نزل، القرآن كتاب حياة، الكتاب الذى نقرؤه على الموتى يقول الله فيه "لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين " . وأخيرا أيها الإخوة: فإن لى رجاء أبسطه إلى كل إنسان منكم، إن الحب فى الله عاطفة يباركها رب العالمين، وفى الحديث الشريف: " ما تحاب اثنان فى الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدها حبا لصاحبه " . وأنا أعرف أن الله سترنى فجعل ناسا كثيرين يحبوننى، لكنى أرجو أن يختفى تقبيل اليد من هذا المسجد، أرجو بإلحاح ألا تقبل يد، أرجو أن نشغل بختم الصلاة، أرجو أن يمتنع تقبيل اليد، إننى أتقدم بهذا الرجاء ولى أمل أن ينفذه كل مسلم فى هذا المسجد، فإن تقبيل اليد تحول إلى دلالة أكرهها ويكرهها المسلمون، ليس فى ديننا كهانة ولا تسلط على الناس بأى معنى من المعانى، ثم ما يعرف أحد منا ما مصيره عند ربه ولا ما مكانه عنده، فنرجو أن ينتهى هذا التقليد. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا لى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " . عباد الله: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " . أقم الصلاة ص _040(4/31)
حركة الارتداد بين الماضى والحاضر خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص 8/12/1972 م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: ففى بدء الدعوة إلى الإسلام كان الذين يدخلون فى هذا الدين يعتنقونه مخلصين، وتنشرح صدورهم به، فيتحملون من أجله الأذى والتعب، ولذلك لم يكن فى مكة نفاق. عندما بدأت الدعوة إلى الإسلام كان الناس أحد رجلين: إما رجل آمن بالله فهو يتحمل فى سبيل إيمانه غربة الروح وتعب الذين تنكروا له وضاقوا به، أو رجل كافر يحارب الإسلام فى صراحة ويضع العوائق فى طريقه علانية، ومن هنا يقول التاريخ: لم يكن فى مكة نفاق. كان الناس إما مؤمن صريح أو كافر صريح، فلما انتقل الإسلام من مكة إلى المدينة دخل فى مرحلة أخرى، ربما وجد ذوو الأطماع الذين يطلبون المال أو الوجاهة أو المظاهر، ربما وجدوا أنفسهم مسوقين إلى أن يلتحقوا بهذا الركب المتحرك، وربما زينت لهم مآربهم أن مغانم الدنيا فى اللحاق به. ص _041(4/32)
هؤلاء الذين التحقوا ـ وإيمانهم مزعوم أو واهن ـ أخرجتهم تعاليم الإسلام، ذلك لأنهم تظاهروا بالإيمان وقلوبهم منه خاوية، لكن الإيمان لا يدع أصحابه ينتسبون بأفواههم ويتمردون عليه بأعمالهم "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " . وكان الاختبار الذى محص النفوس وسبر غورها، وكشف المعادن وبين زيفها، كان ذلك ما تضمنه الإسلام من تعاليم كثيرة، فإن شعب الإيمان شتى، والمؤمن عندما ينتسب إلى الدين فإنه يكلف بين الحين والحين؟ أن يتردد على المسجد للصلاة، يكلف بين الحين والحين أن يدفع مالا يطلب منه زكاة أو نفقة.. هذه التكاليف كانت بلاء شديدا على ضعاف الإيمان، فالمنافقون الذين طووا قلوبهم على الكفر ـ وإن أظهروا الإسلام ـ كان يضايقهم أن يتفقدوا بين صفوف المصلين فلا يوجدوا، كانوا يتكاسلون عن الذهاب إلى المسجد للصلاة الجامعة " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا " . وإذا كلفوا بنفقة فدفعوها اعتبروا ما دفعوه غرامة موجعة، ورأوا أنفسهم مضطرين إلى دفعها فما ينتظرون عليها ثوابا، لأنهم لا يؤمنون بالله ولا بما يدخر عنده، إنهم مكرهون " ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم " . هذا النوع من الناس ـ من المنافقين ـ كان يحرجهم أمران شديدان جدا: الأمر الأول: الجهاد فى سبيل الله، والأمر الثانى: الحكم بما أنزل الله. فأما الأمر الأول: فإن الجهاد فريضة لتأمين الدعوة، وحماية المجتمع، وكسر عدوان الطاغين، ورفع راية التوحيد، هذا الجهاد ـ وفيه مشقات ص _042(4/33)
كثيرة، وتعريض النفس والمال للضياع ـ ما يرضى به أو يسرع إليه إلا مؤمن واثق من ربه ملق قياده إليه، ولذلك يقول جل شأنه فى وصف المؤمنين والمنافقين: " لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين * إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون " . وكما كشف الجهاد عن طبائع المنافقين فإن إلزام الناس بشرائع الله كان يحرج القلوب الخادعة والأفئدة المنافقة، ويكشف ضعف صلتها بالإسلام، ولذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " . انكشفت ملامح النفاق عن طريق الوحى تارة، وعن طريق التكاليف التى حددت مواقف المؤمنين والكافرين تارة أخرى، وانتهى أمر المنافقين على عهد النبى صلى الله عليه وسلم إلى واحد من أمرين: إما أن يؤمنوا إيمانا صريحا، وإما أن يتواروا فيما هم فيه فلا يشعر بهم أحد. لكن بعد أن لحق النبى عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى انفجر الضلال انفجارا رهيبا فى المجتمع الإسلامى، وكشف الكفر عن وجهه صراحة إذ ارتد عدد كثير من الناس، وأخذ الارتداد صورة من صورتين: إما الرفض الصريح للإسلام، وإما القبول الجزئى للإسلام، والرفض للصلة العملية التى تربط بين الناس وبين الدولة المسلمة وهى الزكاة مثلا. تعرض الإسلام بعد وفاة النبى عليه الصلاة والسلام لمحنة قاسية، غير أن الخلفاء الراشدين والسابقين الأولين والكتائب المؤمنة بربها، والرجال الذين أخلصوا قلوبهم لله وأسلموا وجوههم إليه ، هؤلاء جميعا التفوا حول أبى بكر الصديق وقاتلوا المرتدين سواء كان الارتداد دعوة إلى الشرك أو رفضا لدفع الزكاة. أريد أن أشرح هنا شيئا يعرف منه الارتداد، لأن موضوعنا الذى ص _043(4/34)
تدور عليه اليوم، ونريد أن نشرحه، ونحدد دائرته، ونبين مواقف الناس منه، ونحاكم المسلمين وغير المسلمين إليه هو الارتداد. ما هو الارتداد؟ إن أحدا يبخل بالزكاة، لأنه بخيل، لأن فى نفسه كزازة ، ولكنه إذا أكره على دفعها دفَعها ويده ترتعش أو ونفسه مضطربة، ولكنه يدفعها ، يعزى نفسه بشتى الأمور يمكن أن يقبل إسلامه، ولو أنه لم يدفعها وفر منها وتظاهر بالإسلام يمكن أن يوصف بأنه مسلم مريض القلب أو مسلم منحرف السلوك.. أما أن يقول أحد الناس: لا أدفع الزكاة، ولن أدفعها، ولن أسمح لأحد أن يطلبها منى، وسأوعز إلى الآخرين ألا يدفعوها. فمعنى ذلك أن هذا الرفض تحول إلى عداوة مكشوفة حاسمة للوحى الإلهى والأمر الإلهى، وأن هذا الإنسان اختار فى وضح النهار موقفه وأراد أن يجعل هذا الموقف وضعا اجتماعيا مقررا.. ومن هنا فلا كلام فى أنه مرتد، ارتد عن الإسلام ولو قال أنه موحد، ما دام قد أعلن خلعه لربقة الإسلام فى ركن من أركانه أو فى ما هو معلوم من الدين بالضرورة فمعنى هذا أنه كفر كفرا تاما. ولأضرب المثل من عالمنا الحالى: لو أن امرأة كاتبة قالت: أنا أرفض أن يكون الرجل أكثر حظا من المرأة فى الميراث، إن هذا ظلم، إن هذا تحقير للمرأة، إن هذا نوع من الرجعية فى رسم أوضاع الأسرة !! هذا كلام لا يقبل بتة أن يكون معه إيمان، ولا يمكن أبدا أن نعد صاحبته مسلمة، هى بهذا مرتدة بيقين. لو أن رجلا من الناس رسم موقفه فى الحياة على أنه لا يمكن أن تحرم الخمر، ولا يمكن أن يحرم الزنا، ولا يمكن أن تقطع يد السارق، ولا يمكن أن يجلد القاذف، ولا يمكن كذا وكذا.. ص _044(4/35)
هذا النوع من الناس ـ بموقفه هذا ـ أعلن بيقين أنه انسلخ عن الإسلام، ورمى ربقته من عنقه، وأصبح لا دين له ولو قال فى بجاحة: أنا مسلم. إنه كاذب كاذب،. هو مرتد بيقين، اتفق العلماء على أن إنكار معلوم من الدين بالضرورة كفر بالله واليوم الآخر. قصة الارتداد ترجع بنا إلى الوراء فى التاريخ الإسلامى كى نتعرف موقف الإسلام من المرتدين، فإن بعض الناس ـ فى عصرنا هذا ـ يريد أن يجعل من الارتداد لونا من حرية الرأى، يريد أن يجعل من الارتداد نوعا من التفكير الذى ينبغى أن يأخذ حماية من القانون أو حماية من المجتمع، وبالتالى يريد أن يفرض نفسه على أنه شىء لا ينبغى أن يستغرب ولا أن يعترض !! قلت: إن مكة ما كان فيها نفاق، وقلت: إن المنافقين فى المدينة كشف أمرهم، وفضحت أحوالهم وبرئ الله ورسوله منهم، وأقيم المجتمع الإسلامى إقامة بنيت على الخُلّص من المؤمنين وعلى الواضح المستقر من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . فى أثناء تكوين الدولة وبناء المجتمع حدثت حركات ردة جزئية أو موضعية، فمثلا أراد اليهود أن يعبثوا بالإسلام وأن يصدوا الناس عنه وأن يمنعوا تهمة التعصب عن أنفسهم، فقال بعضهم للبعض الآخر: ما علينا من حرج لو أننا أعلنا الدخول فى الإسلام بعض الوقت، وحتى ينتشر هذا الإعلان ويعرف الناس أننا دخلنا فى الإسلام ولسنا متعصبين ثم نرتد عنه ونقول: بدا لنا أنه دين غير صحيح، وبدا لنا أن هذا الدين ينبغى أن يترك، وإذن فالناس سيتركونه جميعا ويقولون : إن أهل الكتاب أعرف منا بطبائع الأديان وحقائقها، وما كان لديهم تعصب، فقد أسلموا ولكنهم وجدوا أن الإسلام لا يجدى فارتدوا !! فى هذا الموقف يقول رب العالمين : " وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون * ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل(4/36)
بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم " . ص _045
حركات الارتداد المفتعلة من هذا النوع كان يجب أن تقاوم ولذلك جاء حديث: " من بدل دينه فاقتلوه " . لقد كان اليهود آمنين على أنفسهم ما داموا يهودا، أما أن يفتعلوا مؤامرة ليدخلوا الإسلام ثم ليخرجوا منه حتى يزلزلوا قواعده بهذا الأسلوب فلابد أن يعاقبوا. هذه واحدة، شىء آخر لابد أن يعرف، وهو أن معاهدة الحديبية عندما عقدت أراد النبى عليه الصلاة والسلام أن يتخلص من كل مهزوز الضمير ضعيف الإيمان فى المدينة، فأباح لمن يرتد أن يخرج إلى مكة دون حرج، وما ارتد أحد، لقد تكشفت الأمور وعرف الناس الحق من الباطل. لكن الارتداد على أنه نوع من حرية الرأى مسألة يجب أن تناقش، ونحن نناقش علنا، لو أن امرأ كفر بالله وحده وبنى حياته الشخصية على ذلك، وزوى عنا جانبه، وطوى على الضلال قلبه، ما استطعنا أن نصنع له شيئا، فإن القلوب إلى الله وهو علام الغيوب، وهو الذى يحاسب الناس على إخلاصهم أو غشهم، على إيمانهم أو كفرهم، لكن الإيمان فى المجتمع الإسلامى هو وقود الدولة عندما تتحرك، وأساس المجتمع عندما ينهض، والرباط الذى يشد التعاليم ويصون الأمن ويقيم الحدود ويجمع الشمل.. بمعنى أن الإيمان عندنا ليس رأيا شخصيا، لا، لقد عرف القاصى والدانى أن الإسلام عقيدة وشريعة، أن الإسلام إيمان ونظام، أن الإسلام عبادة ومعاملة، وليس فى الدنيا مجتمع يسمح للمنتسبين إليه أن يعملوا المعاول فى جدرانه لينقضوها ويهدوها.. ليس فى الدنيا دولة تقول للناس: من حق أى إنسان أن يسقطنى أو أن يتمرد علىّ، أو أن لا ينفذ تعاليمى، أو أن يهدم قوانينى، أو ما إلى ذلك، ليس فى الدنيا دولة تصنع هذا. ص _046(4/37)
وعندما يقيم الإسلام دولته فهو يقيم حدودا، ويضع قواعد، وبالتالى فإن الارتداد لن يكون حركة قلب زائغ، ولو اكتفى بهذا فإن الله يعلمه، وهو الذى يتولاه، ولكن الارتداد هنا سيكون محاولة لقلب نظام الدولة وهدم تعالميها، وهو ما يرفضه الإسلام، وبالتالى فإن الإسلام جعل الارتداد يعاقب بالقتل. الارتداد جريمة تسمى في العصر الحديث الخيانة العظمى، هل تسمح دولة من الدول أن تبيح لفرد من أفرادها تسليم أسرارها لأعدائها؟ هل تسمح دولة من الدول لواحد منها أن يعين أعداءها عليها أو ينقض نظامها؟ هذا ما لا يمكن، وذاك السر فى أن الإسلام رفض الارتداد. الارتداد عُرف فرديا، ولكنه فى العالم العربى والإسلامى الآن يشكل تيارات جماعية!! كيف؟ إن الاستعمار العالمى عندما هجم على البلاد الإسلامية منذ قرون ـ أيا كان مصدره شرقيا كان أو غربيا ـ استهدف أن يقضى على الإسلام، والقضاء على الإسلام لا يلجأ إليه أصحابه بوسائل صبيانية أو طفولية، لا، إنهم لن يقولوا للناس: كفرنا بالله لأننا لم نجده، لن يقولوا للناس: كفرنا بمحمد لأنه بدا لنا أنه كذاب، لن يقولوا للناس: تركنا الإسلام لأنه رجعية.. إن هذه المشاقة الصريحة تكشف جانبهم، وتعرى نياتهم، وتعرضهم للفشل، ولكنهم يريدون أن يكفروا الناس بالله وبنبيه وبتعاليم الإسلام بأساليب ملتوية وبطرق مختلفة. عندما دخل الاستعمار العالم الإسلامى استمات فى أن يلغى فى العالم الإسلامى شرائعه التى يقوم عليها، وأن يبيح فيه الخمر والخنا، وذلك حتى ينشر فى كيان الأمم الإسلامية جراثيم العفن والضياع، وقد فعل ووصل فى أغلب البقاع إلى ما يريد، لولا المقاومة الباسلة التى تبديها جماهير المؤمنين فى أرجاء العالم الإسلامى، أولئك الذين أبوا أن يحنوا رؤوسهم للضلال، ورفضوا أن ينقادوا للتيار الآثم الفاسق الذى يتمرد على كتاب الله وسنة ص _047(4/38)
رسوله صلى الله عليه وسلم ، والذين جعلوا ولاءهم ومحبتهم لدينه وحرصهم على تعاليمه صبغة ثابتة فى أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، بقى هؤلاء - إلى الآن - يقاومون التيارات الآثمة الماجنة التى تريد أن تضيع الإسلام وسط بلاده. ثم هجم على المسلمين - وذاك قدر الله - اليهود فى العصر الحديث، وبدأ الهجوم سياسيا أولا ثم عسكريا أخيرا، وتمكن اليهود من أن يقسموا الأرض الإسلامية قسمين، رموا بأحدهما شرقا وبالثانى غربا، واستطاعوا أن يفصلوا بين شرق العالم الإسلامى وغربه برا بإسرائيل التى أنشأوها، وهم يريدون توسيع رقعتها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا. وظاهر أن اليهود لما هجموا لم يضعوا نقابا على وجوههم، ولم يضعوا ستارا على نياتهم، لقد جاءوا معلنين بأنهم يهود، وبأنهم يريدون إقامة مملكة إسرائيل، لقد عالنوا بهذا فى وقت كان قادة الفكر العربى والإسلامى فى بلادنا يحاولون إبعاد الدين عن المجتمع، ويصفون الذين يتمسكون بالدين بالتأخر والرجعية.. ولأضرب مثلا يتكشف منه الناس بدقة ما وصلوا إليه وما يمكن أن يصلوا إليه إن لم يستيقظوا، إن الضربات المتتابعة تنزل بالعالم الإسلامى والعربى بوصفه دماغ الإسلام وقلبه، وهذا العالم العربى يوشك أن يدخل فى صراع دام مع اليهود، وهذا الصراع الدامى اذا بقيت الأمور تمشى على النحو الذى كانت تمشى عليه قديما فإن النتيجة ستتكرر، ونحن ما انتصرنا على اليهود فى حرب إلى الآن، لأننا ما كنا نقاومهم بدين، بينما كانوا يهجمون علينا بدين، وما يفل الحديد إلا الحديد. فى بعض القرى أو فى بعض الحارات يوجد ناس مجرمون أوغلوا فى الجريمة، ما يعرفون غيرها، يجيئهم المجرم الصغير أو الغر يقول لهم: أنا آكل من اللصوصية - أنشل الركاب - ولكنى سجنت، فيقولون له: دع النشل، وجرب السطو على البيوت ليلا، ويعود بعد أن يأخذ عقوبة فى السجن، فيقولون له: جرب تزوير النقد، ويجرب تزوير النقد ثم يعاقب ويجىء، فيقولون له: جرب القمار،(4/39)
إنهم يقولون له كل شىء إلا أن يقولوا له: جرب المشى على الصراط المستقيم، جرب أن تكسب رزقك من ص _048
حلال، جرب أن تؤمن بالله وتكدح وتأكل من عرق جبينك !! لماذا؟ لأنهم مجرمون موغولون فى الإثم، ما للإيمان فى قلوبهم أثر ولا لله فى أفئدتهم من وقار ولا من خشية، فكيف ينصحون؟ ويوجد الآن من يقول للعالم العربى: اعتمد على روسيا، اعتمد على أمريكا، اعتمد على فرنسا، اعتمد على انجلترا، إنهم يكتبون كثيرا فى تضليل العالم العربى وفى إتاهته عن طريق الله، وما يقول أحدهم أبدا للأمة المشردة الجريح المنكوبة: جربى الصراط المستقيم، جربى العمل بالإسلام والتجميع عليه، جربى أن تحاربي تحت راية التوحيد، جربى أن يكون القرآن المحور الذى تدور عليه حركة المقاومة وتنطلق منه جيوش التحرير، هؤلاء يقولون: أرسلوا للجنود صور الغانيات المومسات، لعل الجندى يموت وفى أحضانه صورة مومس. إذا كان الغراب دليل قوم يمر بهم على جيف الكلاب إن هؤلاء الذين يقودون حركة الفكر أو يمسكون بزمام القلم فى العالم العربى إذا لم يكونوا مرتدين ـ وأنا أعلم أنهم مرتدون عن الإسلام ـ فهم طابور خامس يعمل لحساب الاستعمار العالمى أيا كان نوعه أحمر أو أصفر، هؤلاء خطيرون على مستقبل أمتنا، وينبغى أن يكذبوا ويجبهوا عندما يرسمون وسائل الكفاح لبلدنا. إن الناس تمسكوا بأديانهم، وليس الإسلام عارا حتى يكون التمسك به مسبة، إن المرتدين من حملة القلم يريدون أن ننهزم فى حرب رابعة وفى حرب خامسة لأنهم لا يعرفون إلا طريق الهزائم، إن الكتاب الذين يكرهون كل تجمع إسلامى ويضيقون به هؤلاء لابد أن يعرف أنهم ارتدوا من قديم عن الإسلام، ليس لهم بالله إيمان، ما شرفت أجسادهم بسجدة لله فى محراب للعبادة، هؤلاء يجب أن يعرفوا. ص _049(4/40)
إن العودة إلى الإسلام لا تعنى فقط نقل قضية فلسطين من الميدان العربى إلى ميدان أكبر منه، ولكنها تعنى ما هو أخطر من ذلك، تعنى أننا نحارب الخمول والبرود وعدم المبالاة وقلة الاكتراث والاستهانة بالقيم، إننا نحارب البلادة الشائعة، والفتور المنتشر، والاختلاسات والسرقات، والاستهانة بالمال العام. أنا لو كنت عربيا مسيحيا ومخلصا لبلدى لقلت للعرب: يا أهل البلد إنكم فى تاريخكم الماضى ما تكونتم أمة إلا بالإسلام، وما ارتفعت لكم راية، ولا نضرت وجوهكم كرامة إلا بالإسلام، وأنتم تواجهون دينا يريد أن يقص أجنحتكم بل أن يخلع قلبكم من بين أضلاعكم، ولابد أن تحاربوه بعقيدة، إن القوميات إلى الآن جربت نفسها وفشلت فلم لا يترك للإيمان أن يجمع وللإسلام أن يتحرك وأن ترتفع رايته؟ ما قال أحد من العقلاء أو دارسى التاريخ قديما وحديثا: إن حرب فلسطين حرب سياسية أو حرب تجارية، لقد قيل قديما وحديثا: إنها حرب دينية، حتى جاء التافهون ممن لا علم لهم ولا عقل يريدون تغيير التاريخ وتشويه الحقائق، فسموا الحروب الصليبية القديمة حروبا تجارية أو سياسية، أصحابها قالوا: إنها صليبية، وآباؤنا قالوا: إنها صليبية، والإثارات كلها كانت دينية، حتى جاء التافهون فى هذا العصر يقولون: إنها ما كانت حربا دينية!! هذا الكذب على التاريخ إلى متى؟ حتى تضيع العواصم كلها وتسقط المدينة المنورة فى يد اليهود؟ لابد أن تصحو الأمة، لابد أن يكون التجميع على الإسلام، ما دامت الحرب يهودية علنية فليكن الدفاع إسلاميا علنيا، نربى على الإسلام، نجمع على الإسلام، نستثير الشعوب الإسلامية فى الشرق والغرب، إن الحرب عندنا فى فلسطين لاستنقاذ المسجد الأقصى حرب دينية، والمسجد الأقصى ليس ملك بعض القبائل فى (الدلتا) أو فى (الصعيد) أو فى (الأردن) أو فى (سوريا) إنه بيت الله وملك المسلمين قاطبة. ص _050(4/41)
الحرب دينية، ويجب أن تأخذ طابعها، وأن يكون التجميع باسم الإسلام وعليه، والمسيحيون العرب بين أمرين: إن شاءوا الوفاء لذمتهم وأرضهم وكانوا إلى جوارنا فى هذه الحرب فبها ونعمت، وإلا فليتركونا وليصمتوا وما نلومهم، وإذا كنا ـ نحن المسلمين عجزة عن القتال إلا بهذا العون فبطن الأرض خير من ظهرها، إما أن نحيا ـ كما نريد ـ باسم الإسلام أو لنمت كما نريد. أما أن نسمع للكذابين يكتبون فى الصحف الكثير عن الحرب وأطوارها وأوهامها وما ينتظر منها وما يرجى لها، وما يفكر أحد من هؤلاء فى ذكر الله ولا العودة بالأمة إلى كتابه ولا استثارة المشاعر الدينية الرابية النامية من أربعة عشر قرنا فى أرضنا.. فهذا ما لا ينبغى أن يكون. هؤلاء قادونا إلى العار قديما، ولا تزال دور هذه الصحف كعشش البوم، ما ينعق فيها إلا طلاب الخراب لهذه الأمة فلنحذرهم على ديننا وعلى بلدنا. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم * * * ص _051(4/42)
أحوال المسلمين في الفلبين خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإن موضوع الخطبة اليوم فرضه على واقع لا يمكن تجاهله، وملابسات لا نستطع أن نتغاضى عنها، موضوع هو فى ظاهره تاريخى أو سياسى، ولكنه فى حقيقته يتصل بعقيدتنا وحاضرها ومستقبلها. الموضوع هو أن (بابا روما) ذهب فى سفرة شاقة طويلة إلى البلاد التى يطلق عليها اسم (الفلبين) وهو اسم مزور مستعار، وضعه الغزاة الأسبانيون على جزر كانت إسلامية مائة فى المائة، وبدأوا حركة تنصيرها من بضعة قرون، ومضوا فى طريقهم حتى استطاعوا أن يحققوا جزءا كبيرا من نياتهم وأن يبلغوا شوطا بعيدا من أهدافهم. ص _052(4/43)
الجزر ما كانت تسمى الفلبين، ولكن (فيليب الثانى) ملك أسبانيا كان رجلا معروفا بتعصبه للكثلكة وقتله لأعدائها، فأخذ الاسم ووضع على مجموعة من جزر الهند الشرقية، الجزر كانت إسلامية كلها، وكان المذهب السائد هناك مذهب الإمام الشافعى، وكان العلماء من أهل البلاد أو ممن جاورها من جزيرتى (جاوة) و (سومطرة) . ثم جاء مبشر يعرف فى تاريخنا الذى ندرسه بأنه مستكشف جغرافى، وهو مبشر بالنصرانية اسمه (ماجلان) انتفع ماجلان بخبرة بعض التجار العرب ووصلوا به أو وصل بهم إلى المضيق الذى يعرف فى الجغرافيا الآن بأنه مضيق ماجلان، ولما كانت الأرض التى بلغها إسلامية، وكان الرجل مبشرا بالنصرانية فقد حاول أن يرفع الصليب على الأرض التى بلغها فقتل هنالك وانتهى أمره. لكن أمر الجزر لم ينته، فقد شرع الأسبان يوجهون إليها حملاتهم ويبذلون الجهود لمحو التوحيد وإقامة التثليث مكانه، وبدأ صراع فيه مرارة وفيه حرقة، لأن المسلمين الذين دافعوا عن دينهم لم يجدوا الكثير من العون، ولم يسعفهم إخوانهم من أماكن كثيرة، فقاتلوا فى معركة تشبه أن تكون معركة انسحاب، وكان ما نزل بهم فادحا مخوفا!! وما بُد من أن أذكر التاريخ، ولما كنت معتل الجسم لا أستطع أن أؤلف، ولما كانت الحقائق التى أريد نشرها وثائق، فمن الخير أن أقرأ ما ورد أو ما نشر، وما نشر لمؤلف انكليزى ترجمه مهندس مسلم مصرى هو الدكتور مصطفى مؤمن، وقد نشرت هذه الوثائق مجلة سعودية تصدرها رابطة العالم الإسلامى. ص _053(4/44)
وقد بدأ غزو هذه البلاد فى القرن السادس عشر ـ أى من أربعة قرون ـ وإبرازا للغاية المنشودة منه فقد رصت جثث المقاومين الشجعان على نحو هيئة صليب وذلك سنة 1576 م ويقول المؤلف: إنه أول صليب صنع بأجساد المسلمين ونرجو أن يكون آخرها!! وينشر المؤلف نص الأمر الصادر من الحاكم العام الأسبانى "فرانسيسكو دى ساندى " لقائد الحملة المشئومة التى استهدفت غزو جزيرة " سولو " وهى جزيرة إسلامية مائة فى المائة يقول: اقرأ معى واحبس أنفاسك ولتكن آذانا وعيونا لتفهم، يقول الحاكم الأسبانى للقائد الذى قاد المعركة: " إننى آمرك بسد أفواه الدعاة إلى دين محمد، إذ هو دين شرور وآثام، وليس هناك من بديل عن النصرانية عقيدة ودينا، ولما كان الدعاة القادمون من " بورنيو " مثلهم فى الدعوة إلى الإسلام فواجبك مصارحتهم بأن غرضنا هو تعميم النصرانية، ولدى اعتناقهم لها فسنتركهم يعملون فى أرضهم دون أن يصيبهم أذى من جانب سادتهم النصارى الأسبان، وترصد بقوة من يدعو لدين محمد، وألق القبض عليه، ثم سقه إلى مكبلا مخفورا " !! لكن الحملة فشلت فشلا ذريعا، وأعاد الحاكم الأسبانى الكرة فى السنة الثانية، وتتابعت الحملات حتى السادس من إبريل سنة 1626 م حيث استطاع القائد الأسبانى " جواندى " أن يقتحم موقعا خلوا من السكان وأن يعتلى ـ ليلا ـ ربوة ذات مكان حصين ليفاجئ منه سكان جزيرة "سولو" بضربات مدفعيته، واستبسل السلطان المسلم " دتونا " فى الدفاع عن الأرض الطاهرة، ولكنه لقى هو ورجاله شهادة جماعية إجماعية، واستطاع الأسبان أن يجعلوا هذه البقعة منطلقا لحملات غزو على بقية معاقل المسلمين فى هذه الجزر. ص _054(4/45)
يقول المؤلف: وردّ السلطان " قدراك " حملة عارمة، ثم وقع اتفاقا سنة 1645 م مع السلطات الأسبانية لضمان سلامة قوافل الطرفين وتبادل المنافع، وفى مقابل ذلك سمح لهم ببناء كنيسة فى جزيرة المسلمين، ولكنهم نقضوا العهد بعد أعوام قلائل فتصدى لهم السلطان ولاذوا بالفرار تاركين وراءهم هيكل كنيسة خاوية، وفى سنة ص 25م ـ أى بعد مائتى سنة ـ فقد الأسبان مستعمراتهم عدا " عذراء ماليزيا ". هذا كلام يحتاج إلى شرح، فإن دولة أسبانيا التى نصّرت نحو أربعين فى المائة من السكان المسلمين بطرقها التى أشرنا إليها وقعت فى ضائقة مالية، فماذا تصنع؟ باعت الجزر ممن فيها وما فيها لأمريكا!! فحل الأمريكيون فى الفلبين محل الأسبان، وبعد خمسة أشهر قرروا شراءها مقابل مائتى مليون دولار دفعوها لأسبانيا. وهنا أعلن الشعب برمته الحرب ضد الغزاة الجدد، واستمرت الحرب بين المسلمين والأمريكيين إلى سنة 1901م وفى تلك السنة تألفت لجنة من "الكونجرس الأمريكى " لوضع تشريعات للفلبين، حاولت تحويل المسلمين عن معتقداتهم دون جدوى، فماذا تصنع؟ رأى الأمريكيون أن خير علاج للمسلمين هو اجتثاثهم بشن الحرب "البكتيرية " عليهم وعلى ماشيتهم، فاجتاحت أوبئة الكوليرا والجدرى والطاعون البانوبى جزيرة " ميندناو " ثم جزيرة " سولو " سنة 1903م. وبلغ ضحايا حرب الأوبئة حسب تقدير لجنة " تافت " الأمريكية مائتى ألف أو يزيدون، ونفقت مئات الألوف من الدواب بأوبئة الحمرة وطاعون الماشية. وهكذا خسر المسلمون أنفسهم وأموالهم بالخسيس المزرى من الغدر، كما تعرضت للهلاك آلاف مؤلفة من الدواب العجماء التى لا تدرى شيئا. وتحولت جزيرة " عذراء ماليزيا " تحت حكم الأمريكيين المباشر، وفى عهد الأمريكيين تكونت وزارة خاصة بشئون " مينداناو " و" سولو " وفى فترة الانتقال ألحق ـ فى غفلة من الزمن ـ المسلمون باختصاص وزارة الداخلية الفليبنية. ص _055(4/46)
ويقول المؤلف كلاما كثيرا خلاصته: أن الأمريكيين رعوا شئون الفلبين على النحو الذى رعاها من قبل الأسبان ـ أى حرب متصلة ضد الإسلام ـ وتسلطت ضد الإسلام عصابات مسيحية مكونة من المتعصبين الذين يسمون " فئران ". ويقول المؤلف: إن جماعة " ايجلاس " أو الفئران هى أخطر الجماعات الكاثوليكية وأشدها تعصبا ضد المسلمين، ولها تنظيم هدفه الأول الاستيلاء على الأرض الإسلامية وإبعاد أهلها عنها، ويتدرب أفراد هذا التنظيم فى إسرائيل !! وحفزا لهم فى إلحاق الأذى بالمسلمين والتنكيل بهم وضعت تسعيرة بالمكافآت التى تصرف لمن يصيب مسلما بإحدى هذه العاهات: ا- أذن المسلم ثمنها 100 بيزوس. 2- أنف المسلم ثمنها 100 بيزوس. 3- إصبع المسلم ثمنها 50 بيزوس. 4- كف المسلم أو ذراعه ثمنها 250 بيزوس. 5- عين المسلم ثمنها ألف بيزوس، أى ما يوازى خمسة وثلاثين جنيها استرلينيا.. ما أرخص المسلمين !! وتشن هذه العصابة حرب إبادة بر المسلمين لإخلاء الأرض منهم وتوريثها للصليبيين، وقد أصبحت معسكرات اللاجئين المسلمين تضم ما يربو على خمسمائة ألف لاجئ أو مشرد ! وقد كشف المسلمون الأقنعة عن وجود تواطؤ خبيث بين حكومة "ماركس " ـ الحاكم الحالى ـ وأولئك الفئران المسلحين. ويمضى الكاتب فى عرضه لأمور ما نحتاج إلى تفاصيلها، لكن الذى قرأته واستمعت إليه فى الإذاعات أن " بابا روما " لقى المسلمين فى جنوب " مينداناو " وقد استمعت إلى تلخيص ما قاله فوجدت أنه يريد تفاهما وحقوقا متبادلة وكلاما من هذا النوع، ولعله قال لهم: إن الله محبة، ولعله ص _056(4/47)
قال لهم كلاما من هذا النوع الذى نعرف قيمته الشكلية وندرك أن حقيقته جوفاء لا شىء فيها. قلت فى نفسى: هل يعى المسلمون فى شرق العالم العربى وغربه من الأطلسى إلى الخليج هذه الحقائق؟ لا. المسلمون لا يدرون شيئا عن تاريخ الإسلام وامتداداته فى شرق آسيا التى انتزع جزء منها وسمى " الفيلبين ". المسلمون هنا لا يدرون شيئا، إنما الذى أذكره أن المسلمين هناك يحبون الإسلام ويدفعون عن أهله، وعندما تورط العرب هنا فى حروب صليبية فإن إخوانهم المسلمين من جاوة، وسومطرة، وتركستان، وأفغانستان، وبلاد ما وراء النهر لم يتركوا العرب وحدهم، فالذى قهر الصليبيين هو صلاح الدين الكردى، والذى قهر التتار وهزم المغول هزيمة منكرة هو قطز وهو من تركستان. لا بأس أن يُعرف الفارق بين ما فعله المسلمون القادمون من هذه البلاد البعيدة بعد أن انتصروا على الصليبيين وبين ما فعله غيرهم، وينبغى أن تعرف أخلاقنا وأخلاق غيرنا. معى كتاب مترجم أيضا، يتحدث الكاتب ـ وهو رجل إنكليزى ـ عما فعله صلاح الدين عندما استرد بيت المقدس ووقع نحو مائة ألف صليبى فى يده فيقول: الواقع أن المسلمين الظافرين اشتهروا بالاستقامة والإنسانية، فبينما كان الفرنج منذ ثمان وثمانين سنة يخوضون فى دماء ضحاياهم، لم تتعرض الآن دار من الدور الصليبية للنهب، ولم يحل بأحد من الأشخاص مكروه، إذ سار رجال الشرطة بناء على أوامر صلاح الدين يطوفون بالشوارع يمنعون كل اعتداء يقع على المسيحيين !! وقد دهش المسلمون عندما رأوا البطريرك يؤدى عشرة دنانير مقدار الفدية المطلوبة منه ويغادر المدينة وحده وقد انحنت قامته لثقل ما يحمله من الذهب، وقد تبعته العربات التى تحمل ما بحوزته من الطنافس والأوانى ص _057(4/48)
المصنوعة من المعادن النفيسة!! وبفضل ما تبقى من منحة الملك "هنرى الثانى " تقرر إطلاق سراح سبعة آلاف من الفقراء!! يقول المؤلف الإنكليزى: من المناظر التى تدعو إلى الأسى والحزن ما حدث من التفات " العادل " ـ وهو لقب شقيق صلاح الدين ـ التفت إلى أخيه صلاح الدين يطلب منه إطلاق سراح ألف أسير على سبيل المكافأة عن خدماته له، فوهبهم له صلاح الدين، فأطلق "العادل" على الفور سراح ألف أسير مسيحى!! وإذا اجتهد البطريرك هرقل لأن يلتمس هذه الوسيلة الرخيصة لفعل الخير لم يسعه إلا أن يطلب أيضا هو الآخر من صلاح الدين أن يهب له بعض الأرقاء ليعتقهم فأعطاه صلاح الدين سبعمائة أسير!! كما جعل صلاح الدين لـ " بليان " خمسمائة أسير!! ثم أعلن صلاح الدين أنه سوف يطلق سراح كل شيخ وكل امرأة عجوز، ولما أقبل نساء الفرنج اللائى افتدين أنفسهن وقد امتلأت عيونهن بالدموع فسألن صلاح الدين أين يكون مصيرهن بعد أن لقى أزواجهن أو آباؤهن مصرعهم أو وقعوا فى الأسر؟ أجاب بأن وعد بإطلاق سراح كل من فى الأسر من أزواجهن، وبذل للأرامل واليتامى من خزانته العطايا كل بحسب حالته!! والواقع أن رحمته كانت على نقيض أفعال الغزاة المسيحيين فى الحملة الصليبية الأولى!! هذا ما كتبه المؤلف الإنكليزي، وفى الجزء الثالث من كتابه ـ الذى نشرته دار الثقافة ببيروت ـ يقول عن أفعال الغزاة المسيحيين: اضطر الغزاة إلى أن يفكروا فى ترك البلاد، لكن صار الأسرى المسلمون مصدر حيرة لهم، فماذا يصنعون؟ أعلن قائدهم فى برود شديد يوم 30 أغسطس سنة 1191م أن صلاح الدين قد نقض عهده، وأمر بالإجهاز على ألفين وسبعمائة أسير من المسلمين كانوا على قيد الحياة، فاشتد حماس عساكره للقيام بهذه المجزرة ص _058(4/49)
حاول المسلمون أن يبذلوا الجهود لوقف المذبحة ولكنهم عجزوا عن الوصول إلى إخوانهم، وعندما وصلوا لم يجدوا إلا بقعة تناثرت عليها الجثث المشوهة المتعفنة هذا تاريخ، الذى أسأل عنه: هل يدرس هذا التاريخ؟ حقيقة الوضع فى الفلبين أن المسلمين هناك صدرت أوامر بإخراجهم من الأرض الخصبة التى يزرعونها، وبدأت الحكومة تقاتلهم لإخراجهم من هذه الأرض. وتصوروا أن المصريين فى " الدلتا " صدر أمر بإخراجهم من " الدلتا " ليعيشوا فى الصحراء، ماذا يصنعون؟ لابد أن يقاتلوا، وقاتلوا منذ تسع سنين إلى الآن، الجريمة التى ترتكب فى الفلبين جريمة إبادة جنس مما ينص على معاقبة مرتكبها قانون الأمم المتحدة، لكن القانون لا يطبق إذا كان الذين يبادون من المسلمين!! أين هذه البلاد التى كانت عامرة بالإسلام؟ لا وجود لها، كل ما أذكره الأبيات التى قالها أحد الشعراء فى الأندلس: تبكى الحنيفية البيضاء من أسف كما بكى لفراق الإلف هيمان على ديار من الإسلام خالية قد أقفرت ولها بالكفر عمران حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان حتى المحاريب تبكى وهى جامدة حتى المنابر ترثى وهى عيدان أعندكم نبأ عن أهل أندلس فقد سرى بحديث القوم ركبان كم يستغيث بنا المستضعفون وهم أسرى وقتلى فما يهتز إنسان ماذا التقاطع فى الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان ألا نفوس أبِيِّاتٌ لها همم أما على الخير أنصار وأعوان هذا كلام أذكره على أنه تاريخ، ولكن هذا التاريخ يمكن أن يتكرر، ص _059(4/50)
ويمكن أن ينتقل من مكان لمكان، وفى دراستى لهزائم المسلمين- ابتداء من أحد- ما وجدت هزيمة وقعت بالمسلمين إلا كانوا هم سببها، حتى إن القرآن الكريم لما حدثت المسلمين أو أجابهم عن تساؤلهم "أنَّى هذا " ؟ كان الجواب " قل هو من عند أنفسكم " . الصليبية تطارد الإسلام من قديم، وهذه حقيقة يجب أن تدرس وأن تعرف، ومحاولة التغطية عليها محاولة سمجة وفاسقة، ولذلك رأيت أن أكشف زيارة " بابا روما " للفلبين، لأن الرجل يريد أن يضع طابعه على ما بقى من أرض الإسلام هناك!! ثم انضم إلى الصليبيين فى عدوانهم على الإسلام الشيوعيون، والتمدد الشيوعى خطير، وقد أخذ نصف العالم الإسلامى فى آسيا، لأنه ـ كما ذكرت فى كتابى " الإسلام فى وجه الزحف الأحمر " كانت " سيبيريا " مسلمة وقد قتل ملكها وفقئت عينه وهو يدافع عنها، كانت " القرم " مسلمة، كانت " الأرال " مسلمة، كانت " أذربيجان " مسلمة . امتد الروس ـ والروس فى مساحتهم الطبيعية ما يملكون أكثر من أرض تشبه مساحة مصر ـ فى الشرق، وأخذوا آسيا حتى بلد "البخارى " فى " أوزبكستان " وضعوا يدهم عليها. الأمة الإسلامية تشبه المغفل الذى لا يحميه القانون، لأنه لا يعرف مصلحته، ويخيّل إلىّ أن المسلمين أصيبوا بمرض " فقدان الذاكرة " فهم ما يدرون ما وقع لهم، وبالتالى لا يعرفون ما سيقع لهم. وبقاء الأمة على هذا النحو خطر تتعرض له عقيدة التوحيد نفسها، ولذلك وجدت أن الدين يفرض على أن أنفخ التراب عن هذه الحقائق، وأن أبدى الصورة القبيحة لهذه الأوضاع حتى يراها المسلمون فيخجلوا من تفريطهم ومن نسيانهم لربهم. أنا لا أخاف ـ والله ـ من الضغط الصليبى أو الضغط الشيوعى، ولكنى أخاف من الغفلة الإسلامية، وهذه الغفلة تبدو فى مظاهر كثيرة. وقد بدأت نهضة، ولكن الذين يحاربون النهضة أخذوا يجعلون ص _060(4/51)
المسلمين يفقدون فقدان الأولويات. يعنى لو أن عندك مائة جنيه وبيتك خال من كل شىء، فإن المائة جنيه تصرف ابتداء فى شراء تموين، فى شراء الضرورات التى لابد منها للبيت، فإذا ذهب المغفل واشترى راديو أو تليفزيون فماذا يصنع بهذا؟! الأمة الإسلامية فيها أزمة أخلاق، فيها أزمة عبادات صحيحة، فيها أزمة دفاع عن العقائد الحقيقية، ومع ذلك فإن أعدادا من المسلمين يفكرون فى أمور ما يفكر فيها عاقل. والآن وجدت أن عدوين يشقان طريقهما إلى الأرض الإسلامية: العدو الأول يقول: الإسلام كتاب من غير سنة ! وقد رأيت هؤلاء فى باكستان، ورأيتهم فى السودان، وامتدت أخطارهم أخيرا إلى القاهرة، وقادهم ـ فيما أعلم ـ العقيد " معمر القذافى ". والواقع أنه عندما تضيع السنة فسيضيع القرآن بعدها، كأن العدو بلغ من خبثه أن قال: اقسم المعركة قسمين: اضرب السنة أولا، فإذا انتهيت منها، انفردت بالقرآن فأجهزت عليه. وضرب السنة جنون، لأن المفسر الأول للقرآن هو محمد عليه الصلاة والسلام فى قوله وفعله وتقريره، فإذا ضاع التفسير أو إذا ضاعت المذكرة التفسيرية للقانون فماذا يبقى؟ العدو الثانى يقول: الإسلام دين لا دولة ! وقد استؤجر لهذا أناس أصحاب أسماء لامعة كمصطفى كمال أتاتورك، وجمال عبد الناصر، أما مصطفى كمال فقد صنع له الحلفاء زعامة ليجعلوا منه رجلا، وما كان رجلا، كان جاسوسا مرتدا خائنا قذرا، وأما جمال عبد الناصر فشخص متهور، مقامر لا مغامر، ما دس يده فى خضراء إلا يبست، ولا دخل معركة إلا انهزم فيها، وقيل: إنه أبو العباقرة الإسلام دين ودولة، كتاب وسنة . ص _061(4/52)
الإسلام له ماضيه وحاضره ومستقبله. الإسلام له أمة فى المشرق والمغرب لا يمكن قبول تقسيمها. باسم التثليث يخرج، رجل من " روما " ليذهب إلى أقصى المحيط الهادى ليلقى إخوان العقيدة!! أما عقيدة التوحيد فلا رباط لها، ولا أبوة ثقافية أو روحية تلم شملها هذه الحقائق لابد أن تعرف، وعلى المسلمين إذا كانوا عقلاء أن يعرفوا الأولويات، فإذا كان أعداؤنا قد جمعوا كلهم على إذهاب قلبنا ومعتقداتنا وأخلاقنا وتقاليدنا وشرائعنا وكل ما له أثر فى حاضرنا ومستقبلنا، فما يجوز بتة أن يشتغل المسلمون بالتوافه أو أن يتعاركوا على ما لا معنى له. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _062(4/53)
الخطبة الثانية الحمد لله " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد " وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: أيها الإخوة: أضرب لكم مثلا لتعرفوا أن قلة الفقه تضع الإسلام فى مآزق حرجة، جاءنى ذات يوم رجل من الناس يشكو خطيبا فى أحد المساجد ـ كنت يومئذ مسئولا عن المساجد ـ قال: الإمام يتهم الرسول بالنفاق قلت له: أعوذ بالله، يا رجل ما يفكر فى هذا أحد، ولا يخطر ببال امرئ من الناس. قال: ذكر لنا أن عائشة رضى الله عنها قالت: " استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو ابن العشرة، فلما دخل ألان له الكلام، قلت : يا رسول الله قلت الذى قلت ثم ألنت له الكلام، فقال: أى عائشة، إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه " قلت له: الحديث صحيح. قال: أليس هذا نفاقا؟ قلت له: أنت جهول لا تحسن الفهم، هذا أدب اسمه مداراة السفهاء، وهو أدب عالمى، وكان معى المرحوم كامل كيلانى فقال: فى شعر ص _063(4/54)
" شكسبير " كلام عن مداراة السفهاء يشبه ما قاله الشاعر العربى: لو أن كل كلب عوى ألقمته حجرا لأصبح الصخر مثقالا بدينار مداراة السفهاء أدب عالمى لا يزال الناس مكلفين به فى كل زمان ومكان. هذه واحدة، أمس قرأت ردا على شىء كنت ذكرته وهو حديث: " بعثت بين يدى الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقى تحت ظل رمحى، وجعل الذل والصغار على من خالف أمرى، ومن تشبه بقوم فهو منهم " . هذا الحديث فهمه أحد الناس على أن الإسلام ينتشر بالسيف، وجاء آخر فكذب الحديث! قلت: كلا الفريقين جاهل، وقد ذكر النبى صلى الله عليه وسلم وظيفته فقال: " أنا محمد، وأحمد، والمقفى، والحاشر، ونبى التوبة، ونبى الرحمة، ونبى الملحمة " . يعنى أنا نبى السلام، وأنا نبى القتال، من سالمنى سالمته، ومن قاتلنى قاتلته، فإذا حرض على قتال البغاة والمعتدين فهو نبى الملحمة، وعندئذ يقول: " بعثت بين يدى الساعة بالسيف "، والسيف هنا محكوم بقول الله جل جلاله: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" وقوله عليه الصلاة والسلام: " وجعل رزقى تحت ظل رمحى " إشارة للمجاهدين ألا يخافوا، فإن خسائر الحرب قد تكون مرهقة، ولكن ثمراتها فى النهاية تكون رغدا لمن يضحكون أخيرا لأنهم يضحكون كثيرا. ص _064(4/55)
هذا معنى الحديث، والحديث ليس من رواية البخارى ومسلم، ولكنه من رواية أحمد بسند صحيح. الأمر يحتاج إلى الفقهاء، من قديم كان هناك بعض الناس معروفين بالنزق، يجرون وراء كل شىء بدون تثبيت، فقال الله معاتبا هؤلاء: " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم " . لعلمه من؟ أى صعلوك؟ لا " لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ". للأسف يجىء ولد الآن يقول: الشافعى أفسد مصر ! ثم يقول: هم رجال ونحن رجال والله الشافعى رجل وأنت عيِّل. يا مسلمون: الأمة الإسلامية فى مهب الرياح، وهناك أولويات تتطلب أن نلتفت إليها، أما أن تضيع الفلبين، وتبدأ إضاعة أندونيسيا، وقد حدد لها خمسون سنة كى تضيع، أما أن أقرأ أنه قد وضع لأفريقيا أن لا ينتهى القرن العشرون إلا وثمانون فى المائة منها قد دخلوا فى المسيحية، أما أن أقرأ هذا وذاك ثم أجد صعاليك فى ميدان الفكر الدينى تمزق الأمة بكلام تافه وقضايا محقورة وأمور لا معنى لها فإن هذا ليجعلنى أخشى على الأمة وعلى مستقبلها بل على يومها القريب لا على غدها البعيد. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " . عباد الله: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " . أقم الصلاة ص _065(4/56)
الشخصية العربية عوامل اضمحلالها وعناصر ازدهارها خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية 1981م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد إن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فقد اهتممت بدراسة الطبيعة العربية وتعرف خصائصها النفسية والفكرية، لم؟ ألأننى عربى؟ ما أظن ذلك السبب الدافع، لأننى أعلم أن العروبة لغة لا دم، وأن عربا قد يولدون فى أعماق الجزيرة لا يمثلون خصائص العروبة ولا رسالتها، بينما يولد رجل فى " بخارى " كأبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى صاحب " الجامع الصحيح " أو كصلاح الدين الكردى ومع ذلك فإن كلا الرجلين ـ وإن لم يكن من دم عربى ـ فهو أقرب إلى العروبة وأخلص لوظيفتها ورسالتها من غيره. ثم أنا أعلم أننى مصرى، وهل المصريون عرب؟ هم بيقين استعربوا بالإسلام، أى عربهم الإسلام، لكن أهم قبل ذلك عرب؟ ما يعنينى هذا، ربما تحدث علماء الأجناس فى أن المصريين عرب أو غير عرب. ص _066(4/57)
أنا ما يعنينى أن يكون " رمسيس " عربيا أو بدويا أو أى كائن، إنما يعنينى أن المصريين تعربوا بالإسلام، وأصبحوا بالإسلام عربا، لذلك اهتممت بالطبيعة العربية عن رغبة فى دراسة الشخصية العربية وعوامل اضمحلالها وعناصر ازدهارها، ووجدت أن الجنس العربى يمكن ـ بتعبير لا فلسفة فيه ولا تعقيد ـ أن تذكر له ثلاثة أدوار: دور قديم هلك فيه هذا الجنس. ودور وسيط ازدهر فيه هذا الجنس وساد. ودور معاصر اضطرب فيه هذا الجنس، وتنازعته أسباب النماء والفناء فهو بينهما عصىّ طيّع، وهو بينهما مقبل مدبر، والمعركة بين الصحة والمرض أو بين العافية والسقام لا تزال دائرة فى دمه وفى بيئته، ونحن نرى ـ ثقة فى الله ـ أن العاقبة ستكون خيرا إن شاء الله. لكن ما بد من دراسة أدوار هذا التاريخ، لابد أن يعرف لم باد الجنس العربى قديما، لأن الخصائص تتوارث أحيانا، وعندما يقرأ المسلم الفاقه سورة الأعراف أو سورة هود أو سورة الشعراء، يجد أن الأنبياء العرب بذلوا جهودا جبارة فى فطام العرب عن رذائلهم واقتيادهم إلى ربهم وتحميلهم رسالة الإسلام، ولكنهم عجزوا عن الارتفاع إلى هذا المستوى، وغلبتهم خصائص من جنسهم أو من دمائهم فأهلكتهم، وقال الله يصف هذه الأجناس البائدة : فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا و منهم من أخذته الصيحة و منهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون إن الله لا يظلم جنسا من الأجناس، وليس بينه وبين فئة من الفئات أو طائفة من الطوائف أو أمة من الأم عداوة، ولكن يصلح الناس فتطيب لهم الحياة ويمهدون لأنفسهم عنده، فإذا أسفوا فإنما تدور الرحى على أكبادهم لتطحنها، وما يظلمون إلا أنفسهم. ص _067(4/58)
إننى أذكر هذه الخصائص التى ظهرت فى العرب البائدة لأننى ـ كما قلت ـ أرى التاريخ لا يستجد له جديد على ظهر الأرض، يكاد يكرر نفسه، حتى قيل فى المثل الرومانى: " لا جديد تحت الشمس " وحتى قيل فى المثل العربى : كل خليل كنت خاللته لا ترك الله له واضحة كلهم أروغ من ثعلب ما أشبه الليلة بالبارحة نجىء إلى " عاد "، لِمَ هلكوا؟ كانت لديهم كبرياء غريبة، كان لديهم جبروت غريب، يقول الله جل شأنه: " وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون * قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين * قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين " . سبحان الله! نبى من أنبياء الله يخاطب بهذه اللهجة؟! إنه الكبر والجبروت " فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة " . هذا الجبروت انتهى بهم إلى أن نزل عليهم من السماء عذاب أودى بهم، كانوا عمالقة ـ وكما تجىء عاصفة فتطوّح برأس النخلة ـ كان هؤلاء يأتيهم العذاب من عند الله فيجلد بهم الأرض، وتطير منهم الأعناق، ويبقون على الثرى كأنهم أعجاز نخل منقعر!! قال تعالى: " كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر * إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر * تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر * فكيف كان عذابي ونذر " . نجىء إلى " ثمود " لم هلكوا وبادوا؟ ص _068(4/59)
كان لديهم جحود غريب، اقترحوا أن تجيئهم ناقة من الصخر، فانشق الصخر عن ناقة ـ كانت معجزة واضحة ـ "وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها " . جحدوا بعدما أتتهم البينات "وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون " . ثم إن الكلام يطول فى شمال الجزيرة حيث كانت الأيكة وقرى مدين وشعيب الذى يسمى خطيب الأنبياء، وكيف نصح قومه ألا يبخسوا الناس حقوقهم، وألا يفتاتوا عليهم، وأن بقية الله خير لهم، هذا إلى جانب القرى الشاذة التى استمرأت الفساد، وارتكبت فى ناديها المنكر، واقترفت الآثام. فالجنس العربى فى بداية تاريخه فسق عن أمر الله فضرب ضربة أطاحت به وانتهى أمره، ويقول القرآن الكريم فى سورة هود ـ وهى سورة تحدثت عن الأنبياء العرب " فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين * وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون " هذه مرحلة للجنس العربى، ثم جاءت مرحلة أخرى، انتهت العرب البائدة، واصطفى رب العالمين إنسانا مطهرا مبرءا مصونا نبيلا مجيدا، اختار محمدا، ورباه ليربى العرب به، وربى العرب به ليربى الناس جميعا بهم، وكانت المعجزة أن القبائل التى هلكت فى الأولين وباد تاريخها أصبحت بأثر هذا النبى المبارك وبالتربية الراشدة التى وضع أسسها واتضحت معالمها فى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تدوس أكفانها القديمة، وترتدى حلة قشيبة، وتخرج على الناس بمبادئ جديدة تقول: " إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع". ص _069(4/60)
خرجت بمبادئ جديدة يقول فيها رئيس الدولة أبو بكر رضى الله عنه: " أما بعد: أيها الناس فإنى قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوى عندى حتى أرجع إليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله " . ولذلك وقف بدوى فى بلاط كسرى ـ هو ربعى بن عامر ـ يقول للفرس ويقول لغير الفرس ممن ورثوا جبروت الملك، وفساد الحكم، واستبداد الفرد، وسيطرة العصبيات العمياء، يقول لهم: " إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام " . إن كلمة التوحيد وضعت أسسا مكينة لما يسمى فى عصرنا: حقوق الإنسان. هذه الحقوق جعلت رجلا ـ قهر الجبابرة وهزم الروم والفرس ـ كعمر بن الخطاب رضى الله عنه رأى قاتل أخيه فقال له ـ بطبيعة الإنسان الذى يرى قاتل أخيه، وقد أسلم ـ: والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم !! فيقول له الأعرابى: يا أمير المؤمنين أيمنعنى هذا حقى؟ قال: لا . هبنى أكرهك لكن حقك يصل إليك كاملا، لا دخل للكره ولا للحب فى محاباة أو ظلم أو إيثار " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون " ولذلك كانت الخلفية وراء ربعى بن عامر مشرفة عندما يقول للناس: جئنا نخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام!! ص _070(4/61)
كانت الخلفية ـ فعلا ـ مشرفة، لأن الناس تسامعوا أن عمر وأبا بكر من قبله، وأن الحكام المسلمين كانوا ـ فعلا ـ نماذج لتقوى الله، والسبب فى هذا الإسلام. هذا الإسلام جعل سادة الأمصار العربية من الأعاجم ، سأل الخليفة الأموى الوليد أو سليمان: مَن سيد البصرة؟ فلان. من سيد الكوفة؟ فلان. من سيد مصر؟ فلان. من سيد دمشق؟ فلان، كلهم كانوا أعاجم، ما عدا واحدا فقط كان عربيا!! ما الذى جعل الأعاجم يسودون؟ الإسلام الذى ألغى التفرقة العنصرية، وجعل الخلفاء يصلون وراء الحسن البصرى، وما كان عربيا، وجعلنا نتعلم كلنا من البخارى، وما كان عربيا، وجعلنا نحب صلاح الدين الكردى، وما كان عربيا! الحضارة العربية حضارة إنسانية، شارك فى صنعها فقهاء القرآن والسنة من كل جنس، حتى الأدب العربى شارك فى رفع رايته وتصفية ديباجته وإبراز جماله الفنى شعراء فيهم الرومى والفارسى والعربى. ومضت هذه الحضارة، لكن اشتبكت فى مسيرتها بالعداوات التقليدية، هل نحن اشترينا عداوة اليهود أو النصارى؟ لا، يقول التاريخ: لولا ظهور الإسلام لباد اليهود !! فإن اليهود آووا إلى بلاد الإسلام فى وجه الاضطهاد الذى نزل بهم فى كل مكان حلوا فيه. نحن ـ بطبيعة ديننا الفكرية ـ أصحاب سماحة، وأصحاب نظر عقلى، وأصحاب احترام للدليل، لكن عندما يعرض بعض الناس سلعا كاسدة أو مغشوشة فينصرف الناس عنها إلى صاحب سلع جيدة وبضائع نقية فإن صاحب البضائع المغشوشة يرجع بالحقد، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى " ص _071(4/62)
لقد مضى المسلمون ـ فى تاريخهم الطويل ـ يخدمون الإنسانية، ثم بدأ التاريخ الإسلامى يترنح، وبدأت الأمة الإسلامية تضطرب، إننى قرأت رأى ابن خلدون فى العرب، وهو رأى شديد، لكن يبدو أنه صحيح، فإن ابن خلدون يقول: " إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصيغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة " يستحيل أن ينهض العرب إلا بنبوة، يستحيل أن تقوم للعرب دولة إلا لشريعة سماوية، يستحيل أن يدعم للعرب كيان إلا بالإسلام، فإذا فرط العرب فى الإسلام فرطوا فى مجدهم، وفرطوا فى كيانهم، وفرطوا فى حياتهم وشرفهم، وأصبحوا ألعوبة فى أرض الله، بل أصبحوا أعداء لأنفسهم قبل أن يكون غيرهم عدوا لهم. ولقد نظرت إلى الأمة العربية فى عمرها الحاضر فوجدت أن برنامجا للارتداد العام وضع فى أوربا بشقيها: الشرقى الشيوعى، والغربى الصليبى، وضع هذا البرنامج لجعل المسلمين يرتدون عن دينهم، وأخذ هذا البرنامج يطبق بطريقة فيها دهاء ومكر. وأحب أن أقول: إن تطبيق هذا البرنامج يستدعى أولا: محاربة الأخلاق الإسلامية، محاربة التقاليد الإسلامية، نزع الولاء لله ورسوله وجعل الولاء لشىء آخر، وبدأ هذا التطبيق فعلا. عندما أنظر للعرب الآن أجد أعراض المرض ظهرت كلها عليهم . * كان فى " ليبيا " شعب إسلامى احتلت أرضه " إيطاليا " ولكنه بقيادة " عمر المختار " يقاوم، ثم جاء استقلال، فى ظل هذا الاستقلال يقاد إمام مسجد إلى السجن إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا!! أهذا استقلال؟ أم أن أيام عمر المختار وأيام المقاومة الإسلامية للاحتلال الإيطالي كانت أشرف؟ * كان فى " سوريا " شعب إسلامى احتلت أرضه " فرنسا " ومع ص _072(4/63)
ذاك فإن المقاومة الإسلامية استماتت فى استبقاء الإسلام، وجاء بعد ذلك استقلال، فى ظل هذا الاستقلال رفض البعث العربى أن يكون الإسلام دبن الدولة ! إذن ما يكون دين الدولة؟! شىء آخر غير الإسلام ! أهذا استقلال؟ أم أن المقاومة الإسلامية للاحتلال الفرنسى كانت أفضل؟ * واستمعنا إلى من يقول: تكون فلسطين علمانية فيها اليهود والنصارى والمسلمون!! أنا أرى أن فلسطين يوم أن ترتد عن الإسلام يكون وجودها تحت الحكم اليهودى أو وجودها كافرة شيئا يساوى بعضه البعض الآخر ! لا قيمة لاستقلال بدون إسلام، لا قيمة لنا إن لم ندخل فى الإسلام ونؤدى حق الله علينا. الذى حدث أن الاستعمار العالمى استمات فى أن يسلخ المسلمين عن دينهم، وأن يتوسل بحكام لا دين لهم كى يبلغ أهدافه، وظهرت الرذائل المخبوءة فى الجنس العربى ليسفك العرب دم بعضهم بالبعض الآخر على نحو غريب. كنت أقرأ من يومين معرة الاحتلال الإنجليزي فى بلدنا: " حادثة دنشواى" وقلت فى نفسى وأنا بين الضحك والبكاء: دنشواى ! دنشواى تمثل واحدا من الألف مما وقع فى السجن القلعة فى ظل جمال عبد الناصر، دنشواى تمثل واحدا من الألف مما وقع فى سجن القلعة وفى سجن أبى زعبل وفى سجن طرة، دنشواى تمثل واحدا من الألف مما وقع فى حلب وحماة وحمص ! ص _073(4/64)
إن الله أهلك عادا قديما لأنهم كانوا كما وصفهم الله " وإذا بطشتم بطشتم جبارين " فهذا البطش بطريق الجبروت ألم يظهر مرة أخرى فى دمشق والقاهرة فى ظل حكام لم يتقوا الله، وكانوا عملاء للاستعمار العالمى؟ هذا خط مشى فيه الاستعمار العالمى وأعانه عليه قوم آخرون من جلدتنا. أيها الإخوة: إن مصر ـ وأنا أعلم بحقيقة مصر وخطورة وضعها السياسى والاقتصادى والعالمى ـ كانت الدعامة فى نجاة العالم الإسلامى من الصليبية وحروبها فى العصور الوسطى، وكانت دعامة العالم الإسلامى عندما اجتاحت ألوية التتر بغداد ومضت جحافلهم تريد أن يظلم العالم كله أمام زحفها حتى اصطدمت بالجيش المصرى فى فلسطين وانهزم التتار. إن مصر هى العاصمة الثقافية للعالم الإسلامى، هى العاصمة الروحية للعالم الإسلامى، ولذلك فإن المؤامرات تخفى وتظهر حينا بعد حين كى ترتد مصر والعرب كلهم عن الإسلام. وشغل المسلمون بمحاقر الأمور، وتركوا دهاقين السياسة العالمية يرسمون خططهم وينفذونها فى صمت، فماذا كانت النتيجة؟ وجدنا الجامعة العربية تتفق مع إمبراطور الحبشة على أن يأخذ أرتريا وهى قطعة من أرض الإسلام، وأخذها وبدأ تنصيرها، كما بدأت سياسة تنصير عامة من آخر وادى النيل إلى القاهرة والإسكندرية. وكان مما جعله عبد الناصر لضرب الإسلام أن أوهن قوى الأزهر، وقوى الجماعات الإسلامية، ودعم الآخرين وهيأ لهم فرصا ضخمة للظهور والنجاح والتفوق. لعله قدر سابق، لعلها إرادة الله الرحمن الرحيم، لعلها مشيئة مالك القوى والإرادات أن مصر اعتصمت بحبل الله، وقررت أن تبقى على الإسلام. وهنا أقول بشىء من الصراحة والوضوح: إن مصر إسلامية شكلا وموضوعا، وإن مصر ستبقى أرض الإسلام وموئل تعاليمه ومثابة جنده، ص _074(4/65)
وستبقى راية الإسلام فيها، ولن يسمح بتة بتغيير التربة الإسلامية فى مصر، وكل من سولت له نفسه ـ فى أمريكا أو أوربا أو من الشيوعيين فى موسكو أو بكين ـ أن يصطنع من المؤامرات أو يفتعل. من الحركات ما يغير به الطبيعة الإسلامية لمصر فإنه لن يلقى إلا الفشل، وما دمنا أحياء، وما دام أبناؤنا من بعدنا، وما دام تلامذتنا من ورائنا فإن مصر ستبقى بلد الإسلام، وستنكسر أمواج الغزو على الشاطئ الصلب، وسيبقى هذا البلد للإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل، لن نسمح أبدا بأن تتحول مصر عن الإسلام، ولن تنجح المؤامرات التى تريد تحويل مصر عن الإسلام. ولذلك فإننا نؤكد هذه الحقيقة لدور مصر الإسلامى، ثم نقول: إن مصر ـ كأى بلد إسلامى آخر ـ احتضنت أقليات دينية، وستبقى أسعد الأقليات فى العالم الإسلامى ما دام الإسلام فى مصر، ولا ضمان للأقليات الدينية فى العالم الإسلامى إلا إيماننا بالله واعتصامنا بكتابه واتباعنا لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم . وكون الأقليات الدينية تحاول ـ بالاتصال بأمريكا وأوربا ـ أن يكون لها عز أو شأن، فإن ذلك لن ينجح قصدها ولن يرفع لها خسيسة، ويستحيل أن يبقى لها مكانها إلا فى وسط مصر المسلمة وكل بلد إسلامى يريد أن يوفى لربه ولتراثه ولدينه. ولنقلها صريحة : ليس فى مصر مكان لـ " سعد حدّاد " وليس فى مصر مكان لـ " يعقوب حنا " جديد، إن ممر الإسلامية ستبقى مصر الإسلامية. ص _075(4/66)
ولمناسبة الأحداث الأخيرة ذهبت وجملة المسئولين عن الدعوة الإسلامية من رجال الجماعات الإسلامية والهيئات الإسلامية إلى وزير الداخلية وتكلمنا معه وقدمنا له مطالبنا، ولأقل : إن المطالب أجيبت. حقيقة الأحداث: هناك ألفان وخمسمائة متر حاول بعض الناس اغتصابها ليبنوا عليها بدون إذن الدولة والشعب معبدا لغير المسلمين مع عدم حاجتهم تماما إلى هذا المعبد. تقرر نهائيا أن يبنى المسجد ومعهد دينى فى هذا المقر، وبقى على الأزهر أن يؤدى رسالته أو واجبه، وسيؤدى هذا، وستعين الجماعات الإسلامية على بقاء المكان للإسلام أما الذين قتلوا واعتدوا وأجرموا فسوف يأخذ القضاء العادل مجراه بينهم وعلى عجل، وشىء أخير وهو أن تجريد المعتدين من السلاح لابد منه، ولابد أن يأخذ دوره وامتداده، وقد انتهت الأمور إلى هذا. لكنى أنظر إلى الوضع بعد ذلك فأرى أن الأمة الإسلامية تحتاج إلى أن تعيد النظر فى الطريقة التى تفكر بها والطريقة التى تحيا بها، فإننا مذهولون عن المؤامرات الاستعمارية الكبرى التى تريد الإجهاز على ديننا والنيل منه، تفكيرنا سطحى، شغلنا بالتوافه، والأمر يحتاج إلى أن تعرف أمتنا ـ كما قلت ـ المؤامرات العالمية الكبرى لضرب الإسلام فى العالم الإسلامى وفى مصر بالذات !. ص _076(4/67)
وهذا لا يقتضى حماسة يوم ولا فصاحة خطيب، لا، هذا يقتضى سياسة مدروسة بعيدة المدى، فإن اليهود لما أرادوا اغتصاب فلسطين وضعوا خطة بعيدة المدى تنفذ على عشرات السنين، ولا أدرى ما الذى يجعل المسلمين يضعون خططا لأيام أو لأسابيع؟! السياسات البعيدة المدى لابد منها، لابد أن يكون لنا من نتعلم منه، ومن يشرف على نواحينا المادية والأدبية، ويحنو على الإسلام، ويتألم لألمه ويفكر بمشاعره وقضاياه، لابد من هذا كله. إن أمتنا الإسلامية تعيش فى العالم الآن وفيها غفلة غريبة، جاءت امرأة من الولايات المتحدة الأمريكية فى أوائل الأربعينات، وراحت إلى أسيوط ، وبدأت عملية تبشير، وحصيلة تبشيرها الآن مستعمرة من نحو عشرين فدانا فيها نحو ألفى رجل وامرأة دخلوا المسيحية على المذهب البروتستانتى ! المرأة ـ فى صمت ـ اشتغلت بأخذ اللقطاء وتربيتهم وتدريبهم وتعليمهم، وهم الآن يمثلون مستعمرة داخل أسيوط، لماذا يكون الفكر التبشيرى طويل الأمد، طويل البال، واسع الحيلة، بينما الفكر الدينى عند المسلمين طائش سريع ملتهب ويخمد على عجل؟ إن المسلمين يجب أن يكون لهم- فعلا- من يرسم لهم هذه السياسات الطويلة المدى ويبصرهم بيومهم وحاضرهم ومستقبلهم، يبصرهم بتاريخهم الغابر وما يستفاد منه من عبر. إن كل حكم ـ على أى شبر من أرض الإسلام ـ يخاصم الإسلام هو عميل مرتد يشتغل لحساب الشرق الشيوعى أو الغرب الصليبى، ، كلاهما الآن مسلح وذكى. مخاصمة الإسلام لا تجوز، الولاء كله للإسلام، والحب كله لله ولرسوله، وما عدا ذلك فهو تبع، نحن نريد أن يعلم القاصى والدانى أن مصر لن تكفر بالله، لن تهجر الإسلام، إننا لن نقبل عمالة لشرق أو لغرب. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _077(4/68)
الخطبة الثانية الحمد لله "وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد ". وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسى بتقوى الله. وأرى أيها الإخوة أن تنتهى المأساة التى يمر بها البلد، فلا داعى لإشعال الحرائق، ولا داعى للمضى فى فتن لا يعرف لها أول من آخر، وليس معنى هذا أن نسلم أعناقنا للجزارين !، بل نكون أذكياء فى الدفاع عن أنفسنا، حاذرين فى ألا تقع أقدامنا فى حبائل الغادرين الخونة. أيها الإخوة : إننا إن شاء الله بعد صلاة الجمعة سنصلى صلاة الغائب على من مات من المسلمين فى هذه المحنة، وسنجمع أيضا بعض التبرعات للمنكوبين الذين نالهم ما نالهم بعدما أخذوا غدرا. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . ص _078
" ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " عباد الله: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " أقم الصلاة ص _079
ص _080(4/69)
السورة التى أردت أن ألقى نظرات عليها ـ هذا اليوم وأياما أخرى إن شاء الله ـ هى سورة البقرة، وهى أطول سور القرآن الكريم، وأملؤها بالأحكام، وأحفلها بالعبر والهدايات روى عن أنس رضى الله عنه: " كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا يعنى عظم أى عظمت منزلته وأصبحت له مكانة، وذلك أن الحفظ قديما ليس كهيئتنا الآن، نحن أشرطة حية تحفظ القرآن الكريم أحرفا وألفاظا، أما الأولون فكانوا يحفظون القرآن الكريم على نحو آخر، كانوا يستعينون على حفظه بالعمل به، كانوا يستوعبون ما فيه من نور، يستبطنونه فى سرائرهم فهى به مشرقة، وهم به على درجة من الإيمان والصلاح والاستقامة يشركون بها الملأ الأعلى أحب أن أوجه النظر إلى خطأ شائع بين المسلمين، إنهم يظنون أن الآيات تجمع فى السورة من السور ويركم بعضها فوق بعض، وكما تنظر إلى دكان جمعت فيه السلع ورمى بعضها فوق البعض الآخر دون ترتيب أو ضبط أو تنسيق، بعض الناس يظن سور القرآن تجمعت الآيات فيها على هذا النحو: ركام من الأحكام ليس هناك ضابط ولا رابط فى حشده وسوقه، وهذا خطأ كبير. ولذلك اجتهدت أن القى نظرات على التفسير الموضوعى للقرآن الكريم من على هذا المنبر، وتفسير سورة البقرة سنأخذ فيه هذا المنهج: أن السورة كلها وحدة مرتبطة متناسقة، لها محور تدور عليه، ولها أول يمهد للآخر، وآخر يصدق الأول، ومهما طالت السورة فإن المعنى الذى نقرؤه الآن يطرد فى سور القرآن، ومن أول هذه السور سورة البقرة بينى وبين نفسى ـ وأنا أشرح القرآن الكريم وأفسره ـ سميتها ـ أى سورة البقرة ـ سورة (الأتقياء) ص _081(4/70)
وقد تسأل: لم سميت هذه السورة ـ بينك وبين نفسك ـ بهذه التسمية؟. والجواب: لأنى لاحظت ـ فعلا ـ أن السورة كلها تدور حول حقيقة التقوى ومعالمها وما يوصل إليها وأقسام الناس منها ومواقف الأولين والآخرين من حقيقة التقوى !. لابد من نظرة مجملة سريعة، ثم نظرة مفصلة قليلة، ثم نظرات جانبية مختلفة، فلننظر النظرة السريعة.. النظرة السريعة أن السورة بدأت تقول: " ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " . هذا القرآن بعيد عن الشبهات، لا تتسلل إليه ريبة، أما الكتب الأخرى فإن الريب تكتنفها.. إن الله صان هذا الوحى الخاتم، وجعله منزها عن أى شك، فما فيه حقائق مقطوع بها، يستحيل أن تكون فى هذا الكتاب عقائد أو عبادات أو معاملات: أو أخلاق أو أحكام جزئية أو كلية فيها شىء من الخلل "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ". أوجه النظر إلى كلمة (المتقين) فإن مفتاح السورة إنما تمسك به عندما تقف هنا وقفة متدبرة. أولا: من هم المتقون؟ الجواب " الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون " ، لكن ما التقوى بعد هذه الأوصاف المجملة للأتقياء؟. هنا أخذت السورة تفيض فى شرح التقوى، وأوجه النظر إلى أن السورة خمسين صفحة، وأنه ما من صفحة أو صفحتين إلا وكلمة "التقوى" ترد تقريبا.. ولأضرب الأمثلة: فى الصفحة الأولى "هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " بعد صفحة واحدة تجد التقوى أساسا فى العقيدة، أن توحد الله وتعبده عبادة مبرأة عن كل شرك شاعرا بأنه الذى خلقك وخلق أجدادك من قبلك ويخلق ص _082(4/71)
أولادك من بعدك: " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون" ثم بيّن أن الجنة أعدت للمتقين، ثم بيّن أن الأمة التى حملت الوحى قديما ـ وهى أمة بنى إسرائيل ـ سقطت عن مستوى التقوى، وبيّن الله جل شأنه لم سقطت عن هذا المستوى، وما الذى فعلته حتى فقدت خلق التقوى وأصبحت أمة فاجرة لا عهد لها ولا شرف، ثم بيّن للأمة التى استخلفت بعد ذلك وحملت مشعل الوحى كيف تتقى وما معالم التقوى فى سلوكها، فوجدنا آية ـ وسط السورة ـ جامعة تبين كيف تبلغ الأمة حقيقة التقوى: "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين " وبهذا أكد المعنى الأول وهو الإيمان بالغيب، فى أول السورة : " ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون " هنا يجئ نفس المعنى " وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون " ، " وأُولئِك هُمُ المُتَّقُونَ " لأن السورة بدأت: "هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " ! ألقوا معى بالكم فإن سورة من خمسين صفحة غاب عن كثير من الناس أنها تدور على محور واحد، وظنوها مجموعة من الآيات رُكم بعضها فوق بعض على غير نظام وإلى غير هدف، وهذا باطل. أخذت السورة ـ بعد ذلك ـ تبين للأمة التى أنشئت بعد بنى إسرائيل واؤتمنت على رسالات السماء كيف تتقى الله، وأوجه النظر هنا إلى أن أغلب آيات الأحكام فى هذه السورة قرن بالتقوى، خذ مثلا قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " . خذ مثلا قوله تعالى:" ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون " ، خذ مثلا قوله تعالى: "الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق و لا جدال في الحج و ما(4/72)
تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب " . ص _083
خذ مثلا قوله تعالى ـ وهو ينظم العلاقة فى البيت : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين "، حتى عند تنظيم الطلاق يقول:" وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم " ، ويظل الأمر بالتقوى ماشيا فى صفحات السورة حتى تصل إلى الصفحة الأخيرة وهو ينظم المعاملات بين الناس فيقول ـ بعد أكبر آية فى القرآن وهى آية الدَّين : " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه " ، تكررت كلمة "التَّقْوَى " فى السورة نحو أربعين مرة لأن الدعامة التى نهضت عليها السورة هى: " هُدًى لِلْمُتَّقِينَ "، وعندما قلت: إننى ـ بينى وبين نفسى ـ رمزت للسورة فى دماغى بأنها سورة (الأتقياء) إنما قصدت بذلك أن هذه السورة وضعت المواصفات لتقوى الله، ومعنى التقوى: أن تعرف الله، لكن أى معرفة؟. معرفة نظرية صورية؟ لا. التقوى أن تعرف الله معرفة تتحول إلى خشية نفسية وخوف عاطفى وإجلال وجدانى لله جل شأنه هل التقوى معرفة وخشية كلاهما داخل النفس البشرية فقط؟ لا، لابد أن يظهر ذلك فى السلوك: عبادة، معاملة، خلقا، لأن هذه السورة تتناول المجتمع، ففى ميدان العبادة يقال:" كتب عليكم الصيام "، وفى ميدان التشريع يقال: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص " ، وفى ميدان السياسة والدولة يقال: " كتب عليكم القتال " ، اللفظ واحد، يشمل تشريعات عبادية واجتماعية وسياسية، لأن التقوى لا تنقسم ولا تنفك، فالضمير التقى هو الضمير الذى يكون(4/73)
الإنسان به مؤتمنا على صلاته وصيامه، على قضائه بين الناس ص _084
وحكمه فى شئونهم، علي خصومته فهو ما يخاصم إلا لله، وما يحارب إلا لله، الكيان الإنسانى كله ما ينضج ولا يعظم ولا يكرم إلا بمقدار ما تصقله التقوى هذه نظرة مجملة على السورة، كأنى فى طائرة أطوف بمدينة كبيرة فأنا ألقى نظرة مجملة سريعة لكن عندما أبدأ فأنظر نظرة متفحصة متأنية لكل جانب أجد أن السورة ـ وهى تتحدث عن الأتقياء ـ بينت أن الناس ثلاث فرق : مؤمنون أتقياء، وكفار ملحدون فجرة، ومنافقون هم فى باطن أمرهم لا إيمان لهم، ولكنهم فى ظاهر أمرهم ـ ورعاية لمصالحهم ـ يلتحقون بركب المؤمنين!! آيتان أو ثلاث فى المتقين، آيتان فى الكافرين، ثلاث عشرة آية فى المنافقين أغلغل البصر قليلا ـ مع أول السورة لأجد هذه الكلمة فى وصف المتقين: "الذين يؤمنون بالغيب " ما هو الغيب؟ الغيب شىء وراء المحسوسمن قديم كان ناس يقولون: ما نؤمن إلا بالمادة، ما نؤمن إلا بالمحسوس، يجىء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم وفى يده عظم وهو يفتته ويُذريه فى الهواء وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا ؟ فقال: " نعم يميتك الله تعالى ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار " يستطع الذى خلق أولا أن يخلق أخيرا لكن ما هو منطق الجاهلى؟ هو ما يتردد الآن فى بعض الصحف من أن الإيمان بالغيب ليس تفكيرا عقليا ص _085(4/74)
إننا نؤمن بأن الله موجود، ونحن لا نحس الوجود الإلهى بأصابعنا، نحن لا نحس عقولنا بأصابعنا، نحن لا نحس أرواحنا بأصابعنا، فكيف نتصور أن رب المادة والروح يمكن أن يدرك بالحس العادى؟ هذا مستحيل، ولذلك كان الإيمان بالغيب شيئا مستهجنا عند من عبدوا الحس " كلا إن كتاب الفجار لفي سجين * و ما أدراك ما سجين * كتاب مرقوم * ويل يومئذ للمكذبين * الذين يكذبون بيوم الدين * و ما يكذب به إلا كل معتد أثيم * إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين " ، أى خرافات الماضى، والماضى يجب أن يترك، الإيمان بالله، الإيمان بالوحى أساطير الأولين!!. هذا الكلام تكرر كثيرا: " ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين " ، الكلام عن الماضى وأن الماضى خرافى وأن ما نرثه عن الأوائل هو الخرافات ليس كلاما جديدا من اختراع العصر الحاضر، لا، هذا كلام قديم، عندما كان الوحى الأعلى يتلى على الناس كان الملحدون يقولون نفس الكلام الذى يقال الآن فى بعض الصحف ! الإيمان بالغيب شىء لابد منه، لأننا نحن البشر ما نستطع أن نرى إلا أجساما معينة ووفق مسافات معينة فإن طالت المسافة عجزنا عن الرؤية، وإذا دقت الأجساد أو صغرت عجزنا عن الرؤية، والله أكبر وأجل من أن يرى أو يلمس أو يحس على هذا النحو الذى يفكر فيه الذين يصفون أنفسهم بالعلم ولا علم لهم. هذه السورة بدأت تصف المتقين وتبين أن المتقين الذين يؤمنون بالغيب يضمون إلى ذلك أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويؤمنون بما نزل أولا من كتب على أنبياء الله جميعا، وأن هذا الإيمان الشامل لابد منه لكل من يريد استيعاب الإيمان والتصديق بما عند الله. بدأت السورة بعد ذلك تتحدث عن بنى إسرائيل، والحديث عن بنى إسرائيل نوجه النظر إليه من وجوه: ص _086(4/75)
أول هذه الوجوه أن القوم كانوا فعلا ـ كما ذكرت السورة ـ قوما مفضَّلين: " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين " ، لكن إسرائيل الذى فضل وفضل أبناؤه على العالمين بم فضل وفضل أولاده؟ تقول السورة نفسها: إن إسرائيل ـ وهو يعقوب ـ كان نبيا يدعو إلى توحيد الله، وكانت دعوته امتدادا لدعوة جده إبراهيم، وكان هذا النداء بتوحيد الله، والحرص على هداية الناس به كان ذلك المثل الأعلى الذى يتوارثون تبليغه والتجمع عليه : "أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون " ، فهل أولاد إسرائيل الآن على مستوى الرسالة التى بلغها إسرائيل؟ لا ليسوا على المستوى، من الناحية النظرية الكتاب الذى بين أيديهم مشوه، ملىء بالمفاسد الخلقية، إن الذى يقرأ سفر (نشيد الإنشاد) الذى لسليمان ـ وهو موجود فى العهد القديم ـ يقرأ جملا عاهرة، وعبارات سيئة رديئة مليئة بالانحلال، مليئة بالدعوة إلى الفسق والإثم، وما يتصور فى كتاب مقدس أن ينطوى على هذه المآسى والمخازى. وسفر (التكوين) ـ وهو حجر الزاوية فى العهد القديم ـ سفر ملىء بوصف الله بالجهل والندم والتجسد والأكل مع البشر والمصارعة لبعض الخلق وما إلى ذلك مما لا يمكن أن يكون كلاما مقبولا ولا معقولا !. ثم إن فكرة إسرائيل التى قامت على أساسها الدولة فكرة مليئة بالشرور والغطرسة، وعندما كنت فى (المغرب) نقل لى صديق ـ يعرف الفرنسية ـ تصريحا لـ (بن غوريون) ـ وهو شيخ مشلول الآن بين يدى ربه ـ يقول: إن الله خلق الكون فى ستة أيام ولم يكن لديه وقت لإصلاحه فنحن الذين نتولى إصلاحه بدلا عن الله !. هذا الكلام سجله صديق لى فى مجلة سويسرية معروفة الاسم ورقم العدد. ماذا أثمر هذا الكلام؟. ص _087(4/76)
أثمر أن اليهود فى العالم كله من وراء اضطرابه النفسى والخلقى والاجتماعى، ولذلك فإن القرآن عندما خاطب هؤلاء قال لهم: دعوا ما لديكم واتبعوا النبى الجديد الذى يعلمكم، إن كانت لكم مكانة فيستحيل أن تبلغوها إلا إذا تبعتم الصالحين وإمام الصالحين محمد بن عبد الله: " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون * وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون " . هذه المعانى كما ذكرت لبنى إسرائيل ذكرت كذلك بالنسبة للمسلمين، ما معنى هذا؟. من إنصاف القرآن أنه عندما يشرح كيان الأمم الهالكة يذكر محامدها ومعايبها على سواء، وعندما يذكر الأمة التى تحمله وتبلغه ـ وهى الأمة الإسلامية ـ يذكرها كذلك بأنها إن لم تؤد ما عليها ضاعت، وإن لم تلتزم السنن المرسوم زاغت، ولذلك يقول للمسلمين : " كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون * فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون " ، ومعنى " فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ " أنكم إذا نسيتمونى فسأنساكم، إذا لم تؤدوا حقى فلا عهد لكم عندى، إذا لم تلتزموا منهج التقوى الذى رسمته ـ فى هذه السورة ـ فإنكم سينطبق عليكم ما ينطبق على الأمم قبلكم !. عندما نستعرض السورة تفصيلا سنجد أن التقوى شملت نظام الأسرة، نظام البيع والشراء، نظام الزواج والطلاق، نظام الرضاعة، نظام اليمين، نظام الإيلاء ـ وهو الحلف على شىء معين بالنسبة للمرأة. السورة هنا شملت أغلب الأحكام التى ورد بها القرآن الكريم، وبينت أن إقامة هذه الأحكام فى جملتها هى التى تجعل المجتمع الإسلامى تقيا، وتجعل الأمة الإسلامية جديرة برعاية الله. ص _088(4/77)
وكما بدأت السورة بالحديث عن الإيمان والتقوى وعن الإيمان بما ورد من كتب سابقة وبالمرسلين الذين جاءوا بهذه الكتب ختمت السورة بما بدئت به: " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " ثم ختمت بهذه الأدعية: " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين " ، هذا الختام أعقب تفصيلات اتصلت بأول السورة، أول السورة تحدث عن الإيمان بالغيب، ومن الإيمان بالغيب الإيمان بالبعث، ولذلك تجد فى أواخر السورة حديثا عن الإيمان بالغيب وهو يشرح البعث " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير " ، لكن الله عز وجل لا يطلب منه أن يرى كل إنسان معجزة مادية كى يعقل وكى يصدق وكى يؤمن، إنه يقول للإنسان: منحتك عقلا وأدلك على ما تعرفنى به: إنك عندما تأكل طعاما ميتا فاقد الحس ـ طبخ فى النار ـ فإن هذا الطعام الميت ـ بعد عدة ساعات ـ يتحول فى جسدك إلى كيان حى !! يتحول الطعام فى جسدك إلى خلايا حية، يتحول إلى عظم ولحم. ودم وأعصاب وشعر وأظافر! . كيف يتحول؟ لا ندرى، لكن الذى ندريه أن هذا الإنسان يولد ووزنه رطلان ـ تقريبا كيلو ـ ثم يتحول إلى مائة كيلو تقريبا !!. كيف تحول الجماد ـ الطعام ـ إلى حياة فى كياننا؟ هذا ما تشير إليه السورة عندما تتحدث(4/78)
عن هذا الملكوت الضخم " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون " ص _089
سورة البقرة، يمكن أن نقول بإجمال: إنها تحدثت عن التقوى فى أول صفحة منها ثم أخذت بعد ذلك تصف معالم التقوى، ووسائل بلوغ التقوى، ومن هم الأتقياء، وغير الأتقياء وأحوال الأمم القديمة، وأولها أمة بنى اسرائيل، كيف سقطت عن مستوى التقوى، كيف جاءت الأمة الإسلامية بعد ذلك، وكيف ورثت الوحى الأعلى، وكيف تتقى الله، كى تؤدى رسالته، وكى تكون أهلا للاستخلاف فى الأرض، وكيف تعتمد على الله فى إيمانها وعبادتها، وفى النهوض بالتكاليف التى حملتها.. إن الله جل شأنه عندما أمرنا أن نقوم بما أوجب علينا خلال هذه السورة المطولة من عبادات ومن أعمال ومن تكاليف فإنه كلفنا أن نبذل وسعنا، وطلب منا أن نستغفره فيما نخطىء فيه أو ننساه وطلب منا كى نثبت على الدين وكى نتمكن من العيش به أن نستمد منه العون فى الانتصار على الكافرين الذين يحاربون هذا الدين والمنتسبين إليه. هذه صورة سريعة لسورة البقرة، يحتاج الأمر بعد ذلك ـ كما قلت لكم ـ إلى صورة مفصلة لبعض أركان هذه السورة الكبرى. نرجو أن يوفقنا الله إلى تكوين هذه الصورة فى خطب أخرى. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. * * * ص _090(4/79)
الخطبة الثانية الحمد لله " الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد " وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فأريد أن أوجه النظر إلى شىء يتصل بحياة العرب والمسلمين فى عصرنا الحاضر، عندما اتجه الاستعمار العالمى إلى إقامة دولة لإسرائيل على أنقاض فلسطين كان يريد أن يبلغ هدفه عن طريقين: أولا: إرسال اليهود من نحو تسعين دولة إلى المقر الجديد الذى اختاره لهم. ثانيا: إشاعة الفوضى العقائدية والأخلاقية فى الكيان القريب، وفى الكيان الإسلامى العام، حتى لا يستطع هذا الكيان العربى بعد تمزيق عقائده وأخلاقه أن يقاوم السرطان الذى غرس داخله.. صار الأمران معا، عندما أوجد بنى إسرائيل على أنقاض فلسطين كان فى الوقت نفسه يُوجِد داخل أمتنا أشخاصا وهيئات وحكومات، وظيفتها أن تحطم عقائد الإيمان ومعاقد الفضيلة وتجعل الأمة لا إيمان لها ولا صلة لها بالله وبذلك تعجز عن مقاومة اليهود الذين جاءوا متعصبين لدينهم متمسكين بتوراتهم، لاحظت أن الصراع بين الإيمان والكفر أخذ طريقا ص _091(4/80)
طويلا، لكن شاء الله ـ رحمة بنا ومنة علينا ـ أن يجعل هذه الأمة تثوب إلى رشدها وترجع إلى ربها وتستمسك بصيحة التوحيد التى انبعثت خلال صفوفها المقاتلة، وأدرك أهل الشرق والغرب جميعا أن العرب فى معركتهم الأخيرة كانوا جنسا آخر لأن الإيمان عاد إلى قلوبهم، لأن تكبير الله طهر أفواههم، وجمع صفوفهم، ووحد كلمتهم، وأزال ما بينهم من جفوة . " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " . عباد الله: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " أقم الصلاة... ص _092(4/81)
نظرات في سورة البقرة (2) خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص 7/12/ 1973 الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا اله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فكتابنا العظيم الذى لا ريب فيه، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه مصدر اليقين الراسخ، والإيمان البالغ، وسائق للأدلة القوية والبراهين الدامغة!!. هذا الكتاب ناشر الإيمان فى الدنيا على وجهه الصحيح، ومصور الحقائق التى يحتاج الناس إليها فى معاشهم ومعادهم ! والناس بإزاء هذا الكتاب صنفان: صنف آمن بما جاء فيه، وصنف صد عنه وكفر به. وفى الصحائف الأولى من سورة البقرة حديث عن الصنفين معا: الصنف المؤمن التقى، الحريص على مرضاة ربه، الراغب فى ادخار شىء عنده يلقاه به يوم القيامة، هذا الصنف من الناس ندع الكلام فيه قليلا إلى صنف آخر. ص _093(4/82)
الصنف الآخر هم الذين كفروا، وقد قسمتهم سورة البقرة قسمين: القسم الأول: ظهر بكفره، واستعلن بضلاله، ولم يجد حرجا فى أن يكون مواجها للناس بما عنده. القسم الثانى: ظهر بالإيمان ولكنه أسر الكفر، ظهر بالهدى ولكنه أبطن الضلال، هذا الصنف سرعان ما تكشف الأيام عن خباياه، وتفضح سرائره، ويبدو للناس ما اكتتم من أمره، وهم المنافقون، والمنافقون كفار يقينا، إلا أنهم ـ كما قلت ـ لمصالح خاصة تظاهروا بغير ما فى باطنهم، وقد تحدث القرآن عنهم فى هذه السورة وفى غيرها، فى هذه السورة تناولهم بهذا الأسلوب: " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون * وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون " . ونقف وقفة قصيرة عند هذا التوضيح لموقف المنافقين والكفار، فقد تبين لنا من دراسة هؤلاء الكافرين أنهم صنفان: صنف يعرف الحقيقة، ويدرك أن رسل الله جاءوا بالبينات ولكنه لشهوة غالبة، لمال يحتاج إليه، لمنصب يحرص عليه، لطمع من أطماع الحياة العاجلة، لشىء من هذا أو ذاك يرفض أن يصدق وأن يستكين لله وأن يلبى مطالب الدين، هذا النوع من الناس يعرف الحقيقة ولكنه يرفض أن يصدق بها وأن يخضع لها !. فى هذا الصنف يقول الله عز وجل: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين " ، فى هذا الصنف يقول الله عز وجل " سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين " ، أساس هذا الكفر أن العقل سليم عرف الحقائق، ولكن القلب مريض رفض أن يذعن وأن يسلم هناك نوع آخر من الكفر أساسه أن العقل نفسه لا يحسن النظر، البصيرة نفسها لا تدرك الحقيقة، صاحب هذا النوع من الكفر أعمى لا يرى،(4/83)
ولكنه يكابر معتقدا أن ما عليه حق مع أنه ضال ص _094
وهذا مسلك المنافقين الذين يقال لهم: " لا تفسدوا في الأرض " فيكون جوابهم:" إنما نحن مصلحون " يقال لهم : " آمنوا كما آمن الناس " فيكون جوابهم:" أنؤمن كما آمن السفهاء " !!. هذا النوع من الناس - الذى يكفر لأن له وجهة نظر سيطرت عليه وحجبت عنه الحق، ونسجت على عينيه وقلبه غشاوة - يقول الله فيه: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا * ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا و اتخذوا آياتي و رسلي هزوا " ، ولن يخرج الكفر فى صوره عن هذين الصنفين صنف يعرف الحق ولكنه يكره أن يستجيب لندائه لغلبة الشهوات عليه، وصنف آخر طمست عينه وبصيرته فهو لا يرى إلا ضلاله وخباله. وكلا الصنفين ضال لأن الإيمان الحقيقى نضارة فى العقل تجعل المؤمن حسن الرؤية للحقائق فحوة وفى القلب تجعل المؤمن إذا عرف الحق انشرح له صدره، وأذعن له ضميره، واستقام به فعله، وصلحت به سريرته وعلانيته، ونحن ندعو الله أن يجعلنا من أولئك الذين يجمعون بين يقظة العقل ويقظة القلب. هذا النوع من الناس هو الذى بدأت سورة البقرة تتحدث عنه، وتبين أن الإيمان ليس تصورا نظريا فقط، ولكنه إلى جانب حسن التصور للحقائق استقامة خلقية " هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون " . صورت السورة مواقف أهل الحق ومواقف أهل الباطل من كافرين صرحاء ومن كافرين متوارين مداهنين مخادعين. ثم بدأت السورة تعلن ص _095(4/84)
طريق التقوى العام وهو أن الله واحد وأن محمدا نبيه، أما أن الله واحد ، فدليل ذلك: هذا الملكوت الضخم، من الذى خلقنا؟ من الذى خلق آباءنا؟ من الذى خلق الأرض التى نحيا فوقها ونأكل من ثمراتها ونعيش على خيراتها؟. الجواب " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " ، ليس لله ند، هو واحد أحد فرد صمد، هذا الإله الواحد له نبى خاتم، أحيا تراث النبيين من قبل، ولخصه أجمل تلخيص فى الكتاب الذى نزل عليه وهو القرآن الكريم الذى بدأ الحديث عنه فى أول السورة بأنه " لا ريب فيه "، هذا الكتاب الذى لا ريب فيه كتب له الخلود، هل كتب له الخلود على أنه وعاء للهدايات الصحيحة وانتهى الأمر عند هذا الحد؟. إن هذا الكتاب كتاب التحدى، والرسول الخاتم لابد أن يكون له إلى قيام الساعة إعجاز يدل عليه، يدل على أنه موفد من عند الله، مرسل إلى الخلائق كافة، ولذلك كان التحدى بهذا الكتاب، هذا الكتاب بين أيديكم من كان يستطيع أن يأتى بسورة منه فليفعل " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين " بدأت الصفحات الأولى فى السورة تعلن حقائق الإيمان بالله الواحد وبالنبى الخاتم عليه الصلاة والسلام، كان المفروض أن أولى الناس بتصديق هذا النبى والالتفاف به والاحتشاد حوله أهل الكتاب، لكن أهل الكتاب رفضوا الإيمان، ورفعوا راية التحدى والطغيان، وأخذوا يهاجمون النبوة الخاتمة هجوما أعمى، ولذلك كان نصف السورة الأول - تقريبا - يدور حول مواقف اليهود من هذا الدين ومن صاحبه، ولا تزال الأيام تكشف عن عظمة هذا الكتاب كأنما نزل يوم الناس هذا، لأن حديثه المستفيض عن بنى اسرائيل، وتقريعه المستمر لهم، وتنديده بآثامهم وأخلاقهم كل هذا يجعل القرآن الكريم كتاب الساعة(4/85)
وسيظل كذلك إلى قيام الساعة!!. ص _096
إن الكتاب تفسره الحوادث، وتكشف الأيام عن أن ما يحتاج الناس إليه فى شئونهم كلها قد تعرض له وقضى فيه. وصفت سورة البقرة بنى إسرائيل فذكرت: أولا أنهم لا يشكرون النعمة، وأنهم يجحدون فضل الله، وأن تمردهم على نعم الله التى نزلت عليهم سيحيط بهم اللعنة إلى قيام الساعة، يقول الله لبنى إسرائيل "وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " . ويقول موسى عليه السلام لبنى إسرائيل: " إن الله لا يحتاج إلى شكركم، ولكن هذا الشكر هو الذى يرشحكم للنعمة أن تنزل عليكم وأن تكثر فيكم.. فإنك أيها الإنسان ترفض أن تعطى فضلك من لا يحس به، ومن لا يشكرك عليه، ومن لا يهتم بما أسبغت عليه من ضر، فإنك تحرمه لأنك تقول فى نفسك لم أعطى من لا يشعر بى، ولاينوه بفضلى، ولا يذكرنى بخير، ولا يحس أن لى عليه يدا؟! " وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد " كانت أعراض بنى إسرائيل مستباحة لأن النساء يتركن لحياة مجهولة المستقبل فظيعة الصورة والغرض، أما البنون فتسفك دماؤهم وتقطع أعناقهم ويستراح منهم " وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم " . بينت السورة أن الله أنقذهم من هذا الذل، ونجاهم من هذا الهوان، والإنقاذ من الذل شىء عظيم، يقول أبو الطيب المتنبى : واحتمال الأذى ورؤية جانيه غذاء تضوى به الأجسام ص _097(4/86)
ذل من يغبط الذليل بعيش رُبّ عيش أخف منه الحِمام نجي الله بنى إسرائيل من هذا الهوان لكنهم جحدوا هذه النعمة ونسوا صاحبها، ولذلك يقول الله جل شأنه: " سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب " ثانيا: بعد أن بينت السورة أنهم لا يشكرون النعمة بينت أنهم لا يصدقون فى التوبة، فإن الله طلب منهم أن يسمعوا ويطيعوا، طلب منهم أن يسارعوا إلى مرضاة ربهم وإلى فعل الخيرات وترك المنكرات لكنهم وهنت عزائمهم وتبلدت مشاعرهم، وبلغ الأمر أن احتاجوا كى يأخذوا الدين بقوة، بحماس، برغبة، بإرادة واعية، احتاج الأمر إلى أن يرفع عليهم الطور: " وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون * ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين " ثالثا: بعد ذلك بينت السورة أن النفسية اليهودية معطوبة من عدة نواح، أول عطب فيها أنها تعصى الله عن تقصير لا عن قصور، عن تجاهل لا عن جهل، وهذا معنى قوله: " أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون " أى أن كفرهم بعد معرفة، أى أن زيغهم بعد إدراك، والذى يعصيك عن تقصير متعمد لا عن قصور غالب، الذى يعصيك عن تجاهل بقدرك لا عن جهل سيطر عليه جريمته أكبر !. لكن ما السبب فى هذا؟. السبب فى هذا: رابعا: أن غرورا غلبهم وملأ نفوسهم، زعموا أنهم أولاد الأنبياء، ص _098(4/87)
وأنهم ما داموا أولاد الأنبياء فإن مكانتهم لا ترتبط بعمل يتقدمون به ولا بتقوى تصبغ أخلاقهبم بالشرف: " وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون " ، ورد عليهم جل شأنه فبين أن الناس جميعا سواء عنده، وأن من أصلح العمل بلغ الشأن الرفيع، وأن من أفسد العمل سقطت مكانته: " بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " ، تناولت سورة البقرة بنى إسرائيل على هذا النحو، لكن يجئ سؤال لماذا يحكى القرآن الكريم هذه الأحداث الكثيرة علينا نحن المسلمين؟. والجواب: أن القرآن الكريم عندما يُشرح الأمم التى ماتت، وعندما يضع تحت المجهر المدنيات التى تفسخت والحضارات التى انهارت إنما يفعل ذلك ليبين ما هى الجراثيم التى فتكت بهذه الأمم وأسقطت تلك الحضارات، وذلك حتى تستفيد الأمة الأخيرة أو الأمة الإسلامية من مصارع الأولين فلا تسلك مسلكا يشبههم ولا تتخلق بخلق سبق أن وقع منهم، وقد حذر النبى صلى الله عليه وسلم تحذيرا بالغا وبيَّن أن الأمة سيغلبها التقليد الأعمى وربما تبعت مسالك من قبلها، جاء فى الحديث الصحيح: " لتتبعن سنن مَن كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ تبعتموهم. قلنا : يا رسول الله : اليهود والنصارى؟ قال: فمن " فى سورة البقرة قصة عن بنى إسرائيل ذكرها القرآن الكريم والمقصود بها تعليمنا نحن، فإن بنى إسرائيل ـ كما استمعتم ـ أخذ عليهم أنهم لم يشكروا النعمة، ولم يصدقوا التوبة، وأنهم اغتروا بجنسهم، وتعصبوا لما لديهم، ونسوا حقوق ربهم، ولم يلتفتوا إلى الصواب الذى عُرض عليهم، ص _099(4/88)
هذا كله ربما اتصل بالحياة الداخلية فى المجتمعات، لكن المجتمعات لا تحيا وحدها بل تحيا وسط عائلة دولية لها أفراد كثيرون، وكثيرا ما تصطدم الأمم بأمم أخرى فماذا يكون الموقف؟ وما السبب فى أن أمما تنهزم ثم تنتصر أو تنتصر ثم تهزم؟. هنا نجد سورة البقرة قد لخصت لنا فى حدود صفحة ونصف قصة أمة انهارت لأسباب ثم تراجعت إليها الحياة لأسباب، فما أسباب انهيار هذه الأمة؟ وما طريق ازدهارها وانتصارها؟. بدأ الكلام عن هذه الأمة فى قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " لم خرجوا؟ "حذر الموت " جبناء، لم يحسنوا الدفاع عن أرضهم تركوا الأرضي دون أن يدافعوا عنها بجرأة وجسارة، تركوها حذر الموت، العربى قديما كان يفضل أن تنهدم داره وتتحول أنقاضا دون أن يتركها نهبا لعدو، يقول سعد بن ناشب : سأغسل عنى العار بالسيف جالبا علىّ قضاء الله ما كان جالبا وأذهل عن دارى وأجعل هدمها لعرضى من باقى المذمة حاجبا لكن هذه الأمة تركت المدن وتركت الأرض دون دفاع حقيقى، ويبدو أن ذلك كان لأن القادة جبناء ليسوا قادة مقاومة، ولكنهم كانوا أمراء ترف، وكانوا ساسة لهو ولعب.. " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " خرجوا من ديارهم حذر الموت: " فقال لهم الله موتوا " التفسير الصحيح الذى اخترناه أن الله أماتهم أدبيا، أى عاشوا فى ص _100(4/89)
الدنيا لا كرامة لهم، لا شرف لهم، لا وزن لهم، وهذا هو الموت: "فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " لكن ما طريق الحياة؟. الإحياء هنا إحياء أدبى، وطريق الحياة الأدبية أمران: قتال وبذل ، قتال فى سبيل الله، وبذل للمال فى سبيل الله.. فى القتال فى سبيل الله تقول الآية التى تلى هذه الآية مباشرة " وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم " ، فى البذل فى سبيل الله تقول الآية التى تلى هذه الآية مباشرة " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون " إن طريق الحياة أمام الأمم بذل النفس وبذل المال. هذه قصة لم يذكر الله فيها أنها لبنى إسرائيل، لكن هذا الإجمال فى القصة أخذ عنوانه وحقيقته فى الآيات التى تلت هذه الآيات والتى استغرقت نحو صفحة بدأت بقوله تعالى ـ توضيحا وتفصيلا " ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا " خشى نبيهم أن يجبنوا كما جبنوا أولا فقال لهم: أخشى إن جاء ما تطلبون أن يفتضح كذبكم، وأن ينكشف جبنكم " قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " هل كانوا صادقين؟ لا " فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين " ، هذا أيضا إجمال، بدأ تفصيله وتوضيحه : " وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " فكان تساؤلهم " أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم " . تحتاج هذه الآية إلى شرح مطول، لم؟ لأن المال له فلسفة، وله فى الحياة أثر، اعتبر اليهود المال أساسا حقيقيا فى تقويم الأشخاص، وفى ص _101(4/90)
كسب الحياة، وفى تسخير الدنيا، وهذا الكلام فيه نصف الحق ونصف الباطل، فهم المسلمون أيام جهالتهم أن المال لا لزوم له، وأن الفقر دلالة التقوى وأحسن طريق إلى الوصول إلى الجنة!! وهذا الكلام فيه باطل كثير وضلال ضخم، والحق غير هذا وذاك، المال ـ لا شك ـ شديد الأثر فى الحياة الفردية والاجتماعية، وعندما سيطر اليهود عليه فى عالمنا المعاصر ساقوا مائتى مليون أمريكى كقطيع غنم، لأن المال فى أيدى البنوك والشركات التى يهيمن عليها اليهود، ولما فقد المسلمون المال أو لم يحسنوا كسبه عن طريق الاستثارة وذكاء الاستثمار عاشوا فى الدنيا غرباء على الحضارة. ما يجوز أن نظن فقد المال دليل تقوى، ومن الخيبة أن لا يحسن استغلاله فى هذه الدنيا لرفع دينك، وتقوية إيمانك، ومساندة مروءتك، وإعلاء حقك، كونك تُكبر الغنى لأنه غنى جهل، وكونك تتجرد من المال على أساس أن هذا طريق التقوى جهل، خذ المال وأحسن تسخيره فى خدمة دينك. وقد بُلى المسلمون بصنفين من الناس: فقراء لا يحسنون الكسب، وأغنياء يملكون ويبذلون فى الترف. هؤلاء اليهود قالوا لنبيهم: كيف تختار علينا ملكا رجلا فقيرا؟ فقال لهم: إنه قد يكون مُقلا فى ماله ولكنه خصب فى مواهبه، غنى فى خصائصه، سعة علمه، وسعة طاقته، وقدرته المادية والأدبية ترشحه لهذا، وفعلا أخذ هذا الملك يؤدى واجبه، فكيف يعالج شعبا سرت فيه اللذة وخدرته وأذهلته عن أمور كثيرة؟ أحيانا تبتلى الأمم بعبادة الهوى والملذات والمظاهر، والأمم التى تبتلى بعبادة الملذات والمظاهر لا تصلح لا فى الدفاع عن نفسها ولا فى تبليغ رسالتها. أراد طالوت أن يمحص الجيش الذى خرج كى يقاتل به " فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم " ص _102(4/91)
أتباع الشهوات الذين يسارعون إلى مرضاة أنفسهم رفضوا إطاعة الأمر. الذى صادم رغباتهم وقالوا: لا، لابد أن نشرب، تشربون؟ لا تصلحون فى ميدان الجندية، وإنما يصلح فى ميدان الجندية من يتحمل العطش، ومن يقدر على نفسه إذا تطلعت ويردها إذا تحركت. " فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه " كان هذا آخر اختبار " قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " نظروا إلى أنفسهم فوجدوا أنفسهم قلة، وعرفوا أن عدوهم كثير فى غدده وفى خططه، لكن منطق القتال عند حملة الحق لا يخضع للقلة ولا للكثرة، لا يخضع للمظاهر المادية: " قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " ودارت المعركة " قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء " ثم تقرر الآيات هذا القانون الاجتماعى : " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين" من الذى نزل عليه هذا الدرس ؟ " تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين " نزل على محمد عليه الصلاة والسلام، محمد عليه الصلاة والسلام الذى تلا على الناس خلال صفحة ونصف من سورة مطولة كيف أن الأمم تموت أدبيا إذا نكصت على أعقابها، وبخلت بأموالها، وكيف أنها تحيا أدبيا وماديا يوم تتشجع وتتوكل على الله وتواجه عدوها دون تهيب لقواه أو لقوى من تسانده، المهم أن تكون لك بالسماء صلة، ولك من الله ظهير، هذا هو الأساس " تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين " صفحة من هذه السورة تحمل تاريخا سياسيا واجتماعيا ملخصا، اختصرت فيه العبر، وعرضت على الناس فى هذا القرآن الذى بدأت السورة تتحدى به لأنه من عند الله. هذا بعض ما فى سورة البقرة من هدايات نعرضه ولنا عود إن شاء الله. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم..(4/92)
ص _103
الخطبة الثانية الحمد لله " الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد " وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فقد قرأت تساؤلا لبعض الصحفيين عن أسباب تخلف الأمة العربية والإسلامية، وهو تساؤل ليس جديدا، فأنا أحد الذين وجهوا هذا السؤال لأنفسهم ولغيرهم من ربع قرن تقريبا، وكانت كتاباتنا وخطاباتنا الدينية إجابة عن هذا السؤال، ولقد كشفت فيما كشفت عنه أن من أهم أسباب تخلف العرب والمسلمين أن نظما مستجدة هيمنت عليهم وصرفت أمورهم، ولقد قررنا أن الحكم الفردى لا شرف له، ولا دين له، لا حرية حيث يكون هناك استبداد سياسى، لا دين حيث يكون هناك استبداد سياسى، لا حضارة حيث يكون هناك استبداد سياسى، إننا معشر العرب والمسلمين أحوج أهل الأرض إلى الحرية التامة. أقول هذا باسم الإسلام، لأنى أعلم أن دينى ينتشر فى جو الحرية، وأنه يحتضر فى جو الاستبداد، دينى قائم على العقل، قائم على الإقناع، ولذلك فإن أعداءه يستميتون فى جعل الحريات تختنق وتتلاشى ليصلوا إلى تشويه هذا الدين والقضاء على أتباعه محليا وعالميا. إننا نحتاج ـ فى العالم كله ـ إلى جو حر، فإن الإسلام مظلوم، ص _104(4/93)
الناس لا تعرفه، الإسلام دين مجهول فى القارات الخمس، لقد جرى استفتاء فى إنجلترا وفرنسا وهولندا وفى دول أوربا فكانت الشعوب - من اليهود - ضدنا. والسبب أن ديننا غير معروف، قضايانا غير معروفة، ما يوجد لنا أولياء أمور يعرضون هذه القضايا الدينية والمدنية ويدافعون عنها ويستغلون العلم الكثير كى ينصروها. إن الاستبداد من عدة قرون قام على أفراد جهلة ظنوا أنفسهم علماء، أغبياء ظنوا أنفسهم أذكياء، قاصرين ظنوا أنفسهم أصحاب باع طويل ! فكانت مصارع الإسلام والمسلمين على أيديهم. إننا نريد الحرية، والكتاب الذين يتساءلون الآن ما سبب التخلف؟ هؤلاء كانوا خدما للاستبداد، ولذلك فأنا أنظر إلى تساؤلهم بريبة وباحتقار، إن كانوا حقا يريدون أن تنهض أمتنا فلنجتهد فى أن تسود أمتنا أجواء الحرية العقلية والدينية والمدنية. إننا ندرك أن أمتنا الآن فى حرب وأنها تواجه عدوا خسيسا غادرا من ورائه أحقاد القرون وتعصبات لا نهاية لسوادها، وأن الأمر يحتاج إلى أن تتماسك الأمة وراء قادتها، لكنى أقول: عندما ندرك النصر إن شاء الله أو عندما نصل إلى مرحلة حاسمة مع هذا العدو فلابد أن نبنى مجتمعنا على المعنى الذى أقول. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " ص _105
عباد الله: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " أقم الصلاة... ص _106(4/94)
نظرات في سورة البقرة (3) خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص 14/12/ 1973 الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا اله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد فحديث الجمعة اليوم نظرات أخيرة فى سورة البقرة ـ السورة التى وضعت منهاج التقوى، وشرحت حقيقته، وقسمت الناس بحسب عقائدهم ومسالكهم إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين. وسنرى ـ بإذن الله ـ كيف أن السطور الأولى فى هذه السورة قد تغلغل معناها، واطرد ما فيها من عبرة وحكمة إلى السطور الأخيرة فى هذه السورة المباركة. نبدأ بالجملة الأولى: " ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب " . الإيمان بالغيب نوعان: نوع يتحل بالسلوك، ونوع يتصل بالعقيدة فالذى يتصل بالسلوك يمس حينا المال، وحينا الحياة ص _107(4/95)
إن الله يأمر بالصدقة، والصدقة تجعل الإنسان ينزل عن المال الذى يملكه، والمال حبيب إلى الإنسان، عزيز عليه، فإذا قيل له: أنفق فى سبيل الله وسيخلف الله عليك فى المستقبل، فإن نفسه سوف تحدثه: لم أفقد ما بيدى اليوم فى انتظار ما قد يجىء خلفا فى الغد؟ فإذا قال الإنسان لنفسه: إن الله وعد وينبغى أن أثق فى أنه سبحانه سيخلف. ربما حدثته نفسه: عصفور فى اليد خير من عشرة على الشجرة!! هنا يتدخل الإيمان بالغيب فى النفقة أو فى الصدقة فيجعل الإنسان - لصدق إيمانه بربه وبوعده - يعطى ما بيده - الآن - موقنا بأن ما غاب لا بد أن يتحقق، وأن الخلف الذى لا وجود له - الآن - هو موجود حتما، وسوف يجىء، وهو معنى قوله تعالى: "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم " . هذا إيمان بالغيب يتصل بالسلوك، هناك أيضا إيمان بالغيب يتصل بالسلوك فى الجهاد أو فى الكفاح أساسه أن أصحاب الدعوات - غالبا - يبدأون سلوكهم أو سيرتهم أو دعايتهم فى وجه جبابرة يفرضون سلطانهم ويقذفون بالرهبة فى قلوب غيرهم، وعندما يتحرك أصحاب الحق وهم ضعاف فإن وساوس الشيطان ستتجه إليهم: ما الذى يجعلكم تناوشون الأقوياء وتتعرضون لبطشهم؟ وما الذى جعلكم تفقدون طمأنينتكم - الآن - فى انتظار نصر يعدكم الله به فى المستقبل، والمستقبل غيب لا ندرى متى يجىء أو متى يتحقق؟ هذا المعنى شرح فى سورة هود فى قوله تعالى - وهو يجعل الداعين إليه والمتحدثين باسمه يرقبون المستقبل بأمل وتفاءول : " وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون * ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون " . هذا الغيب إلى أن يجىء ربما تعرض حملة الحق لمتاعب فى أموالهم أو أجسادهم أو أعراضهم أو حقوقهم، لكن تجىء سورة البقرة فتقول: ليكن " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين(4/96)
خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب " ص _108
إنه قريب لأن كل آت محقق قريب مهما تطاول الزمن فى انتظاره، فما دام لا بد منه فهو قريب، ومن هنا جاء المثل العربى: " إن غدا لناظره قريب " هذا نوع من الإيمان بالغيب يتصل بالسلوك، فالإيمان برزق الله، والإيمان بنصر الله غيب ينبغى أن يطمئن إليه المحرومون والمحروبون. هناك إيمان بالغيب يتصل بالعقيدة، فإن الله عز وجل إنما يعرف بأوصافه، وأوصافه إنما تعرف بآثارها فيما بيننا، فإن الله ليس مادة تحس بالأيدى، ولكن الذات الأقدس يُعرف بآثاره بيننا، وقد صورت سورة البقرة الغيب من هذه الناحية فيما وقع من حوار بين نبى الله إبراهيم وبين أحد الجبابرة الذى كفر بالله لأنه ملك السلطة الواسعة والسطوة البالغة، وروت السورة القصة " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " فإبراهيم عرف ربه بصفاته، نحن الذين نؤمن بالله نعلم أن الله حاضر فى قلوب العارفين، وأن أنوار وجوده تتزاحم بها آفاق السماوات والأرض، ولكن هناك ناسا نُسجت على بصائرهم غشاوات سميكة، وعلى عيونهم حُجب غلاظ، هؤلاء يكفرون بالغيب، ويكفرون بوجود الله، وهؤلاء موجودون فى كل زمان ومكان، ولكن لا وزن لهم فى منطق العقل ولا فى منطق العلم. هذه كلمة الإيمان بالغيب، معناها يترقرق داخل صفحات السورة فى أماكن كثيرة شرحنا نماذج لها. بعد الإيمان بالغيب " ويقيمون الصلاة " . جاء ذكر الصلاة مرات فى هذه السورة، مرة فى أنها تعين على الخشية والتحمل: " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين " ص _109(4/97)
ومرة فى أنها من أركان البر والتقوى: " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون " وليست الصلاة عبادة فردية يناجى فيها المرء ربه وانتهى الأمر، لا. الصلاة فى الإسلام تعاون الجماعة فى تنظيم صفوفها والاحتشاد لها وبناء مساجدها وترويج هذه الشعيرة بحيث تشرف على بقية ساعات النهار والليل وبحيث تكون ظاهرة فى البرنامج الفردى والاجتماعى للأمة، ولذلك وجدنا هذه السورة تأمر بالصلاة فى الحرب والسلم على سواء : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين فإن خفتم " أى عند الحرب " فرجالا أو ركبانا " أى صلوا مشاة أو راكبين، فإذا انتهت الحرب " فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون " فالصلاة ركن اجتماعى، ولذلك - فى هذه السورة - بين جل شأنه أن كل محاولة لجعل المساجد ثانوية فى المجتمع، أو تدمير هذه المساجد بالحروب أو تأخير رتبتها بالفسوق، كل هذا ظلم فادح: "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين " هكذا تحدثت سورة البقرة، ثم أشارت السورة إلى أن بقاء المساجد عامرة بالمؤمنين هو أثر دفاع المؤمنين عن هذه الشعيرة وعن هذه البيوت التى رفعت قواعدها فى الدنيا بذكر الله، وهذا معنى قوله جل شأنه: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين " هذا المعنى شرح فى سورة أخرى " و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز " ص _110(4/98)
فإقام الصلاة شعيرة اجتماعية إلى جانب أنها شعيرة فردية، وقد تبين - فعلا - أن المسلمين لو أنهم أقاموا الصلوات اجتماعيا واهتم بها كيانهم العام لضبطوا الشهوات، وحبسوا الأهواء، وربوا جيلا يحكم غرائزه لا جيلا تحكمه غرائزه، وقد وصف الله الأجيال المنهارة التى ترنو إلى الدنايا، وتنكس رؤوسها وراء الضلالات والغوايات فقال: " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا " بعد هاتين الكلمتين " يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة " تأتى الصفة الثالثة " ومما رزقناهم ينفقون "النفقة عند أغلب العلماء ما دامت مقترنة بالصلاة فهى الزكاة المفروضة، لكن التحقيق العلمى أنها أوسع من الزكاة المفروضة، فإن الله يأمر - هنا - بأن كل مسلم ينفق مما رزقه الله، وحديثنا عن الإنفاق - الآن - يقتصر على ناحيتين اهتمت بهما السورة اهتماما شديدا. فقوله تعالى - فى أول السورة - " ومما رزقناهم ينفقون" جملة قصيرة، لكن استغرق الكلام عن الزكاة - فى آخر السورة - نحو ثلاث صفحات، بدأ بذكر الأجر العظيم، والأضعاف المضاعفة التى يكتبها الله لمن أنفق. ومن ناحية مهمة فإن الناس يتصورون - غالبا - أن العطاء حرمان، والحقيقة أن العطاء يشبه الشجرة عندما تقلم، تنقطع غصونها، وتقل أوراقها، ولكنها بعد حين تعود أكثر فروعا وأغزر أوراقا، كذلك العطاء يقلل ما لديك - الآن - ولكنه بعد قليل يضاعفه " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم " ص _111(4/99)
ناحية أخرى يهتم الإسلام بها جدا جدا وهى: احذر أن تعطى لتُذل، احذر أن تعطى لتكسير النفوس، احذر أن تمتنَّ بما أعطيت مهما كان كثيرا، احذر أن تطلب وجوه الناس بما تتصدق به " يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس " لا تكسر نفوس الناس بما تسديه إليهم من معروف فإن هذا العطاء هو حق الله عليك إذ موَّلك وكثَّر ما عندك. وقد ضرب القرآن مثلا غريبا لحاجة الإنسان إلى ثواب معروفه حاجة ماسة : " أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون " تفسير هذا المثل: تصور نفسك أعددت لشيخوختك - من الآن - بستانا كثير الشجر، كثير الثمر، مليئا بالخير، أعددته لعجزك أيام الشيخوخة وضعفك أيام الكبر وحاجة أولادك - فى هذه الآونة - إلى هذه الكفالة التى يسَّرها الله لك، أيسرك أن تجئ جائحة سماوية، أو أن تستعر نار محرقة فى جنبات البستان فتقوضه وتحوله إلى ركام؟ أى فجيعة تصيب من أدركته الشيخوخة عندما يفقد ماله؟ فجيعة ضخمة، إن الله يقول للإنسان: فجيعة هذا المخلوق فى ماله الذى ارتبط به أمله هى فجيعة المنان والمرائى فى صدقاته التى ضاع أجرها بالمن والأذى، بالرياء والمكاثرة جملة رابعة فى السورة تتغلغل ويطول تغلغل ما فى هذه الجملة من معان " والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " والحقيقة التى ينبغى أن يعلمها الناس أن نبينا محمدا - عليه الصلاة والسلام - عندما جاء وشرفه الله بهذا القرآن الكريم لم يجئ بدين يمكن أن يكون مع الأديان الأخرى فرعا لها أو فرعا مساويا لها، يعنى كما تقسم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف يمكن أن تقسم الأديان إلى يهودية ونصرانية وإسلام، لا. القرآن قال: رسالة محمد بالدين كله، بالإسلام كله!! ص _112(4/100)
إن هذه الرسالة استوعبت الحقائق التى تلقاها - من قبل - نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجمهور الأنبياء ولذلك - فى هذه السورة - يقول الله لليهود والنصارى - عندما يجادلون أهل الإسلام وأبناء القرآن - " وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " فكأن محمدا - عليه الصلاة والسلام - جاء يقول: أنا أكرر وأوكد وأشرح وأنقّى الوحى الذى نزل على الأنبياء من قبلى وأومن بهم واحدا واحدا وأدعو أمتى إلى هذا الإيمان لى وبمن سبقنى على أننا جميعا - معشر الأنبياء - نمثل وحدة كاملة. وروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أتى النبى صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبى صلى الله عليه وسلم فغضب فقال : " أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب والذى نفسى بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شىء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذى نفسى بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعنى " هذه الحقيقة هى التى تجعل السورة - هنا - تقول لأهل الكتاب - فى بساطة -: لماذا الجدل؟ " قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون " فنحن نؤمن بالأنبياء جميعا وبالكتب التى نزلت عليهم لا بكتب نسبت إليهم وهم أبرياء منها. ص _113(4/101)
هذه الجمل التى رسمت منهاج التقوى انضم إليها شىء لا بد من توجيه النظر إليه وهو أن كل حقيقة ليس لها حارس يمكن أن تضيع، وإذن لا بد من حراسة لهذه الحقائق التى جاء بها الإسلام. لكن ما ضرورة الحراسة؟ ضرورة الحراسة أن ناسا كثيرين لا تطيب خواطرهم، ولا يهدأ بالهم، ولا تستريح أعصابهم إلا إذا أتعبوا المسلمين وفتنوهم عن دينهم!! هذا النوع من الناس ما خلا منه عصر من العصور، فالذين يكفرون بالله كفرا أصليا، وينكرون وجوده بدءا كالماديين - الآن - والذين يؤمنون بالله إيمانا زائغا مزورا على نحو ما قال القرآن : "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " كلا الفريقين يستميت فى أن يقف حركة الإسلام، وأن يمنع الناس من أن يدخلوا فيه!! فماذا نصنع؟ أنترك هذه الحقائق للصوص العقائد ينهبونها ويأتون عليها ونعيش ضُلَّالا أم ندافع عنها؟ كان القرآن طبيعيا جدا عندما قال للناس: إن القتال صعب، وإن فرضه يشق على المكلفين لأنه تعب، لأنه ترك للأوطان حيث استراح الإنسان بين أهله وأولاده وعشرائه وأصدقائه، وتعريض للتلف، وفقدان الحياة بعضا أو كلا!! لكن الله جل شأنه يقول للإنسان: كذب العاطفة الأولى التى تجعلك تؤثر حياة الهدوء والراحة، كذب هذه العاطفة فإن الذين يؤثرون حياة الهدوء والراحة لا بد أن يفقدوها ويفقدوا شرفهم معها، قال تعالى : " كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون " وسورة البقرة نزل أغلبها فى السنتين الأوليين من الهجرة، وفى السنتين الأوليين من الهجرة كان اشتباك المشركين مع المؤمنين فى "بدر " وكان اشتباك المسلمين مع اليهود فى " بنى قينقاع " تقريبا، وسبق قبل ذلك اشتباك كلامى حول القبلة ص _114(4/102)
على كل حال حدث أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بسرية من السرايا أن ترصد الطرق، وأن تحصى على العدو حركاته، وأن توقع به بعض الخسائر إذا كان سيتجه إلى كذا وكذا... وفعلا أدت السرية واجبها، لكن شيئا حدث جعل عملها تكتنفه ريب ومجادلات، فقد وقع القتال فى آخر رجب، أى فى الشهر الحرام!! وهنا أحدث المشركون دعايات واسعة كهد محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه قالوا: إن هؤلاء قد استباحوا الشهر الحرام وقاتلوا فيه وصنعوا كذا وكذا ! وتضايق المسلمون وحزن النبى صلى الله عليه وسلم وكثر فى ذلك القيل والقال حتى نزل الوحى حاسما هذه الأقاويل ومؤيدا مسلك عبد الله بن جحش تجاه المشركين: " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل " كلمة " الفتنة " يظنها العوام أنها النميمة، لا. ليس هذا صحيحا، المقصود بالفتنة - هنا - الضغط على المستضعفين، ومحاولة ردهم عن دينهم، وتحويلهم بالقوة عن إيمانهم، والفتنة - هنا - هى ما يصنعه المستبدون بأهل الإيمان عندما ينظرون إليهم نظرة استضعاف، ويحاولون أن يبطشوا بهم حتى يردوهم عن دينهم، هذا معنى قوله تعالى: " والفتنة أكبر من القتل " أى أكبر من القتال، وأكبر من قتل الأنفس، لأنها قتل للمبادئ، وقتل للأرواح، وإحراج لأصحاب العقائد، وخنق للضمائر الحية، وترويع للمؤمنين، وذلك كله لا يجوز. وكشفت السورة أن الجهاد عندنا ليس جهاد عدوان ولكنه جهاد لرد العدوان: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " ، وفى هذه السورة أيضا " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم " ص _115(4/103)
وفى هذه السورة أيضا:" الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين " . ولهذه الحرب ضحاياها، وسوف يموت ناس ـ بغير شك ـ فى كل صراع بين الهدى والضلال، فى كل كفاح بين الحق والباطل، لكن ينبغى أن يعلم الأحياء جميعا ـ والمؤمنون خاصة ـ أن الذى يقتل فى سبيل الله لا ينتقل إلى موت إنما ينتقل إلى غرس، إلى حياة أرقى وأزكى وأنضر وأشرف!! ولذلك رفض الإسلام أن يسمى هؤلاء موتى، ورفض أن يقال إنهم أموات، ففى هذه السورة : " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون " ما أكثر الذى لا نشعر به فى دنيانا، إنك فى عالم وحدك من إحساسك، لكن أنت فى إحساسك الخاص لا تسمع دبيب كل متحرك على ظهر الأرض وهم ملايين الملايين، ولا تبصر إلا ما أمامك، لكن وجه الكرة الأرضية ـ وهى جزء تافه فى الوجود كله ـ مبسوط أمام البصير بكل شىء جل شأنه ! فنحن لا نشعر بالكثير، ولهذا لا نشعر بوجود الشهداء، لكنهم موجودون، وسيبقى وجودهم مغيبا حتى تبقى فترة الاختبار فى هذه الدنيا قائمة لا غش فيها، ثم يترك الناس هذه الدنيا ليلحق ميت الغد بميت اليوم، وهل الناس إلا كذلك؟ هكذا الدنيا، حقيقة لا بد منها، وإن كان أغلب الناس لا يعترفون بها ! وصدق الحسن البصرى عندما قال: ما رأيت حقا أشبه بباطل من الموت ! هو حق، ولكنه شبيه بالباطل، لماذا؟ لأن الناس لا تريد أن تعترف به ! سورة البقرة ـ التى تحدثنا فيها ثلاث جُمَع الآن ـ سورة متماسكة، ص _116(4/104)
وأنا أريد أن أنفى ما يتصوره البعض من أن سور القرآن ركمت فيها الآيات بطريقة عشوائية جزافية، لا. السور كلها نظمت على أساس أن لها محورا تدور عليه وهدفا، ولذلك فإن آخر أدعية هذه السورة ضم الإيمان بالله إلى الإيمان بالغيب إلى السلوك البشرى إلى الأخطاء التى تحتاج إلى مغفرة الله إلى الجهاد وانتظار المجاهدين أن ينصرهم الله على الكافرين... " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين " . هذا النصر هو تحقيق للحراسة على حقائق الدين التى يقوم بها جمهور المجاهدين. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _117(4/105)
الخطبة الثانية الحمد لله " الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد " . وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل. وأريد أن أشرح إشارة ظهرت ـ على هذا المنبر ـ فى الأسبوع الماضى… لقد قلت: إن الذين عاشوا سماسرة الاستبداد لا يجوز لهم أن يقترحوا إصلاحات لأمتنا. وسألنى البعض: ماذا تريد بهذه الإشارة؟ وأنا أجيب بشىء من التوضيح: إن بعض الناس ألفوا ـ من أنفسهم ـ جماعة أطلقوا عليها " التعمير الحضارى ". وعندما نظرت إلى أسماء الذين يشتغلون بالتعمير الحضارى ـ كما كونوا أنفسهم ـ وجدت جماعة من الماديين الذين يكفرون بالله وينكرون وجوده، وجماعة من الصليبيين الذين لا تنتهى أحقادهم على الإسلام ولا تخمد نارهم يوما!! إن أمتنا لا تدرى ـ جيدا ـ كم يحقد الآخرون عليها، ولو كنتم أصحاب حس دقيق لشعرتم بهذا الحقد... إن " بابا روما " ركب " حنطورا " فى " روما " وسار به كى يؤيد إجراءات التقشف. لم يا رجل؟ ما السبب فى هذه الإجراءات؟ من أجل اليهود، إن الحقد فى نفوس هؤلاء يجعلهم ـ لأنهم يكرهون محمدا وأمة محمد وأتباع محمد إلى آخر الدهر ـ يفعلون هذا!! ص _1 ص(4/106)
أما سألتم أنفسكم: ما الذى يجعل العالم يتحمل البلاء من أجل هؤلاء اليهود؟ السبب أنهم يكرهون محمدا والإسلام والمسلمين، وهذه الكراهية تأخذ طريقها بأساليب ملتوية. إننا نحن الذين ملأنا الدنيا بالحضارة، وعرفنا الناس حريات العقل والضمير. صحيح أننا تأخرنا فى القرون الأخيرة، لكن من الذى تقدم فى القرون الأخيرة؟ من يكفرون بالله؟ من يعبدون الطاغوت؟ من يعيشون أحلاس الشهوات؟ لا. إن الذى يعمر الحضارة الغاربة هم الذين يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم . أما الكفرة فلا يقبل منهم هذا، وقد رأينا هؤلاء كانوا يرسلون " زغاريد النساء " عندما كان الإيمان فى محنة فى بلدنا، وعندما كانت كلمة التكبير جريمة تلصق أصحابها بالهوان ! الآن يتحدثون عن الحضارة؟! هؤلاء آخر من يتكلم عن معالم الحضارة وعن التعمير الحضارى. أنا رجل مسلم أعرف أن ديننا كفل حرية الرأى، وأنه الدين الوحيد الذى أعطى " الأقليات " فى كنفه أن تبلغ مناصب كبيرة ! أما غيرنا فهو قاتل " الأقليات " وقاتل العقائد، وقاتل الحقائق!! فهل يجئ هؤلاء ـ وهم مرضى ـ ليجعلوا أنفسهم أطباء لأمة تنظر إليهم باحتقار؟!! هؤلاء كانوا سماسرة الاستبداد، وكانوا دعائم الالحاد، فلا نقبل منهم أن يعمروا حضارة، وليفعلوا ما يفعلون فنحن أيقاظ لهم. وسوف يبقى الإسلام بدعاته ورجاله وأمته إلى آخر الدهر يؤدون حق الله عليهم أداء كاملا إن شاء الله رب العالمين. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا لى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . ص _119
" ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ". عباد الله: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " . أقم الصلاة... ص _120(4/107)
الذِّكْرُ (حَقَائِقَهُ وَوَسَائلهُ) خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أشرف ما يمر بالخاطر، وأنضر ما يتحرك به اللسان، وأزكى ما يؤثر فى الأخلاق والمسالك هو ذكر الله سبحانه وتعالى.. فإن هذا الذكر يسدد خطوات الإنسان على طريق الحياة الصحيحة، ويبصره بالرسالة التى خلق من أجلها، ويجعله عبدا يرتفع فى مستواه إلى الملأ الأعلى.. والذكر ليس حالة عضوية، ولكنه حالة نفسية، ومعنى أنه ليس حالة عضوية أن الله يقول للإنسان: " واذكر ربك إذا نسيت "، ولم يقل له: واذكر ربك إذا سكت. السكوت قد يكون حركة اللسان إذا توقف عن الكلام، أما حالات الغفلة والذهول والنسيان فهى حالات نفسية، والمقصود من الذكر أن يعالج هذه الأحوال، ويجعل الإنسان فى حال من الصحو واليقظة والإحساس بوجود الله سبحانه وتعالى وبرقابته وبشهوده الذى لا يخبو سناه على كل ذرة فى الكون. وكما قالوا فى علم الطبيعة: أنه لا مجال للفراغ، بمعنى أن الإناء إذا كان ممتلئا بالماء فهو ممتلئ بالماء، وإذا خلا من الماء فهو ليس فارغا، إنه مملوء بالهواء، لا فراغ فى الطبيعة. ص _121(4/108)
كذلك أوعية القلوب، إن هذه الأوعية لا تعرف الفراغ، فإذا لم تملأها بذكر الله امتلأت بوساوس النفس وهواجس الشيطان، ومغريات الهوى، إذا لم تكن لديك الطاقة التى تحرك جوارحك فى طريق الاستقامة فإن الجوارح ستتحرك ولكن على طريق آخر فإنه لن يترك القلب فارغا بل سيتحرك بشىء ما، فإن لم يتحرك بذكر الله تحرك بغيره، وهذا معنى قوله تعالى : " و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه و كان أمره فرطا " . مَن لم يملأ الرحمن قلبه ملأ الشيطان قلبه، لا فراغ، إذن لابد من أن نراقب أنفسنا حتى يبقى الذكر دائما ملء قلوبنا، ولذلك كلفنا بهذا الذكر: " واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين " ، تضرعا : تذللا، خيفة : رهبة، دون الجهر من القول : أى لا تزعق، فإن الزعيق يضيع العقل. ولذلك عندما ذكر بعض الناس - وهم سائرون فى الصحراء - بصوت عال قال لهم النبى صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس ارْبَعُوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذى تدعونه سميع قريب " . بالغدو والآصال: الغدو: أول النهار، والآصال - جمع أصيل - آخر النهار. أى اذكر ربك باستمرار، وفى سورة أخرى: " فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون " وللذكر وسائل أو طرق شرعية، نبدأ فنتعرض لها ونحصى ما أقدرنا الله عليه. من هذه الوسائل: القرآن الكريم.. ص _122(4/109)
فإنه يذكر بالله وبعظمته وبقوته وبما ينبغى له، ويبنى الصلة به على الرغبة والرهبة والوعد والوعيد، وقد قال تعالى: " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب " ، وقال : " هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب ". فالقرآن كتاب تذكير إذا نسى الفكر، وكتاب إيقاظ إذا نام القلب، وكتاب تسديد على الطريق إذا اعوجت الخطى وزاغ الإنسان عن سواء السبيل. * من هذه الوسائل: الصلاة.. فالصلاة أساس لتذكير الإنسان بربه، فهى - أولا - أفعال تضمنت كل ما يحيا به العظيم، كان الناس قديما يحيون العظماء تارة باليد، وتارة بالوقوف، وتارة بالركوع، وتارة بالقعود المهذب، وتارة بالسجود. منع هذا كله للناس، وجمع هذا كله لله، فبين يدى الله يقوم الإنسان قانتا ويركع ويسجد ويجلس ويحيى ربه، وهو فى قيامه يقرأ القرآن، وفى ركوعه وسجوده يسبح بحمد الله العظيم أو بحمد الله الأعلى. ومثل هذه الصلوات تشبه أن تكون. وجبات روحية دسمة ضخمة توجه الإنسان طول يومه إلى أن يبقى فى حضرة ربه وإلى أن يستمد منه وإلى أن يتقيه ويخشاه، وفى هذا يقول الله تعالى : " وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون " . يعنى أن ما تورثه الصلاة من ذكر الله وما تتركه من طابع نقى مشرق على ضمير الإنسان يجعل الإنسان أنأى وأبعد من الإلمام بالدنايا والهبوط إلى الحضيض، لأن الصلاة وذكر الله أكبر من ذلك. * من هذه الوسائل: المأثورات.. وقد ورد أن النبى صلى الله عليه وسلم كانت له مأثورات كثيرة : قبل أن يأكل وبعد ص _123(4/110)
أن يأكل، قبل أن يلبس وبعد أن يلبس، قبل أن يذهب إلى الخلاء وبعد أن يذهب إلى الخلاء، قبل أن ينام وبعد أن ينام، كانت أحواله كلها ذكرا، فهو يتقلب فى أشعة متجددة لا تنتهى أقباسها، ولا تخمد أنفاسها من شعور موَّار بذكر الله لا ينتهى أبدا، وهى حياة انفرد بها خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام.. كان إذا نام قال: " باسمك ربى وضعت جنبى وبك أرفعه إن أمسكت نفسى فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين". وتارة ـ إذا نام ـ يقول : " اللهم إنى أسلمت وجهى إليك، وفوضت أمرى إليك، وألجأت ظهرى إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذى أنزلت ونبيك الذى أرسلت" . وكان إذا لبس ثوبا جديدا قال : " الحمد لله الذى كسانى هذا الثوب ورزقنيه من غير حول منى ولا قوة " . وكان إذا طعم قال: " الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين ". وكان إذا أصبح. قال: " أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله لا شريك له لا إله إلا هو وإليه النشور " وإذا أمسى قال: " أمسينا ص _124(4/111)
وأمسى الملك لله والحمد لله لا شريك له لا إله إلا هو وإليه المصير " . وله فى ذلك أذكار كتبت فى كتب مطولة، ولا يعرف - كما قلت - نظير لهذا الذكر الموصول. لكن يحتاج فهم الذكر إلى تأمل فى كتاب الله وفى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لماذا؟. لأن الأمم المتدينة عندما ترق صلتها بدينها تأخذ الدين مظهرا لا مخبرا أو لفظا لا معنى أو صورة لا حقيقة، ولذلك لم يكن هناك بد من العودة بالمسلمين إلى حقيقة الذكر حتى يعرفوا ما يطلب منهم شرعا. فمن الذكر - الذى هو ركن فى الدين - أن يحب الإنسان ربه أكثر مما يحب ماله عندما يطالب بإخراج الركن الشرعى وهو الزكاة. معنى ذكر الله هنا: أولا: ذكر أمره، ثانيا: ذكر وعده، فقد وعد بأن ما تخرجه من مال سيرتد إليك حتما لأنه قال: " وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين " . وحلف النبى صلى الله عليه وسلم فقال: " ما نقص مال عبد من صدقة.. " معنى هذا الذكر أنك يوم ترفض إخراج الركن فأنت أولا: لا تعترف بحق الله، وأنت ثانيا: تكذب وعده.. ولذلك قال جل شأنه: " يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون * وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين * ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون " . ص _125(4/112)
هذا ذكر من وراء إقامة الركن الشرعى الذى تنهض عليه المجتمعات الإسلامية من قديم، وهل انتشر الإلحاد فى الأرض إلا بسبب نسيان حق الله واشتعال نيران العداوة والبغضاء فى نفوس الفقراء والمحتاجين؟ هذا ذكر لابد منه، وطبعا يمتد هذا الذكر مع ضرورات العطاء، فعندما يكون هناك جهاد فى سبيل الله فإن الجهاد يكون بالنفس والمال، والمال معادل للروح، فالبخل به يكون مع غفلة عن الله أو مع نسيان للحق، فالذكر هنا حقيقة لابد من استصحابها شرعا. ولا يغنى عن الإنسان أن يقول كلمة يذكر بها ربه وهو كز يمنع حق الله من أن ينطلق من ماله أو من خزائنه إلى بيوت المحتاجين والفقراء والمساكين. * هناك ذكر لله فى إبان الجهاد، وهو ذكر لابد منه لحماية الأمة وللدفاع عن عقيدتها ولإعلاء رايتها. ما ضاع المسلمون فى مراحل هزائمهم المختلف - إلى يومنا هذا - إلا بعد أن غلبهم حب الدنيا وكراهية الموت، فإذا انهزم ذكر الله وأداء حقه والدفاع عن دينه والموت فى سبيله أمام حب الدنيا وكراهية الموت فقد ضاع الدين، وما وجدت أمتنا انهزمت قديما أو حديثا إلا إذا علا فى ضمير الفرد حبه لنفسه عن حبه لربه، حبه لحياته عن حبه لآخرته، ذكره لما يشتهى ونسيانه لما كلف به وطولب. كان سقوط " غرناطة " - آخر دولة لبنى الأحمر فى الأندلس - سقوطا يخزى المسلمين، لأن بعض الفدائيين من أهل النجدة والوفاء استماتوا فى إثارة الحمية الدينية وجعل المسلمين يقاتلون " فرناندو "، "إيزابيلا " المسيحيين اللذين قاتلا الأمة الإسلامية، ولكن الملك الصغير الذى كان يملك الأمة الإسلامية أمضى معاهدة التسليم، وكان إمضاء المعاهدة، صكا نهائيا بضياع الإسلام من الأندلس !. ذكر الله - هنا -نا - يمنع من هذا الضياع، يقول الله جل شأنه: ص _126(4/113)
" يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون " . قد يكون الذكر ركنا فى الدين عندما يهمس الشيطان فى قلبك: ارتكب هذه الحماقة، افعل هذا الشر، اسقط فى هذه الشهوة.. لكن نداء الإيمان يقول لك: اتق الله، إن الله قيوم على الناس، إن الله رقيب على العباد، احذر القائم على كل نفس بما كسبت. هذا المعنى هو قوله جل شأنه : " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا و على ربهم يتوكلون " . وهذا هو معنى الحديث الشريف: " سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله " ومن هؤلاء السبعة: " ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إنى أخاف الله " هناك ذكر - أيضا يكون ركنا فى الدين - وهو ما يجعلك تثق فى أن الله لن يخذلك وأنت تعمل له، لن يضيعك وأنت تتوكل عليه، لن يتركك وأنت تستجير به وتنتظر منه وهذا معنى قوله جل شأنه "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب " . الذكر هنا سناد حقيقى للتوكل على الله والاعتماد عليه والاستمداد منه والثقة فيه، إن الآخرين قد يعتمدون على بشر، والبشر يموتون أو يضعفون، لكنك تعتمد على الله، والله لا يموت " وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا " وجدت - وأنا أدرس الذكر فى القرآن الكريم - أن أساس الذكر ص _127(4/114)
هو معرفة الله بمعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العلى معرفة صحيحة، وقد لاحظت فى آيات التشريع وفى آيات وصف الكون حشدا من أسماء الله الحسنى ما ذكر إلا لحكمة، لأنه – فعلا - نوع من التذكير نحتاج إلى فهمه. مثلا المهاجر فى سبيل الله دفاعا عن دينه أو طلبا للنجاة بإيمانه أو سعيا لتكوين دولة للإسلام فى مكان آخر، ماذا يرجو هذا المهاجر؟. ينتظر من الله الخير، فى نفسه اشتياق إلى حالة أحسن وأمل فى أن الله يعطى العطاء الأوفى. نجد هذا المعنى مرتبطا باسم من أسماء الله الحسنى أو بصفة من صفاته العلى، قال تعالى: " والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا و إن الله لهو خير الرازقين * ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم " . الآيات وصفت رب العالمين بأنه خير الرازقين، وبأنه: عليم حليم. ثم مضت الآيات تقول: " ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور " . قد تهاجر - كما حدث للمسلمين - وتقاتل المشركين من موطنك الجديد، فكن عدلا وأد ما عليك، العفو من شيم الكرام، كن مع الآخرين على نحو ما ذكرت الآية من وصف لله:" إن الله لعفو غفور". ثم مضت الآيات تقول: " ذلك بأن الله يولج الليل فى النهار ويولج النهار فى الليل وأن الله سميع بصير " ، أجزاء من النهار تسود بعد أن كانت بيضاء وتتحول - إلى ليل فى الشتاء، وأجزاء من الليل كانت سوداء تبيض وتتحول إلى نهار فى الصيف!! هكذا رب الليل والنهار يصنع بالعالم " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل و أن الله سميع بصير". ثم تمضى الآيات فتقول: " ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلى الكبير " ص _128(4/115)
ثم يعرفك بالله عن طريق النظر فى الكون:" ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير * له ما في السماوات و ما في الأرض و إن الله لهو الغني الحميد * ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره و يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم ". وجدت أنه فى سبع آيات متتابعة نحو خمسة عشر اسما من أسماء الله الحسنى، تذكر به وبعظمته وبجلاله وبنعمته وبفضله. هنا عندما يوصف الكون والحياة، بينما نجد أن تعريف الناس بالله قد يوجد وهو يؤرخ للحياة، فمثلا يقول الله : " سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب " . كلمة:" ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته " شرط. ما جواب الشرط؟. جواب الشرط : يعاقبه الله. لكن الجواب هنا يحذف ويأتى اسم من أسماء الله أو صفة من صفات الله : " ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب". مثال آخر.. المسلمون يعتزون بدينهم، والكافرون يضحكون من هذا الاعتزاز: "إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم " فيكون الرد الإلهى:" ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم " . أصل الجواب: ومن يتوكل علي الله ينصره الله، يأخذ بيده، يعز جانبه.. طوى هذا الجواب، وذكر بعض أسمائه الحسنى:" ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم " !! . ص _129(4/116)
ختام الآيات القرآنية بأسماء الله الحسنى ليس ختاما عشوائيا، وإنما هو ختام مقصود به ربط الناس بربهم. وهذا تجده فى كثير من الآيات - بل كل آيات القرآن على هذا النحو - فمثلا فى سورة البقرة تقرأ قوله تعالى: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم * لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم * للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم * والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم " هنا صيغت الأحكام بطريقة تربط المسلمين بربهم، وتجعل رقابتهم لله مستمرة. فى اعتقادى لو أن أمتنا مشت مع كتابها فى وصفه لرب العزة، وفى تشريعه للعباد، وفى حديثه عن الكون وآفاق العالمين، وفى تذكيره للناس كل النحو الذى عرضناه لأمكن عمل منطق علمى أشرف من المنطق الذى يسود العالم الآن. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _130(4/117)
الخطبة الثانية الحمد لله " الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد " وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل. واعلموا أيها المسلمون أن ديننا هذا دين قيم، وأنه لا يعرف نفاسته البله والجهال، وإنما يحتاج إلى علماء راسخين ليدركوا حقائقه ويبصروا بها الناس.. فإن عبادة شريفة كذكر الله وقعت بين أصابع ملوثة أو أفكار هازلة فجعلت من الذكر ما يسمى - فى عرف بعض المغفلين - الرقص الدينى !. كيف يكون فى الإسلام رقص دينى؟ . هذا الدين الذى حرر العقل الإنسانى من الخرافة، وحرر القلب الإنسانى من الهوى، وحرر السلوك الإنسانى من العوج، هذا الدين الذى قال للإنسان: لا تضع قدمك إلا حيث تعرف : " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا " هذا الدين الذى قال هذا الكلام وجدنا الأمة التى تنتسب إليه تعمل على أساس أنها لن تحاسب لا على سمع ولا على بصر ولا على فؤاد، فهى تمشى ص _131(4/118)
تخبط خبط عشواء فى كل شىء، وحولت ذكر الله إلى بعض أوراد ما أنزل الله بها من سلطان أو إلى أحفال رقص يفقد الناس فيها عقولهم ووقارهم وكرامتهم. طبعا الإسلام لا يعرف هذا، لأن الآيات الأولى فيه تقول للإنسان: " اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ و ربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم " والعجيب أن الدين الذى يبدأ الآيات الأولى فيه بالقراءة والقلم يتحول أتباعه إلى جماهير من الأميين يزحمون العالم الثالث، لا ثقافة لهم، ولا ارتقاء، ولا نضارة فى الفكر، ولا تنظيم لمقدمات، ولا معرفة لمنطق طبيعى لماذا؟ لأنهم جهلوا دينهم. قلت:؟ أن السمك يموت إذا خرج من الماء - لأن حياته فى الماء - أو كما أن الإنسان يموت أو يختنق إذا ضاع منه الهواء - لأنه لا يحيا بدون هواء - فكذلك الإسلام، ما يمكن أن ينتعش وأن يقوى إلا بأدواته التى سمعتم أجزاء منها. ذكر الله فى الكون وفى الحياة وفى التاريخ وفى التشريع وفى كل شىء كيف: يختفى هذا الذكر ويتحول إلى شطح ونطح وقفز ووثب وعودة إلى الوثنيات التى يمثلها الهنود عبدة القردة وما إلى ذلك؟!. أحب أن أوجه النظر إلى أن النضج الفقهى أساس لفهم الإسلام ولعرضه، ممكن عندما ينضج العنب أن يحول إلى زبيب ويبقى له قدر من القيمة الغذائية بعد أن يجف، ممكن بعد أن ينضج البلح أن يتحول إلى تمر وتكون له قيمة غذائية جيدة وهو تمر، لكن ما الحال إذا جفف البلح وهو أخضر؟ لا يصلح.. ما الحال إذا جفف العنب قبل أن ينضج؟ لا يؤكل. هناك عقول إسلامية جففت قبل أن تنضج ص _132(4/119)
لا يمكن أن يصلح لشىء هذا النوع من الناس سواء كبر منصبه أو قل، لأن الإسلام علم لا ينتهى. كان نبى الإسلام عليه الصلاة والسلام نموذجا فريدا عندما قال كما أمره ربه -: ."رب زدني علما " ، وموسى عليه السلام - وهو من أولى العزم قيل له هناك من يعرف أكثر منك. اجتهد الرجل وذهب وهو يقول " لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا " ما أزهد المسلمين فى العلم، ما أقل عناية المسلمين بالعلم، ما أشيع الخرافات والأوهام بين المسلمين الذكر الحقيقى ليس شقشقة لسان، وليس عمل الفم وهو يمضغ الكلام، إنما الذكر الحقيقى لله: قلب ينبض بمشاعر الرغبة والرهبة، ويمشى على الأرض وهو يرنو إلى السماء، يخشى ربه ويرجو منه الوقار، وينتظر عنده الخير، ويؤمل فى الدار الآخرة يوم اللقاء. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ". عباد الله: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " أقم الصلاة ص _133(4/120)
نَفَحات الرَّحمَةِ وبُشرَياتِ الخَير خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فقد كان سلفنا الأول مرتبطا بالقرآن الكريم على نحو يجدى عليه فى الدنيا والآخرة، كان إذا قرأه أو سمعه تدبره، فنزلت الآية على عقله هدى وضياء، ونزلت على قلبه بردا وسلاما، ولا يزال من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين يقرأون القرآن على هذا النحو. إن الله فاوت بين الناس فيما منحهم من مواهبه، قد تكون هناك أصوات حسنة، وقد تكون هناك أصوات معتادة، الذى هدى إلى ألفاظ الأذان من صحابة النبى عليه الصلاة والسلام رجل وضىء القلب، عظيم الإيمان، بلغ من صفائه أن نضح قلبه بإلهام من الوحى الأعلى، ومع ذلك فإن كلمات الأذان - كما عرضت على النبى عليه الصلاة والسلام - تخير لها عليه الصلاة والسلام من يؤديها بصوت رقيق، فاختار بلال بن أبى رباح وقال: " فإنه أندى صوتا " . ص _134(4/121)
والقرآن الكريم يقرؤه الكثيرون، ولعل البعض أن يكون أندى صوتا من الآخر، هذه مواهب، ولعل البعض يكون بعمق إخلاصه، وصدق أدائه، وحلاوة ترتيله أسبق إلى القلوب، فهو يملؤها خشوعا لله، واستجابة لتوجيهاته، وكما قيل: الخط الحسن يزيد الحق وضوحا، والكتاب المطبوع طبعا حسنا يمكن أن يعرض فيه الحق عرضا مغريا بالقبول. هذا شىء نذكره بين يدى كلام عن أثر القرآن فى نفوس المستمعين. قرأت أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه خرج يعس بالمدينة ذات ليلة، فمر بدار رجل من المسلمين، فوافقه قائما يصلى، فوقف يستمع قراءته فقرأ " والطور " حتى بلغ "إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع" قال: قسم - ورب الكعبة - حق. فنزل عن حماره - هكذا يقول ابن إلى الدنيا - واستند إلى حائط، فمكث مليا ثم رجع إلى منزله، فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه . هذا رجل رقيق القلب، شديد الإحساس بخشية الله، شديد التكبير لما يقع منه من أخطاء، فهو يظن أن أخطاءه جبل إذا انهد على رأسه أودى به، فهو لذلك هياب من الوعيد الإلهى. هذا شىء ينبغى أن يذكره المسلمون عندما يستمعون إلى القرآن، وتمر بهم آيات كثيرة فيها الوعد الشديد ومع ذلك فكأن القلوب مغلقة بالرصاص أو بالحديد لا يخشع أحد، ولا يكترث أحد، كأن القرآن يتلى بين من لا يعى ندع سيدنا عمر بن الحطاب رضى الله عنه وخشيته لله عز وجل التى جعلته يمرض عندما أحس كأن لفحا من الوعيد الإلهى قد يصيبه مع أنه رجل من المبشرين بالجنة، ندع هذا لنرى كلاما آخر فيه بشريات، فالناس تحب البشريات أكثر مما تحب عناصر الرهبة والتخويف ص _135(4/122)
يروى الحاكم عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنه قال: إن فى سورة النساء لخمس آيات ما يسرنى أن لى بها الدنيا وما فيها: "إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما " و " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما " و "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما " و " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " و "ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " وقال ابن عباس رضى الله عنهما: ثمان آيات فى سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت: " يريد الله ليبين لكم"، " والله يريد أن يتوب عليكم " ، "يريد الله أن يخفف عنكم " ، " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم "، " إن الله لا يغفر أن يشرك به "، " إن الله لا يظلم مثقال ذرة "، "ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه "، " ما يفعل الله بعذابكم " . وعندما كنت أخطب فى مسجد عمرو بن العاص كنت قد وصلت إلى هذه الآيات فيما أذكر، وأظننى شرحتها أو أحصيتها، فقلت: نعاود الحديث فى نفحات الرحمة، وبشريات الخير، وآفاق الأمل التى نحتاج إليها، لعلها تدفعنا إلى أن نقبل على ربنا، وأن نطيع أوامره ونسير على صراطه المستقيم. ونحن نشرح بإيجاز هذه الآيات دون ترتيب، وإنما نريد أن نتبع المعنى، ونريد أن نأخذ الثمرات ما اقترب منها لأيدينا. آية " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " تجعلنا نصحح خطأ شائعا بين الناس وهو أن كل معصية هى دون الشرك. ص _136(4/123)
وهذا كلام يحتاج إلى تصحيح وتنقيح، لماذا؟ لأن هناك معاصى قد تكون مساوية للشرك تماما، وقد تكون أشد منه. أولا: ما هو الشرك؟ أن يؤمن بعض الناس بالله، ويؤمنوا مع ذلك بآلهة أخرى يستشفع بها إليه، يزعمونها أولادا، يزعمونها آباء، يزعمونها ملائكة كجبريل ارتفعوا به ـ وهو روح القدس ـ إلى أن يكون إلها. هذا شرك، لكن ألا ترون أن هذه المعصية الكبيرة التى لا تغتفر هى دون الإلحاد فى الألوهية؟ واحد شيوعى، أو واحد من المنتسبين إلى الحضارة المادية فى الغرب يقول: لا إله، هل هذا مشرك؟ هذا ليس بمشرك، هذا معطل، هذا شر من المشرك، ومعصيته وإن كانت شركا أو مساوية للشرك فلا غفران لها بتاتا. هناك شىء آخر يساوى الشرك تماما وهو رفض مبدأ السمع والطاعة، أو رفض مبدأ الخضوع لله، إبليس كان يعرف أن الله موجود ، وكان يعرف أن الله واحد، ولكنه ـ مقبوحا مطرودا ـ قال لله: لا أطيعك، لا أسمع أمرك، لا أنفذ لك طلبا، فهو يعرف الله، ويعرف أنه واحد، ويكلم الله، لكن أى كلام؟ كلام من رفض مبدأ السمع والطاعة. ديننا يسمى الإسلام، ومعنى الإسلام: التسليم لله، الاستسلام لتوجيهات الله، ليس لى مقترحات أغير بها أمر الله أو نهيه، معنى الإسلام: الاستسلام والخضوع، فليست لى إرادة أمام إرادة الله، وفى الحديث: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " . فمن رفض مبدأ السمع والطاعة فهو مساو للمشركين تماما، ولذلك قال علماؤنا ـ وصدقوا فيما قالوا ـ: إن من رفض واجبا، أو استباح ص _137(4/124)
محرما فإنه خرج بهذا عن مبدأ السمع والطاعة، جحوده للواجبات، واستباحته للمحرمات تجعله منسلخا عن الإسلام. فمن قال: إن عقوبة الزنا وحشية، أو إن عقوبة السرقة وحشية فهذا القائل انسلخ عن مبدأ السمع والطاعة، وأصبح زميلا لإبليس فى رفضه لأوامر الله. إذاً التدين الحق: إيمان بالله الواحد، وإقامة العلاقة به على مبدأ السمع والطاعة. هنا شىء، قد تقوم العلاقة على مبدأ السمع والطاعة، ولكن ينهزم الإنسان أمام شهوة غالبة، أو أمام عقبة طارئة، أو تنزلق قدمه فى طريق لم يحسن السير فيها ، أو ما إلى ذلك من أنواع المخالفات. ما دام مبدأ السمع والطاعة مقررا فى نفس المسلم فإن أخطاءه لا تخرجه عن دين الله، ولنضرب لذلك مثلا.. روى البخارى فى صحيحه عن عمر بن الخطاب أن رجلا على عهد النبى صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان النبى صلى الله عليه وسلم قد جلده فى الشراب، فأتى به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما اكثر ما يؤتى به، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : " لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله " . أنا عندما قرأت الحديث ترددت فيه، وبدأت أغلغل البصر فى معناه ولا أدرى، أسأل نفسى: كيف يحب الله ورسوله ثم يشرب الخمر؟! وبدأت أدرس، وأتتبع التجارب، وأذكر أحوال الناس قديما وحديثا، ثم انتهيت إلى ما أذكره لكم، وهو أن بعض الناس قد يتعطل من إرادته شىء خطير يسبب الإدمان، يقول الطبيب لمن يشرب الدخان: ضررك وموتك فى هذا، ومع ذلك يشرب، وقد رأيت أحد الشيوخ ص _138(4/125)
الكبار - وهو من بلدنا - أصيب بشلل، فذهبت إليه، وسمعته يرجو الطبيب - وقد حرم عليه التدخين تحريما باتا - أن يأذن له فى سيجارة أو فى سيجارتين، والدكتور يأبى، والشيخ يرجو ويتوسل ويلح!! فاستغربت ثم علمت أن الإدمان قد يعطل شيئا أو يصيب جانبا فى المخ بالشلل فما يحسن الإنسان التصرف وقلت يوما لرجل يسكر: لم لا تدع السكر؟ فبكى وقال: ادع الله لى فأدركت أن الرجل مؤمن وأن مشيئته معطلة، وتذكرت ما روى عن عيسى عليه السلام ".. ولا تنظروا فى ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا فى ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس مبتل ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية " وتذكرت أن رجلا فى جند سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه أخذ متهما بسكر - وله شعر يدل على أنه يعشق الخمر - وحبس فى بيت سعد، فلما هاجت ريح الجهاد ، ودارت رحى المعركة، كاد الرجل يجن فى سجنه، وتوسل إلى امرأة سعد يقول لها : هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: أن تخلين عنى وتعيرنى البلقاء - وهى فرس سعد - فلله على إن سلمنى الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلى فى قيدى، فأبت، فقال: كفى حزنا أن ترتدى الخيل بالقنا وأترك مشدودا على وثاقيا إذا قمت عنانى الحديد وأغلقت مصارع دونى قد تصم المناديا فرقت له امرأة سعد وأطلقته وأعطته البلقاء فرس سعد فركبها وحمل على المشركين. ص _139(4/126)
المهم فى هذا أن الرجل قال كلاما من أثر إدمانه للسكر، وهو قد تاب، وتاب الله عليه، والآية تقول: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " لكن ما معنى كلمة " لمن يشاء " ؟ هل هى محاباة؟ أولا: من حق رب العالمين أن يعطى دون أن يقف بشر ليقول له: لم؟ هو الملك، ما دخلك أنت؟ لكن الحقيقة أن المقصود بكلمة " لمن يشاء " أنه عليم بالناس، بطوايا صدورهم، بحنايا قلوبهم، عليم بالشخص الذى صدرت عنه المعصية، هل كان مغلوبا على أمره؟ هل كانت هناك ملابسات تخفف الحكم عليه؟ الله هو العليم بالناس، وهو الذى يدرى بدقة من هو أهل مغفرته، ومن هو أهل طرده من رحمته، وعلى هذا نفهم معنى الحديث القدسى " يا ابن آدم إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك ولا أبالى، يا ابن آدم لو أتيتنى بقراب الأرض خطايا ثم لقيتنى لا تشرك بى شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة " . هذا الحديث محكوم بأن هذا عبد يدعو ويرجو ويؤمن ويعرف ربه معرفة حسنة، ولكن قد تقع منه أخطاء يسكب الدمع عليها، ويتألم لانزلاقه إليها، فهو مسلم، ولا شك فى إسلامه إن الذى يجزم بطرده من رحمة الله هذا الذى يكفر بالله، وينكر وجوده، أو يشرك بالله، أو يجحد معلوما من الدين بالضرورة، أو يستبيح محرما رفض الإسلام أن يقع الناس فيه، أو يسقط واجبات أمر الله العباد أن يؤدوها، أو يرفض مبدأ السمع والطاعة ص _140(4/127)
هذا أساس للآيات الخمس التى ذكرها عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، ثم تجئ الآيات الأخرى بعد ذلك مكملة للمعنى الذى درنا حوله الآن. الآية الأولى من الآيات الخمس "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما " . ما هى الكبيرة؟ الكبيرة ما ورد فى الإسلام مقرونا بلعن، أو مقرونا بوعيد شديد، أو مقرونا بعقاب فيه رهبة وفيه تخويف، هذه هى الكبيرة. والكبائر كثيرة، فإذا برئ الإنسان من هذه الكبائر وابتعد عنها، ثم وقعت منه صغائر - والصغائر كثيرة - فإن الله يغفر لعباده الصغائر فضلا منه "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما " . وهذا يجعل أدب الإسلام يسيطر علينا عندما نرى بعض المخطئين، فما يجوز أن نتهمهم بالفسوق والكفر لأنهم ارتكبوا أشياء هى صغائر، وهذه الصغائر مغتفرة يوم يجتنبون الكبائر. والآية الأخرى : " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما " . ما أظن أحدا يخاف من الله ظلما، فإن الله عدل، وإذا سألتنى قلت: والله نحن نخاف من العدل، لأننا إذا عوملنا بالعدل ما ننجو من العقاب، ماذا لو قيل لك: أنت أطعت، وأنا أطعمت وسقيت وكسوت وآويت؟ فبقدر ما كسوتك وآويتك وأطعمتك وسقيتك تذهب العبادات التى عبدتنى بها، وتبقى عريان بعد ذلك تحتاج إلى الفضل الإلهى !! إننا لو عوملنا بالعدل هلكنا، لأننا فى الحقيقة فقراء إلى فضل الله، وإلى عفو الله، وإلى رحمة الله، وإلى مغفرة الله، ممكن جدا أن نعامل بالعدل فتطيش كفتنا ويضيع عملنا، فنحن من ناحية العدل موقنون بأن الله عدل، ولكن الحاجة الملحة هى أن نكون أهلا لفضل الله وعفوه ورحمته، وهذا العفو، وهذه الرحمة ما يلقاها متكبر. ص _141(4/128)
وأنا أنبه المتدينين إلى أن يكونوا أصحاب قلوب رقيقة خصوصا مع من لا يزالون فى الظلمات، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم " حدث أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا يتألى علىّ أن لا أغفر لفلان، فإنى قد غفرت لفلان وأحبطت عملك " هذا سببه أن بعض المتعبدين عنده قسوة غريبة، أو يظن أنه ببعض العبادات - التى قام بها هو - ، قد ملك على الله خزائن الرحمة وأبواب الجنة ! وهذا خطأ فاحش، وإلى هذا يشير ابن عطاء الله السكندرى فى حكمته: " معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا ". الآية الأخرى: " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " ليس فى الإسلام أكثر من أن الإنسان إذا اتسخ أن يغسل نفسه، وقلب الإنسان كبدنه، فكما أن البدن - على ظهر الأرض - يتعرض للغبار ولأتربة الجو، وكما أن هناك أجهزة للعرق وللفضلات تجعل هذا الجسم محتاجا باستمرار إلى التطهير والتنقية فكذلك القلب الإنسانى يحتاج باستمرار إلى التطهير. وعندما تخطئ لا تذهب إلى بشر لتقول له: أنا أخطأت فاغفر لى - كما يوجد فى بعض الديانات - لا، أنت أخطأت أنت الذى ترجع إلى ربك وتصطلح على سيدك، وتستأنف حياة أنقى وأرقى. الآية الخامسة : " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما " هذه الآية كشفت عن مكانة النبى صلى الله عليه وسلم وأن استغفاره للمخطئين باب عظيم إلى التوبة عليهم ورضوان الله الذى ينتظر لهم، كان المنافقون - كما ص _142(4/129)
قال الله - : " وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون * سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين " لكن المفروض أن المؤمن يجىء إلى الله وإلى الرسول عليه الصلاة والسلام - وكان ذلك فى حياته صلى الله عليه وسلم - فيسأل ربه الرضا، ويطلب من نبيه صلى الله عليه وسلم أن يغفر الله له. وقد كان النبى عليه الصلاة والسلام يدعو لأهل الطاعات، فإذا جاءه رجل بزكاة دعا له تنفيذا لأمر الله : " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم " . كلمة " وصل عليهم " أى ادع لهم، فعن عبد الله بن أبى أوفى رضى الله عنهما قال: " كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا أتاه رجل بصدقة قال: اللهم صلِّ على آل فلان، فأتاه أبى فقال: اللهم صل على آل أبى أوفى " ، ومعنى الصلاة: المغفرة والبركة والثناء ورفعة الدرجة. هذه هى الآيات الخمس التى اتفق ابن مسعود رضى الله عنه مع ابن عباس رضى الله عنهما على أنها من مفاتيح الرجاء ومن أبواب الرحمة، وزاد ابن عباس رضى الله عنهما ثلاث آيات متتابعات هى : " يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم " . القرآن الكريم نزل ليجعل الأمة الإسلامية امتدادا للنبوات القديمة - لنوح وموسى وعيسى - فى العقائد وأصول الإيمان ومكارم الأخلاق، أما الفروع الفقهية، والشرائع العملية فقد قال الله تعالى: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " . ص _143(4/130)
قد تختلف الأديان من ناحية الفروع، أما الأركان من ناحية الأصول فهى متفقة، فأتباع موسى غير يهود العصر الحاضر، وأتباع عسى غير نصارى العصر الحاضر، يهود ونصارى العصر الحاضر صلتهم بموسى وعيسى صفر، أما نحن فأتباع موسى وعيسى ومحمد عليهم جميعا الصلاة والسلام. والآية الثانية : " والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما " . الله جل جلاله فى دينه ومراده من خلقه وهديه وأمره ونهيه إنما يريد أن يرفع مستوانا، وأن يزكى سرائرنا، وأن يبيض صحائفنا، أما غيره فيريد أن يزيغ بنا، وأن نعوج عن الحق، وأن نلوث بالأقذاء بواطننا، وأن يبعدنا عن ربنا وولى نعمتنا. الآية الثالثة :" يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا " . رعاية للضعف البشرى، رعاية لأننا خلقنا من طينة هذه الأرض، رعاية لما يغلب غرائزنا من نزوات السوء، رعاية لذلك كله عاملنا رب العالمين بهذه السماحة، يضاعف الحسنات، ويغفر السيئات، ويغفر ما دون الشرك، ويفعل الكثير رحمة منه بعباده: "ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم " . أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _144(4/131)
الخطبة الثانية الحمد لله موفق العاملين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولى المؤمنين، وأشهد أن محمدا رسول الله سيد الأنبياء والمرسلين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل. أيها الإخوة: نريد وقد تحدثنا عن الذنب ومغفرته، والعصيان والتوبة منه، نريد أن يعرف المسلمون شيئا عن طبيعة الطاعة وطبيعة المعصية فى ديننا كما فسر ذلك المشتغلون بالتربية. لماذا أشرح هذا؟ لأن المخادعة بالدين أو بأداء الشعائر الشكلية أصبح شيئا فى أخلاق المسلمين الآن، لنضرب مثلا: الشح رذيلة، البخل معصية، وفى الحديث: " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، ! واتقوا الشح لإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " . وهل انتشرت الشيوعية وانتشر ضلال كثير فى الأرض إلا لأن المبتلين بالفقر لم يجدوا عونا مسعفا من المبتلين بالغنى، لم يجدوا معاملة عادلة إن عملوا ولا إعانة سخية إن تعطلوا. البخل رذيلة، فكيف نتخلى عن هذه الرذيلة؟ ص _145(4/132)
بالكرم، لا توبة منها إلا بالكرم، كيف؟ بتدريب النفس على العطاء، لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم.. " . تكلف العطاء تكن يوما ما كريما، قاوم شح نفسك تكن يوما ما كريما، فإذا حدث أن رجلا قال: الشح رذيلة والبخل معصية، والعلاج أن أصوم غدا وبعد غد وأصوم ثلاثة أيام من كل شهر. لا يصلح هذا، فإن هذا تغطية للمرض وليس إزالة للمرض، الكبر مرض والعناد مرض، كيف يزولان؟ أن تكون سمحا، وأن ترفض العناد، وأن تزهد فى الجدل، لكن إذا بقيت عنيدا ومجادلا فهل يغنى عنك أنك تصلى كثيرا أو تصوم كثيرا؟ لا، المرض كما هو، كل ما حدث أن الوساخة النفسية غطيت ببعض الأوراق حتى لا تراها العين، ولكن الذى يعلم السر وأخفى يعرف نفسك. من هنا يجب أن نتعلم كيف نربى أنفسنا، وكيف نبتعد عن كثير من الخطايا والهنات التى لا تليق بالمؤمنين، والتى لا يغطيها ـ عند الله ـ أن تكثر الصلاة أو تكثر الصيام، إنما تقبل الصلاة يوم تكون ممحاة ، تمحو سوء القول وسوء العمل، وفحش القول وفحش العمل، وردئ الخلق وردئ السلوك، عندئذ تكون الصلاة تطهيرا ومغفرة، أما انحناء الجسد وقيامه فإن هذا ما يصنع شيئا لتطهير الإنسان. نحن نريد أن نعرض الإسلام بأخلاقنا وأحوالنا عرضا حسنا، لأن التدين الشكلى أساء إلى ديننا وأساء إلى سمعتنا، إن أسلافنا أتقنوا لغة لم يعرفوا غيرها: الخلق !! الخلق لغة عملية، اتقنوا هذه اللغة فانفتحت لهم البلاد ودان لهم الناس، صاحب الخلق يملك الكثير، لكن يوم يتحول الدين إلى شكليات فإن أصحابه لن ينالوا شيئا به، ولن يكسبوا خيرا من ورائه، ولن يسدوا إليه يدا حسنة فى شرح الصدور به ودك حصون الضلال باسمه . ص _146(4/133)
نريد أن نعرف ديننا معرفة صالحة، وأن تكون أخلاقنا وأعمالنا شرحا عمليا صالحا لهذا الدين الذى شرفنا الله به. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " . عباد الله: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " . أقم الصلاة... ص _147
نظرات في سورة النساء (1) العناصر الخمسة التى تتكون منها سورة النساء خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص 15/3/ 1974م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإننا نقف اليوم وقفة استهداء وتدبر أمام سورة النساء، وسورة النساء سورة مدنية، وهى السورة الثالثة فى المصحف الشريف. وعلى عادتنا فى التفسير الموضوعى نحاول أن نلتقط صورة سريعة لهذه السورة المباركة، ونحاول أن نجمع ملامحها ونقرب معانيها فى هذه اللحظات القصار التى نؤدى فيها الخطبة. ص _148(4/134)
بدأت السورة بقول الله جل شأنه : "بسم الله الرحمن الرحيم: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيبا تفيد هذه الآية أن الازدواج طبيعة الأحياء، ففى عالم النبات يوجد الذكر والأنثى، وفى عالم الحيوان يوجد الذكر والأنثى، بل إن القرآن الكريم وجه النظر إلى أن المادة نفسها تقوم على الازدواج، قال تعالى: "ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون " وظاهر من هذا الازدواج أن بقاء الإنسانية والحيوانية وامتداد العمران بهذا التكامل بين الذكورة والأنوثة، كأن الأجناس المختلفة ما تمتد جيلا بعد جيل إلا عن هذا الطريق - طريق التلاقى والازدواج: " سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ". ولا يبقى متفردا بوجوده غير محتاج إلى آخر - لأن ذاته تفردت بوجود أرقى من كل ما نفكر فيه - إلا الله جل شأنه الذى " لم يلد و لم يولد * و لم يكن له كفوا أحد ". أما بقية الخلائق فإنها تقوم على هذا الازدواج، فإن الإنسان يألف جنسه، ويعيش معه، وعن هذه المعايشة بين جنسين أو بين فردين من جنس واحد كتم امتداد الوجود. والنظرة العامة لهذه السورة تجعلنا نلتقط عدة معان شاملة، يمكن أن نقول: إن الصفحات الخمس أو الست الأولى فى هذه السورة تتحدث جميعا عن قضايا الأسرة. ثم بعد حديث عن العقيدة والأخلاق، وبعد تنبيه إلى ضرورة تخليص النفس من الغش والرياء يبدأ فى السورة حديث آخر عن أهل الكتاب، يبدأ هذا الحديث من قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل * والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا " وأهل الكتاب الذين تحدثت عنهم هذه السورة: يهود ونصارى، ولكلا الجنسين خصائص برزت عندما تحدث القرآن عن كلا الفريقين على حدة. ص _149(4/135)
ثم نجده حديثا ـ بعد ذلك ـ عن المنافقين، وحديثا آخر عن ضعاف الإيمان.. وما الذى يبرز النفاق ويكشف خبايا الخادعين؟. وما الذى يَعْجِم أعواد المؤمنين ويبين الصلب منها والهش؟. أمران: الجهاد فى سبيل الله، والحكم بما أنزل الله. وقد دارت السورة بعد ذلك على هذين الأمرين اللذين يكشفان نفاق المنافقين وضعف الضعفاء. هذه سورة النساء بإجمال.. يمكن أن نجمل العناصر التى تكونت منها سورة النساء فى هذه العناصر الخمسة: 1ـ حديث عن الأسرة وقضاياها، أخذ الجزء الأول من السورة فى نحو ست صفحات. 2ـ حديث عن أهل الكتاب من يهود ونصارى، أخذ ما يلى الحديث عن الأسرة، وخُتمت به السورة فى حديث عن النصرانية و مزاعمها. 3ـ حديث عن المنافقين وعن ضعفاء الإيمان. 4ـ حديث عن الجهاد فى سبيل الله. 5ـ حديث عن الحكم بما أنزل الله. قلنا: إن الفائدة من الدراسة الموضوعية لسور القرآن الكريم أنها تعطيك فكرة عجلى عن السورة بحيث إذا رجعت إلى نفسك وأخذت تتلو كتاب ربك وتتدبر ما أودع الله فيه من هدايات تعرف أين تسير وما الذى يواجهك، فإن من العجز الذى وقع فيه بعض المفسرين والقراء أنهم ظنوا ص _150(4/136)
آيات القرآن الكريم رُكم بعضها فوق البعض الآخر دون رباط واضح ودون خطة بينة !. وهذا من العجز فى تدبر القرآن والقصور فى إدراك معانيه ومغازيه. إننا بحاجة إلى تدبر سورة النساء خصوصا هذه الأيام لِمَ؟ لأن أوائل السورة تحدثت عن قوانين الأسرة وقضاياها وعلاقة المرأة بالرجل. وظاهر أن الإسلام يرفض الرهبانية، ظاهر أن الإسلام لا يرى أن الغريزة الجنسية رجس من عمل الشيطان كما تحدثت بعض الديانات!!. الإسلام يرى ـ وهو دين الفطرة ـ أن الزواج عبادة، وأن علاقة الرجل بامرأته علاقة طبيعية ينبغى أن تصان فى إطار من تعاليم الشريعة ونطاق من حدود الله. تصور بعض الناس أن الغريزة الجنسية يجب أن تكبح إلى الأبد وأن تقهر داخل تعليمات مشددة من رهبانية قاسية، هذا التصور ينكره الإسلام، والأساس فى هذا أن طبيعة الفضيلة العموم والنفع. بمعنى أنك تقول: الصدق فضيلة، فإذا عم الصدق ارتقى الناس وانتفعوا. الأمانة فضيلة، فإذا عمَّت الأمانة ارتقى الناس وانتفعوا.. فإذا قلت مع القاصرين: الرهبانية فضيلة، فإذا عمّت الرهبانية باد الجنس البشرى وتلاشى. فلا فضيلة إذن فى هذه الرهبانية لأن نهايتها أن تقهر البشر فى حرب لا معنى لها. إنما قام الإسلام على عمل جميل وهو ضبط الغرائز البشرية، وضبط الغرائز البشرية مسألة معقولة ومعروفة، فإن الماء يروى الظمآن ويحفظ الحياة، وهو بالنسبة إلى الأرض يروى الأرض ويحيل جدبها خصبا. لكن متى يكون الماء كذلك؟. يوم يؤخذ بقدر وتوضع له أنظمة.. ص _151(4/137)
الغرائز الجنسية كذلك، إذا أطلقت فى فيضان مدمر قتلت البشر، أما إذا وُضع لها نظام مضبوط معقول كانت مصدر حياة للناس، وقد نظم الإسلام الغريزة الجنسية فلم يطلقها ليتحول البشر إلى حيوانات، ولم يقيدها التقييد الذى يبيد البشرية أو يجعل النفاق الجنسى علامة فيها والشذوذ المستقبح شارة لها، بل أباح الزواج ورحب به، وهشّ له، وأعان عليه بكل جهده. وكما أباح الإسلام الزواج أباح التعدد لِمَ؟. لأنه يرى أن الفائض النسائى بين المجتمعات كلها لا يعالج إلا بهذا الأسلوب. يعنى إذا وجد نسوة زائدات مستعدات للزواج وكان عدد الرجال المستعدين للزواج أقل فما الحل؟. الناس هنا بين أمرين: إما أن يفرضوا رهبانية على المرأة الزائدة فلا تتصل برجل أبدا، وإما أن تتصل بالرجال عن طريق الزنا والبغاء. وإما أن تشرك امرأة أخرى فى رجل تنتسب إليه وينفق عليها ويكون أولادها منه حاملين لاسمه. أى الحلول أشرف للمرأة؟. أن تكون محبوسة إلى الأبد فى سجن الرهبانية، أو مطلقة العنان فى ميدان البغاء والحيوانية أم تكون شريكة لامرأة أخرى فى رجل يرعاها ويوفر لها حياة الشرف والاستقامة؟!. إن الإسلام لما أباح التعدد كان منطقيا فى هذه الإباحة، ثم هو قبل ذلك وبعده ما أباحه إلا لمن يقدر على تبعاته ويستطع العدالة فيمن جمع بينهن فى بيته. قضايا الأسرة تحتاج إلى كلام طويل نرجئه إلى حديث آخر لأنى أريد أن ألقى نظرة شاملة عاجلة على عناصر السورة الأخرى. لقد تحدثت السورة عن أهل الكتاب من يهود ونصارى، بدأ حديثها عن اليهود بقول الله جل شأنه: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل " ص _152(4/138)
وقول الله بعد ذلك: " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم " وقول الله " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا " هذا الكلام عن اليهود لابد أن نلحظ فيه أن الإسلام يعتبر الضمير اليهودى ضميرا ملوثا، وأنه يعصى الله عن إدراك لمعصيته، وأنه يعرف الحق ويحيد عنه !! وذلك بعكس كثير من النصارى فهم - إن صح التعبير - مخلصون فى ضلالهم !!. تعبير مستغرب، ولكن أحيانا يخطئ الإنسان، ويوغل فى الخطأ، ويتحمس لخطئه أو خطيئته وهو مغلق الذهن، حائر الفكر، مشتت الخطى لا يعرف له هدفا سليما ولا غاية صائبة، وقد يكون هذا الحائر الذى فقد الاستقامة فى مسلكه وفكره قد يكون خطرا جدا على الحقيقة وعلى الإيمان لأن كثيرا من الناس فى هذا المضمار ينطبق عليهم قوله تعالى: " أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا " وقوله تعالى: "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " ، اليهود مغضوب عليهم. لماذا؟. لأن شراسة طباعهم، وقساوة قلوبهم، وسماجة أعمالهم، والكبر الذى يصيغ سيرتهم وحياتهم يجعلهم جرآء على الله ويجعل ما يصدر عنهم من آثام ظاهر الشر بادى القبح، فهم مثلا - كما تروى سورة النساء - يسألون من قريش - وقريش وثنية - أنتم أهل كتاب خبراء بالوحى تدركون طبيعة المنتسبين إلى السماء وإلى الكتب السماوية دلّونا: أنحن على الحق أم محمد؟ فيكون جواب اليهود: أنتم على الحق ! عجبا!. إذا كنتم أهل كتاب سماوى تؤمنون بالله وبموسى نبيه وبما أرسل بعد موسى من أنبياء فإن الله الواحد لا يجوز بتّة أن يكون له شريك، وأن تكون هذه الأصنام التى لا تضر ولا تنفع والتى عكف عليها القرشيون آلهة مع الله أو وسائط وشفعاء إليه. ص _153(4/139)
يذكر القرآن الكريم الشهادة المزورة التى أعطاها اليهود إخوانهم عبدة الأصنام فى قوله جل شأنه: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا " ومن علامات التعمق فى الضلال أن هؤلاء يتمنون للمسلمين أن يتركوا كتابهم ونبيهم وألا يعرفوا ربهم وألا يشرحوا الوحدانية على النحو النضير الجليل الذى ذكره القرآن الكريم!!. بينما نجد أن النصارى فى تأليههم للمسيح وزعمهم أنه إله أو جزء إله أو شبه إله أو ابن إله أو ما إلى ذلك مما عاشوا به ونشروه وتعصبوا له نجد أن القرآن الكريم يتناول هؤلاء ليشرح لهم الحقيقة مبينا أنهم أهل غلو وأنهم ضلوا السبيل: "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ". ثم هل يوجد فى أهل السموات وأهل الأرض من يشعر بغضاضة حين يسجد لله؟.. كلا، فإن البشر والملائكة وكل حى له عقل يكون فى أشرف أحواله وأزكى أوصافه وأطيب أوقاته عندما يحنى صلبه راكعا أو ساجدا ليقول لربه فى خشوع وإجلال وإعزاز: سبحان ربى الأعلى ! وهذا معنى الآية الشريفة: " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ". إن شرف العباد فى عبوديتهم لله ، ما من نبى ولا ولى ولا ملك ولا بشر إلا وعظمته فى أن يحنى رأسه، وأن يتجه بقلبه، وأن يسلم لله وجهه، وأن يقول فى أدب وتواضع لله جل شأنه: أنا عبدك وأنت ربى هذه حقيقة، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يؤكد هذه الحقيقة بقوله: " اللَّهُمَّ ص _154(4/140)
إنى عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتى بيدك ماض فىّ حكمك عدل فى قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو أنزلته فى كتابك أو استأثرت به فى علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبى ونور صدرى وجلاء حزنى وذهاب همى " هذه هى العبودية. من عيسى؟ ومن غيره؟. عباد لله لا يزيدون ولا ينقصون !. هكذا تناولت سورة النساء اليهود والنصارى، وسنفصل ذلك فى وقت آخر إن شاء الله. بين تناول السورة للفريقين نجدها تناولت صنفين من الناس: الصنف الأول: منافق، والصنف الثانى: ضعيف الإيمان. ما الذى كشف الصنفين معا؟. كشفهما فرض الجهاد، وتحكيم الله جل جلاله فى قضايا الناس أصحاب القلوب المريضة يكرهون الحكم بما أنزل الله، وما أكثر هؤلاء الآن، سنتحدث فى خطبة أخرى إن شاء الله عن ناس يستميتون الآن كى يحرموا الحلال وهو زواج الرجل بامرأة ثانية بينما هم خرس ـ سكتوا سكوت القبر ـ عن اتصال الرجل بامرأة أخرى دون حرج!!. لقد قرأنا فى الصحف منذ أيام كيف أن فتاة حمقاء ركبت سيارة مع رجل ـ مع ذئب، هو لا يستحق أن يوصف بأنه رجل ـ فلما انتهك عرضها وداس شرفها وذهبت إلى القضاء قيل لها: لقد ذهبت باختيارك، لا دخل للقانون فى أمرك !. لا يستطع القانون أن يصنع شيئا، فإن القانون يبيح الزنا بالتراضى !. ص _155(4/141)
أنا أعجب ولا ينقضى عجبى، أين المتحدثات عن قضايا المرأة يقلن: هذا لا يجوز، غيروا هذا القانون واقطعوا الطريق على هؤلاء الذئاب أو الكلاب؟ سكوت، سكتن سكوت القبر ! أما النطق، أما الهيجان، أما الأصوات الفاجرة فضد قانون الأسرة وحده !! سنتحدث إن شاء الله عن ذلك. المهم أن الحكم بما أنزل الله كشف المنافقين، قال جل شأنه: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ". هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا رفضوا أن يحكم الله فيهم ورسوله، فكان الرد عليهم: هذا كفر، ما دمتم تريدون أن تتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمرتم أن تكفروا به فلا بد أنكم كفرتم بالله، وتمضى السورة تشرح هذا الكفر: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما "، الكلام عن هؤلاء المنافقين يطول. نجئ ـ على عجل ـ إلى كلام السورة عن ضعفاء الإيمان، ويبدأ هذا الكلام فيذكر هؤلاء الضعاف بأمرين: الأمر الأول : حرصهم على الحياة، خوفهم من الموت، رغبتهم فى المتع، زهدهم فى وعد الله الذى وصف فيه الدار الآخرة. هذا المعنى تناولته السورة من أول قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ". بين القرآن الكريم هنا أن ناسا من المسلمين أدوا الواجبات الأخرى لأنها سهلة الأداء فلما كلفوا بالقتال فى سبيل الله خشوا على حياتهم، ص _156(4/142)
وأحبوا أن يبقوا على ظهر الأرض أطول عمر ممكن. فكإن جواب القرآن لهم: إن الأجل ليس وفق رغبة الإنسان ولا هو بتعرضه للأخطار أو ابتعاده عنها، الآجال عند الله، لا سلطان للبشر عليها، وكما قال شوقى: وقد ذهب الممتلى صحة وصح السقيم فلم يذهب وقال ابن الرومى: أعمارنا جاءت كآى كتابنا منها طوال فصلت وقصار هذه مسألة إلهية، وعندما يجيء الموت فلا يصده حصن: " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ". أغلب الناس يتصور أن الحسنة والسيئة تعنى الطاعة والمعصية، وهذا غلط، فإن الذين يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم هذا الكلام لا يقصدون إطلاقا أن الحسنة الطاعة والسيئة المعصية، إنما يقصدون ـ وهذا تعبير القرآن فى أغلب الآيات ـ بالحسنة الحال الحسنة من رخاء ومن أفراح، ويقصدون بالسيئة الحال السيئة من أزمات، ومن قحط، ومن ضيق. تأمل قول الله تعالى: " ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون * فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون ". فالحسنة: الحال الحسنة من ربيع خصب وأيام رخيّة. والسيئة: الحال السيئة من أزمات وقحط. ومن ذلك أيضا قوله تعالى فى نفس السورة: " وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون * ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون " . ص _157(4/143)
هذا معنى الحسنة والسيئة فى الآيات هنا. فهؤلاء الذين ضعف إيمانهم كانوا يفرون من التكاليف الشاقة خوفا على حياتهم. الأمر الثانى: أنهم ناس فوضويون، خفاف طائشون. وهذا عيب لا أزال أراه فى الأمة الإسلامية، خصوصا بعدما ضعف إيمانها وقل يقينها، وشاع الاضطراب فى أمورها، يقول الله فى وصف هؤلاء الضعاف من المؤمنين: " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ". والمعنى: أن هؤلاء يطيرون وراء كل رأى، فى أيام السلام، أو فى أيام القتال يستخفهم أى كلام يشاع فيجرون وراءه ولو كانوا أهل عقل وتثبت لكان رؤساء من أهل العلم يسألونهم ويستفتونهم ثم ينزلون على رأيهم وعلى حكمهم. والذى لاحظته فى الأمة الإسلامية ـ وأنا آسف ـ أن هذه الأمة منذ فقدت الخلافة الصحيحة فقدت الوالد الحانى، والأب العطوف، والأستاذ المعلم، والمربى الصادق، فكانت النتيجة أن أصحاب الديانات الأخرى يرجعون إلى حكمائهم كاليهود لهم حكماء صهيون تجد التاجر اليهودى أو المهندس اليهودى يترك الأمر للحكماء، فهؤلاء يرسمون الخطة وعلى الشعب أن يتبع، وكذلك يفعل النصارى. أما الأمة الإسلامية فإن أئمتها وعقلاءها إما أضاعتهم الأيام بإضاعة الخلافة الراشدة، وإما سقط لواؤهم فى المجتمع لشيوع الفسق والخيانة وضياع الدين فأصبح أمر الناس بأيدى من لا ينصح ولا يعقل، والأمة أحوج ما تكون فى سلمها وحربها إلى أن تسأل أولى الذكر كما قال تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ". ما أحوج أمتنا إلى أهل الذكر يقودونها فى سلمها وفى حربها. خمسة عناصر تلمحها ـ على عجل ـ فى سورة النساء ص _158(4/144)
ا- قضايا الأسرة أولا. 2- ثم كلام عن أهل الكتاب بشقيهم (اليهود والنصارى) شاع فى أول السورة وآخرها. 3- ثم كلام عن المنافقين وعن ضعفاء الإيمان، وسبب الكلام عنهم: الحكم بما أنزل الله ، والقتال فى سبيل الله وهما قوام السورة بعد ذلك. هذه نظرة عجلى إلى سورة النساء، أوصى بعد ذلك من يقرأون السورة أن يقرأوها وهم يدركون كيف ينتقلون بين جنباتها، ويغفر الله لنا ولكم. ص _159
الخطبة الثانية الحمد لله " الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد " . وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فأوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل. أيها المسلمون: أمتنا بحاجة إلى نهضة نسائية رشيدة. لم؟ لأن هناك بعض المتدينين لا يعقلون قضايا المرأة وينظرون فيها بحماقة وقلة فقه، ولو وكل الأمر إليهم لحبسوا النساء فى البيوت فلا عبادة ولا علم ولا عقل ولا فكر ولا نشاط ولا شىء ! ! هذا النوع من المتدينين الجهلة ينبغى أن يحرم من الكلام باسم الله !. النهضة النسائية الرشيدة تحتاج إلى أن يطرد نوع آخر من المتحدثين فى قضايا المرأة وهم عبيد أوربا الذين يريدون إشاعة الخنا فى بلادنا، والذين لا يعنيهم أمر العفة ولا أمر الأسرة ولا يبالون أن يثقلوا ما هنالك بعمى غريب!! ومع أن الأسر فى أوربا أسر على ورق، ومع أن الغرائز الجنسية جعلت الأعراض كلأ مباحا، مع هذا كله فإن من أعمى الله بصائرهم وأبصارهم من النساء والرجال يريد ون نقل هذه الحضارة إلى بلادنا . ص _160(4/145)
لا أريد لا تدين الحمقى الذين لا فقه لهم، ولا انحلال الكذبة الذين لا شرف لهم ولا عرض!. قضية المرأة تحتاج إلى نهضة نسائية راشدة وأقول: أنا أعرف نساء فى السلك الجامعى ـ أساتذة ـ يشرفن الآن على بيوت الطالبات وعلى أعمال نسائية جليلة فى خدمة المرأة، وعندما أرسلن إلى مؤتمرات كتبن تقارير تبكى دما على حالة الإسلام فى البلاد التى ذهبن إليها.. وأعرف نساء فى وزارة التربية والتعليم كن يدعوننى إلى خطبة الجمعة فى المدرسة بأولياء الطالبات مع الطالبات أنفسهن.. هؤلاء كن نظار مدارس ولهن نشاط دينى بارز، وعطف على تعاليم الإسلام وانعطاف إليها واضح. وأعرف أديبات مسلمات يكتبن كتبا رقيقة فى خدمة الدين ورفض التبرج ولهن أقلام رائعة.. أسأل نفسى وأسأل هذه الأمة : لِمَ لا يقود هؤلاء النسوة الحركة النسائية فى بلادنا؟!. أنا أريد أن تقود النسوة امرأة تصلى وتزكى وتصوم وتحج البيت، أما أن يتصدر قياد النسوة فريق من الغجر يقلن فى بجاحة : إن مصر منفتحة مع الأمزجة ـ دفاعا عن شارع الهرم ومباذله ومخازيه ومعاصيه، فهذا كلام غريب. نحن بحاجة إلى نهضة نسائية رشيدة، لكن من يقود هذه النهضة؟ اللائى كتبن ضد الاحتشام وافترين الكذب على الطالبات العفيفات؟ هؤلاء يجب طردهن فورا من ميدان النهضة النسائية، نريد تسليم النهضة النسائية إلى نساء عفيفات عاقلات محصنات آمرات بالمعروف ناهيات عن المنكر حافظات لحدود الله. أننا نعلم أن الإسلام صان المرأة وكفل لها حقوقا عظيمة وجعل إنسانيتها فوق الظنون. يوم كانت مؤتمرات تنعقد فى أوربا تسأل: هل للمرأة روح أم ليس لها روح؟ وإذا كان لها روح فهل هى روح إنسانية أم حيوانية؟ يوم وقع هذا فى أوربا كان الفقهاء فى الأمة الإسلامية يقولون: إن المرأة فى بيت زوجها ص _161(4/146)
ينبغى أن يوفر لها الزوج من يخدمها !!. هذا الكلام العجيب يطوى كله ويردم كله ويجىء بعض النسوة الجاهلات المتبجحات يردن أن يطرحن الإسلام ظهريا وأن يقدن حركة نسائية لا تعرفها أمتنا. إننى أقول: إذا بقى زمام النهضة النسائية فى أيدى نسوة يحاربن الفضيلة وقوانين الله ويسكتن على قوانين الزنا وقوانين العهر فإن هذه النهضة لن يبارك لها فى خطوة وسنكون لها بالمرصاد. لقد انتهى إلى الأبد العهد الذى كان يفرض علينا فيه من يتحدث باسمنا ونحن نرفضه، وانتهى إلى الأبد أيضا العهد الذى يتصدر النسوة فيه من يريد أن يتحدث باسمهن وهن لا يعرفنه. نحن أمة مؤمنة، الرجال مؤمنون، والنساء مؤمنات، فإذا كان هناك رجل لا دين له أو امرأة لا دين لها فلتتحدث بأى اسم إلا اسم هذه الأمة.. إن أمتنا تريد أن ترتبط بدينها وكتابها، وهى تأخذ دينها لا من المتبجحات الكاذبات على الله وعلى الناس ولكنها تأخذ دينها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . قلت ـ ولا أزال أقول ـ فى الميدان النسائى الآن نسوة أساتذة فى الجامعات وفى وزارة التربية والتعليم وغيرها. ويوجد علماء لهم القول فى صياغة القوانين، ويوجد بعد ذلك خبراء بالمجتمع الأوربى وما فى المجتمع الأوربى من فسق وانحلال. ص _162
فكيف يتصور بعض الناس أن القوانين الإسلامية يُلعب بها بعيدا عن هذه الحقائق كلها؟!. هذا مستحيل، هذا مستحيل. اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر . " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " . عباد الله: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " . أقم الصلاة... ص _163(4/147)
نظرات في سورة النساء (2) المحور الذى تدور عليه السورة إرساء قواعد المجتمع وتبيين معالمه خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص فى 22/3/ 1974م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فقد وصلنا فى التفسير الموضوعى للقرآن الكريم إلى سورة النساء، وألقينا نظرة عاجلة ـ ولكنها واعية ـ على هذه السورة الكريمة، وبيَّنا أن بنية هذه السورة تتكون من خمسة عناصر: العنصر الأول والثانى: حديث عن الأسرة المسلمة وقضاياها وهداية الله فى شأنها، ثم حديث عن أهل الكتاب أولا حديث عن اليهود استعرض المآسى الخلقية والاجتماعية ص _164(4/148)
التى شاعت فيهم واستفاضت بينهم. ثانيا: حديث عن النصارى استعرض المتناقضات فى العقيدة التى أذهبت لُبّهم، وحيّرت شعبهم. العنصر الثالث والرابع والخامس: ثم حديث عن المنافقين الذين ضعفت شخصيتهم، وتذبذبت وجهتهم فلم يحسنوا أن ينضموا إلى إحدى الطائفتين فيكشفوا عن إيمان صريح أو كفر صريح، ثم حديث عن المؤمنين الضعاف الذين لم يقو الإيمان فى أفئدتهم، ولم يهيمن هيمنة وثيقة على مسالكهم وتصرفاتهم فشاع فيها بعض الخلل وكان منها لهذا المجتمع ضعف ووهن، ثم حديث عن الحكم بما أنزل الله والجهاد فى سبيل الله. هذه العناصر ـ بداهة ـ لم تقسم تقسيما فنيا على أجزاء السورة، فإن القرآن الكريم لا يعرف هذه التقسيمات العلمية المحدثة، وإنما كان الحديث عن هذه العناصر جميعا ملتحما بعضه مع البعض الآخر، وربما تماسك السياق فى السورة كلها فرأينا حديثا عن الأسرة يتخلل حديثا عن هذه الطوائف. وقد سألنى بعض الإخوة المتابعين قال: إننا ألفنا فى التفسير الموضوعى أن نعرف المحور الذى تدور عليه السورة، وقد كشف فيما تناولنا من سور سابقة، فما المحور الذى تدور عليه سورة النساء ؟. والجواب: أن هذه السورة ـ باتفاق المسلمين ـ نزلت فى المدينة المنورة، والوحى النازل فى المدينة المنورة يتجه غالبا إلى المجتمع الإسلامى يُرسى دعائمه ويبين معالمه، وذلك على عكس ما نعرف فى الاتجاه المكى من تناول النفس الإنسانية وغرس الإيمان فى أعماقها، وبنائها على المنافحة والمجالدة وتحمل الأذى فى سبيل الله حتى يمكن أن ينهض هذا البناء المؤمن فى وجه العقبات الكثيرة التى تعترضه. أما فى المدينة المنورة ـ بعد أن تكون للمسلمين مجتمع ـ فإن اتجاه الوحى فى السور المدنية إلى دعم هذا المجتمع وإرساء القواعد التى ينهض عليها وتوضيح المعالم التى لابد أن يصطبغ بها وأن تظهر فيها خصائص الأمة ص _165(4/149)
الجديدة، وسورة النساء ـ من هذه الناحية ـ تقوم على دعم المجتمع الإسلامى وحياطته وتبيين وسيلته وغايته. ولما كانت الأسرة أساس كل مجتمع صالح كان لابد أن تتحدث السورة فى صفحات طوال ـ فى نحو ست صفحات ـ عن الأسرة وقضاياها، ثم لمّا كانت الأمة فى المدينة تتكون من طوائف كثيرة ـ من يهود ونصارى ومنافقين ومؤمنين ضعفاء يحتاجون إلى تقوية ـ بينت السورة هنا ما يجب على الأمة الإسلامية بإزاء هذه النزعات الموجودة خلالها. سورة النساء وضحت نظام الأسرة توضيحا ينطوى على كثير مما لابد من بيانه وكشفه لأنه خالف ما كان شائعا بين الناس.. كتابيين وغير كتابيين. فالإسلام ـ فى بناء الأسرة ـ استحب الزواج وأباحه ويسّره، وهو يفعل ذلك لأمرين: أولا: لأنه يريد أن تبقى مواكب الإنسانية موصولة السعى والنشاط على ظهر الأرض، ولا يوجد طريق محترم لبقاء الإنسانية ممتدة على مر السنين إلا الزواج. ثانيا: لأن بناء الأسرة يقوم على التراحم والسكينة النفسية. ولذلك فإن الغريزة الجنسية ـ فى نظر الإسلام ـ ليست رجسا من عمل الشيطان، وليس سحقها هدفا له، وإنما الاعتراف بها جزء من منطق الفطرة ـ التى هى الصفة الأولى فى الإسلام. فكر بعض الناس ـ من عند أنفسهم لا من عند الله ـ أن يحرموا الزواج، وأن يجعلوا هذه الغريزة نفثة شيطان.. فماذا جنت الإنسانية من ذلك التفكير القاصر؟. جنت الإنسانية من ذلك عوجا فى السيرة واضطرابا في السريرة حتى إن العقلاء فى أوربا ـ لما رأوا أن الرهبنة لن تنتج إلا الفساد فى الظلام وإلا ص _166(4/150)
أن الغريزة تسللت كى تنفس عن نفسها إلى أنواع شاذة من السلوك ـ رأوا تحريم الرهبانية بعد تجارب خمسة عشر قرنا من الاضطراب والخلل!! الإسلام تجنبنا هذا كله، وأراحنا من تجارب بائسة ومن آلام مُرة وبين النبى صلى الله عليه وسلم أن الزواج سنته وسنة المرسلين من قبله: " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية " . وعندما حاول بعض أصحابه الغلو وأرادوا أن ينشئوا ألوانا من العبادة تتجاوب مع هذا الجماح قال النبى صلى الله عليه وسلم : "... أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى " . الحقيقة أن الإسلام اعترف بالغريزة الجنسية وبنى لها السلوك الوحيد الذى يقبله، قال: هذه الغريزة تحبس إلا فى بيت الزوجية، هذه الغريزة تقيد إلا مع الحلال الطيب: " والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " ، أى المعتدون. وكما تحدثت سورة النساء عن الزواج تحدثت عن الطلاق، وقد قال العلماء فيه ـ وهو رأى علمى دقيق لكثير من المؤلفين المسلمين ـ إن الأصل فى الطلاق الحظر لقوله جل شأنه ـ فى هذه السورة : "فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا " ص _167(4/151)
أى ما دامت المرأة مطيعة فإن الإساءة إليها جريمة، ولا معنى لهذه الإساءة، ثم إذا حدث أن تغيرت العاطفة فإن الرجل ينبغى أن يتهم نفسه كما أمر الله: " وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا و يجعل الله فيه خيرا كثيرا ". ولذلك ورد أن رجلا ذهب إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه وقال له : أريد أن أطلق امرأتى.. قال له : لِمَ؟ قال: لا أحبها.. قال له: ويحك أوكل البيوت بُنى على الحب؟ فأين التذمم والوفاء؟. أين العهود والأخلاق والحياء والوفاء؟. إن الإنسان ينبغى أن يكون فى هذا تقيا. وقد ورد أن أبا أيوب رضى الله عنه طلق امرأته فقال له النبى صلى الله عليه وسلم : " إن طلاق أم أيوب كان حوبا " أى إثما. والقصد من هذا أن الإسلام يريد ـ فعلا ـ أن تبنى البيوت على أنها محاضن، ليست فقط متتفسا للغريزة الجنسية فى جو طهور مقبول، ولكنها أيضا محاضن، أى مدرسة كبيرة يربى فيها الولد- ابنا كان أو بنتا- تربية دينية تجعل مستقبله ينشأ فى كفالة الله وتعاليمه يتعلم فى البيت الصلاة، يتعلم فى البيت الاستئذان، يتعلم فى البيت ستر العورات وعدم الهجوم عليها، يتعلم فى البيت الكثير مما لابد أن يتعلمه. وتحدثت سورة النساء عن المواريث، وكانت المواريث إما مضطربة فى جزيرة العرب، أو ليست هناك تعاليم محددة تتصل بها فى الديانات الكتابية الأخرى، فجاء الإسلام وكذب العرب فى حرمانهم المرأة من الميراث وقال فى حسم: " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا " . ص _168(4/152)
وفرض الإسلام المواريث نظاما اجتماعيا لو دُرس لعرف أنه يكفل جو الأسرة من سلف لخلف، ويشيع الطمأنينة بين الآباء والأبناء، وفى الوقت نفسه فإنه جزء من النظام الكونى فى المواريث. إن الشيوعيين يرفضون قضية الميراث ويقولون: ما يجوز توريث مال، وهم فى هذا يكذبون على سنن الله الكونية، لِمَ؟. لأن سنن الله الكونية تورث الإنسان طوعا أو كرها ما هو أخطر من المال، تورثه الذكاء أو الغباء، تورثه الوسامة أو الدمامة، تورثه الطول أو القصر، تورثه المزاج الهادئ أو المزاج العنيف!!. إن المواريث المادية ـ فى الجسم ـ والأدبية والفكرية تنتقل من الآباء والأمهات إلى الأولاد، والأموال التى تورث وفق هذا النظام الكونى ليست إلا جزءا قليلا مما فرض على الناس أن يرثوه.. وإذا أرادنا منع المواريث فلنمنع ميراث الأخلاق وميراث الطباع!! وهذا مستحيل. وتقسيم المواريث فى الإسلام انفرد المولى سبحانه وتعالى به وقال ـ مذيلا آية المواريث ـ " آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ". فعلمه وحكمته أساس فى التوريث، وقد ختمت آيات المواريث بقول الله جل شأنه: " تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ". وبعض الناس يعود إلى الجاهلية الأولى يريد أن يحرم البنات من المواريث، وهذا جهل وتضليل ويدخل حتما فى الوعيد الإلهى: " ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين " ، وقد جاء فى السنة: " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف فى وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل ص _169(4/153)
النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل فى وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة " وجاء فى السنة أيضا عن النعمان بن بشير قال: " انطلق بى إبى يحملنى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله اشهد أنى قد نحلت النعمان كذا وكذا من مالى، فقال: أكل بنيك قد نحلت مثل ما نحلت النعمان؟ قال: لا. قال: فأَشْهِدْ على هذا غيرى. ثم قال: أيسرك أن يكونوا إليك فى البر سواء قال: بلى. قال: فلا إذًا " لكن قال الفقهاء: إن بعض الأولاد قد تزوجه فى حياتك فإذا أعطيت البعض الآخر ـ وصية ـ ما يسوى بينه وبين من تزوج فلا جور فى هذا، فهذه تسوية وليست تمييزا، وإذا علّمت ولدا على حساب الآخر فأعطيت من جهل زيادة فلا حرج فى هذا، فأنت بهذا تسوى ولا تفاوت. والمجتمع قاض أمين على هذا، فإن كانت الوصية جورا وجب رفضها، وإن كانت عدلا وجب إمضاؤها، وفى قلب كل مسلم يؤمن بالله ما يجعله يدرك أين يضع قدمه؟ وكيف يعامل ولده؟. هذا المعنى من معانى الإسلام حُدد فى سورة النساء بدقة. ما بدأت به سورة النساء من حديث عن الأسرة نحن نمر به على عجل كأننا فى قاطرة نرقب بسرعة ـ وهى تمشى بنا ـ معالم الجانبين. الطوائف التى يتكون منها المجتمع لابد من معالجتها، وسورة النساء ـ كما قلت ـ تدور على محور، ومحورها الذى تدور عليه هو إرساء قواعد المجتمع، وتبيين معالمه. والمعروف أن المجتمع الإسلامى مجتمع فكرة، أى أنه ينهض على دين ص _170(4/154)
ويحيا به ويحاكم الآخرين عليه، ومعنى هذا أن الصبغة الإسلامية يجب أن تسود الأمر والنهى، ويجب أن تتضح فى المدرسة وفى المحكمة وفى التقاليد، وفى القيم، وفى الشارع، وفى البيت، وفى علاقات الجوار، وفى الملابس، كل ما تتكون منه البيئة أو ينشأ المجتمع من تراكمه ومن تجمعه يتدخل الإسلام فيه لأنه-كما قلنا- دين ينهض على فكرة، والفكرة التى ينهض عليها واضحة. هذا دين يقوم على أن الله واحد، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم نبيه، وأن الإله الواحد أنزل كتابا ينبغى أن يؤتمر بأمره وينهى بنهيه، وأن النبى الخاتم صلى الله عليه وسلم جاء بتطبيق عملى ينبغى أن نتأسى به فى هذا الميدان.. ولما كان المجتمع قائما على الفكرة فإن قيامه على الفكرة بدأ يغزُّ المنتسبين إليه زورا، وذلك أن ناسا ما كان عليهم من بأس أن يزعموا الإسلام، لكن كيف نسلم لهم زعمهم إذا كان هذا الدين عبادة ومعاملة وعقيدة وشريعة وإيمانا ونظاما؟. هنا بدأت طبيعة الإسلام تكشف المنافقين: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا * أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا " ، إذًا هؤلاء ـ الذين يكرهون الاحتكام إلى الله وشرعه ـ إيمانهم زعم وليس حقا. هؤلاء الذين يضيقون بالفكرة الإسلامية ويريدون محوها ويريدون أن يناوشوا هذا المجتمع ليأتوا على قواعده هؤلاء يجب أن يُردعوا، ومن حق هذا المجتمع أن يدافع عن نفسه وأن يستنقذ المستضعفين الذين وقعوا فى ص _171(4/155)
براثن الفتانين من الأقوياء، ولذلك أمر بالقتال : " فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما * وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا " ، إذًا لابد من قتال، لابد من جهاد تكوّن أجهزته وتُهيأ عدته. المنافقون ـ بداهة ـ يرفضون هذا، ويضيقون به، ويريدون أن يفروا، إنهم يفرون من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو إمام فى المسجد يصلى بالناس لأنهم ـ كما وصفتهم السورة: "...وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا " . فإذا كانوا يفرون منه وهو إمام فى المسجد فهل يثبتون معه وهو رئيس دولة يأمر بالجهاد؟. إنهم ـ بداهة ـ يريدون أن يفروا من أعباء القتال ومن مغارم بذل النفس والمال، وهنا يقال للمسلمين: قاطعوا أولئك المنافقين وابتعدوا عنهم، احذروا أن تنقسموا فى معاملتهم : " فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا * ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا " السورة تبنى مجتمعا يعيش بخلق معين ولهدف معين فمن خرج على هذا الخلق فهو خصم للمجتمع، ومن تنكر لهذا الهدف فهو خصم للمجتمع، ولذلك فإن الذين أرادوا المداهنة وأرادوا أن يعيشوا معيشة مزدوجة الشخصية قيل لهم: لستم مؤمنين: " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا * وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في(4/156)
حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا " . ص _172
هناك أيضا ضعفاء الإيمان، ما هو الإيمان؟. تكبير الكبير وتصغير الصغير، إحقاق الحق وإبطال الباطل، إنزال العالم منزلته، سؤال أهل الذكر، الرجوع إلى الإخصائيين فيما ينبغى أن يرجع إليهم فيه. لكن ضعفاء الإيمان لا يحسنون العمل فإنهم يطيرون هنا وهناك دون أن يربط على قلوبهم إيمان راسخ، ودون أن يوجه مسلكهم عقل راشد، ولذلك وصف الله هؤلاء بأنهم طيّاشون " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ". للقتال قضاياه وللسلم قضاياه، وينبغى أن يستفتى فى كل قضية من هو قدير على النظر فيها وإبداء الرأى. قال تعالى- فى وصف هؤلاء الذين لا يحسنون الاستفتاء والرجوع إلى أهل الذكر فى حل المشكلات: " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ". وأولو الأمر ـ هنا ـ ليسوا الحكام وإنما هم أهل الذكر الذين قال الله فيهم: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " . الأسرة فى المجتمع الإسلامى الآن ـ وإن كانت أشرف وأنظف من أسر الغرب بيقين فهى ـ لم تبلغ الذروة أو المستوى الذى رسمه الإسلام لها. لاشك أننا الآن خير من أوربا فى نظامنا الاجتماعى، وإن كان هناك ما يُتعبنا فهو الرشح النجس الذى يجيئنا من الفوضى الجنسية التى تبناها بعض الإذاعيين والصحافيين. ص _173(4/157)
هذا هو الذى يهدد الأسرة عندنا وهو تهديد خطر لأن الرجل قد يكون مقصور النظر على أسرته سعيدا بزوجته، ولكن فى مجتمع متهتك متبرج تُعرض فيه النساء على النحو الذى قال فيه الرافعى: " يا لحوم البحر سلخك من ثيابك جزار.. " عندما تُعرض صورة النساء على هذا النحو فإن الرجل قد يزهد فى امرأته لأن امرأته فى البيت ـ خادمته ـ تطبخ له، تكنس له، تصنع الكثير له فهى ليست باستمرار متبرجة له، لكن الشارع ملىء بالمتسكعات المتبرجات لغير سبب إلا الإثارة، وهذا نضْح من أوربا وسّخ مجتمعنا وهدد الأسرة فيه، وأصحاب الغيرة الحقيقية على الأسرة يكرهون هذا التهتك الوارد من أوربا. النظام الإسلامى نظام فطرى مشرّف احترم الغريزة ورباها فى ييت سُمى بيت الطاعة !. الإسلام احترم الغريزة واحتفى بها فى مجالها الصحيح، وفى هذا يقول نبينا صلى الله عليه وسلم ".. وفى بُضع أحدكم صدقة " ويقول: "إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين فليتق الله لى النصف الباقى " . ويقول: " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلى " أى لامرأته. أهذا الإسلام يعاب على موقفه من المرأة؟ . إذا محاسنى اللاتى أُدلُّ بها كانت عيوبا فقل لى كيف أعتذر؟! ص _174(4/158)
سورة النساء تحدثت عن الأسرة لأنه يجب أن يُبنى المجتمع ـ أولا ـ على البيت، وفى البيت يُربى الأولاد على العفة والشرف والصدق. يقول عبد الرحمن بن عامر رضى الله تعالى عنه: " دعتنى أمى يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد فى بيتنا فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وما أردت أن تعطيه "؟ قالت: أعطيه تمرا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمَا إنك لو لم تعطِه شيئا كُتبت عليك كذبة " . بعد تنظيم البيت فى سورة النساء كشفت السورة سوءات المنافقين وبيّنت مواقفهم لأن النفاق سرطان للأمم ولأن الدولة تقوم على مبدأ لا يعكر صفوها ولا يعرقل سيرها إلا الذين يريدون المداهنة فى هذا المبدأ، وقد عُلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون صريحا فى عرض الإسلام ومحاكمة أتباعه إليه ومحاكمة الآخرين إليه فقال الله له: " ودوا لو تدهن فيدهنون " . المداهنة أو الإدهان لا يمكن قبوله فى الإسلام، ولذلك فإننا نرى سورة النساء حاربت النفاق بقوة والذى كشف المنافقين الحكم بما أنزل الله وقتال أعداء الله وهذان أيضا هما اللذان كشفا ضعفاء المؤمنين. أما صلة السورة بأهل الكتاب من يهود ونصارى فلنا فيها موقف آخر إن شاء الله. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _175(4/159)
الخطبة الثانية الحمد لله " الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد " . وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فقد استثار انتباهى صياح بعد الطلاب بكلمة احتاجت إلى تعقيب من رئيس الدولة، وتحتاج إلى تعقيب منا.. قال بعض الطلاب: لا حرية لأعداء الشعب!. وقال رئيس الدولة ـ مشكورا ـ نعم لا حرية ولكن فى حدود القانون. ونحن نستقبل هذه الكلمة بشىء من التأمل فيها وفى بواعثها، فإن كلمة " الشعب " و باسم " الشعب " وأعداء " الشعب " ومن أجل " الشعب " كلمة تكررت كثيرا فى حياة الأمم شرقا وغربا فى القارات كلها قديما وحديثا، ثم بدا لى وأنا أستعرض هذه الكلمة أنها ـ أحيانا كثيرة ـ تكون غطاء خسيسا بالغ الخسة لأهواء بعض الناس ونزواتهم، كأنه إذا رأى شاب فتاة أراد أن يفسق فيها قال: باسم الشعب يجب أن تكون هذه الفتاة لى!! باسم الشعب؟! ما علاقة الشعب بهذا؟ لو أراد إنسان مصاب بجنون العظمة أن ينفس عن هذه الغريزة فى دمه الملىء بالأحقاد والطمع على غير مؤهلات وعلى غير خصائص نفسية وثب إلى الحكم ثم قال: باسم الشعب أنا أحكم !. أى شعب؟! هذا أمر غريب، قديما كانت هناك خلافة اسمية قال الشاعر فى الخليفة الغلبان: ص _176(4/160)
وتُؤخذ باسمه الدنيا جميعا وما من ذاك شىء فى يديه؟! فباسم الشعب يؤكل الشعب، وباسم الشعب يظلم الشعب، وباسم الشعب تجتاح حقوق الشعب، وباسم الشعب نجد عصابة من الناس حرمهم الله المواهب الأدبية التى تؤهل للقيادة، وحرمهم المواهب الخلقية التى تجعل صاحبها جديرا بالتقدير تتسلط على المجتمع وتقول: باسم الشعب! وهى تسحق الشعب!. إن الشيوعيين ـ فى بلدنا هذا وخلال مدة طويلة ـ أحدثوا جلبة غريبة فى بعض المؤتمرات وأخذوا يتحدثون عن الشعب وكأنهم أوصياء عليه، والله تعالى يعلم والعالم كله يدرى أن جميع هؤلاء الشيوعيين لو حوكموا إلى انتخابات حرة فى بلدهم لنفض الشعب يديه كلتيهما منهم ومن أخلاقهم ومن أنظمتهم التى ما وجد فى ظلها إلا الجوع والخوف !. قال أحد الأدباء: دخل لص بيتا فلما اطمأن له المقام جلس، فإذا رب البيت يطرق الباب ليدخل، فقال اللص بجرأة غريبة : من هناك؟ عجبا ! لص يسأل صاحب البيت من الداخل؟!. هؤلاء الذين يتحدثون عن الشعب لصوص، نحن أمة تؤمن بربها، نحن أمة تؤمن بقرآنها، نحن أمة ترفض رفضا حاسما كل ذرة إلحاد تحاول التسلل إلى مجتمعها، فبأى حق يجئ بعض العيال ليقول: باسم الشعب نريد نشر الكفر؟! أى شعب؟! من الذى جعلكم تتحدثون باسم شعبنا المؤمن؟. إننى أهيب بالمؤمنين أن يكونوا أيقاظا فإن هناك إلحادا يحاول تزوير إرادة الشعب. شعبنا المؤمن الطيب يوم تمكن من أن يقاتل باسم الله انتصر، ويوم حرم من أن يقول: باسم الله، يوم حرم من أن يكون مؤمنا يترجم عن إيمانه فى طمأنينة كانت النتيجة أن الصيّاحين باسم الشعب خدموا إسرائيل اكثر مما خدمها " موسى ديان ". إن رئيس الدولة رفض أن يقبل هذا وقال: الحرية للكل فى حدود القانون. ص _177(4/161)
والله ما داس القانون إلا هؤلاء الذين يريدون باسم الشعب أن يكفروا بالله ورسله واليوم الآخر وكل مسلك نبيل فى هذه الدنيا؟!. يجب أن يستيقظ المؤمنون وأن يعرفوا أن المتاجرة باسم الشعب قد انكشفت عصابتها، والآن مراكز القوى فى السجن، ليكن، لكن هناك كثيرون تربوا على أيديهم. واستمعوا منهم ولا يزالون يعيثون فى مجتمعنا فسادا. قيل لى فى أحد البلاد: أنسمح للشيوعيين أن يقولوا ما عندهم؟ قلت: نحن المؤمنين أصحاب حق، وصاحب الحق لديه ألف دليل، لكن يحزننى أن يكون هناك كتاب شيوعى منشور، وكتابى فى الرد عليه غير موجود. عندما يلتقى الحق والباطل فى هذا المجتمع فإن الحق ـ بما وضع الله فى معدنه من صلابة وبأس ـ سوف يسحق شبهات الباطل: " قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب * قل جاء الحق وما يبديء الباطل وما يعيد " ، لكن انفراد هذه الكتب بالسوق ما يجوز، إننا ما نخاف الشيوعية إنما نخاف سرقة إرادة الأمة، نخاف اغتصاب مشيئة هذا الجمهور الطيب والزعم بأنه يريد الكفر، وهو مؤمن. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " . عباد الله: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " . أقم الصلاة... ص _178(4/162)
نظرات فى سورة النساء (3) بناء المجتمع الإسلامى خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص فى29 /3/ 1974م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فقد جاء عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنه قال : " إن فى سورة النساء لخمس آيات ما يسرنى أن لى بها الدنيا وما فيها: "إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما " و " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما " و " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " و "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما " و "ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " . ص _179(4/163)
وفى رواية أخرى أن هذه الآيات الخمس قد انضمت إليها ثلاث آيات أخرى متتابعات تضمنتها سورة النساء وهى قوله جل شأنه : "يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم * والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا". والآيات التى ذكرها عبد الله بن مسعود رضى الله عنه وترجم عن مشاعره نحوها بقوله: " ما يسرنى أن لى بها الدنيا وما فيها " يجمع بينها كلها عامل مشترك، وهذا العامل هو أن رحمة الله واسعة، وأنها سبقت غضبه، وأنه جل شأنه يغفر لعباده، ويفتح لهم أبواب العودة إليه إذا ما باعد الشيطان بينهم وبينه، ولما كان الإنسان قد خلق من عنصرين متضادين: طينة من الأرض، وروح من السماء فإن الإنسان لابد أن يقع فى الخطأ، لابد أن تزل قدمه، وقد صور هذا ابن الرومى فى بيت له يقول : ولابد من أن ينزع المرء مرة إلى الحمأ المسنون ضربة لازب لكن هذه الآيات عندما نقرؤها نحتاج إلى إلقاء ضوء خفيف على كل آية لنرى هل هى فعلا مدخل حقيقى لبناء المجتمع الإسلامى من الأسرة المتماسكة، ومن الكيان الموحد القوى أم أن هذه الآيات بعيدة عنه؟ الآية الأولى هى قوله تعالى: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ". تعنى هذه الآية أن المسلم ينبغى أن يجتنب الكبائر وأن يبتعد عنها ابتعادا تاما، وأن يجعل بينه وبينها مسافات شاسعة، وبيّن جل شأنه أن من ص _ ص 0(4/164)
يجتنب الكبائر تغفر له الصغائر التى قد تقع منه. والكبائر أنواع : منها ما هو متصل بالسلوك العملى كالسرقة أو الزنا أو ترك الصلاة أو ترك الصيام، ومنها ما هو متصل بالمشاعر النفسية كالكبر والحقد والبطر وما إلى ذلك. أنواع الكبائر نفسية كانت أو بدنية ينبغى أن يطهر المرء منها، فإذا أخطأ بعد ذلك فى نظرة لا تليق أو فى كلمة بدرت منه ما تنبغى فإن الحديث الشريف يقول : " فتنة الرجل فى أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر" . ويقول جل شأنه فى آية أخرى تؤكد المعنى هنا: " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ". ابتعد عن المعاصى، ابتعد عن الكبائر النفسية والسلوكية ما يُرى منها وما لا يرى : " وذروا ظاهر الإثم وباطنه ". فما يرى هو المعاصى السلوكية، ومالا يرى هو المعاصى النفسية، فإذا اجتنب الإنسان ذلك كان قريبا إلى الله وغفرت له خطاياه وأخطاؤه الأخرى. الآية الثانية: "إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ". وهى آية تفيد أن حساب السيئات عند الله محدود فهو قد يجزى السيئة بالسيئة إذا بقى عليها صاحبها ولكن حساب الله أوسع من ذلك فهو كما جاء فى الحديث: " إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيّن ذلك فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ ص _ ص 1(4/165)
بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة " . المضاعف عند الله لا حدود له، وهنا أوجه النظر إلى أن قول الله تعالى : " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم " . ليس معنى المشيئة الفوضى، فإن الله عز وجل أعرف بعباده وملابسات أخطائهم، فربما تصدق شخصان بصدقة واحدة فكتب لهذا جزاء محدد، وكتب لذلك أضعاف مضاعفة، وربما فعل شخصان ذنبا واحدا فكتب لهذا عقاب محدد، وغفر لذاك!! لا لأن الله يكتب الأمور فوضى بل لأن الله يعلم ما يحيط بكل إنسان من ملابسات، فزنا الشيخ غير زنا الشاب، وصدقة من فقير مُقلٍّ غير صدقة من غنى مكثر، وذنب أعقبه ندم غير ذنب أعقبته فترة أو برودة أو قلة اكتراث. فرب العالمين عليم بعباده، وكتابته للحسنات وللسيئات تتفاوت. الآية الثالثة: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ". والناس يخطئون فى فهم هذه الآية، فإن الله غفر ما دون الشرك، ولكنه لم يغفر ما يساوى الشرك، وهناك ذنوب أعظم من الشرك!! قد يقول أحد: وما هو الأعظم من الشرك؟! أولا: ما هو الشرك ؟ الشرك: أن يُسوّى المخلوق بالخالق، هكذا فعل المشركون عندما جاءوا بأصنامهم ثم زعموها بنات لله وسووا بينها وبين الله، وعندما يُقذفون فى جهنم يقولون: " تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين * وما أضلنا إلا المجرمون ". لكن هناك من ينكر الألوهية أصلا، فهم شر من المشركين يقينا، وهم عندما يحاسبون يحاسبون على ما هو شر من الشرك. هذه واحدة، وشىء آخر يساوى الشرك وهو فعل المعصية استباحة لها، وترك الواجب جحدا لأصله. ص _ ص 2(4/166)
فالناس عندما يرتكبون الذنب أصناف: فهناك من يرتكب المعصية بعد أن استمات فى مدافعتها ثم أزله الشيطان فوقع فيها، ثم أعقب ذلك من التحسر والألم ما يمسح هذه المعصية!! وهناك ناس يرتكبون المعصية ثم يهزون أكتافهم ويمطون شفاههم كأنهم لم يفعلوا شيئا، الواحد منهم يترك الصلاة مثلا فإذا قلت له: لم لا تصلى؟ نظر إليك ببرود وقال: ما الصلاة؟! خذنى على جناحك! هذا يقينا كفر بالله، هذا. يقينا مساوٍ للشرك، كذلك الذى يشرب الخمر أو يرتكب الزنا ثم إذا قلت له: لم تسكر؟ أو لم تزنى؟ نظر إليك ببرود وقال: دعنى مالك ولى!! هذا أيضا مساوٍ للشرك.. إن كل معصية تقترن بالاستباحة والتبجح، وكل واجب يهدر ويقترن إهداره بالاسهتزاء والسخرية فهو يقينا انسلاخ عن الإسلام ولا يمكن بتاتا أن يدخل فى هذه الآية : " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ". الآية الرابعة: " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ". كان المنافقون قديما إذا قيل لهم: توبوا إلى الله، وأصلحوا نفوسكم، وتعالوا إلى النبى يستغفر لكم ويطلب من الله أن يقبلكم رفضوا ذلك رفضا شديدا: " وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون * سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين " لأنهم ناس منافقون ينتسبون إلى الإسلام زورا وليست لهم بالله علاقة قائمة، ولو أن النبى صلى الله عليه وسلم استغفر لكافر أو لمنافق ما قبل استغفار الأنبياء كلهم له لأن الله لا يقبل عنده إلا من آمن به ورجا رحمته وخشى عقابه. الآية الخامسة " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " . ص _ ص 3(4/167)
هذه الآية تمثل خصائص الإسلام، الإسلام يقول لكل امرئ : إن غبّرتك الأرض بترابها تستطع أن تعيد الطهارة إلى جسدك بالتطهر، إن غبرتك الحياة بآثامها تستطع أن تعيد الإشراق إلى قلبك بالتوبة، لن يحول بينك وبين العودة إلى الله بشر، لن تحتاج إلى بشر يقودك إلى الله أو يشفع لك أو يكون وسيطا بينك وبينه أو تعترف عنده بذنب .. "ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما".. هذا من خصائص الإسلام، من خصائص الإسلام أنه قال لأى مخطىء : تستطع أن تعتذر إلى الله لا تحتاج إلى أحد، من خصائص الإسلام أنه قال لأى منحرف : تستطيع أن تستقيم على الطريق وتعود إلى الله ما تحتاج إلى كاهن، ما تحتاج إلى قَس تعترف عنده، ما تحتاج إلى بشر يحمل عنك توبتك: " إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل حى تطلع الشمس من مغربها" . إن الله تعالى باسط يده ليلا ونهارا لكل من يريد العودة إليه، بهذا منع الإسلام الوساطات والكهانات وجعل العلاقة بين الناس وربهم علاقة ميسرة سهلة. ما أعظم الإسلام، ما أشرف حقائقه، ما أيسر الطريقة التى رسمها للناس، وما أبعد الناس عن الحق يوم يبتعدون عن هذا الدين. انضم إلى هذه الآيات الخمس فى سورة النساء قول الله تعالى: " يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم * والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا" الله يريد أن يتوب علينا، الله يعلم ضعفنا فهو يرحمنا فلم لا نرحم أنفسنا؟ ص _ ص 4(4/168)
هنا نقول: إننا قد ذكرنا فى الخطبة السابقة أن محور سورة النساء الذى تدور عليه هو بناء المجتمع الإسلامى، وأساس المجتمع الإسلامى أنه مجتمع ذو هدف، ذو رسالة، ذو فكرة. ومعنى هذا بالتمثيل والتوضيح: أن هذا المجتمع يقوم على الإيمان بالله، فإذا كان هناك من المبادئ ما يناوئ وجود الله جل شأنه منعه لأنه يقوم على الإيمان بالله. المثل الثانى: هذا المجتمع يرفض الزنا، ويراه منكرا وفاحشة، فإذا كان هناك تبرج أو تهتك منعه ومنع كل ما يقرب من الزنا، وبالتالى يُغلق المواخير، ويرفض أن يكون فى بنائه أى شىء من هذا الذى يُيسر المعصية أو يعين عليها. المجتمع الإسلامى يحرم الخمر وبالتالى تغلق الحانات ومعاصر الخمور وما إلى ذلك مما هو بعيد عن أساسه وهدفه وفكرته. المجتمع الإسلامى يقوم على الصلاة، ومعنى أن المجتمع يقوم على الصلاة أنه يبنى المساجد، وأنه يسمع فيها إلى الأذان فى الأوقات الخمسة، وأنه يغرى المؤمنين بالمجىء إلى المساجد طوال هذه الأوقات. المجتمع الإسلامى يعلن عن نفسه، وعن إيمانه بربه، وعن خضوعه لأمره ونهيه، وعن التزامه بوصاياه وحدوده. المجتمع الإسلامى يعلن عن ذلك كله فى الصبغة التى يظهر بها ونعرف فى أرجاء العالمين بأنها لونه البارز الثابت، ومعنى ذلك واضح، قال تعالى: " وَ لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر و لله عاقبة الأمور " . فطبيعة المجتمع الإسلامى أنه يصلى ويزكى، طبيعة المجتمع الإسلامى أنه يخشى الله ويحسب حساب الآخرة لأن الله تعالى يقول ـ عندما يصف المجتمعات الجاهلية التى حاربت الدين، وأعلنت الحرب على المرسلين أجمعين ـ: "وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم " . ص _ ص 5(4/169)
لكن كيف يسكنهم الأرض من بعدهم؟ وبأى شرط يسكنون الأرض بعد فراغها من الظلمة؟ قال: " ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ". هناك فارق بين مجتمع إيمانى ومجتمع كفرانى: المجتمع الكفرانى باهت لا لون له، أو اللون الذى يسوده لا صلاة فيه، لا صيام فيه، لا احترام فيه لصلاة، لا احترام فيه لصيام. أما المجتمع الإيمانى فهو مجتمع يحترم الصلاة، ويحترم الصيام، ويحترم حدود الله. الإسلام يعلم أن هناك ناسا يدينون بغير دينه، فماذا يصنع لهم؟ يقول الإسلام فى هذا: إن من أراد أن يبقى على دينه فليبق على دينه، لكن لا يجوز منع الإسلام من أن يفرض نفسه على مجتمعه، لليهودى أن يبقى يهوديا ما نمنعه، للنصرانى أن يبقى نصرانيا ما نمنعه، لكن إذا حاول أن يمنع المجتمع من أن يقوم على الإسلام فإنه عندئذ يعلن الحرب على هذا الدين وعلى أتباعه، ليس له ما دام قد بقى على دينه أن يمنع الدين الذى يعيش فى مجتمعه أن يفرض نفسه على بيئته. وسورة النساء عندما تعرضت لليهود وغير اليهود إنما أعلنت الحرب على تصرفات لهم منكرة. لقد استبقى الإسلام اليهود فى المدينة المنورة وفى غير المدينة المنورة من جزيرة العرب على أساس أن يحيوا على عقيدتهم، أما أن يحاولوا ضرب الإسلام فى صميمه ومنع تعاليمه أن تقوم وأن تصبغ المجتمع فهذا لا يمكن، وتأمل قوله جل شأنه ـ وهو يسرد الأشياء التى جعلته يغضب من اليهود ويلعنهم ـ : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل ". لماذا تشترون الضلالة وتريدون من المسلمين أن يضلوا السبيل؟! أنتم يهود، بقيتم على يهوديتكم، دعوا المسلمين إذن، دعوهم يصلون، ص _ ص 6(4/170)
دعوهم يزكون، لماذا تحاولون ضرب هذا المجتمع؟ موقف آخر لليهود: يسألهم المشركون ـ وكان الذين سألوا من قادة قريش ومن زعماء الوثنية الجاهلية العابدة للأصنام ـ يقولون لليهود: أنتم خبراء بالوحى تدركون طبيعة المنتسبين إلى السماء وإلى الكتب السماوية دلونا أنحن على الحق أم محمد؟ فيكون جواب اليهود: أنتم على الحق، أنتم أفضل من محمد ! لم؟! محمد يدعو إلى التوحيد وهؤلاء عبدة أصنام!! لكنه الحقد على المجتمع الإسلامى، قال تعالى: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ". الخلاف إذن لم يكن بين المسلمين وبين وجود اليهود فى جزيرة العرب، فإن الإسلام استبقاهم حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم "توفى ودرعه مرهونة عند يهودى " وثبت أن عمر رضى الله عنه عندما وجد يهوديا يتسول ذهب به إلى منزله وأعطاه شيئا من المال ووضع عنه وعن أمثاله الجزية ! إذن الإسلام ما غضب لأن يهوديا بقى على يهوديته، إنما الذى أغضبه أن هؤلاء يريدون أن يمحى الإسلام من المجتمع!! ولكى تعرفوا خطورة هذا اعلموا ما يأتى: عندما يتكاسل امرؤ عن الصلاة فكسله جريمة فردية قد يختفى بها، قد يبتعد عن المجتمع وهو يرتكبها شاعرا بخسته عندما تقع منه، لكن المعصية التى تُولد ميتة معصية لا يخاف منها، الشاب عندما يخطئ فخطؤه فى المجتمع الإسلامى ـ ومع روح الإيمان ـ يولد ميتا، لم؟ لأنه مؤمن، إيمانه قاوم الخطأ طويلا، فإذا انهزم فإن إيمانه يصحو مرة أخرى ليندم أو لدمع على ما ارتكب !! ص _ ص 7(4/171)
فالجريمة هنا ميتة لا تتسلل للمجتمع لتفرض نفسها، لكن الخطورة كلها فى أن تتحول المعصية إلى تقليد قائم أو إلى تشريع قائم، معنى هذا أن الإيمان سُحق، وأن أثره الفردى والاجتماعى تلاشى المجتمع المسلم ـ بطبيعته ـ يؤذن فيه للصلاة، لكن عندما يقال للمسلم: إذا أردت أن تصلى الفجر فهات منبها يوقظك، فمعنى هذا أن المجتمع قد تنكر للصلاة وأن صوت المؤذن أصبح نابيا ترفضه طبيعة هذا المجتمع، وأن الصلاة هنا هواية لفرد يريد أن يستيقظ مبكرا فلا يجوز له أن يوقظ الآخرين القضية هنا ليست قضية إنسان تكاسل عن الصلاة فى مجتمع يقوم على العبادة، لا، القضية هنا قضية مجتمع يريد الانسلاخ من الصلاة نفسها، وهنا ينبغى أن يعرف أنه يوم تُحول جريمة ترك الصلاة من معصية فردية إلى معصية اجتماعية فهذا ارتداد. المعركة بين الإسلام وأمته من ناحية وبين الاستعمار شرقيه وغربيه من ناحية أخرى تقوم من خمسين سنة على هذا الأساس، الاستعمار بألوانه يريد ألا يكون لون المجتمع إسلاميا، فإذا نجح فى هذا زال الإسلام بيقين، والأمة الإسلامية مستميتة أن تبقى على دينها، وأن يبقى الإسلام شعارا لها، والمعركة بين الفريقين قائمة، الذين يريدون بقاء المجتمع على الإسلام يريدون أن يبقى المسجد شارة للمجتمع الإسلامى، وغيرهم يريد أن تزاحم المدينة ذات الألف مسجد بمعابد أخرى لا حصر لها حتى يزول الشعار الإسلامى لها، والأذان، ينبغى أن يخرس هذا الصوت حتى تكون الصلاة صوتا منفردا لشخص غريب فى المجتمع يصلى وحده أو يكسل وحده المسألة خطيرة فعلا، خطورتها تجىء من المعنى الذى شرحته لكم، لا يقال لمؤمن: إذا أردت أن تصلى الفجر فهات منبها يوقظك فإن معنى هذا أن المجتمع لا يريد الصلاة. إن مجتمعنا مجتمع مؤمن يريد أن يصلى وأن يسمع الأذان، لكن الغزو ص _ ص 8(4/172)
الإلحادى بلونيه الشيوعى والصليبى يريد ألا نصلى وأن تقل المساجد فى عاصمة الأمة الإسلامية ـ أى القاهرة. الأصوات النابية التى تصدر بمنع الأذان أو بمنع مكبرات الصوت عند الأذان للفجر بالذات إنما هى امتداد لما تريده موسكو وواشنطن وبكين وباريس بالقاهرة، تريد هذه العواصم أن تخرس موحد الله فى القاهرة!! هذا الصوت الذى ينبعث خمس مرات له فى قلوب المؤمنين متعة، والواقع أنه عندما يخترق حجاب الصمت وسكون الليل وهدأة الناس فإنه ينعش مشاعر الإيمان فى قلوب المؤمنين وهو متعة روحية ينادون لها لأنهم لم يسمعون إلى صوت نبيهم صلى الله عليه وسلم وهو يقول لهم: " بشر المشائين فى الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة " وهم عندما يسمعون إلى هذا الصوت يفتتحون به نهارهم يحسون بأن جو القاهرة يتطهر، وأن الموجات التى تغطى جو هذه المدينة يسير فيها نداء الحق ليتجاوب مع المؤمنين الذين يريدون طاعة الله ويريدون مرضاته، ومعروف أن أذان الفجر يتميز بكلمة تضم إليه وهى: " الصلاة خير من النوم " يسمعها المؤمن فيلبى ويردد ويقول للمؤذن: " صدقت " إن الذى يتكاسل إنما يفقد الكثير من بركات الصباح ومن خيرات الله ومن ضمانات التوفيق، ففى الحديث: " من صلى الصبح فهو فى ذمة الله فلا يطلبنكم الله من ذمته بشىء فيدركه فيكبه فى نار جهنم " . ص _ ص 9(4/173)
وكان عبد الله بن رواحة رضى الله عنه يفخر بقيام الليل وبصلاة الفجر ويصف عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع يبيت يجافى جنبه عن فراشه إذا استثقلث بالمشركين المضاجع إذا كان أصحاب البلادة وأشباه الدواب من الخلق ينامون فى شخير وغفلة فإن أصحاب الإيمان يرتقبون ساعة النداء لينهضوا، والشيطان نفسه يجتهد فى أن يجىء لكل إنسان يحاول أن يصرفه عن صلاة الفجر، وفى الحديث: " يعقد الشيطان عل قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيط النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان " . والعقد هنا عقد معنوية، والإشارة إلى قافية الرأس إشارة إلى المخ والمخيخ والجهاز العصبى. وقد وصف للنبى عليه الصلاة والسلام رجل ظل نائما حتى فاته أداء صلاة الصبح فقال: " ذاك رجل بال الشيطان فى أذنيه أو قال فى أذنه " أنا لا أدرى بدقة هل الذين يقاومون صلاة الفجر ونداءها هل هؤلاء ممن بال الشيطان فى آذانهم وهم كسالى عن الصلاة؟ ربما إذا حسّنا الظن بهم، ربما كانوا مسلمين عصاة بال الشيطان فى آذانهم واحتقر هممهم وجعلهم صرعى رقودهم حتى فاتهم فضل الصلاة قبل مطلع الشمس، ربما كان بعضهم من هذا النوع، لكن الذى أستيقنته أن ص _190(4/174)
بعض الذين يهاجمون مكبرات الصوت عند الفجر ما رئى فى مسجد منذ ولد وما شرفته نفسه بركعة لله يحتج بها يوم الحساب!! هناك نوع من الناس يشتغل بالسمسرة للمبادئ الأوربية من شرق أو غرب، همته أن يحارب الصبغة العامة للإسلام فى هذا البلد!! لماذا؟ حتى إذا ضاعت الصبغة العامة وتحول الإسلام إلى نزعات فردية فإن القضاء على النزعات الفردية سهل، إن الشيوعيين أنفسهم فى بلادهم قالوا: اتركوا كبار السن بتدينهم، سينقرضون حتما، تلقفوا الأجيال الجديدة وعلموها الإلحاد فى المدارس، وعلموها الإلحاد فى المجامع والأندية، وعلموها الإلحاد فى الصحف والمجلات والكتب ، وعلموها الإلحاد فى النوادى والساحات، علموها فى كل شىء، فستشب ـ ما دامت الصبغة العامة ملحدة ـ كما قال الله: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ".هؤلاء يريدون أن يفقد المجتمع الإسلامى صبغته الإسلامية، يريدون أن تختفى شارات العبادة منه لحساب جهات معينة أنا لا أعتبر هزيمة الإسلام أو هزيمة المصريين أمام الإنكليز فى " التل الكبير " ، بل أعتبر هزيمتنا يوم استطاع القس " دنلوب " أن يضع برامج للتربية والتعليم فى وزارة المعارف فخرج جيلا من الناس يتكلم باسم موسكو وواشنطن أوقح ص _191(4/175)
وأصرح مما يتكلم به خواجة قادم من موسكو أو واشنطن، لأنه باسم أنه مسلم يتجرأ على الإسلام ويقول لك: إلى اللقاء فى الجنة!! كأن الجنة حديقة حيوانات تدخلها أنواع الجاموس الذى يشتغل فى دور التحرير فى القاهرة !! هذا كلام غريب واعتذار أغرب عن خطأ صفيق، إننا نريد أن يعلم الناس هذه الحقائق، باسم من يتكلم هؤلاء؟ إننا نريد أن نعلم. لقد اتصلت بى امرأة من الإذاعة ـ وأنا فى مكانى فى وزارة الأوقاف ـ وقالت لى: إنها ضائقة جدا بأذان الفجر!! ولما كان الذى يكلمنى امرأة قلت : أتلطف مع هذه المرأة حتى أعرف ما تريد، قلت: لعلك تضيقين بالتواشيح أو بالابتهالات ولقد أصدرنا أمرا بمنع التواشيح ومنع الابتهالات وقلنا : لا يذاع إلا الأذان فقط، فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتبع السنة لا نزيد عليها ولا ننقص. قالت: أنا أضيق بالأذان نفسه ! قلت لها فى هدوء: لكننا لا نقيم تقاليدنا وقوانينا على ضيق رجل أو امرأة، إن القاهرة بلد مسلم، يوم يؤخذ فى انتخاب حر رأى المسلمين أيسمعون الأذان فى المكبرات أم لا يسمعونه؟ فإن تسعة وتسعين ونصف فى المائة من المسلمين سيقولون: أسعدونا بألفاظ الأذان تقال فى أطراف الليل والنهار!! فإذا كنت تضيقين بالجو فى بلد إسلامى فاذهبى إن شئت لتعيشى فى موسكو أو باريس حيث لا دين وحيث لا إسلام أما المجتمع هنا فمجتمع مسلم. أنا أريد أن أقول: إن الإسلام ليس جدارا واطيا يثب عليه كل كلب فى هذا البلد ! إن الإسلام دين محترم ولن نسمح للكلاب أن تنبحه أو تنال منه، من أراد أن يبقى فى القاهرة مسلما مصليا فليسلم وليصل، ومن ص _192(4/176)
عصى ربه فليختف بمعصيته ولا يتبجح بهذه المعصية وإلا اعتبر بتبجحه مرتدا!! إننا لا نسمح أن يقول لنا أحد: صلوا فى بيوتكم بمنبهات، إنما نقول لكل كلب لا يريد أن يسمع الأذان: ضع فى أذنك قطنا حتى لا تسمع ذكر الله!! أما أن تلزم مجتمعا مسلما بأن لا يسمع ذكر الله فهذه صفاقة لا مثيل لها، هذه سفالة غريبة أن يفرض رجل ملحد إلحاده على مجتمع مسلم !. إن الإسلام يعتز بعاصمته، ويعتز بأن الشباب مؤمن، المثقفون فى بلادنا مؤمنون، تسعة أعشار أساتذة الجامعات مؤمنون وأنا خبير بالجامعات. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. * * * ص _193(4/177)
الخطبة الثانية الحمد لله " الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد " . وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . أما بعد: فإن ديننا انفرد بأنه دعوة إلى وحدة دينية شاملة، أساس هذه الوحدة: أن نؤمن بالله، وأن نؤمن بكل الأنبياء الذين جاءوا، ومحاولة التفريق بين نبى ونبى أو بين الأنبياء وربهم هى كفر " إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما ". ومع أن الإسلام قام على هذا الأساس ـ أساس أنه وحد رب العالمين توحيدا عاليا فإنه أعطى من لا يدين هذا الدين حق أن يحيا فى كنفه بدينه المضاد للإسلام شريطة أن لا يحاول محو الصبغة الاجتماعية لديننا. نحن ناس يقول لنا ديننا: الصلاة حق، فليصطبغ المجتمع بها، الزكاة حق، فليصطبغ المجتمع بها، الخمر حرام، فلا بقاء لها فى مجتمعنا، الزنا حرام، فكل ما يؤدى إليه يجب محوه، وهكذا، فعلى أتباع الأديان الأخرى ألا يحاولوا ضرب الإسلام فى نظامه الاجتماعى لأنه دين يقوم على الشقين معا: هو عقيدة وشريعة، هو دين ودولة، فمن حاول غير ذلك فإنه يخون مجتمعنا ويغضب أبناء هذا المجتمع، ويغضب الله علينا إن قبلنا ذلك كله. ص _194(4/178)
أيها المسلمون: إن هدف الاستعمار العالمى أن ينقرض الجيل المؤمن ليستطيع هو بإعلامه، بقوانينه، بتقاليده، بلهوه ولعبه أن يخلق مجتمعا جديدا يكفر بالقرآن والسنة!! وأنا أعلم أن هناك كتّابا وإذاعيين أكل الغل قلوبهم حقدا على توحيد الله وعلى رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، ألا فليموتوا بغيظهم، ألا فليذهبوا إلى الجحيم، لكننا لا نذهب معهم، لكننا لن نصدقهم فى كذبهم، لكننا لن نستمع إليهم فى توجيهاتهم: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون " فلنحرص على ديننا، ولنبق على صلاتنا وأذاننا، ولنبق على أن نحارب المنكر وعلى أن نقر المعروف وعلى أن نوفى لله الواحد ولنبيه الخاتم عليه الصلاة والسلام. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ". عباد الله: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " . أقم الصلاة... ص _195(4/179)
نظرات فى سورة النساء الدولة فى الإسلام خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فإن دولة الإسلام التى قامت فى أعقاب الهجرة الشريفة لها شارات تتميز بها ومعالم تؤثر عنها. ليست هذه الشارات أو المعالم مراسم جوفاء بل هى حقيقة قائمة. فالدولة فى الإسلام تقوم على التوحيد لا على الشرك، تقوم على الإيمان لا على الإلحاد، وتبنى مجتمعا متقيدا بتوجيهات الله مستمدا من شرائعه. الدولة فى الإسلام ليست تسليم السلطة لبشر مصاب بجنون العظمة أو مدع للألوهية الدولة فى الإسلام دولة تشرف بقواها الخاصة والعامة على قيام المجتمع بأمر الله. توجد الآن دول تقوم على فكرة أو على مذهب اجتماعى، فإذا كانت الدولة مثلا تقوم على الشيوعية فإن سيطرتها على التعليم تجعلها تبنى مناهجه ص _196(4/180)
على الإلحاد، وسيطرتها على الإذاعة والإعلام تجعلها تبنى برامجها على التحلل والإباحة والبعد عن أمر الله. أما الدولة فى الإسلام فمعنى قيامها على الإيمان والتوحيد أنها تحتضن برامج التعليم والتربية والإعلام، وتجعل من ذلك كله محاضن ومؤشرات وموجهات لجعل الأمة كلها تستقيم على سواء السبيل. لقد جربنا أن ينبت الشباب فى بيئات لا دين لها فماذا كانت النتيجة؟ إن الأولاد الذين ينبتون في محاضن لا ترتبط بالإيمان ولا ترتبط بتقاليده ينشئون نشأة لا شرف لها ولا خلق فيها. إن الاضطراب الاجتماعى الذى يسود العالم الإسلامى الآن سببه أن الأجيال الشابة أو الأخلاف الناشئين لا يجدون التغذية الروحية ولا التقويم المعنوى الذى يربطهم بالإسلام ربطا محكما. للدولة فى الإسلام وظائف: منها أنها تقوم على الشورى، ومعنى قيامها على الشورى أنها ترفض الاستبداد، الشورى ليست اختراعا إسلاميا، فالشورى فضيلة يعرفها كل إنسان بفطرته وكما تعرف البشرية كلها أن العلم خير من الجهل وأن العدل خير من الظلم تعرف البشرية أن الشورى أفضل من الاستبداد، وهذا ما أوحى إلى رجل مثل ابن تيمية أن يقول: " الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة " إن الطبيعة البشرية تعرف الحسن والقبيح والخير والشر، ثم يجئ الدين فيصحح أخطاء الفطرة وشرود المجتمع ويمنع التلفيق الذى قد يقع لخداع الطبيعة البشرية أو الفطرة الإنسانية عن الصواب. ص _197(4/181)
ولذلك ما جاء الإسلام بجديد عندما قال: إن العدل حق، وإن العلم حق، وإن الشورى حق، إنما جاء بجديد عندما جعل من هذه المعانى عبادات يُتقرب بها إلى الله جاء الإسلام بجديد عندما جاء إلى هذه المعانى فخلطها بالكيان الإسلامى وجعل المجتمع يقوم على العلم لا على الجهل وعل الشورى لا على الاستبداد وعلى العدالة لا على الجور والمظالم. يقوم المجتمع في الإسلام على سيادة الحق، وتكون للأمة كرامتها ومكانتها بقدر ما تؤمن فيها الحقوق، فإذا ضاعت الحقوق ضاعت كرامة الأمة وحرمت من عناية الله وضمانات السماء، وهذا معنى الحديث الشريف: " إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع " !! الدولة فى الإسلام تقوم على تحكيم القانون الإلهى فيما يقع بين الناس من أخطاء، ومعنى ذلك أن القاتل يقتل، ولا معنى لما استحدثه الجاهليون من أن القاتل لا يقتل إلا إذا كان هناك تربص وسبق إصرار ضمانات السماء فى تشريع الله أن العقوبات تقع سواء كانت حقا للبشر أو حقا لله، تقع ردعا للمجرم وتأمينا للأمة. لقد رأيت لمحة من هذا المعنى عندما رفضت رئيسة حكومة إنجلترا أن تعطى المضربين عن الطعام الحق فى معيشة حسنة، قالت: لا، إن هذا يهدد حياة آمنين كثيرين فى الخارج !! هذا الكلام فيه رائحة من تفسير قوله تعالى: " ولكم في القصاص حياة". المجرم عندما يقتص منه يدفع ثمن ذنبه الذى ارتكبه، وفى الوقت نفسه نحصن المجتمع بضمانات كثيرة عندما نشعر كل من تحدثه نفسه بالجريمة أنه ص _198(4/182)
سيرد المورد وينتهى إلى هذا المصير ويقتل كما قتل أو يعاقب كما أساء. الشرائع الإسلامية التى تحتضنها الدولة كثيرة فيما يتصل بالأفراد، فيما يتصل بالولاء العام ـ ولاء المسلمين لدولتهم لأنها تقوم على الإيمان ـ وولاء المسلمين لإخوانهم على ظهر الأرض لأن أخوة الإسلام تناصر: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه " وإذا وجده فى مكان ما محتاجا إلى العون متطلعا إلى الغوث عرض عليه عونه وقدم له غوثه وبين له أن الدين تناصر بين المؤمنين. على هذا الأساس قامت دولة الإسلام فى المدينة المنورة، قامت على الإسلام لا على الكفر، قامت على التوحيد لا على الشرك، قامت على مبدأ السمع والطاعة لله فيما أمر ونهى، فإذا أقامت مجتمعا فهذا المجتمع يتلاقى أفراده بالصلوات الجامعة، وتصطبغ أرجاء المجتمع بالربانية التى تهتف باسم الله خمس مرات كل يوم، فالمجتمع كله كبيره وصغيره متعاون على أن يتصل بالله، يتلاقى فى الصلوات، ويتراحم بالزكوات،. ويحسن الحسن، ويقبح القبيح، ويعلى راية المعروف، وينكس راية المنكر تحقيقا لقوله جل شأنه: " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر ". الدولة فى الإسلام تقوم على تناصر الإيمان، ولقد رأينا هذا التناصر فى خلال الدولة الأولى واضحا، لأن أعداء الإسلام اعتبروا هذا الدين خروجا عل التقاليد والعرف والسلطة فقاوموه بكل ما لديهم من قوة، فليس بغريب أن تقوم الدولة فى الإسلام على أن أخوة الدين تناصر وتلاحم وتماسك وأن المسلم أخو المسلم حيث كان. رأينا بعد قرنين من الزمن تقريبا امرأة تؤسر فى دولة الروم، فلما أسرت وأهينت صرخت: وامعتصماه تقصد الخليفة العباسى القائم فى بغداد ، فلما رويت القصة للمعتصم جمع المسلمين وهو يقول: يا لبيكاه ص _199(4/183)
لبى النداء واقتحم بجيش كثيف أرض الروم وطوى أبعادا شاسعة ودخل فى حرب مدمرة حتى استنقذ المرأة الأسيرة بإخوة الإسلام . إن الوضع الآن تغير كما قال قائل: رُبّ " وامعتصماه " انطلقت لم تصادف نخوة المعتصم الوضع تغير لأن أكثر حكام المسلمين إما عميل للشرق وإما عميل للغرب، ولقد رأينا عملاء لإحدى الجبهتين لا يرون حرجا أبدا من أن يلعبوا فى موسكو بينما الجيش الشيوعى يقتل إخوانهم فى أفغانستان . وذلك لأن أخوة الإسلام تبددت أو تلاشت أو اختفت مع نزعات القومية العربية والبعث العربى والوطنيات الضيقة والأنساب المزورة التى اخترعت للأمة الإسلامية كى تذهب بها وتبدد قواها وتهد كيانها. الدولة فى الإسلام ليست طبلا أجوف، إنما هى ممثلة لتعاليم هذا الدين عبادة ومعاملة، أخلاقا وقوانين. الدولة فى الإسلام هى الحزام الذى يشد شُعب الإيمان السبعين والإطار الذى يحكم تجمع هذه التعاليم ويشرف على مصالح الأمة ويسوقها إلى الغاية التى يرتضيها رب العالمين. هذه هى الدولة كما رسمها ديننا، عندما بدأت فى المدينة كان بديهيا أن تقوم أمامها العوائق وأن يوجد لها أعداء ومعارضون. لقد نظرت فى القرآن الكريم الذى نزل فى المدينة المنورة فوجدت فيه نماذج كثيرة لوظيفة الدولة تجاه الأعداء والمعارضين الذين يشغبون عليها ويعملون ضدها. واليوم نقدم نموذجا واحدا من سورة النساء، ولعلنا فى خطب أخرى إن شاء الله نقدم نماذج من القرآن المدنى يزيد ما قلناه وضوحا ويبين له حدوده التى لابد منها. ص _200(4/184)
عندما قامت دولة الإسلام على التوحيد لا على الشرك، على الإيمان لا على الكفر، على إحياء شرائع الله الخاصة بالدولة والأسرة والمجتمع التى تتصل بالسياسة والاقتصاد والأسرة والأخلاق الفردية، عندما قامت الدولة على هذا كله كان طبيعيا أن ينبرى لها أعداء، وأن يقوم ضدها معارضون. ولذلك وجدت سورة النساء تحدثت عن مواقف للمعارضين فى خمسة مواضع، كان التعريض بأولئك المعارضين يبدأ بهذا الاستفهام " ألم تر "؟ خمسة استفهامات نقولها إجمالا ثم نشرحها بشىء من التعجل. قال تعالى: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل * والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ". استفهام آخر: " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا * انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا ". استفهام ثالث: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ". استفهام رابع: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا " استفهام خامس: " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ". ص _201(4/185)
هذه الاستفهامات الخمسة نستعرضها واحدا واحدا كى نقف وقفة تأمل أمامها. الاستفهام الأول: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب " من هم؟ هم اليهود " أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ " لأن ما بين أيديهم من صحائف الوحى ليس الوحى كله، وليس الوحى الحق، هو أولا: ناقص، وثانيا: مغشوش، فيه أخطاء وجهالات كثيرة، وأهم من ذلك كله أن مسالكهم ضد الموحدين مريبة ومرفوضة لماذا؟ لأن أحقادهم طفحت من أفئدتهم، فهم يودون للمسلمين أن يرجعوا كفارا بعد أن هداهم الله إلى الإيمان، وقد تكرر هذا المعنى واتضح فى سور أخرى: "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء "، وقال: " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ". هذه الودادة فى نفوسهم جعلتهم ـ بتعبير القرآن ـ: " يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل " هذا الحقد توارثته الدول الاستعمارية كلها ومن ينتسبون ـ للأسف ـ إلى السماء زورا، ولقد سئل أحد المبشرين أمام رؤسائه: كم مسلما نصرته؟ فقال الرجل: لا تسألونى كم مسلما نصرته، ولكن سلونى: كم مسلما أفسدته على دينه؟ أو أفسدت عليه دينه؟ هذا هو الذى يتجه إليه أعداء الإسلام: كيف يفسدون علاقتنا بكتاب ربنا وسنة نبينا !. الاستفهام الثانى: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ " أى يعتبرون أنفسهم قمة الخليقة، ويرون أنهم شعب الله المختار، ويقولون فى ضلالاتهم إنهم أبناء الأنبياء وإنهم أجدر الناس بالسيادة على كلتا الجبهتين فى الشرق أو فى الغرب لعبقريتهم ولحلمهم ولغناهم ولقدرتهم السياسية والاقتصادية ! وهذا كلام يحتاج إلى تأمل، فالقول بأن اليهود أو بنى إسرائيل هم أبناء يعقوب كلام غير صحيح، فإن هؤلاء اليهود من عشرات الأجناس ص _202(4/186)
والدماء والألوان، ولو فرضنا كذبا أنهم أولاد إبراهيم ما يجديهم هذا شيئا فإن الله جل جلاله يقول عن إبراهيم ونوح: " ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ". فالانتساب وحده للأنبياء لا يعطى وجاهة ولا يكون شرفا ولو كانوا أبناء محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، فإن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: " يا فاطمة بنت محمد سلينى ما شئت من مالى لا أغنى عنك من الله شيئا"، وقال: " ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه " . فتزكية النفس والقول بأن لله شعبا مختارا كلام لا أصل له، إنما يزكى الإنسان بعمله وخلقه وشرف نفسه وما يقدمه للآخرين من فضل ونبل، أما ما عدا ذلك فلا قيمة له. الاستفهام الثالث: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ". سئل زعماء يهود ـ يوم ضريت الحرب بين الوثنية تقودها قري وبين التوحيد يقوده خاتم الأنبياء ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لهم رجال قريش: أنتم خبراء بالوحى، أنتم أهل الذكر وأهل الكتاب احكموا بيننا وبين محمد أنحن على الحق أم هو؟ فكان جواب أحبار اليهود و سدنة العهد القديم: أنتم على الحق ومحمد على الباطل الشرك عند هؤلاء حق والتوحيد باطل ! هذا هو الهوى الجامح والحكم القبيح، وسبب هذا الحكم الحقد والحسد والبغى فى الأرض والاستطالة على الناس ورب الناس. ص _203(4/187)
الاستفهامات الثلاثة فى أهل الكتاب وفى طليعتهم اليهود. أما الاستفهام الرابع فهو فى المنافقين الذين وجدوا فى المجتمع المدنى ولهم باطن سىء ومظهر خادع، هؤلاء تكشفهم دائما أمور: أول ما يكشفهم أنهم يكرهون الدولة الإسلامية، ويكرهون التشريع السماوى، ويكرهون الأحكام التى أنزلها الله لتطهر المجتمع من أوساخه، وفى الحديث الشريف: " حد يعمل فى الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا " ... هذا الحديث معناه أن البركة ليست فى أن تمطر السماء الأرض، هناك بلاد تكاد تموت جوعا من الجفاف، والغريب أن هؤلاء طمس الله على أفئدتهم فلا يعرفون استسقاء، هم بهائم ليس لهم رب يدعونه، إنهم ينتظرون نجدات من الشرق أو من الغرب ! هناك الآن خوف من أزمات الجوع ومن أزمات الضيق، والسبب ليس فى أن الأرض لم تمطر، إنها أمطرت، ولكن السلوك البشرى فوق ظهر الأرض سلوك طائش معوج محروم من عناية السماء ومن مباركة الله، فلو أن مجتمعا أقام حدود الله بحقها لتوفرت البركات هنا وهناك وكما قال جل شأنه ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون " . الاستفهام الرابع: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ". زعم: مطية الكذب، أى أن كلامهم غير صحيح، هم كذبة فى زعمهم للإيمان، ليس تدينهم حقيقيا، إنما هو تدين صورى، ولو كان تدينهم حقيقيا لصدعوا بأمر الله ولنفذوا أحكام الله ولما اخترعوا عقوبات لا ص _204(4/188)
صلة لها بدين الله، هى عقوبات يريدون بها محاربة الجريمة فى المجتمع، ولكن هذه العقوبات ما حمت المجتمع من عدوان المعتدين وسرقات السارقين وغش الغاشين وضلال الضالين، وهيهات!! وقد يحلفون أنهم يريدون بهذه العقوبات الإحسان إلى الأمة أو التوفيق بين ما يحب الله وبين ما ينبغى إيقاعه بين الناس من مصلحة، ويكذبهم القرآن فى هذا كله: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا هؤلاء بين القرآن الرأى فيهم والحكم الفذ فى شؤونهم عندما قال فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما أما الاستفهام الخامس فهو فى ضعفاء الإيمان الذين لا يعرفون حقيقة القدر ولا يحيطون علما بالأسماء الحسنى والصفات العلى فيظنون أن الهروب يطيل الأجل وأن النكوص يكثر الأرزاق وأن الإنسان يستطع أن يعيش آمنا فى سربه مطمئنا بين أهله إذا لم يقل كلمة حق وإذا لم يجاهد فى سبيل ربه، وإذا لم يلب نداء الشرف عندما يطلب لمعركة الشرف، هؤلاء يظنون أن نكوصهم وجبنهم يطيلان الآجال ويكثران الأرزاق، وهذا كله خطأ، فإن الأرزاق والآجال لا يمكن أن تطول بالجبن ولا أن تضعف أو تقل بالتضحية، هيهات ! لقد سبق لرب العالمين أن حدد للناس أرزاقهم وآجالهم، فضعف الإيمان هو الذى يجعل بعض الناس يتملق ويجبن وتخور قواه فى موقف شرف ، وتضطرب أقدامه إذا دعى إلى الدفاع عن دينه وعن أمته وعن يومه وغده ! كل هذا سببه ضعف الإيمان ولو كان قوى الإيمان لعلم أن الطائرة تسقط وهى محلقة فى الجو ـ ما يدفع أحد عن نفسه وهى ساقطة ـ ثم ص _205(4/189)
يبين القدر عما كتب فإذا طفل أو شيخ ضعيف يبقى حيا وإذا شاب عارم القوة مضرج بدمه ! هذه آجال ما للبشر فيها دخل. قال تعالى : "ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا * أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " . إن الإيمان الحق يفرض على المسلمين أن يستسلموا لله فى هذه النواحى كلها. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. * * * ص _206(4/190)
الخطبة الثانية الحمد لله موفق العاملين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولى المؤمنين. وأشهد أن محمدا رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين . أما بعد: فإن الأمة الإسلامية فى مفترق طرق، وأعداؤها يتناولونها من كل جانب، وأسباب الضعف التى تلاقت فى مجتمعها كثيرة، ولكنها تستطع على مر الأيام أن تمحو هذه الأسباب سببا سببا وأن تأخذ طريقها إلى الله خطوة خطوة، وأن تبدأ فترسخ الإيمان فى القلوب وتقوى التقاليد النافعة وتذهب التقاليد الضارة وتقيم البناء الخلقى متينا فى أمتنا. إن بناء الأخلاق شىء من صميم عمل الفرد ومن صميم نشاط المجتمع، وللدولة دخل فيه، ولكنه دخل جانبى أو محدود أو على الأقل عامل مساعد، ولكن العامل الأساسى هو فى نشاط الفرد ونشاط الأسرة ويقظة الجميع فى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والترفع عن الشهوات وبناء فضائل الإيمان والوفاء والتراحم واحترام الحق واحتقار الباطل، وما إلى ذلك من معان مجتمعنا إليها فقير. إننى أشعر بأن الأمريكيين كانوا علماء كبارا عندما وضعوا أقدامهم على القمر وأن تفوقهم الحضارى بلغ حدا يثير الإعجاب ولكنى أقول وبصراحة: إن هناك مجالا آخر ربما كان عندى أعظم من هذا التفوق وأدل على الحضارة من هذا الغزو للفضاء أعنى أن رئيس دولتهم يدخل مع رجل الشارع فى انتخابات فينهزم يستعرضان معا فى الإذاعة فيعطى هذا خمس دقائق وهذا خمس دقائق، ليس لأحد تفوق على الآخر ص _207(4/191)
هذا نوع من الخلق أو نوع من الكرامة الإنسانية يحتاج المسلمون إليه ولا يحتاجون إلى قنبلة ذرية ولا إلى تفوق صناعى. وليس بعامر بنيان قوم إذا أخلاقهم كانت خرابا فلنبن الأخلاق والتقاليد الحسنة فى أمتنا حتى يمكن أن نكون أهلا للانتساب إلى الإسلام وإلى نبى الإسلام عليه الصلاة والسلام. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ". عباد الله: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " . أقم الصلاة... ص _208(4/192)
القرآن يتحدث عن الهجرة خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه 29/2/1973 م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شىء قدير، وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فمما يروى أن أبا بكر رضى الله عنه قال يوصى عمر بن الخطاب رضى الله عنه: " إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة لاتباعهم الحق، والحق ثقيل على النفوس، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة لاتباعهم الهوى.. والهوى خفيف على النفوس "!!. والواقع أن خدمة الحق قد تكون معنتة متعبة لأن أتباع الهوى يقفون ضده، ويكرهون مسيرته، ويعترضون انطلاقه إلى غايته، ثم إن الحق عندما يشق طريقه لابد أن يشعر أصحابه بمرارة الكفاح، وآلام الهزيمة التى لابد أن تصيبهم فى مراحل الجهاد الطويل قبل أن يدركوا هدفهم، ويحققوا مرادهم!! وعندما نتأمل فى ذكرى الهجرة نجد شواهد لذلك، وعندما نتأمل فى سيرة أولاد النبى صلى الله عليه وسلم بعده، ومصابهم فى أنفسهم وأموالهم بسبب دينهم واستمساكهم بالحق نشعر بهذه المعانى حية فى ضمائرنا. كان الحسين بن على رضى الله عنه يستطع أن يعيش قرير العين، وقد التقت فى ساحته حسنة الدنيا وحسنة الآخرة !!. كان الرجل من ناحية الدنيا ممدود المال، عريض الجاه، جميل الوجه، شريف النسب، وكان من ناحية الدين عابدا، مخبتا، مخلصا، يقوم الليل، ويصوم النهار، وما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا. ولكن خدمة الحق كلفت الرجل أن يخرج ليؤدى واجبه، ولينهض بأعباء الرسالة التى شعر بضرورة القيام بها، وكلفه ذلك وكلف إخوانه أن يفقدوا حياتهم واستقرارهم، حتى قال شاعر من شعراء الإسلام يومئذ ص _209(4/193)
يقارن بين حياة الحسين رضى الله عنه وأهله، وبين حياة ملوك أمية وترفهم، يقول فى البيوت التى خربت لأنها خدمت الحق، يقول : مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحى مقفر العرصات وآل زياد فى القصور مصونة وآل رسول الله فى الفلوات يقصد زينب بنت على رضى الله عنها، لكن الحسين وأخته وأهل البيت رضى الله عنهم، إنما سلكوا فى هذا مسلك جدهم صلى الله عليه وسلم عندما هاجر . كان يستطع أن يعيش فى بيته، له زوج صالحة، ومن أسرة نبيلة، وحوله من رغد العيش ما يطمئنه إلى حاضره ومستقبله، ولكنه لما بدأ يحمل أعباء الرسالة، بدأ يحمل المتاعب الثقال، وكان ورقة بن نوفل رجلا خبيرا بطبائع المجتمعات، وقضية الصراع بين الحق والباطل، فلما بدرت بوادر الوحى، وذهب يقص ما وجد على ورقة، قال له ورقة: " ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك فاستغرب النبى صلى الله عليه وسلم وقال: " أومخرجى هم؟ " قال نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى " . إن الذين ورثوا الخرافة تعصبوا لها، والذين اطمأنوا لأوضاع باطلة تدر عليهم السمن والعسل يحبون أن تبقى هذه الأوضاع، وأن يعيشوا فى ظلها، وهم يقاتلون دونها، ولذلك عندما وجدوا دينا يعكر صفوهم، ويحارب إفكهم، ويمزق خرافاتهم تنمروا له:" و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا..." يكادون يبطشون بهم " قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا و بئس المصير " ص _210(4/194)
لكن أهل الحق الذين يستميتون فى الذود عنه يرزقهم الله أمورا تهون عليهم الصعب!!. من أول تلك الأمور: نفس رفيعة تمج الباطل، وتشمئز منه، وتشعر بالشقاء لو أنها قارفته أو اقتربت منه، نفس تأنس للحق، وتهش له، وتستحلى مرارة الدفاع عنه، وترى فى ذلك كرامتها ومجادتها وعظمتها فى الدنيا والآخرة: إن الذى خلق الحقيقة علقما لم يخل من أهل الحقيقة جيلا فى كل زمن يوجد من يحتضن الحق، ويستريح إليه، ومن هذا المعنى قول أحد العلماء وقد سئل: ما لذتك؟ قال: فى حجة تتبختر اتضاحا وشبهة تتضاءل افتضاحا!!. ربما كانت لذة الحيوان فى أبناء آدم أكلة شهية، أو نومة هنية !! ولكن هناك ناس يشعرون باللذة تغمر أقطار أنفسهم بالسعادة لأن للحق دليلا قويا ظهر، ولأن الباطل أخذ يتبدد؟ تتبدد الغيوم عندما تشرق أشعة الشمس!. هذا أول ما يزود الله به دعاة الحق وحملته، وفى طليعتهم وقمتهم صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام!! إلى جانب هذا هناك أمر يضعه الله فى قلوب خدام الحق، هذا الأمر هو أنه مهما طال المدى فإلى الحق المصير، وأن الكفاح مهما كلف من خسائر، وحمل من عنت فإن القاعدة القرآنية لابد أن ترسو قواعدها وهى قوله جل شأنه: " ... فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض... " وقد حدث فعلا أن اصطدم حق وباطل من قديم، ولكن ما الذى انتهى الأمر إليه؟ من قاتل الحسين رضى الله عنه؟. ص _211(4/195)
نكرة فى التاريخ لا يعرف!! باء باللعنة فى يومه وغده!! وذهب فى خبر كان ينتظر غضب الله عندما يؤوب إليه. أما الحسين فإن الله رفع له ذكره،كما رفع ذكر جده عليه الصلاة والسلام!! وبقى الحق وبقى أهله، وتبخر الباطل وتبخر خدمه!!. هذه حقائق نذكرها بين يدى حديثنا عن الهجرة النبوية الشريفة، لقد تناولت الهجرة النبوية فى الخطبة الماضية من زاوية، وأريد فى خطبة اليوم أن أتناولها من زاوية أخرى. ألف الناس فى القرآن الكريم أنه ينزل تعليقا على ما يكون من أحداث، فيوجه التوجيه الذى تفتقر الأمة إليه، إن كان الذى حدث، نصرا ذكر أسبابه بحق، وكسر الغرور الذى قد يصاحب المنتصرين، وإن كان هزيمة ذكر الأسباب بصدق، ومسح التراب الذى عفر جباه المنهزمين!!. على هذا النحو نجد أن سورة الأنفال نزلت فى أعقاب غزوة بدر، وأن سورة الأحزاب نزلت فى أعقاب الخندق، وأن سورة الفتح نزلت فى أعقاب الحديبية، وأن سورة آل عمران نزل نصفها الأخير فى أعقاب هزيمة أحد، قد يسأل أحد الناس فهل نزلت فى حادثة الهجرة سورة ما كما حدث ذلك فى أعقاب الغزوات التى وقعت؟. والجواب: لا، لم يقع هذا، ولكن وقع ما هو أخطر وأهم. كأن الله سبحانه وتعالى حكم بأن قصة الهجرة أكبر من أن يعلق عليها فى سورة واحدة، وأن تمر مناسبتها بهذا التعقيب وينتهى الأمر، فحكم جل شأنه بأن تكون ذكرى الهجرة قصة تؤخذ العبر منها على امتداد الأيام، وتذكر فى أمور كثيرة، وفى مناسبات مختلفة !! ولذلك فإنى أعرض من سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والتوبة، والأنفال آيات تناولت الهجرة، وتناول الهجرة فى هذه السور المختلفة إنما تم فى إطار الدواعى، والملابسات التى قضت بالعودة إلى ذكرى الهجرة حديثا عنها واعتبارا بها، ففى سورة البقرة نقرأ قوله تعالى :" إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم ". ص _212(4/196)
" أولئك يرجون رحمة الله " يعنى أن الرجاء فى الله ليس حق الكسالى والعجزة، إنما هو حق المهاجرين والمجاهدين. ولم ذكر هنا أمر الهجرة والجهاد؟. تنظر إلى الآية التى سبقت هذه الآية لتعرف السبب، فإن الله تعالى يقول للمسلمين: إن أعداءكم كثيرون، يتربصون بكم ويحاولون فتنتكم عن دينكم وينتهزون الفرص لإلحاق الأذى قل أو كثر بكم قال تعالى : "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " ثم قال: إن النجاة من هذا الارتداد، ومن هذا الكفر الذى يراد إلحاقه بالمسلمين يتطلب واحدا من أمرين : إما الجهاد حتى تنكسر صولة العدو، وإما الهجرة إذا كان المؤمن أعجز من أن يقاتل. هذا المعنى يستحق أن نذكر معه قول النبى عليه الصلاة والسلام: " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا " ومعنى الحديث: أنه بعد أن تم فتح مكة فلا مكان للهجرة، انتهت الهجرة، وإنما فى أعماق المؤمنين جهاد العدوان وكسر الطغيان إلى يوم القيامة، وإذا استنفرتم فانفروا أى إذا أعلنت الدعوة إلى القتال وظهر النفير العام فانفروا، ومع ذلك فقد وردت أحاديث أخرى تفيد أن الهجرة باقية إلى يوم القيامة، وتفسير ذلك: أن بعض الناس قد يكونون فى بيئات يعتزلون فيها ويستوحشون، هؤلاء ينبغى كى يبقى الإيمان فى أعقابهم أن يلحقوا بكتلة الأمة الإسلامية، والحقيقة أنى شعرت بهذا المعنى، وأنا أرقب حياة بعض الذين هاجروا من مصر إلى كندا، أو استراليا أو غيرهما من بلاد الله، فإن بعض المسلمين هناك ضاع دينهم، أو فقدوا فى البيئة الجديدة ما يربطهم بتراثهم وتاريخهم. ص _213(4/197)
ألحق الآباء أبناءهم بمدارس لا لغة فيها ولا صلاة ولا قرآن، فشب الأبناء على النحو الذى أتيح لهم وضاع بذلك دينهم. الأمر يحتاج إلى علاج سريع، إما أن يعودوا إلى إسلامهم هنا، وإما أن نرسل إليهم فى بيئاتهم من يستبقى علائقهم بالله ورسوله والقرآن وهداياته وإلا ضاعوا. هذه آية من الآيات التى علقت على الهجرة بعد الهجرة بسنين، فى سورة آل عمران نرى آية أخرى تحدثت عن الهجرة بعد هزيمة " أحد " والهزيمة كانت مرة ووقعها كان شديدا على النفوس، ولكن الله ينبه الرجال إلى أن المبادئ لا ينصرها المهازيل والضعاف، من طلب عظيما خاطر بعظمته، والأمم الضائعة، والشباب الطرى لا يمكن أن يكون سنادًا لهدف ضخم ولا حمالا لواجبات عظيمة !. إذن لأبد أن يلقن المسلمون بعد " أحد " درسا يذكرهم بالهجرة. قال تعالى : " فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب " فى سورة النساء ذكرت الهجرة، ذكرت على أساس يستحق أن ندرسه فى عصرنا، فإن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت انطلاقا بدعوة محبوسة مضطهدة إلى مكان جديد أو وطن جديد تستقر فيه وتحاول الانطلاق منه، ولذلك كان فرضا على كل مسلم أن يترك مكة إذا كان يعيش فى مكة، أن يترك جنوب الجزيرة العربية إن كان يعيش فى جنوبها، ـ أن يترك شمالها إن كان يعيش فى شمالها، وأن يلحق بالإسلام الذى أسس مجتمعا له فى المدينة كى يدعم هذا المجتمع الجديد ويعلى فيه راية التوحيد، ويرد عنه عدوان الشرك، ويجعل قوى المؤمنين فى هذا الوطن الجديد ص _214(4/198)
تتماسك وتتلاقى، ومن هنا فإن عدم الهجرة كان جريمة، واعتبر الذين يؤثرون الضعف فى أرضهم اعتبروا حطب جهنم!! وقال فيهم رب العالمين:" إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا " ثم استثنى القرآن أصحاب الأعذار الحقيقية فقال : " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ". الرجال: أى الشيوخ الفانين الذين لا يستطيعون الضرب فى الأرض ولا التنقل من مكان إلى مكان، ماذا تكون عقبى هؤلاء؟ " a8_26فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم " والتعبير بكلمة عسى قطع لدابر اختلاق الأعذار، لأن صاحب العذر الحقيقى لا يدرى أيغفر الله له أم لا؟ وإن كان الرجاء فى الله محققا، إلا أن التعبير جاء هكذا حتى لا يفتعل أحد عذرا!!. وفى سورة الأنفال نجد حديثا عن الهجرة بعد النصر فى معركة بدر والحديث سببه أن المسلمين بدا منهم شىء من الرفق بالأسرى حتى تركوهم، ولكن تطهير الأرض من المجرمين لمصلحة الحياة نفسها، إن المجرمين جراثيم تنقل الخزى والذل والسرقة والأثرة والتشبع من الحرام، ومن مصلحة الحياة نفسها أن يختفى هذا الصنف من الناس!!. ولذلك فإن القرآن الكريم ذكر المسلمين بعد النصر بأيام الكرب والضرب التى كانت تلاحقهم فى مكة وهم مضطهدون معذبون: "واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون " ثم يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين " . ص _215(4/199)
وهذه الآية تشرح المؤامرة التى حيكت خيوطها فى مكة وهم يتحدثون كيف نخلص من محمد؟ فيرى بعضهم أن يسجن، ويرى بعضهم أن يقتل، ويرى بعضهم أن يطرد، إلى آخر ما اختلف القوم فيه. ثم تأتى المناسبة الأخيرة التى ذكرت آياتها فى سورة التوبة، وربما ظن بعض الناس أن هذه الآيات نزلت فى أعقاب الهجرة، لأن الله يقول فيها "إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " ناس كثيرون ربما ظنوا أن الآية بعد قصة الغار وما وقع فيها، وهذا خطأ، فإن هذه الآية نزلت بعد قصة الغار بتسع سنين!! نزلت فى سورة براءة، ونزلت كما أحكى لكم الآن لسبب، فإن الله يرجع الناس إلى قصة الهجرة ليعتبروا بها ولينتفعوا من أحداثها، وقد حدث بعد تسع سنين من الهجرة أن استدعى ما يقتضى عرض قصة الهجرة والغار والحوار الذى دار بين النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه، عندما فرض على المسلمين علنا أن يتجمعوا لمقابلة الروم، والروم أو الرومان كما يدرس اسمهم فى التاريخ، كانوا يومئذ الدولة الأولى فى العالم، كانوا أشبه بأمريكا الآن، كانت دولة مرهوبة الجانب، عظيمة السلطان، باطشة بالشمال الأفريقى كله، وبآسيا الصغرى كلها وعندما اشتبك الإسلام معها كانت خارجة من نصر تجرر أذياله فخرا على الدولة الأخرى، دولة فارس، أى أن الأمجاد كلها كانت تكلل هامة الرومان، دولة عظمى ومنتصرة، وفى هذه اللحظات قيل للمسلمين تحركوا إلى دولة الروم لتقاتلوها!! وقع الرعب فى قلوب الناس، وقع التخاذل والقلق، وقال المنافقون انتهى محمد، انتهى دينه، سيشتبك مع الدولة الأولى فى العالم وسيتلاشى!!. وشاء الله أن تنزل الآيات بعد أن تمت المعركة وبعد أن ذهب المسلمون فى ثلاثين ألفا ! ما عرفت جزيرة العرب تعبئة بهذه الضخامة فى أيام مرهقة بحرها وجدبها حتى سميت الغزوة غزوة العسرة ، ونزل القرآن يبكت المنهزمين الضعاف، يبكت الذين خافوا(4/200)
القوة المادية ونسوا قوة الله " يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما و يستبدل قوما غيركم و لا تضروه شيئا و الله على كل شيء قدير * إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " ص _216
وعاد إلى قصة الهجرة يذكر بوقائعها، إن الرجل الفرد الذى تألبت عليه مكة كلها وهى يومئذ أم القرى وعاصمة الجزيرة العربية، إن الرجل الوحيد الذى خرج معه صاحبه يؤنسه ويخدمه، هذا الرجل ماذا حدث له؟ ما استطاع الناس أن يصنعوا له شيئا، بل لقد تحول على امتداد الزمن إلى حضارة عمرت المشارق والمغارب بمنطق العقل، وأدب النفس، وسناء الخلق، وأقامت مجتمعا لا تعرف الدنيا مثله تراحما وتناصرا وعدلا " لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا " صيحة العزاء فى ضيق الغار وهجمة العدو واضطراب الدنيا، صيحة العزاء " إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ". لكن متى يكون الله مع أمة ما؟ يوم تكون هذه الأمة مع الله، وقد قلت لكم: إن أحد الصالحين قال لتلميذه: إذا أردت أن تعرف مكانتك عند الله فاعرف مكانة الله فى قلبك !. هكذا ذكر الإسلام قصة الهجرة، وهكذا عرضها القرآن الكريم فى مواطن شتى من السور، نزلت تعلم، وتعلم إلى جانب ذلك أن صاحب الرسالة الجليلة عليه الصلاة والسلام ما فقد بالله ثقته، ولا وهن فيه أمله، عندما لاحقه سراقة بن مالك يريد أن يبطش به، وأن ينال الجائزة المرصدة لمن يجي بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيا أو ميتا، وعندما هزمته الأقدار كبا، وكبا فرسه، قال له المهاجر الوحيد المطارد فى صحراء الجزيرة: " كيف بك إذا لبست سوارى كسرى "؟ . وعاد الرجل كالمجنون من الذى حدث ومن الذى سمعه؟ ص _217(4/201)
وفتحت فارس، وجىء بسوارى كسرى، ودعا عمر بن الخطاب رضى الله عنه سراقة وألبسه السوارين تحقيقا لوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم !!. أقول قولى هذا واستغفر الله لى ولكم. ص _2 ص
الخطبة الثانية الحمد لله " الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد " . وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإن الإسلام الذى جاهد من أجله محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام هو دين الله من الأزل إلى الأبد، هو الدين الحق من الأزل إلى الأبد، به بشر جميع الأنبياء من قبل، وبحقائقه أرسلوا، وبأركانه نهضوا بين الأمم، منذ نوح عليه السلام أبى البشر الثانى، يقول الله : " واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون * فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين " . ويقول الله لعيسى ابن مريم عليه السلام " وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون " . وبين عيسى ونوح رسل كثيرون، ذكر القرآن عناصر الوحدة الدينية التى تجمعهم كلهم والعنوان الفذ الذى عملوا تحت رايته، أى الإسلام. لكن الإسلام عندما شرح القرآن الكريم حقيقته على هذا النحو كمّل المعانى فبين أن موسى ما كذبه عيسى ولا عيسى كذب موسى ولا محمد صلى الله عليه وسلم كذب واحدا من الاثنين. ص _219(4/202)
الأول كان يمهد للثانى، والثانى كان يصدق الأول، هذه حقائق، لكن الأتباع الجهلة شردوا عن رسالة موسى وعن رسالة عيسى، ولذلك لما انحرفوا عن طريق موسى وعيسى وإبراهيم، أصبحوا لا يستحقون وصف الإسلام، لأن الإسلام إيمان بالله الواحد وتصديق لما جاء به موسى، فأين ما جاء به موسى؟ وهل صدق اليهود بما جاء به موسى؟. إن الإسلام إيمان بالله الواحد وتصديق للنبيين جميعا، فإذا قال يهودى فى إسرائيل : إن عيسى لقيطا وأمه زانية!! وإن محمدا دجال ورسالته كاذبة!!. فهل يمكن أن يقال إن هذا اليهودى يتبع موسى ويسمى مسلما؟ لا ، لا، هذا غير صحيح، إن الإسلام الحق عبادة لله الواحد، ولو أن عيسى حى لرفض ممن يزعمون اتباعه أن يجعلوه إلها مع الله ولقال لهم: إنى عبد فقط!! ولا يمكن أن يسمى من يشرك بالله أو يكذب واحدا من أنبيائه مسلما يعبد الله على طريقة موسى أو على طريقة عيسى. إن محمدا عليه الصلاة والسلام جاء بالحقيقة الكاملة والوحدة الدينية الشاملة وهو مع ذلك وضع قاعدة إنسانية كلها رقة، وكلها عدالة، فبين أن الذى يرفضه ـ أى يرفض محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يريد أن يتبعه فليرفضه وليبق على ما يريد " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم " فنحن نشرح الحق ونؤيده ونسانده ونستميت فى الدفاع عنه، ونرد كل فتنة تحاول أن تمسخ الدين أو أن تشوهه، ولكنا مع هذا الاستمساك والتشبث نعامل غيرنا كإنسان له ما لنا وعليه ما علينا ! هذا هو الفهم الواعى والشرح الدقيق للإسلام، أما الزعم بأن الأديان كلها سواء لا خلاف بين يهودية أو نصرانية أو إسلام فى عصرنا الحاضر، فهذا لغو من القول لا يلتفت إليه. ص _220(4/203)
" اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ". عباد الله: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " . أقم الصلاة... ص _221
شُبهَات حَولَ بَعضُ الأَحَاديثِ النَّبويَّةِ خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه فى يوم 15 /6/ 1973م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فأرجو أن أوفق إلى أداء خطبة اليوم برغم ما أعانى من بعض الأمراض المفاجئة. موضوعنا ـ إن شاء الله ـ رد شبهات عن بعض الأحاديث النبوية التى شاعت بين الناس وفهموها على غير وجهها. والمسلمون بحسبهم أن أعداءهم يتربصون بهم وينالون منهم، فلا ينبغى أن يعينوهم على أنفسهم بسوء الفهم للدين والافتراء على وحى الله بما لم يُردْه الله ورسوله. 1 ـ من ذلك أن عددا كبيرا من الناس يجرى على لسانه قوله عليه الصلاة والسلام: " من قال لا إله إلا الله دخل الجنة " . ص _222(4/204)
فيفهم من هذه الكلمة أن الإيمان يمكن أن يكون لفظا عابرا وقولا فارغا، وأنه ما دام قد تحصن وراء كلمة التوحيد التى أفلتت من بين شفتيه فلا عليه أن يقصر فى جنب الله ولا عليه أن يفرط فى حقوق الله!! وهذا تفكير لا أصل له فى ديننا، فإن علماء الحديث قالوا: هذا الحديث له معنيان: المعنى الأول : أن هذا الحديث إما قيل فى صدر الإسلام يوم كانت مهمة النبى عليه الصلاة والسلام أن يحارب الوثنية السائدة، وأن يحقر عبادة الأصنام، وأن يفطم الناس عن الخرافات التى ألفوها، ويرفعهم عن مستواها إلى مستوى الإيمان بالله الواحد. فكانت الدعوة إلى التوحيد هى المهاد الأول والأساس الأوحد الذى بدأ الإسلام به، ولكن الإسلام بعد ذلك نما وأخذت تعاليمه تتنزل من لدن العلى الكبير ليعلم الناس حقيقة دينهم، وتمام شرعهم. ومعروف أن القرآن ظل ينزل خلال ثلاث وعشرين سنة، وأن أركان الإسلام لم تكتمل لأول يوم جاء فيه هذا الدين الحنيف، وإنما ظلت أوامره ونواهيه تتنزل حلقة بعد أخرى حتى اكتملت سلسلتها قبل أن يذهب النبى صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. معروف أن صوم رمضان لم يشرع إلا بعد خمسة عشر عاما من بدء الإسلام، ولم يكن صوم رمضان معروفا فى العهد المكى كله ولا كان فريضة من فرائض الدين. ومعروف أن الصلوات الخمس ما شرعت إلا ليلة الإسراء، وقبل ذلك كانت الصلاة ثنتين ثنتين. ومعروف أن فريضة الحج لم تشرع إلا بعد أن استطاع المسلمون أن يفتحوا مكة، وأن يؤمنوا طريق الحج، وأن يشيعوا الأمان فى أرجاء الجزيرة. عندئذ ـ بعد أن كانت كلمة التوحيد هى الإسلام ـ قيل : " بنى ص _223(4/205)
الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان " . ثم جاء حديث آخر وسع الدائرة وبين أن تعاليم الإسلام أكثر وهو: " الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، وحج البيت سهم، والصيام سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهى عن المنكر سهم، والجهاد فى سبيل الله سهم، وقد خاب من لا سهم له " . إذن الرأى الأول أن هذا الحديث قيل فى صدر الإسلام، وأن تعاليم الإسلام ظلت تتنزل خلال ربع قرن تقريبا، فكان هذا الحديث تصويرا لأول ما بدئ تعليمه، ثم جاءت بعد ذلك أشياء كثيرة لابد منها ولا يتم الإسلام إلا بها ولا تعتبر أركانه مستكملة إلا إذا أداها الإنسان جميعا. هذا رأى تبناه أو فضله وأشار إليه العلامة " المنذرى " المحدث المشهور. هناك رأى آخر يقول: ليس من الضرورى أن تقول: هذا الحديث قيل أول الإسلام ثم جاءت بعد ذلك متممات له، إنما المقصود بـ " من قال لا إله إلا الله دخل الجنة " من قالها مؤمنا بها، موفيا بحقوقها، وقافا عند حدودها، نازلا على ما يرتبط بها من آثار فى النفس والمجتمع.. والآثار المرتبطة بالإيمان كثيرة، وقد بين النبى عليه الصلاة والسلام هذه الآثار فى أحاديث شتى، بين أن الإيمان لابد أن يكون مجموعة من الأخلاق الأساسية من صدق ووفاء وأمانة وضبط للمواعيد وشرف فى الخصومة.. ص _224(4/206)
فإذا كان الإنسان يدعى الإيمان ثم لوحظ عليه أنه يفترى الكذب، وأنه يتلاعب بالوعود، وأنه يغدر بالعهود، وأنه يخون الأمانات، وأنه يفجر فى الخصومة، فمعنى ذلك أن إيمانه مكذوب على نحو ما قال الله جل شأنه " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ". وعلى هذا النحو جاء الحديث الشريف " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر " . فهذا الحديث يعنى أن الأخلاق من أركان الإيمان، ويجب أن يكون الإنسان صاحب خلق حتى يعتبر إيمانه مقبولا ويقينه ناضجا. ولابد أيضا للمؤمن من أن يؤدى الحقوق التى كتب الله عليه وهو منشرح الصدر، مطمئن النفس، فإذا طلبت منه زكاة رحب بما يدفع، وإذا فرضت عليه نفقة نهض ولم يبخل.. إن المنافقين يعتبرون الزكوات التى يدفعونها غرامة كلفوا بها، ويعتبرون النفقات المطلوبة منهم مغارم لزمتهم وهم يودون لو فروا عنها، وهؤلاء يقول الله فيهم: " ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم " ثم قال جل شأنه: " ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم ". يعنى أن المؤمن عندما تطلب منه النفقة يذهب بها إلى النبى عليه الصلاة والسلام ويقول له: يا رسول الله خذ ما فرض الله علينا وادع الله لنا. ص _225(4/207)
وكان النبى عليه الصلاة والسلام يأخذ الصدقات المكتوبة، ويدعو لمن أداها كما أمره الله بذلك : " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ". والنفقة إذا كانت مع إيمان ضخم فإنها تعتبر لذة للإنسان، وقد كان سعد بن معاذ رضى الله عنه ـ فى معركة بدر ـ يقول للنبى عليه الصلاة والسلام: " خذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت " . هذا هو الإيمان. أما المنافقون فإذا كانوا قد ضاقوا بالنفقات فهم أيضا يضيقون بذكر الله، ويضيقون بالصلوات، ويضيقون بالأذان، وأبغض الصلوات إليهم الفجر والعشاء ، لأنهم يحبون أن يناموا وأن يستريحوا وأن لا يحتشدوا مع المؤمنين فى هذه الصلوات الجامعة، ووصفهم الله فقال: " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا". ولعل من المنافقين فى عصرنا من يعلنون كرههم للأذان ومن يتحدثون عن الأذان بغضب، ولقد رأيت ناسا يجيئون إلينا فى الوزارة يطلبون أن لا يسمعوا أذان الفجر!! ص _226(4/208)
قلت لهم: ولماذا؟! قالوا : لأننا نحب أن ننام. قلت: لكن أذان الفجر شرع حتى لا تناموا، وقد أودع الله فيه كلمة لم تودع فى الأذان بقية الصلوات الخمس، وهى قوله: " الصلاة خير من النوم ". فإذا كنتم تؤثرون النوم فإن هذه طبيعة الإنسان، وقد جاء فى الحديث الصحيح: " يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة : عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان " . والمعنى أن الشيطان يجىء للإنسان من عند جهازه العصبى عندما يهدأ فى فراشه ويستقبل النوم، وهذا سر التعبير النبوى " يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم " فإن القفا ملتقى المخ والمخيخ وما يتصل بالجهاز العصبى، وليست ـ بداهة ـ العقد هنا عقد حبل حسى، لا، هذه عقد معنوية، إن كل عقدة توعز للإنسان ـ وهو نائم ـ أن يستأنف النوم، لأن الشيطان يهجس فى نفسه يقول له: أمامك ليل طويل، أمامك متسع للرقاد، أمامك ما تستريح به أكثر، وهذا كله لينيمه عن صلاة الفجر وليؤخره عن أداء حق الله. والله لقد نظرت إلى هؤلاء الذين يعتبرون الأذان مزعجا لهم ثم تذكرت قوله تعالى فى المشركين: "وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون " لم هذا؟! ص _227(4/209)
كان ينبغى أن يهش هؤلاء لذكر الله، وأن يستجيبوا للنداء وهم يرحبون بتلبية من ينيمهم ومن يوقظهم، من يميتهم ومن يحييهم، من يطعمهم من جوع ومن يسترهم من عرى.. ولكن هكذا الناس فى عصرنا، يرون أن صوت المؤذن مزعج، وأن صوت الشيطان ـ عندما يقول لكل منهم: عليك ليل طويل فارقد ـ أحب إليهم من صوت منادى الرحمن ! كلمة " من قال لا إله إلا الله دخل الجنة " كلمة زور الشيطان مفهومها عند كثير من المسلمين، والغريب أنهم يدسون أصابعهم فى كتب السنة ويستخرجون هذا الحديث دون أن يستخرجوا معه أحاديث أخرى تنبههم إلى ما يجب عليهم من سلوك وما يفرض عليهم من خطوات الكمال و الترقى.. فقد روى: " لا يدخل الجنة قتات " أى نمام. وروى أيضا: " لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر" .. وروى أيضا: " لا يدخل الجنة قاطع رحم " . وروى أيضا: ".. من غشنا فليس منا " . وروى أيضا: " ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه " . وروى أيضا: " ليس منا من خبب امرأة على زوجها " . أى أفسدها عليه. ص _228(4/210)
وروى أيضا: " لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " . فلم تُنسى هذه الأحاديث كلها؟ الواقع أن هناك أحاديث لابد من ذكر ملابساتها معها حتى تفهم على وجهها الصحيح، وحتى لا يضل المسلمون فى فهم دينهم. 2ـ من ذلك ما يسميه بعض العلماء حديث البطاقة، وفى هذا الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: " إن الله سيخلص رجلا هن أمتى على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول : أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتى الحافظون؟ يقول : لا يارب، فيقول : أفلك عذر؟ فيقول : لا يارب، فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول : احضر وزنك، فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال : فإنك لا تُظلم، قال : فتوضع السجلات فى كفة والبطاقة فى كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شىء " . هذا ما روته كتب السنة، وتعليقنا على هذا أن الأمر يحتاج إلى فهم، فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أقاتل وأسلم؟ فقال : أسلم ثم قاتل، فأسلم ثم قاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عمل قليلا وأجر كثيرا " . ص _229(4/211)
هذا رجل ـ فعلا ـ كان مشركا، وأعلن إيمانه بالله، وقاتل مع النبى عليه الصلاة والسلام، ومات قبل أن يصلى، قبل أن يزكى، لأنه ما طالت به حياة حتى يفعل شيئا من ذلك، هنا يمكن ـ فعلا ـ أن يقال: إن كلمة التوحيد التى ختم بها حياته طهرت العمر كله، وجعلت الرجل ينقلب إلى ربه وقد ابيضت صفحته وأصبح من أهل الجنة ! هذا هو معنى حديث البطاقة، أما أن يتصور المسلمون أن يفسدوا وأن يعبثوا وأن يخونوا وأن يغدروا فى ظل كلمة لم يحسنوا خدمتها ولا الوفاء بها يدخلون الجنة، فهذا كلام ما قاله أحد من العلماء الراسخين أو الأئمة المحترمين، إنما قاله الكسالى من المسلمين يوم أصبح الكسل شيمتنا، وكانت نتيجة هذا التكاسل أو التلاعب أن سقطت ألويتنا وأن ضحك الناس منا وحدث للأمة الإسلامية ما حدث. قال العلماء: إن كلمة التوحيد لكى تكون صادقة يجب أن يكون معها إيمان بأمرين وتنفيذ لأمرين: الرضا بأحكام الله، وعدم الشغب عليها، وعدم الطعن فيها، وعدم الاعتراض على إنفاذها. والجهاد فى سبيل الله. وكلا الأمرين لابد منه للإيمان، والله جل شأنه يقول: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ". وأما القاعدون عن الجهاد فإن القعود عن الجهاد كشف نفاقهم. فهل يقبل ـ فى عصرنا هذا ـ أن يجيئ من يتندر أو من يسخر بأحكام الله ومن ينكص ويجبن عن الجهاد فى سبيل الله ومن ينضم إلى حزب الشيطان معترضا على الأذان ومن ومن.. ثم يدعى بعد ذلك أنه مسلم؟ لا، كفى عبثا بالإسلام، والله يقول فى مثل هؤلاء: " وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا " ص _230(4/212)
3ـ يتصل بهذا الحديث. حديث آخر فى معناه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " لن يدخل أحدكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: لا، ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله بفضل ورحمة.. " . هذا الحديث طار به أهل الغفلة والسماجة والشغب على دين الله، طاروا به فى كل ناحية يقولون: الجنة شىء يساق إلى الناس هكذا دون عمل! العمل ليس سببا فى دخول الجنة! وهذا من أكذب الكذب على الله ورسوله، والعيب أن الإسلام يتعرض لشرحه ـ أحيانا ـ من لا عقل لهم ولا فقه لديهم. أما أن العمل سبب لدخول الجنة ولابد منه فى دخول الجنة فهذا نص القرآن الكريم فى مواضع كثيرة منه، منها قوله جل شأنه فى سورة الأنعام: " لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون " وقوله فى سورة الأعراف: " ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون " وقوله فى سورة النحل: "الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون " وقوله فى سورة الزخرف: " وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون " وقوله فى سورة الأحقاف: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ". ص _231(4/213)
ولو أردنا أن نسوق عشرات الآيات من مواضعها فى سور القرآن تنص على أن العمل سبب دخول الجنة لاستعرضنا القرآن كله. قد يسأل أحدكم: فما معنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام إذن " لن يدخل أحدا عمله الجنة "؟. والجواب أن الرسول المؤدب الكريم الرقيق المهذب يريد أن يقول للناس: احذروا الاستكبار بالعمل، احذروا أن تغتروا بالعمل، احذر أن تعمل شيئا ثم تقف بين يدى الله لتقول له: لقد أديت لك حقك، وما بقى لك عندى شىء، فعندك لى الجنة بعدئذ ! كأنها دين عليه!! المقصود من الحديث كسر دابر الغرور وإشعار الناس بأنهم لو قطعت رقابهم فى سبيل الله فما وفوا حق الله، العمل سبب لابد منه لدخول الجنة، ولكنه ليس الثمن الحقيقى للجنة. هذا معنى الحديث، لأن الله يستطع أن يقول لأى إنسان عمل صالحا: تعال ما لك عندى؟ عبدتنى مائة سنة؟ رزقتك مائة سنة، فليس لك عندى شىء، أو يقول له: ليكن رزقى لك تفضلا منى، عبدتنى مائة سنة؟ خذ فى الجنة مائة سنة تنعيما وتكريما ثم أفنيك وتتلاشى ولا يبقى لك وجود، بل قد يقول الله للإنسان: لو حاسبتك على ما تقدم من عمل لاستخرجت لك من الشوائب والعلل فى عملك ما يجعل عملك يرفض، ما أرجى عمل لك بين يدى؟ صلاتك؟ إنك تقف مصليا بين يدى فتملأ الوساوس صدرك، وتسرقك الشواغل من بين يدى فتسرح يمينا وشمالا، فلو جازيتك لعاقبتك على سوء أدبك! إذن الحديث لا يقصد منه منع العمل كما يفهم المغفلون، إنما الحديث يقول للإنسان: اكدح، اعرق فى سبيل الله ثم قف منتفضا بين يدى الله لأنك ما أديت حقه وهذا معنى قوله تعالى : " فذرهم في غمرتهم حتى حين * أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون * إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون * والذين هم بآيات ربهم يؤمنون * والذين هم بربهم لا يشركون * والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون * أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون " . ص _232(4/214)
إن الأحاديث النبوية تحتاج إلى أيد خبيرة، إلى أصحاب بصر، يعرفونها ثم يضيفون إليها ما يلحق بها من أحاديث أخرى وآيات قرآنية، ثم تعرض على الناس لينتفع بها لا ليشغب بها على دين الله. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _233
الخطبة الثانية الحمد لله " الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد " . وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإنى أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل، واعلموا أيها الناس أنه لا يصح ـ فى منطق عاقل أن يباع الشىء الواحد بألف جنيه وبمليم، كيف يتصور أن يباع بأغلى الأسعار وبأزهدها وأتفهها؟ إن الله عز وجل قال : " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم " فإذا كان قد باع الجنة بالنفس والمال فأى ثمن هذا؟ إنه ثمن كبير، وإن كأن المؤمنون قديما قالوا: نحن الرابحون، فإن النفس هو خالقها، والمال هو رازقه، هو أولى بنا منا، فإذا أخذ ما يملك ومنح الجنة نظيره فنحن الرابحون. على أى الأحوال النفس والمال ثمن الجنة فى الآية، فهل يتصور أن تباع الجنة بالنفس وبالمال ثم يأخذها أحد الكسالى بكلمة ما فكر فيها ولا أدى حقها ولا عرف معناها ولا طهر نفسه بسناها ؟ ص _234(4/215)
هذا مستحيل ، ينبغى أن نعقل فإن الإسلام تألب عليه أعداء لا ينامون من كثرة النشاط، لا يستبقون لأنفسهم شيئا من كثرة التضحيات.. اجتمع يهود العالم الأغنياء وأعطوا ألوف الملايين فى ساعة من الساعات، فإذا كان أعداء الإسلام يتنازلون ـ من ثرواتهم ـ عن ألوف مؤلفة من الملايين وأبناء الإسلام لهم أرصدة هائلة رهيبة نشغل العالم الرأسمإلى وهم يضنون بالعطاء منها فى سبيل الله فكيف يعتبر أولئك مؤمنين يسندون الإسلام ويعتبر هؤلاء كفارا يساندون الشيطان، ثم ينتظر أن ينتصر البخيل بنفسه البخيل بماله على المتطوع بماله الخاطر بنفسه؟ هذا مستحيل، ينبغى أن يعرف المسلمون من أصحاب المال الطائل أن الذى فرض عليهم الإسلام يطلب منهم أن ينفقوا أكثر مما ينفق الكفار فى سبيل الشيطان، أما أن نبخل ونجبن ونعبث، أما أن تخرج الأمور من بين أيدينا مضطربة ثم يزعم المسلمون أن الجنة حكر عليهم فهذا كذب على الله الذى يقول للمسلمين: " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا " " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ". ص _235
عباد الله: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " . أقم الصلاة..
ص _066(4/216)
أنا ما يعنينى أن يكون " رمسيس " عربيا أو بدويا أو أى كائن، إنما يعنينى أن المصريين تعربوا بالإسلام، وأصبحوا بالإسلام عربا، لذلك اهتممت بالطبيعة العربية عن رغبة فى دراسة الشخصية العربية وعوامل اضمحلالها وعناصر ازدهارها، ووجدت أن الجنس العربى يمكن ـ بتعبير لا فلسفة فيه ولا تعقيد ـ أن تذكر له ثلاثة أدوار:
دور قديم هلك فيه هذا الجنس.
ودور وسيط ازدهر فيه هذا الجنس وساد.
ودور معاصر اضطرب فيه هذا الجنس، وتنازعته أسباب النماء والفناء فهو بينهما عصىّ طيّع، وهو بينهما مقبل مدبر، والمعركة بين الصحة والمرض أو بين العافية والسقام لا تزال دائرة فى دمه وفى بيئته، ونحن نرى ـ ثقة فى الله ـ أن العاقبة ستكون خيرا إن شاء الله.
لكن ما بد من دراسة أدوار هذا التاريخ، لابد أن يعرف لم باد الجنس العربى قديما، لأن الخصائص تتوارث أحيانا، وعندما يقرأ المسلم الفاقه سورة الأعراف أو سورة هود أو سورة الشعراء، يجد أن الأنبياء العرب بذلوا جهودا جبارة فى فطام العرب عن رذائلهم واقتيادهم إلى ربهم وتحميلهم رسالة الإسلام، ولكنهم عجزوا عن الارتفاع إلى هذا المستوى، وغلبتهم خصائص من جنسهم أو من دمائهم فأهلكتهم، وقال الله يصف هذه الأجناس البائدة :
فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا و منهم من أخذته الصيحة و منهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
إن الله لا يظلم جنسا من الأجناس، وليس بينه وبين فئة من الفئات أو طائفة من الطوائف أو أمة من الأم عداوة، ولكن يصلح الناس فتطيب لهم الحياة ويمهدون لأنفسهم عنده، فإذا أسفوا فإنما تدور الرحى على أكبادهم لتطحنها، وما يظلمون إلا أنفسهم.(4/217)
مقدمة الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبى بعده. أما بعد.. فيسرنى أن أقدم للقراء الأعزاء الجزء الخامس من خطب الداعية الاسلامى الكير فضيلة الشيخ محمد الغزالى متعه الله بالصحة والعافية. والحق أن هذه الخطب التى نوالى نشرها هى من أنفس ما نحرص عل تقديمه للقراء الأعزاء لأنها تجلى حقائق الإسلام وتنافح عن قضاياه تتصدى لكل من تنكب عن الصراط وتقاوم الموجات الانحرافية والتيارات الإلحادية والمذاهب الهدامة وليس هذا بكثير علي داعية تمكن حب الإسلام من قلبه وفكره ومشاعره مع عاطفة واعية وبصيرة نافذة وموهبة علميه ناضجة ومقدرة بيانية ساحرة. وفق شيخنا وأستاذنا وأمده بروح من لدنه وأطال بقاءه وحسن عمله وعفر لنا وله.. آمين. قطب عبد الحميد قطب 11 ذو القعدة 1410هـ
ص _009
الإسلام والمتغيرات الدولية خطبة عيد الفطر المبارك بساحة مسجد مصطفى محمود في 1410 هـ- ص 90 م الحمد لله ذى الجلال والإكرام والعزة التى لا ترام. (غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير). (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا). الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر ولله الحمد، الله اكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شئ قدير. كل شئ هو خالقه، كل حى هو رازقه، كل نور هو مَشرقه.. سبحانه تبارك اسمه، سبح كل شئ بحمده، وخضع كل شئ لمجده، واحتاج كل شئ لعطائه ورفده، سبحانه في الأرض والسماء.. ص _010(5/1)
(فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين * وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم). وأشهد أن محمدا رسول الله، خيرة الله من خلقه، وصفوته من عباده، أمير الأنبياء، أول خلق الله دينا. صلوات الله وسلامه عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد.... فنحن الآن نلقي نظرة إسلامية على أحوال أمتنا والمتغيرات العالمية حولنا، وهى نظرة نستلهم الله فيها الرشد، ونسأله أن يعيننا على الصدق، وأن ينفعنا بالعبرة التي ينبغى أن نستخلصها من هذا كله. وقبل أن أخوض في بعض العناوين التاريخية أحب أن أقول للناس كلهم: إن الإسلام ديني يقوم على الإقناع الحر والدعوة المجردة، لا يعرف ضغطا ولا إكراها لا ماديا ولا معنويا، إنه يعرض ما عنده، ويترك لذوى الألباب أن يتخيروا ما شاءوا.. وفي حماس العرض قد يكون الإنسان شديد اللهجة قوى النبرة، لكن الله يقول لنبيه وهو يعرض ما عنده: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين). وليس هذا حكرا على دين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل الأديان كلها منذ بعث نوح عليه السلام ترفض الإكراه وتقوم على الدعوة المجردة، ولذلك يقول نوح لقومه: (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) منذ بدأ محمد دعوته ما اكره أحدا على الدخول في دينه ولا عامل خصومه إلا بالبر والقسط: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) ص _011(5/2)
على هذا الأساس بدأت دائرة الدعوة الإسلامية تنداح في جزيرة العرب، ودخل عرب الجزيرة في الإسلام بعد عشرين سنة وهم داخرون يعلمون أن الحرية الدينية وحدها هى الباب الذي دخلوا منه في هذا الدين العظيم، ولكن العالم من حول الجزيرة لم يعامل العرب بالإنصاف ولا بالقسطاس، بل وجدنا شيئا آخر، فإن الدولة الرومانية ـ وكانت الدولة الأولى في العالم يومئذ بعد أن انتصرت على الفرس في معركة هائلة استردت فيها الصليب الأعظم وفرضت سلطانها على الدنيا ـ أبت أن يأخذ الإسلام مده، فحاصرت جزيرة العرب من الشمال.. ويقرأ المسلمون التاريخ ـ ولا أدرى أيقرءونه بعقل أم يرددون كالببغاوات ما سطر التاريخ لهم من وقائع ـ وفيه أن الرومان رفضوا أن تنطلق الدعوة الإسلامية من جزيرة العرب، وأنهم أرسلوا جيشا لهم من نحو مائتى ألف مقاتل لقتال المسلمين في " مؤتة" وأرغمهم على الانسحاب جنوبا ـ ومؤتة في جزيرة العرب تساوى "بنها " مثلا أو " طنطا " في مصر. نقول للرومان: من جاء بكم من قارتكم إلى داخل جزيرة العرب تقاتلون الإسلام وتقتلون القادة الثلاثة لهذا الجيش؟ جاء بهم الطغيان والتعصب، ثم انطلق المسلمون يثأرون لأنفسهم ويمدون دعوتهم وذهبوا إلى " تبوك " وتراجع الرومان قليلا كى يلتقطوا أنفاسهم ويجمعوا قواهم، وفوجىء المسلمون بان النبى قد مات، ولكن خلفاءه رضى الله تعالى عنهم مضوا في نفس الخطة وقاتلوا الرومان لماذا قاتلنا الرومان؟. إن الله سبحانه وتعالى يقول: (إن الدين عند الله الإسلام) ، فهل نفرض الإسلام على الناس؟. لا، لا، لا، قال تعالى: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد). أنا أعرض الدين ـ كما يعرض الناس الأزياء ـ وأقول للناس: ص _012(5/3)
هل يعجبكم هذا الدين؟ فإن أعجبهم ودخلوا فيه فأنا أخ لهم وهم إخوة لى، وإن قالوا: لا نريد دينك، اشبع أنت به، أقول لهم: أطلب منكم أمرين: الأمر الأول: هل تتركونى بدينى دون فتنة؟. الأمر الثانى: هل تسمحون لى أن أعرض الدين على غيركم؟. فإن قالوا: نعم: قلت لهم؟ أمرنى الله: (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا). أما إذا قالوا: إن نطقت بكلمة تدعو بها إلى الإسلام أغلقنا فمك بالسلاح، وإذا دخل أحد فى الإسلام عذبناه حتى نرده، ضريت الحرب بينى وبينهم ولست معتديا، إن قتال الاعتداء لا يعرفه ديننا أبدا: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين). فماذا نصنع إذا كان غيرنا يريد فتنتنا، ويريد إغلاق أفواهنا، ويأبى أن يترك الإسلام بالقلم واللسان يتحرك؟!. أوجه النظر إلي أمرين: * إن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحمة للعالمين. * لقد كان الاستعمار الرومانى يضغط بصدره الثقيل على جزيرة العرب وعلى وادى النيل وعلى الشمال الإفريقى وعلى آسيا الصغرى، فإذا كان الإسلام قد قاتل الاستعمار الرومانى وأطلق الشعوب السجينة من سجنها الكبير وأعطاها الحرية فهل يلام لأنه حرر الشعوب؟. الحقيقة أن الإسلام ـ بالفتوح التى قام بها ـ حرر شعوبا كانت سجينة، ورفع رؤوسا كانت ذليلة، بل إن الأقباط فى مصر استقبلوا الفاتح المسلم ببشاشة وحفاوة لأن الاستعمار الرومانى كان قد عزل البطريرك وقتل أخاه حرقا ثم رمى بجثته فى الإسكندرية على شاطئ البحر، ففرح الأقباط ص _013(5/4)
بدخول الإسلام لأنه دخل محررا مقررا حرية التدين؟!. إننى أقول بملء فمى وأقول بفخر واعتزاز: نحن المسلمين ابتدعنا الحرية الدينية في الأرض، وما كانت أوربا تعرفها، بل يعرف العالم كله أن الكاثوليك في فرنسا ـ منذ قرنين اثنين ـ أوقعوا مذبحة بالبروتستانت قتل فيها ثلاثون ألف بروتستانتى في مذبحة " سان بارثلميو " وهى مذبحة هائلة عندما وقعت فرح الفاتيكان بها وصك نقودا تخليدا لذكراها. هذا عمل لا يعرفه الإسلام في تاريخه أبدا، نحن ابتدعنا حرية الرأى وحرية الدين ولا نزال حراس التدين الحر.. لكن أوربا بعد خمسة قرون عادت مرة أخرى فأعلنت علينا حربا صليبية ظلت ثلاثة قرون بعد أن جرت إليها التتر، والتاريخ الأوربى يقول: إن إسقاط بغداد كان في معركة تترية صليبية، وسقوط بغداد كان سقوطا رهيبا. والثلاثة قرون التى هوجمت فيها الأمة الإسلامية شهدت ثمانى حملات صليبية، واكتفي في تلخيص هذه الحملات بكلمات ل: "فيليب حتى ".. وهو مستشرق مارونى أمريكانى ـ قال: في القرن الثانى عشر من الميلاد كان كل شىء يؤذن بزوال دين محمد، فقد نجح الصليبيون في اكتساح فلسطين، وتسللوا ودخلوا مصر، وتسللوا يبتغون طريقهم إلى الحجاز، ونجح التتار في إسقاط بغداد، ويوشك أن تلتقى ذراعا الكماشة على العالم الإسلامى فيموت!!. لكن المسلمين إبان الأزمات العضوض وأيام الضوائق المهلكة يتجمعون على دينهم ويتساندون على صفوفهم، ويكونون جبهة تستميت في الدفاع عن موروثاتهم وعقائدهم.. ص _014(5/5)
ولذلك يقول " فيليب حتى ": فلما جاء القرن الثالث عشر للميلاد كان هناك سؤال آخر: هل سيقف شئ أمام دين محمد !!. استعاد المسلمون بيت المقدس، ودخل التتر في الإسلام، وجاء القرن الثامن الهجرى والأمة الإسلامية قد غسلت أرضها غسلا من بقايا الصليبية الزاحفة، ونجا المسلمون من البلاء الذي أريد بهم. أكنا نحن في هذا معتدين؟. غزينا في عقر دارنا، قتل التتر مليونى شخص في بغداد، اسود النهر مرة بالكتب التى ألقيت فيه، واحمر مرة أخرى بالدماء التى سالت إليه!!. حدث للأمة الإسلامية ما حدث، ثم شاء الله أن يقود الأتراك العالم الإسلامى فثأروا لما حدث وأسقطوا عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية، واتجهوا في غرب أوربا حتى وصلوا إلى " فيينا " وظلوا نحو أربعة قرون يقاتلون على هذا الأساس. لكن الذي حدث بعد ذلك ـ وتلك الأيام نداولها بين الناس ـ أن الأوربيين استردوا أنفاسهم وهجموا مرة أخرى، وسقط العالم الاسلامى بقضه وقضيضه. لكن هذا العالم الإسلامى ـ كما قلت ـ مرن على أن تجتاح أرضه ثم يلتقط أنفاسه ويصطلح مع ربه ويعود الى قواه، وبدأنا فعلا حروب تحرير انتهت بأن مصر ـ ولله المنة ـ تحررت وأن العلم الاسلامى انتشر في بلاد كثيرة واستقلت أرضون كثيرة منه، فماذا حدث؟. حدث زحف آخر، فإن الصليبية العالمية اصطلحت مع الصهيونية العالمية وأسست دولة إسرائيل على أكبادنا وأنقاضنا، ورضي المظلوم ولم يرضي الظالم، ورضى المقتول ولم يرض القاتل، ورضى المغتصب المسروق. ولم يرض السارق المغتصب، وأبى أن يترك للعرب مكانا يعيشون فيه ثم قال نريد إسرائيل الكبرى، وقبل أن أحدد ما هى إسرائيل الكبرى أقول لكم: ص _015(5/6)
إن هناك قساوسة إنجيليين فى الولايات المتحدة الأمريكية ـ والولايات المتحدة الأمريكية فيها نحو أربعين مليون كاثوليكى ـ يقولون: إنه لابد من أن يدخل اليهود الأرض المقدسة أرض الميعاد وأن يقيموا دولة لهم ويجب أن ننتظر مسيحهم، بل إن قسيسا اسمه: "إيفانز " ومعه نفر من القساوسة أقنعوا مجلس الشيوخ والنواب فى أمريكا بأنه لابد من أن تكون القدس عاصمة لإسرائيل!!. ولذلك تحولت تسعة أعشار أعضاء مجلس الشيوخ والنواب إلى دراويش للصهيونية العالمية، بل قرروا الإيمان بالمسيح اليهودى، أتعرفون من المسيح اليهودى؟ إنه المسيخ الدجال الذى حذرنا منه ومن فتنته، لقد آمن به دراويش مجلس الشيوخ ومجلس النواب الأمريكى قبل أن يظهر المسيخ الملعون الإله الأعور الذى سيجيىء إلى فلسطين ويحاول العبث بالمقدسات!!. على كل حال إن الحركة الآن تتجه إلى أن إسرائيل الكبرى ـ فى العهد القديم ـ من الفرات إلى النيل.. ومعنى هذا أن إقامة إسرائيل الكبرى يجب أن. تجتاح فى فضائها الحيوى وامتدادها الدينى مصر والعراق والسعودية والأردن وسوريا ولبنان وفلسطين !!. ومعنى هذا أيضا أن المعركة التى يريد اليهود فرضها معركة دينية، إذا نجحوا فيها هلكنا جميعا، وإذا هلك العرب هلك المسلمون من بعدهم !!. أنا أعلم أن رؤساء العرب كلهم لا يريدون المعركة لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية، ولكنى أقول: إن المعركة ستفرضها إسرائيل علينا شئنا أم أبينا!!. فماذا نصنع؟. ص _016(5/7)
يجب أن تسد الفجوات بين الحكومات العربية كلها، يجب أن يصطلح العرب وأن يكونوا أسرة كأسرة أوربا الغربية، لابد أن نردم الفجوات بين الدول العربية، يجب أن ينسى السوريون ما صنع العراقيون وأن ينسى العراقيون ما صنع السوريون وأن ينسى المصريون ما صنع غيرهم، يجب أن نتلاحم وأن نكون أمة واحدة. هذه واحدة، ويجب أن يتحرك الإسلاميون حركة تقريب، وأنا أول من يتنازل عن حقوقه لدى من أساءوا إليه، أنا أريد أن يتصافح الإسلاميون وأن يتعاونوا، وأريد أن لا تكون بين الشعب وبين حكومته فجوة أو جفوة أو خصومة. إن هذه الفجوات والجفوات هى التى سيتسلل منها الزحف اليهودى لإقامة إسرائيل الكبرى ليطحن الجيل الحاضر والجيل القادم على سواء. إننا يجب أن نطرح الخصومات والعداوات تحت أقدامنا، يجب أن نعلم أن الأمة الإسلامية فى خطر داهم. إن الرئيس الأمريكى " بوش " يقول: أنا فرح لأن القدر اختارنا لنشهد الخروج الكبير من روسيا إلى فلسطين!!. إننا أيها الإخوة غافلون، إن بواعث دينية رهيبة وراء العداوات التى تبيت الشر لمستقبلنا والظلام لحاضرنا ويومنا وغدنا. إننا يجب أن نصطلح وأن نتعاون وأن ننسى الخصومات وأن نتآخى وأن نتدارس كيف تنتهى هذه المحنة وكيف تتلاشى هذه المآسى، يجب أن يتحرك المسلمون حركة تقارب وتعاون وتآخ، لابد من هذا وإلا ضيعنا. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _017(5/8)
الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، موفق العاملين، وناصر المتقين، الله أكبر، الله اكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، ما دار في فضائه فلك، الله أكبر ما سبح بحمد الله بشر أو ملك، الله اكبر ما بسق في حقله نبات، الله أكبر ما اهتز في مهده طفل ينشد الحياة، الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، الله اكبر ولله الحمد. وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:.. أيها الإخوة : انتهى رمضان، وأنا غير راض على الطريقة التى انتهى بها رمضان، والله لقد أكلنا كثيرا، وما كان ينبغى أن نأكل كثيرا فإن رمضان شرع للصيام لا للطعام، ووالله لقد سهرنا مع ليال سخيفة فيها هزل ولهو ولعب وما كانت ليالى رمضان إلا للقيام. وإذا كنت أودع رمضان فإننى أقول للمسلمين بيتين قيل إنهما للإمام الشافعى وقبل أن أذكرهما أذكر هذا التمهيد لهما: الأعمال قسمان: أعمال قلوب وأعمال جوارح، وقد اتفق علماء الإسلام على أن أعمال القلوب أخطر من أعمال الجوارح، أعمال القلوب هى الأساس، وأعمال الجوارح هى شئ ثانوى، معاصى القلوب هى الهلاك.، ومعاصى الجوارح هى شئ ثانوى، معاصى القلوب مثل الكبر والرياء والحسد والحقد، ومعاصى الجوارح مثل السرقة والنظرة الدنيئة. يقول الإمام الشافعى: وذرة من القلب العلى من الرضا والصدق والتوكل أثقل عند الله من جبال شمخن من ظواهر الأعمال ص _018(5/9)
ذرة من عمل القلب النقى النظيف البريء الذي يستهدف وجه الله أفضل من جبال من الأعمال التى يقوم بها البدن في غيبة القلب. وأنا في الحقيقة لو يسمع لقصير أمر، وأنا قصير، لألغيت الأعياد في العالم الإسلامى كله وقبلت منها الشعائر الدينية فقط، أى أعياد والقدس ليست بأيدينا؟. كان صلاح الدين مكتئبا دائم الحزن قيل له: ما أحزنك؟ قال: كيف أفرح وبيت المقدس في يد الصليبيين؟. أطفال الانتفاضة يتضورون من الجوع، مسلمو أفغانستان يقاتلون وهم يتعرضون للتضور والعرى، فما الذي يفرح المسلمين حتى يعيدوا ويطبلوا ويزمروا؟ والله هذا خراب قلوب؟!. خذوا من الأعياد الناحية الدينية فقط ثم قولوا: لا عيد لنا حتى نطهر الأرض ممن وسخ أرضنا وأهان ديننا وأسقط رايتنا وجعلنا نعيش غرباء في هذا العالم؟!. إننى أطلب من المسلمين أولا : أن يصلحوا ذات بينهم، وثانيا : أن يجتمعوا حكومات وشعوبا حتى يدرسوا كيف يغيرون عاداتهم، وكيف يغيرون تقاليدهم، وكيف يغيرون أحوالهم، وكيف يستعد ون لعدو قرر ذبحهم وهو ينتظر الوقت المناسب لتنفيذ ما قرره، كأنه حكم علينا بالإعدام وهو ينتظر اليوم الذي ينفذ فيه هذا الحكم، أننام؟ أنلهو؟ أنضحك؟ أنتخاصم؟ أنتفرق؟ أنجرى وراء القضايا الصغيرة؟ أنهتاج للأمور التافهة؟. يا إخوانى يجب أن نغير أحوالنا وأعمالنا، وأنا كإنسان مسئول عن الناحية الدينية سأقنع إخوانى الإسلاميين أن يلغوا ما بينهم من فروق وأن يتعاونوا على البر والتقوى وأن يقولوا كما قال المجتهد الأول: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب!!. وأقول للحكومات العربية كلها: تآخوا، تعاونوا، التصقوا بشعوبكم، هذا هو المستودع الذي تأخذون منه الرجال، إن المتدين ص _0 ص(5/10)
المتحمس هو الذي سيقتل الصهيونى الذي يريد قتلى فانتفعوا به ولا تحرقوه !!. (اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر). (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _020
نظرات في سورة "الأنعام" خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضي الله عنه 8/ 12/ ص 72 م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداه، والنعمة المسداه، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين . أما بعد: فقد قرأت سورة " الأنعام " قراءة عامة، وفسرت جملها تفسيرا فيه شيء من الأناة، ثم رأيت ـ في هذه الخطبة ـ أن أعرض بعض الملاحظات العام التى استشعرتها وأنا أقرأ السورة وأفسرها. وسورة الأنعام يمكن أن تسمى سورة " العقائد " لأنها تحدثت عن أصول الإيمان وأوضحت معاقد الحس والقوة في شعبه المختلفة، وأسلوب السورة في ذلك كأسلوب القرآن كله ص _021(5/11)
في الحديث عن الله جل شأنه، والحديث عن الله في الكتاب العزيز بعيد عن تقعر الفلاسفة وعن تعقيداتهم في قضاياهم المختلفة. وحديث القرآن عن الله تعريف للبشر يقوم على السهولة في العرض وعلى توجيه الأنظار إلى ما في صحائف الكون من آثار تدل على الخالق تبارك اسمه. ولذلك بدأت سورة الأنعام بشرح سهل (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون). الله جل شأنه هو الذي أوجد المكان والزمان، خلق الأرض وخلق حولها الظلمة والضوء والليل والنهار!! ومضت السورة ـ في حديثها عن الله ـ تشرح روائع آياته في ملكوته (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون * فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم). والسورة ـ أحيانا ـ تتحدث عن المولى جل وعز بضمير الغائب وهو حاضر دائما (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون * وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون * وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون) الحديث عن الله حديث يعرف الناس ربهم تعريفا سهلا سمحا بعيدا عن صناعة المنطق المتكلف وعن غموض الفكر الفلسفي الذي يضيق جمهور الناس به. ص _022(5/12)
ومع أن أسلوب القرآن سهل سمح فإن حقائقه العقلية فوق الريبة، وقد تحدثت السورة عن الله، ثم نفت الفكرة الوضيعة ـ التي شاعت قديما ولا تزال تشيع إلى الآن ـ عن أن لله ولدا أو ابنا (بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم * ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل * لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)، وسورة الأنعام عرضت العقائد من خلال النظرة التي أجملتها الآن، بينت أن أصحاب الحق عندما جاءوا للناس به يبسطون حقيقته ويقررون أدلته اعترضتم جماهير من الناس الفت الضلال وأنست إلى الباطل يقودها طواغيت ممن يستمدون جاههم أو سطوتهم أو سلطتم صت هذا الباطل المستقر، ولذلك يجادلون عنه ويقاتلون دونه !!. ومن ثم وقع صراع بين الحق ـ يمثله الأنبياء ومن على أقدامهم من الدعاة ـ وبين الباطل ـ تمثله شراذم من الجهلة ومن على رأسهم من الطواغيت والفراعنة والفجار!!. وقد أشارت السورة إلى ملامح هذا الصراع، ونحن عندما نتتبع هذه الملامح نستفيد أدبا ويقينا نحن بحاجة إليهما!! قال تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون * قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين). وفي الوقت الذي يهدد فيه الضالين ويقول لهم: التفتوا إلى مصاير من سبقكم، يقول لأهل الحق: لا بد أن تصبروا على تكاليف الدعوة وأن تؤدوا ضريبة اليقين وما تستتبعه هذه الضريبة من تضحيات وآلام، ويوجه الكلام لسيد الرسل وحامل لواء الحق من بدء الخلق إلى نهايته (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين). ص _023
لكن كيف ستدور المعركة يين الحق والباطل؟.
أهل الحق ـ أحيانا ـ يداخلهم شىء من الغرور أو لعلهم يتصورون(5/13)
أنهم ما داموا يساندون الحق فإن مرسل الحق ومنزله لا بد أن ينزل نصره على أهل الحق ولو فرطوا، أو لابد أن تكون هناك خوارق عادات وأن تكون هناك أمداد غيبية غير متوقعة تنصر الحق!! وربما كان هذا التفكير سببا في أن يتهاون أهل الحق في نصرته منتظرين من ظروف عارضة أو من قوي مغيبة أن تقوم عنهم بتنظيم فرطوا فيه أو بإعداد نكلوا عنه أو بقوى لم يحسنوا استجماعها أو استكمالها!!.
وهنا يؤدب القرآن المؤمنين على لسان خاتم المرسلين عليه الصلاة والسلام (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي).
والمقصود من هذه الكلمات أن يجتهد المؤمنون، وأن يبذلوا قواهم كلها وألا يتوقعوا نصرا يجيئهم مع تفريط..
والذي يرقب المعارك بين المحقين والمبطلين ـ إلى يومنا هذا ـ يرى أن أتباع الإيمان إلى الآن ما يحسنون خدمته بالأساليب التي تخدم بها في الدنيا المبادئ والعقائد !!
ما يزال المبطلون يتجمعون على باطلهم، وما يزال المحقون يتفرقون حول حقهم!!.
نحن بشر، وينبغى أن نحشد في معركتنا كل ما يطقه البشر دون انتظار لشيء، فإذا أدينا ما علينا وكان ما أديناه ـ بطبيعته ـ قاصرا دون بلوغ النصر فإن نصر الله يجىء حتما ما دمنا قد أدينا كل ما طلب منا!! وكيف يجيء النصر؟ إن الله عز وجل يبين أنه أحيانا ينضج الناس على لهب الأحداث كما ينضج الطعام أو كما ينضج الزرع تحت لهب الشمس أو لهب النار، قال تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون).
وفي سورة الأنعام ـ هنا ـ يقول لنا كلاما يحتاج إلى بيان، وبيانه
ص _024(5/14)
ـ أولا وقبل أن نقرأه ـ أن الناس يستكبرون إذا ألفوا حالة معينة بقيت لهم يستمتعون في ظلها ويتعودون النعيم في بحبوحتها، ولقد شعر النبي عليه الصلاة والسلام بأن ضلال قريش وصدودها عنه يرجعان إلى أن قريشا عاشت في شبع وفي أمان وأن الشبع أغراها بالكبر وأن الأمان أغراها بالعدوان، إذن لو تغيرت حالها فإن طغيانها وعدوانها ينحسران، ولذلك دعا عليه الصلاة والسلام عليهم بهذا الدعاء: " اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف " أى سبع سنوات عجاف تجعل كبرهم ينكسر، وغرورهم ينحسر، ويتواضعون لله، ويفتحون قلوبهم للحق الذي رفضوا أن يستمعوا إليه وقالوا لصاحبه ما قالوا. لا بد أن يفاوت القدر في أحوال الناس يين الخير والشر، والحلو والمر، والنصر والهزيمة لأن الأمر؟ قال رب العالمين: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير) وتصرف أحوال الناس من سلم إلى حرب ومن شدة إلى رخاء ومن نصر إلى هزيمة إنما هو تقليب لهم وغمز لأدمغتهم ونواصيهم حتى تتحرك إذا جمدت، قال تعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون * فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون * فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين). إن الله تبارك وتعالى يقلب الأمم بين الأزمات والرخاء حتى تتذكر، وربما مكر بالظلمة ووسع عليهم كما يسمن الخروف حتى يذبح، وعندما يسمنون وينتفخون ويغترون يقطع دابرهم ويعلن أن الحمد لله رب العالمين!! لكن قد يطول المدى، ومع طول المدى نجد أنواعا من النفوس ص _025(5/15)
لها منطق متغاير، لكل نفسى اعتراضها وسؤالها وموقفها: هناك نفوس تستعجل، وأولئك المستعجلون ذهبوا إلى النبي ـ من باب الهزء أو من باب الكفر ـ وطلبوا من رسول الله أن ينفذ فيهم وعيد الله، وكان الجواب الإلهي على لسان النبى حاسما: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين * قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين * قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين). وهناك نفوس أخرى قد تستعجل أو قد ترتد أو قد تستطل مراحل الطريق فتفر في أوائله، وفي هؤلاء تسمع قوله تعالى: (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا)، لكنه لا يجيء، ضل وزاغ، فليضل من يضل، وليؤمن من يؤمن فإن كل إنسان سوف يجني ثمرة كدحه المادي والأدبي على سواء. ملاحظة أخرى في العلاقة بين الحق والباطل يمكن أن تنضم إلى هذه الملاحظة وهي أن الله عز وجل ـ في سورة الأنعام ـ حرك الفكر البشري النائم لأن بعض من خدرت عقولهم بتقاليد بالية جاعوا إلى النبى عليه الصلاة والسلام يطلبون منه بعض خوارق العادات كي يؤمنوا: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون * ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون) ، مرة أخرى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون)، إن الخاصة الأولى للإسلام أنه دين أقام تعاليمه على عظمة الفكر البشري وعلى عظمة العقل الإنساني، ولذلك ص _026(5/16)
فإن جميع خوارق العادات التي وقعت للنبي عليه الصلاة والسلام أعطيت منزلة ثانوية لأن المعجزة الكبرى للنبي عليه الصلاة والسلام هي القرآن الكريم، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: " ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلى فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " . لقد قرأت سورة الأنعام وتأملت في معانيها ومبانيها وشعرت بأن هذا القرآن العظيم مشحون بالهدايات العميقة، ملئ بالعبر المذكرة، مليء بالقوى المفجرة لطاقات الأمم لو أن الأمم استمعت ووعت!! وتختم السورة بهذه الكلمات تتمة للأقوال الأربعة والأربعين : (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين). أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ص _027(5/17)
الخطبة الثانية الحمد لله ( . . . الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام النبيين وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فإن خمسين طالبا من كلية الشريعة ـ آتاهم الله رشدهم، وسدد خطوهم، وبارك عملهم ـ جاءوا إلى المسجد اليوم وأقاموا فيه معسكرا لتنظيفه، وأخذوا فعلا يجمعون القمامات ويزيلون الأتربة، ويحاولون أن يوفروا لبيت من بيوت الله بعض ما يجب له من توقير وكرامة، ولكن جهودهم قاصرة حتما!! لماذا؟ لأنهم يعملون داخل إطار ضيق فرض عليهم!! هذا الإطار الضيق هو التعليمات التى وضعتها مصلحة الآثار!! وأنا في الحقيقة لا ينقضى عجبي من مصلحة الآثار في مصر، فإن المجارى طافحة في صحن المسجد، فهل المحافظة على طفح المجاري بعض ما تعمل له مصلحة الآثار في مصر؟! لو كان هذا الأثر أثرا فرعونيا لجمعت له الأموال من كل مكان للمحافظة عليه!! ولكنه أثر إسلامي فلا حرج أن تطفح المجاري فيه!. ما فكرت مصلحة الآثار يوما في أن تأمر بإعلاء أرض المسجد حتى ينقطع هذا الطفح المؤذي!. والمشكلة في بلدنا يجب أن تعرف بصراحة، إنني لا احسن الغموض، إن إضاعة هذا المسجد وتحقير عمل ما نقر به إلا عيون الاستعمار العالمي، والذين يستبقون هذا المسجد على هذا النحو قد يكونون مصريي الجنسية ص _028(5/18)
ولكن قلوبهم إما أن تكون شيوعية أو صليبية استعمارية، لأنه ما يمكن أن تكون المحافظة على بقاء المجاري في المسجد عملا تحافظ عليه أو تتشبث به مصلحة الآثار في مصر. (اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر) . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _029(5/19)
أولوا الألباب في القران الكريم خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإن العقل أنفس مواهب الرحمن عند الإنسان، به يقدر الإنسان أن يعرف النافع من الضار والحسن من القبيح والخطأ من الصواب والسفه من الرشد. وقد وردت في القرآن الكريم نحو ثلاثمائة آية تتحدث عن العقل ووظائفه وطرقه في الفهم والاستنتاج والحكم. لكن إذا كان العقل مناط التكليف بالإيمان والإحسان والعدل والمرحمة فإن هذا هو العقل الذي يمتاز به الإنسان على الحيوان وهو العقل الكلى الكامل. هناك ما نسميه نقصا في العقل أو ما نسميه جنونا جزئيا وهو خلل في التفكير ينتشر بين كثير من خلق الله. عندما آمر الناس بالتقوى وأنا فاجر أو عندما آمر الناس بالرحمة وأنا قاس أو عندما آمر الناس بالسماحة وأنا متعصب فإن هذا شيء يدل على ضرب من الخبل يجب أن يعالج بالتذكير والهداية، وهذا سر قوله تعالى: ص _030(5/20)
(أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون). كأن هذا التصرف جنون جزئى يقال للإنسان معه: ألا تعقل؟ تأمر الناس بالبر وأنت بعيد عنه شارد عن طريقه؟ من عجائب لغتنا أنها سمت العقل بأسماء عجيبة: سمته " النُّهى " والنُّهى جمع نُّهية. كأن وظيفة العقل أن ينهى الإنسان عن الإسفاف. وسمته " الحِجْر " كأن وظيفة العقل أن يحجر على الإنسان إذا ضل وتصرف تصرفا عابثا حتى يكف عن عبثه. وسمته " العقل " لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، لأن العقل هو الذي يقيد الإبل والدواب حتى لا تشرد وتنطلق على غير هدى فالعقل في ديننا كما هو أصالة في فهم الحقائق فهما سليما فهو كذلك أساس في زجر الإنسان عن الاضطراب والفوضى إذا رغب في الاضطراب والفوضى. وقد رأيت وأنا أتلو القرآن الكريم أن هناك كلمة تستوقف الأنظار وينبغى أن نتريث طويلا أمامها وهى كلمة " أولى الألباب " ومعناها أصحاب العقول، كأن اللب هو العقل أو العقل هو اللب وما عداه قشر يطير مع الريح لا وزن له. تكررت كلمة " أولى الألباب " ست عشرة مرة، ونحن الآن نستعين ربنا لنقف وقفة عجلى أمام كل مرة وردت فيها لنتدبرها ونستوعب معناها وندخره في نفوسنا. ص _031(5/21)
المرة الأولى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) المرة الثانية: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) !. ومعنى الكلمة هنا أن في مناسك الحج حكما يعرفها من يعرفها ويجهلها من يجهلها، وأن الذين تصوروا أعمال الحج مناسك غامضة بعبدة عن التصور العقلى مخطئون. المرة الثالثة: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب). وعندى أن الحكمة في هذا الموضع تعنى النفقة الراشدة العاقلة التى تجعل الإنسان يحسن توزيع ماله على مطالبه الخاصه وعلى مطالب دينه وواجبات مجتمعه بحيث يكون فيما يملك مدخر للفقراء والمساكين ومجال للإنفاق في سبيل الله. والحكمة أوسع من هذا المعنى إذ أنها تعنى أحيانا أن يكون التعليم مناسبا للطلاب فقد جاء : " ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " ، " حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يُكذب الله ورسوله؟ . ص _032(5/22)
وقد تكون الحكمة في غير المال ونفقته وفي غير العلم وعرضه، قد تكون في الدعوة كيف تعرض على الناس وكيف يخاطب كل مجتمع بما يلائمه ويناسب حاجته ويوائم مستواه العقلى، ولكنها على أية حال خير كثير يعرف قدره أولوا الألباب. ووردت كلمة " أولى الألباب " مرتين في سورة آل عمران: المرة الأولى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب). وقد بينت للمسلمين أن المحكم من كتابهم هو الذي حوى أصول العقيدة والأخلاق والسلوك وأن المتشابه لا معنى للخوض فيه لأنه فوق طاقة العقل أولا وبعيد عن أن يصل الإنسان إلى خبيئته بأدواته الكليلة ثانيا، ثم هو مثار فرقة وخلاف وينبغى أن يبقى المجتمع المؤمن موحد الرأى مسدد الهدف. المرة الثانية: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار). يستطيع المسلم أن يعرف ربه وأن يستبطن خشيته وأن تتفتح آفاق عقله على جوانب من عظمته عندما يتأمل في الزمان والمكان وخمسة آلاف مليون من الخلق يعيشون في القارات الخمس يلهمون نفسا بعد نفس ويدفق الدم في عروقهم شبرا شبرا أو إصبعا إصبعا بقدرة الخلاق الكبير الخبير بعباده أجمعين. ص _033(5/23)
الموضع السادس: في سورة المائدة : (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون). الكيف أعظم من الكم، كانِس طريقٍ مؤمنٌ أعظمُ من ملكٍ كافرٍ على رأسه التاج، رجل صالح غامض في الناس أرجح في موازين الخير عند الله وعند المؤمنين من كثرة لا خير فيها ولا تقوى لها: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ) أثبت تاريخ الحياة ـ إلى يوم الناس هذا ـ أن القلة المنظمة تغلب الكثرة الفوضوية وأن القلة العاملة تغلب الكثرة العاطلة وأن الناس ليسوا بالأعداد.. قال رجل لخالد بن الوليد رضى الله عنه: ما اكثر الروم وأقل المسلمين فقال خالد: بل ما أقل الروم واكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان . الموضع السابع : في سورة يوسف : (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). بيَّن رب العالمين أن القصص الذي يسوقه في الوحى المبارك ليس روايات مؤلفة ولكنه أحداث تاريخ وقع، ويعنى ذلك أن المسلم قارئ القرآن ينبغى أن يدرس التاريخ لأنه لا جديد تحت الشمس، ممكن أن نقيس به الحاضر على الماضى، ممكن أن نستنتج مما كان حقيقة ما سيكون، ولذلك أوتينا العقل لكي نعيش ونوازن ونعتبر ونتدبر. الموضع الثامن : في سورة الرعد: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب). ص _034(5/24)
الناس كثيرون في هذه الدنيا، لكن بعض الناس في أبصارهم قصور فلا يرون من بعيد، أو في أبصارهم عمى فلا يرون شيئا قط، هذا الذي يكون من آفات في العيون قد يكون آفات على البصائر التى ينبغى أن تعرف الحق وأن تتبعه وأن تدرك حسنه وأن تعرف الباطل وتشمئز منه وتنفر من قبحه، وقد بين القرآن الكريم أن الإنسان تعرض عليه الآيات وينبغى أن يستعمل عقله وأن ينتفع بأنفس ما وهب الله له : (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ). الموضع التاسع: في سورة إبراهيم : (هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب). إن هذا القرآن تلاه النبى صلى الله عليه وسلم على الناس ثم ذهب إلى الرفيق الأعلى وترك الكتاب الخالد يتلى على الناس كى يفطمهم عن الشهوات ويصدهم عن الأهواء القبيحة، كى يتذكر من له عقل أن الله واحد وأن المرجع إليه وأن المهاد الحسن ما نعده نحن لأنفسنا عنده، فالذين يعملون الصالحات لأنفسهم يمهدون والذين يعملون السيئات لأنفسهم يمهدون ولكن شر مهاد. الموضع العاشر والحادى عشر: تضمنتها سورة ص. الموضع الأول: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب). هذا القرآن لا تفنى عجائبه، وكلما وقفت أمام بابه تقرع الباب لمعنى جديد وجدت خزائن الرحمة فيه سيالة، ومن عيوب الذين ابتعدوا عن الرحمن أن حجبا صدتهم عن الكتاب فهم ما يحسنون السماع إذا تلى، ولا القراءة إذا اطلعوا، أما عباد الرحمن فقد وصفهم الله بقوله: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا). الأصم: من استمع إلى الآيات فلم ينتفع بها، ما انتفع بحاسة السمع. ص _035(5/25)
الأعمى: من قرأ القرآن فلم يستفد به، ما انتفع بحاسة البصر. من عجائب التاريخ ومن غرائب العالم أن المحطات الأجنبية عموما تذيع القرآن الكريم على الناس!! كأنما اطمأنت إلى أن المسلمين لن يفهموا منه شيئا، إنما يتتبعون النغم الحلو والصوت العذب وانتهى الأمر!!. الموضع الثانى: (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب * اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب * ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب). يجئ هذا الكلام في سورة " ص " تذكيرا للبشر بعجزهم وضعفهم وحاجتهم إلى ربهم، وفي الحديث القدسى: " يا عبادى كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعمونى أطعمكم، يا عبادى كلكم عار إلا من كسوته فاستكسونى أكسكم " . نحن هدف للنوائب والمتاعب، نحن دائما نصاب بما يطلق ألسنتنا بالدعاء، المؤمن العاقل يدرك أن ما نزل به من ضر لن يكشفه إلا الله، المؤمن العاقل يدرك أن البشر كلهم أعجز من أن يقربوا له خيرا أو أن يباعدوا عنه أذى أو ألما إلا إذا أذن الله، ومن قوانين العطاء الإلهى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم). هنا في هذا الموضع من سورة (ص) نجد أن رب العالمين يذكر عبدا من عباده فقد أهله وماله ولكنه لم ييأس من روح الله فبقى يقرع أبواب الرحمة حتى جاءه العطاء مضاعفا وانساب إليه الخير غزيرا يروى ظماه ويرد لهفته، حتى إذا أصاب أولى الألباب ضرر لم يلجأوا إلا لباب واحد هو باب الله، ولم يذلوا ويكشفوا ضراعتهم إلا عند رب العالمين وفي ساحته. ص _036(5/26)
المواضع الثانى عشر والثالث عشر والرابع عشر تضمنتها سورة الزمر: الموضع الأول: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب). الحديث بدأ بمقارنة بين ليل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليل غيره، غيره نائم، جثة ملقاة على الفراش كأنها دابة لحقها الإعياء فهى تستريح، أما هذا النبى الكريم عليه الصلاة والسلام فإن جسده ينام وقلبه يقظان، فإذا تحرك في فراشه تحرك بذكر الله ثم على عجل ينهض لينتصب على قدميه يقرا الكتاب العزيز. في ظلام الليل منفردا قام يدعو الواحد الصمدا عابد لم تبق طاعته منه لا روحا ولا جسدا الموضع الثانى: ( فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب). المؤمن ليس متعصبا لشيء سبق إلى عقله، إنه إنسان يحسن الموازنة والمقارنة بين ما يعرض عليه من مبادئ وأفكار، ويختار ما يرى أن الشرع إليه أقرب وأن العقل إليه أميل. الموضع الثالث: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب). يذكر الله العباد بجلال قدره وعظمة قدرته وافتنانه فيما أبدع من خلقه لأنه أحسن كل شئ خلقه، انظر كيف يتحول الطين إلى ورود ورياحين! انظر كيف يتحول القذى إلى سكر ونشا وحلو وأشياء أخرى معجبة وألوان أخرى تسبى العيون !!. ص _037(5/27)
الموضع الخامس عشر: في سورة غافر: (ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب * هدى وذكرى لأولي الألباب). يبدو من السياق أنه يتناول الأقدمين من بنى إسرائيل، ولا ريب أن أتباع موسى الأوائل كانوا أولى بالحق والنصرة والتكريم من فرعون وآله وجنده، ومن هنا أعطاهم الله الكثير. الموضع السادس عشر: في سورة الطلاق : (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا * فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا * أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا). هذه الآية تشير إلى سنة كونية وهى أن الله لا يعاجل الناس بالعقوبة إذا عاجلوه بالمعصية بل هو يتأنى بهم ويعطيهم فرصة للمتاب فإذا أبوا إلا الجماح وإذا آثروا الضلال على الهدى فإنه يضربهم الضربة التى تشيب لها النواصى. هذه ستة عشر موضعا تكررت فيها كلمة (أولى الألباب ) في كتاب الله عز وجل لتبين أن القرآن الكريم يطلب من المسلمين أن يكونوا أصحاب عقول مستنيرة وأصحاب معرفة مستوعبة وأصحاب علم واسع. إن الأفق الضيق شر على صاحبه وشر على المبدأ الذي بحمله وشر على العقيدة التى ينقلها إلى الناس، ونحن نريد أن نكون على مستوى الدين. لا أعرف كتابا في الأولين والآخرين أعلى قدر العقل وجعل أمته أمة الحضارة العاقلة الواعية المتقدمة الهادية إلا هذا القرآن الكريم ! فاعرفوا قدر كتابكم وأحسنوا اتباعه. هدانى الله وإياكم سبيل الرشاد. ص _038(5/28)
الخطبة الثانية الحمد لله (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد ان لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام النبيين وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: أيها الناس: كلمة السياسة!! معنيان متناقضان متباعدان كلاها غير الآخر. قد يكون معنى السياسة أن يملك الإنسان السلطة فيسخرها في إذلال العباد، قد يكون معنى السياسة أن يملك الإنسان السلطة فيتملكه جنون العظمة فهو لا يعرف إلا نفسه وأهله وأتباعه، قد يكون معنى السياسة أن أتعصب لتراث أو لدم أو لأمر مما تواضع الخلق على العصبية له. هذا اللون من السياسة مرفوض، نحن نكرهه ونوصى بكراهيته ونصرف الشباب عنه ونوصيهم بتطليقه لأن الله تعالى يقول : (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). كل من اشتغل بالسياسة يطلب بها العلو في الأرض والكبرياء علي الناس أو كل من اشتغل بالسياسة ليثير الفوضي والفساد في أنحاء البلاد فهو إنسان فاجر فاسد، وان طلب الدنيا فقد يصيب منها شيئا لكنه فقد الآخرة يقينا : (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون).. ص _039(5/29)
المعنى الثاني للسياسة: أن أملك السلطة فآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأقيم الصلاة وأوتى الزكاة وأحسن الحسن وأقبح القبيح وأسعى في نشر المرحمة والمودة بين الخلق وآمر من أملك أمره أن يتواصى بالحق والصبر وأن يتواصى بالمرحمة. هذه السياسة مطلوبة لأنها تجعلنى اصب المجتمع في قالب يرضى الله وأسوق الناس إلى وظيفتهم التى خلقوا من أجلها وهى عبادة الله.. كان صاحب الرسالة العظمى عليه الصلاة والسلام يربي الناس في المسجد على هذا المعنى، كان يقرأ في صلاته : (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل). كان يقرأ في صلاته: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا). أليست هذه سياسة؟ أليست الدعوة إلى مجاهدة الظلمة ومقاتلة المعتدين سياسة؟. هذا اللون من السياسة هو صلب الإسلام بيقين، نحن نكره سياسة الفوضى والشغب، ولكننا نحب كتابنا ونبينا ونتمسك بالحضارة التى أقامها هذا القرآن نظريا وطبقها وشادها نبيه عمليا ثم انطلق بها السلف الأول فأناروا ظلمات القرون الوسطى وأهدوا للإنسانية خير ما تشرف به . ص _040(5/30)
إننا نحن المسلمين لنا ماض فى سياسة العالم ينضر الوجوه، أما غيرنا فله ماض تسود به الوجوه. نحن لا نخجل من ماضينا ولا نستحى من كتاب ربنا ولا من سنة نبينا عليه الصلاة والسلام. (اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا أخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) . أقم الصلاة ص _041
نظرات في سورة "الأنفال" خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فسنلقى نظرة على أبعاد التغير الإنساني الذي يصحب المجتمعات البشرية وهى تصعد إلى القمة مستحقة النصر والتمكين، أو وهي تسف إلى الأرض مستحقة الذل والهوان، وذلك من خلال تأمل محدود في سورة الأنفال. إن سورة الأنفال نزلت في أعقاب غزوة بدر، ولكننا لن نتعرض ص _042(5/31)
للغزوة إلا بالقدر القليل الذي يحتاج إليه توضيح المعنى. أما المحور الذي تدور عليه السورة ـ فيما رأينا ـ فهو أن الأمم عندما تُسِفُّ وتُخْلِدُ إلى الأرض تستجمع الخصائص التي تستحق بها الهزيمة، وأنها عندما تَصْعَدُ إلى أعلى وتطير بأجنحة من الشوق إلى مستوى من الكمال الرفيع فإنها تستحق التمكين والفوز المبين !!. وبين يدى التأمل في سورة الأنفال ـ من خلال هذا المعنى ـ أذكر مثلا استمعت إليه من سائح عربى ذهب إلى " أسبانيا " في أحد المؤتمرات التي انعقدت هناك، قال لي: دخلت في المسجد بقصر الحمراء وقال لي الترجمان الذي يشرح لي الآثار: كانت هنا أمة مسلمة مكنها الله في الأرض يوم كانت لله خلائف، ثم طردها من هذه الأرض يوم أصبحت في هذه الدنيا طوائف !! نعم كان الإسلام في الأندلس دولة أشرقت بها العصور الوسطى، وقامت للإنسانية عقيدة التوحيد في هالة من العلم الواسع والحضارة الزاهية فارتقت الإنسانية طويلا بهذه الدولة الموحدة !! ثم لما عصفت الشهوات برءوس الحاكمين وأترفوا في هذه الدنيا، وقضوا الأعمار بحثا عن الشهوات، ونسوا المثل الرفيعة التي طولبوا بخدمتها طردوا من هذه الأرض !!. ماذا كان يأخذ الناس منهم بعد أن أصبحوا طوائف؟. يأخذون منهم الزخارف في جدران البيوت أو المساجد؟. يأخذون منهم الموشحات الني تبكي الحبيب الهاجر أو المهجور؟. ماذا. يأخذ الناس من الأمة الإسلامية إذا فقدت رسالتها !. شاع الكذب هذه المجتمعات، ووجدنا أصحاب الأقلام المتملقين وأصحاب قرض الشعر ابتغاء الجوائز والمكافآت ينسبون إلى الحمام أنه يمدح الخلفاء على هذا النحو: ص _043(5/32)
إن الحمام بأيكها تشدو هل قد علم أو قد عهد أو كان؟ كالمعتصم والمعتضد ملكان؟ والمعتصم والمعتضد اللذان ورد ذكرهما في هذا المدح قال فيهما شاعر آخر من حكماء الشعر البصراء بأقدار الرجال. مما يزهدني في أرض أندلس ألقاب معتصم فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد ليس على الله بعزيز أن يطرد أمثال هؤلاء من العز وأن يحرمهم السلطة وأن يجعلهم رعاعا في الأرض لأنهم أبوا إلا منزلة الرعاع في أحوالهم وأعمالهم!! سورة الأنفال أشارت إلى هذا المعنى وهي تتحدث عن هزيمة قريش وانكسار دولتها التي كانت قائمة في مكة، وتحدثت في الوقت نفسه عن النصر الذي ساقه الله للمؤمنين. ونجيء للسورة من وسطها لكي نبين المحور الذي دارت عليه، يقول الله في وسط السورة: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق * ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد). هل الذي حدث لقادة الكفر في مكة وزعماء الوثنية في الجزيرة كان بدعا في سنن الله الكونية؟ لا، بل هذا الذي حدث يتفق مع سنن الله في المجتمعات المنحلة ولذلك قال الله عقب هذه الآيات (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب * ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم * كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ) ص _044(5/33)
لكن ما يقضي الله به من تدمير للظلمة ومن إنشاء لأمم أخرى أعدل وأعقل يحتاج إلى زمن طويل، ومعنى طول الزمن: أن سنن الله الكونية لا تتم بين عشية وضحاها، فقد يموت أنبياء، وقد يموت قادة، وقد يستشهد مجاهدون قبل أن يبتسم النصر آخر الأمر، ولذلك يقول الله لنبيه (وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون) ويقول: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون * أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون). لا بد أن تتطاول وتتراخى أيام الصراع بين التوحيد والتثليث، بين العقل والحماقة، بين الحقيقة والخرافة، بين الجهل والعلم. لماذا هذا الطول؟. لأن الله ينضج الكمال في نفوس المجاهدين مع طول الزمن وفي الوقت نفسه ينضج العناد والفسق في نفوس المعاندين والفاسقين مع طول الزمن، فإذا كوفئ المؤمنون بالنصر فبعد أن يبلغوا قمة الخير والكمال، وإذا كوفئ المجرمون بالعقاب فبعد أن يبلغوا قمة الشر والفساد!! هذا المعنى وضحته سورة الأنفال في موضعين: الموضع الأول قوله تعالى: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون). كانوا يودون الأوبة إلى المدينة بغنيمة باردة دون أن تسفك دم ودون أن يؤدب مجرم ولكن الله قرر إنزال ضربة مهينة بالكافرين !! الموضع الثاني قوله تعالى: ص _045(5/34)
(إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم). رب العالمين يهلك هؤلاء بجدارة، ويعطي هؤلاء بجدارة. والأقدار التي تنزل بصعود هذا أو هبوط ذاك ليست حركات عابثة، إنها أقدار تزن بدقة هائلة مسالك الأفراد والجماعات!! وينتقل هذا المعنى من ميدان القتال إلى ميدان السجن، فيقول الله للأسرى وهم في قيود الهوان والمسكنة: إنكم وحدكم الذين تصنعون مستقبلكم، إن انتويتم خيرا للناس انفتحت أمامكم مجالات رحبة للحركة والعطاء وإلا فلكم الويل: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم * وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم). إن الخونة قد يستطيعون الإساءة إلى غيرهم ردحا من الزمان، وقد يتطاولون في المجتمعات ويحسبون أن الجو قد خلالهم غير أن القضاء الحكيم يتربص بهم إلى حين، ثم يستمكن الوثاق من أعناقهم!!. هذا وصف للفساد وهو يهبط بذويه، وهذا الفساد يشمل الأم، يقول الله في سورة النحل: (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون). لم هذا العذاب؟. لأنها أُطْعِمَتْ من جوع فما شكرت، وأمِنَتْ من خوف فما شكرت، فإذا تسلط عليها المخاوف والأزمات حتى تعرف قدر النعم التي فقدتها!!. وإنما أهلك الله السلطة التي كانت تحكم في مكة لأن العناد والجهالة ص _046(5/35)
بلغت بالقوم مبلغا عجيبا فقد قالوا مكابرين رب الكون: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم). كان الأولى لهم أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا ووفقنا لاتباعه، أما يبلغ الكره بقلب إنسان أن يكره الحق، وأن يكره حملته، وأن يكره الحياة به والسير على ضوئه فإن مثل هذا الإنسان ينبغى أن يوارى بجاهليته وعناده في مطاوي القبور، وهذا معنى قوله تعالى : (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق * ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد). ننظر بعد ذلك إلى الجانب الآخر وهو المجتمع المؤمن، لقد عاش قبل الهجرة وبعدها يحترم دينه ويقدم مطالبه على رغائبه ويحمل في الحياة شارته ويرفع رايته، وكان خصومه يستكثرون عليه حق الحياة كما يريد، بل كانوا يروعونه في الحرم الآمن ويرغمونه على النزوح هنا وهناك!! لقد أنالته الأقدار النصر والتمكين والسيادة، وإلى ذلك أشارت الآية الكريمة: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) إذا هؤلاء استحقوا فعلا أن ينصروا لأنهم تحملوا في ذات الله الكثير، ووقفوا إلى جانب نبيهم وهو يطارد ويخوف، ولم ينهزموا بل صمدوا وظلوا على ثباتهم إلى أن انتصروا. وهنا نلحظ أن النصر الذي ساقه الله كان فضلا أعلي، وكان عطية للقدر فيها أكبر الدخل، وليس لعمل الناس فيها إلا الدخل المحدود، هم قاتلوا وثبتوا وبذلوا وجاهدوا وضحوا وتحملوا وهاجروا وتركوا بلادهم وملذاتهم وثرواتهم لله، لكن الله سبحانه وتعالى عندما أراد النصر أدار المعركة وحده: (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام * إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب(5/36)
الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان) ص _047
رب العالمين بالجو الذي صنعه وبالرمال التي ثبتها وباليقين الذي أرساه في القلوب هو الذي جعل المؤمنين يكسبون المعركة علي هذا النحو الغريب حتى قال قائل في مكة: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا ويأسروننا كيف شاءوا !! وهذا مصداق قوله جل جلاله: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم). لكن ما هي الخصائص التي يرقى بها مجتمع حتى يستحق النصر ويتبوأ القمة ويضمن عناية السماء به؟. أشارت السورة في مطلعها إلى هذه الخصائص، فال تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم). تلاوة الآيات قد تكون مبعث تخويف اذا هجست هواجس الشر في قلب الإنسان وإذا وَزَّ الشيطان على المعصية، هنا يجيء ذكر الله فيبدد الغيوم ويكشف الطريق ويجعل المؤمن ينجو من الحفرة التي حفرها الشيطان له. يجيء ذكر الله للأفراد وللأمم وهي على طريق الكفاح والجهاد, للفرد عندما يقال له: عش لنفسك، ابق لأولادك، وفر الدنيا لأسرتك، ماذا تصنع في مقاومة الطغاة والبغاة؟ التفت لنفسك قبل أن يبطشوا بك، ص _048(5/37)
هنا يجيء ذكر الله يقول له: هيهات! ما من أمر يتم إلا إذا بت القدر الأعلى القرار فيه (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا * قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا). ذكر الله هنا يعلم الإنسان الثبات: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون). قال تعالى: (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون). القرآن الآن انتشرت له إذاعات في العالم الإسلامى، ولكن ما قيمة القراءات والإذاعات إذا لم تحرك الإيمان الهاجع المخدر الذي يضحك منه أعداء الإسلام؟ لذلك كان من خصائص الكمال البشري أن تتحول الآيات إلى مسالك وأخلاق وإلى جهاد وأعمال، وهذا أمر لا بد أن نعرفه لأن النهضات الإنسانية ليست كتبا تقرأ أو تحفظ ولكنها أحوال وأخلاق، والأم الهابطة تهتم بالشكل وقلما اهتمت بالموضوع وكما قال الشاعر: أرى حللا تصان على أناس وأخلاقا تهان ولا تصان يقولون: الزمان به فساد وهم فسدوا وما فسد الزمان وبعد أن رسمت السورة صورة المجتمع المؤمن حقا بثت خلال القصص الواعي وعبره البالغة نداءات شتى للمؤمنين تحدوهم إلى الكمال، ومن أجل ذلك تضمنت السورة ستة نداءات لا يستغنى عنها سلف ولا خلف، بل لعلنا اليوم أحوج الناس إلى فقهها!!. النداء الأول: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار). النداء الثاني: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون). النداء الثالث: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم). ص _049(5/38)
النداء الرابع: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون). النداء الخامس: (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم). النداء السادس: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون). الحقيقة أن شرح هذه النداءات يحتاج إلى خطبة خاصة، لكني أوجه النظر إلى آخر ما جاء في هذه السورة، وأخر ما جاء في هذه السورة يبين أن للمسلمين ولاء واحدا: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير). ثم جاءت هذه الآية: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). الكافرون أنواع: هناك من ينكر الله، هناك من يرى الألوهية أسرة فيها أب وابن وأم، هناك من يرى أن الله يتجسد في صور شتى !!. أنواع الكفر كثيرة، والكفر كله ملة واحدة، وقد سألت نفسى: إن اليهود يقولون عن عيسى: إنه ابن زنا وهم متهمون أيضا ـ كما يزعم النصارى- بقتله، ومع ذلك فقد رأيت الفاتيكان برأ اليهود من مقتل عيسى واصطلح الفريقان!! على من اصطلحوا؟ على الإسلام وأمته !! والفتنة والفساد يملآن الأرض الآن لأن المسلمين لا يعرفون من يوالون ولا من يخاصمون !!. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ص _050(5/39)
الخطبة الثانية الحمد لله (…الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام النبيين وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: أيها الاخوة: وأنا أقرأ قصيدة الرثاء في ذهاب الأندلس كانت أبيات منها تحرك مشاعري وتجعلني أقارن بين عصر وعصر وعهد وعهد.. قلت: ما هذه السرطانات التي شاعت في الأمة الإسلامية الآن تريد تمزيق الوحدة، تريد تقطع الكيان المشترك، تريد جعل المسلمين مشغولين بالتوافه؟!. تذكرت قول الشاعر وهو يتحدث للأندلسيين ويقول لهم: تبكي الحنيفية البيضاء من أسف كما بكى لفراق الإلف هيمان على ديار من الإسلام خالية قد أقفرت ولها بالكفر عمران حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثى وهي عيدان أعندكم نبأ عن أهل أندلس فقد سرى بحديث القوم ركبان كم يستغيث بنا المستضعفون وهم أسرى وقتلى فما يهتز إنسان ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان ألا نفوس أبيات لها همم أما على الخير أنصار وأعوان ص _051(5/40)
ألا يخجل الذين يثيرون العداوة والبغضاء الآن في نفوس المسلمين؟. ألا يخجل هؤلاء الذين يريدون أن يجعلوا مصير الأمة الإسلامية على هذا النحو؟. ماذا التقاطع في الإسلام بينكم؟. أما على الخير أنصار وأعوان؟. ينبغي أن نتعاون فيما اتفقنا عليه ـ وهو كثير ـ وأن يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ـ وهو قليل!!. جاءني ناس قالوا : العمل في البنوك حرام، والعمل في المحاكم حرام، والعمل في الشركات حرام، والعمل في الجهاز الحكومي كله حرام!!. ونتيجة هذا التفكير أن يملا الصهاينة والصليبيون هذه الأجهزة وأن يبيع المسلمون الفول والتبن!!. هل هذه طريقة في إصلاح الأمة؟ !. كان ابن تيمية ـ أيام احتلال بغداد ـ يمشي مع تلميذ له، فوجد التلميذ جماعة من التتر الذين احتلوا بغداد يشربون الخمر فأراد أن يتوقف ليشتبك معهم ويمنعهم من شرب الخمر فجره ابن تيمية وقال له: مالك ولهؤلاء؟ دعهم في سكرهم إنهم لو صحوا لقتلونا!!. أى تحريم هذا الذي يشغل دماغك الآن؟. إذا كنت تريد إقامة الإسلام فليست إقامة الإسلام أن تمنع جنود العدو من شرب الخمر، إقامة الإسلام أن تقيم جهازا إسلاميا يغلب هذا الجهاز، إقامة الإسلام أن تكون جيشا للموحدين يأكل هذا الجيش، إقامة الإسلام أن تدخل في كل عمل وتعطي يدك مع كل مصلح حتى إذا جاء الإصلاح للجهاز الذي أنت فيه تكون خبرا بمتاعبه ومفاسده ، أما تعلم الإصلاح بعيدا عن هذا الجو فكتعلم السباحة على الأرض !! وما يتعلم العوم على الأرض أحد إلا إذا كان خياليا مغفلا. ص _052(5/41)
ادخلوا فى كل ميدان، واخدموا الإسلام بقدرة، وهناك قواعد فى الشريعة الإسلامية كقاعدة : مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقاعدة ارتكاب أخف الضررين. أيها الاخوة: انه ليسعدنا في هذا اليوم أن يكون بيننا إخوة لنا جاءوا من السودان شرح الله بالإسلام صدورهم، وأقام بالحق أخلاقهم وألسنتهم، وجعلهم دعاة للخير بعد أن كانوا قد خدعوا بالمسيحية زمنا، وعرفوا - بعد جدال حسن مع إخواننا الذين ذهبوا إليهم ـ أن الله واحد، وأن محمدا نبيه، وأن المرسلين اخوة، وأن كل إنسان مسئول برأسه عن نفسه، وأن أحدا لم يقتل في سبيل خطايا الخلق، عرفوا هذا كله وجاءوا يستكملون أواصر الأخوة والإيمان مع إخوانهم فى القاهرة، وإننا ليسعدنا أن نلقاهم وأن نحتفي بهم وأن نُسَرَّ لمرآهم. إننا نتمنى للإسلام مستقبلا حسنا في جنوب السودان وفي المراتع التي انتشر فيها وباء التبشير الأجنبي مستعينا بخيانات الحكام العملاء الذين فتحوا له الأبواب ومهدرا أمامه السبل !! وان شاء الله للإسلام عودة وله جولة ودولة، والأيام بيننا (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون). " اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ). عباد الله : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _053(5/42)
من نبوءات القرآن الكريم خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإن هناك نبوءات في القرآن الكريم صدقتها الأيام، وهى نبوءات تخبر عن غيب لا يعلمه إلا الله، ثم جاء المستقبل فكشف عن صدق ما قيل. من ذلك أن المسلمين عندما عادوا أدراجهم منسحبين من مكة دون أن يؤدوا عمرة الحديبية كانت نفوسهم كسيرة وكانت الوساوس قد تسللت إلى أفكار بعضهم: كيف قيل لنا: إنكم ستدخلون مكة ثم نعود دون أن ندخلها؟!. ونزل قوله تعالى: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا). هذه الآية نزلت في السنة السادسة ولم تمض سنتان حتى كان المسلمون الذين منعوا من دخول مكة ومن أداء مناسك العمرة قد عادوا وهم سبعة أضعاف ما كانوا، ويبدى المسلمون من مظاهر القوة والبأس ما يوقع الرعب والرهبة في أفئدة المشركين. ص _054(5/43)
هناك نبوءة أخرى أول سورة الروم، وقصتها غريبة وتستحق التسجيل والتعليق، فإن النزاع بين المملكتين الكبيرتين: الروم التى تعتنق النصرانية، والفرس التى تعتنق المجوسية كان نزاعا حادا دمويا طويل المدى، وشاء الله- في دور من أدوار هذا النزاع- أن ينهزم الروم هزيمة ما عرف مثلها، وكانت أبعاد هذه الهزيمة تمتد إلى المعروف من القارات المعمورة يومئذ، انسحب الروم أمام زحف الفرس وتركوا مصر واليمن وفلسطين والشام وكادت عاصمتهم تسقط، وخسروا خسائر سودت وجوههم، ثم اضطروا إلى أن يوقعوا على صك الهزيمة وهو صك يجعل الروم ملزمين بتقديم أفواج من النساء للجيش المنتصر غير قناطير مقنطرة من الذهب والفضة!!. فكانت نكبة الروم قد سودت وجوه النصارى وأحنت رءوسهم، ويئس الناس من أن تكون للروم دولة أو عودة، لكن صوتا وحيدا غريبا كان ينبعث من مكة وحدها يقول: (غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون) لم يكن هناك ما يؤيد هذا الصوت من بقية قوة في دولة الروم أو بقية تماسك في شعوب النصرانية، والغريب أن الآية التى قالت: إن الروم سينتصرون حددت أن الانتصار لن يتجاوز بضع سنين، وفعلا وقع ما لم يكن في الحسبان وما لم يحرف في قوانين التاريخ ولا في أحواله، وانتصر الروم على الفرس واستردوا جميع ما خسروا، وكان انتصارهم غريبا معجبا معجزا؟!. كان يجب أن يقابل الصوت الوحيد الذي تنبأ بهذا النصر مقابلة حسنة وأن يعرف لصاحبه أن الله تبارك وتعالى مزق الغيوب عن المستقبل أمام بصيرته وأنزل عليه من الوحى ما جعله ينطق بما لم يعرف في القارات كلها وما لم ينتظره أحد. ص _055(5/44)
لكن الضمير الصليبى جعل مؤرخى النصرانية يذكرون القصة على نحو معوج كذوب، قالوا: نعم لقد تنبأ محمد بأن الروم سينتصرون ولكن سبب النبوءة حقده على الفرس لأنهم مزقوا رسالة بعث بها إلى ملكهم يدعوه إلى دينه !!. وهذا التعليل تزوير وكذب من ألفه إلى يائه لأن سورة الروم التى ذكر فيها أن الروم سينتصرون نزلت في مكة قبل أن يبعث الرسول برسالته إلى ملك فارس بنحو اثنى عشر عاما، فمن الخلط وتحريف الكلم عن مواضعه وتشويه الحقيقة لغير سبب واضح أن يقال إن السر في النبوءة حقد على الفرس لأنهم مزقوا رسالة بعث بها النبى!! إلى ملكهم!!. وهناك نبوءة ثالثة جاء بها القرآن الكريم وهى قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون). وإذا كانت النبوءة الأولى قد استغرقت لتحققها نحو سنتين، وإذا كانت النبوءة الثانية قد استغرقت لتحققها بضع سنين، فإن النبوءة الثالثة استغرقت لتحققها قرونا، ولا تزال هذه القرون تمتد لتبين أن الإسلام باق وأن لواء التوحيد معقود على أصحابه لن ينزل إن شاء الله !!. قيلت هذه النبوءة والإسلام غريب في جزيرة العرب تحيط به قبائل مشاكسة مشركة؟ تحيط به قوى اليهود والنصارى الذين تعاونت أحزابهم جميعا على ضرب الإسلام والكيد له. ولكن الأسوار الحديدية التى كانت تمنع الإسلام من الانطلاق عبر الجزيرة تلاشت، ومضى المسلون فوصلوا أقصى الشرق وأقصى الغرب وأقصى الشمال وأقصى الجنوب، ومضت السنون والإسلام يزيد ولا ينقص !!. في سورة الروم آية تبين أن الإسلام باق إلى قيام الساعة وهى قوله تعالى: ص _056(5/45)
(ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون * وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون) وفي سورة آل عمران آية تبين أن الإسلام باق إلى يوم القيامة وهى قوله تعالى لعيسى ابن مريم: (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة). والذين اتبعوا عيسى عليه السلام هم الذين يرونه عبدا لله ويصفونه بأنه رسول لبنى إسرائيل يمهد للرسالة العامة التى تجئ من بعده، وأنه هو وغيره من الأنبياء إنما جاءوا منبئين بأن من عدا الله عبد له، وأنه ليس له ابن ولا صاحبة ولا أم ولا والد ولا ولد، أما الذين يقولون بأن لله أما أو صاحبة، أو أبنا أو ما إلى ذلك فهؤلاء ليسوا أتباع عيسى وإنما أعداؤه !! فآية سورة الروم وآية سورة آل عمران كلتاهما تصدق إحداهما الأخرى ونؤيد معناها وهو أن الإسلام باق حتى يأتى أمر الله وحتى يتقوض العمران على ظهر الأرض وينفض سرادق الحياة والأحياء وترجع الدنيا إلى ربها ليحتكم عنده إيمانها وكفرانها وصالحها ومفسدها وملائكتها وشياطينها. وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده: " ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر" . وورد في حديث آخر: " مثل أمتى مثل المطر لا يدرى أو له خير أم آخره " . ص _057(5/46)
ولكن من باب الإنصاف العلمى أقول: إن آية سورة الروم يفسرها البعض على أساس أن كلمة (فِي كِتَابِ اللَّهِ)المقصود بها كتاب الأمر: الخلق والرزق والموت والحياة والعز والذل والسلم والحرب. لله كتابان: كتاب تضمن وحيه وهو القرآن الكريم، وكتاب تضمن أمره في ملكوته الطويل العريض، والمقصود بالأمر هنا تدبير شئون العباد، وهو تدبير لا يحصى ما يقتضيه من لفظ لأنه إذا كان على ظهر الأرض خمسة آلاف مليون من البشر فإن كلا منهم يحتاج في تنفسه وهضمه ودق قلبه ويقظة عينه أو فكره إلى أوامر متلاحقة من الله؟!!. قال تعالى: (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) الكتاب المبين هنا هو كتاب الوجود أو كتاب الملكوت وهو غير القرآن الكريم. وقال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير). الكتاب هنا كتاب آخر غير القرآن الكريم. أقول هذا لأن مبشرا غبيا قرأ قوله تعالى : (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا). فقال: هذا كلام غلط لأن القرآن يكتب بدواة حبر !!. ظن المغفل أن المقصود (كَلِمَاتِ رَبِّي) هنا كلمات الوحى، مع أن الآية تشير إلى كلمات الإيجاد والإمداد والإحياء والإماتة المتصلة بكتاب الوجود، لكن الجهل معرة وفضيحة لأصحابه خصوصا عندما يتعرض هؤلاء الجهلة لكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كى ينالوا منه وهيهات هيهات !!. ص _058(5/47)
ومن باب الإنصاف العلمى أيضا أقول: إن بعض المسلمين القاصرين ربما جاءوا إلى أحاديث صحيحة فحكموا فيها أحاديث أخرى قد تكون مرحلية أو في مناسبات معينة وينتهون إلى أن عمر الإسلام قصير وأن الإسلام؟ بدأ غريبا فسيموت أو ينتهى غريبا؟!!. وهؤلاء الناس جهلة بقوانين التربية وبنواميس الله في كونه وبحقائق الوحى في جملته وتفصيله، ولذلك فأنى أوجه النظر إلى هذا فإن الإسلام باق إلى قيام الساعة، وقد قال صاحب تفسير " المنار " يعترض هؤلاء القاصرين: يا قوم إن سورة النور لم تتحقق بعد!! ويقصد بهذا قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون * وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون * لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير). قد تبهرك قواهم، قد تفدحك الجيوش المعبأة والمخترعات المخزونة من أدوات الدمار لكن رب العالمين يقول: ( لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ) لن يغلبونى ( والله غالب على أمره ) لكن مع من يكون أمر الله ولمن يكون الاستخلاف؟!. قال تعالى: (يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون * وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون) وكلمة (وأطيعوا الرسول) تعنى حراسة سنته والقيام عليها والعمل بها، وأحب أن يعرف المسلمون أن أحدا في الأولين والآخرين لم يحص تراثه ويراقب كلمه ويضبط كل ما صدر عنه في بيته أو مع أهله أو ص _059(5/48)
مع أصدقائه في صحته ومرضه وسلمه وحربه؟ وقع هذا لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم !! أحصيت سنته وعُرفت بدقة وقام علم السنة وقام علم الرجال وقام علم الجرح والتعديل وقام علم الإحصاء والتسجيل لكل شىء.. لكن كل ما نطلبه أن يكون المسلمون على مستوى السنة، فإن السنة كان لها رجالها الذين يحسنون فهمها ودرسها وتبويبها وتوزيعها على الأمر والنهى والواجب والمندوب والحرام والمكروه. وكلمة " السُّنَّة " كلمة تحتاج إلى شىء من التفصيل: قد تكون في مقابلة الفرض ويقصد بها عندئذ النوافل. قد تكون في مقابلة القرآن ويقصد بها عندئذ الحديث النبوى. قد تكون في مقابلة البدعة ويقصد بها عندئذ الأصل. قد تكون بمعنى الدين كله أى سيرة الرسول وقوله وعمله و قرآنه. وجحد السنة ضلال، والحرب الآن على الإسلام تتناول الكتاب والسنة، واليوم نشرت " الأهرام " ردا علي كلام كنت قد كتبته من يومين دفاعا عن الكتاب والسنة، ووجدت فيما نشر شيئا من الجراءة على فهم التراث الإسلامى، فالرجل يدعى أن ابن تيمية حرض أو أمر بمقاتلة من يتركون سنة الفجر!!. وأنا قرأت كتاب " السياسة الشرعية " لابن تيمية من عشرين سنة تقريبا، وليس فيه ما ينسب إلى الرجل، والرجل حكى قولين مترددين في الفقه: من ترك سنة الفجر يقاتل أولا يقاتل؟. ومع ذلك فأنا قرأت رسالة منشورة لابن تيمية يؤكد فيها أن الدعوة الإسلامية تقوم على الإقناع وأن الإسلام انتشر بالحق لا بالسيف وانتصر على السيف الذي اعترض طريقه ولم يكن السيف في يده أداة إرغام أو قسر على الدخول في الإسلام. ص _060(5/49)
ثم إن ابن تيمية يعلم الحديث الصحيح الذى يفيد بأن من واظب على الفرائض والتزمها نجا، ففى الحديث: " جاء رجل إلى رسول الله من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوى صوته ولا يفقة ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله " خمس صلوات فى اليوم والليلة " فقال هل علي غيرها؟ قال: " لا إلا أن تطوع ". قال رسول الله: " وصيام رمضان " قال: هل على غيره؟ قال: " لا إلا أن تطوع "، وذكر له رسول الله " الزكاة " قال: هل على غيرها؟ قال: " لا إلا أن تطوع " فأدبر الرجل وهو يقول : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. فقال رسول الله! " أفلح إن صدق " . ما أعرف فى حياتى العلمية إماما قال بالمقاتلة على النوافل، وأنا سأعود إلى قراءة كتاب " السياسة الشرعية " لكى أعرف بدقة تصحيح النقل الذى ذكر فإن الكاتب يغلب أن يكون كاذبا، ودليل كذبه أنه نسب إلى الشيخ الألبانى - وهو رجل أعرفه عف اليد واللسان وأعرفه يأكل حلالا وهو ممن خدموا السنة فعلا - أنه فسر الحديث : " جعل رزقى تحت ظل رمحي " بأن للمسلمين أن يغتصبوا أرزاقهم بالرماح وأن يحصلوا أقواتهم بالسيوف !! أيقول عالم من علماء المسلمين هذا الكلام؟. القضية كلها أن الكاتب يقول: إنه يحارب العنف. قلت - وأنا أحدث نفسى بمرارة - ويحك!! تحارب العنف بين الناس وما تنطق بكلمة تحارب بها العنف بين الحكومات، إن آلاف القتلى الآن سال دمها على أرض الشام، وقتل البعث النصيرى ألوف المسلمين، أليس هذا عنفا؟. هل العنف أن يقول مسلم: نريد أن نحكم بكتاب الله؟. إن الأمر يحتاج إلى أن يفهم المسلمون ثقافتهم على حقيقتها وأن يدركوا أن دينهم - فى هذا العمر - يناوش بطرق شتى. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم . ص _061(5/50)
الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولى الصالحين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، واعلموا أيها الأخوة أن الإسلام لا تهزمه القوى الأجنبية، إن هذه القوى مهما اشتد ساعدها فإن نارها إلى خمود وثورانها إلى همود، إنما يصاب الإسلام من داخل أرضه، إنما يصاب الإسلام إذا اشتغل الرعاع القاصرون بالفقه واشتغل العلماء المذاكرون الدارسون بطلب الدنيا وتملق الحكام واشتغل الحكام في طول العالم الإسلامى وعرضه بالدوران حول أنفسهم والسعى لعجالة لا خير فيها ولا قيمة لها من هذه الدنيا. جاءني شاب تخرج في كلية الشريعة والقانون وعرض عليه أن يكون وكيلا للنيابة فرفض بحجة أنه لا يريد أن يحكم بغير ما أنزل الله!!. قلت له: إنك في ميدان النيابة وميدان القضاء ستحكم بما أنزل الله في تسعين في المإئة من القضايا التى تعرض عليك، وإذا كان قانون الجنايات قد اختلف مع الحدود في بعض الأمور فأقوى الناس على إصلاح هذا القانون وعلى تخفيف شره وتقليل خطره مسلم صالح، وإذا تركنا هذا الميدان نجيء بجهاز صهيونى يحكم النيابة والقضاء؟!. أى غفلة تجعل شابا يضيع مستقبل الإسلام في عالم القضاء بهذا الفكر ويقاوم به آراء الأئمة الذين يرشدون الأمة ويريدون للأمة أن تأخذ تمامها وكمالها؟!!. ص _062(5/51)
هل يجيء محامون شيوعيون للدفاع عن هؤلاء الذين ألقى القبض عليهم لأنهم ينتسبون إلى جماعات تنتسب إلى الإسلام لماذا لا تترك هذه الأمة أمر الفقه لمن يحسنون الفقه؟. لماذا يتحدث الرعاع فيما لا يحسنون ويصوبون للأمة الخطأ ويخطون الصواب؟. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) عباد الله : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _063
نظرات في سورة يونس خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو علي كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهدأة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فأول ما فكرت فيه وأنا ألقى نظرات مجملة على سورة يونس أن آخذ ظواهرها التي لا تحتاج إلى جهد وقلت: لقد تكلمت السورة عن الألوهية، وعن الطبيعة البشرية، وعن نبوة محمد عليه الصلاة والسلام. فلألق مع إخواني المصلين معي نظرات في هذه السورة تبين لنا كيف كان الحديث عن الألوهية، ثم كيف كان الحديث عن نبوة عمد عليه الصلاة والسلام، ثم كيف كان الحديث عن الطبيعة البشرية. ص _064(5/52)
فأما الحديث عن الألوهية فإن أول مابدأ بدأ بوصف الله جل جلاله بأنه الخالق لما نرى وما لا نرى من هذا الكون الكبير: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون). كلمة " العرش " كلمة لا يستطع البشر أن يدركوا حقيقتها، ولذلك فإن التوقف عندها من التكلف الذي نهينا عنه، لكن الانطباعات التى تستقر في النفس عندما نسمع الكلمة: أن الله جل شأنه نافذ الكلمة في مملكته الرحبة، وأن سلطانه موطد في الأرض والسماء، ما يجرؤ بشر ولا ملك أن يعترضه ولا أن يقف في طريقه، وأن علمه شامل مستوعب تستوي فيه الأزمنة، فأول يوم من بدء الخلق إلى آخر يوم من انتهائه مبسوط في كتاب يستوي العلم به وضوحا وإشراقا، فليس هناك قرب ولا بعد فيما يتصل بالعلم الإلهي حتى لقد قال أحد المفسرين: إن يونس في بطن الحوت كمحمد عند سدرة المنتهى، كلاهما في علم الله واضح، ليس أحد أقرب من الآخر في ذلك العلم وإن كان أحدهما أعظم من الآخر مكانة وأعلى درجة وهو محمد عليه الصلاة والسلام!!. فإذا قيل: " اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ " فالانطباع العام أنه الملك الذي استقر ملكه، وتوطد سلطانه، واستبحرت معرفته، واستفاضت نعماؤه، وأن أزمة الأمور في هذا الملك من أعلاه إلي أدناه لا يفلت أمر منها من الله عز وجل. قال تعالى: (ألا إلى الله تصير الأمور) . وقال تعالى: (وإليه يرجع الأمر كله) . ثم بينت السورة أن الملك يكون للأشياء وللأشخاص.. يكون للأشياء في قوله تعالى: (ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون). ص _065(5/53)
و يكون للأشخاص في قوله تعالى: (ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض). ثم قارنت السورة بين الإله الحق وبين الأصفار والأوهام التي تعلق بها الأفاكون، قال تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون * فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون * كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون * قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون * قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فمالكم كيف تحكمون * وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون). هذه الأسئلة أخذت أمضى في أهدافها وحقائقها، قلت: لنعش في أرض الواقع، كم بشرا من أبناء آدم يسكنون الأرض؟. يقول آخر إحصاء: إنهم يبلغون أربعة آلاف مليون.. قلت: أربعة آلاف مليون فيها ثمانية آلاف مليون أذن، وثمانية آلاف مليون عين!!. العين جهاز معقد التركيب، كيف يلتقط الصور؟ كيف يقع على المشاهد ثم يوصل بطريقه ما هذه المشاهد إلى المخ فيكون طريقا من طرق الإدراك للعقل البشرى؟! السمع جهاز مركب فوق صدغ الإنسان يسمع الأصوات على موجات محددة ويوصلها أيضا إلى المخ فيكون طريقا من طرق الإدراك للعقل البشري !. هل الذى خلق السمع والبصر خلق هذه الأجهزة وتركها تعمل وحدها؟. ص _066(5/54)
لا إنها لحظة بعد أخرى تستمد قدرتها على العمل وطاقتها في الوظيفة من خالقها جل جلاله، والأمر أشبه بالتيار الكهربائي الذي يوصل إليكم الآن الصوت، فلو انقطع التيار انقطع الصوت، والتيار الذي يصل يولد لحظة بعد أخرى ! إشعار البشر بأنهم يبصرون بفضل الله ويسمعون بنعمة الله أشارت إليه آية أخرى هى قول الله تعالى: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون). في الواقع تحسس وسائل العظمة الإلهية ومعرفة مداها ممكنة بالعقل العادى لأن العقل العادي لن يعجزه أن يعرف كم اكلأ على ظهر الأرض انفتح فمه على رأس جهاز هضمي من نحو ثلاثين مترا يشتغل هذا الجهاز بالقضم والهضم وتحويل الجماد الذي يأكله من النباتات إلى عظم ولحم وشحم وعصب وبصر وسمع وطاقة وحياة!!. ويمضى السؤال في حوار يغرس الإيمان، ويمحق الإلحاد، ويقصم ظهر الشرك، ويقيم دعائم الاعتقاد الصحيح: (قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ) عندما بدأ الله الخلق بدأه بكلمة " كن " فإذا كل شئ وفق مراده، وفق تخططه، وفق تدبيره، وإذا كل شئ يعنو له، يستمد منه، يعبده ويتجه إليه طوعا أو كرها، إن عظام الكافر تسجد لربها لأنها ما تتماسك في كيانه إلا باسمه جل جلاله. ثم إن الله جل جلاله لا يتعبه شئ (أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير). (ولم يعي بخلقهن) لم يشعر بإعياء (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب). أي ما مسنا من تعب، ومع ذلك فإن بعض أصحاب العقائد الأخرى ص _067(5/55)
يقولون: إن الله تعب بعد الخلق واستراح في اليوم السابع ، وكان من تقديس الراحة في اليوم السابع أن التوراة حكمت برجم من يعمل يوم السبت إلي أن يموت !!. ويمضى السؤال: ( قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فمالكم كيف تحكمون). من الذي كشف الغطاء عن أعيننا؟. من الذي رسم لنا الصراط المستقيم؟. من الذي بعث لنا أنبياءه يعرفوننا ما ينبغي أن نعرف؟. ( فمالكم كيف تحكمون ) !؟. انظروا إلى القرآن وهو يهز العقل البشري ويطلب منه أن يخجل ويقول له: أما لديك من إحساس بأن التسوية بين الذكى والبليد لا تجوز، بين العادل والجائر لا تجوز، بين العالم والجاهل لا تجوز؟ فكيف تسوى الله بخلقه؟ كيف تحكمون؟. ثم يجيء الكلام عن النبوة في سورة يونس: بدأ الكلام عن النبوة من الآية الأولى: (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ) ص _068(5/56)
هل العجب أن يكون بشر من البشر مبلغا عن الله؟. عبيد الأصنام استنكروا أن يكون محمد نبيا؟. وأهل الكتاب الذين قالوا عن أنبيائهم ما قالوا استنكروا أيضا أن يكون محمد نبيا؟. فمن النبى إذا لم يكن محمد نبيا؟!. إنه المثل الأعلى للنبوة التي تعتبر همزة وصل بين الأرض والسماء!!. وكانت سورة يونس رقيقة سهلة عندما قالت للناس: ما العجب في أن يكون محمد نبيا وهو يتلو على الناس كلاما لا ريب فيه ولا يتسلل إليه باطل ولا ترقى إليه ريبة؟!. إنكم تناقشونه وتريدون منه كلاما آخر، ما دخله هو في أن يأتي لكم بما تريدون من كلام؟. (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم). أنا أتلقى ولا أؤلف، أنا أستمع ما يوحى إلي وابلغ، ولست شاعرا أصوغ قصائد أو أديبا يكتب من دماغه، ولكن الله هو الذي أقرأني فقرأت، كنت أميا وعشت بينكم زمنا (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون * فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون). ثم تقول له الآيات: تحمل إذا قاوموك، وامض فى طريقك ولو اعترضوك، ولك فيمن مضى من الأنبياء أسوة فقد اتعبوا وانتصب المردة ص _069(5/57)
من حملة الباطل كى يعوقوا سيرهم ويطفئوا نورهم وهيهات!. يقول الله له في هذه السورة : (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون * فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين). كان نوح يدعو إلى الإسلام وهي دعوة محمد عليه الصلاة والسلام ولذلك يجي في آخر السورة ليقول للناس: (قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين). هكذا تعرض الرسالة الخاتمة نفسها على الناس، ويستحيل أن يوجد في الدنيا ذو عقل وإنصاف يمكن من الاطلاع على رسالة محمد عليه الصلاة والسلام كما هي ثم لا يقتنع اقتناعا يغوص في أعماق قلبه بأن محمدا حق !!. ثم يجيء الكلام عن الطبيعة البشرية في سورة يونس: الناس لهم في حياتهم أطوار، ولهم في دنياهم أحوال، إن الصحة القوية والثروة الكبيرة والسلطة المطلقة قد تجعل الإنسان يطغى ويستبد ويعيش وفق السعة التي تيسرت له وجعلته يأمر وينهى ويملك الإنفاق والإعطاء وإجابة الملذات وقضاء المآرب واللبانات، ولكن الإنسان ينكشف له ضعفه ويشعر بذله وعبوديته يوم يتجرد من أسباب قوته!! إنه لو كان ملكا ذا جلالة أو لو كان رئيسا ذا سلطات مطلقة إنه يذله المرض ويقفه أمام ربه شاعرا بالفقر إليه (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون). ثم يسمى القرآن الكريم هذا الأسلوب مكرا، فيقول في وصف البشر أفرادا أو جماعات: (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون) ص _070(5/58)
إن الحفظة الكرام الكاتبين يحصون عليكم التناقضات التي تقع في حياتكم، يحصون عليكم أنكم عند الشدة عرفتم ربكم، وعند الرخاء نسيتم فضله ولم تشكروا نعمته، ثم يوضح جل جلاله هذا المعنى فيقول: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون). أنتم بهذا المسلك لا تضرون ربكم فهو غني عن شكركم، إنه لا يزيد بطاعتكم ولا ينقص بمعصيتكم، إنكم تضرون أنفسكم (إنما بغيكم على أنفسكم ). ثم يضرب الله المثل: هذه الدنيا كل شيء ازدان فيها، لقد بدأت غرسا محدودا، ثم أخذ العقل البشري يكدح ويصل وبتوفيق الله أمكن لناس كثيرين أن يعمروا الخراب وأن يجندوا قوى الكون الهائلة لمصلحتهم، وهذا لون من ألوان التكريم الإلهي، لكن لهذا التكريم مقتضيات.. إن من التبجح أن تأكل وتشبع ثم لا تقول لمن أطعمك: شكرا لك!. إن من التبجح أن تفكر وتقدر ثم لا تقول لمن وهبك السمع والبصر والفؤاد: لك الحمد والمجد!. إن الحياة بدأت من الله وتنتهى إلى الله: قال تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) ص _071(5/59)
إن هذه الدنيا سيخرب عمرانها: ويقوض بنيانها، ويحتكم إلى الله كفرها وإيمانها ويومئذ ينقسم الناس قسمين: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون). هذه السورة فيها حديث متشابك يمكن أن يجمع هذه النظرات في إطار التفسير الموضوعى الذي ألفناه، ونستعين الله يوما ثم نعرض لهذه السورة في صورة تجمع شتاتها وتبين أولها وآخرها.. لكن لمناسبة أن هذه السورة قالت: (أمن يملك السمع والأبصار) هناك حديث قدسي عجز البُله من الناس عن إدراك حقيقته، يقول الحديث: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه.. " . معنى هذه الكلمات أن الإنسان عندما يؤمن أيمانا يستغرق حواسه، ويملأ أقطار نفسه فإن فكره سيكون لله، وإن نظره سيكون لله، وإن حركته في الأرض ستكون لله، وإن كدحه سيكون لله و؟ قال الله على لسان نبيه: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين). وليس معنى الحديث أن الله سبحانه وتعالى يتحول إلى يد أو رجل كما يفهم الأغبياء، لا، إن الحديث يريد أن يفهمنا أن بعض الناس منذ أن يستيقظ في الصباح إلى أن يأوى إلى فراشه ربما كانت خطرات نفسه في منامه شيئا يتصل بالدين وبالله وبالإيمان!!. ص _072(5/60)
وهذا النوع من الناس هو الذي يستحق الولاية، وهو الذي يكون لله وليا !!. هذا المعنى نأخذه من سورة يونس من آيتين أعقبت إحداهما الأخرى، قال تعالى: (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين). وبعد هذه الآية التي تجعل الإنسان صاحي الذهن نير القلب، إذا شهد شيئا على ظهر الأرض أحس أن الله يشهده أيضا ويشهد ما يراه وهو معه في كل شيء!! من استصحب هذا المعنى وعاش به ارتقى إلى الدرجة التي وصفتها الآية التى بعد ذلك: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم) فولاية الله ليست كما فهم المسلمون في عصور الانحطاط هذه الجهالات أو الغباوات في بعض الأجساد القذرة التى لا يمكن أن ينظر إليها مؤمن نظرة احترام، إنما ولاية آفلة عقل لماح بصير بآفاق السماء وفجاج الأرض يرى عظمة الله في مشاهد الملكوت فتنعكس هذه المشاهد في نفسه استغراقا وهداية وخضوعا وتفانيا يجعل سمعه وبصره ويده ورجله وتفكيره وحركاته الظاهرة والباطنة لله!!. سورة يونس سورة فيها خير كثير نرجو الله أن يعيننا على تفسيرها يوما. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ص _073(5/61)
الخطبة الثانية الحمد لله (...الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام النبيين وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: أيها الاخوة: بوصفى إنسانا ممن يخدمون الدعوة الإسلامية أرى لزاما علي أن أعرف ما يقوله الناس عن الإسلام ودعوته، ثم أرى لزاما علي أن أعرف ما يقوله المواطنون سواء كانوا على رأى أو ضدي في الأحوال العصيبة التي نمر بها، فلا شك أن الأمة الإسلامية تمر بفترة من أخطر الفترات في تاريخها لأن عدوها قرر ـ كما قلت في وضوح ـ أن ترتد عن دينها وأن تتنازل عن بلادها !!. تابعت ما يقال بشأن بناء الإنسان العربى؟ يقال في هذه الأيام، ولمناسبة " ورقة العمل " التي تدرس هنا وهناك فقرأت في إحدى صحف اليوم كلاما عن أن برامج التعليم يراد تغييرها وينظر في تطويرها، ولابد ونحن نعيد النظر في هذه البرامج أن نعرف ما الزاد الذي نقدمه لأبنائنا لينمي كيانهم الأدبي، وليرشد وجهتهم في الحياة.. وكان الكاتب منصفا إذ قال: إن كل بيئة تمسكت بنوع معين من الزاد، وقال: إن الروس قالوا: نحن نبني ثقافتنا على المادية الماركسية اللينينية، وإن الغرب الأوربي له ثقافة ربى بها أجياله، وان الأمريكيين ص _074(5/62)
صنعوا لأنفسهم ثقافة معينة، ثم انتهى الكلام إلى: ما هو الزاد العلمي للأمة العربية؟ ما هو المنهج التربوى للأمة العربية؟ ما هو التوجيه الثقافي للأمة العربية؟ وكان الجواب: لا شيء !!. وهذا صحيح !! هناك فراغ مخيف في عقول الطلاب في مراحل التعليم المختلفة الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية!!. ليست هناك عقيدة موجهة، ليست هناك قيم ضابطة للأخلاق، ليست هناك هذه المثل الرفيعة التي تعلم الناس أن يقفوا عند حدود معينة، وتد شعرنا بوضوح أن الرجل قد يحرز أعلى الإجازات العلمية وأنه يكون حاد الذكاء إلى درجة العبقرية ولكنه فارغ الفؤاد من الإيمان مقطوع العلاقات برب العالمين !! وهنا يستغل ذكاءه العبقري في تكوين نفسه على حساب أمته ودينه. اقترح الكاتب بعد ذلك اقتراحا قال فيه: نريد تعليما يعتمد على روح الإسلام!!. كلام جميل لكنه أيضا مريب، لأنه ما حدود كلمة: روح الإسلام؟. هل من روح الإسلام أن نميت الأركان مثلا فلا نكلف الشباب بالصلاة؟. هل من روح الإسلام أن نبيح الخنا؟. هل إذا قلنا: لابد من تغيير القانون الذي يبيح الخنا جاء إنسان وقال: ادعوا إلى روح الإسلام؟. هل إذا قلنا لابد من وضع الصلاة كركن أساسي في منهج المدرسة والجامعة جاء إنسان وقال: ادعوا إلى روح الإسلام ؟. أنا أريد أن لا نلعب بالكلمات، إن دين الله لا يؤخذ عن أفواه الجاهلين والقاصرين. ص _075(5/63)
إن اليهود بلغ من تشبثهم بالشكل في دينهم أنهم وضعوا على رأس سكرتير الأمم المتحدة الطاقية اليهودية واضطر الرجل أن يخلعها بعد أن مكثت على رأسه حينا حتى لا يقال: إنه أصبح يهوديا لكي يظهر بمظهر الحياد ولو تمثيلا !!. فإذا كان اليهود قد اعتبروا طاقية الصلاة شيئا يتمسكون به فما معنى أن يجييء إنسان ليقول لنا: خذوا روح الإسلام ودعوا نصوص الإسلام؟!. إسلام بلا نصوص تضيع روحه، إسلام بلا كتاب وسنة لا روح له بل لا عنوان له إنه أكذوبة، ولذلك نريد أن نعود إلى ديننا موضوعا وشكلا، حقيقة ومظهرا، روحا وجسما، فإن هذا التقسيم غير معروف في دين الله. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _076(5/64)
الدين الإسلامي وحاجه الإنسانية إليه خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فإن جميع النبوات قبل الرسالة الخاتمة كانت نبوات محلية محدودة الزمان والمكان، تستغرق جزءا من الزمن لا تتجاوزه وجزءا من الوقت لا تتعداه، يستوي في ذلك المرسلون كلهم بدءا من نوح عليه السلام إلى عيسى عليه السلام. يقول الله تعالى في رسالة نوح: (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم * قال يا قوم إني لكم نذير مبين). ويقول في رسالة عيسى: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين). وفي إنجيل متى: " لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة". ص _077(5/65)
أما الرسالة الخاتمة فجاءت على غير ذلك، خالفت جميع الرسالات السابقة من ناحية الأبعاد الثلاثة: طولا وعرضا وعمقا.. طولا: استغرقت الزمن كله إلى قيام الساعة. عرضا: استغرقت البشر جميعا في المعمور من أرض الله. عمقا: تناولت ما يحتاج إليه البشر من عقائد وعبادات ومعاملات وأخلاق، ووضعت القواعد العامة والمبادئ المنيرة التى توجه الناس إلى ما يضمن لهم الصالح في معاشهم ومعادهم على سواء. وبذلك أصبحت هذه الرسالة لا معقب عليها، وأصبح نبيها عليه الصلاة والسلام مسك الختام، فلا وحى بعد ذلك، ولن يجيئ من عند الله هدى جديد يحمله بشر آخر.. كأن الناس قبل محمد عليه الصلاة والسلام يشبهون الغلام الذي يعيش مع أبيه فهو يأخذ بيده ويمضى به في الطرق حتى إذا بدأ الغلام يكبر قال له أبوه: لست باستمرار معك ادرس هذه الخريطة فإن لك عقلا تستطيع أن تعيش به وأن تتعرف به الطرق وأن تدرى به المزالق التى تتلفك والمصالح التى تجديك، خذ هذه الخريطة وامض بها!! كذلك صنع "الله للعالم مع النبى الخاتم ، كان جل جلاله يستطع أن يبعث في كل قرية مرسلا، وماذا يكلفه هذا؟ لا يكلفه شيئا: (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا) لكنه جل جلاله لم يشأ واكتفي بأن أرسل النبى الذي رسم الخريطة للعالم بعد ما كبر وقال له: هذا الوحى بيدك مصباح يلقى بضوئه على الطريق فتنتفع به وتعرف كيف تضع قدمك في حاضرك ومستقبلك. وهكذا من أربعة عشر قرنا إلى الآن لم يجئ كتاب ولن يجيء كتاب، ولم يبعث نبى، ولن يبعث نبى، اكتفت الحكمة العليا بهذا القرآن الكريم مع النبى الخاتم !. ولما كان الإسلام دين الإنسانية منذ بدأت ـ بمعنى أن العقائد الركينة فيه هى ما بعث به المرسلون السابقون ـ فإن الإسلام بوصفه الجديد يعتبر دين السموات والأرض، دين الأزل والأبد، وليس وراء ذلك شئ له ص _078(5/66)
قيمة : (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون). ولأن هذا الدين ساوى الإنسانية كلها فهو كون آخر يضارع ويساوى الملكوت الكبير الذي تعيش الدنيا تحت سمائه وفوق أرضه، ولذلك جاءت ثلاثة أقسام في القرآن الكريم، كل قسم يوجه النظر إلى عظمة هذا القرآن تنبيها إلى عظمة النبى الذي بلغه وإلى ضخامة الرسالة التى ورثنا إياها. قال تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين ). مواقع النجوم: محطاتها في مدارات الفلك الواسع. والوحدة التى يقيس بها علماء الفلك سير الكواكب في هذا الكون الضخم وحدة مذهلة، فإن السنة الضوئية تعنى المسافة التى يسيرها الضوء في سنة، والضوء يقطع في الثانية (186 ألف ميل) أو (300 ألف كيلو متر) . ولذلك كان الكلام للعرب الأميين: (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم)! وكيف يعلمون وهم يومئذ لا يعرفون المراصد ولا يعرفون الأبعاد الشاسعة التى تنتقل فيها الكواكب ولكن وجهة نظرهم إلى أن هذه الكواكب ومن فيها من أملاك وهذه الأرض وما عليها من جن وانس يجب أن يعنو لله وجهه وأن ينحنى له صلبه وأن يخضع لأمر ربه وأن يستكين لحكمه وأن ينفذ تعليماته: (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون). ص _079(5/67)
القَسَمُ الثانى: قَسَم بالمرئى وغير المرئى، بالمبصرات وما يعجز البصر العادى عن إدراكه: (فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون * إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين). والقسم الثالث: قسم بالكواكب وهى تذهب وتجيء في الفلك الرحب: (فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس * والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس * إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين * وما صاحبكم بمجنون) سمى الله ذهابها وعودتها انخناسا وكنسا.. تنخنس: تعود. تكنس: تدخل في فلكها الذي تدور فيه. عسعس: رق ظلامه وبدأ يختفي. هذه الأقسام في القرآن الكريم تعطى لمحة عن عظمة هذا الكتاب، لكن لكى تنكشف الحقائق في هذه اللمحة ينبغى أن نقول: إنه ما دامت الرسالة الخاتمة أيدت بهذا الكتاب المعجز فلا بد أن يكون هذا الكتاب ممتدا ـ كما قلت ـ مع الأعصار الختلفة، ومعنى هذا: أن المعجزات القديمة الحسية كان ينتفع بها من رأوها، فالذين رأوا عصا موسى تتحول إلى ثعبان واضح وتلتقط ألاعيب السحرة يمكنهم أن يؤمنوا بل يجب أن يؤمنوا لأنهم رأوا بأعينهم كيف تلتقط العصا ألاعيب السحرة، أو كيف تضرب الحجر فينبجس منه الماء، أو كيف تضرب البحر فيتحول إلى شاطئين بينهما طريق يبس، إلى آخر ما زود الله به موسى أو ما زود به الأنبياء الآخرين. طبيعة هذه المعجزات أنها تبعث الإيمان في قلب من شاهدها، لكن المعجزة الجديدة مكلفة بأن تبعث الإيمان في قلوب الناس إلى قيام الساعة، رمن هنا كان القرآن الكريم قديرا على محق الباطل ودمغه وعلى إعلاء الحق وإبرازه، كان القرآن الكريم قديرا على حث العقل البشرى كى يؤدى ص _080(5/68)
وظيفته ويُعمل فكره في استبانة هذه الحقائق التى تُعرض: (قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار). هذه آية نزلت من أربعة عشر قرنا، لكنها تخاطب العقل الإنسانى في هذا القرن: أين الآلهة التى خلقت مع الله؟ أين الآلهة التى رزقت مع الله؟ أين هى؟ لا وجود لها: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ). عندما اقترح الكفار قديما معجزات لكى يؤمنوا قيل لهم: لن تجابوا: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ). لماذا ينتظر البشر على ظهر الأرض أن تنزل ملائكة من السماء لتشق لهم قناة أو تجرى لهم نهرا؟ وما عملهم إذن على ظهر الأرض؟ وهل زودهم الله بالعقل والمواهب وكرمهم على سائر الخلق إلا ليفجروا طاقتهم البشرية في صنع هذه القنوات وفي غرس هذه الحدائق وفي استنبات التربة حتى تخرج البساتين وتخرج الزروع والثمار؟. هذا الدين جاء ـ كما قلت ـ ليقول للبشر: لستم في وصاية أحد، ما تحتاجون ـ كما يحتاج الصبى ـ إلى ولى أمر يأخذ بيده وهو يمشى به في الشوارع والميادين، كبرتم، سيروا وحدكم، استغلوا عقلكم، قدروا فكركم. هذا هو الذي صنعه الإسلام في معجزته الأخيرة، ولذلك يقول النبى ـ واضعا الفرق بين معجزته ومعجزات من قبله: " ما من الأنبياء من نبى إلا قد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما ص _081(5/69)
كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " . يقول الفيلسوف المسلم ابن رشد: إن الفارق بين المعجزة الجديدة والمعجزات القديمة أن هذه من جنس القضية التى جاءت للاستدلال عليها، أما غيرها فلا صلة له بالقضية وموضوعها. وضرب ابن رشد لذلك مثلا: أرأيت إذا جاء طبيب يقول لك: أنا طبيب. تقول له: ما الدليل على طبك؟ يقول لك: الدليل أنى أمشى على الماء. فلو مشى على الماء فأنت مضطر لأن تصدقه، ولكن ما صلة الماء بالطب؟ لا صلة.. لكن عندما يقول لك الطبيب أنا طبيب تقول له: ما الدليل على طبك؟ يقول لك: المرض العضال أشفيه، هات ما عندك من مرضى أعجزوا الأطباء فتجئ له بالمرضى الذين حيروا الأطباء فيداويهم ويشفيهم ويردهم معافين سالمين يمشون على الأرض آمنين مطمئنين!!. هذا دليل من جنس الدعوى، هذا دليل من نفس القضية، ولذلك كان القرآن دليلا على صدق صاحبه، دليلا من نفس الدعوى. ما هو الدين؟ أليس إحياء للقلوب، أليس إنارة للفكر؟ أليس هداية للسلوك؟ أليس شفاء من العلل النفسية؟ فقد فعل محمد ذلك كله بكتابه، ولذلك كان هذا الدين دينا باقيا إلى قيام الساعة، لو أن أنسانا آخر بعث من السماء ـ فرضا ـ فإنه لن يقول إلا ما قاله القرآن من أن الله واحد، وأن الطريق إليه هو القلب السليم والعمل الصالح، وأن هداية الناس ما تكون إلا بيقظة ضمائرهم وصلاح عقولهم. ربما تساءل البعض: إن هذا الدين ـ فعلا ـ أدى دورا عظيما في ص _082(5/70)
خدمة الإنسانية وارتقى بها ارتقاء لا يمكن إنكاره، ولكن هل ظل العالم يحتاج إلى الإسلام؟. نقول: ما يزال العالم محتاجا إلى القلم الأحمر الذي أمسك به الاسلام ليشطب هذه الخرافات التى استولت على عقول شتى وليقول: (قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد). ليكن المسلمون في أيام عجاف، ولكن العالم في شرقه وفي غربه لا يزال أفقر ما يكون إلى الإسلام رسالة تصلح له أوضاعه السياسية والاقتصادية وأوضاعه الخلقية والاجتماعية. ص _083(5/71)
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا اله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام النبيين وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسى بتقوى الله، ثم قدروا الدين الذي شرفكم الله به، قدروا النبوة التى حملتم رسالتها وآلت إليكم موازينها. إن المسلمين فقراء في ميادين شتى، لعل أولها ميدان المعرفة، ميدان التطبيق العلمى، ميدان الحضارة الصناعية، أو لعلهم قبل ذلك قد خانوا دينهم في مجالات شتى. أنا لا أستطع لو أن ملكا مصابا بجرب أو مصابا بحمى خبيثة لا أستطيع أن أحمد له ملكه وهو مصاب بالحمى أو مصاب بالجرب.، لابد أن يصح أولا قبل أن أحترم جلده وأعترف له بعافيته. ربما كان ناس كثيرون في هذه الدنيا على درجات ملحوظة من الحضارة أو القدرة العلمية والصناعية، ولكنهم ما داموا يجهلون الله أو يجحدونه فهم كالحيوان أو أضل سبيلا، لكن إذا حقرنا ما وصلوا إليه من مستويات علمية فما أستطع أن أحترم ما وصلنا إليه من منحدرات فكرية وصناعية، لأننا خنا ديننا لأننا لم نحسن العمل به. إن القرن الخامس عشر الهجرى يجيء وبين المسلمين خلافات كثيرة تدل على أن ضمائرهم نائمة وشهواتهم يقظى تدل كل أن الخرافات تغدو ص _084(5/72)
وتروح فى بلادهم وأن الحقائق مستغربة أو مستنكرة فى أوهامهم. ان الأمة الإسلامية فى مجالات سياسية واجتماعية واقتصادية تحترف التسول أو الصعلكة ولا تحسن الأخذ من ينابيعها ولا تحسن إدراك ما لديها من نفاس !!. لذلك يجيء هذا القرن وأنا حذر أشفق على مستقبل أمتنا، لا أزال أهيب بكل ذى ضمير أن يفكر فإن العداوات العالمية والعداوات المحلية فى كثير من الأقطار الإسلامية مخوفة، فإن كنا سنمضى على أحوالنا هذه فإن المصير مخوف والعاقبة قلقة، أما إذا استيقظا وتشبثنا بمواريثنا وعرفنا عظمة الكتاب الذى آل إلينا وشرف النسب للنبى العربى الحمد الذى كرمنا الله به فإننا نبدأ طريقنا صاعدين ونضع أقدامنا على أول السلم لكى نرتفع مرة أ خرى. (اللهم اصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا أخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _085(5/73)
نظرات في سورة " الحج " خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهدأة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فنستعين الله تعالى ونلقي نظرة باحثة متدبرة على سورة الحج. وقبل أن نتحدث عن سورة الحج نذكر أن سورا كثيرة في القرآن الكريم يكون عنوانها مرتبطا بشيء محدود فيها، فمثلا سورة المائدة سورة تستغرق بضع عشرة صفحة من القرآن الكريم، ومع ذلك فإن كلمة ص _086(5/74)
المائدة إنما تشير إلى قضية أخذت بضعة سطور، أما السورة كلها فهي في العقود المبرمة بين العباد وربهم وبين الناس بعضهم والبعض الآخر، وضرورة قيام الناس باحترام هذه العقود والوفاء بحقوقها. وسورة الحج من هذا النحو، جزء منها في الحج لا نشير إليه الآن لأن للحج مناسبة كبيرة يطول الحديث فيها عن هذه الفريضة، أما الآن فنظرتنا إلى المعاني والقضايا والأحكام التي تتضمنها هذه السورة المباركة، بدأت السورة فحدثت الناس عن الحكمة الأولى من وجودهم: إنا نحن البشر خلقتا لنعبد ربنا، خلقتا لنعيش أتقياء بررة لا أشقياء فجرة، ويجب أن يعتبر الناس هذه الحياة مهادا ليوم يجئ بعد ذلك يحاسب الناس فيه على كدحهم الطويل إبان عيشتهم على ظهر الأرض. هذا المعنى ـ معنى التقوى وأن تكون لنا ضمائر ترقب الله وهي تعمل في هذه الحياة ـ هو ما بدأت به سورة الحج: (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) فتقوى الله تعني وجود قلب خاشع بين حنايا الصدر يرقب رب العالمين فيما يفعل، ويترك، فيما يقدم ويؤخر.. والناس أمام هذا المعنى فرق كثيرة: بعضهم آمن بالله وصدق بلقائه، والحديث عن لقاء الله يكدر في القرآن الكريم، والسبب أننا سكرى بخمرة الحياة، نحن نعيش لدنيانا، تغلبنا غرائزنا فما نفكر إلا في يومنا الحاضر، فنحن محتاجون إلى تذكير ملح باللقاء الأخير وباعتبار هذه الدنيا تمهيدا لما بعدها. وقد ساق القرآن الكريم ـ أول ما ساق ـ ما يمنع الريبة: ما الذي يجعلك لا تصدق بلقاء الله؟. ما الذي يجعلك ترتاب في البعث؟. ص _087(5/75)
إن كثيرا من الناس يشكون في أن هناك حياة آخرة!! ما السبب؟ السبب أنهم غافلون، فإن الوعد بالبعث يمكن أن يستبعد من عاجز كما أنك ترفض أن تصدق شخصا مفلسا يقول لك: سأعطيك ألف جنيه!!. من أين له؟ إنه مفلس، فكيف تصدقه؟.. لكن عندما يقول لك من يشتغل كل لحظة بالإيجاد: سوف أوجدك مرة أخرى! فكيف تكذبه؟. نحن الآن ونحن نتكلم تكون أرحام الأمهات قد دفعت بعشرات من الأطفال بنين وبنات في القارات الخمس!!. من الذي أنشأ هذه الأطفال في بطون الأمهات؟!. البشر يأكل لقمة خبز مع قطعة جبن أو مع أي أدم من الادام فمن الذي يحول هذا الطعام إلى حيوانات منوية في الرجل وبويضات في الأنثى؟!. من الذي يجعل هذه الأصول تتمثل فيها خصائص الجنس الأدبية والمادية وتكتسب المورثات العادية وغير العادية في الآباء والأمهات؟!. صانع هذا ـ بداهة ـ واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد!!. فإذا قال لك: سأعيدك مرة أخرى فلم تستغرب؟ إنه من الآن يوجد من عدم، ولذلك يقول للناس: (أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير * قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير). وهذا ما ركزت عليه سورة الحج وهي تبني الأمة المؤمنة : ص _088(5/76)
(يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج). الحقيقة أن هناك دورة في هذه الحياة عندما يتأمل فيها أهل العقل وأولوا الألباب لا بد وأن يحسوا بأن من وراء هذه الدورة حكم الحكيم ولطف اللطيف وخبرة الخبير سبحانه وتعالى لأن الناس تأكل الأطعمة والحبوب واللحوم والموالح والفواكه وشتى الأصناف التي تزحم المعد ثم تلفظ هذا كله على نحو معروف، ثم يتحول هذا كله مرة أخرى إلى فواكه ناضجة وإلى حب الحصيد، وإلى ألوان وطعوم حلوة، وإلى غير ذلك مما يسحر العين ويبهر القلب!! من صنع هذا؟!. يجب على الإنسان إذا قيل له: إن البعث حق أن يقيس الغائب على الحاضر وأن يعرف أن هذا أمر سهل، والأدلة مبعثرة في آفاق السماوات والأرض: (ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور). وسورة الحج ـ بعدما بينت كيف تبنى الأمة الراشدة على هذه القاعدة ـ بينت أن هناك فرقأ أخرى ترفض هذا الكلام وتأباه: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد). ص _089(5/77)
الذين آمنوا: هم المسلمون، والملل الأخرى ملل ضالة بعيدة عن الحق، وقد أعطى هذا الإجمال فكرة عن اليوم الآخر وأن رب العالمين سيفصل بين هؤلاء جميعا، حتى يجيء بعيسى ابن مريم ويقوله له: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) كل إنسان سيحاسب : (ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما). هذا الإجمال هنا فصلته السورة اكثر في أماكن متعددة: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد). (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير * ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق * ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد). ثاني عطفه: أى لاوي عنقه لأن الإنسان عندما يرفض الشيء يلتوي ويتركه استكبارا. قال العلماء: إن أسباب المعرفة في هذه الآية : هناك عقل واضح تنشأ عنه معلومات صحيحة. وهناك وحي صادق ينشأ عنه علم صحيح بتوقيف من السماء. وهناك من يتبع أهل الفكر الناضج، ومن يتبع أهل الوحي الصادق. وهناك من لا يتبع عقلا راشدا ولا وحيا صادقا بل يتبع هواه. ص _090(5/78)
(ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) . هذا النوع من الناس الذي لا يتبع صريح المعقول ولا صحيح المنقول هو أغلب الملحدين !!. إن نصف العلم يقود إلى الكفر، أما العلم كله فيقود إلى الإيمان، هناك أنصاف متعلمين، أو أنصاف قارئين، أو أنصاف مثقفين، هناك شخص قرأ بعض الكتب أو اطلع على بعض الفلسفات ولكن؟ قال الشاعر : فقل لمن يدعى في العلم فلسفة حفظت شيئا وغابت عنك أشياء هناك ناس ـ فعلا ـ رأيتهم يدعون المادية أو يدعون العقلانية أو يدعون الماركسية فإذا حاورتهم ونبشت عقلهم وقدرت مسافة العمق فيه لم أجد إلا غرورا بالجهل وضحالة في البحث وجنونا في استخلاص النتائج!!. هذا نوع آخر تحدثت عنه سورة الحج. هناك نوع آخر تحدثت عنه السورة وهو النوع الذي يعيش لبطنه أو يعيش يربط النتائج بالمكاسب فهو ممكن أن يبقى على الإسلام إذا وجد ربحا عاجلا أو كسبأ سريعا، وكان بعض الأعراب يعتنق الإسلام فإذا خلفت امرأته ذكرا أو أنتجت إبله كثيرا وأخصبت أرضه قال: هذا دين طيب، فإذا وجد أن الأمور تغلبت عليه فخلفت امرأته بنتا أو لم تنتج أرضه خيرا كثيرا قال: هذا دين لا خير فيه !!. ص _091(5/79)
هؤلاء هم الذين تناولتهم الآية الكريمة في سورة الحج (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين). على حرف: أى على طرف، ليمر متمكنا، أو على وجه واحد في الحياة، والحياة حلو ومر ويسر وعسر، والله عز وجل يختبر ـ حتى ـ أحب العباد إليه بالشدائد لا لأنه يكرهه بل لأنه يعزه، أترى سيدنا موسى عليه السلام الذي يقول الله فيه : (وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني) هذا الذي ألقى الله عليه محبة منه يرمى في البحر وهو طفل وتحرم أمه من رؤيته وتكلف بهذا الاختبار المروع لقلب أم!! لكن هكذا الحياة أساسها الاختبار، وهذا معنى قوله تعالى: (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلا بل لا تكرمون اليتيم). كلا: ليس الأمر كذلك، هذا كله خطأ، هذا تفكير حائر بائر لا قيمة له، فلا كثرة المال تدل على التكريم ولا قلة المال تدل على الإهانة، وإنما التكريم والهوان لهما معان أخرى، يكرمك الله عندما يتصدق عليك بذكره، وعندما يمنحك السداد تقوى حبلك به وتحسن علاقتك معه، وأما الهوان ـ نسأل الله العافية ـ فهو أن يصاب الإنسان في دينه، يصاب بقسوة القلب أو جمود العين أو اقتراف الخطأ دون مبالاة، هذا هو الهوان (ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء). هذه نماذج من خلق الله كما رسمتها الصفحتان الأوليان من سورة الحج، لكن نعود إلى تكوين الأمة المؤمنة.. هل ستعيش الأمة المؤمنة في مواجهة الفرق الأخرى في سلام؟. هل سيلقاها الضالون من كل فج بالتحية والابتسام؟. ص _092(5/80)
لا، بل سيكون هناك خصام في فهم الألوهية وفي الطريق الصحيح لنجاة البشرية، وقد أشارت السورة إلى هذا عند قوله جل شأنه: (هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد * كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق * إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير * وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد). نحن نخاصم الآخرين، نخاصمهم في ماذا؟. نقول لهم: إن الله واحد. ويقولون: أكثر من واحد !!. نقول لهم: إن الله (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير * له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم). ويقولون في الله كلاما آخر دون ذلك بكثير، فلا يثبتون له الكمال الواجب ولا ينزهونه عن المحدثات والنقائص!!. لقد خاصمنا الناس في الله وخاصمونا في الله، وهنا نجد القرآن الكريم يقول للمسلمين: ستكونون في رعاية الله وكلاءته يوم تتشبثون بدينه وتحافظون على عقائده وتنفذون شرائعه، ثقوا أن الله سيؤازركم ويدفع عنكم لأنه ظهير للمؤمنين عندما ينطلقون في هذه الدنيا يعملون له ويدعون إليه ويتحملون في سبيله، قال تعالى في هذه السورة: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور). إنه يحب المؤمنين ويدفع عنهم، ويكره خونة النعمة الذين يمرحون في فضل الله ويجحدون أياديه على رءوسهم وأبدانهم وأرواحهم. ثم يقول للمؤمنين: قد تتعبون من أجلي، تحملوا فالكفاح ضريبة على ص _093(5/81)
الأحياء وهو ضريبة أثقل على أهل الإيمان من قديم، فإن حملة صحف الوحي في التاريخ الأول دافعوا عن عقائدهم، والذين يحملون صحف الوحي ليصحبوا بها مسيرة الإنسانية حتى يوم البعث يجب أن يدافعوا عن صحفهم وعن صلواتهم وعباداتهم، وليدركوا أنهم منصورون حتما!!. لكن متى يجيء النصر؟. يوم ينظر الله إليهم فيجد أن إسلامهم ليس أمرا نظريا، وأن إيمانهم ليس خيالا حائرا عابرا، لكن عندما يتحول الإيمان إلى عمل ويتحول اليقين إلى سيرة تفرض نفسها على المجتمع عندئذ ينصر الله من يعملون له، وهذا معنى قوله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور). هؤلاء الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله لا بد أن يستعيدوا الأرض التى فقدوها لأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده !!. لكن متى يستعيدون الأرض التي فقدوها؟. يوم يعلم الله من أحوالهم أنهم إذا ملكوا انتشرت الصلوات، وأديت الزكوات، وعلا صوت المعروف، وخفت أو انمحى صوت المنكر. أما إذا علم الله من أحوالهم أنهم إذا عادوا إلى الأرض أو مكنوا فيها ما أقاموا صلاة ولا آتوا زكاة ولا رجحوا معروفا ولا قبحوا منكرا فإن الله تعالى يكلهم إلى أنفسهم وليس هنالك إلا البوار!! ولذلك لم أستغرب صنيع القدر عندما طرد المسلمون من الأندلس فإن آخر ناس منهم أمضوا صلحا غير شريف. ص _094(5/82)
قلت في نفسى: ليس هؤلاء أولادا شرعيين للفاتح العظيم طارق بن زياد الذي أحرق السفن وقال لطلاب الآخرة: أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر!!. أما الذين عاشوا في الترف فإنهم سلموا لأنهم ما يصلحون للبقاء في الأرض، وعندما أسمع بعض الناس يقولون: نقيم دولة فلسطين علمانية. أشعر بالأذى والنكد وأقول: لن تقوم لفلسطين دولة علمانية أبدأ لأن الله لا ينصر بتة من يقولون: نقيم دولة لا دين لها بل سيهزمهم أمام من يقول: نقيم دولة يهودية لأن هؤلاء لهم دين وإن كان جائرا محرفا مفسدا. قد يطول الصراع بين الحق والباطل، وهنا تقول السورة: (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون * وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير). وكم من قصور خربت، وكم من آبار جفت، وكم من قرى تلاشت، وسنة الله في كونه هكذا هزيمة ونصر، ومد وجزر: (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد * أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور * ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون * وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير). بعد هذا الدرس للأمة الإسلامية جاء درس ثان وهو درس يحتاج إلى تأمل فإن الله سبحانه وتعالى يريد أن يبين في هذا الدرس أن أعداءه على درجه كبيره من الجدل وطول اللسان وكثرة الكلام وسوق الحجج المزيفة (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) ص _095(5/83)
كلام مزخرف، وصحف مليئة، وكتب مطبوعة طبعا جيدا، وأناشيد وأغان وأنغام وألحان وأشياء كثيرة تساند الباطل!! فهل يكون الحق الذي يلقاها حقا غبيا أو قاصرا أو ضعيف الأدوات؟ لا، إن جاعوا بدليل جئهم بالدليل الأقوى، إن جاءوا بحجة جئهم بالحجة الدامغة، وفي هذه السورة نجد أربع آيات متتابعة يقول الله فيها: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم * ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد * وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم * ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم). هناك ثلاثة أقوال في هذه الآيات: القول الأول: أن أهل الباطل لهم لسن وقدرة على الجدل وهم يساندون باطلهم بأنواع من الفلسفات وبرامج من التوجيه تمتلئ بها صحف وإذاعات ـ وهذا ما نسميه إلقاء الشيطان ـ كي تعكر رسالات الأنبياء والمرسلين، ولكن أهل الحق يواجهون هذا الغزو العقلي ولا يزالون به حثي يكشفوا زيفة ويفضحوا سوأته ويردوا الناس عنه وهذا إلى يوم القيامة، وبعض المستغفلين يخدع بالحجج الواهية والبراهين الكذوب فيتبعها، والبعض الآخر يتضح له الحق فيؤمن به !!. القول الثاني: وهو قول رأيته إن كان حقا وخيرا فهو من عند الله، وإن كان ضرا وخطأ فهو من عندى أنا: أن الوحي السماوي يبدأ صافيا نقيأ فإذا شق طريقة في دنيا الناس أخذ يتلوث، والواقع أن نهر الثقافة الإسلامية بدأ مع العصر الأول نقيا قريبا من السماء كماء النيل في مجراه الأعلى قطر صاف ليس فيه إلا ما يروى الظمأ وينبت الزرع ثم يأخذ النهر طريقه فإذا ص _096(5/84)
على مر الأيام يدخل في الماء تراب وجراثيم بل أقذار وجيف للموتى وبلاء كثير، فلو أن الناس تناولت الماء بوضعه عندما يصل إلى القاهرة مثلا لجر عليهم الأمراض والعلل! ما بُدُّ من تنقيته حتى يعود سماويا كما كان. ما بُدُّ من عزل العناصر الغريبة التي علقت به. وهو عندما يُعزل يعود إلى أصله الأول. كذلك الثقافة الإسلامية عرض لها من أهواء الناس ومن جهالة المتحدثين ومن أغلاط المتفقهين ومن شهوات الحاكمين ما أساء إليها، وعمل العلماء والمجددين أن يعيدوا الثقافة الإسلامية نقية، وهنا يتناولها أهل الخير، ويهتدي بها أولو الرشد، وينتفع بها المؤمنون، أما الذين ارتابت قلوبهم فهم يحتجون بما في هذه الثقافة من غريب أو من دخيل كي يبتعدوا عنها ولا حجة لهم في هذا !! القول الثالث: قول محقور لا قيمة له وإن ذكرته بعض كتب التفسير، وكان على ابن كثير غفر الله له ورضي عنه أن يحمل على هذا القول حملة مشددة بدل أن يسوقه بشيء من الحياد أومن الغمز الخفيف : هذا القول هو أن النبي قرأ بمكة سورة النجم فلما بلغ هذا الموضع: (أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى) ألقى الشيطان على لسانه: ( تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتجي) قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم. فسجد ص _097(5/85)
وسجدوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ـ أى قرأ ـ ألقى الشيطان في أمنيته) أي في قراءته !!. هذا شيء عجيب، ومع هذا فإن بعض المشتغلين بالسنن ـ وهم ليسوا آهلا للاشتغال بها ـ روجوا هذا الحديث وهو حديث مكذوب من ألفه إلى يائه ولا أساس له. بعد أن بنيت الأمة الإسلامية على هذه المعانى حددت لها رسالتها ـ في آخر السورة ـ على شكل دوائر، كل دائرة تلحقها دائرة أوسع منها: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا في الله حق جهاده) اركعوا واسجدوا: هذه دائرة الصلاة. واعبدوا ربكم: هذه دائرة العبادة وهي أوسع من دائرة الصلاة. وافعلوا الخير: هذه دائرة الخير وهي أوسع من دائرة العبادة العادية. وجاهدوا في الله: هذه هي دائرة الجهاد وهى الدائرة الأوسع والأوسع. وفي ثنايا السورة ما يلهم الرشد، وما يبني الحق، وما يوجه النظر إلى عظمه الله، وجاء هذا في عدة آيات بدأت باستفهام فيه تعجيب وتفتيق للذهن وتفتيح للعقل الإنساني: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء). (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير * له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد). ص _098(5/86)
(ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم). (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير). هكذا نلقي نظرة عامة على سورة الحج لنرى المحور الذي تدور عليه وهو: كيف يتقي المؤمنون ربهم، وكيف يواجهون الفرق الأخرى التي لا تتقي الله ولا تحسن معرفته، وكيف نكافح مكرها وتبطل كيدها وتعيش إلى آخر الدهر مخلصة لكتاب ربها وسنة نبيها، وكيف تقدم من سلوكها نماذج في دوائر كالموج، تقدم للناس الخير وتوضح مناهجه في كل أفق. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ص _099(5/87)
الخطبة الثانية الحمد لله (... الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام النبيين وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإن ديننا هذا دين واضح، كتابه لا نظير له قي إنصاف الناس من أنفسهم وفي قيادتهم إلى ربهم، وعندما نكون إيجابيين ـ تشغل بالحق؟ عرفه الله لنا ـ لن يبقى في حياتنا مجال للباطل الذي يشغلنا الآخرون به. وقد رأيت أن أعداء الإسلام فيهم الآن استطالة على المسلمين، وفيهم الآن نوع من الرغبة في السخرية منهم أو الضحك عليهم. سئلت في عدة بلاد عن ورقة يجدها الناس عندما يفتحون بيوتهم أو محالهم التجارية فيها عدد من أسماء الله الحسنى يطالبون بكتابتها ثلاثين أو أربعين مرة وإلا خرب البيت وأفلست التجارة !!. وأغلب الذين يكتبون هذه الأوراق ليسوا مسلمين بل من ملل أخرى تريد أن تشغل المسلمين، إن كانوا طلابا تشغلهم عن دروسهم، وان كانوا تجارا تشغلهم عن محالهم. أيها المؤمنون: لا أمر إلا ما أمر الله به ولا نهى إلا ما نهى الله عنه، ما أستطع أن أوجب شيئا لم يوجبه الله وما أستطع أن أحرم شيئا لم يحرمه الله. ص _100(5/88)
الإيجاب العام لله وحده يبلغه نبينا عليه الصلاة والسلام. فإذا جاءتك ورقة من هذا النوع فلا تكترث بها ولا تلتفت إليها، اكترث بالحق الذي كلفك الله به، اشغل نفسك بتعاليم الدين التي وضحها الله لك. " اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _101(5/89)
حاضر العالم الإسلامي خطبة عيد الفطر المبارك سنة 1409 هـ بساحة مسجد مصطفى محمود بالجيزة الحمد لله كما يحب ربنا ويرضى، الحمد لله حمدا دائما طيبا كثيرا مباركا فيه، الحمد لله على نعمه الباطنة والظاهرة، نحمده سبحانه وتعالى كما يليق بآلائه الباهرة، حمدا في السر وفي العلن، وفي الأولى وفي الآخرة، نحمده سبحانه وتعالى على ما أفاء من نعمه ونسأله أن يحشرنا إليه ووجوهنا ناضرة مستبشرة، كما نسأله أن يجعل حسابنا عنده وفق وعده المبين في كتابه الكريم: (ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون). الحمد لله: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا). الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله اكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله اكبر ولله الحمد. الله أكبر ما عنت لوجهه كل ذرة في الأرض وكل مجرة في السماء، رب الأمكنة كلها، ورب الأزمنة كلها مكانا بعد مكان وزمانا بعد زمان (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون * وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم). الحمد لله، والله أكبر، الله أكبر ما سبح بحمده كل شئ، وما عنا لوجهه كل حى، وما تطلع إلى رفده كل كائن: (إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد) ص _102(5/90)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام النبيين وسيد المصلحين، إما الخليقة الذي أسدى للبشرية ما لم يسده أحد، ومع ذلك فإن جزاء النبى الخاتم أمير الأنبياء أن يتواصى حلف الأطلسى بجميع دوله على حماية وغد ولغ في عرضه وأساء إليه وإلى أهل، بيته ونال من المسلمين كلهم، وكأن حرية الرأى هى حرية الشتم والبذاءة والإهانة، ويبقى محمد عليه الصلاة والسلام كما قال فيه مادحه البوصيرى: كيف ترقى رقيك الأنبياء يا أسماء ما طاولتها سماء لم يساووك في علاك وقد حال سنا منك دونهم وسناء إنما مثلوا صفاتك للناس كما مثل النجوم الماء صلوات الله وسلامه على صاحب الرسالة الخاتمة ما قامت بربها الأشياء وما دامت في وجودها الأرض والسماء. أما بعد: أيها المسلمون: نحن في هذه الأيام في حاجة الى وقفة تأمل ننظر فيها إلى حاضر العالم الإسلام كى نبصر ما نحتاج إليه وكى نأخذ العبرة مما يوحي بالعبرة، فقد شعرت بأن القوى المعادية للإسلام تعربد قريبا منا وبعيدا عنا، ونحن يجب أن ندرك ما يراد بنا وما يبيت لنا. إن فلسطين لا يجف فيها دم، وكما يطلع الناس على النشرة الجوية في كل صباح يتسمعون إلى أنباء القتلى في الانتفاضة التى أمدها الله وحده بالقوة إلى يوم الناس هذا !!. ونرى أن القلة المارونية في لبنان ـ بعد أربعة عشر عاما من الدماء المسفوكة والثورات الدائمة ـ تأبى إلا أن تضع يدها على الكثرة المسحوقة ص _103(5/91)
وأن تفرض عليها ما تشاء !!. ونرى العروبة والإسلام فى السودان يحاربان حربا شعواء حتى لكأننا نخشى أن يكون النطق بالإسلام جريمة هناك!!. ان الأمر يحتاج إلى أن نتعرف حاضر العالم الإسلامى الذى ضاق به أحد الشعراء فقال: قد استردَّ السبايا كل منهزم لم تبق فى أسرها إلا سبايانا وما رأيت سياط الظلم دامية إلا رأيت عليها لحم أسرانا ولا نموت على حد الظُّبا آنفا حتى لقد خجلت منا منايانا إننا نواجه آلاما متعبة، ولكن الخبراء بالتاريخ الإسلامي يعرفون أن هذا التاريخ له خط بيانى متعرج بشكل يستدعى الدراسة، فهو يهوى إلى القاع حتى لا يكاد يبين، ثم يصعد إلى الأوج حتى يبلغ عنان السماء !!. وربما كان المسلمون فى أيامنا هذه فى فترة المحاق من تاريخهم، لكن الصفحة الكئيبة التى نراها لحاضر العالم الإسلامى سوف تتبعها بإذن الله صفحة مضيئة مشرقة، ذاك شأن تاريخنا كله، نرى هذا التاريخ يهوى ثم يصعد، نرى أمتنا تمرض ثم تصحو، وتقع ثم تثب، وكما قال ربنا: (وتلك الأيام نداولها بين الناس). شاء ربنا أن يذهب بيت المقدس فى فترة من فترات الجَزْر من تاريخنا، ولكن الجزر لا يبقى بل يعقبه مد، وفى فترة المد ـ بعد قرن من الزمن ـ استنقذنا المسجد الأقصى وأعدنا فلسطين إلى كياننا !! وفى يوم ما سقطت بغداد تحت سنابك التتار ومؤامرات الصليبيين وكانت صفحة سوداء، ولكن التاريخ لم يقف فقد استعدنا بغداد واستطعنا بعد بغداد أن ص _104(5/92)
نستعيد القسطنطينية وأن نجعلها عاصمة للأمة الإسلامية بعد أن كانت عاصمة لدول الرومان!!. إن تاريخنا ينخفض ويرتفع، وقد تكون الأمة الإسلامية الآن فى فترة محزنة كفترة استيلاء الصليبيين على المسجد الأقصى أو كفترة سقوط بغداد فى أيدى التتار، ولكن الهزائم ما بقيت والانتصارات ما تخلفت، وسوف نعود إلى أمجادنا التى فقدناها وسوف نسترد كل شبر ونغسله من أوضار الذين لوثوه بعدوانهم. إن نبينا عليه الصلاة والسلام بشرنا بقوله: " ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر " أى ليمتدن الإسلام مع امتداد الليل والنهار ومع مساقط الظلمة والضوء على أرض الله (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون). لكن الخسائر التى أصابتنا كانت لها أسباب والانتصارات التى أحرزناها كانت لها مقدمات، وعلى المسلمين إذا جد جدهم واصطلحوا مع ربهم أن يتعرفوا ما هى أسباب الانكسارات التى أصابتنا وما هى أسباب الانتصارات التى أدركتنا وأنقذتنا، وعندما نعلم أسباب المد والجزر فى تاريخنا فإننا نعود صعدا من حيث جئنا ولا حرج علينا. أيها الإخوة: لا تظنوا الدهر لونا واحدا، إنما الدهر شئون وفتون، بعد انتصار بدر وقعت هزيمة أحد، ولم تكن هزيمة أحد قاضية علينا، وبعد انتصار الفتح وقعت هزيمة فى حنين ثم أعقبها نصر (وتلك الأيام نداولها بين الناس). ص _105(5/93)
شاء الله أن يكون قدر أمتنا أن تحارب في جبهتين باستمرار، ففي أيام النبى كانت الحرب مع المشركين وكانت مع أهل الكتاب، وفي دولة الخلافة كانت الحرب مع الفرس وكانت مع الرومان، وبعد ذلك كانت مع الصليبيين وكانت مع التتار !!. إن نصرنا مرهون بجبهتنا الداخلية التى إن انتصرنا فيها كانت الخاتمة لنا، هذه الجبهة التى ينبغى أن تنتصر فيها جبهتنا الداخلية، صلتنا بربنا، صلتنا بإخواننا، صلتنا بأنفسنا، صلتنا بالأصدقاء والخصوم على سواء. يجب أن ندرك أن المسلمين لن يكسبوا نصرا إلا بالإسلام، وأنهم بالإسلام وحده تعلو كلمتهم ما بقوا معتصمين بعروته، فإذا خفت قبضتهم عليه وانحلت عراهم معه هبطوا وانكسرت أجنحتهم فلم يستطيعوا التحليق !!. الإسلام هو أبونا وأمنا وهو حياتنا وعزنا، ويجب أن نتشبث به وأن نحيا به وأن نحيا له. أيها الإخوة: الجبهة الإسلامية تحتاج إلى نصح، وقبل أن أسدى النصح لها أتكلم عن واقع مر أحسست بمرارته في فمى!!. إن التقاليد القديمة أن يعفي عن المسجونين أيام العيد، فما الذي قلب الصفحة وجعل هذه الأيام على النقيض؟ يؤخذ أبرياء ويعتقلون ويسجنون في أيام العيد؟! إننى ما أجد إلا أن أفزع إلى الله سبحانه وتعالى وأن أدعو وأن تؤمنوا معى: اللهم أحسن خلاص المسجونين، اللهم أحسن خلاص المسجونين، اللهم فك إسار المعتقلين، اللهم فك إسار المعتقلين وأرجعهم إلى أهاليهم سالمين. أيها الاخوة: لكن المسلمين يحتاجون أمور حتى ندرك ما فاتنا: لعل الأمر الأول: أن تتوحد كلمتنا في جبهة سواء، وبغير شك وحدة الصف تعين على إدراك الغاية وتحقيق الأمل.. فإذا عزت هذه الوحدة لسبب من الأسباب فلتكن هناك وحدة الهدف، ومعنى ذلك أن نتشبث نحن المسلمين بصفوفنا المتراصة وراء غاية واحدة. ص _106(5/94)
يا عباد الله: إن حكماء صهيون يرسمون سياسة اليهود، وان الفاتيكان ومجلس الكنائس العالمى يرسم السياسة الصليبية العالمية!!. أريد من الأمة الإسلامية ـ : في طليعتها الإسلاميون ـ أن تتقارب صفوفهم، وأن تتراص في جبهة واحدة، وأن يواجهوا عدوا قرر أن ينال منهم، إن كارتر جاء من أمريكا ليزور السودان الجنوبي، وإن مندوب فرنسا زار لبنان ليتعهد الموارنة هناك، فهل الإسلاميون سيظلون متفرقين؟!. لماذا إن فاتتهم وحدة الصف ألا يتجمعوا في وحدة هدف حتى ننقذ الإسلام؟. وهناك شئ آخر أريد أن أذكره: إن كلمة الله العليا لا يخدمها أناس أيديهم هى السفلى، إذا كنا متخلفين إداريا وتجاريا وزراعيا وصناعيا فكيف نواجه أعداء الإسلام بهذا الضعف؟ يجب علينا نحن الإسلاميين أن نستميت في رفع الأحوال التى نعيش فيها حتى نستغنى عن غيرنا، فالعربى قديما كان يقول لزميله: لاهِ ابنُ عمك لا أفضلتَ في حسب شيئا ولا أنت ديَّاني فَتَخْزُونى فإذا كنا ـ نحن المسلمين ـ مدينين لأناس لا يريدون بنا خيرا ولا يودون لنا إلا العنت فلم لا نضاعف إنتاجنا ؟. إننى أقول لكم بحسرة إننى قرأت في صحيفة خليجية أن إسرائيل صدرت للشرق الأوسط مواد غذائية بعدة مليارات من الدولارات !!. ما هذا؟ ماذا تصنع شعوبنا؟ ماذا تصنع حكوماتنا؟ ان الإسلام لا ينتصر بنا ما دمنا بهذا الضعف وما دمنا بهذا التبلد، الأمة الإسلامية تحتاج إلى أن تكون أمة مثمرة منتجة، لماذا يكون الأمر عندنا على غير ص _107(5/95)
طبيعته في العالم كله؟ إن العلاقة بين الحكومات العربية وبين الشعوب العربية لا تسر مؤمنا، إنها علاقة بين خصوم وليست علاقة بين أصدقاء، إن الإسلام يريد أن تكون الأمة جسدا حكومتها روحه، وما يكون هذا ـ بتة ـ إلا إذا عدنا إلى ديننا وأحسنا العمل به وأحسنا الانتماء إليه. إننا أيها الإخوة محتاجون إلى أن ندرك ما ينبغى أن ندركه من كتاب ربنا ومن سنة نبينا صلى الله عليه وسلم. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _108
الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: أريد أن أقول لكم أيها الإخوة: أنحن عرب أم نحن مسلمون؟ يبدو أننا لا عرب ولا مسلمون !!. قد أسأل لماذا؟. أقول: كان العربى قديما إذا أصابته هزيمة حرم على نفسه المباهج والأفراح حتى يدرك ثأره، وفى هذا يقول تأبط شرا، وكان قد قتل خاله ولم يستطع أن يدرك ثأره : إن بالشعب الذى دون سلع لقتيلاً دَمُه ما يطلُّ خلف العبء على وولى أنا بالعبء له مستقلُّ ووراء الثار منى ابن أختٍ مَصِعٌ عُقْدَتُه ما تُحلُّ فلما أدرك ثأره قال: ص _109(5/96)
حلت الخمر وكانت حرامًا وبلأىٍ ما ألَّمَتْ تَحِلُّ فاسقنيها يا سواد بن عمروٍ إن جِسمى بعد خالي لخلُّ هذه الطبيعة العربية هى التى جعلت أبا سفيان يقول عند هزيمته فى بدر: لا أغتسل من جنابة حتى أدرك ثأرى من محمد!!. هذه الطبيعة العربية هى التى جعلت هند بنت عتبة تقول: لا يمس جلدى طيب حتى أدرك ثأرى من محمد!! أنا أرى أن المسلمين منهزمون فى السودان وفى لبنان وفى أماكن لا حصر لها وكأن كلمة الإسلام أصبحت سبة وكأن الانتماء إلى الإسلام أصبح تستباح معه الدماء والأموال والأعراض حتى إن وغدا من الهند يجيء ليشتم نبينا ويتضافر الأوربيون والأمريكيون على حمايته، وأقرأ أن حفلا أقيم له فى أكسفورد!!. سبحان الله!! كنا نقول: هذا تصرف الرعاع. فإذا العامة والخاصة والساسة والقادة يتآمرون على ديننا؟! فما الذى يجعل المسلمين فرحين عندما يجيئهم عيد؟ أنا أرى أن العيد إقامة الشعائر الدينية فقط، أما أن يفرح المسلمون وأن يضحكوا وأن يبتهجوا وتلك حالهم العالمية والمحلية فهذا ما لا ينبغى أبدأ إذا كنا عربا، أما إذا كنا مسلمين فإن صلاح الدين الأيوبى رئي وهو متجهم الوجه فقيل له: ما أحزنك؟ قال: وكيف أبتسم والمسجد الأقصى أسير فى أيدى الصليبيين؟! إنه الآن أسير فلم الضحك؟!. إن أمتنا الإسلامية إذا لم تصح على ما بها فإن آلامها ستتضاعف، يجب أن نحاول بشق النفس أن نتخلص من الهوان المادى والأدبى الذى وقعت فيه أمتنا الإسلامية. ص _110(5/97)
إن أمتنا الإسلامية أحوج أمم الأرض إلى الإيمان ليملأ فراغها ويعمر خرابها. اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم). اللهم فرج كرب المعتقلين. اللهم انصر إخواننا فى أفغانستان وفى فلسطين. اللهم اجمع كلمة المسلمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. أيها الإخوة؟ انطلقوا إلى بيوتكم لا يستفزنكم أحد، لا نريد اشتباكا فى شارع ولا فى ميدان، ومن أراد استفزازكم فلا تستجيبوا له. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ص _111(5/98)
نظرات في سوره "الشعراء" خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، ولى الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهدأة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: ففي هذا اليوم نستعرض سورة الشعراء أو ما تيسر منها، نحاول أن نتبين ما أودع الله فيها من خير وحكمة. وسورة الشعراء من القرآن الذي نزل في مكة، والقرآن أول ما خاطب خاطب ناسا لم يقدروا الله حق قدره،. ولم يرجوا له وقارا، ولم يستقبلوا استقبالا حسنا من بعث بهم إلى الناس كى يأخذوا بنواصيهم إلى الحق.. كان في قلوب أولئك العرب الكافرين قدر غير قليل من الكبر والجفوة، لا بأس عليهم أن يقولوا لمن أرسل إليهم: لم أرسلت أنت؟ أو لم لم يكلمنا الله مباشرة؟ أو لم لم يرسل علينا ملائكته لتتحدث معنا؟. (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا). هؤلاء المشركون طلبوا من صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام كى يصدقوه أن يسوق لهم جملة من خوارق العادات التى ربطوا إيمانهم بوقوعها، ولكن الله عز وجل ساق الأمور على ما قضت به الحكمة، وأنزل هذا القرآن على أنه المعجزة الفذة التى تشهد لصاحبها بالصدق. ص _112(5/99)
وسورة الشعراء من هذه السور التى توجد النظر إلى آيات الله والتى تبين أن محمدا عليه الصلاة والسلام نبى بهذه الآيات التى تنزل عليه: (طسم * تلك آيات الكتاب المبين). لكن العرب لا يريدون آيات الكتاب المبين، إنهم يريدون عصا تنقلب إلى ثعبان أو مكفوف البصر يرتد البصر إلى عينيه أو مثل ذلك، وهذا من الخوارق، وينزل القرآن قرآنا فقط يجلو الظلام عن العقول، ويمزق الغشاوات عن الأفئدة، ويلقى أشعة تكشف الطريق وتبين الاستقامة والغاية، وتهدف الناس إلى ربهم عن طريق الفكر فماذا يصنع الرسول بإزاء مقترحات القوم؟. ليس نبى الله واعظا يقول خطبة من الخطب ثم يذهب إلى بيته وقد أدى واجبه واستراح، ليس مدرسا يلقى الدرس فهم الطلاب أم لم يفهموا، يقول: أديت واجبى ويذهب إلى بيته ويهدأ ويطمئن، لا، انه والد، وكما يحزن الوالد إذا رسب ابنه أو ضل الطريق فكذلك يحزن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن الناس لم ينتفعوا بهداه ولم يتأثروا خطاه، حزن حتى نال الحزن من صحته وقال الله له: أتنتحر وراء قوم رفضوا الأيمان بك؟. (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين). نحن قادرون أن ننزل عليهم آية من السماء تقصم ظهورهم أو تحنى رءوسهم. وقد تسأل: وما المانع أن ترسل إليهم خوارق العادات التى طلبوها؟. والجواب أن هناك موانع: أول مانع: أن هؤلاء الناس لو أجيبوا إلى ما سألوا وتنزلت المعجزات التى اقترحوا ما آمنوا بها، قال تعالى: (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون). ص _113(5/100)
فلا معنى إذن لإجاباتهم إلى مقترحات سوف يرفضونها يقينا. المانع الثانى: أن الأمم إذا كذبت بعد أن تجاب إلى مقترحاتها تهلك حتما، تلك سنة الله في الأولين، والله لا يريد أن يهلك هذه الأمة بل يريد أن يستبقيها حتى تعقل، ولذلك عندما قالوا : (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون) كان الجواب : (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون). الشيء الثالث: أن معجزة القرآن علاج للنفس الإنسانية، علاج يستأصل الجرثومة، ويضع الصحة مكان العلة، والشفاء مكان الداء، لأنه يجىء إلى قوم ركبوا رءوسهم وضلوا الطريق فيضع النور في رءوسهم ويأخذهم رويدا رويدا إلى الحق بعد أن يقنعهم به. وهذا سر ختم الرسالات بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن الدواء الذي تضمنته معجزته هو الدواء الحقيقى للبشرية على امتداد الزمان والمكان، وهذا معنى قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ما من الأنبياء من نبى إلا قد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " . هذا القرآن يقول للناس: (تلك آيات الكتاب المبين ) فما هذه الآيات؟. في سورة الشعراء نماذج للآيات التى تساق إلى الناس: (أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم). ص _114(5/101)
أليس آية تدل على الله أن ترى القناطير المقنطرة من الفواكه الحلوة وحبوب الحصيد تخرج من الأتربة الكدرة المغبرة؟!. أليس عجبا للناس يستدعى التساؤل أن ترى الحدائق البهيجة تنبت من الحمأ المسنون؟. أليس شيئا يلفت النظر أن ترى إصباغا لا حصر لها من هذا الطين الأسود تتوزع على الورود والأزهار والأثمار ألوانا مختلفة فيها الحمرة القانية والصفرة الفاقعة والبياض الناصع والسواد الداكن؟ (أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) كلمة (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) تكررت ثمانى مرات فى سورة الشعراء: المرة الأولى : بعد الحديث عن أهل مكة وتساؤلهم عن خوارق العادات ورفضهم لآيات الكتاب المبين. والمرة الثانية : بعد قصة موسى مع فرعون. والمرة الثالثة : بعد قصة إبراهيم مع قومه. والمرة الرابعة : بعد قصة نوح مع قومه. والمرة الخامسة : بعد قصة هود مع قومه. والمرة السادسة : بعد قصة صالح مع قومه. والمرة السابعة : بعد قصة لوط مع قومه. والمرة الثامنة : بعد قصة شعيب وأصحاب الأيكة. فقوله جل شأنه: (تلك آيات الكتاب المبين) جملة شرحت بثمانى آيات منها آية كونية تتصل بتوجيه النظر إلى هذه الأرض المباركة التى نعيش فوقها، ثم آيات تاريخية تتحدث عن الأولين. ص _115(5/102)
ونحن نتتبع بإيجاز حديث القرآن الكريم وهو يقص مواقف الأنبياء من أقوامهم وكيف أن هؤلاء المرسلين عرضوا حقائق الدعوة وبينوا معالم النبوة وهدوا الناس بأساليب تعرض على العرب وتعرض من بعد العرب على الإنسانية كلها ما بقى من الإنسانية يوم واحد لماذا؟ لأن الله تعالى لما لخص أحداث التاريخ ومواقف الأم من الأنبياء كان يعرض ذلك درسا يؤسس اليقين وعبرة تنفع الإيمان. في قصة موسى نلمح أمورا نوجه النظر إليها: لقد جاء قوم فرعون يدعوهم، واستغرب فرعون مجيء موسى إليه وقال له: (قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين). وفعلته التى يشير إليها هى: المصرى الذي قتله في الصراع الذي كان يدور بين المصريين والإسرائيليين يومئذ. رد عليه موسى : (قال فعلتها إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين * وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل). فرعون يدعى أنه الرب، وموسى يقول: (فوهب لي ربي حكما) ولذلك يسأل موسى: (قال فرعون وما رب العالمين) . وجواب موسى: (قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين). استعجب فرعون و (قال لمن حوله ألا تستمعون) ومضى موسى في دعوته: (قال ربكم ورب آبائكم الأولين). ومضى فرعون في كبره وزيغه: (قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون). ص _116(5/103)
فرد موسى : (قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون). لكن فرعون أبى ورفض. ورسالة موسى تقوم على أمرين: الأمر الأول : تعريف فرعون بأن الله رب العالمين. والأمر الثاني: منع الاستعباد الذي تعرض له بنو إسرائيل. كان موسى يعلم أن بقاء بنى إسرائيل مع المصريين شئ مستحيل لما بين الجنسين من جفوة أو من فجوة ولذلك كان طلبه: (أن أرسل معنا بني إسرائيل). لكن فرعون أبى ورفض واستدعى السحرة : (قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم * فجمع السحرة لميقات يوم معلوم * وقيل للناس هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين). يقول العلماء: هذا منطق الرعاع والغوغاء لأنه بعيد عن الإنصاف والعقل، لو كانوا أصحاب إنصاف وعقل لقالوا: لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين أو لعلنا نتبع موسى إن كان هو الغالب، لكن التفكير في اتباع موسى لم يخطر ببالهم، إن القيود التى تشدهم إلى الوثنية شديدة، وإن ما ورثوه في دمائهم وأحوالهم لا يمكن أن ينفكوا عنه، ولذلك كان الحديث الذي يدور بينهم (لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين). هذا حديث الناس، أما حديث السحرة أنفسهم فنوجه النظر إليه لما فيه من دلالة. الحديث في شقه الأول يصف قوما نفعيين طلاب مال وأصحاب جشع ورغبة في المكافآت والجوائز، يتملقون ملكهم ويحلفون بعزته : ص _117(5/104)
(فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين * قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون * فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون). هكذا يعبد الناس الدنيا ويعبدون فيها المال والوجاهة، لكن موقف السحرة تغير في الشق الثانى: (فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون * فألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون). علق فرعون على هذا: (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين). هذا شىء عجيب في الاستبداد السياسى، يفرض الرجل سلطانه على ضمائر الناس وعقولهم، فإيمانهم أو كفرهم رهن بمشيئته، لكنهم لم يبالوا بتهديداته: (قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين). قارن أيها المسلم بين هؤلاء الرجال في موقفهم الأول وبعد أن آمنوا كانوا نفعيين يطلبون الدنيا، فلما شرح الله بالحق صدورهم ولما تلاقت أشعة الإيمان في نواصيهم إذا هم شئ آخر وأفق آخر، وهذا ما يصنعه الايمان بالناس، إن الإيمان لو دخل قلب واحد من أولئك الذين نسميهم " خنافس " لتحول إلى رجل عملاق وتحول إلى كيان صلب وتحول إلى فدائى يضع روحه على كفه ويقاتل من أجل ربه!!. إن الإيمان صانع العجائب، والناس في عصرنا هذا تذهل عن وظيفة الإيمان وأثره وتتعلق بالظواهر الفارغة والقشور الطائرة وهى لا تصنع شيئا. انظروا كيف حول اليقين الراسخ سحرة فرعون من أنانيين لا يفكرون إلا في أنفسهم إلى ربانيين يغضبون الله ويتحملون في ذات الله ص _118(5/105)
التقتيل والصلب وضياع الدنيا وفقدان كل شىء!! ثم نجد وقفة أخرى في قصة موسى مع فرعون، لقد خرج مع قومه ووجدنا أنه يمضى في طريقه فإذا هو ينظر وينظر قومه فيرون فرعون يلاحقهم بجيشه، وهنا تسرى الشكوك في قلوب كثير من الناس وتتزلزل أقدامهم ويظنون أنهم ادركوا وأحيط بهم.. ومعارك الإيمان في الدنيا كثيرة، ويريد الله أن يوجه النظر إلى أن أهل الإيمان لابد أن تمر بهم فترات كالحة تنقطع فيها أسبابهم مع الدنيا وتظلم من حولهم كل أفق. في هذا الوقت الذي تشتد فيه الظلمة ويتضاعف الحرج يختبر الإيمان الاختبار الحقيقى، فمن كان راكنا إلى الله بقى ثابتا، ومن كان متعلقا بغيره اضطربت نفسه وسرت الهواجس إليه تخوفه من اليوم والغد ومن الحاضر والمستقبل، أما المؤمن فيرى أنه مع اشتداد الظلمة سيطلع الفجر ومع تضاعف الحرج سيجىء اليقين.. (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم). يا طلاب الآيات من العرب، يا من يريدون خوارق عادات ليؤمنوا، يا من يريدون أن يروا الله أو تتنزل الملائكة إليهم تدبروا قصص الماضين واعرفوا ما كان بين المصلحين والمجرمين وخذوا من ذلك آية: (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين* وإن ربك لهو العزيز الرحيم). ثم تجئ قصة إبراهيم بعد قصة موسى مباشرة- وليس في الآيات ترتيب تاريخى إنما هو مجرد التجميع والحشد للعبرة والعظة- وقصة إبراهيم تمثل الإيمان عندما يكون فطريا لا فلسفة فيه ولا تعقيد معه، قصة إبراهيم تمثل الإيمان عندما يكون سجية نفس، عندما يكون حركة قلب سليم. الرجل يقول ببساطة: هناك آلهة كثيرة تعبدونها ـ يخاطب أباه ص _1 ص(5/106)
وقومه - لكن هذه الآلهة الكثيرة أنا أخاصمها : (واتل عليهم نبأ إبراهيم * إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون * قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين * الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذي يميتني ثم يحيين * والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين * رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين * واجعل لي لسان صدق في الآخرين * واجعلني من ورثة جنة النعيم). هذا رسول الفطرة - جد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يعرض الإيمان عرضا فطريا، وما يصد عن الإيمان إلا غبى أو مريض القلب والعقل.. فإبراهيم يرسي منطق الفطرة.، ولذلك كان من أدعية النبى - صلى الله عليه وسلم - التى علمها أصحابه: " أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص وسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين". في قصص الأنبياء الذين جاءوا بعد إبراهيم وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب نلمح عدة جمل تتكرر هى هى في مطلع قصة كل نبى مع قومه وهى: (كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين) ما قاله نوح هو هو ما قاله هود لعاد وصالح لثمود ولوط لقرى المؤتفكة وشعيب لأصحاب مدين وأصحاب الأيكة.. وهذا يعطى فكرة بينة أن أنبياء الله يبلغون ويعلمون وينذرون ص _120(5/107)
ويبشرون لا يبتغون من وراء كدحهم للأمم وتعليمهم للناس وهدايتهم للجماهير أجرًا من أحد ولا مكانة عند أحد، إنهم يرجون ما عند الله ويبتغون ما عند الله، ولذلك يعلم النبى الدعاة إلى الله أن تكون نيتهم وجه الله وأن يكون هدفهم ما عنده وحده فيقول: " ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه". يعنى أن كل حريص على المال وعلى الدرجات ما يمكن أن يكون حرصه هذا عنصر سلامة لدينه وإيمانه، بل سيكون هذا الحرص على المال والوجاهة مهلكا لدينه ولإيمانه كما تهلك الذئاب الجائعة قطع غنم أرسلت ولذلك كان على لسان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ باستمرار لقومه: (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد). وبقيت من سورة الشعراء شروح لآيات الله في الأمم السابقة تستصحب مع النذير الخاتم عليه الصلاة والسلام لنا معها موعد. والله ولى التوفيق.. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _121(5/108)
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله خاتم النبيين وإمام المرسلين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فإن علينا معشر الدعاة إلى الله أن ننصف الإسلام وأن نعرض حقيقته وضيئة لامعة لا يعيبها عيب ولا يشينها شئ. الإسلام هو شرعة الله التى توسطت ما يدعو إليه المتطرفون من يمين أو يسار، وكما يخرج اللبن من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين فكذلك شرعة الإسلام ما بين المغالين أقصى اليمين أو المغالين أقصى اليسار إن صح التعبير. فإن الإسلام دين يعرض نفسه وحقائقه وفضائله وخيراته للأمم التى تأخذ به عرضا ينبغى أن يقوم الدعاة إلى الله بتجليته حتى لا يختلط به ادعاء هؤلاء أو ادعاء أولئك. قرأت أن نحو خمسمائة سجين قتلوا في سجون (إيران) في ظل ملك مسلم !!. وقرأت أن هناك إقطاعا طائشا أحمق في (المغرب)!!. وقرأت أيضا: أن الذين يقاومون الملك الجائر هنا والملك الجائر هناك يساريون لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر !!. فقلت في نفسى: كلا الطرفين لا يستحق منى تأييدا ولا تكريما: ص _122(5/109)
الذي يدعى الإيمان وبه يملك السحت وبه يقتل الأحرار وبه يؤخر الشعوب كاذب في دعوى الإيمان، كاذب في نسبته إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ. والذي يعرض الحرية أو ما يسميه بالعدالة الاجتماعية وهو متحلل من قيود الإسلام متجهم لهدايات الوحى ولوصايا الأنبياء ملخصة أدق تلخيص وأجمله في الدرر التى ألقاها علينا صاحب الرسالة العظمى قرآنا كريما وسنة خاتمة الذي يريد عدالة اجتماعية وهو مخاصم للنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورسالته فهو كذاب دجال. كلا الفريقين عدو لى، والذي أعرفه: دين أتى بعبادة الله وحده وبتحرير الناس على سواء، الذي أعرفه: دين يقول حاكمه: (أطيعونى ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم) . ومعنى هذا أن الرباط بين الحاكم والمحكوم من جهة وبين الله جل جلاله من جهة هو الدين، نلتقى عليه حاكما ومحكوما. أما أن يجيئ حاكم ـ باسم الدين ـ ليلتهم الدنيا والآخرة فهو كاذب ولو ادعى أنه ابن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأما أن تجئ شعوب تستمع إلى دعاة حمق يقولون: إن التحرر عن طريق البعد عن الدين فهذا هو الضلال المبين. علينا أن نعرض الإسلام لا كما يفهمه الملوك وأذنابهم وحواشيهم أو حكام الجور ومن يخبط معهم ومن يحطب في حبالهم هؤلاء جميعا ليسوا من الإسلام في شئ، والذين يتصايحون برفع المستوى الاقتصادى وما إلى ذلك هؤلاء وأولئك كذبة. الإسلام خط وسط، جمع في كتابه وسنته بين ما لله من حقوق لا يجوز أن تنسى أبدأ وبين ما شرع الله للكادحين وأصحاب الأموال من حقوق لو عرفوها والتزموها ما كان هنالك تظالم ولا كان هنالك كفران ولا كان هنالك داع إلى الإلحاد يستجلب من شرق أو غرب. ص _123(5/110)
أيها المسلمون: اعرفوا دينكم، وخذوا الحق من مصادره لا من ألسنة الكاذبين المرتزقة ممن يعملون هنا أو هناك للملوك أو لأعداء الملوك من الشيوعيين. الحق مع الإسلام وحده، مع نبيه وصحابته رضى الله عنهم والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. (اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر). (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم( عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _124(5/111)
بناء الأمم خطبة عيد الأضحى المبارك بمسجد السيدة زينب رضى الله عنها بالقاهرة سنة 1406 هـ الحمد لله حمدا مضاعف الشكر والثناء والتمجيد: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا). الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله ا!كبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر ما قامت بربها الأشياء وسبحت بحمده الأرض والسماء. الله أكبر ما بقى العالم أجمع محكوما بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، فما من شئ إلا وهو خالقه، وما من أمر إلا وهو مدبره، ولا من خير إلا وهو سائقه، ولا من فضل إلا وهو رازقه، ولا من نور إلا وهو مشرقه، سبحانك ربنا ولك الحمد كما تحب وترضى. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. سبحانك ربنا أنت التواب سبقت رحمتك غضبك، وأنت الودود لا تكسير خاطرا لامرئ وقف ببابك ولاذ بجنابك، وأنت القدير لا يعجزك شىء في السموات ولا في الأرض، وأنت الغنى لا تنفد خزائنك، وأنت الواسع: الملكوت الرحب جزء من خلقك الفخم الضخم، سبحانك لا نحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. الله أكبر. ما بقيت الأدلة تتجدد على مر الزمن شاهدة بأن القرآن حق وأن محمدا حق وأن الإسلام العظيم حق، لقد قلت وأنت المصدوق الصادق : (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق). وتمر القرون بعد القرون والعصور بعد العصور لتشهد الناس على أنه ليس بعد التوحيد عقيدة، ولا بعد الإسلام شريعة، ولا بعد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ص _125(5/112)
نبوة، ولا بعد هديه هدى، ولا بعد البصائر التى أنارت العالمين شئ يستنير به العالمون. الله أكبر. الله اكبر. الله اكبر. وإن ضاق بالتكبير من ضاق من أهل الإلحاد والظلمة، ولكننا نكبر ربنا ونحمده ولو كره الكافرون، سوف نعبد الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. إن هناك أناسا أحبوا شركهم واستلذوا ضلالهم، وكما قال ربنا: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله). بهذا الحب الأشد سوف يهزم الحق بالباطل، وسوف يمضى على طريقه المستقيم فلا ينتهى له نشاط دون الجنة التى عرضها السموات والأرض. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير. ونشهد أن محمدا رسول الله، خيرته من خلقه، قمة العباد، الإنسان الأول في الوجود شرفا وإقداما وكرما وإعزازاً لأمر ربه وتمسكا به حتى أتاه اليقين، نعم هو الإنسان الأول الذي أجرى الله على لسانه: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين). إنه المسلم الأول الذي تبقى هدايته في أرض الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يزهد فيها إلا هالك، ولا يزيغ عنها إلا زائغ. صلوات الله وسلامه على نبيه المصطفى، ونحن على هذه الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة باقون أبدأ، عليها نحيا، وعليها نموت، وفي سبيلها نجاهد، وعليها نلقى الله: (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون * ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون). ص _126(5/113)
أما بعد: فإن الأعياد في الإسلام ليست أسواق طعام وشراب، وليست ميادين لهو ولعب، إن الأعياد في حضارتنا ارتبطت بذكريات عزيزة وقيم غالية، العيد الأول ارتبط بالشهر الذي يصوم الناس فيه ونزل القرآن الكريم فيه، والعيد الكبير ارتبط باكتمال الوحى في الأعم الأغلب، ارتبط باكتمال الدين (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) ربما يكون اكتمال الدين ـ على ظاهره ـ تمام القرآن الكريم، وهذا صحيح، فإن القرآن الكريم ظل ينزل به الوحى المبارك نحو ربع قرن، وانتهى مع (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) وإن كان أهل الحديث يرون أن سورة النصر نزلت بعد ذلك تنعى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجله، وأن آخر آية نزلت (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون). ليكن، فاكتمال الدين تم مع هذا العيد الكبير، لكن الأمر الذي ينبغى أن يعرفه المسلمون أن اكتمال الدين نظريا صحبه اكتمال البيئة التى تصدره لأرجاء العالم، فالنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما ترك جزيرة العرب إلا بعد أن ربي جيلا من الخلق هو أزكى ما عرفت أقطار الشرق والغرب، وأنقى الناس ضمائر، وأصحهم عقولا، هذا النبى الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربى الجيل الذي حمل الرسالة بعده للعالمبن، وكان بتضحيته وأخلاقه ونشاطه وشجاعته هو الذي نقل الإسلام من جزيرة العرب لكى يستقر في القارات الخمس، ولا يزال الإسلام ينطلق مادة وعددا إلى الآن، ومع المحاولات الرهيبة لوقف المد الاسلامى، فإن الإحصاءات الصحيحة التى نذكرها مراغمين بها مزورى الإحصاءات أن عدد المسلمين الآن ربع سكان الكرة الأرضية، ففي كل أربعة أشخاص يسكنون هذه الأرض رجل ينتمى إلى الإسلام، لكن هذا الانتماء يحتاج إلى شئ من المراجعة والتصحيح، وهذا عملنا الذي نحب أن نتعارف عليه وأن نتعاون فيه وأن نتجمع لنبلغ أهدافه ونصل إلى نهاياته. ص _127(5/114)
ايها الإخوة: يشير العيد الذي نحتفل به الآن إلى خلق كونه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأمة، وهو خلق لابد منه لتكوين كل جماعة وتصحيح كل نهضة وإنجاح كل حركة، وهو خلق الصبر. إن طبيعة الحياة التى نحياها أنها اختبار مزعج موجع، قد يكون اختبارا بالبأساء ـ الأزمات الاقتصادية ـ وقد يكون اختبارا بالضراء، وقد يكون اختبارا بالناس، يُختبر الإنسان بأخيه الإنسان، يُختبر الحاكم بالشعب، والشعب بالحاكم (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا). إن هذا الاختبار لابد منه لدعم الرجولات وإنشاء البطولات، فإن مواطن الراحة لا تصنع رجولة، والرخاء الموصول لا يكون معدنا صلبا، يقول أحد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية: لا تسأل الله أن يخفف حملك ولكن اسأل الله أن يقوى ظهرك. إن خفة الحمل شأن الأطفال، أما الذي ينهض بالأحمال الثقال ويتحمل الأعباء الشداد فهم الرجال، وعندما تغلب طبائع الناس في حب الراحة والاستجمام يجئ الوحى الأعلى لينبههم إلى الحقيقة التى يريدون تجاوزها والبعد عنها فيقول الله تعالى للمسلمين: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب). وهذا الاختبار ليس اختبارا سهلا، إنه يظل مراحل من الزمان والمكان حتى تكاد الأرواح تزهق، يضرب القرآن الكريم المثل لذلك في أماكن كثيرة. في قصة إبراهيم مع ابنه إسماعيل، ولا نعرج عليها لأنكم تحفظونها. وفي قصة بنى إسرائيل عندما طاردهم فرعون وخرج بقومه وراءهم وهم هاربون من ظلمه، كان بنو إسرائيل يشعرون أنه إذا أدركهم فرعون هلكوا ص _128(5/115)
وكان بطشه بهم شديدًا ونكاله لعينًا ,ولكن فرعون بجيشه ظل يتعقب بنى إسرائيل الهاربين حتى كاد يلحق بهم، وشعر بنو إسرائيل بهذا (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الآخرين). وانتهت قصة البطش وأسطورة الألوهية الكاذبة، وكم حكت الأرض من مصارع للظلمة، وكم سجل التاريخ من مآس لمن غالبوا الله فغلبهم وقاوموه فهزمهم، وانتهى الأمر إلى من قال عن نفسه: (ألا إلى الله تصير الأمور). لقد كون النبى جيشا من المسلمين الأولين كانوا رجالا، ونساء بنين وبنات مؤمنين بربهم أيمانا حسنا واثقين منه ثقة بالغة، ولذلك انتصروا وفرضوا أنفسهم على العالمين، كانوا قبل الإسلام العالم الثالث ـ بتعبير عصرنا ـ وبعد الإسلام أصبحت الأمة الإسلامية هى العالم الأول : (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها). هنا نتساءل: كم من الزمن يحتاج إليه هذا التغير أو هذا التحول؟ يجب أن نعلم أن الزمن جزء من العلاج، وأن من المستحيل أن تبلغ مناك بين عشية وضحاها إذا كان قدر الله أن هذه الأمانى لا تتحقق إلا خلال السنين الطوال، وقد اختلف علماء الاجتماع فقال بعضهم: يمكن أن تتكون أمة خلال أربعين سنة، ولعلهم نظروا في هذا إلى ما حكاه القرآن الكريم عن بنى إسرائيل عندما رفضوا أن يدخلوا الأرض المقدسة : (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين). ص _129(5/116)
قال العلماء: خلال أربعين سنة هلكت الأجيال الجبانة وذهب الخانعون الذين يستحبون الذل ويرتضون الدنية، ذهب هؤلاء ونشطت أجيال أخرى قادها يوشع لكى تدخل الأرض المقدسة. قال العلماء: أربعون سنة يمكن أن تكون فترة تغيير لتحول المجتمع من الفوضى إلى النظام، ومن الفرقة إلى الوحدة إلى غير ذلك. لكن المعروف أن نبينا عليه الصلاة والسلام كون الأمة ـ التى هى خير أمة خرجت للناس خلال ثلاث وعشرين سنة !!. قالوا: لكن هذه إمكانات محمد الرجل الذي أوتى من طيبة النفس ونقاء القلب وذكاء العقل ونور البصيرة ما سكبه في نفوس من حوله من أصحابه فإذا هم يتحولون إلى فرسان بالنهار ورهبان بالليل وإذا هم يتحولون إلى خلق آخر. والحقيقة أن الزمن الذي تتكون فيه أمة إنما يرجع طولا وقصرا إلى مقدار الجهد الذي تبذله هذه الأمة شعبا وحكومة كى تنتقل من الظلمات إلى النور. إن الشعب هو الحكومة والحكومة هى الشعب، إننا لا نريد أن نفرق بين الجسم والروح، إننا نريد أن نقول للناس: يوم يعرف كل امرئ ما عليه بأمانة ويؤديه بثقة وقدرة فإنه يصل إلى غايته، وهو الذي يحدد الوقت بنشاطه أو تكاسله. إن الأمم لا تخلق بالأوهام، إن الأمم لا تخلق بالخيال، إن الأمم لا تخلق بالأكاذيب، إذا أردت أن تبنى قمرا مشيدا شاهقا فإنك تأتى بأقوى مما في الأرض من مواد حتى تبنيه، كذلك الأمم، إنما تبنى بالأخلاق، وفي بيئتنا لا أخلاق دون عقيدة، فيوم يتوافق الشعب والحكومة معا علي أن العقيدة والأخلاق والقيم الرفيعة والتقاليد الراشدة هى شرايين الحياة في كيان جسم يريد أن ينطلق فإننا واصلون إلى غاية في أقرب وقت. ص _130(5/117)
لكن الإيمان ـ فيما أرى ـ تحول إلى كلام، الإيمان أخلاق أساسها بالنسبة إلى الله: الصبر والشكر والتوكل والحب والخوف والرجاء والورع والتوبة، هذه مراحل تجعل صلات الناس بربهم نابضة بالقوة وليست حركة شبح عديم الحياة، هذه أخلاق المؤمنين مع الله فهم قانتون مخبتون خاشعون، هكذا كان سلفنا ـ حكومة وشعبا ـ موصولا بالله. يقول علماء الحديث: (كان عمر رضى الله عنه يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيرا) فإذا أنت أمام دولة وأمة تتعاون كلها على أن الكبرياء لله، والعظمة لله، والركوع والسجود لله، والإخبات والتوكل على الله، والاستمداد والاستلهام من الله!!. إن أمتنا أمة التوحيد، وهذا التوحيد يجعلها تحسن العبادة، وترفض أن يكون في الأرض جبروت أو ملكوت لغير الواحد القهار: (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا). ضم هناك بعد ذلك الأخلاق بين الناس بعضهم والبعض الآخر، هذه الأخلاق التى عدها صاحب السنة المشرفة أركان الإيمان، وعد انعدامها أركان النفاق: " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر " . بهذه العقائد والأخلاق، ثم بالأمانة في كل منصب يتولاه الإنسان تبنى الأم، ولنتدبر قول نبينا عليه الصلاة والسلام : ص _131
" ما من أمير عشرة إلا يؤتى به مغلولا يوم القيامة حتى يفكه العدل أو يوبقه الجور " . وجاء في الحديث أيضا: " إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع " . أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _132(5/118)
الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإن ديننا واضح، أساسه كتاب كريم وسنة مطهرة، والحقيقة أنى رأيت أمتنا ـ وأنا أطوف في العالم قريبه وبعيده ـ محبة لدينها حريصة عليه، واستيقنت من أن الصحوة الإسلامية حق، أحسست بذلك وأنا على شواطئ الأطلسى، وأنا عند شواطئ الهندى في باكستان وسريلانكا، وكنت أحس هذا المعنى وأنا أعانق قائد جيش المسلمين في مورو في الفلبين الذين يستميتون لعمل دولة إسلامية تحمى بيضتهم وتصون حقوقهم وتمنع طغيان الطاغين الذي نال كثيرا منهم. أيها الاخوة: أخوة الإسلام رحبة لا تعرف قطرا ولا حدا، كان للسيد محمد رشيد رضا رحمه الله أم ـ لعلها تشبه المصريين في تلمسهم للنكتة ـ عندما ترى ابنها يستيقظ في الصباح وهو منقبض أو مكتئب تقول له: مالك حزينا أمات مسلم في الصين فأنت حزين من أجل ذلك؟!. إن الرجل كان يحمل آلام المسلمين حيث كانوا، وتلك طبيعة الإسلام، لكنى وجدت هذه النهضة أو هذه الصحوة تمضى في طريقها ببطء شديد، إنها موجودة ولن تختفي أبدأ لأن الذي قال: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) لا يحفظ الذكر حبرا على ورق، لا يحفظ الذكر أصواتا مسجلة، وإنما يحفظ الذكر بأمم تعمل له وتعمل به وتجاهد في سبيله، فأنا أعلم أن الأمة الإسلامية قد تعتل ولكن ص _133(5/119)
مهما برحت بها العلة فلن تموت وسترزق الأساة والدعاة والهداة الذين يمهدون لها الطريق ويصلون بها إلى الغاية إن شاء الله. من أسباب بطء الحركة الإسلامية أو الصحوة الإسلامية في أيامنا الأخيرة أن عددا كبيرا من المنتمين إليها كانت لهم أصوات أكثر من اللازم، كان لهم صياح لا يؤيده العقل، فما الذي حدث؟ شعر بهم خصومهم فضاعفوا الاستعداد لكبحهم وأعدوا قوي كثيرة للنيل منهم، ماذا عليكم يأ أصحاب الصحوة الإسلامية لو لذتم بالصمت، صابروا الأيام، كافحوا الرغبة في الكلام. أنا جئت من الجزائر، وكان هناك شباب يدخل في الدعوة في الصباح وبعد يوم أو يومين يجيئنى وقد وضع خطة لإعلان الحرب على الاتحاد السوفيتى !! أقول له: ويحك، اجعل الإسلام في بيتك أولا، ثم في حارتك، ثم في الشارع، ثم في البلد، ثم في الدولة، ثم فكر في أن تدعو الناس ودليلك على صدقك حالتك الحسنة وإنتاجك الجيد، أراد أن يكابرنى ـ قلت له: ويحك، إنه لما كان المستعمرون هنا كان الهكتار من الأرض ـ يشبه فدانين ـ ينتج خمسة وثلاثين قنطارا، وهو الآن ينتج سبعة قناطير !!. إن وجهى يسود عندما أرى العمل يخرج من بين أصابع الكافر كاملا مجودا وجيها، فإذا خرج من بين أيديكم خرج ناقصا أو مشوها أو سيئ العرض!!. علام تستعجل؟ ابن نفسك بالإيمان والأخلاق؟ اجعل الشارع مسلما، اجعل البيت مسلما، انصح الحاكم، إنك مكلف من ربك وأن تحسن الكلام حتى مع أدعياء الألوهية لكى لا يكون لهم عند الله عذر. أيها الإخوة: إن هناك أقدارا مرسومة تسير بها الأمم والشعوب، هناك قوانين إلهية لا تتخلف لقوله تعالى : ص _134(5/120)
(إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده) وقوله تعالى: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون) وقوله تعالى: (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد). إن أمتنا بحاجة وهى تمد يدها إلى ربها لينصرها أن تقيم أحكامه في البيت وفي الشارع وفي الدولة وفي الديوان وفي كل مكان، إننا مكلفون أن ننفذ أحكام الله في بيوتنا، الحكم بما أنزل الله مطلوب من الشعب ومن الدولة، مطلوب من التاجر ألا يغش، ومطلوب من الدولة ألا تفضل حكما استعماريا مجلوبا مع الاستعمار على حكم نزل به كتاب الله وجاءت به سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والحكومة والشعب يتعاونان معا على أداء حق الله وعلى بلوغ الأمل الذي نصح به من علة ونكثر به من قلة ونعتز به من ذلة. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) ص _135(5/121)
نظرات في سورة "الروم" خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الزحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فخطبتنا اليوم حول سورة الروم، نلقى نظره عامة عليها داعين الله سبحانه وتعالى أن نستفيد مما أودع فيها من هدايات وما بث فيها من عبر. سبق أن قلنا: إن هذه السورة نزلت في مكة المكرمة قبل الهجرة النبوية ببضع سنين وأن صدر السورة تحدث عن الهزيمة التى سحقت الروم أمام الفرس ثم تنبأ أن أولئك الأروام بعد هزيمتهم سوف ينتصرون. وكان جديرا بالتاريخ الصليبى أن يحتفي بهذه النبوءة، وأن يتحدث عنها، ولكنه حاول تحريف الكلم عن مواضعه، وأن يغض من شأن النبوءة التى صدقتها الأيام وكشفت أن صاحبها ما تحدث بها إلا ملهما من رب العالمين عن طريق الروح الأمين. نتجاوز هذه النبوءة لنتحدث عن السورة نفسها، وأول السورة أشار ص _136(5/122)
إلى أمر يعنينا نحن الآن، فإن العرب كانوا أمة ضعيفة يوم كان الروم والفرس يملكون أزمة الدنيا، والضعيف أحيانا يلتمس لنفسه وجاهة عندما يتعلق بجبهة أو بأخرى، ويظن أن تبعيته لأحد الأقوياء تعطه فضلا من مكانة، وهذا جهل كبير، لنفرض أن المجوسية انتصرت في فارس فهل انتصار المجوسية في فارس يعطى الوثنية العربية قوة أو يرد باطلها حقا؟ كلا ما قيمة هذا الانتصار؟ لا قيمة له. ولنفرض أن النصرانية انهزمت في بلاد الروم ـ وعلى يد أتباعها ـ فهل يضير ذلك المسلمين أو يرد حقهم باطل؟ كلا. لا يضير ذلك دعاة التوحيد ولا ينال من حماسهم لدينهم وإخلاصهم لربهم. لكن بعض الضعاف له مع. الأقوياء المنتصرين في العالم تصرفات وتعلقات وتعليقات يجب أن نلقى عليها ضوءا، يجب أن يعلم الضعاف أنهم إن أرادوا لأنفسهم مكانة فذلك عن طريق خصائصهم وتنميتها، وعن طريق رسالتهم والوفاء لها، أما أن تكون الأم الضعيفة ذنبا لإحدى الجبهتين فذلك لا يعطيها مكانة أبدا. عندما تقدم الألمان ناحية للإسكندرية في الحرب العالمية الثانية استمعنا إلى بعض الأصوات الطائشة تقول: تقدم يا روميل!! فلنفرض أنه تقدم فماذا سيصنع إلا أنه سيحرق الحرث والنسل؟ والذين كانوا يكرهون الاستعمار البريطانى ويميلون إلى مهادنة زبانيته أكان هذا الميل يشرف أمتهم أو يعطيهم شيئا من القدرة على المستقبل؟ كلا. من أخطاء الضعاف هذا التعلق الغريب بالقوة المتصارعة في العالم، ولعل بعضهم يحسب أن صراع الأقوياء ينفع الضعاف، إن صراع الأقوياء قد يكون عاملا ثانويا في انتفاع الضعاف بما قد يقع، لكن الحقيقة الأصيلة في القضية كلها أن صراع الأقوياء لا يهب الضعاف قوة وأن العرب أو ص _137(5/123)
المسلمين عموما ما ينفعهم أن تتقاتل الجبهتان فى العالم إذا بقوا هم خونة لرسالتهم أو ضعاف التعلق بها أو قليلي الاستفادة منها، فلو فنيت القوتان المتنازعتان على امتلاك الأرض وبقى المسلمون لا يفهمون من دينهم إلا صورا لا حقيقة لها فإن صراع الأقوياء لا يشرف الضعاف ولا يقدمهم خطوة إلى الأمام، إنك وحدك ـ أيها الضعيف ـ الذى تملك أن تقوى يوم تحسن العمل ويوم تخطو إلى الأمام بقوتك الخاصة، ولعل ذلك ما أشارت إليه الآية الكريمة وهى تعلق على ما كان بين الروم والفرس: (الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون * أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون * أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون * ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون). إن حضارات كثيرة حكمت العالم ومدنيات شتى تقلبت على هذه الدنيا، ولكن تاريخ الحضارات المنقرضة أو المزدهرة وهذه الدنيا التى نعيش فى ظلها، كل هذا ينطق بأن ما عدا الله باطل وأن ما عدا الحق سخف (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون). ولذلك جاءت سورة الروم بعد أن حقرت علم الأقوياء بهذه الدنيا تنبه إلى أن هؤلاء الضعاف فى جزيرة العرب يستطيعون أن يقودوا حضارة جديدة أساسها أن تعرف ربك وَرِفْدَهُ و مجده ثم تكون هذه المعرفة سببا فى أن تسبح بحمده وأن تنوه بمجده. ص _138(5/124)
ولذلك تحدثت سورة الروم عن الله جل جلاله الحديث السهل الذي لا يعرف تعقيدات الفلاسفة ولا غموض المتكلمين: (الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون) (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون). (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله). (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير) وذكرت السورة ست آيات متعاقبة تبدأ كل آية بتوجيه النظر الى بعض آيات الله: أول هذه الآيات: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون). كوم من التراب الهامد الجامد تلمسه أصابع القدرة جاء يتحول إلى فواكه والى حبوب تلمسها أصابع القدرة فإذا ما يتحولان في جسد الإنسان إلى خلايا حية تبنى اللحم والعظم وتشد الأعصاب وتنشئ الأعاجيب في هذا الكيان، ثم يتحول الإنسان بالقدرة العليا إلى كائن بحرى في القارات الخمس ثم تبلغ به القدرة إلى أن يحاول الوصول إلى الكواكب الأخرى!!. من الذي جعل حفنة من التراب ـ تلوث راحة اليد ـ تتحول إلى إنسان ذكى قوى عبقرى مكلف يختار لنفسه ويتجبر أحيانا فيكون فرعون ص _139(5/125)
ويتواضع أحيانا فيكون آنسانا كريما؟. إنه الله : (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون). آخر هذه الآيات الست: (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون) هذه الآية تعطى معنى لابد من شرحه: إن السيارة تشحن " بالبنزين " وتظل تدور آلاتها وتنطلق عجلاتها إلى أن ينفد الوقود فتتوقف. إن المنبه تملؤه ثم في الوقت المعين يبدأ جرسه يدق ثم ينتهى الدق مع انتهاء الشحنة التى كانت فيه. لكن هناك أنسانا يدور قلبه باستمرار، تتحرك الرئتان باستمرار، ينطلق هذا الإنسان عشرات السنين دون أن توجد أشياء ـ نلمسها ـ تمده ببقاء الروح في الجسد!!. ما الروح؟ ما علاقتها بهذه الأعضاء؟ كيف تجعل القلب يدق؟ كيف تجل الصدر يمتلئ بالشهيق والزفير؟ كيف تجرى الدم في العروق بسرعة كذا ميل في الساعة؟. من يصنع هذا؟ الله! هو الخالق الآمر: (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين). وهنا في سورة الروم يقول: (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون). وبين الآيتين حديث عن المجتمع الصغير وهو الأسرة : (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) ص _140(5/126)
ثم حديث عن العالم الكبير: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين). (ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون. (ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون). ثم جاءت آية أخرى منفردة وهى: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) هل تحدث كتاب في الدنيا عن الله بمثل هذا الإشراق؟. هل تحدث كتاب في الدنيا عن الله بمثل هذا التمجيد؟. هل تحدث كتاب في الدنيا عن الله بمثل هذا الوضوح ؟. الجواب: لا.. فكيف يتهم الإسلام بأنه كيت وكيت؟. ما يوجد الآن في القارات كلها كتاب تحمس للوحدانية وأحصى آيات الكمال والجمال وشرح ما ينبغى لله من ثناء وما يجيء منه من عطاء كهذا القرآن!!. هذا الدين هو دين الفطرة، ولذلك جاء في هذه السورة: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون). ونبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو نبى الفطرة، ولذلك كانت الفطرة السليمة هى ص _141(5/127)
ما يدعو إليه، وقد ضرب المثل لذلك منتزعا من طبيعة البيئة التى يعيش العرب فيها. " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فها جدعاء " . هناك تغييرات تقع للفطرة بعد الولادة، يجيء البدوى في الصحراء فيقطع أذن البهيمة أو يرسم علامة معينة على جسمها، وقد تكون هناك تغييرات للفطرة أساسها فساد الأبوين، فالمفروض أن الولد يولد سليم العين والأذن ولكن إذا فسد الأب ومرض "بالزهرى" ـ لأنه استمرأ الزنا ـ فإن مرضه هذا لعنة تمتد منه إلى الجنين في بطن الأم، فقد يولد أعمى ضائع البصر لأن الفطرة عدا عليها أب حقير مصاب بالزهرى!!. ديننا يعود بالبشر إلى فطرتهم، ولو أن أنسانا ولد في جزيرة ليس فيها أحد ولم يتعلم من أحد شيئا ما فكر أبدًا إلا في أن للكون ربًّا واحدا لا ثان ولا ثالث ولا أكثر ولا أقل !!. وقد نبه القرآن إلى هذه الفطرة في آية أخرى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون * وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون).. للعلماء في شرح هذه الآية طريقان : ص _142(5/128)
الأول يقول: إن الله ـ في عالم الذر ـ أخذ النفوس كلها وبسط عليها من أشعة جلاله وأخذ الميثاق أن تبقى موحدة له. الثانى يقول: إن الآية تمثيل للطبيعة التى خلق الناس بها ونشئوا في أرحامهم أمهاتهم عليها بل نشئوا في أدوار تفكيرهم من الطفولة إلى اليفاعة عليها. لولا ما يجيىء من عوج البيئات الفاسدة، ويقول هؤلاء: إن السؤال والجواب مثل قول العرب: قال الجدار للوتد لم تشقنى؟ قال: سل من يدقنى!!. ما قال الجدار شيئا للوتد وما أجاب الوتد الجدار بشيء، ولكن هذا مجرد تمثيل. وأيا ما كان الأمر فنحن على ثقة من أن ديننا دين الفطرة، وتطلع الإسلام إلى أن يستولى على الحياة العامة سببه أن أثر الحياة العامة في اعتدال الفطرة أو تشويهها خطير، فإن العالم في أدواره الأولى كان يمكن أن يعيش عدد كبير منه بعيدا عن المجتمعات، لكن الآن أصبحت للدول ضغوط هائلة على الأفراد، ففي العالم الشيوعى حيث يقع نحو ألف وأربعمائة مليون من الخلق في ظل نظام !ول: " لا إله والحياة مادة ".. تتحرك جميع الإذاعات ووسائل الإعلام وتدخل مع الصورة في التليفزيون ومع الخبر في الراديو ومع القراءات والدوريات اليومية والأسبوعية والشهرية ومع الدراسات في الفصول والمدرجات، مع هذا كله كدرس الإلحاد. فكون الإسلام عبادات ومعاملات أو عقيدة وشريعة سببه أن ترك الحياة العامة للفوضوية في والجاهلية والنظم المنحلة يُعتبر عدوانا على الفطرة. فتطلع الإسلام إلى امتلاك الحياة العامة والى أن تكون الدولة لله هذا أمر لابد منه، ما بد من أن تكون الدولة لله وأن يكون توجهها لله، وأن تكون صدى لفطرة الإنسان لا حربا علي هذه الفطرة وانحرافا بمقادها الى مزالق الشيطان وأهواء الأبالسة. وقد جاء حديث ـ بعضه قدسى وبعضه نبوى ـ يشرح هذه الفطرة شرحا ما بُدُّ من أن نقف عنده قليلا أو كثيرا لأن بعض المتدنين يظن أن ص _143(5/129)
التدين افتعال أو تكلف أو تزويق للظاهر، والحديث هو: " ألا إن ربى أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمنى يومى هذا، كل مال نحلته عبدا حلال، وإنى خلقت عبادى حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان وإن الله أمرنى أن أحرق قريشا، فقلت: رب إذن يثلغوا رأسى فيدعوه خبزة قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نُغزِك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشا نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، قال: وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذى قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال، قال وأهل النار خمسة: الضعيف الذى لا زَبرَ له الذين هم فيكم تبعا لا يبتغون أهلاً ولا مالاً، والخائن الذى لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسى إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخل أو الكذب، والشِّنْظير الفحَّاش ". ص _144(5/130)
معنى قوله : " كل مال نحلته عبدا حلال " هو معنى قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)، وهو أيضا معنى قوله تعالى : (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا). من فساد الفطرة أن يلجأ بعض الناس إلى التحريم دون دليل. طبيعة التدين الفاسد السرعة إلى التحريم دون دليل. ومعنى قوله: " إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك " أى لأمتحنك، وقد امتحن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان بلاؤه مضاعفا، والعصمة ـ كما قال العلماء ـ لا تمنع المحنة. ومعنى قوله: " وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان " أن القرآن وحده تميز بالخلود، الكتب السابقة كتبت في ألواح، ممكن أن يغسل الحبر ويبقى اللوح لا قيمة له، لكن في القرآن الكريم ـ وحده ـ اعتبر الحرف مقدسا، اعتبر الشكل جزءا من الموضوع، واعتبرت الصياغة بعض الاستدلال الفقهى على الحكم المقصود. ومعنى قوله: " وإن الله أمرنى أن أحرق قريش " أى أن أبلغهم الدعوة التى يكرهونها، كانوا يكرهون التوحيد كراهية شديدة ويضيقون بصاحبه أشد الضيق قال تعالى : (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون)، وقال تعالى : (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون) وقال تعالى : (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا). واستجاب النبى لأمر الله وأخذ يحدث قريشا بما تكره، فكان ناس كثيرون يرونه من بعيد فيقولون: سيحدثنا في الإسلام تعالوا نختفي من ص _145(5/131)
وجهه (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور). هذا الحديث شرح الفطرة شرحًا حسنًا، والفطرة السليمة هى العاصم وحده، ولذلك تحدثت سورة الروم، عن حال من يكون على الفطرة فقالت: (منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون). إن الناس إذا لم يجمعهم الحق فرقهم الباطل، إن الناس إذا لم تجمعهم العفة فرقتهم الشهوات. إن الناس إذا لم تجمعهم الدار الآخرة هلكوا في أودية الدنيا لكثرة متاهاتها، والفطرة السليمة هى العاصم وحده. بعد ذلك تحدثت سورة الروم عن أن الناس ـ بطبيعتهم ـ يعودون إلى الفطرة وتطيب قلوبهم وترق سرائرهم ويعتدل مزاجهم، ويستقيم سلوكهم عندما يضعفون بالمرض أو بالفقر أو بضياع السلطة أو بذهاب القوة: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون * ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون * أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون * وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون). هؤلاء جميعا يظنون أن الغنى تدليل من الخالق لبعض الخلق وأن الفقر إذلال من الخالق لبعض الخلق، وهذا غلط: (أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون). بسط الرزق وقبضه اختبار إلهى محض، ولذلك قال لمن عنده المال انجح في الاختبار بأن تؤدى حق الله وحده: (فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون). ص _146(5/132)
افعل هذا لله لا لنفع عاجل : (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون). ثم بين أن الناس تحل بهم الكوارث وتذهب عنهم القوة وتشيع بينهم الفوضى والاضطرابات بسبب أنهم لم يقوموا بأمر الله : (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون). وبينت السورة على عجل أن الصراع بين حزب الحق وحزب الباطل قديم وباق إلى قيام الساعة. (ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين) لكن متى ينتصر المؤمنون؟. يوم تنضج الفطرة ويستقيم العقل ويسلم القلب من الغش والأحقاد، يوم يكون المؤمنون حقا على مستوى الكلمة فإن المشكلة الكبرى التى يواجهها العالم كله الآن هى متى يدخل العرب في الإسلام؟ متى يكون المسلمون مسلمين؟. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _147(5/133)
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا خاتم الأنبياء وإمام المرسلين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل. أيها الإخوة: إن كتابنا هذا مجمع الحقائق التى يفتقر العالم كله إليها، وأود أن تتاح الفرص مستقبلا إن شاء الله لنلقى نظرة عامة على سورة من سور القرآن نحاول أن نعرف المحور الذي تدور عليه والهدايات التى نفعنا الله بأن أودعها في طيات كتابه. والتفسير الموضوعي شيء شغلت نفسى به لكى يكون نوعا من الدعوة إلى فهم القرآن فهما يلائم هذا العمر الذي يريد الناس منه زادا سريعا يقدم لهم وفيه وفاء بحاجتهم. ويمكن أن يزداد الوعى بالتفسير عندما يعود الإنسان إلى مصحفه وإلى أحد التفاسير ومعه ما قلنا من نقط سريعة. ص _148
" اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة. ص _149(5/134)
الأمم بين الصعود والهبوط خطبة الجمعة بمجمع الإيمان بالمنصورة في 25 / 7 / ص 86م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهدأة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فقد بحثت في علاقة بنى إسرائيل بنبيهم موسى عليه السلام، وحاولت أن أعرف حقيقتها وأن أشرحها للناس وأشرح ما أعقبها وما صاحبها من نتائج، فإن قصص القرآن الكريم مصباح تنطلق أشعته منه لكى يعرف الناس الطريق الصحيح فلا يزيغوا ولا يضلوا. بدا. لى أن علاقة بنى إسرائيل بموسى لم تكن علاقة إيمان بالله وتقدير لحقوقه وتكريم لنبيه، وإنما كانت أشبه ما تكون بعلاقة قوم مع من جاء يحررهم ويدفع العذاب عنهم، أو علاقة قوم برجل من بنى جنسهم يتعصبون له ويحتفون به، وأخذت أتأمل ما جاء في القرآن الكريم في هذا المجال.. رأيت أن موسى عليه السلام بعد أن انتصر على سحر فرعون فاهتزت ألوهية الرجل الأحمق، وانكشفت صورته أمام الناس فإذا هو ص _150(5/135)
مخذول تافه، ثم كان إيمان السحرة بموسى عليه السلام وإيثارهم للآخرة على العاجلة كان ذلك ختما لدعوى المفتون بأنه إله. لكن هذا النصر الذي أحرزه موسى على خصومه لم يدم طويلا حتى بدأت المحنة تنزل بقومه وبدأ سيل جديد من المحن والفتن ينزل ببنى إسرائيل (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ) الحاشية الضالة تُغرى فرعون بنبى الله، الحاشية الضالة تملى للرجل المغرور أن يمضى في طريق الفتك والأذى (قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون) ماذا يصنع موسى أمام هذا البلاء؟ لا طاقة له على دفعه ولذلك أخذ يصبرهم على لأواء هذه المتاعب (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) ماذا كان جوابهم؟ كان جوابا رديئا، فقد قالوا له: ما استفدنا منك شيئا، بعثتك كانت صفرا، تعبنا قبلها وتعبنا بعدها (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) مصاير الشعوب بين يدى الله، مستقبل الدول في أصابع القدر ينصر من يشاء، ويخذل من يشاء، من يدرى؟ قد يهلك عدوكم ثم تتولون الأمور من بعده، ترى هل ستكونون فراعنة مثلهم تذلون الناس، وتنصرون الباطل، وتتبعون الشهوات أم ستكونون قوما صالحين؟ هذا هو معنى كلمة موسى لبنى إسرائيل (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون). مما يذكر هنا أن صلاح الشعوب جملة أو كون الصلاح ينتظم أكثر الناس لا يتم إلا بعد مراحل طويلة، أما في المرحلة الأولى فالناس خليط وأغلب الناس يتبع ما شاع من تقاليد وما انتشر من بدع وأحكام ولا يعنيه أن يحيا كما ورث الحياة، وأغلت اليهود عندما ظهر موسى كان الذل قد رسم خطوطا عريضة عميقة في أعصابهم، وكما قال أبو الطيب المتنبي : ص _151(5/136)
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام فأكثر أتباع موسى ألفوا الذل والهوان، ألفوا إذلال الفراعنة وأن تنحنى أصلابهم لغير الله، وأن يضربوا فلا يتألموا، لكن عددا قليلا من الناس سلمت فطرته وصحت عقيدته وعرف الدين صلة بالله ترفع الرءوس وتزكى النفوس وتجعل المؤمن يجتاز دروب الحياة وهو لا يعرف إلا ربه ولا يبغى إلا رضاه ولا ينتظر إلا جداه . وقد صرح القرآن الكريم في سورة يونس أن الذين آمنوا أيمانا فيه صلاحية وقبول هم الجيل الناشئ، أما الجيل الذي ألف الدنايا وتحمل ذل فرعون دون أن يتمرد فقد فسد، قال تعالى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين) . الشباب الجديد الناشئ هو الذي مضى مع خيالات المجد والتحرر ومعرفة الله وحده ورفض الألوهية الأرضية واحتقار الأصنام الحية التى يعبدها الناس في كل عصر ومصر. وبعد زمن من التعذيب والتقتيل جاء الأمر لموسى بأن يتحرك من هذا البلد، وأصدر موسى أمره إلى بنى إسرائيل بأنه في ليلة كذا يتركون بلادهم متجهين نحو الصحراء الشرقية إلى شاطئ البحر، وعرف بنو إسرائيل أنهم خارجون من ممر ولن يعودوا فاستعاروا الحلى من المصريين على أن تبقى معهم قليلا ثم ترد وهربوا بها!!. انظروا الفارق بين مسلكين، عندما قرر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الهجرة من مكة إلى المدينة وكانت في بيته ودائع كثيرة للمشركين استبقى بعده على بن أبى طالب رضى الله عنه كى يرد الودائع إلى أصحابها فلا يكون اختلاف الدين سببا في التهام مال أو إضاعة حق !!. ص _152(5/137)
وخرج بنو إسرائيل ـ وهم سارقون ـ وراء موسى، وبداهة ليسوا كلهم لصوصا ولكن عددا كبيرا منهم كان يحمل حلى المصريين معه، وبدأ معدن القوم يتكشف. عرف فرعون أن بنى إسرائيل خرجوا هاربين (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين * إن هؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغائظون * وإنا لجميع حاذرون) وانطلق فرعون وراء بنى إسرائيل، وبدأ الجيش الفرعونى يقترب من اليهود، فلما أحس اليهود بأن المراحل تطوى وراءهم وأن الجيش المصرى يقترب منهم صاحوا بموسى : ( إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين) مهما اشتدت الظلمة ومهما كثر الحرج فإن المؤمن لا يضطرب يقينه ولا يتصدع إيمانه ولا تضعف بالله صلته فهو لآخر لحظة واثق من أن الله لن يضيعه (قال كلا إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين). كيف غرق الآخرون؟. أُمِر موسى بأن يترك البحر على النحو الذي حدث له. جبال من الأمواج عن اليمين، وجبال من الأمواج عن ا لشمال، وقاع يبس (واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون) وانطلق فرعون وجنوده وراء الإسرائيليين حتى اجتمع الجيش كله داخل البحر فانطبقت الأمواج وهلك المفسدون!!. ص _153(5/138)
نتابع القصة لنعرف طبيعة بنى إسرائيل، فإنهم ما كادوا يخرجون للشاطئ الآخر ويسيرون قليلا حتى وجدوا قوما يعبدون الأصنام فانكشف الضلال في معادنهم (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون * قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين). ومشى بهم قليلا، وهنا نقف وقفة تأمل فيما يقصه القرآن علينا، لقد اجتازوا الخليج إلى سيناء، ومضوا في سيناء في طريقهم إلى الشاطئ الآخر، والشاطئ الآخر كان فلسطين الأرض المقدسة، من كان يسكنها؟. كان يسكنها جنس عربى، كان يسكنها الكنعانيون وهم جنس عربى فيه أخلاق العروبة قبل أن يؤدبها الإسلام، فيه خصال العرب من جبروت وفتك ومفاخرة قبل أن يجئ الإسلام فيرفع خسيستهم ويلزمهم الأدب. كلَّف الله بنى إسرائيل أن يدخلوا أرض فلسطين ليقاتلوا جبابرتها (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين * يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين * قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون * قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين * قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون * قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين * قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين) ص _154(5/139)
كانت النتيجة أن الله جعل سيناء مصيدة لليهود، أحكم جدرانها عليهم فلا يخرجون منها أبدًا، وظلوا هكذا أربعين سنة حتى هلكت الأجيال الجبانة المنافقة التى استمرأت الدنايا والمذلة، وتكونت أجيال أخرى تعرف الله وتحب رضاه وتبذل حياتها في سبيله، ثم دخل اليهود بعد ذلك فلسطين يقاتلون الجبابرة. ونسأل: ماذا كان حال الدنيا خلال أربعين سنة؟. كان الجبابرة يفسدون في الأرض، وقبل الله أن تبقى الأرض أربعين سنة يحكمها الجبابرة لأن الحياة اختبار، وسيبقى الكافرون يحكمون الأرض ما بقيت الأرض ليس فيها العنصر الذي يخلف الظلمة ويستطع أن يطبق آيات الرحمن بدل تعاليم الشيطان. لابد أن يبقى زمام العالم بين أيدى عبيد الشيطان لأن عباد الرحمن بالمفاسد التى استقرت بينهم ليسوا آهلا لأن ينتصروا ولا آهلا لأن يقودوا، لابد لكى تكون الأمة سيدة أن تستجمع أسباب السيادة. قرأت في التاريخ الإسلامى أن " هولاكو " دخل بغداد وقتل نحو مليون أو مليون ونصف من الناس حتى إن الفرات احمرت مياهه من كثرة الدماء التى سفكت !! وكان المسلمون يومئذ أهلا للهزيمة وكانوا جديرين بها، ثم مضى القرن السابع الذي انهزم المسلمون فيه، وجاء القرن الثامن الهجرى وما جاء القرن التاسع الهجرى حتى كان المسلمون يثأرون لأنفسهم مما نزل بهم، ودخل المسلمون القسطنطينية وجعلوها عاصمة الإسلام!!. متى انتصروا؟ لما صلحت أحوالهم واصطلحوا مع الله!!. هناك فارق كبير بين الخليفة العربي الذي قتل مع قومه في بغداد وبين الخليفة الذي انتصر على أعداء الإسلام وافتتح القسطنطنية. ص _155(5/140)
يقول التاريخ عن " محمد الفاتح ": كان رجلا صواما قواما، وكان كثير القراءة للقرآن الكريم، وقبل أن يموت جمع أولاده وأوصاهم بأن يظلوا مجاهدين لنصرة الإسلام وأن لا يشغلهم شئ عن مرضاة الله!!. انظر لصلتك بالله ثم انتظر أن يصنع الله لك، والذي حدث أن أمتنا لم تعرف حقيقة الصلة بالله. أتظنون العرب لما ملكهم الله الفرس والروم كانوا: عنترة بين شداد، وامرأ القيس، وبقية الشعراء والدجالين؟ لا، لا، كانوا نوعا آخر من الناس، كانت فلسفة الحكم في العالم يومئذ: الحق الإلهى للملوك . فإذا في المدينة فلسفة جديدة للحكم يقول فيها الخليفة: "... أيها الناس فإنى قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوى عندى حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله " ويشرح عمر رضى الله عنه سياسته في المال فيقول: " ما مثلى ومثل هؤلاء إلا كقوم سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل معهم، فقالوا: أنفق علينا، فهل يحل له أن يستأثر منها بشىء "؟. قالوا: لا يا أمير المؤمنين، قال: " فكذلك مثلى ومثلهم " . ص _156(5/141)
وكان يقول: لا شىء فيما ترى إلا بشاشته يبقى الإله ويودى المال والولد سياسة جديدة في المال، سياسة جديدة في الحكم، سياسة جديدة في البحث العلمى تقوم على التجربة والملاحظة ورفض الأخيلة الفلسفية الشاردة، سياسة في الخلق والسلوك، سياسة جديدة في كل شىء، غير المسلمون وجه الحياة وطلعوا علي الناس بثقافة جديدة وحضارة جديدة. كيف وقع هذا؟. هنا نقارن بين فترتين، يقول المؤرخون: احتاج بنو إسرائيل إلى أربعين سنة حتى يتحولوا إلى جيل يصلح لوراثة الحكم أو لقيادة الناس أو لإمامة الخليقة (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون). من الممكن جدا أن تتحول الأمم إلى أضدادها، لكن الأمر لم يحتج إلى أربعين سنة بالنسبة إلى النبى العربى المحمد عليه الصلاة والسلام، فخلال ثلاث وعشرين سنة غير العرب السارحين في الصحراء كأنهم إبل هائمة إلى شعب ثقافة وحضارة يحتقرون اللذات ويطلبون الآخرة، ويمشى أحدهم إلى ميدان الوغى وهو يقول: ركضا إلى الله بغير زاد إلا التُّقى وعمل المعادِ والصبر في الله على الجهاد وكلُّ زادٍ عرضة النفادِ غير التّقى والبِّر والرشادِ بهذا التغيير الذي حدث للجيش العربى أصبح أهلاً للسيادة وأهلا لأن ص _157
يؤخر الرومان من هنا والفرس من هنا ويتصدر قافلة البشرية ويقودها بجدارة. الأمة العربية الآن تلقى الويل والاحتقار لأنها تحاول الانسلاخ من الإسلام، وقد قلت لبعض إخواننا الفلسطينيين: لماذا تطلبون إقامة دولة علمانية؟. ان أخونكم في الجزائر كانوا يحاربون تحت علم التوحيد وتحت هتاف الله كبر، وكانوا يسمون من قتل شهيدا، وكانوا يسمون أعداءهم كفارا، ووقعت المعجزة وانتصر الجزائريون على الاستعمار الفرنسى. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _158(5/142)
الخطبة الثانية الحمد لله (… الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فإن الأمم ليست بالمزاعم أو الهتافات فإن شيئا من هذا لا ترجح به كفة ولا ينتصر به ضعيف، لكى تكون الأمة الإسلامية آهلا لنصرة الله يجب أن ينظر الله إليها فيرى أن الأسرة الإسلامية ألطف وأحكم وأفضل من الأسرة غير الإسلامية، وأن الموظف المسلم أرعى للأمانة وأحفظ للحدود وأطوع للنظام من أى موظف آخر، وأن الشارع المسلم أنظف من أى شارع في شرق الدنيا وغربها. أيها الإخوة: الإسلام دين جاء رحمة للناس وخروجا بهم من الظلمات إلى النور (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد). ما هى الظلمات التى تخرج منها؟ ظلمات الليل؟ كلام فارغ لا يقوله عاقل، ظلمات الجهل والفوضى والتسيب وضعف اليقين وضعف الأخلاق، وما أكثر هذا في الأمة الإسلامية!!. ص _159(5/143)
ـ يجب ـ كما تُدرَّس في كليات الطب الجثث لتُعرف أسباب الوفاة وينتفع بها في علاج الأحياء ـ أن تُدرَّس الأمم المنهزمة ويعرف ما فيها من علل، فإذا كُشفت هذه العلل، وعرفنا جراثيم الداء أمكن الخلاص منه والبعد عنه، أما الأمم التى تنافق أمراضها ولا تريد أن تبحثها ولا أن تبتعد عنها فستبقى بعلتها إلى أن تموت بها. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة.. ص _160(5/144)
نظرات في سورة " الأحزاب " خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهدأة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإن الجماعة الإسلامية الأولى، والدولة الإسلامية الناشئة في المدينة المنورة عانتا ضغوطا شديدة من الكفار والمنافقين. فأما الكفار فإن أحزابهم على اختلاف مللهم جمعتهم غاية واحدة هى تقويض الإسلام ونسف دعائمه والإتيان عليه من القواعد، يستوى في ذلك الوثنيون وأهل الكتاب. ذاك عمل الأعداء في الخارج، أما عمل المنافقين في الداخل فكان إثارة الفتن والبلبلة الفكرية والعاطفية. ولقد رأيت من تجاربى الكثيرة ومن دراساتي الكثيرة أن عمل المنافقين في الداخل قد يكون أنكى وأقسى من عمل الكفار الصرحاء الذين يهاجمون الدولة من الخارج.. قد يكون عمل المنافقين مستورا تحت أغشية من الخداع والمرونة والمراوغة، وقد يكون مخبوءا تحت استغفال أصحاب النيات الحسنة وإن كانت عقولهم ضيقة وفقههم قليلا، ذلك لأن الصديق الجاهل قد يكون أشد على صاحبه من العدو العاقل. ص _161(5/145)
وأمس ترامى إلىَّ نقاش غريب في " جامعة القاهرة " فإن واحدا من هيئة التدريس في " كلية الطب " وعددا من التلامذة له أشاع تفسيرا غريبا لقوله تعالى : (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي). قال: إن الآية صريحة في أن لكل إنسان أن يعمل بالدين وأن يتركه!!. تفسير الآية في نظره غير تفسيرها عند جمهور الفقهاء والمفسرين على امتداد أربعة عشر قرنا، هؤلاء جميعا قالوا: المقصود بالآية أننا لا نكره أحدا على الدخول في الإسلام، وأن القوة في أيدينا ليست أداة ضغط أو فتنة أو هيمنة على العقل والضمير، فالإسلام غنى بحججه، ثرى ببراهينه، فهو يسوق قضيته بين أشعة غامرة من البينات والهدى، فمن رد ذلك كله فلا علينا منه، ومن قبل فهو أخونا، أما أن نحتاج إلى سلاح لتأسيس إيمان في قلب أو يقين في فؤاد فلا. لكن مفسر القرن الخامس عشر في "كلية الطب " قال لنا: إن المقصود بالآية أن الإنسان حر في أن يصلى أو لا يصلى أن الإنسان حر في أن يزكى أو لا يزكى، أن الإنسان حر في أن يحسن أولا يحسن، أن الإنسان حر في أن يقارف ما يشاء من مطالب الهوى ومنازع الشهوة دون أن نكلف بإكراهه على شئ من الهدى والخير. ونحن ـ في هذه الدائرة ـ لا نكلف بإكراه أحد على شئ من الهدى والخير، ولكن الكلام بهذا الأسلوب معناه إبطال قاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ما دام كل إنسان حرا في أن يصلى أو لا يصلى، ومعناه أيضا إبطال أن تتحول الدعوة الإسلامية الى دولة إسلامية تحارب الشر وتقيم الخير وتأمر بالصلاة وتعلمها في برامج التدريس وتنشئ عليها الأجيال وتكلف الآباء في الأسر أن يربوا الأولاد على أدائها وتكلف الإذاعة أن تنادى للصلاة في كل وقت من الأوقات الخمسة. ومن هنا فالتفسير بهذه الطريقة تقويض للمجتمع المسلم وبلبلة لقواعده فضلا على أنه جهل مركب وصفاقة غربية في فرض الضلال على الإسلام، فإن شبانا أغرارا مساكين تبعوا الذي قال لهم هذا ومشوا وراءه، وما أشك في(5/146)
ص _162
أن الاستعمار العالمى بشقيه الصهيونى والصليبى وراء هذا الفكر!!. فكر آخر: جاءني طالب من " الزقازيق " أمس وقال لى: إن بعض المنتسبين إلى السلفية ـ وما هم بسلفيين فى الحقيقة ـ رموا بالكتب المعاصرة ورفضوا أن تعرض فى معرض للكتاب الاسلامى!!. والكتب المعاصرة بعضها ألفها أخونا الأستاذ سيد قطب.. والأستاذ محمد قطب.. والأستاذ أبو الحسن الندوى.. والأستاذ أبو الأعلى المودودى.. والأستاذ عبد القادر عودة.. وكثيرون!! قلت: ما أشك أن وراء هؤلاء البله فكرا خبيثا يريد تمزيق الكيان الإسلامى والوسوسة لهؤلاء بأن الكتابات المعاصرة رديئة وأن الكتابات القديمة لابن تيمية وابن القيم هى وحدها التى يؤخذ الإسلام منها!!. وشيخ الإسلام ابن تيمية رجل كبير وتلميذه ابن القيم رجل كبير، والغريب أن ابن تيمية بُلى فى عهده بقوم تناولوا الأئمة العظام بلسان حاد وولغوا فى أعراضهم وحاولوا مناوشة القمم الشماء فى تراثنا الإسلامى وفقهنا الضخم فتصدى لهم شيخ الإسلام ابن تيمية وألف كتابه المشهور (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)!!. والواقع أن الذين يتظاهرون بالحماس لابن تيمية وابن القيم جهال لأن الإسلام لم يكن عقيما قبل ميلاد ابن تيمية وابن القيم فى القرن السابع للهجرة، سبعة قرون قبل ميلاد ابن تيمية وابن القيم وسبعة قرون بعد ميلاد ابن القيم وشيخه ابن تيمية امتلأت برجالات الإسلام من ذوى الفكر الثاقب والقلب النابض والحرارة التى تصبغ عواطفهم نحو ربهم ونحو نبيهم !!. وما بد فى عصرنا هذا من أن نقرأ كتب المعاصرين لأن الغزو الاستعمارى الذى هجم بجحافله على العالم الإسلامى - فى عصرنا - جديد فى أساليبه، مزود بخطط غريبة لسرقة العقائد واختلاس القيم، وهو يجر وراءه خلفية عريضة من الحضارة الغربية التى ازدهرت فى ميدان العلم والتطبيق واستطاعت أن تستغل تقصيرنا وغفلتنا وتراخينا فى خدمة ديننا ص _163(5/147)
خلال القرون الأخيرة وهجمت علينا هجوما منوعا يحتاج إلى أفكار جديدة وكما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله فى القرن الثانى: تَحْدُثُ للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور!!. فكيف يقال: إن الثقافة الإسلامية انتهت بكتابات ابن تيمية وابن القيم؟. إننى أحد الذين تتلمذوا على ابن تيمية وابن القيم وابن رشد والغزالى وابن الجوزى وابن حزم وطبعا تلميذ تافه للأئمة الأربعة الكبار الذين شمخت قممهم فى تراثنا العقلى والفقهى ويعتبرون نماذج رائقة لتقوى الله ونفع الناس !!. ما أشك فى أن الذين يضمرون التعصب لفلان أو لفلان من الأئمة والعلماء ويريدون تمزيق مجتمعنا بمثل هذا التفكير ما أشك فى أن وراء هذا ا الغلو أصابع خبيثة من الصهيونيين أو الصليبيين ممن يعملون لحساب الاستعمار العالمى!!. الفتنة فى الداخل أقسى على الأمة من الهجوم الصريح من الخارج، ولذلك فإن المسلمين فى عصرنا هذا ينبغى أن ينظروا بقلق إلى النزعات المغالية التى تنتشر الآن فإن من العجيب أن يدخل اليهود كنيستهم فتلتقى القلوب على أكلنا والهجوم علينا ويخرج المسلمون من المسجد ممزقى الصفوف بأفكار تافهة وقضايا حقيرة!. هذا الكلام استطراد منى أُلجئت إليه، وأنا أريد فى الحقيقة إلقاء نظرة على سورة الأحزاب. وسورة الأحزاب - كما نفهم من عنوانها - تناولت الكلام عن غزوة الخندق وعن تجمع أحزاب الكفر وثنية وكتابية لحصار المدينة المنورة والضغط عليها بكل ما أوتيت من قوة حتى تخنق الإسلام وتبرز أمعاءه وتجعله آثرا بعد عين!!. وتناولت السورة شيئا آخر وهو عمل المنافقين داخل المدينة لجعل المجتمع الإسلامى يتلوى ويتعب، كان عمل المنافقين فى أثناء الحرب أن ص _164(5/148)
ينشروا الإشاعات والأراجيف وأن يثبطوا جند الله ويلقوا الفزع في أفئدة الجماهير، وكان عملهم أيضا السخرية أو التنديد؟! كان يؤثر عن رسول الله وصحابته الكرام من أن المستقبل للإسلام وأن الدعوة الناشئة سوف يطلع صبحها على الروم والفرس وسوف تدخل الأمم في هذا الدين. كانوا يستهزئون ويسخرون ويتضاحكون وهم يرون المؤمنين من وراء الخندق يقاتلون ببأس شديد وعنف رهيب كى يستبقوا حياتهم ويستنقذوا دعوتهم ويجعلوا علم الإسلام باقيا في وجه الريح الهوج التى تريد أن تطويه. هذا عمل المنافقين في الحروب، أما في أيام السلام فعملهم تتبع الشهوات وإثارة أسبابها والوقوف على أفواه السكك لإلقاء النظرات النهمة على أعراض المؤمنين وتتبعها. فكان لابد من علاج هذا كله، وجاءت سورة الأحزاب فوصفت في صفحتين تقريبا ما وقع في غزوة الخندق، ووصفت في بقية الآيات ـ وهى نحو خمس صفحات ـ تنظر المجتمع الإسلامى وفي قمته الأسرة النبوية. هذا هو المحور الذي دارت عليه سورة الأحزاب، وبدأ الكلام تنبيها للمؤمنين أن يوحدوا صفهم وأن يجمعوا شملهم وأن يركزوا قواهم في مواجهة التيارات المنبعثة من تلك الجبهتين: (الكفر والنفاق). بدأت بقوله جل شأنه : (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما * واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا * وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا). الكلام عن الكافرين والمنافقين تكرر عدة مرات في السورة: ففي وسط السورة يقول الله تعالى : (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا * وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا * ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا). ص _165(5/149)
وفي ختام السورة يقول الله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما). ومع هذا التوجيه في الوقوف ضد الكفار والمنافقين والتصدى للجبهتين على سواء نلحظ أيضا خلال السورة أن الصبر على أذى هؤلاء وأولئك مطلوب وأن تحذير المؤذين من المضى في طريقهم واضح ونجد هذا في قوله تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا * والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا). وقبل ذلك قال : (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا). وفي آخر السورة قال: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها) وفي جلوس الناس في بيت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ دون سبب واضح بين أن ذلك كان يؤذى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق). ذاك كلام هامشى على جانب السورة أما الكلام في السورة نفسها فنحن نتناوله أيضا هامشيا لنقول: إن السورة بينت أن صاحب الهدف الواحد لا يشغله عن هدفه شئ آخر لأن ما ارتكز في القلب من إيمان يربط صاحبه برب الأرض والسماء لا يجعله صاحب قلب آخر يلتفت إلى الناس ويرجوهم أو يخشاهم: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه). ص _166(5/150)
وعرض لشيء من القضايا التى تناولتها السورة وهى قضية تزوج النبى بامرأة متبناه ـ زيد بن حارثة ـ فقال : (وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل * ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم). تبين الآية هنا أن من لا نعرف أباه فهو أخ لنا في الدين، وينبغى أن لا يضيع في مجتمعنا، لكن الذي حدث ـ للأسف ـ أنه ضاع، وقد رأيت ـ وأنا قادم من أسيوط من حوالى أسبوعين ـ مؤسسة على نحو ثلاثة عشر فدانا جمعت اللقطاء من المدينة خلال ثلاثين سنة وتبنت هذه المؤسسة تربيتهما على البروتستنتينية وهى الآن تأخذ معوناتها من مجلس الكنائس العالمى!. أين المسلمون: يتقاتلون على التوافه من قضاياهم بينما يشب الألوف على غير دينهم وهم لا يدرون !!. هذا استطراد آخر نتركه لنقول: إن الآية تحدثت بعد ذلك عن موقعة الأحزاب وبينت أولا: أن الدولة الإسلامية وقعت في مأزق خطير وأنها ـ حقيقة ـ امتحنت امتحانا شديدا وأن النبى والصحابة من مهاجرين وأنصار كانوا حوله يتطلعون إلى الأفق في لهفة واضحة إلى عون الله وأن المستقبل تلبد بالغيوم لأن أعداءهم أحاطوا بهم إحاطة لا منجاة منها إلا بفضل الله، وتلمح هذا في التصوير الذي بدأت به هذه الآية : (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا). ظل المسلمون قرابة شهر ومواقعهم بين حين وآخر مهددة بأن تقتحم، صحيح أنهم حفروا الخندق و أنهم باتوا ساهرين حوله وأنهم منعوا خيل الكفار من أن تقتحم المدينة، ولكن هذا كله ما هون من شدة ص _167(5/151)
الحصار لأن الحصار جمع قريشا التى أقبلت من مكة- عاصمة الوثنية يومئذ- ثم بدو الجزيرة ثم أهل الكتاب بما يمثلون من حقد على عقيدة التوحيد ومن بغض على صاحب الرسالة الخاتمة ومن خبث وكدر في دمهم ضد كل من يريد بالإنسانية خيرا ويبغى لها شرفا، اتفق هؤلاء كلهم على أن يدخلوا مع الإسلام في معركة حياة أو موت، وكان كل شئ يشير إلى أنهم منتصرون حتما، فالمسلمون داخل مصيدة لا يجدون منفذا حتى إن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أراد أن يتحايل على إنقاذ الدعوة فأرسل إلى البدو- وهم قوم تجمعهم الأموال وتفرقهم المنافع- وعرض عليهم أن يرجعوا- لتحدث ثغرة في هذا الحصار- وعرض عليهم نصف ثمار المدينة ليعودوا، وفعلا كادوا يقبلون لولا أن الفدائية والتضحية والاستماتة ملأت قلوب رؤساء الأنصار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وقال سعد بن معاذ: والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " فأنت وذاك " . وشاء الله أن تزداد الظلمة عندما انضمت بنو قريظة إلى المشركين ولكن النبى كان موقنا بأن النصر له لأنه موقن بكلام الله، والله أنزل عليه بمكة ـ في سورة الصافات: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون). وأنزل عليه في سورة غافر: ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار). كان واثقا من صدق الوحى ومن أن الله لن يخذله فصابر حتى تدخل القدر وعصفت الرياح بخيام المشركين وأكفأت قدورهم وألقت الفزع في أنفسهم فانفضوا ما هزمهم إلا الله، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام فيما استقبل بعد ذلك من معارك يقول: " اللهم منزل الكتاب ـ ومجرى السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم " . ص _168(5/152)
وكان يقول : " لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده فلا شئ بعده " . لكن من الذي يستحق النصر؟. قلوب أخرى، في الحقيقة عندما أقارن بين قلبى وقلوب أولئك الناس أشعر بشيء كبير من البعد، لأنه في يوم من الأيام ضاقت قريش بالحصار وقررت أن تهجم هجوما تنتهى فيه إلى نتيجة حاسمة، وفعلا وجهت قواها في ضربة شديدة لقلب المدينة، وتجمع المسلمون من الظهيرة إلي صلاة العصر إلى أن غربت الشمس وهم يقاومون حتى ردوا المهاجمين على أعقابهم خاسئين، تدرون ماذا كان تعقيب صاحب الرسالة الخاتمة على المعركة؟. يقول : " ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس " هذا كل أحزنه، أحزنه أنه لم يسعد بلقاء الله في صلاة العصر، أحزنه أنه لم يشعر بحلاوة الوحى وهو يتلوه بين يدى رب العالمين!!. هذا قلب وحوله، قلوب على شاكلته أو تعلمت منه، ما أساءها أن بذلت جهدا أو فقدت مالأ أو روعها الأعداء، بل " شغلونا عن الصلاة الوسطى "!!. ليس ببعيد أن تنزل الأمطار وأن تعصف الرعود وأن تقصف قواصف الجو على الكافرين فترغمهم على أن يفكوا الحصار ويذهبوا بددا من حيث جاءوا: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا * وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا * وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا). ص _169(5/153)
هذا ما تضمنته سورة الأحزاب ص غزوة الأحزاب، وبداهة ما قلته يعد إشارات خاطفة، أما المعركة وما وقع فيها وتفاصيلها فلها مجال آخر. بعد ذلك جاء كلام في تنظيم البيت النبوى، أساس هذا التنظيم يجعلنا نتحدث عن فلسفة الغنى والفقر في الإسلام.. أيها الإخوة: الإسلام دين يكره الفقر ويراه نكبة تنزل بالإنسان فتزلزل مروءته وتكسر رجولته، ولذلك كان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسويه بالكفر في الاستعاذة بالله من وطئتهما: " اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إفي أعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت " وكان يقول : "اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة ". وكان يقول: " نعما بالمال الصالح للرجل الصالح " ، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة، لكن هل كان النبى غنيا؟ لقد أغناه الله فعلا ـ بنص القرآن الكريم ـ (ووجدك عائلا فأغنى) عائلا: فقيرا. فأغناه. أغناه في شبابه ورجولته بكدحه في الأرض وتجارته التى كسب منها الكثير، وأغناه بعد الرسالة بنصيبه في الفيء والغنائم، كان غنيا ولكنه كان إماما للبذل والعطاء، قال لأبى ذر رضى الله عنه يوما وكان يمشى معه: " يا أبا ذر: ما يسرنى أن عندى مثل أحد هذا ذهبا تمضى على ثالثة وعندى منه دينار إلا شيئا أرصده لدين إلا أن أقول به عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه " . ص _170(5/154)
هذا عطاؤه، ومع ذاك بلغ به العطاء أن ينسى حاجات بيته وربما سأل أهله الأدْمَ فقالوا ما عندنا إلا خل فدعا به فجعل يأكل به ويقول: "نعم الأدم الخل، نعم الأدم الخل " . ما السبب في هذه المعيشة؟. السبب أن الأمة الإسلامية كانت تواجه مصاعب هائلة، ففي مكة حُصر المسلمون في شِعْب بنى هاشم نحو ثلاث سنين كانوا يأكلون التراب من الفقر، فكيف يتوسع؟. ثم بعد الهجرة وجدنا المدينة المنورة تتعرض للهجوم والحصار والضوائق، أكان البيت النبوى يستمتع بالخير الكثير والزاد الوفير والناس يجيئون من كل ناحية فإقدين لأموالهم ولأملاكهم؟. كان ـ لابد أن يعيش البيت النبوي عيشة فيها شدة، كان لابد أن يتحمل، لكن النسوة اللاتي تزوجهن ـ وقد جئن من بيوتات كان فيها شيء من الخير والثراء ـ تألمن وضقن، وعلى ما بين الضرائر من خلاف اتفقن جميعا على إعلان رفضهن لهذه المعيشة القاسية. فماذا يفعل الرسول ؟ جاء الوحى الإلهى يقول : ليس إلا هذا، وقل لمن عندك في البيت! هذه معيشة بيت يصدر للناس العفة والقناعة، يصدر للناس السهر في طاعة الله والتهجد وجعل الليل أبيض من طول القراءة والعبادة : (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما) ص _171
وانتهت الآيات بقول الله لنساء النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا). هذا بدء لتنظيم البيت النبوي ثم اتصل التنظيم بعد ذلك بقضايا كثيرة، ربما طال الوقت قبل أن ننهيها، لعل لها مجالا آخر. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _172(5/155)
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم و بارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: أيها الإخوة: من علامات المجتمع المسلم ما قاله الله جل جلاله في وصف أبنائه : (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) ، (أشداء على الكفار رحماء بينهم). نحن بحاجة إلى أن يكون المسلم ذليلا لأخيه، ومعنى أن يكون المؤمن ذليلا لأخيه أن يكون سهلا معه وأن لا يكون شرسا أو صعب القيإد، ومعنى أن يكون المؤمن رحيما بأخيه أن يرق له، إذا عثر أنهضه وأزال عنه القذى الذي قد يضنيه في سقطته وأن لا يكون عونا للشيطان عليه. وأنا أرحب بل أنا مسرور بالنهضة الإسلامية التى انتشرت في عواصم الإسلام كلها. بديهى أن تلحق هذه النهضة شوائب، ونحن لسنا معصومين، بديهى أن يكون هناك طلاب فيهم قصور فقهى. بديهى أن يستغل أعداء الإسلام هذا، وأن تتحول المخابرات العالمية بأساليبها الدنسة الخبيثة إلى صفوف هؤلاء الطلاب لتمزقهم أو لتجعل قوى بعضهم ضد الآخر. إن الصحوة الإسلامية موجودة الآن في كل بلد، وأنا أخشى على الصحوة الإسلامية لا من الأعداء التقليديين المعروفين وإنما أخشى أن يأكل ص _173(5/156)
بعضنا بعضًا بسبب خلافات تافهة وأفكار ضيقة.. ستجدون كما ذكرت لكم فى صدر خطبتى الأولى - من يفسر القرآن بخطأ ومن يدخل فى السنة وهو لا يدرى رأسا من ذنب ولا يعرف صحيحا من ضعيف، وإذا عرف الصحيح لم يعرف كيف فهمه فقهاء الإسلام. لا بأس أبدا أن مجيء وأحد من ألف الناس يقول لك: الرسول قال: (نعم الأدم الخل) فلنجعل طعامنا كله خلا!!. أى تفكير هذا؟ هذا إنسان كبير يرضى نفسه بواقع عابر.. هناك ناس خبراء بالأحوال العلمية فى القاهرة وفى دمشق وفى بغداد وفى غيرها يريدون إساءة هذه الأمة ونكبتها فى حاضرها، فلنكن بصراء بديننا وبمن يعملون فى هذه الميادين المشبوهة. " اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _174(5/157)
بين يدي الوحي وختامه خطبة عيد الأضحى المبارك بميدان عابدين في 31/10/ ص 79 م الحمد لله حمدا مضاعف الشكر والثناء والتمجيد، حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، حمدا يبتغى به رضاه ويتقى به سخطه (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا). الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله اكبر. ما أٌبدعت حياة وأحيى موات. الله أكبر ما اهتز في مهده طفل وما بسق في حقله نبات. الله اكبر ما دار في فضائه فلك. الله اكبر ما سبح بحمد ربه الأعلى ملك. الله أكبر ما انطلقت مواكب المجاهدين أنصار الله تنشر دعوته وتعلى كلمته وتحى شريعته. الله أكبر. ما انطلقت مواكب الحجيج صوب البيت العتيق الذي جعل الله زيارته حجا مبرورا وسعيا مشكورا. الله اكبر ما انسكبت عبرات التائبين يستغفرون الله لزلتهم ويستقبلونه من عثراتهم ويقولون ما قال أبونا الأول آدم وأمنا الأولى حواء: ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) الله أكبر ما قامت بربها الأشياء وخضعت لحكمه الأرض والسماء. الله أكبر ما التقى على ظهر الأرض الكفر والإيمان، وتصارع أنصار الحق وأنصار الباطل وكافح بعضهم بعضا (هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد). هذا جزاء الكفرة الفجرة، أما الصالحون الأبرار (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم). ص _175(5/158)
الله أكبر ولا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. أيها الاخوة: إن أعياد الإسلام تقترن بالقرآن الكريم اقتراناً تامًا، فمع بدء الوحى الأعلى كان رمضان، وكان صومه، وكان عيد الفطر، ومع خواتيم الوحى الأعلى كان الحج، وكان يوم عرفة، وكان اكتمال الدين، وكان بدء حضارة أظلت الدنيا فلم تر الدنيا لها نظيرًا، إذ أعْلت قدر الإنسان وشرفته على امتداد الزمان والمكان!!. وبين بدء الوحى وختامه ثلاث وعشرون سنة، ربع قرن طويل امتلأ بالأحداث العجب، كان هذا المدى من الزمن مشحونا بالنصر والهزيمة وبالفرح والحزن وبالفرج والضيق، وكما قال ربنا: (وتلك الأيام نداولها بين الناس). في هذا الربع القرن وجدنا صاحب الرسالة الخاتمة يطارد في الحرم الآمن ويقال له ـ وهو أنضر الناس عقلا وأرشدهم فكرا: (يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون). ثم يطارد من بلده إلى مهجره لتلحق به في أحد هزيمة رهيبة صرعت من أئمة المسلمين سبعين شهيدا، وبلغ توقح الوثنية بعد أن أحرزت نصرها أن وقف قائدها يقول: (أعل هبل. فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أجيبوه" . قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: " قولوا : الله أعلى وأجل " . إذا كانت الوثنية قد ظفرت بمعركة وألحقت بالمسلمين خسائر فإن خمس سنين أعقبت غزوة أحد وإذا المسلمون سادة الموقف في مكة المكرمة، وبعد سنة واحدة من فتح مكة كان المسلون يسودون مواسم ص _176(5/159)
الحج ومخيمات الحجيج، وتنزلت في السنة التاسعة من الهجرة سورة التوبة تُنهي الوجود الوثنى في جزيرة العرب وتختم رواية خرافية دامية بقيت تخدم الباطل أمدا ليس بالقصير، وأعطى المشركون فرصة محدودة إما عادوا بعدها إلى رشدهم وإما فقدوا حياتهم وأمانهم (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين * وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم). هذه الصيحة بعد اثنتين وعشرين سنة من بدء الوحى ختمت صراعا داميا طويلا بين دعوة التوحيد وبين الجاهلية التى أبت إلا سفك الدم ومصادرة الحرية ووأد الحق فكان جزاؤها أن طبق عليها القانون الأزلى: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). لهذا الصراع عبرة يجب أن يعيها الناس إلى آخر الدهر فإن الصراع بين الحق والباطل مر المذاق كثير الجراحات فادح التضحيات، ولقد تحمل المسلمون الأوائل يجلد هذا كله، وعلموا أن الصراع كلما اشتدت وطأته وبلغت القمة ويلاته كان النصر القريب وكان تحقيق الأمل، وبين هذا رب العالمين حتى يدرك المسلمون أنهم لن ينالوا في زمن ما نصرا رخيصا. إن الكفاح يمس النفس الإنسانية حتى يبلغ شغاف القلب وحتى يبلغ السكين حر العنق، وعندما تصل المحنة إلى هذا المدى الرهيب تبدأ حركة التحول، أما الكفر فإلى أدنى وأما الإيمان فإلى أعلى. قديما أذاق الفراعنة موسى وقومه بلاغ شديدا وعذابا مهينا فلما شاء رب العالمين أن يخرج موسى وقومه من هذا الوادى رأى فرعون أن يتبعهم (فأتبعوهم مشرقين * فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم(5/160)
الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين) ص _177
والشاهد أن موسى لما رأى فرعون يطارده ورأى الجيش يقترب منه لم يفزع وبلغت ثقته في الله حدها عندما قال: ( كلا إن معي ربي سيهدين)! وقد هداه الله وأنجز وعده وأغرق الجبابرة وملأ بالطين أفواههم!!. إذا قلنا: إن خواتيم الوحى نزلت في مواسم الحج فهذا يتناول أمورا كثيرة ويحتاج إلى شيء من التفصيل، فإن السنة التاسعة قرىء في حجتها صدر سورة براءة، وكان أبو هريرة وغيره من الصحابة ينسابون في كل فج وينطلقون نحو كل اتجاه ليقولوا بأعلى صوتهم: "ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان " انتهت المهزلة، انتهت الوثنية. وفي السنة التى تلت هذه الحجة- حجة أبى بكر بالناس- نزل قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). كثير من الناس يظن هذه الآية آخر ما نزل من القرآن الكريم، وهذا غير صحيح، فهى آخر ما نزل متعلقا بالتشريع وآيات الأحكام، لكن ثبت أنه بعد ثمانين يوما من نزولها نزل قوله تعالى: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون). وهذه الآية سمة مميزة لحضارة الإسلام، ان الحضارة الأوربية الغالبة لى هذا الزمان شرقيها وغربيها تعبد اليوم الحاضر وتجحد الغد القريب، هذه الحضارة بشقيها ما تعبد إلا جسدها وإلا لذتها العاجلة وإلا زمنها المواتى، أما أن يمهد ص _178(5/161)
الإنسان لأخرته، وأما أن يتزود من دنياه زادا يلقى به ربه فهذا مالا تفكر فيه الحضارة الحديثة!!. إن هذه الحضارة كافرة حقا بالله مهما زعمت من إيمان، ولكنها ما انتصرت وغلبت إلا لتفريط المسلمين في مواريثهم وخلخلة اليقين في صدورهم وانحراف خطاهم عن الصراط المستقيم الذي ألزمهم الله إياه!!. وذلك يحتاج إلى شئ من البيان، فإن الأمة العربية كانت في تاريخها القديم أمة من الشعوب العادية لا وزن لها في الحضارات الغالبة ولا في المدنيات الكاسحة ثم جاء الإسلام، فماذا صنع للعرب؟. لا أقول: أطعمهم من جوع ـ وقد فعل ـ ولا أقول: أمنهم من خوف- وقد فعل- ولكن أقول: إن الإسلام جعل العرب الأمة الأولى في العالم قريبا من ألف سنة!!. إذا كان العرب معروفين في القارات بأنهم يصدرون النفط (البترول) فإن العرب قبل أربعة عشر قرنا قد طلعوا على الدنيا طلوع الصبح بعد ظلام طويل، وكانوا يصدرون الوحى والقيم وحقوق الإنسان وحريات الشعوب!!. كان العرب أمة أولى بما أفاءت على الدنيا من خير وبما أسدت للإنسانية من صنيع. كان العرب أمة أولى لا بشقشقة اللسان ولا بفم يفتخر كاذبا وأعماله ترزى به وتقوده إلى أسفل. كان العرب في سيرتهم نماذج تحتذى وفي حضارتهم أفقأ عريضا مليئا بالنور والروحانية والثقافة والسماحة. كان العرب شيئا مذكورا في دنيا الناس لأنهم ـ قاموا بالقرآن وساروا على هديه والتزموا وحيه !!. فماذا كسب العرب لما تركوا الإسلام؟!. إن العرب من غير إسلام كقصب السكر من غير سكر، إن العرب من غير إسلام صفر لا وزن لهم في حضارة ولا قدرة لهم على كسب معركة، إن العرب من غير إسلام ليسوا شيئا في تاريخ الحضارات ولا في تاريخ الأمم. ص _179(5/162)
لقد زود الله هذه الأمة بمال ممدود وجاه عريض وبسط رقعتها بين المحيطين، فأحشاء العالم كله بين أصابعها، ولكن العرب هينون على الله وعلى الناس لأنهم ما يريدون أن يستمسكوا بدينهم وأن يجعلوا حماسهم لربهم. إن العرب ـ لو رشدوا ـ دماغ الإسلام وقلبه، وقد امتن الله عليهم بهذه الحقيقة، قلت يوما وأنا أقرأ في سورة البقرة: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون * كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون). قلت: ما تمام النعمة وما حقيقة الهداية هنا؟. واستبان لى المعنى، إن الله يقول للعرب: إنه شرف ضخم أن تتجه القارات كلها من مشرقها إلى مغربها إلى هذه الكعبة المشرفة الجاثمة فوق صدر الجزيرة العربية، أي شرف هذا؟ لكن هذا الشرف الذي ذكر القرآن به تبعته آية أخرى فكرت فيها مليا (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم) قلت لنفسى: (كَمَا) هذه ما موقعها هنا؟ التشبيه هنا ما معناه؟ ثم تبين لى المعنى، إن الله يقول للعرب: كما شرفتكم فجعلت القبلة في أرضكم سبق أن شرفتكم بجعل النبوة الأخيرة فيكم، يجعل الرسالة الخاتمة منكم !. ثم دخل العرب التاريخ لا من باب واحد ولكن من أبواب متفرقة، ثم تبدأ خطاهم تتنكب النهج السوى، وتبدأ عيونهم تشخص إلى يمين، وإلى يسار، إنهم ما أحسنوا الانتفاع بتراثهم ولا الاعتداد بنبوتهم، ولذلك عرض لهم من الهزائم والآلام ما جعلهم مضرب الأمثال.! أيها الشباب: اعلموا أن شرفنا بالإسلام، وأن انتصارنا بتعاليمه، وأن استعادة ما افتقدنا إنما هو بالوقوف عند حدوده والانطلاق مع غاياته و أهدافه. أحب أن أقول للشباب: تشبثوا بالعقائد التى شرفكم الله بها، ص _180(5/163)
استمسكوا بأصول الإسلام التى آلت إليكم بعد جهاد مر مع قوى الشر.. لقد ورثتنا الأجيال القديمة هذا الدين القيم ويجب أن يبقى فى أيدينا وأن نورثه غيرنا وأن ننشىء عليه أجيالا أخرى ربما كانت أصدق منا يقينا وأعمق أيمانا وأجدى إلى تحقيق النصر وأقرب إلى بلوغ الفوز العني!!. أحب أن أقول للشباب: عليكم أن تشعروا أعداءكم بأنكم طلاب آخره لا طلاب دنيا، عليكم أن تشعروا أعداءكم بأننا لا نطلب حكما لنرتع فيه، ولا نشتغل بسياسة لنكسب منها، إننا خدم للقيم ولشعب الإيمان، فمن استمسك بهذه القيم وأحيا هذه الشعب فنحن من ورائه نخدمه ونؤثر أن نكون جنودا مجهولين لا نبتغى مالا ولا جاها لأن الله علمنا فى كتابه أن الدار الآخرة ليست لطلاب المال والجاه (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). أيها الشباب: إن القاهرة كانت عاصمة الإسلام، ولا تزال عاصمة الإسلام، وستبقى بعون الله إلى آخر الدهر عاصمة الإسلام تصدر الثقافة الصحيحة وتنشئ الأجيال المضحية، وعلى مناكب الشباب الجلد النقى الطهور ومن هؤلاء الاخوة الذين حموا الإسلام فى قرون مضت سوف يكسب الإسلام معارك أخرى إن شاء الله فى أيام مقبلة. إننا لن ننسى أبدا أن قوى الشر تتربص الدوائر بالإسلام وتظن أنها ربما نالت منه لبأساء أو ضراء نزلت بأهله، ولكن هيهات هيهات مهما طال المدى فإلى الحق المصير. اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خر، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم). ص _181(5/164)
نظرات في سورة "يس" خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص فى سنة ص 73 م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فسنتدبر الآن سورة من سور القرآن الكريم، نشرحها على طريقتنا فى التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، هذه الطريقة التى نرسم بها صورة مجملة للسورة تبين ملامحها وتستكشف الخيوط التى تشد أولها إلى آخرها وآخرها إلى أولها، وتبين لنا المحور الذى تدور عليه السورة كلها. والذى نبدأ تدبره هذه الساعة ـ مستعينين الله جل جلاله ـ سورة يس، وهى سورة تستغرق نحو خمس صفحات فى المصحف، وهى تتكون ـ بعد دراسة عميقة لها ـ من مقدمة تتناول الرسالة وصاحبها، وثلاثة فصول تستوعب الأدلة على صدق هذه الرسالة. ص _182(5/165)
أما المقدمة فقد بدأت بقسم: (يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم * تنزيل العزيز الرحيم) وهناك علاقة بين المقسم به والمقسم عليه، فالقسم هنا قسم بقوة الدليل على صدق القضية، قسم بوضوح الحجة على وجاهة صاحبها الذي جاء بها، قسم بما في القرآن على أن الذي تنزل عليه القرآن مرسل حقا من عند الله جل شأنه هذه العلاقة مطردة في كثير من أقسام القرآن يراها من يراها وتغيب عمن نغيب عنهم.. عندما فسر الشيخ محمد عبده رحمه الله سورة الضحى- وكانت السورة قد نزلت. بعد فتور الوحى وانقطاعه أمد طال أو قصر- قال: اختار الله القسم بهذين الوقتين: (والضحى * والليل إذا سجى) إشارة إلى أن وقت الضحى وقت تألق للنور فهو يشبه ساعات الوحى، وأن وقت الظلمة بالليل وقت وحشة وسكون فهو يشبه انقطاع الوحى!!. وترى ذلك أيضا في قوله تعالى: (والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى) فإذا كانت السورة تتحدث عن معراج النبى إلى ربه فإن هبوطه بعد استغراقه في التجلى الإلهي يشبه عودة الكوكب المنطلق إلى مكانه في الأرض مرة أخرى!!. قال تعالى: (يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم * تنزيل العزيز الرحيم) إن ما في القرآن من حكمة وما فيه من استقامة دليل على أن صاحبه ليس كاذبا إنه مرسل من لدن العلى القدير ليأخذ بنواصى الناس إلى الحق، وليصف أقدامهم على الطريق القويم، وليجعل مهم ناسا أهدى طريقا، وأقوم قيلا، وأشرف غاية، وأهدى سبيلا، وتنزل القرآن من الله جل شأنه الموصوف بالعزة والرحمة لتنضح هذه المعافي على الأمة التى تحمل الرسالة على الرسالة نفسها، كأن الرسالة من لدن العزيز الرحيم تقدم للبشر ص _183(5/166)
ما يحتاجون إليه من كرامة وعزة، وتقدم أيضا لهم ما يفتقرون إليه من رحمة وسكينة. وذاك ما يسره الله للعرب، وكانت العرب يومئذ أمة ما ورثت عن آبائها إلا الجاهلية الطامسة، وما أخذت عن آبائها إلا الحيرة والوثنية (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون * لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون). والناس أمام دعوات الإصلاح ورسالات الحق فريقان: بعضهم مرن يحسن أن يتدبر ما يعرض عليه وأن يستبين وجه الصواب فيه وأن ينخلع من تقاليده التى كبلته ليذهب مع الدين الجديد حيث يذهب به. وهناك ناس آخرون يعيشون في عالم من السدود والقيود كأنهم رمى بهم في سجن ضيق فأبصارهم مهما تحركت لا تعدو السدود التى حولهم من يمين ويسار ومن فوق ومن تحت: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون * وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون * وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم). ولقد تضمنت السورة بعد هذه المقدمة ثلاثة فصول تعرض الدلائل التي تشرح الصدور، والبراهين التى تقيم العوج وترتفع بالنفس الإنسانية إلى مستوى اليقين العاقل والإيمان الواعى: أما الفصل الأول فدليل تاريخى يعرض موقف الأنبياء وموقف الناس من دعواتهم. وأما الفصل الثانى فدليل عقلى يحرك الفكر الخامد وينظم له المقدمات التى يعرف بها ربه. وأما الفصل الثالث فدليل تربوى يعتمد على الآخرة وأنها حق وأن ما يعقبها من ثواب أو عقاب ينبغى أن يلتفت الناس إليه حتى لا تستبد بهم خرافة طائشة أو مقالة ضالة. ص _184(5/167)
الدليل الأول: دليل يتصل بالماضى قريبه وبعيده. الدليل الثانى: دليل يتصل بالحاضر المعاصر الذي نعيش فيه. الدليل الثالث: دليل !تصل بمستقبل الإنسانية وما أعده الله للأخيار والأشرار جميعا. وبذلك تكون السورة- في فصولها الثلاثة بعد المقدمة- قد تعرضت للزمن كله: ما مضى وما ينتظر وما نعيش فيه. بدأ الدليل الأول بقوله تعإلى: (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون * إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون * قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون) أساس القصة يعطى شيئا من الحقائق التى نحتاج إليها فإن الرسالة التى انفردت بالعموم زمانا ومكانا هى رسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أما الرسالات التى سبقته فهى رسالات محلية موضعية، يرسل النبى من الأنبياء إلى قرية بل يرسل عدد من الأنبياء إلى قرية واحدة؟ في هذه السورة، إذ نجد اثنين من الدعاة إلى الله بُعث بهما معا إلى قرية واحدة، فلما كُذِّبَا قال الله: ( فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون ) فكان جواب أهل القرية: لستم مرسلين، انتم ناس لا تزيدون علينا ولا تنقصون، لا صلة لكم. بالسماء، ما تقولونه دعوى مرفوضة: ( ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون) كان رد المرسلين على هذا التحدى أو هذا التصدى (قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون * وما علينا إلا البلاغ المبين). وظيفة الرسل: التعليم ـ تعليم الجاهل. وظيفة الرسل: التبليغ ـ تبليغ الذاهل. وظيفة الرسل: تغيير النفس الإنسانية تغييرا يجعلها تعرف الحق وكانت تجهله، نعرف الله معرفة صحيحة وكانت إما عاجزة عن هذه المعرفة وإما تعرفه معرفة فيها خطأ وصواب. لكن كثيرا من الناس خصوصا خدم الباطل المنتفعين من الأوضاع ص _185(5/168)
الجائرة المرتزقين من المظالم القائمة، هؤلاء لا يدعون كلمة الحق تمضى إلى آذان المستمعين لأنهم يخشون أن يصحو النيام وأن يعتدل المنحرفون، ولو كان أهل الباطل يطمئنون إلى ما عندهم لتركوا أهل الحق يقولون ما لديهم ولكنهم ما يطمئنون إلى ما عندهم ولذلك سرعان ما قالوا لأهل الحق : ( إنا تطيرنا بكم) تشاءمنا منكم: (لئن لم تنتهوا ) عن البلاغ (لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم) كان جواب المرسلين : (قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون). ويعرض القرآن الكريم هنا مثلا لجندى مجهول، لم يذكر القرآن اسمه لأنه يريد أن يستبقي هذا الاسم عند الله حتى يكون نموذجا للناس الذين يحبون أن يعملوا بعيدا عن الضوء زاهدين في الشهرة راغبين عن الهتاف وعن التفاف الجماهير. رجل مجهول الاسم ولكنه عند الله معروف المكانة رفيع الدرجة. رجل مجهول الاسم ولكنه في حماسه للحق وفي إيمانه بالدين وفي تأييده للمرسلين تحرك من أقصى المدينة لينصر الرسالة التى شعر بأن الحق فحواها وأن الهدى معناها: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون) هؤلاء ناس ما يطلبون من أحد ثمنا على موعظة تلقى أو نصيحة تؤدى أو حق يعلم. ثم يتحدث عن نفسه فيقول : (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون * أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون * إني إذا لفي ضلال مبين * إني آمنت بربكم فاسمعون). هذا حوار أداره الرجل بينه وبين نفسه وبينه وبين الناس واستحياه القرآن ليسمعه أهل مكة قديما ولتسمعه البشرية عل امتدادها مع تاريخ الحياة فوق هذه الأرض حتى يكون للتوحيد أساسه الحقيقى. ما الذي يربطنى بغير الله- كما يقول الإمام زين العابدين- إنها لمأساة أن يدعو فقير فقيرا وأن يتعلق محتاج بمحتاج. ص _186(5/169)
أنت فقير تعلق بالغنى، أنت محتاج تعلق بمن لا يحتاج إلى أحد ويحتاج إليه كل أحد، هذا المعنى هو الذي أودعه النبى في حديثه الصحيح: "اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " . إذا فلتسقط الآلهة كلها وليبق على عرش القلوب المؤمنة الإيمان برب العالمين وحده، ما تتجه إلا إليه ولا تعبد الا إياه، هكذا تعلم الناس من هذا الدليل: (إني آمنت بربكم فاسمعون). قيل في روايات التاريخ: ان أهل القرية قتلوا الرجل ورفضوا ما عنده وبداهة كانت المسافة بينه وبين الجنة مسافة الانتقال من الحياة إلى الموت، في لحظه واحدة ينتقل إنسان من شارع ما في شوارع القاهرة، من حارة ما في إحدى القرى، من مساحة ما في إحدى الميادين ينتقل من دنيا مغبرة إلى جنة عرضها السماوات والأرض يمرح فيها ويسترح: (قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين). هل احتاج القتلة إلى جيش يؤلف وتعبأ قواه لينتقم منهم؟. لا، هم أهون على الله من هذا: (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون * يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون * ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون * وإن كل لما جميع لدينا محضرون). هذا هو الفصل الأول من السورة وهو مع المقدمة يستغرق نحو صفحتين وتبقى من السورة ثلاث صفحات تضمنت فصلين آخرين: ص _187(5/170)
الفصل الأوسط حديث معاصر ترك الماضى فلم يتحدث عنه ولم يتحدث أيضا عن المستقبل، إنما قال للناس: ألا يفكر أحدكم في الأكل الذي يتناوله، كيف نبت؟ ومن الذي صنعه له؟ إن الرغيف يقع في يديك فتمزقه كى تلتهمه، أفكرت كيف كان هذا الرغيف حبوبا في سنابل القمح أو حبوبا في كيزان الذرة أو حبوبا في سنابل الأرز؟ هل فكرت كيف انشق الوحل والطين عن الورود والرياحين؟ هل فكرت كيف تحولت التربة الهامدة إلى أشجار شامخة ونخيل باسقة وثمار تتدلى؟. قال تعالى: (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون * وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون * ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون ).. ثم إن ولدا لا يتكون في بطن أمه إلا من ازدواج، وإن ثمرة لا تتكون إلا من ازدواج بل ان الذرة تتكون من عناصر مزدوجة، وليس هناك من تفرد في كيانه وتوحد في ذاته إلا رب العالمين: (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون). هذه آية، وآية أخرى. (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) إن أى سياحة مع علماء الفلك تجعل الإنسان يتضاءل في مكانه ويشعر بحقارته على ظهر هذه الأرض بل ويشعر بحقارته علي ظهر هذه الأرض كلها إذا قيست الأكوان بأحجامها. ان أى دارس لعلم الفلك يعلم أن الأرض والمجموعة الشمسية كلها شئ ضئيل في كون كبير وأن الأرض لو تبددت في الفضاء وتلاشت فلم ص _188(5/171)
يبق عليها كافر ولا مؤمن ما نقص الملكوت الإلهى شيئا طائلا: " يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكى شيئا، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا". وآية ثالثة: (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون * وخلقنا لهم من مثله ما يركبون * وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون * إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين). الذي يقرأ السورة يجد أن الدليل العقلى امتد وتسلل إلى الدليل الثالث والأخير وهو الدليل الذي يسوقه القرآن الكريم ويكثر من عرض مشاهده لأمر واحد هو: نحن البشر غارقون في مطالبنا ومآربنا فقلما نتفصى منها ونتخلص من قيودها كى نعيش في عالم الحق لحظات ترتفع بنا ونعتز بها، ولذلك يلح القرآن الكريم على البشر بوصف الجنة حتى لا يزهدوا فيها وبوصف النار حتى لا يتجرأوا لمحليها، ويلح القرآن الكريم عليهم بمشاهد البعث والجزاء ويبين أن ذلك سوف يقع لهم وهم منغمسون في تجاراتهم أو في صناعاتهم أو في أحوالهم المعاشية، التاجران يبسطان الثوب بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه وتقوم الساعة: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين * ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون * فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون * ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون). ص _189(5/172)
وختمت السورة بهذا الدليل على البعث وصدقه: (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) تستطيع ان كنت حافظا للقرآن أن تغمض عينيك ثم تتأمل علام تدور سورة يس، تستطع إذا كنت غير حافظ للقرآن أن تعود إلي مصحفك ثم تقرأ سورة يس وقد عرفت كيف أن أولها تمهيد لآخرها وكيف أن آخرها تصديق لأولها وكيف أن هناك خيوطا خفية تشد معاني السورة وتبين حقائقها، وبذلك نحسن فهم القرآن ونحسن تدبره والانتفاع به. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _ ص 0
الخطبة الثانية الحمد لله( الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين.. وأشهد أن محمدا خاتم النبيين وإمام المرسلين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فالقرآن كنز مشحون بالهدايات ملئ بالخيرات، القرآن أوجد من العدم أمة كبيرة، وقد ثبت أنه يستحيل أن تقوم نهضة تشق طريقها في الحياة وتزحف نحو مستقبلها البعيد وهى راسخة وقوية ومتفائلة وناجحة إلا إذا كان لها مهاد معنوى يمدها بالقوة والأمل، وقد كان القرآن الكريم أساس انطلاق العرب من جزيرتهم التى عاشوا فيها زمنا كما وصف القرآن في هذه السورة: ( لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون * لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون). لكن هذا القرآن حول الغفلة إلى يقظة، حول الجمود إلى حركة، حول الموت الأدبى إلي حياة !!. هذا ما يصنعه القرآن، لكن كيف يصنع القرآن هذا؟ بآيات تعلق على الجدران؟ بقراء يستجلبون في سرادقات الموتي؟. لا، تقول سورة يس: (لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين). على المسلمين أن ينشئوا علاقة جديدة بالقرآن.. وأن يؤسسوا صلات ص _ ص 1(5/173)
ذكية بهذا الكتاب حتى يستطيعوا أن يحيوا وأن يؤدوا واجبهم وأن يعودوا سيرتهم الأولى رجالا كبارا وشعوبا محترمة. " اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير،. واجعل الموت راحة لنا من كل شر". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _ ص 2
نظرات في سورة الزمر خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص في 29/6/ ص 73 م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهدأة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فبعون الله نلقى نظرات في سورة الزمر، والزمر جمع زمرة وهى الجماعة.. والقارئ العادي لسورة الزمر يرى أن اسمها ربما اخذ من آخر ما ورد في السورة من تقسيم الناس إلى قسمين: قسم يذهب إلى جهنم: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا ) وقسم يذهب إلى الجنة: (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا) إلا أن القارئ المتدبر الذي ينم النظر في السورة الكريمة يرى أن اختلاف الناس زمرا وانقسامهم جماعات والمقارنة بين مبدأ كل جماعة وطريقها ونهايتها وبين الجماعات الأخرى المقابلة لها يرى أن هذا التقابل موجود في السورة كلها. قال تعالى: (فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين * والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون). ص _ ص 3(5/174)
وقال تعالى: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين * وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون). فهذه آيات ـ في السورة ـ ذكرت حال الحزبين أو الفريقين أو الزمرتين وقد تكرر ـ في السورة ـ أمر المقابلة بين العمى والبصر، وبين الحق ـ والباطل، وبين الشرك والإيمان، وسنقف ـ إن شاء الله ـ أمام هذه المقابلات وقفات متأنية نتدبر ما أودع الله فيها من عبرة وما بث في ثناياها من حكمة ورحمة. إلا أننا نريد ـ الآن ـ أن نعرف المحور الذي دارت عليه السورة كلها قبل أن نستعرض بتفصيل هذه المقابلات وما يعقبها من شروح.. هذه السورة تقوم على: تصحيح المعتقد وتنقية الإيمان من الشوائب التى علقت به وإخلاص التوحيد الله.. قامت السورة كلها على هذا المعنى، وهى في وفائها بحقه ودورانها حوله ومجادلتها أصحاب الأوهام والنقائض والخرافات دونه، هى بهذا جزء من القرآن الكريم الذي أنزله الله ليحق الحق ويبطل الباطل في شئون الناس جميعها. القرآن الكريم كتاب إذا قورن بغيره- فرضا- وجدناه أعمر الكتب بالأدلة التى تنافح عن وجود الله وكماله، وأحرَّ الكتب أسلوبا في دفع الناس إلى حب الله واليقين فيه والاعتماد عليه. القرآن الكريم كتاب الحقائق مصفاة منقاة لا شائبة فيها، ولو أن أى إنسان رزق الحياد المطلق ثم قيل له: اقرأ هذا الكتاب فإنه يتحدث عن رب العالمين واقرأ غيره إن شئت وقارن، فإنه عندما يقرأ القرآن الكريم سيجد حديثا عن الله مفصلا معقولا، ويجد براهين مستخلصة من مقدمات رتيبة، ويجد أن منهج القرآن في إثبات العقائد وفي غرسها وتجميع الناس عليها وفي مناقشات غيره ممن ذهبوا مذهبا آخر غير ما شرح يجد أن القرآن الكريم في هذا كله بلغ مدى يستحيل أن يقترب منه غيره. ص _ ص 4(5/175)
وهذا هو السر في أن الآية الأولى من هذه السورة نزلت تقرر هذه الحقيقة: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين). لابد من استعراض لأحوال الناس في علاقاتهم بالله، وقد استعرضت الآيات هنا هذه الأحوال: (فاعبد الله مخلصا له الدين * ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار * لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار). هناك ناس لا يؤمون بألوهية، يرون الكون مقطوعا مبتورا ليس له صاحب ولا مدبر ولا موجد، كان الإلحاد بهذا الوصف مرضا يصيب بعض الأفراد قديما، ولكنه الآن أصبح مرضا شائعا قامت باسمه دول عظيمة- كما توصف- لها قوى ضخمة في البر والبحر والجو. وهناك- في أمريكا وغرب أوربا- ناس لا دين لهم، يؤمنون بالمادة وحدها، ويعيشون لأهوائهم فوق هذا التراب، وأكثرهم ينكر الألوهية ويغفلها ويبعدها من طريقه، فهو يرسم خطته في الحياة وفق دماغه. وهناك من يؤمن بألوهية، لكن هذه الألوهية قد تكون نتاج عمل عقلى ناقص، وذلك كإيمان بعض الفلاسفة الإلهيين مثل " أرسطو "، فهو يتصور الإله الذي خلق السماوات والأرض مستغرقا في تفكير ذاتى مشغولا بنفسه وآفاقه عما عداه، فهؤلاء لا يدرون شيئا مما يقع في الأرض ولا يعرفون ما هنالك. " وهناك نوع من التدين الأرضى والسماوي فمثلا اليهود يرون أن الله ص _ ص 5(5/176)
الذي خلقهم خلق العالم من أجلهم أو خلقهم في العالم ليحتكروه ويكونوا سادته !!. ومن تبجحهم أنهم أثبتوا في العهد القديم أن أباهم يعقوب أخذ لقب إسرائيل بعد أن صارع الله طول الليل وكاد يغلبه، وإنما أنقذ الإله نفسه بأن أعطاه لقب إسرائيل !!. وهناك من انتزع من ذات الله جزءا، وزعم أن هذا الجزء ولد لله، واعتبر هذا الولد حينا آلها وحينا آخر ابن إله أو شبه إله أو ما إلى ذلك مما حير الأفهام واستحال أن يوجد له تفسير واضح معروف !!. وهناك مشركو العرب الذين كانوا يعلمون أن الله موجود وأنه حق ولكنهم يقولون: إن الاتصال بهذا الإله مباشرة شئ صعب، وهناك أولاد لله يمكن الاتصال بهم فيقربوننا منه ويكونون شفعاء لنا عنده !!. أما الإسلام فقد جاء بعد هذه الأوهام الكثيرة، والمزاعم المختلفة وقال: إن الله واحد لا شريك له، وقال: إن ما عدا الله من أشخاص أو أشياء عبيد له ليس لهم مع الله شيء وأفضلهم قدرا وأكثرهم أجرا هو أشدهم إخلاصا لله، تعبدا له واستغراقا في طاعته وابتعادا عن مخالفته. بين الإسلام أن قصة أن لله ولدا قصة سخيفة : (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار). ليس لله ولد، ما عدا الله عبد له، خلقه من عدم ودبر أمره وأفقره إلى ذاته أبد الآبدين، فما يستغنى بذاته عبد أبدا وإن كان نبيا أو ملكا، ص _ ص 6(5/177)
من العردق الى الفرش كل شىء عاني وجهه دئة، ذليل في ساحته، مقهور له، مغلوب على أمره لأنه عبد، ولو كان الله يريد أن يكرم أحدا لكرم من شاء لكن ولادة وبنوة لا. على هذا النحو بدأت سورة الزمر: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين * ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار * لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار). ولما كان المسلمون الآن تجرى بينهم بعض الخلافات في دعاء الله فإنى أحببت أن أذكر كلام العلماء في معنى التوسل، قال العلماء: تذكر كلمة الوسيلة وتقصد بها معان خمسة: أما المعنى الأول/: فهو التوسل إلى الله بذاته وصفاته وأسمائه الحسنى. وهذا النوع من التوسل لاشك في قبوله وصحته، ومنه هذا الدعاء: " اللهم إلى أسألك بأنى أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " . ومنه هذا الدعاء أيضا: " اللهم إنى عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتى يمدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو ص _ ص 7(5/178)
استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبى ونور صدرى وجلاء حزنى وذهاب همى " . أما المعنى الثانى: فهو التوسل إلى الله بالعمل الصالح، وهذا النوع من التوسل مقبول يقينا، وهو مفهوم من قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون) فإن الوسيلة هنا تعنى العمل الصالح. وقد جاء في السنة الصحيحة أن ثلاثة آواهم الغار وانسد فمه وهم في داخله فلم يروا إلا أن يتوسل كل منهم إلى الله بأفضل ما قدم من عمل، وفعلا توسل الأول ببره بوالديه، وتوسل الثانى بعفافه، وتوسل الثالث بعدله، فكشف الله عنهم وخرجوا يمشون . ص _ ص 8(5/179)
أما المعنى الثالث: فهو التوسل إلى الله بدعاء الصالحين، وهو أن تقول لمن شئت أو يقول لك من شاء: ادع الله لى، وهذا النوع من التوسل لا خلاف بين العلماء في صحته وقبوله، ونحن جمهور المسلمين ندعو الله لنبينا عليه الصلاة والسلام ولمن سبقنا من المؤمنين، وروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه: (أنه استأذن النبى في العمرة فقال: أى أخى أشركنا في دعائك ولا تنسنا) ، وقد كان المسلمون عندما يقع لهم شئ من الضيق يطلبون من النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الله لهم، وحدث كما يقول أنس بن مالك أن "أصابت الناس سنة على عهد النبى - صلى الله عليه وسلم - فبينا النبى - صلى الله عليه وسلم - يخطب في يوم جمعة قام أعرابى فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسى بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل من منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته - صلى اللهع عليه وسلم - فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الأعرابى أو قال غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء، وغرق المال فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: "اللهم حوالينا ولا علينا " فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت وصارت المدينة مثل الجوبة ص _ ص 9(5/180)
وسال الوادى قناة شهرا، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود . وعن أنس " أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون " . أما النوع الرابع: فهو التوسل إلى الله تعالى بحق أو بجاه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو ممنوع عند جمهور العلماء لأنه لم يقع من الصحابة رضى الله عنهم في الاستسقاء ونحوه لا في حال حياة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا بعد موته ولم يثبت في دعاء من الأدعية الصحيحة، والدعاء عبادة أساسها التوقيف. وقال الذين قبلوا هذا اللون من التوسل بل وُجد في السنة " أن رجلا ضرير البصر أتى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : ادع الله أن يعافينى، قال: " إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك" ، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إلى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة، إنى توجهت بك إلى ربى في حاجتى هذه لتقضى لى، اللهم فشفعه فيَّ " وهذا الحديث وإن كان ضعيفا إلا أنه روى من نحو أربعة عشر طريقا. أما النوع الخامس : فهو دعاء غير الله، وقد اتفق العلماء على رفضه لأن الدعاء عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله . ص _200(5/181)
على هذا النحو يمكن أن ندرك الحقائق في عقيدة التوحيد عندما نقرأ قوله تعالى: (ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ). والكاذب الكفار- هنا- من افترى على الله ما لم يقله، أو من افترى على الله آلهة ليست معه، فكل كذب على الله يعتبر صاحبه محروما من توفيق الله ومن فضله. بعد أن بينت السورة أن الله هو رب العالمين وأنه الخالق وأن ما عداه مخلوق وأن الأمر كله إليه وأن الحكم كله منه بعد أن بينت هذا حركت في كل إنسان عقله الذي يفهم به ويخاطب به ويرتفع أو ينخفض به، وقد لوحظ أن السورة ذكرت " أولى الألباب " ثلاث مرات في خلال خمسة عشر سطرا منها. قال تعالى: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب). وقال تعالى: (فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب). وقال تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب). هذا الإيقاظ لأولى الألباب يعنى أن التدين يوم يكون مناقضا للعقل فإن هذا التدين يسقط، هذا الكلام المتكرر عن أولى الألباب يعنى أن الإسلام عقدا صلحا بين العلم والدين، لأن العلم والدين في نظر الإسلام كل منهما يكمل الآخر ويترجم عن جانب من الحقيقة الكونية في الأزل والأبد. ص _201(5/182)
معنى هذا أن السورة التى قامت على إخلاص التوحيد أو على تصحيح العقيدة أرادت أن تقول للإنسان: إنك أيها الإنسان مخلوق لك ناحيتان : ناحية مع الله- سلبية- تقف بين يديه خاضعا تسمع منه ولا تقترح عليه، تنتظر منه أن يوجهك هو بوحيه، تطلب منه لأنك فقير وهو غنى، لأنك ضعيف وهو قادر. هذه ناحية، وناحية أخرى إيجابية، فأنت عبد لله سيد للكون، ملك في العالم، العناصر تحت يديك، البر والبحر والجو من مملكتك، كرمك الله في هذا الملك الواسع وجعلك سيد هذا الكون على أن تكون عبدا لرب الكون. هذا المعنى هو ما قامت عليه سورة الزمر، صححت العقيدة، وبينت أن الله الفرد الصمد ليس له ند ولا ضد وعلمتنا إذا عبدناه ودعوناه أن نلجأ إليه وحده ولا نلجأ إلى غيره، وعلمتنا في مجتمعنا أن نحل ما أحل وأن نحرم ما حرم وأن نحتكما إلى القوانين التى شرعها. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _202(5/183)
الخطبة الثانية الحمد لله ( الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا اله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا خاتم النبيين وإمام المرسلين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد:. عباد الله: أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل، واعلموا أيها الناس أن الإسلام لا يزال دينا مجهولا في العالم كله حينا وبين أتباعه حينا آخر. أما في العالم فقد قال لى أحد القادمين من أوربا إنهم عندما كانوا يسمعون منى احتراما لعيسى يستغربون ويقولون: هل الإسلام يحترم عيسى؟. إنهم لا يعلمون أن الإسلام يصف عيسى بأنه سيد وشريف ووجيه في الدنيا والآخرة، والسبب أن الأجهزة الصليبية الاستعمارية ناشطة في الكذب على الإسلام، وليتها وجهت نشاطها في محاربة الانحلال والإلحاد الذي ملأ أوربا وأمريكا، إنها تنسى هذأ كله وتشمر عن ساعديها لضرب الإسلام وحده !!. لكن المشكلة أن المسلمين أنفسهم لا يعرفون دينهم معرفة صحيحة، وكثيرا ما يجيء بعض إخواننا هنا لكى نجعل بعض الخلافات الفرعية مجالا للحديث على هذا المنبر، وهذا مستحيل، فلله المنة على العبد الذي يتكلم، ص _203(5/184)
بينكم اننى أوتيت رشدى، إننى لست مجنونا حتى أتكلم في خلافات فرعية أو فقهية أو أمور جزئية ممكن أن تحل برفع المستوى العلمى للمسلمين. إن أعداء الإسلام تميزوا بالعلم الواسع في الدنيا وبالبراعة الهائلة في الإنتاج وبالقدرة على رسم الخطط، ونظروا للمسلمين كما ينظر بعض الفلاسفة إلى جماعات من الصبية في الحارة، فهو يلعب بهم أو يسخر منهم أو يغرى بعضهم بالبعض الآخر أو يشغلهم بشيء من العبث يصرفهم عن مستقبلهم وعن حياتهم وعن غدهم القريب والبعيد!!. نريد أن نعقل من نحن؟ وما رسالتنا؟ وأين نحن في دنيا الناس؟ ومن أعداؤنا؟ وما بيتوا لنا؟ وما يمكن أن نتجاوز عنه من خلافات فرعية يمننا حتى نستطع أن ننقذ أنفسنا؟. إن الشيوعية العالمية والصليبية العالمية والصهيونية العالمية إن كل هذه القوى شحذت سكينها لتجهز على العرب والمسلمين، فإذا لم يستيقظ العرب الآن فمتى يستيقظون؟ بعد الذبح؟ بعد الذبح لا يقظة إلا في جهنم وبئس القرار؟!. يجب أن نكون كما وصف الله المؤمنين القدامى: (أشداء على الكفار رحماء بينهم) فإن وصف المسلمين الآن أنهم رحماء بالكفار أشداء بينهم!!. نريد أن نعرف من نحن؟. وما مستقبلنا؟. فإن كل شئ يتجه على عجل لوأدنا والإجهاز علينا فإلى متى نبقى غفلتنا؟. ص _204
" اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا أخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _205(5/185)
نظرات في سورة الزمر(2) خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص في 6/7/ ص 73 م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهدأة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فقد شرحنا في الجمعة الماضية صدر سورة الزمر، ومع التفسير الموضوعى للقرآن الكريم نمضى في استكمال هذه السورة المباركة آملين أن يجعلنا الله ممن قال فيهم النبي!. " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " . إن سورة الزمر-كما أبنا- تقوم على محور واضح هو إخلاص التوحيد لله، ونفي النقص، وإثبات الكمال لله في جميع الشئون.. والمؤمن يدرك من أعماق قلبه أن الله جل شأنه هو الأحد. الممد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ما من شئ إلا وهو خالقه، وما من خير إلا وهو سائقه، وما من ضوء إلا وهو مشرقه، وما من رزق إلا وهو رازقه، وما من أمر إلا وهو مدبره، والله سبحانه وتعالى يسبح كل شئ بحمده، ص _206(5/186)
ويهتف بمجده، ويعنو أمام وجهه، ويشعر بالذل في ساحته، أكرم منزلة للإنسان أن يكون بين يدى ربه راكعا أو ساجدا يقول: سبحان ربي العظيم أو سبحان ربي الأعلى !!. وقد تضمنت سورة الزمر مقارنات بين الفريقين: الفريق الذي آمن ووحَّد ونزَّه وانتقل التوحيد في حياته من التوحيد في العقيدة إلى التوحيد في العمل والسلوك فأصبح مؤمنا ظاهرا وباطنا. والفريق الذي اختلطت عليه الأمور وتوزعته الأهواء في كل ناحية. في سورة الزمر سبع مقارنات بين الفريقين، نريد أن نذكرها ثم نرى التعقيب القرآنى عليها، وقبل أن نذكرها نريد توجيه الأنظار إلى إشارة بلاغية في هذه المقارنات، فأحيانا يحكى القرآن المقارنة بين الطرفين فيثبت الطرفين معا، وأحيانا يذكر طرفا ويسكت عن الطرف الأخر. المقارنة الأولى : (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب). أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه كمن هو نائم ملء أجفانه لا تؤرقه فكرة ولا يزعجه عن الكسل والخمول والخنوع إيمان أو تهجد أو رغب في طاعة الله؟ أيستوي الكسول والنشيط؟. أيستوي الخامل والناهض؟. أيستوى من طهر فمه بتلاوة القرآن ومن أغلق فمه فلم يتل حرفا؟ والواقع أن المجتمع المتدين يفرقه عن المجتمع الملحد فارق، فإن الإنسان منا قد يكون في كيانه فضل نشاط وزيادة حركة فلا يكفيه النهار حتى يضم إليه الليل، فإن كان المجتمع مؤمنا كان نشاطه الليلى أبيض، يصرفه في قيام الليل وأداء العبادات ومناجاة الله، وأما إذا كان المجتمع منحلا أو ملحدا فإن نشاطه بالليل يَحْمرُّ من الأعراض المذبوحة والحرمات المسفوكة والحدود المضيعة!!. ص _207(5/187)
ولا تزال الفوارق قائمة، فليالى المؤمنين بيضاء لآنهم يقومونها في طاعة الله، أما ليالى الفاسقين فحمراء لأنهم يذبحون الشرف فيها!!. لا تزال الفوارق قائمة، فليل المؤمن كما قال الله تعالي: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) أو كما قال الشاعر: في ظلام الليل منفردا قام يدعو الواحد الصمدا عابد لم تبق طاعته منه لا روحا ولا جسدا المقارنة الثانية: (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار). وهذه المقارنة كسابقتها حذف فيها طرف وأثبت فيها طرف، و هنا أثبت الطرف الخسيس الذي حق عليه كلمة العذاب لأنه زاغ وضل، والله. جل شأنه يجعل إضلاله عقوبة لمن استحق في تفكيره ولمن شرد في مسلكه: (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) ، (كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار). فالذي يضل ويستكبر ويتجبر ويطغى يضله الله وينسج على بصيرته غشاوة سوداء، وعندئذ لو تجمع أهل الأرض على استنقاذه من ضياع الدنيا وبوار الآخرة لعجزوا عن أن ينجوه من بطش الله!!. أفمن حق عليه كلمة العذاب لأنه تكبر وطغى فأضله الله وأذله كمن عاش على نحو آخر استحق به أن يلهمه الله رشده وأن يتم له نوره وأن يحفظ عليه نعمته؟. هذه المقارنة يدل عليها ما ذكر بعدها مباشرة : (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد). المقارنة الثالثة: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين) ص _208(5/188)
وهذه المقارنة كسابقتها ذكر فيها طرف وحذف فيها طرف إلا أن الذى ذكر هنا هو النوع الطيب والذى طوى النوع الخبيث؟!. ما الذى تعنيه كلمة (فهو على نور من ربه ). يمكن أن تعنى هذه الكلمة أمرين: الأمر الأول: أن الكافر يأكل فلا يدرى من رزقه، ويشرب فلا يدرى من سقاه، ويكتسي فلا يدرى من ستره، ويصح ويرزق العافية فلا يدرى من أسبغ عليه خلل العافية ومنحه ما يستمع به من قوة فى حواسه ومشاعره، وفى هذا النوع من الناس يقول الله تعالى: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون). أما المؤمن فإنه يأكل ويشكر، يعرف أن ما عنده من فضل هو خير الله ساقه إليه، كان النبى إذا فرغ من طعامه قال: " الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين " . وقال: " من لبس ثوبا فقال: الحمد لله الذى كساني هذا ورزقنيه من غير حول منى ولا قوه غفر له ما قدم من ذنبه وما تأخر ". المؤمن الذى علي نور من ربه يدرك أن ما فيه هو أمر الله وخيره وفضله، فإن كان يرضيه شكر، وان كان يتعبه صبر لأنه على نور من ربه لأنه يعرف أن كل شىء من الله. المعنى الثانى للنور: أن المؤمن المستنير فى حياته يجعل هواه تبعا لما جاء به الإسلام فهو إذا أمر الله قال: لبيك أنا أول من يطيع، وإذا نهي الله قال: أنا أول من يجتنب، إذا كان هناك لله حد كان أول من يحفظه، وإذا ص _209(5/189)
كانت هناك وصية كان المنفذ المحب لها، فهو في الحلال والحرام وفي الخير . والشر وفي الأمر والنهى يمشى متبعا أمر الله مستنيرا بتعاليمه صافا قدميه على الصراط المستقيم وماضيا إلى الهدف لأنه على نور من ربه (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها). هذه الآية ذكرت الطرفين: الذي في الظلمات ليس بخارج منها، والذي استنار بأمر الله، أما آية الزمر فقد ذكرت طرفا وطوت الطرف الآخر: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ) أى كمن هو في الظلمات ليس بخارج منها؟. ونلاحظ أن القرآن الكريم يتحدث فيه رب العزة عن قيمة هذا القرآن في أعقاب كثير من المقارنات، وهنا يقول الله : (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد). ومعنى هذا أن القرآن خير الكتب لأنه كتاب لا ريب فيه، وهو أحسن الحديث لأنه لا خداع فيه ولا ختل ولا كذب فيه ولا انحراف.. وكلمة " متشابها " تحتاج إلى شرح، ففي سورة آل عمران يقول الله: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات). المحكم هنا: ما تحدث عن العقائد والأخلاق والأحكام والعبادات والفضائل وما إلى ذلك، وهو أم الكتاب لأن التكليف به ولا يتحمل آراء شتى. والمتشابه هنا: ما تحدث عن الله وذاته وصفاته، ولما كان العقل الإنسانى قاصرا بطبيعته عن أن يدرك أبعاد ما وراء المادة فإن الحديث في المتشابه رفض، وقد قيل: إن العقل يدرى الكثير ولكنه لا يدرى نفسه ما هو، كما أن الأسنان تقضم الطعام ولكنها لا تقضم نفسها؟!. ص _210(5/190)
هذا هو المحكم والمتشابه في سورة آل عمران، لكن قد يطلق على القرآن كله أنه محكم، وقد يطلق على القرآن كله أنه متشابه، ومعنى أن القرآن كله محكم أنه محبوك الصياغة دقيق المعانى، يستحيل أن يتطرق إليه تناقض أو أن يتسلل إليه لغو أو وهم، ومعنى أن القرآن كله متشابه أنه يهدى الناس إلى حقائق محددة ويجرى إلى غايات معينة، ففي سورة يونس يقول الله سبحانه: (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون). هذا المعنى الذي نزل في مكة هو هو الذي نزل في المدينة بعد عشر سنين في سورة آل عمران في قوله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) وكلمة " مثانى " تعنى أنه يتضمن الخوف والرجاء والأمر والنهى والوعد والوعيد والنعيم والجحيم وكثيرا من المتقابلات التى يحتاج الناس إليها لضبط سلوكهم وتحديد مواقفهم في دنياهم. وكلمة " تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " تحتاج إلى شرح فإن أثر القرآن- الحقيقى ليس في تصايح الحمقى وليس في هذا الجؤار الهمجى الذي يصحب تلاوة القرآن كما نرى في بعض الأماكن مما يدل على عدم الوعى وقلة الفقه، بل التأثر الحقيقى أن ترى إنسانا اخترقت الهدايات السماوية كيانه واستقرت في قلبه فجعلته خلقا آخر لأن روح القرآن شرحت صدره، ورفعت مستواه، وجعلته يحس من جلال الله ما يرتعد به بدنه أو من بشاشة الرحمة الإلهية ما يفتح أقطار نفسه على أمل كبير وخير كثير. المقارنة الرابعة : (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون). والمعنى: "أفمن يتقى بوجهه سو العذاب يوم القيامة " فتسود ملامحه، وتنطمس معالمه، ويكسو حريق النار أديم وجهه كمن يجئ آمناً يوم ص _211(5/191)
القيامة : (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم). هذا هو الفارق بين الاثنين، وهو فارق كبير، لكن هل يظلم ربك أحدا ؟ لا، ولذلك يقول بعد هذه المقارنة: (وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون). المقارنة الخامسة: (فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين * والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون). هذه المقارنة تحكى صنفين من الناس: صنفا صادقا يتبع الصدق في حياته ويهتدى بسناه في سيرته وأخلاقه. وصنفا كاذبا يتبع الضلال ويمشى في الدنيا معوج المسلك. ألطف ما في هذه المقارنة أن الله جل شأنه ـ رحمة منه بعباده وبرا منه بالمؤمنين ـ يقول: (لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ). نسأل الله أن يجعلنا ممن قال فيهم: (ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون) ثم نسمع من رب العالمين جل شأنه عتابا لعبيده، هذا العتاب يقول للعبد الفقر المسكين العاجز المحتاج: لم ذهبت إلى باب غير بابى؟ هل الباب الآخر فيه الغنى وعندى الفقر؟ هل الباب الآخر فيه قضاء الحاجات وعندى الحرمان؟. هذا العتاب يقول : ( أليس الله بكاف عبده )؟. ثم يقول الله : (ويخوفونك بالذين من دونه ) !. ص _212(5/192)
من هم الذين من دون الله؟ وما قيمتهم؟ وماذا يصنعون؟. يقول جل شأنه- مبينا قيمتهم: (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون) هذا المعنى الجليل هو الذي وعظ منه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصحابى الجليل عبد الله بن عباس رضى الله عنهما عندما قال له: " يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشىء لم ينفعوك إلا بشىء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف " . المقارنة السادسة: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين * وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون). المقارنة واضحة، الذين كذبوا على الله لهم مصير أسود، والذين صدقوا معه وصدقوه لهم مصير طيب. ومن الكذب على الله أن تشرك به، ومن الكذب على الله أن تختلق حديثا على نبيه، ومن الكذب على الله أن تبتدع خرافة من عندك ثم تجعلها دينا، وكثير من الذين ألحدوا أو انحلوا إنما ألحدوا أو انحلوا لأنهم نظروا إلى الدين لا من خلال الوحى النقى ولكن من خلال أعمال الناس الخرافية التى جعلوها دينا وليست من دين الله لا في قليل ولا في كثير. ص _213(5/193)
المقارنة السابعة : ( وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين * قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين * وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين * وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين ). وختمت المقارنات بهذه المقارنة الأخيرة إلا أنه بين المقارنات الأخيرة في السورة اطلع الرحمن على عباده ليقول لهم: من ضل يستطع أن يهتدي، ومن كفر يستطع أن يؤمن، ومن زاغ يستطع أن يستقيم، ومن أساء يستطع أن يحسن، لا تستكثر على الله ذنبك إذا نويت أن تصلح ما بينك وبينه. قال تعالى: ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ). واعلموا أيها الناس أن كل ذنب يصدر وصاحبه متشبث بربه ويرجو رحمته ويخشى عذابه ويفر من الإصرار ويطلب من ربه غفران الذنب وتكفير السيئة فإن هذا الذنب مغفور بعفو الله، واعلموا أن كل من تبجح بمعصيته وعالن بها وأراد أن يصبغ المجتمع بشرها وأن يجعلها تقليدا قائما وعادة متبعة فهيهات هيهات أن ينال ذرة من غفران الله ما بقى على هذا الضلال. ص _214(5/194)
سورة الزمر سورة جليلة استطعت بعون الله أن أعطى خطوطا سريعة تدل على مسار الوحى الإلهى فيها، يستطيع الحافظ بعد ذلك أن يراجع نفسه، ويستطع أى منكم أن يقرأ في مصحفه ليرى هذه المقارنات بعد العقيدة الأولى، ونرجو- كما قلت أولا- أن نكون ممن قال فيهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " . أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _215
الخطبة الثانية الحمد لله ( الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا اله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا خاتم النبيين وإمام المرسلين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل. واعلموا أيها المسلمون أن المسجد روح المجتمع الإسلامى، فيه يلتقى المؤمنون ليتصلوا بربهم في الصلاة الخاشعة والمعرفة المبرأة والصداقة المتحابة بروح الله جل شأنه، ثم هو مصدر التوجيه الدائم للخير والبر والعدل، ولذلك كان أول ما عنى به النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما ملك القدرة على العمل في المجتمع أن بنى المسجد في المدينة وكان أول ما صنعه عمرو بن العاص رضى الله عنه عندما قدم إلى هذا الوادى المبارك كى يحرره من قيود الرومان ومن آثار الخرافة ومن ظلمات الشرك أن بنى هذا المسجد. وأنا أعلم أن مؤامرات قوية محبوكة بذلت جهدا هائلا لمنع تجديد هذا المسجد حتى سميته (جرنا). وعندما شرفني الله وجاء بى إلى هذا المكان كان من قدر الله أن رجلا ألهمه الله الرشد وبث في عزيمته القوة وجعله يغالب كل أسباب الضعف وكل عناصر التفريط والتكاسل والتهاون، واختفت بجهود هذا الرجل القناطير المقنطرة من القمامة التى كانت حول هذا المسجد، ولا يزال السيد الوزير محافظ القاهرة على العهد به يتعهد المسجد ويجئ(5/195)
إليه يين الحين والحين، ورب العالمين يعطه من الأمل والقوة، ما يرد المسجد به إلي أيامه الأولى يوم كان مشرقا للتعاليم الإسلامية. ص _216
ومن خير الله وبره بنا أن جاءنا اليوم سماحة الشيخ الجليل إمام المسجد النبوى وخطيبه وقاضى قضاة المدينة وكبير علمائها، جاء إلى مسجد عمرو بن العاص وإننى سأصلى معكم وراءه إن شاء الله، لعل قبسا من الرحمة والخير والذكريات الطيبة يسرى في مشاعرنا ويجعل جو هذا المسجد مليئا بالقبول إن شاء الله. إننا نرحب بخطيب المسجد النبوى المبارك، والقاهرة تستقبله وهى فرحة بقدومه، ونسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. " اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى فيه معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ". ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _217(5/196)
نظرات في سورة النجم خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهدأة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: ففي هذه الجمعة نلقى نظرة عامة على سور النجم، لعلنا بفضل الله تعالى نعود من ذلك بعبر نافعة ونصائح غالية. ولعلكم تذكرون أننا في الجمعة الماضية أوضحنا أن الإسلام دين يقوم على العقل وأنه يحتفي بأولى الألباب ويعتبرهم حملة فكرته ومبلغى رسالته، والواقع أن الإسلام إذ يحترم العقل ويعينه على دقة الفقه وحسن الحكم على. الأمور يريد من ذلك شيئا مهما هو أن نصل في معرفتنا إلى اليقين، أى أن تكون معارفنا صحيحة لا جهل فيها ولا زيغ. وقد رأينا- مع دراسة التاريخ الإنسانى ومع ملاحظة التجمعات البشرية في القارات الخمس- أن الأمم والجماهير تسيرها الأوهام والظنون ص _218(5/197)
والشائعات والتخامين أكثر مما تسيرها الحقائق التى لا ريب فيها والعقائد التى لا شك فى معناها.. الأمم كثيرا ما تغلبها جهالات قد تكون مضحكة ومع ذلك فهى تقدسها وتنتشى بها وتندفع بوحيها شرقا أو غربا دون وعى وعلى غير هدى.. فى سياحاتي الأخيرة رأيت تمثالا لـ بوذا فى آسيا، وسألنى شاب مسلم: ما بوذا؟ قلت له: هذا شاب اشتغل بدراسة الفلسفات المادية والنظم الاجتماعية على عهده، وكان فكره ترابيا ما نظر إلى السماء يوما ولا اعترف بأن للكون ربا، عاش فى قوقعته المادية ينكر الألوهية، فلما مات اعتبره أتباعه آلها وعبدوه، ثم وجدنا هذه الأصنام فوقها أبنية فوقها قباب ذاهبة فى الفضاء وحولها قوافل تعد بمئات الملايين !!. هذا المعنى هو الذى تناوله القرآن الكريم من أساسه العقلى عندما قال: (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون). ما يقال فى عبدة الأصنام يقال فى نفر من أهل الكتاب انتشرت بينهم شائعة أن هناك آلها ثانيا وثالثا وأن الإله الثانى قتل افتداء لخطايا الخلق، انطلقت الإشاعة، واحتفت بها جماهير من الخلق، وفى التعليق عليها يقول الله سبحانه وتعالى: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا). اذن اتباع الظن مشكلة سيطرت على البشرية، وعلاج هذه المشكلة أن نبحث عن اليقين، ولذلك كانت الآية الثانية فى سورة البقرة: (ذلك الكتاب لا ريب فيه ). ان الإسلام يرفض الظنون وينكرها ويعيب على أتباعها أن يتشبثوا بها. هذه مقدمة بين يدي نظرتنا العامة فى سورة النجم . ص _2 ص(5/198)
سورة النجم فيها حديث عن الأصنام التى يعبدها العرب : ( أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى * إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى). شهوات أو أهواء أو ظنون تجمع حولها أولئك الجاهليون وعاشوا بها: ( ولقد جاءهم من ربهم الهدى) ثم يجئ هذا السؤال: (أم للإنسان ما تمنى).. إن الإنسان يتصور أنه يعيش وفق أحلامه وآماله، ويظن أنه يفرض أمانيه على الحياة.، إنه بهذا مخدوع، فإن الإنسان في هذه الحياة يحيا داخل إطار صنعه الغالب على أمره القاهر فوق عباده، ومهما كان الإنسان حرا في قدرته وإرادته فهو محكوم في إطار القدرة العليا والإرادة العليا: (فلله الآخرة والأولى). وقد وضح النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا المعنى في هذا الحديث الذي رواه البخارى: عن عبد الله رضي الله. عنه قال: خط النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطا مربعا وخط خطاً في الوسط خارجا منه، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصفار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا". ص _221(5/199)
بتعبير علماء الهندسة الآن رسم مربعا أو رسم شكلا رباعيا، ثم وضع نقطة داخل الشكل الرباعى، وأخرج منها خطأ، امتد هذا الخط حتى قطع . المحيط المربع وتجاوزه وخرج بعيدا، ثم فسر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما فعل، هذا الشكل المربع هو أجل الإنسان يحيط به، هذه النقطة داخل الشكل المربع هى بدء حياته، هذا الخط هو عمره، امتداد الخط هو أمله، ويمتد الخط حتى يتجاوز المحيط، وما أكثر ما يؤمل الإنسان وأجله قادم يقطع الأمل وينهى الحياة فتكون آماله متاع الغرور أو تكون آماله شيئا وهميا لأن الأجل اخترم حياته وهو ماض في آماله وأمانيه ما يفكر إلا فيها؟ !!. قال تعالى: (أم للإنسان ما تمنى* فلله الآخرة والأولى* وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى). كم من عظيم في الأرض وكم من عظيم في السماء ما تغنى عنهم عظمتهم شيئا وما ينفعون غيرهم بشيء إذ ما ينفعون أنفسهم. في وسط السورة بين الله أن الظنون لا قيمة لها، وأن الحق هو الذي يجب أن يتبع وأن نرنوا إليه بأبصارنا وأن نتعشقه بأفئدتنا ومن هنا كانت الدعوة اللطيفة: " اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه " فكم من غافل رأى الحق باطلا أو رأى الباطل حقا ثم انطلق في دنياه لا يلوى على شئ، فإذا هو ينطلق وراء وهمه،كما تقول لإنسان: " الإسكندرية " في جنوب القاهرة فهو يجرى حتى يصل إلى " أسوان " ولن يصل إلى " الإسكندرية " أبدأ لأن الوجهة من البداية غلط، ولذلك كانت الظنون والأوهام شيئا يكرهه الإسلام لأن الإسلام- كما قلنا- نوه بأولى الألباب في ست عشرة آية لأنهم حملة فكرته ومبلغو رسالته وأصحاب القدرة على إدراك قضاياه وفهم أهدافه. الإيمان الصحيح وليد المعرفة التى لا ظن فيها، وتوحيد الله أول هذه الحقائق،، لذلك داس على عبادة الأصنام: ص _222(5/200)
(إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى). إن توحيد الله هو اليقين القاطع، لكن مع توحيد الله ضميمة أخرى أشارت إليها أوائل السورة وهى الإيمان بأن محمدا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو الذي عرفنا بالله الواحد، وهو الذي نفي الأوهام والشائعات عن ذاته، وهو الذي نزهه وبين ما ينبغى له من كمال وجمال. أحببت أن أبين أن محمدا هو الرجل الأول في التاريخ كله فقلت: إذا لم يكن محمد نبيا فمن يكون نبيا!!. بحثت في التراث الإنسانى كله فلم أجد أحدا ذكر ربه بعبارات أحر ولا أرق من العبارات التى ذكره بها محمد عليه الصلاة والسلام، لم أجد أحد أفنى ذاته في مرضاة ربه وجعل حياته وموته وليله ونهاره وراحته وجهاده لله مثل محمد!!. استعرضت التاريخ البشرى من أوله إلى آخره فلم أجد أنسانا وقف في ساحة العبودية يسمح ويحمد ويكمر، يخوف في الله فلا يخاف، ويشعر بالألم والعنت فلا ينكص ولا يتأخر مثل محمد ؟!. لم أجد أحدا غير المجتمعات بعد أن كانت ضالة حائرة فجعلها مهدية راشدة مثل محمد عليه الصلاة والسلام!!. ولذلك فإن المؤلف الأمريكي الذي ذكر مائة من قمم التاريخ وجعل محمدا القمة الأولى كان في الحقيقة يذكر ما يشير إليه العلم الصحيح واليقين الحق !!. إن الكواكب في السماء قد تهوى، ونرى نيازك تحترق ـ كما يقال ـ في اشتباكها مع الطبقة الهوائية، ونرى كواكب تنحط عن مداراتها وتعود فترتفع مرة أخرى، لكن الكوكب الذي لا يخبو له سنا ولا ينكسف له ص _223(5/201)
شعاع ولا تنحط له منزلة ولا يهوى أبدأ من عليائه هو محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو ما أقسمت عليه السورة في السطر الأول منها: (والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى). إن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو النبى الخاتم والرسول الحق، وما نزل عليه من قرآن: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) ، وسيرته وسنته نماذج لإنسانية هى أزكى وأرقى وأنقى ما عرفت الإنسانية في معادن الرجال من نقاوة وصلابة ورفعة!!. إن محمدا نجم لم يهو له جرم، ولم ينقطع له سنا، ولم يطرأ على دارته انحطاط، بل ظل معصوما منذ بعث إلى أن ذهب إلى الرفيق الأعلى. إن هذا الإيمان بأن الله واحد وبأن محمدا حق يهدى إلى الإحسان، أى أن المؤمن يعصمه إيمانه من الزلل ويقيه السيئات ويجعله أنسانا صاحب منهاج فاضل، وهل خلق الله الحياة إلا ليتميز فيها المحسن من المسيء والمصيب من الخطى والناجح من الراسب في ميدان الفضيلة والخير؟. هكذا خلق الله الحياة : (ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى). لا، هذا غير ممكن، لابد أن يخطئ الإنسان وأن تكون له هفوات أو أن تكون له كبوات، ولذلك قال الله في وصف هؤلاء المحسنين: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى). وهنا نقف لنتأمل كلمة " إِلاَّ اللَّمَمَ ". كلمة " إلا " قد تكون بمعنى " لكن ". ص _224(5/202)
وهذا ما يسميه علماء اللغة " استثناء منقطعا" أى ما بعد "إلا" مخالف لما قبلها، وذلك كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) قال العلماء: الاستثناء هنا منقطع، أى لكن إذا كانت تجارة عن تراض كلوها. فمعنى أن الاستثناء منقطع في قوله تعالى: (إِلاَّ اللَّمَمَ) أن المؤمن لا يقارف فاحشة من الفواحش ولكن قد يلم بصغائر الذنوب. لكن بعض العلماء يقولون: الاستثناء في قوله تعالى: " إِلاَّ اللَّمَمَ " متصل. ومعنى أنه متصل أن كلمة " اللَّمَمَ " تعنى أنه قد يرتكب الفاحشة لماما يعنى على ندرة من باب: لكل جواد كبوة ولكل صارم نبوة، ويستشهد هؤلاء على أن المؤمن قد يقع منه ما هو فاحشة بقوله تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون). على كل حال الكل متفق على أن التوبة لابد منها من الصغائر أو من الكبائر، وأن الإنسان لا يستغرب عليه الخطأ لأنه كما هو نفخة من روح الله هو طينة من الأرض وكما قال ابن الرومى: ولابد من أن ينزع المرء مرة إلى الحمأ المسنون ضربة لازب بعد أن ذكر أن الظن لا قيمة له، وأن اليقين هو الأساس، وأن توحيد الله هو أول اليقينيات، وأن الشهادة بختم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنبياء وصدقه فيما يقول ضميمة لتوحيد الله، وأن الإيمان يلد الإحسان والعمل الصالح، وأن الإنسان قد يخطئ فإذا تاب تاب الله عليه، بعد هذا كله بدأ شئ من التوبيخ للإنسان الذي يمشى وحده بعيدا عن هدايات السماء، بدأ شئ من ص _225(5/203)
التوبيخ لهذا الإنسان مقرون بأن الإنسان ما يصلح إلا إذا زكى نفسه، وأصلح أحواله، وهذب أخلاقه، واعتقد بأنه صانع مستقبلها ولا دخل لأحد معه في هذا، قال تعالى: (أفرأيت الذي تولى * وأعطى قليلا وأكدى * أعنده علم الغيب فهو يرى). " تَوَلَّى " رفض السير مع المؤمنين. " أَعْطَى قَلِيلا "أى امتلك ما يمتلك وبخل به؟. " أَكْدَى " غلبه الشح والكزازة فإذا هو نافر من العطاء. " أعنده علم الغيب فهو يرى"معناها أن الذي يمتنع عن العطاء سيئ الظن بالمستقبل فهو يقول لك: أحفظ ما في يدى اليوم ينفعنى غدا، ولا معنى للتطويح بما في اليد ومنحه للناس وانتظار ما عند الله!!. ولهذا جاء في الحديث: " أنفق بلال ولا تخش من ذى العرش إقلالا ". قال تعالى: (أعنده علم الغيب فهو يرى* أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى * وأن إلى ربك المنتهى * وأنه هو أضحك وأبكى * وأنه هو أمات وأحيا). في تفسير هذه الآيات نرجع. إلى سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد نظر النبى يوما إلى آفاق الدنيا في ليلة من الليالى ثم كأنه أخذ يفكر: ترى بم يطلع اليوم الجديد على الناس؟. ص _226(5/204)
الناس فيهم من سيموت، فيهم من سيحيا، فيهم من سيقتنى، فيهم من سيفتقر، فيهم من سيصح، فيهم من سيمرض، فقال هذه الكلمة الموجزة: " سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن، وماذا فتح من الخزائن، أيقظوا صواحبات الحجر فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة " . تُرى خزائن الرحمة الإلهية التى تتدفق في عالم الناس تذهب لمن؟ ومَن مِن خلق الله سيضحك؟. تُرى خزائن الفتن وهى تبتلى الناس وتغزوهم بالآلام والمتاعب تصيب مَن ومَن مِن خلق الله سيبكى؟. من الذي أضحك وأبكى؟ ومن الذي أمات وأحيا؟. إنه الله جل شأنه، أما تدرى أن زمإم الأمور بيد الله وأن الناس مطلقون في الحياة؟ ترى الدابة بيد صاحبها يرسلها والحبل في يده؟!. لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكا لطول المرخى وثنياه في اليد متى ما يشأ يوما يقده لحتفه ومن يك في حبل المنية ينقد هل يستطع أحد أن يقطع حبال القدر ويخرج من طوع الله؟. هيهات هيهات (والله غالب على أمره) ، (وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير)، ( والله يحكم لا معقب لحكمه). بع] ذلك قال تعالى: (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى * من نطفة إذا تمنى * وأن عليه النشأة الأخرى). كثير من الناس ينجب بنات ويتصور أن الأم هى المسئولة عن هذا، وقد قرأت أخيرا كتابا طبيا لطبيب مسلم يقول فيه: ص _227(5/205)
تبين أن الرجل وحده هو المسئول عن ذريته، فهو يحمل حيوانات منوية بعضها له رأس لامع يمثل الذكورة، وبعضها له رأس خافت يمثل الأنوثة، فإذا سبق الحيوان المنوى اللامع الرأس جاء الولد ذكرا وإلا جاء المولود أنثى، ثم قال: وهذا ما صوره القرآن عندما قال: (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى * من نطفة إذا تمنى). أيها الإخوة: هذه نظرة عجلى إلى سورة النجم، ومن الممكن أن نزداد غوصا في المعافي جمعا لأطراف السورة فنعطى سورة أخرى أدق واكثر علما وتحقيقا للقضايا التى وردت فيها لكن ما ألهم الله به هو هذا القدر من المعرفة. والله ولى التوفيق.. ص _228
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا خاتم النبيين وإمام المرسلين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: . فنحن في العشر الأوائل من ذى الحجة، وثبت في الأحاديث الصحاح أن هذه الأيام من أفضل أيام السنة أو لعلها أفضل أيام السنة، ففي الحديث : " ما من أيام العمل الصالح فيهنن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر. فقالوا: يا رسول الله ولا الجهاد لى سبيل الله؟ فقال رسول الله : ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء " . العمل الصالح له صور كثيرة: القرآن، العلم، العبادة، الدراسة، إننى أشعر بحزن عندما أرى أولادا ينتسبون للشيوعية يأكلون الكتب أكلا ولهم باع طويل في المعارف الإنسانية في الوقت الذي أجد فيه شبابا مسلما معرفته ضحلة أو فكره قريب القاع!!. ديننا دين العلم، وكل ما يصقل العقل وينظم الفكر ويوسع آماد النظر ويجعلك تصدر حكمك على نحو صحيح هو من دين الله. ص _229(5/206)
" اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معادنا، وأصلح لنا آخرتنا التى فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير " واجعل الموت راحة لنا من كل شر". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ( عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _230
نظرات في سورة الحشر خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهدأة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فنستعين الله تعالى الآن على رسم صورة عجلى لسورة الحشر.. بدأت سورة الحشر ـ كما ختمت أيضا ـ بتسبيح الله وتحميده (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم) وخُتمت بتسبيح الله وتحميده : (هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم). تسبيح الذات معناه أن الله تبارك وتعالى اسمه منزه عن الضد والند والصاحبة والولد، وأنه يستحيل أن يشبه بشرا. أو أن يشبهه بشر وأنه لا يوصف بأنه والد ولا ولد. وتسبيح الله بالنسبة إلى أفعاله- وهو مدخل السورة، هذا- أساسه أن الجنس اللعين الذي تمتع بالشهوات والذي تبجح في الأرض والذي استباح الربا والزنا والذي عاش وفق هواه واستدبر هدايات الله ترك ولكنه ترك إلى حين وأُمهل ولكنه لم يُهمَل، وأن العقوبة الإلهية أخذت تنزل به، فتسبيح الله هنا إشعار بأنه ما يترك أفعال الخلق تسير فوضى، إن الزمام بيده وهو ص _231(5/207)
الغالب على أمره، ولذلك عندما بدأ ينكل بهؤلاء ذكر اسمه مقرونا بالتسبيح والتحميد، وهو جل شأنه يوجه أنظار الصالحين إلى هذه الحقيقة كلما اشتدت عليهم الضوائق: قال تعالى: (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) إن توجيه نظرة إلى تسبيح الله وتحميده هو إشعار له بأن الأمور لا تفلت من يد الله، وأنه إن ضاق اليوم فإن المستقبل له. وقال تعالى: (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم * ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم) هذا التسبيح لله رب العالمين هو شعور من الإنسان بأن أحوال الخلق وأن مصاير العباد إلى الله، لابد أن يبت فيها ولابد أن يرسل حكمه العدل في قضاياها إن عاجلا وإن آجلا، وقد سكت على اليهود دهرا ولكنه الآن يضربهم الضربة القاصمة: (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم * هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار) هذا الوصف يعطى أن اليهود كانوا مركز القوة، وأن حصونهم كانت تخيف المؤمنين وتدع في قلوبهم يأسا من أن اقتحامها سهل، كانوا يعتقدون أن حصونهم مانعتهم من الله، وكان المسلمون يتهيبون هذه الحصون التى أقيمت، لكن الذي حدث كان مفاجأة فإن الحصون خربت والدور التى أقيمت خلفها هدمت، وكان المؤمنون واليهود جميعا يشتغلون بتخريب هذه الحصون. ننظر إلى السورة فنجد أربعة أوصاف نسبت إلى اليهود: الوصف الأول: أنهم شاقوا الله ورسوله: (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم). ص _232(5/208)
ومعنى مشاقتهم لله ورسوله أنهم عصوا ربهم واستباحوا حرماته وعطلوا أحكامه وشرائعه وأضاعوا حدوده وحقوقه، واليهود سادة هذه الخصال وأسباب انتشارها في العالمين. الوصف الثاني: أنهم فاسقون (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين) الوصف الثالث: أنهم يخشون الناس أكثر مما يخشون الله: (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون). الوصف الرابع: أن مظهرهم يدل على الوحدة والجماعة ولكن سرائرهم متفرقة ممزقة، يكره بعضهم بعضا، وليست لأنهم عقيدة جامعة ولا وحدة فكرية أو عاطفية تربط بينهم: (لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون). هذه هى المواضع الأربعة في السورة التى تحدثت عن أخلاق اليهود عندما هزموا، وأظن هذا الإحصاء ناضحا بأن القوم قد استجمعوا ما يؤهلهم للضياع وما يرشحهم للغضب الإلهي. هنا يجب أن نسائل أنفسنا: هل الأمم تتوارث الأخلاق النفسية والتقاليد الاجتماعية والخصائص الفكرية والسياسية من جيل إلى جيل؟. قد يحدث هذا وقد لا يحدث، وعندما يحدث فإن السابق واللاحق يشتركان في نتيجة واحدة، وربما لا يحدث هذا فيكون من جمع خصال الشر جديرا بأن يجنى الشر، ومن استجمع خصال الخير كان جديرا بأنه يجنى الخير. ومعلوم أن اليهود يوم يخرجوا من مصر كانوا أذلة لأنهم مرنوا على أن يوطئوا ظهورهم ويحنوا رءوسهم ولذلك ما أفلحوا في قتال ولا شرفوا موسى فيما قصد إليه من معارك وقالوا له : (قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون). ص _233(5/209)
ولقد قال المؤرخون: إن الله أتاههم في سيناء أربعين سنة حتى هلكت الأجيال الجبانة ونبتت أجيال شجاعة أمكن أن تحقق رسالة موسى، وأن تكون وفق ما يرضى الله. إذن الأخلاق تورث ولا تورث، والخصائص العامة تتنقل ولا تتنقل، ولو كانت الأخلاق تورث والتقاليد تتنقل لكان المسلمون الآن على أخلاق الصحابة والتابعين. إن السورة التى شرحت لنا لماذا هزم اليهود ولماذا قذف في قلوبهم الرعب قالت لنا: كان لابد أن يعاقب اليهود (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار). ولذلك فإن هذه السورة التى قالت للمسلمين: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون) هاتان الآيتان- في سياق سورة الحشر- تنبئ المسلمين بأنه لا يجوز أن يقعوا فيما وقع اليهود فيه، واليهود نسوا الله فأنساهم أنفسهم، واليهود لم يتقوا الله ولم يحسبوا حساب الغد.. والواقع أن اليهود فيما يتصل بيوم القيامة حذفوا ما يتصل به من نصوص، لا يوجد في العهد القديم نص تحدث عن يوم القيامة، ولذلك فإن أغلب اليهود يرون أن جنتهم في التجمع في فلسطين، وأن إقامة مملكة بهوه على الأرض-كما يزعمون- هذا النعيم الذي يوعدون به والذي يجىء بهم من المشارق والمغارب إلى أرض فلسطين. ينبه القرآن المسلمين إلى أن لا يسلكوا مسالك اليهود ويبين لهم أن مصير الناسين النار، وأن مصير الذاكرين الجنة. ص _234(5/210)
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون * لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون). ويبين آلله بعد ذلك أنه أنزل القرآن الكريم عقيدة وشريعة، وأن الأمة التى تجعله رايتها وتمشى تحته لابد أن تسمو وأن تزكو وأن تنتفع وأن ترتفع، وأن هذا القرآن حوى من المواعظ ما يزلزل الطغيان ويمنع الكفران ويجعل صلة الإنسان بربه جل جلاله صلة قائمة على الخوف والوجل: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون). بعد هذا العرض السريع بدأ ختام السورة بذكر الله مرة أخرى وتسبيحه وتحميده: (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم). سورة الحشر- إلى هذا القدر من الشرح- تبين منها: أن الله تحدث عن نفسه أولها وآخرها. وأنه أذل أهل الكتاب من اليهود لمسالكهم الشائنة ومواقفهم الرديئة وبقى بعد ذلك أن نعرف الوقائع التى تضمنتها السورة. حاول اليهود قتل رسول الله وانتهزوا لذلك فرصه أنه ذهب إليهم ليطلب منهم-كما تقضى المعاهدة المبرمة بين المسلمين واليهود- المعاونة في دية قتيلين، ولقد أجاب اليهود إجابة حسنة، وأظهروا كأنهم يستعدون لجمع الدية وتسليمها للنبى ، واستند النبى إلى جدار ينتظر الوفاء، ولكنه وهو المحفوف برعاية الله عرف أنهم يتآمرون عليه، وفعلا لقد قال بعض ص _235(5/211)
اليهود للبعض الآخر لن تجدوا الرجل مستغفلا كحالته هذه فليذهب أحدكم بصخرة وليلقها عليه من السطح وهو مستند إلى الجدار ليريحنا منه، وعرف النبى المؤامرة، فترك المكان على عجل، ولحق به أصحابه وفرض عليهم الحصار!!. المجتمع في المدينة كان مجتمعا خليط، كان فيه مؤمنون خلص صدقوا الله وكانوا أتباعا ناصحين لله ولرسوله وهم المهاجرون والأنصار ومن انضم إليهم. وكان فيه منافقون يعيشون في المدينة قلوبهم مع قريش ضد الإسلام، قلوبهم مع اليهود ضد الإسلام، وفي الوقت نفسه يتظاهرون بأنهم على إيمان، هؤلاء قالوا لليهود: اثبتوا في مواقعكم إن الحصار الذي سيضرب عليكم لن يدوم طويلا وسنشترك معكم في القتال حتى تفض هذا الحصار، ولكن المسلمين حاصروا بنى إسرائيل وشددوا عليهم الخناق وبدا من حماسهم وقوتهم وجرأتهم وإيمانهم واعتمادهم على الله أنه لن يستطع أحد أن يفك قبضتهم عن عدو الله وعدوهم، وبعد أن كان المنافقون يلوحون بتدخلهم ويشعرون اليهود بأنهم معهم تخاذلوا.. قال تعالى: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون * لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون). لو أن قوى الدنيا كلها تجمعت لمساندة اليهود فإن هذه القوى ستتمزق وتتلاشى ولابد من أن ينزل بطش الله باليهود على يدى محمد وصحبه. هذا ما كان في بنى النضير، وفعلا تمت المعركة، وكان الرعب الذي بثه الله في قلوب اليهود عونا على أنفسهم وكان سلاحا إسلاميا ضدهم، وانتصر المسلمون وأخذوا أموال اليهود، فماذا فعلوا بها؟ أعطوها الفقراء ص _236(5/212)
المهاجرين الذين خرجوا من مكة تاركين أموالهم ودورهم، فكان ذلك تعويضا حسنا لهم، وكان ذلك إشارة إسلامية إلى أن المجتمع المؤمن لا يبقى فيه ناس دون مال وناس لهم مال كثير، ولذلك يقول الله جل شأنه: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب). تعطى هذه السورة الجليلة أن الله تبارك وتعالى لما نصر نصر عقيدة حرة عادلة منصفة لها أتباع كرام مؤثرون مخلصون شجعان مؤمنون على قوم يتصفون بالفسق ومشاقتهم لله ورسوله، ويتصفون بأنهم في مظهرهم كيان واحد وفي باطنهم أحزاب متفرقة وفرق متشاكسة، ويتصفون بأنهم يخشون الناس أكثر مما يخشون الله. النصر هنا لأحوال ولرجال، والهزيمة هنا لأحوال ولرجال، ومعنى ذلك أن المسلمين إذا فسقوا وإذا شاقوا الله ورسوله وإذا كانوا في مظهرهم كيانا واحدا وفي باطنهم أحزابا متفرقة وإذا كانوا يخشون الناس أكثر مما يخشون الله فإنهم عندئذ ليسوا أهل نصر. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ص _237(5/213)
الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولى الصالحين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل واعلموا أيها الاخوة أننا في بلدنا هذا- وهو قلب الأمة الإسلامية- حاربنا الشيوعية يوم كانت الشيوعية صبغة غالبة لبعض القابعين في كراسي السلطة وبعض المتربصين على عرش الصحافة وبعض الذين ملكوا ناصية القلم وكثيرين من هؤلاء الذين أغواهم الشيطان فحطبوا في حبله ونصروا طريقته. حاربنا الشيوعية، ولى فيها كتاب- ينشر في الخارج اسمه " الإسلام في وجه الزحف الأحمر " ألف في سنة ص 67 م في أيام عجاف وأزمات عصيبة كانت تمسك بخناق المؤمنين وأصحاب الغيرة على الإسلام. لم حاربنا الشيوعية؟. حاربناها لأننا نحب الله بداهة ومن أنكر الله احتقرناه، حاربناها لأننا نعرف الإسلام ونعرف أن الله سبحانه وتعالى أودع في تضاعيف الكتاب والسنة من النصوص والتعاليم والقواعد ما يغنى الأمة الإسلامية عن أى فلسفة لقيطة وأى فكر دخيل. لكنى أعرف ناسا كثيرين لا يحاربون الشيوعية للمعنى الجليل الذي في نفوسنا، لعلهم يحاربونها لأن لهم أموالا يخافون عليها أو لأن لهم نفوذا يخشون أن يتقلص أو لأن لهم منافع يريدون أن تدوم.. لسنا من هؤلاء، إننا نحارب الشيوعية لحساب الإسلام وحده، ص _238(5/214)
ولذلك فنحن نقول: لا يكفي في محاربة الشيوعية أن أسماء تختفي وأن بعض الذين مست خيانتهم أولى الأمر يتلاشون من ظاهر الميدان، إنما المهم أن التيار الإسلامى يقوى وأن الثقافة الإسلامية تنتعش، وأن العودة إلى الإسلام تتضح وأن التقاليد الإسلامية تسود وأن الأخلاق الإسلامية تنمو وأن تقنين الشريعة يبدأ يأخذ طريقه إلى النور وإلى الحياة وأن الأجهزة المحنطة في الأزهر وفي غيره الأزهر والتى كتب لها أن تعمل للإسلام وهى لا تعمل له إلى الآن عملا محترما، أو عملا واضحا يجب أن تتحرك لخدمة دينها. لا يكفي في ضد الشيوعية أو الإباحية الغربية أن يختفي بعض الذين قادوا الضلال في بلدنا دهرا طويلا، إنما يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن الثقافة الإسلامية معتلة وأن التشاريع الإسلامية مختفية وأن أوضاعا إسلامية كثيرة مختلة، ويجب أن يعود إليها ما ينبغى أن يسودها من نظام ومن اتساق ومن إنتاج، هذا هو الكفاح الحقيقى للشيوعية ولليهودية الهاجمة علينا، وأنا موقن بأنه يوم تبدأ اليقظة الإسلامية تأخذ طريقها إلى الضمير العربى وإلى العقل العربى فإن المد اليهودى سيأخذ في الانكماش. " اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى فيها معادنا، وإجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.!). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة(5/215)