيكونون سدا منيعا في وجوه أعدائهم.
ألا ما أروع هذا البيت، وما أعظم تأثيره في تجميع الأمم والشعوب، تحث راية الحق والتوحيد، فحول هذا البيت المبارك، يلتف الناس طائفين وساجدين، فتجتمع حوله أبدانهم، بعد أن ألف الإسلام بين قلوبهم، وآخى بين أرواحهم.
أتباع سيد المرسلين:
في الحج فيض الرحمات، وتنزيل البركات والخيرات، تُرْفَع’ الدرجات، وتكفر السيئات والخطيئات، خلوص من الجحيم، ودحر للشيطان الرجيم، وتعلق بأسباب النعيم، حيث ربط الله الأمور بأسبابها، ومن أسبابها المبادرة إلى الحج، والانضمام في سلك الحجيج. ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه"، وفي الحديث الآخر : "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفه" أخرجه مسلم . وما رئي الشيطان أدحر ولا أحقر منه في يوم عرفة، لما يرى من فضل الله على خلقه.
ثم لنتأمل أحكام الحج ومناسكه، لنجد فيها الحكمة البالغة، والمقصود العظيم، ففي الإحرام من الميقات ضبط للعزيمة، وسبب لعلو الهمة، وفي تجرد المحرم من الثياب مكتفياً بإزار ورداء: تذكر للباس الموتى، وقيامهم من قبورهم حفاة، عراة الرؤوس والأبدان.(28/4)
وفي الكف عن الفسوق والجدال والصيد والطيب وملامسة النساء وسائر المحظورات: حمل على مكارم الأخلاق، وبعد عن الترف واللهو والشهوات، وتوجه لعمل الآخرة، رجاء العفو والمغفرة، وفي التلبية إعلان لذكر الله تعالى، وإظهار للعبودية لمن انفرد بالألوهية، وفي الطواف حول البيت والسعي بين الصفا والمروة: تذكير بحال إبراهيم وزوجه، وما تقحمه الأنبياء في سبيل الله.
…
وفي وقوف الجمع العظيم بعرفات، في صعيد واحد، ووقت واحد، ومظهر واحد، راغبين راهبين: إظهار لعظمة رب الأرباب، وتذكير بيوم الحشر والحساب، ولله در القائل:
واذكر مناقشة الحساب فإنه …لابد يحصى ما جنيت ويُكتبُ
لم ينسه الملكان حين نسيته ……بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعبُ
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه كان غفارا
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولي الصالحين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وتأملوا في أحكام الله وشرائعه، تأملوا مقاصد الدين وأسرار التشريع، فإن معرفة ذلك تزيد المرء إيمانا، وتشحذ الهمم وتقوي النفوس.
وقد اجتمع في الحج منها الشيء الكثير، فبادروا إلى هذا المجمع العظيم، وتلك الطاعة الكبرى، فإن الأمر يسير، دروب ميسرة، وطرق معبدة، وأمن ضارب أطنابه، ورغد في العيش، نعم تحتاج –والله– إلى شكر.
أخي المسلم:
لا يقعدنك الشيطان، ولا يأخذنك التسويف، ولا تلهينك الأماني، واسأل نفسك، إلى متى وأنت تؤخر الحج إلى العام القادم، أو أعوام قادمة، ومن يعلم أين تكون في العام القادم، وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "من أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه مات يهودياً أو نصرانياً" وصحح ابن كثير إسناده، وهذا في حج الفريضة.
…(28/5)
وأنت أيها الحاج: ابدأ بالتوبة، وردّ المظالم، واقض الديون، وأعدّ النفقة لأهلك وأولادك ومن تعول، واستصحب من المال الحلال ما يكفيك. وسل الله التوفيق والهداية والسلامة.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.
اللهم احفظ أمير بلادنا, وولي عهده الأمين, واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
وأقم الصلاة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(28/6)
اطبع هذه الصحفة
فرحة العيد
فعيد الأضحى هو احتفال شرعي بإتمام فريضة عظيمة من فرائض الإسلام، وركن جليل من أركانه هو حج البيت الحرام، وهو احتفال بمغفرة الله تعالى في نهاية الموسم حيث يغفر الله في يوم عرفة للمؤمنين، من وقف منهم بعرفة، ومن لم يقف ممن تاب إلى الله وأناب، ولذلك كان هذا العيد عاما لجميع المسلمين: الحجاج وغيرهم، لأنهم اشتركوا في المغفرة والعتق من النار يوم عرفة، فكذلك يشتركون في العيد الذي يتقربون فيه إلى الله بذبح القرابين من الهدي والأضاحي.
خطبة عيد الأضحى المذاعة والموزعة
بتاريخ 10 ذو الحجة 1425هـ الموافق 20/1/2005م
فرحة العيد
…الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، الله أكبر ما دار زمان وانصرم، الله أكبر ما هوى فؤاد للحرم، الله أكبر ما شدت إلى البيت الرحال، الله أكبر ما أظله البهاء والجمال، الله أكبر كلما أحرم الحجاج من الميقات، وكلما لبى ملب فزيد في الحسنات، الله أكبر كلما دخلوا فجاج مكة آمنين، وكلما طافوا بالبيت العتيق مهللين مكبرين، الله أكبر كلما عاد الزمان بعيد، وكلما أظلنا عيد الأضحى السعيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو المبدئ وهو المعيد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الحنيفية والتوحيد.
أما بعد:
فيا عباد الله:
…اتقوا الله تعالى واشكروه على نعمه العظيمة، وآلائه المتتالية الجسيمة، واعلموا أن يومكم هذا يوم عظيم، هو يوم الحج الأكبر، الذي جعله الله سبحانه وتعالى عيدا لأهل هذه الملة المباركة، ملة الإسلام، وجعله بعد يوم عرفة الذي يؤدي فيه حجاج بيت الله الحرام أعظم ركن من أركان حجهم، كما قال صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة" أخرجه الحاكم (حديث صحيح).(29/1)
فعيد الأضحى هو احتفال شرعي بإتمام فريضة عظيمة من فرائض الإسلام، وركن جليل من أركانه هو حج البيت الحرام، وهو احتفال بمغفرة الله تعالى في نهاية الموسم حيث يغفر الله في يوم عرفة للمؤمنين، من وقف منهم بعرفة، ومن لم يقف ممن تاب إلى الله وأناب، ولذلك كان هذا العيد عاما لجميع المسلمين: الحجاج وغيرهم، لأنهم اشتركوا في المغفرة والعتق من النار يوم عرفة، فكذلك يشتركون في العيد الذي يتقربون فيه إلى الله بذبح القرابين من الهدي والأضاحي.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
لقد شرع الله سبحانه وتعالى لنا في هذا اليوم الفرح والسرور، وندب هذه الأمة إلى إظهار عظمة دينها وجمال شعائرها، وهكذا يتجمع المسلمون على ذكر الله وتكبيره، فيؤدون صلاة العيد في جمع حاشد، وفي صعيد واحد، ثم يذبحون بعد ذلك ضحاياهم كما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشكره بذلك على إعطائه الكوثر، قال الله سبحانه: "إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)" الكوثر (1-2)
وأما الحجاج في هذا اليوم فيرمون جمرة العقبة الكبرى، ويشرعون في التحلل من إحرامهم.
"ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)" الحج (29)
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الله أكبر الله أكبر أحلى …نشيدي في يوم عيدي
أول صوت لدى الوليد …بدء الصلاة نور الوجود
عند الركوع عند السجود …الله أكبر ولله الحمد
أيها المسلمون:(29/2)
إن الله سبحانه وتعالى شرع لنا في هذا اليوم المبارك أن نذبح الأضاحي تقربا إلى الله عز وجل، وإحياء لسنة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لما فدى الله ابنه بذبح عظيم، وذلك بعدما ابتلاه الله سبحانه وتعالى واختبره بأن يذبح ذلك الابن، الذي جاءه على كبر وشيخوخة، فلما أنس به، واطمأنت إليه نفسه، وبلغ معه السعي، أمره الله بذبحه، فضرب أروع الأمثلة في الطاعة والاستسلام لله رب العالمين، فلما وصل الأمر إلى منتهاه، وأضجع ابنه ليذبحه وهما راضيان مستسلمان فداه الله بذبح عظيم، وسجل القرآن هذا الموقف الخالد أروع تسجيل، قال الله سبحانه: "فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)" الصافات (101-107).
فبادروا – عباد الله – بإحياء سنة أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، واذبحوا هذه الأضاحي تقربا وزلفى إلى الله واقتداء بنبيكم صلى الله عليه وسلم، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه "ضحى بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما" أخرجه الشيخان .
أيها المسلمون:(29/3)
ثم اعلموا أن أفضل الأضاحي أكرمها، وأسمنها، وأغلاها ثمنا، وتجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته، والبدنة والبقرة عن سبعة، ولا تكون الأضحية إلا من هذه الأصناف الثلاثة :الإبل، والبقر، والغنم (الضأن والمعز) لقول الله عز وجل "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)" الحج (34)
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله:
وإن من أحكام هذه الأضحية: أنه لا يجزئ فيها إلا ما أوفى السن المقدرة شرعا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحوا إلا مسنة، إلا إن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" أخرجه مسلم.
وقد بين العلماء أن المسنة من الإبل ما أتمت خمس سنين، ومن البقر ما أتمت ثلاث سنين، أو سنتين (على خلاف بين العلماء)، ويجزئ في الضأن ما أتم سنة كاملة، أو ستة أشهر (عند بعض أهل العلم)، ويجزئ في المعز ما أتم سنتين أو سنة واحدة عند بعض أهل العلم .
…والأضحية قربة إلى الله تعالى ومظهر فرح وابتهاج في يوم عيد المسلمين، فلا يجوز أن يعمد فيها الإنسان إلى معيبة عيبا بيناً يتقرب بها إلى الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع لا يجزين في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والعجفاء التي لا تنقي) أخرجه مالك وأحمد( حديث صحيح)
…ألا وإن وقت ذبح الأضحية يوم العيد هو بعد صلاة العيد، ومن ذبحها قبل ذلك كانت شاة لحم ولم تكن أضحية، ويستمر وقت ذبح الأضحية إلى نهاية آخر يومين بعد يوم العيد، أو آخر ثلاثة أيام عند بعض أهل العلم .
أيها المسلمون:(29/4)
…وإن من الآداب التي أمر بها الشرع من أراد أن يضحي: ما تضمنه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الثابت في صحيح مسلم: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره".
…أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
…الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. الحمد الذي مد لنا في أعمارنا؛ حتى شهدنا هذا العيد، والتقينا في موسم طاعة ويوم سعيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدخرها ليوم الهول الشديد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، من أقام الدين على صرح مشيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
…
أما بعد فيا عباد الله :
أوصيكم بالتقوى ، وأحثكم على شكر نعم الله الكبرى "وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)" النحل (53)
أيها المسلمون:
إن هذا اليوم يوم فرح وسرور، كذلك أراده الشرع، وأقامه الإسلام، عيدا سنويا مباركا، يعم فيه السرور، وينتشر الفرح والحبور، يتصافى فيه المسلم مع أخيه، فيتخلص الجميع من الضغائن والأحقاد ليشيع في أجواء المجتمع المسلم ذلك الحب الإيماني الجميل، فيعذب طعم الحياة، وتعلو بسمة الأخوة كل الوجوه.(29/5)
…ألا فلنجعل من هذا العيد فرصه لصلة الأرحام، وتجديد العلاقة بالأقارب والجيران، فقد أمر الله سبحانه وتعالى بذلك فقال سبحانه: "وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ (21)" الرعد (21) وقال سبحانه: "وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً (36)" النساء (36)
…وقد جاء في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت".
عباد الله:
إن فرصة العيد فرصة عظيمة لإصلاح ذات البين وتصفية ما قد يكدر الأخوة من جفاء أو هجران، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: "تعرض الأعمال في كل يوم وخميس فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا، إلا امرءاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: أنظروا هذين حتى يصطلحا".
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.
اللهم احفظ أمير بلادنا, وولي عهده الأمين, واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(29/6)
اطبع هذه الصحفة
الصدقة عنوان التكافل
إن هذه الأيام المباركة أيام عيد للمسلمين ندب فيها الشرع إلى التواصل والتراحم، والتكاتف إظهاراً لجمال الإسلام، وإعلانا لعظمته وتجسيدا لمبدأ الأخوة الإسلامية يقول الله عز وجل: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)" الحجرات (10) وإن هذا الظرف لمن أنسب الظروف لإبراز هذا التلاحم الإسلامي المطلوب عن طريق مشاركة المسلمين بعضهم لبعض مشاركة الأخ لأخيه، يعيش معه مشاكله الخاصة: إن كان لديه مشاكل – يواسيه، يرفعه من دائرة حزنه الضيقة إلى دائرة الفرح العام، يوسع عليه في معاشه، ويتصدق عليه، إن كان ممن تحتاج إلى ذلك.
خطبة الجمعة الموزعة والمذاعة
بتاريخ 11من ذي الحجة 1425هـ الموافق 21/1/2005م
الصدقة عنوان التكافل
إن الحمد لله نحمده، تعالى ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102)" آل عمران( 102) "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)" النساء (1).
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)" الأحزاب (70-71)
أما بعد:(30/1)
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله:
إن هذه الأيام المباركة أيام عيد للمسلمين ندب فيها الشرع إلى التواصل والتراحم، والتكاتف إظهاراً لجمال الإسلام، وإعلانا لعظمته وتجسيدا لمبدأ الأخوة الإسلامية يقول الله عز وجل: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)" الحجرات (10) وإن هذا الظرف لمن أنسب الظروف لإبراز هذا التلاحم الإسلامي المطلوب عن طريق مشاركة المسلمين بعضهم لبعض مشاركة الأخ لأخيه، يعيش معه مشاكله الخاصة: إن كان لديه مشاكل – يواسيه، يرفعه من دائرة حزنه الضيقة إلى دائرة الفرح العام، يوسع عليه في معاشه، ويتصدق عليه، إن كان ممن تحتاج إلى ذلك.
ألاً وإن من أهم الأمور التي ينبغي أن تلفت انتباهنا في هذه الأيام: مسألة العطف والصدقة على إخواننا الفقراء، لندخل عليهم السرور، ونشركهم في الأفراح والمسرات، وإن لذلك لأجراً عظيماً في الدنيا والآخرة، ومن ذلك: ما حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقال صلى الله عليه وسلم:( بينا رجل في فلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ قال له: فلان للاسم الذي سمع في السحابة فقال له يا عبد الله لم تسألني عن اسمي؟ قال سمعت في السحاب الذي هذا ماؤه صوتاً يقول: اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها قال: أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل منها وعيالي ثلثاً وأرد فيها ثلثه" [رواه مسلم](30/2)
نعم إن الصدقة تبارك المال وتزكيه وترفع من قيمة العبد وتحميه ألا فليبشر المتصدقون ألا فليسعد المنفقون بخير الدارين والعوض من رب العالمين قال جل جلاله "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)" البقرة ( 245 )
إن رسم الابتسامة على وجوه الفقراء هي صناعة الأتقياء وميزة الأنقياء الذين يفرحون بالصدقة عند بذلها أكثر من فرحة الفقير عند أخذها.
فلله ما أجمل حياة المتصدقين وما أحلى ذكرهم في العالمين، "لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)" آل عمران ( 92 )
أيها المسلمون:
إن الصدقة معلم بارز من معالم التكافل الاجتماعي في الشريعة الإسلامية حيث يقدمها الغني إلى الفقير في غير منة ولا فحر، قال الله سبحانه "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى"، يقدمها طيبة بها نفسه، فتسد خلة الفقير، وتصون ماء وجهه عن السؤال، وتشعره بالأمان في المجتم، فيحس بأنه غير متروك ولا ضائع فإن الشرع يضمن له حقاً في مال الأغنياء، قال الله تعالى "وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)" الذاريات (19)(30/3)
وإنها لصورة رائعة في التكافل يدعو إليها الإسلام ويجسدها، حيث لا يسع المرء المسلم – ولدية ما يتصدق به – أن يشاهد أخاه الفقير محتاجاً فلا يساعده، أخرج مسلم في صحيحة عن المنذر بن جرير عن أبيه، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار متقلدي السيوف عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى، ثم خطب فكان مما قال: تصدق رجل من ديناره من درهمه، من ثوبه من صاع بره، من صاع تمره، (حتى قال) لو بشق تمره فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت. ثم تتابع الناس حتى رأيت (يقول الراوي) كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سن في الإسلام سنة حسنه فله أجرها وأجر من عمل بها بعده" إلى آخر الحديث.(30/4)
إن هذا التسابق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإزالة ما بهؤلاء القوم من الفاقة، ليذكرنا بذلك النموذج الخالد الذي ضربه الأنصار في احتضان إخوانهم من المهاجرين، بل وإيثارهم على أنفسه، وذلك ما نوه به القرآن في قوله عز وجل: "وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)" الحشر (9)وما زالت تلك النماذج تجد امتدادها على مر التاريخ الإسلامي من غير انقطاع، وتلك أوقاف المسلمين شامخة في معظم الأقطار الإسلامية تترجم عمق أثر الصدقة في نسيج المجتمع المسلم حيث تجاوز تأثيرها الفائدة القريبة لفرد أو أفراد من الفقراء – على أهمية ذلك – إلى الأثر الحضاري الممتد التأثير؛ من إقامة المشاريع التعليمية، والمؤسسات الاجتماعية، وغير ذلك مما له الأثر العميق في بنية المجتمع واستمراره.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله:
أوصيكم بتقوى الله وطاعته وأحذركم من معصيته ومخالفته قال تعالى"وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً (131)" النساء (131)
أيها المسمون:(30/5)
إن للصدقة أبواباً واسعة وطرقاً كثيرة فلا يتصور أحدكم أن الصدقة هي أن تخرج دينارا من جيبك وتضعه في يد فقير أو مسكين فقط، نعم هذا من الصدقة، ولكن مفهوم الصدقة في الإسلام، أوسع من هذا، أرأيتم لو أن رجلاً لا يملك حتى هذا الدينار ليتصدق به، أفيحرم أجر الصدقة؟ إذا لم يكن عندك ما تتصدق به على الآخرين فكف شرك عنهم ، فهذا صدقة منك على نفسك، روى البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث أبي ذر،جندب بن جنادة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي الرقاب أفضل؟ قال: "أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمناً، قلت: فإن لم أفعل، قال: تعين ضائعاً أو تصنع لأخرق – وهو الذي لا يتقن ما يحاول فعله– قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل ؟ قال: تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك".
ومن مجالات الصدقة أيضاً: ما يناله أهل المزارع والحدائق ونحوها، لو احتسبوا الأجر عند الله، فإن الطير لو وقع على هذه الأشجار، وأكل منها، حسبت له عند الله صدقة، كما جاء في صحيح البخاري من رواية أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرساً، إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة " وفي رواية: "فلا يغرس المسلم غرساً، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير، إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة" وفي رواية:" لا يغرس مسلم غرساً، ولا يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شئ إلا كانت له صدقة".
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات,الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.
اللهم احفظ أمير بلادنا, وولي عهده الأمين, واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
---(30/6)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(30/7)
اطبع هذه الصحفة
وكونوا مع الصادقين
إن منزلة العبد عند ربه هي بإيمانه وخلقه، وقيمة الإنسان عند الله وعند الخلق هي هذا الإيمان والعمل الصالح، لا بماله ولا بقوته ولا بولده،قال الله تعالى: "وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)" [سبأ: 37].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 18 من ذي الحجة 1425هـ الموافق 28/1/2005م
وكونوا مع الصادقين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ(102)" آل عمران (102) "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)" النساء (1).
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) "الأحزاب (70-71)
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون:(31/1)
إن منزلة العبد عند ربه هي بإيمانه وخلقه، وقيمة الإنسان عند الله وعند الخلق هي هذا الإيمان والعمل الصالح، لا بماله ولا بقوته ولا بولده،قال الله تعالى: "وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)" [سبأ: 37].
ألا وإن الأعمال الصالحة تتفاضل في الثواب والصفات الحميدة، ويزيد بعضها على بعض في الأجر والمنازل بحسب عموم نفعها لصاحبها وللخلق، كما أن الأعمال السيئة والأفعال الرديئة والصفات القبيحة يعظم عقابها وجزاؤها الأليم بحسب ضررها لصاحبها وللخلق قال الله تعالى: "وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)" [الأحقاف: 19].
ألا وإن الصدق خلق كريم ووصف عظيم، لا يتصف به إلا ذو القلب السليم، أمر الله تعالى به في كتابه فقال عز وجل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ (119)" [التوبة: 119].
الصدق يكشف عن معدن الإنسان وحسن سريرته وطيب سيرته، كما أن الكذب يكشف عن خبث الطوية وقبح السيرة. الصدق منجاة والكذب مرداة. الصدق محبوب ممدوح في العقول السليمة والفطر المستقيمة، حث على الصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)) رواه البخاري ومسلم.(31/2)
وقد وعد الله على الصدق بالثواب العظيم والجزاء الكبير في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يرزق صاحب الصدق حسن الأحدوثة ومحبة الله ومحبة الخلق، وتثمن أقواله، ويؤمن جانبه، ويريح الناس من شره، ويحسن إلى نفسه وإلى غيره، ويعافى من الشرور والمهالك التي تصيب الكذابين، ويطمئن باله فلا يمزقه القلق، ولا يعبث به الخوف من الفضيحة، فعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة)) رواه الترمذي وقال: حديث صحيح.
وتكون عواقب الصادق في حياته إلى خير، كما في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة تخلفه في غزوة تبوك، (قال: قلت: يا رسول الله، إني – والله – لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي.ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عقبى الله عز وجل) رواه البخاري ومسلم، أي: أرجو من الله العاقبة الحميدة في صدقي، وقد كان ذلك.
وأما ثواب الصدق في الآخرة فرضوان الله تعالى والدرجات العلى في الجنة التي فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، يقول الله عز وجل: "وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً (69)" [النساء: 69].
فما حقيقة هذا الصدق الذي وعد الله عليه أحسن الثواب ونجى صاحبه من العذاب؟
الصدق صدق قول وصدق فعل:(31/3)
فصدق القول أن يقول الحق بتبليغ كلام الله تعالى أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يأمر بحق، أو ينهى عن باطل، أو يخبر بما يطابق الواقع، قال الله تعالى: "وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (34)" [الزمر: 33، 34].
والصدق في الفعل هو معاملة الله تعالى بصدق نية وإخلاص ومحبة ويقين ووفاء ودوام عبادة، ومعاملة الخلق بصدق ورحمة ووفاء، بغير تقلب ولا كذب ولا خداع ولا مكر، قال الله تعالى:" لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) [البقرة: 177]، وقال تعالى: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)" [الأحزاب: 23].(31/4)
والإيمان أصله الصدق والتصديق والوفاء، فالصدق إذن يكون بالأقوال ويكون بالأفعال، وقد كان السلف رضي الله عنهم أشد الناس تمسكا بخلق الصدق مع ربهم ومع عباد الله، عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله، إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت، فو الله ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقى) رواه البخاري ومسلم.
ووصف الله المهاجرين الأولين بخلق الصدق فقال تعالى:" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)" [الحشر: 8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الملك القدوس السلام، رفع منار الإسلام، وعم خلقه بالنعم العظام، وأحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدا عبده ورسوله، كشف الله به دياجير الظلام، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الأئمة الأعلام.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتقربوا إليه بما يرضيه.
أيها المسلمون:(31/5)
إن الصدق يحبه الله ورسوله، ويعرف فضله العقلاء الحكماء، دعا إليه نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم مع دعوته لعبادة الله وحده أول بعثته، وأمر به في جميع أيام رسالته، عن أبي سفيان رضي الله عنه: أن هرقل سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بلغه خبره، فقال فماذا يأمركم؟ قلت: يقول: ((اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة)). رواه البخاري ومسلم [1].
وقال تعالى: "إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)" [الأحزاب: 35].
عباد الله:
كونوا من أولياء الله الصادقين، كونوا من الصادقين في أقوالكم وأعمالكم مع ربكم ومع عباد الله تعالى، واجتنبوا الكذب الذي يجانب الصدق ويجانب الإيمان؛ فإن الكذب من المكر والخداع، وإنه ناشئ عن التلون وعن الأهواء، فإن الصدق باب من أبواب الجنة لا يقرب أجلا ولا يمنع رزقا ولا يفوت مصلحة.
عباد الله:
"إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)" [الأحزاب: 56]، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً)).
فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات,الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات.(31/6)
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.
اللهم احفظ أمير بلادنا, وولي عهده الأمين, واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(31/7)
اطبع هذه الصحفة
احفظ الله يحفظك
لقد أنزل الله سبحانه وتعالى هذا الشرع المبارك على رسوله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فمن استمسك به من الناس وسلك طريقه واعتصم بحبله، فأولئك هم المؤمنون المتقون الحافظون لحدود الله، وأولئك هم المحفوظون بحفظ الله في الدنيا والآخرة.
وما من أحد إلا وهو في أشد الحاجة وأمس الافتقار إلى حفظ الله سبحانه وتعالى وكلاءته ونصرته، فكيف ينال الإنسان حفظ الله تعالى؟
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 25 من ذي الحجة الموافق 4/2/2005 م
احفظ الله يحفظك
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" (آل عمران: 102) "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً" (النساء: 1) "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً" (الأحزاب: 70, 71)
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون:(32/1)
لقد أنزل الله سبحانه وتعالى هذا الشرع المبارك على رسوله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فمن استمسك به من الناس وسلك طريقه واعتصم بحبله، فأولئك هم المؤمنون المتقون الحافظون لحدود الله، وأولئك هم المحفوظون بحفظ الله في الدنيا والآخرة.
وما من أحد إلا وهو في أشد الحاجة وأمس الافتقار إلى حفظ الله سبحانه وتعالى وكلاءته ونصرته، فكيف ينال الإنسان حفظ الله تعالى؟ لقد أجاب عن هذا السؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كنت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال: "يا غلام؛ إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحفظنا الله تعالى فجعل حفظ الله تعالى إيانا نتيجة لحفظنا لله عز وجل (احفظ الله يحفظك) فما معنى حفظنا لله تعالى؟ إن معنى حفظنا لله تعالى هو: أن نحفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه إلى ما نهى عنه، فإذا نحن فعلنا ذلك كنا من المؤمنين المتقين الذين ينالهم حفظ الله ورعايته الخاصة، قال الله عز وجل: "إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا" (الحج: 38).(32/2)
وتلك بشارة عظمى يسكن إليها قلب المؤمن وهو يعيش في خضم الصراع بين قوى الخير والشر في هذه الحياة، نعم، "إن قوى الشر والضلال تعمل في هذه الأرض، والمعركة مستمرة بين الخير والشر والهدى والضلال، والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ أن خلق الله الإنسان، والشر جامح، والباطل مسلح، وهو يبطش غير متحرج، ويضرب غير متورع، ويملك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه، وعن الحق إن تفتحت قلوبهم له. فلا بد للإيمان والخير والحق من قوة تحميه من البطش، وتقيه من الفتنة، وتحرسه من الأشواك والسموم". ولم يشأ الله تعالى أن يكلَ المؤمنين إلى قوتهم الذاتية فأخبرهم بأنه معهم وبأنه يدافع عنهم.
…عباد الله:
…إن الله سبحانه وتعالى يحفظ عباده المتقين في الدنيا والآخرة، يحفظهم - في الدنيا - في أنفسهم وأولادهم، وأهليهم، وأموالهم قال الله عز وجل: "أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ" (يونس: 62- 64) يقول الإمام ابن كثير في تفسيره تعليقا على هذه الآية: "يخبر الله تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما فسرهم بهم، فكل من كان تقيا كان لله وليا و(لا خوف عليهم) أي فيما يستقبلونه من أهوال الآخرة (ولا هم يحزنون) على ما وراءهم في الدنيا".(32/3)
وقد قص علينا القرآن كيف حفظ الله كنز الغلامين اليتيمين بإقامة موسى والرجل الصالح للجدار الذي هو تحته وقد أراد أن ينقض، ثم ذكر أن أباهما كان صالحا، فانظر كيف حفظه الله في ذريته، قال الله عز وجل: "وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ" (الكهف: 82).
إن من حفظَ الله سبحانه وتعالى حفظه الله، فمن حفظ الله في شبابه حفظه الله في كبره، وضعف قوته، ومتعه بسمعه وبصره وقوته وعقله، كان بعض الصالحين ممن طال بهم العمر وحفظ الله عليهم حواسهم يقول: جوارح حفظناها في الصغر فحفظنا الله بها في الكبر.
…إخوة الإيمان:
إن هنالك نماذج وأمثلة كثيرة في القديم والحديث تقص على الناس من أنباء حفظ الله للمتقين ما تحصل به العظة والاعتبار، وحسبنا أن نذكر ببعض النماذج الثابتة في الوحي، لبعض الأنبياء والصالحين، فمن تلك النماذج ما سجله لنا القرآن عن نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين حفظ الله سبحانه في القيام بدعوة الحق والتوحيد وتحطيم الأصنام، فلما جاءه الابتلاء ورمي في النار جاء أمر الله تعالى: "قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ" (الأنبياء: 69) فماذا حصل "وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ" (الأنبياء: 70).(32/4)
وذلك نبي الله موسى وقد جاهد في الله وبلّغ رسالته إلى فرعون وقومه، وفي آخر المطاف وبعد أن أوحى الله إليه أن يسري بأصحابه واتبعهم فرعون وقومه ووجدوا من أمامهم البحر ومن ورائهم فرعون؛ جاءه حفظ الله: "فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ" (الشعراء: 60- 62).
وفي ثنايا قصة موسى وفرعون يبرز نموذج رائع هو مؤمن آل فرعون، فها هو يبرئ ذمته ويقدم ما لديه من نصائح صادقه ثم يقول لآل فرعون: "فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ" (غافر: 44) فكانت النتيجة: "فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ" (غافر: 45).…
أيها المسلمون:(32/5)
…ومن الأمثلة الرائعة لحفظ الله تعالى لعباده المتقين ما حدثنا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شأن أصحاب الغار الثلاثة فقال: "انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالاً. فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت، والقدح على يدي، أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه. وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي، وفي رواية: كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأردتها على نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها (وفي رواية: فلما قعدت بين رجليها) قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك: من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي. فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه، فلم يترك منه شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج(32/6)
عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون" متفق عليه.
وإن تلك لأمثلة بليغة لحفظ الله تعالى لعباده الصالحين الذين حفظوه في أوامره ونواهيه فكانوا من المتقين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولي الصالحين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فأوصيكم بتقوى الله وطاعته وأحذركم من معصيته ومخالفته.
عباد الله:
إن أعظم نتيجة يجنيها المؤمن من حفظه لأوامر الله ونواهيه هو أن الله سبحانه وتعالى يهديه ويوفقه ويحفظ له دينه من الفتن حتى يلقى الله وهو عنه راض، يقول الله عز وجل "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا" (العنكبوت: 69) ويقول سبحانه "وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً" (النساء: 66, 68) أي في الدنيا والآخرة كما قال ابن كثير.
ومن ألوان حفظ الله سبحانه وتعالى لعباده المتقين ما يحفظ لهم من أجور أعمال كانوا يداومون عليها، حين ينشغلون عنها بمرض أو سفر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل صحيحا مقيما" أخرجه البخاري.
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.(32/7)
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات,الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.
اللهم احفظ أمير بلادنا, وولي عهده الأمين, واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(32/8)
اطبع هذه الصحفة
حرمة الدماء في الإسلام
إنّ مِن أعظم نِعم الله تعالى على عباده: أنْ خلقهم وأوجدهم في هذه الحياة الدنيا؛ إذ أنّ هذه الحياةَ هي طريق الوصول إلى ثواب الله العظيم, والنعيم المقيم الذي يفوق حدَّ الوصف, وذلك لمن أطاع خالقه ومولاه جل جلاله, فعمِل بكتابه الكريم, وائتمر بأمره وانتهى عن نهيه.
وقد خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم, وفي أجمل صورة, وأغدق عليه بجميع أسباب العيش ومقوِّمات الحياة, مِن غذاءٍ وماء, وصحةٍ وهواء, وغيرِ ذلك مما في السموات والأرض, كما قال جل شأنه: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية:13 ].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 2 محرم 1426هـ الموافق 11/2/2005م
حرمة الدماء في الإسلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا. مَن يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله تعالى وطاعته.
أيها المسلمون:
إنّ مِن أعظم نِعم الله تعالى على عباده: أنْ خلقهم وأوجدهم في هذه الحياة الدنيا؛ إذ أنّ هذه الحياةَ هي طريق الوصول إلى ثواب الله العظيم, والنعيم المقيم الذي يفوق حدَّ الوصف, وذلك لمن أطاع خالقه ومولاه جل جلاله, فعمِل بكتابه الكريم, وائتمر بأمره وانتهى عن نهيه.(33/1)
وقد خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم, وفي أجمل صورة, وأغدق عليه بجميع أسباب العيش ومقوِّمات الحياة, مِن غذاءٍ وماء, وصحةٍ وهواء, وغيرِ ذلك مما في السموات والأرض, كما قال جل شأنه: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية:13 ].
وشرع له من الأحكام ما يحفظ له حياته, ويجعلها له حياةَ أمن وأمان, وسعادة واطمئنان, بل شرع له ما يحفظ له ضرورياتِه الخمسَ كلَّها التي هي الدين والعقل والنفس والعرض والمال.
فمِن أجل ذلك كلِّه, كان إزهاقُ النفس المعصومة في الإسلام مِن أعظم الجرائم وأبشعها؛ إذ هو نقضٌ ومخالفةٌ للغاية الإلهية والإرادة الربّانية, فلا غَرْوَ أن اعتبر الإسلامُ قتلَ النفس من أكبر الكبائر, وقرنه مع الشرك في عدة آيات, قال تعالى: (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الأنعام: 151 ].(33/2)
وفي سورة الفرقان, ذَكَر سبحانه صفاتِ عبادِ الرحمن, فقال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً) إلى أن قال: (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) [الفرقان: 68 – 70 ].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه, عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أكبر الكبائر: الإشراك بالله, وقتل النفس, وعقوق الوالدين, وقول الزور " أخرجه البخاري.
ولئن كان هذا في قتل أيِّ نفسٍ معصومة, فكيف الحال في قتل النفس المؤمنة بغير حق ؟ قال تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) [النساء:93 ].
ولهذا فقد نفى الله تعالى أن يكون هذا من شأن المؤمن؛ وذلك للدلالة على عظم جرمه وفظاعته, فقال تعالى قبل الآية السابقة: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً) [ النساء: 92 ]. ( وما كان لمؤمن ): أي ما صَحّ له ولا استقام ولا لاق بحاله.(33/3)
أيها المسلمون:
وإن أردتم أن تقفوا على عِظم قتل المسلم, فاستمعوا إلى هذا البيان النبوي العظيم, حيث يقول رسولنا - صلى الله عليه وسلم - : " لَزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم " أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه.
فتأمَّلوا – عبادَ الله – قيمةَ دم المسلم وغلائه عند خالقه وبارئه, وأنه أغلى من الدنيا بجميع ما فيها.
وما أعجب ما حصل مع أسامة بن زيد رضي الله عنه حيث يقول – كما في الصحيحين –: " بعثنا رسول - صلى الله عليه وسلم -إلى الحُرَقة, فصبّحنا القوم فهزمناهم, ولحِقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم, فلما غشِيناه قال لا إله إلا الله, فكف الأنصاريُّ, فطعنته برمحي حتى قتلتُه, فلما قدمنا بلغ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أسامة: أقتلتَه بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ قلت: كان متعوِّذا. فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم".
ثم إنّ باب التوبة الواسع ليضيق على الإنسان إذا أراق دمًا معصومًا؛ ففي صحيح البخاري, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لن يزال المؤمنُ في فسحةٍ من دينه ما لم يُصِبْ دمًا حراما ".
وعن معاوية رضي الله عنه,قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا, أو الرجل يَقتلُ مؤمنًا متعمدا " أخرجه أحمد والنسائي.
وبماذا عسى أن يجيب القاتل ربه حين يلقاه يوم القيامة ؟ فعن ابن عباس رضي الله عنهما, عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يجيء المقتولُ بالقاتل يوم القيامة, ناصيتُه ورأسه بيده, وأوداجه تَشْخُبُ دمًا, يقول: يا رب: سل هذا فيم قتلني, حتى يُدنيَه ( أي يدني المقتول ) من العرش " أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه. ( الأوداج: العروق المحيطة بالعنق, وتَشْخُب: أي تسيل ).
أيها المؤمنون:(33/4)
إنّ النفس المعصومة في الإسلام لا تقتصر على المسلم فحسب, وإنما تتعدّاه إلى كل من حَرّمَ علينا الشرعُ قتله بغير حق, وعلى هذا فإنّ النفس المعصومة في الإسلام تشمل ثلاثة أصناف:
أولاً: المسلم: ففي الصحيحين, عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه, أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس, والثيِّب الزاني, والتارك لدينه المفارق للجماعة".
قال الإمام ابن كثير – رحمه الله – في " تفسيره " : " ثم إذا وقع شيء من هذه الثلاث, فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله, وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه " اهـ.
ثانيًا: الذي: وهو الكتابيُّ - ومَن في حكمه - ممن له عهد دائمٌ من الإمام أو نائبه, بالأمن على نفسه وماله نظيرَ التزامِه الجزيةَ ونفوذِ أحكام الإسلام الدنيوية عليه.
ثالثًا: المستأمَن: وهوكل كافر دخل دار الإسلام على أمانٍ مؤقت من الإمام أو أحد من المسلمين.
أخرج البخاري في صحيحه, عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قتل معاهَدًا لم يَرَحْ رائحة الجنة, وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما ".
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني شارحًا المراد بالمعاهَد في هذا الحديث: "المراد به: من له عهد مع المسلمين, سواء كان بعقد جزية, أو هدُنةٍ من سلطان, أو أمانٍ من مسلم ".
عباد الله:
وبعد هذه النصوص القطعية الصريحة من الكتاب والسنة, والتي عليها إجماع علماء الأمة, لا يَحِل لأي إنسان أن يستبيح قتلَ نفسٍ بريئة تحت أي مبرر يتوهمه, ولا يعتبر المخالف في ذلك معذورًا أو مجتهدًا؛ فإنّ هذه المسائل قطعيةٌ في ثبوتها وفي دلالتها, وعليها الإجماع القاطع, ثم إنّ الاجتهاد لا يكون إلا ممن توفرت فيه شروطه وهو للراسخين في العلم المتمكِّنين فيه.(33/5)
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق الإنسان وشرع له ما يحفظ حياته, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حرّم سفك دم الإنسان بغير حق وبرهان, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بعثه الله تعالى بالحنيفية السمحة وحذّر أمته من الظلم والبغي والعدوان, فصلوات الله تعالى وسلامه عليه وعلى آله وصحبه على ممر العصور والأزمان.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق تقواه, واعملوا بطاعته ورضاه.
أيها المسلمون:
لقد خطب نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع خُطبةً عصماء, بيّن فيها معالم في هذا الدين القويم, وأسس فيها أركان التعامل للمسلمين, وكان ذلك في يوم عرفة, في يوم الجمعة من شهر ذي الحجة الذي هو أحد الأشهر الأربعة الحُرُم, فكان مما قال فيها – كما هو في صحيح مسلم -: " إن دماءكم وأموالكم حرامٌ عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا " ثم قال: " وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتابَ الله ".
فلْنعتبر أيها المسلمون بما ذكره الله تبارك وتعالى لنا في كتابه الكريم؛ حيث قال سبحانه – وهو أحكم الحاكمين - : (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) [المائدة: 32 ].
أيها المسلمون:(33/6)
لِنتمهّلْ قليلاً, ولْنفكر صادقين فيما ينفعنا وينفع إخواننا المسلمين في كل مكان, وذلك بالإعانة على كل ما يؤدي إلى استقرارنا وأمننا, وحفظنا وحقن دمائنا, ولنقف صفًّا واحدًا في مواجهة العادات الدخيلة على ديننا وأخلاقنا, ولنتكاتف مع مجتمعنا وولاة أمورنا لما فيه صلاحُ بلادِنا في دنيانا ومعادنا.
ومن أراد مرضاة الله تعالى حقا, والحصول على الجنة والثواب صدقا، فإن أبواب الخير مفتوحة, وهي كثيرة ومتنوعة, ولا سيما في هذا البلد المبارك إن شاء الله.
ومِن أحسن تلك الأبواب: باب الدعوة إلى دين الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة, قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت/33], ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:"...فوالله, لأن يَهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حُمْرِ النَّعَم " متفق عليه.
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واحقن اللهم دماء المسلمين والأبرياء أجمعين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, إنك سميعٌ قريب مجيب الدعوات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين, واجعل اللهم هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين, وتقبل اللهم شهداءنا وشهداء المسلمين أجمعين.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(33/7)
اطبع هذه الصحفة
الإمام مالك بن أنس
إمام من الأئمة، عليه أجمعت الأمة، وذكره يزيد الإيمان والهمة، نشأ في طيبة الطيبّة، ونهد من معينها، فارتفع ذكره، وملأ الأرض علمه، جلس للتدريس في جنبات المسجد النبوي الشريف، حتى إذا قيل: عالم المدينة أو إمام دار الهجرة، لم ينصرف إلا إليه, إنه الإمام مالك رحمه الله تعالى.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 9 محرم 1426هـ الموافق 18/2/2005م
الإمام مالك بن أنس
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله عز وجل وطاعته, قال تعالى: { وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً } [النساء/131].…
أيها المسلمون:
منذ أن كرم الله هذه الأمة ببعثة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأفواج الدعاة المصلحين يتعاقبون فيها، علماء مخلصين، ومربين ربانيون، داعين إلى الحق، حاكمين بالقسط، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر.
وإن العناية بسير الرجال تورث الإحساس بالعزة، وتنبت الشعور بالقوة، وتهدي إلى التمسك بالحق، وتقود إلى السمو في الخلق.
إخوة الإسلام:
إمام من الأئمة، عليه أجمعت الأمة، وذكره يزيد الإيمان والهمة، نشأ في طيبة الطيبّة، ونهد من معينها، فارتفع ذكره، وملأ الأرض علمه، جلس للتدريس في جنبات المسجد النبوي الشريف، حتى إذا قيل: عالم المدينة أو إمام دار الهجرة، لم ينصرف إلا إليه, إنه الإمام مالك رحمه الله تعالى.(34/1)
قال عنه الإمام الشافعي: "إذا ذكر العلماء فمالك النّجم، ومالك حجّة الله على خلقه بعد التابعين"، وقال عنه الإمام النووي: "أجمعت طوائف العلماء على إمامة مالك وجلالته، وعظيم سيادته، وتبجيله وتوقيره، والإذعان له في الحفظ، والتثبت وتعظيم حديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه".
ولد الإمام مالك بن أنس في مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سنة ثلاث وتسعين للهجرة, في خلافة سليمان بن عبد الملك. نشأ محبا للعلم مغترفا منه، على الرغم من فقره وقلة حاله. أحسنت أمُّه تربيته، ووفقت في تنشأته، أتته يوما وقالت له: "اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه"، وهكذا فلتكن الأمهات، على الهدى والأدب يربّين، ولصلاح الولد يسعيْن، ولقد صبغت هذه الكلمة حياة مالك حقيقة لا قولا، وواقعا لا خيالا، فغدا مدرسة في الأدب ينهد طلابه من هيئته وسمته، وتقتبس الأمة من سيرته، قال مالك لفتى من قريش: "يا ابن أخي تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم".
إن العلم إذا فصل عن الأدب فمهما كان المخزون العلمي والثراء المعرفي، فإنك واجد ضعف شديدا في الأخلاق والسلوك، ولا خير في علم امرئ لم يكسبه أدبا ويُهذبه خلق.
الجفوة بين العلم والأدب تفرز أعرافا مرضيّة، منها:التهجم على العلماء، والتطاول على الفضلاء، وسوء الأخلاق، وشذوذ السلوك، وعقوق الوالدين، والتقليد الأعمى.
قرأ الإمام مالك على شيوخ كثيرين، وقد كانت المدينة وقتها تعج بالعلماء من التابعين، تحتضنهم الجامعة الكبرى، والمدرسة الأولى، مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، علماء أطهار الأنفاس، بعلمهم وفضلهم سادوا الناس، تربىّ عليهم الإمام مالك رحمه الله، ونشأ في ربوعهم، مما ساعد على بناء شخصيته، وقوة نفسه، من هؤلاء الكرام: عبد الرحمن بن هرمز، وربيعة بن أبي عبد الرحمن المعروف بربيعة الراي، ونافع مولى ابن عمر, ومحمد بن شهاب الزهري، وهم من كبار الأئمة، وأعلام في هذه الأئمة.(34/2)
أتباع سيد المرسلين:
جلس الإمام مالك للفتيا، ولم يجلس حتى شهد له سبعون شيخا من أهل العلم أنه موضع لذلك، وفرق بين من يزكي نفسه ويصدرها، ومن يصدره أهل العلم والفضل, يقول الإمام مالك: "وليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس، حتى يشاور أهل الصلاح والفضل، فإن رأوه أهلا لذلك جلس، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخا من أهل العلم أني موضع لذلك".
إخوة الإيمان:
من الخطإ احتقار أعمال الآخرين، ومن الجهل ظنُّ بعضنا أن ما يقوم به من خير أفضل من غيره، كتب إلى الإمام مالك أحد عبّاد عصره، يحضه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك: "إن الله قسّم الأعمال كما قسّم الأرزاق، فربّ رجل فتح له في الصلاة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، وآخر فتح له في العلم، ونشر العلم من أفضل الأعمال، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر".
فبالصدق والاتباع: أفراد الأمة يكمل بعضهم بعضا، لا غنى لأحدهم عن الآخر، قال تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة/71]، وفي الحديث الصحيح: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" متفق عليه.
كان الإمام مالك إذا سئل عن مسألة قال للسائل:"انصرف حتى أنظر فيها" فينصرف ويتردد فيها، فقيل له في ذلك فبكى وقال: "إني أخاف أن يكون لي من السائل يوم وأي يوم".(34/3)
وسأله رجل من أهل المغرب عن مسألة كلفه به أهل تلك البلاد، فكان جواب الإمام مالك: "لا أدري، ما ابتلينا بهذه المسألة في بلدنا، وما سمعنا أحدا من أشياخنا تكلم فيها، ولكن تعود "وفي اليوم التالي عاد الرجل فقال له الإمام مالك: " سألتني وما أدري ما هي" فقال الرجل: يا عبد الله تركت خلفي من يقول: ليس على وجه الأرض أعلم منك، فقال الإمام مالك: "لا أحسن".
وسأله أحدهم عن مسألة، وطلب وقتا للنظر فيها، فقال السائل: هذه مسألة خفيفة، فرد الإمام مالك: "ليس في العلم شيء خفيف" أما سمعت قول الله تعالى: "إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا"، وقال بعضهم: "لكأنما مالك – والله – إذا سئل عن مسألة واقف بين الجنّة والنار".
هؤلاء العلماء الذين ملؤوا الدنيا بعلمهم وعملهم، يقول أحدهم أحيانا: "لا أدري"، وإنك لتعجب أشد العجب من أقوام ليس لهم حظ يذكر من العلم الشرعي، ثم يتقحمون حمى الشريعة، فيخوضون تحليلا وتحريما، يوجهون وينظرون، إن على الأمة أن تكل الأمر إلى أهله، ويعطوا القوس باريها، وأن لا يدخلوا فيما لا يحسنون، يقول مالك: "من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنّة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب".
ومع هذا العلم الجم، والورع والزهد، كان إقباله على الله عظيما، وعبادته في السر أكثر منها في العلانية.
يقول ابن المبارك "رأيت مالكا فرأيته من الخاشعين، وإنما رفعه الله بسريرة بينه وبينه، وذلك أني كثيرا ما كنت أسمعه يقول: من أحب أن يفتح له فرجة في قلبه، وينجو من غمرات الموت، وأهوال يوم القيامة, فليكن عمله في السر أكثر منه في العلانية".(34/4)
ويقول بعض معاصري الإمام مالك: "خرجت ليلة بعد أن هجع الناس هجعة، فمررت بمالك بن أنس، فإذا به قائم يصلي حتى بلغ" ثم لتسألن يومئذ عن النعيم "فبكى بكاء طويلا، وجعل يرددها ويبكي حتى طلع الفجر، فلما تبيّن له ركع، فصدت إلى منزلي فتوضأت ثم أتيت المسجد فإذا به في مجلسه، والناس حوله فلما أصبح نظرت فإذا أنا بوجهه قد علاه نور حسن".
وقال مطرف: "لقد رأيت مالكا وهو جالس في المجلس بعد الصبح يدعو، ووجهه يصفر ويخضر حتى أطال الدعاء"، وقال بن وهب: قيل لأخت مالك: "ما كان يشتغل به مالك في بيته؟ " قالت: "المصحف في بيته".
يقول الإمام الذهبي: "قد اتفقت لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لأحد غيره، أحدها: طول العمر والرواية، ثانيها: الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم، ثالثها: اتفاق الأئمة على أنه حجة صحيح الرواية، رابعها: إجماع الأئمة على دينه وعدالته واتباعه للسنن، خامسها: تقدمه في الفقه والفتوى وصحة قواعده".
إذا ما عدّت العلماء يوما
فمالك في العلوم هو الضياء
تبوّأ ذروة العلماء قوم
فهم كالأرض وهو لهم سماء
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني بهدي سيد الثقلين, أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي رفع قدر العلماء, واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمرنا بالاقتداء بالفضلاء, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد المرسلين والأنبياء, اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الأخيار النجباء.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس، واقتدوا بالعلماء المصلحين، المتبعين لنهج سيد المرسلين، فهم أعلم الناس بشرع الله تعالى، وأشدهم خشية له، قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر/28].
معاشر المسلمين:(34/5)
وبعد حياة حافلة بالعلم والهدى، والخشية والتقى، مرض الإمام مالك اثنين وعشرين يوما، ثم جاءته منيته، قال بكر بن سليم الصراف: دخلنا على مالك في العشية التي قبض فيها فقلنا: يا أبا عبد الله, كيف تجدك ؟ قال: "ما أدري ما أقول لكم، ألا إنكم ستعاينون غدا من عفو الله ما لم يكن لكم في حساب" قال: ما برحنا حتى أغمضناه، كان ذلك سنة تسع وسبعين ومائة لعشر خلون من ربيع الأول.
مات هذا الإمام الجليل، وقد خلّف للأمة مذهبا فقهيا، وتراثا علميا، ويكفيه من الشرف أن جمع للناس سنّة النبي - صلى الله عليه وسلم - في موطئه، وأن قدّم للأمة تلاميذ نجباء، حملوا الراية من بعده، كالإمام الشافعي وأسد بن الفرات وعبد الله بن وهب.
رحم الله الإمام مالك رحمة واسعة، وأسكنه فسيح الجنات، جزاء ما علّم وألف ونصح.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين, واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(34/6)
اطبع هذه الصحفة
حب الأوطان من الدين
كل خير يجده الإنسان في ثرى وطنه، وكل نعمة ينعم الله بها عليه تعقد وشيجة ورباطا زائداً بينه وبين ذلك الصقع من أرض الله، ولا ينسى الإنسان أن تلك الأرض هي التي احتضنته واكتنفته وهو أحوج ما يكون إلى ذلك قبل أن ينشئ أي علاقة أخرى مع أي مكان كان.
ونحن نلاحظ أن هذا الحنين إلى الأوطان أمر في غريزة كثير من المخلوقات فهي تنجذب إلى مآلفها ومواطنها كلما فارقتها أو ابتعدت عنها، فحنين الإبل إلى مرابضها والأطيار إلى أوكارها كل ذلك من سنة الله.
بتاريخ 16 محرم 1426هـ الموافق 25/2/2005م
حب الأوطان من الدين
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون } ]آل عمران: [102. { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا } ]النساء: 1]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } ] الأحزاب: 70-[71
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون:(35/1)
…إن حب الوطن والتعلق به والحنين إليه أمر فطري مركوز في النفوس البشرية، فهو مهد الطفولة، ومدرج الصبا، ومغنى الشباب، وسجل الذكريات، يعيش فيه الإنسان فيألف أرضه وسماءه، ويرتبط بسهوله وجباله وأشجاره وغدرانه، يألف حره وبرده وتقلباته، ويحس فيه بالسعادة الغامرة والأنس الجميل.
وحبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكرت أوطانهم خطرت لهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذالكا
فكل خير يجده الإنسان في ثرى وطنه، وكل نعمة ينعم الله بها عليه تعقد وشيجة ورباطا زائداً بينه وبين ذلك الصقع من أرض الله، ولا ينسى الإنسان أن تلك الأرض هي التي احتضنته واكتنفته وهو أحوج ما يكون إلى ذلك قبل أن ينشئ أي علاقة أخرى مع أي مكان كان.
ونحن نلاحظ أن هذا الحنين إلى الأوطان أمر في غريزة كثير من المخلوقات فهي تنجذب إلى مآلفها ومواطنها كلما فارقتها أو ابتعدت عنها، فحنين الإبل إلى مرابضها والأطيار إلى أوكارها كل ذلك من سنة الله.
عباد الله:
…إن الإسلام لا يتنكر للفطرة البشرية ولا يحارب الطباع الإنسانية، بل تلك أحداث السيرة تقص علينا كيف وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخاطب مكة ذلك الخطاب الذي يُدمع العين ويجرح القلب بعد ما مكث بين أظهر أهلها ثلاث عشرة سنة يدعوهم لعبادة الله وحده ونبذ الشرك، فناله منهم أعظم الإيذاء والتكذيب.
…وحين طفح الكيل وبلغ السيل الزبى وقرروا قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مؤامرة دار الندوة ، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة، ولكنه لم يخرج ناقما عليها ولا كارها لها لما ناله فيها خلال تلك السنين، بل ودعها بتلك الكلمات التي تقطر رقة وحبا وحنينا وإيمانا ، فقال: "والله إنك لأحب البقاع إلى الله وإنك لأحب البقاع إلي، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت".(35/2)
وكذلك كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحنون إلى مكة بعد ما قدموا المدينة ووجدوا فيها من الإيواء والمؤازرة والتبجيل ما شهد القرآن لأهله شهادته الخالدة: { وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الحشر: 9]
فلم تُنس المدينة أهل مكة الحنين إليها ، فكان بلال رضي الله عنه وقد أصابته حمى المدينة ينشد هذه الأبيات ويرفع بها عقيرته:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردَنْ يوما مياه مجنة
وهل يُبدونْ لي شامة وطفيل
إخوة الإيمان:(35/3)
…وها نحن قد أكرمنا الله سبحانه وتعالى في وطننا هذا بأنواع النعم فأغدق علينا من الرزق الحلال وجعل بلادنا آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، أطعمنا من جوع وآمننا من خوف، كبت أعداءنا وأجاب دعاءنا، وهيأ لنا من أسباب الراحة والسعادة ما لا قبل لنا بشكره ولو صرفنا في ذلك العمر كله ، أمن قائم ، وعيش رغيد ، وحياة هنيئة ، عمار وأمان وقرار، وقد امتن الله تعالى ببعض ذلك على قريش فقال عز وجل: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } [العنكبوت: 67] وإنها لمنة عظيمة أن يرزقك الله الأمن، في حين أن الناس إلى جانبك يتخطفون من الخوف، لا يهنأ لهم عيش ولا يهدأ لهم بال ولا يقر لهم قرار، كما خاطب الله تعالى المسلمين بعد بدر مذكراً لهم بما كانوا فيه في مكة : { وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [الأنفال: 26].
أيها المؤمنون :
…إن من مظاهر حب الوطن أن يعمل الإنسان ما استطاع من أجل حماية مكاسبه وصيانة خيراته ومقدراته، ويكون عينا حارسة له من كل عدو ومتربص في الداخل أو الخارج، وإن ذلك - مع تقوى الله والشعور بنعمته – شكر لهذه النعمة واستدامة لها بإذن الله، قال الله سبحانه: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم: 7]
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية(35/4)
…الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد :
…فأوصيكم بتقوى الله وطاعته وأحذركم من معصيته ومخالفته، قال تعالى: { وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً } [النساء: 131]
أيها المسلمون:
…إن علينا من منطلق الإيمان، ثم من منطلق حب هذا البلد المبارك، أن نَجْهد في النصح له وفي القيام بواجباتنا تجاهه، وليعلم كل واحد منا أنه حارس للمجتمع ومرابط على ثغر من ثغور الأمة، فلا يؤتينَّ الإسلام من قبله، وإنها لأمانة ورعية استرعانا الله إياها، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" متفق عليه.
فاللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات,الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ودمِّر اللهم أعداءك أعداء الدين.
اللهم احفظ أمير بلادنا, وولي عهده الأمين, واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(35/5)
اطبع هذه الصحفة
الصبر في الدعوة إلى الله
لقد جاءت في القرآن الكريم وصايا عدة تدعو المؤمن إلى الاعتصام بالصبر، وتبين أهميته وأثره، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبرُوا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ آل عمران :200]، قال الحسن البصري: " أُمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام، فلا يَدَعوه لِسراء ولا ضراء، ولا شدة ولا رخاء حتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء، وأما المرابطة: فهي المداومة في مكان العبادة، والثبات. ومنه: انتظار الصلاة بعد الصلاة. ومنه: المرابطة على ثغور المسلمين".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 23 من محرم 1426هـ الموافق 4/3/2005م
الصبر في الدعوة إلى الله
الحمد لله الذي قدّر الأمور وقضاها، وعلى ماسبق علمه بها أمضاها، وكما قدّر مبدأها قدّر منتهاها، أحمده حمداً يدوم ولا يتناهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له أظهر الأدلة على وحدانيته وجلاها، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أرسله إلى جميع الناس أدناها وأقصاها، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين آتى الله نفوسهم تقواها.
أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله وشكر نعمه فما أحقها بأن تشكر, فقد جعلكم من خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.
أيها الناس:(36/1)
لقد جاءت في القرآن الكريم وصايا عدة تدعو المؤمن إلى الاعتصام بالصبر، وتبين أهميته وأثره، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبرُوا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ آل عمران :200]، قال الحسن البصري: "أُمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام، فلا يَدَعوه لِسراء ولا ضراء، ولا شدة ولا رخاء حتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء، وأما المرابطة: فهي المداومة في مكان العبادة، والثبات. ومنه: انتظار الصلاة بعد الصلاة. ومنه: المرابطة على ثغور المسلمين".
والصبر يا عباد الله على الطاعة، هو وصية الله تعالى إلى خلقه، قال تعالى { : فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ } [مريم :65]، وقال سبحانه: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [طه :132]، فأمره بالاصطبار على أمر أهله بالصلاة وتكفل له بالرزق، وكان يقال: من اتبع الصبر، اتبعه النصر، وقال أبان بن تغلب: سمعت أعرابياً يقول: من أفضل آداب الرجال، أنه إذا نزلت بأحدهم جائحة، استعمل الصبر عليها، وألهم نفسه الرجاء لزوالها، حتى كأنه لصبره يعاين الخلاص منها، توكلاً على الله عز وجل، وحسن ظن به،فمتى لزم هذه الصفة، لم يلبث أن يقضي الله حاجته، ويزيل كربته، وينجح طلبته، ومعه دينه وعرضه ومروءته.
أيها المؤمنون:(36/2)
إن أساليب الدعوة إلى الله ومناهجها وطرقها تستمد من مصادر كثيرة أهمها كتاب الله وسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ،ودعوة سلفنا من صحابة وتابعين وأئمة مهديين، وقد قام رسولنا الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، بواجب المسئولية تجاه الإسلام، خير مقام، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده، وانتقل إلى الرفيق الأعلى والإسلام قد كملت شرائعه وأحكامه، قال تعالى { : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } [المائدة :3]، وأخذ الصحابة ـ الكرام ـ من بعده - صلى الله عليه وسلم - هذه المسئولية وشعروا بالتبعية العظيمة، فأحسنوا أداءها، والقيام بها على أتم وجه، وسيرة السلف الصالح تشهد ذلك، حيث نهلوا من القرآن الكريم، وصدروا منه، كل ذلك مدد لا ينفد وزاد لا ينقص للدعاة من هذه الأمة، ولقد دخل الناس في دين الله أفواجاً وشرق الإسلام وغرب في أرجاء الدنيا بالدعوة الحكيمة والموعظة الحسنة، وكان الدعاة هم السلاح الفعال في زحزحة الباطل وإزهاق المنكر وصدق الله: { وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } [الإسراء :81].(36/3)
ألا وإن أمة الإسلام أمة رسالة وأمة دعوة، جاءت لغاية، ووجدت لهدف في هذه الحياة، قال سبحانه: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } [آل عمران :110]، ولاشك أن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي القطب الأعظم في الدين، والمهمة التي بعث الله لها خاتم النبيين والمرسلين والتي لولاها لذهب مقصود الرسالة وضاع هدف البعثة، ولفشا الفساد وعم الضلال ومُنع الهدى والخير، لهذا جاء وجوب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكتاب والسنة وعليه انعقد الإجماع. وقد حث القرآن الكريم الدعاة إلى الله، أن يدعوا بالحكمة والموعظة الحسنة والأسلوب اللين الرفيق، قال تعالى: { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل :125]، وفسرها ابن كثير بقوله : " أي من احتاج إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن، وبرفق ولين وحسن خطاب "، ويقول الله عز وجل مخاطباً نبيه الكريم، صاحب الخلق العظيم : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران :159]، وقد وصفه عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ : "إنه ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة"، فليقتد الداعية المسلم برسوله - صلى الله عليه وسلم - وليكن هذا شأنه وديدنه لمن يدعوهم، ويتحمل صدور أي أذى منهم، وقد عمم الله تعالى الخسران لكل إنسان إلا من اتصف بأربع صفات، قال تعالى:( { وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } [سورة العصر] فبالأمرين الأوّلين يكمل العبد نفسه، وبالأمرين الآخرين يكمل(36/4)
غيره، وبتكميل الأمور الأربعة يكون العبد قد سلم من الخسران وفاز بربح العظيم االمنان، قال الشافعي -رحمه الله-: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من البيان، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله سيد البشر، قدوة الصالحين, وأسوة المؤمنين، وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته
فيا معاشر الأحباب:(36/5)
لقد كان من رحمة الله بنا ومنه علينا، أن أعطانا تجارب السابقين من الرسل والدعاة والصالحين، فقال سبحانه : { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [هود :120]، وقوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [يوسف :111]، فهذا نوح ـ عليه السلام ـ الذي دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما لا يكل ولا يمل، في كل وقت، وعلى كل حال، { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } [نوح :5-9]، فماذا كان بعد هذه الآماد البعيدة وهذه الطرق العديدة، والأساليب الرشيدة : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وقد أضلوا كثيراً ولاتزد الظالمين إلا ضلالاً } [نوح :23- 24]،وهكذا يظل القرآن الكريم يعطي للداعية ويمنحه ويتفاعل معه بقدر اتصاله به وأخذه عنه وبقدر معايشته والامتثال لتعاليمه وصدق الله : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت :69]، وقد أتى خباب - رضي الله عنه- النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة، - وقد لقوا من المشركين شدة – فقال يا رسول(36/6)
الله ألا تدعو الله لنا ؟ فقعد وهو محمر وجهه، فقال: " لقد كان مَن قبلكم ليمشط بمشاط الحديد، مادون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتِمّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله" أخرجه البخاري .
عباد الله :
إن الصبر المأمور به، هو صبر المجاهدين، وصبر الربانيين، بل هو تلك القوة التي لا تعرف اليأس، والاحتمال الذي لا يعرف الخور، والثبات الذي لا يعرف التراجع، والعزيمة التي لا تعرف الوهن،وبذل الجهد ليتحقق الفلاح والنصر،لأن طريق الدعوة إلى الله طريق طويل، شاق حافل بالعقبات والابتلاءات،فهو صبر على شهوات النفس ورغائبها، وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها،وصبر على شهوات الناس وسوء تصرفهم،وانحراف طباعهم،وصبر على جهل الجاهلين ،وصبر على الباطل،ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق، والصبر لا يفيد شيئاً إذا لم يقترن بالتقوى سواء كان في مجابهة النفس أو مجابهة الأعداء: { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } [آل عمران :120]،وقال تعالى : { بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [آل عمران :125]، ولا تستطيع الأمة أن تستعيد مركزها القيادي، وعزتها ومجدها إلا بهذا الأسلوب،ولذلك قال تعالى : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } [آل عمران :186].(36/7)
جعلني الله وإياكم من الشاكرين الراضين الصابرين المحتسبين وجمعني وإياكم في جنات عرضها السموات والأرض فيها السعادة بلا شقاء، والحياة بلا موت، والنعيم بلا زوال،
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات،الأحياء منهم والأموات،اللهم احفظ بلادنا وبلاد المسلمين،وتب على العصاة والمذنبين، واقض الدين عن المدينين،اللهم آمنا في أوطاننا، واحفظ أميرنا وولي عهده الأمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار،وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(36/8)
اطبع هذه الصحفة
طاعة ولي الأمر
إن الحمد لله نحمده ،ونستعينه ،ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون فهدى به من الضلالة، وعلم من الجهالة، وبصر من العمى ،وأرشد من الغي ،وفتح به آذانا صما ،وقلوبا غلفا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله عز وجل. فهي وصية الله لنا، وللسالفين قبلنا، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ } [النساء: 131].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 1من صفر 1426هـ الموافق 11/3/2005م
طاعة ولي الأمر
إن الحمد لله نحمده ،ونستعينه ،ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون فهدى به من الضلالة، وعلم من الجهالة، وبصر من العمى ،وأرشد من الغي ،وفتح به آذانا صما ،وقلوبا غلفا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله عز وجل. فهي وصية الله لنا، وللسالفين قبلنا، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ } [النساء: 131].
أيها الإخوة المؤمنون:(37/1)
إن السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، أمر مجمع على وجوبه،عند أهل السنة والجماعة، معدود من جملة مباحث الاعتقاد، عند السلف الصالح ـرضوان الله عليهمـ ،قل أن يخلو كتاب من كتبهم، من تقرير ذلك، لما علم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمام، ولا إمام إلا بسمع وطاعة،وقاعدة السلف في طاعة ولاة الأمر معروفة. وهي زيادة الاعتناء بها، كلما ازدادت حاجة الأمة إلى ذلك، سدا لباب الفتنة وإيصادا لطريق الخروج على الولاة الذي هو أصل فساد الدنيا والدين. يقول الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } [النساء: 59].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـرحمه الله_ : وأولوا الأمر. هم أصحاب الأمر، وذووه، وهم الذين يأمرون الناس،وذلك يشترك فيه أهل اليد،والقدرة،وأهل العلم، والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء والأمراء. فإذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس.
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولاحجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعه، مات ميتة جاهلية". أخرجه مسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنه لم يكن نبي قبلي، إلا كان حقًا عليه. أن يدل أمته على خير ما يعلمُه لهم. وينذرهم شر ما يعلمه لهم. وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها. وسيصيب آخرَها بلاء، وأمور تنكرونها. وتجئ فتن يرقق بعضها بعضا، وتجئ فتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجئ الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة. فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر. وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر". أخرجه مسلم.
عباد الله:(37/2)
إن أمرا تواطأت على تأكيده نصوص الكتاب والسنة. وفعل سلف هذه الأمة من أهل العلم، والتقوى،والورع، لجدير بنا أن نقف عنده لمدارسته وفهمه والتبصير به، ونشره لما له من أهمية بالغة، وحاجة ملحه، في حياة الأفراد والمجتمعات، فقد كادت هذه الحقيقة أن تضيع في وسط يعج بالجهل، والغلو، وعدم مراعاة النصوص الشرعية الواضحة في ذلك.والطاعة الواجبة المذكورة في النصوص هي طاعة مبصرة وليست طاعة عمياء، بل هي طاعة في المعروف إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ: "أجمع العلماء على وجوب طاعة الأمراء في غير معصية".
أيها الإخوة المؤمنون:
إن العلاقة بين الرعية وولاة الأمر تقوم على أساس المحبة المتبادلة، والرأفة، والرحمة، والتعاون،لما فيه خير الدنيا والآخرة. فمن القواعد المعروفة عند أهل العلم أن تصرف الراعي على الرعية منوط بالمصلحة، فلابد من النصح لهم مثل عامة المسلمين والدعاء لهم بالتوفيق، والتسديد، وأن يكون كل أحد في موقعه حارسا لقيم المجتمع، وثوابته، محافظا على أمنه واستقراره، قائما بمهمته مراعيا لمسؤوليته، فعندما يقوم الإنسان المسلم بالمشاركة في المصالح العامة، وغيرها طاعة لولاة الأمر فإنه يكون بذلك طائعا لله ورسوله قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني" متفق عليه.(37/3)
وقد جاء هذا الخطاب النبوي في موضوع الإمارة الصغرى فغيرها من باب أولى. ثم لنعلم جميعا أن عصيان ولاة الأمر مع ما فيه من المخالفة الشرعية فإن عواقبه وخيمة تعود على المجتمع بأسوأ النتائج، وتنزل به الكوارث، فيضعف بعد قوة، ويتفرق بعد اجتماع، والذي يطالع التاريخ، ويتأمل الواقع الموجود، سيجد بكل وضوح صدق هذا القول. وما ظهرت الفتن، ونجم قرن الخوارج، إلا بعد زوال هيبة السلطان من القلوب وعدم القيام بحقه، قال سهل بن عبد الله التستري لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بهذين أفسدوا دنياهم وأخراهم. فالله الله في فهم منهج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم في هذا الباب ولنعلم أن من يعصي ولي أمر المسلمين ويحاول زعزعة المؤمنين إنما يخدم أعداء الإسلام.
فحذار من الانفعالات الوقتية والعواطف الجياشة، ولنتسلح بالحكمة والتؤدة، ولننصت إلى العقلاء وأهل الذكر الذين رسخوا في العلم وصقلتهم التجارب وتعلموا في مدرسة الحياة.
عباد الله:(37/4)
إن الطريقة الشرعية والآداب المرعية لمناصحة السلاطين وولاة الأمر مبسوطة في كتب السنة وغيرها من كتب أهل العلم: وهي أن يناصحوا سرا فيما صدر منهم. ولا يكون ذلك على رؤوس الأشهاد، وفي مجامع الناس، لما ينجم عن ذلك غالبا من تأليب العامة، وإثارة الرعاع، وإشعال الفتن، قال ابن النحاس: ويختار الكلام مع السلطان في الخلوة على الكلام معه على رؤوس المنابر، والأحرى أن يكلم سرا وينصح خفية، وهذا هو المنهج الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، وأخرج الخلال في كتاب السنة. عن حنبل بن إسحاق بن حنبل قال: اجتمع الفقهاء ببغداد. في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ وقالوا له: يا أبا عبد الله إن الأمر قد تفاقم ـ يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك ـ ولا نرضى بإمارته، وسلطانه، فناظرهم في ذلك وقال: عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم واصبروا حتى يستريح بَرّ، و يُستراح من فاجر. وقال: ليس هذا صوابا – يعني نزع اليد من الطاعة ـ وهذا خلاف الآثار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيما لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ،وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته وأحذركم من معصيته ومخالفته.
أيها الإخوة المؤمنون:(37/5)
بناء على ما سبق من تقرير مكانة ولاة الأمر. حسب النصوص الشرعية، ووجوب طاعتهم في المعروف.فإنه يجب أن نعلم كذلك أن الصبر عليهم،وملاطفتهم،أصل أصيل، وركن أساسي، في منهج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [ وأما ما يقع من ظلمهم وجورهم بتأويل سائغ أو غير سائغ فلا يجوز أن يزال لما فيه من ظلم، وجور، كما هو عادة أكثر النفوس، تزيل الشر بما هو شر منه ،وتزيل العدوان بما هو أعدى منه فالخروج عليهم يوجب من الظلم والفساد أكثر من ظلمهم. فيصبر عليه، كما يصبر عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ظلم المأمور، والمنهي، في مواضع كثيرة قال تعالى: { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكََ } [لقمان: 17[.وقال: { فاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ َ } [الأحقاف:35[.
عباد الله:
ولنحذر كل الحذر من الوقيعة في أعراض الأمراء. والانشغال بسبهم، وذكر معايبهم، فإن ذلك خطيئة كبيرة، وجريمة شنيعة، قد نهى عنها الشرع ،وذم فاعلها، وهي نواة الخروج على ولاة الأمر، وقد عُلِم أن الوسائل لها حكم المقاصد فكل نص في تحريم الخروج يدل على تحريم السب وذم فاعله، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" متفق عليه. وقال:" من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليقل خيرا أو ليصمت" متفق عليه. وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: نهانا كبراؤنا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أن لا تسبوا أمراءكم،ولا تغشوهم ،ولا تعصوهم. واصبروا واتقوا الله عز وجل فإن الأمر قريب". وهذا النهي منهم رضي الله عنهم ليس تعظيما لذوات الأمراء، وإنما هو لعِظَم المسؤولية التي وكلت إليهم في الشرع.(37/6)
ولنحذر كذلك من الإثارة والتحريض، ويجب كف من يقوم بذلك، وإن لم يكف كان مستحقا للعقوبة لأنه مرتكب لمحرم عظيم، وساع في إثارة الفتن التي تُراق فيها الدماء وتُنْتَهك فيها الحُرَم، وفيها نزع اليد من الطاعة.
أيها الإخوة المؤمنون:
كان بعض السلف الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ يقول: "لو كانت لي دعوة مستجابة لدعوة بها للسلطان" اللهم أصلح" أئمتنا وأئمة المسلمين. وارزقهم البطانة الصالحة. يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام، والمسلمين, وأذل الشرك ،والمشركين, ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.اللهم ارزقنا الخشية ،والإنابة إليك, وألهمنا الرشد، والهداية في دينك, ولا تجعل الدنيا أكبر همنا, ولا مبلغ علمنا, وأدخلنا برحمتك الجنة مع الأبرار, يا عزيز يا غفار.اللهم اغفر للمؤمنين، والمؤمنات, والمسلمين، والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات.اللهم احفظ أميرَنا وولي عهده الأمين, وارزقهما الصحة والعافية, وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(37/7)
اطبع هذه الصحفة
خطورة الفتوى
{ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [سورة الأنفال: 1].
واعلموا رحمني الله وإياكم: أن من طاعة الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: أن لا يقول المسلم على الله تعالى ولا على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بلا علم، سواء كان ذلك في الفتيا أو في القضاء والحكم.
وقد جعل الله تعالى القول عليه بلا علم من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا من الموبقات، فقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [سورة الأعراف: 33].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة:
بتاريخ 8 صفر 1426هـ، الموافق 18 مارس 2005م
خطورة الفتوى
الحمدُ للهِ؛ ذي الجلال والإكرام، الذي اصطفى بعض خلقه على بعض بالإفضال والإنعام، فمنهم من زاده بسطة في الأجسام؛ ومنهم من زاده في الأفهام، فجعلهم السفراء بين الأنام؛ وبين ربهم الملك القدوس السلام، فهم الموقعون عن رب العالمين في باب الشرائع والأحكام، والمبينون لعباده ما التبس من مسائل الحلال والحرام، فهم كالعافية للأجسام، وكالمصابيح للظلام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ الحيُّ القيُّومُ الذي لا ينامُ ولا ينبغي لهُ أنْ ينامَ، وأشهد أن نبينا ورسولنا محمداً خير الأنام، أخرج الله به الناس إلى النور بعد تقلبهم في الظلام، فدعاهم إلى الجنة دار السلام، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه الكرام، صلاة وسلاماً متعاقبين ما تعاقبت الليالي والأيام.
أما بعد:(38/1)
{ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [سورة الأنفال: 1].
واعلموا رحمني الله وإياكم: أن من طاعة الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: أن لا يقول المسلم على الله تعالى ولا على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بلا علم، سواء كان ذلك في الفتيا أو في القضاء والحكم.
وقد جعل الله تعالى القول عليه بلا علم من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا من الموبقات، فقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [سورة الأعراف: 33].
فجعل الله سبحانه وتعالى المحرمات: أربع دركات، وبدأ بأسهلها وهي الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريماً منها وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريماً منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم.
وهذا يعم القول على الله سبحانه وتعالى بلا علم في ذاته؛ وأسمائه وصفاته؛ وأقواله وأفعاله؛ ودينه وشرعه.
فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله تعالى من القول عليه بلا علم، ولا أشد إثماً، وهو أصل الشرك والكفر برب البريات، وعليه أسست جميع البدع والضلالات.
لأن القول على الله تعالى بلا علم يتضمن: الكذب عليه، ونسبته إلى ما لا يليق به، وتغيير دينه وتبديله، ونفي ما أثبته، وإثبات ما نفاه، وعداوة من والاه، وموالاة من عاداه، وحب ما أبغضه، وبغض ما أحبه، وتحريم ما أحل، وتحليل ما حرم.(38/2)
وقد قال تعالى: { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [سورة النحل: 116-117].
قال الربيع بن خُثَيْم رحمه الله تعالى: " ليتق أحدكم أن يقول: أحل الله كذا؛ وحرم كذا، فيقول الله له: كذبت، لم أحل كذا؛ ولم أحرم كذا " .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية: أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً، وكان من جملة ما يوصيه به - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله: فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟" أخرجه مسلم من حديث بريدة رضي الله عنه.
ومما يدل على خطورة الفتوى بغير علم، وأنها من أعظم الجرم والإثم: ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أفْتِيَ بغير علم: كان إثمه على من أفتاه" أخرجه أبوداود وابن ماجه.
ولو نظرنا في سير سلف الأمة الصالحين: لوجدناهم من أورع الناس في الفتيا عن رب العالمين، قال ابن أبي مُليكة رحمه الله تعالى: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن آية فقال: " أي أرض تقلني؟ وأي سماء تظلني؟ وأين أذهب؟ وكيف أصنع؟ إذا أنا قلت في كتاب الله برأيي؛ أو بما لا أعلم " .
وقال مسروق رحمه الله تعالى: "كتب كاتب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر. فانتهره عمر وقال: "لا؛ بل اكتب: هذا ما رأى عمر، فإن كان صواباً: فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر".(38/3)
فالواجب على من تصدر للفتوى: أن يتأنى، كما قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: "العجلة في الفتوى: نوع من الجهل والخرق. التأني من الله، والعجلة من الشيطان".
كما يجب على المفتي أن يعلم أن المستفتين: جعلوه سفيراً بينهم وبين رب العالمين، كما قال ابن المنكدر رحمه الله تعالى: "العالم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم".
وليحذر المفتي كل الحذر من الحيلة في التخلص من السؤال، والقول بلا علم على الكبير المتعال، كما قال القاضي ابن خلدة رحمه الله تعالى: "يا ربيعة؛ أراك تفتي الناس، فإذا جاءك الرجل يسألك: فلا يكن همك أن تتخلص مما سألك عنه".
وعلى المفتي قبل أن يفتي في مسألة فتلحقه الملامة؛ أن يسأل ربه تبارك وتعالى السلامة، فكان سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى لا يكاد يفتي إلا قال: "اللهم سلمني، وسلم مني".
وعلى المفتي أن يعلم أن العلم أبواب، فلا يكن علمه بباب منه فاتحاً لباب القول بلا علم على العزيز الوهاب، كما قال سحنون بن سعيد رحمه الله تعالى: "أجسر الناس على الفتيا: أقلهم علماً، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه".
وليعلم أن الفتوى بغير ورع وتخوف: نوع من الحماقة والتكلف، كما قال ابن سيرين رحمه الله تعالى: سمعت حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما يقول: "إنما يفتي الناس أحد ثلاثة: من يعلم ما نسخ من القرآن، أو أمير لا يجد بداً، أو أحمق متكلف. قال ابن سيرين: فلست بواحدٍ من هذين، ولا أحب أن أكون الثالث".
عباد الله الكرام:
ألا وإن من أعظم العدوان والآثام؛ أن يترتب على فتوى المفتي ارتكاب المنكرات الحرام، كما قال سحنون رحمه الله تعالى يوماً: "إنا لله، ما أشقى المفتي والحاكم، ها أنا ذا يُتعلم مني ما تضرب به الرقاب، وتوطأ به الفروج، وتؤخذ به الحقوق، أما كنت عن هذا غنياً".
ألا فليتق المولى؛ من يتسرعون في الفتوى، ولم ترسخ أقدامهم في البر والتقوى.(38/4)
وحذار حذار من داء الشهرة وحب الظهور، فهو لعمر الله داء يقطع الأعناق ويقصم الظهور.
وكل ساعٍ بغير علم…فرشده غير مستبان
والعلم حق له ضياء…في القلب والعقل واللسان
وكان السلف الصالح الذين ألزمهم الله تعالى كلمة التقوى: يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفاها، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة فتواها، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله تعالى: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فما كان منهم مُحَدِّثٌ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مُفْتٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا".
وقد أخذ العليم الخلاق؛ على علماء الأمة الميثاق: أن يبينوا العلم؛ ويحذروا من الكتم، حتى لا يتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فإذا سئلوا: أفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا.
واعلموا معشر الإخوة الأخيار: أن الكذب على المصطفى المختار، موجب لدخول النار، لأنه متضمن للقول بلا علم على الواحد القهار.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" ،أخرجه البخاري ومسلم.
لأن كل ما أضيف إلى الرسول: فهو مضاف إلى المُرسل، فكل من كذب على الرسول صلى الله عليه وسلم جاهلاً أو متعمداً: فقد كذب على مُرسله تبارك وتعالى، { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [سورة الأنعام: 144].
أقولُ هذا القولَ، وأتبرأُ إلى اللهِ تعالى مما بي من القوَّةِ والحَوْل، وأستغفرُهُ لي ولكم من الخَلَلِ والزَّلَلِ، وأسألُه حسنَ الختامِ عندَ بُلوغِ الأجَل.
الخطبة الثانية
الحمد لله؛ العلي الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الموصوف بالإحسان والجود والكرم، والمنعوت بالبر واللطف والنعم.(38/5)
وأشهد أن نبينا محمداً عبدالله ورسوله الداعي إلى السبيل الأقوم، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه وسلم.
أما بعد:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [سورة آل عمران: 102]، وكونوا من خدام العلم وحماته، واجتهدوا ما استطعتم في التفقه في الدين، وسؤال أهل الذكر من علماء الأمة الربانيين، وليحذر أحدكم من الفتيا بغير علم فإنها توقيع عن رب العالمين، بل الواجب على من سئل عما لا يعلم: أن يقول الله أعلم.
فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلم قوماً يتدارؤون، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه"، أخرجه أحمد.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأصحابه: "احفظوا عني خمساً، فلو ركبتم الإبل في طلبهن لأنضيتموهن قبل أن تدركوهن: لا يرجو عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحي جاهل أن يسأل عما لا يعلم، ولا يستحي عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له".
وقال زيد بن أسلم رحمه الله تعالى: "خرجنا مع عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما نمشي، فلحقنا أعرابي فقال: أنت عبد الله بن عمر؟ فقال عبدالله: نعم. فقال الأعرابي: سألت عنك فدُللتُ عليك، فأخبرني: أترث العمة؟ فقال عبدالله: لا أدري؟ فقال الأعرابي: أنت لا تدري؟ فقال عبدالله: نعم، اذهب إلى العلماء بالمدينة فاسألهم. فلما أدبر الأعرابي: قبل عبدالله يديه، وقال نِعِمَّا قال أبوعبد الرحمن، سئل عما لا يدري فقال: لا أدري".
وقال الشعبي: "لا أدري نصف العلم".(38/6)
ومسك الختام، معشر الإخوة الكرام: ترطيب الأفواه بالصلاة والسلام، على خير الأنام، امتثالاً لأمر الملك القدوس السلام، حيث قال في أصدق قيل وأحسن حديث وخير كلام: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما باركت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، في العالمين، إنك حميدٌ مجيدٌ.
وارضَ اللهمَّ عن الأربعةِ الخلفاءِ الراشدين؛ والأئمةِ الحنفاءِ المهديِّين، أولي الفضلِ الجليِّ؛ والقدرِ العليِّ: أبي بكرٍ الصديقِ؛ وعمرَ الفاروقِ؛ وذي النورينِ عُثمانَ؛ وأبي السِّبطينِ عليِّ.
وارض اللهم عن آل نبيِّك وأزواجِه المُطَهَّرِين من الأرجاس؛ وصحابتِه الصفوةِ الأخيارِ من الناس.(38/7)
اللهم اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهم أعِنَّا ولا تُعِنْ عليْنَا، وانْصُرْنَا ولا تَنْصُرْ عليْنَا، وامْكُرْ لنَا ولا تَمْكُرْ عليْنَا، ويَسِّرْ الهُدى لنَا، وانْصُرْنَا على مَنْ بَغَى عليْنَا،اللهم اجعلنا لك شَاكِرِين، لك ذَاكِرِين، إليك مُخْبِتِين أوَّاهِين مُنِيبِين، ربَّنا تقبلْ توبتَنا، واغسلْ حوبتَنا، وأجِبْ دعوتَنا، وثَبِّتْ حُجَّتَنا، واهْدِ قلوبَنا، وسَدِّدْ ألسنتَنا، واسْلُلْ سَخِيمَةَ قلوبِنا، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرِنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ، واجعل الموتَ راحةً لنا من كلِّ شرٍّ، اللهُمَّ حبِّبْ إلَيْنَا الإيمانَ وزيِّنْهُ في قُلُوبِنَا، وكرِّه إلَيِنَا الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، واجعلنا من الرَّاشِدينَ، اللهُمَّ توفَّنا مُسلمينَ، وأحيِنَا مُسلمينَ، وألْحِقْنَا بالصَّالِحينَ، غيرَ خزايا ولا مَفتُونينَ، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وادفع عنا الفتن والشرور، وأصلح اللهم لنا ولاة الأمور، واشرح لتحكيم شرعك الصدور، برحمتك يا عزيز يا غفور، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النَّار.
عباد اللهِ: اذكروا الله ذكراً كثيراً، وكبِّروه تكبيراً، وسبِّحوه بُكرةً وأصيلاً.
{ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [سورة العنكبوت: 45].
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(38/8)
اطبع هذه الصحفة
ثوابت في ديننا
إن نعم الله تعالى على عباده لا تعد ولا تحصى, ولا تُحصر ولا تُستقصى, فمن نِعَمِه العافية في الأبدان, والأمان في الأوطان, إلى نعمة المأكل والمشرب والملبس, وغير ذلك من النعم الكثيرة والآلاء الوفيرة, قال تعالى: { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [سورة إبراهيم: 34].
ولكنّ أعظمَ نعمةِ وأجلَّها – على الإطلاق – مما يؤتيها الله تعالى لعباده ويمنحهم إياها: هي نعمة دين الإسلام؛ الذي لا يقبل الله تعالى دينًا سواه, قال تعالى: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [سورة آل عمران: 85].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة بتاريخ 15صفر 1426هـ
الموافق 25/3/2005م
ثوابت في ديننا
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله تعالى وطاعته, قال الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [سورة آل عمران: 102].
أيها المسلمون:(39/1)
إن نعم الله تعالى على عباده لا تعد ولا تحصى, ولا تُحصر ولا تُستقصى, فمن نِعَمِه العافية في الأبدان, والأمان في الأوطان, إلى نعمة المأكل والمشرب والملبس, وغير ذلك من النعم الكثيرة والآلاء الوفيرة, قال تعالى: { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [سورة إبراهيم: 34].
ولكنّ أعظمَ نعمةِ وأجلَّها – على الإطلاق – مما يؤتيها الله تعالى لعباده ويمنحهم إياها: هي نعمة دين الإسلام؛ الذي لا يقبل الله تعالى دينًا سواه, قال تعالى: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [سورة آل عمران: 85].
فبالإسلام تتحقق للإنسان سعادة الدارين, وبفقده يخسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين؛ قال تعالى: { َ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [سورة طه: 123, 124].
ولهذا فلا عجب أن تأتي أوامر رب العالمين لخاتم الأنبياء والمرسلين بالتمسك بهذا الدين, والصبر على ما يلاقي ويعاني فيه؛فإنّ العاقبة حميدة,والجزاء عظيم, قال تعالى: { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } سورة الزخرف: 43], وقال سبحانه: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [سورة الحجر: 99], وقال عز وجل: { فاصبركَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } [سورة الأحقاف: 35].
أيها المؤمنون:(39/2)
إنّ في ديننا ثوابتَ متينة, ومبادئَ عظيمة, لا يجوز التخلي عنها بحال من الأحوال, ولا التنازل أو المساومة عليها مهما كان المقابل والجزاء, ولقد أحب المشركون في يوم من الأيام, أن يداهنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتنازل لهم عن بعض ثوابت دينه, ولكنه لم يرضخ لهم ولم يذعن, بل رفض وأبى, وتمسك بوحي السماء, وحَفِظَه المولى جل جلاله بحفظه وأحاطه برعايته, كما قال تعالى: { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [سورة القلم: 9].وقال تعالى: { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً } [سورة الإسراء: 73-75].
وقد قيل: إن كفار قريش – مِن جهلهم – دَعَوْا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عبادة أوثانهم سَنَةً على أن يعبدوا معبودَه سنةً, فأنزل الله تعالى سورة الكافرون, وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتبرأ من دينهم بالكلية, فقال سبحانه: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [سورة الكافرون: 1, 2] يعني من الأصنام والأنداد { وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } [سورة الكافرون: 3] وهو الله وحده لا شريك له.
فهذا أولُ مبدأ وأعظمُه في الإسلام, وهو مضمون الشهادتين: شهادةِ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله, أي لا معبود بحق إلا الله, ولا طريق إليه إلا بما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, يُصَدَّقُ فيما أَخبر, ويُمتثل ما أَمَر, ويُنتهى عما نهى عنه وزجر, ولا يُعبد الله تعالى إلا بما شرع, لا بالأهواء والبدع.
أيها المسلمون:(39/3)
إن دين الإسلام قائمٌ على توحيد الله عز وجل والإخلاص له في العبادة, وهذا هو الغاية من خلق العالمين ومبعث الرسل أجمعين, كما قال جل شأنه: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [سورة الذاريات: 56] { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [سورة النحل: 36].
ومن أجل هذا فإنّ مناقضة التوحيد تعني الوقوع في الشرك, قال تعالى: { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } [سورة النساء: 36]. والشرك بالله هو أعظم الذنوب, ومن مات عليه لم يُغفرْ له أبدا, قال تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } [سورة النساء: 116], ومعنى الشرك بالله: صرف شيء من العبادة لغير الله عز وجل, سواء أكان ذلك في صلاة أم سجود أم طواف أم ذبح أم نذر أم غير ذلك مما يُقصد به التقرب والتذلل والخضوع, فلْيكن المسلم على حذر في دينه مِن أن يشرك بربه سبحانه, ولْيحرص على تعلم أمور دينه وعقيدته.
عباد الله:
ومِن ثوابت ديننا ومبادئه السامية العالية: أنه دين الطهر والعفاف والفضيلة, دين الحجاب والسَّتر ومحاربةِ الرذيلة, كما قال تعالى لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهن: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [سورة الأحزاب: 33], وقال تعالى: { وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } [سورة النساء: 27].(39/4)
ومِن أجل هذا المبدأ الجليل, والخلق النبيل, حَرّم الإسلام الزنا وكل ما يؤدي إليه, وشنّع أيما تشنيع عليه, فقال تعالى: { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } [سورة الإسراء: 32], بل ذكره في وصف عباد الرحمن مقرونًا بالشرك وغيره من الموبقات فقال سبحانه: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [سورة الفرقان: 68-70].
ولتحقيق مبدأ العفاف, وتطهير المجتمع من الإسفاف, فرض الله تعالى الحجاب على المؤمنات, وأمرهن – كما أَمر المؤمنين - بغض الأبصار وحفظ الفروج, وحَرّم خلوة الرجل بالمرأة وسفرَها مِن غير زوج أو مَحْرم, ونهاها عن الخضوع في القول واللِّيونة فيه فيطمع الذي في قلبه مرض.
أيها المؤمنون:
ومِن ثوابت ديننا ومبادئه التي تميزه عن سائر الأديان: أنه دين الأخوة الصادقة والأخلاق الفاضلة, وبهذا وصف الله تعالى عباده المؤمنين حين قال جل وعلا: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [سورة الحجرات: 10], فلا إيمان بلا أخوّة, وقال تعالى في وصف أصحاب نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً } [سورة الفتح: 29].(39/5)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا, ولا يبيع بعضكم على بيع بعض, وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم, لا يظلمه ولا يَحقِره ولا يَخذُله. التقوى ها هنا ( ويشير إلى صدره ثلاث مرات ). بحسْب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمُه وماله وعرضه" أخرجه مسلم.
وعن أنس رضي الله عنه, عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" متفق عليه.
قال الحسن البصري – رحمه الله - : حقيقة حسن الخلق: بذل المعروف, وكفّ الأذى, وطلاقة الوجه.
وقال محمد بن حازم:
وما اكتسب المحامدَ طالبوها………بمثل البِشْرِ والوجه الطليقِ
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على نعمة الإسلام, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يدعو إلى دار السلام, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام, صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الغر الميامين الكرام, ومن تبعهم بهدىً وإحسان.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق تقواه, واعملوا بطاعته ورضاه.
واعلموا – رحمني الله وإياكم – أن من تمسك بهذا الدين القويم, فعمل بكتاب الله تعالى الكريم, واتّبع سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الأمين, فقد فاز الفوز المبين, واستحق أن يسكن الجِنان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, قال تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً } [سورة النساء: 69- 70].(39/6)
عباد الله:
لقد قاسى الصحابة رضي الله عنهم أشد أنواع العذاب في سبيل هذا الدين فما ضَعُفوا وما استكانوا, وضحَّوْا بأرواحهم وأموالهم لإعلاء كلمة الله وما جبُنوا وما لانوا, وخاضوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل غزوة صابرين محتسبين, حتى قال قائلهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر – وهو سعد ابن معاذ سيد الأنصار - لمّا أراد الرسول أن يعرف موقف الأنصار: "فقد آمنا بك وصدّقناك, وشهدنا أن ما جئت به هو الحق, وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة, فامض يا رسول الله لما أردت, فوالدي بعثك بالحق, لو استعرضت بنا هذا البحر فخضتَه لخضناه معك, ما تخلف منا رجل واحد, وما نكره أن تلقى بنا عدوًّا غدًا, إنا لصُبُرٌ في الحرب, صُدُقٌ في اللقاء, ولعل الله يريك منا ما تقرُ به عينك, فَسرْ بنا على بركة الله".
فلْنقتدِ بأولئك الأخيار الأطهار, ولْنسر على طريق هؤلاء الأبرار, أصحاب نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر , والعزيمةَ على الرشد. ونسألك شكر نعمتك, وحسن عبادتك, ونسألك قلبًا سليما, ولسانا صادقا, ونسألك من خير ما تعلم, ونعوذ بك من شر ما تعلم, ونستغفرك لما تعلم إنك أنت علاّم الغيوب.
…اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات.
…اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين, وأذلَّ الشرك والمشركين, ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين, يا قويُّ يا متين.
…اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين, واحفظ اللهم أميرنا وولي عهده الأمين, وألبسهم لباس الصحة والعافية يا رب العالمين.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(39/7)
اطبع هذه الصحفة
ظاهرة العنوسة
من القضايا الاجتماعية التي عنى بها الإسلام عناية بالغة، ورعاها رعاية فائقة، حيث جاءت نصوص الوحيين بالحث عليها والترغيب فيها قضية الزواج وذلك لما يترتب عليه من مصالح الدين والدنيا، ولما له من الحكم السامية، والمنافع المتعددة، والمعاني الكريمة، فهو ضرورة اجتماعية لبناء الحياة، وتكوين الأسر، وتأسيس الفضائل، وغض الأبصار، وتحصين الفروج، كما أنه أمر محبب إلى النفوس، تقتضيه الفطرة السوية، وتحث عليه الشرعة الحنيفية، ويتطلبه العقل الصحيح، ويألفه الطبع السليم، به تتعارف القبائل، وتتكون الشعوب، وتتكاثر الأمم، فيه الراحة النفسية، والطمأنينة القلبية، ويكفيه أنه آية من آيات الله الدالة على حكمته، والداعية إلى التفكير في عظيم خلقه، وبديع صنعه { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ]سورة الروم: [21
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة بتاريخ 22 صفر 1426هـ
الموافق 1/4/2005م
ظاهرة العنوسة
الحمد لله الذي أحاط بكل شئ علماً وجعل لكل شئ قدراً، خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً، أحمده سبحانه وأثني عليه شكرا، كرمه يتوالى ونعمه علينا تترى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اصطفاه ربه واجتباه، فكان أشرف البرية وأعلاهم ذكراً صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(40/1)
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فإنها عروة ليس لها انفصام، وجذوة تضئ القلوب والأفهام، وخير زاد يبلغ إلى دار السلام، من تحلى بها بلغ أشرف المراتب، وتحقق له أعلى المطالب، وحصل على مأمون العواقب، وعفي من شرور النوائب يقول الله سبحناه: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } ]سورة يونس: 62-[63
عليك بتقوى الله فالزمها تفز……إن التقي هو البهي الأهيب
إخوة الإسلام:
من القضايا الاجتماعية التي عنى بها الإسلام عناية بالغة، ورعاها رعاية فائقة، حيث جاءت نصوص الوحيين بالحث عليها والترغيب فيها قضية الزواج وذلك لما يترتب عليه من مصالح الدين والدنيا، ولما له من الحكم السامية، والمنافع المتعددة، والمعاني الكريمة، فهو ضرورة اجتماعية لبناء الحياة، وتكوين الأسر، وتأسيس الفضائل، وغض الأبصار، وتحصين الفروج، كما أنه أمر محبب إلى النفوس، تقتضيه الفطرة السوية، وتحث عليه الشرعة الحنيفية، ويتطلبه العقل الصحيح، ويألفه الطبع السليم، به تتعارف القبائل، وتتكون الشعوب، وتتكاثر الأمم، فيه الراحة النفسية، والطمأنينة القلبية، ويكفيه أنه آية من آيات الله الدالة على حكمته، والداعية إلى التفكير في عظيم خلقه، وبديع صنعه { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ]سورة الروم: [21(40/2)
فيه تكثير عدد الموحدين، وتحقيق محبة رب العالمين، ومباهاة خاتم المرسلين فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهياً شديداً ويقول: "تزوجوا الودود الولود إني مكاثر الأنبياء يوم القيامة" (أخرجه الإمام أحمد) ويقول ابن مسعود رضي الله عنه"لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام أعلم أني أموت في آخرها ولي طول على النكاح لتزوجت مخافة الفتنة "ويقول الإمام أحمد رحمه الله: "ليست العزوبة من أمر الإسلام في شئ، ومن دعاك إلى غير الزواج دعاك إلى غير الإسلام"
أيها الإخوة المؤمنون:
من المشاكل الاجتماعية الخطيرة التي خيمت على كثير من الشباب ذكوراً وإناثاً مشكلة العنوسة وتأخُّر سن الزواج، تتقدم بهم السنون، والعراقيل تزداد أمامهم، والمشكلات تتفاقم في وجوههم، ومما يزيد الأمر خطورة مطالعة ما أثبتته آخر الإحصاءات عن حالات الطلاق والعنوسة، فقد بلغت نسبة الطلاق في الكويت 35% من إجمالي حالات الزواج وبلغت نسبة العنوسة20%، وهذا مما يحتم على الغيورين في هذه البلاد السعي الجاد لكشف أسباب هذه الظاهرة ثم العمل على الحد منها.
أمة العقل والحكمة:
لقد خدع كثير من بنات المسلمين عن طريق الغزو الفكري، الموجه ضد عقيدة المسلمين، ومبادئهم وأخلاقهم، أفلام وقصص ودعايات، يبثها أعداء الأمة بقصد الإطاحة بكيانها، وإفساد مجتمعاتها، إثارة للغرام بين الفتيان والفتيات، تحذير للفتاة من الزواج المبكر، تضخيم لأمر الدراسة والوظيفة، حتى إذا تقدمت بالفتاة السن وبلغت من الكبر عتياً، وذهبت نضارتها، وذبلت زهرة شبابها، عزف عنها من يريدها، فلا يكون أمامها بعد ذلك إلا الطرق الملتوية والسبل المحرمة – إلا من عصم الله – بعدها يحصل الندم ولات ساعة مندم، تتمنى وهي ترى الأطفال مع أمهاتهم، أن يكون لها طفل حتى ولو خسرت ما عندها، ولسان حالها يردد:(40/3)
لقد كنت أرجو أن يقال طبيبة……فقيلت ! وما أن نالني من مقالها
فقل للتي كانت ترى فيّ قدوة……هي اليوم بين الناس يرثى لحالها
وكل مناها بعض طفل تضمه……فهل ممكن أن تشتريه بمالها
أيها الإخوة في الله:
هناك أسباب أخرى لتفشى العنوسة في مجتمعات المسلمين، أهمها: العادات والتقاليد التي قُدِّمت على تعاليم الدين القويم، كإصرار بعض الآباء والأولياء على أن يكون المتقدم للزواج من نسب كذا وكذا ولو تبقى ابنته عانساً.
ها هو زيد بن حارثة الذي كان من سبي الجاهلية، يعتقه رسول الله ثم يتبناه – قبل تحريم التبني - ثم يزوجه من ابنة عمته زينب بنت جحش، وهو مولى وهي من أشراف قريش ولكنها التقوى التي هذّبت النفوس وأذابت الفوارق.
وها هو عبدا لرحمن بن عوف القرشي، يزوّج أخته من بلال الحبشي، أبعد هذا – يا عباد الله- حجة لمن كان سبباً في عنوسة ابنته أو قريبته، وهل من نسب خير من الإيمان بالله والاستنان بسنة رسول الله.
وعلى التقي إذا تراسخ في التقى……تاجان تاج سكينة وجمال
وإذا تناسبت الرجال فما أرى……نسباً يكون كصالح الأعمال
إخوة الإيمان:
ومن الأسباب المهمة: تغالي الأولياء في مهور بناتهم، فتضيع الفتاة بين الشروط الصعبة والتقاليد الموروثة.
يكلف الشاب من المهر مالا يطيق، وقد يتحمل بعض الديون الباهظة، في أمور لا طائل من ورائها، فلربما دخلت الكراهة إلى قلبه بسبب هذه المشاق العظيمة.
وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على المغالين في المهور، فقد جاء رجل فقال: يا رسول الله، إني تزوجت امرأة على أربع أواق من فضة – يعني: مائة وستين درهماً – فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "على أربع أواق ؟! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك" (أخرجه مسلم).(40/4)
ويقول عمر – رضي الله عنه: "لا تغالوا صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم وأحقكم بها محمد - صلى الله عليه وسلم - "ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل ليثقل صدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه" (أخرجه ابن ماجه).
وكم في الأولياء من يردون الشباب الصالح لقلة ذات اليد، متناسين قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" (أخرجه الترمذي)، وقد تعهد الله للفقير المريد للزواج إعفافاً لنفسه بالغنى فقال عز وجل { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ]سورة النور: [32وفي الحديث "ثلاثة حق علي الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب يريد الأداء، والناكح يريد العفاف" أخرجه الترمذي، ويقول أبو بكر رضي الله عنه "أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى"
أيها الناس:
ومن جديد أسباب تفشي العنوسة، ما انتشر مؤخراً في بعض أوساط المسلمين، من عضل البنات ومنعهن من الزواج طمعاً في المرتب الذي يحصلن عليه من الوظيفة، هي تعمل وتكدح، وهو يتفكه بمالها، وماذا تساوي الدنيا بكنوزها وأموالها إذا تعنست ابنته أو وقعت في محظور.
أصون عرضي بمالي لا أدنسه……لا بارك الله بعد العرض بالمال
ومن الأسباب أيضا ضعف دين المرأة، وتبرجها واختلاطها بالرجال، فالمرأة التي رغب الشارع في زواجها هي ذات الدين ففي الحديث: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك" (أخرجه مسلم).
أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فيا لفوز التائبين ويالسعادة المستغفرين.(40/5)
اللهم اغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي حكم فقدّر، وشرع فيسّر، سبحانه أحل النكاح، وحرم السفاح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فالق الإصباح، وأشهد أن نبينا وقدوتنا محمد عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه ما تعاقب المساء والصباح.
أما بعد:
فاتقوا الله معشر المسلمين واشكروه على نعمه الباطنة والظاهرة، وخذوا بمنهج الإسلام في كل أموركم، واحذروا من مخالفته، فإنها جالبة للفتنة والعذاب الأليم.
عباد الله:
إن تفشي ظاهرة العنوسة، تؤذن بخراب البيوت وفساد الأخلاق، وذلك لكثرة الوسائل التي تهدم ولا تبني، وتفسد ولا تصلح، وشيوع بعض المنكرات التي تدعو إلى انتشار الفواحش.
أتباع سيد المرسلين:
إن المعهود عند الناس أن يتقدم الرجل لخطبة المرأة، ويجد أهل المرأة الحرج الشديد في أن يخطبوا رجلاً لابنتهم، إلا أن أهل الفضل كانوا ولا زالوا يتجاوزون هذا الحرج، فقد عرض عمر رضي الله عنه ابنته حفصة على عثمان ثم على أبي بكر فأبيا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد ذكرها، ثم تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد زوّج سعيد بن المسيب تلميذه أبا وداعه.(40/6)
ومما يسهم في القضاء على هذه المشكلة: تيسير أمور الزواج وتخفيف المهور وتزويج الأكفاء، وترسيخ المعايير الشرعية لاختيار الزوجين ،ومجانبة الأعراف والعادات الموروثة والدخيلة، وقيام وسائل الإعلام بواجبها التربوي والتوجيهي، والحث على تعدد الزوجات للمستطيع الذي يأمن من الحيف والظلم يقول الله سبحانه: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } ]سورة النساء:3 [، وعن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: "يا سعيد ألك امرأة؟" قلت: لا، قال: "تزوج فإن خير هذه الأمة كان أكثرهم نساء" (أخرجه أحمد).
والله تعالى نسأل أن يحفظ نساء المسلمين، اللهم اجعلهن صالحات مصلحات، تقيات نقيات متعففات، واجعلهن اللهم في الجنات .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين، يا قوي يا متين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق أميرنا لهداك واجعل عمله في رضاك، وارزقه اللهم البطانة الصالحة، والحاشية الناصحة، التي تحثه على الخير وتدلّه عليه.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(40/7)
اطبع هذه الصحفة
الإيمان بالكتب
واعلموا معشر المسلمين؛ أن من البر في الدين: الإيمان بالكتب التي أنزلها رب العالمين؛ على الأنبياء والمرسلين، قال الله تعالى: { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ والملائكة وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } [سورة البقرة: 177].
فكل من آمن بما أنزل الله من كتاب مجيد: فقد آوى إلى ركن شديد، وكل من كفر بها فقد ضلَّ الضلال البعيد، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } [سورة النساء: 136].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 29 صفر 1426هـ، الموافق 8 إبريل 2005م
الإيمان بالكتب
الحمد لله؛ الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وجعل لمن اعتصم به من كل ضائقة مخرجاً، ولمن استمسك به من كل نازلة فرجاً، وجعل قلوب أوليائه متنقلة في منازل عبوديته حباً وخوفاً ورجاً ،أحمد ربي حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه؛ من يرد أن يهديه يشرح صدره للإسلام؛ ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجاً ،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شهادة من أصبح قلبه بتوحيد الله تعالى مبتهجاً.
وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله المبعوث بالذكر الحكيم؛ والصراط المستقيم؛ والنبأ العظيم؛ الذي من استمسك به فاز ونجا ،صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه؛ صلاة وسلاماً ترفعهم إلى مراقي الجنان درجاً.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الملك القدوس السلام، فاستمسكوا بها فهي العروة الوثقى التي ليس لها انفصام.(41/1)
واعلموا معشر المسلمين؛ أن من البر في الدين: الإيمان بالكتب التي أنزلها رب العالمين؛ على الأنبياء والمرسلين، قال الله تعالى: { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ والملائكة وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } [سورة البقرة: 177].
فكل من آمن بما أنزل الله من كتاب مجيد: فقد آوى إلى ركن شديد، وكل من كفر بها فقد ضلَّ الضلال البعيد، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } [سورة النساء: 136].
فنؤمن بأن هذه الكتب قد أنزله الله تعالى من السماء؛ على بعض الرسل والأنبياء، وأنه كلام رب العالمين؛ لا كلام غيره من المخلوقين، وهذا هو الإيمان المجمل.
أما الإيمان المفصل: فنؤمن بما سمّى الله تعالى من هذه الكتب، فمنها: الصحف التي أنزلها الله تعالى على إبراهيم عليه السلام، كما قال الله تعالى: { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } [سورة الأعلى: 18-19].
ومنها: التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام، كما قال الله تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء } [سورة المائدة: 44].(41/2)
ومنها: الزبور الذي أنزله الله تعالى على داود عليه السلام، كما قال الله تعالى: { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [سورة الإسراء: 55].
ومنها: الإنجيل الذي أنزله الله تعالى على عيسى عليه السلام، كما قال الله تعالى: { وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } [سورة المائدة: 46].
عباد الله المؤمنين: لقد نسخ القرآن الكريم وهو الكتاب المبين؛ والهدى المستبين؛ جميع رسالات النبيين، كما قال رب العالمين: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } [سورة المائدة: 48].
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قرأ أُبيُّ بن كعب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمَّ القرآن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده؛ ما أُنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت).(41/3)
واعلموا رحمني الله وإياكم: أن جميع الكتب قد اتفقت؛ وشتى الرسالات قد اجتمعت؛ على أصول ثلاثة، الأصل الأول: الإيمان بالله تعالى؛ وما له من أسماء الجمال؛ وصفات الكمال؛ ونعوت الجلال، والأصل الثاني: الإيمان باليوم الآخر، والأصل الثالث: التقرب إلى الكبير المتعال؛ بصالح الأعمال، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [سورة البقرة: 62].
ومن نعمة الرب الجليل: أن يسّر لعباده التنزيل، فيسر للحفظ مبانيه، وللفهم معانيه، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ومصداق ذلك في الكتاب المبين: قول رب العالمين: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [سورة القمر: 17؛ 22؛ 32؛ 40].
فيا من أردت الحياة الطيبة في هذه الدار: عليك بما تحيي به القلوب أشد من حياة الديار القفار بالأمطار،قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [سورة الأنفال:24].
قال قتادة رحمه الله تعالى: (هو هذا القرآن، فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة).
ويا من كان ميتاً فأحياه ربه وجعل له نوراً يمشي به في الظلمات: عليك باستسقاء العلم النافع من الآيات البينات، كما قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (من أراد العلم: فعليه بالقرآن، فإن فيه خبر الأولين والآخرين).(41/4)
ويا من رام رقي درجات الجاه والشرف، وبلوغ سكنى الرفعة في أعلى الغرف: تدثر بالكساء الذي أسبله الله تعالى على المؤمنين، وهو الكتاب الذي لا ريب فيه هدى للمتقين، كما قال الله تعالى: { لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [سورة الأنبياء: 10]، وقال تعالى: { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } [سورة الزخرف:43- 44].
قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: (القرآن شرف لك ولقومك)، وقال نافع بن عبد الحارث رضي الله عنه –وكان عامل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على مكة-: لقيت عمر بعسفان، فقال لي: من استعملت على أهل الوادي؟ فقلت: ابن أبزى. فقال: ومن ابن أبزى؟ فقلت: مولى من موالينا. فقال: فاستخلفت عليهم مولى؟ فقلت: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل؛ وإنه عالم بالفرائض. فقال عمر: أما إن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - قد قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً؛ ويضع به آخرين) أخرجه مسلم.
بارك الله لي ولكم في الفرقان والذكر الحكيم، ووفقنا للاعتصام به وبما كان عليه النبي الكريم؛ من الهدي القويم؛ والصراط المستقيم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله الغفور الحليم، لي ولكم من كل ظلم وجرم فتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق الأرض والسماوات العلى، في ستة أيام ثم على العرش استوى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، يعلم السر وأخفى ،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له الأسماء الحسنى والصفات العلى ،وأشهد أن سيدنا محمداً عبدٌ أوحى إليه ربه ما أوحى،ولم ينزل عليه القرآن ليشقى،بل جعله تذكرة لمن يخشى،صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم تجزى فيه كل نفس بِما تسعى.
أما بعد:(41/5)
فيا عباد الله المسلمين : { فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [سورة الأنفال: 1].
واعلموا أن من جملة المعاصي؛ التي يوجب التحذير منها بالنصح والتواصي: هجر الإنسان؛ لتلاوة القرآن، والهجر أنواع : فحظٌ للقلوب، وحظٌّ للألسن، وحظٌّ للأسماع.
فمن الناس من يهجر تلاوة آياته، ومنهم من يهجر سماع عظاته، ومنهم من يهجر تدبر بيناته، ومنهم من يهجر الإيمان بمتشابهه والعمل بمحكماته، ومنهم من يهجر تحكيمه والتحاكم إليه في مشاجراته، ومنهم من يهجر الاستشفاء به من أدوائه والتداوي به من عّلاته.
وكل هذه الأنواع، مما تنفر منه الطباع، داخلة في قول رب العالمين؛ على لسان الصادق الأمين: { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } [سورة الفرقان: 30].
عبادَ الرَّحمنِ:
إن اللهَ قَدْ أَمركُم بأَمرٍ بَدَأَ فِيهِ بِنَفْسِهِ التي كلَّ يومٍ هي في شَان، وثنَّى بمَلائِكَتِهِ التي لا تَفْتُرُ في ليلٍ ولا نهارٍ عَنْ الحَمْدِ والسُّبْحَانِ، وثَلَّثَ بِكُمْ أيُّها الخلقُ من إنسٍ وجَانٍ، فقال إعلاء لقدر نبيه وتعظيماً ؛ وإرشاداً لكم وتعليماً : {إنَّ اللهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبيِّ يَأيُّها الذينَ آمنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً}.(41/6)
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، وبارك على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما باركت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، في العالمينَ، إنَّك حميدٌ مجيدٌ،وارضَ اللهمَّ عن الأربعةِ الخلفاءِ الراشدين ؛ والأئمةِ الحنفاءِ المهديِّين، أولي الفضلِ الجليِّ ؛ والقدرِ العليِّ: أبي بكرٍ وعمرَ وعُثمانَ وعليِّ ،وارض اللهم عن آلِ نبيك وأزواجِهِ المُطَهَّرِين من الأرجاس؛ وصحابتِه الصفوةِ الأخيارِ من الناس ،اللهم اغفر للمسلمينَ والمسلمات؛ والمؤمنينَ والمؤمنات، الأحياءِ منهم والأمواتِ.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وادفع عنا الفتن والشرور، وأصلح اللهم لنا ولاة الأمور، واشرح لتحكيم كتابك الصدور، برحمتك يا عزيز يا غفور ،ربنا آتنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرة حسنةً؛ وقنا عذاب النَّار.
عباد اللهِ: اذكروا الله ذكراً كثيراً، وكبِّروه تكبيراً، وسبِّحوه بُكرةً وأصيلاً.
{ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [سورة العنكبوت: 45].
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(41/7)
اطبع هذه الصحفة
مصادر القوة في المجتمع
إن المتأمل في مجتمع المسلمين، والرابطة التي تربط بين المؤمنين، يجد أنه مجتمع متماسك البنيان، قوي الأركان، أحكمته شريعة الإسلام، وهذّبته تعاليم خير الأنام عليه الصلاة والسلام، مما جعل مجتمعات المسلمين-بحمد الله- تتميّز عن غيرها من المجتمعات، فيها مصادر العزّة،وروافد القوة، وأسباب القيادة، وعوامل الريادة، أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - - صلى الله عليه وسلم -– أنه قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز.." فالمجتمع القوي، الذي يسير على النهج السويّ، مجتمع يحبه الله، ويعيش أفراده أهنأ حياة، وقد انتصرت الأمة وسادت، وعزّّت وقادت، وارتفعت وما هانت،في سنين مضت، وعصور خلت،وذلك حين استمسك أفرادها بقوى المصادر، بعد التوكل على الغالب القاهر.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 6من ربيع الأول 1426هـ الموافق15/4/2005م
مصادر القوة في المجتمع
الحمد لله ذي القوة المتين، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين،وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، الصادق الأمين، - صلى الله عليه وسلم - وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فإنها خير زاد يتخذ ليوم المعاد، وأفضل عدّة ليوم الضيق والشدّة، يقول الله سبحانه { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ } [ البقرة: 197].
ومن يتق الله يحمد في عواقبه…ويكفه شر من عزوا ومن هانوا
فالزم يديك بحبل الله معتصما…فإنه الركن إن خانتك أركان
أيها الأحبة في الله:(42/1)
إن المتأمل في مجتمع المسلمين، والرابطة التي تربط بين المؤمنين، يجد أنه مجتمع متماسك البنيان، قوي الأركان، أحكمته شريعة الإسلام، وهذّبته تعاليم خير الأنام عليه الصلاة والسلام، مما جعل مجتمعات المسلمين-بحمد الله- تتميّز عن غيرها من المجتمعات، فيها مصادر العزّة،وروافد القوة، وأسباب القيادة، وعوامل الريادة، أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - - صلى الله عليه وسلم -– أنه قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز.." فالمجتمع القوي، الذي يسير على النهج السويّ، مجتمع يحبه الله، ويعيش أفراده أهنأ حياة، وقد انتصرت الأمة وسادت، وعزّّت وقادت، وارتفعت وما هانت،في سنين مضت، وعصور خلت،وذلك حين استمسك أفرادها بقوى المصادر، بعد التوكل على الغالب القاهر.
عباد الله:
إن في مجتمعنا قوى كبرى، وأصولا عظمى، يجب التنبيه عليها،ثم العمل على حفظها، وحسن الانتفاع منها، حتى ننهض بهذه الأمة التي شق بعثها، وعسر إيقاظها. فمن أعلى أنواع القوة: قوة العقيدة ورسوخ الإيمان، فالعقيدة حين تتمكن من القلوب، تكون معينا لا ينضب للنشاط المتواصل والعمل الدؤوب، وهي تضفي على صاحبها قوة تظهر في أعماله كلها،فإذا تكلم كان واثقا،وإذا عمل كان ثابتا، وإذا جادل كان واضحا، وإذا فكر كان مطمئنا، لا يعرف التردد ولا تميله الرياح، يأخذ تعاليم دينه بقوة لا وهن معها: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 63 ] { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً } [ مريم: 12].(42/2)
وبقوة العقيدة والإيمان جعل الله لرسوله من الضعف قوة،ومن القلة كثرة، ومن الفقر غنى حيث كان فردا فصار أمة، وكان أميا فعلّم الملايين، وكان قليل المال فصار بالله أغنى الأغنياء { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } [الضحى: 6-8]، المجتمع القوي يتماسك أمام المصائب، ويثبت بين يدي النوائب، راضيا بقضاء الله وقدره، وقد صوّر هذه الحال رسولنا -- صلى الله عليه وسلم -- حين قال: "عجبا لأمر المؤمن،إن أمره كله له خير،وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن،إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" أخرجه مسلم.
إخوة الإسلام:
ومن مظاهر القوة:المحافظة على العبادات، والاجتهاد في الطاعات، والتنافس في الخيرات، ومجانبة المحرمات: { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ } [ هود: 52] أما المجتمع الخرب الذّمة، الساقط المروءة، فإن قوته إلى زوال، وأمره إلى وبال { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُون } [فصلت: 15ـ16].(42/3)
ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو حصانة للمجتمع، تكسبه القوة والمهابة، { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [الحج: 40-41] فالمجتمع المحافظ على الدين والهدى،الذي انتصر على نزغات الشيطان وبواعث الهوى، قادر على التقدم في الميادين الأخرى.
والقوة كذلك في كريم الأخلاق، ومجانبة طريق الفساق، حيث فتح المسلمون الأوائل بعض البلدان دون أن تتحرك جيوش،أو تزلزل عروش، وإنما هي الخلال الطيبة، والخصال الحسنة، فهي سر بقاء الأمم، والباعث لاعتلاء القمم.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت…فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
يصور عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- حال المجتمع المسلم في عهد أبي بكرـ رضي الله عنه– حين ولاه القضاء على المدينة، فلم يختصم إليه أحد وقد مضت سنة، ثم طلب الإعفاء من هذا المنصب، فقال له أبو بكرـ رضي الله عنه-: أمن التعب والنصب، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: لا ولكن ليس بي حاجة عند قوم مؤمنين، وصلوا إلى هذه الحال بالخصال الحميدة، والأخلاق الرشيدة.
آيها الناس:(42/4)
ومن القوة: قوة الإرادة والصبر والعزيمة، يكون المجتمع المسلم مستنير الدرب وثابت الخطوات، لا يحاكي غيره من المجتمعات، لا سيما في زمن الانفتاح والفضائيات، متمثلا قول الله سبحانه { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام: 153].
إن نوحاً عليه السلام مضرب المثل في قوة الإرادة، والثبات على المبدأ ومضاء العزيمة، حيث امتثل أمر ربه، ولم يأبه بالساخرين به { وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [هود: 38ـ39].
والقوة كذلك تكون في الأبدان، وفي سبيلها حرم الشارع ما يضر بها، وحث على تعاطي أسباب تقويتها، فأمر بالتداوي من الأسقام،والاهتمام ببعض الرياضات، فقد صارع رسول الله ركانة وكان رجلا عظيم البدن شديد البأس، فصرعه رسول الله -- صلى الله عليه وسلم --وكان ذلك سببا لإسلام ركانة - رضي الله عنه - وثبت أنه -- صلى الله عليه وسلم -- رمى بالقوس،وطعن بالرمح، وتقلد السيف،وركب الخيل،وكتب عمر- رضي الله عنه - إ إلى أبي عبيدة بالشام "أن علّموا غلمانكم العوم".
أمة المجد والقوة:(42/5)
ومع قوة الإيمان والأخلاق والجسم، تكون القوة في المهن والمعارف والعلم،وفي كل ما يعطيه لفظ القوة من دلالة، لتكون هذه الأمة في الصدارة، فقد توافرت فيها أسباب التمكين والعمل، فلم التواني والكسل والقوة تكون في التجارة، واستخراج ثروات الأرض وفي الصناعة، وأما القوة العسكرية فمطلب في الشريعة معلوم: ( { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ } [الأنفال: 60] قوة ترهب أعداء الإسلام فعلى دياره لا يعتدون، ولا أهله يفتنون،ومن ثم تقوم هذه الأمة بمهمة الاستخلاف والإعمار، كما طلب الواحد القهار.
نفى النوم عن عينيه نفس أبية…لها بين أطراف الأسنة مطلب
إذا أنا لم أعط المكارم حقها…فلا عزني خال ولا ضمني أب
ومن تكن العلياء همة نفسه…فكل الذي يلقاه فيها محبب
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنّة نبيّّّه - صلى الله عليه وسلم - ونهج أصحابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إ نه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله، له الحمد في الأولى والآخرة،أحمده سبحانه وأشكره على نعمه الباطنة والظاهرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، جمع الله به القلوب المتنافرة،صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آ له و صحبه نجوم الدجى والبدور السافرة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إ لى الدار الآخرة.
أما بعد:(42/6)
فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ، وخذوا بعزائم الأمور، وأسباب القوة والظهور، واعلموا أن دينكم قد حث عليها، ونهى عن كل ما يناقضها، وهذا نبيكم -- صلى الله عليه وسلم -- يستعيذ برب البشر، من أسباب الضعف والخور، كما صح بذلكم الخبر: "اللهم إ ني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال" أخرجه البخاري، وكان من دعاء عمرـ رضي الله عنه ـ "اللهم إ ني أشكو إ ليك جلد المنافق وعجز الثقة".
ثم صلوا وسلموا رحمكم الله على النعمة المهداة والرحمة المسداة محمد بن عبد الله، كما أمر ربكم جل في علاه فقال عز من قائل: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [ الأحزاب: 56]، فاللهم صل وسلم عليه وعلى آ له وصحبه أجمعين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين،وسائر أعداء الملة والدين، ياقوي يامتين، اللهم آمنّا في الأوطان والدور، وأصلح لنا ولاة الأمور، واشرح لتحكيم كتابك الصدور، يا عزيز يا غفور، اللهم وفق أميرنا وولي عهده لهداك، واجعل عملهم في رضاك، وارزقهم اللهم البطانة الصالحة والحاشية الناصحة التي تدلهم على الخير وتحثهم عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(42/7)
اطبع هذه الصحفة
الوقت هو الحياة
إنّ حياتنا هي آجالُنا التي قضاها الله تعالى وحدّدها لنا في هذه الدنيا, فهي أوقات ولحظات, وأيامٌ وساعات, كلما ذهب جزء منها ذهب جزء من عمرك أيها الإنسان, وذهب بعضك, وهو شيء محدود لن يرجع ولن يعود, فالوقت هو الحياة.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 21 جمادى الأولى 1425هـ الموافق 9/7/2004م
الوقت هو الحياة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن سار على نهجه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله عز وجل وطاعته.
أيها المسلمون: إنّ حياتنا هي آجالُنا التي قضاها الله تعالى وحدّدها لنا في هذه الدنيا, فهي أوقات ولحظات, وأيامٌ وساعات, كلما ذهب جزء منها ذهب جزء من عمرك أيها الإنسان, وذهب بعضك, وهو شيء محدود لن يرجع ولن يعود, فالوقت هو الحياة.
ولهذا يبين لنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أهمية الوقت, ويشير إلى ضياعه من كثير من الناس, فيقول فيما رواه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ". ومعنى "مغبون فيهما": أي ذو خسرانٍ فيهما.
فمن صرف هذه النعمة في غير محلها فستكون وبالاً عليه وحسرةً يوم القيامة, وإن الله عز وجل يعاتب أقوامًا لم يغتنموا عمرهم وحياتهم في طاعته والإيمان به, فيقول سبحانه لهم يوم القيامة: (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير) [فاطر/37], ويقول – أيضًا – سبحانه: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون) [غافر/75].(43/1)
عباد الله: إن الوقت ليس كالدرهم والدينار, إذ أنه إذا فُقِد فلا يعوض, بل هو محدود ومنقضٍ لا محالة.
يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله – وهو يتحدث عن الغيرة وشمولها لكثير من الأمور, فذكر منها الغَيرة على الوقت, فقال: "الغَيرة على وقت فات, وهي غيرة قاتلة؛ فإن الوقت وحِيُّ التقضي (أي سريع الانقضاء), أبِيُّ الجانب, بطيء الرجوع".
ثم قال: "ومعنى أنها غيرة قاتلة: أي أنّ أثرها يشبه القتل؛ لأن حسرة الوقت قاتلة, ولا سيما إذا عَلِمَ المتحسر أنه لا سبيل إلى الاستدراك, وأيضًا فالغيرة على التفويت تفويتٌ آخَر, كما يقال: الاشتغال بالندم على الوقت الضائع تضييع للوقت الحاضر, ولذلك يقال: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
فالوقت منقضٍ بذاته, منصرم بنفسه, فمن غفل عن نفسه تصرّمت أوقاتُه, وعَظُم فواتُه, واشتدت حسراتُه, فكيف حاله إذا علم عند تحقق الفوت مقدار ما أضاع, وطلبَ الرجعى فحيل بينه وبين الاسترجاع! وطَلب تناول الفائت وكيف يُرد الأمسُ في اليوم الجديد؟! (وأنى لهم التناوش من مكان بعيد)؟! ومُنع مما يحبه ويرتضيه, وعَلم أن ما اقتناه ليس مما ينبغي للعاقل أن يقتنيه, وحيل بينه وبين ما يشتهيه.
فيا حسراتٍ ما إلى ردِّ مثلها سبيل, ولو رُدت لهان التحسر "انتهى كلامُ ابن القيم رحمه الله.
وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتَك قبل موتك, وصحتَك قبل سقمك, وفراغَك قبل شغلك, وشبابَك قبل هرمك, وغناك قبل فقرك" أخرجه الحاكم.
وما أحسن ما قاله الوزير يحيى بنُ هُبيرةَ رحمه الله:
والوقت أنفَسُ ما عُنِيت بحفظه وأراه أسهلَ ما عليك يضيعُ(43/2)
أيها المسلمون: وإذا عرفنا أهمية الوقت ونفاستَه, وعلِمنا عِظَمَه وضرورتَه, فلْنعلم أن مِن أفضلِ وأعظمِ ما يُشغل به المرء وقته: هو طلب العلم الشرعي, الذي يُذكر فيه كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا العلم هو الذي يورث الخشية منه سبحانه وتعالى كما قال عز وجل: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر/28], وهو السبب لرفع الدرجات, كما قال سبحانه: (وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفعِ الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) [المجادلة/11].
وقال صلى الله عليه وسلم: "ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة" أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فحري بنا أن نُحيِيَ الهمم ونشدَّ العزائم في طلب العلم, لننال ما وعد الله تعالى به, ووعد رسولُه الكريمُ صلى الله عليه وسلم, والله تعالى لا يخلف الميعاد.
وتعالوا بنا لنرى نماذجَ فريدةً من سلفنا الصالح في طلبهم للعلم وجَلَدهم فيه:
فهذا شيخ المفسرين والمحدثين والمؤرخين, الإمام ابن جرير الطبري, المتوفى سنة (310هـ) رحمه الله, يقول لأصحابه يومًا: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألفَ ورقة, فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه! فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة.
ثم قال لهم: أتنشطون لتاريخ العالم مِن آدمَ إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوًا مما ذكر في التفسير, فأجابوه بمثل ذلك, فقال: إنا لله! ماتت الهمم, فاختصره في نحوٍ مما اختصر فيه التفسير.
وهذا الإمام أبو يوسف- القاضي – صاحب الإمام أبي حنيفة, المتوفى سنة (182هـ) – يباحث وهو في النَّزْعِ (حال الموت) بعض عُواده في مسألة فقهية؛ رجاء النفع بها لمستفيد أو متعلم.(43/3)
قال تلميذه القاضي إبراهيم بن الجراح: مرض أبو يوسف, فأتيته أعوده, فوجدته مغمًى عليه, فلما أفاق قال لي: يا إبراهيم: ما تقول في مسالةٍ ؟ قلت: في مثل هذه الحالة؟! قال: ولا بأس بذلك؛ ندرس لعله ينجو به ناجٍ. ثم ذكر مسألته. قال: ثم قمت من عنده, فما بلغت باب داره حتى سمعت الصراخ عليه, وإذا هو قد مات.
والأمثلة في حال سلفنا وعلمائنا في ذلك كثيرة جدّا جدّا, وفيما ذكرناه كفاية.
أيها المسلمون: ومِما يقتضيه العلمُ ويَلزمُ منه: أن يُتبعه الإنسان بالعمل, وإلا فسيكون نقمةً على صاحبه يوم القيامة (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) [الصف/2 ,3]. والمقت: هو البغض.
فلو نظرنا إلى حال أسلافنا في هذا الباب لرأينا العجب العجاب: فهذا سيد الخلق, وصفوة الله تعالى من خلقه, نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, يقوم ليلةً من الليالي وهو عند أحب نسائه إليه عائشةَ رضي الله عنها, فيقول لها: يا عائشة: ذريني أتعبَّدْ لربي. قالت له: والله إني لأحب قربك, وأحب ما يسرك. قالت: فقام فتطهر, ثم قام يصلي, فلم يزل يبكي حتى بلَّ حِجره, ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض, وجاءه بلال يؤذنه بالصلاة, فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله: تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال: أفلا أكون عبدًا شكورا؟! لقد نزلت عليّ الليلة آياتٌ ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآياتٍ لأولي الألباب) الآيات من أواخر سورة آل عمران, إلى قوله: (وما للظالمين من أنصار), أخرجه أبو الشيخ ابن حيّان في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" بإسنادٍ جيد.
فهكذا - أيها المسلمون – كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اقتدى به يستثمرون أوقاتهم في الطاعة والعبادة؛ لِمَا وقَر في قلوبهم من الإيمان بالآخرة, وأنّ الدنيا ما هي إلا مزرعة لها.(43/4)
عباد الله: وإن من أعظم ما يشغل به المرء وقته, ويعود عليه بنفع الدنيا والدين, ذكرَ الله, قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرًا كثيرا. وسبحوه بكرةً أصيلا) [41 ,42].
وقد ثبت في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد: أقرئ أمتك مني السلام, وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة, عذبة الماء, وأنها قيعان, وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" أخرجه الترمذي وحسنه. ومعنى قيعان: أي أرض مستوية واسعة, في وطأة من الأرض, ويعلوها ماء السماء فيُمسكُه ويستوي نباتُه.
ومن أعظم الذكر قراءة كتاب الله تعالى وتدبره, ولهذا كان سلفنا الصالح يعمرون أوقاتهم بذلك, فيختمون القرآن في أيام معدودات, وكان أكثرهم يختمه في كل أسبوع.
أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المبين, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين وخاتم المرسلين, اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقواه, واعملوا بطاعته ورضاه.
أيها المسلمون:
ما أجمل ما قاله الشاعر:
دقاتُ قلبِ المرء قائلةٌ له إن الحياة دقائق وثوانِ
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذِّكْرُ للإنسان عمرٌ ثانِ(43/5)
ومن أعظم ما يقضي المسلم وقتَه فيه هو الدعوة إلى هذا الدين, وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, قال الله عز وجل: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين) [فصلت/33]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثلُ أجور من تبعه, لا يَنقص ذلك من أجورهم شيئا" أخرجه مسلم.
عباد الله:
إن الوقت نعمة عظيمة, وللأسف أنه لم يعرف كثير من الناس قدرها, فضيّعوها بلا طائل ولا مردود, بل يقول بعضهم: نريد أن نضيّع الوقت, أو أن نقتلَه, وما ذلكم إلا لأنهم لم يدركوا حقيقة الأمر وخطورته, وأن نتيجة الأعمال إنما تظهر في الدار الآخرة, وهي دارٌ لا موت فيها, بل هي دار الخلود, فإمّا نعيم مقيم, وإمّا عذاب أليم (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره, ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره) [الزلزلة/7 ,8].
فهنيئًا لمن صرف وقته في مرضاة ربه وطلبًا لجنته, حيث يقول الله عز وجل: (كلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية) [الحاقة/24].
ويا حسرةً على من ضيّع عمره في غير ما يرجع عليه بالخير, وبخاصةٍ مَن طال به العمر من كبار السن؛ فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعذر الله عز وجل إلى امرئٍ (أي: لم يُبق له موضعًا للاعتذار) أخرّ عمره حتى بلّغه ستين سنة".
واعلموا – أيها المسلمون – أننا قد دخلنا في موسم الصيف, موسم العطلة الدراسية والفراغ الكبير, فاحرصوا أشد الحرص على أن توجهوا أبناءكم وبناتكم لقضائه فيما ينفع ويثمر, وخذوا بأيديهم إلى حلقات تحفيظ القرآن الكريم, ومراكز التدريب والتوجيه في الأنشطة المختلفة النافعة, التي يتعلمون فيها العلوم العصرية, والرياضات البدنية والذهنية, وهي في أيامنا هذه كثيرة ومتنوعة والحمد لله.
وحَذار أن يُترك الفتى أو الفتاةُ في هذا الفراغ الهائل؛ فإن أثر ذلك عليه عظيم, وما أحسن ما قيل في ذلك:(43/6)
إنّ الفراغ والشبابَ والجِدَة مَفْسَدةٌ للمرء أيَّ مَفسدة
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذلَّ الشرك والمشركين, ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين, يا قويُّ يا متين.
اللهم ارزقنا اغتنام الأوقاتِ في الطاعات, وأعنا على ترك المعاصي والمنكرات, وامنحنا بفضلك وجودك من الخيرات والبركات, واحفظ اللهم أميرَنا وولي عهدنا وارزقهم الصحة والعافية, وتقبل شهداءنا الأبرار, يا عزيزُ يا غفار.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(43/7)
اطبع هذه الصحفة
الرحمة المهداة والنعمة المسداة صلى الله عليه وسلم
يمنّ الله على المؤمنين ببعثة الرسول -- صلى الله عليه وسلم -- مع أنه بعث إلى الناس كافة، ولكنه خص المؤمنين لكونهم المنتفعين ببعثته. فهو من أنفسهم، مثلهم يفهمون كلامه، ولا يحتاجون إلى ترجمان: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [إبراهيم: 4]، بل هو من أشرفهم نسباً، وأكرمهم محتداً .. وهو من أنفسهم، بشر مثلهم، يأنسون به، ولو كان ملكاً لم يحصل لهم كمال الأنس: "قل إنما أنا بشر وهذه منّة من الله تعالى تتلوها منن: يتلو عليهم آياته في كتاب ربهم. ويزكيهم ويطهرهم من جميع الأرجاس التي يغرقون فيها إلى آذانهم .. ويعلمهم الكتاب والحكمة: القرآن والسنة، ويخرجهم من ظلمات الجهل والأمية. وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. وأي ضلال أشد مما كانوا فيه من ضلال؟
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 13من ربيع الأول 1426هـ الموافق 22/4/2005م
الرحمة المهداة والنعمة المسداة صلى الله عليه وسلم
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم، وبارك وأنعم، على عبدك ورسولك، سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:(44/1)
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته، واعلموا أن الله صلى على نبيه قديماً فقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } [164: آل عمران]
أيها الأحبة في الله:
يمنّ الله على المؤمنين ببعثة الرسول -- صلى الله عليه وسلم -- مع أنه بعث إلى الناس كافة، ولكنه خص المؤمنين لكونهم المنتفعين ببعثته. فهو من أنفسهم، مثلهم يفهمون كلامه، ولا يحتاجون إلى ترجمان: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [إبراهيم: 4]، بل هو من أشرفهم نسباً، وأكرمهم محتداً .. وهو من أنفسهم، بشر مثلهم، يأنسون به، ولو كان ملكاً لم يحصل لهم كمال الأنس: "قل إنما أنا بشر وهذه منّة من الله تعالى تتلوها منن: يتلو عليهم آياته في كتاب ربهم. ويزكيهم ويطهرهم من جميع الأرجاس التي يغرقون فيها إلى آذانهم .. ويعلمهم الكتاب والحكمة: القرآن والسنة، ويخرجهم من ظلمات الجهل والأمية. وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. وأي ضلال أشد مما كانوا فيه من ضلال؟
ضلال في العقيدة، حيث كان لكل قبيلة صنم، بل كان لكل بيت صنم، وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً وتدرجوا من عبادة الأصنام إلى عبادة الأحجار.
أخرج البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال: "كنا نعبد الحجر،فإذا وجدنا حجراً خيراً منه ألقيناه وأخذنا الآخر".(44/2)
أرأيت إلى هذه العقلية الضالة كيف تفكر؟ وكيف تعتقد؟ وكيف تصنع آلهتها؟ يعبدون ما ينحتون،حتى إذا خجلوا من أنفسهم قالوا: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [الزمر:3]، { بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } [الزخرف:22]، يتوارثون الكفر كابراً عن كابر، دون دليل من كتاب أو أثارة من علم، أو حياء من أنفسهم.
وضلال في المجتمع حيث تحرم المرأة من أبسط حقوقها وكانت تورث ولا ترث،وتعضل بعد طلاقها من زوجها أو بعد وفاته، وتكون من نصيب أول من يضع ثوبه عليها. وأشد من ذلك ما بلغته الجاهلية من كراهيتهم للبنات إلى حد دفنها حية في التراب. ويصور القرآن الكريم هذه المأساة ويقول: { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [النحل: 58 – 59].
أيها المسلمون:
لقد كانت الحروب تدور لأتفه الأسباب، كما وقعت الحرب بين بكر وتغلب، ابني وائل، و استمرت أربعين عاماً من أجل رجل ضرب ناقة لغيره في ضرعها فاختلط دمها بلبنها، ولم تكن هذه الجاهلية قاصرة على بلاد العرب، وإنما كانت في العالم كله وفي بلاد تدعي الحضارة وهي تعبد النار ،أو تعبد البقر، وتحرم المرأة من أخص خصائصها، بل كانت تشعل فيها النار إذا مات زوجها، هذا بعض الضلال الذي حدثنا عنه المولى تبارك وتعالى بقوله: { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } [آل عمران: 164].(44/3)
ثم كانت منّة الله على عباده ببعثة المصطفى -- صلى الله عليه وسلم -- التي لا تقوم بمال الدنيا كلها، بعثه الله بالهدى ودين الحق ليضع الجنس البشري في مساره الصحيح، وليشفيه من أمراضه قبل أن تقضي عليه، ويطهر قلوب الأفراد والمجتمعات وعقولهم، وبيوتهم وأعراضهم، وحياتهم وبواطنهم، ويردهم إلى الصواب قبل أن يفقدوا آخر أمل في نجاتهم، وفي مدة لا تساوي في عمر الزمان شيئاً في ثلاثة وعشرين عاماً من عمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي عشرات السنين من بعده تغير وجه الحياة واستقامت موازين الخلق، وارتفعت أعلام الحق، وسرى الإسلام في قلوب الناس فأحياها، كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر.
من كان يصدق أن يحدث هذا في مدة وجيزة وكأن الناس غير الناس، الذين كانوا يعبدون الأصنام حطموها بأيديهم والذين كانوا يشربون الخمر أراقوها في سكك المدينة. والذين كانوا يعشقون الحروب أصبحوا دعاة سلام،والذين كانوا يعيشون على الحرام أصبحوا دعاة ورع، والذين كانوا يفعلون الفواحش أصبحوا حراساً على الفضيلة. والذين كانوا يتوارثون الجهل أصبحوا بناة حضارة، وأساتذة العالم. والذين كانت الأنانية تقتلهم والطمع يستبد بهم، والعدوان يستهويهم، أصبحوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. والذين كانوا على شفا حفرة من النار أصبحوا بنعمة الله إخواناً.
من الذي غيرهم؟ من الذي غسلهم من أدران الوثنية وأوهام الشرك؟ من الذي جعلهم خلقاً آخر؟ الله تبارك وتعالى غيرهم بالإسلام، الذي حمل لواءه سيد الخلق، وبالقرآن الذي أنزله الله على عبده ليكون للعالمين نذيرا.
فميلاد الرسول -- صلى الله عليه وسلم -- في الحقيقة هو ميلاد الإسلام، وهو انطلاق دعوة، هو إنشاء دولة، هو مبعث حضارة، هو اعتلاء حق، وظهور دين على الدين كله ولو كره الكافرون.(44/4)
فاحمدوا الله أيها المسلمون على نعمة الإسلام، واستقيموا على هداه، وتمسكوا بكتابه، واقتدوا برسوله: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } [الأحزاب: 21]
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله:
اتقوا الله تعالى حق تقواه، واعملوا بطاعته ورضاه.
أيها المسلمون:
بالإسلام بني المسلمون دولتهم، وبالإسلام أقام المسلمون حضارتهم، وبالإسلام انتقلوا من مجرد قبائل تعيش على هامش الحياة، إلى أمة هي خير أمة أخرجت للناس، بالإسلام سار التاريخ في ركابهم، ينتقلون من نصر إلى نصر ومن مصر إلى مصر، حتى كانت الشمس لا تغيب عن أرضهم.
هذا الإسلام الذي أكرمنا الله عز وجل به، قد أوصله لنا عن طريق سيد ولد آدم وخاتم الأنبياء والمرسلين الذي قال الله تعالى له: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء: 107] وقال رسول الله-- صلى الله عليه وسلم --عن نفسه: "إنما أنا رحمة مهداة" أخرجه الحاكم.(44/5)
فحقه صلوات الله وسلامه عليه علينا أن نؤمن به وننصره ونوقره ونطيعه وننشر هديه ونظهر دينه، ألا فصلوا وسلموا عليه وعلى آله اللهم صل وسلم وزد وبارك على خير خلقك وخاتم رسلك وسيد أصفيائك وإمام أنبيائك سيدنا محمد، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم فرج هم المهمومين، وكرب المكروبين واقض الدين عن المدينين، واجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم احفظ سمو أمير البلاد وسمو ولي عهده وحقق الآمال فيما يرضيك على أيديهم ياذا الجلال والإكرام، اتقوا الله عباد الله.
وأقم الصلاة
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(44/6)
اطبع هذه الصحفة
واجبنا نحو المسجد الأقصى
يصرخ المسجد الأقصى وينادي أين الرجال؟ أين أحفاد خالد وسعد وبلال؟ يا حفاظ سورة الأنفال، أين أبطال القتال؟ أين أسود النزال؟ ألسنا كنا إخوة في الدين وما زلنا؟ فهل هنتم، وهل هنا؟ أنصرخ نحن من ألم ويصرخ بعضكم: دعنا؟ أخي في الله متى تغضب؟ إذا انتهكت محارمنا..إذا نسفت معالمنا, إذا قتلت شهامتنا.. إذا قامت قيامتنا.. فأخبرني متى تغضب؟
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 20من ربيع الأول1426هـ الموافق 29/4/2005م
واجبنا نحو المسجد الأقصى
الحمد لله رب العالمين، أعزنا بالإسلام، وجعلنا به خير أمة أخرجت للناس، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو رب الناس، وملكهم، وإلههم، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله إلى جميع الناس، وجعل شريعته باقية وعامة لجميع الأجناس، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به واتبعوه، ونشروا دينه وبلغوه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله العظيم الذي خلقكم، واستعينوا على طاعته بما رزقكم، وتمسكوا بكتابه، واعلموا أنكم مسئولون عن دين الإسلام ومعالمه، قال تعالى: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } [الزخرف: 44].
إخوة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها:
صرخة تنطلق من أعماق الصدور، وكلمات تلتهب بالنذير العظيم، يبثها المسلمون الغيارى لأجل المسجد الأقصى، كيف لا؟ والصهاينة يعدون في كل يوم أنفسهم لتدنيس واقتحام المسجد الأقصى المبارك.(45/1)
يا أيها الغافل: عجباً لقلبك كيف لا يتفطر! ويا أيها الغارق في أحلام دنياك: عجباً لعينك كيف لا تبكي دماً، والحق يسلب، والكرامة تهدر! أما علمت أن يهود قد أعلنوا النفير لاجتياح المسجد الأقصى وإقامة هيكلهم المزعوم، آلاف منهم حاولوا في العاشر من هذا الشهر احتلال الأقصى وفشلوا ولله الحمد، وسيحاولون في الأول من الشهر القادم والهدف هو هدم المسجد الأقصى، فأين نحن مما يجمعون ويخططون ؟ أين إخوة العقيدة؟ أين الرجال الذين { صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً }
يا خير أمة أخرجت للناس:
إن المسجد الأقصى يناديكم ويستصرخكم ليس الآن فقط، بل منذ زمن بعيد، وإن تناساه الناس فهو لا يزال صامداً بإذن الله، أمام هؤلاء الماكرين المتربصين
يا أيها الملك الذي…لمعالم الصلبان نكس
جاءت إليك ظلامه…تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طُهِّرت…وأنا على شرفي أدنس؟
يصرخ المسجد الأقصى وينادي أين الرجال؟ أين أحفاد خالد وسعد وبلال؟ يا حفاظ سورة الأنفال، أين أبطال القتال؟ أين أسود النزال؟ ألسنا كنا إخوة في الدين وما زلنا؟ فهل هنتم، وهل هنا؟ أنصرخ نحن من ألم ويصرخ بعضكم: دعنا؟ أخي في الله متى تغضب؟ إذا انتهكت محارمنا..إذا نسفت معالمنا, إذا قتلت شهامتنا.. إذا قامت قيامتنا.. فأخبرني متى تغضب؟
أيها الأحبة في الله:(45/2)
إن للمسجد الأقصى مكانة عظمى، إذ هو مسرى رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ومنه عرج به إلى السماء، قال تعالى:( { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير } ُ [الإسراء:1]،وهو أولى القبلتين، إذ توجه المسلمون بصلاتهم نحو المسجد الأقصى بعد رحلة الإسراء والمعراج مدة ستة عشر شهراً، حتى أمر الله تعالى بتحويل القبلة إلى المسجد الحرام، وهو ثاني المسجدين بناءً، كما أخرج البخاري عن أبي ذر الغفاري ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت لرسول الله: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولا ؟ قال: " المسجد الحرام "، قلت ثم أي، قال: "المسجد الأقصى"، قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة", وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال، لقوله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" متفق عليه .
ألا وإن بأكناف المسجد الأقصى ونواحيه تكون الطائفة الظاهرة على الحق: فعن أبي أمامه ألبا هلي، أن رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله ـ عز وجل ـ وهم كذلك، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: "في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس"، والمسجد الأقصى ملتقى الأنبياء بالرسول ـ عليهم الصلاة والسلام ـ حين صلى بهم إماماً في رحلة الإسراء والمعراج، وهو وقف إسلامي بكل ساحاته وقبابه وأسواره وكل ما تحته وما فوقه وقف إسلامي، وليس لغير المسلمين حق فيه، فالمسجد الأقصى المبارك مسجد إسلامي بقرار رباني وليس بقرار وضعي.(45/3)
أما علمتم يا عباد الله أن المسجد الأقصى يمر بأخطر مرحلة على مر التاريخ، فمنذ أربعة عقود والمسجد الأقصى يرزح تحت الاحتلال الإسرائيلي، ومن ذلك الوقت وهو يتعرض للحصار والأخطار، وتوضع الخطط لهدمه، وبناء الهيكل الثالث المزعوم على أنقاضه، ويتعرض كذلك لحملات ومراحل متتابعة من الأنفاق الخطيرة التي تقوم عليها مؤسسات إسرائيلية رسمية، والتي لم تنقطع يوماً، كل ذلك يجعل المسجد الأقصى مهدداً بالانهيار في أي لحظة.
أيها المسلمون:
إن المسجد الأقصى يتعرض لحملة من الاستيطان الإسرائيلي لتفريغ محيطه من المسلمين، وتفريغ مدينة القدس من السكان العرب والمسلمين لتصبح مدينة يهودية صرفة. فيا أمة المليار. الله الله في الأقصى. الله الله في القدس أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فأحسن، ودبر فأتقن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتفضل بالمنن، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله من هدى إلى أقوم السنن،صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس:أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته،فإن التقوى سبيل الفلاح، وطريق النجاح في الدنيا والآخرة,
أيها المؤمنون:(45/4)
هناك أكثر من ثلاثين منظمة يهودية، تخطط وتعمل على هدم الأقصى وبناء الهيكل المزعوم، وتتزايد أنشطة هذه المنظمات والمجموعات يوماً بعد يوم، وفي كل يوم تسمح الشرطة الإسرائيلية لليهود بدخول المسجد الأقصى، ومنذ ثلاث سنوات تمنع المؤسسة الإسرائيلية إدخال أي نوع من مواد البناء للترميم أو الإعمار، الأمر الذي يهدد مستقبل المسجد الأقصى، من أجل ذلك كله.. علينا أن نقوم بمسؤولياتنا لحماية المسجد الأقصى المبارك من هذه الأعمال الشنيعة المنكرة وذلك بكل الوسائل الممكنة والمتاحة،قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم --: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" أخرجه مسلم.
فالمطلوب أيها المسلمون:
استحضار النية الصادقة واستدامتها لنصرة المسجد الأقصى المبارك، وتوجيه الناس والطلاب بالمحاضرات والدروس بمكانة المسجد الأقصى، وضرورة الدفاع عنه، ودعم من يرابطون حوله، والدعاء والابتهال إلى الله سبحانه وتعالى أن يحفظ المسجد الأقصى المبارك من دنس اليهود والصهاينة، ويهيئ له من يقوم بحمايته وتحريره، وتوزيع الكتب والأشرطة التي يدور حديثها عن الأقصى، والتبرع بالمال للمؤسسات القائمة على رعاية المسجد الأقصى وحمايته، فهذا جهاد بالمال لا يقل أهمية عن الجهاد بالنفس ،وزرع حب الأقصى والقدس في نفوس أبنائنا وبناتنا في البيوت والمساجد والمدارس والنوادي، وعبر الوسائل المختلفة، إبداء النصرة للمسجد الأقصى المبارك ونشر أخباره وأحواله من خلال المشاركة في برامج البث المباشر عبر الإذاعة والتلفاز ومنتديات الإنترنت.
عباد الله:(45/5)
إن المستقبل لهذا الدين، وسيرجع المسجد الأقصى والقدس إلى المسلمين، وسيصلي فيه المسلمون بإذن الله تعالى، فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه - أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم -- قال: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود".
اللهم احفظ أقصانا من أيدي اليهود، اللهم احفظ المسجد الأقصى من كل سوء، اللهم اجعل كيدهم في نحورهم، اللهم وحد كلمة المسلمين على الحق والتقوى اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين،وأذل الكفر والكافرين،وسائر أعداء الملة والدين، يا قوي يا متين، اللهم آمنا في الأوطان والدور،وأصلح لنا ولاة الأمور،واشرح لتحكيم كتابك الصدور،يا عزيز يا غفور، اللهم وفق أميرنا وولي عهده لهداك،واجعل عملهم في رضاك،وارزقهم اللهم البطانة الصالحة والحاشية الناصحة التي تدلهم على الخير وتحثهم عليه،وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(45/6)
اطبع هذه الصحفة
الدنيا مزرعة الآخرة
لنستمع إلى هذا النداء الخالد من المولى عز وجل: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) } [فاطر الآية: 5 - 6]، فربنا سبحانه وتعالى ينادينا ويؤكد لنا، أنه لا بد من وقوع ما وعدنا به من البعث والنشور، والجزاء على أعمالنا بالثواب والعقاب، ويحذرنا من فتنتين تصدان العبد عن الاستعداد للقاء هذا الوعد الحق، هما: فتنة الدنيا، وفتنة الشيطان، وكم في كتاب الله من التحذير من الاغترار بهذه الدنيا وذمها، وبيان سرعة زوالها وضرب الأمثال لها، ما يكفي بعضه زاجراً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 27من ربيع الأول 6/5/2005م
الدنيا مزرعة الآخرة
الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمه الباطنة والظاهرة، وجعل الدنيا لنا مزرعة للآخرة، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث للناس كافه المؤيد بالمعجزات الباهرة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس:(46/1)
أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلانية، واعلموا أنكم ما خلقتم عبثاً، ولم تتركوا سدى، خلقكم الله لعبادته، وأمركم بتوحيده، وأمدكم بنعمه الغِزَار، وسخر لكم الليل والنهار، لتستعينوا بذلك على طاعته، وأرسل إليكم رسوله، وأنزل عليكم كتابه، ليبين لكم ما يحل وما يحرم، وما ينفعكم وما يضركم، وما أنتم قادمون عليه من الأخطار والأهوال، لتأخذوا حذركم، وتستعدوا لما أمامكم، فالعمل في هذه الدنيا والجزاء في الآخرة، يقول الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "ارْتَحَلَتِ الدنيا مُدْبِرَة، والآخرة مُقْبِلَة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل".
عباد الله:
لنستمع إلى هذا النداء الخالد من المولى عز وجل: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) } [فاطر الآية: 5 - 6]، فربنا سبحانه وتعالى ينادينا ويؤكد لنا، أنه لا بد من وقوع ما وعدنا به من البعث والنشور، والجزاء على أعمالنا بالثواب والعقاب، ويحذرنا من فتنتين تصدان العبد عن الاستعداد للقاء هذا الوعد الحق، هما: فتنة الدنيا، وفتنة الشيطان، وكم في كتاب الله من التحذير من الاغترار بهذه الدنيا وذمها، وبيان سرعة زوالها وضرب الأمثال لها، ما يكفي بعضه زاجراً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
أيها الإخوة المؤمنون:(46/2)
إن الدنيا في الحقيقة لا تذم لذاتها، فهي قنطرة إما إلى الجنة وإما إلى النار، والمذموم فيها اشتغال العبد بالشهوات والغفلة، والإعراض عن الله والدار الآخرة، وإلا فالدنيا مبنى الآخرة ومزرعتها، ومنها يؤخذ الزاد إلى يوم التناد، { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [البقرة الآية: 197]، { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } [الحاقة الآية: 24]، فإن أعمالنا في هذه الحياة هي الحصيلة التي نخرج بها من هذه الدنيا ويترتب عليها مصيرنا الأخروي، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يتبع الميت ثلاثة أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى عمله" (متفق عليه) فالعمل هو رفيق الإنسان في قبره ينعم به إن كان صالحاً ،ويعذب به إن كان سيئاً.
عباد الله:
لقد حدثنا القرآن الكريم عن غايات الناس ومقاصدهم في هذه الحياة الدنيا، فبين أن منهم من لا هم له إلا التمتع بما فيها من الزينة الظاهرة، يقول الله عز وجل: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [آل عمران الآية: 14].
وذكر صنفاً آخر لا هم له إلا إذكاء الفتن والشرور بين الناس، قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ (205) } [البقرة الآية: 204 - 205].
أيها الإخوة المؤمنون:(46/3)
إذا كانت هذه هي بعض غايات الناس واهتماماتهم، فإن قدوتنا هو محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - الذي جعل هذه الدنيا مطية للآخرة، واستعملها في طاعة الله وخاف من التنعم بها، وأورث أصحابه ذلك، ففي الصحيحين عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه- قال: "هاجرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نلتمس وجه الله فوقع أجرنا على الله فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير - رضي الله عنه - قتل يوم أحد وترك بردة فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجليه بدا رأسه فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه شيئاً من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها". وفي البخاري أن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه- أتى بطعام وكان صائماً فقال: "قتل مصعب بن عمير وهو خير مني فلم يوجد له كفن إلا بردة، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط أو قال أعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشيت أن تكون عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام".
لقد فهموا - رضي الله عنهم - أن هذه الدنيا للامتحان والابتلاء فاعتنوا بما خلقوا له وأعرضوا عن حظوظ الدنيا بالزهادة فيها.
إن لله عباداً فُطَنا……طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا……أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا……صالح الأعمال فيها سفنا
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، خلق كل شئ فقدره تقديراً، وأشهد أن لا إله إلا الله لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله:(46/4)
اتقوا الله تعالى، واستغلوا أوقات حياتكم فيما ينفعكم في الدار الآخرة { يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) } [الشعراء الآية: 88 - 89]، يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر" { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } [الحاقة الآية: 18]، واعلموا أن هذه الأوقات إذا لم تعمر بالطاعات سوف نخسرها ونتحسر على فواتها قال تعالى: { وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } [العصر]، فتأمل أخي المسلم مع أي الصنفين أنت؟ أمع الخاسرين أم مع الرابحين؟
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت لنا راحة من كل شر، اللهم أقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم أصلح ولاتنا وولاة أمور المسلمين، واحفظ اللهم أميرنا وولي عهده الأمين.(46/5)
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(46/6)
اطبع هذه الصحفة
الطلاق وأسباب وعلاج
العلاقة الزوجية علاقة خاصة ومميزة, وعقد الزواج عقد فريد وكريم, جعل الإسلام له مكانة عالية, ومنزلة سامية, حتى قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم -- : "إن أحق الشروط أن توفوا به: ما استحللتم به الفروج" [ متفق عليه ] من حديث عقبة بن عامر- رضي الله عنه - ومن هنا, كان التعامل مع هذا العقد الكريم تعاملا خاصاً, يحظى بعناية بالغة, ورعاية فائقة, واحترام شديد, وكانت المحافظة عليه من الانفراط من الأمور الجليلة الشأن, العظيمة المقدار في دين الإسلام.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 5من ربيع الآخر1426هـ الموافق 13/5/2005م
الطلاق: أسباب وعلاج
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد:
فيا عباد الله:
أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله تعالى وطاعته, قال الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [سورة آل عمران/ الآية102].
أيها المسلمون:
إن من النعم العظيمة التي أسداها إلينا ربنا الكريم جل جلاله: نعمةَ الزواج, نعمةَ اقتران الذكر بالأنثى بالرباط الشرعي والميثاق الغليظ, بل إن الزواج آية من آيات الله تعالى الكبرى التي تدل على كمال عظمته وحكمته, قال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [سورة الروم/ الآية 21].(47/1)
فالعلاقة الزوجية علاقة خاصة ومميزة, وعقد الزواج عقد فريد وكريم, جعل الإسلام له مكانة عالية, ومنزلة سامية, حتى قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم -- : "إن أحق الشروط أن توفوا به: ما استحللتم به الفروج" [ متفق عليه ] من حديث عقبة بن عامر- رضي الله عنه - ومن هنا, كان التعامل مع هذا العقد الكريم تعاملا خاصاً, يحظى بعناية بالغة, ورعاية فائقة, واحترام شديد, وكانت المحافظة عليه من الانفراط من الأمور الجليلة الشأن, العظيمة المقدار في دين الإسلام.
فأمّا الشيطان الذي توعّد بإغواء بني آدم, فإنّ أشد ما يُفرحه: أن يفرق بين المرء وزوجه؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه, عن جابر- رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: "إن إبليس يضع عرشه على الماء, ثم يبعث سراياه, فأدناهم منه منزلةً أعظمهم فتنةً: يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا, فيقول: ما صنعتَ شيئا. قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرّقتُ بينه وبين امرأته, قال: فيدنيه منه فيلتزمه ويقول: نِعمَ أنت".
ولكن مع هذا كله, فقد يَحدث هذا الانفراط, ويقع ذلكم التمزق, فينشأ الشقاق, ويحصل الطلاق, وذلك لأسباب, قد تكون معقولةً مقبولة, وقد تكون مرفوضةً مردودة, فنريد أن نتفحّص هذه الأسباب؛ لنقف على المرض والداء, ونصل إلى العلاج والدواء, لكنْ لندرك – عباد الله – أن وقوع الطلاق لا يعني بالضرورة النقصانَ من قدر الزوجة والحطَّ من مكانتها, بل ربما تكون الزوجة خيرًا من زوجها وأتقى لله منه.
معاشر المؤمنين:(47/2)
إن من أهم وأخطر الأسباب التي يقع بسببها الطلاق: هو فساد دين أحد الزوجين, أو سوء خلقه؛ وذلك أن الإنسان متى ما كان فيه شيء من ذلك, وقع منه كل ما يَشين, وبدر منه ما لم يكن يخطر ببال, وكان في ذلك الألم والمعاناة والشقاء، ومن أجل هذا فقد شدّد الإسلام في مسألة الاختيار من الطرفين, وجعل الميزان في ذلك هو التقوى والدين والخلق, قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [سورة الحجرات/الآية13], وقال النبي - - صلى الله عليه وسلم - -: "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه, إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض"[أخرجه الترمذي وابن ماجة], وقال - - صلى الله عليه وسلم - - أيضا -: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها, فاظفر بذات الدين تربت يداك" [متفق عليه] من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وأهم ما في الأخلاق: الحلم والصبر, والصدق والأمانة, وأهم ما في الدين: المحافظة على الصلوات, وترك المنكرات كشرب الخمر والزنى والربا، والمطلوب هو التروي وعدم الاستعجال عند الاختيار, والبحث والسؤال بتمعن ودقة وطول بال.
أيها المسلمون:
ومن الأسباب التي يقع بسببها الطلاق والفراق: قلة الصبر وضعف الإيمان؛ وذلكم أن الحياة الزوجية لا بد وأن يكون فيها بعض الأخطاء والعثرات, أو التقصير والهفوات, وربما شيء من عدم التلاؤم والتوافق في الطباع والعادات, ولا سيما في أول عهد هذه الحياة الجديدة؛ فإنّ كل طرف قد قَدِم من بيئة ومنزل وحياة تختلف عن الأخرى, فيحتاج الزوجان إلى شيء من الوقت لتقليل هذا الاختلاف، ويذكر المختصون أن الزوجين يحتاجان – في الغالب - إلى ثلاث سنين للتكيف التام مع هذه الحياة الجديدة, وحصول الانسجام بينهما, وتلاشي الخلافات الظاهرة المتكررة.(47/3)
ولا شك أن المسلم الذي يهتدي بهدي الله عز وجل, ويقتدي برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -, يدرك أن المرء يخطئ ويقصر, ويقع منه الخطأ والزلل, وربما الخطيئة والخلل، ولهذا فقد أرشدنا النبي - - صلى الله عليه وسلم - - إلى كيفية التعامل حين يرى أحد الزوجين خلقا لا يرتضيه من الآخر, فقال: "لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً؛ إن كره منها خلقاً رضي منها آخر" [أخرجه مسلم].
معاشر المسلمين:
ومن الأسباب الداعية للطلاق, والحاثة على الفراق: تفاجؤ الزوج بمستوى جمال زوجته حين يتعرف عليها ويختلط بها؛ وذلكم أنه لم يرها من قبل, فما كان يمني به نفسه لم يتحقق له، وهذه قضية مهمة جداً عباد الله, وإن تساهل فيها كثير من الناس أو تغافلوا عنها؛ وهي حصول الزواج دون نظر أحد الزوجين للآخر والاعتماد على وصف الواصفين الذي لا يخلو في كثير من أحيانه من المبالغة أو عدم الدقة, مع كون الجمال أمرًا نسبيا, فما يستحسنه شخص قد يستقبحه آخر, وما يعجب فلانا قد لا يرتضيه الثاني.
وأما شرعنا الكريم, وديننا العظيم, فقد أكد على هذه المسألة تأكيداً بالغاً, وأعطاها حقها من العناية والاهتمام, ويظهر ذلك جليا في النصوص الكثيرة التي جاءت تحث على نظر الخاطب إلى مخطوبته قبل الزواج بشرط عدم الخلوة بها، فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -, أنه قال: كنت عند النبي - - صلى الله عليه وسلم - -, فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار, فقال له رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: "أنظرت إليها ؟" قال: لا, قال: "انظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئا" يعني الصغر,[ أخرجه مسلم].
وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه-, أنه خطب امرأة , فقال النبي - - صلى الله عليه وسلم --: "انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" [أخرجه أحمد وغيره]، وزاد البيهقي: قال: فنظرت إليها, ثم تزوجتها, فما وقعت عندي امرأة بمنزلتها, ولقد تزوجت سبعين, أو بضعا وسبعين امرأة.(47/4)
أيها المسلمون:
وإن مما ينبغي على الولي تُجاه مَوْليّته: أن يستشيرها فيمن يريد أن يزوجها؛ وإلا فقد يكون الطلاق هو النتيجة لإكراهها على الزواج ممن لا ترغب فيه, وقد ثبت في الصحيحين, من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه-, أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم -- قال: " لا تُنكَح الأيِّمُ حتى تستأمر, ولا تُنكَح البكرُ حتى تستأذَن ". والأيم: الثيب التي فارقت زوجها بطلاق أو موت.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, الإله الحق المبين, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, إمام المتقين, وخاتم المرسلين, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله, اتقوا الله حق تقواه, واعملوا بطاعته ورضاه.
أيها المسلمون:
ومن أسباب الطلاق والشقاق: ما يعيشه كثير من الأزواج من حياة الجفوة والجفاء في العلاقة التي تربط بينهما, ومن الفتور والملل الذي أصبح عنوانا لهما: عاطفةٌ ضعيفة, وإحساس خامل, وود باهت, وتواصل جاف، فالمطلوب من المسلم بصفة عامة ومن الزوجين بصفة خاصة: أن يشعر كل منهما بشعور الآخر, وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه, وأن يعلم أن الغنم بمقابل الغرم, وأن الأخذ بمقدار العطاء, وأن الواجب على كل طرف أن يكون هو المبادر إلى الإحسان والحب والوفاء, وإنما يتحقق ذلك بأمور:
منها: أن يفرغ كل من الزوجين من وقتهما للآخر, وذلك في كل يوم ؛ حتى يحصل الاجتماع والالتقاء, والحديث والتحاور, فينشأ بسبب ذلك الود والمحبة, والإلف والوئام.(47/5)
ومنها: الكلمة الطيبة, وإبداء الاهتمام بما يتكلم به الطرف الآخر, وهكذا كان قدوتنا ورسولنا محمد - - صلى الله عليه وسلم -- , فهذه زوجته عائشة - رضي الله عنها- تحدثه عن إحدى عشرةَ امرأةً اجتمعن يذكرن أخبار أزواجهن بما فيهم من محاسن ومعايب, وذكرت الأخيرة زوجَها أبا زرع وما كان عليه من حسن عشرته لها, فقال النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لعائشة: "كنت لكِ كأبي زرع لأم زرع".
ومنها: التهادي ولو قدم عهد الزواج, فإن الهدية تزرع المحبة في القلوب, أخرج أبو يعلى من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه – أن نبينا - - صلى الله عليه وسلم -- قال : "تهادَوْا تحابُّوا".
عباد الله:
ومن الأمور المهمة التي يجب على الزوج التنبه لها: أنه يتأكد عليه شرعًا أن يجعل لزوجته مسكنًا مستقلاًّ, وبخاصةٍ عند تفاقم المشكلات بسبب ذلك؛ فإن ذلك كفيلٌ بالحدِّ من التوتر, ومِن إضفاء الهدوء على حياتهما الزوجية، ولْنعلم أن كثيرًا من المصاعب التي تعترض طريق الزوجين إنما تكون نتيجة تدخل أهل أحد الزوجين في الأمور الخاصة بهما, والمطلوب هو الابتعاد عما لا تعلق لهم به؛ فإن ذلك أسلم وأفضل.
معاشر المؤمنين:
إن الحلم والصبر كفيلان بتغيير الأحوال وقلبها من النقيض إلى النقيض: فمن كره وبغض إلى حب وود, ومن سخط وغضب إلى رضا وقبول, والله تعالى يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } [سورة النساء/ الآية:19].(47/6)
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما. اللهم أصلح لنا أزواجنا, واجمع على الحق قلوبنا, ووفقنا في الدنيا والآخرة، اللهم أغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ، إنك سميع مجيب الدعوات، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم وفق أميرنا وولي عهده لهداك،واجعل عملهما في رضاك،وارزقهما اللهم البطانة الصالحة والحاشية الناصحة وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(47/7)
اطبع هذه الصحفة
شقائق الرجال
كانت المرأة مهضومة مظلومة معدودة عند كثير من الرجال في سقط المتاع، وكانت اليونان تسمح للآباء والأزواج أن تؤجر المرأة وتعار وتشترى وتباع، وكانت شريعة الرومان تكمُّ فم المرأة عن الضحك والكلام وتلحقها بالبهائم وضواري السباع، وكان العرب يرثونها كبيرة ويئدونها صغيرة ولا تحضر مجالسهم ولا تشاركهم في أي اجتماع، ثم لمّا جاءت شريعة الإسلام أخرجت المرأة من الظلمات إلى النور فارتفعت في إنسانيتها غاية الارتفاع، وصارت مكلفة مشاركة للرجال في كثير من الأحكام والأوضاع، يكلمها الرسول ويخاطبها القرآن فيخبرها أن عملها كعمل الرجال عند الله لا يضاع.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 12من ربيع الآخر 1426هـ الموافق 20/5/2005م
شقائق الرجال
إن الحمد لله، أحمده وأستعينه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق الزوجين الذكر والأنثى، وجعل لكلٍٍ دوره في الحياة الدنيا، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الذي أوصى أمته بالنساء خيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ما صبحٌ بدا، وما ليل سجا، وسلم تسليما سرمديا أبدا.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس بتقوى الله جل وعلا، فإنها العدة في الشدة والرخاء، والذخيرة في السراء والضراء، تكشف الهموم، وتذهب الغموم، وتجلب الأرزاق، وتدفع المشاق، بإذن الرب الخلاق، وتسعد صاحبها يوم التلاق يقول الله سبحانه وتعالى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ(3) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } [الطلاق: 2-5].
عليك بتقوى الله في كل أمره…تجد غبَّه يوم الحساب المطول
ألا إنَّ تقوى الله خير مغبة…وأفضل زاد الظاعن المترحل(48/1)
عباد الله:
كانت المرأة مهضومة مظلومة معدودة عند كثير من الرجال في سقط المتاع، وكانت اليونان تسمح للآباء والأزواج أن تؤجر المرأة وتعار وتشترى وتباع، وكانت شريعة الرومان تكمُّ فم المرأة عن الضحك والكلام وتلحقها بالبهائم وضواري السباع، وكان العرب يرثونها كبيرة ويئدونها صغيرة ولا تحضر مجالسهم ولا تشاركهم في أي اجتماع، ثم لمّا جاءت شريعة الإسلام أخرجت المرأة من الظلمات إلى النور فارتفعت في إنسانيتها غاية الارتفاع، وصارت مكلفة مشاركة للرجال في كثير من الأحكام والأوضاع، يكلمها الرسول ويخاطبها القرآن فيخبرها أن عملها كعمل الرجال عند الله لا يضاع.
إخوة الإسلام:
لقد عجزت عقول واضعي حقوق الإنسان أن تصل إلى مستوى حقوق المرأة في الإسلام، فقد ضمن لها حقوقها أماً وبنتاً وزوجةً وأختاً، وقد أنكر القرآن الكريم على المشركين تشاؤمهم بالأنثى وعاب عليهم ذلك فقال سبحانه: { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يتواري مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [النحل:58-59]، واعتبر الإسلام حسن تربية البنات من أسباب دخول الجنات، كما جاء في الحديث: "من كان له ثلاث بنات يؤويهن ويكفيهن ويرحمهن فقد وجبت له الجنة البتة" فقال رجل من بعض القوم: واثنتين يا رسول الله؟ قال: "واثنتين" أخرجه البخاري.
كما يعطي الإسلام المرأة كامل الحرية في اختيارها لزوجها، ولو أنها أكرهت على الزواج من شخص لا ترتضيه فالشارع يجعل الأمر إليها إن شاءت أمضت، وإن شاءت فسخت، أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن جاريةً بكراً أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".(48/2)
وحين تكون المرأة أمّا فإن منزلتها تعظم، ويكفي أن التواضع لها سبب لدخول الجنة كما أخرج ابن ماجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل ترك أمه يريد الجهاد: "ويحك الزم رجلها فثم الجنة"، بل إن الشارع وصى بالأمهات وبالوالدين عموما حتى بعد مماتهما فقد أخرج الإمام أحمد عن مالك بن ربيعة أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما ؟ قال: "نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما".
وإلى جانب ذلك كله فقد حافظ الإسلام على المرأة، وصانها من عبث العابثين، وطمع الطامعين، فأراد لها أن تبقى جوهرة مصونة ودرة مكنونة، ولا تمتد إليها يد مجرمة، أو كلمة آثمة، فحرّم عليها التبرج، وألزمها الحجاب، وشرع لها من الآداب، ما يصون عفتها، ويحفظ لها كرامتها.
أيها الإخوة المؤمنون:
كانت المرأة وما زالت لها أثر في التربية والبناء، والبطولة والتضحية والفداء، والمشاركة بحسن الآراء، كانت مثالا يحتذى به في القيام بعبء الدعوة، والعبادة وعلو الهمة، فهذه أم المؤمنين خديجة – رضي الله عنها – تفني شبابها سنداً للدعوة، وحاميةً للرسالة، وهي أول قلب آمن بنبي المرحمة 0
وقدمت المرأة دمها وحياتها في سبيل الله شهيدة طاهرة، بل كانت المرأة أول شهيدة في الإسلام، إنها سمية زوجة ياسر وأم عمّار - رضي الله عنهن - جميعا.
كما كانت المرأة فقيهة بارعة، عالمة داعية، يقول أبو موسى الأشعري – رضي الله عنه: "ما أشكل علينا حديث قط، فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما" فصارت ـ رضي الله عنها ـ مرجعا في كل علم ، حلاً لكل مشكلة.(48/3)
لقد أسهمت الفتاة المسلمة بكل جهد في نصرة الإسلام، ولذلك وصفت أسماء بنت أبي بكر بذات النطاقين، لتضحية بذلتها في الهجرة، وذلك حين شقت نطاقها بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ ليستعينوا به في سفرهم وهجرتهم.
أما نساء قيام الليل، فالحديث عنهن يطول، ونقتطف من نسماته موقف امرأة حبيب أبي محمد الفارسي، فلقد كانت توقظه بالليل وتقول: "قم يا حبيب، فإن الطريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قد سارت من بين أيدينا، ونحن قد بقينا".
المرأة توجه الأجيال، وتصنع الرجال، فقد كان نساء السلف يوصين أزواجهن إذا خرجوا لطلب المال ، فيقلن لهم: "اتقوا الله فينا ولا تطعمونا الحرام، فإنا نصبر على الجوع ولا تصبر على النار الأجسامُ" وتقول أم سفيان الثوري لابنها: "يا بني اذهب واطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي" ثم تقول له: "يا بني إذا حفظت شيئا من العلم فانظر هل تزيد أم تنقص".
المرأة وإن كانت قارةً في بيتها إلا أنها تتحسس آلام المجتمع، وأحزان اليتامى، تشعر بمأساة الأمة فتدفع من مالها، وتنفق للخير من وقتها، تقول عائشة عن زينب بنت جحش – رضي الله عنهما -: "ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب بنت جحش، وأتقى لله، وأصدق حديثا،وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالا في العمل الذي تصدق به وتقرب به إلى الله تعالى".
أتباع سيد المرسلين:
هذه صور مشرقات، وصفحات نيرات، من حياة الصالحات السابقات، فيها العظة والعبرة، لكل امرأة ترجو الله والدار الآخرة، لا سيما في أيامنا الحاضرة، فإذا أرادت المرأة المسلمة الأسوة والقدوة، فما عليها إلا النظر في سيرهن، والتأمل والاستفادة من أخبارهن، وليس لها أن تنظر إلى بعض نساء هذا الزمان، من اللائي آثرن الذنوب والعصيان، فخدشن الفضيلة وهتكن ستر الرحمن.
مدنية لكنها جوفاء…وحضارة لكنها أفياء
تدعو التهتك والسفور فضيلة…ونتاج ذاك الشر والفحشاء(48/4)
لا وازع يزع الفتاة كمثل ما…يزع الفتاة صيانة وحياء
وإذا الحياء تهتكت أستاره…فعلى الحياء من الحياة عفاء
ولْيَهْن المرأة قول الرب سبحانه: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ } [البقرة:228]
فاتقوا الله عباد الله، وربّوا بناتكم ونساءكم على الحشمة والفضيلة، وحولوا بينهن وبين أسباب السقوط والرذيلة ممتثلين قول خير البرية طُرا، حين قال: "استوصوا بالنساء خيرا" أخرجه البخاري.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي تفرد بكل كمال، واختص بأبهى جمال وأعلى جلال، وتفضل على عباده بجزيل النوال، له الحمد في كل حال وعلى كل حال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تقدس عن الأشباه والأمثال، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله المنعوت بأشرف الخلال وأكرم الخصال - صلى الله عليه وسلم - وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وأفضل آل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله سبحانه في أنفسكم وأسركم وأهليكم. اتقوه في أولادكم ورعاياكم ومن تحت أيديكم، اتقوه فإنه سبحانه يقيكم ويغنيكم ويهديكم، واعلموا أن المرأة المسلمة تواجه في هذا الزمان دعاوى منهزمة، وأفكارا آثمة، يصور فيها أن حياتها رزية، وكرامتها مهدرة وهم يزعمون – هداهم الله – أنها طاقة مهملة، ورئة معطلة.
وإننا لنتساءل:
أي شيء يريده أدعياء المدنية من تحرير المرأة؟ أيعدون الحجاب، ولبس الجلباب، هضما لحقها، وحكما برقها؟(48/5)
كلا إن المبالغة في سترها، وذلك بالتزام خدرها، وكتم سرها، لهو منتهى سعادتها، وغاية صونها، حكم بهذا ربها، الذي خلقها، وهو عالم بما ينفعها أو يضرها: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [الأحزاب:33]
ثم صلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على النعمة المسداة والرحمة المهداة وخير خلق الله: محمد بن عبد الله كما أمر ربكم جل في علاه، فقال عز من قائل: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم،وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم أصلح نساءنا ونساء المسلمين، وقهن شر التبرج والتشبه بأعداء الدين، اللهم اجعلهن صالحات مصلحات، واجعلهن اللهم في الجنات، واغفر اللهم للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم وفق أميرنا وولي عهده لهداك، واجعل عملهما في رضاك، اللهم هيئ لهما البطانة الصالحة، والحاشية الناصحة التي تحثهم على الخير وتدلهم عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(48/6)
اطبع هذه الصحفة
حقوق الجوار
إن الإحسان إلى الجار يكون بتأدية حقه وكف الأذى عنه وبذل العون إليه، فمن حق الجار عليك أن تسلم عليه إذا لقيته وأن تلقاه ببشاشة ووجه طلق وأن تتفقد أحواله إن كان فقيرا وتعوده إن كان مريضا وأن ترد لهفته وتصون حرمته وتحفظ غيبته، كما يجب عليك أخي المسلم أن تجتنب الافتخار والتعالي على جارك وإساءة الظن به والتجسس عليه فلا تسبب له قلقا في راحته أو اضطرابا في معيشته ولا تكن عليه حقودا أو لما أنعم الله به عليه حسودا.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 19من ربيع الآخر1426هـ الموافق27/5/2005م
حقوق الجوار
الحمد لله الذي أمرنا بالبر والصلة ونهانا عن العقوق وجعل حق المسلم على المسلم من آكد الحقوق وجعل للجار حقا على جاره وإن كان من أهل الكفر والفسوق نحمده تعالى وبه الوثوق وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الخالق وكل شئ سواه مخلوق وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الصادق المصدوق صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته وأحذركم من معصيته ومخالفته واعلموا أن الإسلام أوجب بين الناس التعاون والإحسان وحرم عليهم الأذى والعدوان وأقام العلائق بين الخلائق على الحب والإخاء والتراحم والوفاء ولهذا أوصى الإسلام بالجار وأمرنا بالإحسان إليه وأكد حقه وحذر من إيذائه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" [متفق عليه] فالإحسان إلى الجار من علامات الإيمان وإيذاؤه يضعف الإيمان قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل: من يا رسول الله؟ خاب وخسر؟من هذا، قال: من لا يأمن جاره بوائقه" [متفق عليه] وفي هذا تعظيم لحق الجار وترهيب من إيذائه، وإضراره.
عباد الله:(49/1)
إن الإحسان إلى الجار يكون بتأدية حقه وكف الأذى عنه وبذل العون إليه، فمن حق الجار عليك أن تسلم عليه إذا لقيته وأن تلقاه ببشاشة ووجه طلق وأن تتفقد أحواله إن كان فقيرا وتعوده إن كان مريضا وأن ترد لهفته وتصون حرمته وتحفظ غيبته، كما يجب عليك أخي المسلم أن تجتنب الافتخار والتعالي على جارك وإساءة الظن به والتجسس عليه فلا تسبب له قلقا في راحته أو اضطرابا في معيشته ولا تكن عليه حقودا أو لما أنعم الله به عليه حسودا.
أيها الإخوة المؤمنون:
إن كثيرا من الناس يأكلون ما لذ وطاب ثم لا يهمهم من أمر جارهم شيء وهؤلاء لم ينصتوا لتعاليم الإسلام ولم يمتثلوا أوامر المليك العلام يقول الله عز وجل:( { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } [النساء: 36] أخرج مسلم عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك".
عباد الله:
إن واقع بعض الناس اليوم بعيد عن روح هذه التعاليم والآداب، فالجار لم يعد له ذلك الاحترام والتقدير فضيعت حقوقه وقطعت به الصلات فإن كان فقيرا أهمل شأنه وزهد جيرانه فيه وإن كان ضعيفا لم يتورع جيرانه عن إيذائه واستضعافه وإن كان ذا نعمة حسدوه وأبغضوه وحقدوا عليه وإذا مرض لم يعودوه وإذا احتاج لم يعينوه.
هكذا بلغت بالمسلمين القطيعة – والعقوق والبغضاء وإلى هذا الحد تمزقت علاقة الجوار والود والإخاء وغدا الكثير من الناس لا يتورعون عن إيذاء الجار بالفعل أو القول ويحرصون على إغاظته والكيد له وليتهم علموا أن ذلك من أكبر الكبائر المفضية بصاحبها إلى النار.(49/2)
ألا فليحسن كل واحد منا إلى جاره وليؤد إليه حقوق الجوار كاملة وواجبات الإخوة قاطبة وذلك بكف الأذى وبذل المعروف وحسن التودد والمؤاخاة، وحذار أيها الجيران من السباب والخصام، فإن ذلك فسوق بآداب الإسلام وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" [متفق عليه]، فالجار له حرمة عظمها الله ورسوله وبانتهاكها يضاعف العذاب ويؤدي إلى فظاعة الجرم وتنكيل العقاب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون: اتقوا الله تعالى فيما أمر وانتهوا عما نهى عنه وزجر.
عباد الله:
لقد كان العرب في الجاهلية والإسلام يحمون الذمار ويتفاخرون بحسن الجوار وعلى قدر الجار يكون ثمن الدار والإسلام يأمر بحسن المجاورة ولو مع الكفار وشر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه وتباعد عنه من يعرفه تجنبا لضره وشر الجيران من يتتبع ويتطلع إلى العورات في سره وجهره وليس بمأمون على دين ولا نفس ولا أهل ولا مال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره" [أخرجه مسلم] فعليك أخي المسلم بإكرام جارك وتعاهده بالصلة والإنعام والبشاشة والإطعام ولا تستقل من ذلك شيئاً فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة" [متفق عليه].
أيها المسلمون:(49/3)
إذا كانت النصوص الشرعية قد نطقت بما مر معنا من حقوق للجار فإن تاريخنا الإسلامي يشهد كذلك بنماذج مضيئة وأمثلة رفيعة ها هو الإمام الذهبي - رحمه الله - يذكر في السير أن جارا لأبي حمزة السكري أراد أن يبيع دارا له فسئل بكم؟ فقال بألفين ثمن الدار وبألفين جوار أبي حمزة، فوجه إليه أبو حمزة بأربعة آلاف وقال: (لا تبع دراك)، ويذكر أيضا أن الإمام أحمد - رحمه الله - سئل عن الوليد بن القاسم الهداني فقال: ثقة كتبنا عنه وكان جارا ليعلي بن عبيد فسألت يعلي عنه فقال: نعم الرجل هو جارنا منذ خمسين سنة ما رأينا إلا خيرا وقال أبو داود السجستاني: "إني لأغبط جيران سعيد بن عامر"، ألا وإن من إكرام الجار والإحسان إليه أن يأذن الجار لجاره بأن يستخدم جداره فيحمل عليه خشبة من أخشاب سقفه أو نحو ذلك، أخرج البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره"، ثم يقول أبو هريرة – رضي الله عنه - : "مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم".
أيها المسلمون:
لقد أمسى الجيران يشحون بهذا ولا يعملون بهذه الوصية وما علموا أن الجار معين وناصر وحارس وأمين، وبمراعاة هذه الحقوق تنعقد المودات وتتوثق الروابط الاجتماعية بين المسلمين وتتأكد ظاهرة من ظواهر الجسدية الواحدة بين المؤمنين، ومع هذا نلاحظ كثيرا من الناس لا يؤدون هذه الحقوق ولا يراعون هذه الوصايا فكم من مزعجات صوتية يطلقها بعض الجيران غير مراعين حقوق جيرانهم عليهم وربما يكون ذلك في أوقات الراحة والنوم وكم من قمامات يرميها بعض الجيران على أبواب جيرانهم ومنازلهم وكم يستعير بعض الناس المتاع من جيرانهم ثم لايردونه، وكم ينظر بعض الجيران إلى محارم جيرانهم بفضول قبيح ونظر مريب، وكم من رجل فاضل هجر داره ليفارق جاره ويكف عن نفسه وأهله بوائقه.
إخوة الإيمان:(49/4)
إن جار السوء من المصائب الكبرى في الحياة الدنيا وقد يصل السوء ببعض الناس أن يتوسط لديه العقلاء لكف أذاه عن جيرانه فلا يستجيب لهم ويجدون أنفسهم لدى معالجته كمن يخاطب الأموات، فعلى الإنسان المسلم الصبر والتحمل وامتثال أمر الله تعالى في مثل هذه المواقف يقول الله عز وجل: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت:34-35]
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها اللهم أهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت وأصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم احفظ ألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وأعمالنا من الرياء ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم أصلح ولاتنا وولاة أمور المسلمين، واحفظ اللهم أميرنا وولي عهده الأمين.
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(49/5)
اطبع هذه الصحفة
وفي أنفسكم أفلا تبصرون
استقبل الآن النظر في نفسك، والتبصر في مبدأ خلقك، كيف أخرج البارئ الخالق؛ من بين الصلب والترائب الماء الدافق، وهو نطفة من ماء مهين، ثم جمعها في الرحم في قرار مكين، ثم صرّف تلك النطفة طوراً بعد طورٍ وطبقاً بعد طبق، حتى كمل في الظلمات الخلق.
ثم تأمل كيف انقلبت تلك النطفة الضعيفة المهينة؛ إلى العظام الصلبة المتينة، فجعل الله تعالى منها الرأس وهو أشرف الأعضاء، وصانه بأنواع من الصيانات التي تدفع عنه الآفات والأدواء.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 26من ربيع الآخر 1426هـ الموافق 3/6/2005م
وفي أنفسكم أفلا تبصرون
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة فخلق العلقة مضغة فخلق المضغة عظاماً فكسا العظام لحماً ثم أنشأه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ، وقَيُّومُ السماواتِ والأرَضِينِ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله ربه رحمة للعالمين، وأسوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على الخلائق أجمعين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم عباد الله بالتقوى، استمسكوا بها فهي عروة دينكم الوثقى.
ويا من توجَّه إليك الخطابُ الرباني المصون: اسمع إلى هذا الوحي الشرعيِّ المكنون: { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } [سورة الذاريات: 21].
فهل تبصَّرت بأقرب الأشياء إليك؟ وهل تفكَّرت في نفسك التي بين جنبيك؟ فقد دعاك خالقك ومصورك، وندبك بارؤك وفاطرك؛ إلى التبصر الدال عليه؛ وإلى التفكر المرشد إليه، فستجد آثار التدبير فيك قائمات؛ ودلائل توحيد ربك لك ناطقات.(50/1)
فاستقبل الآن النظر في نفسك، والتبصر في مبدأ خلقك، كيف أخرج البارئ الخالق؛ من بين الصلب والترائب الماء الدافق، وهو نطفة من ماء مهين، ثم جمعها في الرحم في قرار مكين، ثم صرّف تلك النطفة طوراً بعد طورٍ وطبقاً بعد طبق، حتى كمل في الظلمات الخلق.
ثم تأمل كيف انقلبت تلك النطفة الضعيفة المهينة؛ إلى العظام الصلبة المتينة، فجعل الله تعالى منها الرأس وهو أشرف الأعضاء، وصانه بأنواع من الصيانات التي تدفع عنه الآفات والأدواء.
وشق فيه البصر والسمع، وربطهما بالقلب ليعقل بهما خطاب الشرع، ولهذا يقرن الله سبحانه بينها كثيراً في الكتاب، كما قال في خطابه لأولي الألباب، { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [الإسراء: 36].
وتأمل كيف حفظ الرب تعالى للإنسان حاسة السمع والبصر والكلام، من مؤذيات الدواب والهوام، فجعل داخل منفذ السمع مراً قاتلاً غير مستساغ؛ لئلا تلج فيها دابة مؤذية فتخلص إلى الدماغ، وجعل داخل بابي البصر مادة مالحة الطعم؛ لئلا تذيب الحرارة الدائمة ما هنالك من الشحم، وجعل داخل باب الطعام والشراب حلوَ اللُّعاب؛ ليسيغ به ما يأكله ويشربه فلا يتنغص به الطعام والشراب.
ثم تأمل شكل الأنف وخلقته، وكيف نصبه سبحانه في وسط الوجه، وفتح فيه منفذين، ليستغني عن فتح فمه أبداً بالمنخرين، وجعل بينهما حاجزاً حتى كأنهما في حكم الأنفين، فيكونان بمنزلة العينين والأذنين واليدين والرجلين.
وتأمل منفعة النَفَس الذي لو قطع عن الإنسان لهلك، وهو أربعة وعشرون ألف نفس في اليوم والليلة، قِسْط كل ساعة ألف نَفَس، وقد أحصى الرب تبارك وتعالى عدد هذه الأنفاس؛ كما أحصى أعمال الناس، فوا أسفا لمن أضاع نَفَسَهُ في الإعراض عن الطاعة؛ وأسرف على نفسه في التفريط والإضاعة.(50/2)
ولو تأملت صدر الإنسان: لرأيته معدن العلم والحلم والرشاد؛ ومجمع أضدادها من الجهل والسفه والفساد، فسبحان من ملأ صدور أوليائه بالبر والخير والعلم والإحسان، كما مُلئت صدور أعدائه بالفجور والشرور والجهالات والكفران.
ثم اُنفذ ببصيرة اللب؛ من ساحة الصدر إلى مشاهدة القلب، لتبصر ملِكاً عظيماً جالساً على سرير مملكته، والجند كلهم في خدمته، يستخدمهم استخدام الملوك للعبيد والراعي لرعيته، قد حُفَّت بالقلب الأعضاء؛ كما حفَّ بالملك الأمراء والوزراء والسفراء، فإن استقام استقاموا، وإن زاغ زاغوا، ويكفى هذا القلب رتبة عليّة؛ ودرجة سَنِيّة: أنه محل نظر رب البرية، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأشار بأصابعه إلى صدره" [ أخرجه مسلم ].
يا عبد الله؛ هل تفكرت في نفسك؟ وهل تبصرت في خلقك؟ يوم نخسك الشيطان؛ معلناً يوم خروجك الحرب عليك والعدوان، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان، فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه".
قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } [آل عمران: 36] [ أخرجه مسلم ].
فكيف تعادي ربك ووليك الذي حفظك تسعة أشهر في بطن أمك؛ وتوالي عدوك وعدو أبيك وأمك؟ وربك يتلطف لك بالخطاب؛ ويتودد إليك بالعتاب، ويقول لك في محكم الكتاب: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } [الكهف: 50].(50/3)
فأي عقوق منك لآدم أبي الأنام؛ أعظم من موالاتك لمن أخرجه من دار السلام، وحلف بعزة الربِّ ليُضْرِمَنَّ نار العداوة لذريته أيما إضرام؟
وبعد هذا كله: فانظر إلى نفسك وما فيها من الصفات الحميدة؛ وما أودعه ربك فيك من الخِلال الرشيدة: للتعرف على ربك الكبير المتعال، وأن من أعطاك الكمال: أحق وأولى منك بهذا الجمال والجلال.
فكيف تبصر عينك منظر العدوان الذميم؛ وتسمع أذنك صوت النكران الوخيم، أما علمت أن الله عليم بصير؛ يبصر فعالك؛ وأن الربَّ سميع خبير؛ يسمع مقالك؟
وإذا خلوت برِيبةٍ في ظُلْمةٍ…والنفسُ داعيةٌ إلى الطغيانِ
فاستحْيِ من نظر الإله وقل لها…إن الذي خلق الظلام يراني
بارك الله لي ولكم في الفرقان والذكر الحكيم، ووفقنا للاعتصام به وبما كان عليه النبي الكريم؛ من الهدي القويم؛ والصراط المستقيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله الغفور الحليم، لي ولكم من كل ظلم وجرم فتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ غافرِ الذُّنوبِ، وقابلِ التَوَّبِ وساترِ العُيوبِ، ومُفرِّجِ الهمِّ وكاشفِ الكُروبِ.
سبحانَهُ وبحمدِهِ: يجبرُ الكسيرَ، ويُغني الفقيرَ، ويُعلِّمُ الجاهلَ ويُرشدَ الحيرانَ، ويهدِي الضالَّ ويُغيثَ اللهفانَ، ويُعافي المُبتلى ويفكُّ العانِي، ويُشبعُ الجائعَ ويكسُو العارِي، ويُقيلُ العثراتِ، ويَسترُ العَوْرَاتِ، يُؤتي المُلكَ مَنْ يشاءُ، ويَنزعُ المُلكَ مِمَّنْ يَشاءُ، ويُعِزُّ مَنْ يَشاءُ، ويُذلُّ مَنْ يَشاءُ، بيدِهِ الخيرُ، إنَّهُ عَلَى كلِّ شيءٍ قديرٌ.
أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ عباد الله بامتثالِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهِيهِ وزواجِرِهِ، { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النور: 31].(50/4)
فهذه معشر المسلمين والمسلمات: كلمات يسيرات؛ تُنبئكم أن خلقكَم وما حولكم من المخلوقات: شواهد على وجود الكبير المتعال، وما له من أسماء الجمال؛ وصفات الكمال؛ ونعوت الجلال، فهي تنطق بلسان الحال والمقال:
تأمّل سطورَ الكائنات فإنها…من الملك الأعلى إليك رسائلُ
وقد خط فيها لو تأملت خطها…ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ
تشير بإثبات الصفات لربها…فصامتها يهدي ومن هو قائلُ
فلستم ترون شيئاً أدل على شيء: من دلالة خَلْقِكَم على خالقِكَم.
واعلموا عبادَ الرَّحمنِ أن ربكم المنان؛ قَدْ أَمركُم في محكم القرآن؛ بأَمرٍ بَدَأَ فِيهِ بِنَفْسِهِ التي كلَّ يومٍ هي في شَان، وثنَّى بمَلائِكَتِهِ التي لا تَفْتُرُ في ليلٍ ولا نهارٍ عَنْ الحَمْدِ والسُّبْحَانِ، وثَلَّثَ بِكَ أيُّها الإنسان، فقال إعلاءً لقدر نبيه سيد ولد عدنان: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، وبارك على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما باركت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، في العالمينَ، إنَّك حميدٌ مجيدٌ.
وارضَ اللهمَّ عن الأربعةِ الخلفاءِ الراشدين؛ والأئمةِ الحنفاءِ المهديِّين، أولي الفضلِ الجليِّ؛ والقدرِ العليِّ: أبي بكرٍ وعمرَ وعُثمانَ وعليِّ.
وارض اللهم عن آل نبيك الأبرار، وأزواجِهِ الأطهار، وصحابتِه الأخيارِ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القرار.
اللهم إنا عبيدك؛ بنو عبيدك؛ بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماض فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك؛ أو أنزلته في كتابك؛ أو علمته أحداً من خلقك؛ أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا.(50/5)
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ، إنك سميع مجيب الدعوات، اللهم وفق أميرنا وولي عهده لهداك،واجعل عملهما في رضاك،وارزقهما اللهم البطانة الصالحة والحاشية الناصحة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(50/6)
اطبع هذه الصحفة
حقوق التداين
وإن من الحقوق التي أرسى الإسلام أصولها ونظم قواعدها: قضية التداين بين الناس فعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن سعى في قضاء حاجة أخيه ، قضى الله حاجته، ومن فرج عن أخيه كربة ،فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما، ستره اله يوم القيامة " [ متفق عليه ]، وعن ابن مسعود _ رضي الله عنه _ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقة مرة " [ أخرجه ابن ماجه ] .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 3من جمادى الأولى 1426هـ الموافق 10/6/2005م
حقوق التداين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
…فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [آل عمران: 102] { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [ النساء :1 ] .
إخوة الإيمان :(51/1)
إن الناظر في الشريعة الإسلامية والمتأمل في مقاصدها يجد أن المقصد الأعلى من التشريع هو المحافظة على أمور خمسة أساسية في حياة المجتمعات والأفراد بل والأمة جمعاء، وهذه الأمور هي: الدين والنفس والمال والعرض والعقل، ومن هذا المنطلق حرص الإسلام كل الحرص على حقوق العباد حفظا وصيانة وتقديرا وإكراما حتى قرر أهل العلم قاعدتهم المشهورة : " حقوق العباد مبنية على التضييق والمشاحة وحقوق الله مبنية على التيسير والمسامحة " والمولى جل وعلا ينبه على تعظيم حقوق العباد فيقول سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } [ النساء: 29 ]، ويشير إلى ذلك ما رواه أبو حرة الرقاشي عن عمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه " [ أخرجه أحمد ]، ويقول - صلى الله عليه وسلم - في قاعدة تشريعية عظيمة " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا " [ متفق عليه ] .
…
عباد الله :
وإن من الحقوق التي أرسى الإسلام أصولها ونظم قواعدها: قضية التداين بين الناس فعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن سعى في قضاء حاجة أخيه ، قضى الله حاجته، ومن فرج عن أخيه كربة ،فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما، ستره اله يوم القيامة " [ متفق عليه ]، وعن ابن مسعود _ رضي الله عنه _ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقة مرة " [ أخرجه ابن ماجه ] .
عباد الله :(51/2)
إن إقراض المحتاجين مستحب في جملته، وذلك لما فيه من نفع المحتاج وسد خلته، لكنه يكون واجبا إذا كان المقترض في حال ضرورة ، والمقرض في حال الغنى والسعة ، ويكون الإقراض حراما إذا داخله الربا أو كان القرض يصرف في معصية ، ويكون مباحا إذا كان الدافع التوسع في الأمور المباحة ، ولم تكن ثمت ضرورة ولا حاجة ، فالمقترضون ليسوا على درجة واحدة ، والمقرض يذم حين يقدم على الإقراض المحرم أو يترك الإقراض الواجب ، ويعاتب حين يترك الإقراض المستحب ، وهذا مقيد بحال المقترض إن كان حسن الأداء وإلا فلا يلام الإنسان ولا يؤاخذ إن هو ترك إقراض المماطلين ، محافظة على ماله وحقه لئلا يضيع.
ومن جهة أخرى فإن الإسلام حذر كل الحذر من التهاون في أداء الدين أو المطل والتأخير في قضائه أو التساهل وعدم الاكتراث في أدائه، فديون الناس وحقوقهم في نظر الإسلام أمانة عظيمة ومسؤولية كبيرة يقول المولى جل وعلا { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [ النساء: 58 ]، وقد بوب البخاري عليها في صحيحه " باب أداء الديون" ، والله سبحانه يأمر عباده أمراً جازماً بقوله تعالى { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ } [ البقرة: 283 ] وقال سبحانه { أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } المائدة: 1 ].(51/3)
بل جاء التشديد من الشرع في التهاون برد الحقوق والديون حتى استثناه الله جل وعلا من قاعدة المكفرات الذنوب وما حيات الخطايا الحوب، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " القتل في سبيل الله يكفر كل شئ إلا الدين "[ أخرجه مسلم ]، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كان يؤتى بالرجل المتوفي عليه الدين، فيسأل : " هل ترك لدينه قضاء ؟ " فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال : " صلوا على صاحبكم " ، فلما فتح الله عليه الفتوح قال - صلى الله عليه وسلم -: " أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعليّ قضاؤه " [ متفق عليه ] ، وامتناع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك لأن صلاته شفاعة، وشفاعته لا ترد، بل هي مقبولة ، والدين لا يسقط إلا بالتأدية.
إخوة الإسلام :
إن المطل من الغني في أداء الدين ظلم شنيع ، والتسويف والتأخير في توفية الحق عند الوجدان اعتداء فظيع، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" مطل الغني ظلم " [ متفق عليه ] ، وعن الشريد بن سويد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " [ أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه ]، ألا وإن ثمت توجيهات ربانية ، ووصايا نبوية في قضايا الدين، تنطلق من قاعدة الإحسان والرحمة والشفقة وتنبثق من أصل اليسر والمرونة والسعة :
منها الحرص على أن لا يطلب الدين إلا عند الحاجة إليه، مع عزيمة صادقة على الوفاء، ونية طيبة في القضاء، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " [ أخرجه البخاري ].(51/4)
وأداء الله سبحانه يكون في الدنيا بأن يسهل للمدين أداءها، وإلا فالله يؤديها في الآخرة فيرضي غريمه بما شاء.
وكذلك الإتلاف يكون في الدنيا، فيتلف الله أصل مال المدين المخادع، أو يمحق بركته ماله، وقد يكون الإتلاف لشخصه في الآخرة، ولا مانع من أن تجتمع عليه العقوبات، والجزاء من جنس العمل .
ومنها أمر الشريعة المدين بحسن الأداء، والإكرام للدائن عند القضاء، جاء في حديث أبي رافع - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكرا – وهوما كان دون الست سنين – فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة ، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فلم يجد إلا خيارا – أفضل من البكر- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "(أعطه إياه ، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء " [ أخرجه مسلم ] .
معاشر المحسنين:
وإن من وصايا الشريعة المحمدية التيسير على أهل الإعسار والفاقة ، والتسهيل لأهل الفقر والحاجة ، فمن واجبات الإسلام إمهال المعسر عن أداء الدين ، والإلزام بإنظار المدين إلى ميسرة ، قال تعالى { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } [ البقرة : 280 ]، والعسرة هي ضيق الحال بانعدام المال، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة " [ أخرجه مسلم ] .(51/5)
ومن أعظم أنواع التيسير الحط من الدين كلا أو جزءاً ، قال تعالى : { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة: 280 ]، وقد جاء في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا ، فتجاوز الله عنه " والحط يجب أن لا يكون مقابل زكاة ماله ، ليدفع عن ماله ما هو واجب فيه ، فعن أبي قتادة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه" [ أخرجه مسلم ] .
إخوة الإسلام:
يقول الحق سبحانه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } البقرة: 282 ]، وكتابة عقود التداين بين الناس لها آثار إيجابية، لكون الكتابة تضمن الحقوق وتدفع الريب والشك وتوضح الشهادات وتبينها، وقد أشار المولى سبحانه إلى أهمية الكتابة في اليسير والكثير من الديون بقوله تعالى { وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ } [ البقرة: 282 ].
فالتزموا رعاكم الله - تلك الوصايا – وانهجوا نهجها تسعدوا وتفوزوا ، وتنتظم أحوالكم ، ويستقم مجتمعكم.……
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، معين المحتاجين ، ومنفس كرب المكروبين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام الأولين والآخرين ، فصل اللهم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:(51/6)
فأوصيكم عباد الله بتقوى الله وطاعته والتزام أوامره.
أيها المؤمنون:
تفقدوا المساكين وتفحصوا المزامين، واسوهم بما أعطاكم الله ، ويسروا عليهم بما حباكم الله جل وعلا أخرج مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي ((- صلى الله عليه وسلم - قال : " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة " .
واعلموا أن الدين هم بالليل وذل بالنهار، يزعج القلوب، ويشتت الأفكار، فلا تقترضوا إلا لحاجة ملحة، ومن اقترض فلتكن نيته السداد ليسدد الله عنه ويساعده، ومن أعيته الديون وغلبته الهموم فليقل الدعاء المأثور الذي جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -حينما رأى أبا أمامة في المسجد في ساعة ليست بساعة صلاة حزيناً مهموماً بسبب ديونه فقال له - صلى الله عليه وسلم -: " أولا أدلك على كلمات إذا قلتهن أذهب الله عنك همك وقضى عنك دينك ؟ " قال : بلى يا رسول الله ، قال " قل إذا أمسيت وأصبحت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال " [ أخرجه أبو داود ].
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها اللهم أهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت وأصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت
اللهم احفظ ألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وأعمالنا من الرياء ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم أصلح ولاتنا وولاة أمور المسلمين، واحفظ اللهم أميرنا وولي عهده الأمين.
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---(51/7)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(51/8)
اطبع هذه الصحفة
عظمة الخالق
لا يرتاب المسلم أبداً، ولا يعتريه شك مطلقاً، في أن الله عز وجل هو الذي خلق الخلق كله إنساً وجناً، ووحشاً وطيراً، وأرضاً وسماءً، وبحاراً وأنهاراً، وزروعاً وأشجاراً، فكل ما في الكون شاهد وناطق بعظمة الله تعالى وقدرته:
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شئ له آية تدل على أنه الواحد
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 29 من جمادى الأولي 1425هـ الموافق 16/7/2004م
عظمة الخالق
الحمد لله رب العالمين ، خالق الخلق ومالك الملك، يدبر الأمر من السماء إلي الأرض، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى ، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام التقى، ومصباح الهدى، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، فصلوات الله تعالى وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله عز وجل وطاعته.
أيها المسلمون: لا يرتاب المسلم أبداً، ولا يعتريه شك مطلقاً، في أن الله عز وجل هو الذي خلق الخلق كله إنساً وجناً، ووحشاً وطيراً، وأرضاً وسماءً، وبحاراً وأنهاراً، وزروعاً وأشجاراً، فكل ما في الكون شاهد وناطق بعظمة الله تعالى وقدرته:
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شئ له آية تدل على أنه الواحد
ألا وإن من أعظم الأدلة في ذلك على الإطلاق: شهادته سبحانه على ذلك، كما قال تعالى في كتابة الكريم: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (الزمر:62).(52/1)
أيها المسلمون: وحين نقول: إن الله تعالى هو الخالق ، فإن معنى الخلق هو الإيجاد من العدم قال تعالى (هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (الإنسان:1-2).
ولهذا لما حآجَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام النمرود بأن الله تعالى يحيي ويميت وادّعى النمرود أنه يحيي ويميت لم يلتفت إبراهيم إلى دعواه هذه، لأن إبراهيم إنما قصد الإيجاد من العدم، وأما النمروذ فإنه أتى باثنين قد حكم عليهما بالقتل ، فعفى عن أحدهما ونفذ الحكم على الآخر ، فأعرض إبراهيم عن هذه الجهالة وأتاه بحجة أخرى دامغة ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(البقرة: من الآية258).
ثم أيها المسلمون: تعالوا بنا نتأمل في عظيم خلق الله تعالى وصنعه، حيث أمرنا سبحانه بذلك فقال: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الأياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (يونس:101).
فإذا أتينا إلى الآيات الكونية، وتأملنا في ملكوت السموات والأرض وما بينهما ، لوجدنا العجب العجاب.
تباركت يا من أبدع الخلق صنعة ويا من له الآيات بالحق تشهد
تسير على وفق المشيئة مثلما قضيت لها من قبل لا تتردد(52/2)
فهذه السماوات السبع خلقها الله تعالى بغير عمد، وخلق من الأرض سبعاً أيضاً، وزيّن السماء الدنيا بالنجوم والكواكب، ومن أعظمها الشمس والقمر، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) أي اختلاف واضطراب (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) (الملك:3) أي تشقق أو تصدع (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ) (الملك:4-5).
إن الشمس – يا عباد الله – لو اقتربت منا شيئاً يسيراً لاحترقنا، ولو بعدت عنا شيئاً يسيراً لتجمدنا، فسبحان من أجرى كل شئ بقدر.
وهذه الحبة الجامدة تلقى في التربة، فإذا بها تنفلق وتضرب بجذورها في الأرض، فيخرج منها حياة تتمثل في الزروع والثمار التي ينتفع بها الإنسان والحيوان، وفي كل يوم ينبلج الصباح بنوره الجميل فإذا هو النهار، ثم يعقبه ليل يسكن الناس فيه ويهدؤون من زحمة العمل ، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (الأنعام:95-96).(52/3)
وانظروا إلي عظيم خلق الله في السحاب كيف يصرفه ويخرج منه البرد والمطر (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ) (النور:43) / ويقول تعالى (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (النحل:65).
تأملوا في الجبال الشامخات التي جعلها الله تبارك وتعالى أوتاداً للأرض أن تميد بمن عليها قال تعالى (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (الأنبياء:31)، وقد اكتشف العلم الحديث أن الجبال للأرض كالأوتاد التي للخيمة سواء, فإن عمق الجبال في الأرض يساوي طولها الذي على الأرض.
أيها المسلمون: وإذا أتينا إلي خلق الإنسان فما أحسنه من خلق وما أعظمه، وقد أمر سبحانه بالتبصر فيه فقال – عز من قائل – (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (الذريات:20) أي آيات أيضا من مبدأ خلقكم إلى منتهاه ، وفيما جعله الله تعالى في تركيب خلقكم (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذريات:21).
فقد جعل الله تعالى له عينين، ولساناً وشفتين، ويدين ورجلين، وجعله قادراً على السمع والبصر، والعقل والحركة والإرادة، والتمتع بما وهبه الله تعالى في هذه الحياة (يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) (الانفطار:6-8).
قال قتادة – رحمه الله – "من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة".(52/4)
ويا عجباً للروح التي خلقها الله عز وجل في الإنسان إذ كانت سبب حياته فإذا ما ذهبت تعطلت حركته وإرادته ، وأصبح جثة هامدة لا حراك لها (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلا قَلِيلاً) (الاسراء:85).
ومن عجائب خلق الله تعالى للإنسان الذي أوتي القدرة على الاستفادة مما خلقه الله له في هذا الكون، أن تعلم أن أصل خلقته من الماء المهين (فَلْيَنْظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ *إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) (الطارق:5-8).
عباد الله:
ولنتأمل في خلق الله عز وجل للدواب ، في كثرتها وتنوعها ، وفي ألوانها وأشكالها ، وفي الحكمة من خلقها وفوائدها ، قال تعالى (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (النحل:5-8).(52/5)
فهذا النمل هو أحد عجائب صنع الله الذي أحسن كل شئ خلقه، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى "النمل من أهدى الحيوانات، وهدايتها من أعجب شئ، فإن النملة الصغيرة تخرج من بيتها وتطلب قوتها وإن بعدت عليها الطريق، فإذا ظفرت به حملته وساقته في طرق معوجة بعيدة – ذات صعود وهبوط في غاية من التوعر حتى تصل إلي بيوتها، فتخزن فيها أقواتها في وقت الإمكان، فإذا خزنتها عمدت إلي ما ينبت منها ففلقته فلقتين لئلاً ينبت ، فإن كان ينبت مع فلقه باثنتين فلقته بأربعة، فإذا أصابه بلل وخافت عليه من العفن والفساد، انتظرت به يوماً ذا شمس، فخرجت به فنشرته على أبواب بيوتها، ثم أعادته إليها، ولا تتغذى نملة مما جمعه غيرها" أهـ
أيها المسلمون:
وهذا النحل، خلقه الله تعالى وهداه إلي أعمال عجيبة لينتفع الإنسان منها، قال تعالى (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل:68-69).
فيا عباد الله
هذه بعض الصور لعظمة الخالق جل جلاله في بيان عظيم خلقه وصنعه، وهي قليل من كثير، ومن تأمل كتاب الله عز وجل وجد أن القرآن كله بيان لذلك، فتبارك الله أحسن الخالقين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، إمام المتقين، وخاتم المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله حق تقواه، واعملوا بطاعته ورضاه.(52/6)
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن الله يمسك السموات على إصبع والأرضين على إصبع ، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قرأ (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)(الزمر: من الآية67).
وفي رواية: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً وتصديقاً له.
عباد الله:
إن الكلام عن عظمة الخالق سبحانه بحر لا ساحل له، وإن الغوص في ذلك من أحسن ما يشغل به المرء وقته ليزيد من إيمانه بخالقه، فيكون إنساناً سعيداً ومطمئناً في دنياه، ويدفعه للطاعة والعمل لأخراه، وهذا هو الفوز العظيم.
أيها المسلمون:
إن واجبنا عظيم نحو خالقنا سبحانه وتعالى، فإنه قد أنعم علينا بنعم عظيمة لا تعد ولا تحصى فيما خلق سبحانه في هذه الدنيا، قال تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم:32-34).(52/7)
فالواجب – معاشر المسلمين – أن نحقق واجب العبودية لله رب العالمين، فنعبده وحده ولا نشرك به شيئاً ونجتهد في شكره سبحانه على نعمه بأقصى ما نستطيع ، من صلاة وصيام، وصدقه وتلاوة قرآن، وذكر واستغفار، وبر للوالدين وصلة للأرحام، وإحسان إلى الفقراء والمساكين، والأيتام ، وغير ذلك مما شرعه الله تعالى في كتابه الكريم، أو على لسان نبيه الأمين، محمد صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً، سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، واحفظ اللهم أمير بلادنا وولي عهده الأمين، وأسبغ عليهم نعمة الصحة والعافية يا أرحم الراحمين.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(52/8)
اطبع هذه الصحفة
السحر والشعوذة
إن أهم ما جاء الإسلام لحمايته ورعايته, وتقويته وصيانته: هو جانب العقيدة والتوحيد؛ لأنهما منبع الأعمال وأساسها, فمتى ما صلح الاعتقاد صلح العمل, ومتى ما فسد فسد.
ولهذا كانت دعوة الأنبياء والمرسلين قائمةً على التوحيد والإخلاص لله رب العالمين, لا رب سواه, ولا إله غيره, وهو وحده – سبحانه - النافع الضار, لا يقع شيء إلا بإذنه وعلمه, ولا يؤثِّر شيء إلا بإرادته ومشيئته { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [التكوير: 29].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 10من جمادي الأولى الموافق 17/6/2005م
السحر والشعوذة
الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أرسل رسله بالتوحيد والنور المبين, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نهى عن الشرك والضلالة في الدين, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله تعالى وطاعته, قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [آل عمران: 102].
أيها المؤمنون:
إن أهم ما جاء الإسلام لحمايته ورعايته, وتقويته وصيانته: هو جانب العقيدة والتوحيد؛ لأنهما منبع الأعمال وأساسها, فمتى ما صلح الاعتقاد صلح العمل, ومتى ما فسد فسد.
ولهذا كانت دعوة الأنبياء والمرسلين قائمةً على التوحيد والإخلاص لله رب العالمين, لا رب سواه, ولا إله غيره, وهو وحده – سبحانه - النافع الضار, لا يقع شيء إلا بإذنه وعلمه, ولا يؤثِّر شيء إلا بإرادته ومشيئته { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [التكوير: 29].(53/1)
ومِن هنا كانت محاربة الإسلام لكل ما يخدش جناب التوحيد, أو يتعرض لجانب الإيمان, فحرم ديننا العظيم السحر تعلمًا أو تعليما, بل وعدّه من الكفر بالله تعالى؛ فقد ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم, ما افتراه بنو إسرائيل من الكذب والبهتان على نبي الله تعالى سليمان عليه الصلاة والسلام, مِن أنه كان يعلم السحر ويتعاطاه, فقال تعالى: { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي: اتبع اليهود ما تكذب به الشياطين على عهد ملك سليمان من تعاطيه السحر { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } إلى أن قال سبحانه: { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } [ البقرة: 102] أي: من نصيب في الآخرة { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 102].
فدلت الآية على تحريم السحر, وهو محرم كذلك في جميع شرائع الرسل عليهم الصلاة والسلام, كما قال تعالى لنبيه موسى عليه السلام: { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [طه: 69].
ومما ورد في التحذير والتنفير من السحر: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما, عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجتنبوا السبع الموبقات" وذكر منها: السحر.
أيها المسلمون:(53/2)
إنّ السحر عبارة عن عزائمَ ورُقًى وعُقَدٍ تؤثر في القلوب والأبدان, فتكون سببًا في المرض والهلاك, والتفريقِ بين المرء وزوجه, ولكن لا يكون ذلك إلا بإذن الله عز وجل, كما قال تعالى: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ } [البقرة: 102], وقال سبحانه: { وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } [الفلق: 4], يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عُقَدهن, وفي هذا دلالة على أن للسحر حقيقة وإلا لم يأمر الله تعالى بالاستعاذة منه.
عباد الله:
لِنعلم أن الساحرَ عرّافٌ وكاهنٌ؛ لأنه يدعي معرفة علم الغيب, فيخبر المسحور بشيءٍ من ماضيه وربما مستقبله, والحقُّ: أنه لا يعلم الغيب إلا الله تعالى رب العالمين, قال عز وجل: { قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } [النمل: 65], وقال سبحانه ذاكرًا كلام نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } [الأعراف: 188].(53/3)
وإنما يتعامل الساحر مع الجن ولا بد؛ فيخبرونه بشيء من أمور المسحور التي علِموا بعضها عن طريق قرين الإنسي من الجن, أو عن طريق استراقهم السمع من السماء فربما سمعوا الكلمة مما يوحي به الله تعالى إلى ملائكته, فيكذبون معها مائة كذبة, كما ثبت الحديث في ذلك, ففي صحيح البخاري, عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء, ضَربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله, كأنه سلسلة على صفوان, فإذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا: ما ذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال: الحقَّ وهو العلي الكبير, فيسمعها مسترق السمع – ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض - ووصف سفيان بكفه فحرّفها وبدّد بين أصابعه – فيَسمع الكلمة, فيلقيها إلى مَن تحته, ثم يلقيها الآخر إلى مَن تحته, حتى يلقيَها على لسان الساحر أو الكاهن, فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها, وربما ألقاها قبل أن يدركه, فيكذب معها مائة كذبة, فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا ؟ فيصدَّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء".
أيها المؤمنون:
ومِن تشديد الشرع في أمر السحر والسحرة: أن جعل حَدَّ الساحر وعقوبته في الدنيا: القتل, وبهذا أخذ أبو حنيفة ومالك وأحمد, وقال الشافعي: إنْ عمل في سحره ما يبلغ الكفر قُتل وإلا فلا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين, وخاتم المرسلين, اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله حق تقواه, واعملوا بطاعته ورضاه.
أيها المسلمون:(53/4)
لِيحذر المسلم من أن ينساق وراء السحرة والمشعوذين, وحَذارِ من أن يكون ملجؤه وملاذه إذا ما أصابه ضر إلى الكهنة والعرافين؛ فإن ذلك هو الضلال المبين, والخسران العظيم, ففي صحيح مسلم, عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة".
زاد أحمد في " مسنده " – من طريق مسلم نفسها - : "... فسأله عن شيء فصدقه بما يقول..." الحديث.
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند أهل السنن الأربعة: "من أتى كاهنا فصدقه بما يقول, فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم".
ومن علامات العرافين والمشعوذين: أنهم يسألون عن اسم أم المسحور, وربما طلبوا شيئا من ثيابه أو شعره ونحوهما, وتراهم يتمتمون ببعض الكلمات ولا يظهرونها, وربما سمع منهم الإنسان كلاما لا يُعرف معناه.
فالواجب على المسلم أن يلجأ إلى رب العالمين, إلى من بيده النفع والضر, قال تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ } [الفرقان:58], وقال تعالى: { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [يونس: 106, 107].(53/5)
ثم أيها المسلمون: علينا أن نتحصن بالرقى الشرعية وما أعظمها و أكثرها, كالمعوذات, وهي سورة الإخلاص والفلق والناس, يقرأها المسلم ثلاث مرات في الصباح وثلاث مرات في المساء فتكفيه بإذن الله تعالى من كل شيء, وأذكار الصباح والمساء, وقراءة القرآن في البيت ولا سيما سورة البقرة فإن أخذها بركة ولا يستطيعها البَطَلة, أي السحرة, كما ثبت في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عند مسلم في صحيحه.
وثَمّتَ شيءٌ مهم علينا التنبهُ له: ألا وهو أنه ليس كل من أصابه ضيق في نفسه, أو هم في صدره, أو مرض في بدنه, أو مصيبة في حياته, أن ذلك بسبب السحر, فعلينا ابتداء أن نتعامل مع الحالة على أنها أمر طبيعي يعتري الإنسان لسبب من الأسباب العادية: النفسيةِ أو العضوية, فعلينا بكتاب الله تعالى الذي هو هدى وشفاء ورحمة للمؤمنين, وعلينا بالتداوي عند الأطباء, ولنحرص على رقية أنفسنا وإن لم يكن بنا مرض, وإن دعت الحاجة للذهاب لأحد فليكن لأهل العلم والخبرة والصلاح المشهود لهم بذلك.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا, وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا, وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا, واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير, واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها اللهم أهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم احفظ ألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وأعمالنا من الرياء، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم أصلح ولاتنا وولاة أمور المسلمين، واحفظ اللهم أميرنا وولي عهده الأمين ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(53/6)
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(53/7)
اطبع هذه الصحفة
خطورة المخدرات والمسكرات
إن للمسكرات والمخدرات الكثير من المضار، فبسببها تعم الفتن وتحدق الأخطار، فهي علة للخراب والدمار، ومجلبة لسخط الجبار، وسبيل مظلم يهدي إلى النار، وتزهق بسببها الأرواح { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } [النساء:29-30]، أخرج البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن"، فهي تفسد العقل والدين، وتورث صاحبها الفعل المشين، وتجعله في حال المبغض المهين، كم أتلفت من أموال، وساءت بسببها من أحوال، وأهدرت من طاقات، وضيعت من أوقات، انظروا إلى حوادث السيارات، وجرائم الاغتصاب والسرقات، كم يتمت من بنين وبنات، وأثارت من عداوات، وجلبت العار لأهل الفضل والمكرمات، كم طأطأت من رؤوس، وأذلت من نفوس، وهذا ماحذرت منه الشريعة وأكده الواقع الملموس.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 17من جمادى الأولى1426هـ- الموافق 24/6/2005م
خطورة المخدرات والمسكرات
الحمد لله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، وزينه بالعقل وشرفه بالإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمرنا بالبر والإحسان، ونهانا عن الفسوق والعصيان، وعن كل ما يضر بالعقول والأبدان، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله المبعوث بالبينات من الهدى والفرقان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل والعرفان، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، ما تعاقب الجديدان وتتابع النيران.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:(54/1)
أوصيكم بتقوى الله علام السرائر، فإن تقواه أفضل زاد وخير ما أعد لليوم الآخر، يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر، يوم لا تنفع الأموال ولا الذخائر، يقول الله سبحانه: { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ } [البقرة: 197].
إن تقوى ربنا خير نفل…بإذن الله ريثي والعجل
أحمد الله فلا ند له…بيديه الخير ماشاء فعل
عباد الله:
إن البشرية جمعاء تعاني من مصائب وويلات، وفتن وآفات، أنهكت قواها، وزلزلت بنيانها، وعصفت بقيمها، وأهدرت ثرواتها، وإن من عظيم هذه الويلات، وأخطر هذه الآفات: آفة المسكرات والمخدرات، والتي أضحى التصدي لها هم الشعوب والحكومات، حيث دمرت من تعاطاها وأفسدت بعض المجتمعات، وانتشرت بسببها الجرائم والخطيئات.
أيها العقلاء:
إن للمسكرات والمخدرات الكثير من المضار، فبسببها تعم الفتن وتحدق الأخطار، فهي علة للخراب والدمار، ومجلبة لسخط الجبار، وسبيل مظلم يهدي إلى النار، وتزهق بسببها الأرواح { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } [النساء:29-30]، أخرج البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن"، فهي تفسد العقل والدين، وتورث صاحبها الفعل المشين، وتجعله في حال المبغض المهين، كم أتلفت من أموال، وساءت بسببها من أحوال، وأهدرت من طاقات، وضيعت من أوقات، انظروا إلى حوادث السيارات، وجرائم الاغتصاب والسرقات، كم يتمت من بنين وبنات، وأثارت من عداوات، وجلبت العار لأهل الفضل والمكرمات، كم طأطأت من رؤوس، وأذلت من نفوس، وهذا ماحذرت منه الشريعة وأكده الواقع الملموس.
أمة الأخلاق:(54/2)
كيف يقدم عاقل على هذه السموم الفتاكة، والأدواء المهلكة، ومضارها تربو على مائة وعشرين مضرة، ما بين دينية واجتماعية، واقتصادية وصحية، يقول الحسن البصري - رحمه الله: "لو كان العقل يشترى، لتغالى الناس في ثمنه، فالعجب ممن يشتري بماله ما يفسده".
وأفضل قَسْمِ الله للمرء عقله…وليس من الخيرات شيء يقاربهٌ
ويزري به في الناس قلة عقله…وإن كرمت أعراقه ومناسبة
والإنسان يا عباد الله متى ما فقد عقله أفسد وبغى، وخرب وطغى، وألحق بالآخرين الضرر وهذا مجمع الشر ومكمن الخطر.
أخرج النسائي أن عثمان - رضي الله عنه - قام خطيبا فقال: "أيها الناس، اتقوا الخمر، فإنها أم الخبائث، وإن رجلا ممن كان قبلكم من العباد، كان يختلف إلى المسجد، فلقيته امرأة سوء، فأمرت جاريتها فأدخلته المنزل، فأغلقت الباب، وعندها باطية من خمر، وعندها صبي، فقالت له: لا تفارقني حتى تشرب كأسا من هذا الخمر، أو تواقعني، أو تقتل الصبي، وإلا صحت وقلت: دخل علي في بيتي فمن الذي يصدقك؟ فضعف الرجل عند ذلك وقال: أما الفاحشة فلا آتيها، وأما النفس فلا أقتلها، فشرب كأسا من الخمر، فقال: زيديني فزادته، فوالله ما برح حتى واقع المرأة وقتل الصبي". قال عثمان - رضي الله عنه -: "فاجتنبوها فإنها أم الخبائث، وإنه، والله، لا يجتمع الإيمان والخمر في قلب رجل، إلا يوشك أحدهما أن يذهب بالآخر". وعند الحاكم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجتنبوا الخمر، فإنها مفتاح كل شر".
إخوة الإسلام:
وشر من هذه الخمرة، المخدرات بحبوبها المتنوعة، ومساحيقها المفترة، وحقنها المسكرة، تقضي على الضرورات الخمس، من العقل والمال والعرض والدين والنفس.(54/3)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : "إن الحشيشة حرام، يحد متناولها كما يحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر، من جهة أنها تفسد العقل والمزاج، حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة، وغير ذلك من الفساد، وأنها تصد عن ذكر الله "أ.هـ، وهذا حق وصواب، فإن تحريم الخمر يشمل تحريم جميع أنواع المخدرات والمسكرات، فقد أخرج مسلم عن ابن عمر- رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام".
دع الخمر نصح أخ إنها…لتوهي القلوب وتردي النهى
أما هي تلك التي خربت…بيوتا بتقويضها ركنها
أما هي تلك التي ضعضعت…شعوبا ودكت بها مدنها
أيها الناس:
وحين نلتمس أسباب هذه الظاهرة، بآثارها وأضرارها المتكاثرة، نجدها في ضعف الإيمان، وتسلط الشيطان، وافق ذلك فراغا قاتلا، ومالا وافرا، وصحبة سيئة، وتقليداً أعمى، وهوى متبعا.
إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة
ومن الأسباب أيضاً: إهمال الآباء للأبناء، يتسكعون وينشؤون في أحضان السفهاء، يجلبون لأنفسهم وأهليهم الشقاء، وفي حديث ابن عمرـ رضي الله عنهما ـ "والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته" أخرجه البخاري.
ألا فليتق الله من سقط في وحل المخدرات، وليتذكر يوم العرض على رب الأرض والسموات، وليبادر بالإقلاع والتوبة النصوح، فإنها الآن ممكنة وبابها مفتوح، ولا تنتظر حتى تقع في الحسرة والألم، فتندم ولات ساعة مندم.(54/4)
واعلموا، يا راعاكم الله، أن كل يد تبطش من جراء هذه السموم، وكل نفس تزهق، ومال يتلف، وصحة تتدهور، على المروجين كفل من وزرها، فهم أدوات فساد، سخرهم إبليس لإفساد البلاد والعباد، ألا فليتقوا الله وليتذكروا وعيد من لا يخلف الميعاد: { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النور: 19] وهذا فيمن أحب، فكيف بمن سعى وأجلب.
أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه خير الغافرين.
الخطبة الثانية
الحمد لله بارئ النسم، الحليم المتجاوز عن زلة عبده إذا ندم، اللطيف بعبده إذا اشتكى ما أصابه من ألم، وأشهد أن لا إله إلا الله خلق الإنسان من عدم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد العرب والعجم، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واستمسكوا بالعروة الوثقى، واعلموا أن الطرق لإنقاذ المدمنين كثيرة والوسائل عديدة، وذلك بسؤال المختصين من أهل الخبرة والآراء السديدة.
وإن أجدى هذه الوسائل، تقوية الوازع الديني لدى المتعاطي، هذا الوازع الذي رأيناه يريق الخمر في شوارع المدينة أنهارا، بمجرد أن طرق سمعه نبأ تحريم الخمر والأمر باجتنابها: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة: 90]،فنادى مناد: "ألا إن الخمر قد حرمت" أخرجه البخاري، فقال أحدهم: "فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب وكسرنا القلال، قال: وبعض القوم شربه في يده أراقها قائلا: انتهينا ربنا".(54/5)
ومن الوسائل المهمة: تنحية المدمن عن المستنقعات الموبوءة، والبيئة المشبوهة، والصحبة السيئة، وإرشاده إلى صحبة الخيرين، من الذين يعينونه على التوبة والدين، هذا ومع اتخاذ الطرق الصحيحة لمعالجة المدمنين، وملء أوقاتهم بالنافع المفيد، فمن تاب تاب الله عليه، أخرج الترمذي عن ابن عمر مرفوعا: "من شرب الخمر لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه"
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا, وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا, وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا, واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير, واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم احفظ ألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وأعمالنا من الرياء، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم أصلح ولاتنا وولاة أمور المسلمين، واحفظ اللهم أميرنا وولي عهده الأمين ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(54/6)
اطبع هذه الصحفة
الاعتصام بالدين حبل النجاة من المخدرات
إن الله عز وجل أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، كثيرة لا قليلة، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار}[ ابراهيم : 34 ] ومن هذه النعم التي أفاء الله بها علينا نعمة العقل، فإنه رأس مال الإنسان به يقضي المرء أيام حياته في سعادة وهناء، وبه يسعى إلى عمل الخير لنفسه وأهله ووطنه وأمته.
لا شك أن العقل من أجل النعم التي أنعم الله بها على الإنسان، به ميزه عن الحيوان، وجعله سيد هذا الكون، ومكنه من السيطرة عليه وتسخيره لخير البشرية قال تعالى : {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً}
[ الأسراء : 70 ]
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 23 من محرم 1421هـ الموافق 28/4/2000م
الاعتصام بالدين حبل النجاة من المخدرات
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، وذي الطول والإنعام، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أجزل العطاء للأنام ومن عليهم بنعم باقية على الدوام.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث لإنقاذ البشرية من الشرك والآثام، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ما بقيت الشهور والأعوام.
أما بعد:
إن الله عز وجل أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، كثيرة لا قليلة، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار}[ ابراهيم : 34 ] ومن هذه النعم التي أفاء الله بها علينا نعمة العقل، فإنه رأس مال الإنسان به يقضي المرء أيام حياته في سعادة وهناء، وبه يسعى إلى عمل الخير لنفسه وأهله ووطنه وأمته.(55/1)
لا شك أن العقل من أجل النعم التي أنعم الله بها على الإنسان، به ميزه عن الحيوان، وجعله سيد هذا الكون، ومكنه من السيطرة عليه وتسخيره لخير البشرية قال تعالى : {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً}
[ الأسراء : 70 ]
أيها المسلمون:
لقد أحل الإسلام الطيبات لما فيها من نفع يساعد الإنسان على أداء وظيفة الخلافة في الأرض، وحرم كل ما هو ضار بالإنسان في جسمه وعقله من المخدرات والمسكرات وغيرها لأنها تسلب من الإنسان أهم ما سما به على الكائنات.
(2)قال تعالى :{يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتبنوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون}[المائدة: 90ـ 91].
وقال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" رواه الشيخان].
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "نهى رسول الله (صلي الله عليه وسلم)عن كل مسكر ومفتر"
[رواه أحمد وأبو داود].
أيها المسلمون:
لا شك أن العقل نعمة عظيمة يجب الحفاظ عليه وعدم تخريبه، فإن الاعتداء عليه بتعاطي المخدرات والخمر وإطفاء نوره جريمة أية جريمة بل أبشع الجرائم وأكبرها إثماً عند الله تعالى ومن ثم نفر منها الحق سبحانه وحذر من عواقبها الرسول(صلي الله عليه وسلم)، كما أنزل الشرع الحكيم العقوبة الرادعة على متعاطي المخدرات ومدمن المسكرات ومن ساعد على نشرها.(55/2)
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم)"لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها" [رواه أبو داود والحاكم] وقال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "كل مسكر حرام، إن على الله عز وجل عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار" [رواه مسلم والنسائي].
أيها الأخوة المؤمنون:
إن شرب الخمر وإدمان المخدرات مفتاح كل شر على الإنسان، بها يقتل ويزني ويفجر ويسرق، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر" [رواه الحاكم بسند صحيح] كما أنها تجلب على الإنسان مصائب نفسية واجتماعية يمتد أثرها إلى المجتمع، فيصيبه في اقتصاده، وثرواته وفي شبابه وشيوخه، ورجاله ونسائه وإن هذه المضار خطيرة وجسيمة، فمن يسكر يكون غالباً قصير العمر، ويزحف عليه المرض في شبابه، ويدركه العجز في كهولته، وهو معرض لأمراض فتاكة تفتك بأعضاء بدنه، فتصيبه آلامها زمناً طويلاً، فيصاب بالدرن الرئوي والسرطان الشعبي وتصلب الشرايين وغير ذلك من الأمراض الرئوية.
( 3 )والقلبية والتناسلية، كما يعتري أجهزة الجسم عطب يعطلها عن أداء مهامها، فيصاب الإنسان بذبول في حيويته ونشاطه نتيجة تدهور صحته.
أيهاالإخوة المسلمون:(55/3)
إن المتعاطي للمخدرات عضو في المجتمع غير فعال وغير منتج، يشكل عبئاً جسيماً على المجتمع، فيصاب بالخمول والكسل والأمراض النفسية من قلق واكتئاب نفسي مزمن وفقد للذاكرة، وهذا يكلف المجتمع تكاليف مالية باهظة، لما تعده من مستشفيات صحية ونفسية لمعالجة هؤلاء المرضى، وعبئاً على أسرهم حيث يزحف الفقر على ذويهم وأهليهم لعدم الكسب من عائلهم المدمن، فيشرد الأولاد ويرتكبون الجرائم من أجل لقمة يتناولونها، ويصبح الإجرام بعد ذلك دينهم وديدنهم.
أيهاالمسلمون:
إن من أهم أسباب انتشار هذه الآفة القاتلة هو ضعف الوازع الديني وعدم تربية البنين والبنات تربية إسلامية صحيحة قال تعالى : {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين}[الزخرف : 36] وقال تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى}[طه : 124].
لذا ينبغي أن تولى الجهات المختصة من إعلام ومدرسة وأسرة اهتمامها بترسيخ مبادىء الدين الإسلامي في الأبناء منذ نعومة أظافرهم حتى يشبوا وهم متحصنون من التيارات الفاسدة، والمهلكات من الفواحش،والآفات الضارة كالخمر والمخدرات من حشيش وهيروين وغيره، فالدين الإسلامي هو صمام أمان للشباب وغيرهم من الانحراف، يقول الرسول (صلي الله عليه وسلم)" كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل في بيته راع ومسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسئولة عن رعيتها، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" [رواه البخاري وغيره].
معشر المسلمين:(55/4)
( 4 )إن علاج هذه الظاهرة المنتشرة بين الفتيان والفتيات من الرجال والنساء يكمن في وسائل عدة أهمها الاهتمام بالنشء، وتوعية الصغير والكبير بآثارها المدمرة لهم، وغرس تعاليم الإسلام فهو الطريق الذي يأخذ بأيدي هؤلاء المنحرفين إلى طريق الاستقامة والسعادة النفسية والراحة البدنية يقول عالم النفس الشهير وليام جيمس: "إن خير علاج للإدمان هو التدين الشديد" بعد أن رأى شفاء كثير من النزلاء في أمريكا بعد تحولهم إلى الإسلام ويقول المؤرخ ارنولد تويني: "إن روح الإسلام تستطيع أن تحرر الإنسان من ربقة الإدمان عن طريق الاعتقاد الديني العميق والتي استطاعت بواسطته أن تحقق ما لم يمكن للبشرية أن تحققه في تاريخها الطويل.
أيها المسلمون:
عليكم بواجب النصيحة لهؤلاء المصابين وتقديم العون لهم نحو التخلص من هذا الداء العضال الذي يفتك بهم ويجلب لهم الأضرار الجسيمة، ويكلف المجتمع تكاليف باهظة ويجر على الأسرة ويلات وويلات.
يقول رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "الدين النصيحة" [رواه مسلم]
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(55/5)
اطبع هذه الصحفة
من وصايا الرسول
إن من جملة جوامع الكلام، الذي أوتيه خير الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام: قوله: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" أخرجه أحمد والترمذي من حديث أبي ذرٍّ ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهما -.
فتأمل رحمك الله، وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي جمع فيها أصول المعاملات، وأودع فيها أسس المعاهدات، فالعهد الذي بينك وبين المولى: أن تتقيه حقَّ التقوى.
قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - في قول الله تعالى
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 24/5/1426هـ الموافق 1/7/2005م
من وصايا الرسول - صلى الله عليه وسلم -
الحمد لله الذي أتمَّ علينا النعمة وأكمل لنا الدين، وجعل أمتنا خير أمة أخرجت للعالمين، وبعث فينا رسولاً من أنفسنا يتلو علينا آياته ويعلمنا الكتاب والحكمة وإن كنا من قبل لفي ضلال مبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات السبع والأرضين، وأشهد أن نبينا محمداً عبدُ الله ورسوله خاتم النبيين، وإمام المرسلين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه الغرِّ الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله حقَّ التقوى، واستمسكوا بالعروة الوثقى، واعلموا أن الله تعالى قد بعث نبيه ومجتباه، ورسوله ومصطفاه، وأيده بجوامع الكلم، وخصَّه ببدائع الحِكَم، كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " فضلت على الأنبياء بستٍّ: أُعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون ".
فجمع الله تعالى لرسوله الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: في الألفاظ اليسيرة، المعاني الكثيرة، والحِكَم الوفيرة، والآداب الغزيرة.
عباد الله:(56/1)
إن من جملة جوامع الكلام، الذي أوتيه خير الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام: قوله: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" أخرجه أحمد والترمذي من حديث أبي ذرٍّ ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهما -.
فتأمل رحمك الله، وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي جمع فيها أصول المعاملات، وأودع فيها أسس المعاهدات، فالعهد الذي بينك وبين المولى: أن تتقيه حقَّ التقوى.
قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - في قول الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102] " أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر ".
وتأمل حفظك الله بالطاعة، وجنبك التفريط والإضاعة: قول النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -: " اتق الله حيثما كنت "، فكم ممن حفظ الله تعالى في الحضر، وانتهك حرمته في السفر؟
وكم ممن حفظ الله تعالى في النهار، فإذا أسدل الليل الستار، وتوارى عن الأنظار، هتك الأستار؟
وكم ممن حفظ الله تعالى إذا شهده الناس، فإذا غاب عن أعينهم تدثر بثوب الجهل والزور والاختلاس؟
فهل اتقى الله حيثما كان، من هذا حاله؟ ومن عَلِمَ ما هي عاقبته ومآله؟ وهذا خير الأنام - صلى الله عليه وسلم - يسأل الرب، أن يحفظه في الشهادة والغيب، كما أخرج النسائي من حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو: اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق: أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي، أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، وأعوذ بك من ضراء مضرة، ومن فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ".(56/2)
إذا ما خلوتَ الدهرَ يوماً فلا تقلْ……خلوتُ ولكنْ قلْ عليَّ رقيبُ
ولا تحسبنَّ اللهَ يَغفلُ ساعة……ولا أنَّ ما تُخفي عليه يغيبُ.
فإذا أصلحت يا عبدالله العهد الذي بينك وبين الله، فأقبل على نفسك التي بين جنبيك، وامح ما نظرته بعينيك، وسمعته بأذنيك، وبطشته بيديك، ومشيته برجليك، [وأتبع السيئة الحسنة تمحها].
فكلما أثقلتَ كاهلك بالذنوب، وجهلتَ على نفسك بالكبائر الحُوب: فتب إلى علام الغيوب، (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [الشورى: 25].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: " أذنب عبدٌ ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي ربِّ، اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب، فقال: أي ربِّ، اغفر لي ذنبي. فقال: تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت، فقد غفرت لك " أخرجه مسلم.
فإذا أصلحت العهد الذي بينك وبين نفسك، فأقبل على من حولك، " وخالق الناس بخلق حسن " وابذل لهم النَّدى، وكُفَّ عنهم الأذى، وصل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك.
فمتى ما خالق الإنسان الناس بالإحسان: فقد كمل له الإيمان، وثقل به الميزان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أكمل المؤمنين إيماناً: أحسنهم خلقاً، وخيارهم خيارهم لنسائهم " أخرجه أبوداود والترمذي.
وأخرج الترمذي عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما من شيء يُوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة ".(56/3)
باركَ اللهُ لِي ولكُمْ فِي القرآنِ العظيمِ، ونفعنَا بهديِ النَّبيِّ الكريمِ، الهادي إلى الصِّراطِ المُستقيمِ، والدَّاعي إلى الدِّينِ القويمِ.
أقولُ هذا القول، وأبرؤ إلى الله تعالى من القوة والحول، فاستغفرُوا ربكم إنَّهُ كانَ للأوابينَ غفوراً، وللمُحسنينَ شَكوراً.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ المرجو فضله المُستزاد، لا رادَّ لِمَا أراد، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ ولا مانع لما أعطى ومَا لِرِزْقِهِ مِنْ نَفَاد، سُبْحَانَهُ وبَحَمْدِهِ مِنْ إِلَهٍ يَعْلَمُ السِرَّ قَبْلَ أنْ يَختَلِجَ في الفُؤاد، يُسَبِّحُ بعظمَتِهِ كلُّ نَاطِقٍ وصَامِتٍ وحَيٍّ وجَمَاد، أحمدُهُ ربي حمداً كثيراً طيِّباً مُباركاً فيهِ على ما أولاهُ من جَزِيلِ النِّعَمِ والإفْضَالِ والإمْدَاد.
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ من النُّظراءِ والشُّركاءِ والأندادِ، شهادةً تُنْجِي قائِلَهَا ومُعْتَقِدَها من أهوالِ يومٍ يقومُ فيهِ لربِّ العالمينَ الأشهاد، وأشهدُ أنَّ نبيَّنَا ورسولَنَا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ المبعوثُ إلى جميعِ العباد، صلَّّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ السادَةِ المتَّقينَ الأمْجَاد.
أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ بامتثالِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهِيهِ وزواجِرِهِ، (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31].
عباد الله:(56/4)
اعلموا أن العبد متى ما جمع هذه الخصال الحميدة؛ وحصَّل هذه الخلال الرشيدة، فجعل التقوى حظَّ مولاه، والتوبة مقدَّمة على هواه، وعاشر بالحسنى من والاه ومن عاداه: فقد سارع في الخيرات، وشمَّرَ إلى الجنات، قال الله تعالى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران: 133-136].
واعلمُوا أنَّ ربَّكم الجليل، قدْ أمَرَكُمْ في مُحْكَمِ التَّنزيلِ، فِي أحسن حديثٍ وخير كلامٍ وأصدق قيل، بالصلاةِ والتسليمِ، على النبيِّ الكريمِ، فقالَ إعلاءً لقدر نبيِّه وتعظيماً، وإرشاداً لكم وتعليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56] .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما باركت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، في العالمين، إنك حميدٌ مجيدٌ.
وارضَ اللهمَّ عن الأربعةِ الخلفاءِ الراشدينَ، والأئمةِ الحنفاءِ المهديِّينَ، أولِي الفضلِ الجليِّ، والقدرِ العليِّ: أبي بكرٍ وعمرَ وعُثمانَ وعليِّ.(56/5)
وارْضَ اللهُمَّ عَنْ آلِ نبيِّكَ الخِيَرَةَ، وأزواجِه البَرَرَة، وبقيةِ المُبَشَّرِينَ العَشَرَةِ، وأهلِ بدرٍ والشَّجَرةِ، أصحابِ الوجوهِ النَّضِرَةِ المُسْفِرَةِ، الضَّاحِكَةِ المُسْتَبْشِرَةِ.
اللهم اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ، والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهم اجعلنا لك شَاكِرِين، لك ذَاكِرِين، إليك مُخْبِتِين أوَّاهِين مُنِيبِين، ربَّنا تقبلْ توبتَنا، واغسلْ حوبتَنا، وأجِبْ دعوتَنا، وثَبِّتْ حُجَّتَنا، واهْدِ قلوبَنا، وسَدِّدْ ألسنتَنا، واسْلُلْ سَخِيمَةَ قلوبِنا.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وادفع عنا الفتن والشرور، وأصلح اللهم لنا ولاة الأمور، واشرح لتحكيم كتابك الصدور، وألبس أميرنا ووليَّ أمرنا ثوب الصحة والعافية والطَّهور، برحمتك يا عزيز يا غفور، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرة حسنةً؛ وقنا عذاب النَّار.
عباد اللهِ:
اذكروا الله ذكراً كثيراً، وكبِّروه تكبيراً، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(56/6)
اطبع هذه الصحفة
القلق والاكتئاب
القلق والاكتئاب
يقول الله سبحانه في محكم كتابه : { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } (التغابن:11)، ويقول تعالى: { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (الطلاق:3)، وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " احرص على ما ينفعك ولا تعجز " أخرجه مسلم، وفي مأثور الحكم: " دع القلق و ابدأ الحياة ".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 2 جمادى الآخرة 1426هـ الموافق 8/7/2005م
القلق والاكتئاب
الحمد لله الملك المنان، القوي العظيم السلطان، الواحد الأحد المعبود المستعان، أحمده حمدا كثيرا طيبا يملأ الميزان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له تنزه عن الأنداد والأعوان، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله المؤيد بالحجة والبرهان، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه على مر الأزمان.
أما بعد:
فأوصيكم- أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فإنها أمنة من الفتن والبلايا، ومنعة من الأحزان والرزايا، ومكفرة للذنوب والخطايا، يقول الله تعالى { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } (الأنفال:29).
أيها الإخوة المسلمون:
يقول الله سبحانه في محكم كتابه : { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } (التغابن:11)، ويقول تعالى: { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (الطلاق:3)، وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " احرص على ما ينفعك ولا تعجز " أخرجه مسلم، وفي مأثور الحكم: " دع القلق و ابدأ الحياة ".(57/1)
وبين هدي القرآن وتوجيهات السنة، واستثمار مأثور الحكمة، سيكون الحديث عن موضوع من الأهمية بمكان، يفترض أن بيئته التي ينمو فيها غير بلاد المسلمين، ولا شك أن المصابين به من غير المسلمين أكثر، فإذا سرت عدواه إلى بلاد المسلمين، أو بدأت نذر خطره تهدد بعض المسلمين، كان ذلك داعيا للحديث عنه، وتحذير الناس منه، إنه المرض الوافد، القلق والاكتئاب، أو مايسمى بالمرض النفسي، داء من أدواء هذا العصر، خفي العلة، ليس بالضرورة أن يكون الفقراء والمعوزون هم المرضى، وليس يسلم من الإصابة به أصحاب الثراء، وتتجاوز عدواه الرجال إلى النساء.
إخوة الإسلام:
يمكن توصيف المرض، بأنه تراكم هموم خيالية لا مبرر لها، وأسوؤه ما قطع عن الجمع والجماعات، وأفضى إلى ترك الواجبات وفعل المحّرمات، فهو ذبول عن الحياة، وانقطاع عن الأحياء لا مسوّغ له،هوضعف بعد القوة، وعزلة بعد الصحبة، شكوك مستحكمة، خوف وقلق، بغضاء وأثرة، ويبلغ المرض ذروته، حين يصاب صاحبه بالوسوسة، وربما استدرجه الشيطان، فزين له فراق الأهل والخلان، أو ترك العمل أو الانقطاع عن الدراسة، فيحرم المصاب حينها، من استثمار طاقاته، والاستفادة من قدراته.
إخوة الإسلام:(57/2)
إن المترقب لآخر إحصاءات الصحة العالمية، ليجد أن ما يقارب عشرة بالمائة من سكان العالم يعانون من آفة الحزن والاكتئاب، بما في ذلك بلاد المسلمين، وهذا يعني بداهة وجود مئات الملايين من البشر، في معاناة مع هذا الواقع المرير، بل لقد بلغت حالات الانتحار بسبب هذا المرض، ما يزيد عن ثمان مائة ألف شخص في العالم كل عام، ناهيكم عن كون ثمانين بالمائة من المصابين به، لا يذهبون إلى الاطباء، ولا يكشفون عن حقيقة حالهم، وهما مكمن العجب، وإن هذه الظاهرة مرهونة بمدى انغماس المرء في متاع الدنيا، وسيطرة النظرة المادية الصرفة، والبعد كل البعد عن معاني الإيمان الحقيقي، سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- : من أشد جند الله؟ فقال: الجبال، والجبال يقطعها الحديد، فالحديد أقوى، والنارتذيب الحديد، فالنارأقوى، والماء يطفئ النار، فالماء أقوى، والسحاب يحمل الماء، فالسحاب أقوى، والريح تعبث بالسحاب، فالريح أقوى، والإنسان يتكفؤ الريح بيديه وثوبه، فالإنسان أقوى، والنوم يغلب الإنسان، فالنوم أقوى، والهم يغلب النوم، فأقوى جند الله الهم يسلطه الله على من يشاء.
إخوة الإيمان:
تعالوا بنا لنبحث في أسباب هذه الظاهرة المقيتة، وكيف الخلاص منها، هذه الظاهرة التي حولت بعض أبناء المسلمين، إلى ضعاف عاجزين، لايحملون هم الدين، ولايقومون بأعباء الحياة، عشعش الشيطان في قلوبهم، فأفسد عليهم إيمانهم، وكدرعليهم صفو أوقاتهم، حتى تمنى الكثير منهم الموت، على هذه الحياة المريرة.(57/3)
ولعل من أبرز أسباب هذه الظاهرة، خواء القلب من تعظيم الله تعالى، ويبس اللسان من ذكره سبحانه، : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } (طه:124)، ومن أسباب هذا المرض الوافد، الوقوع في المعاصي، والاستهانة بها ففي حديث عائشة -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها من العمل ابتلاه الله عز وجل بالحزن ليكفرها عنه" أخرجه أحمد.
عباد الله:
ومن هذه الأسباب: خواء الأفئدة من الإيمان بقضاء الله وقدره، وفزعهم من المستقبل المجهول، والشعور بالوهن عن حمل المصائب الواقعة، والشدائد الداهمة، فالعقلاء هم الذين يثبتون لها، والمؤمنون هم الذين يعتقدون أنها بإذن الله، فيصبرون عليها.
أما الضعفاء وقليلوالإيمان فربما هدم الروع أفئدتهم، وألقت بهم عواصف الفزع في مكان سحيق، والإسلام يرشد إلى أن الصبر عند الصدمة الأولى، والحكماء يوصون بالتجلد للمصائب، والشجاعة في المواقف، يقول أحدهم مخاطبا نفسه:
أقول لها وقد طارت شعاعا … من الأبطال ويحك لا تراعي
فإنك لو طلبت بقاء يوم … على الأجل الذي لك لم تطاعي
ويقول آخر:
وتجلدي للشامتين أريهم … أني لريب الدهر ولا أتضعضع
ومن هذه الأسباب لهذه الظاهرة: العزلة عن الناس، والبعد عن واقع المجتمع، لا سيما وقد وجد ما يعين عليها، من فضائيات تعمل صباح مساء، والدخول في مواقع الإنترنت، حيث يسيء بعضهم استخدامه، فتراه لا يعرف إلا المواقع الموبوءة، حيث قسوة القلب، وتحميله ما لا يطيق من الهم والسلب.
أيها المؤمنون:(57/4)
وسبب آخر من أسباب هذه الأزمة، يبرز من خلال كثرة الديون، مع العجز والكسل عن الوفاء بها، فقد دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد ذات يوم، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: " يا أبا أمامة، ما لي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة! قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: أفلا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال"، قال أبو أمامة : ففعلت ذلك فأذهب الله همي وقضى عني ديني.أخرجه أبوداود من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه- والهم يكون لما يستقبل والحزن على ما فات.
وجماع هذه الأسباب- أيها الناس- البعد عن هداية الله والاستقامة على طريقه، والتعلق بالأسباب الدنيوية بعيد عن مسببها سبحانه، ومن تعلق بشيء فقد وكل اليه، ومن وكل إلى غير الله فقد وكل إلى ضيعة وخراب: { فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } (الأنعام:125)، وفي الحديث: "من جعل الهم هماً واحداً، وهو هم المعاد، كفاه سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك" أخرجه ابن ماجه من حديث ابن مسعود – رضى الله عنه-.
قد قلت ما قلت، إن صوابا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه من كل ذنب وخطيئة إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية(57/5)
الحمد لله الرحيم الغفار، مقلب القلوب والأبصار، عالم الجهر والإسرار، أحمده حمدا دائما بالعشي والإبكار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له شهادة تنجي صاحبها من النار،وأشهد أن محمدا نبيه المختار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أهل التعظيم والإكبار، صلاة وسلاما تامين دائمين مادام الليل والنهار.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس، واحذروا من أمراض القلوب، ونزغات الشيطان، وهم النفوس، فإنها مثقلة للبدن، ومتعبة للفكر والذهن، مشغلة عن المهم، يقول ابن القيم –رحمه الله- :"أربعة تهدم البدن: الهم والحزن والجوع والسهر".
أتباع سيد المرسلين:
وبعد بيان أسباب هذا المرض الوافد، وهذه الظاهرة الملاحظة، لا يسعني إلا بيان الطرق الروحية، والأدوية الشرعية، للفكاك منها، والتخلص من ربقتها: فأول هذه الأدوية مكانة، قيام الأمة في مجموعها بمجاهدة أعدائها فقد أخرج الإمام أحمد من حديث عبادة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:" عليكم بالجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى فإنه باب من أبواب الجنة، يذهب الله به الهم والغم" وصدق الله إذ يقول: " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين".
ومن هذه الأدوية: الموقف الصحيح من القضاء والقدر، وبلوغ إيمان العبد، بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطئه لم يكن ليصيبه، فالأمور بيد مقدرها، أرزاق مقسومة، وآجال محتومة، وإن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها.
ومنها: الرضى عن الله سبحانه، فمن قل رضاه عن الله، صار مرتعا للأوهام والأحزان والأدواء، والرضى لا يكون إلا بأن يستحضر العبد حكمة الله في كل ما يصيبه،فإن أفعال الله لا تصدر إلا عن حكمة بالغة يقول الله تعالى: { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } (التغابن:11) قال علقمة: هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.(57/6)
ومنها كثرة التسبيح والسجود والعبادة عملا بقوله تعالى { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) } (الحجر:97-99)، ومنها : مصاحبة الأخيار من الناس، أهل الدين والمروءة والحكمة، فمصاحبتهم تطرد الهم عن القلب، وتخلص النفس من الوسوسة، { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } (الكهف:28)
ثم نختم- أيها المسلمون- بوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: "ما أصاب أحداً قط هم ولاحزن فقال: اللهم أني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكان فرحا" فقيل: يارسول الله ألا نتعلمها؟، فقال: "بلى،ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها" أخرجه أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ثم صلوا وسلموا رحمكم الله على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه حيث يقول الرب سبحانه { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (الأحزاب:56).
فاللهم صل على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.(57/7)
اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن، ونعوذ بك من العجز والكسل، ونعوذ بك الجبن والبخل،ونعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، اللهم اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ، والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ اللهم آمنا في الأوطان والدور، وادفع عنا الفتن والشرور، وأصلح اللهم لنا ولاة الأمور، واشرح لتحكيم كتابك الصدور، وألبس أميرنا ووليَّ أمرنا ثوب الصحة والعافية والطَّهور، برحمتك يا عزيز يا غفور، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرة حسنةً؛ وقنا عذاب النَّار.
عباد اللهِ: اذكروا الله ذكراً كثيراً، وكبِّروه تكبيراً، { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [العنكبوت: 45]. لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(57/8)
اطبع هذه الصحفة
يا حبذا الجنة
هذه الجنة التي خلقها الله تعالى قبل أن يخلق العالمين، وأسكن أباهم إياها قبل أن يوجدهم بسنين، فاسمعوا يا عباد الله أخبارها التي تزيد القلب إيماناً، وتُجلِّي عليه الجنة حتى كأنه يُشاهدها عياناً.
فإن سألتم عن الأبواب: فاسمعوا رعاكم الله تعالى الجواب، فعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله؛ وابن أمته؛ وكلمته ألقاها إلى مريم؛ وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق: أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء " [أخرجه البخاري ومسلم].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 9/6/1426هـ الموافق 15/7/2005م
يا حبذا الجنة
الحمد لله الذي جعل جنة الفردوس لعباده المؤمنين نزلاً، ويسرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها فلم يتخذوا سواها شغلاً، وسهل لهم طرقها فسلكوا السبل الموصلة إليها ذللاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مُوقنٍ بأن ربَّه خلق الموت والحياة ليبلو عباده أيهم أحسن عملاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخيرته ممن اصطفاهم الله تعالى لخلقه رسلاً، اللهم صل وسلِّم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه صلاة وسلاماً لا أبغي عنها حولاً، ولا أروم بها بدلاً.
أما بعد:
فيا بائعاً نفسه من رب العالمين، عليك بتقوى الله تعالى فإنها ثمن جنة { عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [آل عمران: 133].
هذه الجنة التي خلقها الله تعالى قبل أن يخلق العالمين، وأسكن أباهم إياها قبل أن يوجدهم بسنين، فاسمعوا يا عباد الله أخبارها التي تزيد القلب إيماناً، وتُجلِّي عليه الجنة حتى كأنه يُشاهدها عياناً.(58/1)
فإن سألتم عن الأبواب: فاسمعوا رعاكم الله تعالى الجواب، فعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله؛ وابن أمته؛ وكلمته ألقاها إلى مريم؛ وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق: أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء " [أخرجه البخاري ومسلم].
وإن سألتم عن سعة أبوابها: فاسمعوا نبأها جعلكم الله تعالى من أربابها، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- في حديث الشفاعة الطويل، وفيه: " فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال: والذي نفس محمد بيده: إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة: كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبُصرى " [أخرجه البخاري ومسلم].
عباد الله:
إن سألتم عن درجات هذه الجنان: فلتتشنف بسماع هذا الخبر الأذنان، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من آمن بالله وبرسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان: كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها. فقالوا: يا رسول الله، أفلا نبشر الناس؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله: فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة " [أخرجه البخاري].(58/2)
وإن سألتم عن أول من يدخل الجنة من الأمم، لتُثيروا ساكن العزمات والهمم، فاسمعوا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، هدانا الله له، يوم الجمعة، فاليوم لنا، وغداً لليهود، وبعد غد للنصارى " [أخرجه البخاري ومسلم].
واسمعوا إلى وصف أول زمرة تدخل الجنة، جعلكم الله تعالى منهم برحمة منه وفضلٍ ومنة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون فيها، آنيتهم وأمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم من الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً " [أخرجه البخاري ومسلم].
ويا أُنْس العباد، يوم " يُنادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، فذلك قوله عز وجل: { وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الأعراف: 43] [أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما-].(58/3)
وأعظم من نعيم الجنان: أن يُلبسك الرحمن: ثوب الرضوان، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً " [أخرجه البخاري ومسلم].
وأعظم من هذا النعيم: لذة العين برؤية وجه الله الكريم، فعن صهيب الرومي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل " [أخرجه مسلم].
أيها المُسلمونَ الأخيار:
بذا صحَّتِ الأخبارُ والآثارُ، في وصفِ جنات عدن التي تجري من تحتها الأنهار، فيا فوز من أكثر من الاستغفار، وتاب إلى ربِّه مِمَّا اقْتَرَفَه مِنَ الذُنوبِ والأوزارِ.
الخطبة الثانية
الحمد لله؛ الذي خلق الأرض والسماوات العلى، في ستة أيام ثم على العرش استوى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، يعلم السر وأخفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له الأسماء الحسنى؛ والصفات العلى، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد أوحى إليه ربه ما أوحى، ولم ينزل عليه القرآن ليشقى، بل جعله تذكرة لمن يخشى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم تجزى فيه كل نفس بِما تسعى.
أما بعد:
فيا عباد الله المسلمين: { فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [الأنفال:1].(58/4)
واعلموا أنه من أعظم الغبن والخسران، أن يسمع عبد بدار الخلد التي هي الحيوان، وما فِيها مما لا عينٌ رأتْ؛ ولا أذنٌ سَمِعَتْ؛ ولا خَطَرَ عَلَى قلبِ بشرٍ؛ فِي أبدٍ لا يزولُ؛ ونعيمٍ لا يحولُ، فيبيعَ ذلكَ كلَّهُ بعيشٍ مَشوبٍ بالنَغَصِ؛ ممزوجٍ بالغَصَصِ، إنْ أضْحَكَ قليلاً: أبْكَى كثيراً؛ وإنْ سَرَّ يوماً: أحزنَ شُهوراً، آلآمُهُ تزيدُ على لذاتِهِ؛ وأحزانُهُ أضعافُ مَسَرَّاتِهِ، أوَّلُهُ مَخَاوِفٌ؛ وآخِرُهُ مَتَالِفٌ، إنما هُوَ كأضغاثِ أحلامٍ؛ أو كطيفٍ زارَ فِي المنامِ.
فقل لي بربِّك: هل شمَّر لهذه الدار، وسارع لجوار العزيز الغفَّار: مَنْ آثرَ الحظَّ الفانِي الخسيسِ؛ على الحظِّ الباقِي النفيسِ، ومَنْ باعَ جنَّةً عَرْضُهَا الأرضُ والسمواتُ؛ بسجنٍ ضيِّقٍ بينَ أربابِ العاهاتِ والبليَّاتِ، ومَنْ تعوَّضَ بمساكنَ طيبةٍ في جناتِ عدنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهارُ؛ بأعطانٍ ضَيِّقَةً آخِرُهَا الخرابُ والبوارُ، ومَنْ اسْتَبْدَلَ أبكاراً عُرُباً أتراباً كأنَّهُنَّ الياقوتُ والمَرْجَانُ؛ بمومساتٍ دنساتٍ مُسافحاتٍ أو مُتَّخِذَاتِ أخدانٍ، ومَنْ رَغِبَ عَنْ أنهارٍ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ للشاربينَ؛ بشرابِ خَمْرٍ نجسٍ مُذهبٍ للعقلِ مُفسدٍ للدُّنْيا والدِّينِ، ومَنْ آثرَ مُتعةَ النَّظرِ إلى المَشْهَدِ القبيحِ الذميمِ؛ وسماعَ الغناءِ الفاحشِ الوخيمِ بلذَّةِ النَّظَرِ إلى وَجْهِ العزيزِ الرحيمِ؛ وسماعِ كلامِهِ في جنَّاتِ النَّعيمِ؛، ومَنْ لَمْ يَصْبِرْ نَفْسَهُ ساعةً للجُلوسِ يومَ القيامةِ على منابرَ اللؤُلْؤِ والياقوتِ والزَبَرْجَدِ يَوْمَ المَزِيدِ؛ وأضاعَ ساعاتِ عُمُرِهِ بالجُلوسِ في مُنْتَدَياتِ الفُسوقِ مَعَ كلِّ شيطانٍ مريدٍ.(58/5)
فوا عَجَبَاً؛ كيفَ تَخَلَّفَ عَنْ خطبة الجنةِ طالِبُهَا، وكيفَ لَمْ يَسْمَحْ بِمَهْرِهَا خَاطِبُهَا، وكَيْفَ قَرَّتْ دُونَها أعينُ المُشْتَاقِينَ؟ وبِأيِّ شَيْءٍ تَعَوَّضَتْ عَنْهَا نُفُوسُ المُعْرِضِينَ؟
ومسك الختام، معشر الإخوة الكرام: ترطيب الأفواه بالصلاة والسلام، على خير الأنام، امتثالاً لأمر الملك القدوس السلام، حيث قال في أصدق قيل وأحسن حديث وخير كلام: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما باركت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، في العالمين، إنك حميدٌ مجيدٌ.
وارضَ اللهمَّ عن الأربعةِ الخلفاءِ الراشدين؛ والأئمةِ الحنفاءِ المهديِّين، أولي الفضلِ الجليِّ؛ والقدرِ العليِّ: أبي بكرٍ الصديقِ؛ وعمرَ الفاروقِ؛ وذي النورينِ عُثمانَ؛ وأبي السِّبطينِ عليِّ، وارض اللهم عن آل نبيِّك وأزواجِه المُطَهَّرِين من الأرجاس؛ وصحابتِه الصفوةِ الأخيارِ من الناس.
اللهم اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهم إنا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم إنا نسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار، وما قرب إليها من قول أو عمل، ونسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لنا خيراً.(58/6)
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وادفع عنا الفتن والشرور، وأصلح اللهم لنا ولاة الأمور، واشرح لتحكيم كتابك الصدور، وألبس أميرنا ونائبه ثوب الصحة والعافية والطَّهور، برحمتك يا عزيز يا غفور، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرة حسنةً؛ وقنا عذاب النَّار.
عباد اللهِ:
اذكروا الله ذكراً كثيراً، وكبِّروه تكبيراً، { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [العنكبوت: 45].
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(58/7)
اطبع هذه الصحفة
العطلة الصيفية بين المغنم والمغرم
ها هي الإجازة قد بدأت، فما عسى المسلم أن يفعل فيها ليستفيد منها ؟ وما عساه إن سافر أن يفعل في سفره ؟.
إن الفراغ يعد واحداً من الأشياء التي يسأل عنها العبد يوم القيامة، فاعلم أخي رحمك الله:
أننا سوف نحاسب على هذه النعم التي بين أيدينا فيما صرفناها، وهل أدينا شكرها، قال الله تعالى: { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } [التكاثر:8] " أي ثم تسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك "
وقد أخرج البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ "، يقول ابن الجوزي -رحمه الله- : " قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا، فإذا اجتمعا – الصحة والفراغ – فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون " .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 16 /6 / 1426هـ الموافق 22/7/2005م
العطلة الصيفية بين المغنم والمغرم
الحمد لله ذي القوة المتين، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، الصادق الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فياعباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله لنا وللسالفين قبلنا، يقول الله عز وجل: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ } [النساء:131]، ثم اعلموا رحمكم الله أن من غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، وعظم فواته، واشتدت حسراته، فالأوقات سريعة الزوال، وعلى المرء أن يعرف قيمة زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة .(59/1)
أيها الإخوة المؤمنون :
ها هي الإجازة قد بدأت، فما عسى المسلم أن يفعل فيها ليستفيد منها ؟ وما عساه إن سافر أن يفعل في سفره ؟.
إن الفراغ يعد واحداً من الأشياء التي يسأل عنها العبد يوم القيامة، فاعلم أخي رحمك الله:
أننا سوف نحاسب على هذه النعم التي بين أيدينا فيما صرفناها، وهل أدينا شكرها، قال الله تعالى: { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } [التكاثر:8] " أي ثم تسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك "
وقد أخرج البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ "، يقول ابن الجوزي -رحمه الله- : " قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا، فإذا اجتمعا – الصحة والفراغ – فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون " .
عباد الله:
إنه يجب أخذ الحذر من اقتراف المحرمات التي يقع فيها بعض من يسافر في العطلة تساهلا بما حرم الله تعالى، ومن ذلك سفر المرأة بغير محرم، وفي الحديث " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة وليس معها محرم " (أخرجه البخاري).(59/2)
ومن المحرمات حضور الحفلات الغنائية التي تنتشر بحجة السياحة خصوصا إذا صاحبها اختلاط وتبرج فإنه يزداد حرمة وإثما، يقول الله عز وجل: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [لقمان :6]، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف " (أخرجه البخاري)، ثم الحذر الحذر من التساهل في مسألة الحجاب والستر بحجة السفر والسياحة، فقد يحصل من بعض النساء تبرج واختلاط واحتكاك بالرجال في الأماكن العامة والحدائق والمنتزهات دون تحفظ وهو مخالف لتعاليم ديننا الحنيف، حيث يقول الله تعالى في محكم التنزيل : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } [الأحزاب :33].
إخوة الإيمان :
إن قلم التكليف جار على المرء في السفر والإقامة، فكونوا دعاة خير في سفركم ولا تزدروا أنفسكم في الدعوة إلى الله، فبركة المؤمن في تعليمه الدين حيثما حل، ونصحه أينما نزل، قال الله عز وجل إخباراً عن المسيح عليه السلام: { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ } [مريم:31]، وبذلك يكون السفر عبادة ونزهة فلا يكتمل السرور إلا براحة الروح مع الجسد، وقراءة القرآن وذكر الله تعالى يضفى على المؤمن السكينة والطمأنينة { الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28]، ثم لنحرص على أن يكون سفرنا في مرضاة الواحد الأحد، ولزوم الصحبة الصالحة، والتحلي بالمروءة ومكارم الاخلاق، أما سفر المعصية فصاحبه ينتقل فيه من الأنس إلى الوحشة، ومن سرور الأسفار إلى مطاردة الأفكار.
تغرب عن الأوطان في طلب العلا…وسافرففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم واكتساب معيشة…وعلم وآداب وصحبة ماجد
فإن قيل في الأسفار هم وكربة …وتشتيت شمل وارتكاب الشدائد(59/3)
فموت الفتى خير له من حياته……بدار هوان بين واش وحاسد
عباد الله:
على الآباء والأمهات حث الأولاد على حفظ القرآن الكريم في الإجازة والالتحاق بالدورات والحلقات، وتشجيعهم بكل وسيلة من رصد الجوائز ونحو ذلك، وقد قامت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية مشكورة بتنظيم الحلقات والأنشطة المتنوعة لكل منطقة ، فكم يفرط البعض في ذلك، وقد يظن أنه بمجرد قيامه برحلة أدى حق أسرته وأولاده وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " [متفق عليه]، ثم إنه من المؤسف أن كثيرا من الشباب يمتد نفعه إلى كل أحد إلا أهل بيته وعشيرته، فلماذا لا يفكر الشاب في جمع أفراد أسرته؟ وكذلك الفتاة تجمع أفراد أسرتها في مكان ما في البيت ونحوه، وينظمون برامج ومسابقات وألعابا يتخللها بعض التوجيهات والكلمات وتوزيع الأشرطة والرسائل وفي ذلك منافع شتى وهو صلة وبر ودعوة وإصلاح.
إن الإجازة الصيفية فرصة لا تعوض، وأيام من العمر لا تعود، فلنحرص على اغتنام فرصها ولحظاتها حتى نخرج بأحسن المكاسب وأطيب النتائج، فالأعمار محدودة، والأعمال مشهودة، وعند الموت يقول المفرط والمضيع لأوقاته: { رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [المؤمنون: 99-100].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيما لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد :
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته، وأحذركم من معصيته ومخالفته.
أيها المؤمنون:(59/4)
لقد قال مالك -رحمه الله-: " بلغني أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال: يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الله الأرض الميتة بوابل السماء "، ومن هنا يكون النداء لطلبة العلم باستغلال العطلة الصيفية في التحصيل والدراسة وكثرة الطلب والحرص على حلق العلم والتتلمذ على العلماء، فما لا يدرك في أيام الدراسة، يدرك في أيام الإجازة والعطلة، فاحرصوا يا طلبة العلم واصبروا وصابروا ورابطوا فإن الأمة بحاجة إليكم، وما زالت تشكوا من قلة العلماء العاملين، والدعاة الناصحين، فأنتم اليوم طلاب، وغدا معلمون، اليوم تطلبون، وغدا يطلب منكم، فهل عقلتم عظم المسئولية وحملتموها.
قد هيؤك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
أما أنتم يا أولياء الأمور، فأكرر لكم النداء، ألحقوا أبناءكم بحلقات تحفيظ القرآن، أو في أي نشاط يعود عليهم بالفائدة والخير في إجازتهم.
…وأنت أيها المسلم في كل مكان أيا كان ميولك، وأيا كان عملك، لا تنس أن يكون لك في حياتك اليومية ورد من كتاب ربك، ترطب به لسانك، وتلين به فؤادك، وتزيد به حياتك إيمانا وتقوى.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وأخذ بنواصينا إلى البر والتقوى .
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا, وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا, وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا, واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير, واجعل الموت راحة لنا من كل شر.(59/5)
اللهم احفظ ألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وقلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم أصلح ولاتنا وولاة أمور المسلمين، واحفظ اللهم أميرنا وولي عهده الأمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(59/6)
اطبع هذه الصحفة
حسن الظن
اسمعوا لقول نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه جل وعلا: " يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ، ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً، تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً، تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة " [ متفق عليه]، والمراد بالظن هنا يا عباد الله: العلم، ويتضمن معنى ظن عبدي بي: ظن الإجابة عند الدعاء, وظن القبول عند التوبة، وظن المغفرة عند الاستغفار، وأن من تقرب إليه بطاعته، تقرب جل وعلا إليه برحمته، فإن أتاه يمشي وأسرع في طاعته، أتاه هرولة، أي صب عليه الرحمة، وسبقه بها. قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ : " إن المؤمن أحسن الظن بربه، فأحسن العمل، وإن الفاجر أساء الظن بربه، فأساء العمل ".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 23 جمادى الآخرة 1426هـ الموافق 29/7/2005م
حسن الظن
الحمد لله الذي يسر للسالكين من طاعاته الأسباب، ووعد العاملين الجزاء الأوفى وحسن الثواب، والحمد لله الذي هدانا بنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى مناهج الصواب، وفضله على الأنبياء بما آتاه من الحكمة وفصل الخطاب، وأثنى عليه في كتابه الحكيم بما بهر أولي الألباب، وهو المراد بقوله تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } [ آل عمران:164]، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يجازي كل من إليه أناب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من صفى قلبه وعمل على حق رب الأرباب، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الذين صلحت سرائرهم وكانت ظواهرهم كبواطنهم فرضي الله عنهم ووعدهم طوبى وحسن مآب.(60/1)
أما بعد:
فإني أوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله حيثما كنا، ولنراقبه فإنه يعلم ما أخفينا وما أعلنا، واعلموا أن الله تعالى يقول في محكم تنزيله وهو أصدق القائلين: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء } [آل عمران:5].
أيها المؤمنون:
اسمعوا لقول نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه جل وعلا: " يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ، ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً، تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً، تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة " [ متفق عليه]، والمراد بالظن هنا يا عباد الله: العلم، ويتضمن معنى ظن عبدي بي: ظن الإجابة عند الدعاء, وظن القبول عند التوبة، وظن المغفرة عند الاستغفار، وأن من تقرب إليه بطاعته، تقرب جل وعلا إليه برحمته، فإن أتاه يمشي وأسرع في طاعته، أتاه هرولة، أي صب عليه الرحمة، وسبقه بها. قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ : " إن المؤمن أحسن الظن بربه، فأحسن العمل، وإن الفاجر أساء الظن بربه، فأساء العمل ".
وإني لآتي الذنب أعرف قدره … وأعلم أن الله يعفو ويغفر
لئن عظم الناس الذنوب فإنها… وإن عظمت في رحمة الله تصغر(60/2)
ألا وإن الظن في اللغة له معان كثيرة: منها اليقين، كقوله تعالى: { قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ } [البقرة:249]، أي أنهم أيقنوا ملاقاة الله تعالى، ومنها: الشك والتهمة، كقوله تعالى: { وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ } [الفتح:12]، ومنها: الحسبان، كقوله تعالى: { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [الانشقاق:14]، بمعنى حسب الكافر أنه لن يرجع حياً مبعوثاً فيحاسب بعد الموت.أما معناه في الشريعة: فهو تجويز أمرين في النفس لأحدهما ترجيح على الآخر، وعليه يقال: إن حسن الظن، ترجيح جانب الخير، على جانب الشر، ولاشك أن حسن الظن بالله تعالى واجب في حق كل مسلم؛ لأن سوء الظن بالله -أعاذنا الله وإياكم- من الكبائر؛ لكونه أبلغ في الذنب من اليأس والقنوط.
عباد الرحمن الأخيار:
إن لنا مثلاً عملياً في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حسن ظنه بالله عز وجل، فعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ: "أنه" غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوةَ قِبَل نجدٍ، فلما قََفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قفل معه، فأدركتهم القائلة ـ أي شدة الحرـ في وادٍ كثير العِضَاهِ ـ أي شجر عظيم الشوك ـ فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرةٍ وعلق بها سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال: " إن هذا اخترط علي سيفي ـ أي سله ـ وأنا نائمٌ، فاستيقظت وهو في يده صَلتاً ـ أي مجرداً من غمده ـ فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله (ثلاثاً). ولم يعاقبه، وجلس" [متفق عليه]، وفي رواية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قال: " (الله) سقط السيف من يد الأعرابي "(60/3)
وهذا عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يقول: " والذي لا إله غيره، ما أعطي عبد مؤمن شيئاً خيراً من حسن الظن بالله عز وجل. والذي لا إله غيره، لا يحسن عبد بالله عز وجل الظن إلا أعطاه الله عز وجل ظنه، ذلك بأن الخير في يده ".
مازلت أغرق في الإساءة دائباً……وتنالني بالعفو والغفران
لم تنتقصني إذ أسأت وزدتني……حتى كأن إساءتي إحسان
تولي الجميل على القبيح كأنما…يرضيك مني الزور والبهتان
معاشر المسلمين:
وكما يجب أن نحسن الظن بالله تعالى، يجب أيضاً أن نحسن الظن بالمسلم الذي ظاهره العدالة، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [الحجرات:12]، ومتى خطر خاطر سوء على مسلم، وجب مراعاته والدعاء له بالخير، فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه، وإذا تحققت هفوة مسلم، فالنصح له في السر أمر مطلوب، ولا شك أن ديننا الإسلامي دين عظيم؛ إذ حرم علينا كل ما من شأنه أن يكون سبباً للفرقة، أو التباغض.(60/4)
وقد قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : " لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً " [أخرجه مسلم]، فسوء الظن من أكبر العقبات التي تحول بين ترابط المسلمين فيما بينهم، فإياك وإياه؛ فإنه لا يحل استعماله في الدين؛ لكونه يوقع التباغض والفرقة بين الناس، والمؤمن يا عبد الله كيس فطن، تقي سليم الصدر، يحمل أمر أخيه المسلم على الوجه الطيب، والجانب الحسن، لقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [الحجرات:12]، ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث.." [متفق عليه]، والأصل في التعامل بين الناس، هو حسن الظن بهم حسب الظاهر، والله جل وعلا يتولى السرائر؛ لأنه سبحانه أعلم بخلقه: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الملك:14].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولكافة المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي دعا إلى الوحدة والوفاق، ونهى عن الفرقة والشقاق، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الخلاق، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أفضل الخلق على الإطلاق، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم التلاق.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون وأحسنوا بجلاله الظنون، وقفوا بين خوفه ورجائه فلمثل هذا فليعمل العاملون.
عباد الله:(60/5)
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " [أخرجه البخاري]، وأن خير الناس من صفت لله سرائرهم، وتوثقت عرى المحبة والمودة بينهم، فإذا فقدوا هذه الروح، تعرضوا للبأساء والضراء، وزلزلوا زلزالاً لا يثبت على قدم، ومن هنا عمل الإسلام على تقوية الصلات بين المؤمنين ليكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، فلا تحاسد بينهم، ولا تباغض بين قلوبهم.
ألا وإن لحسن الظن فوائد عظيمة ينبغي الوقوف عليها، منها: أنه طريق موصل إلى الجنة، وأنه دليل كمال الإيمان وحسن الإسلام، ومنها أنه يولد الألفة والمحبة بين المسلمين، ويهيئ المجتمع الصالح المتماسك ويحقق التعاون بين أفراده، ومنها أنه برهان على سلامة القلب وطهارة النفس وعلامة على حسن الخاتمة، ومنها أنه لا يأتي إلا عن معرفة قدر الله ومدى مغفرته ورحمته، بالإضافة إلى أنه يحافظ على أعراض المسلمين، قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ :" لا تظنن بكلمةٍ خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً، وأنت تجد لها في الخير محملا ".
ويا عبد الله عليك أن تنبه من تخشى سوء ظنه، حتى تطفئ وسوسة الشيطان له عليك، وشاهد ذلك، تنبيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجلين من الأنصار عندما رأياه ومعه صفية فأسرعا، فقال لهما رسول الله: " على رسلكما إنها صفية بنت حيي " فقالا: سبحان الله يا رسول الله ! قال: " إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت إن يقذف في قلوبكما شراً ـ أو قال شيئاً ـ" [متفق عليه]، ويتأكد ذلك في حق العلماء، والمربين؛ لأنهم قدوة للناس.
أيها الأحباب:(60/6)
واظبوا على فعل الطاعات؛ فإنكم مثابون، وابتعدوا عن المعاصي؛ فإنكم مسؤولون، فلا يكون عندكم لسوء الظن مكان؛ حتى لا يقع أحد في هتك ستر أخيه المسلم، من التجسس، والغيبة، والنميمة، وتتبع العورات، وقذف المحصنات، قال تعالى: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [هود:114].
ثم اعلموا أن الله تبارك وتعالى قال قولاً كريماً تنبيهاً لكم وتعليماً وتشريفاً لقدر نبيه وتعظيماً: { إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وخلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلى، وارض اللهم عن بقية الصحابة والقرابة وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وفضلك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وأعل كلمتك العليا إلى يوم الدين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً، سخاءً رخاءً، وسائر بلاد المسلمين، واحفظ أمير بلادنا وولي عهده الأمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(60/7)
اطبع هذه الصحفة
الإيمان بالرسل الكرام عليهم السلام
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله رب العالمين، فهي وصية الله للأولين والآخرين، { وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً } [النساء:131].
فاتقوا الله حقَّ تقاتِه، واعلموا أنه لا فوز إلا في طاعتِه، ولا عزَّ إلا في التذلل لعظمتِه، ولا غنى إلا في الافتقار إلى رحمتِه، إذا سُئِلَ أثاب، وإذا دعي أجاب، غرس في النفوس الفطر السليمة، وركب في الرؤوس العقول المستقيمة، وأقام على العالمين حجته، وبيَّن لهم أجمعين محجته، وبعث فيهم رسله الكرام، وشرع لهم شرائع الأحكام.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 30/6/1426هـ الموافق 5/8/2005م
الإيمان بالرسل الكرام عليهم السلام
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، ومالك يوم الدين، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ المبعوثُ بالدِّينِ القويمِ، والمُرسلُ بالنهجِ المستقيمِ، أرسلَهُ اللهُ بين يدي السَّاعةِ رحمةً للعالمينَ، وإماماً للمتَّقين، وحجةً على الخلائقِ أجمعينَ، فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(61/1)
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله رب العالمين، فهي وصية الله للأولين والآخرين، { وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً } [النساء:131].
فاتقوا الله حقَّ تقاتِه، واعلموا أنه لا فوز إلا في طاعتِه، ولا عزَّ إلا في التذلل لعظمتِه، ولا غنى إلا في الافتقار إلى رحمتِه، إذا سُئِلَ أثاب، وإذا دعي أجاب، غرس في النفوس الفطر السليمة، وركب في الرؤوس العقول المستقيمة، وأقام على العالمين حجته، وبيَّن لهم أجمعين محجته، وبعث فيهم رسله الكرام، وشرع لهم شرائع الأحكام.
وقد افترضَ اللهُ تعالى على العبادِ طاعة رسله وتعزيرَهُم، ومحبَّتَهُم وتوقيرَهُم، وأمرَ بالقيامِ بحقوقِهِم، ونهى عن مخالفتِهِم وعقوقِهِم، ولن تزول قدما عبد بين يدي رب الأرباب، حتى يتوجه إليه الخطاب: { مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ } [الشعراء:75] ؟ و { مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } [القصص:65]
فجواب الأولى { مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ } [الشعراء:75] بتحقيق شهادة لا إله إلا الله؛ معرفة وعملاً وإقراراً، وجواب الثانية { مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } [القصص:65]، بتحقيق شهادة أنهم رسل الله؛ إتباعا وتأسياً وائتماراً، فبحسب متابعة الرسل الكرام؛ عليهم الصلاة والسلام: تكون في العاجلة الهداية والنجاح، وفي الآجلة النجاة والفلاح.
وربنا العزيز الغفار؛ يخلق ما يشاء ويختار، واختيار الرب: دالٌّ على وحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته بلا شك ولا ريب، وقد اختار الله تعالى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم من ولد آدم، ثمَّ اختار منهم الرُّسل عليهم السَّلام، ثم اختصَّ منهم خمسة وعشرين، وهم المذكورون في محكم الكتاب المبين.(61/2)
وقد ذكر الملك القدوس السلام؛ في نسق واحد في سورة الأنعام: ثمانية عشر رسولاً ونبياً عليهم السلام، { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } [الأنعام:83-86].
والسبعة الباقون الكرام: هم آدم وإدريس وهود وصالح وشعيب وذو الكفل ومحمد عليهم السلام، ثمَّ اختار منهم خمسة هم أولو العزمِ من المرسلين، وهم نوحٌ وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدٌ صلَّى الله وسلَّم عليهم أجمعين، قال الله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [الأحزاب:7].
ثمَّ اختار منهم الخليلين: إبراهيم ومحمداً صلَّى الله عليهما وعلى آلهما وسلَّم إلى يوم الدين، ثمَّ اختار منهما سيد ولد آدم: محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، فهو خيارٌ من خيارٍ من خيارٍ، أخرج مسلم في صحيحه من حديث واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم ".
أيها المسلمون:(61/3)
إن جميع الأنبياء والمرسلين متفقون على إفراد الله تعالى بالتوحيد؛ وتنزيهه عن الشرك والتنديد، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة. قالوا: كيف يا رسول الله؟ فقال: الأنبياء إخوة من علات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد، فليس بيننا نبي "، وأولاد العلات: هم إخوة من أبٍ واحدٍ وعدة أمهات.
وذلك أن توحيد رب العالمين: هو الدين الذي بُعِثَ به جميع الأنبياء والمرسلين، وضُمِّنَ في كلِّ كتاب مبين، قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء:25]، فمقاصدهم مُؤتلفة، وشرائعهم مُختلفة، وكلها متضمنة للحجة الدامغة، ولا تخرج في أوامرها ونواهيها عن الحكمة البالغة.
عباد الله الكرام:
إن الألباب والعقول، مضطرةٌ لمعرفة سيرة الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ، لأنَّه لا سبيل إلى السَّعادة والنَّجاح؛ ولا طريق إلى الأنس والفلاح، في العاجلة والآجلة: إلا في تصديق الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عمَّا نهى عنه وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع وقرَّر، فهو الميزان الرَّاجح الذي تُوزن به الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعته يتميَّز الهدى من الضَّلال، فالضَّرورة إلى معرفة هديه أعظم من ضرورة الأبدان إلى الأرواح، والعيون إلى النُّور الوضَّاح.
فما حال المُعرضِ عن سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إلا كحال حوتٍ فارق الماء، ووُضع في مُقلاةٍ تحت الهواء، هذا حال العقول؛ إذا فارقت هدي الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ، بل أفظع وأشنع وأروع، ولكن لا يُحسُّ بهذا إلا قلبٌ واعٍ، وأما قلبٌ في ظلم الخداع والضَّياع: فيراه النَّاظر؛ بما صوَّره الشَّاعر:(61/4)
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ
بارك الله لي ولكم في الفرقان والذكر الحكيم، ووفقنا للاعتصام به وبما كان عليه النبيُّ الكريم؛ من الهدي القويم؛ والصراط المستقيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله الغفورَ الحليم، لي ولكم من كل ظلم وجرم فتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ذي الجلالِ والإكرام، والنوال والإفضال والإنعام، له المنن الجسام؛ والأيادي العظام، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ لهُ الملكُ القُدُّوسُ السلامُ، وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه خيرُ الأنام، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِه الكرام، الذين جعلَهم اللهُ لمن بعدهم كالعافيةِ للأجسام، وكالمصابيحِ للظَّلام.
أما بعد:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة:35].
عباد الله الأخيار:
إذا كانت سعادة العبدِ في الدَّارين؛ معلَّقةً بمعرفة هدي النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - معرفةً لا شكَّ فيها ولا مَيْن: وجب على كلِّ من نصح نفسه وأحبَّ نجاتها، ورام نعيمها وسعادتها: أن يعرف من نبيِّه وحبيبه وخليله أخباره، حتى يقتفي سننه وهديه وآثاره، والنَّاس في معرفة هدي النَّبيِّ المعصوم: ما بين مُستقلٍّ ومستكثرٍ ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وإذا أردت يا عبدالله أن تتعرَّف على نفسك وأنَّها على سنن أيِّ الطَّرائق الثلاث، حتى تُثير عزمك السَّاكن إلى الاتِّباع وتسير إلى مُتابعة حبيبك سير الحاثِّ: فاسمع إلى ما يُشنِّف الأسماع، ويُهذِّب الطِّباع، ويدعوها إلى الاتِّباع: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [آل عمران:31].(61/5)
ومسك الختام، معشر الإخوة الكرام: ترطيب الأفواه بالصلاة والسلام، على خير الأنام، امتثالاً لأمر الملك القدوس السلام، حيث قال في أصدق قيل وأحسن حديث وخير كلام: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما باركت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، في العالمين، إنك حميدٌ مجيدٌ.
وارضَ اللهمَّ عن الأربعةِ الخلفاءِ الراشدين؛ والأئمةِ الحنفاءِ المهديِّين، أولي الفضلِ الجليِّ؛ والقدرِ العليِّ: أبي بكرٍ الصديقِ؛ وعمرَ الفاروقِ؛ وذي النورينِ عُثمانَ؛ وأبي السِّبطينِ عليِّ، وارض اللهم عن آل نبيِّك وأزواجِه المُطَهَّرِين من الأرجاس؛ وصحابتِه الصفوةِ الأخيارِ من الناس.
اللهم اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهم إنا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم إنا نسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك - صلى الله عليه وسلم - ، ونعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك - صلى الله عليه وسلم - ، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار، وما قرب إليها من قول أو عمل، ونسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لنا خيراً.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وادفع عنا الفتن والشرور، وأصلح اللهم لنا ولاة الأمور، واشرح لتحكيم كتابك الصدور، وألبس أميرنا ونائبه ثوب الصحة والعافية والطَّهور، برحمتك يا عزيز يا غفور، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرة حسنةً؛ وقنا عذاب النَّار.
عباد اللهِ:(61/6)
اذكروا الله ذكراً كثيراً، وكبِّروه تكبيراً، { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [العنكبوت:45].
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(61/7)
اطبع هذه الصحفة
دور الأسرة في مكافحة المخدرات
إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع، فالمرء مسئول عن نفسه وعن أولاده فلا تقتصر مهمته على إنجاب الأولاد فقط، ولكن عليه أن يتابع هذا المولود،حتى إذا بدأ يميز الأشياء عليه بتوجيهه حتى يربي فيه روح الإيمان الصادق والعزيمة الصادقة والهمة العالية،ويأخذ بيده إلى واقع الحياة وصخبها كي يعلمه التمييز بين الخير والشر والنافع والضار، فالولد يقلد أباه في كل ما يفعل ، والأب الصالح يكون قدوة صالحة لأبنائه.
وينشأ ناشئ الفتيان منا **** على ما كان عوده أبوه
دور الأسرة في مكافحة المخدرات
الحمد لله رب العالمين، خلق الإنسان علمه البيان، وهداه إلى طريق الإيمان، وصوره فأحسن صورته، وجعل له السمع والأبصار والأفئدة وأنعم عليه بنعم شتى، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار}
[إبراهيم: 34].
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، عز كل ذليل وغنى كل فقير وملجأ كل ملهوف. سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله، أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث، وأخذ بأيدينا إلى الصراط المستقيم، { صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} [الشورى: 53]
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه الطيبين الطاهرين، وجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن قومه ورسولاً عن أمته. أما بعد:
فيا أيها المسلمون:(62/1)
إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع، فالمرء مسئول عن نفسه وعن أولاده فلا تقتصر مهمته على إنجاب الأولاد فقط، ولكن عليه أن يتابع هذا المولود،حتى إذا بدأ يميز الأشياء عليه بتوجيهه حتى يربي فيه روح الإيمان الصادق والعزيمة الصادقة والهمة العالية،ويأخذ بيده إلى واقع الحياة وصخبها كي يعلمه التمييز بين الخير والشر والنافع والضار، فالولد يقلد أباه في كل ما يفعل ، والأب الصالح يكون قدوة صالحة لأبنائه.
وينشأ ناشئ الفتيان منا **** على ما كان عوده أبوه
( 2 )
والأب غير الصالح، يعلم أولاده الفساد وهو لا يشعر، فالذي يدخن أمام أولاده سيقلده أولاده في هذا السلوك ويخرج منهم من يزاول هذه العادة السيئة، والذي يحتسى المنكر أمام أولاده سيخرج منهم من يفعل فعله ، يقول الرسول (صلي الله عليه وسلم): "ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"[ رواه البخاري ] في هذا الحديث توضيح موقف الآباء من الأبناء في عملية السلوك والاقتداء، وكيف أنها ربما طمست فطرة الابن الصغير فتحولت من نقاء إلى غبشة وظلام ومن سلوك مستقيم، إلى اعوجاج، ومن معتقد سليم إلى هراء ومن معالي الأمور إلى سفاسفها، هذا لأنهما لم ينميا الفطرة الإسلامية التي ولد عليها الولد، ذكراً كان أو أنثى. (فطرة الله التي فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله ، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) [الروم :30 ].
ويترتب على طمس الفطرة السليمة عند الولد أن يخرج بسلوك معوج رآه في أبيه أو أمه ، ويربى على ذلك ولا يستطيع التخلص من هذا السلوك إلا إذا كانت هناك دوافع قوية تسيطر عليه. إن الوازع الديني والخلقي هما أساس التغيير في الفرد والجماعة، وخصوصاً في الأمور المعضلة مثل تربية الأولاد وبناء شخصيتهم ولم شمل المجتمع حتى يكون كالجسد الواحد أو كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
أيها المسلمون :(62/2)
إن تنشئة الفرد وتكوين المجتمعات والأمم يحتاج إلى جهد مضن، يستغرق وقتاً ومالاً وجهداً أكثر من إنشاء الأبنية والمصانع، لقد مكث رسول الله في مكة قرابة ثلاث عشرة سنة ليبني فيها الرجال الذين يصلحون لحمل مسئولية الدعوة إلى الله تعالى، "سيرة بن هشام".
ونحن في هذا العصر المليء بالمخاطر والعقبات أمام الشباب والفتيات نحتاج إلى أسلوب يتمشى مع هذا الوقع السريع الموجود في هذا العصر، ولقد أطلت علينا المخدرات بأنواع جديدة ونماذج مطورة لم يسبق لها نظير حملت في داخلها السم الزعاف ففيها تهديد للصحة، وتهديد لاقتصاديات المجتمع وتهديد للأسرة وتهديد لكيان الفرد، وفيها التهلكة السريعة التي لا علاج لها ولا مخرج منها حتى يترك الإنسان رجولته أو تترك البنت أغلى شىء عندها، والله تعالى يقول: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)[البقرة :195] ويقول: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما)[النساء :29]
( 3 )
والرسول (صلي الله عليه وسلم) يقول: "ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا" [رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة] وهذه ا لمخدرات سم قاتل وتناولها إزهاق للحياة.(62/3)
إن الأمة محتاجة إلى أبنائها، فهم وسيلة البناء والتقدم والرقي، وما تقدمت أمة إلا بسواعد أبنائها وبعلمهم وجهادهم، فهل يا ترى لو تركنا أولادنا دون متابعة أو رعاية هل يقدرون على حمل هذه المسئولية ؟ كلاً، لأنهم فقدوا مقومات التقدم والرقي، فقد أهلكهم شم الكوكايين والهيروين وغيره حتى وصلوا إلى درجة الإدمان ، والآباء والأمهات لم ينتبهوا لهذا الخطر الداهم والغول المفترس إلا بعد فوات الأوان، رأوهم وهم يرقدون جثثاً هامدة في مصحات علاج الإدمان، أو الطب النفسي للعلاج من الهوس الذي أصيبوا به، لقد ندموا ولات ساعة مندم. فيا أيها الآباء والأمهات أفيقوا، فإن كنتم مشغولين بجمع الثروات، أليس أبناؤكم وبناتكم ثروة ؟ تابعوا أولادكم وراقبوهم في البيت وفي خارجه، وتعرفوا على أصدقائهم "المرء على دين خليله فليختر أحدكم من يخالل" [رواه أبو داود].
إن الخمر هي أم الخبائث وهي رجس من عمل الشيطان، والمخدرات وخصوصاً التي ظهرت في هذه الأيام كلها مواد قاتلة تفقد الإنسان رجولته وتجعل الفتاة تفرط في عفتها بأي ثمن، قال تعالى:
(إنما الخمر و الميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) المائدة:[90/91 ] وقد نهى رسول الله عن كل مخدر ومفتر، ويجب أن نشدد النكير على هذه المواد الضارة ونبين لأبنائنا عاقبة متعاطيها ونشرح لهم من خلال الأحداث التي حدثت ومن خلال وسائل الإعلام ما تؤول إليه نهاية المدمن من فتك بالصحة وإهلاك للجسد وضياع للمروءة. والأمة أحوج ما تكون إلى شبابها وهو في حالة يقظة لا في حالة سكر وعربدة.(62/4)
وكان (صلي الله عليه وسلم) في دعائه يقول: "اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء، والأدواء" [رواه الترمذي والطبراني] عن زياد بن علامة، وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "الزموا أولادكم وأحسنوا أدبهم" يجب أن يربي الأبناء على كره هذه الأشياء لا تخويفاً وإنما تعبداً لله بهذه الكراهية حتى يكون عنده وازع من ضمير ودفاع ذاتي ليس له رقيب في ذلك إلا الله، حتى يصل إلى درجة الإحسان "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وعلى الآباء أن يكونوا قدوة حسنة لأبنائهم ،وعلى الأم أن تكون قدوة حسنة لبناتها بأن يتخلصوامن العادات السيئة مثل لعب الميسر وألا يحدث منهم أمر حقير يراه الأبناء فيقلدونهم فيه ويكون عادة يرثونها عنهم، والأولى بهم أن يعلموا الأولاد فضائل الأعمال من الأمور التي تبني شخصيتهم سواء كانت عبادة أو عادة حسنة يقول الرسول (صلي الله عليه وسلم) "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر،وفرقوا بينهم في المضاجع" رواه أبو داود] عن عمرو بن شعيب، وجاء رجل إلى رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله ما حق ابني هذا ؟ قال: تحسن اسمه وأدبه وضعه موضعاً حسناً" [رواه الطوسي]
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "لعن الله الخمر وبائعها ومشتريها وعاصرها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها" [مسند الإمام الربيع].
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن أولادكم أمانات عندكم، {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة}[التحريم : 6]
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(62/5)
اطبع هذه الصحفة
الإمام الشافعي
إن في تاريخ العظماء لخبرا، وإن في سير العلماء لعبرا، وإن في أحوال النبلاء لمدكرا، وأمتنا الإسلامية أمة أمجاد وحضارة، وتاريخ وعز وأصالة، وقد ازدان سجلها الحافل عبر التاريخ بكوكبة من الأئمة العظام، والعلماء الأفذاذ الكرام، وهم من منة الله على أمة الإسلام، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون به أهل العمى، ويرشدون من ضل منهم إلى الهدى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، يقتبسون من نور الوحي، ويسيرون على مشكاة النبوة، فكم نفع الله بهم البلاد، وكم هدى بهم العباد.
وإن من أجل هؤلاء الأئمة، وأفضل هؤلاء العلماء، إمام فذ، وعالم جهبذ، قل أن يجود الزمان بمثله، إنه الإمام محمد بن إدريس الشافعي- رحمه الله -، هو من عرفته الدنيا، وذاع ذكره، وشاع صيته في الآفاق، إماما عالما، فقيها محدثا، مجاهدا صابرا، لا يخاف في الله لومه لائم، قال عنه الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله –: " كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، فهل ترى لهذين من خلف، أو عنهما من عوض "، وقال الحميدي ـ رحمه الله ـ: " سيد علماء زمانه الشافعي ".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 7 رجب 1426هـ الموافق 12/8/2005م
الإمام الشافعي
…الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم العاملين، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله سبحانه لي ولسائر المسلمين الهدى واليقين، والعز والنصر والتمكين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المؤمنين، وخالق الخلق أجمعين، وقيوم السماوات والأرض، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، وأشرف الأنبياء والمرسلين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(63/1)
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فان تقواه عليها المعول، واستمسكوا بما كان عليه الصدر الأول، { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً } [الأحزاب:39].
المتقون هم الملوك وإن أبوا رغد الحياة ولينها فتقشفوا
عكفوا على آي الكتاب فأفلحوا والجاهلون على المآثم عكف
عباد الله:
…إن في تاريخ العظماء لخبرا، وإن في سير العلماء لعبرا، وإن في أحوال النبلاء لمدكرا، وأمتنا الإسلامية أمة أمجاد وحضارة، وتاريخ وعز وأصالة، وقد ازدان سجلها الحافل عبر التاريخ بكوكبة من الأئمة العظام، والعلماء الأفذاذ الكرام، وهم من منة الله على أمة الإسلام، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون به أهل العمى، ويرشدون من ضل منهم إلى الهدى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، يقتبسون من نور الوحي، ويسيرون على مشكاة النبوة، فكم نفع الله بهم البلاد، وكم هدى بهم العباد.
وإن من أجل هؤلاء الأئمة، وأفضل هؤلاء العلماء، إمام فذ، وعالم جهبذ، قل أن يجود الزمان بمثله، إنه الإمام محمد بن إدريس الشافعي- رحمه الله -، هو من عرفته الدنيا، وذاع ذكره، وشاع صيته في الآفاق، إماما عالما، فقيها محدثا، مجاهدا صابرا، لا يخاف في الله لومه لائم، قال عنه الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله –: " كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، فهل ترى لهذين من خلف، أو عنهما من عوض "، وقال الحميدي ـ رحمه الله ـ: " سيد علماء زمانه الشافعي ".
معاشر المسلمين:
على ثرى غزة ولد الإمام الشافعي - رحمه الله - في آ خر يوم من رجب سنة خمسين ومائه، وهو العام الذي قبض فيه الإمام أبو حنيفة، ولله در القائل:
نجوم سماء كلما غار كوكب بدا كوكب تأوي إليه كواكبه(63/2)
ومن أصل عربي شريف انحدر نسبه، فهو المطلبي القرشي، وبعبد مناف التقى نسبه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى عصامية اليتم ترعرع ودرج في صباه، مما ساعد على سمو نفسه، وعلو همته، وتعرفه على أحوال مجتمعه، ثم لحرص أمه على هذا النسب الشريف لئلا يضيع، هاجرت به إلى موطن أبيه وأجداده إلى مكة حيث مهبط الوحي ومنبع الرسالة، ومهوى أفئدة المسلمين، ومجمع الأئمة المهديين.
وفي مكة حيث الطواف حول الكعبة، والحلق مبثوثه في كل جهة، فتح الشافعي بصره وبصيرته، فأخذت تعلو همته، وتقوى عزيمته، ولم يمنعه قله ذات اليد، من ارتقاء سلم العلم والمجد، يقول الشافعي – رحمه الله - عن نفسه: " كنت يتيما في حجر أمي، ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام "، وهذا إن دل فإنما يدل على رجاحة عقله وشدة نباهته، وحسن خلقه وقوة حافظته، يقول عن نفسه: " كنت في الكتاب أسمع المعلم يلقن الصبي الآية فاحفظها أنا، ولقد كان المعلم يملي على طلابه، فما أن يفرغ من الإملاء إلا وقد حفظت جميع ما أملى، فقال لي ذات يوم: لا يحل أن آخذ منك شيئا "، ثم بعد أن وفقه الله لحفظ كتابه، راح يجمع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وآثار أصحابه، لكنه لم يكن يملك ثمن الورق والمحبرة، ليدون ما يتفوه به الأئمة الخيرة، فماذا عساه أن يصنع؟ يقول – رحمه الله - عن نفسه: " ثم لما خرجت من الكتاب كنت أتلقط الخزف والجلود وأصول سعف النخل وأكتاف الجمال،أكتب فيها الحديث، حتى كانت لأمي جرة، فملأتها أكتافا وخزفا وجلودا مملوءة حديثا ".
أمة العلم والعمل:(63/3)
لقد تلقى الشافعي – رحمه الله - عن علماء كبار، وسمع من أئمة الأمصار، ففي مكة أخذ عن مسلم بن خالد الزنجي وسفيان بن عيينة، كما جالس الإمام مالك بن أنس في المدينة، ثم اتجه إلى العراق ليأخذ عن محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة، لزم قبيلة هذيل سبع عشرة سنة، فأخذ عنهم اللغة والأشعار والأمثال، ثم وفق لحفظ موطأ الإمام مالك في تسع ليال، وافق ذلك فهما ثاقبا، ورأيا صائبا، ونية خالصة، وهمة عالية، حتى صار عالم زمانه، وإمام أوانه. قال إسحاق بن راهويه: " لقيني أحمد بن حنبل بمكة، فقال: " تعال أريك رجلا لم تر عيناك مثله، فأراني الشافعي، قال: فتناظرنا في الحديث فلم أر أعلم منه، ثم تناظرنا في الفقه فلم أر أفقه منه، ثم تناظرنا في القرآن فلم أر أقرأ منه، ثم تناظرنا في اللغة فوجدته بيت اللغة، وما رأت عيناي مثله قط "، ويقول أحمد بن حنبل: " ما أحد مس بيده محبرة ولا قلما، إلا وللشافعي في رقبته منة، ولولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث، وكان الفقه قفلا على أهله حتى فتحه الله بالشافعي ".
أيها الإخوة الكرام:(63/4)
ولم يكن هذا الإمام الهمام، بمعزل عن العبادة وأخلاق الكرام، فحين أراد الرحيل إلى مصر، قال له بعض معاصريه: إذا أردت أن تسكن مصر فليكن لك قوت سنة، ومجلس من السلطان تتعزز به فقال له الشافعي: " من لم تعزه التقوى فلا عز له، ولقد ولدت بغزة، وربيت بالحجاز، وما عندنا قوت ليلة، وما بتنا جياعا قط "، ويقول بعض تلامذته "بت مع الشافعي ثمانين ليلة، وكان يصلي نحو ثلث الليل، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه وللمؤمنين وللمؤمنات، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوذ بالله وسأل الله النجاة لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات "، وكان الشافعي ـ رحمه الله ـ قد قسم ليله: يصلي ثلثا ويكتب ثلثا وينام ثلثا، وقدم مرة من أحد الأسفار ومعه عشرون ألف دينار ففرقها كلها على المحتاجين والفقراء، وهذه- وإيم الله- أخلاق العلماء، وأمثلة حية لتربية النفس على السخاء، وهو القائل عن نفسه:
يالهف نفسي على مال أفرقه…على المقلين من أهل المروآت
إن اعتذاري إلى من جاء يسألني…ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات
ولقد توج الإمام معالي الأمور، برباطه على الثغور، فكان من الأئمة القلائل، من الذين جمعوا بين العلم والعمل، يقول الربيع: " خرجت مع الشافعي من الفسطاط إلى الإسكندرية مرابطا، فكان يصلي الصلوات الخمس في المسجد الجامع، ثم يصير إلى المحرس، فيستقبل البحر بوجهه، وهو جالس يقرأ القرآن، حتى أحصيت عليه في يوم وليلة ستين ختمه في شهر رمضان".
أتباع سيد المرسلين:(63/5)
وعلى هذا النهج القويم، من الإقبال على البر الرحيم، والرباط والتأليف والتعليم، ودعوة الخلق بالحسنى والأسلوب الحكيم، قضى الشافعي أوقاته وأيام عمره، حتى وافته المنية بمصر والتي كانت آخر مستقره، وذلك لمرض ألم به، دخل عليه تلميذه المزني في الليلة التي قبض فيها فقال له: كيف أصبحت؟ فقال: " أصبحت من الدنيا راحلا، وللإخوان مفارقا، ولكأس المنية شاربا، وعلى الله جل ذكره واردا، ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنئها، أو إلى النار فأعزيها "، ثم بكى وأنشأ يقول:
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي…جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته…بعفوك ربي كان عفوك أعظما
ومازلت ذا عفو عن الذنب لم تزل…تجود وتعفو منة وتكرما
ثم توفي الإمام ليلة الجمعة بعد العشاء الآخرة، آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين من الهجرة، وهو ابن أربع وخمسين سنة، رحل هذا الإمام، مخلفا وراءه تلاميذه العظام، وهم في الحقيقة أئمة كرام، كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه والمزني والقاسم بن سلام، أورث الأمة تراثا علميا، ومذهبا فقهيا، فعليه من الله واسع الرحمات، وأسكنه المولى فسيح الجنات، جزاء ما علم وجاهد ونصح.
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه أنه، خير الغافرين.
الخطبة الثانية
الحمد لله القائل: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، جعل العلماء في الفضل بعد الأنبياء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالعزة والبقاء، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الأصفياء، وخاتم الرسل والأنبياء، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل والوفاء، صلاة وسلاما تامين دائمين متعاقبين ما تعاقب الصباح والمساء.
أما بعد:(63/6)
فاتقوا الله ـ معشر المؤمنين ـ، وتشبهوا بالكرام المفلحين، فما أحوجنا في هذه الأيام، للتأمل في أخبار الأئمة الأعلام، من القادة والفاتحين، والعلماء والدعاة المصلحين، عطروا بها مجالسكم وأدبوا بها البنات والبنين، ممتثلين أمر رب العالمين: { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [الأعراف:176]، فتأملوا - رحمكم الله - في أحوال من سبق من العلماء، واتبعوها بالعمل والاقتداء، تسعدوا وتفلحوا في هذه الدار ويوم الجزاء.
اللهم ارحم علماءنا السابقين، ووفق منهم الحاضرين وتولنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وادفع عنا الفتن والشرور، وأصلح اللهم لنا ولاة الأمور، واشرح لتحكيم كتابك الصدور، وألبس أميرنا ونائبه ثوب الصحة والعافية والطَّهور، برحمتك يا عزيز يا غفور، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرة حسنةً؛ وقنا عذاب النَّار.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(63/7)
اطبع هذه الصحفة
اتقوا النار
لقد خوَّف العزيز الغفار؛ عباده في كتابه الكريم بذكر النار، والتعريف بحال أهلها في دار البوار، وما أعدَّ لهم من العذاب والنكال، والسلاسل والأغلال، حتى يتقوه بصالح الأعمال، ويسارعوا إلى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه، واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه.
فإن رُمْتَ معرفة الخبر، عن وقود النار المُستعر، فوقودها البشر والحجر، فهل من مصطبر؟ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 14/7/1426هـ الموافق 19/8/2005م
اتقوا النار
الحمد لله ذي العزِّ المجيد، والبطش الشديد، المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، المنتقم ممن عصاه بالنار بعد الإنذار بها والوعيد، المكرم لمن خافه واتقاه بدار لهم فيها من كل خير مزيد.
فسبحان من قسم خلقه وجعلهم فريقين { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [هود: 105]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا كفء ولا نديد، وأشهد أن محمداً عبدُ الله ورسوله الداعي إلى التوحيد، والنذير بنارٍ تلظى بدوام الوقيد، والبشير بجنة لا ينفد نعيمها ولا يبيد، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه صلاة وسلاماً إلى يوم المزيد.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى المولى، واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى.
عباد الله الأخيار:
لقد خوَّف العزيز الغفار؛ عباده في كتابه الكريم بذكر النار، والتعريف بحال أهلها في دار البوار، وما أعدَّ لهم من العذاب والنكال، والسلاسل والأغلال، حتى يتقوه بصالح الأعمال، ويسارعوا إلى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه، واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه.(64/1)
فإن رُمْتَ معرفة الخبر، عن وقود النار المُستعر، فوقودها البشر والحجر، فهل من مصطبر؟ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6].
وإن سألتم عن قعرها فبعيد، وعن حرِّها فشديد، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله- عنه قال: " كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إذ سمع وجبة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : تدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هذا حجر رُمِيَ به في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار الآن، حتى انتهى إلى قعرها ".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ناركم هذه التي يُوقد ابن آدم: جزء من سبعين جزءاً من حر جهنم. قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً، كلها مثل حرها " [أخرجه البخاري ومسلم].
وإن سألت كم لجهنم من وِثاقٍ تُشدُّ به وزِمَام؟ فاسمع ما تُصمُّ لسماعه آذانُ الأنام، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يُؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها " [أخرجه مسلم].
وإن سألتم معشر الإخوة الأحباب؛ عما يتدثَّر به أهل النار من الثياب، فإنه القطران وهو النحاس المُذاب، قال الله تعالى في محكم الكتاب: { وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ } [إبراهيم: 49-50].
معشر المسلمين:(64/2)
إن نار جهنم دركات، فهل تدرون ما أهون أهلها نكالاً ؟ مَنْ ينتعلُ مِنْ جَمْرِ جهنم نعالاً، فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن أهون أهل النار عذاباً: من له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً " [أخرجه البخاري ومسلم].
وإن سألتم عن أشد أنواع العذاب: فهو الحجاب؛ الذي يُضرب بينهم وبين رؤية وجه رب الأرباب، { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } [المطففين: 14-17].
قال أبو عمران الجوني -رحمه الله- تعالى: " إن الله تعالى لم ينظر إلى إنسان قط إلا رحمه، ولو نظر إلى أهل النار لرحمهم، ولكن قضى أن لا ينظر إليهم ".
عباد الله الأخيار:
لقد أبصر السلف الأبرار؛ حقيقة هذه الدار، فاضطربت منهم الأحوال، لما أيقنوا بما فيها من الأهوال، سمع أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يتهجَّد في الليل، ويقرأ سورة الطور، فلما بلغ إلى قوله تعالى: { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِن دَافِعٍ } [الطور: 7-8]: قال عمر: " قسمٌ وربِّ الكعبة حقٌّ "، ثم رجع إلى منزله فمرض شهراً، يعوده الناس لا يدرون ما مرضه، وقال سعد بن الأخرم -رحمه الله- تعالى: " كنت أمشي مع عبدالله ابن مسعود -رضي الله عنه-، فمرَّ بالحدادين وقد أخرجوا حديداً من النار، فقام ينظر إليه ويبكي "، وكان طاووس بن كيسان رحمه الله تعالى يفترش فراشه ثم يضطجع عليه، فيتقلى كما تقلَّى الحبة على المُقلى، ثم يثب فيدرجه ويستقبل القبلة حتى الصباح، ويقول: "طيَّر ذكر جهنم نوم العابدين".
وأنشد عبدالله بن المبارك رحمه الله تعالى شعراً:(64/3)
إذا ما الليل أظلم كابدوه…فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا…وأهل الأمن في الدنيا هجوع
أيها المُسلمونَ الأخيار:
بذا صحَّتْ الأخبارُ والآثارُ، في وصفِ النار دار البوار، عصمنا من سمومها وحميمها العزيزُ الغفار، ويا فوز من أكثر من الاستغفار، وتاب إلى ربِّه مِمَّا اقْتَرَفَه مِنَ الذُنوبِ والأوزارِ.
الخطبة الثانية
الحمد لله؛ الذي خلق الأرض والسماوات العلى، في ستة أيام ثم على العرش استوى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، يعلم السر وأخفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له الأسماء الحسنى؛ والصفات العلى، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد أوحى إليه ربه ما أوحى، ولم ينزل عليه القرآن ليشقى، بل جعله تذكرة لمن يخشى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم تجزى فيه كل نفس بِما تسعى.
أما بعد:
فيا عباد الله المسلمين: { فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [الأنفال: 1].
عباد الله المؤمنين:
لقد تظافرت نصوص الوحي المبين، بذكر الأسباب التي تُنجي صاحبها من العذاب المُهين، فمن ذلك: أن يتصدَّق العبد بالمال، ابتغاء وجه الكبير المتعال، كما جاء في الصحيحين عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة ".(64/4)
ومن ذلك: أن يُودع العبدُ في القلب: خشية الرب، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يلج النار رجل بكي من خشية الله، حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم " [أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه].
ومسك الختام، معشر الإخوة الكرام: ترطيب الأفواه بالصلاة والسلام، على خير الأنام، امتثالاً لأمر الملك القدوس السلام، حيث قال في خير كلام: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما باركت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، في العالمين، إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عن الأربعةِ الخلفاءِ الراشدين؛ والأئمةِ الحنفاءِ المهديِّين، أولي الفضلِ الجليِّ؛ والقدرِ العليِّ: أبي بكرٍ الصديقِ؛ وعمرَ الفاروقِ؛ وذي النورينِ عُثمانَ؛ وأبي السِّبطينِ عليِّ، وارض اللهم عن آل نبيِّك وأزواجِه المُطَهَّرِين من الأرجاس؛ وصحابتِه الصفوةِ الأخيارِ من الناس.
اللهم اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهم إنا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم إنا نسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك - صلى الله عليه وسلم - ، ونعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار، وما قرب إليها من قول أو عمل، ونسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لنا خيراً.(64/5)
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وادفع عنا الفتن والشرور، وأصلح اللهم لنا ولاة الأمور، واشرح لتحكيم كتابك الصدور، وألبس أميرنا ونائبه ثوب الصحة والعافية والطَّهور، برحمتك يا عزيز يا غفور، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرة حسنةً؛ وقنا عذاب النَّار.
عباد اللهِ:
اذكروا الله ذكراً كثيراً، وكبِّروه تكبيراً، { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [العنكبوت: 45].
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(64/6)
اطبع هذه الصحفة
كونوا عباد الله إخوانا
إن الأخوة الإيمانية: منحة قدسية وإشراقة ربانية، يقذفها الله في قلوب المخلصين من عباده، والأتقياء من خلقه، قال تعالى: { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال: 63]، وقال سبحانه: { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [آل عمران: 103]، وهذه الأخوة تورث الشعور العميق بالعاطفة والمحبة والثقة المتبادلة بين من تربطهم أواصر العقيدة الإسلامية، ووشائج الإيمان والتقوى ولذا كانت الأخوة في الله صفة ملازمة للإيمان، وخصلة مرافقة للتقوى إذ لا أخوة بلا إيمان، ولا إيمان بلا أخوة، يقول الله عز وجلك: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات: 10]، ويقول سبحانه: { الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [الزخرف:67].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 20 رجب 1426هـ الموافق 26/8/2005م
كونوا عباد الله إخوانا
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:(65/1)
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، يقول الله سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب70-71]
أيها الإخوة المؤمنون:
إن الأخوة الإيمانية: منحة قدسية وإشراقة ربانية، يقذفها الله في قلوب المخلصين من عباده، والأتقياء من خلقه، قال تعالى: { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال: 63]، وقال سبحانه: { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [آل عمران: 103]، وهذه الأخوة تورث الشعور العميق بالعاطفة والمحبة والثقة المتبادلة بين من تربطهم أواصر العقيدة الإسلامية، ووشائج الإيمان والتقوى ولذا كانت الأخوة في الله صفة ملازمة للإيمان، وخصلة مرافقة للتقوى إذ لا أخوة بلا إيمان، ولا إيمان بلا أخوة، يقول الله عز وجلك: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات: 10]، ويقول سبحانه: { الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [الزخرف:67].
عباد الله:(65/2)
إن الأخوة الإسلامية أساس المجتمع الإسلامي ولها مكانة عظيمة في قلوب المسلمين لما لها من عظيم الأثر وجميل الذكر ولذلك كان أول ما قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد مقدمه المدينة أنه آخى بين المهاجرين والأنصار، ومن هنا كان شرط هذه الأخوة أن تكون لله وفي الله نقية من شوائب الدنيا وأغراضها وشهواتها المادية ويكون الباعث عليها الإيمان بالله تعالى.
فإذا أردت أخي المسلم أن تتخذ أخا فعليك أن تتأكد من هذا الشرط حتى تدوم الأخوة وتكون قوية الأساس فتمتد حتى بعد الموت وإلى يوم القيامة.
إخوة الإيمان:
ها هو الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم - يبين لنا فضائل هذه الأخوة ومكانتها العلية في باقة من الزهور، وكلمات من نور، قال - صلى الله عليه وسلم - يقول الله تعالى "أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي" [أخرجه مسلم]، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا: "أن رجلاً زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله على مد رجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد ؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية قال هل لك من نعمة تربها عليه؟ تقوم بها وتسعى في صلاحها] قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى، قال الملك: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه" [أخرجه مسلم].
وقال - صلى الله عليه وسلم -:"إن من عباد الله لأناساً، ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالى، قالوا: يا رسول الله خبرنا من هم؟قال - صلى الله عليه وسلم -: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم والله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور ولا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس" [أخرجه أبو داوود].(65/3)
وقال أبو إدريس الخولاني-رحمه الله-: دخلت مسجد دمشق فإذا فتى براق الثنايا وإذا الناس معه فإذا اختلفوا في شيء، أسندوه إليه وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، فقيل: هذا معاذ بن جبل- رضي الله عنه- فلما كان من الغد هجرت فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي، فانتظرته حتى قضى صلاته ثم جئته من قبل وجهه، فسلمت عليه، ثم قلت: والله إني لأحبك في الله،فقال: الله فقلت: الله، فقال:الله؟فقلت: الله فأخذني بحبوة ردائي، فجذبني إليه فقال: أبشر،فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى: "وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتباذلين في" [أخرجه مالك في الموطأ].
عباد الله:
هذه الأخوة تترتب عليها حقوق كثيرة للأخ على أخيه، كما ورد ذلك في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبأدائها يكون الحب والاحترام والود والصفاء. منها إفشاء السلام ورده، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم والنصيحة.
ولنحذر كل الحذر من الأسباب التي تؤدي إلى تمزيق هذه الأخوة أو توهينها، كالحسد والغيبة والنميمة، والجدل، فهذه الأخوة عندما تتمزق في القلوب سيحل مكانها ولا شك الحقد والعداء والشقاق وعند ذلك ستتغير النفوس وتتأثر الحياة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله فهي خير زاد ليوم التناد، يقول سبحانه وتعالى: { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [البقرة: 197].
إخوة الإيمان:(65/4)
عندما توجد الأخوة في الله وتكون واقعاً ملموساً في المجتمع ينشأ جيل فريد يسوده التكافل والوحدة والإيثار ويتحقق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" [متفق عليه].
قال محمد بن إسحق: كان ناس بالمدينة يعيشون ولا يدرون من أين يعيشون؟ ومن يعطيهم؟ فلما مات زين العابدين بن الحسين-رضي الله عنهما- فقدوا ذلك فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم بالليل بما يأتيهم به، ولما مات وجدوا بأكتافه أثر حمل الجراب إلى بيوت الأرامل والمساكين، وكان الليث بن سعد ذا غلة سنوية تزيد على سبعين ألف دينار ويتصدق بها كلها حتى قالوا إنه لم تجب عليه زكاة قط، واشترى مرة داراً بيعت بالمزاد، فذهب وكيله يتسلمها فوجد فيها أيتاماً وأطفالاً صغاراً، سألوه بالله أن يترك لهم الدار فلما علم بذلك الليث أرسل إليهم أن الدار لكم ومعها ما يصلحكم كل يوم.
عباد الله:
إن رابطة الأخوة هي الشجرة التي تتفيأ ظلالها القلوب المؤمنة وهي الحبل الذي يجمعها ويقرب بعضها من بعض. فعلينا بناؤها على أساس قوي لا تؤثر فيه العوارض وليكن شعارنا دوما: التغافر لا التنافر. فما أجمل أن يبادل الأخ أخاه عكس ما يبادله به في حال غضبه وانفعاله.
وما أروع أن تظهر لأخيك كلما صافحته أو سلمت عليه أنك قد سامحته إن كان له معك أي تقصير وإياك أخي وكثرة العتاب فإنه يخدش المحبة ويصدع جدار الأخوة.
إذا كنت في كل الأمور معاتباً …صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحداً أوصل أخاك فإنه…مقارف ذنب مرة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى …ظمئت وأي الناس تصفوا مشاربه
ثم إن المسامحة والعفو لا تعنيان السكوت عن النصيحة إذا استعدى الأمر ذلك فالمسلم مرآة أخيه المسلم والدين النصيحة كما قال - صلى الله عليه وسلم -.
أيها المسلمون:(65/5)
أحكموا أخوتكم، ورسخوا وحدتكم، وتآخوا بروح الله بينكم، وأصلحوا بإخلاص التوبة نفوسكم، وتميزوا بين الناس بأخلاقكم وسلوككم، وأعطوا القدوة بأفعالكم وحسن معاملتكم، وأدوا حقوق الأخوة لإخوانكم،سيروا على منهج الإسلام في تثبيت محبتكم وتآلفكم، وخذوا بهدى القرآن في تراحمكم وتوادكم.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجمع قلوبنا على البر والتقوى وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، إليك مخبتين أو اهين منيبين، ربنا تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا واستلل سخيمة قلوبنا.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وادفع عنا الفتن والشرور، وأصلح اللهم لنا ولاة الأمور، واشرح لتحكيم كتابك الصدور، وألبس أميرنا وولي أمرنا ثوب الصحة والعافية والطهور، برحمتك يا عزيز يا غفور، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله:
اذكروا الله ذكراً كثيراً، وكبروه تكبيراً، { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [العنكبوت:45].
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(65/6)
اطبع هذه الصحفة
فضل شعبان
ما من يوم من الأيام؛ ولا شهر من شهور العام؛ إلا وللعباد فيها طاعة يتقربون بها إلى ربهم الملك القدوس السلام.
وقد أظلكم معشر الإخوة الكرام؛ شهر من أشرف شهور العام، شرع الله تعالى لكم فيه الصيام، ورغبكم فيه إلى إصلاح ما بينكم وبين إخوانكم المسلمين من الشحناء والخصام، فعن عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – أنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان" (أخرجه البخاري ومسلم).
وأخرج أبو داود عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: "كان أحب الشهور إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصومه: شعبان، ثم يصله برمضان".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 28 رجب 1426هـ، الموافق 2 سبتمبر 2005م
فضل شعبان
الحمد لله الواحد القهار، مقلب القلوب والأبصار، مكور الليل على النهار؛ ومكور النهار على الليل؛ ليكونا مواقيت الأعمال ومقادير الأعمار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الغفار، شهادة تبرئ قلب معتقدها من الشرك بصحة الإقرار، وتبوئ قائلها الجنة فنعم عقبى الدار، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله المصطفى المختار، رفع الله تعالى ببعثته عن أمته الأغلال والآصار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه الأخيار، صلاة وسلاماً متعاقبين إلى يوم القرار.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي أيها العباد؛ بتقوى الله فإنها خير زاد، يتزود به العبد إلى دار المعاد.(66/1)
واعلموا أن من الآيات التي جعلها العزيز الوهاب؛ عبرة لذوي العقول والألباب: علم عدد السنين والحساب، كما قال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } ]يونس: 5-6[.
أيها الإخوة الكرام:
ما من يوم من الأيام؛ ولا شهر من شهور العام؛ إلا وللعباد فيها طاعة يتقربون بها إلى ربهم الملك القدوس السلام.
وقد أظلكم معشر الإخوة الكرام؛ شهر من أشرف شهور العام، شرع الله تعالى لكم فيه الصيام، ورغبكم فيه إلى إصلاح ما بينكم وبين إخوانكم المسلمين من الشحناء والخصام، فعن عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – أنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان" (أخرجه البخاري ومسلم).
وأخرج أبو داود عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: "كان أحب الشهور إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصومه: شعبان، ثم يصله برمضان".
وهل علمتم معشر الأنام؛ سبب تخصيص نبيكم عليه أفضل الصلاة والسلام؛ هذا الشهر المبارك بالصيام؟ لأنه شهر ترفع فيه الأعمال؛ إلى ربكم الكبير المتعال، فعن أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – قال: "قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من شعبان؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذلك شهر يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" (أخرجه أحمد والنسائي).(66/2)
فطوبى لمن رفع عمله وهو شهيدٌ أمامه يدل عليه، وشفيعٌ يشفع له إلى ربه تبارك وتعالى في قبول ما اكتسبه بيديه.
وصُمْ يومك الأدنى لعلك في غدٍ…تفوز بعيد الفطر والناس صُومُ
معشر الإخوة النبلاء:
هذا شهر كثير الخيرات والعطاء، يطلع فيه الرب تبارك وتعالى فيغفر لجميع خلقه إلا لمن اتخذ من الله إلهاً آخر من الشركاء، ومن كانت بينه وبين أخيه المسلم شحناء فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله ليطلع ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشرك أو مشاحن" (أخرجه ابن ماجه).
فيا ويح من جعل نفسه للمسلمين خصيماً، تالله لقد ارتكب إثماً عظيماً، واقترف جرماً جسيماً، فما أعظم شحناء القلوب، يوم قرنها علام الغيوب، بالشرك الذي هو أشنع الذنوب، فهل أنت منتهي من خصومة إخوانك؟ وهل أنت مرتدع عن مشاحنة أقرانك؟
واعلم أيها الإنسان: أن الليل والنهار خزانتان، فانظر ما تضع فيها من الإحسان أو العدوان؟
فكن أخي المسلم من السعداء الذين اغتنموا مواسم الخيرات، وما فيها من فضائل الشهور والأيام والساعات، وتقربوا إلى مولاهم بما فيها من الطاعات، عسى أن تصيبهم نفحة فضل ورحمة من تلك النفحات، فيسعدوا بها سعادة يأمنون بها من النار وما فيها من اللفحات.
مضى أمسك الماضي شهيداً معدلاً…وأعقبه يوم عليك جديد
فيومك إن أعتبته عاد نفعه…عليك وماضي الأمس ليس يعود
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة…فثن بإحسان وأنت حميد
فلا ترج فعل الخير يوماً إلى غد…لعل غداً يأتي وأنت فقيد
بارك الله لي ولكم في الفرقان والذكر الحكيم، ووفقنا للإعتصام به وبما كان النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم، من الهدي القويم، والصراط المستقيم.
أقول ما تسمعون واستغفر الله الغفور الحليم، لي ولكم من كل ظلم وجرم إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية(66/3)
الحمد لله غافر الذنوب، وقابل التوب، وساتر العيوب، ومفرج الهم، وكاشف الكروب، سبحانه وبحمده، يجبر الكسير، ويغني الفقير، ويعلم الجاهل ويرشد الحيران، ويهدي الضال ويغيث اللهفان، ويعافي المبتلي ويفك العاني، ويشبع الجائع ويكسو العاري، ويقبل العثرات، ويستر العورات، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، إنه على كل شيء قدير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العفو القدير، وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله السراج المنير، والبشير النذير، صلى الله، وحملة عرشه، وملائكته، وجميع خلقه عليه، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المصير.
أما بعد:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } الحشر ]18-20[.
واعلموا معشر الإخوة الأخيار، أن أعظم عيش يعيشه العبد في هذه الدار، وأكرم غرس يغرسه ليجني ثمرته في دار القرار: أن ينقطع إلى الواحد القهار، مع ملاحظة الانكسار، ودوام الافتقار.
ومسك الختام، معشر الإخوة الكرام، ترطيب الأفواه بالصلاة والسلام، على خير الأنام، امتثالاً لأمر الملك القدوس السلام، حيث قال في خير كلام: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } ]الأحزاب 56[.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد.(66/4)
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة الحنفاء المهديين، أولي الفضل الجلي، والقدر العلي،: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن آل نبيك وأزواجه المطهرين من الأرجاس، وصحابته الصفوة الأخيار من الناس، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماض فينا حكمك، عدل فينا قضائك، نسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحد من خلقك، أو استأثرت به في غياهب الغيب عندك: أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وادفع عنا الفتن والشرور، واصلح لنا ولاة الأمر، واشرح لتحكيم كتابك الصدور، والبس أميرنا ونائبه ثوب الصحة والعافية والطهور، برحمتك يا عزيز يا غفور، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله:
اذكروا الله ذكراً كثيراً، وكبروه تكبيراً، { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ] } العنكبوت: 45[
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(66/5)
اطبع هذه الصحفة
أول منازل الآخرة
من الذي تفرد بالبقاء والدوام، من الذي كتب الموت على جميع الأنام، من الحي الذي لا يموت ولا يزول، والأحد الذي لا يتغير ولا يحول، سبحانه هو الله الواحد القهار، العزيز الجبار، كتب الموت على العبيد، تعالى أن يفنى أو يبيد، يقول سبحانه: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [القصص:88].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 5 شعبان 1426هـ الموافق 9/9/2005م
أول منازل الآخرة
الحمد لله الذي تفرد بالدوام والبقاء، وكتب على أهل هذه الدنيا الفناء، وجعلها دار امتحان وابتلاء، وجعل القبور بعدها لأهل الإيمان خير فناء، أحمده سبحانه وهو أهل الحمد والثناء، وأشكره في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واسع العطاء، ذو العظمة والجلال والكبرياء، وأشهد أن محمدا عبدالله ورسوله سيد الأصفياء، وخاتم الأنبياء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأتقياء، وصحبه الأوفياء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان مادامت الأرض والسماء.
أما بعد:
فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله، فإنها أفضل عدة ليوم المعاد، وإن التمسك بها جهاد من أعظم الجهاد، لاسيما حين تدلهم الأمور ويستشري الفساد، يقول الله تعالى: { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ } [البقرة:197].
معاشر المسلمين:
…من الذي تفرد بالبقاء والدوام، من الذي كتب الموت على جميع الأنام، من الحي الذي لا يموت ولا يزول، والأحد الذي لا يتغير ولا يحول، سبحانه هو الله الواحد القهار، العزيز الجبار، كتب الموت على العبيد، تعالى أن يفنى أو يبيد، يقول سبحانه: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [القصص:88].(67/1)
من كان الموت طالبه كيف يلذ له قرار، ومن كان القبر منزله كيف يتخذ الدنيا أفضل دار، لقد ألهتنا الأموال والدور، وشغلتنا الأولاد والقصور، عن التفكير في المصير إلى القبور، فإلى الله نشكو قسوة القلوب، مع كثرة القوارع والخطوب.
أيها الإخوة المؤمنون:
أول ليلة في القبر، بكى منها الخلفاء، وشكى منها العلماء، وفرق منها الحكماء، فعن هانئ مولى عثمان ـ رضي الله عنه ـ قال: كان عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ إذا وقف على القبر يبكي حتى تبتل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتذكر القبر فتبكي؟! فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه " [أخرجه الترمذي]، ويقول ميمون بن مهران: "خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة، فلما نظر إلى القبور بكى، ثم أقبل علي فقال: يا ميمون هذه قبور آبائي بني أمية، كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم وعيشهم، أما تراهم صرعى قد حلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء، وأصاب الهوام مقيلا في أبدانهم" ثم بكى ـ رحمه الله ـ وقال:"والله ما أعلم أحدا آمن ممن صار إلى هذه القبور، وقد أمن من عذاب الله تعالى".
فارقت موضع مرقدي يوما ففارقني السكون
القبر أول ليلة… بالله قل لي ما يكون
أيها الإخوة في الله:(67/2)
لنتأمل وإياكم هذا الحديث العظيم، الذي يصور عظمة هذا الموقف، وما نحن قادمون عليه، علنا نعد للأمر عدته، ونأخذ له أهبته، أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلسنا حوله، كأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " استعيذوا بالله من عذاب القبر " مرتين أوثلاثا، ثم قال: " إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها، فلا يمرون على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: هذه روح فلان بن فلان ـ بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا ـ حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون فيفتح له، ويشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهوا بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: " اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى "، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه، فيسألانه: عن ربه، ودينه، ونبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فيجيب، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي ، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، فيأتيه من(67/3)
روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يأتي بخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل عليه ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، - وهو اللباس الخشن الممقوت-، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: روح فلان بن فلان ـ بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا ـ حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا، فيستفتح فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء } [الأعراف:40]، فيقول الله تعالى: " اكتبوا كتاب عبدي في سجين، في الأرض السفلى " ، فتطرح روحه طرحا، ثم قرأ: { وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [الحج:31]، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه، فيسألانه: عن ربه، ودينه، ونبيه، فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يأتي بالشر، فيقول: أنا(67/4)
عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة رب لا تقم الساعة".
القبر باب وكل الناس داخله …فليت شعري بعد القبر ماالدار
الدار دار نعيم إن عملت بما……يرضي الإله وإن خالفت فالنار
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الرحيم الغفور، الحليم الشكور، له ملك السموات والأرض وإليه تصير الأمور، أحمده تعالى حمدا يتجدد في الرواح والبكور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بيده الحياة والموت وإليه النشور، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله ذو الخلق الكريم والعمل المبرور، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واستزيدوا من أعمال البر، قضوا بها أوقاتكم واقطعوا بها ساعات العمر، فإنها المنجية بعد رحمة الله من عذاب القبر، يقول الله سبحانه: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النحل:97].
إخوة الإيمان:
إنه لجدير بمن كان الموت مصرعه، والتراب مضجعه، ومنكر ونكير سائله، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده، أن لا يغفل عن هذه اللحظات الحاسمة، فقد أخرج ابن ماجه عن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ بصر بجماعة فقال: " علام اجتمع هؤلاء؟ "، قيل: على قبر يحفرونه، ففزع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فبدر بين أصحابه مسرعا، حتى انتهى إلى القبر، فجثا عليه فبكى، حتى بل الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا فقال: " أي إخواني، لمثل هذا اليوم فأعدوا ".(67/5)
فتذكروا ـ رحمكم الله ـ هذا المصير المكتوب، واستعدوا له بالتوبة من المعاصي والذنوب، وكونوا على عمل صالح دؤوب، تنالوا رضا الرب الكريم، وتسلموا بحول الله من أسباب العذاب والجحيم، وأكثروا من زيارة القبور، فإنها تذكركم البعث والنشور، وما أنتم مقبلون عليه من عظائم الأمور، فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة "، وكان أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ يقعد إلى القبور، فقيل له في ذلك، فقال: " أجلس إلى قوم يذكرونني معادي، وإن غبت لم يغتابوني ".
وهذه ـ معشر المسلمين ـ إشارات عابرة، وتذكير بأول منازل الآخرة، علها توقظ النفوس من غفلتها، فتأخذ بأسباب نجاتها، ثم صلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه بقوله سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر، اللهم إنا نسألك أن تعصمنا من فتنة القبر، اللهم واجعل القبور بعد فراق هذه الدنيا خير منازلنا، وأفسح فيها ضيق ملاحدنا، اللهم أعنا على الموت وسكرته، والقبر وظلمته، والموقف وكربته، والصراط وزلته يا حي يا قيوم.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وقاتل الكفرة والملحدين، وانصر عبادك الموحدين، يارب العالمين، اللهم وفق أميرنا ونائبه لهداك، واجعل عملهما في رضاك، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، يا عزيز يا غفار.
عباد الله:(67/6)
اذكروا الله كثيرا، وكبروه تكبيرا، { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر } [العنكبوت:45].
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(67/7)
اطبع هذه الصحفة
استقبال العام الدراسي
عباد الله:
إن ابتداء الدراسة مشهد حافل، وملتقى هام، فيه تستأنف رحلة العلم، وتبدأ مسيرة الفكر، وتفتح حصون المعرفة، والمستقبلون لهذا اليوم ألوان ما بين كاره ومحب ، ومتقدم ومحجم ،والعاقل من أصلح النية ، وشد العزيمة ، وتقدم في ثبات يقفو أثر الصالحين ، ويردد قول القائل :
مناي من الدنيا علوم أبثها…وأنشرها في كل باد وحاضر
فالعلم حياة القلوب ، ونور البصائر ، وشفاء الصدور، ولذة الأرواح ،ودليل المتحيرين ، وأنس المستوحشين، به يعرف الله ، ويعبد ويشكر ، ويحمد ويذكر.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 12 من شعبان1426هـ الموافق 16/ 9/2005م
استقبال العام الدراسي
الحمد لله على جزيل إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد:
فياأيها الإخوة المؤمنون: أوصيكم و نفسي بتقوى الله تعالى وطاعته .
عباد الله :
ها هي الإجازة قد انقضت وطويت فيها صحائف، ورحل فيها عن الدنيا من رحل، وولد من ولد، وأطل على الدنيا خلالها جيل جديد وعمر من عمر، قال تعالى: { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [فاطر:11]، وفي هذه الأيام يتوافد بعون الله أبناؤنا وبناتنا من الطلاب والطالبات إلى مدارسهم ومحاضن تربيتهم إيذاناً ببدء عام دراسي جديد، وفي أيديهم وعلى ظهورهم حقائق الغد المشرق، والمستقبل الزاهر، أسأل الله عز وجل أن يكون عام خير ويمن وبركات.
عباد الله:(68/1)
إن ابتداء الدراسة مشهد حافل، وملتقى هام، فيه تستأنف رحلة العلم، وتبدأ مسيرة الفكر، وتفتح حصون المعرفة، والمستقبلون لهذا اليوم ألوان ما بين كاره ومحب ، ومتقدم ومحجم ،والعاقل من أصلح النية ، وشد العزيمة ، وتقدم في ثبات يقفو أثر الصالحين ، ويردد قول القائل :
مناي من الدنيا علوم أبثها…وأنشرها في كل باد وحاضر
فالعلم حياة القلوب ، ونور البصائر ، وشفاء الصدور، ولذة الأرواح ،ودليل المتحيرين ، وأنس المستوحشين، به يعرف الله ، ويعبد ويشكر ، ويحمد ويذكر.
معشر الطلاب :
هكذا كان سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم - يحبون العلم ،ويعرفون مكانته وفضله ،ويبذلون في تحصيله الغالي والنفيس ، يبذلون فيه أوقاتهم وأموالهم، ويتمنون في حياتهم أن يحصلوا من العلم ما ينجيهم في آخرتهم، ها هو الإمام ابن جزى القرطبي – رحمه الله – يقول:
لكل بني الدنيا مراد ومقصد… وإن مرادي صحة وفراغ
لأبلغ في علم الشريعة مبلغاً… يكون به إلى الجنان بلاغ
وفي مثل هذا فلينافس أولوا النهى … وحسبي من دنيا الغرور بلاغ
فكونوا رحمكم الله على مستوى المسئولية،واحرصوا على العلم وتحصيله من أول يوم في الدراسة حتى لا تنفرط الأيام وتجتمع عليكم العلوم في آخر العام ،وحينئذ تمرون عليها مر الكرام ،فعليكم بالإخلاص والتجرد، واجعلوا أمامكم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة " [أخرجه مسلم ] وقول الله تعالى: { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ } [البقرة:282] .
معشر المعلمين:(68/2)
أنتم رعاة الجيل ومحط الركب، وبين أيديكم عقول الناشئة عدة المجتمع وأمله، وعليكم تعقد الآمال، ها هو النبي - صلى الله عليه وسلم -أكبر شأنكم، وأعلى مقامكم، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:" إن الله وملائكته ليصلون على معلم الناس الخير"[أخرجه الترمذي]، فجملوا عملكم بإخلاص فأجر الدنيا آت وأجر الآخرة أعلى وأبقى فاصبروا ولا تضجروا فقد تقولون الأجيال تغيرت والملهيات كثرت ولكن ماذا يفيد التضجر وماذا يجدي التبرم واليأس ليس من صفات المؤمنين قال الله تعالى: { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [يوسف:87]، ابذلوا ما تستطيعون، وقدموا ما تطيقون ، والله نسأل أن يسدد خطانا وخطاكم ، ويهدى الجميع لما فيه الخير والصلاح، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وبفضله ورحمته تتحقق المقاصد والغايات ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله البريات وسائر المخلوقات ، وصلى الله وبارك على معلم الناس الخير الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة ، والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون : اتقوا الله فيما أمر، وانتهوا عما نهى عنه وزجر.
معاشر الآباء :
إن مهمتكم لا تقتصر على توفير الحقائب والأدوات المدرسية فحسب، بل لابد من المتابعة والمراقبة ، اختاروا جلساءهم ، وكونوا معهم في ذهابهم وإيابهم، واصحبوهم إلى المساجد ومجامع الخير، وعلموهم مكارم الأخلاق، وصوبوا أخطاءهم ، واشكروا صوابهم ، واعلموا أن تربيتهم جهاد وأعظم به من جهاد تؤجرون عليه في الدنيا والآخرة .(68/3)
ألا وإن علينا جميعاً أن نتكاتف لنحقق الهدف الأسمى والمطلب الأعلى من التعليم ، وهو العمل، وإن رسالة التعليم لا تعني أن يحمل الطلاب على عواتقهم كماً من المقررات طيلة الفصل أو العام ثم يتركونها بأداء الامتحان بل لابد من التطبيق بين العلم والعمل .
أيها الإخوة المؤمنون:
إن هذه الحياة فترة وجيزة ثم تنقضي ، والعاقل الحق هو ذلك الذي يستغلها أحسن استغلال ، ويسابق الزمن ، ويتحاشى العوائق ، ويتسلى بالرقائق ، وينطلق في مساره مصغياً لقول الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم -" نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ " [أخرجه البخاري] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك " [أخرجه البخاري]، هذه وصية الحبيب - صلى الله عليه وسلم - ، ففي الشباب القوة والعزيمة ، فإذا هرم الإنسان فترت العزيمة وضعفت القوة .
وفي الصحة انشراح الصدر والنشاط ، فإذا مرض الإنسان ضاق صدره وثقلت عليه الأعمال، وفي الغنى راحة وفراغ ، فإذا افتقر الإنسان اختلط فكره واشتغل بطلب العيش لنفسه وعياله، وفي الحياة مجال فسيح للعمل والكدح، فإذا مات الإنسان انقطع وقت العمل ،وفات زمن التكليف .
فاعتبروا أيها المسلمون بهذه المواعظ ، وقيسوا ما بقي من أعماركم بما مضى،وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، قال سبحانه: { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [ يونس: 4].(68/4)
أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله العظيم الجليل فاستغفروه ،إنه هو الغفور الرحيم ، اللهم يا معلم آدم وإبراهيم علمنا ما ينفعنا ، ويا مفهم سليمان الحكمة فهمنا، وزدنا علما ، اللهم فقهنا في الدين، وعلمنا التأويل ، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وادفع عنا الفتن والشرور، وأصلح اللهم لنا ولاة الأمور، واشرح لتحكيم كتابك الصدور، وألبس أميرنا ونائبه ثوب الصحة والعافية والطَّهور، برحمتك يا عزيز يا غفور، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرة حسنةً؛ وقنا عذاب النَّار.
عباد اللهِ:
اذكروا الله ذكراً كثيراً، وكبِّروه تكبيراً، { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [العنكبوت: 45].
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(68/5)
اطبع هذه الصحفة
استعينوا بالصبر والصلاة
يستظل المسلم بشجرة الإيمان، فينعم بفيئها، ويتغذى بثمارها، ويتلذذ بحلاوة طعمها قال رسول الله(صلي الله عليه وسلم): (ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً).
وهذه الشجرة نفعها دائم، وظلها دائم قال تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) . [سورة إبراهيم: 24، 25].
ولا يستفيد بخير هذه الشجرة إلا من استعان بصبر على مشاق زراعتها، وإزالة ما يعرقل نموها، ويعكر صفوها، وأسرع إلى تنميتها واستمرارها ليزداد ثمرها بصلاة ذات خشوع وإتقان قال جل شأنه: {ياأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} [البقرة: 153].
إن العبد الفطن هو الذي يأمل خيري الدنيا والآخرة، ولا يخطئ السبيل إلى ذلك وهو الاستعانة بالصبر على مرضاة الله، وبالصلاة عوناً على الثبات في الأمر قال جل شانه{واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين *الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون} [البقرة : 45،46].
استعينوا بالصبر والصلاة
الحمد لله الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم، نحمده ونستعينه، ونتوب إليه ونستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وعد الصابرين بالأجر العظيم وأعد للمحافظين على الصلوات جنان النعيم.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد البشر، الذي أعطى فشكر، وابتلى فصبر، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أولى البصيرة والبصر.
أما بعد:
يستظل المسلم بشجرة الإيمان، فينعم بفيئها، ويتغذى بثمارها، ويتلذذ بحلاوة طعمها قال رسول الله(صلي الله عليه وسلم): (ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً).(69/1)
وهذه الشجرة نفعها دائم، وظلها دائم قال تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) . [سورة إبراهيم: 24، 25].
ولا يستفيد بخير هذه الشجرة إلا من استعان بصبر على مشاق زراعتها، وإزالة ما يعرقل نموها، ويعكر صفوها، وأسرع إلى تنميتها واستمرارها ليزداد ثمرها بصلاة ذات خشوع وإتقان قال جل شأنه: {ياأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} [البقرة: 153].
إن العبد الفطن هو الذي يأمل خيري الدنيا والآخرة، ولا يخطئ السبيل إلى ذلك وهو الاستعانة بالصبر على مرضاة الله، وبالصلاة عوناً على الثبات في الأمر قال جل شانه{واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين *الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون} [البقرة : 45،46].
وقال:".. والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" [رواه مسلم].
( 2 )
معشر المسلمين:
لا تخلو الحياة من كدر، وما تفتأ أن يوجد فيها بلاء ومصائب وضراء،كما فيها من نعماء وسراء، والمؤمن يتقلب بين الأمرين وكلاهما خير له، فعن صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله(صلي الله عليه وسلم) "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" [رواه مسلم].(69/2)
وإن الهم والغم والكرب عندما ينزل بالعبد المؤمن يلقاه بصدر رحب ونفس مستسلمة لقضاء الله، راضية بحكمه، مستبشرة بحسن المثوبة منه سبحانه، ويهرع إلى ما يزيل هذا الأمر ويبدله باليسر بدل العسر والفرج بعد الكرب فيبادر إلى طاعة مولاه، التي عمودها الصلاة يقول النبي (صلي الله عليه وسلم) (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) [رواه مسلم]، وكان رسول الله (صلي الله عليه وسلم) إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وقال أرحنا بها يابلال" [رواه أحمد وأبو داود]
إخوة الإسلام:
إن المسلم الحق هو الذي يحبس نفسه على فعل الطاعات والقربات، ويلزمها بذلك إلزاماً، كما يلجمها على ترك المحارم والمآثم، فلا يسمح لها باقترافها، ولا يأذن لها في فعلها مهما اشتاقت لذلك بطبعها، وهشت له ، ويحبسها على البلاء إذا نزل بها فلا يتركها تجزع وتسخط، إذ الجزع كما قال الحكماء على الفائت آفة، وعلى المتوقع سخافة، والسخط على الأقدار معاتبة لله الواحد القهار (منهاج المسلم بتصرف ص 196)
وإنما يستقيم المؤمن بالصبر امتثالاً لأمر الله، ورجاء مرضاته وطمعاً في ثوابه قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) [آل عمران: 200] وقال سبحانه :{وبشر الصابرين *الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 155 ـ 157].
وقال جل شأنه {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10].
أيها المسلمون:
إن المسلم يحتاج إلى مدرسة يتدرب فيها على الصبر حتى يصير سجية له، فيذكر ربه عند الرخاء، ويشكره عند النعماء، ويصبر ويحتسب عند البلاء، ويكون ذلك بدراسة سير الأنبياء والصالحين،
( 3 )(69/3)
ومصاحبة الأخيار من المسلمين، فيوطن نفسه على المثابرة والثبات على الأمر، والاستكانة لربه، والتسليم لحكمه فيفوز برضوانه وجنته قال عليه الصلاة والسلام: "ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر" [متفق عليه]
وقال عليه الصلاة والسلام: "من يرد الله به خيراً يصب منه" [رواه البخاري عن أبي هريرة].
أي يوجه الله إليه مصيبة لتكفير سيئاته، وقال أيضاً "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وأن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط [رواه الترمذي وقال: حديث حسن] وقال أيضاً لابن عباس رضى الله عنهما: "واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا" [رواه الترمذي].
معشر المسلمين:
الصبر جامع للفضائل كلها، فهو عند القتال جهاد وشجاعة، وعند الغضب حلم، وعلى شهوة البطن والفرج عفة، وعند الغنى ضبط نفس، وإن كان عن فضول العيش زهداً، وعن قلة العيش قناعة ـ (موسوعة أخلاق القرآن بتصرف ص 193، 194).. وقد جمع الله أقسام ذلك وسماه كله صبرا قال سبحانه: (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) [البقرة: 177].
إخوة الإسلام:
لقد شرع الحق سبحانه شعيرة من شعائر الإسلام تجعل العبد على صلة بربه يومياً في كل يوم خمس مرات، ألا وهي الصلاة، فهي معراج المؤمن، وطهور جسده وروحه، وزينة لسانه وفؤاده، وسبيل رزقه وسعادته، وحصنه من سخط الله وعقابه، وتزكية نفسه وأعضائه، ومؤهلته إلى مناجاة ربه في دنياه والقرب منه في أخراه ، إذا أداها العبد كاملة الأركان، خالية من الرياء والران، مواظباً عليها ما أحياه الله حريصاً على أدائها في كل زمان، خاشعاً فيها عند القول باللسان وفعل(69/4)
السنن والواجبات والأركان، حريصاً على أدائها في مساجد البلدان، في وقتها بعد كل أذان، فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله(صلي الله عليه وسلم) يقول: "ما من امرئ تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله" [رواه مسلم].
( 4 )
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد،وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط" [رواه مسلم].
أيها المسلمون:
عليكم بالاعتصام بالإيمان فهو الذي يصلكم بربكم، واستمسكوا بالصلاة فهي حجاب عن المنكرات (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون) [العنكبوت: 45].
وتسلحوا بسلاح الصبر فهو نصف الإيمان، حتى تحصنوا أنفسكم من غضب الله ومن عذابه فإنه شديد العقاب، وتفوزوا بطمأنينة النفس وقوة البدن في الدنيا، ونعيم في الآخرة بجنة الفردوس قال تعالى: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين * واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) [هود: 114، 115] وقال سبحانه:
{فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين * الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} [الحج: 34 ـ 35].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم والذكر الحكيم .
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(69/5)
اطبع هذه الصحفة
ففيهما فجاهد
عباد الله:
ولقد جعل الإسلام حقّ الأم مضاعفًا على حق الأب بثلاث مرات؛ وذلك لما يصيبها من الألم والمشقة في حمل ولدها ووضعه, ورضاعه وتنشئته, قال الله تعالى: { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ لقمان:14], وقال سبحانه: { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } [الأحقاف :15].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 19من شعبان 1426هـ الموافق 23/9/2005م
ففيهما فجاهد
…إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
…أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله تعالى وطاعته, قال الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [آل عمران :102].
… أيها المسلمون:(70/1)
… ما أعظم ديننا الكريم, وما أجمل ما فيه من الأحكام؛ ولا غرو في ذلك ولا عجب, فإنه من الخالق اللطيف الخبير, سبحانه وتعالى, تقدست أسماؤه, وجلت صفاته, فلقد جعل الإسلام للوالدَين مكانةً عظيمةً كريمة, إذ جعل حقهما بعد حق توحيد الرب سبحانه وتعالى, فقال عز من قائل: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [الإسراء :23, 24].
…فتأملوا معاشر المسلمين هذه الآيات العظمى, التي يبين لنا فيها ربنا جل جلاله: كيف نتعامل مع أقرب الناس لنا, مَن كانا سبباً في وجودنا في هذه الدار بعد الله عز وجل, وإنما نبهنا سبحانه وتعالى إلى حالة كبرهما, لأنهما يكونان فيها أحوجَ إلينا, ولأن الصبر قد يقل عندها, فيحرم على المرء في هذه الحالة وفي حال قوتهما كذلك: أن يقول لهما هذه الكلمة القصيرة في الحروف, الكبيرة السيئة في المعنى, وهي كلمة " أفٍّ ".
وأما ما زاد عليها من الشتم أو الضرب – والعياذ بالله – فهذا محض العقوق والخذلان, واستحقاقِ السخط والعقوبة من الجبار المنتقم سبحانه, بل المطلوب من الأولاد أن يقولوا القول الكريم الجميل الذي يدخل السرور إلى قلوبهم, وأن يلاقوهم بالابتسامة والترحيب, فضلاً عن تقبيل رؤوسهم وأيديهم, وقضاء حوائجهم ولو كان على حساب حاجات أنفسهم. قال أبو هريرة - رضي الله عنه- : لا تَمشِ بين يدي أبيك, ولكن امش خلفه أو إلى جانبه, ولا تَدَعْ أحدًا يحول بينك وبينه, ولا تَمش فوق إِجّار أبيك ( أي فوق سطحه ) تُخِفْه, ولا تأكل عَرْقًا ( وهو العظم فيه اللحم ) قد نظر أبوك إليه لعله قد اشتهاه.(70/2)
إن للوالدين حقًّا علينا بعد حق الإله في الاحترام
أَوْلَدانا وربيانا صغارا فاستحقّا نهاية الإكرام
…أيها المؤمنون:
لو قلّبنا نصوص الكتاب العزيز, لهالنا ما نجد فيه من الرعاية والتأكيد على حق الوالدين, حتى إن الله سبحانه قد أمرنا بالإحسان إليهما ولو مع كفرهما على أن لا نطيعهم فيما فيه معصيته عز وجل, فقال تعالى: { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ لقمان :15].
وكيف لا يكون الأمر كذلك – يا عبد الله - والوالدان هما اللذان تعبا كثيرًا في تربيتك ورعايتك زمنًا طويلاً, وإذا مرضتَ باتا ليلهما ساهرين عليك, متألمين لألمك, خائفين مما ألمّ بك, يسألان الكريم المنان أن يمن عليك بالشفاء العاجل, ويكشف عنك ما نزل بك من ضر؟!
عباد الله:
ولقد جعل الإسلام حقّ الأم مضاعفًا على حق الأب بثلاث مرات؛ وذلك لما يصيبها من الألم والمشقة في حمل ولدها ووضعه, ورضاعه وتنشئته, قال الله تعالى: { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ لقمان:14], وقال سبحانه: { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } [الأحقاف :15].
فمَن أولى الناس بالمعروف والإحسان, والبِر والطاعة, من أمك البرة الحنون التي ذاقت أنواع الآلام مدة حملك, وقاست من الشدائد ما قاست مدة وضعك, ثم ضعفت قوتها بإرضاعك حولين كاملين, وكم أزالت عنك من الأوساخ بلا ملل منها ولا ضجر؟!(70/3)
ولهذا فقد ثبت في الصحيحين, عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: مَن أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: " أمك " , قال: ثم من؟ قال: " أمك " , قال: ثم من؟ قال: "أمك " , قال: ثم من؟ قال: " أبوك ".
أيها المسلمون:
لِنعلمْ أن من أراد الجنة فإن بِرَّ الوالدين بابٌ عظيمٌ من أبوابها, وسببٌ كبيرٌ لدخولها, ففي صحيح مسلم, عن أبي هريرة - رضي الله عنه- , عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" رَغِم أنفُ ثم رغم أنفُ ثم رغم أنفُ من أدرك أبويه عند الكِبَر – أحدَهما أو كليهما – فلم يَدخل الجنة ".
وعن معاوية بن جاهِمة: أن جاهمة جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك, فقال: " هل لك من أم؟ " قال: نعم, قال: " فالزمها؛ فإن الجنة عند رجلها " [ أخرجه أحمد والنسائي وغيرهما ] .
عباد الله:
أخرج الإمام البخاري في " الأدب المفرد " , عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما- : أنه أتاه رجلٌ فقال: إني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني, وخطبها غيري فأحبّت أن تنكحه, فغِرتُ عليها فقتلتها, فهل لي من توبة؟ قال: أمك حيةٌ؟ قال: لا, قال: تب إلى الله عز وجل, وتقرب إليه ما استطعت. قال عطاء بن يسار: فذهبت فسألت ابن عباس: لِمَ سألتَه عن حياة أمه؟ فقال: إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة ".
قال مكحول والإمام أحمد - رحمهما الله تعالى- : بر الوالدين كفارة الكبائر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية(70/4)
الحمد لله الذي وصى بالوالدين إحسانا, وأنعم علينا بنعمة الخلق والبر إنعاما, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبد لا يخالف والديه إلا إذا أمراه بمعصية مولاه القدير, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بين لنا أن بر الوالدين أجره كبير, اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق تقواه, واعملوا بطاعته ورضاه.
أيها المسلمون:
إن عقوق الوالدين من أفحش السيئات, وأكبر المنكرات, وهو من الذنوب التي يعجل الله عز وجل عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة؛ فعن أنس - رضي الله عنه- , عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " بابانِ معجلان عقوبتهما في الدنيا قبل الآخرة: البغيُ والعقوق " [ أخرجه الحاكم ].
فاحذروا أيها الأبناء من عقوق آبائكم؛ فإن من عق والديه وجد ذلك في أبنائه, كما نسمع عن ذلك كثيرا في حياتنا المشاهدة.
واعلموا أن بِرَّ الوالدين من أوجب الحقوق وأجل الطاعات, فمِن حقوقهما عليك: أن تكرمهما وتحسن إليهما, وأن تبذل نفسك ومالك ووقتك في مصلحتهما, وأن تسعى جهدك في كسب رضاهما, وأن تدعو لهما من بعد موتهما, وأن تتصدق لهما, وتكرم صديقهما.
…نادت مرةً أمُّ عبدِ الله بنِ عون ابنَها عبدَ الله, فأجابها ولكنه علا صوته صوتها حين لبى نداءها, فشعر بالذنب فأعتق رقبتين كفارةً عن ذلك.
فاتقوا الله أيها الأبناء, وبِرّوا آباءكم يبركم أبناؤكم, واحرصوا على رضا الوالدين؛ فإن رضا الله تعالى في رضاهما, وسخطه في سخطهما.(70/5)
اللهم أصلحنا وأصلح ذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم ارزقنا محاسن الأخلاق، واهدنا لإحسنها لا يهدي لإحسنها إلا أنت, وقنا مساوئ الأخلاق لا يقي مساوئها إلا أنت. اللهم اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وادفع عنا الفتن والشرور، وأصلح اللهم لنا ولاة الأمور، واشرح لتحكيم كتابك الصدور، وألبس أميرنا ونائبه ثوب الصحة والعافية والطَّهور، برحمتك يا عزيز يا غفور، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرة حسنةً؛ وقنا عذاب النَّار.
لجنة إعداد الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(70/6)
اطبع هذه الصحفة
كيف نستقبل شهر رمضان ؟
عباد الله:
يقول الحق تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون أياماَ معدودات } [ البقرة:183-184]. لقد روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبشر أصحابه بقدوم رمضان يقول: " جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير " [ أخرجه أحمد والنسائي]. وعنه – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله عز وجل : " كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به " [ متفق عليه ].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 26من شعبان 1426هـ الموافق 30/9/2005م
كيف نستقبل شهر رمضان ؟
الحمد لله الذي وصل عباده بنعمه ولطائفه، وعمر قلوبهم بأنوار الدين ووظائفه، وجعل للأوقات شأناً في عبادته، ونوع العبادات على حسب حكمه وحكمته، أحمده حمداً يدوم بدوام جوده ورحمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا راد لأمره ولا معقب لإرادته، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله أفضل خلقه وأكرم بريته، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وجميع صحابته وتابعيه بإحسان على ملته.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته، والمسابقة بالأعمال الصالحة إلى مغفرته وجنته، وشكره على كريم عطاياه وجزيل نعمه، وإياكم والمعاصي فإنها مفاتح غضبه ونقمته.
عباد الله:(71/1)
يقول الحق تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون أياماَ معدودات } [ البقرة:183-184]. لقد روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبشر أصحابه بقدوم رمضان يقول: " جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير " [ أخرجه أحمد والنسائي]. وعنه – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله عز وجل : " كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به " [ متفق عليه ].
فها هو شهر رمضان، قد اقترب ظله، ودنا وقته، شهر فضله الله تعالى على سائر الشهور، ولم يوجد له نظير في ممر الدهور، جعل الله صيامه أحد أركان الإسلام، وقيام لياليه من النوافل العظام، شهر التلاوة للقرآن، شهر الرحمة والغفران والعتق من النيران، كم تستجاب فيه الدعوات ! وتزاد فيه الحسنات ! وكم يحط فيه من السيئات ! وتضاعف فيه الدرجات! فأقبلوا عليه أيها المؤمنون، واحفظوا صيامه من الزلل والآثام لعلكم تفلحون، وحافظوا على الجمع والجماعات لعلكم غداً تحفظون، وصونوا جوارحكم عن اجتراح السيئات لعلكم تقبلون، قال تعالى { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ } [ السجدة:18] .
أيها الإخوة في الله:(71/2)
إن من أعظم ما يتقرب به إلى الله في هذا الشهر وفي غيره، هو المحافظة على الفرائض وأداء الواجبات، وترك المعاصي والمحرمات، يقول الله سبحانه في الحديث القدسي:" وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه " [ أخرجه البخاري]، وقد فرض الله تعالى صيام شهر رمضان في كتابه الكريم فقال سبحانه: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة:185]. وفي السنة، قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم - " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته " [ متفق عليه ] .
لذا يجب على كل مسلم بالغ عاقل مقيم يستطيع الصيام أن يصوم هذا الشهر عبادة لله تعالى وطاعة له، ورجاء لثوابه، وخوفاً من عقابه، وما أبلغ قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضع دستوراً للصائم في كلمات تنأى به عن مواقع السوء ومزالق الهوى: " من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" [ أخرجه البخاري ] .
فتأهبوا رحمكم الله لاغتنامه، وواظبوا على الطاعات في لياليه وأيامه، فإن من بلغه الله شهر رمضان، ومكنه فيه من فعل الخيرات فقد من عليه بنعمة عظيمة، يفرح بها غاية الفرح، كما قال الله تعالى { قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس:58]، والشقي من أمر بالصلاة فكسل، وأمر بالزكاة فبخل، وأمر بالصوم فشرب وأكل، وأمر بالحج فتوانى وغفل، ولو عرف الله الذي خلقه فسواه، لآثر طاعته على طاعة نفسه وهواه، فرحم الله امرءاً نظر لنفسه، واستعد بالأعمال الصالحة لرمسه، قبل وصول الموت، وحلول الفوت، فمن رحم في رمضان فهو المرحوم، ومن حرم فهو المحروم .
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيره أيضاً شهر عصيان
واتل القرآن فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرآن(71/3)
جعلني الله وإياكم ممن يصوم رمضان ويقوم لياليه، ويصرف بقية عمره فيما يرضيه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل لعباده مواسم للخيرات، يتسابقون فيها بأنواع الطاعات، ويتوبون من السيئات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وما له من الأسماء الحسنى والصفات، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خير سابق إلى الخيرات، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانت أوقاتهم كلها طاعات، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله:(71/4)
- - { المحتويات - - بسم الله الرحمن الرحيم الله بسم الله الرحمن الرحيم - الله أكبر ربيع أول بسم الله الرحمن الرحيم الله الله ( الله بسم الله الرحمن الرحيم - - المحتويات - المحتويات - ( المحتويات الله - - بسم الله الرحمن الرحيم - ( المحتويات الله - بسم الله الرحمن الرحيم - - بسم الله الرحمن الرحيم الله المحتويات - ( المحتويات - - المحتويات - ( بسم الله الرحمن الرحيم - بسم الله الرحمن الرحيم - - المحتويات تم بحمد الله بسم الله الرحمن الرحيم - ( المحتويات الله تم بحمد الله المحتويات ذو القعدة ( المحتويات - الله - - - ( الله أكبر - - بسم الله الرحمن الرحيم تم بحمد الله المحتويات الله - - } { صفر شوال محرم - - - محرم الله رمضان ( - - } ، واعلموا أن سلفنا الصالح ـ رحمهم الله ـ كانوا يجتهدون في عبادة ربهم اجتهاداً عظيماً، ليس في شهر رمضان فحسب، بل في سائر الشهور والأيام، وكانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم، وكان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وتسلمه مني متقبلا. وقد قال لقمان لابنه: يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة. وقيل للأحنف بن قيس: إنك شيخ كبير وإن الصيام يضعفك، فقال: إني أعده لسفر طويل، والصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذابه.
معاشر الأحباب:
اعلموا أن بلوغ شهر رمضان وصيامه، نعمة عظيمة على من أعانه الله عليه، فعن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ: أن رجلا قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال:" من طال عمره وحسن عمله"، قال: فأي الناس شر؟ قال: " من طال عمره وساء عمله" [ أخرجه أحمد والترمذي]، ويستفاد من هذا الحديث، فضل الحياة في طاعة الله عز وجل، وأن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيراً.
أتى رمضان مزرعة العباد لتطهير القلوب من الفساد
فأد حقوقه قولا وفعلا وزادك فاتخذه للمعاد(71/5)
فمن زرع الحبوب وما سقاها تأوه نادما يوم الحصاد
فاللهم بلغنا رمضان وأعنا على صيامه وقيامه إيماناً واحتسابا، ولا تجعلنا ممن ليس له من صيامه إلا الجوع، وليس له من قيامه إلا التعب، ووفقنا فيه للقول الحسن وصالح الأعمال؛ وأجرنا من النار وما فيها من أغلال وأهوال.
افتحوا بيوتكم لإطعام المساكين، ومواساة المنكوبين، اعطفوا على أرحامكم والأقربين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم احفظ أميرنا وولي عهده الأمين، وألبسهما ثياب الصحة والعافية يارب العالمين، ووفق بين كل رعية وراعيها بأصدق الوفاء لوجهك الكريم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
لجنة إعداد الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(71/6)
اطبع هذه الصحفة
أدوا زكاة أموالكم
إخوة الإسلام :
لقد شرعت الزكاة لحكم عظيمة، ومصالح جمة، تعود على الأفراد والمجتمعات بالفضل العظيم، والخير العميم، قال تعالى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [التوبة:103]، فالزكاة تطهر النفس من درن الشح والبخل، وهي السبيل لحصول النماء والبركة وحفظ المال، وفيها تثبيت أواصر المحبة والتراحم، والمودة والتكاتف والتلاحم، ليشعر الفقير في المجتمع المسلم أنه أمام تعاون لا تطاحن، وأمام إيثار لا أثرة، وأمام مساواة وعطف وإيخاء، لا ظلم وتسلط وجفاء، فليست الزكاة محض مال يؤخذ من الجيوب، بل هى غرس للرأفة والرحمة في القلوب.
خطبة الجمعة الموزعة والمذاعة
بتاريخ4من رمضان 1426 هـ الموافق7/10/2005م
………… أدوا زكاة أموالكم
الحمد لله رب العالمين، جعل في أموال الأغنياء حقا للفقراء والمساكين، وللمصارف التي بها صلاح الدنيا والدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، وخير من أنفق على المعوزين والمحتاجين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فأوصيكم ـ عباد الله ـ بتقوى الله أينما كنتم، وأن تعملوا للأمر الذي له خلقتم، يقول الله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات:56]
أما والله لو علم الأنام … لما خلقوا لما غفلوا وناموا
لقد خلقوا لما لو أبصرته عيون قلوبهم ساحوا وهاموا
ممات ثم قبر ثم حشر وتوبيخ وأهوال عظام
أيها المسلمون:(72/1)
اعلموا أن دينكم الإسلامي الذي من الله به عليكم، ورضيه لكم، قد بني على أسس متماسكة وقواعد مترابطة، إذا اختل منها شيء تصدع ماسواه، أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا " .
وإن من بين هذه الأركان العظيمة، والشرائع القويمة، ركن الزكاة ثالث أركان هذا الدين العظيم، فمن جحد وجوبها كفر، ومن منع أداءها قوتل، يقول الله سبحانه: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [التوبة:11]، وفي الصحيحين عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله ".
وقد ذكر الله في كتابه الزكاة مقرونة بالصلاة، تعظيما لشأنها، وتنويها بذكرها، وترغيبا في أدائها، وترهيبا من منعها، أو التساهل فيها، يقول الله جل شأنه: { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة:110]، ولذلك قال أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه-: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها " [أخرجه الشيخان] .
إخوة الإسلام :(72/2)
لقد شرعت الزكاة لحكم عظيمة، ومصالح جمة، تعود على الأفراد والمجتمعات بالفضل العظيم، والخير العميم، قال تعالى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [التوبة:103]، فالزكاة تطهر النفس من درن الشح والبخل، وهي السبيل لحصول النماء والبركة وحفظ المال، وفيها تثبيت أواصر المحبة والتراحم، والمودة والتكاتف والتلاحم، ليشعر الفقير في المجتمع المسلم أنه أمام تعاون لا تطاحن، وأمام إيثار لا أثرة، وأمام مساواة وعطف وإيخاء، لا ظلم وتسلط وجفاء، فليست الزكاة محض مال يؤخذ من الجيوب، بل هى غرس للرأفة والرحمة في القلوب.
أيها الإخوة الصائمون:(72/3)
لقد جاء الوعيد الشديد، والترهيب الأكيد، في حق تارك الزكاة، بأسلوب ترتعد منه الفرائص وتهتز له القلوب، وتذوب له الأفئدة، يقول الله تعالى: { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } [التوبة:34-35]، ويقول سبحانه: { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [آل عمران:180] ، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -في تفسير هذه الآية: " من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مثل له ما له يوم القيامة شجاعاأقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه – يعني شدقيه - فيقول: أنا مالك أنا كنزك " [أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -] .
ألا فليسمع هذا الوعيد الشديد أرباب الآلاف والملايين، وذو الأرصدة والحسابات، وأصحاب العقارات والتجارات، وأصحاب المزارع والمواشي، ليتصوروا هذا الموقف العسير، بين يدي العلي القدير.(72/4)
فاتقوا الله – إخوة الإسلام – وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها نفوسكم، فقد أعطاكم الله الكثير، وأغدق عليكم المال الوفير، وطلب منكم القليل، ولو أن أثرياء المسلمين اليوم قاموا بهذه الفريضة خير قيام، وصرفوا الزكاة في مصارفها الشرعية، لم تجد على الأرض من يتسول لفاقة، وأنه ما اشتكى فقير إلا بقدر ما قصر غني، لكن نسأل الله أن يشرح صدور المسلمين، ويجعلهم إخوة متعاونين متكاتفين، يرحم كبيرهم صغيرهم، ويعطي غنيهم فقيرهم، ليكونوا صفا واحدا، في عمارة الأرض، ورعاية حقوق الخلق، { وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [ إبراهيم:20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين له الحمد في الآخرة والأولى، وعد من أعطى واتقى وصدق بالحسنى أن ييسره لليسرى، وتوعد من بخل واستغنى وكذب بالحسنى أن ييسره للعسرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صاحب المقام المحمود والشفاعة العظمى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الحنفا، الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الرجعى.
أما بعد:
فيا عباد الله :
اتقوا الله تبارك وتعالى، وأدوا ما أوجب الله عليكم من الزكاة، وتعلموا أهم أحكامها وشرائطها كشرط بلوغ النصاب وتمام الحول، ومن لا تحل له الزكاة، وما الأموال التي تجب فيها الزكاة؟(72/5)
ثم لتعلموا – حفظكم الله – أن الزكاة لا تنفع ولا تبرأ بها الذمة إلا إذا صرفت في مصارفها الثمانية، التي جاءت في قوله تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وقد ختمها بقوله سبحانه: { فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة:60 ] .
وليس المقام مقام بسط وتوضيح لأحكام الزكاة، فهي مدونة في مظانها، فمن يستطيع الرجوع إليها فدونه ذلك، ومن لم يستطع فقد قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأنبياء:7 ]
ثم صلوا وسلموا رحمكم الله على خير الورى وإمام الهدى كما أمر ربكم جل وعلا. اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا في هذا الشهر الكريم .
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم احفظ أميرنا وولي عهده الأمين، وألبسهما ثياب الصحة والعافية يارب العالمين، ووفق بين كل رعية وراعيها بأصدق الوفاء لوجهك الكريم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
لجنة إعداد الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(72/6)
اطبع هذه الصحفة
شهر القرآن
في إحدى ليالي شهر رمضان المبارك، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الأربعين من عمره، أذن الله تعالى للنور أن يتنزل، فإذا جبريل - عليه السلام - آخذ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول له: اقرأ، فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ماأنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال:اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) } [العلق :1ـ5]، فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده" [أخرجه البخاري]، وهكذا أنزلت أولى آيات الكتاب العظيم، على فؤاد النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، في هذا الشهر الكريم، حيث شهدت لياليه المباركة اتصال الأرض بالسماء، وتنزل الوحي بالنور والضياء، فأشرقت الأرض وانقشعت ظلمات الجاهلية الجهلاء.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 11 من رمضان 1426 هـ الموافق 14/10/2005 م
شهر القرآن
الحمد لله الذي جعل الصيام جنة من العذاب، وجعل ثوابه لديه بغير حساب، وفضل شهر رمضان على غيره من الشهور وأنزل فيه الكتاب، وخص فيه هذه الأمة بمزيد من التكريم والثواب، أحمده تعالى حمد من تاب إليه وأناب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله المبعوث بالحكمة وفصل الخطاب، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وسائر الأصحاب، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآب.
أما بعد:(73/1)
فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله، ففي التقوى رضا الرحمن، ونيل الجنان، والسلامة من النيران، فلقد جاءت البشارة في القرآن: { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } [مريم :63].
يا أيها الناس اعملوا لمعادكم قبل الوقوف على المقام الأهول
إخوة الإيمان:
في إحدى ليالي شهر رمضان المبارك، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الأربعين من عمره، أذن الله تعالى للنور أن يتنزل، فإذا جبريل - عليه السلام - آخذ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول له: اقرأ، فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ماأنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال:اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) } [العلق :1ـ5]، فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده" [أخرجه البخاري]، وهكذا أنزلت أولى آيات الكتاب العظيم، على فؤاد النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، في هذا الشهر الكريم، حيث شهدت لياليه المباركة اتصال الأرض بالسماء، وتنزل الوحي بالنور والضياء، فأشرقت الأرض وانقشعت ظلمات الجاهلية الجهلاء.
أيها الإخوة المؤمنون:(73/2)
لقد شهد رمضان نزولا آخر للقرآن، إنه نزوله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وكان ذلك في ليلة القدر { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر } [القدر:1]، { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } [الدخان:3]، وأي نعمة أعظم من نعمة نزول القرآن؟ حيث كان الكفر يضرب أطنابه، ويخيم على البشرية جمعاء، فلما نزل القرآن انحسر الكفر، وانقشع الظلام، إنه نعمة لم يسعها حمد البشر فحمد الله نفسه على هذه النعمة فقال سبحانه: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [الكهف:1].
ومن ذلك اليوم ارتبط القرآن بشهر رمضان: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [البقرة:185]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة" [أخرجه الشيخان]، لقد كان القرآن أنيسه وسميره في ليالي رمضان.
نعم السمير كتاب الله إن له حلاوة هي أحلى من جنى الضرب
به فنون المعارف قد جمعن فما تفتر من عجب إلا إلى عجب
أمر ونهي وأمثال وموعظة وحكمة أودعت في أفصح الكتب
لطائف يجتليها كل ذي بصر وروضة يجتنيها كل ذي أدب
معاشر المسلمين:(73/3)
لقد أدرك أسلافنا ـ رحمهم الله ـ عظمة كلام الرحمن، وأيقنوا بعلاقته الوثيقة بشهر رمضان، فكانوا إذا دخل الشهر لايشتغلون بسوى القرآن، كان الزهري إذا دخل رمضان يقول: إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام، وكان مالك إذا دخل الشهر يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم إلى تلاوة القرآن، بل كان لهم في هذا الشهر الكريم مجاهدات، من كثرة التلاوات والختمات، رواها الأئمة الثقات الأثبات، فقد كان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة، وكان الشافعي يختم القرآن في رمضان ستين ختمة، وكان الحافظ ابن عساكر يختم القرآن كل جمعة، ويختم في رمضان كل يوم.
عكفوا على آي الكتاب فأفلحوا والجاهلون على المآثم عكف
أتباع خير المرسلين:
وكما كان أسلافنا يحرصون على كثرة التلاوة، فإنهم لم يهملوا يوما شأن التدبر والتفكر، وهاهو نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وهو سيد المتدبرين وإمام الخاشعين، قام ليلة بآية يرددها حتى أصبح وهي قوله تعالى: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة: 118]، وقام قتادة بن النعمان الليل لا يقرأ إلا: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1]، وقال القاسم: "رأيت سعيد بن جبير قام ليلة يصلي يقرأ: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة: 281] فردها بضعا وعشرين مرة.
منع القرآن بوعده ووعيده مقل العيون بليلها لا تهجع
فهموا عن الملك العظيم كلامه فهما تذل له الرقاب وتخضع(73/4)
بارك الله لي ولكم في رمضان، وجعلني وإياكم فيه من أهل القرآن، وأسبل علينا ستر المغفرة والرضوان، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من الذنوب والعصيان، فاستغفروه إنه هو خير الغافرين.
الخطبة الثانية
الحمد لله المنان، الذي أكرمنا بنزول القرآن، وجعله ربيعا لقلوب أهل البصائر والفرقان، أحمده سبحانه وأشكره على نعمة الإسلام والإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ينال بها الغفران، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المؤيد بالحجة والبرهان، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والعرفان، صلاة وسلاما تامين متعاقبين ما تعاقب الجديدان.
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، فإن أجسادكم على النار لاتقوى، وتذكروا قول الله تبارك وتعالى: { وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [مريم: 71ـ72].
إخوة الإسلام:
لا يكن هم أحدكم التلاوة فحسب، بل لابد من التدبر وحضور القلب: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } [ص: 29]، ثم بعد التدبر يأتي التطبيق والعمل، وإلا وقع قارئ القرآن في النقص والزلل، فلقد كان خلق نبيكم - صلى الله عليه وسلم - القرآن، وكان أصحابه - رضي الله عنهم - سريعي الاستجابة لكلام الرحمن، فلما نزل قول الله تبارك وتعالى: { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة: 245].(73/5)
قال أبو الدحداح الأنصاري - رضي الله عنه - "يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: "أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده قال: فإني أقرضت ربي حائطي ـ وله حائط فيه ستمائة نخلة ـ وأم الدحداح فيه وعيالها، فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي يا أم الدحداح فقد أقرضته ربي عز وجل، قالت: ربح بيعك يا أبا الدحداح، ونقلت منه متاعها وصبيانها" [أخرجه أحمد].
ثم صلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على الهادي البشير والسراج المنير، كما أمركم بذلكم اللطيف الخبير فقال عز من قائل: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [الأحزاب: 56]، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
إليك وإلى جناتك جنات الخلود، اللهم واجعلنا ممن اتبع القرآن فقاده إلى رضوانك والجنة ولا تجعلنا ممن اتبعه القرآن فزج في النار.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم احفظ أميرنا وولي عهده الأمين، وألبسهما ثياب الصحة والعافية يارب العالمين، ووفق بين كل رعية وراعيها بأصدق الوفاء لوجهك الكريم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
لجنة إعداد الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(73/6)
اطبع هذه الصحفة
الوقف وأثره على المجتمع
ألا وإن من أفضل الصدقات في أيام عشركم وفي غيره من الأيام: الوقف الذي يُحْبَسُ فيه المال؛ ويُنْتفعُ به في صالح الأعمال، وهذا الوقف صدقة جارية لواقفه إذا انقطع به العمر، لا ينقطع فيه بإذن الله تعالى الأجر، كما أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
خطبة الجمعة الموزعة والمذاعة
بتاريخ 18 من رمضان 1426هـ الموافق 21/10/2005م
الوقف وأثره على المجتمع
الحمد لله الذي غمر عباده بإنعامه، وعمر قلوبهم بأنوار دينه وأحكامه، ورغَّبهم في الوقف وحثَّهم على إيتاء المال على حُبِّه وغرامه، أحمد ربي حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه يدوم بدوامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شهادةً تُؤدِّي شُكْرَ إفضاله وإكرامه. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله المبلغ ما أنزل إليه من ربه من حلاله وحرامه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه ما تتابعت نفحات العشر الأواخر في لياليه وأيامه.
أما بعد:
…فاتقوا الله أيها الناس، وتدثروا بلباس التقوى فهو خير لباس.
…
…… إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً وإن كان كاسياً(74/1)
واستبقوا رحمني الله وإياكم خيرات شهركم قبل الفوات، واغتنموا ليالي عشركم فإنكم في أنفس الأوقات، وشمروا لقِرَاهُ بالتوبة والإنابة، وابذلوا في ضيافته مقدوركم من الأعمال المستطابة، وابسطوا أيديكم بالخير تنالوا أجره وثوابه، فجودوا بالصدقة والزكاة، وتعاهدوا الفقراء والمساكين بالبرِّ والمواساة، فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة".
عباد الله الكرام:
…ألا وإن من أفضل الصدقات في أيام عشركم وفي غيره من الأيام: الوقف الذي يُحْبَسُ فيه المال؛ ويُنْتفعُ به في صالح الأعمال، وهذا الوقف صدقة جارية لواقفه إذا انقطع به العمر، لا ينقطع فيه بإذن الله تعالى الأجر، كما أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
معاشر المحسنين:
إن الأوقاف منفعة عامة للمسلمين، وهي بعد موت واقفها لسان ذكر له في الآخرين، فهو أصل قائم؛ وأجر دائم، لذا جاء الشرع الشريف بالحثِّ عليها؛ وورد الأمر المنيف بالإرشاد إليها، وجعل ما يُوقفه الإنسان: أمارة برٍّ وعلامة إحسان، كما قال الكريم المنان: { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [آل عمران: 92].(74/2)
وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - قال: "أصاب عمر أرضاً بخيبر، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله؛ إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع، ولا يورث ولا يوهب، وتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقاً غير متمول فيه" [أخرجه البخاري ومسلم].
لذا ذهب إلى القول باستحبابها جمهورُ المسلمين، استناداً إلى ما تقدم من دلائل الوحي المبين، واستئناساً بما ثبت عن جَمْعٍ من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، حيث أوقفوا جزءاً مما جعلهم الله تعالى مستخلفين عليه من الأموال، وتتابع على ذلك العمل فيمن جاء بعدهم من القرون والأجيال.
أيها العباد:
إن من محاسن هذه البلاد؛ الذي هو فخار وجهها الأنور، ووقار جبينها الأزهر: صدور الأمر السامي بإنشاء الأمانة العامة للأوقاف، وهو مشروع خيري؛ أجره لمن أنشأه وساهم فيه يجري، وهي مؤسسة رسمية وشعبية، تُسهم في تقديم الخدمة التنموية، بدعم من صناديقها الوقفية، التي أنشأت للرعاية الجليلة؛ والعناية النبيلة؛ باحتياجات المجتمع الشرعية والعلمية والاجتماعية والصحية وغيرها من الاحتياجات العديدة، التي هي متطلبات السنوات القادمة المديدة، فرحم رب العالمين:عبداً خلَّد ذكره في سجل الواقفين.
جعلني الله وإياكم ممن تاب في هذا الشهر وأناب، واستغفروا ربهم فغفر لهم ومنَّ عليهم بعتق الرقاب، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ظلم وجرم فاستغفروه إنه هو الغفور الحليم.
الخطبة الثانية(74/3)
الحمدُ للهِ الذي جعل الصيام جنة من النار، وفضل شهر رمضان بما خصه من الخصائص والآثار، أحمد ربي حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على تصريفه الأمور كما شاء واختار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الغفار، أشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه البررة الأخيار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [الحشر: 18].
واغتنموا عباد الله أيام شهركم الباقية، وتداركوا بالتوبة والأوبة ما فرطتم في الأيام الخالية، واختموا لياليكم بالندم والاستغفار، والعمل بما يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار، فإنكم في أفضل ليالي العام، لذا كان يجتهد فيها بالقيام؛ ما لا يجتهد في غيرها من الأيام: نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيره" [أخرجه مسلم].
وقالت - رضي الله عنها-: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إذا دخل العشر: أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدَّ وشدَّ المئزر" [أخرجه البخاري ومسلم].
وقالت - رضي الله عنها - : "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده" [أخرجه البخاري ومسلم].
وتحروا جهدكم في اغتنام الأجر؛ بالقيام في ليلة القدر، { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [القدر: 2-3]، فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً: غفر له ما تقدم من ذنبه".(74/4)
فمن أدركها منكم فليسأل عفو ربه، عسى أن يُقال في هذه الليلة عظيم ذنبه؛ ويُعفى عن جسيم حوبه، فقد أخرج أحمد والترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "قلت: يا رسول الله؛ أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
ومسك الختام، معشر الإخوة الكرام: ترطيب الأفواه بالصلاة والسلام، على خير الأنام، امتثالاً لأمر الملك القدوس السلام، حيث قال في أصدق قيل وأحسن حديث وخير كلام: { إن الله وملائكتَه يُصلُّون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلُّوا عليه وسلِّموا تسليماً } .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما باركت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، في العالمين، إنك حميدٌ مجيدٌ ، وارضَ اللهمَّ عن الأربعةِ الخلفاءِ الراشدين؛ والأئمةِ الحنفاءِ المهديِّين، أولي الفضلِ الجليِّ؛ والقدرِ العليِّ: أبي بكرٍ وعمرَ وعُثمانَ وعليِّ، وارض اللهم عن آل نبيِّك وأزواجِه المُطَهَّرِين من الأرجاس؛ وصحابتِه الصفوةِ الأخيارِ من الناس.
اللهم اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك، والعتق من نيرانك، اللهم اجعلنا ممن صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً، اللهم اجعلنا ممن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، فغفرت له ذنبه وضاعفت له ثواباً، وأحسنت له مآبا.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وادفع عنا الفتن والشرور، وأصلح لنا ولاة الأمور، واشرح لتحكيم كتابك الصدور، وألبس أميرنا وولي عهده ثوب الصحة والعافية والطهور، برحمتك يا عزيزُ يا غفور، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً؛ وفي الآخرة حسنةً؛ وقنا عذاب النَّار.
لجنة إعداد الخطبة الموزعة والمذاعة
---(74/5)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(74/6)
اطبع هذه الصحفة
زكاة الفطر وآداب العيد
وتجب زكاة الفطر على كل مسلم، صغيراً كان أم كبيراً، ذكراً أم أنثى، حراً أم عبداً، وتستحب عن الجنين ولا تجب عنه، والذي يجب عليه أن يخرج الزكاة من ماله عن هؤلاء هو المعيل المكلف بالنفقة عليهم.
…وأما المقدار الواجب إخراجه في زكاة الفطر: فهو صاع من طعام مما يعد قوتاً، كالبُر والأرز والتمر، لحديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ المتفق عليه: "كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من أقط، أو صاعا من زبيب".
…وقد أجاز بعض أهل العلم أن يخرج النقد بدلاً من الطعام، وبهذا أفتت هيئة الفتوى الموقرة بوزارة الأوقاف، وقدرت قيمة الزكاة عن الفرد الواحد بدينار.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 25 من رمضان 1426هـ الموافق 28/10/2005م
زكاة الفطر وآداب العيد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فيا عباد الله:
أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله تعالى وطاعته، قال الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [آل عمران/102].
…أيها المسلمون:
إن من رحمة الله تعالى علينا وفضله، ومن حكمته البالغة وكمال علمه: أن فرض علينا في آخر هذا الشهر الكريم شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام، تضاف إلى شعيرة الصيام، ألا وهي زكاة الفطر التي تسمى بزكاة الأبدان.
…فرضها الله تبارك وتعالى تكفيراً لما قد يبدر من الصائم من الأخطاء والزلات، أو الخلل والتقصير، فتكون هذه الزكاة جابرة لهذا الخلل، مكملة لهذا النقص، فيلقى العبد ربه بأعظم الأجور وأوسع الثواب.(75/1)
…وكذلك فرضها الله عز وجل سداً لحاجات المساكين، وإدخالاً للسرور عليهم في يوم العيد الذي هو يوم فرح وحبور، فإن من مقاصد الإسلام العظيمة، ومن محاسن ديننا الكريم: أن يشعر الأخ بحاجة أخيه، وأن يحب له ما يحب لنفسه، فلا يناسب أن يفرح المسلمون في هذا اليوم ولهم إخوان من بينهم لا يجدون قوت يومهم.
…ومن أجل هذا المقصد العظيم، نجد أن الله تبارك وتعالى قد رغب عباده المؤمنين أيما ترغيب في التصدق والإحسان على الفقراء والمساكين والأيتام، فقال سبحانه وتعالى: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } [الإسراء/26], وقال تعالى في وصف عباده المؤمنين: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً } [الإنسان8، 9]، وذم الله تعالى البخلاء من الناس والذين يأمرون بالبخل، وهم الكفار والمنافقون، فقال تعالى: { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } [النساء37]، وقال تعالى: { وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ* فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ } [الحاقة34، 35].
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث, وطعمة للمساكين" [أخرجه أبو داود].
أيها المسلمون:
…وتجب زكاة الفطر على كل مسلم، صغيراً كان أم كبيراً، ذكراً أم أنثى، حراً أم عبداً، وتستحب عن الجنين ولا تجب عنه، والذي يجب عليه أن يخرج الزكاة من ماله عن هؤلاء هو المعيل المكلف بالنفقة عليهم.(75/2)
…وأما المقدار الواجب إخراجه في زكاة الفطر: فهو صاع من طعام مما يعد قوتاً، كالبُر والأرز والتمر، لحديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ المتفق عليه: "كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من أقط، أو صاعا من زبيب".
…وقد أجاز بعض أهل العلم أن يخرج النقد بدلاً من الطعام، وبهذا أفتت هيئة الفتوى الموقرة بوزارة الأوقاف، وقدرت قيمة الزكاة عن الفرد الواحد بدينار.
وإنما تجب زكاة الفطر بغروب شمس آخر يوم من رمضان، فأما من وُلد أو أسلم بعد ذلك، فلا زكاة عليه، ويستحب إخراجها قبيل صلاة العيد، ولا تؤخر عن صلاة العيد، وكان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يخرجونها قبل العيد بيومين، كما ثبت في صحيح البخاري، وفي حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن زكاة الفطر قال: "من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات" [أخرجه أبو داود].
…بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من البيان والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
…الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين وخاتم المرسلين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
…فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق تقواه، واعملوا بطاعته ورضاه.
…أيها المسلمون:
…اعلموا – رحمني الله وإياكم – أن للعيد آداباً وسنناً، ينبغي أن نحرص عليها، لننال الأجر العظيم من صاحب الجود والإحسان الجزيل سبحانه:(75/3)
…منها: أن نكبر في ليلة عيد الفطر، من غروب شمس آخر يوم من رمضان إلى أن يُحْرم الإمام بصلاة العيد، لقوله تعالى: { وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة/185].
وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يخرج يوم الفطر فيكبر حتى يأتيَ المصلى ويقضيَ الصلاة".[أخرجه ابن أبي شيبة وغيره]، وكان ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى: يجهرُ بالتكبير حتى يأتي المصلى، ثم يكبرُ حتى يأتي الإمام.[أخرجه ابن أبي شيبة والدا رقطني].
ومنها: أن يتجملَ في العيد، فيلبسَ أحسن ثيابه، ويغتسلَ قبل الذهاب للصلاة، فإنه مستحب بالإجماع، وعن نافع: أن عبد الله بن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى.[أخرجه مالك في الموطأ].
…ومنها: أن يأكل في عيد الفطر تمرات قبل أن يذهب لصلاة العيد، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات" [أخرجه البخاري].
ومنها: أن يستمع للخطبة بعد الصلاة.
ومنها: أن يخالفَ في الطريق، فيرجعَ من غير الطريق التي جاء منها إلى المصلى، فعن جابرـ رضي الله عنه ـ قال : "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيد خالف الطريق" [أخرجه البخاري].
ومنها: التهنئة في العيد بالعبارات المناسبة للمقام، فعن جبير بن نفير قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا التقَوْا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك.(75/4)
…ومنها: التوسعة على العيال في أيام العيد بما يحصل لهم بسطُ النفس وترويحُ البدن، وإظهار السرور فيها، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: "دخل علَيّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي جاريتان تغنيان بغناء يوم بُعاث (وفي رواية: تغنيان بدف)، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ! فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "دعهما"، فلما غفل غمرتهما، فخرجتا".
…وفي رواية أخرى: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا" [متفق عليه].
…اللهم اجعل أيامنا أيام فرح وسرور، وأيام خير وحبور، وارزقنا الأمن والسعادة يوم البعث والنشور، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريب مجيب الدعوات، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم وفق أميرنا وولي عهده لهداك، واجعل عملهما في رضاك، اللهم احفظهما بحفظك، واكلأهما برعايتك، وألبسهما ثوب الصحة والعافية والإيمان، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين.
………لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(75/5)
اطبع هذه الصحفة
خطبة عيد الفطر
ليس العيد الحقيقي لمن لبس الجديد من الثيابِ وتمتع بالشهوات، هيهات هيهات! إنما العيد الحقيقي لمن خاف يوم التناد، إنما العيد لمن اتقى مظالم العباد، إنما العيد لمن وقف عند حدود الله { وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [البقرة:281].
…فهنيئاً لمن ربح غنيمة رمضان، وخرج منه بالطاعة والغفران, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبرَ أو أحدُهما فلم يدخلاه الجنة "[أخرجه الترمذي].
ولكن: كيف لعاقل أن يهدم صرحًا عظيماً جميلاً بناه بيديه ؟! وكيف لِناصحٍ أن يفرط في كنز ثمين وهو يقبل إليه؟!
خطبة عيد الفطر
بتاريخ 1 شوال 1426 هـ 3 /11/2005م
…
الله أكبر، الله أكبر (يكبر تسع تكبيرات نَسَقًا).
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله تعالى وطاعته، قال الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسلِمُونَ } [آل عمران:102].
أيها المؤمنون:(76/1)
نحمد الله تعالى – الذي لا إله غيره – على نعمة الإسلام، التي هي أغلى نعمة وأجلها للإنسان، فبها نجاته يوم القيامة، وبها سعادته في الدنيا والآخرة، قال الله عز وجل: { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [الحجرات:17].
يقول أنس - رضي الله عنه - : "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ ولأهل المدينةِ يومان يلعبون فيهما، فقال: قدمت عليكم ولكم يومان تلعبون فيهما، فإنّ الله أبدلكم يومين خيراً منهما : يوم الفطر ويوم النحر" [أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي].
فهما يعقبان أداء ركنين عظيمين من أركان الإسلام، وهما الحج والصيام، اللذان هما سبب للمغفرة والرحمة.
أيها المسلمون:
……ليس العيد الحقيقي لمن لبس الجديد من الثيابِ وتمتع بالشهوات، هيهات هيهات! إنما العيد الحقيقي لمن خاف يوم التناد، إنما العيد لمن اتقى مظالم العباد، إنما العيد لمن وقف عند حدود الله { وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [البقرة:281].
…فهنيئاً لمن ربح غنيمة رمضان، وخرج منه بالطاعة والغفران, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبرَ أو أحدُهما فلم يدخلاه الجنة "[أخرجه الترمذي].
ولكن: كيف لعاقل أن يهدم صرحًا عظيماً جميلاً بناه بيديه ؟! وكيف لِناصحٍ أن يفرط في كنز ثمين وهو يقبل إليه؟!(76/2)
فإلى من تسول له نفسه التقصير والتفريط في جنب الله، وإلى من يعزم أن يعود إلى معصية ربه ومولاه، ليعلم أنّ رب رمضان هو رب سائر الشهور والأيام، فمن أطاع ربه في رمضان فقط ثم عاد على العصيان، فكأنما عبد رمضان لا ربَّ رمضان، وإنما هذا حال أهل التفريط والخسران، وهو- والعياذ بالله – علامة البؤس والخذلان.
أقبل على صلواتك الخمسِ… كم مصبحٍ وعساه لا يمسي
…… واستقبل اليوم الجديد بتوبةٍ تمحو ذنوب صحيفة الأمسِ
فلَيفعلنّ بوجهك الغضِّ البِلَى… فِعْلَ الظلام بصورة الشمسِ
قال الله عز وجل: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ*وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ } [الأعراف:175، 176]، وقال تعالى: { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً } [النحل:92].
أيها المسلمون:
إن هذا اليوم هو يوم الوفاء والصدق والإخاء بين جماعة المسلمين، هذا يوم تلاقي الإخوان بنفوس صافية وقلوب طيبة، هذا يوم صلاح ذات البين وزيارة الأرحام، والإحسان إلى الفقراء والمساكين والأيتام.
عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" [متفق عليه].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تفتح أبواب الجنة يومي الاثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: "أَنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا" [أخرجه مسلم].
معاشر المسلمين:(76/3)
ونتذكر - ونحن في هذا اليوم - إخوانًا لنا قد أصابتهم الزلازل والخطوب، والمحن والكروب، فمات من مات منهم، وأصبح الأحياء منهم في حاجة ماسة إلى الطعام والدواء والسكن، فلْنمدَّ يد العون والمساعدة، ولنتضرع إلى المولى العلي القدير أن يجبر كسرهم، ويستر حالهم، ويخفف عليهم مُصابهم، فإن المسلم أخو المسلم.
الخطبة الثانية
……الله أكبر، الله أكبر(يكبر سبعًا نسقا).
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام المتقين، وخاتم المرسلين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله، ويا إماء الله: اتقين الله، واحذرن من التبرج والسفور، ومن كل ما يغضب المولى جل جلاله، فقد قال الله عز وجل: { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } [الأحزاب:33].
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" [أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه].
ولنحذر من مصافحة النساءِ غيرِ المحارم وإن جرت عادة بعض الناس بذلك، فإن شرع الله أحق أن يتبع، قال الله عز وجل: { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [البقرة:229].
ولنحذر– أيضًا - من سماع مزامير الشيطان، بعد أن اعتدنا على سماع القرآن في شهر رمضان، ولنغتم أوقاتنا في كل ما هو صالح ومفيد.
أيها المسلمون:(76/4)
إن يوم العيد إنما هو يوم شكر لله تعالى، على نعمه العظيمة التي لا تعد ولا تحصى { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم:34].
فإياكم – عباد الله – أن تَقلِبوا يوم العيد إلى يوم سخط ومعصية لله تعالى { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم:7].
واعلموا أن نبينا الكريمَ - صلى الله عليه وسلم - قد حثنا على إتْباعِ رمضانَ بصيام ستةِ أيامٍ من شوال, ففي صحيح مسلم، عن أبي أيوب الأنصاري- رضي الله عنه- قال: "من صام رمضان، ثم أتبعه ستا من شوال، كان كصيام الدهر".
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين و المسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم تقبل منا الصيام والقيام، وارزقنا الإخلاص وحسن الختام.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.
اللهم وفق أميرنا وولي عهده لهداك، واجعل عملهما في رضاك، اللهم احفظهما بحفظك، واكلاهما برعايتك، وألبس عليهم ثوب الصحة والعافية والإيمان، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وتقبل اللهم شهداءنا وشهداء المسلمين وتقبل الله منا ومنك أجمعين.
…………………… لجنة الخطب المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(76/5)
اطبع هذه الصحفة
الدعاء هو العبادة
إن المفزع بعد الإيمان هو الدعاء، فهو سلاح يُستدفع به البلاء، ويُردُّ به شرُّ القضاء، ولا شيء أكرمُ على الله من الدّعاء فالله سبحانه يحبُّ ذلك من عبده، وانطراحَه بين يديه، والتوجه بالشكوى إليه، بل أمرهم بذلك ووعدهم الإجابة، فقال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر:60]، وفي الحديث القدسي: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديتُه فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمتُه فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم" [أخرجه مسلم من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 2 من شوال 1426هـ الموافق 4/11/2005م
الدعاء هو العبادة
الحمد الله الذي أمر بالدعاء ووعد عليه الإجابة، وحث على أفعال الخير وجعل جزاءها القبول والإثابة، فسبحانه من كريم جواد، يأمر عباده بالدعاء ويخبرهم أن خزائنه ليس لها نفاذ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا مضاد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الرسل وخلاصة العباد، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أولي البر والرشاد، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد.
……أما بعد:
……فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله، فهي العدة ليوم الشدّة، وهي الزاد ليوم المعاد، قال الله تعالى: { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [البقرة:197]. دخل علي - رضي الله عنه - المقبرة يوماً فقال: "أما المنازل فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، وأما الأزواج فقد نكحت، هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم ؟ ثم قال: "والذي نفسي بيده لو أذن لهم في الكلام لأخبروا أن خير الزاد التقوى".
…أيها المؤمنون:(77/1)
…ليست الحياةُ امتلاء العضلات، ولا قوّةِ الحركات فهذه قوالبُ يشترك فيها بنو آدم مع السباع وبهيمة الأنعام، إنما الحياةُ حياةُ القلوب، حياة الصلة بالله، والاستجابة لأوامره والانزجار عن نواهيه: { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } [الأنعام:122].
أمّا المقطوعون عن الله، البعيدون عن طاعته، فهم أهل الاضطراب والقلق، وأهل الخوف والهلع على الحاضر والمستقبل، قست قلوبهم، ومرجت عهودهم، وتزعزت نفوسهم.
…معاشر المسلمين:
… ولما رأى أهل الإيمان سطوةَ الدنيا بأهلها، وخداعَ الأمل لأربابه، لجؤوا إلى حصن حصين وملجأ مكين، ألا وهو حصن الإيمان، وسلاح الدّعاء، فرّوا إلى جنب الله، والتجؤوا بحماه، لقد أدركوا أن الخلائق فقراء إلى الله، يقول سبحانه وتعالى: { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [فاطر:3].
فمن لم يتفضل الله عليه بالهداية والإيمان، ومغفرة الذنوب ومجانبة العصيان، فهو الهالك في الدنيا والآخرة.
… عباد الله:
… إن المفزع بعد الإيمان هو الدعاء، فهو سلاح يُستدفع به البلاء، ويُردُّ به شرُّ القضاء، ولا شيء أكرمُ على الله من الدّعاء فالله سبحانه يحبُّ ذلك من عبده، وانطراحَه بين يديه، والتوجه بالشكوى إليه، بل أمرهم بذلك ووعدهم الإجابة، فقال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر:60]، وفي الحديث القدسي: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديتُه فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمتُه فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم" [أخرجه مسلم من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -].(77/2)
…أيها المسلمون:
إن التضرع إلى الله، وإظهاَر الحاجِة إليه، والاعترافَ بالافتقار إليه، من أعظم عُرى الإيمان، وبرهان ذلك الدعاء والإلحاح في السؤال، يقول الفاروق عمر- رضي الله عنه -" إني لا أحمل همَّ الإجابة ولكن أحمل هَمَّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء علمت أن الإجابة معه" وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تعجزوا عن الدعاء، فإنه لن يهلك مع الدّعاء أحد" [أخرجه الحاكم].
… ولقد زخرت كتب السّنة بأنواع الدّعاء، تجعل المسلم في صلة بربِّه، وحِرزٍ من عدِّوه، يقضى أمره، ويُكفى همُّه، في كل مناسبة دعاء، في اليقظة والمنام، والحركة والسكون، قياماً وقعوداً وعلى الجنوب، وهل إلى غير الله من مفر، أم هل إلى غيره من ملاذ؟
يا من ألوذ به فيما أأمله … ويا من أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر النّاس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون شيئاً أنت جابره
…دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد ذات يوم، فرأى فيه رجلاً من الأنصار، يقال له أبو أمامة، فقال له النّبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني أراك جالسا في المسجد في غير وقت صلاة"، قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله: قال: "أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همَّك، وقضى عنكَ دينَك" قلت: بلى يا رسول الله قال: " قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدَّين وقهر الرجال" قال: ففعلت ذلك فأذهب الله تعالى هميّ وغمّي وقضى عنى دينى" [أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -].
… أتباع سيد المرسلين:(77/3)
…هنالك مواقف عجيبة، تزيد الإيمان، وترفع الهمّة، وتثبت بالتجرٍبة أن الدعاء سلاح المؤمن، من ذلك ما جرى لعاصم بن ثابت - رضي الله عنه - حين أعطى الله عهداً أن لايمسَّه مشركُُ ولا يمسَّ مشركا أبداً، وكان قبيل استشهاده دعا بقوله: "اللهم إني أحمي لك اليوم دينك فاحمِ لحمي" ولما استشهد أرادت قبيلة هذيل أخذ رأس عاصم - رضي الله عنه - " ليبيعوه على امرأة، نذرت لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر، لأنه - رضي الله عنه - قتل ابنين لها يوم أحد"، فحمى الله جسد عاصم بالدَّبر– وهي ذكور النحل – فلم يستطع أحد من المشركين الاقتراب منه، فأجاب الله دعاءه بأن لم يمسَّ مشركاً ولم يمسَّهُ مشرك لاحياً ولا ميتاً.
… فاتقوا الله أيها المسلمون، وتعلقوا بربكم، وأحسنوا الظن بالله، واعرفوا سننه، وابتعدوا عن أسباب قسوة القلب، لا تغلبنّكم غفلة، أو تقعدنكم شبهة، فإن للدعاء أثره في تحقيق الرغائب، ودفع المصائب، وحصول الطمأنينة، ونزول السكينة.
يقول الله سبحانه: { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ } [غافر:13].
…بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
…الحمد لله الذي بلطفه تنكشف الشدائد، وبالتوكل عليه ودعائه تندفع المكائد، وبالقيام بدينه تهتدي القلوب إلى أجل المقاصد، وأشهد أن لا إله إلا الله له في كل شيء شاهد، يدل على أنه إله واحد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المرسل للغائب من الناس والشاهد، صلى الله عليه وسلم عليه وعلى آل صحبه الأماجد، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المعاد.
…أما بعد:(77/4)
فاتقوا الله وأطيعوه، واجتنبوا عصيانه واحذروه، واعلموا أن الله سبحانه بفضله وكرمه يجيب الدّعاء، ويحقق الرجاء، ويكشف البلاء، غير أن لاستجابة الدعاء شروطا وآدابا وموانع، فمن شروط الدعاء: إخلاص التوحيد لله، ومنها: حضور القلب وقوةُ الرجاءِ بالله تعالى فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة وإن الله تعالى لا يقبل دعاءً من قلب غافل لاهٍ" [أخرجه الترمذي].
…ومن آداب الدّعاء: ألاّ يستعظم َالعبد ذنبه، فالذنوب مهما َعظُمت فعفو الله ومغفرته أعظم، ورحمته أوسع، وفي الحديث القدسي:"يا ابن آدم إنكّ ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ماكان منك ولا أبالي، يا ابن أدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي" [أخرجه الترمذي]، ومنها: أن يبدأ بحمد الله والثناء عليه، ويختمه بالصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
…ومن موانع استجابة الدعاء: أكل الحرام، فآكل الحرام لا تستجاب له دعوة حتى يترك الحرام، وكذا الدعاء بإثم أو قطيعة رحم، أو استعجال الاستجابة، والاستغفار التام الذي يرجى معه المغفرة ما جانب الإصرار على الذنب، وقارنه إقلاع وندم.
…والكيس منا – عباد الله – من اغتنم تلك الأوقات الفاضلة، التي تُرجى فيها إجابة الدّعاء، ومن أعظمها ثلث الليل الآخر حيث نزول الرب جل وعلا.
…وكذلك الدّعاء حال السجود وما بين الأذان والإقامة والدعاء حال السفر وقبيل الإفطار لمن كان صائماً، وفي ساعة الجمعة، كل ذلك مما دَلّ عليه الشرع ليزداد الناس من الخير، ويتقربوا إلى ربهم في مختلف الأحوال والأوقات.(77/5)
…هذا وصلوا وسلموا على إمام الهدى وخير الورى، كما أمركم بذلكم ربكم جل وعلا، فقال عز من قائل: { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } فاللهم صل وسلم على عبدك ونبيك وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، وعين لا تدمع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريب سميع مجيب الدعوات، اللهم وفق أميرنا وولي عهده لهداك، واجعل عملهما في رضاك، اللهم احفظهما بحفظك، واكلأهما برعايتك، وألبس عليهما ثوب الصحة والعافية يارب العالمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
………………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(77/6)
اطبع هذه الصحفة
الأسباب الموجبة لظلال العرش
فمن الأسباب الموجبة لظلال العرش: العدل في الحكم والولاية؛ فالإمام العادل هو صاحب الولاية العظمى ويلحق به كل من ولي من أمور المسلمين شيئاً، وهو الذي يتبع حكم الله فينفق على الرعية، ويقسم بالسوية، ويعدل في القضية، ويرسي دعائم الحق والعدل والمساواة.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 9 من شوال 1426هـ الموافق 11/11/2005 م
الأسباب الموجبة لظلال العرش
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعود بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فأوصيكم - عباد الله – ونفسي بتقوى الله فإن تقوى الله أكرم ما أسررتم، وأجمل ما أظهرتم، وأفضل ما ادخرتم، اتقوا الله في السر والعلن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
أيها المسلمون:
لقد خلق الله – عز وجل- الجنة والنار وخلق لكل منهما أهلاً، وجعل لكل واحدة منهما أسباباً توصل إليها، فحفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، وكل من في السموات والأرض آتي الرحمن عبداً، وملاقيه فرداً، لا حول له ولا قوة.
والأمر عليهم عصيب، والهول عظيم، ساعةَ تُدْنى الشمس من الخلائق حتى تكون منهم مقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون العرق إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى مقعد الإزار منه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -.(78/1)
في هذه الأهوال العظيمة والخطوب الجسيمة، تشتد الكروب، وتفزع القلوب، وتذل الرقاب، ويطول انتظار الحساب، ويلقى الناس من الشدائد ما الله به عليم، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ذلك اليوم العظيم يكون الإنسان أحوج ما يكون فيه إلى ظل يستظل به من لهيب الشمس، ويتخلص به من هول الموقف، وينعم بظل عرش الرحمن، ويركن إلى الطمأنينة والأمان، في ذلك الموقف العصيب يكرم الله أقواماً ويستأثرهم ليكونوا في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فمَن هؤلاء السعداءُ أهلُ الكرامةِ الإلهية وأصحابُ السعادةِ الأبدية؟
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه".
عباد الله:
فمن الأسباب الموجبة لظلال العرش: العدل في الحكم والولاية؛ فالإمام العادل هو صاحب الولاية العظمى ويلحق به كل من ولي من أمور المسلمين شيئاً، وهو الذي يتبع حكم الله فينفق على الرعية، ويقسم بالسوية، ويعدل في القضية، ويرسي دعائم الحق والعدل والمساواة.
عليك بالعدل إن وليت مملكةً… واحذر من الجور فيها غاية الحذر
فالملك يبقى على عدل الكفور ولا… يبقى مع الجور في بدو ولا حضر
ومنها: النشوء في طاعة الله تعالى حباً وإيثاراً لمرضاة ربه على شهوات نفسه، مغتنماً زهرة الشباب ومرحلة القوة والنشاط في طاعة مولاه، قال تعالى: { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [الكهف:13].
وأهوى من الشباب كل مجنبٍ… عن اللهو مقداماً إلى كل طاعةِ
أخو عفة عن كل شيء محرمٍ… وذو رغبة فيما يقود لجنةِ(78/2)
أيها المؤمنون:
ومن الأسباب أيضاً: حب المساجد والتعلق بها منذ خروجه منها حتى يعود إليها، قد شغف بها حباً بقلبه وجسده يشتاق إليها اشتياق الغريب إلى وطنه والمسافر إلى أهله، إن المساجد بالنسبة إليه أنس ولذة وحياة، فهو من عُمّار بيوت الله تعالى الذين قال فيهم: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [التوبة:18].
ومنها: الحب في الله والذي يكون خالصاً لله، ولئن فرقت الأرحام فقد لَمَّ شملَ الإسلام، وهذا دليل صدق الإيمان وأمارة الإحسان، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "أوثق عرى الإيمان: المعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله" [أخرجه الطبراني].
عباد الله:
ومن الأسباب الموجبة لظلال العرش: العفة والخوف من الله، إنها امرأة ذات حسب عريق ونسب شريف، وذات جمال فتان تدعوه ليفجر بها بقوة المنصب وإغراء الجمال فيأبى معتذراً: إني أخاف الله رب العالمين، فجزاه الله على هذه النفس التقية والسريرة النقية أن يظله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله. قال الله تعالى عن نبيه الصديق يوسف عليه السلام: { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [يوسف:23](78/3)
وحقيقٌ أن ينال شرف الاستظلال بظل العرش: مَن أخلص عمله وصدقت نيته لله تعالى، فشكر إذْ أُعطي، وصبر إذِ ابتُلي، وبذل إذ ملك، وحمله إخلاصه لله وصدق توجهه له وابتغاء مرضاته على إخفاء الصدقة عن أعين الناظرين لتكون ذخراً له يوم الدين، فأسر بها صدقة تدفع جوع جائع أو تكسو عري عار، أو تعين معسراً وتنفس عن مكروب، أو تدرأ همّاً عن مهموم، عن عقبة بن عامر- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: "كل امرىء في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس"[أخرجه أحمد].
ولقد أحسن من قال:
… من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
ومن الأسباب كذلك: البكاء من خشية الله تعالى، تذكر ربه بقلبه أو ذكره بلسانه بعيداً عن عيون المخلوقين ففاضت عيناه بالدموع من خشية الله أو شوقاً إليه، ولم يدفعه إلى ذلك حب مراعاة ولا طمع في سمعة، وإنما فاضت عيناه حين تذكر جلال ربه واستحضر عظمته فملأت الخشية جَنانه، وملكت عظمة الرب جوارحه وأركانه.
أيها المسلمون:
هذه أسباب من كان فيه واحد منها فاز بالاستظلال بظل العرش، فاحرص أيها الحبيب أن تكون واحداً منهم وما ذلك عن المشمرين ببعيد.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله تعالى فاستغفره، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، وله الشكر على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد:
فياعباد الله: اتقوا الله وأطيعوه، واجتنبوا عصيانه واحذروه، واعلموا أن من الأسباب الموجبة لظلال عرش الرحمن: إنظار المعسر العاجز عن سداد دينه إلى أن يغنيه الله من فضله، أو حط الدين عنه؛ فعن أبي اليسر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أنظر معسراً أو وضع عنه، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" [ أخرجه مسلم ].(78/4)
…أيها المسلمون:
هذه أسباب تؤهل أصحابها إلى أن يستظلوا بظل العرش يوم القيامة، يوم يجعل الولدان شيباً، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها، يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وعشيرته التي تضمه وتؤويه، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، فاحسبوا لذلك اليوم حسابه، وأعدوا له عدته، وهيئوا للسؤال جواباً صواباً، وخذوا بالأسباب التي تنجيكم من هول المطلع وشر المفزع، واعملوا لتكونوا من هؤلاء السعداء الذين يظلهم الله في ظله، وجدوا وشمروا فاليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل: { وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [البقرة:281].
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات والحافظين لحدود الله والحافظات، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بِرّ، والفوز بالجنة والنجاة من النار، ياعزيز ياغفار، واجعلنا يا ربنا ممن تظلهم بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفق أميرنا وولي عهده لهداك، واجعل عملهما في رضاك، اللهم احفظهما بحفظك، واكلأهما برعايتك، وألبس عليهم ثوب الصحة والعافية والإيمان، يا ذا الجلال والإكرام، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
لجنةالخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(78/5)
اطبع هذه الصحفة
الدين المعاملة
عباد الله:
…بعد ما جاء في شأن معاملة الوالدين والأولاد، لم يغفل ديننا الحنيف شأن الزوجة، بل أولاها عناية بالغة، بدعوته إلى اختيار المرأة الصالحة قبل الزواج بها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" [متفق عليه] وخاطب أولياء المرأة: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" [أخرجه الترمذي].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 16 من شوال 1426هـ الموافق 18/11/2005م
الدين المعاملة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، أكمل الدين، وأتم النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير من بلغ عن ربه، وأفضل رسله وخلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه، وتمسك بسنته، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
…فأوصيكم عباد الله ونفسي المقصرة بتقوى الله، فإنه من اتقاه وقاه وكفاه.
أيها المؤمنون:
إن الله تعالى قد نسخ بالإسلام ما قبله من الشرائع، وختم بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من قبله من الأنبياء والرسل، وأنزل القرآن مهيمناً على الكتب كلها، ضمنه وحيه وشرعه وهداه، قال الله تعالى: { الْيَوْمَ ألَْكْمَتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } [المائدة :3].
…يمن الله على عباده بإكمال الدين لهم وإتمامه، فهي نعمة تفوق نعمة المأكل والمشرب، فقد كان يمر على أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الهلال والهلالان والثلاثة لا يوقد في بيته نار، وكان أغلب طعامه الأسودان ـ التمر والماء ـ ونعمة كمال الدين أعظم من نعمة الملبس، فقد كان بعض الصحابة لا يملك إلا إزاراً يستر به عورته.(79/1)
…ومن كمال هذا الدين وجماله وعمومه وشموله، ومما يبعث على الفخر والاعتزاز بالانتماء إليه، ما أوضحه من علاقة المسلم بغيره ابتداءً بخالقه ومولاه، ومروراً بالخلق من حوله: من الوالدين، والأولاد، والزوجة، وذوى الأرحام، والجيران، والأصدقاء، والمخالفين، وانتهاءً بالعجماوات من البهائم والحيوانات، والبيئة، والنظافة، وغيرها.
… فقد نظم ديننا الحنيف هذه العلاقة، فأمر المسلم بالقصد في العبادة، فلا غلو ولاجفاء، ولا إفراط ولا تفريط، فالمسلم وسط في عبادته لربه – سبحانه وتعالى – وقد ظهر ذلك واضحاً جلياً في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا نعس أحدكم وهو يصلى، فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس، لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه" [متفق عليه]، قال أنس - رضي الله عنه -: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا حبل بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل ؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت - أي كسلت - تعلقت به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حُلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد" [متفق عليه]. وقال سلمان الفارسي - رضي الله عنه - مخاطباً أبا الدرداء - رضي الله عنه -: "إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه" فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صدق سلمان" [أخرجه البخاري].
إخوة الإيمان:(79/2)
لم تكتف الشريعة ببيان العلاقة والمعاملة بين المخلوق وخالقه، بل أوضحت ما ينبغي أن يكون بينه وبين الخلق من حوله، فأمرت بالإحسان إلى الوالدين، قال تعالى: { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [النساء:36]. وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: "الصلاة لوقتها"، قيل: ثم أي ؟ قال: "بر الوالدين" قيل ثم أي ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" [متفق عليه].
…وكذلك أمر ديننا الحنيف بالإحسان إلى الأولاد، فأمر بتربيتهم وحسن رعايتهم، وحذر من إضاعتهم، وفي الحديث "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت" [أخرجه أبو داود]. ودعا إلى تأديبهم وتعليمهم كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع" [أخرجه أبو داود]، وحث على الحنو عليهم واللطف بهم حال تأديبهم، وأمر بالرحمة بهم.
……عباد الله:
…بعد ما جاء في شأن معاملة الوالدين والأولاد، لم يغفل ديننا الحنيف شأن الزوجة، بل أولاها عناية بالغة، بدعوته إلى اختيار المرأة الصالحة قبل الزواج بها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" [متفق عليه] وخاطب أولياء المرأة: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" [أخرجه الترمذي].(79/3)
…وحث ديننا على الإحسان إلى المرأة ومعاشرتها بالمعروف، فقال سبحانه: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } [النساء:19]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يفرك ـ أي لا يبغض ـ مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقاً رضي منها آخر" [أخرجه مسلم]،وهذا لتدوم العشرة وتستمر الحياة الزوجية، وتتجاوز المشكلات التي تعصف بها.
… أيها الإخوة الكرام:
دعت شريعتنا السمحة إلى صلة ذوي الأرحام، وبينت أن الصلة ليست بالمكافأة، وإنما بوصل الجميع حتى من قطع رحمه، وفي الحديث: "ليس الواصل بالمكافىء، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها"[أخرجه البخاري]، ورتبت من الفضل على صلة الأرحام الشيء الكثير، فجعلتها سبباً لسعة الرزق وطول العمر، ففي الحديث: "من أحب أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه" [أخرجه البخاري].
…ومن جمال الدين وكماله اهتمامه بالجار، فقد حض على الإحسان إليه، وأمر بكف الأذى عنه،قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" [متفق عليه].
عباد الله:
…لم تكتف الشريعة بما سبق من بيان العلاقة بالآخرين وطريقة المعاملة، بل بينت الطريقة المثلى في اختيار الصديق والصاحب، وحثت على حسم الاختيار، ففي الحديث: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" [أخرجه أبو داود]. وفي المقابل أوضحت السبيل في التعامل مع المخالف مسلماً كان أو غيره، من ذمي أو معاهد أو مستأمن. كل ذلك جاء واضحاً جلياً، فلله الحمد أن هدانا للإسلام وجعلنا من عباده المسلمين.
…بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية(79/4)
الحمد لله رب العالمين، أحمده على نعمه التي لا تزال تتوالى على العباد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً خاتم النبيين وإمام المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وأصلحوا ذات بينكم، واعلموا أن دين الإسلام دين عظيم، يجب على المسلم أن يعتز بانتمائه إليه، حيث لم يغفل عن إحسان المعاملة حتى مع البهائم والحيوانات، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" [أخرجه مسلم].
…وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -: قصتين لامرأتين، للعظة والعبرة والعمل، إحداهما دخلت النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" [متفق عليه] والأخرى" رجل رأى كلباً يأكل الثرى من العطش فأخذ الرجل خفه وجعل يغرف له به حتى أرواه فشكر الله له فأدخله الجنة" [أخرجه البخاري].
…عباد الله:
…لم يقف الإسلام بجماله عند هذا الحد، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فشرع للعباد سنن الفطرة، وحث على النظافة، فأمر بالاغتسال يوم الجمعة، وأمر بتنظيف الأفنية والدور، ونهانا عن التشبه باليهود. كل ذلك يدل دلالة واضحة على جمال هذا الدين، وحسن العلاقة والمعاملة المقصودة بين المسلم وغيره. فما أجمل هذا الدين! وأكمله وأعظمه!.
…ثم اعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى فيه بملائكته، وثلث بأمر المؤمنين به، فقال سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [الأحزاب:56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى علي واحدة، صلى الله عليه بها عشرا"[أخرجه مسلم].(79/5)
اللهم صل على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عنِ الأربعةِ الخلفاءِ الأئمةِ الحنفاءِ: أبي بكر الصديقِ، وعمرَ الفاروقَ، وذي النورين عثمانَ، وأبي السبطينِ علي، وعن بقيةِ أصحابِ نبيِك الطيبينَ وأزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وعن التابعينَ ومن تَبِعَهم بإحسان إلى يومِ الدين، وعنا معَهُم بمنِك وكرمِك يا ربَ العالمين.
… اللهم اغفر للمسلمينَ والمسلماتِ، والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياء مِنهُم والأمواتِ، إنك يا ربَنا سميع قريب مجيب الدعواتِ، اللهم احفظ سمو أميرَ البلادِ، وسمو ولي عهدِهِ الأمينِ، وألبسهما ثوبَ الصحةِ والعافيةِ يا أرحمَ الراحمينَ، واجعل بلدَنا هذا آمناً مطمئناً سخاءً، وسائرَ بلادِ المسلمين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(79/6)
اطبع هذه الصحفة
الإسلام وسلامة البيئة
فإن نعم الله على عباده لا يحيط بها حصر ولا تعد، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم:34]
ومن نعم الله تعالى علينا أن هيأ لنا في كونه الفسيح كل ما فيه سلامتنا وصحة أنفسنا وأبداننا قال تعالى: {والأرض وضعها للأنام * فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان} [الرحمن: 10ـ 12] فقد هيأ الله تعالى الأرض لحياة المخلوقات وقدر فيها جميع أسباب الحياة، مما لو تدبره الإنسان لاهتدى إلى الإيمان بالله تعالى، واستجاب لدعوة الرسل الكرام وصدق الله العظيم إذ يقول: {قل أ إنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين* ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أوكرهاً قالتا أتينا طائعين} [فصلت11:9]. فهذه الآيات الكونية التي أودعتها يد القدرة الإلهية في الأرض التي ندب عليها, والسماوات التي تظلنا، فيها من العظة والعبرة ما يهدي كل عاقل إلى الإيمان بالله تعالى {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} [ق : 37]
الإسلام وسلامة البيئة
الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، سبحانه هو الخالق القادر، وهو العليم الخبير، خلق فأبدع، وقدر فهدى، بيده ملكوت السماوات والأرض، أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وإليه النشور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده الملك، وهو على كل شئ قدير.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، رسول الهداية ونبي الرحمة، امتدحه رب العزة بقوله {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107] صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن نعم الله على عباده لا يحيط بها حصر ولا تعد، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم:34](80/1)
ومن نعم الله تعالى علينا أن هيأ لنا في كونه الفسيح كل ما فيه سلامتنا وصحة أنفسنا وأبداننا قال تعالى: {والأرض وضعها للأنام * فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان} [الرحمن: 10ـ 12] فقد هيأ الله تعالى الأرض لحياة المخلوقات وقدر فيها جميع أسباب الحياة، مما لو تدبره الإنسان لاهتدى إلى الإيمان بالله تعالى، واستجاب لدعوة الرسل الكرام وصدق الله العظيم إذ يقول: {قل أ إنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين* ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أوكرهاً قالتا أتينا طائعين} [فصلت11:9]. فهذه الآيات الكونية التي أودعتها يد القدرة الإلهية في الأرض التي ندب عليها, والسماوات التي تظلنا، فيها من العظة والعبرة ما يهدي كل عاقل إلى الإيمان بالله تعالى {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} [ق : 37]
( 2 )
والله تعالى يحذرنا من إفساد البيئة بما نقترفه في حقها من ممارسات غير سليمة في قوله تعالى:
{ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 41].(80/2)
فهذه الآيات البينات شواهد واضحات وعظات بالغات لبني الإنسان جميعاً ترينا أن ما ظهر من آفات في الأرض وما دب في جنباتها من فساد، وما تعرضت له من بوار كله بسبب النشاط الإنساني غير السوي، فهذه المخلفات الصناعية والعوادم والتفجيرات النووية وتدمير آبار النفط وإشعال النيران فيها عمداً وإحراق آلاف الأطنان من النفط على يد جنود طاغية العراق شواهد ملموسة وممارسات عشناها ولا نزال نعاني من آثارها ، وما الأمراض النفسية والعضوية التي تفتك ببني الإنسان جميعاً إلا من آثار هذا الفساد والإفساد الذي جنته يد الناس كما تقرر ذلك الآية الكريمة {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} [الروم: 41]، فليس الفساد المراد هنا مقصوراً على الذنوب والمعاصي في عدم التزام أحكام الشرع، وإنما يمتد إلى ما يقترفه الإنسان من عدوان وتدمير لمكونات البيئة التي خلقها الله وجعلها صالحة لحياة الإنسان والكائنات الحية الأخرى فهذا العدوان كفر بنعم الله تعالى وخروج عن طاعته.
والرسول يهدينا إلى عمارة الأرض ونشر الخير في جنباتها وبذل ثمراتها للإنسان والطير والحيوان في حديثه الشريف. "لا يغرس المسلم غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شئ إلا كانت له صدقة" [رواه مسلم].(80/3)
وقد حرم الإسلام إفساد المياه أو تعريض الأماكن التي يرتادها الناس بإلقاء الفضلات فيها وما ذلك إلا لحرص الإسلام على سلامة البيئة ونظافتها فقد نهى الإسلام عن التبول في الماء الراكد وفي الظل، وقس عليها كل ما يلوث البيئة ويفسد الفطرة التي فطر الله الكون عليها، وجعل إماطة الأذى عن الطريق صدقة يثاب فاعلها في قوله تعالي"وتميط الأذى عن الطريق صدقة" [رواه مسلم]، فالعناية بالطريق واجب ديني، لأن الناس جميعاً يرتادونه وينشدون السلامة من وراء السير في الطرقات المعبدة وما نراه كل يوم من الحوادث المفجعة على الطرقات التي جعلت لتيسير الوصول إلى المنافع وقضاء المصالح ما هو إلا لون بشع من ألوان العدوان على البيئة.
ويذهب الإسلام إلى ما هو أبعد من ذلك حينما يقرر أن مجرد إزالة ما قد يكون على الطريق من مفاجآت أو عقبات عمل من أعمال البر يثاب عليه فاعله جزاء من عند الله تعالى يشير لذلك حديث
( 3 )
المصطفى(صلي الله عليه وسلم) "وتميط الأذى عن الطريق صدقة" وقس على ذلك إزالة كل ما يؤذي الناس من شتى أنواع الملوثات في الجو والبر والبحر وكل ذلك عمل صالح يثاب فاعله ، وواجبنا أن نشيد به. ونكرمه، ونجعل منه قدوة حسنة في مجتمعه، والعالم من حولنا يتنادى للعناية بالبيئة وحمايتها من التلوث والتدمير والعدوان الجائر على مكوناتها الطبيعية، وقد كانت الكويت سباقة في هذا المجال فأسست " الجمعية الكويتية لحماية البيئة" منذ عام 1974، وحددت أهدافها التي تتركز حول حماية البيئة ومكافحة التلوث، ونشر الفكر البيئي، وحماية مصادر الثروة الطبيعية، والاهتمام بالنواحي التربوية والثقافية والإعلامية والاجتماعية المتعلقة بحماية البيئة، وقد باشرت الجمعية نشاطات عديدة في مجال المحافظة على البيئة وحمايتها مثل إصدار كتيبات عن البيئة، ونشرات تعالج قضاياها، وتأليف القصص المناسبة للأطفال، وتنظيم الندوات والمحاضرات.(80/4)
وهذه كلها جهود تطوعية تدعونا للإسهام فيها وتسخير جانب من أوقاتنا وإمكاناتنا لتعزيز دورها الفاعل في حماية البيئة والمحافظة عليها، لنكون من السابقين بالخيرات المسارعين فيها، {أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} [المؤمنون: 61].
وواجبنا أن نكون وقافين عند أمر الله تعالى وسنة رسوله الكريم تعبداً لله تعالى بطاعته واقتداء بالرسول الكريم في سنته، فعلينا أن نأخذ أولادنا منذ نعومة أظافرهم بأدب الإسلام وفي توجيه الرسول صلوات الله وسلامه عليه لنا تجاه الأبناء بأن نأمرهم بالصلاة لسبع ونضربهم عليها لعشر دلالات واضحة على أن الواجب علينا أن نأخذ أبناءنا بكل أدب حسن فالصلاة تتطلب الطهارة والطهارة قمة النظافة كما جاء بها الإسلام، طهارة الجسد والثوب والمكان.
ويجدر بالمسلمين أن يكونوا في موضع القيادة والريادة لبني الإنسان جميعاً في مجال المحافظة على البيئة والعناية بها، وتوفير سلامتها، والمسئولية هنا فردية قبل أن تكون جماعية، وما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا توجيه رباني لنا ليستقيم سلوكنا في هذه الحياة {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} [الحج: 41]
ونحن والحمد لله في الكويت لنا قدم ثابتة في مجال العمل التطوعي من إنشاء المدارس والمستشفيات وتعمير المساجد والمسارعة إلى الوقف على جهات الخير يشهد بذلك تاريخنا القديم وحاضرنا الجديد
وأولى بنا أن نوجه عناية خاصة لحماية البيئة التي نعايشها فتلك قمة الشكر لله تعالى، والله تعالى يقول في محكم كتابه: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم: 7] فالشكر ليس كلمات تردد.
( 4 )(80/5)
على الشفاه، وإنما هو سلوك عملي يتمثل في الطاعة لأوامر الشرع والتزام أحكامه وآدابه، فليس هناك بعد طاعة الله تعالى من غاية يسعى إليها الإنسان، والدعوة إلى حماية البيئة والعناية بها والمحافظة على مكوناتها الطبيعية واجب كل مسلم، و الله تعالى يعلمنا بصورة عملية المحافظة على مكونات البيئة ونحن نؤدي فريضة الحج فلا نقتل صيداً ولا نقلع شجراً {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة: 96]، وليس هناك أبلغ من هذا الدرس الرباني في تربية المسلم.
والله نسأل أن يوفقنا إلى كل ما يحب ويرضى.
وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(80/6)
اطبع هذه الصحفة
الإمام أحمد بن حنبل
عباد الله المؤمنين:
إن الإمامة في الدين؛ إنما تنال بالصبر واليقين، كما قال رب العالمين: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة:24].
ألا وإن من علماء الأمة الربانيين، الذين أخذوا بحظ وافر من ميراث خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، واجتمعت قلوب المؤمنين، على الإقرار بإمامته في الدين: من قال عنه الإمام الشافعي - رحمه الله-: " خرجت من بغداد، فما خلفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى منه"، إنه العالم بحقٍّ، والعامل بصدقٍ: أبوعبدالله، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني- رحمه الله - وها نحن اليوم معشر الإخوة البررة: تتعطر أسماعنا بسيرته العملية العطرة، وتتهذب طباعنا بمسيرته العلمية النضرة.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
23 من شوال 1426هـ الموافق 25 /11/2005م
الإمام أحمد بن حنبل
الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، اختار من عباده من شاء، فاصطفاهم وجعل منهم المرسلين والأنبياء، ثم ورث علمهم الصالحين العلماء، وأجزل لهم الفضل والعطاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالعظمة والكبرياء، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أشرف راكب استقلت به البيداء، - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأزواجه وأصحابه الذين نالوا بصحبته الفخر والعلاء.
أما بعد:(81/1)
فأوصيكم عباد الله ونفسي بالتقوى، فهي العروة الوثقى، وهي لنيل العلم آكد سبب وأقوى، { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة:282]، واعلموا أن فضل الله العظيم؛ على نبيه الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: إنما هو بالوحي والتعليم، كما قال العليم الحكيم: { وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [النساء:113].
عباد الله المؤمنين:
إن الإمامة في الدين؛ إنما تنال بالصبر واليقين، كما قال رب العالمين: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة:24].
ألا وإن من علماء الأمة الربانيين، الذين أخذوا بحظ وافر من ميراث خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، واجتمعت قلوب المؤمنين، على الإقرار بإمامته في الدين: من قال عنه الإمام الشافعي - رحمه الله-: " خرجت من بغداد، فما خلفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى منه"، إنه العالم بحقٍّ، والعامل بصدقٍ: أبوعبدالله، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني- رحمه الله - وها نحن اليوم معشر الإخوة البررة: تتعطر أسماعنا بسيرته العملية العطرة، وتتهذب طباعنا بمسيرته العلمية النضرة.
فأما الجوانب الأسرية من سيرة الإمام أحمد - رحمه الله -:
فلا بد من التنبيه، إلى حسن معاملته لزوجه وبنيه، فهو معروف المعشر لأهله، بقوله وفعله: قال المروذي - رحمه الله -: "سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: أقامت معي أم صالح ثلاثين سنة، فما اختلفت أنا وهي في كلمة "، وفي تحننه لأبنائه، وتعاهدهم برقيته ودعائه: يقول ابنه صالح - رحمه الله -: "ربما اعتللت، فيأخذ أبي قدحاً فيه ماء، فيقرأ فيه، ثم يقول: اشرب منه، واغسل وجهك ويديك".
وأما الجوانب الاجتماعية والأخلاقية من سيرته:(81/2)
فقد أثر عنه الحرص على نضارة مظهره، الذي هو مكمل لطهارة مخبره، قال عبد الملك بن عبد الحميد الميموني - رحمه الله -: "ما أعلم أني رأيت أحداً أنظف بدناً، ولا أشدَّ تعاهداً لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوباً بشدة بياض: من أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -".
وكان محباً للفقراء، مجتنباً لأهل الفخر والخيلاء، قال المروذي - رحمه الله -: "لم أر الفقير في مجلس أعزَّ منه في مجلس أحمد، كان مائلاً إليهم، مقصراً عن أهل الدنيا".
ويا مبتلى بأذى جاره، استمع لهذا الخبر من أخباره، قال المروذي - رحمه الله –: "كان أبوعبد الله لا يجهل، وإن جهل عليه حلم واحتمل، ويقول: يكفي الله، ولم يكن بالحقود ولا العجول، كثير التواضع، حسن الخلق، دائم البشر، لين الجانب، ليس بفظ، وكان يحب في الله، ويبغض في الله، وإذا كان في أمر من الدين: اشتد له غضبه، وكان يحتمل الأذى من الجيران".
وأما الجوانب التعليمية من سيرة الإمام أحمد - رحمه الله -:
فاستمع أيها المعلم الحكيم، إلى هديه في باب التعليم: كان لا يستنكف أن يحيل السائل، إلى من هو أعلم منه في جواب بعض المسائل، قال محمد ابن أبي بشر - رحمه الله -: "أتيت أحمد بن حنبل في مسألة فقال: ائت أبا عبيد فإن له بياناً لا تسمعه من غيره. فأتيته فشفاني جوابه، فأخبرته بقول أحمد فقال: ذاك رجل من عمال الله – أي: من عباد الله -، نشر الله رداء عمله، وذخر له عنده الزلفى، أما تراه محبوباً ؟ ما رأت عيني بالعراق رجلاً اجتمعت فيه خصال هي فيه، فبارك الله له فيما أعطاه من الحلم والعلم والفهم".
واستمع أيها المسلم الكريم، إلى شدة تعظيمه لأحاديث النبي العظيم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، قال المروذي- رحمه الله–: "قال لي أحمد: ما كتبت حديثاً إلا وقد عملت به، حتى مرَّ بي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -احتجم وأعطى أبا طيبة ديناراً،فأعطيت الحجام ديناراً حين احتجمت".(81/3)
وأما الجوانب التعبدية من سيرته:
فيفيدك أيها العابد العامل، من سيرة هذا الإمام الفاضل: عدم اكتراثك بالمدح فليس من وراءه طائل، قال المروذي - رحمه الله – : "قلت لأبي عبدالله: إني لأرجو أن يكون يدعى لك في جميع الأمصار. فقال: يا أبا بكر؛ إذا عرف الرجل نفسه فما ينفعه كلام الناس ؟".
ومن ذلك: تواضعه للخلق، ومعاشرتهم بالرفق، قال يحيى بن معين - رحمه الله –: "ما رأيت مثل أحمد، صحبناه خمسين سنة، ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير"، ومما يظهر لك خشية قلبه، التي هي ثمرة علمه بربه، قول المروذي – رحمه الله – : "كان أبو عبد الله إذا ذكر الموت: خنقته العبرة، وكان يقول: الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب، وإذا ذكرت الموت: هان عليَّ كل أمر الدنيا، إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل، ما أعدل بالفقر شيئاً، ولو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذكر".
وأما جوانب السياسة الشرعية من سيرة الإمام أحمد المرضية:
فكان ينكر الخروج على ولاة الأمور، لما يترتب عليه من المفاسد والشرور، قال أبو الحارث أحمد بن محمد - رحمه الله -: "سألت أبا عبد الله في أمر كان حدث ببغداد، وهمَّ قوم بالخروج، فقلت: يا أبا عبد الله، ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم ؟ فأنكر ذلك عليهم، وجعل يقول: سبحان الله، الدماء الدماء، لا أرى ذلك ولا آمر به، الصبر على ما نحن فيه: خير من الفتنة، يسفك فيها الدماء، ويستباح فيها الأموال، وينتهك فيها المحارم، أما علمت ما كان الناس فيه أيام الفتنة ؟ قلت: والناس اليوم أليس هم في فتنة يا أبا عبد الله ؟ فقال: وإن كان، فإنما هي فتنة خاصة، فإذا وقع السيف: عمت الفتنة، وانقطعت السبل، الصبر على هذا ويسلم لك دينك: خير لك، ورأيته ينكر الخروج على الأئمة، وقال: الدماء، لا أرى ذلك، ولا آمر به".(81/4)
بل بلغ به الأمر، إلى العفو عمن ظلمه من ولاة الأمر، قال الخرقي - رحمه الله -: "بت مع أحمد بن حنبل ليلة، فلم أره ينام إلا يبكي، إلى أن أصبح، فقلت: أبا عبد الله، كثر بكاؤك الليلة، فما السبب ؟ فقال لي: ذكرت ضرب المعتصم إياي، ومرَّ بي في الدرس: { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } [الشورى:40]، فسجدت وأحللته من ضربي في السجود".
أضحى ابن حنبل محنة مأمونة وبحب أحمد يعرف المتنسك
وإذا رأيت لأحمد متنقصاً فاعلم بأن ستوره ستهتك
بارك الله لي ولكم في الفرقان والذكر الحكيم، ووفقنا للاعتصام به وبما كان عليه النبيُّ الكريم؛ من الخلق العظيم، والهدي القويم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله الغفورَ الحليم، لي ولكم من كل ذنب فتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذي أكرمَ بالإسلامِ أولياءَه، وشرَّف بالإيمانِ أصفياءَه، وأقام بالميزانِ والعدلِ أرضَه وسماءَه، أحمدُ ربِّي حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيهِ يُكافئِ نَعماءَه، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ شهادةً أدَّخِرُها ليومِ لقائِه، وأشهدُ أنَّ نبينَا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه خاتم رسلِ اللهِ وأنبيائِه، - صلى الله عليه وسلم - وعلى آلهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ الذين اصطفاهم اللهُ لنصرةِ نبيِّهِ واقتفائِهِ.
أما بعد:
فاتقوا الله معشر المؤمنين، فتقوى الله خير زاد يلحقكم بركب الصالحين، ويجعل لكم لسان صدق في الآخرين. وهذه شذرة ذهب، من سيرة من غبر وذهب، تثبت تقلب الفؤاد، وتهدي لسبيل الرشاد، وقد ترجَّل الإمام أحمد - رحمه الله - عن منصب الإمامة، وانتقل من هذه الدار إلى أول منازل القيامة: في يوم الجمعة؛ لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، سنة إحدى وأربعين ومئتين، وهو ابن سبع وسبعين سنة.(81/5)
فاللهم اغفر لهذا الإمام وارحمه، وتب عليه وعافه واعف عنه، واجعل له لسان صدق في الآخرين، واجعله من ورثة جنة النعيم.
ومسك الختام، معشر الإخوة الكرام: ترطيب الأفواه بالصلاة والسلام، على أسوة الأنام، وقدوة كل إمام، امتثالاً لأمر الملك القدوس السلام، حيث قال في خير كلام: { إنَّ اللهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبيِّ؛ يَأيُّها الذينَ آمنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً } [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، وبارك على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما باركت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، في العالمينَ، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عن الأربعةِ الخلفاءِ الراشدين، والأئمةِ الحنفاءِ المهديِّين، أولي الفضلِ الجليِّ، والقدرِ العليِّ: أبي بكرٍ وعمرَ وعُثمانَ وعليِّ، وارض اللهم عن آلِ نبيِّكَ وأزواجِهِ المُطَهَّرِين من الأرجاس، وصحابتِه الصفوةِ الأخيارِ من الناس.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنينن والمؤمنات، الأحياءِ منهم والأمواتِ، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وادفع عنا الفتن والشرور، وأصلح لنا ولاة الأمور، واشرح لتحكيم كتابك الصدور، وألبس أميرنا وولي عهده ثوب الصحة والعافية والطهور، برحمتك يا عزيزُ يا غفور.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(81/6)
اطبع هذه الصحفة
ولقد كرمنا بني آدم
…عباد الله:
…لقد كرم الله تعالى أبانا آدم – عليه السلام – حين خلقه بيديه، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، خلقه في أعدل نظام، وأحسن صورة وهداه إلى أنواع من العلم والمعرفة التي يتوصل بها إلى تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة، وحباه من النعم ما لا يعد ولا يحصى، فسخر له سبحانه ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه، واستخلفه في الأرض ليعمرها { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [الإسراء:70].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 30 شوال 1426هـ الموافق 2/12/2005م
ولقد كرمنا بني آدم
…الحمد لله الرحيم الغفار، الكريم القهار، مقلب القلوب والأبصار، عالم الجهر والإسرار، أحمده حمداً دائماً بالعشي والإبكار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها من عذاب النار، وأشهد أن محمداً نبيه المختار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أهل التعظيم والإكبار، صلاةً وسلاماً تامين باقيين بقاء الليل والنهار.
…أما بعد:
…فأوصيكم - عباد الله - ونفسي بتقوى الله تعالى: { وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [البقرة:281].
…عباد الله:(82/1)
…لقد كرم الله تعالى أبانا آدم – عليه السلام – حين خلقه بيديه، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، خلقه في أعدل نظام، وأحسن صورة وهداه إلى أنواع من العلم والمعرفة التي يتوصل بها إلى تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة، وحباه من النعم ما لا يعد ولا يحصى، فسخر له سبحانه ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه، واستخلفه في الأرض ليعمرها { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [الإسراء:70].
…معاشر المسلمين:
…إن من العادات الجاهلية والصفات السيئة التي لا يكاد يخلو منها عصر ولا مصر، تعظيم الآباء والأجداد والتفاخر بالأحساب والأنساب، ولو كان على حساب الدين والأخلاق.
لقد ألغى الإسلام مفاهيم التفاضل الطبقي بين الناس على أساس المال والحسب، أو الأصل والنسب، أو الولاية والمنصب، أو اللون والعرق وعمل على تربية المسلمين على التآلف والتآخي، وغرس الميزان الصحيح للتفاضل بينهم.
فالناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء
…أخرج ابن خزيمة وابن حبان عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: "خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح فقال : " أما بعد أيها الناس : فإن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها، الناس رجلان : مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، ثم تلا: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } [الحجرات :13]
…إخوة الإسلام:(82/2)
…إن تكريم الناس واحترامهم وإنزالهم منازلهم من أجل ما دعا إليه الإسلام، وحث على العناية به، قالت عائشة - رضي الله عنها - "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننزل الناس منازلهم"[أخرجه مسلم].
…نعم عباد الله: إن في الناس كبيراً رق عظمه وشاب شعره يجب توقيره واحترامه، ومعرفة سبقه وقدره، وفيهم صغير يحتاج إلى الرحمة والعطف، والتقويم في غير عنف، وفيهم عالم فضله على غيره عظيم يجب توقيره لعلمه، ومعرفة فضله واحترامه، وفيهم : صاحب منصب أو جاه ينتفع به الناس، يجب أن تحفظ له مكانته، كل ذلك ماداموا قائمين بشرع الله تعالى ممتثلين لأوامره، مجتنبين نواهيه يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: "ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه"[أخرجه أحمد من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -].
…أيها المؤمنون:
…إن قناعة المسلم بتكريم الله تعالى له ولغيره من البشر تجعله يحافظ على أرواح الناس ويبتعد عن إيذائهم؛ لأنه مطالب بتكريم من أكرمه الله ورسوله، فإن من أكرمه الله ورسوله ينبغي ألا يهان، ومن يهن الله فما له من مكرم، يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أوحى إليً أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد" [أخرجه مسلم عن عياض بن حمار - رضي الله عنه -].
…إخوة الإيمان:(82/3)
…إن تكريم الإنسان لخادمه ومن تحت يده كما أمر الإسلام كفيل بأن يقضي على الحقد والحسد، من هؤلاء الخدم الذين قد تدفعهم الإهانات المنافية لكرامة الإنسان، إلى ارتكاب حماقات تصل إلى القتل والانتحار أحياناً قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إن أنساً غلاماً كيس فليخدمك، قال: "فخدمته في السفر والحضر. ما قال لي لشيء صنعته لم صنعت هذا وهكذا ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع هذا وهكذا" [أخرجه البخاري ومسلم].
وفي رواية لمسلم: " كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خلقاً فأرسلني يوماً لحاجة فقلت: والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه هو يضحك، فقال: يا أنيس! أذهبت حيث أمرتك؟ قال: قلت نعم! أنا أذهب يا رسول الله".
…عباد الله:
…إن من إكرام بني آدم احترام الزوجات، ومعاملتهن بالأخلاق الطيبات، وإن بدا منهن خطأ أو زلل، فالواجب الصبر والتعقل، ولا يصل الحال إلى التلفظ بالكلام الجارح، أو الضرب المبرح.
…ومما يستوجب التذكير والتنبيه: ما يلاقيه العمال من تأخير رواتبهم، ومطلهم حقوقهم، فتجد العامل على قلة راتبه، ومشقة عمله، تراه يكد ويكدح، ويسعى ليربح، ثم يفاجأ بعكس ما يتمنى، فتسوء أحواله، وتضيق نفسه.
…فاتقوا الله عباد الله، وتراحموا فيما بينكم، واعرفوا لكل حقه، وأنزلوه منزلته، يحفظ الله لكم قوتكم وترابطكم.
…بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الهدى والبيان، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية(82/4)
… الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد:
…فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه ولا تعصوه، واعلموا أنكم ملاقوه.
عباد الله:
إن مقاييس كثير من البشر في تصنيف الناس والنظر إليهم وتقويمهم مقاييس فاسدة، وإن احتقار الناس وعدم معرفة أقدارهم من الأمراض الاجتماعية الخطيرة، جاء في الحديث الصحيح :"المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره – التقوى ها هنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه"[ أخرجه مسلم]، والمعنى يكفيه من الشر أن يحقر أخاه المسلم لتكبره عليه، والكبر من أعظم خصال الشر.
…قال رجل لعمر بن عبد العزيز :"اجعل كبير المسلمين عندك أبا، وصغيرهم ابنا، وأوسطهم أخا، فأي أولئك تحب أن تسيء إليه".
ثم صلوا وسلموا رحمكم الله على المبعوث رحمة للعالمين كما أمر ربكم جل وعلا فقال عز من قائل { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [الأحزاب:56] .(82/5)
…اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق أميرنا وولي عهده لهداك، واجعل عملهما في رضاك، اللهم احفظهما بحفظك، واكلأهما برعايتك، وألبسهما ثوب الصحة والعافية والإيمان، ياذا الجلال والإكرام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
………………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(82/6)
اطبع هذه الصحفة
عوامل النجاح في بناء الأسرة
عباد الله:
وأما الأمر الثاني لنجاح بناء الأسرة: فهو أن يكون همُّ الأسرة الأعظم، وهدفها الأكبر: هو حياة الآخرة وما عند الله تعالى، وأن تكون الحياة الدنيا وسيلة عبور، ودار مرور، يستعين بها المرء للوصول إلى طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن هذا هو الغاية التي من أجلها خلقنا الله تعالى في هذه الدنيا، وهذا هو طريق الراحة والسعادة، وسبيل الأمان والاطمئنان، كيف لا والله تعالى يقول في محكم كتابه المبين: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [القصص:77 ]، ويقول سبحانه: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [فاطر:5]، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت الدنيا همه، فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة" [أخرجه ابن ماجه من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -].
الخطبة المذاعة والموزعة
بتاريخ 7 من ذي القعدة 1426هـ الموافق 9/12/2005م
عوامل النجاح في بناء الأسرة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
…أما بعد:(83/1)
فأوصيكم – عباد الله – ونفسي أولاً بتقوى الله تعالى وطاعته، قال الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [آل عمران: 102].
أيها المؤمنون:
إن مما أراده الله سبحانه وتعالى لعباده وارتضاه: أن يكون لهم أزواج وذرية، فحث سبحانه على ذلك، وبين أنه من نعمه وأنه من سنن المرسلين، فقال سبحانه: { وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } [النحل:72]، وقال تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } [الرعد:38].
فيا لها من نعمة عظيمة، ومنة كريمة، أن يكون للإنسان زوجة تقية، وأولاد صالحون، يأتمرون بأمر ربهم، وينتهون عن نواهيه، فيكون ذلك في ميزان أعمال والدَيهم؛ إذ الولد من كسب أبيه، كما ثبت في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكتب الأجر للوالدين حتى بعد مماتهما، ففي صحيح مسلم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".(83/2)
وكم هو أمر جسيم، وخطْب عظيم، في واقع الناس كلهم وحياتهم، أن تصلح الأسرة أو تفسد؛ إذ بصلاح الأسرة يصيب الخيرُ باقيَ الأسر، وبفسادها يصيب الشر باقيَها، ويلمس كل فرد في المجتمع أثرَ ذلك في نفسه وزوجه وأولاده؛ فإنّ سفينة الحياة واحدة، وما يصيب الفرد يصيب الآخر، كما أوضح النبي الكريم هذا المعنى العظيم، بأروع مثال وأحسن مقال، فقال: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا – أي : اقترعوا - على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقَوْا مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجَوْا ونجَوْا جميعا" [أخرجه البخاري].
أيها المسلمون:
ومن هنا كان علينا أن نتعرف على العوامل والأسباب التي تؤدي إلى نجاح بناء الأسرة؛ أي: بنائها بناءً صحيحًا قويمًا، ليس فيه اعوجاجٌ أو انحراف، ونلخص ذلك في أمور رئيسة، وقواعدَ جامعة:
أما الأمر الأول: فهو يبدأ من اختيار الزوجة التي هي اللبِنة الأولى للأسرة، والمطلوب من المسلم أن يتحرى في ذلك؛ بأن يختار ذات الدين والخلق، ولا بأس بأن يضم إلى ذلك الصفات الأخرى الحميدة من النسب أو الحسب أو الجمال، ولكنْ حذارِ من أن يفرط في الدين؛ فإن من فعل ذلك خسر وافتقر، كما دل عليه قول نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه : "فاظفر بذات الدين تربت يداك".
وكذلك المرأة إنما تختار صاحبَ الدين والخلق، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" [أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -].
عباد الله:(83/3)
وأما الأمر الثاني لنجاح بناء الأسرة: فهو أن يكون همُّ الأسرة الأعظم، وهدفها الأكبر: هو حياة الآخرة وما عند الله تعالى، وأن تكون الحياة الدنيا وسيلة عبور، ودار مرور، يستعين بها المرء للوصول إلى طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن هذا هو الغاية التي من أجلها خلقنا الله تعالى في هذه الدنيا، وهذا هو طريق الراحة والسعادة، وسبيل الأمان والاطمئنان، كيف لا والله تعالى يقول في محكم كتابه المبين: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [القصص:77 ]، ويقول سبحانه: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [فاطر:5]، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت الدنيا همه، فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة" [أخرجه ابن ماجه من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -].
وانظر إلى ما كان عليه سلفنا الصالح - رضي الله عنهم- ؛ فقد كان بعض نساء السلف يوصين أزواجهن إذا خرجوا للكسب وطلب المال: "اتقوا الله فينا ولا تطعمونا الحرام؛ فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار".
أيها المؤمنون:
إن ثمة أمرًا مهمًّا في نجاح الأسرة، وهو يتعلق بقطبيها الرئيسين: وهما الوالدان؛ وذلك بأن يكونا قدوةً حسنةً لأولادهما، وأسوةً صالحةً لهما، في العبادة والخُلُق والمعاملة؛ فإن الأولاد يتطبّعون بطباع الوالدين، ولا سيما الأب، وبخاصة في الصِّغر، كما قال الشاعر:
…… وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوّده أبوه(83/4)
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
…الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين وخاتم المرسلين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
…فاتقوا الله – عباد الله - حق تقواه، واعملوا بطاعته ورضاه.
أيها المسلمون:
وإن من عوامل النجاح في بناء الأسرة: متابعة الوالدين لأولادهما ورعايتهما لهم؛ بالسؤال عن أوضاعهم، ومعرفة كيف يقضون أوقاتهم، والاطمئنان إلى حال أصحابهم؛ فإن المرء على دين خليله، وعليهما أن لا يبخلا بواجب النصيحة لهم بالتي هي أحسن، وأن لا يكْسلا في إرشادهم للذي هو أصلح وأقوم، وأن لا ينشغلا عنهم في العمل أو الزيارات أو غيرهما على حسابهم؛ فإن الأولاد أمانة في أعناقهما سيسألان عنها يوم القيامة، وهم الثروة الكبرى التي إذا ضاعت فقد ضاع الأعز والأغلى.
معاشر المسلمين:
ومن عوامل النجاح: الرفق بالأولاد حتى في حالة الخطأ؛ فإن الرفق هو الأصل في التربية، والشدة إنما هي استثناء، فلا يُلجأ إليها إلا عند الضرورة، وإن البركة والخير في الرفق؛ فقد ثبت في صحيح مسلم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال لعائشة - رضي الله عنها - ، "يا عائشة: إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه ".(83/5)
وكم يحتاج أولادنا – حتى الكبار منهم – إلى العطف والحنان منا، وأن نظهر لهم ألوان الود والحب، وأصناف الرعاية والعناية، ولا سيما البنات منهم؛ ابتداءً بالكلمة الطيبة الجميلة، ومرورًا بالابتسامة الحلوة الكريمة، وانتهاءً بالمعانقة الرحيمة؛ فإن ذلك من أعظم الأسباب للحفاظ عليهم؛ لئلا يخرجوا إلى خارج دائرة الأسرة ليبوحوا بما يجول في صدورهم، إذا لم يجدوا في الأسرة أُذُنًا مصغية، أو قلبًا حانيًا، أو لسانًا عذبًا، فإنّ الإهمال أو الغفلة عن ذلك يعدّ أحدَ الأسباب الرئيسة في انحراف الأبناء والبنات، ووقوعهم في مهاوي الفساد والعصيان، وسقوطهم في حبائل الشيطان.
اللهم أصلحنا وأصلح ذرياتنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريب مجيب الدعوات، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.
اللهم وفق أميرنا وولي عهده لهداك، واجعل عملهما في رضاك، اللهم احفظهما بحفظك، واكلأهما برعايتك، وألبسهما ثوب الصحة والعافية والإيمان، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وتقبل اللهم شهداءنا وشهداء المسلمين أجمعين.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(83/6)
اطبع هذه الصحفة
خطورة الشائعات
عباد الله :
…ومن الإشاعات القوية التي وقعت في زمن الخيرية والفضيلة: ما رُميت به أم المؤمنين، الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، عائشة،- رضي الله عنها- من الإفك المبين، والفرية العظيمة،التي لاكتها ألسنة المنافقين، وقلة قليلة من المسلمين، فأنزل الله عز وجل براءتها من فوق سابع سماء، قال الله عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ } [النور:11-12]، وقال: { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [النور:15-16].
الخطبة المذاعة والموزعة
بتاريخ 14 من ذي القعدة 1426هـ الموافق 16/12/2005م
خطورة الشائعات
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
…أما بعد:
…فيا عباد الله:
…أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله تعالى وطاعته، قال الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة:14].
…أيها المسلمون:(84/1)
…إن من الأمراض الخطيرة، والآفات الكبيرة، التي تَفتك بالأفراد والمجتمعات، آفةَ الشائعات، التي هي ترديد ما يذكر ويحكى من الأمور الحرجة التي تتعلق بأخص حياة الناس، من أمر الصحة والأمن، أو الطعام والمال، أو السمعة والأعراض، ونحو ذلك.
…وتأتي خطورة الشائعات لثلاثة أسباب:
…الأول: سرعة انتشارها، فإن الإشاعة تحمل في طيها أخبارًا غريبة تخالف الإلف والعادة، والإنسان قد جُبل على حب كل ما هو غريب، فينقله سريعاً دون تثبت وتريث.
…والسبب الثاني: قوة خبرها وكثرة الناقلين لها، مما يدعو لتصديقها، مع كونه كذبًا مختلقاً وسرابًا لا حقيقة له.
…والسبب الثالث: العمل والبناء عليها، بسبب ظن أنها الحق الصراح، والحقيقة الثابتة، فيتزعزع الأمن بسببها، وينتشر القلق والاضطراب.
…معاشر المسلمين:
…إن الإشاعة آفة قديمة؛ فقد كانت موجودة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك من قبل المنافقين في المدينة، وهم المرجفون فيها الذين يقولون: جاءت الأعداء وجاءت الحروب، وهو كذب وافتراء، فتوعدّهم الله تعالى بقوله: { لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً } [ الأحزاب:60]. أي : لنسلطنك عليهم .(84/2)
…ومن الإشاعات التي وقعت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما حصل في غزوة أحد، فبعد أن انقلب نصر المسلمين إلى هزيمة قاسية، وحدث في صفوف المسلمين ارتباك شديد؛ إذ بصائح يصيح: إن محمداً قد قتل، فانهارت الروح المعنوية عند كثير من المسلمين، وتوقف من توقف منهم عن القتال، ولاشك أن شائعة كهذه تعتبر الغاية في قوتها وأثرها، ولكن لننظر إلى موقف واحد من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الأجلاء: كيف قابل هذه الإشاعة بالتصرف الحكيم الرشيد، والعمل الصالح المفيد، إنه الصحابي الجليل أنس بن النضر- رضي الله عنه - وأرضاه، فقد مرّ بأولئك الذين توقفوا عن القتال، فقال: ماذا تنتظرون ؟! فقالوا: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما تصنعون بالحياة بعده ؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء- يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء- يعني المشركين- ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال: أين يا أبا عَمرو؟ فقال أنس: واهًا لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أُحد، ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل، فما عُرِف حتى عرفته أخته ببنانه - أي أصابع يده- وبه بضع وثمانون: ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم،كما ثبت ذلك في الصحيحين، وفيه نزلت هذه الآية { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُوَ مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } [الأحزاب:23].
…عباد الله :(84/3)
…ومن الإشاعات القوية التي وقعت في زمن الخيرية والفضيلة: ما رُميت به أم المؤمنين، الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، عائشة،- رضي الله عنها- من الإفك المبين، والفرية العظيمة،التي لاكتها ألسنة المنافقين، وقلة قليلة من المسلمين، فأنزل الله عز وجل براءتها من فوق سابع سماء، قال الله عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ } [النور:11-12]، وقال: { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [النور:15-16].
… أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
…الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
…أما بعد:
…فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق تقواه، واعملوا بطاعته ورضاه.
…معاشر المسلمين:
… إن الإشاعة آفة خطيرة مصدرها اللسان، فعلى المسلم أن يحفظ لسانه عما لا يعنيه، وعما فيه معصية لله سبحانه، قال الله عز وجل: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق:18 ].(84/4)
وليتذكر قول رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة" أي : اللسان والفرج [متفق عليه].
وقوله- صلى الله عليه وسلم - - أيضاً - حين سأله عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: يا رسول الله: ما النجاة ؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك" [أخرجه الترمذي].
حفظ اللسان عن القبيح أمانة يزكو به الإسلام والإيمان
مَن كَفّ كف الناس عنه ومن أبى إلا الخنا فكما يدين يدان
ثم علينا بالتثبت، فلا يصدق الإنسان كل ما يقال، كما أنه لا يكذبه، وإنما يتثبت، قال الله عز وجل: { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات: 6].
ثم أن لا ينقل الإنسان كل كلام يسمعه، فإن من صنع ذلك وقع في الخطأ لا محالة؛ لأن الأخبار لا تخلو غالباً من الكذب، ولهذا قال رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع" [أخرجه مسلم].
بل لو علم المرء بصحة خبر، فإنه لا ينقله إلا إذا ظهر له مصلحة في ذلك، فكيف إذا علم أن فيه مضرة ؟! فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت"[متفق عليه].
ثم لنقابل الإشاعة بإحسان الظن بإخواننا المسلمين، ولنعمل على ما فيه صالح بلدنا وأمتنا، قال الله عز وجل: { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم } [الحجرات:12] وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث" [متفق عليه]، وقال عمر - رضي الله عنه -: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك إلا خيرا وأنت تجد لها في الخير محملا.
…اللهم سدد ألسنتنا، وتقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.(84/5)
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريب مجيب الدعوات، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنًا مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وتقبل اللهم شهداءنا وشهداء المسلمين أجمعين.
…اللهم وفق أميرنا وولي عهده لهداك، واجعل عملهما في رضاك، اللهم احفظهما بحفظك، واكلأهما برعايتك، وألبسهما ثوب الصحة والعافية والإيمان يا ذا الجلال والإكرام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(84/6)
اطبع هذه الصحفة
واجب الآباء نحو الأبناء
عباد الله :
إن على الأب أن يربي أبناءه على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، فيقومهم إذا اعوجوا ويؤدبهم إذا انحرفوا تأديباً لا يخرج عن ضوابط الشرع الحنيف. ولأن الابن يولد كالصفحة البيضاء النقية لم تتلوث فطرته بعد بالأفكار السامة والسلوكيات المنحرفة، فاملأ تلك الصفحة النقية بما تريد قبل أن يملأها غيرك بما لا تريد، وعوده محاسن الأخلاق النبوية، والقيم التربوية، وأصول الخير المرعية؛ فإن الخير عادة وسجية،
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 21 من ذي الحجة 1426هـ الموافق 23/12/2005م
واجب الآباء نحو الأبناء
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء ذكوراً، ويجعل من يشاء عقيماً وكان الله على كل شيء قديراً. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أرسله ربه بالحق بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فهدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وكثر به بعد القلة، وأعز به بعد الذلة، فجزاه الله عن أمته خير الجزاء، وصلى عليه صلاة تملأ أقطار الأرض والسماء، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم – عباد الله – ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فإن تقوى الله تعالى خير الزاد لدار المعاد، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب:70- 71]
أيها الإخوة المؤمنون:
…إن الأبناء الصالحين من أجل النعم، ومن أعظم المنح والمنن، فهم زينة الحياة وفلذ الأكباد، وامتداد لحياة آبائهم بعد موتهم، وذكرهم الباقي بعد فنائهم .
وإنما أولادنا بيننا *** أكبادنا تمشي على الأرض
إن هبت الريح على بعضهم *** امتنعت عيني من الغَمضِ(85/1)
وإن من أعظم مقاصد النكاح – في الإسلام – إنجاب الذرية الصالحة التي تعمر الأرض وتحرس القيم وتصنع العز وتبني الأمم وتصلح الدنيا والدين، ولهذا فقد رغب فيها النبيون والصالحون والخلق أجمعون، { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء } [آل عمران:38]
كما أن ابتغاء الذرية الصالحة الناصحة من صفات عباد الرحمن { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } [الفرقان:74] وقد أسدى الشرع المطهر للآباء من النصائح والتوجيهات وألزمهم من الواجبات ما يضمن للأبناء- إن قاموا بها ورعوها حق رعايتها ـ حياة سعيدة وسيرة حميدة ، ونشأة مباركة ومنقلباً محموداً، فقد جعل الله ـ عز وجل ـ الأبناء أمانة في أعناق الآباء، ومسؤوليةً تترتب عليها المؤاخذة والآثام ـ إن قصروا وأهملوا - والأجر الجزيل إن قاموا بها حق القيام فعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته " [أخرجه النسائي].
ومن هنا كان لزاماً على الآباء أن يقوموا بواجبهم تجاه أبنائهم، وأن يتحملوا المسؤولية التي كلفوا بها نحو فلذ أكبادهم. فعلى الأب أن يحسن اختيار أم صالحة لأبنائه؛ تحنو عليهم وتتفانى في حسن تربيتهم، وتحفظه وإياهم في حضرته وغيبته، وترضعهم الأخلاق والقيم كما أرضعتهم اللبن. أخرج مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة ".(85/2)
وقد رغب الشارع في التسمية قبل أن يأتي الرجل أهله طلباً لذرية صالحة، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً " [أخرجه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم]. وأن يحسن اسمه ويعق عنه ويحلق شعر رأسه في اليوم السابع من ولادته فقد روى سمرة بن جندب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " كل غلام رهينة بعقيقته: تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى " [أخرجه أبو داود].
أيها المسلمون:
وعلى الأب أن يعلم أبناءه العقيدة الصحيحة والآداب المليحة المستقاة من منابعها الأصيلة التي لا تشوبها شائبة؛ لئلا تميل بهم الأهواء أو تزل بهم الأقدام عن أصل الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " [متفق عليه] .
وعليه أن يجنبهم ما يضادها من العقائد الفاسدة، والأفكار المنحرفة الكاسدة . قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } [لقمان:13]، ومما يجب على الأب: أن يعلم أبناءه حق الله عليهم في عبادته والعمل على طاعته؛ ليشبوا على طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع " [أخرجه أبو داود].
عباد الله :(85/3)
إن على الأب أن يربي أبناءه على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، فيقومهم إذا اعوجوا ويؤدبهم إذا انحرفوا تأديباً لا يخرج عن ضوابط الشرع الحنيف. ولأن الابن يولد كالصفحة البيضاء النقية لم تتلوث فطرته بعد بالأفكار السامة والسلوكيات المنحرفة، فاملأ تلك الصفحة النقية بما تريد قبل أن يملأها غيرك بما لا تريد، وعوده محاسن الأخلاق النبوية، والقيم التربوية، وأصول الخير المرعية؛ فإن الخير عادة وسجية، وما أحسن ما قيل :
ربوا البنين مع التعليم تربية *** يمسى بها ناطق الأخلاق مكتملا
إن قام للحرث رد الأرض ممرعة *** أو قام للحرب دك السهل والجبلا
…… إنا لمن أمة في عهد نهضتها *** بالسيف والعلم قبلا أنشأت دولا
واعلموا أن على الأب أن يأمر أبناءه بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحبب إليهم الإيمان ويكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وأن يختار لهم صحبةً صالحةً تحثهم على الخير وتمنعهم من الشر، فإن الصاحب ساحب، والطبع سراق، والطيور على أشكالها تقع، وبالجملة: عليه أن يأمرهم بما يقرب من الجنان ويباعد من النيران ائتماراً بأمر الله الملك الديان: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم:6]، وذلك ينفع أعظم النفع إذا كان في حداثة أسنانهم ونعومة أظفارهم كما قال الشاعر :
قد ينفع الأدب الأولاد في الصغر *** وليس ينفعهم من بعده الأدبُ
إن الغصون إذا قوّمتها اعتدلت *** ولا يلين ولو لينته الخشبُ
معاشر المؤمنين:(85/4)
ومن واجبات الآباء نحو أبنائهم: الإنفاق عليهم بالمعروف بحسب حاجة الأبناء وقدرة الآباء. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهند امرأة أبي سفيان - رضي الله عنهما -: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " [متفق عليه]، ومن قصر في النفقة الواجبة مع القدرة عليها فهو آثم؛ للحديث الصحيح: " كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقوت " [أخرجه أبو داود].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أوجب على الآباء حسن تربية البنين والبنات، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أرسله بالهدى والبينات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ربوا أبناءهم على الخير والمكرمات.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وأطيعوه، وتجنبوا مخالفة أمره واحذروه، واعلموا أن مما يجب عليكم أن تعدلوا بين أبنائكم، فكما يحب الوالد أن يكون أولاده إليه في البر سواء، فليعاملهم بالعدل والسواء.
عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - أن أباه أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أفعلت هذا بولدك كلهم ؟ " قال: لا، قال: " اتقوا الله واعدلوا في أولادكم " [متفق عليه]. فاتقوا الله أيها الآباء وأحسنوا تربية أبنائكم وتعاهدوهم؛ فإن من خير ما يسعى إليه المرء أن يربي أولاده على التقوى والصلاح، وأن يدلهم على أسباب الظفر والنجاح، ويوصلهم إلى معارج الرقي والفلاح.
ألا فشمروا أيها الآباء وأحسنوا إلى أبنائكم يحسن الله إليكم، وارعوهم بالتربية والتعليم تجنوا ثمرات من البر، وتنالوا عظيم الثواب والأجر، وسيحصد الزارعون ما زرعوا.(85/5)
واعلموا أنما كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأدوا أماناتكم وقوموا بمسئولياتكم نحو أبنائكم وبناتكم؛ تفوزوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة وعلى الله قصد السبيل. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم وفق أميرنا وولي عهده لهداك، واجعل عملهما في رضاك، اللهم احفظهما بحفظك، واكلأهما برعايتك، وألبسهما ثوب الصحة والعافية والإيمان، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وتقبل اللهم شهداءنا وشهداء المسلمين أجمعين.
……… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(85/6)
اطبع هذه الصحفة
فضل عشر ذي الحجة
أيها المؤمنون:
…وإن مما زاد هذه الأيام شرفاً وقدراً، جمعها للأعمال المباركة حجاً وصلاة وصدقة وذكراً، ففي هذه الأيام يؤدي الحجاج مناسكهم، من يوم التروية مروراً بعرفات موقفهم، إلى مزدلفة مبيتهم، رافعين شعار التوحيد والتلبية، مقيمين شعائرهم بحب وإخلاص نية، قال تعالى: { فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } [البقرة: 200]0
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 28 من ذي القعدة 1426هـ الموافق 30/12/2005م
فضل عشر ذي الحجة
…الحمد لله الذي شرف العشر الأول من ذي الحجة بيوم عرفات، وأفاض الخير والإحسان على من أخلص فيها لله وعمل الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أهل الفضل والمكرمات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صاحب المعجزات الباهرات، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين تنافسوا في الخيرات، في أيام ذي الحجة الحرام فصاموا وذكروا الله وجادوا بالصدقات0
…أما بعد:
…فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى، وازجروا النفوس عن هفواتها، واغتنموا هذه الأوقات الفاضلة بالأعمال الصالحة قبل فواتها، فإنكم في أيام أقسم الله بلياليها في الكتاب، وأيام عظم الله شأنها في محكم ذلك الخطاب، فقال الله سبحانه: { وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْر } [الفجر:1– 5 ]
…أيها المسلمون:(86/1)
…لقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "ما العمل في أيام أفضل منها في هذه، قالوا: ولا الجهاد ؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء "فهذه الأيام العشرة أفضل أيام الدنيا، فهي موسم الربح والنجاة، وميدان السبق إلى الخيرات، إذ العمل فيها أفضل من الجهاد بالنفس أو المال، إلا من خرج ولم يرجع لا بالنفس ولا بالمال، وكان سعيد بن جبير" إذا دخلت العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه"0
فأين المسارعون إلى صيامها وقيامها ؟ والمتسابقون فيها إلى الأعمال الصالحة واغتنامها ؟ فهذا أوان الصدقات والإحسان، وزمان العمل بمقتضى الإيمان، وورود مواطن العفو والغفران0
ليالي العشر أوقات الإجابة
فبادر رغبة تلحق ثوابه
ألا لا وقت للعمال فيه
ثواب الخير أقرب للإصابه
من اوقات الليالي العشر حقاً
فشمر واطلبن فيها الإنابه
…أيها المؤمنون:
…وإن مما زاد هذه الأيام شرفاً وقدراً، جمعها للأعمال المباركة حجاً وصلاة وصدقة وذكراً، ففي هذه الأيام يؤدي الحجاج مناسكهم، من يوم التروية مروراً بعرفات موقفهم، إلى مزدلفة مبيتهم، رافعين شعار التوحيد والتلبية، مقيمين شعائرهم بحب وإخلاص نية، قال تعالى: { فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } [البقرة: 200]0
…ألا وإن في هذه الأيام يوماً جعله الله لأهل طاعته مشهداً جامعاً، يكون لدعائهم فيه مجيباً سامعاً، ويسعى إليه وفد الله من كل ناحية وإقليم، ملبين بالإجابة دعوة أبيهم إبراهيم، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، هو يوم الله المعظم يوم عرفات، فيه يباهي الله بأهل الموقف أهل السماوات، هناك تسكب العبرات، وتقال العثرات، وتنزل الرحمات، وترفع الدرجات، وتدفع النكبات، وكم من ذنب مغفور، وكسر مجبور!، وكم من دعوة مسموعة، وبلية مرفوعة!0(86/2)
…عباد الله:
…إن من لم يلحق بركب الحجاج والمعتمرين، فعزاؤه صيام يوم عرفات؛ فإن جزاءه كفارة سنتين، فعن أبى قتادة - رضي الله عنه - قال سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم عرفة فقال: "يكفر السنة الماضية والباقية" [أخرجه مسلم]، والإكثار من ذكر الله تعالى بالتهليل والتكبير والتحميد، لينال الحسنيين، فيشرع في هذه الأيام التكبير المطلق في جميع الوقت من ليل أو نهار إلى صلاة العيد، ويشرع كذلك التكبير المقيد بعد الصلوات المكتوبات إذا صلاها مع الجماعات، ويبدأ لغير الحاج من فجر يوم عرفة، وللحاج من ظهر يوم النحر- أول يوم في العيد – ويستمر إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق، قال تعالى: { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } [الحج: 28– 29]، وقال تعالى { وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 185]، وعن ابن عمر- رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من أيام أعظم ولا أحب إلى الله العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد" [أخرجه أحمد وابن حبان]0
…فالقاعد لعذر شريك للسائر في الأجر، وربما سبق السائر بقلبه السائرين بأبدانهم0
يا سائرين إلى البيت العتيق لقد
سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحاً
إنا أقمنا على عذر وقد رحلوا
ومن أقام على عذر كمن راحا
…فالغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة، فما منها عوض ولا تعادلها قيمة، والمبادرة المبادرة بالعمل، قبل أن يندم المفرط على ما فعل، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم0
الخطبة الثانية(86/3)
…الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما، وجعل لكل أمة منسكاً وأجلاً مسمى، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحكيم الخلاق، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل الخلق على الإطلاق، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه صلاة وسلاماً إلى يوم التلاق0
… أما بعد:
…فيا أيها المسلمون:
…اتقوا الله ما استطعتم، وتداركوا بالتوبة النصوح ما فرطتم فيه وأضعتم، واعلموا أن مما يتعلق بهذه العشر الكريمة، أحكاماً وشرائع حكيمة، فقد رغب نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الأضحية قولاً وفعلاً فضحى - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أقرنين أملحين ذبحهما بيده" [متفق عليه]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم وإنه ليأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفساً" [أخرجه الترمذي]0
…هذا واجعلوا أضحيتكم في اليوم الأول من أيام العيد؛ لتنالوا السبق وفضل هذه الأيام، ومن نوى الأضحية فلا يأخذ من أظفاره وشعره طوال هذه الأيام العشرة، قال - صلى الله عليه وسلم - "إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي" [أخرجه مسلم]0
…اللهم اهدنا صراطك المستقيم، ووفقنا لهدي رسولك القويم، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم بلغنا حج بيتك الحرام، ووفقنا لطاعتك بالذكر والصدقة والصيام، والحوز على الفضل والرضوان في هذه العشر العظام0(86/4)
…اللهم اغفر للمسلمينَ والمسلمات؛ والمؤمنينَ والمؤمنات، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهم إنا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم إنا نسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك - صلى الله عليه وسلم -، ونعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار، وما قرب إليها من قول أو عمل، ونسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لنا خيراً.
…اللهم آمنا في الأوطان والدور، وادفع عنا الفتن والشرور، وأصلح لنا ولاة الأمور، واشرح لتحكيم كتابك الصدور، وألبس أميرنا وولي عهده ثوب الصحة والعافية والطهور، برحمتك يا عزيزُ يا غفور.
…عباد الله:
…اذكرو الله ذكراً كثيراً، وكبروه تكبيراً، { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [العنكبوت:45]
…………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(86/5)
اطبع هذه الصحفة
الحج أسرار وحكم
إخوةَ الإسلامِ:
…وفِي اجتماعِ الناسِ فِي مَوْقِفِ عرفَةَ تذكيرٌ بالموقِفِ الأكبرِ والحَشْرِ الأعظَمِ يومَ يُحشَرُ الناسُ حُفَاةً عُرَاةً غيرَ مَخْتُونِينَ { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء: 104]، إنَّه لَموقِفٌ عظِيمٌ ومَشْهَدٌ تَتَجَلَّى فيهِ مظاهِرُ التوحيدِ للهِ تعالَى بِأجملِ صُوَرِهَا وأبلَغِ معانِيَها، وتبدُو معالِمُ الوَحْدَةِ بينَ المسلمينَ، حيثُ تزدَحِمُ الخلائِقُ وترتِفعُ الأصواتُ على اختلافِ اللُّغَاتِ: قِبْلَتُهم واحِدةٌ وكتابُهم واحِدٌ ونبيُّهم واحدٌ ولباسُهم واحدٌ وموقِفُهم واحدٌ يدعونَ ربَّاً واحِداً، لا فضلَ لِعربيٍّ على أعْجَمِيٍّ وَلَا لأبيضَ على أسْوَدَ وَلَا لِغنيٍّ على فقيرٍ، المَلِكُ وَالمَمْلُوكُ والغِنيُّ والفقيرُ والجليلُ والحقيرُ سواءٌ، فيذوبُ التفاخُرُ بالأحْسَابِ ويَضْمَحِلُّ التباهِي بِالأنسابِ { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء :92]
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 6 من ذي الحجة 1426هـ الموافق 6 /1/2006م
الحج أسرار وحكم
…الحمدُ للهِ الذي فرَضَ على عبادِهِ حَجَّ بيتِهِ الحرامِ، لِيَشْهدوا منَافِعَ لهم ويذكروا اسمَ اللهِ في أيامٍ معلوماتٍ على ما رزقَهم مِنْ بهيمةِ الأنعامِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له غفرَ لِمَنْ حَجَّ البيتَ فلمْ يرفُثْ ولَمْ يفسُقْ جميعَ الذنوبِ والآثامِ، وأشهدُ أنَّ محمداًَ عبدُ اللهِ ورسولُهُ وصَفْوَةُ رسُلِهِ الكِرامِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ إلى يومِ العرْضِ على ذي الجلالِ والإكرامِ.
…أمَّا بعدُ:(87/1)
…فأوصِيكم- عبادَ اللهِ- ونفسِيَ بتقوَى اللهِ؛ فإنَّها سببُ تفريجِ الكروبِ وغُفْرانِ الذنوبِ، وبَسْطِ الأرزاقِ ودخولِ جنَّةِ الكريمِ الرزَّاقِ، قالَ اللهُ تعالَى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً(2)وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 2-3].
…أيُُّها المؤمنونَ:
…لا تزالُ مواسِمُ الخيراتِ تَتَوالَى مِنَ الغَنِيِّ الكريمِ سبحانَه وتعالَى، وقَدْ أظلَّنا مَوْسِمُ الحَجِّ العظيمِ؛ لِنتوجَّهَ إلى اللهِ بالإخلاصِ والتعظيمِ؛ فإنَّ الحجَّ عِبَادَةُ العُمْرِ، وفيهِ أنزلَ اللهُُ عزَّ وجلَّ: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } [المائدة:3]، وفيهِ قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ حَجَّ هذَا البيتَ فلمْ يرفُثْ ولمْ يفسُقْ رجَعَ كَيوِمِ ولدتْهُ أمُّه" [متفقٌ عليهِ من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -]. وفيه تَرْنُو النواظِرُ وتهْفُو الأفئِدَةُ والخواطِرُ؛ إلى بيتِ اللهِ الحرَامِ؛ لِحَطِّ الأوْزَارِ والآثامِ، حيثُ تسيرُ الركبانُ والوفودُ إلى البيتِ العتيقِ، بعدَ أنْ قَطعَتِ الفيافِيَ والقِفَارَ، وجازَتِ الأجواءَ والبحارَ، وتجشَّمَتِ المَشَقَّةَ بِطُولِ المسافةِ وبُعْدِ الشُّقَّةِ؛ لِحِكَمٍ ُتبتْغَى وَأَسْرارٍ تُرْتَجى؛ لِيُكْمِلوا أركانَ الإسلامِ، ويهدِمُوا معَالِمَ الشِّرْكِ والأصنامِ، فَفِي هذِه الشعِيرَةِ الإيمانيةِ والفريضَةِ الربَّانِيَّةِ لا يقتصرُ الحاجُّ على الإتيانِ بشعائرِ الحَجِّ الظاهِرَةِ بَلْ يُرَاعِي حِكَمَهَا وأسرارَهَا الباطِنَةَ؛ إذْ سَيْرُ القلوبِ أبلغُ مِنْ سيرِ الأبْدَانِ، فكَمْ مِنْ واصِلٍ بِبدنِهِ إلى البيتِ وقلبُه مُنْقطِعٌ عَنْ ربِّ البيتِ!.
جِسْمِْي مَعِي غيرَ أنَّ الرُّوحَ عِنْدَكُمُ فَالجسمُ في غُرْبَةٍ والرُّوحُ ِفي وَطَنِ(87/2)
…وبالخروجِ مِنَ البلادِ ومُفارقَةِ الأَهلِ والأَوطانِ، والتوجُّهِ إلى اللهِ في زُمْرَةِ الزائرينَ ورَكْبِ السائرينَ: مُجَاهدةٌ للنفسِ في النَّأْيِ عَنْ دِيارِهِ، والصبرِ على لَظَى شَوْقِهِ ونارِهِ، وتعظيمٌ لِلبلدِ الأمينِ وفيهِ تَشَبُّهٌ بالسَّفَرِ إلى الدارِ الآخرةِ. وفي تَجرُّدِ الحاجِّ مِنَ اللباسِ وتخلِّيهِ عَنِ الزِّينةِ وتمسُّحِهِ بِالطيبِ تذكيرٌ بحالِهِ إذا مَاتَ ولُفَّ بأثوابِ الكفَنِ وطُيِّبَ بِالحَنُوط، وفيهِ إشارةٌ إلى التواضُعِ ونَبْذِ الكِبْرياءِ إِذِ الُكلُّ في إِزَارٍ ورِدَاءٍ؛ فكَمَا لا يَلْقَى بيتَ اللهِ إلَّا مخالِفاً عادَتهُ فِي اللباسِ والهَيْئَةِ؛ فلَا يَلْقَى اللهَ بعدَ الموتِ إلا في زِيٍّ مخالِفٍ لِزِيِّ الدنيا { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (95) } [مريم 93-95]، وحَادِي الأرواحِ والقلوبِ يَحْدُوه:
وَانْظُرْ لِمَنْ مَلَكَ الدنيا بِأَجْمَعِهَا هَلْ رَاحَ مِنْها بِغيِر القُطْنِ والكفَنِ
…وَفيِ التلبيةِ" لَبَّيكَ اللهمَّ لَبَّيكَ، لَبَّيكَ لا شَرِيكَ لكَ لَبَّيكَ، إنَّ الحمدَ والنَّعمةَ لكَ والمُلْكَ لا شريكَ لكَ "، إظهارٌ للتوحيدِ والعبُوديَّةِ، ونَفْيٌ لِلشِّركِ والوثنيَّةِ، ونقضٌ لِمَا كانَ عليهِ أهلُ الجاهليَّة مِنَ الإهلالِ للأصنامِ والأوثَانِ، وعبادةِ غيرِ الرحمنِ، وفِي الطوافِ بالبيتِ الحرَامِ تعظيمٌ لِشَعائِرِ اللهِ فلَا طوافَ بِأحجارٍ ولَا أشْجارٍ ولا أضرحةٍ في أي مكانٍ على وجهِ المعمورةِ { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [ الحج: 29].(87/3)
…وفِي استلامِ الحَجَرِ الأسودِ وتقبيلِهِ مُطْلَقُ الانقيادِ لأمرِ اللهِ والاِتباع ِ لِهَدْيِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: "خُذُوا عنِّي منَاسِكَكُم".[أخرجَه مسلمٌ وأحمدُ واللفظُ لَهٌ]، وفِي الصحيحينِ أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ - رضي الله عنه - جاءَ إلى الحَجَر الأسودِ فقبَّله فقالَ: إنِّي أعلمُ أنَّك حَجَرٌ لا تَضُرُّ ولَا تنفعُ ولولا أَنِّي رأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -يقبِّلُكَ ما قبَّلتُكَ. وَبِالسعيِ بَيْنَ الصَّفَا والمرْوَةِ يتذكرُ ما كابَدَتْهُ هاجَرُ أمُّ إسماعيلَ عليهما السلامُ مِنْ أجْلِ وَلِيدِهَا حيثُ تردَّدَتْ سَبْعَ مراتٍ بينَهُما كمَا يصنعُ الحاجُّ والمعتَمِرُ اليومَ، وهوَ تشبُّهٌ بتردُّدِ العبدِ بِفِناءِ دارِ المَلِكِ مَرَّةًً بَعْدَ أُخرَى إِظهاراً لِلإخلاصِ في الخِدْمَةِ، ورَجاءً لِلمُلَاحَظَةِ بِعَيْنِ الرَّحمَةِ.
…إخوةَ الإسلامِ:(87/4)
…وفِي اجتماعِ الناسِ فِي مَوْقِفِ عرفَةَ تذكيرٌ بالموقِفِ الأكبرِ والحَشْرِ الأعظَمِ يومَ يُحشَرُ الناسُ حُفَاةً عُرَاةً غيرَ مَخْتُونِينَ { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء: 104]، إنَّه لَموقِفٌ عظِيمٌ ومَشْهَدٌ تَتَجَلَّى فيهِ مظاهِرُ التوحيدِ للهِ تعالَى بِأجملِ صُوَرِهَا وأبلَغِ معانِيَها، وتبدُو معالِمُ الوَحْدَةِ بينَ المسلمينَ، حيثُ تزدَحِمُ الخلائِقُ وترتِفعُ الأصواتُ على اختلافِ اللُّغَاتِ: قِبْلَتُهم واحِدةٌ وكتابُهم واحِدٌ ونبيُّهم واحدٌ ولباسُهم واحدٌ وموقِفُهم واحدٌ يدعونَ ربَّاً واحِداً، لا فضلَ لِعربيٍّ على أعْجَمِيٍّ وَلَا لأبيضَ على أسْوَدَ وَلَا لِغنيٍّ على فقيرٍ، المَلِكُ وَالمَمْلُوكُ والغِنيُّ والفقيرُ والجليلُ والحقيرُ سواءٌ، فيذوبُ التفاخُرُ بالأحْسَابِ ويَضْمَحِلُّ التباهِي بِالأنسابِ { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء :92]
…ومِنْ تَمَامِ المِنَّةِ وكمَالِ المِنْحَةِ في ذاكَ اليومِ الأغَرِّ أنْ يطَّلِعَ اللهُ – عزَّ وجلَّ – علَى أَهْلِ المَوْقِفِ فَيغفِرَ لهم ويباهِىَ بِهمْ الملائكةَ، فعَنْ عائشةَ - رضِيَ اللهُ عَنْها - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"مَا مِنْ يومٍ أكثرَ مِنْ أنْ يعتِقَ اللهُ فيهِ عَبْداً مِنَ النَّارِ مِنْ يومِ عرفَةَ، وإنًَّه لَيَدْنُو ثمَّ يباهِي بهمُ الملائكةَ فيقولُ: ما أرادَ هؤلاءِ؟"[أخرجَه مسلمٌ ].
أقولُ مَا تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لِي ولكم فاستغفروهُ، إنََّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية(87/5)
…الحمدُ للهِ الذي خَلَق كلَّ شيءٍ فقدَّرَهُ تقديراً، وجعلَ الليلَ والنهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أرادَ أنْ يذَّكَّرَ أوْ أرادَ شكوراً، أحمدُه سبحانَه وتعالَى حمداً كثيراً، وأشهدُ أنْ لا إلَه إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له تعالَى عمَّا يقولُ الظالمونَ عُلوُّاً كبيراً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسولُه، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
…أمَّا بعدُ:
…فَيا عِبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ وأطيعُوهُ، وَعَظِّمُوا أمرَه وكَبِّروهُ، واشكروهُ علَى نِعَمِهِ ولا تَعْصُوهُ، واعلمُوا أنَّ في اجتنابِ المُحْرِمِ مَحْظوراتِ الإحرامِ منْ مَخِيطٍ وَطِيِبٍ وقَصٍّ وحَلْقٍ وَجِمَاعٍ وَصَيْدٍ وَجِدَالٍ بِالباطلِ: استِسْلاماً لأمرِ اللهِ وانقياداً لِشرعِهِ، حيثُ يَتْرُكُ المُحْرِمُ مَا أحلَّ اللهُ لَه قَبْلَ الإحرامِ، قالَ اللهُ تعالَى: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [البقرة:197]
…وَبِرَمْيِ الجمارِ يقيمُ الحاجُّ العبوديةَ لِلواحدِ القهَّارِ؛ مُنْقَاداً لِلأَمر مُظْهِراً لِلافتقارِ، مُمْتَثِلاً مِنْ غيرِ حَظٍّ لِلنَّفْسِ وَطَوَاعيةٍ لِلعَقْلِ، قائماً وقاعداً يذكرُ ذَا المَنِّ والفَضْلِ، فعَنْ عائشةَ - رضِيَ اللهُ عَنْها- قالَتْ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما جُعِلَ الطوَافُ بِالبَيْتِ وبينَ الصَّفَا والمرْوَةِ ورَمْيُ الجِمَارِ لإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ" [أخرجَه أبو داودَ والترمذيُ وصحَّحه].(87/6)
…ويَعْظُمُ شََرَفُ الحَاجِّ وقَدْرُهُ حِيَنما يَحْلِقُ رأْسَهُ تذللاً لِبارئِهِ وَخُضُوَعاً لِخَالقهِ، وتبرزُ مظاهِرُ الإذْعَانِ بِذبحِ الهَدْيِ والقُرْبانِ إِذْ هوَ أفضَلُ الحَجَّ على مرِّ الأزْمَانِ، فعَنْ أبِي بكرٍ وابنِ عمرَ – رضي الله عنهم - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أفضلُ الحَجِّ: العَجُّ والثَّجُّ" [أخرجَهُ الترمذيُّ وابنُ ماجَةَ]. والعَجُّ: رفعُ الصوتِ بالتلبيةِ، والثَّجُّ: نَحْرُ الهَدْيِ وإراقةُ الدماءِ.
…وبِذَا يتحقَّقُ سَخَاءُ النفْسِ وتقوَى القَلبِ؛ كمَا قالَ اللهُ تعالَى: { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ } [الحج:37].
…عبادَ اللهِ:
…وإِذَا قَضَى الحَاجُّ مناسِكَهُ وشَهِدَ منافِعَهُ، كانَ ذكرُ اللهِ على لِسانِهِ وفي قلبِهِ أشدَّ ِمْن ذِكْرِ آبائِهِ وصَحْبِهِ { فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } [البقرة:200]، ويرجِعُ إلى وطنِهِ وقَدْ غُفِرَتْ ذنوبُهُ وَسُتِرَتْ عُيوبُهُ، وَكُفِّرَتْ سَيِّئاتُهُ وَضُوعِفَتْ حَسَناتُهُ إنْ كانَ مِمَّنْ حَجَّ للهِ فلمْ يرفُثْ وَلَمْ يفسُقْ. ومَنْ بدَّلَ مِنْ بَعْدِ السُّوءِ حُسْناً، وَبَعْدَ المعصِيَةِ طاعةً وَبَعْدَ الفسَادِ صَلاحاً؛ كانَ ذلِكَ أَمَارَةً على قَبُولِ حَجَّتِهِ وعَلامَةً على صِدْقِ نِيَّتِهِ وَدَلِيلاً على نَيْلِ بُغْيَتِهِ { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [المائدة:27].(87/7)
…اللهمَّ أصلِحْ لنَا دِينَنَا الذي هُوَ عِصْمةُ أمرِنَا، وأصلِحْ لنا دُنْيانَا التي فِيها مَعَاشُنَا، وأصلِحْ لنا آخرَتَنَا التي فِيها مَعَادُنا، واجعلِ الحياةَ زِيادَةً لنا فِي كلِّ خيرٍ، واجعلِ الموتَ راحةً لنا مِنْ كلِّ شرٍّ، اللهمَّ زيِّنَّا بِِزِينةِ الإيمانِ، واجعلْنَا هُداةً مُهتدِينَ، واغفرِ اللهمَّ لنَا وََلِوَالدِينَا ولِلمسلمينَ الأحياءِ منهم والميِّتينَ، وأحسِنْ عاقبَتَنا في الأمورِ كُلِّها، وأجرْنَا مِنْ خِزْيِ الدنيا وعذَابِ الآخرَةِ.
…اللهمَّ وَفِّقْ سموَ أميرِ البلادِ ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ أعمالَهُما فِي رِضَاكَ، وألبسْهُما لِباسَ العافيةِ والتقوَى وَالإيمانِ، وَمُنَّ علَى بَلدِنَا هذَا وَسائرِ بلادِ المسلمينَ بِدَوَامِ الأمْنِ والأمَانِ، اللهمَّ تقبََّلْ مِنَ الحُجَّاجِ والمُعْتمرِينَ، وارضَ َعنَّا وعنهمْ وعنْ سائِرِ المسلمينَ، وردَّهُمْ إلينا سالمينَ غانِمِينَ، وآخرُ دعوَانَا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
…………………لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(87/8)
اطبع هذه الصحفة
خطبة عيد الأضحى المبارك 1426هـ
إخوةَ الإسلامِ:
اشكروا اللهَ على نِعَمِهِ الغِزَارِ، وعلَى فَضْلِهِ المِدْرَارِ، حيثُ تَنْعَمونَ في هَذا اليومِ بِحُلولِ عيدِ الأضْحَى المبارَكِ، أعادَهُ اللهُ علينا وعلَى أمَّةِ الإسلامِ، بِالرَّحمَةِ وَالقَبُولِ وَالسَّلامِ.
فِي هَذا اليومِ: يَتَقرَّبُ المسلمونَ إلى ربِّهم، بِذَبحِ ضَحَاياهُمْ، اتِّبَاعاً لِسُنَّةِ الخَلِيلَيْنِ إبراهيمَ ومحمدٍ ـ صلَّى اللهُ عليهما وسلَّمَ ـ فقَدْ أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديثِ أنسٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ضَحَّى بِكبشينِ أَمْلَحَيْنِ أقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيدِهِ، وسمَّى وكبَّرَ".
خطبة عيد الأضحى المبارك المذاعة والموزعة
بتاريخ 10من ذي الحجة 1426 هـ الموافق 10/1/2006م
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ.
اللهُ أكبرُ مَا تحرَّكَتْ قُلوبُ الحُجَّاجِ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ، اللهُ أكبرُ مَا كبَّرُوا وَلَبُّوا وَلَبِسُوا ثِيابَ الإِحرامِ، اللهُ أكبرُ مَا طافوا بِالكعبةِ واستلَمُوا الحَجَرَ الأسودَ فَفَازوا بِالطوافِ وَالاستلامِ، اللهُ أكبرُ ما سَعَوْا بَيْنَ الصفا وَالمروةِ وشرِبُوا ماءَ زمزمَ وَصلُّوا خلْفَ المقَامِ، اللهُ أكبرُ مَا وقفُوا بِعرفَةَ وَباتُوا بِمزدلِفَةَ وَذكروا اللهَ عنْدَ المشَاعِرِ العِظَامِ.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وَالعاقبةُ لِلمتقينَ، وَلَا عُدْوَانَ إلَّا على الظالمينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحَدهُ لا شريكَ لهُ وَلِيُّ المؤمنينَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ الصادِقُ الأمينُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِهِ الطيبينَ، وعلَى التابعينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أمّاُ بعدُ:(88/1)
فأوصِيكم عبادَ اللهِ ونفسِيَ بِتقوَى اللهِ، فَلِلتَّقوَى خُلِقتُمْ، وَلِطاعةِ اللهِ اجتمعْتُم، وَلِجَلالهِ رَكعتُمْ وَسَجدتُمْ، قالَ اللهُ تعالَى: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ } [البقرة:197].
فَعَليْكَ ِبتَقْوَى اللهِ فَاْلزَمْها تَفُزْ إنَّ التَّقِيَّ هُوَ البَهِيُّ الأَهْيَبُ
إخوةَ الإسلامِ:
اشكروا اللهَ على نِعَمِهِ الغِزَارِ، وعلَى فَضْلِهِ المِدْرَارِ، حيثُ تَنْعَمونَ في هَذا اليومِ بِحُلولِ عيدِ الأضْحَى المبارَكِ، أعادَهُ اللهُ علينا وعلَى أمَّةِ الإسلامِ، بِالرَّحمَةِ وَالقَبُولِ وَالسَّلامِ.
فِي هَذا اليومِ: يَتَقرَّبُ المسلمونَ إلى ربِّهم، بِذَبحِ ضَحَاياهُمْ، اتِّبَاعاً لِسُنَّةِ الخَلِيلَيْنِ إبراهيمَ ومحمدٍ ـ صلَّى اللهُ عليهما وسلَّمَ ـ فقَدْ أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديثِ أنسٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ضَحَّى بِكبشينِ أَمْلَحَيْنِ أقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيدِهِ، وسمَّى وكبَّرَ".
وَمِمَّا ينبغِي أنْ يُعْلَمَ أنَّ لِلأضُحِيَةِ ثلاثةَُ شروطٍ:
أوَّلُها: بلوغُ السنِّ المُعتْبرِ شَرْعاً، وهُوَ خَمْسُ سِنِينَ في الإبِل، وسنَتانِ في البقرِ، وسنةٌ فِي المعزِ، ونصفُ سنةٍ في الضأْنِ.(88/2)
ثانِيَها: أَنْ تكونَ سليمةً مِنَ العيوبِ التي تمنَعُ الإِجْزَاءَ، وقَدْ بيَّنهَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقولِهِ: " أَرْبَعٌ لَا تُجْزِئُ فِي الأضَاحِي: العَوْرَاءُ البَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالمريضَةُ البيَّنُ مَرَضُها، وَالعَرْجَاءُ البيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالكسِيرَةُ الَتُي لَا تُنْقِي" [أخرجَه الخمسةُ مِنْ حديثِ البرَاءِ بنِ عَازِبٍ- رضي الله عنه - ].
ثالِثهُاَ: أَنْ تُذْبَحَ الأضحيَةُ فِي الوقتِ المحدَّدِ شَرْعاً، وهُوَ مِنَ الفَرَاغِ مِنْ صَلاةِ العيدِ إلى غُروبِ الشمسِ، مِنَ اليومِ الثالِثِ مِنْ أيامِ التشريقِ، والأفضلُ فِي نَهَارِ يَوْمِ العيدِ، وَلَا بأْسَ بِالذبْحِ ليلاً، وتُجْزِئُ الشَّاةُ الواحِدَةُ عَنِ الرَّجُلِ وَأهلِ بيتِهِ فَعَنْ أبِي أيوبَ - رضي الله عنه - قالَ: "كانَ الرجلُ في عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُضَحِّي بِالشاةِ عَنْهُ وعَنْ أهلِ بيتِهِ، فَيَأْكُلونَ وَ يُطْعِمُونَ" [أخرجَهُ الترمذيُّ].
وينبغِي الإحسانُ فِي الذَّبْحِ بِحَدِّ الشَّفْرَةِ، وَإرَاحَةِ الذَّبيحَةِ، وَالرِّفْقِ بِهَا، وَإِضْجَاعِهَا على جَنْبِهَا الأيْسَرِ، وَالسنَّةُ: أَنْ يأكلَ المسلمُ مِنْ أضحيتِهِ، ويَهْدِيَ وَيَتصدَّقَ مِنْها، وَأنْ يتولَّى ذَبْحَها بِنفسِهِ، أوْ يُحَضِرَهَا عنْدَ الذبحِ، وَلَا يُعْطِي جَازِرَهَا أجرتَهُ مِنْهَا.
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلَّا اللهُ، وَاللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، وَللهِ الحمدُ.
إخوةَ العقيدةِ:(88/3)
إنَّ أهمَّ أمرٍ يَهُمُّ المرْءَ المسلمَ: أمرُ التوحيدِ، وتنزيهُ اللهِ عَنِ الشِّرْكِ وَالتَنْدِيدِ، فَلَا إِلهَ إلَّا اللهُ كلمةٌ عظيمةٌ، فِيها نَبْذٌ لِأمْرِ الجاهليَّةِ كلَِّهِ، وإثباتُ العِبَادَةِ للهِ وحدَهُ، فاللهُ تعالَى هُوَ الخالِقُ وَمَا سِوَاهُ مخلوقٌ، وهُوَ الرازِقُ وَمَا سِوَاهُ مرزوقٌ، وهُوَ القاهِرُ وَمَا سِوَاهُ مقهورٌ، وهُوَ الحَكَمُ ومَا سِوَاهُ محكومٌ، وهُوَ الربُّ المعبودُ وَمَا سِوَاهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ، يقولُ اللهُ تعالَى: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم:40]، ويقولُ سبحانَهُ: { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [يوسف:40]
أَلَا وإنَّ مِنْ أعظمِ الأعمالِ وأزْكَاهَا عِنْدَ الكبيرِ المُتَعالِ مَحَبَّةَ المُصْطفَى - صلى الله عليه وسلم - الَّمحبةُ الصادِقةُ، التي تملأُ القلبَ نوراً وَإيماناً، وَالجوارِحَ إِخْبَاتاً وَإذْعَاناً، وَتمنَعُ عنكُمُ ذُنوباً وَعِصْياناً، أَلَا مَا أَحْوَجَنَا إِلى شفاعةِ المصطفَى الحبيبِ، فِي يومِ ضَنْكٍ كَئِيبٍ، فَالسعيدُ مَنْ رُزِقَ شفاعَتَهُ والشَّقِيُ مَنْ حُرِمَهَا فَعَنْ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُما ـ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ مَنْ أوقَدَ ناراً فجعَلَ الجَنَادِبُ وَالفَراشُ يَقَعْنَ فِيهَا، وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْها وأَنا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عنِ النارِ وأنتم تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي" [أخرجِه مسلمٌ].(88/4)
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، لَا إلَه إِلَّا اللهُ، واللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، وَللهِ الحمدُ.
إِخوةَ الإيمانِ:
إنَّ الحياةَ الطَّيِّبةَ طريقُهَا وَاحدٌ، فاسْتَمْسِكُوا بِطريقِ الإِيمانِ، المؤدِّي إلى الجِنَانِ، وإِيَّاكُمْ وَخُطُواتِ الشيطانِ، فإنَّ شُعَبَهُ مُتَعدِّدَةٌ، وَطرُقَهُ مُلتْويَةٌ، أدُّوا الفرائِضَ كامِلَةً، لَاسِيَّمَا الصلاةُ بِمَواقِيتها المحدَّدَةِ، وَلَاتُهْمِلُوا شَأْنَ الزكاةِ والصيامِ وحَجِّ بيتِ اللهِ الحرَامِ، واجتنِبُوا المحارِمَ وَالآثامَ، لِئلا تَزِلَّ بِكُمُ الأقدامُ، يقولُ اللهُ تعالَى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام:153]، ويقولُ سبحانَهُ: { من عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النحل:97].
أيُّهاَ الإخوةُ المسلمونَ:
اتقوا اللهَ تعالَى، وَأَدُّوا مَا عليْكُمْ مِنْ وَاجِبَاتٍ، وَاستَوْصُوا بِالنساءِ خَيْراً وَأَحْسِنُوا تربيةَ أولادِكمْ، عِنْدَهَا تَحْسُنُ أحوالُ المُجْتَمَعَاتِ، وَتضمحِلُّ الأخطاءُ وَالمخالفَاتُ، لَاسِيَّمَا مِنَ البَنِينَ وَالبناتِ.
ليسَ اليتيمُ مَنِ انْتَهَى أبوَاهُ مِنْ هَمِّ الحيَاةِ وَخَلَفَاهُ ذَِليلا
إنَّ اليتيمَ هُوَ الذِي تَلْقَى لَهُ أُمَّاً تَخَلَّتْ أَوْ أباً مَشْغُولا
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكمْ فِي القرآنِ، وَنفعَنا بِمَا فِيهِ مِنَ الهُدَى وَالبيانِ، أقولُ مَا تسمعونَ وأستغفِرُ اللهَ لِي ولكمْ وَلِسائرِ المسلمينَ فَاستغفروهُ، إنَّه هُوَ الغفورُ المنَّان.ُ
الخطبة الثانية(88/5)
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ.
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، لَا إلهَ إلاَّ اللهُ، اللهُ أكبرُ،اللهُ أكبرُ، وَللهِ الحمدُ، الحمدُ للهِ الذي خلَقَ كُلَّ شيءٍ فقدَّرَهُ تقديراً، وَوَسِعَ كُلَّ شيءٍ رحمَةً وَعِلْماً وتدبيراً، وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ شهادةً أدَّخِرُهَا لِيومٍ كانَ شرُّه مُسْتطيراً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه بعثَهُ بِالهُدَى ودينِ الحقِّ بشيراً ونذيراً، ودَاعِياً إلى اللهِ بإذنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ:
فيَا عِبَادَ اللهِ: اتقوا اللهَ تبارَكَ وَتعالَى، وَاشكروهُ علَى مَا تتابَعَ مِنْ نِعَمِهِ وَتَوَالَى، واعلَمُوا أنَّ الأعيادَ والجُمَعَ وَالجَمَاعَاتِ، إنَّما شُرِعَتْ لِيُجدِّدَ المسلمونَ فِيَها عَهْدَ الإخاءِ وَالوِئامِ، فَلَا يَليِقُ فِيَها الخِصَامُ وَالانقِسَامُ، وَلَا الغِلُّ وَالبغضَاءُ، وَلَا الحسدُ وَلَا الإيذاءُ، صِلُوا أرحامَكُمْ، تَزَاوَرُوا فِيمَا بينَكُمْ، تمتَّعُوا فِي العيدِ بِمَا أحلَّ اللهُ لكم، وَاعْطِفُوا علَى الضُّعَفاءِ فِيكُمْ، { وََآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النور:33].
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، لَا إلهَ إلاَّ اللهُ، وَاللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، وَللهِ الحمدُ.
عِبَادَ اللهِ:(88/6)
تذكَّرُوا بِاجتماعِكمْ هذَا اجتماعَكُمْ يومَ الحسابِ، والوقوفَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الأربابِ، استعِدُّوا لِلِقاءِ ذِي الجَلالِ، بِمَزيدِ صالحِ الأعمالِ، وهُوَ القائلُ سبحانَهُ: { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ*وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ*أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } [آل عمران:133ـ 136]، وَمَنْ خافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ، أَلَا إنَّ سِلْعَةَ اللهِ غاليةٌ، أَلَا إنَّ سِلْعَةَ اللهِ الجنَّةُ.
يَا سِلْعَةَ الرحمنِ لَسْتِ رَخِيصَةً بَلْ أنتِ غاليَةٌ علَى الكَسْلَانِ
يَا سلعةَ الرحمنِ أينَ المُشْتَرِي؟ فَلَقدْ عُرِضْتِ بِأَيْسَِر الأثْمَانِ
ثُمَّ صَلُّوَا وَسَلِّموا- رَحِمَكُم اللهُ - علَى الهادِي البشيرِ وَالسراجِ المُنيرِ, كَمَا أمرَكُمْ بِذلِكُمُ اللطيفُ الخبيرُ, فقَالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: { إنَّ اللهَ وملائِكَتَهُ يصُلونَ على النبيِّ يا أيُّها الذين آمنوا صَلُّوا عليهِ وسلِّموا تسليماً } اللهمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلَى آلهِ وصحبِهِ وسَلِّمْ تسليماً كثيراً.(88/7)
اللهمَّ أَبْرِمْ لِهذِهِ الأمَّةِ أمْرَ رُشْدٍ يُعَزُّ فيهِ أهلُ طاعتِكَ, وَيُذَلُّ فيهِ أهلُ معصيَتِكَ, ويُؤْمَرُ فيهِ بِالمعروفِ, ويُنْهَى فيهِِ عَنِ المنكرِ, اللهمَّ سَلِّمْ حُجَاجَ بيتِ اللهِ الحرامِ, وأَرْجِعْهُمْ إلى أهلِهِمْ بِسلامٍ يا ذَا الجلالِ والإكرامِ، اللهمَّ اغفرْ لِلمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ آمِنَّا فِي الأوطَانِ والدُّورِ، وَادْفَعْ عنَّا الفِتنَ والشرورَ، وَأَصْلِحْ لنَا وُلَاةَ الأمورِ، واشرَحْ لِتحكيمِ كتابِكَ الصُّدورَ، وَأَلْبِسْ أميرَنَا وَوَلِيَّ عهدِهِ ثوبَ الصِّحةِ وَالعافيةِ والطَّهورِ، بِرحمَتِكَ يا عزيزُ يا غفورُ.
……………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(88/8)
اطبع هذه الصحفة
اعدلوا بين أولادكم
أيُّها الآباءُ الكرامُ:
…هناكَ ظاهرةٌ اجتماعيةٌ سيئةٌ - للأسفِ - فِي بعضِ الأسرِ والبيوتَاتِ، وهِيَ عدمُ العدِل بينَ الأبناءِ والبناتِ، فيعمَدُ بعضُ الآباءِ والأمهاتِ، في تخصِيصِ بعضِهم بهباتٍ أو أعطياتٍ، دونَ سببٍ داعٍ أو حاجةٍ مُلِحَّةٍ.
ونبيَُّنَا الكريمُ عليهِ أفضلُ الصلاةِ والتسليمِ أرشدنَا إلىَ الطريقِ السويِّ، وحذَّرنَا منَ الظلمِ الغويِّ، فقد أتاهُ بشيرُ بنُ سعدٍ أبْوالنعمانِ - رضي الله عنه - فقالَ يا رسولَ اللهِ: إنَّ أمَّ هذا طلبتْ منِّي أنْ أنحِلَ ابنهَا نِحلةً وأشهدَكَ عليَها فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "أكلَّ ولدِكَ أعطيتهُمْ مثلَهْ" قالَ: لاَ، قالَ: "أتحبُ أنْ يكونُوا لك في البِرِّ سواءً ؟ قالَ: نعم، قالَ: فلَا إذاً " [أخرجَهُ مسلمٌ]، وفي لفظٍ قالَ لهُ: "لا تُشْهدْنِي علَى جَوْرٍ" [أخرجَهُ البخاريُ ومسلمٌ]، فامتنعَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَن الشهادةِ؛ لقُبحِ هذَا التصرفِ والعطاءِ، ولفسادِ وظلمِ وجورِ فاعلهِ، قالَ تعالىَ: { إنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } [النحل:90] .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 13 من ذي الحجة 1426هـ الموافق : 13/1/ 2006م
اعدلوا بين أولادكم
د…الحمدُ للهِ الذِي أقامَ العدلَ والميزانَ، وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لَا شَريكَ لهُ بلا شكٍّ ولا نُكرانٍ وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُهُ الذِي أمرَ بالقسطِ والإحسَانِ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِه أولِي الفضْلِ والِعرفَانِ.
…
…أمَّا بعدُ:(89/1)
…فأوصِيكُمْ - عبادَ اللهِ - ونفسِيَ بتقوَى اللهِ تعالَى، فإنَّهَا نعمتِ الوصيةُ، وأقيمُوا العدلَ والقسطَ فإنَّه أساسُ الشرائِعِ السماويةِ، وسببُ المصالحِ الدنيويةِ، تواطأتْ عليهِ العقولُ الحكيمةُ والفِطَرُ السليمةُ، قالَ اللهُ تعالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [النساء:135].
…أيُّها المؤمنونَ:
…إنَّ العدلَ أسمَى غايةٍ، وأشرفُ وسيلةٍ، وأعظمَُ طُلبةٍ، وخيرُ ما حُفِظَتْ بهِ المكانَةُ، ونِيْلتْ بهِ العزةُ والكرامةُ، وبَقيتْ بهِ الديارُ، ودامَ الأمانُ والاستقرارُ، والعدلُ في الإسلامِ واسعُ المجالِ، متعددُ الصوَرِ والأحوالِ، حيثُ شمِلَ كلَّ ميادينِ الحياةِ، تحقيقاً للسعادةِ، ونُصرةً للمظلومِ، وإبعاداً عن الهمومِ والغُمومِ.
واعلمُوا أنَّ اللهَ تعالَى حَرَّمَ الظلمَ علَى نفسِهِ وجعلَهُ بينَ عبادِه مُحرَّماً، فعَنْ أبِي ذر ٍ- رضي الله عنه - عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيْمَا يروِيهِ عَنِ اللهِ تباركَ وتعالَى أنَّهُ قالَ: "يا عبادِي إنِّي حرمتُ الظلمَ علَى نفسِي وجعلتُه بينكُمْ مُحرَّماً فلا تظَّالمُوا " [أخرَجه مسلمٌ]، فالظلمُ عاقبتُه وخيمةٌ، وآثارُهُ ذميمةٌ، فعنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ - رضِيَ اللهُ عنهمَا - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الظلمُ ظلماتٌ يومَ القيامةِ" [أخرجَه البخاريُ ومسلمٌ].
أمَا واللهِ إِنَّ الظلمَ شؤْمٌ
وما زالَ المسيءُ هوَ الظلومُ
إلى دَّيانِ يومِ الدينِ نمضِيِ
وعنَد اللهِ تجتمعُ الخصومُ
ستعلمُ في الحسابِ إذا التقينَا
غداً عنِد الإلهِ مَنِ الملومُ(89/2)
…هذَا وإنَّ للعدلِ صوراً متعددةً، مِنْ أجلِّهَا قَدْراً وأعظمِهَا مكانةً: العدلُ في عبادِ اللهِ، فلا يَأتيِ أحدٌ يومَ القيامةِ وفِي عُنُقِه حقٌ لمسلمٍِ، ومِنْ ذلكَ: العدلُ في الأهلِ بدءاً بالزوجةِ ومَا لها مِنْ واجباتٍ وحقوقٍ، وتربية ِالأبناءِ وإبعادِهم عن أسبابِ العداوةِ والعُقوقِ.
…ومن حقِ أولادِكَ عليكَ: العدلُ بينهمُ، وعدمُ تفضيلِ بعضِهِمْ علىَ بعضٍ فِي الحبِّ والعطفِ والعطاءِ؛ حتَى لا يتفشَّى بينهُم الحقدُ والخِصامُ والبغضاءُ، فالولدُ الصالحُ من أجلِّ النِّعَمِ، وأسَبغِ ألوانِ الكرمِ، فلا تجعلْهُ إحدَى المصائبِ والنِّقَمِ، والأولادُ بتوفيقٍ مِنَ اللهِ امتدادٌ لحياتِكَ، وذكرٌ لكَ بعدَ موتِكَ، وحياةٌ ثانيةٌ لكَ بعدَ مفارقتِكَ الدنياَ. قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المُقْسِطِينَ عندَ اللهِ علَى منابِرَ من نورٍ عنْ يمينِ الرحمنِ - عزَّ وجلَّ - وكلتَا يديهِ يمينٌ، الذيِنَ يَعدِلُونَ في حكمِهمْ وأهليِهمْ وما وَلَُوا" [أخرجَهُ مسلمٌ].
…أيُّها الآباءُ الكرامُ:
…هناكَ ظاهرةٌ اجتماعيةٌ سيئةٌ - للأسفِ - فِي بعضِ الأسرِ والبيوتَاتِ، وهِيَ عدمُ العدِل بينَ الأبناءِ والبناتِ، فيعمَدُ بعضُ الآباءِ والأمهاتِ، في تخصِيصِ بعضِهم بهباتٍ أو أعطياتٍ، دونَ سببٍ داعٍ أو حاجةٍ مُلِحَّةٍ.(89/3)
ونبيَُّنَا الكريمُ عليهِ أفضلُ الصلاةِ والتسليمِ أرشدنَا إلىَ الطريقِ السويِّ، وحذَّرنَا منَ الظلمِ الغويِّ، فقد أتاهُ بشيرُ بنُ سعدٍ أبْوالنعمانِ - رضي الله عنه - فقالَ يا رسولَ اللهِ: إنَّ أمَّ هذا طلبتْ منِّي أنْ أنحِلَ ابنهَا نِحلةً وأشهدَكَ عليَها فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "أكلَّ ولدِكَ أعطيتهُمْ مثلَهْ" قالَ: لاَ، قالَ: "أتحبُ أنْ يكونُوا لك في البِرِّ سواءً ؟ قالَ: نعم، قالَ: فلَا إذاً " [أخرجَهُ مسلمٌ]، وفي لفظٍ قالَ لهُ: "لا تُشْهدْنِي علَى جَوْرٍ" [أخرجَهُ البخاريُ ومسلمٌ]، فامتنعَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَن الشهادةِ؛ لقُبحِ هذَا التصرفِ والعطاءِ، ولفسادِ وظلمِ وجورِ فاعلهِ، قالَ تعالىَ: { إنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } [النحل:90] .
…عبادَ اللهِ:
…إنَّ للتفضيلِ بينَ الأولادِ صوراً منهَا: أن يجعلَ العطيةَ في صورةِ بيعٍ وشراءٍ، أو يفضلَ أحدَهُم في المجلسِ والمقامِ، أوْ فِي الخطابِ وتصديرِ الكلامِ، وربَّمَا وزَّعَ التركةَ في حياتهِ، فيعُطِي الذكورَ ويحرِمُ بناتِهِ، وربَّماَ زوَّج الكبارَ، وأوصىَ ببعضِ مالهِ لتزويجِ الصغارِ، وهذه وصيةٌ لوارثٍ لا تجوزُ، وقدْ قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ قدْ أعطَى كلِّ ذي حقٍ حقَهُ فلَا وصيَّةَ لوارثٍ" [أخرَجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديثِ أَبى أمامةَ الباهلي].
…وقدْ يستمسَكُ الأبُ الحنونُ بأعذارٍ هاويةٍ، وأسبابٍ واهيةٍ، فيقولُ: هذا ابنٌ يسمعُ ويطيعُ، وهذا بارٌ لي وصاحبُ أدبٍ رفيعٍ، وهذا قريبٌ لي، وأولئِكَ بعيدُون عنِّي، هذا نافعٌ لِي في حاجاتِي، وأولئك مشغولونَ عنَ مُتطلَّباتِي، نعمْ قد يكونُ مثلُ هذا العملِ، لكنْ ليستِ التفرقةُ هِي الحَلُّ، فلا يُعالَجُ الخطأُ بالخطأِ، ولا نُحدثُ قطيعةً بقطيعةٍ.(89/4)
…وَربَّما حملَ على التفضيلِ حُبُّ إِحدَى الزوجتينِ، فُيغدِقُ على أولادِهَا ويَحجبُ الآخرينَ، وربَّما حَرَمَ البناتِ، لأنَّ الذكورَ ذَوُوا التزاماتٍ، وحتى لا يذهبَ مالُه لأزواجِهِن، ويمتلِكَ أولادُ غيرِهِ بزعْمِه مِيراثَهُنَّ. وهذا تَعَدٍّ على حدودِ اللهِ، فالبناتُ لَهنَّ حقُّ في الميراثِ قد فَرضَه اللهُ لهنَّ، فمنْ حَاولَ حِرْمانَهُنَّ أو تجْزِئةَ الأموالِ بالوقفِ والوَصَايا، فهو عاصٍ للهِ ورسولهِ، ظالمٌ لنفسِهِ وأولادِه.
…أيُّها الأبُ الكريمُ:
…إنَّ سَلَفنا الصالحَ قد التزمُوا بالأدبِ النبويِّ الكريمِ في العدلِ بينَ أولادِهِم، حتى كانوا يَعدِلونَ في القُبلةِ، يقولُ إبراهيمُ التيميُّ: "إنِّي لو قَبَّلتُ أحدَ الصغارِ مِن أولادِي لرأيتُ لِزاماً عليَّ أن أقبِّلَ الصغيرَ مثلَه؛ خوفاً من أن يَقعَ في نفسِ هذا عليَّ أذىً"، وبمثلِهِ يقولُ أنسٌ - رضي الله عنه - قال: "كانَ رجلٌ جالساً مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فجاءَه ابنٌ له، فأخذَه فَقبَّلَه، ثم أجلسَهُ في حِجْرِهِ، وجاءتِ ابنةٌ له فأخذَهَا إلى جَانِبِه، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"أَلَا عدلتَ بينهما "، يعني: ابنَهُ وابنتَه في تقبيلهما.[ أخرَجَهُ البزارُ والبيهقيُّ ]، فَغرْسُ مِثْلِ هِذه الفضيلةِ في نفوسِ الأولادِ، يجعلُ لكَ ذكراًً طيباً في حياتِكَ وبعدَ مَمَاتِك.
…فاتقوا اللهَ واعدلُوا بينَ أبنائِكُمُ، مُسْْتنِيرِينَ بشرعِ ربِّكُم وسنَّةِ نبيكُم، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ تعالى لي ولكم فاستغفروهُ، إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية(89/5)
…الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والعاقبةُ للمتقينَ، ولا عُدوانَ إلا على الظالمينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وليُّ الأولينَ والآخِرِينَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ إمامُ المرسَليِن، فاللهمَّ صَلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِك محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبهِ ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
…
…أمَّا بعدُ:
…فاتقُوا اللهَ عبادَ اللهِ، واذكرُوا مالَهُ عليكم مِنَ النِّعَمِ والآلاءِ، واشكرُوه واعبدُوه في الشدَّةِ والرخاءِ.
…أيُّها المسلمون:
…إنَّ هذهِ التفرقةَ والعدوانَ، تُسبِّبُ القطعيةَ والحرمانَ؛ لأنَّ الأولادَ سَيَعُقُّون والدَهم، ويعصُون أمرَه، ولا يَرأفُونَ به ويَجْفُونه، جزاءَ ما لَقوْه منه مِن القسوةِ والغلظةِ، وسوءِ التصرفِ.
…ولا تظنَّ أيُّها الأبُ الجانِي أنَّ التفضيلَ سَيزِيدُ مالَ ولدِك المفضَّلِ، فلربَّمَا فَضَّلْتَ بعضَهم فأنزلَ اللهُ المَحْقَ في كَسبِه، فيعودُ فقيراً بعدَ غِناه، ويصبحُ مشغولاً بِبِلواهُ، وإخوانُه يَدعُون عليه ويمقتونَه لِمَا نَظرُوا إلى كثرةِ أموالِه التي تَفَضَلَّتَ بها عليه، فلا تكنْ أيُّها الأبُ مِمَّن أوقدَ بينَ أولادِهِ نارَ العداوةِ، وأشعلَ بينَهم الفتنةَ والقساوةَ، وفَرَّقَ قلوبَهم وشمْلَهم، وحملَ أوزارَ قطيعتِهِم وشِقَاقِهِم.(89/6)
…اللهمَّ ارزقْنا العدلَ في أقوالِنَا وأعمالِناَ، ووفِّقْناَ بتربيةِ أبنائِنَا على الوجهِ الذي يُرضَيك عنَّا، اللهمَّ إنا نسألُك مِن الخيرِ كُلِّهِ، عاجِلِه وآجِلِه، مَا عَلِمنَا مِنْه وما لمْ نعلمْ، ونعوذُ بكَ من الشرِ كُلِّه، عاجِلِه وآجِلِه، ما علمنَا منه وما لمْ نعلمْ، اللهم إنا نسألُك من خير ما سألك عبدُك ونبيُّك - صلى الله عليه وسلم -، ونعوذُ بِكَ مِن شرِّ ما عاذَ به عبدُك ونبيُّك - صلى الله عليه وسلم -، اللهمَّ إنا نسألُك الجنَََّةَ وما قَرَّبَ إليها مِن قولٍ أو عملٍ، ونعوذُ بك مِن النارِ، وما قَرَّب إليها مِنْ قولٍ أو عملٍ، ونسألُك أن تجعلَ كُلَّ قضاءٍ قضيتَه لنا خيراً، اللهم اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، إنك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ .
…اللهمَّ وَفِّقْ سموَ أميرِ البلادِ ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ أعمالَهُما فِي رِضَاكَ، وألبسْهُما لِباسَ العافيةِ والتقوَى وَالإيمانِ، وَمُنَّ علَى بَلدِنَا هذَا وَسائرِ بلادِ المسلمينَ بِدَوَامِ الأمْنِ والأمَانِ.
…………………لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(89/7)
اطبع هذه الصحفة
مواقف من عدل الرسول
كلما حل بالمسلمين شهر ربيع الأول، أيقظ القلوب، وأعاد إلى الأذهان تلك المواقف الخالدة، التي رواها كتاب السيرة النبوية العطرة عن عدالة الرسول(صلي الله عليه وسلم)، وكان حقاً على كل مسلم أن يستلهم منها العبرة، وأن يلتزم بها في سلوكه، وأن يكون تمسكه بالعدل وحرصه على تطبيقه، مقياساً يقيس به إيمانه، فالإيمان لا يقاس بكثرة الركوع والسجود، والاحتفال بالمناسبات الدينية فقط، وإنما يقاس بالحرص على العدل، والوقوف في وجه الظلم، لأن الهدف الأساسي من إرسال الرسل وإنزال الكتب تحقيق العدل بين الناس، والقضاء على الظلم، يقول الله عز وجل في القرآن الكريم {لقد أرسلنا رسلنا بالبيانات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد 25].
مواقف من عدل الرسول
الحمد لله أمر عباده بالعدل، ووعدهم بعظيم الأجر، وجعل إقامة العدل في الأرض دليلاً على قوة اليقين، وسلامة الاعتقاد، وسبيلاً إلى السعادة في الدنيا، والنجاة من عذاب الله يوم القيامة.
وأشهد أن لا إله إلا الله، اتصف بالعدل، وجعله اسماً من أسمائه الحسنى، لنستبين طريق الحق والعدل، وتسود شريعة الله في الأرض، وأشهد أن محمداً رسول الله خير من أقام العدل بين الناس، وطبقه على نفسه وذويه، فأرشدنا إلى خير السبل، وهدانا إلى صراط الله الحميد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أيها المسلمون:(90/1)
كلما حل بالمسلمين شهر ربيع الأول، أيقظ القلوب، وأعاد إلى الأذهان تلك المواقف الخالدة، التي رواها كتاب السيرة النبوية العطرة عن عدالة الرسول(صلي الله عليه وسلم)، وكان حقاً على كل مسلم أن يستلهم منها العبرة، وأن يلتزم بها في سلوكه، وأن يكون تمسكه بالعدل وحرصه على تطبيقه، مقياساً يقيس به إيمانه، فالإيمان لا يقاس بكثرة الركوع والسجود، والاحتفال بالمناسبات الدينية فقط، وإنما يقاس بالحرص على العدل، والوقوف في وجه الظلم، لأن الهدف الأساسي من إرسال الرسل وإنزال الكتب تحقيق العدل بين الناس، والقضاء على الظلم، يقول الله عز وجل في القرآن الكريم {لقد أرسلنا رسلنا بالبيانات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد 25].
والله سبحانه وتعالى يقف مع العدل، وينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة، وتلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
وحياة رسولنا الذي نحتفل بمولده هذه الأيام تدعونا إلى أن نجعل من هذا الاحتفال انطلاقاً متجدداً في
( 2 )
سبيل الحياة، وميلاد مرحلة جديدة على طريق البناء الحضاري للأمة، نقتبس فيه من حياة الرسول(صلي الله عليه وسلم) مواقف نتعلم منها ما ينفعنا في ديننا ودنيانا، ونهتدي بها إلى الله.(90/2)
من هذه المواقف ما حدث في غزوة "بدر" فقد "وقف الرسول عليه الصلاة والسلام بين الصفوف يعدلها بقضيب في يده، فمر بسواد بن غزية "وهو خارج من الصف فضربه بالقضيب في بطنه، وقال: "استقم يا سواد، فقال: أو جعتني يا رسول الله(صلي الله عليه وسلم)، وقد بعثت بالحق والعدل، فأقدني من نفسك. (أي أمكني من القصاص منك على ما أوجعتني) فكشف الرسول عليه الصلاة والسلام عن بطنه، وقال: استقد يا سواد. (أي خذ القصاص مني على ما أوجعتك) فاعتنقه "سواد" وقبل بطنه فقال عليه الصلاة والسلام: ما حملك على ذلك؟ فقال: يا رسول الله، قد حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له بخير). نور اليقين، للخضري ص 174، 175.(90/3)
وفي قصة (زيد بن حارثة) مع رسول الله (صلي الله عليه وسلم) أكبر مثال لعدله (صلي الله عليه وسلم)، فقد كان "زيد" عبداً للسيدة "خديجة" رضي الله عنها "أهدته للنبي (صلي الله عليه وسلم)، وجاء أبوه وعمه للبحث عنه في مكة، وعرفا أنه عند رسول الله (صلي الله عليه وسلم)، وأرادا أن يأخذاه منه، فخيره الرسول بين أن يذهب مع أبيه أو أن يظل معه ؟ فاختار "زيد" رسول الله (صلي الله عليه وسلم) على أبيه وعمه، فأعتقه النبي وتبناه وأشهد على ذلك القوم وسماه "زيد بن محمد" ولما كان العدل كل العدل أن يدعى الولد لأبيه، أراد الله أن يبطل مسألة التبني، فنزل قوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً} [الأحزاب: 5] والتعبير القرآني تعبير دقيق، فكلمة "أقسط" صيغة تفضيل تدل على أن ما صنعه الرسول قسط وعدل، ولكن الله يريد ما هو أعم وأسمى بوضع مبدأ إسلامي موضع التطبيق العملي في حياة المسلمين: هو إبطال نظام "التبني" في المجتمع الإسلامي الناشىء، والرسول(صلي الله عليه وسلم) خير أسوة لنا ليطبقه على نفسه أولاً والأسوة الحقيقية هي فيما يصدر عن هذه الذات الكاملة من الصفات الخلقية والأفعال الحكيمة التي يمكن أن يكون للأسوة فيها مجال، فقد روى الإمام " الحسين بن علي"رضي الله عنهما،يقول: "سألت أبي عن مجلسه (صلي الله عليه وسلم)، فقال: "كان إذا انتهى إلى قوم جلس (صلي الله عليه وسلم) حيث ينتهي به المجلس، يعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب أحد أن أحداً أكرم عليه منه"
( 3 )
وتلك عدالة الرعاية، لا ينصرف بحديثه، ولا بعينه، ولا بأذنه إلى واحد دون الآخر، بل يوزع هذه الخطوة على الجميع بالتسوية.(90/4)
لماذا؟ لأن الرسول (صلي الله عليه وسلم) معصوم ، وحينما يكون أسوة فهو يعلمنا أن الحاكم لا يصح أن يوزع عنايته ورعايته على واحد خاص دون الآخر .. بل يجب عليه ما دام قد أذن أن يدخلوا عليه مجلسه، وأن يجلسوا عنده، فعليه أن يوزع نظره، ويوزع تحيته، ويوزع كلامه إن تكلم على الجميع، حتى لا يظن أحد أن " فلاناً "خير منه عند رسول الله (صلي الله عليه وسلم). " (أسئلة محرجة وأجوبة صريحة للشيخ / محمد متولي الشعراوي) وكان رسول الله (صلي الله عليه وسلم) يبين للمسلمين في كثير من المواقف أن العدل شريعة الله، وأنه جزء من العقيدة الإسلامية ينبغي التقيد به حتى مع الكافر، امتثالاً لقول الله عز وجل:
{يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} [المائدة: 8].
فالعدل محمود لذاته ولو كان من كافر، و الظلم مذموم لذاته ولو كان من مؤمن، وقد أمرنا الله بالعدل أمراً عاماً شاملاً، فقال جل شأنه: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} [النحل: 90].
أيها المسلمون:
إن النور الذي سطع بظهور الرسالة المحمدية يظل وحده النور الذي يغمر العالم، ويملأ الأفق، ويضىء جوانب الحياة للناس، وسوف تظل شخصية المصطفى صلوات الله وسلامه عليه الينبوع المتدفق الذي يروي ظمأ المؤمن كلما جفت ينابيع الهداية في نفسه، ودفعت به رياح الهوى إلى متاهات الغي والضلال.
وسوف يظل المصطفى (صلي الله عليه وسلم) خير قدوة نقتدي بها في حياتنا الدنيا، لأنه كان روحاً للحياة ونوراً للأحياء، بث الرشد في الضمائر، وبعث الطهر في السرائر، وألقى النور في البصائر فانقادت له نفوس أصحابه، واستقاموا على سنته، وحملوا هدى الله إلى أطراف الأرض، فأشرقت بنور ربها، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.(90/5)
لقد ربى الإسلام أتباعه على العدالة، وكان الرسول (صلي الله عليه وسلم) هو الأسوة الحسنة في تطبيق العدل بينهم جاء في الحديث الشريف عن عائشة ـ رضي الله عنها: "أن قريشا أهمهم أمر المرأة المخزومية التي سرقت على عهد رسول الله(صلي الله عله وسلم)، فقالوا: من يكلمه فيها؟ ومن يجترىء عليه إلا أسامة بن زيد حبه.
( 4 )
وابن حبه؟ فكلمه أسامة، فقال الرسول (صلي الله عليه وسلم): أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب، فقال: "أيها الناس: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"
(رواه البخاري ومسلم ..) بهذا المنطق السليم وبهذه الحجة البالغة يعالج الرسول(صلي الله عليه وسلم) قضية المرأة المخزومية في إطار العدالة التي شرعها الله لتستقيم حياة المجتمع ويتحقق له التوازن ويشيع فيه العدل والإنصاف.
الإسلام منهج رباني متكامل، أخذ على عاتقه أن يرقى بالإنسان، ويأخذ بيده إلى مستوى رفيع من الخلق، يتغلب فيه على طبيعته البشرية، ويفتح له منافذ واسعة تحقق له أسمى مراتب الكمال.
والمسلم الحق بحاجة إلى أن يترسم خطا رسوله (صلي الله عيه وسلم) على هدى وبصيرة، لا يضل ولا يزيغ عن طريق الحق والعدل، ليعيش آمناً مستقراً عالي الهمة، لا يحني رأسه إلا لخالقه، ولا تأخذه في الله لومة لائم ، ولا يصرفه عن مباشرة العدل صارف، حتى يلقى الله وهو عنه راض، يقول رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، - وكلتا يديه يمين ـ الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وماولوا" [رواه مسلم والنسائي].
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ والتزموا بالعدل، في جميع شئون حياتكم وأطيعوا الله ورسوله وأستغفر الله لي ولكم.
والتائب حبيب الرحمن.
---(90/6)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(90/7)
اطبع هذه الصحفة
أميرُ القلوبِ
وَقَدْ وَدَّعَ العبادُ؛ وأهلُ هذِهِ البِلادِ؛ كوداعِ الوالدِ من قِبَلِ الأولادِ: صاحبَ السموِّ أميرَ دولةِ الكويتِ/ الشيخ جابرَ الأحمدَ الجابرَ الصُبَاحَ طَيَّبَ اللهُ ثَرَاهُ، وجَعَلَ جنَّةَ الفردوسِ مَثْوَاهُ.
…وَهُوَ الذي غَيَّبَ الموتُ رَسْمَهُ، ولن يُغيِّبَ - بإذْنِ اللهِ تَعَالى- اسمَهُ، كيفَ لا وذِكْرَاهُ فِي قلوبِ أبْنَائِهِ مَنْقُوشَةٌ، ومحَاسِنُهُ فِي سُوَيْدَاءِ أَفْئِدَتِهِمْ مفْرُوشَةٌ، فَهُو الرَاعِي الذِي أَحَبَّ رعِيَّتهُ وأَحَبُّوه، وَوَصَلَهُم بالدعاءِ وَوَصَلَوهُ، وهذِهِ علامَةُ الخيْرِيَّةِ، وأَمَارةُ إحْسَانِ الرَاعِيَ للرعيةِ، كمَا أَخْرَجَ مسلمٌ مِنْ حدِيثِ عوفٍ بن مالكٍ - رضي الله عنه - عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "خِيَارُ أَئِمَّتِكُم: الذينَ تُحِبُّونَهُم وَيُحِبُّونَكُم، ويُصَلُّونَ عليْكُم وتُصَلُّونَ عليهِم، وشِرَارُ أَئِمَّتِكُم: الذينَ تُبْغِضُونَهُم وَيُبْغِضُوْنَكُم، وتَلْعَنُونَهُم ويَلْعَنُونَكُم. قِيْلَ: يَا رسولَ اللهِ، أَفَلا نُنَابِذُهمُ بالسَّيْفِ؟ فَقَالَ: لا، مَا أَقَامُوا فِيْكُمُ الصلاةَ، وإِذَا رأَيْتُم مِنْ وِلاتِكُم شَيْئاً تَكْرَهُونَه: فاكْرَهُوا عَمَلَه، ولا تَنْزَعُوا يداً من طاعةٍ".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ20من ذي الحجة 1426هـ الموافق20/1/2006م
أميرُ القلوبِ(91/1)
…الحمدُ للهِ المستحقِ للحمدِ والثناءِ، لاتِّصافهِ بالعظمةِ والكبرياءِ، وتوحدهِ بالإماتةِ والإحياءِ، كتبَ على كلِّ نفسٍ الموتَ والفناءَ، وتفرَّدَ سبحانَهُ بالحياةِ والبقاءِ، فلا رادَّ لأمرِهِ يحكمُ ما يريدُ ويفعلُ ما يشاءُ، أحمَدُ ربِيَ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيهِ؛ وهو المحمودُ على السراءِ والضراءِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لَهُ من الأمثالِ والشركاءِ والنُّظَراءِ، وأشهدُ أنَّ نبينَا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ أفضلُ الرسلِ وخَاتَمُ الأنبياءِ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وأزواجهِ وأصحابهِ البررةِ الأتقياءِ.
…أمَّا بعدُ:
…فأُوصِيكُم معشرَ المسلمينَ ونفْسِيَ بتَقْوَى الموْلَى، فتزودَوُا بِهَا لأُخْرَاكُم { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [البقرة:197].
إِذَا أنْتَ لَمْ تَرْحَل بِزَادٍ مِنَ التُّقَى ولاقَيْتَ بَعْدَ الموتِ مَنْ قَدْ تََزوَّدَا
نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لا تَكُونَ كِمثْلِهِ وَأَنَّكَ لَمْ تُرْصِدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا
…واعْلَمُوا رحمني اللهُ وإياكُم أَنَّ الخلقَ - لا ريبَ - مِنْ كأْسِ المنونِ مرتشفونَ، { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [العنكبوت:57].
…ولكِنْ شَتاَّنَ مَا بَيْنَ مَنْ هُوَ باقٍ بجسدهِ فانٍ بذكرهِ، وبينَ مَنْ هُوَ باقٍ بذكرهِ فانٍ في قبرهِ، فالذكرُ الجميلُ؛ والعملُ الجليلُ: عمرٌ ثانٍ للإنسانِ بعدَ الرحيلِ.
إِذَا عَرَفََ الإنسانُ أخبارَ مَنْ مَضَى تَوَهَّمْتُهُ قَدْ عَاشَ فِي أَوَّلِ الدَّهرِ
وتَحْسَبُهُ قَدْ عَاشَ آخِرَ دَهْرِهِ إلى الحشرِ إنْ أَبْقَى الجميلَ مِنَ الذِّكْرِ
فَقَدْ عَاشَ كُلَ الدهرِ مَنْ كَانَ عالماً كريماً حليماً فاغْتَنِمْ أَطْوَلَ العمرِ(91/2)
…وَقَدْ وَدَّعَ العبادُ؛ وأهلُ هذِهِ البِلادِ؛ كوداعِ الوالدِ من قِبَلِ الأولادِ: صاحبَ السموِّ أميرَ دولةِ الكويتِ/ الشيخ جابرَ الأحمدَ الجابرَ الصُبَاحَ طَيَّبَ اللهُ ثَرَاهُ، وجَعَلَ جنَّةَ الفردوسِ مَثْوَاهُ.
…وَهُوَ الذي غَيَّبَ الموتُ رَسْمَهُ، ولن يُغيِّبَ - بإذْنِ اللهِ تَعَالى- اسمَهُ، كيفَ لا وذِكْرَاهُ فِي قلوبِ أبْنَائِهِ مَنْقُوشَةٌ، ومحَاسِنُهُ فِي سُوَيْدَاءِ أَفْئِدَتِهِمْ مفْرُوشَةٌ، فَهُو الرَاعِي الذِي أَحَبَّ رعِيَّتهُ وأَحَبُّوه، وَوَصَلَهُم بالدعاءِ وَوَصَلَوهُ، وهذِهِ علامَةُ الخيْرِيَّةِ، وأَمَارةُ إحْسَانِ الرَاعِيَ للرعيةِ، كمَا أَخْرَجَ مسلمٌ مِنْ حدِيثِ عوفٍ بن مالكٍ - رضي الله عنه - عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "خِيَارُ أَئِمَّتِكُم: الذينَ تُحِبُّونَهُم وَيُحِبُّونَكُم، ويُصَلُّونَ عليْكُم وتُصَلُّونَ عليهِم، وشِرَارُ أَئِمَّتِكُم: الذينَ تُبْغِضُونَهُم وَيُبْغِضُوْنَكُم، وتَلْعَنُونَهُم ويَلْعَنُونَكُم. قِيْلَ: يَا رسولَ اللهِ، أَفَلا نُنَابِذُهمُ بالسَّيْفِ؟ فَقَالَ: لا، مَا أَقَامُوا فِيْكُمُ الصلاةَ، وإِذَا رأَيْتُم مِنْ وِلاتِكُم شَيْئاً تَكْرَهُونَه: فاكْرَهُوا عَمَلَه، ولا تَنْزَعُوا يداً من طاعةٍ".(91/3)
…فَلِسَانُ أَمِيْرِنَا الراحِلِ - رحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - يَلْهَجُ بالدعاءِ بسلامةِ البلادِ، ونقاوةِ العبادِ، فيقولُ: " فِي طوافِيَ حَوْلَ البيتِ العتيقِ، والسعيِ بينَ الصَّفَا والمروةِ، وفِي صَلاتِي دَاخِلَ الكعبةِ، وفِي رُكُوعِيَ وسُجُوديَ: كَانَتِ الكويتُ دعوةً يَخْفِقُ بِها قَلبيَ، ويَنْطِقُ بِها لِسَانِيَ، دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يَعْصِمَنَا مِنْ شُرُورِ أنفُسِنَا، ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، دعوتُ اللهَ أَنْ يحفظَ عَلَى أبناءِ الكويتِ: نعمةَ الوحدةِ فَلا يُمَزِّقُهَا اختلافٌ، ونِعمَةَ الحبِ فَلا تُدَمِّرُه الخُصُوماتُ، ونِعمةَ التَّقَدُّمِ فَلا تَعُوقُهُ الأَهوَاءُ" انتَهَى كَلامَهُ رحِمَهُ اللهُ تَعَالى.
…ولَمَّا رَاَمَ اللسانُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ خِصَالِهِ الشريفةِ؛ وقَصَدَ البَنَانُ أنْ يُذكِّرَ بخِلالِهِ المنيِفَةِ: ازدَحَمَتْ في وَجْه الكَلِم المعانِيَ، وتَجَمَّلَتْ بمِدَادِ القَلَمِ المبانِيَ، وليسَ هَذا بشعورِ فردٍ، بَلْ هُوَ إجماعٌ انعقَدَ قبلَ عقدٍ، يَوْمَ اُخْتِيْرَ فِي عامِ خمسةٍ وتسعينَ وتسعمائةٍ وألفٍ: الشخصيةَ الخيريةَ الأُولَى عالمياً.
فَيَا ليتَ شِعْرِي أَيَذْكُر الذاكرونَ خَيرِيَّةً مستقرةً في نفسهِ الطاهرةِ؟ أم يصفُ الواصفونَ خيريةً امتَدَّتْ إلَى أصقاع ِالأرضِ العامرةِ؟
…مُحَافَظَةٌ فِيِ الحَضَرِ والسفرِ على إقامةِ الصلواتِ، وتواضعٌ وإيثارٌ لخمولِ الذكرِ وإنكارِ الذاتِ، طُولُ صمتٍ وقِلةُ كلامٍ، وحبٌّ للفقراءِ والأراملِ والأيتامِ.
حَكَمَ ما يَربُو على رُبْعِ قرنٍ ولَمْ يَعْلُ في الأرضِ علوَ المفسدينَ، ولا تَجَبَّرَ ولا تَكَبَّرَ كحالِ كثيرٍ من الرعاةِ المسرفينَ.
حَاَلتْ لِفقْدِكُمُ أيَامُنَا فَغَدَتْ سُودَاً وكَانَتْ بِكُم بِيْضَاً(91/4)
…بَاركَ اللهُ لِي ولَكُم في الفُرقانِ والذِّكْرِ الحَكيمِ، ووفَّقَنا للاعتصام بِهِ وبما كانَ عليه النَّبيُّ الكريمُ؛ عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأزْكَى التسليمِ؛ مِنَ الهَدْيِ القَويمِ؛ والصِّراطِ المُستقيمِ.
أقولُ ما تَسمعونَ وأستغفرُ اللهَ الغفورَ الحليمَ، لي ولكم مِنْ كلِّ ذنبٍ؛ فتوبوا إليه إنَّه هُوَ التوَّابُ الرَّحيمُ.
…………… الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ مميتِ الأحياءِ ومُحْيِي الأمواتِ، ومبيدِ الأشياءِ ومعيدِ الذراتِ، ومقدرِ الآجالِ والأفعالِ والأقواتِ، ومُحْصِي عددِ الرملِ والقطرِ والنباتِ، أحمدُ ربِّي حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على جزيلِ العطايَا وجميلِ الهباتِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، شهادةً أدخِرُهَا لساعةِ المماتِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولهُ خيرُ المخلوقاتِ؛ وأزْكَى البريَّاتِ، صلَى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وأزواجهِ وأصحابهِ ذوِي الأنْفُسِ الزَّكِيَّاتِ، صلاةً وسلاماً متعاقَبيْنِ ما تَعَاقبَ على فراقِ الأحبةِ سَكْبُ العبراتِ.
…أما بعد: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [آل عمران:102]
…معشرَ الأحبابِ:
…إنَّ مما يُعَزِّي القلوبَ فِيْمَا ابْتُلِيَتْ بهِ من المُصَابِ، وهُوَ مصابٌ ولا شَكَّ جَللٌ: أن تَعْلَم أنَّ بَرَكَةَ العملِ الصالحِ لا تنْقَطِعُ بانقطاعِ الأَجلِ، ومصداقُ ذلِكَ: ما جاءَ في حديثِ الصادقِ المصدوقِ - صلى الله عليه وسلم -، حيثُ قالَ: "إِذا مَاتَ الإنسانُ انقطعَ عنهُ عملُهُ إلا من ثلاثةٍ: إلا من صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنْتَفَعُ بهِ، أو وَلَدٍ صالحٍ يَدْعُو لَهُ" [ أَخْرَجَهُ مسلمٌ من حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -].(91/5)
…أمَّا الصدقةُ الجاريةُ: فَهِيَ أَمانَةُ المالِ التي جَعَلَنا اللهُ تَعالَى مستخلَفِينَ عليْها، وقَدْ كان أميْرُنَا الراحلُ خَلَّدَ اللهُ تعَالَى ذِكْرَهُ: يُوصِي بِرعايةِ هذِهِ الأماناتِ، فيقولُ: "رعايةُ الأماناتِ فِي مراكزِ العملِ، أو في البيوتِ، أو في الطرقاتِ العامةِ: عملٌ من أعمالِ الإيمانِ الصادقِ".
…وإنَّ من الصدقاتِ الجارياتِ التي نسألُ اللهَ تَعالَى أنْ يَجْعَلَهَا لهُ مِنَ الباقِيَاتِ الصالحاتِ: إِسهَامَهُ رحمَهُ اللهُ تعالىَ في إنشاءِ الهيئةِ الخيريةِ الإسلاميةِ العالميةِ، التي وصَلَتْ خَيرَاتُها لمشارقِ الأرضِ ومغارِبِهَا، وكفَالتَهُ للأيتامِ المتمثلةَ في تأسيسهِ للهيئةِ العامةِ لشؤونِ القصرِ، وإغناءَه المساكينَ والفقراءَ؛ بأموالِ الأغنياءِ، التي تَصِلَهُم بواسِطَةِ يدِ بيتِ الزكاةِ البيضاءِ، وَمُحَافَظَتَهُ على الوقفِ الذي يُحْبَسُ فيه المالُ؛ ويُنْتفعُ بهِ في صالحِ الأعمالِ، وذلك بإنشاءِ الأمانةِ العامةِ للأوقافِ.
…فَهَذاُ أنْمُوذَجٌ للصدقاتِ التي أَجْرَاهَا في داخلِ البلادِ، وأمَّا ما جادَ بهِ في خارِجِها: فهو متمثلٌ في إسقاطهِ الديونَ وفوائِدَها على الدولِ الفقيرةِ.
…وأمَّا العلمُ النافعُ: فَقَدْ حَرَصَ - رحمهُ اللهُ تَعالَى - عَلَى إِرساءِ قواعدهِ، واغتِنَِام عوائِدهِ، فَقَالَ: "العلمُ يا شبابَ الكويتِ: طلبٌ ومعاناةٌ، وليس شراباً جاهزاً نُسْقَاهُ، العلمُ أشرفُ ما يميزُ الإنسانَ".
وإِنَّ مِنَ العلومِ التَي تنْفَعُ، ونسأَلُ اللهَ تَعالَى أَنْ يَجْعلَها منَ الأعمالِ الصالحةِ التي إليهِ تُرْفَعَ: رغبتَهُ الساميةَ في إنشاءِ كليةِ الشريعةِ والدراساتِ الإسلاميةِ بجامعةِ الكويتِ، وتأسيسَ اللجنةِ الاستشاريةِ العُليا للعملِ على استكمالِ تطبيقِ أحكام ِالشريعةِ الإسلامية.(91/6)
…وأمَّا الولدُ الصالحُ: فقد كَانَ - رحِمَهُ اللهُ تَعالَى- يُوْصِي أَبْنَاءَهُ مِن أَهلِ هَذَا البلدِ بالفضيلةِ، ويحذرُهُم من الرذيلةِ، ويقولُ: "خَيرُ الأبناءِ: مَنْ كَانُوا من الباقياتِ الصالحاتِ، الذينَ تَقُومُ حَيَاتُهُم على الإيمانِ والعلمِ والإخاءِ والعملِ، وتستمرُّ بِهُمُ حسناتُ الآباءِ، ويتَّسِعُ الخيرُ والعطاءُ".
وَمَا نَحْنُ إِلا مِثْلُهُم غَيْرَ أَنَّهُمُ مَضَوا قَبْلَنَا قُُُُدُمَاً ونَحنُ عَلَى الأَثَرِ
…فَكُونُوا أَيُّها الشعبُ الفاضلُ: أولاداً صالحينَ لأبيْكُمُ الراحلِ، والهجُوا بالدعاءِ لَهُ بخيرٍ، وقولوا: اللهمَّ اغْفِر لَهُ وارْحَمهُ، وعافهِ واعفُ عنهُ، وأكْرِم نُزُلَهُ، وَوَسِع مُدْخَلَهُ، واغْسِلْهُ بماءِ الثلجِ والبردِ، وَنقِّهِ مِنَ الخَطَايَا كَمَا نَقْيَّتَ الثَوبَ الأبيضَ من الدَّنَسِ، وأبْدِلْهُ داراً خيراً من دارهِ، وأهلاً خيراً من أهلهِ، وزوجاً خيراً من زوجهِ، وأدخله الجنةَ.
…اللهمَّ إِنَّه في ذِمَّتِكَ وحَبْلِ جِوارِكَ، فَقِهِ مِن فِتْنَةِ القبرِ وعذَابِ النارِ، وأنتَ أهلُ الوفاءِ والحقِ، فاغفرْ لَهُ وارحمهُ، إنكَ أنتَ الغفورُ الرحيمُ.
…وإِنَّ مِمَا يَجْبُر كَسْرَ القلوبِ، برحيلِ أَميْرِنا المحبوبِ: تَوْلِي وَليَّ عهدِهِ؛ الإمارةَ مِنْ بعدهِ: صاحبِ السموِ الأميرِِ/ الشيخِ سعدِ العبدُاللهِ السالمِ الصُبَاحِ حفظهُ اللهُ ورعاهُ، وباركَ في جُهْدِهِ ومَسْعَاهُ، فاللهمَّ اجْعَلهُ خَيرُ خَلَفٍ لخَيْرِ سلفٍ.
…ومسكُ الختامِ؛ معشرَ الإخوةِ الكرامِ: ترطيبُ أفواهِكُم بالصلاةِ والسلامِ، على صفوةِ الأنامِ، امتثالاً لأمرِ الملكِ القدوسِ السلامِ، حيثُ قَالَ في خيرِ الكلامِ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [الأحزاب: 56].(91/7)
…اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيت على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركت على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم، في العالمينَ، إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عن الأَربعةِ الخُلفاءِ الرَّاشدين؛ والأئمةِ الحُنفاءِ المهديِّين، أولي الفضلِ الجليِّ؛ والقدرِ العليِّ: أبي بكرٍ وعمرَ وعُثمانَ وعليِّ، وارض اللهمَّ عن آل نبيك الخِيَرَة، وأزواجِه البَرَرَة، وبقية المُبَشَّرِينَ العشرة، وأهلِ بدرٍ والشجرةِ، أصحابِ الوجوهِ النَّضِرَةِ المُسْفِرَةِ؛ الضَّاحِكَةِ المُسْتَبْشِرَةِ.
…اللهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهم آمِنَّا في الأوطانِ والدورِ، وادفَعْ عَنَّا الفتنَ والشرورَ، وأصْلِحْ لَنَا ولاةَ الأمورِ، وألْبِس أميْرَنَا سعداً ثوبَ الصحةِ والعافيةِ والطَّهورِ، برحمتكَ يا عزيزُ يا غفورُ.
…عبادَ اللهِ:
…اذْكُروا اللهَ ذكراً كثيراً، وكبِّروه تكبيراً، { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [العنكبوت:45].
…………………لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(91/8)
اطبع هذه الصحفة
الهجرة النبوية
عبادَ اللهِ:
…وخرجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ صاحبِهِ مِنْ دارِ أبي بكرٍ ليلاً, وكاَنا قد استأجرَا عبدَ اللهِ بنَ أُريقِطٍ ليكونَ دليلاً لهما إلى المدينةِ, وأمَّنَاهُ عَلى ذلك معَ أنَّه كانَ على دِينِ قومِهِ, وَوَاعَداهُ غَارَ ثورٍ بعدَ ثلاثٍ, وسلَّماه راحلتَيْهمَا, وجاءَ المشركُوُنَ فِي طلَبِهِمَا إلى ثَوْرٍ, حتى إنًهم مَرُّوا على بابِ الغارِ, وحاذتْ أقدامُهم رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فخافَ أبو بكرٍ- رضي الله عنه - على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لكنَّ اللهَ تعالى عَمَّى عليهم بابَ الغَارِ, فَفيِ الصحيحينِ: أنَّ أبا بكرٍ قال: نظرتُ إلى أقدامِ المشركينَ على رؤوسِناَ ونحنُ في الغارِ, فقلتُ: يا رسولَ اللهِ, لو أنَّ أحدَهُم نظرَ إلى قدَمَيْهِ أبصرَنَا تحتَ قدَمَيْهِ, فقال:"يا أبا بكرٍ: ما ظنُّكَ باثنَيْنِ اللهُ ثالثُهماَ ؟!" وفي ذلك يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة:40], فتأملْ في حِفْظِ اللهِ تعالى لأنبيائِهِ وأوليائِهِ, وعظيمِ قُدرتهِ وإعجازِهِ!
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 27 من ذي الحجة 1426هـ الموافق 27/1/2006م
الهجرة النبوية(92/1)
…الحمدُ للهِ الذي أعزَّ الإسلامَ بهجرةِ سيِّدِ الأنامِ, ورفعَ شأَْنَ المسلمينَ وَتَوَّجَهم بتاجِ النصِر والظَّفَرِ والإكرامِ, وأشهدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ نصَر نبَّيهُ وأيَّدَهُ بجنودٍ لم تَرَوْها, وجعَلَ كلمةَ الذين كفروا السُّفلَى, وكلمةُ اللهِ هِيَ العليا واللهُ عزيزٌ حكيمٌ. وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه, بلَّغَ الرسالةَ, ونصحَ لِلأمَّةِ, وجاهدَ في اللهِ حقَّ جِهَادِهِ, حتى أتاهُ اليقينُ مِنْ ربِّهِ, فصلواتُ اللهِ تعالى وسلامُه عليه وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعينَ, ومَنْ تَبِعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
…أمَّا بعدُ:
…فيا عبادَ اللهِ: أُوصِيكُم ونفسِيَ أولاً بتقوَى اللهِ تعالَى وطاعتهِ, قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [آل عمران:102].
…أيُّهَا المؤمنونَ:
…بعدَ عَشْرِ سِنينَ مِنْ مبعثِ نَبيِّنَا الأكرمِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وبَعْدَ أَنْ صَدَعَ بدعوتِهِ وجاهدَ مِن أجلِ رسالتهِ, كاَن أَذَى قريشٍ قد بلغَ حدًّا مِنَ الإيلامِ لا يُقَدَّرُ, ودَرْكًا مِن الأذَى والصدِّ لا يُتَصوَّرُ, وكانَ المستضعفونَ مِنَ المؤمنينَ يَجأرُونَ بلسانِ الشكوى: { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً } [النساء:75].
…(92/2)
…وكلَّما حاولَ الرسولُ الكريمُ - صلى الله عليه وسلم - الوصولَ إلى شيءٍ مِن هَدَفِهِ ومقصِدِه, إذا بصَوْلةِ الباطلِ تتفنَّنُ وتتجدَّدُ, وتزدادُ وتشتدُّ, حتى تكاثرَ الكفارُ على المسلمينَ, يُسُومُونَهم سُوءَ العذابِ, يَضرِبُونَهُم ويَجْلِدونَهُم وَيَمنَعُونَهُم مِنَ الطعامِ والشرابِ, وَيَجُرُّونَهُم فِي الرمضاءِ, حتى هَمُّوا بحبسِ نبيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - أوْ قتلِهِ أوْ طردِهِ, كما أخبرَ اللهُ عزَّ وجلَّ: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [الأنفال:30].
…
…فَأَذِنَ اللهُ تعالَى لنبيِّهِ بالهجرةِ إلى المدينةِ حيثُ الأنصارُ: الأَوسُ والخزرجُ, الذين كانُوا قَدْ قَدِمَ جمعٌ منهم قبْلَ الهجرةِ إلى مكةَ, فلقيَهُم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عندَ العقبةِ, فَدَعاهُم إلى الإسلاِم فأسلمُوا, وكانوا في السنَةِ الأولى ستَّةَ رِجالٍ, وفي العامِ بَعََْدهُ اثنيْ عَشَرَ رجلاً, ودعَوْا قومَهم إلى الإسلامِ حتى لم تبقَ دارٌ إلا دخلَها الإسلامُ, وبايعُوا النبيَّ- صلى الله عليه وسلم - على السمعِ والطاعةِ, وعلى أن يَنصُروه ويُؤْوُوه, ويمْنَعوه ممَّا يَمْنعونَ منه أنفسَهم وأزواجَهم وأبناءَهم, وأنَّ لهم الجنةَ, فتركَ النبيُّ المصطفى- صلى الله عليه وسلم - مكةَ قائلاً: واللهِ إنَّكِ لأحبُّ البقاعِ إلى اللهِ وأحبُّ البقاعِ إليَّ, ولولا أنَّ قوْمَكِ أخرجُونِي منكِ ما خَرَجْتُ.
…(92/3)
…ويا سبحانَ مَنْ بيدِهِ مقاليدُ السمواتِ والأرضِ, يُصَرِّفُ الأمورَ كيفَمَا شاءَ, قد أعزَّ عبدَه, ونصرَ جُنْدَهُ, ففتَحَ لنبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -بلدَهُ فتحًا مبينًا, ودخلَهَا عزيزًا مُكَرَّمًا، ولما أرادَ الهجرةَ جاءَ إلى صاحبِهِ الوفيِّ, وأخِيهِ التقيِّ: أبي بكرٍ الصديقِ - رضي الله عنه - فقال له: "إنَّ اللهَ قد أَذِنَ لِي في الخروجِ", فقالَ أبو بكرٍ - رضي الله عنه -: الصحابةَ يا رسولَ اللهِ! [أيْ: الصحبةَ] فقال: "نعم".
…عبادَ اللهِ:(92/4)
…وخرجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ صاحبِهِ مِنْ دارِ أبي بكرٍ ليلاً, وكاَنا قد استأجرَا عبدَ اللهِ بنَ أُريقِطٍ ليكونَ دليلاً لهما إلى المدينةِ, وأمَّنَاهُ عَلى ذلك معَ أنَّه كانَ على دِينِ قومِهِ, وَوَاعَداهُ غَارَ ثورٍ بعدَ ثلاثٍ, وسلَّماه راحلتَيْهمَا, وجاءَ المشركُوُنَ فِي طلَبِهِمَا إلى ثَوْرٍ, حتى إنًهم مَرُّوا على بابِ الغارِ, وحاذتْ أقدامُهم رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فخافَ أبو بكرٍ- رضي الله عنه - على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لكنَّ اللهَ تعالى عَمَّى عليهم بابَ الغَارِ, فَفيِ الصحيحينِ: أنَّ أبا بكرٍ قال: نظرتُ إلى أقدامِ المشركينَ على رؤوسِناَ ونحنُ في الغارِ, فقلتُ: يا رسولَ اللهِ, لو أنَّ أحدَهُم نظرَ إلى قدَمَيْهِ أبصرَنَا تحتَ قدَمَيْهِ, فقال:"يا أبا بكرٍ: ما ظنُّكَ باثنَيْنِ اللهُ ثالثُهماَ ؟!" وفي ذلك يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة:40], فتأملْ في حِفْظِ اللهِ تعالى لأنبيائِهِ وأوليائِهِ, وعظيمِ قُدرتهِ وإعجازِهِ!
…(92/5)
…وكان الأنصارُ لمّا بلغَهم خَبَرُ مَخْرَجِهِ مِنْ مكةَ: يَتَحرَّوْنَهُ كلَّ يومٍ, فيخرجُونَ إلى الحَرَّةِ يَنتظرونَه, فلما كانَ يومُ الإثنينِ: الثانِيَ عشرَ مِنْ ربيعٍ الأولِ, مِنَ العامِ الثالثَ عشرَ مِنَ البعثةِ النبويةِ, وافَاهُمُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ اشتدَّ الضُّحَى ففرِحَ المسلمُونَ فرحاً عظيماً وكبَّرُوا بِقدومِهِ, وقامواُ يُسلِّمُونَ على رسولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم - وأكثرُهم لم يكنْ قَد رآهُ مِنْ قبلُ, فكانَ بعضُهم يظنُّ أنَّ أباَ بكرٍ - رضي الله عنه - هوَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك لكثرةِ شَيْبِهِ.
فأقامَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - بقباءَ أياماً, وهي أولُ ضاحيةِ مِن ضَواحِي المدينةِ, وكانَ أولُ عملٍ قامَ به هو بناءُ مسجدِ قباءَ الذي قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ فِيه: { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } [التوبة:108], فَيا لِذلكَ مِنْ دِلاَلةٍ بالغةٍ, وإشارةٍ سابغةٍ, على أهمَّيةِ المسجِد في الإسلامِ, ومكاَنِتِه وأثرِهِ في المجتمعِ المسلمِ.
…ثم سارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على راحلتهِ إلى المدينةِ, فكانَ لا يَمُرُّ بدارٍ مِنُ دورِ الأنصارِ إلا رَغِبُوا إليهِ في النزولِ عليهِم, ويأخذُونَ بخطامِ ناقتهِ وهو يقولُ لهم: "دَعُوها فإنَّها مأمورةٌ", إلى أنْ جاءتْ موضعَ مسجِدهِ اليومَ فبركَتْ, فأمرَ- صلى الله عليه وسلم - ببناءِ المسجدِ, فكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَبنِي مَعهم وينقلُ الَّلبِنَ والحجارةَ بنفِسهِ ويقولُ:
اللهمَّ لا عيشَ إلاَّ عيشُ الآخرة فاغفرْ للأنصارِ والمُهَاِجرة
وجعلُوا يرتجِزُونَ وهُم ينقلونَ اللَّبِنَ ويقولُ بعضُهم:
لَئِنْ قَعدْنا والرسولُ يَعملُ لَذاكَ مِنَّا العملُ المضللُ(92/6)
…ما أجملَ هذه الروحَ؟! وما أحلَى هذا التواضعَ ؟! وما أحسَنَ هذَا الاجتهادَ؟!
ثمَّ آخىَ النبيُّ الكريمُ - صلى الله عليه وسلم - بينَ الأنصارِ والمهاجرِينَ, في دارِ أنسِ بنِ مالكٍ- رضي الله عنه - وكانوُا تِسعينَ رجلاً, نِصفُهم مِن المهاجرينَ ونصفُهم مِن الأنصارِ, فضربُوا أروعَ الأمثلةِ في ذلك مِنَ العفَّةِ والإيثارِ؛ إذْ عرضَ الأنصارُ على المهاجرينَ مُقاسَمَتَهم في أمواِلهِمْ ودورِهِمْ وثمارِهِمْ بلْ ونسائِهِمْ: يُطلِّقُ أحدُهم إحدى زوجتَيْهِ ليتزوجَها الآخرُ, ولكنَّ المهاجرينَ أبَوْا ذلكَ كُلَّه, وآثرُوا أن يَعمَلُوا ويجتهِدُوا, قالَ اللهُ تعالىَ: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الحشر:8 - 9].
…أقولُ قوليِ هذاَ وأستغفرُ اللهَ ليِ ولكُم ولساِئرِ المسلمينَ, فاستغفروُهُ إنَّه هُو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ, والعاقبةُ للمتقينَ, ولا عُدوانَ إلا على الظالمِينَ, وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ, الإلهُ الَحقُّ المبينُ, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ, إمامُ المتقينَ وخَاتمُ المرسلِينَ, اللهمَّ صَلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعينَ, ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
…أمَّا بعدُ:
…فاتقوُا اللهَ – عبادَ اللهِ - حقَّ تَقْواهُ, واعملُوا بطاعتِهِ ورضَاهُ.(92/7)
…أيُّهَا المسلمونَ:
…إنَّ الهجرةَ تُجدِّدُ الإيمانَ وتبعثُ اليقينَ في نفوسِ المسلمينَ, وتشدُّ العزمَ وتقوِّي الأملَ للمكافحِينَ, الذينَ يرجُونَ ما عنْدَ اللهِ والدارَ الآخرةَ, لا يبتغُونَ بكفاِحِهم مالاً ولا جَاهاً ولا سلطاناً, وإنَّما يبتغونَ إصلاحاً وخيراً وأماناً.
…إننا إذا ذكرْناَ الهجرةَ ذَكرْناَ الإيمانَ القويَّ والصبرَ الجميلَ, وذَكرْنَا التضحيةَ والفداءَ, والبذلَ والسخاءَ, والأخوةَ والإيثارَ, وأكثرُ مْن ذلكَ أنْ نذكرَ نصرَ اللهِ تعالَى لأوليائِهِ, ومحبَّتِهِ لأصفيائهِ, وأنَّه مَنْ توكَّلَ على اللهِ هَدَاهُ ومَنْ لاذَ باللهِ كَفاهُ { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ } [الزمر:36].
…اللهمَّ أصلحْ لنَا ديننَاَ الذي هو عِصْمَةُ أمرِنَا, وأصِلحْ لنَا دنيانَا التي فِيهَا مَعَاشُنا, وأصلحْ لنا آخرَتَنَا التي فيها معادُنا, واجعلِ الحياةَ زيادةً لنا في كُلِّ خيرٍ, واجعِلِ الموتَ راحةً لناَ مِنْ كلِّ شرٍّ، اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ, والمسلمينَ والمسلماتِ, الأحياءِ منهم والأمواتِ, إنَّك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ، اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ, وأذلَّ الشركَ والمشركينَ, ودمِّرِ اللهمَّ أعداءَكََ أعدَاءَ الدينِ .
…اللهمَّ وَفِّقْ أميرَنا لِهُدَاكَ واجعلْ عملَهُ في رِضَاكَ, اللهمَّ احفظْهُ بحفظِكَ, واكلأْهُ برعايَتِكَ, وألبِسْهُ ثوبَ الصحَّةِ والعافيةِ والإيمانِ, يا ذَا الجلالِ والإكرامِ. اللهمَّ اجعلْ هذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ, وتقبلِ اللهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(92/8)
اطبع هذه الصحفة
تعظيمُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم
عبادَ اللهِ:
…وأمَّا خُلُقُهُ - صلى الله عليه وسلم - فهو العَجَبُ العُجَابُ، الذي يأخذُ بالعقولِ والألبابِ، يقولُ عبدُ اللهِ بْنُ عمرٍِو - رضيَ اللهُ عنهما -: لم يكنِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فاحشاً ولا مُتَفَحِّشًا، وكانَ يقولُ:"إنَّ مِنْ خيارِكم أحسنَكُمْ أخلاقاً" [متفقٌ عليه].
وتقولُ عائشةُ - رضِيَ اللهُ عنها -:" وما انتقمَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لنفسِهِ، إلا أَنْ تُنْتَهكَ حرمةُ اللهِ فَينتقمَ للهِ بها "[ متفق ٌعليه].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 4 من محرم 1427هـ الموافق 3/2/2006م
تعظيمُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
…الحمدُ لِلهِ الذي أعزَّ الإسلامَ بإرسالِ سيِّدِ الأنامِ، ورَفَعَ شأنَ المسلمينَ وتَوَّجَهُمْ بتاجِ النصرِ والظَّفَرِ والإكْرامِ، وأَشْهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ نَصَرَ نبيَّهُ وأيدَّهُ بجنودٍ لَمْ تَرَوْها، وجَعَلَ كلمةَ الذينَ كفروا السُّفْلى، وكلمةُ اللهِ هِيَ العُلْيا واللهُ عزيزٌ حكيمٌ. وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ، بلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصحَ لِلأمَّةِ، وجاهدَ في اللهِ حقَّ جهادِهِ، حتى أتاهُ اليقينُ مِنْ ربِّهِ، فصلواتُ اللهِ تعالى وسلامُهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
…أمَّا بعدُ:
…فيا عبادَ اللهِ: أُوْصِيكم ونَفْسِي أولاً بتقوى اللهِ تعالى وطاعتِهِ، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ } [آل عمران:102].
…أيُّها المسلمونَ:(93/1)
…كَمْ نَشتاقُ إلى رؤيةِ وجْهِ نبيِّناَ مُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - الأغرِّ! وكم نَحِنُّ إلى سماعِ صوتِهِ العَذْبِ الأزْهَرِ! وكَمْ نَرْجُو أّنْ نَلْمِسَ كَفَّهَ النَّدِيَّ الأطْهرَ! وكم نَتُوقُ إلى أن نَشُمَّ منه رائحةَ المِسْكِ الأذْفَرِ! ولقد صَدَقَ - صلى الله عليه وسلم - حينَ قالَ:"وَلَيَأْتِيَنَّ على أحدِكُمْ زمانٌ لأَنْ يَرَانِي أحبُّ إليهِ مِنْ أنْ يكونَ له مثلُ أهلِهِ ومالِهِ"[متفقٌ عليه من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - ].
وأَحْسَنُ منْكَ لم تَرَ قَطُّ عَيِْني وأَجْمَلُ منكَ لم تَِلِد النساءُ
خُلِقْتَ مُبَرَّأً مِنْ كلِّ عَيْبٍ كأَّنكَ قد خُلِقْتَ كَمَا تشاءُ
…إنَّه رسولُ اللهِ تعالى إلى الخلقِ أجمعينَ، وخليلُ ربِّ العالمينَ، وسيِّدُ الأنبياءِ والمُرْسلينَ، مَنزلتُهُ قَدْ بَلَغَتْ عَنَاَنَ السماءِ، ونَزَلَ فيه مِنْ ربِّ العُلا المدحُ والثناءُ؛ حتى قالَ فيهِ سبحانَهُ وتعالى: { إِنّ اللّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلَى النّبِيّ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ صَلّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً } [الأحزاب:56]، وقال جلَّ وعلا: { وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم:4].(93/2)
…قَدْ جَاءتِ البِشارةُ بهِ في الكُتُبِ السماويةِ المتقدِّمةِ، وبيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ ذلكَ مكتوبٌ في التوراةِ والإنجيلِ، وأَخْبَرَ سبحانَهُ عَنْ نبيِّهِ عيسى عليهِ السلامُ أنَّهُ قال: { وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمّا جَاءَهُم بِالْبَيّنَاتِ قَالُواْ هََذَا سِحْرٌ مّبِينٌ } [الصف:6]، وأخرجَ البخاريُّ في صحيحِهِ عَنْ عطاءِ بْنِ يَسارٍ أنَّهُ قالَ: لَقِيْتُ عبدَ اللهِ بنَ عَمْروِ بنِ العاصِ - رَضِيَ اللهُ عنهما - فقلت: أخبِرْنِي عَنْ صفةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في التوراةِ، قالَ: أَجَلْ واللهِ؛ إنَّه لموصوفٌ في التوراةِ ببعضِ صفتِهِ في القرآن: { يَأَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً } [الأحزاب:45] وحِرْزًا للأميِّينَ. أنتَ عَبْدي ورسولِي، سَمَّيْتُكَ المتوكِّلَ، ليس بفظٍّ ولا غَليظٍ ولا سَخَّابٍ في الأسواقِ، ولا يدفعُ بالسيئةِ السيئةَ، ولكنْ يعفو وَيْغفِرُ، ولن يَقْبِضَهُ اللهُ حتى يُقيِمَ به المِلَّةَ العَوْجَاءَ؛ بأنْ يقولوا: لاَ إلهَ إلا اللهُ، ويَفْتحَ بِهِ أعيُنًا عُمْياً، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْفاً.
…وهو كما قال عَنْ نفسِهِ - صلى الله عليه وسلم - "سيِّدُ ولدِ آدمَ يومَ القيامةِ ولا فَخْرَ، وأوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عنه القبرُ، وأولُ شافعٍ، وأولُ مُشَفَّعٍ"، [أخرجه مسلمٌ من حديث أبي هريرةَ - رضي الله عنه -].
…عبادَ اللهِ:
…وأمَّا خُلُقُهُ - صلى الله عليه وسلم - فهو العَجَبُ العُجَابُ، الذي يأخذُ بالعقولِ والألبابِ، يقولُ عبدُ اللهِ بْنُ عمرٍِو - رضيَ اللهُ عنهما -: لم يكنِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فاحشاً ولا مُتَفَحِّشًا، وكانَ يقولُ:"إنَّ مِنْ خيارِكم أحسنَكُمْ أخلاقاً" [متفقٌ عليه].(93/3)
وتقولُ عائشةُ - رضِيَ اللهُ عنها -:"وما انتقمَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لنفسِهِ، إلا أَنْ تُنْتَهكَ حرمةُ اللهِ فَينتقمَ للهِ بها"[ متفق ٌعليه].
…وتأمَّلوا في هذا الخُلُقِ الرَّفيعِ الذي يَحْكِيهِ خادمُه أنسُ بنُ مالكٍ - رضي الله عنه - فيقولُ: خَدَمْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عشرَ سِنِينَ، واللهِ ما قال لي أُفٍّ قطُّ، ولا قالَ لي لشيءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا ؟ وهلاَّ فعلتَ كذا ؟ [متفقٌ عليه].
…ولقَدْ كانَ - صلى الله عليه وسلم - غايةً في التواضُعِ، فعَنْ أنسٍ - رضي الله عنه - قالَ: جاءتِ امرأةٌ للنبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَتْ: يا رسولَ اللهِ: إنَّ لي حاجةً، فقال لها:"يا أُمَّ فلانٍ: اجلسِي في أيِّ نواحِي السِّكَكِ شِئْتِ حتى أجلسَ إليكِ"، فجلستْ، فجلسَ النبيٌ - صلى الله عليه وسلم - حتى قَضَى حاجتَهَا، [أخرجهُ أبو داودَ].
…وكانَ - صلى الله عليه وسلم - حقًّا نبيَّ الرحمةِ، كما وَصفَهُ ربُّ العزةِ جلَّ جلالُهُ بقولِهِ: { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء:107]، وكانَ يقولُ:"الراحِمونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحمنُ،ارْحَمُوا أهلَ الأرضِ يَرْحمْكم مَنْ في السماءِ" [أخرجه أبو داودَ والترمذيُّ مِنْ حديثِ عبدِ اللهِ بْنِ عمروٍ رضِيَ اللهُ عنهما].
…وأَخرجَ مسلمٌ عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قِيلَ: يا رسولَ اللهِ: ادعُ على المشركين، قال: "إنِّي لم أُبْعَثْ لَعَّانًا، وإنَّما بُعِثْتُ رَحْمَةً".
…أيُّها المسلمونَ:
…فَمَا واجبُنا تُجَاهَ هذا النبيِّ الكريمِ، عليه أفضلُ الصلاةِ وأَتمُّ التسليمِ؟(93/4)
…أولاً: أَنْ نُؤمِنَ بِهِ ونُصِدِّقَهُ في كلِّ ما يقولُ، وأنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - خاتَمُ الأنبياءِ والمرسلينَ، وأنَّ شريعتَهُ ناسخةٌ لجميعِ الشرائعِ قَبْلَهُ، وأنَّ كتابَهُ – وهو القرآنُ الكريمُ – شاهدٌ على الكُتُبِ كلِّها وحاكمٌ عليها، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } [ المائدة:48].
…وثانياً وثالثاً: أن نُحِبَّهُ ونُوَقِّرَهُ، ومقتضَى ذلكَ أن نَتَّبِعَهُ ونعملَ بَمَا جاءَ بهِ، وأنْ نَنْصُرَهُ وَنذُبَّ عنهُ، قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: { لّتُؤْمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ } [الفتح:9]، وقال تعالى: { لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىَ ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوَاْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشّاهِدِينَ } [آل عمران:81]، وقالَ تعالَى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ } [آل عمران:31].
…أقولُ قولِي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ فاستغفروهُ إنَّهُ هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والعاقبةُ للمتقينَ، ولا عُدْوانَ إلا على الظالمينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شريكَ له، الإلهُ الحقُّ المبينُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، إمامُ المتقينَ وخاَتمُ المرسلينَ، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ مُحمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
…أمَّا بعدُ:
…فاتقوا اللهَ – عبادَ اللهِ - حقَّ تَقْواهُ، واعملُوا بطاعتِهِ ورِضَاهُ.
…أيُّها المسلمونَ:(93/5)
…قد سَمِعْتُمْ ما يُذاعُ في هذهِ الأيامِ، مِنْ وقوعِ الاستهزاءِ بأكرمِ الخَلْقِ وسيِّدِ الأنامِ، نبيِّنا وحبيبِنا محمدٍ عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأَتمُّ السلامِ، في بعضِ صِحَافةِ الخارجِ، ولا شَكَّ أنَّ هذا العملَ مُنْكَرٌ وزورٌ، وجريمةٌ شنيعةٌ بكلِّ المقاييسِ والاعتباراتِ، دِيَانةً وخُلُقاً وقانونًا؛ وذلكم أنَّ الرسالاتِ السماويةَ جميعَها لا تفرِّقُ بينَ رسولٍ ورسولٍ في التقديرِ والتوقيرِ؛ إذْ كلُّهُمْ رُسُلُ اللهِ عزَّ وجلَّ، والقوانينُ الموجودةُ اليومَ لا تَقْبَلُ الإساءةَ لدينٍ مِنَ الأديانِ بالسبِّ والشَّتمِ، أو السُّخْرِيةِ والاستخفافِ، لا في كتابِهِ ولا في رسولِهِ، وإنَّما المقبولُ والمطلوبُ: المحاورةُ والنِّقاشُ، والجِدالُ بالتي هِيَ أحسَنُ.
…ثُمَّ كيفَ لعاقلٍ – بَلْ لِمَنْ كانَ فيهِ شيءٌ مِنَ الخيرِ والخُلُقِ - أن يَهْزَأَ بسيِّدِ البشريةِ الذي جعلَهُ اللهُ تعالى خيرَ سببٍ لرحمةِ الناسِ وهدايتِهِمْ، وإخراجِهِمْ مِنْ ظلماتِ الجَوْرِ والجهلِ والطُغيانِ إلى نورِ العدلِ والعلمِ والإيمانِ؟! لَمْ يكنْ رسولُنا الكريمُ - صلى الله عليه وسلم - يرضَى بقتلِ النساءِ والصبيانِ ونحوِهِمْ مِنَ الكفارِ، وكانَ يُشدِّدُ في قتلِ المعاهَدِينَ الآمنينَ، وكانَ يَأْتَمِرُ بأمرِ اللهِ عزَّ وجلَّ في عدمِ الاعتداءِ في القتالِ، وفي إطعامِ المِسْكِينِ واليتيمِ والأسيرِ ولو مِنَ الكفارِ.(93/6)
ولَقَدِ اسْتَهزأَ قومٌ مِنَ المنافقينَ برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِهِ الكرامِ في غزوةِ تَبُوكَ، فأنزلَ اللهُ تعالَى في شأنِهم قولَه سبحانَهُ: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مّنْكُمْ نُعَذّبْ طَآئِفَةً بِأَنّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } [التوبة:65- 66].
…معاشرَ المسلمين:
…إنَّ تبريرَ هذا التهجُّمِ على نبِّينا الكريمِ بدعْوى الحريةِ لَهُوَ قولٌ باطلٌ، وادِّعاءٌ زائِفٌ، وإلا فمتى كانتِ الحريةُ تعني الاعتداءَ على المُعتقداتِ الدينيَّةِ؟! ومتى كانتِ الحريةُ تعني الاستهزاءَ بالثوابِتِ الشرعيَّةِ؟! ومتى كانتِ الحريةُ في التهجُّمِ على مُقدَّساتِ الأُمَمِ ومَبادِئِها بخُصوصِيَّاتِها؟! تاللهِ إنَّها لإحدَى الكُبَرِ. إنَّ الحريةَ أَنْ تُبْدي رأْيكَ فيما تَعتقِدُ، وأَنْ تُناقشَ على أَساسِ ذلكَ، لا أَنْ تَتطاولَ وتَسْتهزِئَ بأَنبياءِ اللهِ تعالَى ورُسُلِهِ وكُتُبِهِ، فالحريةُ المُطْلقَةُ التي لا ضابِطَ لهَّا إنَّما هيَ فوضىَ لا قيمةَ لها.
…
…عباد الله:
…يقولُ اللهٌ عزَّ وجلَّ – مبيَّنًا فضل نبَّينا الكريمِ - صلى الله عليه وسلم - علينا -: { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة:128](93/7)
…فحقُه علينا عظيمٌ، وواجبُنا نَحْوَهُ جسيمٌ، وهُوَ أَنْ نقومَ بنُصْرَتِهِ وتأييدِهِ، والذبِّ والدفاعِ عنه، والغَيْرَةِ عليهِ وعلى شريعتِهِ الأَمْرُ الذي يَستلزمُ مِنْ عُلماءِ الأُمَّةِ ودُعاتِها وولاةِ أَمْرِها وحكوماتِها اتخاذَ كافةِ الوسائلِ التي تَحْفَظُ للمسلمينَ هيبتَهُم وكَرَامَتَهم، وأَنْ نُطالِبَ الذينَ يتَهجَّمونَ على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالاعْتِذارِ الصريحِ للأُمَّةِ الإسلاميةِ، وأَنْ نقومَ بواجبِ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عّنِ المنكرِ فيما يتعلقُ بِهِ، بالكلمةِ الطيبةِ الصادقةِ، والقلمِ النابضِ الجريءِ.
…قال حسانُ بْنُ ثابتٍ - رضي الله عنه - وهو يردُّ على مَنْ هَجَا نبَّينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -:
…… هجوتَ محمدًا وأَجبتُ عَنْهُ وعندَ اللهِ في ذاكَ الجَزاءُ
…… أَتْهجُوهُ ولستَ لَهُ بكفءٍٍ فشرُّكُما لخيرِكما الفِدَاءُ
…… هجوتَ مُبَارَكاً بَرًّا حَنِيفًا أَمِينَ اللهِ شيمتُه الوفاءُ
…… أَمَنْ يهجُو رسولَ اللهِ منكم ويَمْدَحُهُ وَينْصرُهُ سَواءُ
…… فإنَّ أبِي ووالدَه وعِرْضِي لِعِرْضِ محمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
…… لِساني صارمٌ لا عَيْبَ فيهِ وَبحْرِي لا تكدِّرُهُ الدِّلاءُ
…اللَّّهُمَّ احفَظْنَا بالإسلامِ قائمينَ، واحفظنا بالإسلامِ قاعدينَ، واحفظنا بالإسلامِ راقدينَ، ولا تُشْمِتْ بنا الأعداءَ ولا الحاسدينَ. اللهمَّ مَنْ أرادَ بالإسلامِ أو بِنَبِيِّهِِ سوءاً فَأَشْغِلْهُ بنفسِهِ، واجعلْ تدبيرَهُ تدميرًا عليهِ يا ربَّ العالمينَ. اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ، ودمِّرِ اللهمَّ أَعداءَكَ أعداءَ الدينِ. اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، إنَّك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدَّعَواتِ.(93/8)
…اللهمَّ وَفِّقْ أميرَنا لِهُدَاكَ واجعلْ عملَهُ في رِضَاكَ, اللهمَّ احفظْهُ بحفظِكَ, واكلأْهُ برعايَتِكَ, وأَلبِسْهُ ثوبَ الصحَّةِ والعافيةِ والإيمانِ, يا ذَا الجلالِ والإكرامِ. اللهمَّ اجعلْ هذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ, وتقبلِ اللهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
……… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(93/9)
اطبع هذه الصحفة
أسباب انحراف الشباب
معاشرَ المسلمينَ: …
ومِنْ هذِهِ الأسبابِ، التي تُؤَدِّي إلى انحرافِ الشبابِ، جلساءُ السُّوءِ، مِنَ الذِينَ يُفْسِدُونَ في الأرضِ ولا يُصْلِحونَ، فإذا ارتبطَ بِهِمُ الشابُّ، فإنَّهم يجُّرونَهُ إلى الأخلاقِ السيِّئةِ، أخرِجَ الإمامُ أحمدُ عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "المَرْءُ على دينِ خليلِهِ فَلْينظُرْ أحدُكمْ مَنْ يُخَالِلُ".
…وَمنْهِا: كثرةُ المُثِيرَاتِ مِنْ خِلالِ المشاهِدِ الهابِطَةِ، التي تُصَوِّرُ لهم مباهِجَ الحياةِ المُتَحلِّلَةِ، وترسِّخُ في أذهانِهمْ أنَّ الدنيا لِعبٌ ولهْوٌ، فبعضُ شبابِنا يقَعُ في كلِّ دقيقةٍ مِنْ يومِهِ، تَحْتَ تأثيرِ الضخِّ الإعلاميِّ الفضائيِّ، الذي يُصَوِّبُ ِضدَّ حُصوننِا أعْتَى سلاحٍ، لِينزِعَ الشبابَ مِنْ تُرْبتِهِ، فَيُقْطَعَ مِنْ جذورِهِ، ويُمْنَعَ مِنْ مَوْردِهِ.
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 11 من محرم 1427هـ الموافق 10/2/2006م
أسباب انحراف الشباب
…الحمدُ للهِ ربِّ البريَّاتِ، بنعمتِهِ تتمُّ الصالحاتُ، وبفضلِهِ يرقَى الشبابُ بالمجتمعاتِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له قيُّومُ الأرضِ والسمواتِ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ربَّى الشبابَ على المَكْرُمَاتِ، ودعاهم لِمَا فيهِ الخيرُ في هذهِ الحياةِ وبعدَ المَمَاتِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبِهِ الإئمَّةِ الثقاتِ، الذين التزموا تعاليمَ دينِهمْ فبنَوا الأمجادَ وشيَّدوُا الحضاراتِ، وعلى التابعينَ ومَنْ تبِعَهُم بِإحسانٍ ما دامتِ الأرضُ والسمواتُ.
…أمَّا بعدُ:(94/1)
…فأوصِيكم – عبادَ اللهِ - ونفسِيَ بتقوَى اللهِ الملكِ العلاَّمِ، فإنَّ تقواهُ سببٌ للثباتِ على الدوامِ، وطريقٌ للسعادةِ مَهْما عصفَتِ الأيامُ، يقولُ اللهُ جلَّ شأنهُ { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ (3) } [الطلاق:2-3] ويقولُ سبحانَهُ { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) } [الطلاق:4-5].
المُتَّقوُنَ هُمُ الملوكُ وإِنْ أَبَوْا رَغْدَ الحياةِ وِلينهِا فتَقَشَّفُوا
عكَفُوا عَلى آيِ الكتابِ فَأَفْلَحُوا وَالجاهلونَ عَلى المآِثِم عُكَّفُ
إخوةَ الإسلامِ:
… إنَّ الشبابَ في كلِّ أمَّةٍ هُمْ عُدَّتُهَا وعتَادُها، وهم أملُها ورجاؤُها، وهبَهم اللهُ أسبابَ القوَّةِ، ومَنَحهْم الجَلَدَ والهِمَّةَ، يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } [الروم:54].
…الشبابُ: هُوَ زمنُ العملِ، لأنَّه قوةٌ بينَ ضَعْفَينِ، وهُوَ ضيفٌ سريعُ الذهابِ والفَوَاتِ، فإنْ لَمْ يَغْتنمْهُ العاقلُ تقطَّعَتْ نفسُهُ حَسَرَاتِ، كانَتْ صفَّيةُ بنتُ سيِرينَ توصِي فتقولُ: "يا معشرَ الشبابِ خُذُوا مِنْ أنفسِكمْ وأنتمْ شبابٌ، فإِّني ما رأيتُ العملَ إلاَّ في الشبابِ".
… أمَّةَ المجدِ:(94/2)
… إنَّ للشبابِ تاريخاً مُشَرِّفاً، وماضِياً زاهِياً، فَلَقدْ كانوا أوَّلَ الداخلينَ في الإسلامِ، والمُلْتَفِّينَ حَوْلَ رسولِ اللهِ عليه الصلاةُ والسلامُ، غذَّاهمُ الإسلامُ بمبادئِهِ، وروَّضَهم على تعاليمِهِ، فجعلَ مِنْهمُ الأئمَّةَ في الدينِ، والقادَةَ والفاتحينَ، والعبادَ الصالحينَ.
كذِلَك أخرجَ الإسلامُ قومِي شبَاباً مُخْلِصاً حُرّاً أَِميناَ
شبابٌ ذلَّلوا سُبَل المعالِي وما عَرفُوا سِوَى الإسلامِ ِديناَ
تَعهَّدَهُْم فأنبتَهُمْ نَبَاتاً كريماً طابَ فِي الدنيا غُصُوناَ
…عبادَ اللهِ:
…إذا قلَّبَ الغيورُ بصرَهُ في أحوالِ بعضِ الشبابِ، أُصِيبَ بِالحسرةِ والأرَقِ والاكتئابِ، خلودٌ للدَّعَةِ والكَسلِ، وابتعادٌ عَنْ أسبابِ التقدُّمِ والعملِ، فباللهِ عليكمْ إلى أيِّ شيءٍ تتطلعُ إليهِ الأمَّةُ في المستقبلِ؟!
…إنَّ أحوالَ الشبابِ اليومَ، تسترعِي انتباهَ القومِ، وتستوجبُ اهتمامَ المجتمعِ بأسرِهِ، بكامِلِ أفرادِهِ ومؤسساتِهِ، مِنَ العلماءِ والمربينَ ورجالِ الأمْنِ والإعلاميِّينَ، باذلينَ الغالِيَ والنفيسَ، لِانتشالِ الشبابِ مِنْ هذا الواقعِ البئيسِ، ناظرينَ قَبْلَ ذلِكَ إلى أسبابِ الانحرافِ والتي مِنْ أهمِّها:
…الفَرَاغُ: الذيِ يُسَبِّبُ تبلَّدَ الفكرِ، وضَعْفَ النفسِ، واستيلاءَ الأفكارِ الرديئةِ، والإراداتِ السيئةِ، ومَنْ عِلمَ أنَّ الشبابَ ضيفٌ لا يعودُ، وفرصةٌ ليسَ لها رجوعٌ، شغَلَه بالنافِعِ المفيدِ، والعملِ المثمرِ الجادِّ، وأمَّا مَنْ أَتْبَعَ نفْسَهُ هَواها، قَادَهُ الشيطانُ بِزِمامِ الشبابِ إلى التهلُكَةِ.
إنَّ الشبابَ والفَرَاغَ والِجدَةْ مَفْسَدةٌ للمَرْءِ أيُّ مفْسَدةْ
معاشرَ المسلمينَ: …(94/3)
ومِنْ هذِهِ الأسبابِ، التي تُؤَدِّي إلى انحرافِ الشبابِ، جلساءُ السُّوءِ، مِنَ الذِينَ يُفْسِدُونَ في الأرضِ ولا يُصْلِحونَ، فإذا ارتبطَ بِهِمُ الشابُّ، فإنَّهم يجُّرونَهُ إلى الأخلاقِ السيِّئةِ، أخرِجَ الإمامُ أحمدُ عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "المَرْءُ على دينِ خليلِهِ فَلْينظُرْ أحدُكمْ مَنْ يُخَالِلُ".
…وَمنْهِا: كثرةُ المُثِيرَاتِ مِنْ خِلالِ المشاهِدِ الهابِطَةِ، التي تُصَوِّرُ لهم مباهِجَ الحياةِ المُتَحلِّلَةِ، وترسِّخُ في أذهانِهمْ أنَّ الدنيا لِعبٌ ولهْوٌ، فبعضُ شبابِنا يقَعُ في كلِّ دقيقةٍ مِنْ يومِهِ، تَحْتَ تأثيرِ الضخِّ الإعلاميِّ الفضائيِّ، الذي يُصَوِّبُ ِضدَّ حُصوننِا أعْتَى سلاحٍ، لِينزِعَ الشبابَ مِنْ تُرْبتِهِ، فَيُقْطَعَ مِنْ جذورِهِ، ويُمْنَعَ مِنْ مَوْردِهِ.
…ومِنْها: التأثُّرُ بالأخلاقِ الوافدَةِ، في المظْهرِ والفكْرِ والثقافَةِ، بَلْ قَدْ يتجاوزُ الأمرُ مرحلةَ التقليدِ والتبعيَّةِ، إلى الإعجابِ بأخلاقِهم الردِيَّةِ، إنَّها دليلٌ على انغلاقِ الفكرِ وضياعِ الشخصيةِ، إذْ كيفَ يقلِّدُ المسلمُ الكافِرَ في باطلِهِ، والغرْبَ في انحلالِهِ وميوعتِهِ، فَلا إِلهَ في نظرِهِ يَرْقُبُ جزاءَهُ، ولا دِينَ يتقيَّدُ بحدودِهِ، ويسيرُ مَعَ أحكامِهِ، فَعَنْ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كانَ قبلَكم شِبْراً بِشبرٍ وذِراعاً بِذراعٍ، حتَّى لَوْ دخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُموهُمْ، قُلنا: يا رسولَ اللهِ اليهودَ والنصارَى؟ قالَ: فَمَنْ؟"[أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ].
…إخوةَ الإيمانِ:(94/4)
…ومِنْ عظيمِ هذهِ الأسبابِ، انشغالُ الآباءِ والأمهاتِ عَنْ تخصيصِ وقتٍ كافٍ للتربيةِ، فَيُتْرَكُ الشبابُ دونَ توجيهٍ وإرشادٍ، وهذا مِمَّا يجعلُ مقاومَتَهمْ ضعيفةً، ومَنَاعَتَهمْ محدودةً، فَيَغْرِقُونَ في دَوَّاماتٍ تَطْوِيهم، ومُشْكلاتٍ تَعْصِفُ بهم، يقولُ اللهُ سبحانَه: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا(10) } [الشمس: 7- 10].
…بارَكَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفَعَنا بِهَدْيِ النبيِّ الكريمِ، عليه أفضلُ الصَّلاةِ وأَزْكَى التسليمِ، أقولُ ما تسمعونَ وأَستغفرُ اللهَ لِي ولكمْ ولسائِرِ المسلمينَ مِنَ كلِّ ذنبٍ فاستغفروهُ إنَّهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
… الحمدُ للهِ على إحسانِهِ، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له تعظيماً لشانِهِ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ الداعِي إلى رضوانِهِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وسائِرِ صَحْبِهِ وإخوانِهِ.
أمَّا بعدُ:
فَيا أيُّها الناسُ: اتقوا اللهَ وأَطِيعوهُ، وراقِبُوه ولا تَعْصُوه، يقولُ اللهُ سبحانَهُ:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم:6].
عبادَ اللهِ:
وبَعْدَ أنْ تعرَّضْنَا لِشيءٍ مِنْ أسبابِ الانحرافِ، كانَ لِزَاماً علينا أنْ نُجَنِّبهَا الشبابَ، وأنْ نحولَ بينَهم وَبيْنَها، حِفاظاً على هذِهِ الثَّرْوَةِ المُهْدَرَةِ، وَالغنيمةِ الضائِعَةِ.(94/5)
إنَّ أعظمَ وسيلةٍ لِتحصينِ الشبابِ ترسيخُ الإيمانِ، فالإيمانُ باللهِ يملأُ القلبَ طمأنينةً، ويبعثُ في النفسِ الثِّقةَ باللهِ، كذلِكَ التوجيهُ الصالِحُ الرشيِدُ، الذي يتضَافرُ عليهِ البيتُ والمدرسةُ، ومِثْلُه الإعلامُ على اختلافِ وسائلِهِ وثقافَتِهِ، والمسجدُ – عبادَ اللهِ – له دورُهُ بِاعتبارِهِ مَحضِناً لِلشبابِ، يمنَحُهُ الثباتَ والاستقامةَ، فهلْ يُحْيِي الأئِمَّةُ وَالخطباءُ دَوْرَ المسجدِ ورسالَتَهُ؟
وإذا كانَ حديثُنا عَنْ أسبابِ انحرافِ الشبابِ، فهذا لا يعِني خَوَاءَ المجتمعِ مِنَ الشبابِ المستقيمِ، المستمسكِ بالإيمانِ الصحيحِ والعملِ القويمِ، يُؤَدِّي واجبَهُ تِجَاهَ أمَّتِهِ ومجتمعِهِ، شبابٌ يُعَدُّ مفخَرَةً للأمَّةِ، ورمزاً لِحياتِها، وهُوَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ الخيرِ، أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ :"سبعةٌ يُظِلُّهمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ – وذَكر مِنْهم – وشَابٌّ نَشَأَ في عبادةِ اللهِ".
ثُمَّ صَلُّوا وسلِّموا رحمَكَمُ اللهُ على الهادِي البشيرِ والسراجِ المنيرِ كَما أمرَكمْ بِذلِكُمُ اللطيفُ الخبيرُ، فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [الأحزاب:56].
اللهمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعينَ، وعلى التابعينَ ومَنْ تبعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، اللهمَّ أَصْلِحْ شبابَ المسلمينَ، اللهمَّ رُدَّهُمْ إليك رَدّاً جميلاً، اللهمَّ وَفِّقْهم لِمعالِي الأمورِ واصرِفْ عَنْهم سَفَاسِفَها يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، ودَمِّرِ اللهمَّ بِقوَّتِكَ أعداءَ المِلَّةِ والدينِ، يا قويُّ يا متينُ.(94/6)
اللهمَّ وَفِّقْ أميرَنا لِهُدَاكَ واجعلْ عملَهُ في رِضَاكَ, اللهمَّ احفظْهُ بحفظِكَ, واكلأْهُ برعايَتِكَ, وألبِسْهُ ثوبَ الصحَّةِ والعافيةِ والإيمانِ, يا ذَا الجلالِ والإكرامِ. اللهمَّ اجعلْ هذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ, وتقبلِ اللهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(94/7)
اطبع هذه الصحفة
اعقلها وتوكل
…إخوةَ الإسلامِ:
…إنَّ التوكُّلَ يَنْبُعُ مِنْ معرفَةِ العبدِ بربِّهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ: مِنْ قدرتِهِ وقَيُّومِيَّتِهِ وعِلْمِهِ ونفاذِ مشيئَتِهِ مَعَ رسوخِ القلبِ في التوحيدِ؛ وعلى قَدْرِ تجريدِ التوحيدِ تكونُ صِحَّةُ التوكُّلِ.
…وهوَ وَصِيَّةُ اللهِ لأنبيائِهِ- عليهم الصلاةُ والسلامُ – ووصيَّةُ الأنبياءِ لأِقوامِهِمْ. قالَ اللهُ حاكِياً عَنْ موسَى عليهِ السلامُ: { يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [يونس:84 ]. وقالَ سبحاَنه حاكِياً عَنْ شعيبٍ عليه السلامُ: { وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود:88]. وأمرَ نبيَّهُ محمداً- صلى الله عليه وسلم - بالتوكُّلِ فقالَ: { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [آل عمران:159]. وجعلَهُ شَرْطاً لإِيمانِ المؤمنينَ. قالَ اللهُ تعالَى: { وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [المائدة:23]. وقالَ عَنْ رسلِهِ عليهمُ الصَّلاةُ والسلامُ: { وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا } [إبراهيم:12].وقالَ لرسولِهِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: { َوتوكل عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } [الأحزاب:3].وقالَ عَنِ الصَّحَابةِ: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [آل عمران:173].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 18 من محرم 1427هـ الموافق 17/2/2006م
اعقلها وتوكل(95/1)
…الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والعاقبةُ لِلْمتقينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحَدهُ لا شريكَ له إلهُ الأولينَ والآخِرينَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ خاتَمُ النبيِّينَ وخليلُ ربِّ العالمينَ وإمامُ المتوكِّلينَ، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِهِ والتابعينَ ومَنْ تَبِعهمْ بإحسانٍ وتوكَّلَ على ربِّهِ حقَّ توكُّلِهِ إلى يومِ الدينِ.
…أمَّا بعدُ:
…فأوصِيكم- عِبَاد اللهِ- ونفسِي بتقوَى اللهِ تعالَى؛ فإنَّ تقوَى اللهِ أكرمُ ما أسرَرْتُمْ وأجملُ ما أظهَرْتُمْ، وأفضلُ ما ادَّخرْتُمْ، اتقوا اللهَ في السِّر والعلَنِ، واجتنبوا الفواحِشَ ما ظهَرَ مِنْها وما بطَنَ.قالَ اللهُ تعالىَ: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) } [الطلاق:2-3].
…أيُّها الإخوةُ المؤمنونَ:
… لَقَدْ خلقَ اللهُ عزَّ وجلَّ الإنسانَ ضعيفاً؛ لا يستقلُّ بأمورِهِ، فهوَ يحتاجُ إلى معونَةِ اللهِ وتوفيقِهِ في كُلِّ نَفَسِ نَفْسٍ وطَرْفَةِ عَيْنٍ. وقَدْ جَبرَ اللهُ سبحاَنهُ ضَعْفَ الإنسانِ بالتوكُّلِ عليهِ واستجلابِ الخيرِ مِنْه ودفْعِ الشرِّ عَنْه وتفويضِ الأمرِ إليهِ مَعَ الأخذِ بأسبابِ ذلِكَ.(95/2)
…والتوكُّلُ – عبادَ اللهِ – هُوَ صِدْقُ اعتمادِ القلبِ على اللهِ تعالىَ في استجلابِ المصالِحِ ودَفْعِ المَضَارِّ مِنْ أمورِ الدُّنيا والآخرةِ. وهُوَ أعظمُ الأسبابِ التي يَحْصُلُ بِهَا المطلوبُ ويندَفِعُ بِهَا المَرْهوبُ، وهوَ دليلٌ على ثِقَةِ المتوكِّلِ باللهِ تبارَكَ وتعالَى؛ لِهذَا كانَتْ لَهُ منزلَةٌ كبرَى في شريعةِ الإسلامِ. وممَّا يدلُّ على عظيمِ شَرَفِ التوكُّلِ حديثُ السبعينَ ألفاً الذين يَدْخُلونَ الجنَّةَ بغيرِ حسابٍ ولا عذابٍٍ حيثُ أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديثِ ابنِ عباسٍ - رضِيَ اللهُ عنهما- أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "هُمُ الذينَ لا يَسْتَرْقُونَ ولا يَتَطَيَّرُونَ ولاَ يَكْتَوُونَ وعلى ربِّهِمْ يَتوكَّلُونَ". قالَ ابنُ القيِّمِ - رحمَهُ اللهُ -: "التوكُّلُ نِصْفُ الدِّينِ والنصفُ الثانِي الإنابةُ، فإنَّ الدِّينَ استعاَنةٌ وعبادَةٌ، فالتوكُّلُ هوَ الاستعانةُ، والإنابةُ هِيَ العبادةُ". وهوَ مطلوبٌ في الأمورِ كلِّها دَقِيقِهَا وجَلِيلِها، فمَنْ أرادَ النصرَ والظَّفَر فَلْيتوكَّلْ على اللهِ؛ لِقولِهِ تعالَى: { إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنونَ } [آل عمران:160].(95/3)
… ومَنْ نَفَذَتْ في شأنِهِ سِهامُ القَدَرِ وَوَصلَتْ قوافِلُ القضَاءِ فَلْيستَقْبِلْها بِالصبرِ وَالتوكُّلِ { قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [التوبة:51]، ومَنْ خَشِيَ الشيطانَ وكيدَهُ كانَ التوكُّلُ على اللهِ لهُ حِصْناً حَصِيناً { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [النحل:99]، وإذا تخَلَّى عَنْكَ الخَلْقُ وأعرَضَ عَنْك الناسُ فَالْزَمِ التوكُّلَ { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [التوبة:129].
…إخوةَ الإسلامِ:
…إنَّ التوكُّلَ يَنْبُعُ مِنْ معرفَةِ العبدِ بربِّهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ: مِنْ قدرتِهِ وقَيُّومِيَّتِهِ وعِلْمِهِ ونفاذِ مشيئَتِهِ مَعَ رسوخِ القلبِ في التوحيدِ؛ وعلى قَدْرِ تجريدِ التوحيدِ تكونُ صِحَّةُ التوكُّلِ.(95/4)
…وهوَ وَصِيَّةُ اللهِ لأنبيائِهِ- عليهم الصلاةُ والسلامُ – ووصيَّةُ الأنبياءِ لأِقوامِهِمْ. قالَ اللهُ حاكِياً عَنْ موسَى عليهِ السلامُ: { يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [يونس:84 ]. وقالَ سبحاَنه حاكِياً عَنْ شعيبٍ عليه السلامُ: { وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود:88]. وأمرَ نبيَّهُ محمداً- صلى الله عليه وسلم - بالتوكُّلِ فقالَ: { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [آل عمران:159]. وجعلَهُ شَرْطاً لإِيمانِ المؤمنينَ. قالَ اللهُ تعالَى: { وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [المائدة:23]. وقالَ عَنْ رسلِهِ عليهمُ الصَّلاةُ والسلامُ: { وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا } [إبراهيم:12].وقالَ لرسولِهِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: { َوتوكل عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } [الأحزاب:3].وقالَ عَنِ الصَّحَابةِ: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [آل عمران:173].
…مَعْشَرَ المؤمنينَ:(95/5)
…والتوكُّلُ على اللهِ لا يَعْنِي تركَ الأسبابِ وقَطْعَ الصِّلَةِ بها، بَلْ إِنَّ الأخذَ بالأسبابِ مَعَ تفويضِ أمرِ النجاح ِإلى اللهِ سبحاَنه هوَ مِنَ التوكُّلِ المأمورِ بِهِ؛ إذْ تَرْكُ الأسبابِ وَالقُعُودُ عنْها تَوَاكُلٌ وليسَ مِنَ التوكُّلِ في شيءٍ، فَقَدْ روَى أنسُ بنُ مالكٍ - رضي الله عنه - وجعفرُ بنُ عمرِو بنِ أميَّةَ عَنْ أبيهِ أنَّ رجلا ً قالَ: يا رسولَ اللهِ أُرسِلُ ناقِتي وأتوَكَّلُ؟ قالَ:"اعْقِلْها وتَوَكَّلْ" [أخرجَهُ الترمذيُّ والحاكمُ والبيهقيُّ]. فالنبيُّ- صلى الله عليه وسلم -: أمرَهُ أَنْ يأخُذَ بالأسبابِ بِأَنْ يَعْقِلَ ناقَتهُ ولا يترُكَهَا مُرْسَلَةً؛ لأنَّ في إرسالِها إِبْطالا ً لِلأسبابِ وهوَ عَجْزٌ أوْ تواكُلٌ لا توكُّلٌ. بَيْدَ أنَّ المؤمنَ حِينَ يأخُذُ بالأسبابِ لا يركَنُ إليها ولا يعتمدُ عليها بَلْ يأخُذُ بِها ويَعتمِدُ على مُسبِّبِها عزَّ وجلَّ، فيكونُ حالُ قلبِهِ قيامُهُ باللهِ لا بالأسبِابِ وحالُ بدنِهِ قيامُهُ بالأسباب.ِ وسيِّدُ المتوكِّلينَ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُهْمِلِ الأَخْذَ بِالأسبابِ والسعيَ في تحصيلِها؛ فقَدِ اختفَى في الغارِ عَنْ أعْيُنِ الكُفارِ حتَّى إنَّ أبا بكرٍ - رضي الله عنه - قالَ له – وهُوَ يرَى أقدامَ المشركينَ –: يا رسولَ اللهِ لَوْ أنَّ أَحدَهم نظَرَ تَحْتَ قدمَيْهِ لأبْصَرَنا فقالَ لهُ إمامُ المتوكِّلِينَ: "ما ظَنُّكَ يا أبا بكرٍ باثنينِ اللهُ ثالثُهُما" [متفقٌ عليهِ]. وكذلِكَ اتَّخَذَ دليلاً ماهِراً يدلُّهُ إلى المدينةِ، وتعاطَى الدواءَ المُبَاحَ وأمرَ بهِ، وظَاهَرَ في بعضِ غَزَواتِهِ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، وأمرَ بإغلاقِ الأبوابِ وتغطيةِ الآنيةِ وإطفاءِ النارِ عِنْدَ المَبِيتِ.(95/6)
…فإهمالُ الأسبابِ إذا ً- بزعمِ التوكُّلِ – إنمَّا هوَ عَجْزٌ وإعْيَاءٌ، والالتفاتُ إليها والاعتمادُ عليها دونَ المسبِّبِ ـ سبحانَه وتعالَى ـ شِرْكٌ وعَنَاءٌ، وفي الحديثِ:"احرِصْ على ما ينفعُكَ واستعنْ باللهِ ولاَ تَعْجَزْ" [أخرجَه مسلمٌ ].
…أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم واستغفِرُوُه { إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً(10) يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً (12) } [نوح: 10-12].
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ الذي خلَقَ كلَّ شيءٍ فقدَّرَهُ تقديراً، وجعلَ الليلَ والنهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أرادَ أنْ يَذَّكَّرَ أوْ أرادَ شُكُوراً، أحمَدُهُ سبحانَه وتعالَى حمداً كثيراً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ تعالَى عمَّا يقولُ الظالمونَ عُلُواً كبيراً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
…أمَّا بعدُ:
…فيقولُ ربُّنا- عزَّ وجلَّ- آمراً ومُرْشِداً { :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(71) } [الأحزاب: 70-71].
…عبادَ اللهِ:
… اعلموا أنَّ المتوكِّلينَ هُمْ أهلُ الفلاحِ في الدنيا والآخرةِ، وهمُ الذين يجنونَ ثِمارَ توكُّلِهمْ يانعةً بإذنِ ربِّهمْ، فإنَّ للتوكُّلِ ثمراتٍ في الدَّارَيْنِ يَسْعَدُ بِها المتوكلِّونَ على اللهِ حقَّ توكُّلِهِ.(95/7)
ومِنْ هذِهِ الثمراتِ: الرِّضَا بِمَا يأتِي بهِ القَدَرُ مِنْ عِنْدِ اللهِ خيرِهِ وشرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ؛ كما قالَ اللهُ تعالَى عَنِ المؤمنينَ المتوكِّلِينَ: { قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [التوبة:51].
…ومِنْها: الثِّقةُ باللهِ تبارَك وتعالَى، فعَنْ جابرٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخذَ بِيَدِ مَجْذومٍ فأدخلَهَا مَعَهُ في القَصْعَةِ ثمَّ قالَ:"كُلْ ثِقَةً باللهِ وتوكُّلا ًعليهِ" [أخرجَه أبو داودَ وابنُ ماجهَ واللفظُ له].
…ومنْها أيضاً: تحصيلُ المَعاشِ وسِعَةُ الرزْقِ؛ كَما روَى عمرُ - رضي الله عنه - قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لَوْ أنَّكم تَتَوكَّلونَ على اللهِ حقَّ توكُّلِهِ لَرَزَقَكمْ كما يَرْزُقُ الطيرَ تَغْدو خِمَاصا ً – أيْ تذهبُ أولَ النَّهارِ ضامرةَ البطونِ مِنَ الجوِع - وتروحُ بِطَاناً – أيْ ترجِعُ آخرَ النهَّارِ مُمْتلِئَةَ البطونِ" [أخرجَه الترمذيُّ وحسَّنه].
وما أحسنَ ما قالَ الشاعرُ:
تَوَكَّلْتُ فِي رِزْقِي علَى اللهِ خالِقي وأيقَنْتُ أنَّ اللهَ لا شكَّ رازقِي
فإنْ يَكُ مِنْ رزقٍ فليسَ يَفُوتُنِي ولوْ كانَ في قاعِ البحارِ العَوَامِقِ
فَفِي أيِّ شيءٍ تذهبُ النفسُ حسْرَةً وقَدْ قَسَّمَ الرحمنُ رِزْقَ الخلائِقِ(95/8)
…ومِنْها كذلِكَ: الحفْظُ والهِدايَةُ والوِقايَةُ مِنْ كلِّ شرٍّ أوْ صاحِبِ شَرٍّ؛ حيثُ أخرجَ أبو داودَ والنسائِيُّ عَنْ أنسٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا خَرَجَ الرجلُ مِنْ بيتِهِ فقالَ: باسمِ اللهِ، توكَّلْتُ على اللهِ، لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ، قالَ الشيطانُ حِيَنئذٍ: حَسْبُكَ هُدِيتَ وكُفِيتَ وَوُقِيتَ، فَيَتَنَحَّى له الشيطانُ، فيقولُ له شيطانٌ آخرُ: كيفَ لَك بِرَجُلٍ قَدْ هُدِي وكُفِيَ وَوُقِيَ؟".
…ومِنْها: أنَّه يَجلِبُ محبَّةَ اللهِ ونصرَهُ وتأييدَهُ؛ كَما قالَ سبحانَهُ وتعالَى: { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [آل عمران: 159]. وثوابُ اللهِ وجنَّتُهُ أعظمُ ما ينالُهُ المتوكِّلُونَ ويَظْفَرُونَ بهِ، قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: { وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [الشورى: 36]، جَعَلَنا اللهُ وإيَّاكُمْ مِنْهم بِمَزِيدٍ مِنْه وكرمِهِ وفضلِهِ.(95/9)
…اللهمَّ اقسِمْ لنا مِنْ خشيَتِكَ ما تحولُ بهِ بينَنَا وبَيْنَ معصيَتِكَ ومِنْ طاعتِكَ مَا تبلِّغنُا بهِ جنَّتَكَ، ومِنَ اليقينِ مَا تهوِّنُ بهِ علينا مصائِبَ الدُّنيا، ومتِّعْنا بِأسماعِنا وأبصارِنا وَقُوَّتِنا ما أحْيَيْتَنا واجعلْهُ الوارِثَ مِنَّا، واجعلْ ثأْرَنا علَى مَنْ ظلمَنا، وانصرْنا على مَنْ عادانا، اللهمَّ اغفِرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ والمسلمينَ والمسلماتِ الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، ربنَّا عليكَ توكَّلْنا وإليكَ أَنَبْنا وإليكَ المصيرُ. اللهمَّ وَفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُدَاكَ، واجعلْ عملَهُما في رِضَاكَ, اللهمَّ احفظْهُما بحفظِكَ, واكلأْهُما برعايَتِكَ, وألبِسْهُما ثوبَ الصحَّةِ والعافيةِ والإيمانِ, يا ذَا الجلالِ والإكرامِ. اللهمَّ اجعلْ هذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ, وتقبلِ اللهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(95/10)
اطبع هذه الصحفة
شكر النعم
عَبادَ اللهِ:
… لَقَدْ رَسَخَ في قلوبِ المؤمنينَ وعقولِهِمْ أنَّ أعْظَمَ الشكرِ الإيمانُ باللهِ - عزَّ وجلَّ - وأداءُ فرائِضِهِ وواجباتِهِ، والبُعْدُ عَنْ مُحَرَّماتِهِ، فإذا امتلأَ القلبُ بِذلِكَ ظهَرَ على اللسانِ وَالجوارِحِ فكانَ العبدُ شاكِراً بقلبِهِ ولسانِهِ وسائِرِ جوارِحِهِ. وإنَّ مِنَ النِّعَمِ التي تَسْتَوْجِبُ الشكرَ وتستحقُّ الذِّكْرَ نِعْمَةُ الأَمْنِ وَالأَمَانِ إِذِ الأمنُ في الأوطانِ والاستقرارُ في البُلْدانِ مَعَ ظهورِ التقوَى وَرُسوخِ الإيمانِ مِنْ أجَلِّ النِّعَمِ، وأعظَمِ المِنَحِ وَالمِنَنِ، وَقَدِ امتنَّ اللهُ - عزَّ وجلَّ - على قريشٍ فقالَ: { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش:1-4].
…وثَبَتَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ حَديثِ عُبيدِ اللهِ بنِ مُحْصِنٍ الأنصارِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّه قالَ: "مَنْ أصْبَحَ مِنْكم آمِناً في سِرْبِهِ – أيْ نفسِهِ أوْ قومِهِ - معافىً في جسدِهِ، عِنْدَهُ قوتُ يومِهِ فكأنَّما حِيزَتْ له الدُّنيا بِحَذَافِيرِها " أيْ بِأجْمَعِِها. [أخرجَهُ الترمذيُّ وحسَّنهُ].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 25 من محرم1427هـ الموافق 24/2/2006م
شكر النعم
…الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أحمَدُهُ سبحانَه وتعالَى حَمْدَ الشاكرينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ، وحدَهُ لا شريكَ له، أَسْبَغَ نِعَمَهُ ظاهرةً وباطنةً على الخَلْقِ أجمعينَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ خيرُ مَنْ شكَرَ على النَّعْماءِ وصبَرَ على البَلاءِ حتَّى أتاهُ اليقينُ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ الطيِّبِينَ الطَّاهِرينَ والصَّحابَةِ الصَّفْوَةِ المتقينَ وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يومِ الدينِ.(96/1)
…أمَّا بعدُ:
…فأُوصيكم – أيُّها الناسُ – ونفسِي بتقوَى اللهِ تعالَى؛ فإنَّها أكرمُ ما أسرَرْتُمْ، وأجملُ ما أَظْهَرْتُمْ، وأفضلُ ما ادَّخَرْتُم، اتقوا اللهَ في السرِّ والعَلَنِ، واجتنبوا الفواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ.
…أيُّها المسلمونَ:
…إنَّ الشكرَ نصفُ الإيمانِ، والصبرَ نِصْفُه الثانِي، وإنَّ المؤمنَ يعيشُ شاكِراً لأَِنْعُمِ اللهِ، ويحَيا صابراً على أقدَارِ اللهِ، حيثُ يبدأُ يومَهُ مُقِرّاً بِنِعَمِ اللهِ عليهِ ومُعْتَرِفاً بفضلِهِ الذي أسدَاهُ إليهِ بقولِهِ: " اللهمَّ ما أصْبَحَ بِي مِنْ نعمةٍ أوْ بأحدٍ مِنْ خَلْقِكَ فمِنْكَ وَحْدَكَ لا شريكَ لَكَ فلَكَ الحمدُ ولَكَ الشكرُ" [ أخرجَهُ أبو داودَ]. ويَخْتِمُ بهِ يومَهُ كذلِكَ.
…فَشُكْرُ اللهِ على نِعَمِهِ- التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى – مِنْ أوْجَبِ الواجِباتِ وَآكدِ المُؤَكَّدَاتِ، فَقَدْ قَرَنَهُ اللهُ سبحانَهُ بالإيمانِ، وأخبرَ أنَّه لا غَرَضَ له في عذابِ خَلْقِهِ إِنْ شَكرُوا له وآمَنُوا بِهِ فقالَ: { مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ } [النساء:147].
…وهُوَ عبادةٌ عظيمةٌ ومِنْحَةٌ ربَّانِيَّةٌ كريمَةٌ، يَهَبُها اللهُ - عزَّ وجلَّ - لِعبادِهِ المسلمينَ، ويُجَمِّلُ بها أولياءَهُ المُخْلِصينَ.
…وحقيقةُ الشُّكْرِ: ظُهورُ أَثَرِ نِعْمَةِ اللهِ على لِسانِ عبدِهِ ثناءً واعترافاً، وعلى قلبِهِ شُهوداً ومحبَّةً، وعلى جوارحِهِ انقياداً وطاعةً. وقد قسَّم اللهُ تعالَى الناسَ إلى شَكُورٍ وكَفوُرٍ؛ فأبغضُ الأشياءِ إليهِ الكفرُ وأهلُهُ، وأحَبُّ الأشياءِ إليهِ الشُّكْرُ وأهلُهُ كما قالَ سبحانَه: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [الإنسان:3].(96/2)
وجعلَهُ اللهُ - عزَّ وجلَّ- غايةَ خَلْقِهِ وأمرِهِ، وأثْنَى على أهلِهِ ، ووعَدَهُمْ أَحْسَنَ الجزاءِ ومَوْفورَ العَطاءِ، وهيَّأَهُ سبباً لِلمزيدِ مِنْ فضلِهِ، وحارِساً لِنِعَمِهِ.
…
… عَبادَ اللهِ:
… لَقَدْ رَسَخَ في قلوبِ المؤمنينَ وعقولِهِمْ أنَّ أعْظَمَ الشكرِ الإيمانُ باللهِ - عزَّ وجلَّ - وأداءُ فرائِضِهِ وواجباتِهِ، والبُعْدُ عَنْ مُحَرَّماتِهِ، فإذا امتلأَ القلبُ بِذلِكَ ظهَرَ على اللسانِ وَالجوارِحِ فكانَ العبدُ شاكِراً بقلبِهِ ولسانِهِ وسائِرِ جوارِحِهِ. وإنَّ مِنَ النِّعَمِ التي تَسْتَوْجِبُ الشكرَ وتستحقُّ الذِّكْرَ نِعْمَةُ الأَمْنِ وَالأَمَانِ إِذِ الأمنُ في الأوطانِ والاستقرارُ في البُلْدانِ مَعَ ظهورِ التقوَى وَرُسوخِ الإيمانِ مِنْ أجَلِّ النِّعَمِ، وأعظَمِ المِنَحِ وَالمِنَنِ، وَقَدِ امتنَّ اللهُ - عزَّ وجلَّ - على قريشٍ فقالَ: { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش:1-4].
…وثَبَتَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ حَديثِ عُبيدِ اللهِ بنِ مُحْصِنٍ الأنصارِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّه قالَ: "مَنْ أصْبَحَ مِنْكم آمِناً في سِرْبِهِ – أيْ نفسِهِ أوْ قومِهِ - معافىً في جسدِهِ، عِنْدَهُ قوتُ يومِهِ فكأنَّما حِيزَتْ له الدُّنيا بِحَذَافِيرِها " أيْ بِأجْمَعِِها. [أخرجَهُ الترمذيُّ وحسَّنهُ].(96/3)
…فَتأَمَّلُوا يا رَعَاكُمُ اللهُ – في حديثِ المصطفَى - صلى الله عليه وسلم - ثمَّ انظروا إلى ما نحنُ فيهِ مِنْ نِعَمِ اللهِ - عزَّ وجلَّ - التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى؛ فَقَدْ كَثُرَتِ الخيراتُ وازدادَتِ البركَاتُ ، وأَغْدَقَتِ النِّعَمُ ظاهِرَةً وباطِنةً، وفَتَحَتْ أبوابَهَا وتَنوَّعَتْ أسبابُهَا، مأْكَلٌ ومشْرَبٌ، وملْبَسٌ ومرْكَبٌ، ومسْكَنٌ وآلاتٌ، وعلومٌ وأدواتٌ، عافيةٌ في الأبدانِ، وأمْنٌ وأمَانٌ في الأوطانِ، نِعَمٌ مِنْ فوقِنَا وَمِنْ تَحْتِ أرجُلِنَا وَعَنْ أيمانِنَا وعَنْ شَمائِلنا، وصدَقَ اللهُ إِذْ يقولُ: { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم:34].
…فكُلُوا مِنْ رِزْقِ ربِّكم واشكرُوا لَهُ يُدِمْ لَكُمُ النعمَةَ ويُهَيِّئْ أسبابَها، ولا يَحْرِمْكُمْ أجرَهَا وثوابَها، قالَ عليُّ بنُ أبيِ طالبٍ - رضي الله عنه -: إنَّ النعمةَ موصولةٌ بالشكرِ، والشكرُ يتعلَّقُ بِالمزيدِ، وهُِمَا مَقْرونَانِ في قَرَنٍ، فلَنْ ينقطِعَ المزيدُ مِنَ اللهِ حتَّى ينقطِعَ الشكرُ مِنَ العَبْدِ.
…
…معشرَ المؤمنينَ:(96/4)
…إنَّ المحافظةَ على النِّعمَةِ تستلزمُ دوامَ شُكْرِهَا وكثرَةَ ذِكْرِهَا؛ تَحَدُّثاً بفضلِ اللهِ وإِظْهَاراً لِمَزِيدِهِ، كما تستلزِمُ البُعْدَ عَنْ مُزِيلاتِ النِّعَمِ وجَالِباتِ النِّقَمِ مِنْ نِسْبةِ الإِنْعَامِ إلى غَيْرِ باذلِهِ والفضلِ إلى غيرِ أهلِهِ، فَيَنْسَى الْمَرْءُ ربَّها ومُسَبِّبَها ويَنْسُبُها إليهِ غرُوراً وكُفْراً، كما فعلَ قارونُ حِينَما نَسَبَ نعمةَ اللهِ عليهِ إلى نفسِهِ فقالَ: بِغُرورٍ { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِندِي } [القصص: 78]. فكانَ ذلِكَ سبباً في زوالِ النعمَةِ وحُلُولِ النقمَةِ فخسَفَ اللهُ بِهِ وبدارِهِ الأرضَ وما كانَ لهُ مِنْ فئةٍ ينصرونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وما كانَ مِنَ المنتصِرِينَ.
…ومِنْ أسبابِ دَوَامِ النِّعمةِ: التحدُّثُ بِها على وَجْهِ الاعترافِ والإقْرَارِ، لا علَى سبيلِ الغُرورِ والافتِخارِ؛ كمَا قالَ اللهُ تعالَى: { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [ الضحى:11]
…وكَمْ مِنْ قريةٍ أغَدقَ اللهُ علَيْها مِنْ فضلِهِ وأسبَغَ علَيْها مِنْ نِعَمِهِ فلمَّا كَفَرَتْ بِأَنْعُمِهِ أذْهَبَها اللهُ وأذاقَهَا لِبَاسَ الجوعِ والخَوْفِ وأتَى بقومٍ آخرِينَ! وقَدْ ضَرَبَ اللهُ تعالَى لِذلِكَ مَثَلاً بقولِهِ: { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل: 112].
قالَ الشاعرُ:
…………إِذَا كُنْتَ في نِعْمَةٍ فَارْعَهَا… فَإِنَّ المعاصِي تُزِيلُ النِّعَمْ
……… وَدَاوِمْ علَيْها بِشُكْرِ الإِلَهِ فإنَّ الإلهَ سريعُ النِّقَمْ
… أيُّها المسلمونَ:(96/5)
… وَمِمَّا يصونُ النِّعمَ ويَدْرَأُ النِّقمَ أَنْ يرَى المرءُ عظيمَ نِعَمِ اللهِ عليهِ وأَنْ لا يَنْظُرَ إِليْهَا بِازدِرِاءٍ واحتقارٍ مَهْما كاَنتْ قليلةً، وهذَا ما أرشَدَنا إليهِ رسولُنا - صلى الله عليه وسلم - بقولِهِ: "انْظُرُوا إلى مَنْ أسْفَلَ مِنْكم ولا تنظُروا إلى مَنْ فوقَكُمْ فهَوُ أجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عليكمْ" [أخرجَهُ البخاريٌ ومسلمٌ واللفظُ لِمسلمٍ]، لأَنَّ الإنسانَ إذا رأَى مَنْ فُضِّلَ عليهِ في الدُّنيا طَلَبَتْ نفسُهُ مِثْلَ ذلِكَ واستَصْغَرَ ما عِنْدَهُ مِنْ نِعمَةِ اللهِ تعالَى وحَرَصَ علَى الازْدِيَادِ لِيلحَقَ بِهِ أَوْ يُقَارِبَهُ، أمَّا إِذا نَظَرَ إِلى مَنْ هُوَ دُونَهُ في أمورِ الدُّنيا ظَهَرَتْ لَهُ نِعْمَةُ اللهِ عليهِ فشكَرَها وتواضَعَ لَهَا وفَعَلَ الخيرَ بِازْدِيَادٍ، كَما كَانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يفعلُ، فقَدْ رَوَتْ عائشةُ - رضِيَ اللهُ عَنْها- فقالَتْ: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقومُ مِنَ الليلِ حتَّى تتفطَّرَ قَدَماهُ فقُلْتُ لَه: لِمَ تَصْنَعُ هَذا يا رسولَ اللهِ وقَدْ غُفِرَ لَكَ ما تقدَّمَ مِنْ ذنِبكَ وما تأخَّرَ؟ قالَ" أَفَلا أكونُ عبداً شَكُوراً" [متفقٌ عليه].
… بارَكَ اللهُ لِي ولكمْ فِي الوَحْيَيْنِ، ونفسِي وإيَّاكم بِهَدْيِ سَيِّدِ الثَّقَلَيْنِ، أقولُ ماَ تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ العظيمَ واستغفِرُوهُ إنَّه هُوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
… الحمدُ للهِ على إِحسانِهِ، ولَهُ الشكرُ على نِعَمِهِ وعظيمِ امتنانِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له تعظيماً لشانِهِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ الداعِي إلى رضوانِهِ، صلَّى اللهُ عليه وعلَى آلِهِ وصحبِهِ وإخوانِهِ"
… أمَّا بعدُ:(96/6)
…فيقولُ رَبُّنا تبارَكَ وتعالَى آمِراً ومُرْشِداً: { اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران:102 ].
… أيُّهَا المسلمونَ:
… لَقَدْ وعَدَ اللهُ الشاكرينَ بِالزيادَةِ، وتَوَعَّدَ الكافرينَ بِالشَّقاوَةِ حيثُ قالَ سبحانَه وهُوَ أصدَقُ القائلينَ: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم:7]. وقالَ الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ - رحمَهُ اللهُ - : عليكمْ بِمُلازَمَةِ الشكرِ علَى النِّعَمِ، فقَلَّّ نِعْمَةٌ زالَتْ عَنْ قومٍ فعاَدتْ إِليْهِمْ.
…وإنَّ مِنَ النِّعمِ الجَلِيَّةِ العمِيمَةِ والمِنَحِ المُبارَكَةِ العظيمَةِ: مَا مَنَّ اللهُ بهِ على بلادِنا العزيزَةِ بِنْعِمَتَيْ الاستقلالِ والتحريرِ بِعْدَ أنْ رَزَحَتْ مدَّةً مِنَ الزمَنِ تَحْتَ بَطْشِ الطُّغاةِ الغاشمينَ، إنَّها لَمِنَّةٌ عظيمةٌ مِنَ المَوْلَى عزَّ وجلَّ أَنْ خَلَّصَنا مِنْ ظُلْمِ الغُزَاةِ وجَوْرِ الطُّغاةِ ورَدَّ إِلْينَا بِلادَنَا طاهِرَةً مُطَهَّرَةً مِنْ أذِيَّةِ المجرِمِينَ، وأَنْعَمَ علينا بِنعمَةِ الأمْنِ وَالإيمانِ والسلامَةِ في الأوطانِ، فأَعْظِمْ بِها مِنْ نِعْمَةٍ وأَكْرِمْ بِها مِنْ مِنَّةٍ! وَمَا علينا إلاَّ أنْ نشكرَ اللهَ – سبحاَنه وتعالَى – علَى تَلْكَ النعمَةِ وَسِوَاها مِنَ النِّعَمِ لِنجْنِيَ المزيدَ مِنْ فَضْلِ ذِي العرشِ المجيدِ، وَلْنستَعْمِلْ هذِهِ النِّعمَ في مَحَابِّ اللهِ ومَرَاضِيهِ، ونتجنَّبْ مَوَاطِنَ سَخَطِهِ ومَعَاصِيهِ، وَبِقدْرِ دَوَامِ الشكرِ تَدوُمُ النِّعَمُ وتُدْفَعُ النِّقَمُ، واللهُ يحبُّ الشاكرينَ.(96/7)
… ولَقَدْ مَنَّ اللهُ سبحاَنه وتعالَى علينا بِقيادَةٍ وَاعِيَةٍ حكيمةٍ، تقدِّرُ الأمورَ حقَّ قَدْرِها، وتَضَعُ الأمورَ في نِصَابِهَا، وَتعْرِفُ حقَّ ربِّها، فنسألُ اللهَ أنْ يُلْهِمَهُمُ التوفيقَ وَالسدادَ، ويأخُذَ بِأَيدِيهمْ إلى سبيلِ الرشادِ، فَلِلَّهِ الحمدُ أوَّلاً وآخِراً، وظاهِراً وباطِناً.
… اللهمَّ إنَّا نسألُكَ الثباتَ علَى الأمرِ والعزيمةَ علَى الرُّشْدِ، ونسألُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ وحُسْنَ عبادَتِكَ ونسألُكَ مِنْ خيرِ ما نَعْلَمُ ونعوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما نعلَمُ وُنستغفِرُكَ لِمَا لا نعلَمُ. ربَّنا تقبَّلْ توبَتَنَا واغسِلْ حَوْبَتَنا وأجِبْ دَعْوَتَنا واهدِ قلوبَنا وَسدِّدْ ألسِنَتَنا وثَبِّتْ حُجَّتنَا وانصُرْنا علَى القومِ الظالِميِنَ. اللهمَّ آمِنَّا فِي أوطانِنَا وعافِنَا فِي أبدَانِنَا واستُرْ عَوْرَاتِنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا واجعلْناَ هُدَاةً مُهْتَدِينَ.
… اللهمَّ وَفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُدَاكَ، واجعلْ عملَهُما في رِضَاكَ, اللهمَّ احفظْهُما بحفظِكَ, واكلأْهُما برعايَتِكَ, وألبِسْهُما ثوبَ الصحَّةِ والعافيةِ والإيمانِ, يا ذَا الجلالِ والإكرامِ. اللهمَّ اجعلْ هذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ, وتقبلِ اللهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
……………… لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(96/8)
اطبع هذه الصحفة
رسالة الإعلام
أَيُّها المؤمنونَ:
… إِنَّ الرسالةَ الإعلامِيَّةَ تساهِمُ في بناءِ المسلمِ عَقَدِيًّا وفكْريًّا وأَخْلاقيًًّا وسُلوكيًّا وذلكَ مِنْ خلالِ تَرْسيخِ مَبادئِ العقيدةِ الصحيحةِ وتَنْميةِ الوازِعِ الدينيِّ والعَملِ الجادِّ في إِشاعةِ روحِ المحبَّةِ والتفاؤُلِ وهذهِ مُهمَّةُ الصالحينَ كما قالَ تعالَى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور:55].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 3 من صفر 1427هـ الموافق 3/3/2006م
رسالة الإعلام
…الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ الذي علَّمَ بالقَلَمِ علَّمَ الإنسانَ مَا لَمْ يعلَمْ، إليهِ يُرفَعُ العمَلُ الصالحُ ويصْعَدُ طيِّبُ الكَلِمِ، أَحمدُهُ حَمْدَ المُعترِفينَ بنِعَمِهِ وآلائِهِ، المُتدبِرينَ في أَرضِهِ وسَمَائِهِ، حَمْداً يزيدُ يقيناً ونوراًْ وهدايةً، ويكونُ لنا مِنْ وساوُسِ الشيطانِ درعْاً وحِمايةً، وأَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، شهادةً قامتْ بها السمواتُ والأََرَضُونَ مدَّخِراً ثوابَها العظيمَ يومَ يلقاهُ المُؤْمنونَ، وتَثْقلُ موازينُ حسناتِهمْ في دارِ القرارِ، وأَشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ختمَ اللهُ بهِ الرُّسُلَ والرِسالاتِ، وعَصمَهُ مِنَ الخَطايا وَالزَّلاَّتِ، وجعلَهُ مِثالاً يُحتذَى بهِ لِلبريَّاتِ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِهِ والتابعينَ لهم بإحسانٍ إِلى يومِ الدينِ.
…أَمَّا بَعْدُ:(97/1)
…فيا أَيُّها الذينَ آمنوا أُوصِيكمْ ونفسِيَ بتقَوى اللهِ تعالَى، فإنَّ فيها نجاتَكمْ في الدُّنيا والآخرةِ.
…أَيُّها المسلمونَ:
…لَقَدْ أَرسَلَ اللهُ تباركَ وتعالَى رسولَهُ بالهُدَى ودينِ الحقِّ لِيُظْهِرَهُ على الدينِ كُلِّهِ وللناسِ كافةً بشيراً ونذيراً فقامَ بالدعوةِ إلى اللهِ وحثَّ الصحابةَ - رَضيَ اللهُ عنهم - على القيامِ بِالدعوةِ وشجَّعَهَمْ على ذلكَ فقالَ لِعليِّ بنِ أَبي طالبٍ - رضي الله عنه - :"لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رجلاً واحداً خيرٌ لكَ ممَّا طلَعَتْ عليهِ الشمسُ وغرَبَتْ"[ أَخرجه الترمذيُّ] وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "نضَّرَ اللهُ عبداً سَمِعَ مَقَالتِي فَوَعَاهَا وحَفِظَهَا ثمَّ أَدَّاهَا إلى مَنْ يَسْمعُ" [ أخرجَه أَبو داودَ].
…ولَقَدِ استعملَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - الوسائلَ الإعلامِيَّةَ المُتاحةَ في عهِدهِ مِنَ الأَذانِ لإعلامِ الناسِ بدخولِ الصلواتِ الخمسِ والخُطَبِ في الجُمُعَةِ والأَعيادِ والدُروسِ والمواعظِ في التجَمُّعاتِ والنصيحةِ والتذكرةِ في الدَعَواتِ الفرديةِ وأَرسَلَ الرُسلَ سُفَراءَ وحمَّلَهم الكُتُبَ إلى الملوكِ والأُمراءِ.
…ومِنَ الوسائلِ التي كانَ يَستخدِمُها - صلى الله عليه وسلم -الشِعْرُ والشُعَراءُ عن طريقِ أُناسٍ شهِدَ لهمُ الجميعُ بالنَّزاهةِ والصِدْقِ والأَمانةِ كَأَمثالِ حسَّانِ بنِ ثابتٍ وكعبِ بنِ مالكٍ وعبدِ اللهِ ابنِ رواحةَ - رضِيَ اللهُ عنهم - ، وقالَ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ لِحسَّانٍ: "اهجُهُمْ وجبريلُ معَكَ" [أخرجَه مسلمٌ عن البراءِ بنِ عازبٍ - رضي الله عنه - ].
…معاشِرَ الأَحبابِ:(97/2)
…إِنَّ الإِسلامَ دينٌ ذو رسالةٍ هادفةٍ ودينٌ وَسَطِيٌّ يؤثِّرُ في القلوبِ والعقولِ وُيشبِعُ الدوافعَ الفطريةَ ويركِّزُ القِيَمَ الدينيَّةَ والأَخلاقِيَّةَ ويدلُّ الناسَ على الخيرِ ويدعُوهمْ إليهِ ويحذِّرُهمْ مِنَ الشرِّ أَوِ الاقترابِ مِنْه فقَدْ جاءَ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عمروِ بنِ العاصِ ـ رضِيَ اللهُ عنهما ـ أَنَّهُ قالَ سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّه لمْ يكنْ نبيٌّ قَبْلِي إلاَّ كان حقًّا عليهِ أنْ يَدلَّ أُمَّتََهُ على خيرِ مَا يعلَمُهُ لهمْ، وينذرَهمْ شرَّ مَا يعلمُهُ لهم" [أَخرجَه مسلمٌ].
…والمُسْلمُ اليومَ يَحتاجُ إلى جميعِ وسائلِ الإعلامِ مرئيَّةً كاَنْت أَوْ مَسموعةً أَوْ مَقروءةً عَبْرَ الصُحُفِ وَالمجلاتِ والكُتُبِ والأَشَرطةِ والإذاعاتِ والتِلْفزيوناتِ وأَجهزةِ الحاسِبِ الآليِّ ففَيِها نفعٌ كبيرٌ إذَا استُغِلَّتْ استغلالاً طيباً كريماً مِنْ خلالِ المضمونِ الكريمِ، والمنهجِ الحكيمِ، والأُسلوبِ البليغِ، قالَ تعالَى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت:33 ]، فهذهِ الوسائلُ الإِعلاِميَّةُ وسيلةٌ لِتبليغِ العِبادِ أُمورَ دينِهمْ.
…أَيُّها المؤمنونَ:(97/3)
… إِنَّ الرسالةَ الإعلامِيَّةَ تساهِمُ في بناءِ المسلمِ عَقَدِيًّا وفكْريًّا وأَخْلاقيًًّا وسُلوكيًّا وذلكَ مِنْ خلالِ تَرْسيخِ مَبادئِ العقيدةِ الصحيحةِ وتَنْميةِ الوازِعِ الدينيِّ والعَملِ الجادِّ في إِشاعةِ روحِ المحبَّةِ والتفاؤُلِ وهذهِ مُهمَّةُ الصالحينَ كما قالَ تعالَى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور:55].
…والرسالةُ الإِعلامِيَّةُ تقومُ بِمُهمَّةِ التنشِئَةِ الاجتماعِيَّةِ السِليمةِ وإِيجادِ حُلُولٍ للكثيرِ مِنَ المُشكلاتِ التي تقَعُ على الفردِ والمجتمعِ، كما أَنَّ وظيفةَ الرسالةِ الإِعلاميَّةِ تُعْنَى بالاهتمامِ بأُمورِ المُسلمينَ فتفرحُ لِفرَحِهم وتُشارِكَهم في أَحزانِهم كمَا قالَ عثمانُ بنُ عفَّانَ - رضي الله عنه -:" مَنْ لَمْ يهتمَّ بأَمرِ المُسلمينَ فليسَ منْهم". …وكذَا مِنْ مهمَّةِ الرسالةِ الإعلامِيَّةِ إيجادُ الترفيهِ والتَسْليةِ المُباحَةِ لِرَسْمِ الابتسامةِ والسَعادةِ في النفُوسِ وترفَعُ الهِمَمَ وتُظْهِرُ الشخصياتِ الإِسلامِيَّةَ على مَرِّ التاريخِ لِنَنْهَلَ مِنْها العِظَاتِ والعِبَرَ.
…عبادَ اللهِ:(97/4)
…إنَّ مِنْ حقِّ أَولادِنا علينا أَنْ ننقُلَ لهم الأَخلاقَ الحسنةَ ونبنيَ لهم الثقافَةَ الصحيحةَ ونعوِّدَهم على المشاهِدِ النافعةِ وأُسُسِ الأَمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المُنكرِ حتَّى لا يكونوا تَبَعاً لبعضِ الوسائِلِ التي تَصْرِفُ عَنِ الطاعاتِ وتُرَوِّجُ المنْكَراتِ. فإِنَّ الإعلامَ المُضادَّ لِلقِيَمِ والأَخلاقِ الإِسلاميَّةِ مُخِيفٌ مَا لَمْ نُنْشِئِ الإِعلامَ السويَّ الصالِحَ ذلك لأَنَّ الإعْلامَ أَصبحَ في كلِّ بيتٍ كما قالَ الشاعرُ:
لكُلِّ زَمانٍ مضَى آيةٌ وآيةُ هَذا الزَمانِ الصُّحُفُ
…أَقولُ ما تسمعونَ وأَستغفرُ اللهَ لِي ولَكمْ مِنْ كلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ فاستغفروهُ إِنَّهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيهِ، وأَشْهدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له وأَشهدُ أَنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ خاتَمُ المُرسلينَ وسيِّدُ الأَولينَ والآخرينَ، صاحبُ الوجْهِ الأَنورِ، والجبينِ الأَزْهَرِ، الذي بلَّغَ الرِسالةَ، وأَدَّى الأَمانةَ، ونصَحَ الأُمَّةَ، وجاهدَ في اللهِ حقَّ جهادِهِ حتّى أَتاهُ اليقينُ مِنْ ربِّهِ، فاللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمَّدٍ، وعلَى آلهِ وصحبِهِ والتابعينَ لهمْ بإحسانٍ إِلى يومِ الدينِ.
…أَمَّا بَعْدُ:
…فيقولُ اللهُ تعالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [آل عمران:102].
…أَيُّها المُؤْمنونَ:
… إِنَّ علينا أَنْ نسعَى جميعاً لِتكونَ رسالةُ الإعلامِ دعوةَ أَمْنٍ وأَمَانٍ ورخاءٍ واطمئنانٍ وفيها ثباتٌ وكمالٌ في الفهمِ والعقلِ ووضوحٌ في الغايةِ والوسيلةِ ورسالةَ هدايةٍ.(97/5)
…واعْلَموا أَنَّ رسالةَ الإعلامِ في الإسلامِ تبيِّنُ وسَطِيَّةَ الإسلامِ وسهولتَهُ وتعرضُ سلعَتهُ الغاليةَ لِندعوَ الناسَ على بصيرةٍ ، فعَنْ تميمِ الداريِّ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"لَيَبلغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ الليلُ والنهارُ، ولا يتركُ اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلاَّ أدخلَهُ اللهُ هذا الدينَ، بِعزِّ عزيزٍ أوْ بذلِّ ذليلٍ، عِزّاً يُعِزُّ اللهُ بهِ الإسلامَ، وذلاًّ يُذِلُّ اللهُ بهِ الكفرَ" [ أخرجَه أحمدُ].
…أَلا وصلُّوا على خيرِ البشريةِ جمعاءَ كما أمرَكُم اللهُ بذلك فقالَ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [ الأحزاب:56 ]، اللهمَّ صلِّ على نبِّينا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِهِ وأَزواجِهِ أَجمعينَ.
…اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، واحمِ وانصرْ هَذا الدينَ، وأَصلحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أُمُورِنَا، اللهمَّ لا تدعْ لنا في مقامِنَا هذا ذنباً إلا غفَرْتَهُ، ولا عَيْباً إلا سَتَرْتَهُ، ولا همًّا إلا فرَّجْتَهُ، ولا مريضاً إلا شفَيْتَهُ، ولا مَيِّتاً مِنَ المسلمينَ إلا رَحِمْتَهُ، ولا مُحتاجاً إلا أعطَيْتَهُ، ولا مَدِيناً إلا واَفْيتَهُ، ولا فاسِقاً مِنَ المسلمينَ إلا هدَيْتَهُ وأصلَحْتَهُ، اللهمَّ احقِنْ دماءَ المسلمينَ في كلِّ مكانٍ.
…اللهمَّ وَفِّقْ أَميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُدَاكَ، واجعلْ عملَهُما في رِضَاكَ, اللهمَّ احفظْهُما بحفظِكَ, واكلأْهُما برعايَتِكَ, وأَلبِسْهُما ثوبَ الصحَّةِ والعافيةِ والإيمانِ, يا ذَا الجلالِ والإكرامِ. اللهمَّ اجعلْ هذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ, وتقبلِ اللهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أَجمعينَ.
………………لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---(97/6)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(97/7)
اطبع هذه الصحفة
ألا تُحبونَ أنْ يغفرَ اللهُ لكم؟
عبادَ اللهِ الأَخيارَ:
…إنَّ اللهَ تعالَى قَدْ شرَعَ لكمْ مِنَ الأَعمالِ الصالحةِ مَا تُقِيلُونَ بِهِ العَثَرَاتِ وَتُكفِّرونَ بِهِ عَنِ الأَوْزَارِ، فَمِنْ ذلِكَ: أَنْ يَغْرِسَ العبدُ فِي قَلْبِهِ شجرَةَ الإِسلامِ وَالإِيمانِ، وَيجنِيَ ثمرتَهَا مِنَ الأَعمالِ الباعِثَةِ علَى الإِحْسَانِ، مِنَ القُنوتِ والصدقِ والصبرِ وَالخشوع ِوَالصدقةِ وَالصيامِ وَالعفَّةِ وَالذِكْرِ بِاللسانِ، قالَ الرحيمُ الرحمنُ: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [الأَحزاب: 35].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 10 من صفر 1427هـ الموافق 10/3/2006م
أَلا تُحبونَ أَنْ يغفرَ الله ُلكم؟
…الحمدُ للهِ العزيزِ الغفَّارِ، مُصَرِّفِ الأُمورِ كَمَا يشاءُ وَيختارُ، وَأَشهدُ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ اللهُ وحدَهُ لَا شريكَ لَهُ المحيطُ عِلْماً بِالخبَايَا وَالأَسْرارِ، وأَشهدُ أَنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ المُصْطفَى المختارُ، المغفورُ لَهُ ما تقدَّمَ وَمَا تأخَّرَ مِنَ الذنوبِ والأَوْزارِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ الأَبرارِ، وَأَزواجِهِ الأَطهارِ، وَصحابتِهِ الأَخيارِ، مِنَ المهاجرينَ وَالأَنْصارِ، وَمَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ مَا تعاقبَ الليلُ وَالنهارُ.
…أَمَّا بَعْدُ:(98/1)
…فَأُوصِيكمْ بِتقوَى اللهِ أَيُّهَا الأَنامُ، وأَطلِقُوا نفوسَكُمْ مِنْ وَثَائِقِ الذنوبِ وَالآثَامِ، وَأَعْتِقوهَا بِالتوبةِ النَّصُوحِ مِنْ رِقِّ المعاصِي وَالإِجْرَامِ، وَاعلَموا أَنَّ ربَّكم هوَ الذي يقبلُ التوبةَ عَنْ عبادِهِ وَيَعْفُو عَنْ سيئاتِ المُذْنِبينَ، فَهُوَ الغفورُ وَالغَفَّارُ وَغافِرُ الذنبِ وَهُوَ خيرُ الغافرينَ، لِذَا فَقَدْ ندَبَ جلَّ جلالُه عبادَهُ الأَخْيارَ؛ لِلتوبةِ وَالاستغفارِ، حيثُ قالَ فِي مُحْكَمِ الذِّكْرِ الحكيمِ: { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المائدة:74].
أَثْنَى الواحِدُ القهَّارُ، علَى عبادِهِ الأَبرارِ، المستغفرينَ ربَّهم أَدْبارَ النَّهارِ وَآناءَ الأَسْحَارِ، فقَالَ: { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } [آل عمران: 16-17]، وقَدْ أَخرجَ أَبو داودَ والترمذيُّ مِنْ حديثِ زيدِ بنِ حارثةَ - رضي الله عنه -أَنَّه سمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَنْ قَالَ: أَستغفرُ اللهَ الذي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحيُّ القيومُ وأَتوبُ إليهِ – ثلاثاً -: غُفِرَ لَهُ، وَإنْ كانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ".(98/2)
…وقَدْ قَرَنَ اللهُ تعالَى في أَمرِهِ لِنبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ توحيدِهِ، وَالاستغفارِ لِنفسِهِ وَلِعبيدِهِ، فَقَالَ: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثوَاكُمْ } [محمد:19]، وعنِ ابنِ عمرَ– رضِيَ اللهُ عنهما- قالَ:" إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم - في المجلسِ،يقولُ:"ربِّ اغفرْ لِي وَتُبْ علىَّ إِنَّك أَنتَ التوابُ الرحيمُ مائةَ مرَّةٍ"[أَخرجَهُ أَحمدُ وأَهلُ السُنَنِ]
…والاستغفارُ هُوَ شِعَارُ الصَّفْوَةِ الأَبرارِ، كَمَا حكَاهُ العزيزُ الغفَّارُ، عَنِ المُصْطَفيْنَ الأَخيارِ، حيثُ كانَتْ دَعْوَةُ أَوَّلِ الرسُلِ نُوحٍ عليهِ السلامُ: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً } [نوح: 28]. ودعوةُ الخليلِ إبراهيمَ عليهِ أفضلُ الصلاةِ وَالتسليمِ: { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } [إبراهيم: 41]. ودعوةُ موسَى الكليمِ عليهِ أَزْكَى الصلاةِ والتسليمِ: { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [الأعراف:151].
…عبادَ اللهِ الأَخيارَ:(98/3)
…إنَّ اللهَ تعالَى قَدْ شرَعَ لكمْ مِنَ الأَعمالِ الصالحةِ مَا تُقِيلُونَ بِهِ العَثَرَاتِ وَتُكفِّرونَ بِهِ عَنِ الأَوْزَارِ، فَمِنْ ذلِكَ: أَنْ يَغْرِسَ العبدُ فِي قَلْبِهِ شجرَةَ الإِسلامِ وَالإِيمانِ، وَيجنِيَ ثمرتَهَا مِنَ الأَعمالِ الباعِثَةِ علَى الإِحْسَانِ، مِنَ القُنوتِ والصدقِ والصبرِ وَالخشوع ِوَالصدقةِ وَالصيامِ وَالعفَّةِ وَالذِكْرِ بِاللسانِ، قالَ الرحيمُ الرحمنُ: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [الأَحزاب: 35].
…وعَنْ أَبي هُريرةَ - رضي الله عنه -قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ جلسَ في مجلسٍ فَكثُرَ فيهِ لَغَطُهُ، فقالَ قبْلَ أَنْ يقومَ مِنْ مجلسِهِ ذلِكَ: سُبحانَكَ اللهمَّ وبِحمدِكَ، أَشهدُ أَنْ لا إلهَ إِلاَّ أَنتَ، أَستغِفرُكَ وأَتوبُ إِليكَ، إِلا غُفِرَ لَهُ مَا كانَ في مجلسِهِ ذَلِكَ"[أَخرجَهُ الترمذيُّ].
…مْن ذلِكَ مَعْشَرَ الإِخوةِ الأَبرارِ:(98/4)
…مُتَابَعةُ المصطَفَى المختارِ - صلى الله عليه وسلم -، كمَا قالَ العزيزُ الغفَّارُ: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [آل عمران: 31]، وَتَأمَّلْ هَذا الحديثَ الشريفَ الدَّالَّ على أَثرِ مُتَابَعَتِكَ النبيَّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، فِي عَمُودِ الإِسلامِ، فَعَنْ أَبي أَيوبَ الأَنصاريِّ - رضي الله عنه - قالَ: إِنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَنْ توضَّأَ كَما أُمِرَ، وصلَّى كَما أُمِرَ: غُفِرَ له مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ" [أَخرجَهُ النسائيُّ وابنُ ماجَهَ].
…هَذا وإِنَّ مِنْ صالِحِ الأَعمالِ: الأَوْبَةَ إلى أَحْسَنِ الأَحْوَالِ: كمَا قالَ الكبيرُ المُتَعالُ: { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً ً } [الإسراء: 25].
…فَمَنْ صَدَقَ في التوبةِ وأَنابَ، فقدْ ظَفِرَ بِالمغفرَةِ بِلا ارتيابٍ، كَمَا قالَ العزيزُ الوهَّابُ: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } [طه: 82]، وَعُِنْوَانُ صِدْقِ التوبةِ: أَنْ تُتْبِعَ السيئَةَ الحسنةَ، كمَا قالَ تعالَى: { إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النمل:14].
وَيَا مَنْ جعلَكَ اللهُ تعالَى مُسْتَخْلَفاً علَى هَذا المالِ: أَنْفِقْ وَلا تَخشَ مِنْ ذِي العرشِ الإِقْلالَ { إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } [التغابن: 17]،(98/5)
وَيَا مَنِ ابتلاكَ اللهُ بِمُصِيباتِ الدهِر: تَدَثَّرْ بِكساءِ الصبرِ، فإِنَّهُ مِنْ أَسبابِ مَغْفِرَةِ الوِزْرِ، كَمَا قال تعالَى: { إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [هود:11].
وَلا تحسَبَنَّ مغفِرَةَ الذنوبِ: فِي الخَطَايَا وَالرَّزَايا التي بَيْنَكَ وبَيْنَ عَلاَّمِ الغيوبِ فَحَسْبُ، بَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِيمَا بَيْنَك وَبينَ المخلوقِينَ، فمَنْ عَفَا عَمَّنْ أَساءَ إِليهِ فهُوَ قريبٌ مِنْ مَغْفِرَةِ ربِّ العالمينَ، قالَ تعالَى: { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة:226].
يَا مَنْ عَدَا ثُمَّ اعتَدَى ثُمَّ اقَْتَرفْ ثُمَّ ارْعَوَى ثُمَّ انَْتهَى ثُمَّ اعَْتَرَفْ
أَبْشِرْ بِقَوْلِ اللهِ فِي تَنْزِيِلهِ إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفْ
…وَتَأَمَّلْ مَا فِي قِصَّةِ الإِفْكِ لَمَّا أَنزَلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ الآياتِ في بَرَاءَةِ عَائِشَةَ أُمِّ المؤمنينَ رضِيَ اللهُ عَنْها، فقالَ أَبو بكرٍ- رضي الله عنه - وكانَ يُنْفِقُ علَى مِسْطَحٍ لِقَرابَتِهِ مِنْهُ وفَقَْرِهِ: وَاللهِ لا أُنْفِقُ عليهِ شيئاً أَبداً بَعْدَ الذي قالَ لِعائشةَ، فأَنزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: { وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النور:22]. فقالَ أَبو بكرٍ - رضي الله عنه -: واللهُ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يغفرَ اللهُ لِي، فَأَرْجَعَ إِلى مِسْطَحٍ النفقةَ التي كانَ يُنْفِقُهَا عليهِ، وقالَ: لا أَنْزَعُهَا مِنْهُ أَبداً.(98/6)
…بارَكَ اللهُ لِي وَلكمْ فِي الفُرْقانِ والذِّكرِ الحكيمِ، وَوَفَّقَنَا لِلاعتصامِ بِهِ وَبِمَا كانَ عليهِ النبيُّ الكريمُ؛ مِنَ الخُلُقِ العظيمِ، وَالهَدْيِ القَوِيمِ، أَقولُ مَا تسمعونَ وَأَستغفرُ اللهَّ الغفورَ الحليمَ، لِي وَلكمْ مِنْ كُلِّ ظُلْمٍ وجُرْمٍ فَتُوبوا إِليهِ إِنَّهُ هُوَ التوَّابُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ غافرِ الذَّنبِ، وقابلِ التََّوْبِ وساتِرِ العَيبِ، ومُفرِّجِ الهمِّ وكاشفِ الكَرْبِ، سبحانَهُ وبحمدِهِ: يَجْبُرُ الكسيرَ، ويُغنِي الفقيرَ، ويُعلِّمُ الجاهلَ ويُرشِدُ الحيرانَ، وَيَهْدِي الضالَّ ويُغيثُ اللهْفَانَ، ويُعافِي المُبتلَى وَيَفِكُّ العانِيَ، ويُشبعُ الجائعَ ويكسُو العارِيَ، ويُقيلُ العَثَرَاتِ، ويَسترُ العَوْرَاتِ، يُؤتي المُلكَ مَنْ يشاءُ، ويَنزِعُ المُلكَ مِمَّنْ يَشاءُ، ويُعِزُّ مَنْ يَشاءُ، ويُذِلُّ مَنْ يَشاءُ، بيدِهِ الخيرُ، إنَّهُ عَلَى كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأَشهدُ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ العليُّ الكبيرُ، وأَشهدُ أَنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ البشيرُ النذيرُ،- صلى الله عليه وسلم - وعلَى آلِه وأَزواجِهِ وأَصحابِهِ ومَنْ تَبِعهمْ بِإِحسانٍ إِلى يوم ِالمصيرِ.
…أَمَّا بَعْدُ:
…فاتقوا اللهَ عَلاَّمَ الغيوبِ، فإنَّ تقوَى اللهِ تعالَى مِنْ أَسبابِ مغفرَةِ الذنوبِ، كمَا قالَ تعالَى: { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [الأَنفال:29].(98/7)
…وَمِسْكُ الخِتامِ، مَعْشَرَ الإِخوةِ الكرامِ: ترطيبُ الأَفْواهِ بالصلاةِ والسلامِ، على أُسْوَةِ الأَنامِ، وَقُدْوَةِ كُلِّ إِمامٍ، امتثالاً لأمرِ المَلِكِ القدوسِ السلامِ، حيثُ قالَ فِي خيرِ كلامٍ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [الأحزاب: 56].
…اللهمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ، كما صلَّيتَ على إِبراهيمَ وعلى آلِ إِبراهيمَ، إِنَّك حميدٌ مجيدٌ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركْتَ على إِبراهيمَ وعلى آلِ إِبراهيمَ، في العالمينَ، إِنَّك حميدٌ مجيدٌ.
وارضَ اللهمَّ عَنِ الأَربعةِ الخلفاءِ الراشدينَ، والأَئمَّةِ الحُنَفاءِ المَهْديِّينَ، أُولِي الفضلِ الجَلِيِّ، والقدْرِ العَلِيِّ: أَبي بكرٍ وعمرَ وعُثمانَ وعليٍّ، وارضَ اللهمَّ عَنْ عمَّيْ نبيِّكَ حمزةَ والعبَّاسِ، وَسِبْطَيْ نبيِّكَ الحَسنِ والحُسينِ سَيِّدَيْ شبابِ أَهلِ الجنَّةِ بِلا التباسٍ، وآلِهِ وأَزواجِهِ المُطَهَّرِينَ مِنَ الأَرْجَاسِ؛ وصَحَابَتِهِ الصَّفوةِ الأَخْيَارِ مِنَ الناسِ.
…اللهمَّ اغفرْ لِلمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأَحياءِ منهم والأَمواتِ، اللهمَّ إِنَّا نسألُكَ مِنَ الخيرِ كُلِّه، عاجلِهِ وآجلِهِ، ما عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نعلمْ، ونعوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّه، عاجلِهِ وآجلِهِ، ما عَلِمْنا مِنْه وَمَا لمْ نعلمْ، اللهمَّ إِنَّا نسألُكَ مِنْ خيرِ مَا سألَكَ عبدُكَ ونبيُّكَ - صلى الله عليه وسلم -، ونعوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عاذَ بهِ عبدُكَ ونبيُّك - صلى الله عليه وسلم -، …اللهمَّ إِنَّا نسألُكَ الجنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِليها مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، ونعوذُ بِكَ مِنَ النارِ، وَمَا قَرَّبَ إَِليها مِنْ قَوْلٍ أَوْ عملٍ، ونسألُكَ أَنْ تجعلَ كُلَّ قَضَاءٍ قضيتَهُ لنا خيراً.(98/8)
…اللهمَّ آمِنَّا فِي الأَوطانِ وَالدُّورِ، وَادْفَعْ عنَّا الفِتَنَ وَالشرورَ، وأَصْلِحْ لَنا وُلاةَ الأُمُورِ، وَاشرحْ لِتحكيمِ كتابِكَ الصدورَ، وأَلْبِسْ أَميرَنَا وَوَلِيَّ عهدِهِ ثَوْبَ الصحةِ والعافيةِ والطَّهورِ، بِرحمتِكَ يا عزيزُ يا غفورُ.
…عبادَ اللهِ:
…اذكروا اللهَ ذِكْراً كثيراً، وكَبِّروهُ تكبيراً، { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [العنكبوت:45]
…………………… لجنة الخطبة المذاعة والموزَّعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(98/9)
اطبع هذه الصحفة
الحسد أسباب وعلاج
عِبَادِ اللهِ:
…الحَسَدُ دَاءُ الأُمَمِ، وَمَرَضُ الشُّعُوبِ فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الزُّبَيْرِ بِن العَوَّامِ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قالَ :" دَبَّ إِليكُمْ دَاءُ الأُمَمِ مِنْ قَبْلِكُمْ، الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ لا أَقولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، لَكِنَّها تَحْلِقُ الدِّينَ"
فَالحسدُ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ بِهِ، وَمِنْهُ انْطَلَقَتْ أَوَّلُ شَرَارةِ لِتُوقِدَ عَوَامِلَ الشَّقَاءِ فِي الإِنْسانِيَّةِ، فَمَا الذِي أَوْقَعَ إِبْلِيسَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ إِلاَّ حسدُهُ لأَِبِينَا آدَمَ عليهِ السَّلامُ َ { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } ص { 75 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 17من صفر 1427هـ الموافق 17/3/ 2006م
الحسد أسباب وعلاج
…الحَمْدُ لِلهِ عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي لا تُعَدُّ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى إِحْسَانِهِ الذِي لا يُحَدُّ، وَأَشْهدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، عليهِ المُعَوَّلُ وَالمُعْتَمَدُ، وَإِليهِ المُسْتَنَدُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ المُمَجَّدُ، أَمَرَهُ رَبُّهُ بِالتعَوُّذِ مِنْ شَرِّ النفَّاثاتِ فِي العُقَدِ، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذا حَسَدَ، صلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، أَسْلَمِ الأُمَّةِ صُدُوراً وَأَطْهَرِها سِيرَةً وَأَمْجَدِ، وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ مَا تَعَاقَبَ الزَّمانُ وَتَجَدَّدَ.
…أَمَّا بَعْدُ:(99/1)
…فَأُوصِيكُمْ ـ أَيُّها الناسُ ـ وَنَفْسِي بِتقوَى اللهِ، فَإنَّهُ لا خَيْرَ لِلبْشَريَّةِ، وَلا صَلاَحَ لِلْإِنْسَانِيَّةِ إِلَّا بِتقوَى رَبِّ البَرِيَّةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَهْمَا بَلَغَتِ الأُمَمُ مِنَ الحَضَارِةَ المَادِيَّةِ، وَالاكْتِشافاتِ العِلْمِيَّةِ فَهِيَ خِدَاجٌ مَا لَمْ تَكُنْ تَقْوَى اللهِ هِيَ الزَّادُ، يقولُ اللهُ تعالَى: { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } البقرة { 197 }
…مَعَاشِرَ المُسْلِمِينَ:
…إِنَّ حَدِيثَنا اليومَ عَنْ دَاءٍ عُضَالٍ، وَمَرَضٍ قَلْبِيٍّ قَتَّالٍ، شَرُّهُ كَبِيٌر، وَبَلَاؤُهُ خَطِيرٌ، مَا تَحَكَّمَ فَي فَرْدٍ إِلاَّ أَشْقَاهُ وَأَضَّلهُ، وَلاَ فِي مُجْتَمَعٍ إِلَّا شَتَّتَهُ وَأَذَلَّهُ، كَمْ صَدَّ عَنِ الحَقِّ، وَكَمْ أَضَلَّ مِنَ الخَلْقِ، هَذَا الدَّاءُ: مَا فَشَا فِي أُمَّةٍ إِلا كَانَ نَذِيرَ هَلَاكِهَا، وَلَا دَبَّ فِي دِيَارٍ إِلَّا كَانَ سَبِيلَ فَنَائِهَا، وَمَا انْتَشَر فِي صُفوفِ جَمَاعَةٍ إِلَّا كَانَ سَبَبَاً لِبَلائِهَا وَشَقَائِهَاِ، إنَّهُ مَصْدَرُ كُلِّ بَلَاءٍ، وَمَنْبَعُ كُلِّ عَدَاءٍ، سِلَاحٌ فَتَّاكٌ، وَسَيْفٌ بَتَّارٌ، يَضْرِبُ بِهِ الشَّيْطانُ القُلوبَ فَتَتمَزَّقُ، وَالمُجْتَمَعَاتِ فَتَتفَرَّقُ، يُفْسِدُ المَوَدَّةَ، وَيقْطَعُ أَحْبَالَ المَحَبَّةِ، وَيَهْدِمُ أَوَاصِرَ الأَّخوَّةِ، بَلْ يَحْلِقُ الدِّينَ وَيَهْدِمُ الدُّنْيا، وَيَقْضِي عَلى بَوَاعِث الخَيْرِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ.
…ذَلِكُمْ ـ يَا عِبادَ اللهِ ـ هُوَ دَاءُ الحَسَدِ: تَمَنِّي زَوَالِ نِعْمَةِ اللهِ عَنِ المَحْسُودِ، وَكَرَاهَيَةُ وُصُولِ الخَيْرِ لَهُ.
لِلهِ دَرُّ الحَسَدِ مَا أَعْدَلَهْ……اصْبِرْ عَلَى كَيْد الحَسُود
…عِبَادِ اللهِ:(99/2)
…الحَسَدُ دَاءُ الأُمَمِ، وَمَرَضُ الشُّعُوبِ فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الزُّبَيْرِ بِن العَوَّامِ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قالَ :" دَبَّ إِليكُمْ دَاءُ الأُمَمِ مِنْ قَبْلِكُمْ، الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ لا أَقولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، لَكِنَّها تَحْلِقُ الدِّينَ"
فَالحسدُ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ بِهِ، وَمِنْهُ انْطَلَقَتْ أَوَّلُ شَرَارةِ لِتُوقِدَ عَوَامِلَ الشَّقَاءِ فِي الإِنْسانِيَّةِ، فَمَا الذِي أَوْقَعَ إِبْلِيسَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ إِلاَّ حسدُهُ لأَِبِينَا آدَمَ عليهِ السَّلامُ َ { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } ص { 75 } .
…وَمَا الذي حَمَلَ قَابِيلَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ هَابِيلَ إِلاَّ الحَسَدُ، { فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } المائدة { 30 } ، وَمَا الذِي حَمَلَ إِخْوَةَ يوسفَ عَلَى مَا فَعَلُوا بِيوسُفَ إِلاَّ الحَسَدُ، { إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } يوسف { 8 } ، وَمَا الذي حَمَلَ كُفاَّرَ قُرّيْشٍ عَلَى الاستِكْبِار عَنْ دَعْوَةِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنُّه الصاِدقُ الأَمِينُ، { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } الزخرف { 31-32 } .(99/3)
…وَمَا الذي حَمَلَ اليهودَ عَلَى جَحْدِ نُبُوَّةِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - إِلاَّ الحَسَدُ، { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم } البقرة { 109 } .
فَانْظُروا ـ يَا رَعَاكُمُ اللهُ ـ كَيْفَ حَمَلَ الحَسَدُ صَاحِبَهُ عَلَى الكُفْرِ وَالقَتْلِ، وَعَلَى المَكْرِ وِالتَّسَخُّطِ لِقَضَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَ؟! حَقّاً إِنَّه مَصْدَرُ كُلَّ بَلاءٍ، وَمَنْبَعُ كُلِّ شَقَاءٍ.
…إِخْوَةَ الإِسْلامِ:
…كَفَى بِالحاسِدِ مُعْتَرِضاً عَلَى حِكْمَةِ اللهُ، مُجْتَرِئاً عَلَى حُدُودِ اللهُ، يقولُ اللهُ سُبْحانَهُ: { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ } النساء { 54 } قَالَ ابنُ حِبَّانَ البُسْتِيُّ- رَحِمَهُ اللهُ -" الوَاجِبُ عَلَى العاقِلِ مَجَاَنبَةُ الحَسَدِ، فَإِنَّ أَهْوَنَ خِصَالِ الحَسَدِ، هُوَ تَرْكُ الرَّضَاءِ بِالقَضَاءِ وَإِرَادَةُ ضِدِّ حُكْمِ اللهِ تعالَى".
أَلا قُلْ لِمَنْ كَانَ لِي حَاسِداً……أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسَأْتَ الأَدَبْ
أَسَأْتَ عَلَى اللهِ فِي حُكْمِِه……لأِنََّكَ لَمْ تَرْضَ لِي مَا وَهَبْ
فَأَخْزَاكَ رَبِّي بِأَنْ زَادَنِي……وَسَدَّ عَلَيْكَ وُجُوَهَ الطَّلَبْ
…
…قَالَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - " يَصِلُ إِلى الحاسِدِ خَمْسُ عُقُوبَاتٍ، قَبْلَ أَنْ يَصَلَ حَسَدُهُ إِلى المَحْسُودِ : غَمٌ لاَ يَنْقَطِعُ، وَمُصِيَبةٌ لا يُؤْجَرُ عَلَيْها، وَمَذَمَّةٌ لاَ يُحْمَدُ عَلَيْها، وَسُخْطُ الرَّبِّ، وَغَلْقُ بَابَ التَّوْفِيقِ".(99/4)
وَالحَاسِدُ لاَ يُضْمِرُ إِلاَّ غَدْراً، وَلَا يُدَبِّرُ إِلاَّ مَكْراً، وَلَا يَعْمَلُ إِلاَّ شَرّاً، وَالمَحْسُودُ مِسْكِينٌ مَظْلُومٌ، ذَنْبُهُ الوَحِيدُ أَنَّ اللهَ اختصَّهُ بِنِعْمَةٍ، أَوْ أَزَالَ عَنْهُ نِقْمَةً، فَأَثَار ذَلِكَ أَمْوَاجَ بَحْرِ الحِقْدِ العَظِيمِ، فِي صَدْرِ الحَاسِدِ اللِئيمِ.
وَتَرَى اللَّبِيبَ مُحَّسَّداً لَمْ يَجْتَلِبْ……شَتْمَ الرِّجَالِ وَعِرْضُهُ مَشْتُومُ
وَتَرَى اللَّبِيبَ مُحَّسَّداً لَمْ يَجْتَلِبْ……فالْكُلُّ أَعْدَاءٌ لَهُ وَخُصُومُ
كَضَرَائِرِ الحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا……حِقْداً وَحَسَداً إِنَّهُ لذَمَيِمُ
…أَيُّها المسلمونَ:
…إِنَّ مِنْ لَوَازِم الحَسَدِ، وَآثارَ الحِقْدِ، سُوءَ الظَّنِّ بِالمُسْلِمينَ، وَتَتَبُّعَ العَوْرَاتِ، وَنَشْرَ السيئَّاتِ، وَإِذاعَةَ الأخْطَاءِ والسَّقطَاتِ، وَإِنَّ الحَاسِدِينَ لَيَجِدُونَ فِي الغِيبَةِ وَنَهْشِ الأَعْرَاضِ مُتّنّفَّساً لأَِحْقادِهِم المَدْفُونَةِ، وَخَبَاياهُمُ المَكْنُونَةِ، فَلا يَسْتَرِيحُونَ إِلاَّ إِذَا نَشَرُوا الفَضَائِحَ، وَلَا يَتَلَذَّذوُنَ إِلَّا بِسَرْدِ القَبَائِحِ.
فَقَدْ أَخْرج النسَّائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " لاَ يَجْتَمِعُ فِي جَوْفِ عَبْدٍ الإِيَمانُ وَالحَسَدُ" وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَتَحَاسَدُوا " [ أَخْرَجَهُ الطبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ضَمْرَةَ بنِ ثَعْلَبَةَ - رضي الله عنه - ].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِهَدْىِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية(99/5)
…الحَمْدُ لِلهِ، قَوْلُهُ الحَقُّ، وَوَعْدُهُ الصِّدْقُ، وَأَمْرُهُ الإِحْسَانُ وَالرِّفْقُ، نَحْمَدُهُ تعالَى وَنَشْكُرُهُ بَالعَمَل وَالنُّطْقِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شرِيكَ لَهُ فِي العِبَادَةِ وَالتَّدْبِيِر وَالرِّزْقِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ إلى كافَّةِ الخَلْقِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وبارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعيِنَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلى يَوْمِ الدِّينِ.
…أَمَّا بَعْدُ:(99/6)
…فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ { وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ } البقرة { 281 } ، وَاحْرِصُوا علَى سَلَامَةِ القُلوُبِ، وَرَاقِبُوا مَوْلاكُمْ عَلاَّمِ الغُيوبِ، وَاْعلَمُوا أَنَّ ثَوابَ سَلاَمَةِ الصُّدُورِ دُخُولُ الجَنَّةِ دَارِ الكَرَامةِ والسُّرُورِ، هُنالِكَ الثَّوابُ حَيْثُ: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } الحجر { 47 } ، وَعَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قالَ: " كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:" يَطْلُعُ الآنَ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ"، فَطَلعَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الأَنْصَارِ تَنْظِفُ لِحْيَتُهُ ِمنْ وُضُوئِهِ قَدْ عَلَّقَ نَعْلَيْهِ بِيَدِهِ الشِّمالِ، قَالَ: فَتَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرٍوَ وَذَهَبَ إلى بَيْتِهِ وَبَقِى عنْدَهُ ثَلاثَ لَيَالٍ، فَلَمْ يَرَهُ كَثِيرَ صَوْمٍ وَلاَ صَلاَةٍ فَقَالَ لهُ: إِنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنِّةِ"، وَلَمْ أََرَكَ عَمِلْتَ كَبِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ: مَا هُوَ إِلاَّ ما رأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لاَ أَجِدُ فِي نَفْسِي لأِحَدٍ مِنَ المُسْلِمينَ غِشًّا وَلاَ أَحْسُد أَحَداً عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاُه اللهُ إِيَّاهُ، فَقَال عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو: هَذِهِ التي بَلَغَتْ بِكَ". [أَخْرَجَهُ أَحمدُ وَالنَّسائيُّ].(99/7)
…هَذَا وَلْيَكُنْ شِعَارُكُمْ ما قَاَلهُ الأَخْيارُ، مِنَ التابِعِينَ بِإِحْسَانٍ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } الحشر { 10 } .
هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا ـ رَحِمَكُم اللهُ ـ علَى خَيْرِ الوَرَى وَإِمَامِ الهُدَى كَما أَمَرَ ربُّكم جَلَّ وَعَلَا فَقَال عزَّ مِنْ قائِلٍ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } الأحزاب { 56 } .
…اللهمَّ صَلِِّ وسَلِّمْ علَى مُحَمدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَعَلَى التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلى يَوْمِ الدِّينِ، اللهمَّ اهْدِنَا لأِحْسَنِ الأَخْلَاقِ والأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ لاَ يَهْدِي لِأحْسَنِها إِلاَّ أَنْتَ وَاصْرفْ عَنَّا سَيِّئهَا لَا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَها إِلاَّ أَنْتَ، اللهمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاها وَزَكِّهاَ أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيهُّا وَمَوْلَاها، اللهمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنا مِنَ النفِّاق وَالحَسَد وَالشَّحْنْاءِ، وِأِعْيُنَنَا مِنَ الخِيانَةِ، وَأَلْسِنَتَنا مِنَ الكَذِبِ يَا سَمِيعَ الدُّعاءِ، اللهمَّ إِنَّا نعوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ الحَاقِدِينَ وَكَيْدِ الحَاسِدِينَ، إِنَّكَ عَلَى كُلَّ شيءٍ قَدِيرٌ.(99/8)
…اللهمَّ وَفِّقْ أَميرَنا وَوَليَّ عهدِهِ لِهُدَاكَ، وَاجعلْ عملَهُما فِي رِضَاكَ, اللهمَّ احفظْهُما بِحفظِكَ, وَاكلأْهُما بِرعايَتِكَ, وَأَلبِسْهُما ثوبَ الصحَّةِ وَالعافيةِ وَالإيمانِ, يا ذَا الجلالِ وَالإكرامِ. اللهمَّ اجعلْ هذا البلدَ آمنًا مُطْمئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلادِ المسلمينَ, وَتَقبَّلِ اللهمَّ شُهَداءَنا وَشُهَداءَ المسلمينَ أَجمعينَ.
لجنةُ الخطبةِ المُذَاعَةِ والموزَّعةِ
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(99/9)
اطبع هذه الصحفة
لا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا
إن رسولكم صلى الله عليه وسلم قد جاء بالهدي من عند ربه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً، فجمع أمة الإسلام على كلمة سواء وآخى بينهم في الله فكانوا بحق خير أمة أخرجت للناس، لأنهم كما وصفهم ربهم في محكم التنزيل تتحقق فيهم أكرم الصفات الإنسانية التي استحقوا بها هذا الثناء من المولى جل وعلا "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله".
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمثلاً من حد الاستقامة على الطريق الأقوم والمنهج االأمدى، وهما ثمرة الإيمان الصادق وعنوان العمل الصالح، وقبل أن يأمر المسلم غيره وينهاه بأن عليه أن يأمر نفسه وينهاها، وإلا حق فيه قوله تعالى: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون".
وقد أنعم علينا بنعمة الأخوة إذ هدانا إلى صفوف المؤمنين وما كنا لنتهدي لولا أن هدانا الله،
لا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا
الحمد لله الذي خلق فسوى، و الذي قدر فهدى، خلقنا من أب واحد وام واحدة، وجعلنا شعوباً وقبائل لنتعارف ونتآلف، ونكون في هذه الحياة الدنيا إخواناً.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، جمع الناس على كلمة التوحيد، وجعلهم إخوة متحابين، قلوبهم مطمئنة بذكر الله، ونفوسهم راضية بما قسم الله، يتفاضلون بالتقوى، ويتقربون إلى ربهم بالإحسان، رحماء بينهم يؤثرون على أنفسهم، ويخشون في الله لومة لائم.
أيها المسلمون:(100/1)
إن رسولكم صلى الله عليه وسلم قد جاء بالهدي من عند ربه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً، فجمع أمة الإسلام على كلمة سواء وآخى بينهم في الله فكانوا بحق خير أمة أخرجت للناس، لأنهم كما وصفهم ربهم في محكم التنزيل تتحقق فيهم أكرم الصفات الإنسانية التي استحقوا بها هذا الثناء من المولى جل وعلا "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله".
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمثلاً من حد الاستقامة على الطريق الأقوم والمنهج االأمدى، وهما ثمرة الإيمان الصادق وعنوان العمل الصالح، وقبل أن يأمر المسلم غيره وينهاه بأن عليه أن يأمر نفسه وينهاها، وإلا حق فيه قوله تعالى: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون".
وقد أنعم علينا بنعمة الأخوة إذ هدانا إلى صفوف المؤمنين وما كنا لنتهدي لولا أن هدانا الله،
( 2)
وامتن علينا سبحانه بهذه النعمة الجليلة في قوله تعالى: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها".
وهذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين في جلاء معالم الطريق، وواجبات الأخوة فيما يرويه أبو هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله ـ التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه" [رواه مسلم].(100/2)
فهذا القول الجامع لرسولنا الكريم يمثل دستوراً أخلاقياً يقي الأفراد والمجتمعات من هذه النقائص النفسية والانحرافات الأخلاقية التي إذا تمكنت من نفس الفرد استعبدته وحولته إلى معول هدم لا يعيش إلا على آلام الآخرين، وبالتالي يقابله أخو بمثل حلقه الشرير، فيصبح المجتمع وقد تحول إلى ساحة حرب غير معلنة بين أفراده تسوده البغضاء والشحناء، ويتربص أفراده بعضهم ببعض، فتتقطع أواصر المودة، وتزول معاني التضحية والإيثار، وينفرط عند النظام الاجتماعي، فلا تعاون ولا تكافل ولا نصرة في وقت الشدة، وكل هذا يفضى إلى الصراع بين الأفراد والفئات والطبقات الاجتماعية، فتنحل عرى الروابط الوثقى التي امتازت بها الأمة الإسلامية، وقد حذرنا الله تعالى من هذه الكارثة في قوله تعالى: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم".
والوصية الجامعة للرسول صلى الله عليه وسلم تطالبنا ألا نتحاسد أي لا يتمنى أحدنا زوال النعمة عن أخيه، لأن هذه النعمة في محيط المة الإسلامية فيها خير مباشر وغير مباشر لك ولمجموع الأمة، ونحن نرى الأفراد والدول الذين أفاء الله عليهم من نعمته يمدون يد العون لإخوانهم المسلمين بالأعمال الخيرية والتبرعات السخية والهبات والقروض الميسرة، ولذلك امرنا الله تعالى أن نستعيذ به من شرور الحسد وآثاره المدمرة بل أن الحاسد يدمر نفسه، لأنه يعيش في صراع نفسي وتوتر وقلق، ورحم الله الشاعر الحكيم إذ يقول:
اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله النار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
وما طرد إبليس من رحمة الله إلا لأنه حسد آدم فعصى ربه وأستكبر وكان من الكافرين.
( 3 )
والبغضاء صفة مذمومة وخلق شىء، والمسلم بعيد عن البغضاء صفة مذمومة وخلق شىء، والمسلم بعيد عن البغضاء بحكم إسلامه وإيمانه، لأن الإيمان قائم على الحب "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم"(100/3)
وما دمرا المجتمع الإسلامي ومزق دولة الإسلام، وجعلها نعمة سائة لأعدائها إلا حين ضربت البغضاء صفوف المسلمين فصار كل منهم حرباً على أخيه، وأصبحت دولة تدبر للإغارة على الدولة المجاورة بدلاً من أن تساعدها، بل لقد تحالفت بعض الدويلات الإسلامية ضد أخواتها المسلمات مع أعدائها من الكفار الذين لم يلبثوا أن انتضوا عليها بعد أن أجهزوا على شقيقتها ولم يتعظوا بالمثل العربي البالغ الحكمة "وإنما أكلت يوم اكل الثور الأبيض"
إن المتحابين في الله على منابر من نور يوم القيامة يغبضهم الأنبياء والشهداء ذلك أن الحب في الله هو الرباط القوي الذي يشد أفراد المجتمع وطبقاته وفئاته بعضهم إلى بعض، "أن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بينان مرصوص".
وعن أنس رضى الله عنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" متفق عليه.
وواقع المسلمين اليوم يدعو إلى الرثاء من كثرة ما ينزل بهم من ملمات، وما تثور في صفوفهم من خلافات وفتن، ومرد ذلك في كثير منه إلى التحليل من الأخلاق والقيم التي جاء بها الإسلام فصنع أمة وأقام دولة وأسس حضارة، ولذلك كان ثناء الله تعالى على رسوله الكريم في محكم التنزيل "وإنك لعلى خلق عظيم: [القلم: 4].
ومرد امرنا معشر الإخوة المسلمين إلى ثوابت ديننا وأصوله في محكم آياته {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً * وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها.
نسأل الله تعالى أن يؤلف بين قلوبنا ويهدينا سواء السبيل والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(100/4)
اطبع هذه الصحفة
مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المْرءِ تَرْكُهُ مالا يَعْنِيِه
أَيُّها الُمسلمونَ:
…وإِنَّ أَخَوَفَ ماقيلَ في تَرْكِ ما لا يَعْنِي: حِفْظُ اللسانِ مِنْ لَغْوِ الكلامِ؛ لأَنَّ الِلسانَ أَعظَمُ الأَعضاءِ ضَرَراً، وأَشدُّها خَطَراً، إِنْ لَمْ يَتَعاهَدْهُ صَاحِبُهُ أَوقَعَهُ في آفاتٍ، وأَفضَى بِهِ إِلى أُمُورٍ مُهْلِكاتٍ، قالَ بعضُ العُلَماءِ: إذا تكلَّمْتَ، فَاْذكُرْ سَمعَ اللَّهِ لَكَ، وَإِذا سَكَتَّ، فاذكُرْ نَظَرَهُ إِليكَ. وقَدْ وَقَعَتِ الإِشارَةُ في القُرآنِ العَظيمِ إلى هَذا المعنَى فِي مَواضِعَ مِنْها: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ(17)مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ق { 16ـ 18 } ، وقَولُهُ تعالَى: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } الزخرف { 80 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 24من صفر 1427هـ الموافق 24/3/2006م
مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المْرءِ تَرْكُهُ مالا يَعْنِيِه
…الحَمْدُ للهِ الذي خلَقَ كُلَّ شَيءٍ فقدَّرَهُ تقديراً، وجَعلَ الليلَ والنهارَ خِلفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكوراً، أَحمَدُهُ حَمْداً كثيراً، وَأَشهدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريكَ لَهُ، تَعالَى عمَّا يَقولُ الظالمونَ عُلُوًّا كبيراً، وأَشهدُ أَنَّ سيدَنا ونَبِيَّنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ المبعوثُ إِلى الناسِ كافَّةً بَشَيِراً وَنَذِيراً، اللهُمَّ صَلِّ وَسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ وعلَى آلِهِ وأَصحابِهِ وآتِهِمْ مِنْ لَدُنْكَ فَضلاً كبيراً.
…أَمَّا بَعْدُ:(101/1)
…فأُوصِيكُم ـ أَيُّها الناسُ ـ ونفسِيَ بِتقوَى اللهِ تعالَى في السرِّ والعَلَنِ، واحذَرُوا الفواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَََنَ، وإِيَّاكُم وَالاشتِغالَ بِقِِيلَ وَقَالَ، وكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وإِضاعَةَ المالِ.
…مَعاِشرَ الأَحْبَابِ:
…إِنَّ نَبِيَّنا الكريمَ عليهِ أَفضلُ الصلاةِ وأَتمُّ التَسليمِ، أَرْشَدَنا إلى ما فيهِ فَلاحُنا في دِينِنَا ودُنْيانا، وحَذَّرَنا مِنْ كُلِّ ما فيهِ ضَرَرٌ لَنا في أُولاَنا وأُخْرَانا، فَقَدْ رَوَى أَبو هُريرةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَالَ:"مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ ما لا يَعْنِيهِ" {أَخْرَجَهُ التِرْمِذِيُّ وابنُ ماجَهَ}، وهذا الحديثُ أَصْلٌ عظيمٌ مِنْ أُصولِ الأَدَبِ، وقالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: إِنَّ جِماعَ آدابِ الخيرِ وَأَزِمَّتَهُ تَتَفرَّعُ مِنْ أَربعَةِ أَحاديثَ: وذُكِرَ هَذا الحديثُ مِنْها، ومَعْناهُ: أَنَّ مَنْ حَسُنَ إِسلامُهُ، فَيَنْبَغِي عَليهِ أَنْ يَتْرُكَ ما لا يَعْنِيهِ مِنَ الأَقوالِ وَالأَفعالِ، وأَنْ يَشْتَغِلَ بِما يَعْنِيهِ؛ لأَنَّ الإِسلامَ الكامِلَ يَقْتَضِي فِعْلَ الواجِباتِ وتَرْكَ المُحَرَّماتِ والمُشْتَبِِِهَاتِ وَالمَكْروهاتِ وفُضُولِ المُباحاتِ التي لا يَحتاجُ إِليها، فَإِنَّ هَذا كُلَّهُ لا يَعْنِي المُسْلِمَ إِذا كَمُلَ إِسلامُهُ. أَخَرجَ الحاكِمُ وَالطبَرَانِيُّ مِنْ حديثِ أَنسِ بْنِ مالكٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"إيَّاكَ وكُلَّ أَمْرٍ يُعتَذَرُ مِنْهُ".
…أَيُّها المؤمنونَ:(101/2)
…إِنَّ الَّذي يَعْنِي الإِنسانَ ما يَتعلَّقُ بِضَرورَةِ حَياتِهِ وَمَعاشِهِ، وَسَلامَتِهِ فِي مَعَادِهِ، وذَلكَ يَسيرٌ بالنسبةِ إِلى ما لا يَعْنِيهِ، فإذا اقتَصرَ الإِنسانُ على ما يَعْنِيهِ مِنَ الأُمورِ سَلِمَ مِنْ شَرٍّ عظيمٍ عَمِيمٍ، وذلكَ يعودُ إلى حُسْنِ إِسلامِ المَرْءِ. ولَقَدْ جاَءتْ أَحاديثُ كثيرةٌ تُبيِّنُ فَضْلَ مَنْ حَسُنَ إِسلامُهُ، وأَنَّهُ تُضَاعَفُ حَسَناتُهُ، وتُكفَّرُ سَيِّئاتُهُ، مِنْها ما أَخرَجَهُ مُسلِمٌ عَنْ أَبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قالَ:"إِذا أَحْسَنَ أَحَدُكم إِسلامَهُ، فكلُّ حَسَنةٍ يَعَملُها تُكتَبُ بِعَشْرِ أَمْثالِها إِلى سَبْعِ مِئةِ ضِعْفٍ، وكلُّ سيئةٍ يَعْمَلُها تُكتَبُ بِمِثْلِها حتَّى يَلقَى اللهَ عزَّ وجلَّ".
…أَيُّها الُمسلمونَ:
…وإِنَّ أَخَوَفَ ماقيلَ في تَرْكِ ما لا يَعْنِي: حِفْظُ اللسانِ مِنْ لَغْوِ الكلامِ؛ لأَنَّ الِلسانَ أَعظَمُ الأَعضاءِ ضَرَراً، وأَشدُّها خَطَراً، إِنْ لَمْ يَتَعاهَدْهُ صَاحِبُهُ أَوقَعَهُ في آفاتٍ، وأَفضَى بِهِ إِلى أُمُورٍ مُهْلِكاتٍ، قالَ بعضُ العُلَماءِ: إذا تكلَّمْتَ، فَاْذكُرْ سَمعَ اللَّهِ لَكَ، وَإِذا سَكَتَّ، فاذكُرْ نَظَرَهُ إِليكَ. وقَدْ وَقَعَتِ الإِشارَةُ في القُرآنِ العَظيمِ إلى هَذا المعنَى فِي مَواضِعَ مِنْها: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ(17)مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ق { 16ـ 18 } ، وقَولُهُ تعالَى: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } الزخرف { 80 } .(101/3)
…قالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ: مَن عَدَّ كَلامَهُ مِن عَمَلِهِ، قَلَّ كَلامُهُ إِلَّا فيما يَعْنِيهِ. فإِنَّ كثيراً مِنَ النَّاسِ لا يَعُدُّ كَلامَهُ مِن عَمَلِهِ، فَيُجازِفُ فِيهِ، ولا يَتَحَرَّى، وَقَدْ خَفِيَ هَذا على مُعاذِ بنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه - حتَّى سَأَلَ عَنْهُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: وإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِما نَتَكلَّمُ بِهِ؟ فقالَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا مُعاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ علَى وُجُوهِهِم ـ أَوْ قَالَ عَلَى مَناخِرِهِمْ ـ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِمْ؟"{ أَخرَجَهُ التِرمِذِيُّ}.
احفَظْ لِسانَكَ أَيُّهَا الإِنْسانُ لا يَلْدَغَنَّكَ إِنَّهُ ثُعْبانُ
كَمْ في الَمقابِرِ مِنْ قَتيلِ لِسانِهِ كانَتْ تَهابُ لِقاءَهُ الْأَقْرَانُ
…بارَكَ اللَّهُ لِي ولَكُمْ فِي القُرآنِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِما فِيهِ مِنَ البَيانِ، أَقولُ قَوْليِ هَذا وأَستَغْفِرُ اللَّهَ العَظيمَ لِي ولَكُمْ وَلِجَميعِ المُسلمينَ، فاسْتَغْفِروهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفورُ الرَحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحَمْدُ للهِ الذي هَدَانا إِلى سَبِيلِ الهِدايَةِ وَالعِرْفانِ، وَجَعَلَنا مِنْ أَهْلِ الإِسلامِ والإِيقانِ، أَحْمَدُهُ سبحاَنهُ وأَشْكرُهُ، وأَتوبُ إِليهِ وَأَستغفِرُهُ، وأَشْهدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له، شَهادةً بِالقلبِ وَاللسانِ، وَأَشهدُ أَنْ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، شَهادةً تُدْخِلُنا الجِنَانَ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ علَى عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ وعلَى آلِهِ وأَصحابِهِ حَمَلَةِ السُّنَّةِ وَالقرآنِ.
…أمَّا بَعْدُ:
…فَيا عِبادَ اللهِ:(101/4)
…اتقوا اللهَ تعالَى حَقَّ تَقْواهُ، وبادِرُوا بِالسَّعْيِ إِلى طاعِتهِ وَرِضاهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ تعالَى يقولُ فِي كتابِهِ الكريمِ وَهُوَ أصدقُ القائِلينَ: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } المؤمنون { 1ـ3 } .
…أَيُّها المسلمونَ:
…لَقَد أَمَرَ اللَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ باخْتِيارِ الكَلامِ الحَسَنِ فِي مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ، فقالَ سبحانَهُ: { وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً } الإسراء { 53 } .
…قَالَ ابنُ كثيرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ: يَأْمرُ تبارَكَ وتعالَى عَبْدَهُ ورسولَهُ - صلى الله عليه وسلم -أَنْ يَأْمُرَ عِبادَهُ المؤمنينَ أَنْ لا يتكلَّموا إِلَّا الكَلامَ الحَسَنَ وَالكَلِمَةَ الطيِّبَةَ، وَإِلاَّ نَزَغَ الشيطانُ بِيْنَهمْ وَأَخْرَجَ الكَلامَ إِلى الفِعَالِ، وَأَوْقَعَ الشَرَّ وَالمُخاصَمَةَ وَالمُقاتَلَةَ إِذْ أَنَّ عَدَاوَتَهُ ظاهِرَةٌ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ـ عليهِ السلامُ ـ، وَلِهذا نَهَى الإِسلامُ أَنْ يُشيِرَ المسلمُ إِلى أَخيهِ بِالسلاحِ فَإِنَّ الشيطانَ يَنْزِغُ فِي يَدِهِ أَيْ فَرُبَّما أَصَاَبهُ بِهَا.
…أَلاَ وإِنَّ اللََّهَ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ قَدْ أَثابَ عَلَى الكلِمَةِ الطيِّبَةِ، وَأَوْجَبَ العقوبَةَ عَلَى الكلِمَةِ الخبيثةِ، وَأَخْبرَ أَنَّ الإِنسانَ سَيُسْأَلُ عَنْ جَوَارِحِهِ، فقَالَ سبحانَهُ: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } الإسراء { 36 } .(101/5)
…وَقَدْ مَرَّ رَجُلٌ بِلقمانَ والناسُ عِنْدَهُ ـ أَيْ مُجْتَمِعونَ حَوْلَهُ ـ، فَقالَ لَهُ: أَلسْتَ عَبْدَ بنَيِ فُلانٍ؟ قالَ: بَلَى، قالَ: الذي كُنْتَ تَرْعَى عِنْدَ جَبِلِ كَذَا وَكَذَا؟ قالَ: بَلَى، قالَ: فَما بَلَغَ بِكَ ما أَرَى؟ قالَ: صِدْقُ الحديثِ وَطُولُ السكوتِ عَمَّا لا يَعْنِينِي.
…هَذَا وَاتَّقُوا اللهَ تعالَى وَاعْمَلوا بِطاعتِهِ، وَاحْفَظوا جَوَارِحَكُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، فَرَحِمَ اللهُ امْرَأً حَفِظَ عَنِ اللغوِ لِسانَهُ، وعنِ النظَرِ المُحَرَّمِ أَجْفاَنهُ، وَعَنْ سَماعِ المَلاهِي آذانَهُ، وَأَصْلَحَ حالَهُ قَبْلَ ارْتِحالِهِ، قَالَ اللهُ تعالَى فِي مُحْكَمِ التنزيلِ: { وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } الأنعام { 120 } ، أَخْرَجَ البخاريُّ ومُسْلمٌ مِنْ حديثِ أَبِي هُريرةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قالَ:"مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ".
انْطِقْ مُصِيبًا لا تَكُنْ هَِذرًا عَيَّابَةً ناطِقًا بالفُحْشِ وَالرِّيَبِ
وَكُنْ رَزِينًا طَوِيلَ الصَّمْتِ ذا فِكَرٍ فإِنْ نَطَقْتَ فَلا تُكْثِرْ مِنَ الخُطَبِ
وَلا تُجِبْ سَائِلاً مِنْ غَيْرِ تَرْوِيَةٍ وَبِالَّذي عَنْهُ لَمْ تُسْأَلْ فَلا تُجِبِ
…اللهمَّ اغفِرْ للِمُؤْمنِينَ وَالمؤمناتِ، وَالمسلمينَ وَالمسلماتِ، الأَحْياءِ مِنْهم وَالأَمواتِ، إِنَّكَ سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعَوَاتِ. اللهمَّ أَعِزَّ الإِسلامَ وَالمسلمينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالمُشْرِكينَ، وَدَمِّرْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدَّينِ.(101/6)
…اللهمَّ وَفِّقْ أَمِيرَ بِلادِنا وَوَليَّ عَهْدِهِ لِهُدَاكَ، وَارْعَهُما بِرِعايَتِكَ، وَأَلْبِسْهُما لِباسَ الصِّحَّةِ وَالعافِيَةِ، وَوَفِّقْهُما لِما تُحِبُّ وَتَرْضَى يا رَبَّ العالَمِينَ. وَاجْعَلِ اللهمَّ هَذا البَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنّاً سَخَاءً رَخاءً وَسائِرَ بِلادِ المسلمينَ، وآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
لجنة الخطبة المذاعة والموزَّعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(101/7)
اطبع هذه الصحفة
من مقاصد الشريعة
أَيُّها المسلمونَ:
…لَقَدْ أَكْرَمَنا اللهُ – عَزَّ وجَلَّ - وشَرَّفَنا تَشْرِيفاً حِينَ أَنْزلَ عَلَيْنا أَحْسَنَ الكتَبِ, وَأَرْسلَ إِلينَا صَفْوَةَ الرُّسُلِ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِأَفْضَلِ شَرِيعَةٍ، وَهَدَانا لأَقْوَمِ طَرِيقَةٍ؛ حتىَّ صارَتْ أُمَّتُنا كَمَا وَصَفَها رَبُّنا جَلَّ وَعَلا: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } آل عمران { 110 }
…وَقَدْ أَكْمَلَ لَنا الدِّينَ وَأَتمَّ عَلَيْنَا النعْمَةَ ورَضِيَ لَنا الإِسلامَ دِيناً. وَلَمَّا كانَتْ شَرِيعةُ الإسلامِ خاتِمَةَ الشَّرَائِعِ وَناسِخَةً لهاَ استلْزَمَ ذَلِكَ أَنْ تكونَ قَوَاعِدُها وَأَحْكَامُها وَمَبادِؤُها عَلَى نَحْوٍ يُحقِّقُ لِلأُمَّةِ رَغائِبَها، ويُلَبِّي لها مَطَالِبَهَا، وَيجْلبُ لَها مَصَالِحهَا فيِ كلِّ زَمانٍ ومَكانٍ، وَيَفي بِحاجَاتِ البَشَرِ كُلِّهمْ وَلا يَضِيقُ بهِِا وَلاَ يَتَخلَّفُ عَنْ أَيِّ مُسْتوَىً مَرْمُوقٍ يَبْلُغُه رُقِيُّ البَشَرِ، إِذْ إِنَّ الشَّرِيعَةَ ما جَاءَتْ إِلاَّ لِتحُقِّقَ مَصَالحَ العِبَادِ فيِ العاجِلِ وَالآجِلِ، وَتْدفَعُ عَنْهُم الأَضْرارَ والمفَاسِدَ، وَهَذا مُقْتضَىَ الرَّحْمَةِ التي أَرْسَلَ اللهُ بِها خاتَمَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } الأنبياء { 107 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 2من ربيع الأول 1427هـ الموافق 31/3/2006م
من مقاصد الشريعة(102/1)
الحَمْدُ للهِ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِيِن الحقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّيِن كُلِّهِ، وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً، وَأَشْهدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إِقْرارا بِهِ وَتَوْحِيداً، سُبْحانَهُ خَلَقَ فقدَّرَ، ومَلَكَ فَدَبَّرَ، وَشَرَعَ فََيَسَّر، أُسَبِّحُهُ وأُمجِّدُهُ تَمْجِيداً، وَأَشْهَدُ أَنَّ محمدا ًعبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ الرَّحْمَةُ المُهْداةُ وَالنِّعْمَةُ المُسْداةُ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وَسلَّمَ تَسْلِيماً مَزِيداً.
…أَمَّا بَعْدُ:
…فَأُوصِيكُمْ- عِبَادَ اللهِ - وَنفسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى ؛ فَإِنَّها خَيْرُ الزَّادِ لِدَارِ المَعَادِ كَمَا قَالَ رَبُّ العِبادِ: { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً (33) وَكَأْساً دِهَاقاً (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً (35) جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَاباً } النبأ { 31- 36 } .
…أَيُّها المسلمونَ:
…لَقَدْ أَكْرَمَنا اللهُ – عَزَّ وجَلَّ - وشَرَّفَنا تَشْرِيفاً حِينَ أَنْزلَ عَلَيْنا أَحْسَنَ الكتَبِ, وَأَرْسلَ إِلينَا صَفْوَةَ الرُّسُلِ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِأَفْضَلِ شَرِيعَةٍ، وَهَدَانا لأَقْوَمِ طَرِيقَةٍ؛ حتىَّ صارَتْ أُمَّتُنا كَمَا وَصَفَها رَبُّنا جَلَّ وَعَلا: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } آل عمران { 110 }(102/2)
…وَقَدْ أَكْمَلَ لَنا الدِّينَ وَأَتمَّ عَلَيْنَا النعْمَةَ ورَضِيَ لَنا الإِسلامَ دِيناً. وَلَمَّا كانَتْ شَرِيعةُ الإسلامِ خاتِمَةَ الشَّرَائِعِ وَناسِخَةً لهاَ استلْزَمَ ذَلِكَ أَنْ تكونَ قَوَاعِدُها وَأَحْكَامُها وَمَبادِؤُها عَلَى نَحْوٍ يُحقِّقُ لِلأُمَّةِ رَغائِبَها، ويُلَبِّي لها مَطَالِبَهَا، وَيجْلبُ لَها مَصَالِحهَا فيِ كلِّ زَمانٍ ومَكانٍ، وَيَفي بِحاجَاتِ البَشَرِ كُلِّهمْ وَلا يَضِيقُ بهِِا وَلاَ يَتَخلَّفُ عَنْ أَيِّ مُسْتوَىً مَرْمُوقٍ يَبْلُغُه رُقِيُّ البَشَرِ، إِذْ إِنَّ الشَّرِيعَةَ ما جَاءَتْ إِلاَّ لِتحُقِّقَ مَصَالحَ العِبَادِ فيِ العاجِلِ وَالآجِلِ، وَتْدفَعُ عَنْهُم الأَضْرارَ والمفَاسِدَ، وَهَذا مُقْتضَىَ الرَّحْمَةِ التي أَرْسَلَ اللهُ بِها خاتَمَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } الأنبياء { 107 } .
…وقَدْ جاءَتْ شَرِيَعَتُنا الغَرَّاءُ لِتحِقيقِ مَصَالِحِ الِعبادِ وَمِنْها الضَّرُورِيَّاتُ الخَمْسُ وَهِيَ: حِفْظُ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَالعَقْلِ وَالنَّسْلِ وَالمالِ.(102/3)
…فَالدِّينُ قَدْ وضَعَتِ الشَّرِيعَةُ لِقِيامِهِ وَتَحْقِيقِهِ العقَائِدَ وَالعِبَادَاتِ، وَشَرَعَتْ لِحفْظِهِ الجِهَادَ وعُقُوبَةَ المُرْتَدِّ، حَيْثُ أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - بِالجِهَادِ فَقَالَ: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } التحريم { 9 } وقَالَ عَزَّ مِنْ قائِلٍ: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ } البقرة { 193 } . وَفيِ عُقُوبَةِ المُرْتَدِّ عَنِ الدِّينِ رَوَى ابنُ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَدَّلَ دِيَنهُ فَاقْتُلُوهُ"[أخرجَهُ البخاريُّ]. كَمَا شَرَعَتْ زَوَاجِرَ لِلَّذيِنَ يِرُيدُونَ إِفْسادَ عَقَائِدِ النَّاسِ؛ كَالسَّحَرَةِ وَالعرَّافِينَ، والكُهَّانِ وَسائِرِ المُشَعْوِذِينَ.(102/4)
…وَأَمَّا النَّفْسُ فشَرَعَتْ لِحفْظِها القِصَاصَ، وَلَقَدْ شَنَّعَ الإِسلامُ وَشَدَّدَ النَّكِيرَ وَالوَعِيدَ عَلَى مَنْ أَزْهَقَ النُّفوسَ البَرِيئَةَ، وَسَفَكَ الدِّماءَ المَعْصُومَةَ، قَالَ ربُّنا تَبارَكَ وَتّعالَى: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } النساء { 93 } . وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ جَعَلَ أَوَّلَ القَضَاءِ بَيْنَ الناسِ يَوْمَ القِيَامَةِ فيِ الدِّماءِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابنِ مَسْعودٍ - رضي الله عنه - مَرْفُوعاً: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ الناسِ يَوْمَ القِيامَةِ في الدِّماءِ". وَعَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُُ عَنْهمُا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فيِ فُسْحَةٍ - أَيْ سَعَةٍ - مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَماً حَرَاماً "[أَخْرَجَهُ البخاريُّ].
…فَمَا أَجْرَأَ أُولئِكَ الذينَ يَسْفِكُُونَ الدِّماءَ بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ، وَيَتَعدَّوْنَ عَلَى حُرُماتِ المسلمينَ؛ غَيْرَ آبِهيِنَ بِما لِلدِّماءِ مِنْ حُرْمَةٍ في الإِسلامِ، لَقَدْ قَالَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ صَلَوَاتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ: "لَزَوَالُ الدُّنيا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ" [أَخْرجَهُ ابنُ ماجَهَ].(102/5)
…وَاعْلَمُوا عِبادَ اللهِ أَنَّ لِلعَقْلِ حُرْمَتَهُ وَمَكانَتَهْ فيِ الشَّرِيعَةِ؛ لِهِذا حَرَّمَتْ كُلَّ ما يُفْسِدُهُ أَوْ يُذْهِبُ بِهِ مِنَ المُسْكِراتِ وَالمُخدِّراتِ وَنْحِوها مِنَ المُضِرَّاتِ، وَوَضَعَتْ لِذَلِكَ زَوَاجِرَ وَعُقُوبَاتٍ، قَالَ اللهُ تعالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } المائدة { 90 } . وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌِ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ"[أَخْرَجَهُ مسلمٌ مِنْ حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما].…فَمَا أَعْظَمَ جِنايَةَ السُّكَارَى وَمُتَعاطِي المُخَدِّرَاتِ عَلَى عُقُولهِمُ التي مَيَّزَهُمُ اللهُ بِها عَنِ الأَنْعامِ، أَلاَ يَخافُونَ أَوْ يَتَفكَّرُونَ فيِمَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ عُقُوبَةٍ وَنَكَالٍ؟ فَلَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّه قَالَ:"ثلاَثةٌ قَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمُ الجَنَّةَ: مُدْمِنُ الخَمْرِ، وَالعَاقُّ، وَالدَّيُوثُ الذِي يُقِرُّ فيِ أَهْلِهِ الخَبَثَ"[أَخْرَجَهَ أَحْمدُ مِنُ حَدِيثِ عَبْدِاللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عَنْهما]، وَلكَيْلا يَنقْطِعَ النَّسْلُ فَقَدْ شَرَعَ الإِسْلامُ الزَّواجَ وَنَهَى عَنِ الرَّهْبانِيَّةِ، فَعَنْ أَبِي أُمامَةَ- رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم -:"تَزَوَّجُوا فَإِنِّي مُكاثِرٌ بِكِمُ الأُمَمَ، وَلَا تَكُونوا كَرَهْبَانِِِيَّةِ النَّصارَى"[أَخُرَجَهُ البَيْهَقِيُّ].وَلَئِلاَّ تَخْتَلِطَ المِيَاهُ وَلا تَضيِعَ الأَنْسَابُ فَقَدْ وَضَعَتِ الشرِيَعةُ عُقُوبَةَ الزِّنَى وَالقَذْفِ؛ حتَّى لَا يَتَطاوَلَ أَحَدٌ عَلَى هَذِهِ الحُرُمَاتِ، وَلَا يَنَالَهَا(102/6)
لِسَانٌ بِلَوْثَةٍ مِنْ أَكَاذِيبَ أَوِ افْتِرَاءَاتٍ، فَلِلْعِرْضِ قَدَاسَتُهُ وَحُرْمَتُهُ فِي الإِسْلامِ؛ فِيَما أَنْزلَ ذُو الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ، وَلِسَانُ حَالِ كُلِّ مُسُلِمٍ غَيُورٍ يُرَدِّدُ:
أَصُونُ عِرْضِي بِماليِ لَا أُدَنِّسُهُ لَا بَارَكَ اللهُ بَعْدَ العِرْضِ بِالمَالِ
إِنْ ضَاعَ مَالِي أَحْتَالُ فَأَكْسِبُهُ وَإِنْ ضَاعَ عِرْضِي فَلَسْتُ بِمُحْتَالِ
…وَشَدَّدَتِ الشرِيَعةُ الوَعِيدَ عَلَى مَنْ يَأْكلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالباطِلِ، أَوْ يُتْلِفُونَها بِلاَ وَجْهٍ مَشْروعٍ، أَوْ يَأْخُذُونَها ظُلْماً وَعُدْوَاناً، فَالمالُ عَصَبُ الحَيَاةِ، وَأَحَدُ أَهَمِّ مُقَوِّماتِ الأُمَمِ، وَغَلَّظَتْ عَلَيْهِمُ العُقوبَةَ وَالنَّكَالَ حَيْثُ قَالَ اللهُ آمِراً وَزَاجِراً { :وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } المائدة { 38 } ، وَأَخْرَجَ الشْيخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرةَ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - :"لَعَنَ اللهُ السارِقَ يَسْرِقُُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ"كَمَا حَرَّمَتِ الرِّبا؛ لأَنَّهُ ظُلْمٌ وَاسْتِغْلالٌ لحِاجَاتِ النَّاسِ وَظُروفِهِمْ، عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَعَنَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"آكِلَ الرَّبا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ"[أَخْرَجَهُ مُسْلمٌ].
…بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فيِ السُّنَّةِ وَالقُرْآنِ، وَنَفَعَنِيَ وَإِيَّاكُم بِما فِيهِما مِنَ الهُدَى وَالبَيَانِ، أَقُولُ مَا تَسُمَعونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَلِيَّ العظِيمَ، وَاسُتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغفورُ الرحِيمُ.
الخطبة الثانية(102/7)
…الحَمْدُ للهِ الذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَقَدَّرَ فَهَدَى, وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ شَرَعَ مَا فِيهِ الخَيْرُ وَالصَّلاحُ لِلْوَرَى، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحمداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَيْرُ مَنْ وَطِئَتْ قَدَماهُ الثَّرَى، صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَئِمَّةِ الهُدَى وَآسَادِ الشَّرَى وَسلَّمَ تَسْلِيماً مُبارَكاً فِيهِ مُكْثَراً .
…أَمَّا بَعْد:ُ
…فَاتَّقُوا اللهَ - أَيُّها النَّاسُ - وَأَطِيُعوهُ، وَتَجَنَّبوا عِصْيَانَ أَمْرِهِ وَاحْذَرُوهُ، وَاخْشَوْهُ فِي السِرِّ وَالعَلانِيَةِ وَرَاقِبُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الشَّرِيَعةِ - أَيْضاً - السَّمَاحَةَ وَالْيُسْرَ وَمُوَافَقَةَ الفِطْرَةِ، فَهِيَ وَسَطٌ بَيْنَ التَّضْيِيقِ وَالتَّفْرِيطِ، وَخَيْرُ الأُمورِ أَوْسَاطُهَا، ذَلِكَ أَنَّ النُّفوسَ جُبِلَتْ عَلَى حُبِّ الرِّفْقِ وَالسُّهولَةِ، وَالنُّفورِ مِنَ الشِّدَةِ وَالإِعْنَاتِ، حَيْثُ لَبَّتِ الشرِيَعةُ نِدَاءَ هذِهِ الفِطْرَةِ وَرَاعَتْ أَحْوَالهَا، وَذلِكَ صَرِيحٌ فيِ كِتابِ اللهِ وَهَدْيِ رَسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ اللهُ تعالَى: { يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } النساء { 28 } .وقَالَ سُبْحانَهُ: { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } البقرة { 185 } . وَعَنِ ابْنِ عباسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أَحَبُّ الديِّنِ إِلى اللهِ الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ"[أَخْرَجَهُ البخاريُّ مُعَلَّقاً وَحَسَّنَهُ ابنُ حَجَرٍ] وَلِذَلِكَ شُرِعَتْ أَنْواعُ الرُّخَصِ مِنْ جَمْعِ الصَّلَاةِ وَقَصْرِهَا لِلْمُسَافِرِ، وَإِباحَةِ الفِطْرِ فِي رَمَضانَ لِلْحامِلِ وَالمُرْضِعِ وَالمِريضِ وَالمسافِرِ،(102/8)
وَسُقُوطِ الصَّلاةِ عَنِ الحائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَكَذَا شُرِعَتِ الطَّهارَاتُ لِلصَّلَوَاتِ، وَأَخْذُ الزِّينَةِ مِنَ اللِبَاسِ وَالطِّيبِ وَمَحاسِنِ الهَيْئَاتِ، وَحُرِّمَتِ الخَبائِثُ مِنَ المَطْعُومَاتِ وَالمَشْرُوباتِ وَسائِرِ المُضِرَّاتِ.
…وَقَدْ ظَهَرَ لِسَمَاحَةِ هَذِهِ الشريعةِ أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي انْتِشارِهَا وَطُولِ بَقَائِهَا وَاعْتِنَاقِ النَّاسِ لهَا، وَلَا يَخفْىَ أَنَّ العَدْلَ بَيْنَ النَّاسِ فِي الأَحْكَامِ أَصْلٌ أَصِيلٌ فِي شَرِيعَةِ الإِسْلامِ وَمِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِها التي تَتَوَخَّاهَا ، فَالمسلمونَ مُتَساوُونَ فِي الحُقُوقِ وَالوَاجِبَاتِ وَبِالانْتِسَابِ إِلى الأُمَّةِ الإِسْلامِيَّةِ { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } الحجرات { 10 } . قَالَ رَبُّنا تَبارَكَ وَتَعَالَى: { وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } النساء { 58 } . وَفِي الحَدِيثِ " يا أَيُّها النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَباكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى"[أَخْرَجَهُ أَحمدُ مِنْ حديثِ جابرٍ - رضي الله عنه -]. وَجُمْلَةُ هَذِهِ المقاصِدِ التي رَعَتْها الشَّرِيَعةُ أَحْسَنَ رِعَايَةٍ: حِفْظُ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَالنَّسْلِ وَالعَقْلِ وَالمالِ، وَسَدُّ ذَرَائِعِ الفَسَادِ، وَفَتْحُ أَبْوَابِ الخَيْرِ وَالصَّلاحِ لِلِعبادِ لِيعَيِشَ المُجْتمَعُ بِأَمْنٍ وَإِيِمَانٍ، وَسَعَادَةٍ وَأَمَانٍ.(102/9)
…فَالحَمْدُ للهِ الذي شَرَعَ لَنا سُبَلَ الهُدَى، وَفَضَّلَنا بِهَذِهِ الشريعةِ عَلَى سَائِرِ الوَرَى، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعالَى أَنْ يُجَنِّبَنَا مَهَاوِيَ الرَّدَى، وَمَزَالِقَ الهَوَى، إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجيِبُ الدُّعاءِ، اللهمَّ اقْسِمْ لَنا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنا وَبَيْنَ مَعْصِيَتِكَ, وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبلِّغُنا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقيِنِ مَا تُهوِّنُ بهِ عَلَيْنا مَصَائِبَ الدُّنيا، وَمَتِّعْنا اللهمَّ بِأَسْماعِنَا وَأَبْصارِنا وَقُوَّتِنا ما أَحْيَيْتَنا وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنا عَلَى مَنْ ظَلَمَنا وَانْصُرْنا عَلَى مَنْ عَادَانا وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنيا أَكْبَرَ هَمِّنا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنا مَنْ لَا يَرْحَمُنا، اللهمَّ اغْفِرْ لِلمؤمنينَ وَالمؤمناتِ وَالمسلِمينَ وَالمسلِماتِ الأَحْياءِ مِنْهُم وَالأَمْواتِ، اللهمَّ إِنَّا نَعوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ البَلاءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ القَضَاءِ وَشَمَاتَةِ الأَعْداءِ.
اللهمَّ وَفِّقْ أَميرَنا وَوَليَّ عهدِهِ لِهُدَاكَ، وَاجعلْ عملَهُما فِي رِضَاكَ, اللهمَّ احفظْهُما بِحفظِكَ, وَاكلأْهُما بِرعايَتِكَ, وَأَلبِسْهُما ثوبَ الصحَّةِ وَالعافيةِ وَالإِيمانِ, يا ذَا الجلالِ وَالإِكرامِ. اللهمَّ اجعلْ هذا البلدَ آمِنًا مُطْمئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلادِ المسلمينَ, وَتَقبَّلِ اللهمَّ شُهَداءَنا وَشُهَداءَ المسلمينَ أَجمعينَ.
لجنةُ الخطبةِ المُذَاعَةِ والموزَّعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(102/10)
اطبع هذه الصحفة
وِلاَدَةُ أُمّة
أيُّها المسلِمون:
…إنَّ ولادةَ الهادي نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لَهِيَ أعظمُ خيرٍ وبِشارةٍ, وأكبرُ نِعْمَةٍ ومِنَّةٍ, وهو الحدثُ الجَلَلُ الذي كانَ بدايةً لعصرٍ جديدٍ لِلبشريةِ, وتحولٍ عميقٍ في حياةِ الإنسانيةِ, عن أبي أُمامةَ - رضي الله عنه -قال: قلتُ: يا نَبِيَّ اللهِ: ما كانَ أَوَّلُ أَمْرِكَ ؟ قال: " دعوةُ أبي إبراهيمَ, وبُشرى عيسى, ورَأَتْ أُمِّي نورًا أضاءَتْ منهُ قصورُ الشامِ " [أخرجهُ أحمدُ].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 9من ربيع الأول 1427هـ الموافق7/4/2006م
وِلاَدَةُ أُمّة
…الحمدُ لِلّهِ الذي أَعَزَّ الإسلامَ بإرسالِ سَيِّدِ الأنامِ, ورَفَعَ شأنَ المسلمينَ وتَوَّجَهُمْ بتاجِ النصرِ والظَّفَرِ والإكرامِ, وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له, نَصَرَ نَبِيَّهُ وأَيَّدَهُ بجنودٍ لَمْ تَرَوْها, وجَعَلَ كلمةَ الذينَ كفروا السفلى, وكلمةُ اللهِ هيَ العُليا واللهُ عزيزٌ حكيمٌ. وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه, بَلََّغَ الرِّسالةَ, وأدّى الأمانةَ, ونَصَحَ لِلأُمّةِ, وجاهَدَ في اللهِ حَقَّ جِهادِهِ, حتّى أتاهُ اليقينُ مِن ربِّهِ, فصلواتُ اللهِ تعالى وسلامُهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعينَ, ومَن تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
…أَمّا بعدُ:
…عبادَ اللهِ: فأُوصيكمْ ونفسي أولاً بتقوى اللهِ تعالى وطاعتِهِ, قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمران:102 } .
…أيُّها المسلِمون:(103/1)
…إنَّ ولادةَ الهادي نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لَهِيَ أعظمُ خيرٍ وبِشارةٍ, وأكبرُ نِعْمَةٍ ومِنَّةٍ, وهو الحدثُ الجَلَلُ الذي كانَ بدايةً لعصرٍ جديدٍ لِلبشريةِ, وتحولٍ عميقٍ في حياةِ الإنسانيةِ, عن أبي أُمامةَ - رضي الله عنه -قال: قلتُ: يا نَبِيَّ اللهِ: ما كانَ أَوَّلُ أَمْرِكَ ؟ قال: " دعوةُ أبي إبراهيمَ, وبُشرى عيسى, ورَأَتْ أُمِّي نورًا أضاءَتْ منهُ قصورُ الشامِ " [أخرجهُ أحمدُ].
وُلِدَ الهُدى فالكائناتُ ضياءُ وفَمُ الزمانِ تَبَسُّمٌ وثناءُ
يا خيرَ مَن جاءَ الوجودَ تحيّةً مِن مُرسلينَ إلى الهدى بكَ جاؤوا
أنتَ الذي نَظَمَ البَرِيَّةَ دِينُهُ ماذا يقولُ ويَنْظِمُ الشعراءُ
…فَكَمْ كانتْ نعمةُ اللهِ تعالى عظيمةً, ومِنَّتُهُ كريمةً, على العالَمِ بوجهٍ عامٍّ, وعلى العربِ بوجهٍ أَخَصَّ !!, حينَ بَعَثَ فيهمْ سَيِّدَ البشرِ, وأَنْفَسَ الدُّرَرِ, نبيَّنا محمدًا عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ السلامِ؛ فقدْ أخرجَ الناسَ مِنْ جاهليةٍ جَهْلاءَ, وضلالةٍ عمياءَ, إلى الإيمانِ والخيرِ والضياءِ, قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } { آل عمران :164 } .(103/2)
…ولقدْ سألَ النَّجَاشِيُّ أصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حينَ هاجروا إليهِ في الحَبَشَةِ: ما هذا الدِّينُ الذي قدْ فارَقْتُمْ فيهِ قومَكمْ, ولَمْ تَدْخُلوا في ديني ولا في دِينِ أَحَدٍ مِنْ هذهِ الأُمَمِ ؟! فأجابهُ جعفرُ بنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنه -: " أيُّها الملِكُ: كُنّا قومًا أهلَ جاهليةٍ, نَعْبُدُ الأصنامَ, ونأكلُ الميْتةَ, ونأتي الفواحشَ, ونَقْطَعُ الأرحامَ, ونُسيءُ الجِوارَ, ويأكلُ القويُّ منّا الضعيفَ, فكُنّا على ذلك, حتى بَعَثَ اللهُ إلينا رسولاً منّا, نَعْرِفُ نَسَبَهُ وصِدْقَهُ, وأمانتَهُ وعَفافَهُ, فدعانا إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ لِنُوَحِّدَهُ ونعبدَه, ونخْلعَ ما كنّا نَعبدُ نحنُ وآباؤنا مِنْ دونِ اللهِ مِنَ الحجارةِ والأوثانِ, وأَمَرَنا بِصِدْقِ الحديثِ, وأداءِ الأمانةِ, وصِلَةِ الرَّحِمِ, وحُسْنِ الجِوارِ, والكَفِّ عَنِ المَحارِمِ والدِّمَاءِ, ونهانا عَنِ الفواحشِ وشهادةِ الزُّورِ, وأَكْلِ مالِ اليتيمِ, وقَذْفِ المُحْصَنَةِ, وأَمَرَنا أَنْ نَعبدَ اللهَ لا نشركَ بهِ شيئًا, وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ " [أخرجَهُ أحمدُ].
…أيُّها المسلمونَ:(103/3)
…لقدْ كانَ الناسُ قبلَ مَجيءِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يعبدونَ الحَجَرَ والشَّجَرَ, والشمسَ والقمرَ, وغيرَ ذلكَ ممّا لا ينفعُ ولا يَضُرُّ, وكانَ القليلُ مِنَ الناسِ على دِينِ الخليلِ إبراهيمَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ, على الحنيفيةِ والتوحيدِ, فأتاهُمُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يدعوهُمْ إلى توحيدِ اللهِ تعالى في عبادتِهِ, وإفرادِهِ في أُلوهِيَّتِهِ, وأَعلنها صريحةً مُدَويّةً فيهمْ: { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } { غافر:66 } . وحَمَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جنابَ التوحيدِ, وأكَّدَ عليهِ غايةَ التأكيدِ, وتلا عليهمْ آياتِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ في ذلك, كقولِهِ سبحانهُ: { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } { النساء:36 } , وقولِهِ تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ { النساء:48 } .
…عبادَ الله:(103/4)
…ولقدْ كانْ عندَ العربِ قَبْلَ بعثتِهِِ - صلى الله عليه وسلم - انحرافاتٌ اجتماعيةٌ, ومفاسدُ أخلاقيةٌ, فمحاها الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - بدعوتِهِ الكريمةِ النَّقِيَّةِ, مُمْتَثِلاً أَمْرَ رَبِّهِ وخالِقِهِ عَزَّ وجَلَّ في ذلك: فَلَقَدْ كانَ أحدُهمْ إذا رَزَقَهُ اللهُ تعالى بالأُنثى مِنَ الولدِ ضاقَ صدرُهُ, وتَنَكَّدَ عَيْشُهُ, وعاشَ في هَمٍّ وحَيْرَةٍ: ماذا يصنعُ بِها ؟! فيَذهبُ كثيرٌ منهم إلى قَتْلِها ودَفْنِها وهِيَ حَيَّةٌ؛ خشيةَ الفقرِ أوِ المَهانةِ, وهُوَ ما عُرِفَ بِوَأْدِ البناتِ, فيا لَها مِنْ قلوبٍ ما أقساها!, ومِنْ عُقولٍ ما أَجْهَلَها!, يقولُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ واصفًا هذه الصورةَ العجيبةَ: { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } { النحل:58, 59 } ،ويقولُ سبحانهُ: { وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } { التكوير:8،9 } .
…ومِنْ تلكَ الأخلاقِ الفاسدةِ التي كانتْ عندَ بعضِ العربِ: انتشارُ البِغَاءِ, واتِّخاذُ الخليلاتِ, وبعضُ الأنواعِ مِنَ الأنكحةِ الباطلةِ التي لا يُقِرُّها عَقْلٌ سَوِيٌّ, ولا شَرْعٌ حنيفٌ, فحَرَّمَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - ذلك كُلَّهُ, وأبدلهُ بالنكاحِ المشروعِ الصحيحِ المقرَّرِ في الكتابِ والسُّنَّةِ, قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } { الإسراء:32 } .
…أيها المسلمون:(103/5)
…وفي جانبِ العقوباتِ والجِناياتِ: كان الظُّلْمُ والكِبْرُ موجودًا عندَهم؛ فإذا قُتِلَ فَرْدٌ مِنْ أفرادِ قبيلةٍ مّا, لَمْ تَرْضَ هذه القبيلةُ أن تَقتصَّ مِنَ القاتلِ نفْسِهِ, وإنَّما تريدُ أنْ تَقْتُلَ رئيسَ قبيلتِهِ, أورُبَّما أرادوا أن يَقتُلوا بالواحدِ منهمْ عَشْرا, وبالأُنثى ذَكَرا, فإنْ أُجيبوا إلى طَلَبِهِمْ رَضُوا, وإلاّ قاتَلوا قبيلةَ القاتلِ وسَفَكُوا الدِّماءَ الكثيرةَ ظُلْمًا وعُدْوانًا, فما أَعْظَمَهُ مِنْ ظُلْمٍ!, وما أقساهُ مِنْ جُرْمٍ!, فَشَرَعَ اللهُ تعالى القصاصَ الذي يُحَقِّقُ العدالةَ والحياةَ, فقال سبحانَهُ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى } إلى أنْ قال: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } { البقرة:178, 179 } .
…باركَ اللهُ لي ولكمْ بالقرآنِ العظيمِ, ونفعني وإياكُمْ بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ, أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ تعالى لي ولَكُمْ ولسائرِ المسلمينَ فاستغفروهُ, إنّهُ هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ لِلهِ العزيزِ الغفارِ, الواحدِ القهّارِ, وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ لَهُ, سَخَّرَ لنا الشمسَ والقمرَ والبِحارَ والأنهارَ, وآتانا مِنْ كُلِّ ما سألْناهُ { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } { إبراهيم:34 } , وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ, البشيرُ النذيرُ, والسِّرَاجُ المنيرُ, قدوةُ العالَمينَ, وخاتَمُ المُرْسلينَ, صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ, ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
…أما بعد:
…فاتَّقوا اللهَ – عبادَ اللهِ – حَقَّ تَقْواهُ, واعْمَلُوا بطاعتِهِ ورِضاهُ.
…أيها المسلمونَ:(103/6)
…أَخْرَجَ البخاريُّ في صحيحِهِ عَنْ عطاءِ بنِ يَسَارِ أنه قالَ: لَقِيتُ عبدَ اللهِ بنَ عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنهما فقلتُ: أَخْبِرْني عَنْ صِفَةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في التوراةِ, قالَ: أَجَلْ واللهِ؛ إنَّهُ لَموصوفٌ في التوراةِ ببعضِ صفتِهِ في القرآنِ: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } { الأحزاب:45 } وحِرْزًا لِلأُمِّيِّينَ. أنتَ عبدي ورسولي, سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ, ليسَ بِفَظٍّ ولا غليظٍ ولا سَخّابٍ في الأسواقِ, ولا يَدْفَعُ بالسيئةِ السيئةَ, ولكنْ يَعفو ويَغفرُ, ولَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حتى يُقيمَ بهِ المِلَّةَ العَوْجاءَ؛ بِأن َيْقولوا: لا إلهَ إلا اللهُ, ويَفْتَحَ بِهِ أعينًا عُمْيًا, وآذانًا صُمًّا, وقلوبًا غُلْفا.
…فعلينا – معاشرَ المسلمينَ - أن نُّؤْمنَ بنبيِّنا الكريمِ, وأن نُّصَدِّقَهُ في كُلِّ ما يقولُ, وأن نُّحِبَّهُ ونُوَقِّرَهُ, وأن نَّتَّبِعَهُ ونَعملَ بما جاءَ بِهِ, وأن نَّنْصُرَهُ ونَذُبَّ عنهُ, قال اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } { الفتح:9 } , وقال سبحانهُ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } { النساء:59 } .
اللهُمَّ إنا نَسألُكَ حُبَّكَ, وحُبَّ مَن يُحِبُّكَ, وحُبَّ مَن يُحِبُّ نبيَّك, وحُبَّ كُلِّ عملٍِ يُقَرِّبُنا إلى حُبِّك، اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ, وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ,ودَمِّرِ اللهمّ أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ. اللهم اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ, والمسلمينَ والمسلماتِ, الأحياءِ منهمْ والأمواتِ, إنكَ سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ.(103/7)
اللهم وَفِّقْ أميرَنا وولِيَّ عهدِهِ لِهُداك, واجْعَلْ عملَهما في رِضاك. اللهمَّ احْفَظْهُما بِحِفْظِك, واكْلأْهُما بِرِعايتِكَ, وأَلْبِسْهُما ثوبَ الصحةِ والعافيةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ. اللهُمَّ اجعلْ هذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخاءً رَخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتَقَبَّلِ اللهمَّ شُهداءَنا وشُهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
لجنةُ الخطبةِ المُذَاعَةِ والموزَّعة(103/8)
اطبع هذه الصحفة
البكاء من خشية الله
معاشِرَ المسلمينَ:
…إنَّ مِنَ النِعَمِ العظيمةِ، والآلاءِ الجسيمةِ، ما أودعَهُ اللهُ سبحانَه في نفوسِ البشرِ، مِنَ الضَّحِكِ أوِ البكاءِ والكَدَرِ، ضَحِكٌ تُعَبِّرُ بهِ عَنْ فَرَحِها بالمرغوبِ، وبُكاءٌ يُتَرجِمُ حُزنَها وخشْيَتَها مِنَ المرهوبِ، ولرُبَّما هجمَ السرورُ علَيْها، فكانَ مِنْ فَرْطِ ما قَدْ سَرَّها أبكاها، يقولُ اللهُ تعالَى: { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } { النجم:43 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 23من ربيع الأول1427هـ الموافق 21/4/2006م
البكاء من خشية الله
…الحمدُ للهِ أهلِ الحمْدِ والثناءِ، المتفردِ برداءِ الكبرياءِ، المتوحِّدِ بصفاتِ المجدِ والعَلاءِ، مِنْ خشَيتهِ بكَتْ عيونُ الأَصفياءِ، ووجِلَتْ قلوبُ الأتقياءِ، وأشهدُ أَنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له فاطرُ الأَرضِ والسماءِ، وأشهدُ أنّ نبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه سيِّدُ الرسلِ والأنبياءِ، كانَ لصدرِهِ أَزِيزٌ كأزيزِ المِرْجَلِ مِنَ البكاءِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ الأوفياءِ، وعلى التابعينَ ومَنْ تَبِعَهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الجزاءِ.
…أمَّا بعدُ:
…فأُوصيكم – عبادَ اللهِ – بتقوَى الربِّ الأكْرَمِ، فَمنْ عصاهُ خابَ وخَسِرَ وندِمَ، ومَنِ اتَّقاهُ أفلحَ في دُنْياه وسَلِمَ، واستبشرَ في أُخْراهُ وغَنِمَ،فَالمتقونَ خِيارُ الناسِ في كلِّ الأُممِ، يقولُ اللهُ تعالَى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } { الحجرات:13 } .
أَلا إِنَّ تقوَى اللهِ أكرمُ نِسْبَةٍ تسامَى بها عِنْدَ الفَخارِ كَريمُ
إذا ما اجتَنَبْتَ الناسَ إلاّ على التُّقىَ خرجْتَ مِنَ الدنيا وأنتَ سليمُ
فحتَّى متَى تعصِي ويعفُو إلى متى تبارَكَ ربِّي إنَّهُ لَرحيمُ
…معاشِرَ المسلمينَ:(104/1)
…إنَّ مِنَ النِعَمِ العظيمةِ، والآلاءِ الجسيمةِ، ما أودعَهُ اللهُ سبحانَه في نفوسِ البشرِ، مِنَ الضَّحِكِ أوِ البكاءِ والكَدَرِ، ضَحِكٌ تُعَبِّرُ بهِ عَنْ فَرَحِها بالمرغوبِ، وبُكاءٌ يُتَرجِمُ حُزنَها وخشْيَتَها مِنَ المرهوبِ، ولرُبَّما هجمَ السرورُ علَيْها، فكانَ مِنْ فَرْطِ ما قَدْ سَرَّها أبكاها، يقولُ اللهُ تعالَى: { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } { النجم:43 } .
…أيُّها الأحبَّةُ:
…إنَّ البكاءَ قافلةٌ ضخمةٌ، حطَّتْ رَكائِبَها في سوقٍ رحْبَةٍ، فما اشترَى الناسُ مِنْها على أَضْرُبٍ ثلاثةٍ: فضَرْبٌ مِنَ الناسِ اشترَوْا بكاءَ المشغوفينَ العشَّاقِ، أصحابِ الهوَى والغَرامِ والأشواقِ، هَربُوا مِنَ الرِّقِّ الذي خُلِقوا له، وَبلَوْا أنفسَهُم بِرقِّ الهوَى وعُبوديَّتهِ، فَما أعظَمَها شِقْوَةً!، وما أوْعَرَها هُوَّةً!.
فَمَا فِي الأرضِ أشْقَى مِنْ مُحِبٍّ وإنْ وَجَدَ الهَوَى حُلْوَ المذاقِ
تَراه باكِياً في كلِّ حينٍ مخافَةَ فُرْقةٍ أوْ لاِشتياقِ
فتسْخُنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التلاِقي وتسخُنُ عينُه عندَ الفِراقِ
ويبكِي إنْ نَأَوْا شَوْقاً إِليهمْ وَيبْكِي إِنْ دَنَوْا خَوْفَ الفِراقِ
…وضَرْبٌ مِنَ الناسِ اشتَروْا بُكاءَ أهْلِ الحزنِ على مصائِبِهمْ، فاقْتَصَروا علَى سِلْعَةٍ وافقَتْ جِبِلَّتَهُم، فأصبحوا لا لَهُمْ ولا علَيْهِم، وضربٌ ثالثٌ اشترَوْا بُكاءَ الخشيةِ مِنَ اللهِ سبحانَه، ذَوُوا أحاسِيسَ مُرْهَفَةٍ، لا يُسْعِفُهم المقالُ، للِتّعبيرِ عمَّا يخالِجُ مشاعِرَهم مِنْ حُبٍّ للهِ وإقبالٍ، وتعظيمٍ وخشيةٍ وإجلالٍ، فتفيضُ عيونُهُمْ بِالدموعِ، مُعَبِّرَةً عَنِ الإِخْباتِ والخشوعِ، يقولُ اللهُ تعالَى: { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } { المائدة:83 } .
… عبادَ اللهِ:(104/2)
… إنَّ البكاءَ مِنْ خشيةِ اللهِ وصفٌ حميدٌ، ومسعىً فريدٌ، لا يُوَفَّقُ إليهِ إلاَ سعيدٌ، بهِ وصَفَ اللهُ أنبياءَه، والذين أُوتوا العِلْمَ مِنْ عبادِهِ، يقولُ اللهُ سبحاَنه-بعدَ أَنْ ذكرَ طائِفةً مِنْ أنبيائِهِ { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً } { مريم:58 } ،ويقولُ سبحاَنه: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107)وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً(108)وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } { الإسراء:107-109 } ، وعنِ ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ لي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - "اقرأْ عَلَيَّ القرآنَ"، قُلْتُ يا رسولَ اللهِ: أقرأُ عليكَ وعليكَ أُنزِلَ؟ قالَ: "إنِّي أُحِبُّ أنْ أسمعَهُ مِنْ غيرِي"، قالَ: فقَرأْتُ النساءَ حتَّى إِذا بَلغْتُ: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً } { النساء:41 } قالَ:"فرفَعْتُ رأْسِي فإذا عَيْناه تَذْرِفانِ"
[متفقٌ عليهِ].
ولَمْ يكنْ بكاؤُه - صلى الله عليه وسلم - فَقَطْ بِفعلِهِ، بَلْ حثَّ عليهِ بقولِهِ: "عَيْنانِ لا تمسُّهُما النّارُ: عَيْنٌ بكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وعَيْنٌ باتَتْ تحرُسُ في سبيلِ اللهِ"[أخرجَه الترمذيُّ مِنْ حديثِ ابنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عنهما]، وعَنْ عُقْبةَ بنِ عامرٍ - رضي الله عنه - قالَ: قُلْتُ يا رسولَ اللهِ؛ ما النَّجاةُ ؟ فقالَ:"أَمْسِكْ علَيْكَ لِسانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بيتُكَ، وابْكِ علَى خَطِيئَتِكَ" [أخرجَه أحمد والترمذي].
بكَيْتُ على الذنوبِ لِعظْمِ جُرْمِي وحَقَّ لِمَنْ عصَى مُرُّ البُكاءِ
فلَوْ أنَّ البكاءَ يَرُدُّ هَمِّي لأَسْعَدَتِ الدُّموعُ معَ الدماءِ
…أتباعَ سيِّدِ المرسلينَ:(104/3)
…وعلَى هذا النهْجِ المتينِ، سارَ الصحابةُ ومَنْ بعدَهمْ مِنَ التابِعينَ، فقَدْ كانَ أبو بكرٍ - رضي الله عنه - رجلاً أَسِيفاً كثيرَ البكاءِ، وكانَ في وجهِ عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه - خَطَّانِ أسودانِ مِنَ البكاءِ، وكانَ عثمانُ - رضي الله عنه - إذا وقفَ على القبرِ تخضَلُّ لِحْيتُه مِنَ البكاءِ، وكانَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنه - يقبِضُ على لحيتِه ويبِكي بكاءَ الخاشعِ الحزينِ وهَكَذا عَنْ سائرِ الصَّحْبِ النُّجَباءِ، وقامَ محمدُ بنُ المُنْكَدِرِ ذاتَ ليلةٍ فبكَى، ثم اجتمعَ عليهِ أهلُهُ لِيستَعْلِمُوا عَنْ سببِ بكائهِ، فاستعجَمَ لسانُه، فدعَوْا صاحبَه أبا حازمٍ فهدَّأَهُ، ثم سألَه عَنْ سببِ بكائِه، فقالَ: تلَوْتُ قولَ اللهِ تعالىَ: { وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } { الزمر:47 } ، فبكَى أَبو حازمٍ وعادَ محمدُ بنُ المُنْكَدِرِ إلى البكاءِ فقالَ أهلُه: أَتَينْا بِكَ لِتخفِّفَ عَنْه فَزِدْتَه.
بكَى الباكونَ للرحمنِ ليلاً وباتُوا سُجَّداً ما يسأَمُونا
بقاعُ الأَرضِ مِنْ شوقٍ إليهم تَحِنُّ متَى علَيْها يَسْجُدُونا
…بارَكَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ، ونفعَنا بما فيهِ مِنَ الهُدَى والبيَانِ، أقولُ قوليِ هذا وأستغِفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفِروه إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ الذي أيقظَ مَنْ شاءَ مِنْ سِنَةِ الغفْلَةِ، ووضَعَ عَنْه أوزارَهُ وثِقَلَهُ، وأشهدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، شَهادةً علَيْها مِنْ رِداءِ الإخلاصِ أجملُ حُلَّةٍ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمداً عبدُهُ ورسولهُ المبعوثُ بأشرفِ مِلَّةٍ، والمخصوصُ بأكرمِ خُلَّةٍ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وأصحاِبهِ السادَةِ الأَجِلَّةِ، وعلى تابِعيهِمْ بإحسانٍ إلى يومِ المُساءَلَةِ.
…أمَّا بعدُ:(104/4)
…فاتقوا اللهَ - أيهُّا الناسُ -، وتجمَّلُوا بِالتقوَى فإنَّها خيرُ لباسٍ، يقولُ اللهُ تعالَى: { وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ } { الأعراف:26 } ، ثم لِتعلَموا أنَّ مما يعينُ على البكاءِ مِنْ خشيةِ اللهِ، التفكُّرَ في معانِي أَسماءِ اللهِ وصفاتِهِ، وآياتِهِ ومخلوقاتِهِ، وتدبُّرَ آياتِ الكتابِ، ومَشاهِدِ يومِ الحسابِ، تأَمَّلُوا في نِعَمِ العلِيِّ الكبيرِ، ثم قارِنُوها بما عِنْدَكمْ مِنْ تقصيرٍ، عِنْدَها يَنْشَأُ الحياءُ والخشَيةُ مِنَ اللطيفِ الخبيرِ.
…إِخوةَ الإيمانِ:
…إنَّ البكاءَ الذي نريدُ، ما كانَ مُخْلِصاً لِلعزيزِ الحميدِ، يمنعُ صاحبَهُ مِنَ المنكَراتِ، ويدفَعُ بهِ إلى فِعْلِ الخيراتِ، لا تشوبُهُ مُراءاةُ المخلوقينَ، ولا يظهَرُ لِلسامعينَ، بَلْ يُخْفِيهِ ما استطاعَ إلى ذلِكَ مِنْ سبيلٍ، ليسَ فيهِ صُراخٌ أوْ صِياحٌ أوْ عَوِيلٌ، يقولُ محمدُ بنُ واسعٍ: "إنْ كانَ الرجلُ لَيَبْكِي عِشرينَ سنةً وامرأَتهُ معَهُ لا تَعْلَمُ"، وغَلبَتْ أحدَهُم عَيْناه فأخذَ الِمنْديلَ، فمسَحَ عينَيْهِ وأنفَهُ وهوَ يقولُ:"ما أشدَّ الزكامَ ! لِئلا يُتَفَطَّنَ له.
…ويقولُ ابنُ القيِّمِ رحِمَهُ اللهُ: "وأمَّا بكاؤُهُ - صلى الله عليه وسلم - فكانَ مِنْ جِنْسِ ضَحِكِهِ، لمَ ْيكنْ بِشهيقٍ ورَفْعِ صَوْتٍ، كَما لمَ يَكُنْ ضَحِكُه بِقَهْقهةٍ، ولكنْ كانَتْ تَدْمَعُ عَيْناه حتَّى تَهْمِلا، ويُسْمَعُ لِصدِرهِ أَزِيزٌ، وكانَ بكاؤُهُ تارةً رحمةً للميِّتِ، وتارةً خَوْفًا على أُمَّتهِ وشَفَقَةً عَلَيْها، وتارةً مِنْ خشيَةِ اللهِ، وتارةً عِنْدَ سماعِ القرآنِ، وهوَ بكاءُ اشتياقٍ ومحبَّةٍ وإجلالٍ مصاحِبٌ لِلخوفِ والخَشْيَةِ".(104/5)
واعلَموا أيهُّا المسلمونَ أنَّ هذِهِ هِيَ حالهُ - صلى الله عليه وسلم - في خَلَواتِهِ، وشيءٌ يسيرٌ مِنْ جَلَواتِهِ، وأمَّا إذا ما خرَجَ للناسِ، أظهرَ الِبشْرَ والسرورَ والاسِتئْناسَ، يقولُ عبدُ اللهِ بنُ الحاِرثِ - رضي الله عنه -:"ما رأيتُ أكثرَ تبسُّمًا مِنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " [أخرجَه الترمذيُّ].
…فاتقوا اللهَ - معاشِرَ المسلِمينَ -، وتأسَّوْا بخيرِ المرسلينَ وأصحابِهِ الميامِينِ، عالِجُوا جُمودَ العينِ وقَسْوَةَ القلبِ، وبادِرُوا بطاعةِ الربِّ، يكتُبْ لكمْ حُسْنَ المنقَلَبِ، ثمَّ صَلَّوا وسَلِّموا - رحِمَكم اللهُ - علَى النعمَةِ المُهْداة، والرحمَةِ المُسْداةِ، محمدِ بنِ عبدِ اللهِ كَما أَمرَكُمْ ربُّكمْ جَلَّ في عُلاهُ، فقالَ - عز وجل - مِنْ قاِئلٍ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب:56 }
…اللهمَّ صلَّ على نبيِّكَ محمدٍ وعلَى آلهِ وصحْبِهِ أجمعينَ، اللهمَّ إنَّا نعوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا ينفعُ، ومِنْ نَفْسٍ لا تشبَعُ، ومِنْ عينٍ لا تدمَعُ، ومِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجابُ لَها، اللهمَّ إنَّا نسأَلُكَ فِعْلَ الخيراتِ، وَتَرْكَ المنْكَراتِ، وحُبَّ المساكِينِ، وأَنْ تغفرَ لنا وترحَمَنا، وإذا أردْتَ بعبادِكَ فِتْنةً فاقْبِضْنا إليكَ غيرَ مَفْتُونينَ.
…اللهمَّ وَفِّقْ أميرَنا وولِيَّ عهدِهِ لِهُداكَ, واجْعَلْ عملَهما في رِضاكَ. اللهمَّ احْفَظْهُما بِحِفْظِكَ, واكْلأْهُما بِرِعايتِكَ, وأَلْبِسْهُما ثوبَ الصحةِ والعافيةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ. اللهُمَّ اجعلْ هذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخاءً رَخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتَقَبَّلِ اللهمَّ شُهداءَنا وشُهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.
… ………… لجنةُ الخطبةِ المُذَاعَةِ والموزَّعة
---(104/6)
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(104/7)
اطبع هذه الصحفة
التفاؤل والأمل
عبادَ اللهِ:
… إنَّ حقيقةَ الأملِ لا تأتِي مِنْ فَراغٍ كما أنَّ التفاؤلَ لا يَنْشَأُ مِنْ عَدَمٍ، ولكنَّهُما وَلِيدا الإيمانِ العميقِ باللهِ تعالَى، والمعرفَةِ بِسُنَنِهِ ونوامِيسِهِ في الكونِ والحياةِ، فهوَ سبحانَه الذي يصرِّفُ الأمورَ كيفَ يشاءُ بعلمِهِ وحكمتِهِ، ويُسَيِّرُها بإرادَتِهِ ومشيئَتِهِ، فيُبَدِّلُ مِنْ بعدِ الخَوْفِ أمْنًا، ومِنْ بعدِ العُسْرِ يُسْراً، ويجعلُ مِنْ كلِّ ضيقٍ فرَجاً ومِنْ كلِّ هَمِّ مَخْرجاًَ، ولِهذا كانَ المؤمنُ على خَيْرٍ في كلِّ الأحوالِ، كما ثبَتَ عَنْ صُهَيْبِ بنِ سِنانٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"عَجَباً لأَمْرِ المؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلاَّ لِلمُؤْمنِ: إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانَ خيرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فكانَ خيرًا له"[أخرجَهُ مسلمٌ].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ30 من ربيع الأول 1427هـ الموافق 28/4/2006م
التفاؤل والأمل
…الحمدُ للهِ الذي خلقَ كلَّ شيءٍ فقدَّرَه تقديراً وجعلَ الليلَ والنهَّارَ خِلْفَةً لِمَنْ أرادَ أنْ يذَّكَّرَ أوْ أرادَ شُكوراً، أحمَدُهُ سبحانَه وتعالَى حمداً كثيراً، وأشهدُ أنْ لا إِلهَ إلاَّ الله ُوحدَهُ لا شريكَ له وعَدَ المتقينَ جنَّةً وحريراً، وتوعَّدَ الفاجرينَ ناراً وسعيراً. وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، أرسلَهُ إلى الناسِ كافةً بشيراً ونذيراً وداعِياً إلى اللهِ بإذنِهِ وسِراجاً منيراً، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
…أمَّا بعدُ:(105/1)
…فأوصِيكُم – أ يُّها الناسُ- ونفسِي بتقْوَى اللهِ تعالَى، فإنَّها سببٌ لِتحقيقِ المرغوبِ واندفاعِ المرهوبِ، وبَسْطِ الأرزاقِ ودخُولِ جنَّةِ الكريمِ الرزَّاقِ: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } { الطلاق:2-3 } .
…أيهُّا المسلمونَ:
…لَقدْ جعلَ اللهُ - تعالَى- الحياةَ الدنيا كثيرةَ التقلُّبِ لا تستقيمُ لأَحدٍ علَى حالٍ ولا تَصْفُو لمخلوقٍ مِنَ الكَدَرِ، فَفِيها خيرٌ وشرٌّ، وصلاحٌ وفسادٌ، وسُرورٌ وحُزْنٌ، وأملٌ ويأْسٌ، ويأتِي الأملُ والتفاؤلُ كشُعاعَيْنِ يُضِيئانِ دياجِِيرَ الظلامِ، ويشقَّانِ دُروبَ الحياةِ للأنامِ، ويَبْعَثان في النَّفْسِ البشريَّةِ الجِدَّ والمثُابَرةَ، ويلقِّنانِها الجَلَدَ والمصُابَرَةَ، فإنَّ الذي يُغْرِي التاجرَ بالأسفارِ والمخاطرةِ: أَمَلُهُ في الأرباحِ، والذي يَبْعثُ الطالبَ إلى الجدِّ والمثُابرةِ: أملُُهُ في النجاحِ، والذي يحفِّزُ الجنديَّ إلى الاستبسالِ في أرضِ المعركةِ أملُهُ في النصرِ، والذي يُحبِّبُ إلى المريضِ الدواءَ المُرَّ: أملُهُ في الشِّفاءِ والطُّهْرِ، والذي يدعو المؤمنَ أنْ يُخالِفَ هَواهُ ويُطيعَ مَوْلاهُ: أملُه في الفوزِ بجنَّتِهِ ورِضاهُ، فهوَ يُلاقِي شدائِدَها بقلبٍ مُطْمَئِنٍ، ووجْهٍ مُسْتبشرٍ، وثَغْرٍ باسمٍ، وأمَلٍ عَريضٍ، فإذا حارَبَ كانَ واثِقًا بالنصرِ، وإذا أعْسَرَ لم يَنقطِعْ أملُهُ في تبدُّلِ العُسْرِ إلى يُسْرٍ، وإذا اقترفَ ذنبًا لم ييأسْ مِنْ رحمةِ اللهِ ومغفرَتِهِ تَعلُّقاً وأملاً بقولِ اللهِ تعالىَ: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ { } الزمر:53 } .(105/2)
ولقَدْ كانَ رسولُنا - صلى الله عليه وسلم - يُعْجِبُهُ الفأْلُ لأنَّه حُسْنُ ظَنٍّ باللهِ - عز وجل -، فقَدْ أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ أنسٍ - رضي الله عنه - أنَّ نبيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ ويُعُجِبُنِي الفأْلُ:الكََلِمَةُ الحسَنَةُ، الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ"،فبالأملِ يذوقُ الإنسانُ طَعْمَ السعادَةِ، وبالتفاؤُلِ يُحِسُّ بِبَهْجَةِ الحياةِ.
أُعَلِّلُ النَّفْسَ بالآمالِ أَرْقُبُها ما أضْيَقَ العَيْشَ لَوْلا فُسْحَةُ الأمَلِ
… عبادَ اللهِ:
… إنَّ حقيقةَ الأملِ لا تأتِي مِنْ فَراغٍ كما أنَّ التفاؤلَ لا يَنْشَأُ مِنْ عَدَمٍ، ولكنَّهُما وَلِيدا الإيمانِ العميقِ باللهِ تعالَى، والمعرفَةِ بِسُنَنِهِ ونوامِيسِهِ في الكونِ والحياةِ، فهوَ سبحانَه الذي يصرِّفُ الأمورَ كيفَ يشاءُ بعلمِهِ وحكمتِهِ، ويُسَيِّرُها بإرادَتِهِ ومشيئَتِهِ، فيُبَدِّلُ مِنْ بعدِ الخَوْفِ أمْنًا، ومِنْ بعدِ العُسْرِ يُسْراً، ويجعلُ مِنْ كلِّ ضيقٍ فرَجاً ومِنْ كلِّ هَمِّ مَخْرجاًَ، ولِهذا كانَ المؤمنُ على خَيْرٍ في كلِّ الأحوالِ، كما ثبَتَ عَنْ صُهَيْبِ بنِ سِنانٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"عَجَباً لأَمْرِ المؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلاَّ لِلمُؤْمنِ: إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانَ خيرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فكانَ خيرًا له"[أخرجَهُ مسلمٌ].(105/3)
…فشَتاَّنَ ما بَيْنَ حالِ المؤمنِ المتفائلِ، والفاجِرِ المتشائِمِ الذي لا يَرَى في الوجودِ إلاَّ الظلامَ والتعَّاسَةَ والشَّقاءَ. وجَديرٌ أنْ يَلِدَ الإيمانُ الأملَ، وأنْ تُثْمِرَ شجَرةُ اليقينِ التفاؤلَ، وأنْ يكونَ المؤمنُ أوْسَعَ الناسِ أملاً وأكثرَهُمْ تفاؤلاً واستبشارًا، فهَذا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسلَهُ اللهُ بشيرًا ونذيرًا مكَثَ في مكةَ ثلاثةَ عشرَ عامًا يدعوُ إلى الإسلامِ فجابَهَ طواغيتُ الشِّرْكِ وعُبَّادُ الأوثانِ دعوتَهُ بالاستهزاءِ، وآياتِ ربِّهِ بالسُّخْريةِ والعِداءِ، وأصحابَهُ بالأذَى والضرَّاءِ، غَيْرَ أنَّه لَمْ يَضْعُفْ عَنْ مبدَئِهِ ولَمْ يستَكِنْ، ولَمْ يَنْطَفِِىءْ في صدرِهِ أملُ الغلَبَةِ والظَّفَرِ. وحينَ اشتدَّ عليهِ وعلَى صاحِبهِ الطَّلَبُ أيامَ الهِجْرةِ إِلى حَدِّ أنْ وقَفَ المشركونَ فوقَ رؤوسِهِما وهوَ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ لأبي بكرٍ - رضي الله عنه - بِلُغَةِ الواثِقِ بربِّهِ - عز وجل -:"ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللهُ ثالثُهما"[أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ].
…وهَذا إبراهيمُ- عليهِ السلامُ - قَدْ صارَ شَيْخاً كبيراً ولَمْ يُرْزَقْ بَعْدُ بِوَلَدٍ فيدفَعُهُ حُسْنُ ظَنِّهِ بربِّهِ أنْ يَدْعُوَهُ: { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } { الصافات:100 } ، فاستجابَ له ربُّهُ ووَهَبَ لهُ إسماعيلَ وإسحاقَ عليهما السلامُ.(105/4)
…ونبيُّ اللهِ يعقوبُ - عليهِ السلامُ- فَقَدَ ابنَهُ يوسفَ - عليهِ السلامُ- ثُمَّ أخاه، ولكنَّه لم يتسرَّبْ إلى قلبِهِ اليأسُ ولا سَرَى في عُروقِهِ القُنوطُ، بَلْ أمَّلََ ورَجا وقالَ: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ { } يوسف:83 } . وما أجَملَهُ مِنْ أَمَلٍ تُعَزِّزُهُ الثِّقَةُ باللهِ - عز وجل - حينَ قالَ: { يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } { يوسف:87 } .
…وأيوبُ - عليهِ السلامُ- ابتلاهُ ربُّه بِذَهابِ المالِ والوَلَدِ والعافِيَةِ، ثُمَّ ماذا ؟ قالَ اللهُ تعالىَ: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } { الأنبياء: 83-84 } .
…وقَدْ بشَّرَنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بانتصارِ الإسلامِ وظُهورِهِ مَهْما تكالبَتْ عليهِ الأعداءُ وتألَّبَتْ عليهِ الخُصومُ؛ فعن تَمِيمِ الدَّارِيِّ - رضي الله عنه - قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"لَيَبْلُغَنَّ هَذا الأمرُ ما بَلَغَ الليلُ والنَّهارُ، ولا يَتْركُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلاَّ أدخَلَهُ اللهُ هذا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أوْ بِذُلِّ ذَليلٍ، عِزّاً يُعِزُّ اللهُ بهِ الإسلامَ، وذُلاًّ يُذِلُّ اللهُ بهِ الكفرَ" [أخرجَهُ أحمدُ].(105/5)
…بارَكَ اللهُ لي ولكُمْ في القرآنِ العظيمِ، ونفعَنِي وإيَّاكمْ بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ العليَّ العظيمَ؛ فاستغفروهُ إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ ربِّ العالمَينَ، الذي أرسلَ رسلاً مُبشِّرينَ وُمْنذرينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له؛ الملِكُ الحقُّ المبينُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ؛ أوسعُ الناس أملاً وأصدقُهمْ تفاؤلاً وهوَ الصادِقُ الأمينُ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِهِ والتابعينَ؛ ومَنْ تَبِعَهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
…أمَّا بعدُ:
…فيقولُ ربُّنا – تباركَ وتعالَى- آمراً ومُرْشِداً: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } { الأحزاب:70 -71 } .
…أَ يُّها الإخوةُ الأحبَّةُ:
…إنَّ الذينَ يُحْسِنونَ صِناعَةَ الحياةِ، ويُتْقِنونَ صِياغَةَ التارِيخِ، ويَبْنونَ أُسُسَ الحضارةِ هُمْ أكثرُ الناسِ أملاً وتفاؤلاً، وأقلُّهمْ يأساً وتشاؤماً، وإنَّ المتشائمينَ لا يصنعونَ حضارةً، ولا يَبْنونَ وطناً، ولا يَنْصرونَ دِيناً، ولا يُعَمِّرونَ دُنْيا. فكونوا – أيُّها الأحبَّةُ – مِنْ أهلِ الأملِ والتفاؤلِ وإيَّاكمْ واليأسَ وأهلَهُ، فإنَّه يُطْفِئُ جَذْوَةَ الأملِ في النفوسِ، ويقطَعُ خُيوطَ الرجاءِ مِنَ القلوبِ، وهوَ الذي يقتلُ بواعِثَ الجِدِّ والعمَلِ، ويُسْلِمُ أصحابَهُ للسآمَةِ والملَلِ، وليسَ اليأسُ والقنوطُ مِنْ صِفاتِ المؤمنينَ. قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ - رضي الله عنه -:"أكبرُ الكبائِرِ: الإشراكُ باللهِ والأمنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ والقنوطُ مِنْ رحمةِ اللهِ واليأسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ".(105/6)
…أَلا وإنَّ الحياةَ قصيرةٌ فلا تُقَصِّروها بالهمومِ والأحزانِ، ولا تَحْمِلُوا الأرضَ فوقَ رؤوسِكُمْ وقَدْ جعلَها اللهُ تحتَ أقدامِكُمْ، ولا تَلْعَنوا الظلامَ ولا تَذْرِفوا له دموعاً، بَلْ أوْقِدوا لتبديدِهِ أضواءً وشموعاً، ولا تُنَغِّصوا عَيْشَكم بكَدَرِ الحياةِ فإنَّها هَكَذا خُلِقَتْ لا تَصْفو لأحدٍ مِنَ الكَدَرِ، ولولا أنَّها دارُ ابتلاءٍ واختبارٍ؛ لمْ تكنْ فِيها الأمراضُ والأكْدارُ، ولم يَضِقِ العيشُ فِيها على الأنبياءِ والأخيارِ.
…
…واعلَموا أنَّ بَسْمَةَ الحياةِ ولذَّتَها مِنْ نَصيبِ أربابِ الأملِ وأصحابِ التفاؤلِ، ورُبَّ مِحْنَةٍ تَلِدُ مِنْحَةً، وربَّ نورٍ يَشِعُّ مِنْ كَبِدِ الظَّلامِ، فإنَّ النصرَ معَ الصبرِ، وإنَّ الفرجَ معَ الكربِ، وإنَّ معَ العُسْرِ يُسْراً، فأبشِروا وأمِّلُوا فما بعدَ دياجِيرِ الظلامِ إلاَّ فَلَقُ الصبْحِ المشرِقِ.
…اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ مِنْهمْ والأمواتِ. اللهمَّ إنَّا نسألُكَ مُوجِباتِ رحمتِكَ وعزائِمَ مغفرَتِكَ، والسلامَةَ مِنْ كلِّ إثْمٍ والغنيمةَ مِنْ كلِّ بِرٍّ، والفوزَ بالجنَّةِ والنجاةَ مِنَ النارِ، ونسألُكَ اللهمَّ عَيْشَ السُّعَداءِ، ومنازِلَ الشُّهداءِ، والنصرَ علَى الأعداءِ، والصبرَ علَى البلاءِ، والشكرَ علَى النَّعْماءِ، وحُسْنَ الظنِّ بجلالِكَ وصِدْقَ الأملِ و الرجاءِ.
…اللهمَّ وفِّقْ أميرَ البلادِ ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ أعمالهَما في رِضاكَ، وألبسْهُما لِباسَ الصحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، واجعلْ هَذا البلدَ آمِناً مطمئِنّاً سَخاءً رَخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ يا ربَّ العالمَيِنَ، ربَّنا تقبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنتَ السميعُ العليمُ.
… … لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(105/7)
اطبع هذه الصحفة
أمسك عليك لسانك
عبادَ الرحمنِ:
…إِنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالَى قدْ جعلَ اللسانَ؛ دَليلاً علَى ما في الجَنانِ، وجعلَهُ مِنْ دَلائِلِ رُبوبِيَّتِهِ ووحدانِيَّتِهِ؛ وأَنَّهُ المستَحِقُّ بأَنْ يكونَ وَحْدَهُ هوَ المعبودُ المسُتْعانُ، كما قالَ تعالىَ: { الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ { } الرحمن:1-4 } وقالَ تعالَى: { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } { البلد: 8-10 } .
ومما تجدرُ بِهِ العنايةُ: أَنَّ الربَّ تبارَكَ وتعالىَ جعلَ مِنْ جُملَةِ ما تُسبِّحُهُ بهِ الخلائِقُ وتَحْمَدهُ علَيْهِ: الِهدَايَةَ، كما قالَ تعالىَ: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى { } الأعلى:1-3 } ،والهِدَايَةُ عِدَّةُ أنواعٍ، وأعْلاها النُّطقُ الذي يَطْرُقُ بيانُهُ الأَسْماعَ، لِذا شبَّهَ اللهُ سبحانَهُ وتعالىَ الإيمانَ بِالغيبِ وهُوَ مِنْ أَعْظمِ الأَركانِ؛ بالنُّطقِ باللسانِ،كما قالَ اللهُ تعالىَ وقولُهُ الصِّدْقُ: { فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } { الذاريات:23 } .
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 16ربيع الأول 1427هـ الموافق 14/4/ 2006م
أمسك عليك لسانك(106/1)
…الحمدُ لِلهِ الرحيمِ الرحمنِ، علَّمَ القرآنَ، خلَقَ الإِنسانَ، علَّمَهُ البيانَ، أَحْمَدُ رَبِّي حَمْداً كثيراً طيبِّاً مُبارَكاً فيهِ يملأ ُالميزانَ، وأَشهدُ أَنْ لا إِلهَ إلاَّ اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له مِنَ الأَنْدادِ والشُّرَكاءِ والأَعْوانِ، وأَشهدُ أَنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولَُه سيِّدُ ولَدِ عَدْنانَ، المؤَيَّدُ بالحُجَّةِ وَالبُرْهانِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلهِ وأَزواجِهِ وأَصْحابِهِ ومَنْ تَبِعَهمْ بِإحْسانٍ؛ صَلاةً وسلاماً ما تَرْجَمَ اللسانُ عَنْ مخفِيِّ الجَنَانِ.
…أَمَّا بعدُ:
…فأُوصِيكمْ يا أَهلَ الإِيمانِ؛ بتقَوى المنَّانِ، فهِيَ عَهْدُ اللهِ تعالَى إِليكمْ في مُحْكَمِ القُرْآنِ، فَتَدَثَّروا بها في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ، وأَلْجِمُوا بِها أَنْفُسَكمْ واحْفَظُوها مِنْ حصائِدِ اللسانِ، فهِيَ العِصْمَةُ مِنْ آفاتِهِ مِنَ الغِيبَةِ والنَّميمَة ِوالكذِبِ والبُهْتانِ.
…عبادَ الرحمنِ:
…إِنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالَى قدْ جعلَ اللسانَ؛ دَليلاً علَى ما في الجَنانِ، وجعلَهُ مِنْ دَلائِلِ رُبوبِيَّتِهِ ووحدانِيَّتِهِ؛ وأَنَّهُ المستَحِقُّ بأَنْ يكونَ وَحْدَهُ هوَ المعبودُ المسُتْعانُ، كما قالَ تعالىَ: { الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ { } الرحمن:1-4 } وقالَ تعالَى: { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } { البلد: 8-10 } .(106/2)
ومما تجدرُ بِهِ العنايةُ: أَنَّ الربَّ تبارَكَ وتعالىَ جعلَ مِنْ جُملَةِ ما تُسبِّحُهُ بهِ الخلائِقُ وتَحْمَدهُ علَيْهِ: الِهدَايَةَ، كما قالَ تعالىَ: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى { } الأعلى:1-3 } ،والهِدَايَةُ عِدَّةُ أنواعٍ، وأعْلاها النُّطقُ الذي يَطْرُقُ بيانُهُ الأَسْماعَ، لِذا شبَّهَ اللهُ سبحانَهُ وتعالىَ الإيمانَ بِالغيبِ وهُوَ مِنْ أَعْظمِ الأَركانِ؛ بالنُّطقِ باللسانِ،كما قالَ اللهُ تعالىَ وقولُهُ الصِّدْقُ: { فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } { الذاريات:23 } .
…فأَكرِمْ بِهذَا اللسانِ أَيمَّا إِكْرامٍ!، كيفَ لا؟! وهُوَ الذي يَلهَجُ بكلِمَةِ الإِسلامِ؛ فيُعْصَمُ دَمُ قائِلِها أَنْ ينْتَهِكَ العُدْوانَ وَالآثامَ، وإذا كان آخِرُ نُطقِ اللسانِ بها فِإنَّهُ يَسْتوجِبُ بإذنِ المَلِكِ العَلاَّمِ: دخولَ الجنَّةِ دارِ السَّلامِ، فاللسانُ يشهدُ للهِ تعالىَ بالوحدانِيَّةِ، ولنِبيِّهِِ - صلى الله عليه وسلم - بالإِرسالِ للبَريَّةِ، واللسان ُهوَ الذِي
يَذْكُرُ ربَّه بِالغُدوِّ والآصالِ، ويُصَلِّي علَى النبيِّ والصَّحْبِ وَالآلِ،واللسانُ يَتْلو آياتِ اللهِ تعالىَ آناءَ الليلِ وأطرافَ النَّهارِ، ويستَغْفِرُ اللهَ عَزَّ وجَلَّ مما اكتَسبَهُ صاحِبهُ مِنَ الذنوبِ والأَوْزارِ.(106/3)
فمَنِ الذي يَنْطِقُ بِالحِكْمَةِ والموعِظَةِ الحَسَنةِ ويجُادِلُ بِإِحْسانٍ؟ ومَنِ الذي يتَّقِي صَوارِفَ الدَّهرِ بِدرْعِ: يا حنَّانُ يا منَّانُ؟ أليسَ هوَ اللسانُ؟ ويَكْفِي اللسانُ مَنْزِلةً عَلِيَّةً؛ ودَرَجَةً سَنِيَّةً: أَنَّه آيَةٌ مِنْ آياتِ رَبِّ البَرِيَّاتِ، قُرِنَ بالذكْرِ مَعَ خَلْقِ الأَرْضِ وَالسَّماواتِ، كما قالَ تعالىَ: { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ } { الروم:22 } .
فَعُِلمَ مَعْشَرَ الإِخْوَةِ الكِرَامِ: أَنَّ كمالَ الإنسان ِإنمَّا هوَ بِتَنَعُّمِهِ بنعمَةِ البَيان ِوالكلامِ، وأَنَّه في هذِهِ الحالِ:مِنْ أَدَلِّ الدلاِئلِ على اتصافِ الكبيرِ المتُعَال؛ بأَسماءِ الجَمالِ؛ وصفَاتِ الكَمَالِ؛ ونُعوتِ الجَلالِ، كما دَلَّتِ الفِطَرُ السلِيمةُ؛ والعقولُ المستقِيمَةُ؛ وصَدَّقَتْها الشرائِعُ القَوِيمَةُ؛ علَى أَنَّ كَمَالَ المخلوقِ مُسْتَفادٌ مِنْ كَمَالِ خالِقِه، فالربُّ تبارَكَ وتعالىَ مُتَّصِفٌ بِالصَّفاتِ العُلَى ومِنْها صِفَةُ الكلامِ؛ اتصافاً يَلِيقُ بِذِي الجلالِ والإِكْرامِ.(106/4)
…لِذا لما بَيَّن اللهُ سبحانَه وتعالىَ النَّقْصَ في العِجْلِ الذي عَبَدَهُ بَنُو إِسرائيلَ؛ نَفَى عَنْه الهِدَايةَ وعَدَمَ التكْلِيمِ، كما قالَ الحكيمُ العليمُ: { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } { الأعراف: 148 } ، وكَذا بيَّنَ نَقْصَهُ في الآيةِ الأُخْرَى بِعَدَمِ القَوْلِ، وأَنَّه لا يَمْلِكُ لِعابدِيهِ القُوَّةَ ولا الحَوْلَ: { أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً } { طه:89 } .فالإِنْسانُ؛ متىَ ما عَمَرَ بالذِّكْرِ اللسانُ: فإِنَّهُ يُثَقِّلُ بالأُجورِ كَفَّةَ الِميزانِ، ويتقرَّبُ ويتودَّدُ إلى ربِّهِ الرحمنِ، ومتَى ما دَنَّسَهُ بِضِدِّ ذَلِك مِنَ الفُسوقِ والعِصْيانِ: فَقَدِ اتَّبَعَ خُطُوَاتِ الشَّيطانِ، وتعرَّضَ لأَسبابِ السُّخْطِ وَالهوَانِ.
واحذَرُوا أَيُّها الجَمْعُ الكريمُ؛ مِنْ آفاتِ اللسانِ فِإنَّ خَطَرَهُ عَظيمٌ، ولا نجاةَ مِنْه إِلاّ بالنُّطْقِ بالقولِ القويمِ؛ والخيرِ العميمِ، قالَ عُقْبَةُ بنُ عامِرٍ - رضي الله عنه -: قُلتُ يا رسولَ اللهِ؛ ما النَّجاةُ؟ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - "أَمسِكْ عليكَ لِسانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ علَى خطيئَتِكَ"[أخرَجَه أحمدُ والترمذِيُّ].(106/5)
وقدْ توافرَتِ الأخبارُ؛ وتَضَافَرَتِ الآثارُ؛ في التَّحذيرِ مما يَجْنِيهِ اللسانُ مِنَ الآفاتِ والأخطارِ،فمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لمِعُاذِ بنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه -:"أَلا أُخْبِرُكَ بمَِلاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ فقالَ مُعاذٌ: بَلَى يا نبيَّ اللهِ. فأَخَذَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بلسانِهِ فقالَ: كُفَّ عليك َهذا. فقالَ معاذٌ: يا نبيَّ اللهِ؛ وإنَّا لَمُؤَاخََذُونَ بما نتكلَّمُ بِه؟ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا مُعاذُ، وهَلْ يَكُبُّ الناسَ في النَّارِ علَى وُجوهِهم – أَوْ عَلى مَناخرِهم - إلاَّ حَصائدُ أَلسِنَتِهم؟ "[ أخرَجَه أَحمدُ والترمذِيُّ وابنُ ماجَة ]، وقَد دخلَ عمرُ بنُ الخطابِ يوماً علَى أَبي بكرٍ الصّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنهما - وهُو يَمُدُّ لِسانَهُ -، فقالَ له عمرُ: ما تْصنَعُ يا خليفةَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟، فقالَ أبو بكرٍ:" هذا أَوْرَدَنِي الموارِدَ"، وقالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ - رضي الله عنه -: "والذي لا إِلهَ غَيْرهُ؛ ما على الأرضِ شيءٌ أَحْوَجُ إلى طُولِ سِجنٍ مِنْ لِسان ٍ".
وجَدْتُ سُكُوتِي مَتْجَراً فَلَزِمْتُهُ إِذا لَمْ أَجِدْ رِبْحاً فَلَسْتُ بِخاسِرِ
وما الصَّمْتُ إِلا في الرِّجَالِ مُتاجِرٌ وَتاجِرُهُ يَعْلُو علَى كُلِّ تاجِرِ
…بارَكَ اللهُ لي ولكم في الفُرْقانِ والذِّكْرِ الحكيم،ِ ووَفَّقَنا لِلاعتِصام ِبهِ وبما كانَ عليهِ النبيُّ الكريمُ؛ عليه أَفْضلُ الصَّلاةِ وأَزْكَى التسليمِ؛ مِنَ الهدْيِ القَوِيمِ؛ والصِّراطِ المستقيمِ.
أَقولُ ما تسمعونَ وأَستغفرُ اللهَ الغفورَ الحليمَ، لي ولكم مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وحَوْبٍ فَتُوبوا إِليهِ واستغفروه إِنَّه هوَ التَّوابُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية(106/6)
…الحمدُ للهِ الذي عرَّفَ أولياءَهُ بِأَسْماءِ الجلالِ، وتودَّدَ إِلى قلوبِ أَصْفِيائِه بصفاتِ الكمالِ، أَحْمدُ رَبِّي حمداً كثيراً طيِّباً مُبارَكاً فيهِ على ما أوْلاهُ مِنَ العَطاء ِوالإِنْعامِ والإِفْضالِ.
وأَشْهدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له الكبيرُ المتعالُ، وأَشهدُ أَنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسُولُهُ خاتَمُ المُصْطَفَيْنَ بِالنبُّوَّةِ والإِرْسالِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى الصَّحْبِ والآلِ، عدَدَ ما نَطَقَتِ الأَلْسُنُ بالأَقْوالِ؛ وتحرَّكَتِ الجوارِحُ بالأَفْعالِ.
…أَمّا بعدُ:
…فاتقوا اللهَ تعالىَ بِأَداءِ ما شَرعَهُ مِنَ الفرائِضِ والنَّوافِلِ، واحفَظُوا أَلسَنتَكمْ مِنَ الوُلُوغِ في المحرَّماتِ والرذائِلِ، والخَوْضِ في الضَّلالِ والباطِلِ.
وإليكمْ جُمَلاً مِنْ آفاتِ اللسانِ، التي تَدُلُّ على ضَعْفِ الإيمانِ، فمِنْ ذلِكَ أَيُّها الإِخْوةُ الكِرامُ: الكلامُ فيِما لا يَعْنيِ؛ وفُضُولُ الكلامِ، والخَوْضُ في الباطِلِ؛ والمِرَاءُ، والإِفراطُ في المِزاحِ؛ والسُّخريَةُ؛ والاسِتْهزاءُ، والجِدالُ؛ والخُصومةُ؛ والتّقعُّرُ في الكلامِ، وإفِشاءُ السِّرِّ، والفُحْشُ؛ والسَّبُّ؛ والبذاءَةُ، واللعْنُ؛ والكذِبُ؛ واليمينُ الغَمُوسُ؛ والغِيَبةُ؛ والنميمَةُ؛ والكُفْرُ؛ والقَذْفُ.
احفظْ لِسانَكَ أيُّها الإنْسانُ لا يَلْدَغَنَّكَ إِنَّه ثُعبْانُ
كَمْ في المقابِرِ مِنْ قَتيلِ لِسانِهِ كانَتْ تَهابُ لِقَاءَهُ الشُّجعانُ(106/7)
…فاجتهدْ يا عبدَ اللهِ- رَحِمَني اللهُ تعالَى وإيَّاكَ - في تَطِهيرِ لِسانِكَ مِنْ هذِهِ الآفاتِ،واعلَمْ أنَّ الحسناتِ يُذْهِبْنَ السيِّئاتِ،واسْتَحْيِِ مِمَّنْ هُما عَنِ اليميِن وعنِ الشمالِ قَعِيدٌ،ما تَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدّيْكَ رقيبٌ عَتِيدٌ، قالَ عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ بنِ الخطابِ رضِيَ اللهُ عَنْهما:"إِنَّ أَحقَّ ما طهَّرَ الرجُلُ: لِسانُهُ".
وَلْيَكُنْ مِسْكُ الخِتامِ، معْشَرَ الإِخْوَةِ الِكرامِ: ترطيبَ أَلْسِنَتِكُمْ بِالصلاةِ والسلامِ، على خيْرِ الأَنامِ، امْتِثالاً لِأَمْرِ الملكِ القدوسِ السلامِ، حيثُ قالَ في خيرِ كلامٍ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب:56 } .
اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ،كما صلَّيْتَ على إِبراهيمَ وعلى آلِ إِبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ،كما باركْتَ على إِبراهيمَ وعلى آلِ إِبراهيمَ،في العالمَينَ، إِنَّك حميدٌ مجيدٌ.
…وارْضَ اللهمَّ عَنِ الأَربعةِ الخلفاءِ الراشدِينَ؛ والأَئِمَّةِ الحُنفَاءِ المهدِيِّينَ، أُولِي الفَضْلِ الجَلِيِّ؛ والقَدْرِ العَلِيِّ: أَبي بكرٍ الصديقِ؛ وعمرَ الفاروقِ؛ وذي النورَيْنِ عُثمانَ؛ وأَبي السِّبْطَيْنِ عليٍّ، وارْضَ اللهمَّ عَنْ آلِ نبيِّكَ وأَزواجِه المُطَهَّرِينَ مِنَ الأَرْجاسِ؛وصحابتِهِ الصفْوَةِ الأَخْيارِ مِنَ الناسِ.(106/8)
…اللهمَّ اغفرْ لِلمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأَحياءِ مِنْهم والأَمْواتِ، اللهمَّ إِنَّا نسأَلُكَ مِنَ الخيرِ كُلِّهِ، عاجِلِهِ وآجِلِه، ما عَلِمْنا مِنْه وما لمَ ْنَعْلَمْ، ونعوذُ بِكَ مِنَ الشرِّ كُلِّهِ، عاجِلِهِ وآجِلِهِ، ما عَلِمْنا مِنْه وما لَمْ نَعْلَمْ، اللهمَّ إِنَّا نسأَلُكَ مِنْ خَيْرِ ما سأَلَكَ عَبْدُكَ ونبيُّكَ - صلى الله عليه وسلم -، ونعوذُ بكَ مِنْ شرِّ ما عاذَ به ِعبدُكَ ونبيُّكَ - صلى الله عليه وسلم -، اللهمَّ إِنا نسأَلُكَ الجنَّةَ وما قرَّبَ إِلَيْها مِنْ قوْلٍ أَو عَمَلٍ، ونعوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ،وما قَرَّبَ إِليها مِنْ قوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، ونسأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضاءٍ قَضَيْتَهُ لَنا خَيْراً.
…اللهمَّ آمِنَّا في الوطنِ، وادْفَعْ عَنَّا الفِتَنَ والمِحَنَ؛ ما ظَهَر مِنْها وما بطَنَ، اللهمَّ وفِّقْ وُلاةَ أُمورِنا لِحَمْلِ الأَمانَةِ، وارزُقْهُم صَلاحَ البِطانَةِ، واحفَظْهُم مِنْ كَيْدِ أَهْلِ البَغْيِ والخِيانَةِ، رَبَّنا آتِنا في الدنْيا حسنةً؛ وفي الآخرَةِ حسنةً؛ وقِنا عذابَ النَّارِ.
…عبادَ اللهِ:
…اذْكُروا اللهَ ذِكْراً كثيراً، وكبِّروهُ تَكْبيراً، { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } { العنكبوت:45 }
لجنةُ الخطبةِ المُذَاعَةِ والموزَّعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(106/9)
اطبع هذه الصحفة
الغش في التجارة
أيُّها المسلمونَ:
…إنَّ التجارَةَ مِنْ أشرَفِ الأعمالِ، ومِنْ أطْيَبِ الكسبِ إنْ كَانَتْ مِنْ حَلالٍ، عَنْ أبي سَْعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"التاجِرُ الصَّدُوقُ الأمينُ مَعَ النبيِّينَ والصدِّيقينَ والشهداءِ"[أخرجَه الترمذيُّ وحسَّنه] وعلى التاجرِ أنْ يُراعِيَ فيها الأمانةَ والكَمالَ، إِرْضاءً للكبيرِ المتعالِ، وأَنَّ زَرْعَ الثِّقَةِ بينَ أهلِها أساسُ النجاحِ، والغِشَّ والتدْليسَ فيها يجنِّبُ طريقَ الفلاحِ، ويبعثُ في النفوسِ عدَمَ الاطمئنانِ ويَفْقِدُ الناسُ حينئذٍ الثقةَ والأمانَ.
…… خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 7 ربيع الآخر1427هـ الموافق5/5 /2006م
الغش في التجارة
…الحمدُ للهِ الذي جعلَ الخيرَ والبركةَ في التجارةِ، ووعدَ بالرِّبْحِ الوَفيرِ للتاجرِ الصَّدوقِ وجنَّبَهُ الخَسارةَ، وألْهَمَ الألْسُنَ له بالثناءِ، وبوَّأَهُ يومَ القيامةِ مَعِيَّةَ النبيِّينَ والصدِّيقينَ والشهداءِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له المطَّلِعُ علَى النِيَّاتِ، الذي لا يخفَى عليهِ شيءٌ في الأرضِ ولا في السمواتِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ المبعوثُ بالدينِ الحَنِيفِ، والمحذِّرُ لِلتجَّارِ مِنَ الغشِّ والجشَعِ والتطْفيفِ، صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعلَى آله وصحبِهِ أهلِ الصدقِ والأمانةِ والتشريفِ.
…أمَّا بعدُ:
…فأوصِيكُم – عبادَ اللهِ - ونفسِي بِتقوَى اللهِ الحقِّ المبينِ، وأنْ نكونَ في معاملاتِنا مِنَ الصادِقينَ، قالَ تعالَى: { أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } { الشعراء:181-183 } .(107/1)
… وَذُو الغِشِّ مَرهوبٌ وَذُو النُصْحِ آمِنٌ وَذو الطَيْشِ مَدْحوضٌ وَذو الحَقِّ يَفلُجُ
… وَذو الصِّدْقِ لا يَرتابُ وَالعَدلُ قائِمٌ عَلى طُرُقاتِ الحَقِّ وَالجَوْرُ أَعْوَجُ
… وَأَخلاقُ ذِي التَّقْوَى وَذِي البِرِّ في الدُجَى لَهُنَّ سِراجٌ بَينَ عَينَيْهِ يُسْرَجُ
…أيُّها المسلمونَ:
…إنَّ التجارَةَ مِنْ أشرَفِ الأعمالِ، ومِنْ أطْيَبِ الكسبِ إنْ كَانَتْ مِنْ حَلالٍ، عَنْ أبي سَْعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"التاجِرُ الصَّدُوقُ الأمينُ مَعَ النبيِّينَ والصدِّيقينَ والشهداءِ"[أخرجَه الترمذيُّ وحسَّنه] وعلى التاجرِ أنْ يُراعِيَ فيها الأمانةَ والكَمالَ، إِرْضاءً للكبيرِ المتعالِ، وأَنَّ زَرْعَ الثِّقَةِ بينَ أهلِها أساسُ النجاحِ، والغِشَّ والتدْليسَ فيها يجنِّبُ طريقَ الفلاحِ، ويبعثُ في النفوسِ عدَمَ الاطمئنانِ ويَفْقِدُ الناسُ حينئذٍ الثقةَ والأمانَ.
…عبادَ اللهِ:
…لَقدْ شرَعَ اللهُ تعالَى السعْيَ للرزقِ بالأسبابِ المباحَةِ، لِينالَ بِذلكَ التاجِرُ السعادةَ والراحةَ، وذمَّ اللهُ عزَّ وجلَّ الغِشَّ وأهلَهُ في القرآنِ، وتوعَّدَهُمْ بالوَيْلِ والخُسْرانِ، فقالَ تعالَى: { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ(1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } { المطففين:1- 3 } .
…وكذلكَ حذَّرَ النبيُّ الكريمُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ هَذا الجُرْمِ الجَسيمِ حينَ مرَّ على صُبْرَةِ طعامٍ فأدخَلَ يدَهُ فيها فنالَتْ أصابِعُهُ بَلَلاً فقالَ:"ما هَذا يا صاحبَ الطعامِ ؟"قالَ:أصابَتْهُ السَّماءُ يا رسولَ اللهِ قالَ:"أَفَلا جَعَلْتَهُ فوقَ الطعامِ كَيْ يَراهُ الناسُ؟ مَنْ غَشَّنا فليسَ مِنَّا "[أخرجَه مسلمٌ].
…أيُّها المؤمنونَ:(107/2)
…إنَّ ممَّا شاعَ وذاعَ تَدْلِيسَ العَيْبِ والإخفاءَ، والغشَّ في البيعِ والشراءِ بِطُرقٍ شَتَّى وأساليبَ عِدَّةٍٍ، فتارةً يكونُ هذا الغشُّ في ذاتِ البِضاعَِة، وتارةً في عناصِرِها، أوْ كميَّتِها، أوْ وزنِها، أوْ صِفَتِها، أوْ مَصْدَرِها، فمِنْهمْ مَنْ يقومُ بإبدالِ بَلَدِ الصُّنْعِ ببلدٍ آخرَ عُرِفَ عَنْه جَوْدَةُ الصناعِة، غِشّاً للناسِ وتَرْويجاً للبِضاعةِ، ومِنْهم مَنْ يَعْرِضُ المُسْتعمَلَ على أنَّه جديدٌ، طَلَباً للاستكثارِ مِنَ الحرامِ ومالٍ مَزِيدٍ، ومِنْهم مِنْ يخلِطُ معَ السلعِة الخالِصَةِ النقِيَّةِ مَغْشوشاً لِيزيدَ في الكمِيَّةِ، ومِنْهم مَنْ يروِّجُها بِالحَلِفِ والأَيْمانِ الكاذِبَةِ الآثمةِ، وأنَّها بِضاعةٌ ذاتُ صِفاتٍ ملائِمَةٍ، وقَدْ سَوَّقَ بذلِكَ بضاعَتَهُ، ولكنَّه نزَعَ مِنَ المالِ طِيبَهُ وبركتَهُ، عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ:"سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"الحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ للبَرَكَةِ"[متفقٌ عليه]، وغيرُ ذلِكَ مِنَ الصُّوَرِ والألاعيبِ، ممَّا يبعثُ في القلوبِ الأعاجيبَ، فَيجِبُ الأخْذُ علَى أيدِي هؤلاءِ الظلَمَةِ، ومَنْعُهم مِنْ هذِهِ الأفعالِ المؤْلمِةِ، والنصيحةُ لهمْ بكفِّ الأذَى عَنِ المسلمينَ، وتعليمُهم ما يجهلونَ مِنْ أُمورِ الدينِ، عَنْ جريرِ بنِ عبدِ اللهِ - رضي الله عنه - قالَ:"بايعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على إِقامَةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ والنصحِ لكلِّ مسلمٍ"[أخرجه البُّخاريُّ ومسلمٌ].
…… سليمُ القلبِ مِنْ صَوَرٍ وغِشٍّ إذا ما أضْمَرَ الغِشَّ اللِّئامُ
…… تَجُلُّ عنِ الخديعةِ وهيِ حَزْمٌ وفي الأعْداءِ جَبَّاهٌ هُمامُ
…بارَكَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعَنِي وإيَّاكم بما فيهِ مِنَ الذكرِ الحكيمِ.(107/3)
…أقولُ قولي هَذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكمْ مِنْ كلِّ ذنْبٍ فاستغفروه، إنَّه هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ الذي أحلَّ لنا الحلالَ وبيَّنَهُ أتمَّ بيَانٍ، وحرَّمَ علينا مَا يضرُّنا مِنَ الخَبَثِ والنُكْرانِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له ذو الفضلِ والامْتِنانِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ سيِّدُ ولدِ عَدْنانَ الذَّي حذَّرَ مِنَ الغِشِّ والظلْمِ والبُهْتانِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِهِ ذَوِي الإحسانِ.
…أمَّا بعدُ:
…فيا أيُّها المؤمنونَ: اتقوا اللهَ تعالَى وتعامَلُوا فِيما بينَكُمْ بِالبرِّ والصِّدْقِ والبَيانِ، وإيَّاكمْ والكذبَ والغشَّ والكِتْمانَ.
…عبادَ اللهِ:
…تأمَّلُوا فيما تأتونَهُ مِنْ معاملاتِكم، ولا تَتَساقَطُوا على الحرامِ لتُنَفِّقوا بضاعَتَكُم، ولا تَبْخَسوا الناسَ أَشياءَهم، واحْفَظوا عليهم أموالهَم، قالَ تعالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } { النساء:29 } .(107/4)
…واعلموا أنَّ مَضارَّ الغشِّ كثيرةٌ، وعواقِبَهُ جِدُّ خطيرةٍ، فهوَ طريقٌ إلى النارِ، وسببٌ لسُخْطِ الجبَّارِ، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -"مَنْ غَشَّنا فليسَ مِنَّا والمَكْرُ والخِداعُ في النارِ" [ أخرجَهُ ابنُ حِبَّانَ والطبرانيُّ]، وهوَ يَحْرِمُ البركةَ في المالِ والعُمْرِ، وقدْ يمنَعُ إجابةَ المضْطَرِّ، يقولُ المصطَفى - صلى الله عليه وسلم -: أيُّها الناسُ إنَّ اللهَ تعالَى طيِّبٌ لا يقبلُ إلا طيِّباً، وإنَّ اللهَ تعالَى أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بهِ المرسلينَ، فقالَ: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } { المؤمنون:51 } وقالَ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } { البقرة:172 } ،ثمَّ ذكرَ الرجلَ يطيلُ السَّفرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يمدُّ يدَيْهِ إلى السماءِ. يا ربِّ! يا ربِّ ! ومطعَمُهُ حرامٌ، ومشرَبُهُ حرامٌ، ومَلْبَسُهُ حرامٌ، وغُذِيَ بالحرامِ . فأنَّى يُسْتجابُ لِذلِكَ"[أخرجَهُ مسلمٌ].
…وهوَ دليلٌ على نُقْصانِ الإيمانِ والدِّينِ، والبُعْدِ عَنِ اللهِ وعَنْ ثِقَةِ المسلمينَ، وأنَّه سببٌ لِتسلُّطِ الظَّلمَةِ والكفَّاِر، على الأموالِ والأعْراضِ والدِّيارِ، قالَ الهيتَمِيُّ:"ولهذِهِ القبائِحِ التي ارتكبَها التجَّارُ والمتسبِّبون وأربابُ الحِرَفِ والبضائِعِ سلَّطَ اللهُ عليهمُ الكفَّارَ فأَسَروهُمْ واستَعْبَدُوهم وأذاقوهُمُ العذابَ والهَوانَ ألواناً".(107/5)
…ثمَّ صَلَّوا وسَلِّموا رحِمَكمُ اللهُ على المبعوثِ رحمةً للعالمينَ، كما أمرَكمْ ربُّكم بقولِهِ وهوَ خيرُ القائِلينَ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } { الأحزاب:56 } .
…اللهمَّ صلِّ علَى نبيِّكَ محمدٍ الأمينِ، وعلَى آلِهِ وصحبِهِ الطيِّبينَ الطاهِرينَ، وارْضَ اللهمَّ عَنِ الخلفاءِ الراشدينَ والأئمَّةِ المهديِّينَ، ومَنْ تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، اللهمَّ اكْفِنَا بحلالِكَ عَنْ حرامِكَ، واغْنِنا بفضلِكَ عمَّنْ سِواكَ،اللهمَّ اغفرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ،إنَّك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدَّعَواتِ،اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الشرْكَ والمشركينَ، ودمِّرِ اللهمَّ أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ، واجعلِ اللهمَّ هَذا البلَدَ آمِناً مطمئِنّاً سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ.
…اللهمَّ وَفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللهمَّ احفظْهُما بِحفظِكَ، واكلأْهُما بِرِعايَتِكَ، وألبسْهُما ثوبَ الصحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ.
…
…عبادَ اللهِ:
…اذْكُروا اللهَ ذِكْراً كثيراً، وكبِّروهُ تَكْبيراً، { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } { العنكبوت:45 } .
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(107/6)
اطبع هذه الصحفة
ابو بكر الصديق
أ يُّها المؤمنونَ:
…لقَدْ سبَقَ الصدِّيقُ أصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الصِّدْقِ، فهوَ أصدقُهُمْ في العِلْمِ والسِّخاءِ والشجاعَةِ والنُّطْقِ، فمِصْداقُ صِدِّيقيَّتِهِ في العِلْمِ: ما أخرجَهُ البخاريُّ في صحيحِهِ عَنْ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قالَ: خطَبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: إنَّ اللهَ خَّيرَ عَبْداً بينَ الدنيا وبينَ ما عِنْدَهُ، فاختارَ ما عِنْدَ اللهِ. فبكَى أبو بكرٍ- رضي الله عنه -، فقلْتُ في نفسِي: ما يُبْكِي هَذا الشيْخَ؛ إِنْ يكنِ اللهُ خيَّرَ عبداً بينَ الدنيا وبينَ ما عندَه؛ فاختارَ ما عِنْدَ اللهِ؟ فكانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ العَبْدُ، وكانَ أبو بكرٍ أعلَمَنا. فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكرٍ لا تَبْكِ، إنَّ أمَنَّ الناسِ عَلَيَّ في صُحْبِتَهِ ومالِهِ: أبو بكرٍ، ولَوْ كنتُ مُتَّخِذاً خَليلاً مِنْ أُمَّتِي: لاتخذتُ أبا بكرٍ، ولكنْ أُخُوَّةُ الإسلامِ ومودَّتُهُ، لا يَبْقَيَنَّ في المسجدِ بابٌ إلاّ سُدَّ؛ إلاّ بابُ أبي بكرٍ".
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ14ربيع الآخر1427هـ الموافق12/5/2006م
أبو بكر الصديق
…الحمدُ للهِ الذي وعَدَ فوفَّى، وأوْعَدَ فعفَا، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له الذي يعلَمُ الجهرَ وما يخفَى، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُاللهِ ورسولُهُ سيِّدُ الشُّرَفا، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى أتباعِهِ الخُلَفا، وعلَى آلهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ أهلِ الِبرِّ والوَفا.
…أمَّا بعدُ:(108/1)
…فأُوصِيكُمْ عِبادَ اللهِ ونفسِي بتقوَى الملكِ القدوسِ، فتقوَى اللهِ تعالَى خيرُ لِباسٍ تَسَرْبَلَتْ بهِ النفوسُ، واعلموا أنَّ الحديثَ عَنِ الصحابَةِ الأخيارِ؛ مِنَ المهاجرينَ والأنصارِ رضِيَ اللهُ عنَهْم؛ مِمَّنِ اصْطفاهُمُ العزيزُ الغفَّارُ؛ لِصُحْبَةِ المصطفَى المختارِ - صلى الله عليه وسلم -: حَدِيثٌ لا تَمَلُّهُ الأسماعُ؛ ولا تَضْجَرُ مِنْهُ الطِّباعُ، كيفَ لا؛ وهُمُ الأُسْوَةُ في الصلاحِ؛ والقُدْوَةُ في الفلاحِ، كما قالَ عبدُاللهِ بنُ عمرَ بنِ الخطابِ رضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ: "مَنْ كانَ مُسْتَناً: فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ ماتَ، أُولئكَ أصحابُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، كانوا خيرَ هذِهِ الأمَّةِ، أبرَّها قلوباً، وأعمقَها عِلْماً، وأقلَّها تكلُّفاً، قومٌ اختارَهُمُ اللهُ لِصُحْبةِ نبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ونَقْلِ دِينِهِ، فتشبَّهُوا بأخلاقِهمْ وطرائِقِهمْ، فهُمْ أصحابُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، كانوا علَى الهَدْيِ المستقيمِ" [أخرجَهُ أبونُعَيْمٍ الأصْبَهانِيُّ].
…أَلا وإنَّ أفضلَ صحابةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - علَى الإطلاقِ؛ الذي عانَقَتْ فضائِلُهُ السبْعَ الطِّباقَ: عبدُاللهِ بنُ عثمانَ التَّيْمِيُّ، أبو بكرٍ الصدِّيقُ - رضي الله عنه -، فهوَ الصحابيُّ الذي لَزِمَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في الليلِ والنهارِ، وصَحِبَهُ في جميعِ الغَزَواتِ والأَسْفارِ، ويكفِيهِ فخراً ذِكْرُ العزيزِ الغفَّارِ: { إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } { التوبة: 40 } .(108/2)
…وقَدْ سُمِّيَ أبو بكرٍ - رضي الله عنه - بالصدِّيقِ؛ لِكمالِهِ في الإيمانِ والتصديقِ، فعَنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عَنْها قالَتْ: "لماَّ أُسرِيَ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجدِ الأقصَى: أصبحَ يتحدَّثُ الناسُ بذلِكَ، فارتدَّ ناسٌ مِمَّنْ كانَ آمنُوا بهِ وصَدَّقوهُ، وسعَى رجِالٌ مِنَ المشرِكينَ إلى أبي بكرٍ - رضي الله عنه -، فقالوا: هَلْ لكَ إلى صاحِبكَ؛ يزعُمُ أنَّه أُسرِيَ بهِ الليلةَ إلى بيتِ المقدسِ؟! فقالَ أبو بكرٍ: أَوَ قالَ ذلِكَ؟ قالوا: نَعَمْ. فقالَ أبو بكرٍ: لِئَنْ قالَ ذلِكَ؛ لَقَدْ صدَقَ. قالوا: أَوَ تصدِّقُهُ أنَّهُ ذهبَ الليلةَ إلى بيتِ المقدسِ؛ وجاءَ قَبْلَ أنْ يُصْبِحَ؟! فقالَ أبو بكرٍ: نَعَمْ، إنيِّ لأُصدِّقُهُ فِيما هو أبعدُ مِنْ ذلِكَ، أصُدِّقُهُ في خَبَرِ السماءِ؛ في غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ. فَلِذلِكَ سُمِّيَ: أبو بكرٍ الصدِّيقَ" [أخرجَهُ الحاكِمُ ]، كما لُقِّبَ أبو بكرٍ الصديقُ؛ مِنْ قِبَلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالعَتيقِ، فقَدْ أخرجَ الترمذيُّ عَنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها: أنَّ أبا بكرٍ - رضي الله عنه - دخلَ على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: " أنتَ عَتيقُ اللهِ مِنَ النارِ، فيومَئذٍ سُمِّيَ: عَتيقاً".(108/3)
…وفضائِلُ الصدِّيقِ كثيرةٌ. ومناقِبُ العَتيقِ وفيرةٌ، فمِنْها: أنَّه ما سابَقَ الصدِّيقَ مُسابِقٌ ولا نازَلَهُ مُنازِلٌ: إلاّ سبَقَهُ الصديقُ في مَيْدانِ الفضائِلِ، سواءٌ ما كانَ في مَيْدانِ المسابقةِ في صالِحِ الأعمالِ، أوْ في مَيْدانِ المسارعَةِ في إنفاقِ الأموالِ: يقولُ أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: "قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ أصبحَ مِنْكُمُ اليومَ صائِماً؟ قالَ أبو بكرٍ - رضي الله عنه -: أنا. قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: فمَنْ تِبَعَ مِنْكُمُ اليومَ جِنازةً؟ قالَ أبو بكرٍ - رضي الله عنه -: أنا.قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: فمَنْ أطعمَ مِنْكُمُ اليومَ مِسْكيناً؟ قالَ أبو بكرٍ - رضي الله عنه -:أنا. قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: فمَنْ عادَ مِنْكُمُ اليومَ مَرِيضاً؟ قال أبو بكرٍ:- رضي الله عنه - أنا. فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ما اجتمَعْنَ في امْرِئٍ إلا دخَلَ الجنَّةَ" [أخرِجَه البخاريُّ ومسلمٌ].(108/4)
فثبَتَ أنَّ صِدِّيقَ الأمَّةِ مِنْ أهْلِ الجنَّةِ بِلا ارتيابٍ، بَلْ هوَ مِمَّنْ يُرجَى له أنْ يُخيَّرَ في دخولهِا مِنْ أَيِّ الأبوابِ، فعَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -؛ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ أنفَقَ زَوْجَينِ في سبيلِ اللهِ؛ نُودِيَ مِنْ أبوابِ الجنَّةِ: يا عبدَ اللهِ؛ هَذا خيرٌ، فمَنْ كانَ مِنْ أهلِ الصلاةِ: دُعِيَ مِنْ بابِ الصلاةِ، ومَنْ كانَ مِنْ أهلِ الجهادِ: دُعِيَ مِنْ بابِ الجهادِ، ومَنْ كانَ مِنْ أهلِ الصيامِ: دُعِيَ مِنْ بابِ الريَّانِ ومَنْ كانَ مِنْ أهلِ الصدقَةِ: دُعِيَ مِنْ بابِ الصدقةِ. فقال أبو بكرٍ الصديقُ - رضي الله عنه -: بأَبِي وأُمِّي يا رسولَ اللهِ؛ ما علَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأبوابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فهلْ يُدْعَى أحدٌ مِنْ تِلْكَ الأبوابِ كلِّها؟ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: نَعَمْ، وأرجُو أنْ تكونَ مِنْهم"[أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ].
…أ يُّها المؤمنونَ:(108/5)
…لقَدْ سبَقَ الصدِّيقُ أصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الصِّدْقِ، فهوَ أصدقُهُمْ في العِلْمِ والسِّخاءِ والشجاعَةِ والنُّطْقِ، فمِصْداقُ صِدِّيقيَّتِهِ في العِلْمِ: ما أخرجَهُ البخاريُّ في صحيحِهِ عَنْ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قالَ: خطَبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: إنَّ اللهَ خَّيرَ عَبْداً بينَ الدنيا وبينَ ما عِنْدَهُ، فاختارَ ما عِنْدَ اللهِ. فبكَى أبو بكرٍ- رضي الله عنه -، فقلْتُ في نفسِي: ما يُبْكِي هَذا الشيْخَ؛ إِنْ يكنِ اللهُ خيَّرَ عبداً بينَ الدنيا وبينَ ما عندَه؛ فاختارَ ما عِنْدَ اللهِ؟ فكانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ العَبْدُ، وكانَ أبو بكرٍ أعلَمَنا. فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكرٍ لا تَبْكِ، إنَّ أمَنَّ الناسِ عَلَيَّ في صُحْبِتَهِ ومالِهِ: أبو بكرٍ، ولَوْ كنتُ مُتَّخِذاً خَليلاً مِنْ أُمَّتِي: لاتخذتُ أبا بكرٍ، ولكنْ أُخُوَّةُ الإسلامِ ومودَّتُهُ، لا يَبْقَيَنَّ في المسجدِ بابٌ إلاّ سُدَّ؛ إلاّ بابُ أبي بكرٍ".(108/6)
…ومِصْداقُ صِدِّيقيَّتِهِ في السَّخاءِ: ما أخرجَهُ أحمدُ وابنُ ماجَه عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ما نفعَنِي مالٌ قَطُّ؛ ما نفعَنِي مالُ أبي بكرٍ، فبكَى أبو بكرٍ وقالَ: يا رسولَ اللهِ؛ هَلْ أنا ومالِي إلاّ لكَ يا رسولَ اللهِ؟"، ومِصْداقُ صِدِّيقيَّتِهِ في الشجاعَةِ: ما أخرجَهُ البخاريُّ في صحيحِهِ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزبيرِ رحِمَهُ اللهُ قالَ: سألتُ عبدَ اللهِ بنَ عمرٍو رضِيَ اللهُ عنْهمُا عَنْ أشدِّ ما صنَعَ المشركونَ برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقالَ: رأيتُ عُقْبةَ بنَ أبي مَعيطٍ جاءَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصَلِّي، فوضَعَ رِداءَهُ في عنقِهِ؛ فخنَقَهُ بهِ خَنْقاً شديداً، فجاءَ أبو بكرٍ - رضي الله عنه - حتىَّ دفعَهُ عَنْهُ، فقالَ: أتقتلونَ رجلاً أنْ يقولَ: ربِّيَ اللهُ؛ وقَدْ جاءكُمْ بالبينِّاتِ مِنْ ربِّكُم؟!.
…بارَكَ اللهُ لي ولكم في الفرقانِ والذِّكْرِ الحكيمِ، ووفَّقَنا للاعتصامِ بهِ وبما كانَ عليهِ النبيُّ الكريمُ؛ عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأزكَى التسليمِ؛ مِنَ الهَدْيِ القَويمِ؛ والصِّراطِ المستقيمِ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ الغفورَ الحليمَ، لي ولكم مِنْ كلِّ ذَنْبٍ وحَوْبٍ فتوبوا إليهِ واستغِفروهُ إنَّه هوَ التوَّابُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ عددَ مَا تَرَطَّبَتِ الألسنُ بالثناءِ والدعاءِ مِنْ فَجِّ قلْبِها العميقِ، والحمدُ للهِ عددَ مَا أثنَتْ علَى ربهِّا وسألَتْهُ السَّدادَ والرَّشادَ والتوفيقَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ الهادِي إلى سواءِ السبيلِ والطَّريقِ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنَا مُحمداً رسولٌ مِنْ أنفُسِنا هُوَ بالمُؤمنينَ رؤوفٌ ورحيمٌ ورفيقٌ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى مَنْ أنعمَ اللهُ عليهِمْ مِنْ كلِّ نبيٍّ وشهيدٍ وصالحٍ وصِدِّيقٍ.(108/7)
…أمَّا بعدُ:
…فأوصِيكم يا أهلَ الإيمانِ؛ بتقوى المنَّانِ، فهِيَ مِنْ أَماراتِ الصدِّيِقيَّةِ وعَلاماتِ الإحسانِ، وقَدْ أجرَى اللهُ تعالَى العادةَ التي لا تتبدَّلُ؛ والناموسَ الذي لا يتغَيَّرُ ولا يتحوَّلُ: أنَّ الجزاءَ مِنْ جِنْسِ العملِ،ومِصْداقُ ذلِكَ في القرآنِ: { هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } { الرحمن: 60 } ، لِذا فقَدْ استحقَّ الصدِّيقُ - رضي الله عنه - أن تُقابلَ صِدِّيقِيَّتُهُ بالصِدق في الوفاءِ والوَلاءِ، وأنْ يَصْدُقَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في المحبَّةِ والإخاءِ، فمصداقُ صِدْقِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الحبِّ والوفاءِ: ما أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ عمرِو ابنِ العاصِ - رضي الله عنه -: "أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعثَهُ على جيشِ ذاتِ السلاسِلِ، قالَ: فأتيتُهُ فقلتُ: أيُّ الناسِ أحبُّ إليكَ؟ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عائشةُ. قُلْتُ: مِنَ الرجالِ؟ قالَ: أَبوها".(108/8)
ومِصْداقُ صِدْقِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الولاءِ والإخاءِ: ما أخرجَهُ البخاريُّ في صحيحِهِ عَنْ أبي الدَّرْداءِ - رضي الله عنه - قالَ: "كنتُ جالِساً عِنْدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ أقبلَ أبو بكرٍ - رضي الله عنه -آخذاً بِطَرَفِ ثوبِهِ حتى أبدَى عَنْ ركبتِهِ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أمَّا صاحِبُكُمْ فقَدْ غامَرَ."فسَلَّمَ وقالَ: إنِّي كانَ بَيْنِي وبينَ ابنِ الخطابِ شيءٌ، فأسرَعْتُ إليهِ ثُمَّ نَدِمْتُ، فسألتُهُ أنْ يغفرَ لِي؛ فأبَى علَيَّ، فأقَبلْتُ إليكَ. فقالَ النبيُّ- صلى الله عليه وسلم -: "يغفِرُ اللهُ لكَ يا أبا بكرٍ، يغفرُ اللهُ لكَ يا أبا بكرٍ، يغفرُ اللهُ لكَ يا أبا بكرٍ. ثُمَّ إنَّ عمرَ نَدِمَ فأتَى مَنْزِلَ أبي بكرٍ، فسألَ أَثَمَّ أبو بكرٍ؟ فقالوا: لا. فأتَى إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فجعلَ وجْهُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يتمعَّرُ، حتَّى أشفَقَ أبو بكرٍ فجَثا على ركبتَيْهِ، فقالَ: يا رسولَ اللهِ؛ واللهِ أنا كنْتُ أظْلَمَ، واللهِ أنا كنتُ أظلمَ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ بعثَنِي إليكُمْ، فقلْتُم: كذَبْتَ، وقالَ: أبو بكرٍ صدَقَ، وواسانِي بنفسِهِ ومالِهِ، فهلْ أنتمْ تارِكُوا لِي صاحبِي، فهلْ أنتمْ تارِكُو ا لي صاحِبي، فَما أُوذِيَ بَعْدَها".
…وَلْيَكنْ مِسْكُ الخِتامِ، معْشَرَ الإخوَةِ الكرامِ: ترطيبَ ألسنَتِكمْ بالصلاةِ والسلامِ، علَى خيرِ الأنامِ، اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيْتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ، وباركْ علَى محمدٍ وعلَى آلِ محمدٍ، كما باركْتَ علَى إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، في العالمينَ، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ.(108/9)
…اللهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ؛ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ مِنَ الخيرِ كلِّهِ عاجلِهِ وآجلِهِ، ما عَلِمْنا مِنْه وما لَمْ نعلَمْ، ونعوذُ بِكَ مِنَ الشرِّ كلِّهِ، عاجلِهِ وآجلِهِ، ما عَلِمْنا مِنْه وما لَمْ نعلَمْ، اللهمَّ وَفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ، واجعلْ عمَلَهما في رِضاكَ، اللهمَّ احفظْهُما بِحفظِكَ، واكلأْهُما بِرِعايَتِكَ، وألبسْهُما ثوبَ الصحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ، { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [العنكبوت:45].
لجنة الخطبة المذاعة والموزعة
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(108/10)
اطبع هذه الصحفة
ماذا بعد الحياة الدنيا؟
إن مشيئة الله تعالى وإرادته اقتضت أن يخلق سبحانه الموت والحياة والدنيا والآخرة ليختبرنا في الحياة الدنيا ويجزينا بعملنا في الحياة الآخرة {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور} [الملك: 2].
فالحياة الدنيا هي الدار الفانية والحياة الآخرة هي الدار الباقية {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} [العنكبوت: 64].
فالدار الآخرة هي دار الحياة الحقة، لأنها دار الخلود ودار الجزاء {ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} [آل عمران: 161].
وإذا لم تكن هناك حياة آخرة وموقف للحساب ودار للثواب والعقاب فإن خلق هذه الكائنات يكون عبثاً لا مبرر له تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وصدق الله العظيم إذ يقول: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115].
ماذا بعد الحياة الدنيا؟
إن الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور، سبحانه بيده ملكوت كل شىء وهو السميع البصير، خلق فأبدع ، وقدر فهدى، مالك أمر الدنيا والآخرة، جعل الدنيا مزرعة للآخرة فهي دار ممر والآخرة دار مقر، فطوبى لمن أخذ من دنياه لآخرته، وآثر الباقية على الفانية.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سخر لنا ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه، وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسله ربه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد..
فيأيها المسلمون:(109/1)
إن مشيئة الله تعالى وإرادته اقتضت أن يخلق سبحانه الموت والحياة والدنيا والآخرة ليختبرنا في الحياة الدنيا ويجزينا بعملنا في الحياة الآخرة {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور} [الملك: 2].
فالحياة الدنيا هي الدار الفانية والحياة الآخرة هي الدار الباقية {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} [العنكبوت: 64].
فالدار الآخرة هي دار الحياة الحقة، لأنها دار الخلود ودار الجزاء {ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} [آل عمران: 161].
وإذا لم تكن هناك حياة آخرة وموقف للحساب ودار للثواب والعقاب فإن خلق هذه الكائنات يكون عبثاً لا مبرر له تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وصدق الله العظيم إذ يقول: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115].
( 2 )
وقد جعل الله لنا هذه الحياة الدنيا، لنحصل بما نعمله فيها على جزائنا في الحياة الآخرة، وكلنا يعلم أن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان مصداقاً لحديث الرسول (صلي الله عليه وسلم) "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره" [رواه مسلم] فالإيمان بالحياة الآخرة ركن أساسي من أركان العقيدة الإسلامية، بدونه تنهدم العقيدة ويبطل الإيمان، ويخرج منكره عن دائرة الإسلام، وقد نعى القرآن الكريم على إنكارهم للحياة الآخرة والبعث والنشور {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} [الأنعام: 29].(109/2)
فما بعد الحياة الدنيا حياة أخرى لا علم لنا بما فيها إلا ما جاء عن طريق الوحي في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهذه الحياة الآخرة فيها نعيم القبر وعذابه فالقبرإما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار فعلينا أن نعمل لننعم برضوان الله تعالى في الحياة البرزخية ليكون القبر الذي ننزل فيه روضة من رياض الجنة، بعد أن نودع هذا الدنيا بما فيها من أهل وولد ومال ومتاع، ولا يبقى مع الإنسان في قبره إلا عمله وما قدمه في حياته الدنيا، فلنقدم جزءاً يكون لنا، ولا نخلف كلاً يكون علينا، لأن العبد إذا مات قال الناس ما ترك وقالت الملائكة ما قدم، ونحن نرى سواد الناس يلهثون وراء جمع ما في هذه الحياة الدنيا وتكديسه والبخل به عن إنفاقه في سبيل الله وكثير منهم لا يبالي إن كان قد جمع ما جمع من حلال أو من حرام، وهم في غفلة عما يحدث بعد الممات.
وحينما تجىء الصاخة وتقوم الساعة {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها} [الحج: 1] {فإذا جاءت الصاخة * يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرىء منهم يؤمئذ شأن يغنيه} [عبسى: 33ـ 37].
هذه حال الناس حيث البعث والنشور، لا يغني أحد عن أحد شيئاً ولا يتحمل وزر غيره، لأن قانون الحياة الآخرة هو قوله تعالى {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر: 38].
ويأتي موقف الحساب وتنصب موازين الحق والعدل {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} [الأنبيا: 47] وفي هذا الموقف تنشر الصحائف وتعرض على الإنسان أعماله التي اقترفها في الحياة الدنيا {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 13 ـ 14].
( 3)(109/3)
ولا يستطيع إنسان في هذا اليوم أن يتنكر لما اقترفت يداه في حياته الدنيا، لأن جميع أعضاء الإنسان تكون شاهدة عليه يوم القيامة {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} [النور: 24]. ويصدر لنا القرآن الكريم موقفاً آخر لهذه الشهادة في قوله تعالى: {ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون * حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شىء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون} [فصلت: 19 ـ 21].
وحينما ينتهي موقف الحساب ويقضي بين الناس بالحق والعدل ينصرف أهل النار إلى النار وأهل الجنة إلى الجنة يصور لنا القرآن الكريم هذه المشاهد من عالم الغيب تصويراً يردع كل ضال عن ضلاله، ويزيد كل مؤمن إيماناً {وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون * ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون * وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين * قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين * وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين * وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين} [الزمر: 69 – 74].
والآن أيها المسلمون:(109/4)
ونحن في حياتنا الدنيا نلهث وراء شهواتنا، ويتكالب الكثير منا على جمع تراثها من حله ومن غير حله، ويبخل كثير منا بما عنده مما أفاء الله عليه من نعم ومن متاع الحياة الدنيا كيف يكون لقاء الله؟ والقرآن الكريم ينادينا للإنفاق في سبيل الله {ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} [محمد: 38].
وها هي أبواب الإنفاق في سبيل الله مفتوحة على مصراعيها فهناك إخوة لكم في الدين وفي الإنسانية تعصف بهم المجاعات وتجتاحهم الأوبئة، وتنهش أجسادهم غوائل الفاقة، والله تعالى يدعوكم
( 4 )
للإنفاق مما رزقكم فيضاعفه لكم أضعافاً مضاعفة {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون} [البقرة: 245].
وليس هذا باب العطاء الوحيد فأبواب الخير كثيرة والكلمة الطيبة صدقة، وأنتم ـ معشر المسلمين ـ مدعوون إلى رياض الجنة فأجيبوا داعي الله والله معكم ولن يتركم أعمالكم.
نسأل الله تعالى أن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها ويجمع لنا خيري الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
---
تم طباعة هذا الموضوع من موقع البوابة الإسلامية- الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت(109/5)
اطبع هذه الصحفة
محاسن الأخلاق
عبادَ اللهِ:
…ولِرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الكَعْبُ الأعْلَىِ والقِدْحُ المُعَلَّى في الأخلاقِ , إِذْْ كانَ مَهْوَى أفئدَةِ الرجالِ بعظيمِ أخلاقِهِ وكريمِ سَجاياهُ, وأصالةِ مَعْدِنِهِ ونُبْلِ شمَائِلِهِ ، كأنَّ الأخلاقَ كلَّها قَدْ جُمِعَتْ فيهِ وحدَهُ حتَّى نَعتَهُ ربُّهُ العظيمُ بقولِهِ الكريمِ : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } { القلم:4 } . هذا خادِمُهُ أنسُ بنُ مالكٍ - رضي الله عنه - يقولُ: "خَدَمْتُ النبيَّ- صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ سِنينَ فما قالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وما قَالَ لِشيءٍ صنَعتُهُ:لِمَ صنَعْتَهُ؟ ولا لِشيءٍ تركتُهُ: لِمَ تركتَهُ؟ وكانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أحْسَنِ النَّاسِ خُلقُاً" [أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ].
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 21من ربيع الآخر1427هـ الموافق 19/5/2006م
محاسن الأخلاق
…الحمدُ للهِ واهبِ العطايا والنِّعَمِ، كاشفِ البلايا والنِّقَمِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له؛ قسمَ الأخلاقَ بينَ عبادِهِ كما قسمَ الأرزاقَ بينَ الأُمَمِ ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ الكريمُ المكرَّمُ، صاحبُ الأدبِ الأكرَمِ والخُلقِ الأعظَمِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِهِ الذين فَتَحُوا حُصونَ البلادِ وقلوبَ العِبادِ بمكارمِ الأخلاقِ ومحاسنِ القِيَمِ, وسلَّمَ تسليماً كثيراً ما تردَّدَ في حَيٍّ نَسَمٌ، وخَطَّ بنانٌ بِقلَمٍ.
…أمَّا بعدُ:
…فأوصِيكمْ عِبادَ اللهِ ونفسِي بتقوَى اللهِ تعالىَ؛فإنَّ تقْوَى اللهِ أكرمُ ما أسررْتُمْ، وأجملُ ما أظهرْتُمْ، وأفضلُ ما ادخرْتُمْ، اتقوا اللهَ في السرِّ والعلَنِ،واجتنبوا الفواحِشَ ما ظهرَ مِنْها وما بطَنَ.
… أيهُّا المسلمونَ:(110/1)
… إنَّ للأخلاقِ في دينِنا الحنيفِ مكانَتَها السنِيَّةَ، ودرجتَها السامِيَةَ العليَّةَ، فهِيَ حَجَرُ الزاوِيَةِ في بناءِ المجتمعاتِ، والأساسُ المتينُ في نَشْأَةِ الحضاراتِ, وقُطْبُ الرَّحَى في تزكيةِ النفوسِ الأبِيَّاتِ, وهِيَ دعوةُ الأنبياءِ والمرسلينَ، وزِينةُ عبادِ اللهِ المؤمنينَ، وريحانَةُ المتقينَ، وحِلْيَةُ الصالحينَ . وقَدْ دعا الإسلامُ إلى كُلِّ خُلُقٍ كريمٍ، ونفَّرَ مِنْ كُلِّ خُلُقٍ ذَميمٍ ، فرَبَّى أتباعَهُ علَى الأخلاقِ الحميدةِ، والآدابِ المجيدةِ، وسَما بِهمْ إلى الأفعالِ الرشيدةِ, والأقوالِ السديدةِ، فكانَتْ هذِهِ الأُمَّةُ أمَّةَ الأخلاقِ والقِيَمِ، ورمزَ العِزَّةِ والشِيَمِ.
وإنمَّا الأممُ الأخلاقُ ما بقيَتْ فإنْ هُمُ ذهبَتْ أخلاقُهم ذهبُوا(110/2)
…ولقَدْ أخبرَ النبيُّ المصطفَى - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الغايَةَ مِنْ بِعْثَتِهِ إنَّما هِيَ إتمامُ مكارِمِ الأخلاقِ فقالَ: " إنِّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخلاقِ" [أخرجَهُ أحمدُ]، وإنَّ الأخلاقَ الفاضِلَةَ لَدليلٌ علَى كَمالِ الإيمانِ، وعلامَةٌ على رُسوخِ اليقينِ في الجَنانِ، كما روَى أبو هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:" أكملُ المؤمنينَ إيماناً أحسنُهُمْ خُلُقاً، وخِيارُكُمْ خِيارُكُمْ لِنسائِهِمْ خُلُقاً"[أخرجَهُ أحمدُ والترمذيُّ واللفظ له].واعلَموا أنَّ المتجَمِّلَ بالخُلقِ العظيمِ؛ المتحَلِّيَ بالأدبِ الكريمِ؛ جليسُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ القيامةِ، فَعنْ جابرِ بنِ عبدِاللهِ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ :"إنَّ مِنْ أحبِّكُمْ إليِّ وأقربِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يومَ القيامةِ أحاسِنَكُمْ أَخْلاقاً"[أخرجَهُ الترمذيُّ وحسَّنه]، وبالأخلاقِ المباركَةِ يبلغُ المؤمِنُ درجَةَ الصائِمِ الذي لا يُفْطِرُ والقائِمِ الذي لا يَفْتُرُ، قالَتْ عائِشةُ رضِيَ اللهُ عَنْها: سمعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"إنَّ المؤمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ درجَةَ الصائِمِ القائِمِ"[أخرجَهُ أبو داودَ والحاكِمُ]. وهِيَ أثقلُ شيءٍ في ميزانِ صاحِبِها يومَ القيامةِ؛ كما روَى أبو الدرداءِ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ما مِنْ شيءٍ أثقلُ في ميزانِ العبدِ المؤمنِ يومَ القيامةِ مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ، وإنَّ اللهَ يُبْغِضُ الفاحِشَ البَذِىَّ " [أخرجَهُ الترمذيُّ].
… عبادَ اللهِ:(110/3)
…ولِرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الكَعْبُ الأعْلَىِ والقِدْحُ المُعَلَّى في الأخلاقِ , إِذْْ كانَ مَهْوَى أفئدَةِ الرجالِ بعظيمِ أخلاقِهِ وكريمِ سَجاياهُ, وأصالةِ مَعْدِنِهِ ونُبْلِ شمَائِلِهِ ، كأنَّ الأخلاقَ كلَّها قَدْ جُمِعَتْ فيهِ وحدَهُ حتَّى نَعتَهُ ربُّهُ العظيمُ بقولِهِ الكريمِ : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } { القلم:4 } . هذا خادِمُهُ أنسُ بنُ مالكٍ - رضي الله عنه - يقولُ: "خَدَمْتُ النبيَّ- صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ سِنينَ فما قالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وما قَالَ لِشيءٍ صنَعتُهُ:لِمَ صنَعْتَهُ؟ ولا لِشيءٍ تركتُهُ: لِمَ تركتَهُ؟ وكانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أحْسَنِ النَّاسِ خُلقُاً" [أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ].(110/4)
وقَدْ بالَ أعرابِيٌّ في المسجدِ فثارَ إليهِ الناسُ لِيَقَعُوا بهِ فقالَ لهمْ - صلى الله عليه وسلم - دَعوهُ وأَهْرِيقُوا عَلَيْهِ ذَنُوباً مِنْ ماءٍ أوْ سَجْلاً مِنْ ماءٍ فإنَّما بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ ولَمْ تُبْعَثوا مُعَسِّرِينَ"[ متفقٌ عليهِ]. وهوَ صاحِبُ الرِّفْقِ وَاللِّينِ، والسكينةِ والتواضُعِ، والعفْوِ والصفْحِ والحِلْمِ والكَرَمِ، فقَدْ عَفا عَنْ قريشٍ حينَ فَتَحَ اللهُ على يَدَيْهِ مكَّةَ المكرَّمةَ فقالَ لأهلِها: لا تثريبَ عليكُمُ اليومَ اذْهبوا فأنتمُ الطُّلَقاءُ، وهُمُ الذينَ تَفَنَّنوا في إيذائِهِ والسخريَةِ بِدينِهِ واضطهادِ أصحابِهِ وأتباعِهِ، ولمَّا عرَضَ عَلَيْهِ مَلَكُ الجِبالِ أَنْ يُطْبِقَ علَى مَنْ آذاهُ الأَخْشَبَيْنِِ عُقُوبةً لهَمْ أبَى صاحِبُ الخلُقِ الكريمِ ذلِكَ وقالَ:"بَلْ أرجُو أنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أصلابِهِمْ مَنْ يعبدُ اللهَ وحدَهُ لايشركُ بهِ شيئا"[متفقٌ عليهِ]، وعلَى مِثْلِ هَذا سارَ أصحابُهُ الكِرَامُ ومَنْ تَبِعَهمْ بإحسانٍ حتىَّ فَتَحوا البلادَ وقلوبَ العِبادِ بأخلاقِهمُ الفاضِلَة ِوآدابِهمُ الكامِلَةِ.
…وقَدْ صدقَ مَنْ قالَ:
………فإذا رُزِقْتَ خَلِيقَةً مَحْمودةً فَقَدِ اصطفاكَ مُقَسِّمُ الأرزاقِ
فالنَّاسُ هَذا حظُّهُ مالٌ وذَا عِلْمٌ وذاكَ مكارِمُ الأخْلاقِ
…إخوةَ الإيمانِ:(110/5)
…والمؤمنُ لا يرضَى أنْ يعيشَ عَلَى هامِشِ الحياةِ ولا أَنْ يَحْيا بِلا قِيَمٍ وإنَّما هوَ صاحبُ رِسالةٍ يُتَرجِمُها عَمَلاً وسُلُوكاً يراهُ الناسُ في أرضِ الواقِعِ صِدْقاً وعَدْلاً ، وقَوْلاً وعَمَلاً ، ويلمسونَهُ شِيَماً وقِيَماً, يتمثَّلُ في مَبْدَأ الأقوالِ قولَ اللهِ تعالىَ: { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً } { البقرة:83 } . ويتمثَّلُ في مبدَأ الأفعالِ قولَهُ تعالىَ: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } { فصلت: 34 } . فيتجمَّلُ بمحاسِنِ الأخلاقِ ظاهِراً وباطِناً فيكونُ كَثيرَ الحيَاءِ، عَديمَ الأذَى، كثيرَ الصلاحِ،صَدوقَ اللسانِ، قَليلَ الكلامِ، كثيرَ العملِِ, قليلَ الفُضولِ، بَرّاً وَصُولاً، وقُوراً صَبُوراً، مُقِرّاً شَكُوراً، رَضِيّاً حَلِيماً، رَفيقاً عَفيفاً شَفيقاً، لا لعَّاناً ولا سبَّاباً، ولا نَمَّاماً ولا مُغْتاباً، ولا عَجُولاً ولا حَقُوداً، ولا بَخِيلاً ولا حَسُوداً، بشَّاشاً هَشَّاشاً، يحبُّ في اللهِ ويُبْغِضُ في اللهِ، ويرضَى في اللهِ، ويغضَبُ في اللهِ.
…بارَكَ اللهُ لي ولكمْ في الوحْيَيْنِ، ونفَعَنا جميعاً ِبهَدْيِ سيِّدِ الثَقَلَيْنِ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ العليَّ العظيمَ؛ فاستغفروهُ إنَّهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ .
الخطبة الثانية
…الحمدُ للهِ علَى إحسانِهِ، وله الشكرُ علَى توفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له تعظيماً لشانِهِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ خيرُ مَنْ دعا إلى سبيلِ اللهِ ورضوانِهِ؛ بِحُسْنِ خُلُقِهِ وصِدْقِ إيمانِهِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ وإخوانِهِ وسلَّمَ تسليماً مَزيداً.(110/6)
أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ - عبادَ اللهِ- حقَّ التقوَى، واستمسِكُوا مِنَ الدِّينِ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى؛ فقَدْ تكفَّلَ اللهُ لأهْلِها بالنجاةِ مِمَّا يَحْذَرونَ، والرزقِ مِنْ حيثُ لا يحتَسِبُونَ { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } { الطلاق:3:2 } .
…أيهُّا المؤمنونَ:
…إنَّ لِكلِّ بُنْيانٍ أساساً وأساسُ الإسلامِ حُسْنُ الأخلاقِ، وإنَّ اللهَ لايُعطِي الأخلاقَ إلاَّ لِمَنْ يحبُّ مِنْ عبادِهِ فهِيَ شرَفٌ وكراَمةٌ، وعزَّةٌ وشهاَمةٌ لا يُؤْتَاها إلا ذُو حَظٍّ عظيمٍ . رَوَى عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال:َ" إنَّ اللهَ قَسَمَ بينَكُمْ أَخلاقَكُمْ كما قَسَمَ بيِنَكُمْ أرزاقَكُمْ ، وإنَّ اللهَ - عزَّ وجلَّ- يُعْطِي الدُّنيا مَنْ يحبُّ ومَنْ لا يحبُّ ، ولا يُعْطِي الدِّينَ إلاَّ لِمَنْ أَحَبَّ، فمَنْ أعطاهُ الدِّينَ فَقدْ أحبَّهُ"[أخرجَهُ أحمدُ والحاكِمُ]. ولِهذِهِ الأخلاقِ أُمَّهاتٌ وأُصولٌ، وقواعِدُ وفصولٌ تجمَعُها هذِهِ الفضِائلُ الأربعةُ: الحِكْمَةُ والشَّجاعَةُ ، والعفَّةُ والعَدْلُ . فمِنَ الحِكْمَةِ يحصلُ التدبيرُ وجودةُ الذهْنِ والتفطُّنُ لِدقائِقِ الأعمالِ وخفايا آفات ِالنفوسِ. ومِنَ الشجاعَةِ يصدرُ الكرَمُ والنجدةُ والشهامَةُ وكَسْرُ النَّفْسِ والاحتمالُ والثباتُ وكظْمُ الغيظِ وأمثالُها. ومِنَ العفَّةِ يصدرُ السخاءُ والحياءُ والصبرُ والمسامحةُ والقناعةُ واللطافَةُ والوَرَعُ وقِلَّةُ الطمَعِ. وبالعَدْلِ يكونُ ضَبْطُ الشهْوَةِ والغضَبِ، وحملُ النَّفْسِ على مُقْتضَى الحِكْمَةِ بلا إفراطٍ ولا تفريطٍ.
قالَ اللهُ تعالىَ: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ { } الأعراف: 199 } .(110/7)