الشيخ محمد الغزالي بقلمه والدى رحمه الله- كان يحب شيخ الإسلام أبا حامد الغزالى، وكان عاشقا للتصوف يحترم رجاله ويختار من مسالكهم ما يشاء، لأنه كان حافظا للقرآن جيد الفهم لنصوصه ويروى أبى لأصدقاء الأسرة أن- تسميتى " محمد الغزالى " جاءت عقب رؤية منامية وبإيحاء من أبى حامد (رضى الله عنه)، وأيا ما كان الأمر فإن التسمية اقترنت بشخصى ولكها لم تؤثر فى تفكيرى فأنا أنتفع من تراث أبى حامد الغزالى صاحب " تهافت الفلاسفة " كما أنتفع من تراث خصمه ابن رشد صاحب " تهافت التهافت " وإذا كان الغزالى يحمل دماغ فيلسوف وابن تيمية يحمل رأس فقيه فإننى أعتبر نفسى تلميذا لمدرسة الفلسفة والفقه معا. ولدت سنة 1336 هـ الموافق سنة 1917 م ونشأت فى بيئة متدينة بين اخوة سبعة وكنت أكبرهم ووالدى كان تاجرا صالحا وهو الذى وجهنى إلى حفظ القرآن بل إن من فضله على أن باع ما يملك لكى يذهب بي أو يذهب معى إلى أقرب مدينة يقع فيها معهد أزهرى حيث هاجر من قريته " تكلا العنب " بمحافظة البحيرة إلى الإسكندرية كى انتسب إلى الأزهر وعمرى عشر سنوات. وطفولتى كانت عادية ليس فيها شىء مثير وإن كان يميزها حب القراءة. فقد كنت أقرأ كل شىء ولم يكن هناك علم معين يغلب على.. بل كنت أقرأ وأنا أتحرك، وأقرأ وأنا أتناول الطعام. أهمية القراءة : وللقراءة أهمية خاصة لكل من يدعو إلى الله بل هى الخلفية القوية التى يجب أن تكون وراء تفكير الفقيه والداعية، وضحالة القراءة أو نضوب الثقافة تهمة خطيرة للمتحدثين فى شؤون الدين وإذا صحت تزيل الثقة منهم. إن القراءة، أى الثقافة هى الشىء الوحيد الذى يعطى فكرة صحيحة عن العالم وأوضاعه وشؤونه، وهى التى تضع حدودا صحيحة لشتى المفاهيم، وكثيرا ما يكون قصور الفقهاء والدعاة راجعا إلى فقرهم الثقافى .
ص _0 ص(1/1)
والفقر الثقافى للعالم الدينى أشد فى خطورته من فقر الدم عند المريض وضعاف الأجسام.. ولا بد للداعية إلى الله أن يقرأ فى كل شىء، يقرأ كتب الإيمان ويقرأ الإلحاد،. يقرأ فى كتب السنة، يقرأ فى الفلسفة وباختصار يقرأ كل منازع الفكر البشرى المتفاوتة ليعرف الحياة والمؤثرات فى جوانبها المتعددة. تأثرت بالشيخ عبد العظيم الزرقانى الذى كان مدرسا بكلية أصول الدين وهو صاحب كتاب " مناهل العرفان فى علوم القرآن " وكان عالما يجمع بين العلم والأدب وعباراته فى كتابه المذكور تدل على أنه راسخ القدم فى البيان وحسن الديباجة ونقاء العرض. وفى معهد الإسكندرية الدينى تأثرت بالشيخ إبراهيم الغرباوى والشيخ عبد العزيز بلال وكانا يشتغلان بالتربية النفسية ولهما درجة عالية فى العبادة والتقوى، وكانا يمزجان الدرس برقابة الله وطلب الآخرة وعدم الفتنه بنيل الإجازات العلمية لأن للألقاب العلمية طنينا ربما. ذهب معه الإخلاص المنشود فى الدين. وقد تأثرت أيضا بالشيخ محمود شلتوت الذى أصبح فيما بعد شيخا للأزهر، إذ كان مدرسا للتفسير، وله قدره ملحوظة فى هذا المجال إلى جانب رسوخ قدمه فى مجال الفقه وعلوم الشريعة إجمالا، وقد كان رحمه الله شخصية عالمية بارزة يلتف حولها الكثيرون. أما تأثرى الأكبر فقد كان بالإمام الشهيد حسن البنا وكان عالما بالدين كأفقه ما يكون علماء العقيدة والشريعة. وكان خطيبا متدفقا ينساب الكلام منه أصولا لا فضولا وحقائق لا خيالات وكان حسن البنا يدرك المرحلة الرهيبة التى يمر بها الإسلام بعدما سقطت خلافته وذهبت دولته ونجح المستعمرون شرقا وغربا فى انتهاب تركته، فكان الرجل يعارض هذا الطوفان المدمر عن طريق تكوين الجماعات التى تعتز بدينها وتتشبث بالحق مهما واجهت من متاعب أو عوائق أو ويلات. حسن البنا كان صديقا لكل من يلقى من أهل الإيمان، فتغمرك بشاشته عندما تراه وتشعر كأنك أصبحت صديقا أثيرا لديه وكان يضن بوقته على اللغو(1/2)
فما تمر ثانية ولا أقول دقيقة إلا وهو يخدم الإسلام بكلمة أو توجيه أو عمل نافع أو دعابة لطيفة تربط بين القلوب. وذاكرة حسن البنا كانت حديدية وكأنها شريط مسجل يستوعب ص _015
الأسماء والمعانى، فلو التقيت به وناقشت معه إحدى القضايا، أو ذكرت له اسم إخوتك مثلا ثم لقيته بعد ذلك ببضع سنين لبادرك بالسؤال عن إخوتك وناقشك فى القضية التى طرحتها عليه منذ سنين واسترجع معك الحديث وكأنه تم بالأمس القريب. والحق أن الرجل كان يحب عن إخلاص لا عن تكلف وربما عانق عاملا يلبس بدلة الشغل الملوثة بشحوم الآلات وسوائلها. فما يحجزه شىء من ذلك عن ترجمة حبه. وحسن البنا له عبقريات منوعة يحتاج الكلام فيها إلى كتاب منفرد. مدرستى الخاصة: المدرسة التى أعتبر نفسى رائدا فها أو ممهدا لها تقوم على الاستفادة التامة من جميع الاتجاهات الفكرية والمذاهب الفقهية فى التاريخ الإسلامي ، ترى الاستفادة من كشوف الفلسفة الإنسانية فى علوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ ومزج هذا كله بالفقه الصحيح للكتاب والسنة. إن الرؤية الصحيحة لأحكام الشريعة أو الحكم الصائب الذى ينبغى تقريره لا يتم إلا مع رحابة الأفق ووجود خلفية عظيمة من المعرفة القديمة والحديثة على السواء وربما كان أسلافنا القدامى قد رزقوا من سلامة الفطرة وحدة الذكاء ما يجعلهم قادرين على حسن الفهم والحكم، ولكننا فى هذا العمر لا نصل إلى مستواهم إلا بعد دراسات مضاعفة يستعين صاحب النظر القصير بالمناظير المقربة حتى يعرف ما يقرأ أو حتى يدرك من بعيد ما لا يستطيع رؤيته بالعين المجردة. تجاربى في الدعوة: تخرجت من الأزهر سنة 1360 هجرية الموافق سنة (1941 م) ومنذ ذلك الوقت وأنا أعمل فى خدمة الإسلام دعوة وتدريسا. وفى رأى أن الدعاة إلى الله، فى هذا العصر غيرهم فى العصور الماضية.. قديما كانوا يدركون حظا من النجاح بمعرفة محدودة وتقوى ظاهره. أما في هدا العصر فان أعداء الإسلام قد(1/3)
تضاعف نشاطهم ونمت ص _016
أحقادهم وكثرت العقبات التى وضعوها فى طريق الدعاة، واستطاعوا استغلال التفوق الحضارى لوقف الزحف الإسلامي فى أقطار كثيرة، بل ولعلهم استغلوا ثراءهم وقدرتهم فى فتنة طوائف من المسلمين فى أفريقيا و آسيا و أوروبا ولذلك لا يكفى أن تعمل أجهزة الدعوة الإسلامية بل لابد وأن تكون من ورائها خدمات شتى اجتماعية وصحية وتعليمية وثقافية... إلخ شروط الداعية: والدعوة إلى الله لا يصلح لها بداهة أى شخص.. إن الداعية المسلم فى عصرنا هذا يجب أن يكون ذا ثروة طائلة من الثقافة الإسلامية والإنسانية ، بمعنى أن يكون عارفا للكتاب والسنة والفقه الإسلامي والحضارة الإسلامية. وفى الوقت نفسه يجب أن يكون ملما بالتاريخ الإنساني وعلوم الكون والحياة والثقافات الإنسانية المعاصرة التى تتصل بشتى المذاهب والفلسفات ويجب على من يدعو إلى الله أن يتجرد لرسالته التى يؤديها فتكون شغله الشاغل وعليه أن يعامل الناس بقلب مفتوح فلا يكون أنانيا ولا حاقدا ولا تحركه النزوات العابرة ولا ينحصر داخل تفكيره الخاص فهو يخاطب الآخرين وينبغى أن يلتمس الأعذار للمخطئين وألا يتربص بهم بل يأخذ بأيدهم إذا تعثروا. ويحتاج الداعية المسلم فى هدا العصر إلى بصر بأساليب أعداء الإسلام على اختلاف منازعهم سواء كانوا ملحدين ينكرون الألوهية أو كتابيين ينكرون الإسلام . وقد لاحظت أن هناك أصنافا من الناس فى ميدان الدعوة تسئ إلى الإسلام أشد الإساءة ، منهم الذي يشتغل بالتحريم المستمر فلا تسمع منه إلا أن الدين يرفض كذا وكذا دون أن يكلف نفسه أى عناء لتقديم البديل الذى يحتاج إليه الناس.. وكأن مهمته اعتراض السائرين فى الطريق ليقفوا مكانهم دون أن يوجههم إلى طريق آخر أرشد وأصوب. وهناك دعاة يعيشون فى الماضى البعيد وكأن الإسلام دين تاريخى وليس حاضرا ومستقبلا، والغريب أنك قد تراه يتحامل على المعتزلة والجهمية مثلا وهو محق فى ذلك ولكنه ينسى أن(1/4)
الخصومات التى تواجه الإسلام قد تغيرت وحملت حقائق وعناوين أخرى . ص _017
وهناك دعاة آخرون لا يفرقون بين الشكل والموضوع أو بين الأصل والفرع، أو بين الجزء والكل فهم يستميتون فى الإنكار بأى شكل من الأشكال ويبددون قواهم كلها فى محاربة هذا الشكل، أما الموضوع فهم لا يدرون ماذا يصنعون إزاءه ولهؤلاء عقلية لا تتماسك فيها صور الأشياء بنسب مضبوطة ولذلك قد يهجمون شرقا على عدو موهوم ويتركون غربا عدوا ظاهرا بل ربما حاربوا فى غير عدو . . وهؤلاء وأولئك عبء على الدعوة الإسلامية يجب إصلاحهم كما يجب إصلاح الذين يدخلون ميدان الدعوة بنية العمل لأنفسهم لا لمبادئهم فإن العمل الذى يستهدف القيم الإسلامية غير العمل الذى يدور حول المآرب الشخصية. تبين لى بعد أربعين سنة من العمل فى الدعوة الإسلامية أن أخطر ما يواجه العمل الإسلامي هو التدين الفاسد أى استناد النفس إلى قوة غيبية وهى تعمل للخرافات والأوهام، أو هى تعمل للأغراض والمآرب.. الدين مثلا يقظة عقلية وهؤلاء يعانون تنويما عقليا متصلا والدين قلب سليم وهؤلاء استولت على قلوبهم علل رديئة.. والأمر فى كشف التدين الفاسد يحتاج إلى تفاصيل للتعامل مع الآفات النفسية والعقلية التى تسبب هذا البلاء، وقد خصص أبو حامد الغزالى جزءا ضخما من كتابه (الإحياء) فى علاج هذه الآفات والتحذير منها كما وضع ابن الجوزى كتاب " تلبيس إبليس " للكشف عن صور التدين الفاسد وأبعاد العامة والخاصة عنه. وقد ألفت بعض كتبى وأنا مستغرق فى محاربة هذا الجانب من التدين المعلول سواء كان رسميا أو شعبيا مثل كتاب ( تأملات فى الدين والحياة) وكتاب ( ليس من الإسلام) وكتاب (ركائز الإيمان بين العقل والقلب) وأخيرا كتابى (الدعوة الإسلامية تستقبل القرن الخامس عشر). والحقيقة أن التدين الفاسد سر انحراف كثير من العقلاء لأنهم ينظرون إلى الدين من خلال مسالك بعض رجاله وآثارهم في الحياة العامة، والواقع أن بعض(1/5)
المتدينين كانوا فى القديم والحديث بلاء على الدين. بدأت الكتابة منذ الشباب الباكر وكانت هواية عندى ورغبة أجد راحة في تحقيقها ولم أتوجه إلى الكتابة الدينية إلا بعد أن اشتغلت بالدعوة ص _018
الإسلامية.. وقد سلكت فى الكتابة الدينية منهجا يجمع بين العلم والأدب مع عرض الثقافة الإسلامية عرضا ممزوجا بقضايا العصر الحاضر، ويمكن القول أن هناك عدة محاور أساسية دارت حولها كتبى الخمسة والثلاثون التى وضعتها فى الأربعين عاما الماضية: " الإيمان والعقل والقلب " و " الإسلام والطاقات المعطلة ".
تفسير جديد للقرآن الكريم:
وأحب أوقات الكتابة إلى بعد صلاة الفجر.. عند هذا الوقت أشعر باجتماع فكرى ويقظة أعصابي وقدرتى على إفراغ ما فى نفسى فوق الصفحات ويغلب أن تكون الكتابة الأولى هى الأخيرة، وقلما أمحو منها أو أزيد عليها إلا القليل بل قلما أعود إلى قراءة كتاب أصدرته إلا إذا كانت هناك حاجة ملحة فى ذلك، كمناقشة له أو حوار حوله.
وأتمنى أن أكتب التفسير الموضوعى للقرآن الكريم فكل سورة من القرآن وحدة متماسكة تشدها خيوط خفية تجعل أولها تمهيدا لآخرها وآخرها تصديقا لأولها وتدور السورة كلها على محور ثابت وأتمنى وضع كتاب جامع فى ذلك .
* * *
ص _019(1/6)
الخطبة الناجحة المسجد قلب المجتمع الإسلامي، وملتقى المؤمنين بالغدو والآصال لأداء حقوق الله، واستلهام الرشد، واستمداد العون منه جل شأنه. وهو مصدر طاقة عاطفية وفكرية بعيدة المدى خصوصا أيام الجمع عندما تنصت جماهير المصلين فى سكينة وخشوع " للإمام " وهو. يشرح لهم تعاليم الإسلام ويبين لهم حدود الله ، ويفقههم على ما فى الكتاب والسنة من عظات وآداب. إن خطبة الجمعة من شعائر الإسلام الكبرى، ومعانيها تنساب إلى النفوس فى لحظات انعطاف إلى الله وتقبل لوصاياه. ومن ثم كان موضوعها جليل الأثر كبير الخطر... والإمام الذى يدرس موضوعه، ويجيد عرضه، يقوم بنصيب ضخم فى تثقيف الأمة، وترشيد نهضتها، ودعم كيانها المادى والأدبى ، و وصل غدها المأمول بماضيها المجيد.. لما كنا نريد الوصول بمستوى الخطابة فى المسجد إلى مكانته اللائقة به، ونريد جعل المنبر مرآة لما حوى الإسلام من معرفة صالحة وتربية واعية، لذا أثبت هذه التوجيهات الموجزة لما ينبغى أن يتوافر فى خطبة الجمعة من زاد روحى وثقافى منظم: 1- يحسن أن يكون لخطبة الجمعة موضوع واحد غير متشعب الأطراف ولا متعدد القضايا، فإن الخطيب الذى يخوض فى أحاديث كثيرة- " يشتت الأذهان وينتقل بالسامعين فى أودية تتخللها فجوات نفسية وفكرية بعيدة، ومهما كانت عبارته بليغة، ومهما كان مسترسلا متدفقا فإنه لن ينجح فى تكوين صورة عقلية واضحة الملامح لتعاليم الإسلام. والوضوح أساس لابد منه فى التربية، والتعميم والغموض لا ينتهيان ص _020(1/7)
بشيء طائل، وخطبة الجمعة ليست درسا نظريا بقدر ما هى حقيقة تشرح وتغرس. 2- عناصر الخطبة يجب أن يسلم أحدها إلى الآخر فى تسلسل منطقى مقبول كما تسلم درجة السلم إلى ما بعدها دون عناء بحيث إذا انتهى الخطيب من إلقاء كلمته كان السامعون قد وصلوا معه إلى النتيجة التى يريد بلوغها، وعليه أن ينتقى من النصوص والآثار ما يمهد طريقه إلى هذه الغاية. 3- ولما كانت الخطبة الدينية تنسج من المعانى الإسلامية المستمدة من " الكتاب والسنة " وآثار السلف الصالح فان لحمتها وسداها يجب أن يكونا من الحقائق المقبولة، وفى آيات القران الكريم، ومعالم السنة المطهرة متسع يغنى فى الوعظ والإرشاد، ولذلك لا يليق البتة أن تتضمن الخطبة الأخبار الواهية بله الموضوعة. وإذا كان العلماء قد تجوزوا فى الاستشهاد بالأحاديث الضعيفة فى فضائل الأعمال فقد اشترطوا لذلك: ألا تخالف قواعد الإسلام الكلية ولا أصوله العامة، وفى الأحاديث الصحيحة والحسنة مجال رحب للخطيب الفاقه ، وفى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين والأئمة المتبوعن ما يغنى عن الأساطير والأوهام. 4- لا يجوز أن تتعرض الخطبة للأمور الخلافية، ولا أن تكون تعصبا لوجهة نظر إسلامية محدودة.. فإن المسجد يجمع ولا يفرق، ويلم شمل الأمة بشعب الإيمان التى يلتقى عندها الكل دون خوض فى المسائل التى يتفاوت تقديرها، وما أكثر العزائم والفضائل التى تصلح موضوعا لنصائح جديدة وخطب موفقة. وقد شقى المسلمون بالفرقة أياما طويلة وجدير بهم أن يجدوا فى المساجد ما يوحد الصفوف، ويطفئ الخصومات. 5- بين الخطبة والأحداث العابرة، والملابسات المحيطة، والجماهير السامعة، علاقة لا يمكن تجاهلها ومما يزرى بالخطيب ويضيع موعظته أن يكون فى واد، والناس والزمان والمكان فى واد آخر. ص _021(1/8)
ولأمر ما نزل القرآن منجما على ثلاث وعشرين سنة، فقد تجاوب مع الأحداث وأصاب مواقع التوجيه إصابة رائعة . ولما كان القرآن شفاء للعلل الاجتماعية الشائعة فإن الخطيب يجب عليه أن يشخص الداء الذى يواجهه وأن يتعرف على حقيقته بدقة، فإذا عرفه واستبان أغراضه وأخطاره رجع إلى الكتاب والسنة فنقل الدواء إلى موضع المرض، وذلك يحتاج إلى بصيرة وحذق فإن الواعظ القاصر قد يجيء بدواء غير مناسب فلا يوفق فى علاج، وربما أخطأ ابتداء فى تحديد العلة فجاءت خطبته لغوا وإن كانت تتضمن مختلف النصوص الصحيحة. 6- هناك طائفة من الأحاديث تسوق الأجزية الكبيرة على الأعمال الصغيرة.. وقد قرر العلماء المحققون أن هذه الأحاديث ليست على ما يفهم منها لأول وهلة.. وأن ما فيها من أجزية ضخمة إنما هو لأهل الشرف فى العبادة وأهل الصدق فى الإقبال على الله. وليس ذلك للأعمال الصغيرة التى اقترنت بها. ومن هنا لا يجوز للخطيب أن يضمن خطبته هذه الأحاديث سردا مجردا فيحدث فوضى فى ميدان التكاليف الشرعية ولكن إذا قضى ظرف بذكر هذه الأحاديث ذكرها مع شروحها الصحيحة. 7- تقوم التربية الدينية على بيان الجوانب الخلقية والاجتماعية فى الإسلام وشرح ما يقترن بالخير والشر من معان حسنة أو سيئة، ومن عواقب حميدة أو ذميمة ، ولا بأس من التعريج على الأجزية الأخروية وعرض ما أعده الله فى الآخرة للأبرار والفجار بيد أن الإسهاب والتفصيل فى ذكر الأجزية المغيبة لا لزوم له ويكتفى بالإلماح إلى ما جاء فى القرآن والسنة عن ذلك دون تطويل وتعمق. 8- من الخير أن تتضمن خطبة الجمعة أحيانا شيئا من أمجاد المسلمين الأولين الثقافية والسياسية وتنويها بالحضارة اليانعة التى أقامها الإسلام فى العالم مع الإشارة إلى أن ينابيع هذه الحضارة تفجرت من الحركة العقلية التى أحدثها القرآن الكريم واليقظة الإنسانية التى صنعها الرسول صلى الله عليه وسلم ويكون الغرض من هذه الخطب- على اختلاف(1/9)
موضوعاتها- أن ترجع إلى المسلمين ثقتهم بأنفسهم ورسالتهم العالمية . ص _022
9- معروف أن هناك فلسفات أجنبية ونزعات إلحادية تسربت إلى الأمة الإسلامية فى كبوتها التاريخية الماضية وطبيعى أن تتعرض الخطبة لذود هذه المفاسد النفسية عن أبناء الأمة، ووظيفة الخطبة فى الإسلام عندئذ أن تتجنب الأخذ والرد والجدال السىء.. ولكن تعرض الحقائق الإيجابية فى الإسلام بقوة وترد على الشبهات دون عناية بذكر مصدرها لأن المهم هو حماية التراث الروحى والعلمى.. وليس المهم تجريح الآخرين وإلحاق الهزائم بهم. 10- قبل أن يواجه الخطيب الجمهور ينبغى أن تكون فى ذهنه صورة بينة لما يريد أن يقوله، بل يجب أن يراجع نفسه قبل الكلام ليطمئن اطمئنانا إلى صحة القضايا التى سوف يعرضها وإلى سلامة آثارها النفسية والاجتماعية. وعليه أن يتثبت من الأدلة والشواهد التى يسوقها فى معرض الحديث فإن كان قرآنا حفظه جيدا وإن كان سنة رواها بدقة، وإن كان أثرا أدبيا أو خبرا تاريخيا فإن توفيقه يكون بحسب مطابقته أو اقترابه من الأصل المنقول عنه. إن التحضير المتقن دلالة احترام المرء لنفسه ولسامعيه وقد تفجأ الإنسان مواقف يرتجل فيها ما يلقى به الناس ويصور ما بنفسه. والواقع أن القدرة على الارتجال تجىء بعد أوقات طويلة من الدربة على التحضير الجيد وعلى تكوين حصيلة علمية مواتية لكل موقف. ومع ذلك فإن المهارة فى الارتجال لا تغنى عن حسن التحضير للعالم الذى يريد أداء واجبه بأمانة وصدق والذى يقدر إنصات الناس له واحتفاءهم بما يقول. 11- الإيجاز أعون على تثبيت الحقائق، وجمع المشاعر والأفكار حول ما يراد بثه من تعاليم. فإن الكلام الكثير ينسى بعضه بعضا، وقد تضيع أهم أهدافه فى زحام الإطناب والإضافة . ص _023(1/10)
ألا ترى الأرض تحتاج إلى قدر محدد من البذور كيما تنبت، فإذا كثر النبات بها. تخللها الفلاح باجتثات الزائد حتى يعطى البقية فرصة الإنماء والإثمار. كذلك النفس البشرية لا تزكو فيها المعانى إلا إذا أمكن تحديدها وتقديمها، أما مع كثرة الكلام وبعثرة الحقائق فإن السامع يتحول إلى إناء مغلق تسيل من حوله الكلمات مهما بلغت نفاستها. وللإطناب الممل أسباب معروفة منها سوء التحضير فإن الخطيب الذى يلقى الناس بالجزاف من الأحكام والتوجيهات لا يدرى بالضبط أين بلغ كلامه وهل وصل إلى حد الإقناع أم لا فيحمله ذلك على التكرار والإطالة.. وما يزداد من الجمهور إلا بعدا.. وقد تنشأ الإطالة عن سوء التقدير للوقت والمواقف فيظن الخطيب أن بحسبه أن يقول ما عنده وعلى الناس أن ينصتوا طوعا أو كرها وهذا خطأ ومما يحكى فى قيمة الإيجاز أن أحد الرؤساء طلب منه إلقاء خطبة فى بضع دقائق فقال: "أمهلونى أسبوعا " فقيل له: نريدها فى ربع ساعة قال: " أستطع بعد يومين " قيل له: فإذا طلبناها فى ساعة؟ قال: " فأنا مستعد الآن ". إن الإيجاز يتطلب الموازنة والاختيار والمحو والإثبات، أما الكلام المرسل فالجهد العقلى فيه أقل والحقيقة أن خمس دقائق تستوعب علما كثيرا وعشر دقائق وخمس عشرة دقيقة تستوعب خطبة أو محاضرة جيدة. محمد الغزالى ص _024(1/11)
إلى المسجد خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه 23/ 2/ 1972 الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين؟ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإننا نلحظ أن النبى صلى الله عليه و سلم أول ما هاجر إلى المدينة كان شغله الأول أن يبنى المسجد، وأن يصف المؤمنين فيه، وأن يلتقى بهم من غبش الفجر إلى العشاء، وأن يقرأ القرآن عليهم فى صلوات الجهر، وأن يجعل المسجد محضنا للرجال ومصنعا للأبطال. والحقيقة أن المسجد هو روح المجتمع الإسلامي الأول، وأن الرجال الذين يربون فيه هم الذين يبنون النهضات، ويصنعون الحضارات، ويكونون أرقى المجتمعات. إن المصنع نوعان: مصنع للسلع أو للأسلحة، والمسجد مصنع للرجال، وكل أمة ليست لديها مصانع للرجال فإن الأسلحة مهما تكاثرت فى أيديها لا تغنى عنها لا قليلا ولا كثيرا. كان المسلمون فى مكة يصلون، والصلاة شرعت أول الأمر مثنى ص _025(1/12)
مثنى، ثم أصبحت على النحو الذى نؤديه الآن خمس صلوات، منها ثلاث صلوات رباعية وواحدة ثلاثية وواحدة ثنائية بعد ليلة الإسراء. كان المسلمون فى مكة يصلون، ولكن لم يكن فى مكة أذان لأنه فُرض على الحق أن يكون خفيض الصوت، ضعيف النبرات، ولم تكن هناك صلوات جامعة فى مسجد يقيم المسلمون فيه شعائرهم، لأنه محرم على الحق أن يحتشد الناس باعه، وأن يلتقوا تحت رايته. فكان أول ما اهتم به النبى عليه الصلاة والسلام أن أقام المسجد فى المدينة، لماذا ؟ لأن الناس الطيبين يوم يكونون فرادى كل منهم منطو على نفسه بعيد عن أخيه فإنهم لا ينجحون فى مقاومة الباطل المتجمع والضلال المحتشد، لا يستطيع الحق الممزع الصفوف الممزق القوى أن يواجه باطلا متماسكا متحدا، وقد اتحد الضلال على المسلمين الأوائل، فلم يكن بد من صب المجتمع الإسلامي فى المدينة على أن يكون صفوفا متراصة وجماعة تلتقى فى الصباح والأصيل باسم الله، تنادى باسمه وتركع له وتسجد، فيكون من هذا التجمع الشىء الكثير. إن المساجد منذ نشأت كانت مصانع للرجال، وقد لاحظا أنه يوم هجم الاستعمار العالمى على بلاد الإسلام ، واستطاع أن يحتل فلسطين لاحظنا أنه فى الوقت الذى نجح فيه عسكريا فى غزوة، كان مستميتا من الناحية الثقافية والاجتماعية أن يسحب الإسلام من ميدان المقاومة، وأن يجعل العرب المحروبين المهزومين لا يلتقون فى المساجد لقاء نافعا ، أو لا يتجمعون فى دنيا الناس تجمعا حرا ، لأنه لكى ينجح فى بلوغ أهدافه، لابد أن يمنع الدين من أن يكون فى جبهة المقاومة، وذاك ما حدث. فإن المساجد أصبحت صورا ، وأصبح الكلام الذى يلقى فيها ميتا ، واستمات أجراء الاستعمار فى شتى الميادين أن يرفضوا أى تجمع للإسلام فى بلاده، وبذلك استطاع اليهود أن يضربوا دون أن يضربوا، وأن يظلموا وهم آمنون من العقوبة، وأن يتبجحوا وهم يدركون أن الثأر منهم والإعداد لهم ما دام بعيدا عن الإسلام فلا قيمة له . بدأ(1/13)
المسجد يكون الرجال، لم يكن المسجد الذى أقامه النبى عليه ص _026
الصلاة والسلام فخما أو مزخرفا ، كان مسجدا فى بنائه سذاجة، مفروشا بالرمل، مسقوفا بسعف النخيل، أعمدته جذوع النخل، ولكن هذا المسجد المبسط هو الذى بنى الرجال، وخرج الأبطال !!! لماذا.؟. أولا: لأن استماع الناس إلى صوت نبيهم عليه الصلاة والسلام وهو يقرأ القرآن يربيهم به، ويتعهدهم بهداياته ، ويجمعهم على أضوائه خمس مرات كل يوم شحنهم بقوى روحية وأدبية وحماسية جعلت المسلم عندما اصطدم بالأنظمة. الباطلة فى دنيا الناس كأنما كان زلزالا صدعها أو بركانا حرقها !!. ما تماسك الباطل أمام الإسلام لأن المسلمين كانوا يقاتلون، وكأنما كانت أقدار الله فى صفوفهم، وحركات التحول الحاسمة فى التاريخ إلى جنبهم !!. يقول عبد الله بن رواحة رضى الله عنه، وهو يتحدث عن صلاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى المسجد: وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به مُوقنات أن ما قال واقع يبيت يجافى جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع وعبد الله الذى قال هذه الأبيات هو الذى ترد على من شيعوه بالسلامة وهو ذاهب إلى القتال- استكثر أن يقال له تعود إلينا بالسلامة- فقال:- لكننى أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا أو طعنة ييدى حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقولوا إذا مروا على جدثى يا أرشد الله من غاز وقد رشدا فى هذا المسجد تكون الأبطال صباحا ومساء . ص _027(1/14)
تبعث الصلاة فى نواحيها الفردية وفى نواحيها الاجتماعية، فوجدت نفسى مأخوذا أمام بعض المرويات . يروى البخاري فى صحيحه عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضى الله عنه قال: سمعت النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرأ فى المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: ((أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون)) كاد قلبى يطير!!. الصوت الخاشع فى المحراب الجليل يرتل الوحى المبارك. يناجى به رب العالمين وتنساب أصداؤه فى أفئدة الخاشعين خلفه، فإذا هى تجعل القلوب تكاد تطير قلت: أنظر فى سورة الطور، فوجدت نفسى وأنا أقرأ السورة أمام نصفها الأول وهو يتحدث عن الرسالة، وعن القيامة، وعن الجزاء، ثم وجدت نفسى أمام نصفها الأخير وقد تضمن خمسة عشر استفهاما ، أو كلمة " أم " وهى تعنى تحريك المعنى بحيث يضرب الإنسان عما قبله ويستفهم بما بعده، هذا وضع الكلمة البلاغى فى اللغة العربية. وجدت النصف الأخير للسورة تضمن خمسة عشر " أم " وراءها هذه الجُمل. تبدأ من قوله تعالى: (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون * أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) . يقولون: شاعر يحيا قليلا، ثم يطويه الموت ويذهب فى خبر كان: (قل تربصوا فإني معكم من المتربصين) (أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون) ؟ . أهذا تفكير عقلى أم هو الطغيان ؟ ص _028(1/15)
(أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون * فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين * أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون * أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين * أم له البنات ولكم البنون * أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون * أم عندهم الغيب فهم يكتبون * أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون * أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون) . خيل إلى أن كلمة " أم " هنا وخزة للضمير الوثنى الميت تحركه، صوت يلسع العقل الخامد ليبعثه على التفكير ويجعله يتحرك ويعرف ربه. خمس عشرة كلمة " أم " بعد كل " أم " جملة يحتاج شرحها إلى شىء من التطويل وهو يخرج بنا عن خطبتنا الآن، لكن تذكرت الآن كيف كان الناس وراء نبيهم ! صلى الله عليه وسلم يستمعون إلى هذا الوحى المبارك وهو يصقل العقل وينظم الفكر، ويجمع العزم، ويحشد الهمم، ويكون مسلمين مصفوفين كأنهم بنيان مرصوص يستمعون ويتربون ويتعلمون ويتزكون بهذه الصلوات. كان مما لاحظته وأنا أتابع الصلاة والقرآن فى المسجد أن النبى عليه الصلاة السلام كان فى أحيان كثيرة يصلى فجر الجمعة بسورة السجدة والإنسان ، ولعل هذا هو الذى جعل الشافعية يستحبون أو يعتبرون من السنن أن يصلى الإنسان فجر الجمعة بالسورتين ، وإن كان الأحناف والمالكية يرون غير هذا ويكرهون أن يواظب الإنسان على نوع معين من القراءة ، لأن ذلك قد يوهم العامة أن الصلاة ما تصح إلا بهذا النوع من القراءة، وهذا غير صحيح. قال العلماء وهم يعللون لم كان النبى عليه الصلاة والسلام يصلى الفجر يوم الجمعة بهاتين السورتين فقالوا: لأن كلتا السورتين تحدثت عن بدء الخلق، وعن أعمال الناس، وعن درجاتهم فى الآخرة، فكأن النبى عليه الصلاة والسلام وهو ص _029(1/16)
يقرأ يريد من الناس أن يعرفوا هذه الحقائق ليبنوا عليها سلوكهم و يصححوا بها نياتهم ووجهاتهم، ورجعت إلى كل سورة منهما فوجدت حقيقة أن كل سورة تحدثت عن بدء الخلق، فمثلا فى سورة السجدة، بدأت السورة بأن الله هو الخالق للكون: (الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون) . وبعد الإشارة إلى خلق الكون إشارة إلى خلق الحياة، وتمهيد الأرض للإنسان، وإضفاء مواهب معينة لهذا الإنسان كى يعرف ربه ويؤدى حقه، قال تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) . ثم يبين أن الناس لابد من أن يختفوا من على ظهر الأرض، لابد أن يموتوا، لن يخلد أحد، لكن هذا الاختفاء مؤقت، لكن المقابر زوره، زيارة يبقى الناس فيها حينا ، ثم يخرجون منها فلا يعودون إليها أبدا، بيد أن المشركين لا يصدقون هذا (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون) . وأحيانا يكون الإنسان عارفا الجواب ولكن يبطئ فى الرد به، لأن الجواب كان واضحا ينبغى أن يعرفه العقلاء، فهم يحتاجون قبل الرد به إلى شىء من التقريع والتوبيخ، وهذا ما حدث، ففى سورة السجدة يتساءل الناس: (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون). إذا كنت تستغرب أن تعود حيا بعد أن تموت فلم لا تنظر إلى الأرض التى تعيش عليها ؟ (أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) . ص _030(1/17)
إنك تأكل وترمى بفضلاتك وتأخذها " مجارى القاهرة " إلى " مزرعة الجبل الأصفر " ثم تعود إلينا الفضلات المزعجة فواكه ناضرة اللون جميلة الرائحة، مليئة بالسكر، مليئة بالغذاء!!! ألا تفكر ما الذى أجرى هذا التحول على الفضلات العفنة وأحالها كذلك؟. ان الذى يصنع هذا كل يوم، هو الذى يستطع ان يرد إليك الحياة بعد الموت! فإذا أبيت إلا الجحود والجبروت، فلتسمع قوله تعالى: (أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون). والسورة تتساءل: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) هذه سورة السجدة، وأجد أن سورة الإنسان تحدثت فى نفس المعنى ولكن بأسلوب آخر، وهنا يبدو ما فى القرآن من بلاغة، وما فيه من إعجاز. سورة الإنسان بينت أن الله خلق الإنسان من نطفة أمشاج، أى مختلطة فيها خصائص كثيرة. قال تعالى: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا). هنا (سميعا بصيرا) وفى سورة السجدة: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون). هنا فى سورة الإنسان يبين بإيضاح أكثر، فهناك بين أن الجاحدين لنعمة الله كثيرون، وهنا يعرض المعنى بأسلوب آخر فيقول: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) بيد أن سورة الإنسان لا تذكر أهل النار إلا فى آية واحدة تقرر عقوبتهم فيقول جل شأنه: (إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا) على ص _031(1/18)
عكس سورة السجدة التى تحدثت عن المجرمين حديثأ طويلا: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) . هنا فى سورة الإنسان كان الحديث أطول عن أهل الجنة، وعن النعيم الذى يمرحون فيه، وعن الخير الذى يُسر لهم. (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا * عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا * إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا) . وكما استبعد الناس فى سورة السجدة البعث وألفوا الحياة وعبدوها تجد السورة هنا تقول فى الكافرين: (إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا * نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا) . وكلتا السورتين تحدثت عن الاختبار الإلهى، فإذا قال الله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) . فمعنى الآية أن الله كان قادرا على أن يخلق الناس ملائكة: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) أو يخلقهم جادات لا تعقل، أو حيوانات غير مكلفة، ولكنه خلق الإنسان على هذا النحو ليختبره وليبتليه فيشكر أو يكفر. (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا * إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) . كان المسجد يوم بنى فى العصر الأول مدرسة يُقرأ فيها القرآن على هذا النحو الذى يزكى ويربى . ص _032(1/19)
وللصلاة ناحية نفسية ينبغى أن نحرص علمها وأن نستوعبها، فإنه ما من أحد إلا وكل ذرة من بدنه أثر نعمة الله عليه الذى يطعمه من جوع.. ومن حق المنعم أن تقول له بين الحين والحين: (الحمد لله رب العالمين). ومن حق من يتركك تخطىء دون أن يعجل عليك بالعقاب أن تعرف له صفته الواسعة الجليلة، صفة الرحمة، وأن تذكره باعيه الحسنين: (الرحمن الرحيم) . ثم تعلم أنك عائد إليه: (مالك يوم الدين)، ثم تعاهده على أن تكون عبدا له، تابعا له، مستعينا به، متجها إليه: (إياك نعبد وإياك نستعين). ثم لتعلم أنك مهما أوتيت من ذكاء، ومهما حرصت عليه من مصلحتك فإنك أفقر الخلق إلى هداية الله، فإذا لم يعنك ولم يهد قلبك فإنك ضائع، فاضرع إليه أن يهب لك هذا الخير المعنوى: (اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) . إن الصلاة مناجاة لله على هذا النحو، وأثرها الأول أن تعلم الناس الإخلاص لله، والإخلاص فى معرفة الآخرين ومعاملتهم، لأن الذى يدرب نفسه على المناجاة الخاشعة والعمل الصالح خمس مرات كل يوم ينبغى أن يكون نقيا لا يعرف النفاق ولا المداهنة ولا الغش ولا سوء العمل ولا سوء الخلق . إن الصلاة من الناحية النفسية تكوين روحى راق يزكى الناس ويضبط ص _033(1/20)
شهواتهم، ولأمر ما قال اللة فى المجتمعات المنحرفة، فى المجتمعات الزائغة، فى المجتمعات التى ليس لها هدف، فى المجتمعات التائهة فى هذه الدنيا- قال: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) . فكأن اتباع الشهوات أثر يجىء بعد ترك الصلوات، ولذلك فإن أمتنا يجب أن تعرف هذه الحقيقة وهى تواجه قدرها وتبنى مستقبلها. أما من الناحية الاجتماعية، فالمأخوذ على المسلمين أن نزعات الأنانية فى تصرفهم جعلتهم آحادأ لا رباط بينهم، بينما كانت الصلاة فى تنظيم الاسلام بناء للمجتمع على صفوف، وعلى حركات لا شذوذ فيها. قرأت فيما صح عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: " أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار " ؟؟!!. لأول عهدى بالعلم قلت ما هذا الحديث؟! إنه حديث قاس، ما هذا التهديد الشنيع؟ فلما تلؤت الناس واختبرت الجماعات عرفت أن الشخص الذى يألى أن يكون مرنأ مع الجماعة، لينأ بأيدى إخوانه، الشخمى الذى يألى إلا أن يكون فوضويأ يرفع ويخفض وحده دون ارتباط بنظام عام، هذا شخص أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان، وكثير من المسلمين فقد روح التجمع، إن روح التجمع تعنى حركات عامة، أما أغلب الناس فصوته من ادماغه، وحركاته من غرائزه، وانفعالاته من شعوره الخاص. ولذلك لايمكن أن يقوم مجتمع مع هذه الفوضى، إن البلاد الوثنية ص _034(1/21)
نظمت ركوب السيارات العامة فيها صفوفا، ولقد رأيت فى أرقى الأمم رئيس وزراء إنكلترا وهو واقف وترتيبه الرابع فى أحد الصفوف ينتظر سيارة عامة تقله،كما تقل سائر الناس !! فكان النظام الدقيق شاملا- أقول فى نفسى: ما مصدر هذا النظام؟. إذا كانت الأمة تصف خمس مرات، وتسمع من نبيها عليه الصلاة والسلام: " سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة " . " أقيموا صفوفكم وتراصوا فإنى أراكم من وراء ظهرى " . " أقيموا الصفوف، فإنما تصفون بصفوف الملائكة، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا فى أيدى إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله عز وجل " . وقال لرجل صلى وحده خلف الصف: " زادك الله حرصا ولا تعد ". وقد رفض ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يدخل المسجد من كانت له رائحة كريهة ، وسقطت صلاة الجماعة باتفاق الفقهاء عمن كان مريضا بفمه تصدر منه رائحة كريهة لماذا ؟ لأن الإسلام يريد أن يتجمع الناس فى جو نقى ليس فيه ما يثير الاشمئزاز أو الضيق، واستحب للمؤمنين أن يدخلوا المساجد فى ثياب نظيفة وإن وجدوا شيئا من الطيب أو الزينة فليفعلوا . ص _035(1/22)
هكذا بدأ المسجد يؤدى دوره فى المجتمع الإسلامى، كان أول ما اهتم النبى عليه الصلاة والسلام به أن بنى المسجد وشارك هو فى البناء، وعندما كان الصحابة من المهاجرين و الأنصار يغنون وهم يبنون: اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة كان عليه الصلاة والسلام يردد الكلمات الأخيرة من مقاطع هذا الشعر الغنائى الخفيف كى يشارك بعاطفته وبيده وبلسانه مع الذين يبنون المسجد. كان بناء المسجد كما قلت لكم مصنعا للرجال، ولا قيمة لأمة لا تؤدى مصانع الرجال فيها واجبها . إن المساجد هانت رسالة، وهانت مظهرا وجوهرا، إن الاستعمار العالمى استطاع أن يكون شعوبا وأجيالا صلتها بالمساجد مبتوتة ، بينما رأينا أن أهل الأديان الأخرى تشبثوا بعقائدهم ولو كانت باطلة، وبعباداتهم ولو كانت شاردة. إن الإسلام ينادى الناس من عقولهم، إنه لا يشدهم من حواسهم، بل يشدهم من عقولهم، فالنداء إلى الصلاة. عندنا كلمات مفصلة واضحة: " الله أكبر ، الله اكبر "، كأنها بين الحين والحين ساعة الزمن تدق لتذكر الناس بأن كل شىء بعد الله تافه، وأن كل شىء غيره صغير، وأن على الناس أن يستجيبوا للنداء، وأن يُهرعوا إلى المساجد كى يذكروا الله، وكان ذلك من الفجر إلى العشاء . إنني أنظر إلى المجتمعات الإسلامية الآن فأجد أن الصلوات خفت، وأن ناسا كثيرين يصلون فرادى، وأن المجتمعات الإسلامية ندر فيها القادة المؤمنون الذين يعرضون الكتاب والسنة عرضا سليما، فلنعرف علتنا، فما لم تعد المساجد مصانع للرجال، فنحن لن نستطيع أن نقاوم العدوان. لنعرف هذه الرسالة، ولنعرف لم كان أول عمل قام به النبى عليه الصلاة والسلام بناء المسجد ؟. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم . ص _036(1/23)
الخطبة الثانية الحمد، لله (..الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) . وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين . اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: أيها الاخوة: بيننا فى المسجد الآن أحد الرجال الذين فقدوا أبناءهم فى الطائرة " الليبية " المنكوبة، أجمل الله عزاءه، وثبت بالإيمان قلبه، وأقدره على مواجهة ما يواجه من آلام الفقد. وأنا أعرف بعض علماء الأزهر من " ليبيا " الذين قتلوا فى الطائرة المفقودة . والحقيقة أن الخبر ملأنى غما ، لا لأنى أشعر بأن ناسا ماتوا، والموت نفسه مصيبة، لكن لهوان الأمة الإسلامية على نفسها، وعلى الآخرين، ولعنة الله على من أوصل أمتنا إلى هذا الدرك فجعلها تضرب ولا تضرب، وجعلها يجار عليها ولا تستطيع أن تثبت وجودها ولا أن ترفع رأسها. إن الذين قتلوا لعلهم ذهبوا إلى الله شهداء، ولعلهم وجدوا عنده من حسن الجزاء ما يزهدهم فى دنيانا التى نعيش فيها. وإذا كان النبى عليه الصلاة والسلام يقول: " ما يُصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه " . ص _037(1/24)
فهذا المصير المتعب الفاجع كفارة للخطايا، ورفعة للدرجات إن شاء الله . لكن يبقى أن اليهود وصفهم الله فى كتابه فقال فيهم: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة) . اليهود شعب جزار، مصاص للدم، مستكبر فى أردية الذل التى كان يرتديها قديما ، فلما تمزقت هذه الأردية وواتتْ هذا الشعب فرص لكى يبين عن وجهه، ويكشف عن طبيعته، كشف عن طبيعة ذئب، لكن أذكر قول العقاد رحمه الله: أنصفت مظلوما فأنصف ظالما فى ذلة المظلوم عذر الظالم إن العرب ينبغى أن يعودوا إلى أنفسهم، لقد مرت بهم قوارع توقظ النيام مهما كان غطيطهم مرتفعا ، ومهما كانت غيبوبتهم عميقة، لكن العرب كالمنافقين قديما ، يقول الله فيهم: (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) . إننا لا ننتفع بالآلام ولا بالمصائب، إننا مادمنا بعيدين عن الإسلام، ولا أقصد بالكلمة المدلول القريب لها إنما أقصد ما دام الإسلام بعيدا عن المعركة، بعيدا عن تصفيف المجتمع فى المساجد والمعاهد، بعيدا عن ضبط التقاليد وجعلها فى سياج من الشرف والحق، ما دام الإسلام مبعدا عن التشريع والتثقيف، وما دامت الأمة تقاتل على نحو فردى فهيهات النصر. النصر إنما يجيء يوم يكون الإسلام صيحتنا وجبهتنا، ورباطنا وسياجنا، ويوم يتعلم الجيش كله أن الصلاة من الفجر إلى العشاء فريضة فيصلى، وأن الصيام فريضة فيصوم، وهكذا. لقد أمكن استخراج فتوى ضالة بإبطال " رمضان " سنة 1968 للجيش ا لماذا؟ قيل كلام غير صحيح، وكانت الفتوى غير صحيحة، وكانت الدولة ضاغطة على نفر من العلماء يذكرون الدنيا أو الناس ولا يذكرون الله رب الناس !! ص _038(1/25)
وما بقيت أمورنا بين متملق يحرص على الدنيا، ومحب للدنيا يسوق الآخرين إليها، فلن تصلح أمورنا. إننا بحاجة إلى عود حاسم إلى الإسلام لقد مرت عدة سنين انتشرت فيها الشيوعية والإلحاد، وتبخرت معانى الوطنية بل حتى روابط القومية الحيوانية، ووجدنا شبابا يبحث عن الجنس، يبحث عن الإباحية، وجدنا عشرات الألوف يقال لهم: احتشدوا لرؤية " كرة " وملايين يُطلب إليهم أن ينظروا إلى الشاشة لرؤية " كرة " !!. أمة صبغ الذل وجهها على هذا النحو الشائن تبدد جهودها فى التسلية واللهو!! أين الرجولة؟ أين الإحساس بالألم؟ أين الاستعداد للمعركة؟. إن ذلك لا يكون بالكلام الأجوف، إنما يكون بعمل حقيقى يسوق الشباب إلى دين الله ويمنع هذا الرجس الذى ظل ينتشر بيننا فى السنوات الأخيرة، حتى ملأ القلوب الفارغة بالإلحاد والضياع، وشتت القوى، وجعل اليهود وهم كلاب الأرض ينالون منا على هذا النحو الشائن !! " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) . عباد الله : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) . أقم الصلاة ص _039(1/26)
سياحة تاريخية خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير. وأشهد. أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإن الله جل شأنه ذكر بلدنا هذا- مصر- فى مواطن كثيرة من كتابه العزيز، وهذا يشير إلى أن بلدنا هذا- مصر- قديم التاريخ موصول الحضارة، تعتبر المدنية التى نبتت على شاطئه من أعرق المدنيات على ظهر الأرض، ويبدو أن الحياة الرتيبة فى هذا الوادى، وأن الاستقرار الذى يصبغ جوه وأحواله عموما أعان على تكوين حضارة فى بلدنا هذا.. حضارة تغلغلت فى تاريخ الإنسانية وتركت أثرا واضحا نضح على ما حولها، وأفاد الآخرون منه إفادة غير منكورة . وكانت الحضارة المصرية على الإجمال حضارة متدينة، يظهر أن تربة هذا الوادى لا يصلح فيها الإلحاد ولا يتشبث بها إلا الإيمان . كان الناس فى أودية كثيرة من قارات الأرض يبحثون عن لقمة الخبز، وجهدهم أن يصلوا إليها ، فإذا وصلوا إليها استراحوا واطمأنوا، أما المصريون القدماء ، فكان جهدهم كيف يعبدون ربهم، كيف يرضونه ص _040(1/27)
جهدهم، كيفى يؤمنون لقاءه يوم يلقونه، كيف يمهدون للدار الآخرة بالعمل الصالح فى هذه الدنيا . ومع أن حضارة المصريين الأقدمين اختلط الإيمان فيها بين توحيد وتعديد، فإنها على الإجمال كما قلت لكم كانت حضارة متدينة، وكان الشرك فيها إن حدث فاستجابة للرأى السائد يومئذ فى الدنيا، وهو رأى يرفضه الإسلام بداهة. هذا الرأى أساسه أن الاتصال بالله الواحد صعب وأنه لابد من وسطاء يمهدون له أو يوصلون إليه، وبداهة رفض الإسلام هذا المعنى لأنه أعطى كل امرئ الحق إذا عبد الله أن يقف بين يدى ربه يقول له: (الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم) ، وإذا أذنب أن يقف أمام ربه نادما مستعبرا بقوله: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) . لكن أجيالا ضلت طريقها لم تحسن الصلة بالله، وكان المصريون الأقدمون عموما أهل توحيد حينا، وأهل تعديد حينا آخر،. وإن كان التوحيد قد غلب عليهم فى فترات كثيرة من حياتهم وتاريخهم، ثم وقع شىء لابد أن يذكر، فقد هجم الرومان على مصر، وكان الرومان يومئذ وثنيين واحتلوا هذا البلد قرابة ستة قرون !!. كانت مدة طويلة كليل الشتاء البارد المظلم، وكان مجىء الرومان إلى مصر فى موجة من موجات المد التى تجعل بعض الأجناس يستغل خصائصه، ويمتطى قواه كى يستعبد غيره ويستخلص لنفسه خيره، ويجعل من نفسه سيدا، ومن الناس عبيدا !!. كان الرومان لما دخلوا مصر على هذا النحو، ووقعت أمور نذكرها. فى أثناء احتلال الرومان لمصر ظهرت المسيحية، وقيل إن عيسى ابن مريم وأمه جاءا إلى بلدنا هذا، فارين من بطش الرومان، ومن ضغط حكامهم ، ص _041(1/28)
أو من عسف الحاكم هناك ومن ضغطه ، ورجع بعد أن نمى عوده، وأخذ يؤدى دعوته فى فلسطين. لكن المصريين كانوا قد اعتنقوا النصرانية، ولما اعتنق المصريون النصرانية ضاق الرومان بهم، وغضبوا منهم؛ لآن الرومان عباد أصنام ؛ لأن الوثنية الرومانية كانت تصبغ الحكم صبغة شديدة، حاول الرومان أن يردوا المصريين عن المسيحية التى اعتنقوها ولكن المصريين أبوا وتشبثوا بدينهم الذى اختاروه لأنفسهم. وبدأ عصر من العسف والطغيان والمذابح حتى قيل إنه ما من قرية فى مصر أو مدينة إلا سفك فيها الدم وكثر فيها القتلى !! . أبى المصريون أن يتركوا الديانة النصرانية التى اختاروها لأنفسهم، وبدأ بهذا العصر الذى يسمى " عصر الشهداء " بدأ التاربخ المسيحى فى مصر، وهو تاريخ يشرف أهله؛ لأن أهله قاوموا عبادة الأصنام، ودفعوا ثمن المقاومة من دمهم وأبوا إباء شديدا أن يتحولوا عن التوحيد وعن الكتاب السماوى الذى جاءهم، ثم شاء الله بعد ذلك أن يدخل الرومان المسيحية !!. ولكن الرومان لما دخلوا المسيحية دخلوها على نحو غريب، حتى قال بعض المفسرين: لا يدرى أتنصر الرومان أم ترومت النصرانية؟!. . أيا ما كان الأمر فقد تحول الرومان إلى النصرانية واعتبرت الديانة الرسمية لهم، لكن المذهب أو الفهم الذى استقر الرومان عليه كان فهما . آخر غير الفهم الذى استقر عند المصريين. وحدث نزاع نظرى تحول إلى جدل مر، وإلى أخذ ورد طويلين، ئم رأى الرومان وعلى رأسهم هرقل أن يفرض المذهب الرومانى ومذهب الكنيسة الكاثوليكية على المصريين !!. وهنا قاوم المصريون الرومان وبدأوا عصرا يشبه العصر الأول، عصر الاضطهاد، والاستشهاد، إلا أن هذا العصر الجديد لم يطل، فقد شاء الله أن يخرج من قلب جزيرة العرب مد إسلامي عريض انتشر فى أنحاء العالم ص _042(1/29)
انتشار السنا بعد ليل معتكر، انتشار الرحمة بعد عصر ملىء بالقسوة والمرارة!!. ونال المصريين شىء من هذه الرحمة، فإذا عمرو بن العاص يقرع أبواب البلاد وهى فى حال منكرة من الاضطهاد والفوضى !!. كان بطريرك الأقباط محبوسا ، وكان أخوه قد قتل بعد أن عذب بالنار، وكان رجلا بدينا فتقاطر دهنه على النار، ثم رمى به فى أمواج البحر الأبيض فمات غرقا . لما دخل عمرو بن العاص عرض دينه عرضا عاديا !! الناس لا تفهم كيف عرض عمرو الإسلام؟ إن الإسلام لا يعرض فى مجالس مناظرة، وهو فى مجالس المناظرة قادر على أن يقهر الخصم، وأن يعلن الدليل، ولكن الإسلام عرض نفسه حكما عادلا ومجتمعا فاضلا ، ونفوسا بلغ من صفائها وعفتها أن قال الرافعى فيها: " ربما خافت البنت على نفسها من أبيها، ولكنها لا تخاف على نفسها من الفاتح العربى المسلم "!!. دخل الإسلام مصر حرية عقل وضمير، وتوازن مجتمع لا تطغى فيه طبقة على أخرى. دخل الإسلام مصر، وأمام المسلمين قول نبيهم عليه الصلاة والسلام لهم:" إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع " . دخل الإسلام مصر فكان أول ما محاه التعصب الدينى، وقال للأقباط: كنائسكم لكم تعبدون الله فيها على رأيكم وفهمكم لا يجبركم أحد على رأى أو على مذهب، أو على معتقد، وأطلق صراح البطريرك المحبوس حتى قيل: وأعان الأقباط فى بناء بعض الكنائس والعجيب أن عمرو بن العاص رضى الله عنه الذى دخل مصر فبنى هذا المسجد- مسجد عمرو بن العاص- للركع السجود، والذى أقام حكما ذوب فيه الفوارق بين الأجناس والألوان، عندما أخذت ابنه نشوة ص _043(1/30)
من نشوات النصر، أو نزوة من نزوات العرب، أو قوة من قوى الجاهلية فأساء إلى أحد الأقباط، وكان القبطى ماكرا لبيبا ، فذهب إلى الرجل الذى أرسل عمرا ، ذهب إلى عمر نفسه وشكى له !! فجاء عمر صاحب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتلميذه، جاء بالقبطى المظلوم وبابن عمرو بن العاص ابن الحا كم وقال لعمرو: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.. !؟ ثم قال للقبطى: خذ حقك من ابن الأكرمين !! ثم قال فى فترة من فترات الغضب لله: " لو شئت أدرت السوط على صلعة عمرو بن العاص !!. هذا حكم النبوة، هذا حكم الإسلام .!! كان الإسلام يومئذ عقيدة تعرض نفسها ، على أى شىء تعتمد؟ على صفاء حقائقها، على نضارة عقائدها وغزارة فضائلها، ووفرة المثل الرفيعة التى تدعو إليها. والرجل يوم يكون صاحب ثروة طائلة من الصدق والشرف والرحمة والوفاء والعفة فإنه يطمئن إلى أن ثروته هذه ستوطئ له الأكناف، وتفتح له القلوب، وتضئ له النواصى. ولذلك ما فكر الإسلام فى بلد دخله أن يقيد الحريات، لم يقيدها؟ والحرية عونه الأول على غرس الإيمان وتصحيح المعتقد، ما فكر الإسلام يوما أن يقيم حكما استثنائيا، ولم يقيمه؟ والعدالة هدفه، وهو يعلم أن الله عز وجل إنما ينصر أو يهزم بمقدار قوة الصلة به أو ضعف هذه الصلة. ظل المسلمون الذين جاءوا إلى مصر وهم أربعة آلاف مع عمرو لحقهم عدد قليل بعد ذلك من الناس بعد أن قوضوا الحكم الروماني ، ظلوا على هذا النحو قلة، ولكن المصريين أخذوا يغلغلون البصر فى الدين الجديد، وفى المبادىء التى قام عليها، وبدأوا يدخلون فيه، وظل المصريون يدخلون فى الإسلام خلال القرن الأول، وخلال القرن الثانى ، ولم يتحول ص _044(1/31)
الإسلام فى مصر إلى كثرة فى السكان إلا فى القرن الثالث تقريبا !!، والأساس هو ما قلت لكم: دين لا يعرف قط إلا مخاطبة العقل الحر، وإيقاظ الضمير النائم ، وما يعتمد فى نشر مبادئه على عصا أو على إكراه. يخطىء المسلمون فى مصر الآن خطأين: الخطأ الأول: أن عددا منهم لا أدرى أهو عدد كبير أم صغير؟، يقول بشىء من الغباء: إننا عرب، يقصد بذلك أنه نسل الفاتحين، هذا كذب، هذا كذب!! ولعل مركب النقص هو الذى يدفع إلى هذا الزعم !! فنحن فى الحقيقة أبناء المصريين الذين أسلموا !! ربما كان هناك عدد من أبناء العرب الذين وفدوا، لكن هذا العدد قليل !! أما الكثرة الكبرى من المصريين فهم أبناء المصريين الذين دخلوا فى الإسلام. وعندما يقول المصريون إنهم أبناء الفاتحين يعطون غيرهم حجة مكذوبة أنهم أبناء مصر وأن غيرهم وافد وطارىء ، وهذا غير صحيح !! يجب أن نعرف الحقائق فإن أكثرنا غافل. أريد أن أقول لكم: إن شيخ الأزهر العباسى المهدى كان أبوه قبطيا!! ويوجد بين أئمة المساجد الآن وبين مفتشى المساجد وبين علماء الأزهر رجال آباؤهم أو أجدادهم من الأقباط!!. فالقول بأن المصريين أبناء الفاتحين غلط فاحش ما ينبغى أن يقال، هذا خطأ يرتكب !!. الخطأ الثانى: الذى يرتكبه المسلمون أنهم يسمون مجىء عمرو بن العاص الى مصر: الفتح العربى لمصر !!. كان هذا التعبير سليما يوم كانت كلمة فتح تعنى شيئا آخر غير المفهوم الذى عرف به الآن فى العالم، فكلمة الفتح الآن تساوى الغزو، والحقيقة أن الوصف الدقيق لمجىء العرب إلى مصر هو تحرير العرب للمصريين!!. الجيش الذى انطلق من المدينة عبأه أبناء محمد عليه الصلاة و السلام فى عقيدته، وحملوه راية التوحيد، لم ينطلق كى يكره على إيمان، وإنما انطق كى يحرر ص _045(1/32)
شعوبا مستعبدة أو كما قال أحد القادة لحاشية كسرى تقولون: لم جئتم؟ " جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد " !! لم نجيء لنستعبد الخلق، والدين لله ، هذا ما ينبغى أن يعرف، وهنا أريد أن أشرح هذا المعنى، وألقى الضوء عليه: توجد الآن فى أفريقيا شعوب ترسف فى قيود الهوان مسروقة تحت الشمس !! توجد شعوب تترنح تحت ضربات الأقوياء الذين ألهبوا الجلود بسياطهم، وكمموا الأفواه حتى لا تصيح من الألم !!. توجد الآن فى جنوب أفريقيا وفى روديسيا، وفى مستعمرات البرتغال الثلاث فى وسط أفريقيا وغربها، وتوجد تحت راية حكومات مستقلة للأسف، توجد جماهير كثيفة تضرع إلى الله أن يرسل إليها من يفك الأغلال عنها، ومن يكسر أبواب السجون التى قبعت وراءها فهى لا تعرف فى قيودها وسجونها إلا الهوان والبأساء والضراء !! لو أن جيشا ذهب إلى الملونين فى جنوب أفريقيا ليسقط الحكم القائم، ويقيم حكم مساواة ورشد، لو أن جيشا ذهب إلى مستعمرات المستعبدين تحت الحكم الكاثوليكى البرتغالى وأسقط الراية التى هناك، وأقام راية أخرى تعطى الملونين من الزنوج، والمظلومين من المسلمين الحقوق العادية للبشر العاديين، أيسمى هذا غزوا؟ أيسمى هذا فتحا استعماريا ؟ أيسمى هذا افتياتا على الأمم؟ !!. إن العرب لما خرجوا من جزيرتهم إلى مصر أو الشام لم يخرجوا مستعمرين أو طلاب دنيا، لماذا؟ لأن طلب الدنيا فى دينهم جريمة . رجل قال لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إنى أقف المواقف أريد وجه الله وأحب أن يُرى موطنى " ؟ فلم يرد عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئاً حتى نزلت هذه الآية (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) . اعتبر الرياء شركا، اعتبر القتال طلبا للدنيا جريمة . ص _046(1/33)
وقال فى تعريف الجهاد: " من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله " . هذا هو الإسلام، فالذين جاءوا إلى مصر أو ذهبوا إلى سوريا، ما جاءوا وما ذهبوا كى يقال: إنهم فتحوا أو إنهم غلبوا أو إنهم ملكوا.. لا .. لا، كانوا يعملون لله، ويؤدون حق الله ، وكانت الآخرة أحب إليهم من الدنيا، وكان الموت فى سبيل الله أحلى مذاقا فى أفواههم من أن يعودوا إلى زوجاتهم وأولادهم، كانوا أصحاب عقائد. وإذا حلا لبعض المستشرقين أن يتساءل ما الذى جاء بالعرب إلى أفريقيا أو إلى آسيا؟. فلنقل له قبل ذلك: وما الذى جاء بالرومان إلى مصر، والى آسيا الصغرى، وإلى الشمال الأفريقى كله؟!. قبل أن تسأل: ما الذى جاء بالعرب ليحرروا، إسأل نفسك ما الذى جاء بأجدادك هنا ليستعبدوا؟!. لا تقل لم جاء العرب مصر؟ سل نفسك أولا لم جاء الرومان مصر؟ إن المحرر لا يسأل عن فعله، وإنما يسأل المستعبد عما صنع !! ثم إن الجزية التى يتحدث البعض عنها ما كانت أكثر من توازن اقتصادى بين المسلمين وغيرهم. كان المسلم مكلفا بدفع الزكاة، وكان مكلفا بدفع ما يقيم عدة الحرب، وجهاز القتال، ولم يكن أهل الذمة مكلفين لا بقتال ولا بمساهمة فى قتال ولا بالإعداد له بقرش ولا بدفع زكاة !!. فإذا كان المسلمون سيأخذون القليل فى نظير أن ينهضوا هم بالحماية فأى عيب فى ذلك؟. ويقول التاريخ: إن أبا عبيدة بن الجراح لما وصل إلى " حمص " وأخذ من أهلها الجزية أكرهته بعض العمليات العسكرية على أن ينسحب فقرر رد الجزية إلى الناس، فقالوا: ما هذا ؟. ص _047(1/34)
لقد تعودوا أن الحكام يأخذون ولا يردون، تعودوا لحكام يغصبون ولا يعدلون، فوجدوا حاكما أخذ منهم بالأمس جنيها وهو يرده اليوم !! فقال لهم: لقد أخذنا منكم هذه الجزية فى نظير أن ندفع عنكم أما إذ عجزنا عن الدفاع فلا يحق لنا أن نأخذها فقالوا لابى عبيدة: استبق المال معك، وسنقاتل الرومان معكم معشر العرب جنبا إلى جنب، فما عانينا من ظلمهم يجعلنا نتفق معكم على قتالهم !!. إن التاريخ ملىء بالإشاعات الكاذبة، ومن الإشاعات التى روج المسلمون لها للأسف أن الإسلام دخل مع الفاتحين وأنه دين الفاتحين وهذا غير صحيح. حمل الفاتحون العقيدة لكنهم ما فرضوها ولا اكرهوا أحدا عليها، وكان المسلمون قلة فى القرنين الأولين من الفتح،. ثم بدأوا يكونون كثرة بالاقتناع الفردى، ولا يجرؤ أحد أن يقول: إن المصريين اكرههم الإسلام على الدخول فيه، فإن المصريين وفق تاريخهم الثابت عنهم قاوموا الرومان، وقتلوا فى كل قرية، ولم يفرطوا فى دينهم، وقاتلوا الرومان مرة أخرى حتى جاء الفتح العربى فأنقذهم من بطشهم، فلم يدخلون فى الإسلام دون أن يسفك دم؟ إنما دخلوا لان الله شرح بالإسلام صدورهم !!. فماذا كانت علاقة الإسلام بغيره من الديانات بعد أن أصبح دين الكثرة هنا؟. المسلمون فى أرض الله كلها ناس طيبون وسمحاء، والتعصب لا يعرف طريقا إلى قلوبهم، والحروب الدينية التى جعلت سطح أوربا ملوثا بالدم مليئا بالفتن، هذه الحروب لا يعرفها العالم الإسلامي ، إن العالم الإسلامى عاش على فهم أنه يمكن أن يتعاون اثنان بينهما اختلاف دين على أمر ما !!. وقد حدث أن النبى عليه الصلاة والسلام وهو يهاجر استأجر الدليل على الطريق استأجره مشركا. وهذا الدين قال: يمكن أن تتسع غرفة- متران فى ثلاثة أمتار- لرجل وامرأة على غير دينه تكون يهودية أو نصرانية !! ص _048(1/35)
فإذا اتسعت حجرة لدينين أفلا تتسع الأرض الفضاء لدينين؟! مشى الإسلام فى بلدنا على هذا النحو يعيش بسماحته، ويعيش بقدرته الذاتية على الحياة، إلى أن نكب بالاستعمار الأوربى، وحدث ما حدث فى تاريخ يطول، ثم بدأنا ننتعش ونعود، لكننا عندما حاولنا أن نعود وجدنا الاستعمار قد نكبنا بنكبتين من لونين مختلفين!!. فى عهد مضى نكبنا بالمادية الحيوانية، والمادية الحيوانية فلسفة تجعل الشباب يعيشون بحثا عن الشهوات، تجعل الناس يكدحون لمأرب خسيس أو غرض قريب، المادية الحيوانية تجعل العيش فى الأرض للأرض، وهى مادية قصد بها تكوين جيل مقطوع عن دينه يبحث عن الأهواء والدنايا فقط !!. وقاومنا هذه المادية مقاومة نجحنا فيها حينا وفشلنا فيها حينا، ثم جاءت مادية أخرى هى المادية الجدلية الحمراء، هى مادية تجعل الناس يفتحون أفواههم بوقاحة يقولون: لا ألوهية والحياة مادة !! لكن شاء الله أن يتلاشى هذا الزحف، وأن يتضعضع ويضطرب. عندما قامت ثورة 23 يوليو 952ام كانت قلوب الناس أجمعين معها، لماذا؟ كان القادة يرفعون المصاحف، وكانوا تحت علم مكتوب عليه: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) . وكان العمل للعروبة والإسلام واضحا فى هذا الخطط، ثم شاء الله أن تسرق الثورة !! وأن تجىء مراكز قوة تنال من ديننا، ومن عقلنا، ومن تفكيرنا، وبدأت المادية بألوانها تنضح علينا من كل ناحية حتى ظن أن الصلاة جريمة وأن الاتصال بالله منكر وأن العودة إلى الإسلام طريق الهلاك !. والذى أريد أن أقوله بعد هذه السياحة التاريخية المتقطعة : ص _049(1/36)
أيها المسلمون: إن التمسك بالدين ضرورة حياة لكم ، وإن الذى يتصور التمسك بالدين طريقا إلى السجن مخطئ جدا، وإن الذى يتصور التمسك بالدين طريقا إلى السجن، ثم يترك دينه فهو مجرم !! فالسجن أولى من ترك الدين !!. ومع هذا فنحن لا نقول ما قال يوسف: (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) ، فإننا لا ندعى الآن إلى منكر، لا ندعى الآن إلى ضلالة، إننى أهيب بالشباب، بالجيل الناشئ ألا يهاب العودة إلى دينه، أن يكون جريئا فى التمسك بإيمانه وانطلاقه تحت راية التوحيد، غير متهيب ولا متوجس، ولا قلق ولا جزوع، يجب أن يعلم أن راية الإيمان لابد أن تمشى القوافل تحتها حثيثة كثيفة لا تخاف ولا تخشى. ثم أقول للمسلمين شيئا آخر: إن الضعيف لا يقويه أن يهدم غيره، إن الضعيف سيبقى ضعيفا ، ولو أن غيره تلاشى من الأرض، ولو أن أعداء الإسلام اختفوا جميعا من هذه الدنيا وبقى المسلمون على الوضع الذى هم عليه الآن نظريا ونفسيا وخلقيا فإن الأرض لا تصلح بهم ولا يستحقون التمكين فيها !!. إنني أقول للمسلمين استرجعوا دينكم بحقائقه، عيب أن يكون الشباب المسلم أو الطالب المسلم متأخرا فى ثقافته أو فى دراسته، وغيره قوى فى دراسته، أو فى معرفته وعلومه !!. عيب أن يكون التاجر المسلم ضعيفا فى عمله، مضطربا فى أسلوبه، غاشا فى سلعه، ثم يحسد الآخرين إذا نجحوا أو تقدموا، لا، إن العقيدة تحتاج إلى خدمة من نوع جديد، حدث منذ بضع سنين لا تتجاوز الأصابع أن صدر أمر إلى المسيحيين فى القدس أن يشتروا الأرض من المسلمين. كانت رغبة فى أن يوضع الطابع الصليبى على القدس القديمة، و بدأ ناس من المسلمين يبيعون دورهم، المتر الذى يساوى خمسين عرض عليهم فيه ص _050(1/37)
مائة، مئتان!! وقال المفتون يومئذ: إن المسلم الذى يبيع شبرا من أرضه يعتبر مرتدا لأن الشبر الذى يبيعه من أرضه يكون موطىء قدم لحملة صليبية جديدة على بلادنا. ألا فليستيقظ المسلمون. إن يقظة المسلمين لا تعنى أكثر من أن يتمسكوا بدينهم، ويحترموا أخوتهم، ثم الآخرون ممن ليسوا على ديننا سوف يعيشون معنا كما عاشوا على امتداد القرون، لهم ما لنا وعليهم ما علينا !! بل ربما قلنا: " لهم ما لنا من الحقوق وأكثر !! وعليهم ما علينا من واجبات بل أقل " !!. إننا نحن المسلمين ليس فى تاريخنا الطويل أننا أصحاب تعصب، ولكن فى تاريخنا الطويل أننا أصحاب طيبة قد تبلغ حد الغفلة والجهل!! أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم . الخطبة الثانية الحمد لله (..الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) . وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام الأنبياء، وسيد المصلحين . اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل، واعلموا أيها الأخوة أن بلدنا هذا يحتاج إلى مرحلة من الاستقرار، يمكن فيها أن يتم بناء على العقيدة والخلق، على الإيمان والشرف، على الإسلام ومبادئه وشرائعه . ص _051(1/38)
نحن بحاجة إلى هذه الفترة، ووحدتنا الوطنية سلاح لنا، وأنا أخشى أن يكون أعداؤنا قد حرضوا البعض على أن يحدث أى تعكير لهذه الوحدة لحساب غيرنا لا لحسابنا، إن أى تعكير لهذه الوحدة الآن ليس لحسابنا، والذى يعكر هذه الوحدة معروف، لأنه يعمل لحساب الاستعمار الأجنبى!!. إننا نوصيكم مشددين ألا يستفزكم أحد، وأن تضبطوا أعصابكم، وفى الوقت الذى أكلفكم فيه بضبط الأعصاب، وامتلاك النفس، أقول لكم: إن الوسائل التى تنجحون بها دينكم وتملكون بها السيادة على أرضكم فى أيديكم ولا تحتاج إلى مشقة طويلة ولا إلى جهد العباقرة، تحتاج إلى جهد الرجل العادى ، ويوم ينقص المسلمين جهد الرجل العادى لينجحوا فهم أهل لأن يضيعوا !! وهم أهل لأن يتلاشوا وتخلص الإنسانية منهم لأنهم ليسوا أهلا للحياة !!. إن تماسك المسلمين لا يحتاج إلى عبقرية ، وإنما يحتاج إلى اليقظة العادية؟ إلى السيرة التى لا غفلة فيها ولا استكانة ولا فوضى ولا تواكل !!هذا ما ألفت النظر إليه. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) . عباد الله : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) . أقم الصلاة ص _052(1/39)
شمس محمد صلى الله عليه وسلم تسطع على العالم خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه بتاريخ 13/4/1973 الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإن حاجة العالم إلى الرسل حاجة ملحة، ما يستطيع الناس أن يستغنوا بعقولهم عن هدايات السماء. فى عصرنا هذا تقدم العلم، وارتقى الفكر، ونضج العقل البشرى، ووصل إلى آفاق رفيعة، ومع ذلك فإن الخلاف بين أولئك العقلاء عميق وواسع، ما يعتبر فضيلة فى شرق العالم، يعتبر رذيلة فى غرب العالم !! فإن كان العقل البشرى المجرد تتفاوت أحكامه على هذا النحو فى المعاملات المعتادة، وفى تقدير ما هو حق وباطل.. فكيف يعتمد عليه، أو يوثق به وحده؟ لابد للناس من رسل موفدين من قبل الله جل شأنه، يشرحون للناس الحق ويلهمونهم الرشد، ويقودونهم إلى الصراط المستقيم . والله عز وجل رحمة منه بخلقه بعث رسلا كثيرين إلى الناس.. بعض أولئك الرسل عرفنا أسماءهم، وبعض كثير لم نعرف أسماءهم، ولكن ص _053(1/40)
أولئك الرسل ظهروا فى تاريخ الإنسانية الماضى ، كما تظهر النجوم فى جوانب الليل الضارب.. هذه النجوم ترسل أشعتها الهادية ليستطيع الناس السرى وليضعوا خطواتهم فى مواقع آمنة. كان أولئك المرسلون الأولون يضيئون جوانب التاريخ البشرى مصابيح خافتة تشع بقدر ما أوتيت من فضل الله وإمداده حتى طلعت شمس محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على العالم فكان النهار الذى أغنى عن كل مصباح ، وأطفأ كل شعلة !! وكما قال شوقى: لا تذكر الكتب السوالف قبله طلع الصباح فأطفئ القنديلا كان محمد عليه الصلاة والسلام الرسول الذى طلع صبحه على الكون فأنار به، وأوضح ما كان مبهما أو غامضا فى أرجائه!! كل الرسالات التى سبقت الرسالة الأخيرة كانت رسالات محلية ومؤقتة، فلأولئك المرسلين أماكن معينة يعملون داخل نطاقها، ولرسالتهم أعمار محددة تنتهى بعدها، ولا توجد رسالة تشمل الزمان كله إلا رسالة محمد عليه الصلاة والسلام!! فإن هذا الإنسان الجليل هو الذى وضعه ربه فى محراب الإمامة العامة لخلق الله فى كل عصر وفى كل مصر، وأغنى برسالته عن أن يجىء بعده أحد !! وكان الله قادرا على أن يبعث فى كل بلد نبيا، ولكنه اكتفى برسول واحد للناس كافة: (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا) . لو شئنا.. لكنه جل شأنه غلق أبواب السموات فما ينزل ملك بوحى بعد الرسالة الخاتمة، لأنه لن يقول جديدا!! ماذا يصنع الوحى الجديد؟ لقد انتهت الهدايات كلها فى هذا القرآن الكريم، وأودعت فى صحائفه ص _054(1/41)
جميع الأشفية والأدوية التى تصح بها الإنسانية ما بقيت الأرض ومن عليها، فلا حاجة إلى جديد بعد ذلك . الرسالة الأخيرة رسالة عامة، وعموم الرسالة الإسلامية جاءت به آيات وسنن ومن الملاحظات الجديرة بالذكر أن كل ما نزل يفيد عموم الرسالة كان فى العهد المكى. وربما تساءل بعض الناس: وما دلالة أن تكون بعض الآيات الدالة على عموم الرسالة فى العهد المكى؟ والجواب: أن العهد المكى كان عهد اختناق الدعوة وعهد سجن من بها، واضطهاده، ومنعه من الحركة والتنقل. فى هذا العهد الذى كان الإسلام يعانى فيه من جبروت الوثنيين وضغطهم البلاء الشديد، كان القرآن يتنزل أن هذه الرسالة ليست لقطر بعينه، ولكنها لأقطار الخلق جميعا. ولو أن عموم الرسالة تنزلت به آيات فى العهد المدنى أو فى أواخر أيام الرسالة لقال الناس: نبى نجح فى أن يفرض نفسه على الجزيرة العربية فأغراه النصر على قومه بأن ينتصر على الآخرين، وأن يوسع دائرة التبليغ بعد أن ضمن الجنس الذى أرسل فيه. لكن العجب أن عالمية الدعوة تأكدت فى سور مكية ففى سورة القلم وهى مكية، نقرأ قوله تعالى: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون * وما هو إلا ذكر للعالمين) . ومعنى قوله: " ليزلقونك "... إنهم يكادون لفرط ما يخرج من غضب من عيونهم يكادون يزلون قدمك ويسقطونك!! هذا معنى الانزلاق " وما هو إلا ذكر للعالمين "، وفى سورة الأنبياء وهى مكية: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وفى سورة الفرقان وهى مكية: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) . ص _055(1/42)
وفى سورة سبأ وهى مكية: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وفى سورة الأنعام وهى مكية تقرأ قوله تعالى بعد أن ذكر ثمانية عشر نبيا أحصى أسماءهم، وتحدث عن مناقبهم، قال: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين) . وفى هذه السورة نفسها: (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) . أى كل من بلغته آيات القرآن فهو منذر به، مكلف أن يفكر فيه، وأن يتأمل وأن يتدبر آياته، وأن ينتفع بها. هذا العموم للرسالة اقتضى أمورا حتى يصح، أول ما اقتضاه: أن تكون المعجزات الشاهدة بصدق المبلغ عن الله ليست معجزات محلية، بل معجزات دائمة متجددة على مر العصور، والواقع أن القرآن الكريم وهو المعجزة الكبرى للنبى عليه الصلاة والسلام لا يزال إلى يوم الناس هذا، وإلى الغد القريب والبعيد، وإلى امتداد الحضارة البشرية على ظهر الأرض، لا يزال القرآن الكتاب الفذ الذى يتحدث عن الله الحديث الصادق المقنع!! والذى يشهد بما فيه من معارف، وتاريخ، ووصف للكون، وتأثير فى النفس وإعجاز فى البيان، لا يزال هذا الكتاب معجزة العصور التى تتجدد مع تجدد الليل والنهار!! يتبع هذا أن يكون الرسول الخاتم عليه الصلاة والسلام قد زود بما ينفع البشرية على امتداد تاريخها، وإلا قيل: لماذا تقيد البشرية بتفكير مضت عليه أربعة عشر قرناً ؟ وهذا كلام يقوله الناس الذين يعرقلون مسيرة الإسلام، ويرسلون شبهات تافهة حوله . ص _056(1/43)
والواقع أن القول بأن تبعية الناس لمحمد عليه الصلاة والسلام، واستمدادهم منه عود إلى الماضى، ولون من الرجعية، ووقف للتطور الإنسانى، هذا القول من ناحية الشكل مردود، ومن ناحية الموضوع لابد أن نناقشه حتى نبين لم كان الإسلام رسالة خالدة؟ من ناحية الشكل مردود لأن الإسلام أحدث الرسالات السماوية الموجودة الآن فإن الإسلام مضت على نبوته قرون أربعة عشر، بينما مضت على النبوات الإسرائيلية سبعون قرنا؟ فكيف يكون التمسك باليهودية تقدما، وارتقاء وتجديدا ؟!! كيف يكون قيام دولة لإسرائيل شيئا فى عالم الحضارات وفى منطق الدول الكبرى كيف يكون هذا شيئا لا بأس به، ولا حرج فيه، ولا يسمى عودة إلى الماضى، ولا رجعية إلى الخلف؟ مع أنه عودة إلى سبعين قرنا مضت !!، بينما يتهم الإسلام لأنه عودة إلى ألف سنة بأنه دعوة إلى التأخر والرجعية !!! هذا فنطق من ناحية الشكل سخيف، لأنك تعتبر قيام إسرائيل حركة تقدمية، وتعتبر العودة إلى الإسلام حركة رجعية، هذا شىء سخيف ومع هذا فقد قلت إن هذا رد شكلى !! أما الرد الموضوعى: فيجب أن نعلم أن الإسلام ترجع صلاحيته إلى أصول فيه نحب أن يعرفها الناس. نسأل من يريد أن يعيش معاصرا، وأن يتمشى مع التطور، نسأله ماذا تريد؟ فيقول: نخضع للعقل ونحتكم إليه . والجواب الذى يقوله هذا الشخص يجب أن نمسك به لنقول له: أنت بهذا تتبع الإسلام طوعا أو كرها !! فإن الإسلام من أسباب صلاحيته الأولى للسيطرة على العالم إلى قيام الساعة أنه دين جاء يبنى اليقين على حركة العقل البشرى بين الأشياء، والمواد، والخصائص والقوانين الكونية، وهو يقول للإنسان: لكى تؤمن ص _057(1/44)
بربك تأمل فيما خلق . . (فلينظر الإنسان مم خلق) . (فلينظر الإنسان إلى طعامه) . (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء) . إن هذا النظر أو هذا العمل العقلى، هو الذى بنى عليه القرآن الكريم الإيمان بالله رب العالمين . بل إن الله فى هذا القرآن الكريم عرف نفسه للناس عن طريق حبس أبصارهم فى ملكوته، وإرغامهم على أن يفكروا فى نعمائه، وفى إبداعه، وفى مظاهر قدرته ونعمته. (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) . (الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين * هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين) . إن الإسلام جاء بأمور ليس لمر الزمن تأثير فيها ولا دخل فى حقائقها، وجاء بأمور تركها للزمن تتطور معه، وتتغير بارتقائه، وهذا شىء لابد أن نعرفه بدقة، فإن التطور لا يدخل كل شىء إذا كانت العقائد قائمة على أن الله واحد فهل وحدانية الله تتغير مع الزمن؟. الله الواحد من ألف قرن هو الواحد بعد ألف قرن والتطور لا دخل له فى العقائد !! الأخلاق لا تخضع للتطور، العفة أو العدل، أو العلم، فضائل فهل مر الزمن سيجعل الجهل أو الظلم أو التشهى الحيوانى المنطلق، هل سيجعل ص _058(1/45)
هذا فضائل ؟، لا.. عندما يعلن أن الجسد الإنساني يتسخ لعمل الغدد فيه ونشاط الأجهزة به، ولأن الجو الذى يعيش فيه مُترب يكسو الجسد بالتراب، فهل تنظيف الجسد بالماء يستغنى عنه لأن الزمن تطور؟ لابد من التنظيف، لابد من الوضوء. هل العلاقة بين المخلوق والخالق، بين المرزوق والرازق، بين من يمد يده ليأخذ، ومن يبسط يده ليعطى، هل العلاقة بين القوى والضعيف، والقادر والعاجز، تتغير على مر الزمن؟ !!. هل سيصبح الإله عبدا أو العبد إلهاً ؟ !! ما دخل التطور فى هذا؟. سيبقى الناس ماداموا يتخلقون أجنة فى بطون أمهاتهم، سيبقون شاخصين لمن صورهم وأحياهم شخوص العبد لسيده الذى أضفى عليه الحياة ومنحه الوجود إ!. ما دخل التطور فى أن يقف العبد بين يدى ربه ليقول له (الحمد لله رب العالمين) أو ليحنى صلبه فى ساحته ليقول له: سبحان ربى العظيم، أو سبحان ربى الأعلى، تلك حقائق لا معنى للمناقشة فيها، وليس للتطور العصرى دخل فيها . إنما يسمح الإسلام بالتطور فى الوسائل التى تحقق مثله، أو فى الأساليب التى تبنى قيمه، أو شؤون الدنيا التى تُركت للبشر، وقال صاحب الرسالة لهم " أنتم أعلم بأمر دنياكم " . إن الرسل لم يجيئوا للناس كى يعلموهم الغزل والنسيج، لم يجيئوا للناس كى يعلموهم استخراج البترول وصناعته المشتقة منه، إن هذا عمل الناس فليطوروه، وليبتكروا فيه، وليخترعوا ما أرادوه. ما دخل. الدين فى هذا ؟ . ص _059(1/46)
الوسائل التى لم يتدخل الدين فيها هى: مثلاً.. أمَرَك بالجهاد.. والجهاد باللسان قد يكون خطابة، قد يكون ندوات، قد يكون إذاعات، الجهاد بالكتابة، قد يكون نشرات، قد يكون كتبا، قد يكون لافتات، الجهاد بالسلاح، قد يكون برا أو بحرا أو جوا. الإسلام لا يدخل فى التطور عندما يكون التطور لا صلة له بحقائقه وأركانه التى رسمها وحددها، وهو ما رسم وما حدد إلا مالا دخل للتطور فيه. والقرآن الكريم كتاب، والسنة النبوية أيضا كتاب، شرح وفصل، وعلى الناس أن يلتمسوا فى هدايات السماء وحيا من الله أو إلهاما لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليهم أن يلتمسوا فى ذلك ما يصلح شئونهم فى كل زمان ومكان، وهم مطمئنون إلى أن الإسلام ظهير للعلم، ظهير للكفاح، ظهير للتطور المعقول، ظهير للنشاط الذى لا بد منه كى تبلغ الإنسانية ما تهفو إليه، وما تشتاق إليه من كمالات وتقدم. هذه حقيقة لابد منها، تعرف مع الرسالة الإسلامية التى استوعبت، وجمعت والتى أحصت ما تحتاج البشرية إليه إحصاء. إلى جانب هذه التقدم العلمى كما يرسمه الإسلام ، نجد أن التقدم العلمى قد يقع فريسة للشهوات العارمة، والأهواء الجامحة، والغرائز المنطلقة. وهنا كما بين الإسلام للإنسان أن تقدمه رهين بعقل بعيد عن الخرافة، بين له كذلك أن تقدمه رهين بقلب نظيف من الهوى والشهوات الخسيسة. وعلى الإنسان أن يرتقى، أن يتزكى، أن يطهر نفسه، ويستحيل أن يلهمه الله الرشد إلا إذا سعى هو ليبلغ رشده، ولذلك يقول الله : (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) . ص _060(1/47)
ولو شئنا لرفعناه بها، لو أنه ارتفع، لو أنه جاهد نفسه، لو أنه لبى أشواق الفطرة ونداءات الكمال فى دمه وفى نفسه. وعندما يخلد امرؤ إلى الأرض، ويتبع هواه، فإن الله يتركه وشأنه.. (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا * ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا) . إن الحديث عن عالمية الإسلام يحتاج إلى التطرق لموضوعات كثيرة ما يمكن أن نوفى لها أو نؤدى حقها فى ساعتنا هذه، فنكتفى بهذا القدر لكى نقول: إن أهل الإسلام الأولين عرفوا عالمية رسالتهم، وبدأوا يتجاوبون مع مطالب هذه العالمية، بدأت تخطيطا نظريا فى مكة المكرمة، فلما انتقل الإسلام إلى المدينة المنورة وكون بها مهجره العتيد، وأخذ المجتمع الإسلامي يتنفس فى حرية، بدأ النبى عليه الصلاة والسلام يرسل كتبه إلى كل حاكم ذى شأن حوله، فأرسل إلى فارس، وإلى الروم وإلى مصر، وإلى كل بلد يمكن أن يكون فيها من يفقه الدعوة ومن يستطيع تلبية الرسالة. وبعد أن لحق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرفيق الأعلى، أخذ خلفاؤه يمدون هذه الرسالة ويوسعون دائرتها، ولنعلم أن أسلافنا الأولين أتقنوا اللغة العالمية لتحقيق كل رسالة، واللغة العالمية التى يعرفها أهل الأرض على اختلاف الألسنة والألوان هى لغة الخلق الفاضل، المسلك العادل، الشرف العالى. فكان المسلمون حيث تنقلوا يحطمون جبروت الاستعمار الذى وضع الأغلال فى أعناق الخلق . ص _061(1/48)
كان المسلمون وهم يحطمون جبروت الاستعمار شرقا وغربا، كانوا متجردين لله ، كانت حياتهم بعضهم مع البعض، وكانت مسالكهم مع الآخرين سببا فى أن جماهير هائلة دخلت فى الإسلام متعصبة له حانية عليه مدافعة عنه، وما لبثت بعد قليل من الزمن حتى أصبحت هذه الأجناس التى دخلت فى الإسلام هى التى تملك كراسى التدريس فى الأمصار الإسلامية الكبرى!!. سأل هشام بن عبد الملك،، جلساءه من فقيه البصرة؟ من فقيه الكوفة؟ من فقيه المدينة؟ من فقيه مصر؟ من فقيه الشام؟ فلم يجد إلا عربيا واحدا هو الأوزاعى فى الشام!! والباقون كانوا من الأجناس الأخرى التى دخلت فى الإسلام، وبرزت فى ثقافته، وتلقفت العلم من العرب كى تنشر الإسلام علما إذا كانت قد عجزت أن تنشره عن طريق الحكم والخلافة والمناصب والوظائف!!. ومضت الرسالة الإسلامية إلى أن بلغت عهدنا الحالى بعد أربعة عشر قرنا. ستبقى رسالة الإسلام عالمية إلى قيام الساعة!! وما أريد لفت النظر إليه، شىء يحتاج إلى لفت النظر حقا، فإن بعض المتدينين الجهلة، أو بعض الشيوخ القاصرين يدسون أصابعهم فى كتب السنة، ويستخرجون أحاديث الفتن، وما يفهمونها وما ينبغى أن يتحدثوا بها أو يرووها للناس، هذه الأحاديث، فهم أولئك الناقلون منها أن عمر الإسلام قصير وأن الإسلام كالكائن الحى يشيخ، وأنه كما بدأ غريبا فسيموت أو ينتهى غريبا، ووقع أولئك الجهلة على الأحاديث كما يقع الذباب على العسل، يوسخه وينال من قيمته ومن الخير ذود هؤلاء الجهلة عن أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهم لا يعرفونها ولا يحسنون روايتها، وما أكثر الجاهلين بالإسلام فى عصرنا هذا، وما أيسر أن يمكن لهم، وأن يستمع الناس إليهم. يجب أن نعلم ما يأتى: أن الرسالة العالمية التى حمل لواءها محمد ابن عبد الله عليه الصلاة والسلام ستبقى ما بقيت الحياة، ولابد أن تسيطر على القارات الخمس، وأن تنتشر أنوارها فى أرجاء العالمين شرقا وغربا، ومن أين(1/49)
جئت بهذا؟ من الكتاب والسنة !!. ص _062
أما من الكتاب فإن الله جل شأنه يقول: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) . ويقول: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون * وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون) . ثم يقول: مهما كان الكفر قويا، ومهما كانت أعداده كثيفة، ومهما كانت أسلحته ماضية، فلا تكترث لهذا كله، ولا تنزعج . (لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير) . لا تحسبنهم معجزين فى الأرض، لن يغلبوا الله، لن يغلبوه !!. وشىء آخر أريد أن أقمع به المشتغلين بالقصص والحكايات والمرويات التى لا يعقلونها. نحن المسلمين نعتبر أنفسنا الأتباع الأوفياء لعيسى ابن مريم، وأخيه محمد عليهما الصلاة والسلام. وفى قرآننا يقول الله لعيسى ابن مريم: (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة) . ومعنى هذا أن عبودية البشر كافة للواحد القهار، وأن هذه العقيدة ظاهرة إلى يوم القيامة وفوق غيرها !! ويقول عليه الصلاة والسلام فى حديث طويل : ص _063(1/50)
(ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزأ يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر ! وفى حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام : "مثل أمتى مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره " هذه الأمة باقية. قد يسأل البعض فما الأحاديث التى تتحدث عن غربة الإسلام وضعفه!. والجواب: هى أحاديث وردت فعلا، ولكن معناها أن الخط البيانى لسير الإسلام خط متعرج لا يرتفع باستمرار، ولا ينخفض باستمرار، إنه يرتفع وينخفض، إن الإسلام بين مد وجزر، حتى فى حياة نبيه عليه الصلاة والسلام فإن الذى نصر المسلمين فى بدر هزمهم فى أحد وقيل لهم (وتلك الأيام نداولها بين الناس) . كذلك إلى قيام الساعة . . (وتلك الأيام نداولها بين الناس) .. سننتصر وتنهزم، وننتصر وننهزم، وسيكون الإسلام غريبا فى بعض الأوقات ثم يأنس ويعتز ويقوى، ثم يستوحش لضعف الناصر، وقلة العالم، وجهل العامل وما إلى ذلك!! ثم تذهب هذه العلل، وتنقشع هذه الغمم، ويعود الإسلام قويا عزيزا وهكذا إلى قيام الساعة، ولكن الكلمة الأخيرة للإسلام : (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة) . هذا ما ينبغى أن يعرف، فإذا كان الإسلام تمر به أيام عجاف، وإذا كانت كلاب الأرض وذئابها تنال من المسلمين، فإن السبب ليس من غيرنا، فإن النبى عليه الصلاة والسلام يقول : ص _064(1/51)
"إن الله زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتى سيبلغ ملكها ما زوى لى منها وأعطت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربى لأمتى أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا- يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربى قال.: يا محمد إنى إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإنى أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبى بعضهم بعضا . يعنى رب العالمين يقول على عهد للأمة الإسلامية أنه لو أجتمع من فى الأرض ضد المسلمين ما يستبيحون بيضتهم إلا إذا عادى المسلمون بعضهم بعضا وأكل بعضهم بعضا!! وواقع أن أعداءنا ما يضربوننا بأيديهم قدر ما يضربوننا بأيدينا نحن!! إن الفرقة بين العرب والمسلمين حقيقة موجودة، وستبقى هذه الفرقة حقيقة واقعة حتى يعود العرب إلى الإسلام، وحتى يعود المسلمون إلى الإسلام وحتى تكون للقرآن مكانته العملية، وحتى تعود للسنة مكانتها التطبيقية ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. الخطبة الثانية : الحمد لله (..الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) . ص _065(1/52)
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإننى أخشى على تقاليد الإسلام من كثرة إلحاح الصغار على تجاهلها ومحوها، فى يوم ما جاء إلى هذا البلد رجل فرنسوى اسمه "سارتر" وهو رجل يعلن كفره بالله دون خجل، وكانت معه عشيقته !! وعشيقته تعلن أن الزنا حق النساء دون حرج !!. وهذان الوغدان استطاعا فى ظل مراكز القوة البائدة.. أن يقتحما الجامعات عندنا وأن تداس التقاليد الإسلامية التى ما كان يمكن فى ظلها أن يدخل رجل مع عشيقته فى مكان محترم، كيف هذا؟ رجل مع عشيقته؟ كلبان؟ كلب وكلبة؟. لكن الإجهاز على التقاليد الإسلامية وطمس المثل العليا كان هدفا لبعض الناس، سود الله وجوههم!!. هؤلاء لا يزالون يملكون الكلمة والتوجيه فى الصحف، مات رسام شيوعى اسمه " بيكاسو" وضحكت وأنا أقرأ أنه ترك عشرين مليونا من الجنيهات!! قلت سبحان الله !! لو أن هذا الرجل من أهل الإسلام ومات وعنده عشرون مليونا لأمسكوا بخناقه يسخرون منه ومن ثروته، وكيف احتجزها ولم يؤد حق الله فيها؟. وطبعا "بيكاسو" لم يتزوج لأنه لا يؤمن بالزواج، وله أولاد من حرام! ولكن هذا ينطلق بين الناس على أنه شئ عادى !! أنا أريد من المسلمين أن يرمقوا هذا باحتقار إننا نعلم كيف ننظر بإعجاب إلى الرجل الهندوكى الذى أذل المسلمين فى باكستان !! ص _066(1/53)
يجب أن تبدأ موجة من المعرفة، إن الثقافة جيش غير منظور، ويوم ينطلق المثقفون المسلمون بالعلم فإنهم يفعلون الكثير، أيها المسلمون أدوا ما عليكم عن طريق المعرفة ومع الزمن سننتصر، قلت لكم، إن المستقبل للإسلام، لا تصدقوا الجهلة الذين يقولون لكم: إن غربة الإسلام ستجهز عليه، من هذه الغربة ستنبت الدولة الإسلامية التى تحارب الجاهلية، وتمحق الطواغيت، وتؤدى لله حقه فى هذه الأرض. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) . عباد الله : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) . أقم الصلاة ص _067(1/54)
فلسطين .. الدّرة المغتصبة خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا. محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين . أما بعد.. فحديثنا فى هذه الجمعة عن " فلسطين والقدس " وهو حديث ذو شجون.. لأننا سنعود القهقرى إلى تاريخ طويل مضى وغارت جذوره فى الأرض.. لكن ما هناك بد من البحث فى هذا التاريخ.، خصوصا أن بنى إسرائيل جاءوا إلى الأرض المقدسة فى هذا القرن وهم يستصحبون ذكريات مضت، وينبشون التاريخ عن رفات توارى طويلا فى الثرى. وما هناك بد من أن نذكر هذا التاريخ.. لأننا نحن العرب كثيرو النسيان.. ويجب لكى نحسن العمل فى حاضرنا، ولكى نحسن العمل لمستقبلنا أن نعرف ماضينا جيدا وماضى الأمة العربية الغائر فى التاريخ جدير بالدراسة والاعتبار.. لأن هذه الأمة كشفت تجارب الماضى والحاضر- على سواء- على أنها ما تحيا إلا بدين . ص _068(1/55)
إذا كان السمك يحتاج إلى الماء ليحيا، وإذا كان البشر يحتاجون إلى الهواء ليحيوا.. فإن الجنس العربى يوم يفقد دينه يفقد أسباب حياته، ويستحيل أن يبقى له على ظهر الأرض وسم ولا رسم.. لابد أن نعرف طبيعة جنسنا.. وعندما نذكر هذه الطبيعة فيجب أن ننبش فى التاريخ الماضى. إن بنى إسرائيل جاءوا ليقولوا: نحن أصحاب فلسطين.. لقد كانوا أصحاب فلسطين يوما.. ولكن قبل أن يكونوا أصحابها كانت هذه الأرض ملكا للعرب.. وكان العرب ينتشرون فى جنوب الجزيرة، ووسطها، وشمالها، وفوق الشمال.. ولكنهم كما قلت اختبروا اختبارا مرا كى يكون لهم دين يحيون به.. فلما تمردوا على هذا الدين عصف بهم، وحصدت خضراؤهم ، وحل بهم من عقوبات السماء ما سود وجوههم وأنزلهم حضيضا لا يخرجون فوقه أبدا. ما يسمى ب " أورشليم " هو فى الحقيقة " أورسليم "، اللغة العبرية تنطق السين شينا.. يقولون " موشى " وهو" موسى " " أورسليم " بلد سليم، أو محلة سليم.. كان هنا مكان للعرب.. كان للعرب وجود فى فلسطين.. كيف ؟ كانوا هم الجبابرة الذين يسكنون هذه الأرض.. وهؤلاء الجبابرة امتداد لإخوانهم فى جنوبى جزيرة العرب.. فى جنوب الجزيرة كانت توجد ديار الأحقاف، وفيها عاد (التي لم يخلق مثلها في البلاد) وفيها سبأ وجنانها النضرة التى أغرقت لما كفرت.. وندع الجنوب إلى الشمال فنجد " ثمود " ومدائن صالح، والخراب الذى حل بهذه القبائل لما كفرت بنبى الله صالح بعد أن كفر إخوانهم فى الجنوب بنبى الله هود.. ثم نصعد فنجد مدين التى كفرت بشعيب.. ونصعد فنجد قرى المؤتفكة- فى الأردن الآن- التى كفرت بنبى الله لوط.. ونصعد فنجد فلسطين والجبابرة الذين سكنوها من الكنعانيين العرب.. ونصعد فنجد الفينيقيين ـ وهم جيل سامى ـ امتداد للجنس العربى . ص _069(1/56)
هؤلاء العرب الأقدمون دمر الله عليهم، وبعد أن ذكر الأنبياء العرب الذين حاولوا أن يرتفعوا بمستوى الجزيرة، وأن يصلوها بالسماء وأن يجعلوا حضارتها تشرب الروحانية بدل القسوة، والتواضع بدل الكبر، والعدالة بدل المظالم، والإنصاف الاقتصادى بدل الغش والاحتكار.
لما أبى العرب هذا دمر كل ما بنوا.. قال جل شأنه فى سورة هود (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد) .
كان العرب الكنعانيون فى فلسطين، وكانوا جبابرة.. وكما قلت: الجنس العربى جنس فى غرائزه قوة، وفى طباعه صلابة، وفى مواهبه امتداد، إذا سخر للخير ارتفع بمواكب الحق إلى الأوج ، وإذا سخر للشر ركبته شهواته، ومضى به إبليس يمنة ويسرة فأسف وفعل المناكر !!
هذا هو الجنس العربى ، وكما قال ابن خلدون- وهو من أدق الرجال وصفا للجنس العربى- إنهم جنس لا يصلح إلا بنبوة، ولا يقوم إلا بدين، ولا ترقى مواهبه إلا بشرائع السماء.. فإذا ترك العرب النبوة والدين وشرائع السماء تحولوا إلى قطعان تعبد الشهوة، وتطلب المال لتبعثره ذات اليمين وذات الشمال تنفيسا عن شهواتها .
ص _070(1/57)
العرب من غير دين شعوب يأكل بعضها بعضا.. ومن أجل ناقة ظلت حرب البسوس أربعين سنة ومن أجل خيل مضت فى السباق- داحس والغبراء- انطلقت الحروب عشرات السنين . إنه جنس يدمر يومه وغده ما لم يربطه دين، وما لم تعصمه آيات الوحى، وما لم تلجم غرائزه بهدايات السماء!!. هؤلاء هم العرب.. أين عاد؟ أين ثمود؟ أين مدين؟ أين قرى المؤتفكة؟ أين غيرهم؟ دمر عليهم. ثم جاءت النبوة الخاتمة لكى تجعل من العرب جنسا آخر، ومضى تاريخهم.. لكن قبل أن نتحدث عن تاريخ العرب بعد أن شرفهم الله بالإسلام نريد أن نتحدث عن تاريخ غيرهم.. عن تاريخ اليهود.. فان هذا الشعب- وهو ابن عم العرب- شعب غليظ الرقبة، بادى القسوة، شديد العناد.. وعندما نزلت بهم لعنات الفراعنة، وصرخوا بموسى عليه السلام يقولون له: (أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) نظر إليهم موسى عليه السلام نظرة ريبة وكأنه يقول لهم: ترى ماذا سيقع منكم يوم تنكسر عنكم القيود، ويوم تملكون حريتكم ؟ (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) كلمة ناضحة بأن الرجل متشائم منهم وبأنه يدرى أنهم يوم يملكون القوة ص _071(1/58)
فسيكونون ألعن من الفراعنة !! وملك بنوا إسرائيل القوة بعد لأى.. حاول موسى بمنطق الإيمان أن يزحف بهم على فلسطين يوم كان العرب الجبابرة يسكنونها فغلبهم الجبن، وقالوا: (لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) إن يخرجوا منها تدخلها الكلاب.. أى كرامة لكم يوم تدخلون فلسطين وليس فيها أحد من العرب ولذلك قال موسى: (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين * قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين) تاهوا فى سيناء أربعين عاما حتى هلكت الأجيال الجبانة الخوارة ، ونبت جيل آخر قاده نبى الله " يوشع " ودخل فلسطين وقهر الجبابرة وأقاموا دولة لهم.. وما مضت إلا فترة محدودة حتى أخذت قشرة التدين تتقلص، وحتى أخذت الطبيعة الرديئة تبرز، وغرائز السوء تطفح، وإذا اليهود يفسدون فى الأرض، ويسفكون الدم، ويملأون أقطار دولتهم مظالم.. فماذا. يفعل الله بهم؟ سلط عليهم " بُختنصر" فهزم دولتهم، وهدم هيكلهم، وساق عشرات الألوف من الشباب اليهودى أسرى أمامه إلى ( بابل )، وفى السجن البابلى أذيقوا أشد العذاب. ثم عفا الله عنهم، ويسر لهم حاكما ردهم مرة أخرى إلى بلادهم.. فهل عادوا ليرعوا ، ويعدلوا، ويصلحوا؟ لا .. سرعان ما عادت إليهم طباعهم السوء.. فما هى إلا جولة وأخرى حتى انقض عليهم الرومان، وأمر القائد الرومانى " تيتوس " بتدمير الهيكل، فدمر الهيكل مرة أخرى، وبدا أن الشعب الإسرائيلى بعد عدة مئات من السنين لا يصلح للحكم، وأن أداة الحكم فى يده تجعله مفتاح شر، وتجعل أصابعه الطائشة تطلق قذائف. من الدمار والفساد على أهل الأرض فما ينجو أحد من بلائهم.. حاولوا قتل عيسى عليه السلام وفشلوا.. وحاولوا قتل محمد عليه الصلاة والسلام وفشلوا.. وان كانوا قد نجحوا فى قتل أنبياء ص _072(1/59)
آخرين ، إلا أن الله عز وجل كان قد هيأ للإنسانية مستقبلا آخر، ونقلت قيادة الوحى من بنى إسرائيل إلى بنى إسماعيل، ونقلت لغة الوحى من العبرية إلى العربية، ونقلت عاصمة الوحى من بيت المقدس إلى مكة والمدينة، وتولى تربية العالم جنس آخر رباهم محمد عليه الصلاة والسلام تربية جديدة، وسكب النبى الخالد صلى الله عليه وسلم من سموه، ومن سناء روحه، وارتقاء ضميره ورسوخ تقواه.. سكب فى أولئك العرب ما حولهم خلقا آخر فإذا هم يخرجون على الدنيا وكأنهم ملائكة !! تحول الجبروت الجاهلى إلى سناء واهتداء وافتداء فى سبيل الله.. إن عمل النبى الخاتم صلى الله عليه وسلم هو المعجزة التى لم يعرف العالم لها نظيرا من بدء الخلق إلى الآن كيف أمكن ترويض هذا الجنس وحشد قواه ليتحول إلى زلازل تدمر الإمبراطوريات التى شمخت جدرانها على الطغيان قرونا ما استطاع أحد أن يهدها حتى جاء المسلمون فغيروا الدنيا كانت هناك إرهاصات روحية، أو بدايات معنوية فى ليلة الإسراء والمعراج عندما انتقل النبى عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس فى صلاة روحية بالنبيين الأسبقين، ثم تحقق المعنى الروحى فيما حدث بعد ذلك.. فإن بيت المقدس الذى دمره البابليون مرة، ثم أعيد بناؤه، ودمره الرومانيون مرة أخرى عاد إليه العرب في عهد الخليفة الثانى عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه بعد الإرهاصات الروحية التى كانت ليلة الإسراء والمعراج، وذهب عمر رضى الله تعالى عنه بالعرب، ونظر الناس فاستغربوا.. كان القائد المحلى " أبو عبيدة بن الجراح " رضى الله تعالى عنه يرى أن يدخل عمر رضى الله تعالى عنه بيت المقدس فى موكب الفاتحين، وفى أبهة المنتصرين.. وذلك أنه يرى أن أولئك بقايا الاستعمار الرومانى، وأن المناظر الهائلة قد تترك فى نفوسهم انطباعات معينة.. لكنه فوجئ بما أذهله.. فإن الخليفة الراشد عمر رضى الله تعالى عنه جاء على ناقته من المدينة، وإلى أن يكون فى موكب.. ويحكى ص _073(1/60)
التاريخ أن بركة اعترضت ناقة عمر رضى الله تعالى عنه فنزل الخليفة، وحمل نعليه إلى عنقه، ومضى بناقته يخوضان البركة.. فقال أبو عبيدة رضى الله تعالى عنه: ما يسرنى أن أهل المدينة يستشرفونك على هذا النحو.. فقال له عمر: ويحك يا أبا عبيدة.. لو غيرك قالها جعلته نكالا لأمة محمد.. لقد كنا أذل الناس حتى أعزنا الله بالإسلام.. فمهما ابتغينا العزة فى غيره أذلنا الله !! عمر لا يدخل بيت المقدس عارض أزياء.. عمر لا يدخل بيت المقدس فى موكب فاتحين.. عمر لا يدخل بيت المقدس وهو يحمل شارات العمالقة.. لا.. لا ثياب مارشال، ولا ثياب جنرال.. دخل عمر بيت المقدس تابعا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم .. دخل رجل دين وبر وتقوى.. دخل متواضعا لربه ليتسلم بيت المقدس.. ورأى الناس من الفاتح الذى تسلم بيت المقدس.. رأوا منه العجب.. كان اليهود ممنوعين أن يدخلوا القدس، وطلب النصارى من عمر رضى الله تعالى عنه ألا يسمح لليهود بدخول فلسطين أو القدس.. هذه واحدة.. وكان الرومانيون الذين يسلمون القدس يرون أن أندادهم من النصارى- المصريين والشوام - ليسوا أهلا لأن يكونوا عبادا معهم فى كنيسة.. وعندما دخل المسلمون مصر كان البطريرك مسجونا بكل احتقار، وكان أخوه قد أحرق ورميت جثته فى البحر الأبيض لكن الفاتح الجديد نقل إلى العالم بدعة التسامح الدينى!! نحن العرب نحن المسلمين الذين أخرجنا للناس بدعة التسامح الدينى.. ما يعرف هذا التسامح تاريخ إلا تاريخنا نحن.. بدعة التسامح الدينى هى التى جعلت عمر رضى الله تعالى عنه وقد قال له بطريرك بيت المقدس عندما أدركته الصلاة: " صل حيث أنت " قال: " لا.. لو صليت هنا لوثب المسلمون على المكان وقالوا: هنا صلى عمر وأخذوا الكنيسة منكم " وذهب فصلى بعيدا.. لو كان فاتحا ممن يحتقرون وجهات النظر الأخرى، ويدمرون على غيرهم لصلى فى المكان واغتصبه.. لكنه لم يفعل شيئا من هذا.. والغريب أن أخس مشاعر الجحود تتدارس(1/61)
الآن بين يهود العالم ص _074
ونصاراه تريد اتهام المسلمين بالتعصب، وهم الذين علموا هؤلاء وأجدادهم ما هو التسامح.. ولو أراد المسلمون ألا يبقى غيرهم فى الشرق الأوسط ما بقى أحد.. ولكنهم أبقوهم لله صدقة للإسلام.. لأن الإسلام لا يعرف الإكراه، ولا يعرف الغضب والجبروت.. لم يجئ الخليفة ليملى شروطه بل جاء الخليفة ليتسلم العاصمة القديمة للوحى، وليجعلها من الناحية العملية حرما ثالثا للحرمين الشريفين.. ومضى العرب فى طريقهم يحملون أمانات الوحى، ويبلغون رسالات الله.. ولكن الطبيعة العربية بدأت تغالب تعاليم الإسلام.. دعنا من ميدان العلم.. فإن ميدان العلم بقى نظيفا.. وجلس الإمام البخارى رحمه الله إلى جانب غيره من القرشيين يعلمهم.. وجلس الحسن البصرى رحمه الله يعلمهم.. فى ميدان العلم كانت تعاليم الإسلام سائدة.. أما فى ميدان الحكم فإن تقاليد بعض الأسر العربية المدعية للنبل وللرياسة وللجاه غلبت.، وغلبت معها طبائع جنس، وطبائع جاهلية قديمة.. فإذا العرب يتعبون دينهم، وأبناءهم، وتاريخهم، ورسالتهم.. وإذا هم ينشغلون بالشهوات والملذات، والاختلاف على المناصب والرياسات ، وكانت النتيجة أن هجم الصليبيون فى مطالع القرن الخامس الهجرى.. هجموا على بيت المقدس ودخلوه.. والذى ينبغى أن يعرف.. ولا أدرى لماذا لا يدرس بإلحاح أن الصليبيين فى أول حملاتهم على الإسلام ما كانوا أهلا لانتصار، ولا كان الانتصار ميسرا لهم.. لقد أكلوا الجيف من الجوع، وأدركهم الإعياء وهم يلهثون بعد مراحل طويلة قطعوا فيها من " فيينا " و " برلين " إلى " القسطنطينية " إلى " الأناضول " إلى " الشام " إلى " بيت المقدس " قطعوا مراحل استهلكوا فيها.. لو أن أى جيش اشتبك معهم لهزمهم.. ولكن التاريخ قال: سكتت دمشق... سكتت القاهرة.. سكتت بغداد.. سكتت مكة.. سكتت المدينة.. سكت العرب وتركوا هؤلاء ينفردون ببيت المقدس ليذبحوا فيه سبعين ألف مسلم، وليؤسسوا فيه(1/62)
إمارة لاتينية ظلت هذه الإمارة اللاتينية تسعين سنة يعين " باروناتها " من " باريس " ويبارك هذا التعيين " بابا الفاتيكان " . ص _075
ثم جاء رجل مسلم ليس بعربي وهو " صلاح الدين الأيوبى " وشعر بأسباب الهزيمة.. أى دارس للتاريخ العربي يعلم أن العرب ينتصرون حين يثوبون إلى ربهم، ويثوبون إلى دينهم، ويتمسكون بشرائعهم، ويعتزون بنسبهم السماوى.. لا يحتاج الأمر إلى عبقرية.. إن الحزام الذى يشد العرب بقوة ويمنع تفككهم هو الدين.. فإذا انقطع هذا الحزام تفرقت العصى ولم يبق أحد إلى جانب أحد ! فبدأ صلاح الدين يعمل " لا جديد تحت الشمس " إذا كان الإمام أبو حامد الغزالى رحمه الله قد ألف كتابه " إحياء علوم الدين " كأن علوم الدين ماتت.. فإن صلاح الدين الأيوبي فعلا بدأ بعملية إحياء عملية قال المؤرخون: جند العلماء بعد ما محى مذهب الشيعة الذى كان يدرس فى الأزهر.. جند العلماء لتدريس العقائد بين الجماهير، ولجمع العوام على معاقد الأخلاق، ومكارم الشيم.. وهل تنتصر أمة دون عقيدة ؟ وهل يقوم مجتمع بدون أخلاق ؟ إن الرجل بدأ البناء من الداخل.. وفعلا جمع الناس على الإسلام، ثم خرج بهم ليناوش عدوه.. وكانت مناوشة رهيبة.. إننا نقرأ فى التاريخ أن بيت المقدس أعيد بسهولة أو أعيد فى سطرين نقرأهما على عجل.. لكن الواقع أن المسلمين ضحوا كثيرا، وأن القائد الإسلامي صلاح الدين كان على فرسه وهو يقود المسلمين.. لكن قلبه كان يدق خشوعا لله عز وجل، واستمدادا منه، وخوفا من غضبه، ورجاء فى عفوه.. وكلما رأى الصليبيين يهجمون ويتقدمون وتنداح دوائر المسلمين أمامهم يصرخ " كذب الشيطان " ويعود المسلمون مرة أخرى إلى الهجوم.. فلما طويت أعلامهم وانكشفت خيمة ملكهم هوى صلاح الدين من على ظهر فرسه إلى الأرض ساجدا لله عز وجل ما كان مستكبرا، ولا كذابا ولا مدعيا.. إنما كان كأنه وهو يقود المسلمين فى القتال إمام فى محرابه، تدمع عينه، وتخشع جوارحه،(1/63)
وينتظر من رب الأرض والسماء أن يعينه !! لذلك جاءت المعونة، وجاء النصر. وعاد بيت المقدس إلى المسلمين.. لقد هجم الأوربيون هجمتهم.. كيف هجموا ؟ كيف تسللوا يقول التاريخ: ما تسللوا إلا فى الفراغات الموجودة بين الشعوب ص _076
الإسلامية.. ظلم الترك العرب ، وخان العرب الترك، وانقسمت الشعوب الإسلامية انقسامات مرة.. فى هذا الفراغ تسلل الإنكليز والفرنسيون، وعادوا مرة أخرى إلى بيت المقدس.. عادوا ليقول الجنرال الفرنسى " جيرو " وهو يقف إلى جوار قبر صلاح الدين: يا صلاح الدين.. ها نحن قد عدنا !! " ويقول الجنرال " اللنبى ": الآن انتهت الحروب الصليبية ". ما انتهت الحروب الصليبية.. وإنما هى الأيام مد وجزر.. عاد هؤلاء ليسلموا الأرض مرة أخرى إلى اليهود.. واليهود شعب ما كذبت السماء عندما وصفته الوصف الجدير به: (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون * قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل) . إن الغدر اليهودى طبيعة جنس، وخصائص دم، وميراث أجيال، وحقيقة لا يمكن إنكارها، ولا التغاضى عنها !! واليهود يعلمون من أنفسهم هذا.. وهم يؤكدون أنهم إذا كانوا قد ضربوا " مفاعلا ذريا للعراق " فهم مستعدون أن يضربوا أى بلد عربي له قاعدة يخشونها، أو له قوة يرهبونها.. هذه طبيعتهم. ولست ألومهم.. لكنى ألوم الصف المختل.. ألوم العين النائمة وسط العيون الخائنة.. ألوم العرب الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم. بم ينتصر العرب؟ !! أرجع مرة أخرى إلى تاريخنا.. إن آباءنا فى عاد وثمود- العرب العاربة- هل مكن الله لهم؟ دفنهم فى أنقاض مخازيهم ومآسيهم وإلى حيث ألقت !! ما تعمل الإنسانية بأجناس تعيش للكبر والرفاهية والشذوذ وسوء الخلق !!. ص _077(1/64)
وماذا تكسب الحضارة الإنسانية من عرب إذا ملكوا المال استغلوه فى خراب الذمم، وشراء الشهوات، واقتناص الملذات، وتحقير المآثر، ودفن آيات الوحى ؟!!. ما يفعل الله بهم ؟ !! لابد أن يدفنهم فى أنقاضهم !!. إن العرب بطريقتهم التى يعيشون بها الآن لن يضربهم اليهود وحدهم.. بل تضربهم كلاب الأرض كلها . " العرب بالطريقة التى يعيشون بها لا يستحقون نصرا.. لكى يستحق العرب النصر يجب أن يسألوا أنفسهم.. أو لكى يدخلوا بيت المقدس مرة أخرى يجب أن يسألوا أنفسهم: هل سنكون بأخلاق الجبابرة الذين سكنوا بيت المقدس قديما فبعث الله إليهم " يوشع بن نون " فدمر عليهم، واستوقف الشمس فلم تغرب حتى ألحق بهم الهزيمة ؟ !! إذا كان العرب بأخلاق الجبابرة الأقدمين فليأخذوا مصير الجبابرة الأقدمين.. أظن العرب يدخلون بيت المقدس مرة أخرى يوم يدرسون أخلاق عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه، لم يكن الرجل كما قلنا عارض أزياء، ولم يكن داخلا فى موكب الخيلاء.. بل كان الرجل يخوض بناقته بركة، ويرى أن يعرض الإسلام مبادئ تواضع . متى يدخل العرب فلسطين وبيت المقدس؟ يوم يرون رجلا كصلاح الدين.. قالوا: جمع الغبار من معاركه وأوصى أن يكون وسادة له فى قبره، حتى إذا حوسب قال للملائكة: هذا الغبار كان فى سبيل الله !!. ص _078(1/65)
أين أخلاق صلاح الدين؟!! أين أخلاق عمر؟ !!. إن العرب لكى ينتصروا مرة أخرى ويعودوا إلى فلسطين يجب أن يعودوا بدينهم، وليعلم الجيل الحالى والجيل الذى يليه أن راية الإسلام وحدها هى التى تجمع الشمل، وأن خرافة البعث العربى ، وخرافة القومية العربية، وخرافة القوميات الضيقة، وخرافة الانطلاق وراء كل سراب خادع، وأمل كاذب مع التفريط فى دين الله.. كل هذا لا ينتهى بأصحابه إلا إلى الضياع والدمار!!. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم.. الخطبة الثانية الحمد لله (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد... عباد الله.. مرة أخرى أريد أن أكذب إشاعة سرت بين الناس.. ص _079(1/66)
هذه الإشاعة أن العصر الحاضر عصر العلمانية واطراح الأديان ظهريا، وعصر الانطلاق وراء المقررات الإنسانية المجردة.. إلى غير هذا الكلام.. هذا كلام مكذوب.. هذا العصر هو العصر الذهبى للأديان كلها ما عدا الإسلام.. اليهودى التائه الذى كان يبحث عن حارة له فى روما أو باريس أو القاهرة أصبح يملك دولة.. ما كان هذا له من أربعين قرنا !! " بيجين " البولندى الأفاق الذى جاء من " بولندا " ماذا يملك؟ ! جاء إلى أرضنا ليطرد العمد من قراهم وليقول: هذه أرضى أنا ويخرج منها أى مسلم أو أى عربى !!. باسم اليهودية. يملأ فمه فخرا.. أولئك الذين يريدون ألا نفخر بالإسلام ويتركون هذا الإنسان يفخر باليهودية.. ألا تحشى أفواههم بالنعال.. والله ما يستحقون إلا هذا !! تسكتون عندما يفخر الناس بيهوديتهم ، فإذا تحدثنا عن الإسلام تنمرتم وقلتم رجعية أو تعصب!! كيف هذا؟ !. لقد كان الأوربيون يحتقرون الكنيسة ويحتقرون أوزار التخلف ألف سنة.. لأن العصور الوسطى كانت عصور الموت الأدبى فى أوربا.. وعندما بدأ عصر الإحياء من مواريثنا نحن. المسلمين سمى عصر الإحياء.. لأن الجيف بدأت تتحرك. . بدأ الأموات ينشطون من مواريثنا، وحمل المفكرون الكنيسة وخرافاتها وسقامها العقلى حملوها وزر ظلمة أوربا فى ألف سنة أو يزيد . الآن استطاعت أن تجند دول العالم الصليبى وغير الصليبى لكى تخدم أغراضها.. وما أغراضها؟ إنها تنسى الإلحاد والدعارة فى كل شبر فى الغرب، وتذكر شيئا واحدا هو أن دين محمد صلى الله عليه وسلم يجب أن يزول!! هذا ما تذكره.. وهذا ما تعمل له سياسات الغرب التى تظاهر إسرائيل ضدنا الآن !! ص _080(1/67)
احتقار مكشوف للعرب .. سخرية واضحة من رجالاتهم إن كانت لهم رجالات ثم ننظر فنجد هذا الحقد الدينى الذى بدأ يسخر الذكاء البشرى الآن والتقدم العلمى لمصلحته، حتى الوثنية، حتى عبادة البقر فى الهند استطاعوا أن يفجروا الذرة لحسابها.. بينما المسلمون يعيشون فى باكستان ما بين سلف وخلف.. قبوريين وصوفيين.. مذهبيين وتقدميين.. سنة وشيعة.. إلى آخر هذا الهراء الذى جعل حكاما هناك يبيتون سكارى ويدخلون المعارك وهم مخمورون ثم تضربهم امرأة هندية ضربة تقسم باكستان قسمين كما ضربت العرب امرأة يهودية فسودت وجوهنا سنة 1967.. والعمالقة الذين لهم عضلات من( شراميط) كما يقول الرافعى بدا عوارهم، وانكشف عارهم، وظهروا على حقيقتهم !! امرأة هندية تهزم المسلمين هناك.. وامرأة يهودية تهزم المسلمين هنا.. والسبب واضح وهو أن الأمة الإسلامية فرطت فى دينها وتراثها.. ما بد من أن نعود إلى ديننا.. وهى عودة ليست بنت يوم أو يومين، أو شهر أو شهرين: إن ما فسد على مدى قرنين من الزمن لا يصلحه حماس خطبة، أو حماس عام كامل.. الأمر يحتاج إلى دراسة رجال، وأعمال لجان، وتدبير مخلصين.. العمل يحتاج إلى الكثير.. الأمة الإسلامية الآن نظرت إلى كثير من قادتها ثم قدرت كفاياتهم بإنصاف فوجدت أكثرهم لو كان يعمل فى شركة ما كان أكثر من "قمسيونجى" لو كان يعمل فى مدرسة ما كان أكثر من كاتب قيودات !! لكنهم بسحر ساحر أصبحوا رجال دولة.. أصبحوا شيئا خطيرا.. وعندما يصطدم هؤلاء بالرجال الكبار يتلاشون.. اصطدموا بالنساء فتلاشوا !! إن الأمة الإسلامية تحتاج إلى علاج طويل وفيه مرارة... لكن ما بد ص _081(1/68)
من هذا كله... لا أريد صيحات هستيرية، ولا أريد أعمالا عشوائية.. إنما يحتاج الأمر إلى القادة والمربين والعقلاء . على أية حال إنني بعد ما جئت من سياحة فى العالم العربى أشعر بشىء من الرضا واليقظة النفسية عندما أرى أن مؤتمرا ينعقد فى هذا المسجد لينظر الأوضاع التى يواجهها المسلمون الآن والعدوان الوضيع الذى شنه أعداء الله علينا، ولا بد أن المؤتمر سيخوض فى قضايا ما يمكن أن يتجاهلها المسلمون.. إن أعداءنا لا يخجلون من شىء.. بل لقد قال قائلهم: " ما نبالى باستياء العالم ! " فإذا بلغوا هذا الحد من الصفاقة فهل سيبقى المسلمون سكوتا؟ لا.. وإلا فإن قبورهم سوف تحفر لهم لا غدا.. بل اليوم!!. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلع لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر) . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) . عباد الله : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) . وأقم الصلاة ص _083(1/69)
قادة الخير.. وقادة الشر خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين؟ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فالناس رجلان، أحدهما صالح، والآخر طالح . الصالح: شخص عرف ربه معرفة حسنة، وأدى حقه قدر ما يستطيع، وخالق الناس بخلق حسن، وعاش فى دنياه مجتهدا أن يصف أقدامه على الصراط المستقيم إلى أن يأتيه اليقين، فيلقى الله على ذلك. أما الطالح: فرجل انقطعت بالله صلته، فلم يقدره حق قدره، ولم يؤد ما ينبغى أن يؤديه من حقوق، ولا أن يدع ما يجب أن يدعه من شرور، يظل كذلك إلى أن يلقى ربه فيجزيه بما صنع: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد) . هذا الوصف يصدق على الأشخاص العاديين، رجل خيره فى نفسه، وربما امتد قليلا إلى ما حوله، أو رجل شره فى نفسمه، وربما امتد قليلا إلى ما حوله . ص _084(1/70)
لكن هناك أشخاصا في نفوسهم طاقات كبيرة، زودوا فى أصل الخلقة بمواهب ضخمة، بما استغلت فى الخير، وربما استغلت فى الشر، وخيرهم يوم يكونون أخيارا تتسع دائرته لتشملهم وكثيرين ممن حولهم، أو كثيرين ممن يجيئون بعدهم، وهؤلاء قادة فى الخير. وهناك ناس شرهم يتجاوز أشخاصهم، ويعدوهم إلى غيرهم، فهو يمتد حولهم، بل ربما انطلق بعد مماتهم، وهؤلاء قادة فى الشر. هناك قادة للخير، وهناك قادة للشر. فى الحديث الشريف: " إن من الناس مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر، مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه " . هناك قادة للخير، قادة للفكر يصنعونه وفق القوالب التى صبها الدين، وارتضاها الرحمن، وهناك قادة للفكر يصنعون الناس وفق القوالب التى صبها الشيطان، وارتضاها إبليس. هناك قادة للخير، وقادة للشر. القرآن الكريم وصف القادة فى كلا الميدانين: فى ميدان الخير يقول عن قادة الفكر الصالحين المصلحين الراشدين المرشدين يقول فيهم: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) . أما أئمة الشر فهو يقول فيهم: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين) . هناك قادة للفكر الصالح، وهناك قادة للفكر الخبيث. قادة الفكر الطيب أولهم أو قممهم الأنبياء ومن سلك طريقهم، واقتفى أثرهم، وعاش يقتبس من سناهم . ص _085(1/71)
هؤلاء القادة هم مصابيح الخير للناس، هؤلاء القادة صالحون فى أنفسهم مصلحون لغيرهم، وهم شهداء الله على خلقه. روى البخارى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال، قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم" إقرأ على " قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: "إنى أشتهى أن أسمعه من غيرى " فقرأت النساء حتى إذا بلغت: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) قال لى "كف أو أمسك " فرأيت عينيه تذرفان !!. قال العلماء: بكاء النبى صلى الله عليه وسلم إنما كان لعظيم ما تضمنته هذه الآية من هول المطلع وشدة الأمر، إذ يؤتى بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب، ويؤتى به صلى الله عليه و سلم يوم القيامة شهيدا. الشهداء من أنبياء الله كثيرون، والخير الذى قدموه للناس نابع من سيرتهم ومن تبليغهم، وما من سيرة عطرة أو تبليغ صادق إلا ورب العزة يودع فى ثناياه ما يجعله قديرا فى الحياة وبعد الممات على توجيه الناس إلى الخير، ولذلك فإن الذكرى الحسنة التى تجدد الحياة بعد موت صاحبها تكون امتدادا لدعوته فى الدنيا، والله عز وجل عندما خلد ذكرى الأخيار من خلقه خلدهم بمناقبهم وشمائلهم: (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا * وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا) . إذا كان صدق الوعد، والأمر بالصلاة والزكاة مناقب تخلد أصحابها، فهناك كذلك مناقب ينبغى أن تعرف من أئمة الهدى ومن قادة الخير. إن الناس يتصورون أن أهل الإيمان ناس سلبيون، أنهم ناس حسب ص _086(1/72)
الواحد منهم أن يحيا فى نطاقه الخاص لا يعدوه فلا يعرف ما وراء ذلك ولا يستطيع إصلاح عوج في آفاق الحياة، وهذا خطأ فاحش، فقادة الفكر فى دين الله اكبر من ذلك، تأمل فى قوله تعالى : (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار * إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار * وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار * واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار * هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب) . عندما وصف قال: (أولي الأيدي والأبصار) ما معنى هذا الوصف؟ هل معنى أولى الأيدى أن لهم أيديا ؟ ومعنى أولى الأبصار أن لهم أبصارا ؟. لكل الناس أيد، ولكل الناس أبصار، وما يمدح الله أحدا بأن له يدا وأن له بصرا، إنما المقصود بأولى الأيدى والأبصار أنهم أصحاب باع طويل، أصحاب ذكاء حاد، أصحاب قدرة تمتد فى الدنيا لتزرع الخير وتقدمه للخلق، أصحاب بصر يرى الشرور من بعيد ويحسن حسمها واجتثاثها من جذورها، هذا معنى.. أولى الأيدى والأبصار. إن الطيبة ليست نوعا من العجز أو الغفلة، الطيبة فى الإسلام ما تكون طيبة إلا إذا كانت قدرة متفوقة وبصيرة بعيدة المدى تلمح الخفى وتحسن أن تؤدى ما عليها. قادة الخير من أنبياء الله وممن مشى فى أقدامهم وجرى على سننهم هم الذين يفعلون الخير ويقدمونه للخلق فى حياتهم وبالتركات التى يورثونها الأجيال مستقبلا. وما تركات الأنبياء؟ إن الأنبياء لا يورثون أموالا ضخمة ولا غير ضخمة، إنما يورث الأنبياء الحكمة والعلم والهدى . نحن لا نريد أن نتتبع تاريخ الأخيار من خلق الله فذاك شىء مستحيل، إنما نريد أن نعلم أن أنبياء الله الذين ذكر بعضهم فى كتابه وطوى بعضهم ص _087(1/73)
لأنه ليس من الضرورى أن نعرف الكل- هؤلاء الأنبياء أخذت سيرهم وهداياتهم ولخصت فى القرآن الكريم، فلو أن موسى موجود ما تبع إلا القرآن ونبيه صلى الله عليه وسلم لأنه يستحيل أن يقال إن " العهد القديم " الموجود الآن، أو الأسفار الخمسة التى تسمى " التوراة " هى ما أوحاه الله إلى موسى. كنت أقرأ فى " الأسفار " فلفت نظرى ما لفت أنظار الكثيرين من نصوص عحيبة، والمفروض أن هذه التوراة نزلت على موسى- نقرأ هذه ا لسطور: ... ومات موسى عن مائة وعشرين سنة ودفن فى قبر بمؤاب لا يعرف موضعه وكان إلى أن مات نضر الجلد حاد البصر !!. هذا كلام فى التوراة، والتوراة نزلت على موسى.، فكيف يكتب هذا الكلام على موسى الذى مات؟. إن الذى زور نسى أنه يكتب بلسان موسى فأودع العبارات- التى ذكرتها لكم- فى ثنايا التوراة، وبديهى أنه إذا نزل كتاب على إنسان فما يقال فيه هذا الكلام أبدا، لكن الذى زور نسى، ويكاد المريب يقول خذوني!!! لا يوجد كتاب يطمأن إلى أنه مائة فى المائة من عند الله إلا هذا القرآن الكريم. لخص الله فيه الحكمة التى توزعت على أنبيائه، وأجراه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وحيا مباركا. رباهم به محمد صلى الله عليه وسلم جيلا من الناس، لكن هذا النبى الكريم صلى الله عليه وسلم كما ربى بالكتاب الذى نزل عليه رباهم بالحكمة التى ينطق بها وبالكلمات القيمة النافعة التى كان يتعهدهم بسناها، ويسدد خطاهم بما فيها من حق. ولما كنا فى أعقاب عيد الذكريات، وهل العيد الكبير إلا عيد الذكريات ؟. نخن نذكر فى قادة الخير الشىء العظيم الذى سيطر عليهم لنتأسى به. ص _088(1/74)
التوكل على الله خلق، لكن هذا الخلق يبدو بارزا يحييه الناس ويجددونه عندما يسعون بين الصفا والمروة، فإن الوحى إذا نزل يقول لإبراهيم: دع امرأتك هذه ووليدها فى أرض قفراء لا زرع فيها ولا ضرع، دعهم واتركهم فى هذا المكان، لا تعرج عليه بعد أن تدعهم!!. فكيف يصنع إبراهيم هذا ؟ إنه وهو الواثق من أمر الله المنفذ لما طلب الله منه فعل ما فعل متوكلا على الله، المرأة عندما قالت لزوجها أين تتركنى؟ إلى أين؟ ما استطاع جوابا، فلما قالت له: الله أمرك؟ قال: نعم، قالت: إذا لا يضيعنا!! وتوكلت على الله فى أرض ما يعطى شىء منها أملا فى الحياة، ولكن صدق التوكل على الله انتهى بأن تفجرت زمزم، وأن غمر المكان، وأن أصبح الطفل الذى كانت أمه قلقة على حياته مضطربة على مستقبله، أصبح أبا لأمة كبيرة فيها النبى الخاتم أو ألمع ما فيها صاحب الرسالة العظمى عليه الصلاة والسلام! . عيد الذكريات، نتذكر الوفاء والتوكل على الله، ونتذكر أشياء كثيرة، لعل مما ينبغى أن نتذكره فى تراث نبينا صلى الله عليه وسلم فى هذا العيد الذى احتفينا به أمس الكلمات النيرة الغالية التى ألقاها على الناس فى حجة الوداع، كانت هذه الحجة فى السنة العاشرة من الهجرة، وكانت الحجة التى قبلها كما شرحنا لكم قد مهدت- مهدت الطريق- أمام الكلمات الأخيرة، كانت قد منعت الشرك وأجهزت عليه، وحظرت على المشركين رجالا ونساء أن يذهبوا إلى المسجد الحرام، إذا الحجة الأخيرة وهى التى كان أميرها النبى عليه الصلاة والسلام، هذه الحجة تقريبا جمعت المسلمين فى جزيرة العرب، لم يكن هناك إلاعدد قليل من الناس لم يشارك فى هذه الحجة. من هؤلاء الذين لم يحضروا الحجة معاذ بن جبل رضى الله عنه، وهو من سادات الصحابة ومن فقهائهم الكبار، لما أرسله عمر رضى الله عنه إلى الشام اهتزت الفتوى فى المدينة لغيابه، لأنه كان ركنا من أركان العلم. المؤرخون يقولون إن النبى صلى الله عليه وسلم أرسل معاذا(1/75)
إلى اليمن معلما وناشرا للإسلام فى جنوب الجزيرة العربية وهنا كلام ينبغى أن يعرف. ص _089
بعث النبى صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وخالد بن الوليد وأبا موسى الأشعرى وعلى بن أبى طالب رضى الله عنهم جميعا، وكأن هاتفا خفيا انبعث فى قلب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُشعره أن مقامه فى هذه الدنيا أوشك على النهاية، فإنه بعد أن علم معاذا كيف يدعو من يلقاهم، وكيف يعرفهم دينهم، خرج معه إلى ظاهر المدينة يوصيه كيف يعلم، كيف يربى، يقول المؤرخون: ومعاذ راكب على ناقته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى تحت الناقة، الرجال الكبار لا يعرفون المظاهر، ولا يهتمون بالشكليات، رجال تسيرهم الحقائق وحدها، أما التوافه فلا قيمة لها فى حياتهم. فلما فرغ من تعليمه لمعاذ، قال: " يا معاذ إنك عسى أن لا تلقانى بعد عامى هذا، أو لعلك أن تمر بمسجدى هذا أو قبرى. فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة. فقال: " إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا . إن الرباط بينه وبين الناس هو التقوى، واجتمع المسلمون مع نبيهم صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع، ونظر النبى صلى الله عليه وسلم إلى الألوف المؤلفة وهى تلبى وتهرع إلى طاعة الله، فشرح صدره قيادها إلى الحق واهتداؤها للإسلام، وعزم أن يغرس فى قلوبهم لباب الدين، وأن ينتهز هذا التجمع الكبير ليقول كلمات تبدد آخر ما أبقت الجاهلية من مخلفات فى النفوس، وتؤكد ما يحرص الإسلام على إشاعته من آداب وعلاقات وأحكام. فألقى هذه الخطبة الجامعة : " أيها الناس اسمعوا قولى ، فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا، بهذا الموقف أبدا. أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت . ص _090(1/76)
فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها ". الدماء والأموال، الدماء والأموال، وهل شُرعت مواثيق حقوق الإنسان إلا الحماية الدماء والأموال والأعراض؟. هذه الكلمة الموجزة هى ما يحتاج الناس إليه على امتداد الزمان والمكان. كان لى صديق وكان رجلا كبير النفس، سخى اليد، رحيما بكل إنسان أو دابة أو طير- وضع الحبوب فى شرفة بيته لتأكل العصافير، وكان يستمتع برؤيتها وهى تأكل، ثم وضعها يوما ووجد أن العصافير لم تنزل، فاستغرب، ثم شعر بأنه ترك الباب مفتوحا فخشيت العصافير أن تكون هذه حبالة كى تصاد !! فلما أغلق الباب نزلت مطمئنة وأكلت !!. قال: فعلمت أن المجتمع يحتاج إلى الأمرين معا: الطعام والطمأنينة !!. فى بعض المجتمعات الإنسانية الآن يوجد الأكل مبذولا لجماهير من الدواب ولكن أين الطمأنينة؟ أين الأمان؟. إن الأمن والشبع هما ما اهتم به الإسلام عندما قال ممتنا على قريش: (فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) . إن الله يريد أن يطمئن الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وكل مجتمع يشعر فيه بشر بقلق على ماله، على دمه، على عرضه، على حقه، على كرامته، على نفسه، على ولده، فليس مجتمعا مؤمنا، ليس مجتمعا دينا. لابد من تأمين الحقوق والأموال والأعراض، لو كسبت مالا من سحت ثم تصدقت به، أو وصلت به رحما ما كان لك من ثواب فيه. الحلال هو الذى يقبله الله، ولا يجوز أن تفجع الناس فى أموالهم أو ثرواتهم . ص _091(1/77)
ثم اتجه الحديث فى خطبة الوداع عن الربا: " إن كل ربا موضوع، ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله " رأس المال وحده هو الذى يحل أخذه وما وراء ذلك فممنوع. ولما كان العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه- عم رسول الله صلى الله عليه وسلم تاجرا وكان يرابى فى أمواله على عادة أهل الجاهلية، فإن النبى صلى الله عليه وسلم طبق القانون أول ما طبق على عمه !. ثم اتجه الحديث فى خطبة الوداع عن الدماء . " لان كل دم كان فى الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب- وكان مسترضعا فى بنى ليث فقتلته هذيل- فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية ". الإسلام فتح صفحة جديدة، الصفحة الجديدة التى فتحها الإسلام تجعل من كان له قتيل قبل ذلك ينسى، لا يطلب ثأره ، الإسلام بدأ بالناس عهدا جديدا، وافتتح بهم مجتمعا آخر، وأول إنسان يهدر دمه ولا يطلب له ثأر هو ابن عم النبى صلى الله عليه وسلم .. ثم قال: " أما بعد- أيها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعبد فى أرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون . من أعمالكم فاحذروه على دينكم " !!. معنى هذه العبارة: أن الناس ربما عاد إليهم من الرشد وارتفع مستواهم من الفهم، بحيث لن يعودوا يسجدون للأصنام ويحنون أصلابهم لحجارة لا تضر ولا تنفع، ولكن ربما تسلل الشيطان إلى نياتهم وإلى أعمالهم، تشتم هذا، تكره ذاك، تحاول أن تسىء إلى فلان، أو أن تتقدم على فلان، أو أن تتظاهر بكذا، أو أن لا تفعل كذا، هذه الأمور التى تستهين بها ربما أكلت الدين، ربما أضاعت الإيمان، لقد تتبعت ببصرى مؤسسات وجماعات وأفرادا وأشخاصا فوجدت أن كثيرا مما أهلك الأمة الإسلامية يعود إلى تصرفات صغيرة وإلى أعمال تافهة، كان يمكن للإنسان أن يتسامى فوقها، وأن يرقب نفسه فلا يتدلى إليها، ولكننا أحيانا نطمئن ص _092(1/78)
إلى أننا مسلمون، ثم لا نفهم من الإسلام أنه إسلام القلب والجوارح جميعا لله فنفعل من الأعمال ونترك من الحقوق ما يكون سببا فى أن نصل ما أمر الله به أن يُقطع وأن نقطع ما أمر الله به أن يوصل!!. وهل ضاع مجتمعنا إلا بمثل هذه التصرفات وهذه المسالك؟. ثم نبه عليه الصلاة والسلام فى هذه الخطبة إلى حرمة الأشهر الحرم، وللفقهاء كلام فى حرمة الأشهر الحرم، الجمهور على أنها نسخت بقوله تعالى: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) لكن عددا من المحققين من بينهم ابن كثير وغيره من أئمة التفسير قالوا: إن هذه الأشهر باقية الحرمة إلى يوم القيامة، ولكن القتال يجوز فيها دفاعا عن الأمة الإسلامية، كما أنه إذا كان امتداد القتال إليها من تتمة الخطة الموضوعة لمنع الشرك أو الإلحاد أن يؤذى المسلمين أو ينال منهم، فإن القتال فيها يستباح وهنا يحتج أولئك بالآية: (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين) . هذه الآية قرأها النبى عليه الصلاة والسلام فى حجة الوداع، ليبطل عملا كان المشركون يعملونه وهو أنهم إذا أرادوا مد القتال إلى رجب أو إلى المحرم قالوا: نحل هذا الشهر ونحرم شهرا آخر من الشهور الحرام فى السنة. فكان هذا التصرف تصرفا سيئا، وظلوا يؤجلون حتى عادت السنة، وعاد الشهر الحرام، كما كان بعد أن أضيع. فقال عليه الصلاة والسلام: " أيها الناس: (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين) . ص _093(1/79)
" وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم ثلاثة متوالية، ورجب- الذى بين جمادى وشعبان ". الثلاث المتوالية هى ذو القعدة وذو الحجة و المحرم، ورجب الذى بين جمادى وشعبان، وهذا التحديد لأن كلمة رجب كانت تطلق أحيانا على شهر آخر. ثم قال عليه الصلاة والسلام: " أما بعد.. أيها الناس: فإن لكم على نسائكم حقا، ولهن عليكم حقا، لكم عليهن أن لايوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة!. قال العلماء باتفاق دون خلاف بينهم: إن هذه الجملة من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع معناها ليس على ظاهره، والمقصود بقوله: " أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه " ألا يأذن لأحد بدخول البيت إذا كان ممن لا يحق لهم الانفراد بالمرأة. والمقصود بقوله: " وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة " اتفقوا على أن الفاحشة هنا: سوء الأدب، والتطاول على الزوج والنشوز، وليس المقصود جريمة الزنا فإن ذلك مستبعد ابتداء على المؤمنين والمؤمنات، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن، فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن فى المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عندكم عوان، لايملكن لأنفسهن شيئا. وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاعقلوا أيها الناس قولى فإني قد بينت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا أمرا بينا، كتاب الله وسنة نبيه. أيها الناس: اسمعوا قولى واعقلوه.. تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم ، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل. بلغت "؟ قالوا: اللهم نعم، ففال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اشهد ". لم تكن هناك(1/80)
مكبرات صوت على عهد النبى عليه الصلاة والسلام ص _094
ولما كان الحجاج فى هذا الموسم قد بلغوا عشرات الآلوف، فإن صوت النبى عليه الصلاة والسلام كان يستحيل أن يبلغ هذه الألوف التى اجتمعت فى هذا الموسم الحاشد، فكيف كان الصوت يصل؟. قال ابن إسحاق : كان الرجل الذى يصرخ فى الناس بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة- ربيعة بن أمية بن خلف. قال: يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل: يا أيها الناس إن الرسول يقول: هل تدرون أى شهر هذا؟ فيقول لهم.. فيقولون: الشهر الحرام، فيقول: قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا، ثم يقول: قل يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هل تدرون أى بلد هذا؟ فيقولون: البلد الحرام، فيقول: قل: إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة بلدكم هذا. ثم يقول: يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هل تدرون أى يوم هذا؟ فيقول لهم.. فيقولون يوم الحج الأكبر. فيقول: قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا. كان الرسول صلى الله عليه و سلم يريد بعد بلاء طويل فى إبلاغ الرسالة أن يفرغ فى آذان الناس وقلوبهم آخر ما لديه من نصيحة، كان يحس أن هذا الركب سينطلق فى بيداء الحياة وحده فهو يصرخ به، كما يصرخ الوالد بابنه الذى انطلق به القطار يوصيه بالرشد، ويزوده بما ينفعه أبدا، وكان هذا النبى الطيب عليه الصلاة والسلام كلما أوجس خيفة من مكر الشيطان بالناس عاود صيحات الإنذار واستثار أقصى ما فى الأعماق من انتباه، ثم ساق الهدى والعلم، وقطع المعاذير المنتحلة وانتزع بعد ذلك شهادة من الناس على أنفسهم وعليه بأنهم قد سمعوا وأنه قد بلغ. هكذا كانت حجة الوداع، كان القائد الأعظم للفكر الإنسانى كله وللهدايات الربانية جمعاء، كان يودع الحياة بآخر ما لديه من نصيحة للناس،(1/81)
أفرغها فى هذا القالب من كلمات سهلة موجزة لا يزال صداها يرن فى ضمير الدهر إلى يومنا هذا معرفا الناس بأن خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم تركهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. أقول قولى هذا واستغفر الله لى ولكم . ص _095
هذا هو الذكر خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه 27/2/1973م الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير.. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير.. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله، وأصحابه، والتابعين.. أما بعد: فحديثنا اليوم إن شاء الله- عن ذكر الله تبارك اسمه، وتعالى جده ولا إله غيره.. وذكر الله تعالى فى هذه الأيام يقع بين طوائف متناقضة بينها بعد ساحق.. هناك الماديون الذين لا يعترفون بوجود الله، ولا يقرون بشىء له بتة، وإذا حدث أن عزفوا عن الجدل، ورغبوا عن الحوار.. فإنهم فى سلوكهم لا ترى لله أثرا فى أحوالهم، ولا فى أعمالهم.. لا يعترفون به فى كلامهم، ولا يرعونه بتة فى أمرهم أو نهيهم، فى رغبتهم أو رهبتهم.. وهؤلاء الآن يمثلهم فى العالم الشيوعيون والماديون ومن إليهم ممن رفضوا الدين، وكرهوا أن ينقادوا له. وهناك من يذكرون ربهم وقد عجزوا عن أن يفهموا معنى الذكر.. فهم يظنون الدين لغوا على الألسنة، وربما فهموا الذكر مجالس جذب ووثب وقفز، ثم قلوبهم بعد ذلك بعيدة عن استشعار جلال الله، وإدراك هيبته ، وقدره حق قدره . ص _096(1/82)
إن ذكر الله تعالى يجب أن يأخذ صورا كثيرة لمناسبة الأحوال التى يكون الناس بإزائها، فمثلا أمام من يرفضون الاعتراف بالخالق، ويكرهون الإيمان به نقول لهم: (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل * له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون) . أما الذين يتخذون مع الله شركاء يكون ذكر الله بتوحيده، وإفراده بالعبودية، والتوجه إليه وحده بالدعاء والرجاء: (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون * ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) . ولهذا فنحن نشرح الذكر على نحو يتفق مع كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام إن ذكر الله تعالى أشرف ما يخطر بالبال، وأشرف ما يمر بالفم، وأشرف ما يتألق به العقل الواعى، وأشرف ما يستقر فى العقل الباطن. والذكر له معان نحب أن نضرب لها أمثلة، ونسوق لها نماذج حتى تُعرف : الناس قد يقلقون للمستقبل، أو قد يشعرون بالعجز أمام ضوائق أحاطت بهم، ونوائب نزلت بساحتهم، وهم أضعف من أن يدفعوها.. إنهم إذا كانوا مؤمنين تذكروا أن الله على كل شىء قدير، وأنه بكل شىء بصير، وأنه غالب على أمره، وأن شيئا لن يفلت من يده.. ولذلك يشعرون بالطمأنينة.. وهذا معنى قول الله عز وجل : (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب * الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب) فذكر الله هنا يشعر الإنسان بالسكينة النفسية.. لأنه يعلم أنه فى جوار ص _097(1/83)
لا يُضام، وأنه إذا أوى إلى الله فإنما يأوى إلى ركن شديد، ولذلك يشعر بالطمأنينة.. وهذا نوع من الذكر!!. وعندما ينطلق ناس صوب الدنيا يعبدونها، يتشهون ملذاتها، ويربطون حاضرهم ومستقبلهم بها.. فذكر الله هنا: أن يستعفف الإنسان، وأن يشعر بأن مع اليوم غدا، وأن مع الدنيا آخرة، وأن الإنسان يجب أن يقسم مشاعره بين حاضره ومستقبله، فيعمل لمعاشه كما يعمل لمعاده.. وهذا معنى قول الله جل شأنه: (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) . وذكر الله يخامر قلب المؤمن عندما يزله الشيطان إلى ذنب يرتكبه فى جنب الله.. إنه لا يبقى فى وهدته التى انزلق إليها، إنه لا يبقى فى سقطته التى جره الشيطان عندها، إنه يذكر أن له ربا يغفر الذنب، ويقبل التوب.. ولذلك فهو ينهض من كبوته، ويطهر نفسه، ويعود إلى ربه، ويستأنف الطريق إليه ،كما قال الله: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) . والفارق بين مؤمن يذنب وفاسق يذنب أن المؤمن سرعان ما يعود ومض الإيمان إلى ضميره إذا استطاع الشيطان أن يكسف نوره بشىء من الظلمة، أو بنفث من الدخان. أما الفاسق فأنه يبقى على ظلمته ما يرى فيها بصيص نور، فيبقى على نجاسته ما يعرف طريق التطهر.. قال تعالى: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون * وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون) . ص _098(1/84)
يجىء ذكر الله مثلا فى موقف المرء من المال.. إن المال صِنو الروح، والإنسان يعشقه ويحب جمعه وادخاره.. ولكن الله يطلب إلى الإنسان أن ينفقه، وأن يرعى فيه غيره، كما يرعى فيه نفسه.. عندئذ يحاول الشيطان أن يغل يديه عن النفقة، وأن يملأ فؤاده خشية المستقبل، وأن يغريه بالكزازة والشح.. ولكن ذكر الله يفك قيود البخل، ويغرى المرء بالنفقة،كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون * وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت ..) . ويقول: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) . ذكر الله يجىء للأفراد وللأمم وهى على طريق الكفاح والجهاد.. يجىء للفرد عندما يقال له: ما الذى يعرضك للجهاد تفقد فيه مالك، وقد تفقد فيه روحك، ولو أنك قعدت فى أهلك وولدك لكان ذلك أطول لعمرك، وأضمن لنجاتك.. هنا يجيء الذكر معلما للإنسان أن التعرض للحتوف لا يقرب أجلا، ولا ينقص عمرا، وأن القعود فى البيوت الآمنة أو التحصن فى البروج المشيدة لا يدفع موتا.. ذكر الله يجىء هنا عن طريق تعليم الإنسان الثبات: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) . وقد يجىء للأمم عندما تكون فى طريق الكفاح، وهى تواجه عدوا صلب العود، قوى العدد، كثير البطش، فتشعر بالخوف.. ولكن إذا سيطر الإيمان فإن المؤمن. ينظر إلى تاريخه الذى مضى ثم يعلم أن الله هو الذى يسوق النصر وحده، وأنه ساق النصر للمسلمين فى أيام عصيبة بلغ الهرج ص _099(1/85)
فيها أن كاد المسلمون يختنقون من الضيق والضياع !! (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا) . ذكر الله تعالى يجىء للإنسان فى أوقات فراغه. .. وما أكثر أوقات الفراغ التى يخلو الإنسان فيها بنفسه.. وقد يسرح فكره على غير طائل، ويضرب فى ميادين الوهم على غير هدى.. ولكنه إذا أحسن استغلال هذه الفترات فذكر من خلقه؟ من رزقه؟ من علمه ؟ من رباه ؟ و من ستره ؟ ومن أكرمه؟ من كساه؟ من آواه؟ إذ ذكر ربه، وأحسن نعمته، واعتبر،ورق قلبه ودمعت عينه ..فانه يغفر له . . فان من بين من يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله: " رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه " . من نماذج ذكر الله أن تكون وحدك قديرا على ارتكاب أية رذيلة، ولكنك تشعر برقابة الله عليك، ويتحرك قلبك فى جنبك ليعصمك من الزلل.. هذا ذكر لله !. إن ذكر الله عز وجل معنى كبير.. إنه يجىء ضدا للنسيان.. قال تعالى: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون) . إنه يجىء ضدا للغفلة.. قال تعالى: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون * ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) .. فى محاربة الغفلة.. وما أكثر الغفلات ، فى محاربة النسيان.. وما أكثر ما يغشى عقل الإنسان من أسباب النسيان.. يجىء ذكر الله شعورا معنويا قبل أن يكون. حركة شفتين.. يجيء هذا الذكر تحريكا لأقفال القلب حتى تنفتح، كما ص _100(1/86)
قال تعالى: (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين) . تضرعا وخيفة.. تذللا وخوفا من الله.. هذا هو الذكر الذى حوله المسلمون إلى مجالس عبث ، وإلى صيحات منكرة وإلى نوع من المجون والعبث، يساق فيه قول الله عز وجل: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا) . ونحن مكلفون أن نذكر الله كثيرا.. لماذا؟ لأن الإنسان فى هذه الدنيا تشغله مطالب نفسه، ومطالب أهله وولده، تشغله مظاهر الحس والحركة حوله، تستحوذ على انتباهه مظاهر الدنيا فى فجاجها التى لا نهاية لها.. فلا بد أن يقاوم هذا كله.. وهذه المقاومة إنما تكون بالذكر.. والذكر هنا: يعنى محاربة النسيان.. يعنى محاربة الغفلة.. خذ مثلا: الواحد منا قد يغتر، قد ينتفخ، قد يشعر بشىء من القوة.. فإذا ذكر الله بالكلمات المأثورة كان هذا الذكر دواء له.. وما الكلمات المأثورة هنا؟ " لا حول ولا قوة إلا بالله " . أى ليس لك حول من ذاتك.. أنت صفر!! بقواك الخاصة.. آنت تافه!! ولكن مع عون الله عز وجل.. أنت شىء كثير!! وهذا معنى قول: " لا حول ولا قوة إلا بالله ". وهذا معنى كلمة ابن عطاء الله فى حكمه: " ما تيسر طلب أنت طالبه بنفسك، وما تعسر طلب أنت طالبه بربك " !! . هذا ذكر.. وإنما خذل ناس كثير من العرب والمسلمين لأنهم مع تفاهتهم ظنو أنفسهم شيئا! بينما كان العمالقة قبلهم مع قوتهم يرون ص _101(1/87)
أنفسهم صفرا ! فكانت النتيجة أن وضع الله يده بالبركة واليمن على من لاذوا به فنجحوا وانتصروا ! وسحب رضوانه وتأييده وكنفه عمن اعتز بنفسه فتركه مكشوف السوأة عريان العورة !. إن الذكر معنى كبير... وليس له هذا المفهوم الضيق الذى يشيع بين الناس. لذكر الله معان شتى، ووسائل شتى، وكما يحتاج الجسم الإنسانى إلى وجبات يتغذى بها صباحا وظهرا ومساء حتى يحتفظ بالحرارة، ويتمكن من العمل و الإنتاج .. فكذلك قلب الإنسان وهو مستودع إيمانه يحتاج إلى وجبات روحية من ذكر منتظم يعرف بها المرء ربه، ويؤدى حقه، ويزود بها القلب الإنساني بالطاقة الروحية التى تجعله يتحرك على هدى، ولا يعمى فى ضوضاء الحياة ولججها الطويلة العريضة. ولا شك أن أول هذه الوجبات هى الصلاة.. فإن الله عز وجل إنما شرع الصلوات ليذكره الناس. قال تعالى: (وأقم الصلاة لذكري) . والناس عندما يقرأون أم الكتاب فإنما يناجون ربهم، يشكرون نعمته، ويحمدونه على أفضاله، ويعاهدونه أن يبقوا عبيدا له مستعينين به، ثم يستلهمون منه أن يهديهم، ويحنون أصلابهم ركعا وسجودا ليذكروا الله باسمه العظيم والأعلى حتى يتعلموا فى زحام الحياة أن العظيم هو الله، وأن الأعلى هو الله، وأن الخلائق صغرت أو كبرت ليست شيئا!! فالله هو العظيم، والله هو الأعلى، ثم يجلسون ليحيوا ربهم: التحيات لله . هذه هى الصلوات.. وأثرها ليس تربية فردية فقط.. ولكن الصلاة عصمة اجتماعية.. فهى للشعوب ضمان ألا تفتك بها الشهوات، وألا تستشرى بها العلل.. ولذلك فإن الأجيال المنحطة هى التى تنصرف عن الصلاة.. لأن الشيطان يومئذ يستهلك أوقاتها فى الضياع والشتات.. قال تعالى: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا). ص _102(1/88)
وعندما أبصر فى شوارع القاهرة غلمانا نمت أجسادهم، وضمرت أفئدتهم وقلوبهم وعقولهم يلهثون وراء الوهم وينطلقون لا يحدوهم هدف رفيع، ولا غرض شريف. أنظر إليهم فأقول: ما ربتهم الصلوات، ما تعلموا أن يصفوا أقدامهم بين يدى الله، إنهم بهذا المظهر والمخبر ما يصلحون لشىء ، لعنة الله على من رباكم بهذه المثابة من الحكام الشيوعيين، ومن الآباء المفرطين الكسالى المضيعين!!. إن الصلوات ما أضاعها وما صرف الناس عنها إلا من يريدون لأمتنا أن تكون علفا لمدافع بنى إسرائيل!! ولو أنهم علموا الأمم كيف تصطف فى الصلاة، وتناجى ربها، ما استطاعت أمة أن تفر فى ميدان، ولا أن تخذل راية الإسلام فى معركة!! وكذلك القرآن إنه طريق للذكر.. وهل نزل إلا للذكر !! إن الله تعالى يقول: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) . ويقول سبحانه: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب) . (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) . يبدو أن على القلوب أقفالا كثيرة!! فإن أعداء العرب، أعداء المسلمين، يذيعون القرآن من محطات الإذاعة.. لأنهم واثقون من أن المسلمين لا يفهمون، ولا يتدبرون، ولا ينفذون أمرا ولا يقيمون حدا.. وهم واثقون من أن القرآن يذاع لتضطرب به أمواج الهواء وكفى!!. لذلك تذيع " تل أبيب " القرآن، وتذيع " لندن " القرآن!! وهى تدرى أن المسلمين يهزون رؤوسهم، أو يتمتمون بألسنتهم، ثم ينتهى الأمر عند هذا الحد ! وما نزل القرآن لهذا.. إن القرآن نزل فأحيا أمة ميتة ، ص _103(1/89)
وخلق من العرب- وكانوا شعبا إلا قيمة له فى دنيا الناس- خلق منهم شعبا ورث العالمين أضخم حضارة عرفتها الدنيا، وجهدنا الآن أن نصل الناس بالقرآن.. لا بالسماع الميت، ولا بالخشوع المصطنع.. ولكن بالعمل.. بإحياء أحكامه، بالاستجابة إلى ما أودع الله فيه من ينابيع دفاقة بالخير والحق : (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) . لذكر الله تعالى بغير شك معان كثيرة.. وقد رأيت أن أشرح هذه المعان.. ولكن لا يمنع هذا من أن إسلامنا العظيم زود الأتباع بصيغ للذكر، هى صيغ، قال العلماء: يستحب أن تردد لكن ما يستحب ترداده من صيغ شىء غير ما وجب استشعاره من ذكر الله. إننا نختم الصلاة بالتكبير والتسبيح والتحميد.. ترديد الكلمات مستحب.. لكن الشعور بأن الله الأكبر، وأن الحمد لله، وأنه منزه عن الضد، والند، والكفؤ، والزوجة والصاحبة.. تنزيهه عن هذا كله ركن.. وإذا أضعنا الركن ورددنا صييغا لا نفهمها فلا قيمة لهذا الترديد.. نريد إحياء الفريضة أولا.. أما الصيغ فكثيرة. وللعلماء كلام أثبتوا فيه من معان الذكر، ومن صوره، ومن صيغه ما يهز القلوب، ويشرح الصدور، ويفعم النفوس نورا وتقى.. ومعروف فى تاريخ النبى عليه الصلاة والسلام، ويعرف هذا الأصدقاء والأعداء أن أحدا من الأولين والآخرين لم يتقن فن ذكر الله كما أتقنه محمد عليه الصلاة والسلام.. لقد كان ذكر الله تعالى فى قلبه وعلى لسانه يأخذ صورا بلغت- لا أقصد الإعجاز البيانى فى شرف صياغتها، ونقاء أسلوبها، وجمال جملها- ولكن ما تضمنته من حب لله، وحرارة فى مناجاته، وإقبال عليه، ودوام على صحبته. إن الصيغ التى وردت فى هذا كثيرة إلى حد يحتاج إلى عرض خاص . . ص _104(1/90)
منها أن النبى عليه الصلاة والسلام كان إذا أوى إلى فراشه قال: " اللهم أسلمت نفسى إليك، ووجهت وجهى إليك، وفوضت أمرى إليك، وألجأت ظهرى إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذى أنزلت، ونبيك الذى أرسلت " . وكان إذا استيقظ من نومه قال: " الحمد لله الذى عافانى فى جسدى، ورد على روحى، وأذن لى بذكره " . وكان إذا لبس ثوبا جديدا قال: " الحمد لله الذى كسانى هذا الثوب ورزقنيه من غير حول منى ولا قوة " . وكان إذا انتهى من طعامه قال: " الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين " . وكان إذا خرج من الخلاء قال: " غفرانك " ويقول: " الحمد لله الذى أذهب عنى الأذى وعافانى " . وكان إذا بدأ سفرا قال: " اللهم أنت الصاحب فى السفر، والخليفة فى الأهل، اللهم اصحبنا بنصحك، واقلبنا بذمتك، اللهم ازو لنا الأرض، وهون علينا السفر . ص _105
اللهم إنى أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب " . وكان إذا عاد من سفر أو غزو قال: " آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون " . وكان إذا رأى الهلال قال: " اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربى وربك الله" . وكان فن الدعاء على لسانه غريبا.. كان يقول: " اللهم اجعلنى لك شكارا ، لك ذكارا ، لك رهابا ، لك مطيعا، إليك مخبتا، إليك أواها منيبا " . وأدعيته صلى الله عليه وسلم وأذكاره فى هذا كثيرة.. نفعنا الله بصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم وبما نزل عليه من كتاب، جليل. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم . ص _106(1/91)
الخطبة الثانية الحمد لله (..الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) . وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: عباد الله.. أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل، واعلموا أيها الاخوة أننا مكلفون أن نذكر ربنا كثيرا فى هذه الأيام.. أقصد بذلك: الذكر بالمعنى الذى شرحته.. ذلك أن " مصر " كان يجرها إلى الكفر بالله وترك دينه ناس كثيرون فى ميدان الحكم وفى ميدان القلم.. كانت مراكز القوة تقود بلدنا إلى الشيوعية بيقين.. وقد جرتنا مراحل طويلة فى هذا الطريق.. ونحن لا نريد أن نكفر بالله، ولا نريد أن ننسى وجوده، ولا أن نجحد حقه فى سيرتنا، وفى سلوكنا، وفى أعمالنا.. وهناك طلاب كثيرون الآن حريصون على أن تبقى " مصر " مؤمنة، وعلى أن يختفى كل أثر للمد الشيوعى فى بلادنا.. ونحن بقلوبنا ودعواتنا نريد فعلا أن يختفى من نفوسنا ومن صفوفنا كل تهوين للعلاقة بالله، وكل إساءة إلى دين الله، وكل تفريط فى جنب الله.. نريد أن تعود مرة أخرى إلى النفوس خشيتها من الله، وانتظامها فى صفوف الصلاة، وإعزازها للمساجد، وتعلق القلوب بعبادة الله فى ساحاتها.. نريد أن نعرف أن الإنسان لا كما يقول بعض ص _107(1/92)
الكتاب اليوم حيوان تاريخي!! لا.. الإنسان عبد لله فى هذه الدنيا، خلق ليؤدى حق الله، وليقوم إن كان مسلما بأكمل رسالة نضرت وجه الإنسانية وأعلت قدرها.. وهى رسالة الإسلام. إن الفكر المادى الوضيع يفرض نفسه عن طريق لغط لا آخر له، وبغام دواب ملكت ناصية الكتابة والتوجيه. ونريد أن يعلم الناس أن هؤلاء ومن ساندهم من أسباب السلطة قديما جروا بلدنا فى ميدان المادية، وفى منحدرات الشيوعية، حتى كانت النتيجة أن هان ربنا علينا، هان القرآن علينا، هان ديننا علينا، هنا على أنفسنا فسقطنا من عين الله، ومن أعين الناس فى الميدان العالمى !!. إننا لكى نسترجع ما فقدنا، ولكى نسترد خسائرنا يجب أن نذكر الله.. ومعنى الذكر هنا أن ننعش تعاليم الإسلام برد الحياة إليها بعد أن كادت تموت، وأن نعيد للإيمان نضارته وقوته بعد أن كاد يذبل وتذوى ويضعف ويتلاشى. إذا كنا قد جررنا فى طريق المادية والشيوعية، ومشينا طوعا أو كرها خطوات فى هذا الطريق فينبغى أن نعود أدراجنا إلى كتاب ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام.. الموت أفضل من أن نعيش بلا دين.. الموت أفضل من أن نعيش وقد انقطعت صلتنا بمحمد صلى الله عليه و سلم وكتابه.. الموت أفضل من هذا الضياع والشتات " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) . عباد الله : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) . أقم الصلاة ص _108(1/93)
إسلام بلا نصوص خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين . أما بعد: فإن الإسلام هو الصبغة. الإلهية الثابتة: وهو الرباط الأوحد الأعظم بين المسلمين فى المشارق والمغارب، وأخوة الإسلام عاطفة شريفة جعلها رب العالمين أساسا لوحدة كاملة وأمة متماسكة، هذه العلاقة توجب حقوقا مختلفة، منها التناصر والتكافؤ، فإن النبى صلى الله عليه وسلم يقول: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه " . لا يظلمه: أى لا يجور عليه، ولا يسلمه: أى لا يخذله فى مجال، ولا يتركه وحده فى ميدان، بل يكون ظهيرا له حيث كان، ولو أن شخصا اعتنق الإسلام فى أبعد قارات الأرض لنشأت له حقوق على كتلة الأمة الإسلامية فى أرضها هذه التى تعيش عليها الآن !. والمسلمون بهذه الوحدة، أو بهذه الأخوة أمة واحدة تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم. رباط التوحيد ، ص _109(1/94)
عقيدة الإيمان بالله الواحد هى المحور الذى يتلاقى عليه المسلمون وإن اختلفت أجناسهم من عرب إلى ترك إلى زنوج إلى هنود، إلى بيض إلى دم أو لون أو عرق مما يتصور فى الطبيعة البشرية. الأمة الإسلامية أمة واحدة، هذه الوحدة عرفت فى تاريخها الطويل، فدولة الخلافة بعد دولة النبوة، ودولة الأمويين بعد دولة الخلافة، ودولة العباسيين بعد الأمويين، ودولة الأتراك العثمانيين بعد العباسيين، كانت تعتبر المسلمين الموزعين فى القارات الخمس، كانت تعتبرهم أمة واحدة. هذه الوحدة كانت بلا ريب أساس بقاء الأمة، وكانت سلاحا حادا يمنع أعداءها من أن يفتكوا بها، أو ينالوا نيلا جسيما منها، فلما أراد أعداء الإسلام أن يمزقوا هذه الأمة، وأن يجهزوا على دينها قرروا أن يقسموها إلى دويلات شتى ، والى شعوب مختلفة. وبدأ هذا التقسيم فى الحقيقة عندما بدأت جمعية سرية فى تركيا، أسمت نفسها جمعية الاتحاد والترقى، تقاوم السلطان عبد الحميد، والسلطان عبد الحميد رجل كذب عليه كثيرا من أرخوا له، فإن الأمة الإسلامية على عهده كانت أكثر تماسكا، وأبعد عن ضرب الأعداء، فلما عزل الرجل، وبدأت النزعة الطورانية ، وهى جزء من مخطط عالمى ضد الإسلام ، يحيى الطورانية فى تركيا، ويحى الفرعونية فى مصر، ويحى الفينيقية فى سوريا، ويحى الآشورية فى العراق، ويحى الفارسية فى إيران وهكذا، وهكذا. المهم: أن الرباط الأوحد وهو الإسلام يتمزق، أن الصبغة الثابتة يبهت لونها وتخف صبغتها، أن عاطفة الإخوة الإسلامية تؤخر وتتقدم عليها نزعات أخرى وعواطف أخرى. وكان القصد كما قلت تمزيق الأمة الإسلامية، وأخذ هذا التمزيق شكله الأول فى أول ضربة وقعت اثر أول انقلاب عسكرى خطير فى تاريخ الأمة الإسلامية، وهو انقلاب " مصطفى كمال أتاتورك "، ومصطفى كمال أتاتورك كما ذكر التاريخ رجل عميل، صنع له الاستعمار نصرا على اليونان حتى يجعل منه شخصية مهمة وعن طريق تكوين شخصية مهمة يمكن أن تضرب(1/95)
الإسلام ضربات موجعة على يد شخص أمكن أن يتوج ببعض ص _110
الهالات من نصر براق ومن أمور تجعله زعيما، ولا هو فى الزعامة بقليل ولا كثير !. لقد تبين من دراسة التاريخ أن العالم الإسلامي تفتك به مؤامرات تدبر فى الخارج بذكاء، ويصنع بعد ذلك الرجال العملاء فى العالم العربى والإسلامي لتنفيذ مخططات صهيونية وصليبية وشيوعية ! المهم أنها جميعا تتلاقى على سحق الإسلام وتمزيق أمته !. وقد نجحت بلا ريب هذه المؤامرات وأصبح المسلمون الآن موزعين على نحو سبعين جنسية كما قلت فيما مضى. أول ما ظهر فى العالم الإسلامى النزعة الوطنية، ولا شك أن كل امرىء يحب وطنه، ومحبة الوطن غريزة فى دماء البشر، ولكن من قال إن حب الوطن يعنى أن نعبد التراب وننسى خالق التراب؟ من قال هذا؟. إن النشيد الوطنى الذى صنع لنا، كان يقول فيه قائله وهو يناجى مصر: حديثك أول مافى الفؤاد ونجواك آخر ما فى فمى وإذا كان حديث مصر أول ما فى الفؤاد وآخر ما فى الفم. فماذا يبقى لله أولا وآخرا ؟ لن يبقى له شىء !!. وقد كتبت هذا فى كتابى " ليس من الإسلام " من عشرين سنة. النزعة الوطنية إذا كانت أغرت المصريين بعبادة مصر، فقد أغرت كل بلد بأن يعبد تربته ويتعصب لوطنيته، ويجعل منها شيئا يقدم على الدين ومنطقه، وعلى العقيدة ووحيها ، وعلى الأخوة الإسلامية وحقوقها، وأفهم المسلم فى السودان ، أن ليست له صلة بأخيه فى مصر، بل (صلته) بالزنجي الوثنى أو الذى نصره المبشرون فى جنوب السودان أولى به وأوثق وأقرب إليه وأقوى من صلته بأى مسلم فى أى مكان آخر !. وبهذه الفلسفات الجديدة أكلت أراضى الإسلام، لأن كل جزء من هذه الأرض شغل أهله بأنفسهم فقط. فلما أحس المسلمون بأن النزعات الوطنية توشك أن تأتى عليهم فرادى وجماعات أخذوا يتجهون إلى النزعة العامة، إلى الأخوة الجامعة، إلى الأمة ص _111(1/96)
الواحدة , إلى الإسلام الكبير، إلى عالمه الرحب، ولكن قبل أن تبدأ الدعوة الإسلامية تأخذ مداها، كان التآمر العالمى قد اتفق مع " ميشيل عفلق " وعبد المسيح فلان، وكذا، وكذا، من العرب السوريين أن يؤلفوا نهضة عربية أخرى تغنى عن الإسلام ! وجاءت القومية العربية لتغنى عن الإسلام!!. ونحن ما فهمنا القومية العربية على هذا النحو، نحن نعتبر العروبة وعاء الإسلام ونعتبر العربية لغة القرآن الكريم، فيجب أن تبقى وأن يكون لها من ينطق بها ويرعاها ومن تزدهر آداب العربية فى مجتمعهم وحضارتهم وقوميتهم، فتكون القومية قومية لسان لا قومية دم أو جنس أو عرق. فإن الإسلام لا يعرف التعصب لجنس، ولا يعرف أن يقدم دم على دم، أو لون على لون، فإن أخوة الإسلام محت كل هاتيك الفوارق بين الخلق، لكن الذى حدث ونفذ أن العروبة أسبق من الإسلام، وبالتالى تمحى الآن فى بطاقة تحقيق الشخصية، تمحى الديانة فلا يكتب مسلم أو مسيحى أو درزى ، أو كذا، أو كذا فى البطاقة فى سوريا أو فى العراق، لم؟ لأن المقصود فعلا أن تكون العروبة أهم من الإسلام!!. ونشأ عن هذا طبعا أن العالم الإسلامى مزق، وأن قضية فلسطين اعتبرت قضية عربية لا قضية إسلامية، واعتبر العرب مسئولين عن أنفسهم. وهكذا ازدادت جراحات الإسلام عمقا، وازداد نزيفه غزارة، وشعر أعداء الإسلام بأن الإسلام يوشك أن يلقى حتفه، وأن ينتهى أجله، لأن المؤامرات التى حبكوها وأحكموا صنعها بدأت تؤتى ثمارها. لكن دين الله كان أغلب، والمنتمين إليه كانوا أكثر، وكانت العقيدة أعز على أنفسهم من أن تضيع على هذا النحو. فبدأ التجمع على الإسلام يأخذ طريقه، وبدأت الأمة الإسلامية تفكر تفكيرا جادا فى أن تمحو الاستعمار الثقافى والقانونى والاجتماعى الذى غلب عليها. وبدأت صيحات الدعوة إلى الإسلام تنطق بقوة ، وتوجب على الأمة أن تعود إلى دينها وأن تتمسك به. ص _112(1/97)
و هنا أخذت المؤامرات ضد الإسلام طريقا آخر . ونحن نريد أن نكشف أبعاد المؤامرة الجديدة على الإسلام حتى إذا افتضحت فى أوانها، وانكشف المشتركون فيها- وهم يؤدون دورهم- بطلت حيلهم، وافتضحت عقباهم، وعرف ما يريدون فأخذت الأمة حذرها من هؤلاء. المؤامرة الجديدة: أنه لا بأس من العودة إلى الإسلام!! لكن الإسلام الذى نعود إليه إسلام يمكن للحاكم أو للدولة أن تتخلص من نصوصه!! ودين بلا نصوص ما يكون ؟ وما هى النصوص التى يمكن أن نتخلص منها؟ أطراف المؤامرة الجديدة كشفوا عن أنفسهم، وأنا تابعت هذه المؤامرة فى بلاد إسلامية كثيرة، وعرفت أنه ليس من الصدف أن يكون هناك هيجان فى وقت واحد ضد النصوص الإسلامية فى أقصى الشرق- فى أندونيسيا أو باكستان- وفى أقصى الغرب- فى تونس والجزائر- وفى وسط العالم الإسلامى- فى مصر!!! لا بد أن أطراف المؤامرة تحركهم قوى واحدة، وتدفعهم رغبة واحدة فى القضاء على هذا الدين. المؤامرة الجديدة تتحدث عن إسلام بلا نصوص- إسلام يستطيع أى إنسان أن يلغى أحكامه كما يريد. وقد سمعنا فعلا أن حاكما قال: صوم رمضان يعطل الإنتاج!! إذا لا ضرورة لصيام رمضان. أنا مسلم، ولكنى مسلم متقدم، مسلم متطور، مسلم ينظر إلى النصوص نظرة مرنة!! الحج يضيع العملة الصعبة. قبح الله وجوهكم !! وما الذى جعل العملة صعبة وسهلة؟ إذن لا حج. لكن لا حج مشكلة خطيرة، إذن يذهب الحجاج بالقرعة. وطبق هذا ، طبقه رجل شيوعى فى أندونيسيا، وانتقلت العدوى إلينا، لكنها ستنتهى إن شاء الله. الحج يضيع، الصوم يضيع، الصلاة، ما المقصود منها؟ تقويم الأخلاق؟ نحن أخلاقنا حسنة، فلا ضرورة للصلاة ! وهكذا، وبدأت حركة المتآمرين، تنكشف فى إلحاح بعض الرجال وبعض النساء على أن يكون هناك إسلام بلا نصوص . ص _113(1/98)
إسلام بلا نصوص، البدعة الجديدة، وتتبعث البدعة الجديدة فوجدت أن هناك نسوة يعلمن أن القانون القائم المستورد من فرنسا، وكذلك القانون القائم فى السودان المستورد من انجلترا، هذه القوانين لا تعتبر الالتقاء الجنسى الحرام جريمة!! بل إذا كان الرجل متزوجا ورأى أن يترك امرأته بعد أن فعلت ما فعلت فلا حرج !! ليس لله فى هذا القانون حق يقام !!وليس هناك فى هذا القانون دين يرعى !. ولو أن النسوة المشتغلات بالنهضة النسائية كما يردن التعبير عن أنفسهن لو كن أصحاب شرف، لو كن أصحاب مكانة خلقية، لو كن أصحاب غيرة على الأعراض والأسرة لهاجمن هذه القوانين، ولقلن يجب أن تغير، ولو أنهن بدأن الحركة من هذا المبدأ لاستمعنا إليهن فى كثير، لكن الذى حدث أنهن أطبقن شفاههن على هذا المنكر القانونى، وسكتن عنه سكوتا تاما، وبدأ الكلام عن أن المرأة مظلومة فى الإسلام؟ لأنها دون الرجل فى نصاب الميراث وفى نصاب الشهادة . عجبا!! المرأة التى كرمها الإسلام طفلة، وجعل الإنفاق عليها سترا من النار وطريقا إلى الجنة !! وكرمها زوجة، وجعل أفضل الرجال الذين يكرمون نساءهم ! وكرمها أما وجعل الجنة تحت قدميها !. الإسلام يتهم بأنه أهان المرأة، والقانون الذى افترش المرأة لكل كلب والغ فى الأعراض يسكت عنه ويعتبر قانونا مقدسا ! يهاجم الإسلام ويسكت عن هذا القانون !! ثم عندما أتيح الكلام لإحدى المتحدثات عن النهضة النسائية قالت كلاما، لا أدرى كيف قيل؟ ولا أدرى ما الذى حدث حتى تسوء أحوال أمتنا فتبلغ هذا الدرك؟!.. امرأة تقول: إن " مصر " لا حرج عليها ولا تعاب إذا كانت منفتحة للسياح ترضى أمزجتهم ! هذا الكلام ينقل فى الخارج فيعلم منه فى الشام وفى ليبيا وفى السعودية وفى كل بلد أن النساء فى مصر سلعة تباع وتشترى . هل هذا هو الحال فى مصر؟ وهل النساء فى مصر هكذا؟ إن مصر مليئة بالأسر الشريفة، مليئة بأصحاب الغيرة على الأعراض ، مليئة بناس يفضلون الموت(1/99)
على العار .!! لكن امرأة فقدت الدين والشرف والخلق تتحدث عن نساء مصر بهذا ص _1 ص
الأسلوب، وتعطى فكرة عن مصر كلها بأن مصر بلد منفتحة ترضى أمزجة السائحين. وهذه المرأة تنطلق مسعورة عندما ترى الطالبات فى الجامعة ارتدين ملابس الحشمة ! وتسكت سكوت القبر على فساد القانون، وتدافع عن شارع " الهرم " وما يقع فيه من فضائح . ما هذا؟ لاحظوا أن المتكلمات فى هذا الموضوع يحرصن على القول بأنهن مسلمات حريصات على الإسلام، ولكن الإسلام الذى يطلبنه إسلام متطور، إسلام لا يعرف التطبيق الحرفى للنصوص، إسلام بلا نصوص!!. ثم أشعر بشىء من الكآبة وأنا أرى من لا يحسن الحديث يتكلم فى الأمور العلمية بجهل غليظ . قال أحد الناس: إن قطع يد السارق كان قديما لأنه لم يكن هناك سجون وهذا جهل صبيانى؛ لأن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان له سجن فى المدينة ومعروف أن الحطيئة الشاعر كان شديد التطاول على الناس، وأراد عمر أن يمنع بذاءته وفحشه فحكم عليه بالسجن، وفى السجن أرسل الشاعر إلى عمر رضى الله عنه أبياتا يستعطفه فيها ويطلب منه أن يعفو عنه وأن يطلق سراحه، وفى هذه الأبيات: ماذا تقول لأفراخ بذى مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر ألقيت كاسبهم فى قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر لكن متحدث القرن العشرين فى الصحافة ظن أن السجن اختراع أوربى أو اختراع أمريكى!! وقال: إن المسلمين إنما حكموا بالقطع لأنهم لا يعرفون نظام السجون ! عجبا لهذا الجهل ! ثم تسمع كلاما آخر امتدادا لهذا الجهل فى موضوعين: الموضوع الأول: فى قطع يد السارق، لأن صحافتنا وأدباءنا كثير منهم شديدو الحنو على السكارى والزناة واللصوص!! سبحان الله.. أهناك قرابة؟. ما هذه العاطفة الحارة ضد الإسلام، وهذا الدفاع المستميت عن اللصوص وعن الزناة وعن السكارى ؟ ص _115(1/100)
قال المدافع الجهول : إن الإسلام أحاط الحد بأن يدرأ بالشبهة، وهل درء الحد بالشبهة معناه عدم إقامة الحدود، وأن يعطل النص؟ شئ عجيب !!. إن عمر رضى الله عنه قطع حين وجد القطع لابد منه، ومنع كأى قاض تعرض عليه قضية فيتأمل، فإذا وجد المتهم جدير بأن يحكم عليه حكم عليه وقطع، وإذا كان جديرا بأن يترك أنفذ أمر الله وتركه دون حكم. فى الأمر الأول جىء بلص، ونظر إليه عمر فوجده رجلا جلدا قويا، وجاءت أمه تستعطف عمر وتقول له: ابنى سرق وهذه أول مرة له. فقال لها عمر: كذبت إن الله لا يفضح عبده لأول مرة ثم أقيم الحد. وروى ابن حزم فى " المحلى " أن على بن أبى طالب رضى الله عنه ذهب إلى الرجل وقال له: أنشدك الله كم سرقت من مرة؟ قال له: إحدى وعشرين مرة ! وفى قصة أخرى: أن غلمانا لابن حاطب بن أبى بلتعة سرقوا ناقة وانتحروها وأكلوها ! وجىء بهم إلى عمر رضى الله عنه فرأى وجوها مصفرة وناسا متعبين، تحقق الأمر، وقال لابن حاطب بن أبى بلتعة: أما إنى أعلم أنكم تدئبونهم فى العمل وتنقصونهم الأجر، أما إذ فعلوا ذلك لأنك ظلمتهم فلأغرمنك غرامة توجعك !. ثم قال " للمزنى " صاحب الناقة: بكم كنت تبيع ناقتك ؟ قال كنت أمنعها من أربعمائة درهم، فأمر ابن حاطب أن يدفع ثمانمائة درهم !!. وفى رواية ضعيفة قال عمر لابن حاطب: إن سرقوا مرة أخرى قطعتك أنت . معنى هذا أن الإسلام دين لا يقطع إلا اليد الظالمة الآثمة، أما الجائع، أو المظلوم، أو من هناك شبهة فى إقامة الحد عليه، فإن الحد يسقط تلقائيا. وعمر رضى الله عنه يتبع فى موقفه من غلمان ابن حاطب يتبع سيده رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيدنا جميعا، فإنه فى قصة معروفة: أن لصا ضبط فى ص _116(1/101)
بستان أكل وملأ جيوبه ! وذهبوا به إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن ضربوه ضربا موجعا، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام- وهو متألم- لصاحب البستان: " ما علمت إذ كان جاهلا، ولا أطعمت إذ كان جائعا " واعتبره الرسول عليه الصلاة والسلام جاهلا، ولم يقم عليه الحد !!. لكن ما نقول: إذا كان الإسلام لم يتحدث فيه فقهاؤه، وإنما يتحدث فيه سماسرة الاستعمار، يتحدث فيه عملاء الشيوعية والصليبية، يتحدث فيه الجهلة الذين لا يعرفون كتابا ولا سنة ولا فقها، وبعد أن كتبوا جهلهم يأخذون جائزة تشجيعية ما هذا؟. يقول المدافع عن السرقة وأن حد السرقة لا يجوز أن يقام يقول كلاما غريبا امتدادا للجهل، بعد أن قال: إن الحد يسقط بالشبهة، كأن كل حد فى الدنيا يسقط بالشبهة ! أى جهل هذا؟. يقول: إن الإسلام ترك الإماء والجوارى والعبيد والرقيق، ونسخ كلام القرآن فى هذا، وكما نسخ كلام القرآن فى هذا ينسخ كلام القرآن فى السرقة. هذا الكلام أفزعنى ! لأنه جهل صفيق جد! . أولا: الفرق شاسع بين حد السرقة الذى جاء فيه أمر إلهى وبين قصة الرقيق التى نتحدى الإنس والجن أن يأتوا بنص فى القرآن كأمر بالاسترقاق . القول بأن فى القرآن نصا يأمر بالاسترقاق غلط، ولكن الجهل ص _117(1/102)
المركب جعل المدافع عن الضلال يقول بأن فى القرآن نصا نسخه المسلمون هكذا ، وليس فى القرآن نص بالاسترقاق، ولكن الأمر بالاسترقاق موجود فى العهد القديم، وموجود تطبيقا له فى العهد الجديد!!. ومن جهل المتعلمين المسلمين وهو جهل غليظ أنهم يضعون الإسلام فى سجن الاتهام فى قضية الرقيق، مع أن الذى يوضع فى سجن الاتهام أى مبدأ أو دين آخر إلا الإسلام، لأن الإسلام جاء والرقيق موجود فى القانون الرومانى والإغريقى والهندى واليهودى والنصرانى!!. جاء الإسلام ـ وهو الدين الأوحد الذى جاء ـ فمنع الاختطاف، واعتبر الاختطاف جريمة منكرة، وكان الاختطاف أساس الاستعباد، وظلت أوربا تشتغل بالخطف إلى القرن التاسع عشر، وكان لملكة إنجلترا " اليزابيث " سفينة اسمها يسوع تشتغل بخطف العبيد فى غرب أفريقيا . نعم: تخطف الأحرار، وأفتى لها القساوسة بحل هذا اعتمادا على نصوص التوراة . الإسلام ليس فيه شىء من هذا، الإسلام قال فى حديث قدسى عن الله: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه، ولم يعطه أجره ) . هذا هو الإسلام، صحيح أن الإسلام استبقى نظام العبودية كما يسمى، وجعل الأسر هو المنبع الوحيد للرق، ورفض ما عداه من مبادىء، واستبقى هذا من قبيل المعاملة بالمثل، لأنه يستحيل أن يحرم الرق إلا بالمعاهدة دوليا، ومن الجنون أن أحرم الرقيق فأحرر الآخرين، بينما أترك أولادى يؤسرون ويسترقون. هذه هى القضية، لكن الجهل الذى أتاح للكثيرين أن يتبجحوا، جعل بعض الناس يقول: ان الإسلام دعا إلى الرق ونحن نسخنا الرق، إذن تنسخ الحدود، وتوقف النصوص . ص _118(1/103)
المؤامرة الجديدة التى يعمل لها كثيرون فى وسائل الإعلام وأولها الصحافة ثم الروايات والمسارح دعوة إلى إسلام بلا نصوص، ومعنى إسلام بلا نصوص: أن أى تافه يستطع أن يقول: لا داعى لهذا النص، لا داعى لهذه الآية، لا داعى لهذا الحديث، ومعنى ذلك أن يضيع الإسلام كله. وردا على هؤلاء أريد أن أقول: إن القرآن مائة وأربع عشرة سورة من كفر بآية واحدة. من سورة واحدة فهو كافر بالمائة، والأربع عشرة سورة جيمعا وأن نبينا محمدا عليه الصلاة والسلام له سنة درسها العلماء الثقات، ورتبوا أحاديثه بين متواتر وصحيح، وإن الذى يكفر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر بالأنبياء جميعا وبمن أرسلهم.. برب العالمين جل شأنه. إن الإسلام واضح، أريد أن يعلم الناس أننا لن نسكت على ضياع ديننا. إن الجراءة الفاجرة التى مكنت امرأة أن تزين الفجور دون حرج، والتى زينت لغيرها أن يبيح الخمر أو يبيح السرقة أو يرفض بصفاقة أمر الله بقطع يد السارق، إن هذه الجراءة يجب أن تعلم خواتيمها، وخواتيمها أننا ندرك أبعاد المؤامرة ونتائجها، أبعاد المؤامرة ونتائجها أن يزول الإسلام ، وكما دخل اليهود سيناء، والجولان، والمسجد الأقصى على أيدى هؤلاء المتآمرين وفى ظل مؤامراتهم سيدخلون بقية العالم العربى. ونحن لا أرب لنا فى حياة يضيع فيها الإسلام، وتضيع فيها أوطان الإسلام ! نريد أن تعلموا أنه لا بقاء لنا ولا رغبة لنا أن نبقى إذا ضاع الإسلام، وسنشتبك مع هؤلاء الكلاب والذئاب الذين ينبحون ديننا، ونسمع عواءهم فى دور الصحف وفى شتى المنتديات، سنشتبك معهم يقينا، ونتابع أخبارهم، ونفضحها خبرا خبرا، ونتابع إفكهم على الإسلام ، ونكشف ضلاله كلمة بعد أخرى، إننا لن نسكت، ويجب على المسلمين فى كل مكان أن يشعروا هؤلاء بأن كلمة إسلام بلا نصوص لا بد أن تختفى، لا بد أن يعود الإسلام بنصوصه كلها، وموتنا هو أول ما نقدمه فى سبيل هذا. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم .(1/104)
ص _119
الخطبة الثانية الحمد لله (..الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) . وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. أما بعد: فأوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل، واعلموا أيها المسلمون أن قطع يد السارق أو جلد الزانى، أو رجمه، أو ما إلى ذلك من نصوص، هى فى تعبير علماء الشريعة فروع إسلامية مهمة، لكن الأصل الإسلامى الأول هو الإيمان بالله، والسمع والطاعة له، وتولية حكام يقولون للأمة كما قال أبو بكر رضى الله عنه: " إن أحسنت فأعينونى وإن أسأت فقومونى). ومعنى ذلك أن الأصل فى الحكومة الإسلامية ليس قطع يد السارق كما يريد أن يلغط عدد كبير من الناس، هذه فروع فى الشجرة الإسلامية، أما جذع الشجرة فحكم يؤمن بالله ويدين بالسمع والطاعة، ويستشير الأمة ولا ينال منها ولا يذلها. ولذلك فإن أى حاكم يفكر فى أن يجعل هواه قانونا فيعتقل من يريد متى يريد، هذا ليس حاكما إسلاميا، بل هو سمسار للاستعمار العالمى كى يذل الأمة، ويوطىء ظهرها لكل محتل يجىء من الخارج. إن أساس الحكم الإسلامي إعطاء الناس حق الحرية، كما قال عمر ابن الخطاب رضى الله عنه: " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ".؟. ص _120(1/105)
ولذلك فإن سيادة القانون مبدأ يجب أن يحترم، على أن يكون هذا القانون بداهة فى إطار الشريعة، منها يستمد وعليها يعتمد. إننا نرفض أن يصور الإسلام بصورة مشوهة، ممن تؤخذ صور الإسلام؟ من رجاله، من علمائه، إن الأدعياء ليس لهم أن ينطلقوا فيتحدثوا عن الإسلام بما يريدون أو كيف يريدون. إننا نؤكد أن الإسلام كبير، وأنه إذا خانه الجيل الحاضر: ( . . فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . . ) . لكننا لن نخون الإسلام، وإذا كان أصحاب الجراءة على دين الله قد تاحت لهم فرص يكذبون فيها على الإسلام، فإنه لا يجوز أن نترك لهم الفرصة لنجاح المؤامرة الأخيرة على الإسلام، إنها المؤامرة الأخيرة، لن تكون بعدها مؤامرة إن شاء الله. إن المؤامرة الأخيرة التى يعمل لها بعض الرجال أو بعض النساء مهمتهم أن يظهروا أنفسهم مسلمين متحمسين للإسلام لكن إسلام بلا نصوص. يراد أن تكون شهوات تحكم وأهواء تمشى الأمة وراءها، وما يمكن أن يترك الجو لهؤلاء أبدا. قلت سنتعقبهم، سنفضحهم، لأنهم-كما استيقنت- أسباب هزيمتنا وأسباب ارتدادنا، إن الخطة التى وضعها الاستعمار العالمى صليبيا أو شيوعيا هى أن يقال للمسلمين: يجب أن ترتدوا عن دينكم وأن تتنازلوا عن بلادكم، لا خيار أمامنا، مطلوب منا أن نرتد عن ديننا، وأن نتنازل عن بلادنا . أما الارتداد عن الدين فلأنهم يحاربوننا على هذا الدين من أربعة عشر قرنا وأما التنازل عن البلاد فلأن خيراتها كثيرة ، وكنوزها موفورة، والطاقات فيها لا تنتهى . ص _121(1/106)
نحن بين أمرين، إما أن نتشبث بالإسلام فننجو وننجح، واما ألا نتشبث بالإسلام فينالنا خسار الدنيا والآخرة جميعا. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى اليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) . عباد الله : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) . أقم الصلاة * * * ص _122
نظرة الإسلام إلى المال خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شىء قدير، وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإن المال لا يطلب لذاته فى هذه الدنيا، وإنما يطلب عادة لما يضمنه من مصالح، ولما يحققه من منافع، إنه وسيلة، والوسيلة تحمد أو تعاب بمقدار ما يترتب عليها من نتائج حسنة أو سيئة. المال كالسلاح، والسلاح فى يد المجرم يقتل به الآخرين، ولكنه فى يد الجندى قد يدفع به عن وطنه أو يحرس به الأمن فى بلده، فليس السلاح محمودا أو معيبا لذاته، والمال كذلك، وقد قال الله تعالى فى المال وما يسوق لأصحابه فى الدنيا والآخرة من خير أو شر، قال: (فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى * وما يغني عنه ماله إذا تردى) . والمال كما يكون زينة الحياة ييسر مباهجها، ويقرب شهواتها، فقد يكون كذلك سياج الدين وضمان بقائه، ومدد تسليحه وحمايته، وقد ص _123(1/107)
قال الله فى وصف المال والبنين: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) وقال كذلك فى قيمة المال والبنين لإحراز النصر، ورفع الشأن، قال: (ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا) . فتنتصر الأمم بالمال والبنين، وتنهزم كذلك بالمال والبنين يوم يكون مالها أداة ترف، ويوم يكون مصدر استعلاء وطغيان، ويوم يكون أبناؤها طلاب ملذة، وأحلاس لهو ولعب. وللإسلام موقف من المال نحب أن نشرحه، فإن بعض المثقفين الجدد يظنون أن الدين تحدث- فى العقائد أو فى العبادات، وأن حدوده شرقا وغربا تنتهى بالعقائد والعبادات، أما حديثه عن المال والاقتصاد فإن هذا الحديث مستغرب منه ومستكثر عليه، وما درى أولئك المثقفون الجدد من ضحايا الغزو الثقافى الاستعمارى العالمى ما درى هؤلاء أنهم ينتمون إلى دين ما ترك خيرا إلا أمر به ولا شرا إلا نهى عنه، ولا مصلحة تقرب العباد إلى الله إلا أكدها ، ولا مضرة تصرف الناس عن ربهم إلا أبعدها وندد بها و بارتكابها. والإسلام ينظر إلى المال من نواح عديدة، والناحية التى نتحدث عنها اليوم نريد أن نتدبرها بأناة لأنها تفرق بينه وبين بعض المذاهب الاقتصادية السائدة فى الدنيا. الإسلام يضمن أو يبيح ويقر حرية التملك، ويعتبر حق التملك حقا له قداسته ومكانته، ويعتبر أن الجور على هذا الحق أو توهينه فى المجتمع ليس من شأن المسلمين، ولا هو من مسالك الأتقياء، لكل إنسان الحق المطلق . فى أن يكتسب بكد يمينه، وعرق جبينه ما يقيم به معايشه، وما يصون به مروءته، وما يربى به ولده، وما يحفظ به عرضه، لكل إنسان الحق كاملا فى هذا، والله عز وجل يرفض أى عدوان على حق التملك أو اجتياح لحقوق الناس المالية دون سبب مشروع، فيقول جل شأنه : ص _124(1/108)
(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) ويقول جل شأنه: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) . ويقول جل شأنه: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) ويقول عليه الصلاة والسلام: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) . و كما أن العدوان على الدم والعرض منكر لا يقبل فكذلك العدوان على المال، وفى خطبة الوداع بين النبى عليه الصلاة والسلام ما ينبغى لحقوق الناس المالية من قداسة فقال بعد أن تساءل: أى شهر هذا؟.. أى بلد هذا؟.. قال: "فإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا " . وكان أبو الدرداء رضى الله عنه يقف على ممر الناس إلى طريق الجهاد ويقول: " أيها الناس من كان يعلم أنه إذا مات فى هذا الوجه وعليه دين لا يدع له قضاء فليرجع فإنه لن يصيب أجرا بجهاده !. أى أنه يقول للمدين: قبل أن تجاهد سدد الدين الذى عليك، ربما خرجت فمت، دون أن تدع تركة تكفى سداد دينك فتلقى الله وأنت مدين. وهكذا كان المسلمون يحترمون حق التملك ، لكن الإسلام الذى احترم حق التملك أثقله بالقيود، وقبل أن نقول ما هى القيود التى أثقل الإسلام بها حق التملك. أريد أن أشرح شرحا عقليا السبب فى أن الإسلام احترم ص _125(1/109)
الملكية الخاصة ، ورفض ما تبنته بعض النظريات القديمة والحديثة من شيوع المال ورفض الملكية الخاصة . الواقع أن الإسلام احترم الملكية الخاصة لأنه يحترم حرية الإنسان،. ولما كان حق التملك جزءا من الحرية الإنسانية فإن الإسلام لم يصادره، والله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان ليكون عبد أحد، وإنما خلقه ليكون عبد ربه وحده جل شأنه، ومن حق الإنسان أن يكون حرا ، ومن تمام حريته أن يمتلك، هذا سبب، وسبب آخر أن تثمير الأموال وزيادة الإنتاج إنما يكونان مع الملكية الخاصة، فإن صاحب المال الذى يعلم أن يده عليه وحقه فيه يسهر على حمايته، ويفتن فى إبعاد الآفات عنه، ولكنه يوم يعلم أن هذا المال ليس له، وأن زيادته لن تعود عليه فإنه لا يبالى زاد أم نقص، وإن بالى فإن دوافعه إلى حفظه ستكون أضعف من دوافعه النفسية يوم يكون المال ملكا له. وقد ثبت عن طريق التجربة أن المال الخاص أنمى وأقدر على المضى فى سلم الترقى والزيادة من أى مال عام!! هذه هى الأسباب، وهناك أسباب أخرى جعلت الإسلام يحترم الملكية الخاصة. ومع احترام الإسلام للملكية الخاصة فإنه أثقل هذه الملكية بالقيود ولعل أول هذه القيود وأجدرها بأن ينبه إليه أن الإسلام لا يحترم الملك الخاص إلا إذا كان من وجه صحيح ومن طريق مباح. أما أن يكون التملك من ربا، أو من احتكار، أو من غصب، أو من قمار، أو من احتيال، أو من أى باب من أبواب السحت فإن الإسلام يرفض هذا التملك رفضا باتا، بل يرى أن المرء إذا كسب ثوبا من حرام فصلى فيه لم تقبل صلاته، وإذا نمى جسمه من سحت فإلى جهنم.. " لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به ". هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى الأرض الزراعية بالذات يقول: " من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين " . ص _126(1/110)
أول ما يقيد الإسلام الملكية به أن يقول لك: أبصر جيدا القرش الذى تكسبه أمن حرام هو أم من حلال؟ فإن كان من حرام فلا حق لك فيه، وما يجوز أن تستبقيه، بل يجب أن تتركه فورا، فإذا كسبت من حلال، فللإسلام هنا توجيهات: التوجيه الأول: ألا تظن نفسك المالك الأصيل لهذا المال، بل اشعر أن المالك الأصيل له هو ربك الذى خولك وملكك ومنحك وأعطاك !! وأنت لست إلا صاحب يد عارضة عليه، ومن فضل الله عليك أن جعل يدك فى هذا المال تعطى نفسك، وتعطى غيرك، والمالك الأول هو رب العالمين.- وهذا المعنى هو الذى أكده القرآن فى قوله جل شأنه: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) . سئل أعرابى كان فى قطع غنم يملكها.. سئل لمن هذا القطع؟ كان جواب الرجل: هو لله عندى!!! وهذا جواب سديد، فلا تظن نفسك بالتملك قد أصبحت مالك الملك (لله ملك السماوات والأرض) . فاعتبر نفسك مستخلفا، وهذه النظرية- نظرية الاستخلاف- تجعلك تدقق فيما تنفقه على نفسك أو على غيرك، أى ليست حريتك مطلقة، فأنت مراقب فى تصرفك، مراقب من صاحب المال الذى وظفك فيه، المال مال الله، هذه ملاحظة، الملاحظة الثانية.. أن الإسلام يطلب من أبنائه أن يكونوا أصحاب همم، فكسب المال عندهم يخضع لتصرف الهمة الكبيرة، قد يكون المال قريبا منك، ولكن لا ينبغى أن تأخذه من أيسر سبيل وتقعد. عندما عرض على عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه أن يتملك وأن يعيش على فضل أخيه كان جواب عبد الرحمن: لا، دلونى على السوق . ص _127(1/111)
وبهذا الخلق استطاع المهاجرون أن يزاحموا الاقتصاد اليهودى فى المدينة المنورة، وأن يجعلوا المال إسلاميا، وهذا شىء له خطورته فى كسب النصر للدين نفسه، فإن الاقتصاد يوم تعبث به أيدى من لا ملة لهم ولا شرف فإنهم يسخرونه فى ضرب الملة السمحة. ومن هنا اعتبر أن يد المعطى هى اليد العليا، الله هو الأعلى، ويد المعطى يد عليا، والآخذ يده دنيا، ولأن تكون أسدا تأكل الثعالب من فضلاته أشرف من أن تكون ثعلبا تأكل من فضلات الناس. ولذلك كان الإسلام شديد الحض على أن ينطلق المؤمنون فى المشارق والمغارب يكسبون رزقهم، ويطلبون فضل الله فى فجاجه المبعثرة هنا وهناك، أو المخبوءة تحت طباق الثرى، وهذا سر قوله جل شأنه: (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش) وقوله جل شأنه : (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون * وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون * وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون * وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) . والمدهش أن البحر المسخر للناس يستخرجون منه اللحم الطرى أعجز أهل الأرض فى استخراج سمكه هم المسلمون . إن أمتنا فى الحقيقة معطوبة فى صميمها لأنها فقدت الكثير من حسها الدقيق بالدين والدنيا معا. احترام الإسلام حق التملك، يسر للناس أسباب التملك كما سمعتم : ص _128(1/112)
(هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) . ومع ذلك يجىء من ينتسب إلى العلم الدينى وهو جهول يجب طرده من ميدان العلم والدين معا يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بعث بخراب الدنيا لا بعمارتها. وما أكثر الأكاذيب التى تشاع باسم الإسلام، والتى جعلت المسلمين يعيشون فى الدنيا على فضلات الأقوياء ، وبذلك أصبحت أيديهم الدنيا.. وفى الوقت نفسه أصبح دينهم فى المرتبة الدنيا، لأنه ما ينتصر دين بغير دنيا، كيف تنصره إذا كنت فارغ اليد؟ كيف تحميه إذا كنت فقيرا لا ثروة لك؟ كيف.. كيف..؟. فإذا ملكت من حلال فإن الإسلام يوجب عليك أمورا، أول ما يوجب الإسلام فريضة الزكاة، وهى فريضة ليست هينة، ولو أن المسلمين أخرجوا زكاة أرصدتهم وأموالهم وتتبعوا بها ثغرات المجتمع وعورات الناس لأراحوا الأمة من بلاء كثير. ولقد حدث أيام الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه، وكان أميرا عادلا وخليفة راشدا، حدث ببركة العدل، وبركة الإيمان والتراحم أن الزكاة أخرجت فى أفريقيا، أى فى مصر، وليبيا، وتونس، والجزائر، ومراكش ، خرجت الزكاة فلم يوجد لها من يأخذها فى هذه الأقطار الرحبة كلها، لأن الله أغنى الناس بعدل عمر. فماذا صنع عمر؟ أمر بأن يشترى بالزكاة عبيد ويحررون بمال الزكاة واعتبر ذلك مصرفا بنص الآية: (وفي الرقاب) . إن الخير الكثير يمكن أن يتحقق إذا وجدت فيه نية التراحم والعطاء، ووجد القصد الذى يستهدف وجه الله بما يعطى وبما ينفق، وقد قاتل الإسلام من أجل الزكاة، وكان قتاله فيها حاسما، ولعله أول قتال ظهر فى تاريخ البشرية . ص _129(1/113)
كان الناس يتقاتلون لأمور كثيرة، ولكن أول جيش ظهر فى تاريخ الإنسانية يحارب ليرغم الأغنياء على إخراج الحق المعلوم للفقراء والمساكين ما فعله أبو بكر الصديق رضى الله عنه. قد تكون الزكاة حدا أدنى، فإن المجتمع ربما ظهرت له حاجات، وهنا على الناس أن ينفقوا، وهنا يجىء دور الصدقة، وهو ما أشار إليه النبى عليه الصلاة والسلام، وهو يعلم الناس فى مجتمع المدينة المنورة كيف يتعاونون ويتراحمون: " من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإن أربع فخامس أو سادس " وفى الحديث أيضا: " من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له " قال أبو سعيد: " فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا فى الفضل " . وفى حديث رواه أبو داود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون إبل الشياطين وبيوت للشياطين، فأما ابل الشياطين فقد رأيتها، يخرج أحدكم بنجيبات معه قد أسمنها فلا يعلو بعيرا منها، ويمر بأخيه قد انقطع به فلا يحمله " . . إن النبى عليه الصلاة والسلام طبق على نفسه هذه القضية، فعندما كانوا يسيرون إلى " بدر " والمسافة بين بدر والمدينة المنورة أكثر من مائة كيلو متر، كانوا يتعاقبون، كل ثلاثة على جمل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم واحدا من ثلاثة أظن فيهم على بن أبي طالب رضى الله عنه فخجل من مع رسول الله أن يمشى وهم يركبون، فقالوا يا رسول الله: اركب أنت ونمشى نحن، فرفض.. وقال: ما أنتما بأقوى منى على المشى ولا أنا أغنى منكما عن الأجر" . ص _130(1/114)
لست بأغنى منكما عم ثواب الله.. الخطوات فى سبيل الله لها أجرها، وأنا فقير- وهو رسول اللة صلى الله عليه و سلم - إلى هذا الأجر، هذه هى طبيعة الكبار، طبيعة النفس الكبيرة وما قرره الإسلام فى هذا جاءت به مكارم الأخلاق فى بلاد العرب من قديم.. ومما نحفظه من شعر حاتم يقول: إذا كنت ربا للقلوص فلاتدع رفيقك يمشى خلفها غير راكب أنخها فأردفه فإن حملتكما فذاك وإن كان العقاب فعاقب القلوص: الناقة.. وإن كان العقاب فعاقب: أى إن كانت تضعف عن حملكما معا فتعاقبا عليها.. أى أنت تسير وتعقبه وهو يركب ثم يعقبك.. وهكذا. ومما يعرف فى تاريخنا العربى الأدبى- ولكن العصر الحديث لا يعرف هذا- أن شاعرا اسمه عروة بن الورد يقول مخاطبا آخر، ويبدو أن الآخر كان بدينا قويا، يقول: إنى امرؤ عافى إنائي شركة وأنت امرؤ عافى إنائك واحد أتهزأ منى أن سمنت وأن ترى بوجهى شحوب الحق والحق جاهد أقسم جسمى فى جسوم كثيرة وأحسو قراح الماء والماء بارد ومعنى الأبيات الثلاثة يقول الرجل لصاحبه أنت تهزأ لى لأن شحوب الحق أجهدنى، والحق قد يجهد أصحابه، إذا كنت تهزأ بى فالسبب واضح، أنى امرؤ طبقى شركة بينى وبين غيرى، أما أنت فتنفرد بطبقك تأكله وحدك. هذه المعانى أو هذه الآداب لو كانت فى أوربا أو أمريكا لكتبت بماء الذهب كما يقولون، وقيل: هذا تراثنا من أنضر صور الاشتراكية، وهذه كلمة ضقت بها من كثرة ما لوثت من تطبيقات رديئة، ومما اكتنفها من لصوصيات خبيثة . ص _131(1/115)
إن عندنا فى الإسلام نظماً اجتماعية لا نظير لسموها وشرفها، يقول ابن حزم فى كتابه " المحلى ": ولكل مسلم الحق فى بيت يأوى إليه ويصونه من الحر والبرد وعيون المارة ". لو قال هذه الكلمة كلب من كلاب الشيوعية لطوفت الدنيا على أن هذا المبدأ يعطى الناس كراماتهم المادية والأدبية، ويجعل لكل إنسان بيتا، لكن قائل الكلمة فقيه مسلم مسكين فقيه مسلم ليس له أهل.. ليس له ورثة.. ليس له رجال يحتضنون مواريثه !!فقيه مسلم.. هذا عيب الكلمة.. وهكذا الدنيا. صح ما قيل إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإن أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه. إن الاقتصاد الإسلامى اقتصاد فريد، وليس شيئا مجلوبا من شرق أو غرب، لأنه ناضح من وحى السماء، ومن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، وقد تحدث فقهاؤنا عن التسعير، والمعروف أن الإسلام يعتبر التجارة حرة، ويتدخل فى التسعير للضرورة، ولكنه عندما يسعر، وهو دين فقه وتشريع لا أظن أحدا ممن درس الفقه الرومانى، أو الفقه الفرنساوى، لا أظن أحدا قرأ أن هناك تسعيرا للخدمات الاجتماعية والأدبية، لكن فى كتاب " الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية " لابن القيم، وجدت تسعير الخدمات، وهو ما يطبق الآن فى البلاد الراقية. ففى انجلترا يضرب العمال لأنهم يرون أن جهدهم ينبغى أن يباع لصاحب العمل بجنيه، وصاحب العمل يرى أنه ما يساوى غير نصف جنيه.. فالتسعير للجهد، للمواهب، للنواحى العلمية والفنية، للشهادات والإجازات العلمية، هذا التسعير من تحدث فيه؟. وجدت أن فقهاء المسلمين تحدثوا فيه، ويمكن لأى هيئة قضائية محترمة أن تسعر الجهد المبذول، المواد التى يستهلكها الناس فى ضروراتهم. إن الإسلام دين خصب، وفيه من النصوص فى الكتاب والسنة ص _132(1/116)
ما يؤسس اقتصادا له ملامحه المتميزة، وله آثاره المباركة، وعندما نرفض وصفا يستجلب من الخارج فنحن إنما نقدم بدله من تراثنا الأصيل مايغنى. الآفة أن بعض الناس لا يعرف هذا التراث، ولذلك لا يعرف الأصالة لأمتنا، ولذلك هو بجهله حرب عليها، ودققوا النظر فإن بعض الصحف تريد أن تطبق العلمانية، أى مبدأ العيش بلا دين، وهى تسعى إليه بالكلمة بالصورة، بالالتفاف والدوران كى تهيأ النفوس لهذا. ونحن نريد أن نلفت النظر إلى أصالتنا، وإلى أن لدينا من لبنات البناء ما يمكن أن نقيم به مجتمعا صلبا، واقتصادا ناجحا، وليس من الضرورى أن نتسول من شرق أو غرب. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. الخطبة الثانية الحمد لله (..الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) . وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل.. واعلموا أيها الناس أن الإصلاح ليس تجارة التافهين، إن للإصلاح قواعده، وإن له رجاله . ص _133(1/117)
والمصلحون الأصلاء قبل أن يمحوا وضعا رديئا يعرفون كيف يجيئون بالبدل الصالح، هناك ناس تغلب عليهم نزعة التدمير، ونزعة العداوة للماضى. أنا لست من أنصار لبس الطربوش، لأنى لم ألبسه، ولم آلفه، ولكن العقل المحترم الذى يريد محاربة الطربوش، كان ينبغى عليه قبل أن يحاربه أن يقول: دعوا هذا.. هذا خير منه، لكن الطبيعة المدمرة عند بعض الناس عرت رؤوس المصريين، وجعلتهم شعبا عارى الرأس فى أرض الله، ليست له شارة قومية خاصة يعرف بها فوق رأسه، والسبب أن الذى دمر كان يحسن التدمير فقط، ولا يحسن البناء، ويوجد ناس كثيرون من هذا النوع، وهذا سر قول القائل: أيها العائب أفعال الورى أرنى بالله ماذا تفعل لاتقل عن عمل ذا ناقص جىء بأوفى ثم قل ذا أكمل إن يغب عن عين سار قمر فحرام أن يلام المشعل لكن هناك ناسا يحسنون النقد والتدمير، ولا يحسنون البناء والتعمير وما أكثرهم فى بلادنا، وعداوتهم تكون ضارية عندما يشتبكون بالإسلام وأهله.. ألفت النظر إلى هؤلاء، إننا نريد أن نبنى على ديننا وأن ننطلق من قواعدنا، وأن نحترم الأصالة التى أفاءها الله علينا. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) . عباد الله : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) . وأقم الصلاة ص _134(1/118)
الشباب فى موكب الإسلام خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه 22 من يونيه 1973 الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين . واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فنحن نعلم أن القوة البدنية من نعمة الله على الإنسان، كى يؤدى واجبه ويبلغ أهدافه، ويؤدى الحقوق الأدبية المكتوبة عليه. ولهذا رأيت القرآن الكريم نوه بها فى الوظائف القيادية، وفى الوظائف العامة، فأما فى الوظائف القيادية، فإن اليهود لما اعترضوا أن بعث الله فيهم من يقودهم ويربيهم: (..قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال ..) ؟. كانت طبيعة القوم فى تقدير الأشخاص بالمال، تهيمن عليهم، وتطل من وراء حكمهم على الأمور، فأفهمهم الله جل شأنه أن الرجال الكبار يكونون كبارا بالمعادن التى يصاغون منها والمواهب التى يرزقون بها، والقوة العلمية والبدنية التى تجعلهم يستطيعون أن ينهضوا بما يحملون من أعباء، قال تعالى موضحا هذه الحقائق: (.. إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ..) . ومعنى البسطة فى العالم أن يكون القائد حكيما فقيها مدركا للأمور، واضعا كل شىء موضعه دون مغالاة أو تفريط. ومعنى البسطة فى الجسم أن الإنسان يستطيع أن يؤدي ما عليه ، وأن ينطلق فى الوجه الذى يبتغيه دون أن يغلبه إعياء أو يقف به داء. ص _135(1/119)
ومعروف فى تاريخ الرجال أن الهمم الكبيرة تدوخ أصحابها، وأن القلوب الحية تكلف الأجساد ما لا تطيق، ولذلك قال المتنبى: وإذا كانت النفوس كبارا تعبت فى مرادها الأجسام ولأمر ما وصف النبى عليه الصلاة والسلام بعض نعم الله على خلقه، فقال فى عد هذه النعم: "وبدنا على البلاء صابرا " . ومعنى البلاء: التكاليف التى يختبر الإنسان بها، فإذا كان الإنسان صاحب طاقة على تحمل الأعباء، كان ذلك من نعم الله عليه، هذا موضع ذكر القرآن فيه خصائص الرجال الذين يقودون، ثم فى موضع آخر أجرى على لسان بنت شعيب هذا الوصف الذى قال الفقهاء فيه: إنه جمع الكفايات والمواهب والمؤهلات التى لابد منها فى كل وظيفة، فإن البنت قالت لوالدها: (قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) . قال العلماء: فالقوة يقصد بها الطاقة المادية على الوفاء بما يطلب، والأمانة يقصد بها الرقابة الروحية، ويقظة الضمير التى تجعل الإنسان يدرك مسئولياته، ويؤرقه خوف التفريط فيها، فهو أمين وهو قوى فأمانته تجعله يؤدى ما عليه بدقة، وقدرته تجعله ينهض بما عليه دون عجز، ولأن القوة بهذه المثابة فى جميع الوظائف القيادية والعامة، كانت مرحلة الشباب من أخطر المراحل فى حياة الناس، وكان لها حساب خاص عند الله، لم؟ لأنها مرحلة القوة، فإن الإنسان يبدأ وبه ضعف الطفولة، وينتهى وبه ضعف ص _136(1/120)
الشيخوخة، يبدأ ضعيف القوى المادية والأدبية وينتهى وقواه المادية ضعيفة وإن كان واسع التجربة أو كثير المعرفة. قال تعالى: (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير) . هذه القوة بين ضعفين جعلت لفترة الشباب حسابا خاصا، وجعلت النبى عليه الصلاة والسلام يقول: " لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم؟ " . ولما كان الشباب من العمر وسيسأل الإنسان عنه ما دام جزءا من عمره، لكن الله أراد أن يبين أن للشباب حسابا خاصا، دون فترة الشيخوخة، ودون فترة الصبا الباكر أو المراهقة، فإن فترة الشباب تعتبر فعلا أعمر الفترات بالقوة وأملاها بالخيال، وأغناها بالطاقات المادية والأدبية على سواء، وهذه الخواص التى حفت بفترة الشباب جعلت لهذه الفترة ولأصحابها مكانة خاصة. قال المؤرخون: كان النبى عليه الصلاة والسلام يعرف بأنه يحف دائما بهذا الزهر المتفتح من الشباب الذين وهبوا لله أعمارهم وكرسوا له قواهم، واستطاعوا أن يكونوا قذائف الحق التى دمر بها الباطل، واستطاعوا أن يكونوا مشاعل النور التى أضاء بها الظلمة، واستطاعوا أن يكونوا طلائع الفجر الذى طلع على الدنيا بحضارة الإسلام، فأغناها روحيا وماديا بعد أزمات روحية ومادية طحنت البشرية وأسقطت قدرها، وجعلت همتها خسيسة، وحركتها كليلة . ص _137(1/121)
فلما ظهر هذا الشباب المؤمن حول محمد عليه الصلاة والسلام، بدأ الإسلام يؤدى رسالته تأدية رائعة جليلة. النبى نفسه عليه الصلاة والسلام بعث فى اكتمال شبابه، على سن الأربعين، وإن كانت خصائص الشباب من قوة، وسعة ورحابة، وعاطفة حارة، وإقبال عارم، كل ذلك بقى فى الكيان النبوى حتى لحق بالرفيق الأعلى، وسنرى. فيما نعرض من نماذج أن الشباب موهبة قد تمتد مع العمر وقد تنكمش، لكن الذى لا شك فيه أن شبابا فى أعمارهم نضارة، وفى سنهم بكورة هم الذين بذلوا الجهود المضنية فى تأديب الباطل، وقمع غروره، وفى رفع راية الحق وإعلان مبادئه. وأنا أنظر إلى الرجال المقاتلين فأرى الثلاثة الذين قتلوا فى مؤتة: زيد ابن حارثة، جعفر بن أبى طالب، عبد الله بن رواحة.. كانوا شبابا تقريبا فى الثلاثين من أعمارهم ومع ذلك فإن زيد بن حارثة تلاشى فى رماح الرومان، وجاء بعده جعفر فقاتل بضراوة وكان رجلا فيه كبرياء الإيمان واعتزاز أهل اليقين بما وهبوا من معادن وشرف فلما قاتل سمع منه: ياحبذا الجنة واقترابها طيبة وباردا شرابها والروم روم قددنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها على إذ لاقيتها ضرابها والروم يومئذ كانوا هم الدولة الأولى فى العالم، ولكن جعفر وهو تلميذ من تلامذة محمد عليه الصلاة والسلام، كان يحتقر الكفر وآهله، وكان يرى أن القوة البدنية والطاقة المادية إن ساندت الضلال والشرك فما تساوى شيئا ولا تعلى خسيسة أحد، ولا ترفع قدر مبدأ ! ولذلك قاتل الروم باحتقار، احتقار الشرك، احتقار الوثنية والمظالم، قاتل وقتل، وجاء بعده عبد الله بن رواحة فقاتل وقتل. زيد بن حارثة خلف ولدا.. اسمه أسامة بن زيد، أسامة بن زيد جعله النبى عليه الصلاة والسلام قائدا على الجيش لمقاتلة الرومان، وليدرك ثأر أبيه، شاب عمره ثمانية عشر عاما يولى القيادة، ويتولاها بجدارة ويشعر الشاب وهو يمتطى فرسه، وينطلق إلى وجهه أن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنه واحد وستون(1/122)
عاما يمشى إلى جانبه! فيخجل أسامة ويقول: يا خليفة ص _138
رسول الله، إما أن تركب، وإما أن أنزل.. فيقول الخليفة له: " والله لا أركب ولا تنزل وما على أن أغبر قدمى ساعة فى سبيل الله !! ". ثم من باب إعطاء القائد حرمة القيادة ومكانة الرياسة يقول أبو بكر لأسامة: هل تأذن لى فى " عمر " ليبقى معى؟ وعمر بن الخطاب مجند فى الجيش، فيأذن أسامة بن زيد فى أن يبقى عمر، ويصدر أمرا ببقاء عمر مع خليفة رسول الله !!. عندما أتصور شابا فى الثامنة عشرة من عمره، أقول فى نفسى: طبيعة الإيمان، تربية القرآن، لو كان هذا فى إحدى العواصم العربية لرأيناه يتسكع فى الطرق سادلا شعره على رأسه كأنما هو امرأة ! لا تعرف ماذا يصنع؟ ولا يدرى هو أله فى الحياة رسالة أم لا؟. بهؤلاء الرجال مضى الإيمان فى طريقه لم يتوقف، والغريب أن ضريبة العمل صاحبت كل إنسان مهما كانت مكانته، المعروف فى عالم اليوم، إذا نبغ فرد فى أسرة تسلق من على أكتافه كثيرون، كلهم يدعي العبقرية، كلهم يطلب أن تكون له المكانة، لأن فردا من أسرته نبغ، الغريب أن النبى الهاشمى عليه الصلاة والسلام رفض هذه القاعدة، ورفض أن تكون لها قيمة فى حياته وسيرته وتقديره للأشخاص وأبى الرجال أنفسهم من أسرته أن تكون قرابتهم هى التى تقدمهم . ولذلك وجدناهم فى غزوة "بدر" أول من يبرز، فكان عم النبى عليه الصلاة والسلام وابنا عمه أول الفرسان الذين يقاتلون، وأول قتيل سقط فى " بدر " كان من بنى هاشم، وأول شهيد عظيم فى " أحد " كان حمزة بن عبد المطلب عم النبى عليه الصلاة والسلام، وجعفر الطيار نفسه ابن عم النبى صلى الله عليه و سلم مات شهيدا فى " مؤتة " !. كان الرجال الكبار من شباب هذا الدين يعلمون أن مكانتهم عند الله بمقدار ما يضحون وبمقدار ما يؤدون، قدرة الإيمان، الطاقة على فهم المبدأ، سمعوا فى دينهم حديثا عن الفتية أهل الكهف، كانوا شبابا، لكنه شباب زانه الإيمان، زانته المغامرة فى(1/123)
سبيل الله ، زانته المقاومة للضلال السائد، والرفض للشرك المستبد، كانوا شبابا ذكره القرآن فقال : ص _139
(..إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) ، وسمعوا القرآن يتحدث عن شباب " يوسف " كيف زانته العفة، عن شباب " موسى" كيف كان قوة وحكمة: (ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما) أهذا له وحده؟ لا، (..وكذلك نجزي المحسنين) لما غضب إبراهيم من مسلك أبيه تاجر الأصنام الذى يصنعها ويغرى الناس بعبادتها، واستطاع إبراهيم أن يناوش الأصنام بلسانه، ثم بيده، كان حديث الناس: (.. سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) . فالفتى الذى حطم الأصنام كان شابا، كانت قدرة الشاب، وطاقته، وعواطفه، وأفكاره، وآماله، كانت كلها تدور حول قيم حقيقية، حول مثل رفيعة، حول أهداف نقية، فكان الشباب بحق نور أمته، وخيرا للدين الذى اعتنقه وعاش به وعاش له. هذا من الناحية العسكرية، أما من الناحية العلمية فعندما أنظر إلى الرجال الذين اعتبروا أئمة لهذه الأمة أرى أنهم كانوا من الشباب، عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما الذى غار منه بعض كبار السن لأن عمر رضى الله عنه كان يجعله مع مشيخة الأمة فى استشارته والأخذ برأيه، كان شابا، عبد الله بن الزبير، عبد الله بن عمرو، عبد الله بن عمر، العبادلة الأربعة الذين ورثوا الدين كانوا شبابا، أبو هريرة كان شابا كثير الشكوى للنبى صلى الله عليه و سلم من العزوبة، وكان يرجوه أن يعينه على الزواج، وهذا الشاب شغل نفسه بالعلم حفظا واستيعابا، ورواية ودراية، ونشرا وانطلاقا به فى الآفاق فكان الموسع للحضارة العلمية فى هذا الدين القيم. ووجدنا الأئمة من بعده ناسا، حلاوة العلم عندهم أذهلتهم عن حلاوة المادة والبحث وراءها، والاستكثار منها، وجدنا رجلا " كالشافعى " الذى سعدت القاهرة بأنه كان يدرس فى مسجدها هذا- مسجد عمرو بن العاص رضى الله عنه- ومساجد أخرى هنا، هذا الإمام مات وعمره بضع وخمسون سنة أى أنه كان يكون علمه(1/124)
وهو شاب . والشافعى هو الواضع لعلم أصول الفقه: فن التشريع فى الإسلام.. فن تقنين القوانين واستخراج الأحكام وتقعيد القواعد . ص _ ص 0
الشاقعى هذا مات فى الخمسين من عمره؟ متى صنع هذا الفقه؟ فى شبابه.. وهو الذى يقول عن نفسه: أنه ما كان عبدا لمال، ولا لجاه، ولا يتبع نفسه شيئا من هذا، يقول: أمطرى لؤلؤا جبال سرنديب وفيضى آبار تكرور تبرا أنا إن عشت لست أعدم قوتا وإذا مت لست أعدم قبرا همتى همة الملوك ونفسى نفس حر ترى المذلة كفرا هذا إمام من أئمة الفقه الإسلامي.. هذا شاب من علماء المسلمين، يؤدى رسالة العلم بأمانة وقدرة، هذا النوع من الشباب الذى حرس الإسلام بقوته ونوره وضميره، هذا نوع من الشباب نحب أن نقف قليلا عند مبادئ الإسلام التى كونته، وعند القضايا التى ينبغى أن نتعلمها منه، ونحن الآن نواجه شبابنا والجيل القائم بيننا الآن. معروف أن فترة الشباب فترة قوة الغريزة الجنسية وعرامها، واشتداد أمرها، ومن قديم قال العلماء: إن هذه الغرائز عموما تقوى مع كثرة المثيرات وتضعف مع قلة المثيرات، ولا أعنى "بتقوى وتضعف": أنها تصح وتعتل، بل أعنى أن هناك ما يخرجها عن حد الاعتدال، وهناك ما يلزمها حد الاعتدال من البيئة والسلوك العام حولها. قال علماء النفس: إن الغريزة يمكن تغيير الاتجاه السلوكى لها بما أسموه " الإعلاء أو التسامى " أو تبديل هدف لها بهدف يغنى. ولذلك فإن الشباب أحوج أهل الأرض إلى مشرفين أمناء يدركون كيف يستغلون قوته فى الخير، وكيف يهذبون غرائزه، ويجعلونها لا تتمرد ولا تنزلق ولا تنحرف. الأمر محتاج إلى أولياء أمور فى المجتمع كله، وفى الأسرة خاصة، يؤمنون بالله،ويؤمنون بالقيم التى أودعها الله فى دينه، وبالقواعد السلوكية والأخلاقية التي لا بد أن يسير الشباب عليها حتى تؤمن عقباه وينتظر الخير له. معروف أن الغريزة الجنسية تستثار عندما تعرض المفاتن بشكل يهيج ص _ ص 1(1/125)
الكامن فى طباع الناس، ولذلك أمر الإسلام بالاحتشام أمرا مشددا، وكان فى المدينة ناس من المنافقين وناس من الجبناء، ومروجى الإشاعات، كانوا يمثلون حزب الشيطان فى المدينة، ربما تسكعوا فى الطرق ليروا امرأة فيقولوا لها كلمة رديئة أو ينظروا إليها نظرة مريبة، فأمر النبى عليه الصلاة والسلام بأن تحتشم المسلمات حتى لا يظن بهن الظنون، وحتى يدرك كل إنسان أن الفتاة التى تسير هى فتاة مؤمنة تعرف ربها، وتلزم حدوده، وتصون عرضها، وتعرف أن ذلك دينها. قال تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما) ثم قل للمتسكعين: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا) أى إن لم ينته هؤلاء، فإن الله يكلف نبيه عليه الصلاة والسلام بشن حملة على أولئك الرقعاء تنظف أحياء المدينة منهم، وتجعلهم درسا لغيرهم، فلا يكون هناك بعد ذلك إلا من يغض بصره. وغض البصر دين، وهو حصن يلجأ المرء إليه حتى لا يصاب بما يقول عنه علماء النفس: تداعى المعانى، فإن النظرة المجنونة تستتبع تصورات وأفكارا كثيرة ولذلك يقول أحد الناصحين: والمرء ما دام ذا عين يقلبها فى أعين الغيد موقوف على الخطر يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحبا بسرور عاد بالضرر إن الإنسان ينبغى أن يلتزم آداب الإسلام ، وفى الحقيقة المجتمع العربى الآن بالنسبة للشباب يفقد كثيرا من اتزانه، وإيمانه وأخلاقه، ومثله، وشمائله ، وفضائله، والأمر يحتاج إلى شىء من التوضيح. تبدأ البطالة مع مواسم الأجازة ، وانتهاء الامتحانات، والبطالة شىء رهيب، والنفس إذا لم يكن حق تكلف به، فإنها تبحث عن باطل تعمل فيه، ومن هنا فإن عمل المربين دقيق ينبغى أن يضعوا مشروعات كثيرة، وأن يخططوا ص _ ص 2(1/126)
لبرامج موصولة، ولو كان الأمر بيدى لصنعت معسكرات لا حصر لها للشباب، تبدأ مع الفجر، لأن اليوم الإسلامى يبدأ مع الفجر، اليوم الإسلامى يبدأ مع قول المؤذن: الصلاة خير من النوم ! فإذا كان بعض الناس يضيق بالنداء، ويكسل عن الصلاة، ويرغب فى دفء الفراش، فهذا إنسان كما جاء فى السنة بال الشيطان فى أذنه أى أصبح تافها حقيرا لا يرجى منه خير، ولا ينتظر منه أن يؤدى عملا كبيرا فى الدنيا، لكن الوقاحة بلغت فى عصرنا أن الكسالى يريدون ألا يسمعوا قول المؤذن الصلاة خير من النوم !. إن الوقاحة بلغت بهم حد ألا يصلوا، ثم أن يقولوا: لا نريد أن يسمعنا المؤذنون هذا، شىء غريب لكن اليوم الإسلامى يبدأ مع الفجر، وعندما تقوم معسكرات للشباب فيجب أن تكون هذه المعسكرات مزدانة بالنداء خمس مرات يسمع فيها الأذان، وتقام فيها جماعات المصلين، لا تنتهى جماعة إلا لتبدأ جماعة أخرى، ثم تزود ببرامج الدراسة، وبرامج الاطلاع الواسع، فإنى آسف إذ أقول: إن المسلمين فى شئون دينهم جهال، وفى شئون دنياهم جهال ، والفراغ العقلى والروحى بين أولادنا وشبابنا فراغ رهيب، وكما تحتاج الصحراء الكبرى إلى أنهار لا حصر لها كى تحول جدبها خصبا، فإن أمتنا بحاجة إلى أنهار من المعرفة بدينها ودنياها ترفع مستواها، وتبدل حالتها، وتجعلها أرقى مما هى الآن، فنحن بديننا جهال، وبتاريخنا جهال، حتى تندر قادة اليهود بأن العرب آخر من يقرأ !! نحن نريد للشباب نهما علميا، وعسكريا، ورياضيا، واجتماعيا ، ص _ ص 3(1/127)
يملأ حياتهم بالجديد الذى لابد منه كى يؤدوا ما عليهم لأمتهم. قرأت أن نحو أربعين ألف طالب من شباب الجامعات سوف يذهبون إلى الخارج، قلبى تألم وأحسست وخزا فيه وأنا أقرأ الخبر، لماذا؟ إن الأربعين ألفا الخارجين ما يعرفون عن دينهم شيئا!! ربما يوجد أفراد فيهم يصلون.. ولكن الألوف منهم لا تصلى، هؤلاء يذهبون والنداء الذى يستمعون إليه فى أعماقهم طلب المال لا طلب العلم، ولا طلب الخبرة، ولا طلب المزيد من التجربة، وربما ذهبوا فما يعرفون أين ينامون، ولا كيف يأكلون؟ بل ربما اشتغلوا كما علمت بغسل الأطباق، وحمل صناديق الزجاجات الفارغة !. والسبب قبح الله السبب، ومن كان فيه، ومن شارك بقليل أو كثير. لم يذهب أولئك الشباب؟ وأنا أدرى أن هناك دورا تتربص، وأماكن فى شتى العالم تنتظر هذا الشباب الفارغ، يريدون أن يملأوا قلبه بمبادىء أخرى، يريدون أن يعيدوه إلى بلده ببعض المال، وبالكثير مما يفسده على أمته، وعلى تاريخه وعلى دينه، وعلى يومه ومستقبله. إن الشباب يحتاج إلى رعاية، يحتاج إلى شىء جديد من تفكير من بيدهم الأمر. اتصل بى بعض الشباب فى الجامعات يريدون أن يقيموا لأنفسهم معسكرات دينية، كانوا فى كثير من الحياء يقولون: أيمكن أن نعان بالخيام؟ ووجدت أن هؤلاء من أصحاب المثل، ومن أصحاب اليقين، كأنما يراغمون الزمن. ويسبحون ضد التيار، ويعملون ما لا يطلب منهم، عندما يقيمون معسكرات مؤمنة يسمع فيها الأذان خمس مرات كل يوم، ويذهب إليهم بعض الدعاة كى يربيهم وينمى قوى الخير فيهم، ويجعلهم شبابا يحسنون خدمة دينهم ودنياهم. بينما هناك معسكرات أخرى يقيمها من لا يدين بالإسلام ، ومن لا يعرف حق الله عليه تزود بالكثير من أسباب القدرة، ومن أسباب المتعة، ومن أسباب التعاون على الشر لا على الخير. إن شبابنا بحاجة إلى الرعاية، ولكنى لا أقنط الشباب، أريد أن ص _ ص 4(1/128)
أقول لأى شاب مؤمن: كن رجلا، اثبت مكانك، كن قوى الشخصية!. أعجبنى من أبى العلاء قوله: تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد بعدوى فما أعدتنى الثؤباء كسول إلى جانب كسول، لكنى حسمت أسباب الكسل من بدنى وعقلى وقلبى، ويقول أبو العلاء موضحا خطته: خذى رأى وحسبك ذاك منى على ما فى من عوج وأمت وماذا يبتغى الجلساء عندى أرادوا منطقى وأردت صمتى ويوجد بيننا أمد قصى فأموا سمتهم وأممت سمتى أريد أن أقول لكل شاب مسلم رسخ قدمك فى الأرض، وامض فى طريقك طالبا وجه ربك، ناشدا ثوابه، منتظرا عونه وتوفيقه، وإذا حاربتك الدنيا كلها فثق أنها لن تنال قلامة ظفر من أظافرك، وستصل إلى غرضك وليكن ما يكفيك من ثواب الله وتقديره، أنك أحد الذين يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله، شاب نشأ فى طاعة الله، فإذا تعاون هذا الشاب مع غيره فهما أخوان تعارفا على الله ، تحابا بروحه، اجتمعا عليه أو تفرقا عليه . هذا المعنى أرجو أن يكون في نفس كل شاب مؤمن، إن العالم تهب منه تيارات حمراء وصفراء، تريد أن تسرق من الإيمان أفخر ما فيه، تريد أن تسرق من الإسلام أحب ما لديه وأقوى، تريد أن تسرق الشباب ! ونريد من الرجال المسئولين، من أرباب الأسر أن يلتفتوا إلى الشباب، أن يقتربوا منهم، أن يعينوهم على الحق، أن يجتهدوا فى أداء واجبهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لى ولكم . ص _ ص 5(1/129)
الخطبة الثانية الحمد لله (..الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) . وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين،و أشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإنى أحب أن أصارح المسلمين بأمر ينبغى أن يصارحوا به، هذا الأمر أن مستقبلهم يجب أن يصنع فى بلادهم وعلى أرضهم، وبأخلاقهم وكدحهم. إن أخلاق التسول السياسى والاجتماعى التى هيمنت على الأمة العربية من أمد غير بعيد، جعلت أمتنا تنتظر أن يبت فى مستقبلها زعماء البلاد الأخرى، وقد رأيت كثيرين ينتظرون اجتماع زعماء البلاد الأخرى ويتصورون أن ذلك قد يتأثر به مستقبلهم هنا، أو يبت فى أحوالهم وشئونهم. أريد أن أقول: إن. الأمم التى تبنى مستقبلها على التسول لا تصلح للحياة. مستقبل الأمة الإسلامية لا يصنعه إلا المسلمون فى القاهرة ودمشق، فى مكة والمدينة، فى بغداد، وأم درمان، ومراكش ، وكل بلد إسلامي ، وكل عاصمة إسلامية، نحن وحدنا الذين نصوغ مستقبلنا، نحن وحدنا... وما يغيظ فى الأمر كله أن أهل الأرض يذهبون حيث يذهبون بما عندهم من عقائد.. الرجل الشيوعى مافكر قط أن يقول: إنني متنازل عن الشيوعية، أو سأغير بها، أو سأغير تطبيقها فى بلدى. عميد الصليبية فى العالم ما فكر قط فى أن يغير من تدينه، ولا من مسلكه ولا من حركته، ولا من وجهته . ص _ ص 6(1/130)
كل إنسان ينطلق، يتحرك أو يسكن، وهو صورة لدينه، إلا المسلمون يسلخون دينهم جانبا ويحاولون أن يفكروا، كأنهم جنس آخر بعيد الصلة بالدين. المعركة تدور على مستقبل الإسلام، على قتله على اجتثاث جذوره ! على قبر أمته ! المعركة تدور على هذا !. الحركة الأولى للنصر أن يعرف المسلمون هذه الحقيقة، وأن يتشبثوا بالإسلام، وأن يقولوا سنبقى بديننا وعليه، ونقاتل دونه حتى نلقى الله، هذه هى الخطوة الأولى فى النصر، وهى الخطوة التى نحتاج أن نخطوها الآن. أما أن كل ذى ملة يعتز بملته، والمسلمون وحدهم هم الذين ينكمشون عن عقائدهم، وعن شرائعهم ، وعن مثلهم العالية، فهذا مالا يطاق وما لا يمكن أن يقبل، وما لا يمكن أن يحفظ به مسثقبل، مستقبلنا مرتبط لا بلقاء الصغار والكبار هنا وهناك، بل مرتبط باصطلاحنا مع الله، وعودتنا إلى الإسلام، وتطبيقنا لتعاليمه، وكما قلت: إنني متفائل، وإن لتفاؤلى أسبابا حقيقية لا أوهاما أتخيلها. إن الشباب المؤمن يلقانى فى كل مكان، وهو حريص على مرضاة ربه، يريد أن يؤدى واجبه، إن قوى الإيمان شعرت بخطر داهم يريد الإجهاز عليها، وذلك مما حرك خصائص المقاومة فيها، وجعلها تستيقظ من سباتها، وتستأنف فى ثبات أداء واجبها لارضاء ربها. أيها المؤمنون.. إن الزمن جزء من العلاج ! وربما طال الزمن أو قصر، ولكن المهم أن نثبت وأن نؤدى ما علينا، وإنه لمن دواعى السرور أن هذا المسجد الذى انطلقت منه أشعة الإسلام العلمية فى العصر الأول، إن هذا المسجد الذى مرت به أيام عجاف، كانت الجمعة لا تقام فيه، إن هذا المسجد كان من توفيق الله له أن قيض الله له رجالا يعملون لرد الحياة إليه والإنعاش البنائى فيه، قد تكثر العوائق أو تطول ولكنهم ماضون فى طريقهم، وعندما دخلت ووجدت جبل القمامة الذى يواجه الخطيب بدأ ينقص من أطرافه، وبدأ يتلاشى، وعندما شعرت أن إحدى الشركات ص _ ص 7(1/131)
الهندسية الكبرى قد بدأت العمل اليوم ، أحسست بأن بلدنا إلى خير، وأن فى رجالنا من يطمئن إلى وفائهم. " اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا حاجة هى لك رضا إلا قضيتها " . عباد الله : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) . وأقم الصلاة * * * ص _ ص 8
خصائص المجتمع الإسلامي قبل الهجرة خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضي الله عنه الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إلى إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فنحن على أعتاب السنة الرابعة والتسعين من القرن الرابع عشر الهجرى- هجرة كبير المرسلين، وخاتم التبيين، سيد الخليقة كلها وهاديها، سيدنا محمد بن عبد الله عليه صلوات الله وسلامه- وقد رأينا أن نخصص هذا الأسبوع والأسابيع المقبلة فى الكلام عن الهجرة ما قبلها وما بعدها، لأن حق المناسبة علينا أن نذكر بها، وأن نحتفى بمقدمها، وأن نلتمس العبر من تضاعيف الأحداث التى تضمنتها. إن رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام بدأت فى جزيرة العرب، وقد فاجأت هذه الرسالة سكان الجزيرة بحقائق ذات بال، كانوا لا يدرون عنها شيئا، بل كانت بيئتهم تحيا وفق خرافات وترهات، تناقض هذه الحقائق وتخاصمها. كان أول ما دعا النبى عليه الصلاة والسلام إليه توحيد الله جل شأنه، وتوحيد الله بديهية يحترمها أصحاب العقول، ولكن عرب الجزيرة وغيرهم ممن على غرارهم من المنحرفين يعتقدون أن لله شركاء، وقد ص _ ص 9(1/132)
استغربوا دعوة التوحيد: (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب * أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) . والعجب ليس فى التوحيد، فإن التوحيد حقيقة، ومن أطرف ما يروى لدعم هذه الحقيقة ما قاله على بن أبى طالب رضى الله عنه لابنه: يا بنى لو كان لربك شريك لأرسل هذا الشريك رسولا من قبله يعرف به، ويبلغ عنه، ما له أبكم لا يتكلم؟.. إن كل المرسلين الذين جاعوا نبأوا أن الله واحد، وبلغوا أنهم من عند الإله الواحد: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) . ووحدانية الله جل شأنه حقيقة علمية تنطق بها فجاج الأرض وآفاق السماء، فقد ثبت علميا أن الكون الذى نعيش فيه تحكمه قوانين واحدة وسنن لا تختلف، وقد تستغرب إذا شعرت بأن سنبلة القمح أو الأرز فى حقلها ما يمكن أن تنبت على هذا النحو إلا لأن الله وضع الأرض على هذا البعد المقدور من الثسمس 150 مليون كيلو، ولو أن هذا البعد قل أو كثر ما نبتت زراعة ولا بقيت على ظهر الأرض حياة . إن الآفاق البعيدة والكواكب القصية تشارك فى صنع ما نأكل من طعام، قوانين واحدة تعم الكون كله من الذرة التى لا ترى إلى المجرة التى لا ترى، الذرة لا ترى لدقتها، والمجرة لا ترى لأبعادها.. ولكن الذى يبصر كل شىء وضع نظاما واحدا يدل على وحدانيته. ودعت هذه الرسالة إلى التصديق باليوم الآخر، وكان الجاهليون قديما كالجاهليين حديثا لا يؤمنون إلا بحياة واحدة فى ظهر هذه الأرض.. وفى ضوء هذا الفهم ترى الإنسان وحشا يعيش ليومه ولا غد له، يعيش لهذه الدنيا لا آخرة بعدها ص _150(1/133)
(وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون * ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين) . وليس تذكير الإسلام بالدار الآخرة تهوينا لشأن الدنيا، أو انتقاصا من النشاط فيها، كلا، ولكن التذكير بالدار الآخرة جعل الغرائز البشرية تلزم حدودها فلا تطغى ولا تحمر ولا تنطلق دون ضوابط، فإن الإنسان يعتدل كثيرا ويعرف كيف يسير وفق هدايات ربه يوم يعلم أن كل ما يقترف من صغير أو كبير محسوب عليه: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) .. ومن الأغلاط الشائعة فى تصوير الرسالة الإسلامية أنهم يقولون: جاء محمد فى بيئة مشركة فدعاها إلى التوحيد، هذا تصوير ناقص للرسالة الإسلامية، فإن الرسالة الإسلامية ليست علاقة بين العبد وربه فقط، ولكنها تضمنت مع هذه العلاقة بين الإنسان وربه تنظيما اجتماعيا للكيان الإنسانى الكبير، يقوم هذا التنظيم على المسئولية المشتركة، بمعنى أن المجتمع لا يجوز أن يكون فيه جوع وشبع، عز وذل، كبر و وضاعة ، علم وجهل، ينبغى أن يمد القادر العالم الواجد المكثر يده إلى من دونه حتى يتساوى الجميع فى نعمة الله وفضله، لا تساويا يزيل الفوارق بين الأفراد فهذا مستحيل، ولكنه تساو يحقق الرحمة والتعاون على البر والتقوى والتواصى بالحق والصبر. ولذلك فى أول ما نزل من القرآن لتنظيم العلاقة بين الناس وربهم نجد أن هذا التنظيم تناول العلاقة بين الإنسان والإنسان. سورة المدثر من أول ما نزل، ومع ذلك فأنت تقرأ فيها قوله تعالى على لسان أهل الجنة وهم يتساءلون عن المجرمين يقولون لهم: (ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين) . وعندما انقسم المجتمع فى الجاهلية إلى متكبرين مترفعين ينظرون شزرا إلى من دونهم جاها ومالا، وعندما حاول هؤلاء المتكبرون المترفعون أن يفرضوا تقاليدهم على صاحب الرسالة صلى الله عليه و سلم وعرضوا عليه أن(1/134)
يحضروا فى ص _151
مجلسه وأن يستمعوا إليه تمهيدا للإيمان به، والدخول فى دينه لكن شريطة ألا يسوؤا بمن دونهم مكانة ومنزلة فى نظرهم، فلم يتأن الوحى أو يستدرج هؤلاء للإيمان، بل رفض لأن هؤلاء الذين يريدون الدخول فى الإسلام وفق فهمهم وكبرهم أرادوا طرد المؤمنين الضعاف أو على الأقل رميهم وراء ظهورهم فى المجلس فنزل قوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين * وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين) . دخل الإسلام ناس، نريد أن نعرف الخصائص العقلية والنفسية لمن دخل الإسلام، وانشرح به صدره، حتى نعرف من هم المسلمون قبل الهجرة؟ ما خلائقهم؟ ما فضائلهم؟ ما المميزات الإنسانية التى توافرت فيهم ماديا وأدبيا حتى بدأ مجتمع ما قبل الهجرة يتكون ؟. أول ما نلحظه فى المسلمين أنهم أصحاب تحرر عقلى، لم؟ لأن طبيعة الإيمان عندنا فى كتاب الله وفى سنة رسوله صلى الله عليه و سلم طبيعة تقدمية، نحن فى عالم يفخر بأنه تقدمى، الحقيقة أن العالم فعلا ارتقى علميا فى جوانب، ووقف فى جوانب أخرى، وتراجع فى جوانب كثيرة.. ولكن الإسلام عندما يعرض الآن ربما نظر الناس إليه من خلال الأمم الهابطة المنتسبة إليه، فأزروا به واستهانوا بقيمه. نريد أن نعرف الإسلام من خلال الذين اعتنقوه أولا، كان هؤلاء كما قلت أصحاب حرية عقلية، إنسان بدأ يحدث الناس ويقول لهم: أنا أعرض عليكم ماعندى، ماعندك؟ ومن أين جئت به؟ وماتريد؟ وما دليلك؟. فيكون الجواب: ص _152(1/135)
(حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين * وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون * واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون * تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) . خطاب للعقل البشرى، تحريك للفكر الإنسانى، لكن هناك ناسا جمدت أفكارهم، وتحجرت عقولهم، هؤلاء يصفهم الله فيقول: (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ..) هذا النوع المتحجر هبط إلى مستوى الحيوانية: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) . إذن بدأ الإسلام حرية عقلية، فكان الجيل الذى اعتنق الإسلام يمثل فى أرض الله الواسعة مجتمعا تقدميا أرقى فكرا وأنضر نظرا وأعمق استدلالا، وأوسع آفاقا من المجتمعات المتخلفة الأخرى. انضم إلى هذه الحرية العقلية فى مجتمع ما قبل الهجرة شىء آخر هو القدرة النفسية على مخالفة الجماعة إذا كانت مخطئة، والقدرة النفسية على المشى مع الحق وإن كان الناس مبطلين لا يرزقها كل إنسان، فقد تبين لنا من استعراض النشاط الإنسانى، والتأمل فى مسالك الخلق تبين لنا أن الناس نوعان: نوع ذنب لا يحسن إلا أن يكون مع التيار، يقول: أنا مع الناس، هذا اللون أو النوع يسمى الإمعة، وفيه تحذير النبى صلى الله عليه وسلم : " لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وان أساءوا فلا تظلموا " القدرة على التخلص من البيئة المنحرفة، أو من التقاليد السخيفة، أو من التيارات المعوجة لا يستطعها كل إنسان، بل رأينا ناسا رأوا ص _153(1/136)
الصواب ولكن لعجزهم النفسى، ولعدم قدرتهم على ترك ما ألفوا بقوا مع الضلال ! يقول الله فى هؤلاء: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون * فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) البيئة تتجه ضلالا إلى الشمال، اتجه أنت إلى اليمين . هكذا ربى القرآن الجيل الذى تكون قبل الهجرة، رباه على قدرة مخالفة المواريث السائدة، التقاليد الموطدة، التيارات الغالبة، وفى هذا نقرأ قوله تعالى فى سورة هود المكية: (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون) وتقرأ قوله تعالى فى سورة الأنعام المكية: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون) . قدرة نفسية على مخالفة البيئة إذا ضلت، لكن مخالفة البيئة إذا ضلت قد تكلف صاحبها تعبا، وقد تجشمه عنتا، وهنا نجد أن صاحب الحق الذى اعتنقه واستراح إليه لا يبالى فى سبيل الحق أن يتحمل العنت وهذه خاصة فى الرسالة الإسلامية جعلتنا نرى أن الذين آمنوا ووجهوا بثلاثة أنواع من الحروب: النوع الأول: حرب الاضطهاد، وقد وجهت للضعاف الذين لا عزوة لهم ولا عصبية، والرسول صلى الله عليه وسلم فى أول أمره كان لا يملك، شيئا، وليس لديه ما يقدمه من حماية، إذا رأى أسرة كأسرة عمار بن ياسر هو ووالده وأمه رضى الله عنهم، إذا رأى الأسرة تعذب ماذا يقول لها؟ لا يستطع أن يقول إلا: " اصبروا آل ياسر موعدكم الجنة ". ص _154(1/137)
الأنبياء لا يملكون أموالا يرشون بها، ولا يملكون. سلطة يفرضون بها حمايتهم على أتباعهم، بل فى الهجرة الأولى إلى الحبشة هاجر عثمان بن عفان رضى الله عنه ومعه زوجه رقية رضى الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم . النوع الثانى: حرب السخرية، وحرب السخرية كانت حربا فيها نوع من الإيذاء النفسى ومن الإحراج البالغ، كانت حربا موجعة: (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) سبحان الله.. أعقل إنسان فى الأولين والآخرين يقال له هذا (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون) . إنهم يضحكون، ويسخرون، وينكتون، غمز ولمز وتنكيت وسخرية، لكن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ثبتوا وصبروا على هذا كله. النوع الثالث: حرب المقاطعة، وهى حرب مؤذية، عندما يكون الإنسان تاجرا ثم تتقرر مقاطعته، أو عندما يكون له بنات وبنون فيتقرر ألا يتزوج أحد من بناته، هكذا صنع المشركون بأتباع محمد عليه الصلاة والسلام، لكنهم تحملوا هذا كله، فكان إلى جانب الحرية العقلية، وكان إلى جانب القدرة النفسية على مخالفة البيئة كان إلى جانب هذا كله شىء ثالث وهو الثبات والتحمل فى ذات الله، والصبر على ما يكون من شدائد ! ثم كان الأمر الأخير وهو الدعوة إلى الهجرة، والدعوة إلى الهجرة شىء أحب لمناسبته أن أعقد مقارنة عاجلة سريعة بين الدعوة إلى الهجرة فى مكة. لإقامة دولة دينية أو مجتمع دينى فى المدينة، وبين ما وقع فى عمرنا هذا. الدعوة إلى الهجرة كانت صريحة، سننتقل إلى المدينة لنقيم فيها دولة الإسلام بعد أن عجزنا عن إقامتها فى مكة . ومهاجرة الناس من أوطانهم وأسرهم وماضيهم، وما ألفوا إلى مكان ليقيموا فيه دولة وفق ما يعتقدون شىء عرفه المسلمون قديما عندما هاجروا إلى المدينة المنورة، وأريد أن ألفت النظر إلى فارق شاسع بين ما وقع من مسلمى(1/138)
الأمس منذ أربعة عشر قرنا وبين ما وقع من اليهود اليوم . ص _155
ان اليهود من خمسين سنة تقريبا قرروا فى مؤتمراتهم أن يهاجروا إلى إسرائيل كى يقيموا فى فلسطين دولة لهم باسم إسرائيل، وفعلا بدأت الهجرة، واستطاع هؤلاء المهاجرون أن يقيموا دولة توصف بأنها دينية، وجعلوا عنوانها إسرائيل، هناك فروق واسعة بين هجرة المسلمين قديما إلى المدينة وهجرة اليهود حديثا إلى فلسطين، هذه الفروق أريد أن ألخصها على عجل: أول هذه الفروق أن المسلمين الذين تركوا مكة إلى المدينة. يمكن أن يوصفوا بتعبير العصر الحديث بأنهم مغامرون، لأنه لم يكن لهم على ظهر الأرض نصير، كانت الدنيا كلها ضدهم، أما المشركون فلأن القرآن عاب الأصنام، وحقر الأوثان، وهدم تقاليد الجاهلية ، وطلع على الناس بوضع جديد يصب فيه الإنسانية صبا من طراز آخر، وأما المسيحية فإن الإسلام كان فى مكة ينكر بحرارة وحماسة أن يكون لله ولد، ففى سورة الكهف المكية نقرأ قوله تعالى: (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) . وفى سورة مريم المكية نقرأ قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) . هذا الإعلان الصريح الذى ظهر فى مكة غاظهم وأغضبهم وجعلهم يحقدون على الإسلام والمسلمين. أما اليهود وهم عدو ثالث فإن القرآن تناولهم أكثر ما تناولهم فى مكة قبل الهجرة،. سورة الأعراف المكية قالت عنهم، إن الله لن يدعهم، ربما ضحكت الدنيا لهم قليلا، ولكن لابد أن تختم بفاجعة، ولابد أن يصابوا ص _156(1/139)
بنكبة قاصمة: (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ..) . ماذا بقى فى الدنيا من صديق للمسلمين؟ اليهود ضدهم، والنصارى ضدهم، المشركون ضدهم، الملحدون الذين لا يؤمنون بآلهة ضدهم، فماذا بقى للمسلمين؟. فيوم يكلف تاجر فى مكة أن يصفى ماله ليذهب إلى المدينة فإنه مغامر.. مغامر فعلا.. ولكن الذين آثروا ما عند الله، ورجحوا جانب الحق، قالوا: لو اتفقت الدنيا كلها ضدنا فسنبقى مع الله ومع نبيه محمد صلى الله عليه و سلم هؤلاء الذين فعلوا ذلك كانوا شيئا آخر مخالفا من كل جانب هجرة اليهود إلى فلسطين، فإن اليهود قبل أن يهاجروا إلى فلسطين تعهدت الدولة الأولى فى العالم يومئذ- انجلترا- بأن تكيف الظروف فى فلسطين لاستقبالهم، فكان الحاكم الإنجليزى فى فلسطين يذل العرب، ويعطش أرضهم حتى لا ينبت فيها زرع، وحتى يكرهون على بيعها. بأبخس ثمن أو بأعلاه، وكانت الرصاصة إذا وجدت فى بيت عربى سببا فى أن يهدم البيت من أعلاه إلى أدناه!. كان الاستعمار البريطانى من سنة 1917 إلى سنة 1948، كان عالميا ومحليا يهيىء الظروف لاستقبال اليهود المهاجرين، فكان رأس المال اليهودى إذا هاجر فمن مأمن إلى مأمن، ومن حام إلى حام، ومن حارس إلى حارس. شتان بين هذا وبين المهاجرين الأوائل، شتان.. شتان.. ثم إن المهاجرين الأولين ذهبوا إلى المدينة المنورة، أى هجرة هذه؟. يوم اضطرتنا الظروف الصعبة إلى أن نستقبل المهاجرين من السويس والإسماعيلية، تحركت الأجهزة الاقتصادية والثقافية والحكومية والأهلية لاستقبال المهاجرين، وصدرت قوانين، وبدأت أمور كثيرة تتخذ لكن الهجرة إلى المدينة أشرف عليها شىء واحد هو الدين والخلق، كان المسلمون ص _157(1/140)
فى المدينة يستقبلون الوافدين عليهم بصدر واسع، لا سلطات، لا قوانين، ومع ذلك فما نزل مهاجرى ، إلى أنصارى إلا بقرعة. كان التنافس بين بيوت الأنصار تنافسا غالبا لاستقبال أولئك القادمين الذين جمعهم الإيمان، ثم شتان.. شتان !.. إن الدولة التى أقامها الإسلام بعد الهجرة دولة لعبادة الله.. لصقل النفس البشرية لسيادة القيم التى يساندها العقل والفطرة. أما دولة إسرائيل فدولة وثنية لعبادة المال والخنا والشهوة والضلال، لعبادة الجبروت والمظالم والطغيان. إذا كان الشاعر العربى قال: والمال مذ كان تمثال يطاف به والناس مذ خلقوا عباد تمثال فإن عبادة المال وعبادة الدنيا، لا اعتراف بالآخرة، لا اعتراف بقيم، لا اعتراف بشريعة السماء، لا شىء عند اليهود أكثر من المادة، العجل الذهبى الذى عبد قديما ، أعيدت عبادته بشكل آخر. ولولا أن المسلمين باعدت بينهم وبين دينهم أزمات روحية ومادية طاحنة لكان لليهود مصير آخر وشأن آخر. إنها مقارنة بين المسلمين الأولين وما امتازوا به، وكيف أن ما امتازوا به نقلوه وهم يهاجرون وأسسوا به دولة على عين الدنيا، هى الوالد الحقيقى لكل ما على ظهر الأرض الآن من قيم ومن تقدم ومن حضارة. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم . الخطبة الثانية الحمد لله (..الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) . وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام الأنبياء، وسيد المصلحين. ص _158(1/141)
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. عباد الله: أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل، واستذكروا أمجاد آبائكم العقلية والنفسية كى تستطعوا بهذه الأمجاد أن تقيموا دولة الإسلام وحضارة الإسلام. إن الجهود الآن تبذل لإقامة حضارة مادية كفور فى فلسطين، وقد نجح هؤلاء اليهود إلى الآن فى أن يقيموا لهم دولة تفرض نفسها على ما حولها، و لكن الظروت من حولهم هى التى مكنت من إقامة هذه الدويلة. والحرب لا بد وأن تبقى بين أهل الإيمان وبين يهود الأرض ووراث الكفر ومشيعى الربا والزنا فى عالمنا الحاضر، لا بد وأن تبقى هذه الحرب، وأخوف ما أخاف أن يظن بعض الناس أن ذهابهم بعيدا بعشرين أو بثلاثين كيلو شرق القناة يعتبر شيئا خطيرا، أو يعتبر أمرا نهائيا، إن الحرب قائمة ودائمة إلى أن يحق الحق الحق ويبطل الباطل إلى أن تغسل هذه الأرض للأبد من أدران الذين نزلوا بها يريدون أن يمحوا تراث الاسلام، وأن يمحوا أصالتنا وعراقتنا ودعوتنا الصحيحة إلى الله، وإلى وحيه وإلى ما أنزل على لسان أنبيائه، لكن الشدائد التى نزلت بنا تحتاج إلى أن نحدد موقفنا منها. إن أمتنا إلى الآن لا تزال تعانى من عطب حقيقى يجعل الشبه بين المسلمين قبيل الهجرة وبين المسلمين فى العصر الحاضر يجعل الشبه مقطوعا أو بتعبير دقيق يجعل الشبه ضعيفا، لم؟ لا نزال للآن لا نحسن الحكم على الأمور، لو أن ممثلا هزليا مشى فى أحد الشوارع أو أحد الميادين، ومشى إلى جانبه عالم من الذين يشتغلون فى بحوث الذرة، أو ممن يشتغلون فى ميادين الطب، أو ممن يشتغلون بجهد فى خدمة التراث والثقافة الإسلامية،. فإن الجماهير ربما حيت بإكبار الممثل الهزلى ونسيت العالم فى الذرة ولقد كان لنا علماء فى الذرة ماتوا فما فكر فيهم أحد، وإنما فكرنا فى أن نحى ذكرى التافهين من رجال السخرية والهزل والتمثيل والغناء وما إلى ذلك !. ص _159(1/142)
العيب عيب الجماهير، نحن لا نعقل، امرأة تنجب ثمانية أطفال فى الريف أحدهم فى الحقل، والثانى فى المصنع، والثالث فى الجيش، والرابع فى الجامعة، والخامس هنا، والسادس هنا، أشرف عند الله وأفضل فى ميدان الحقيقة من ممثلة أو راقصة تعرض مفاتنها على الخلق. إننا لا ندرى كيف نحكم، وجماهيرنا موقفها سلبى، وهذا الموقف السلبى خطير، ويجب أن يشعر الهازلون بأنهم حقراء، وأن الجماهير تنظر إليهم بعين مشمئزة ساخرة، يجب أن يشعر العاملون بأنهم موضع إعزاز الأمة واحترام الخلق. قلت لبعض الناس: إن الإعلام فى أثناء المعركة كان خيرا كثيرا مما قبلها، وارتفع كثيرا عن المستوى الأول، هذا بالنسبة إلى الإذاعة، أما الإعلام فى التليفزيون فهو أقل لأن هذه الشاشة تفلت إليها وجوه ممسوخة تخرج منها أشياء نابية ولا تزال هذه الشاشة إلى الآن؟ أعلم محرمة على بعض! المحتشمات.- إن بعض البرامج القرآنية الغى بسبب ان مقدمته تستر رأسها، وستر الرأس رجعية، وكشفت الرأس تقدمية. لو قلنا لهؤلاء دعوا الناس أحرارا كما تقولون، اتركوا هذا الأمر للحرية الشخصية من كشفت رأسها كشفته ومن سترته سترته لقالوا لك: لا لا للحرية الشخصية التى تجعل المذيعة تغطى رأسها. إذن الأمر ليس أمر حرية شخصية، الأمر أمر. تخطيط لمنع التدين من أن يأخذ مجاله فى المجتمع. وفى المسرح الكبير لا يزال السقوط كاملا، والمسارح والرويات التى تعرض لا تزال بعيدة عن المعركة، وعن الخلق، وعن الدين، وفى مطابخ المسرح المصرى الآن رواية، آلفت النظر قبل أن يقع ما يحرج، رواية تتحدث بسخرية عن الجنة والنار، وعن الآخرة، وعن ملائكة الله، وعن إشارة حمراء تؤدى إلى النار، وإشارة خضراء تؤدى إلى الجنة، والإشارة الخضراء انفتحت لمومس كى تدخل الجنة. الرقابة منعت الرواية من أن تظهر، لكن جهودا أخرى أفلحت فى أن تأخذ الرواية طريقها، وهى لم تخرج إلى الآن، ويوشك أن تخرج، وأنا ص _160(1/143)
أحذر من أن الرواية إذا خرجت فإن المؤمنين سيذهبون إلى هذه المسارح لينزلوا من على خشبة المسرح من ينكت على الدار الآخرة، ومن يهزأ بالملائكة، سينزلوه ليضربوه بالنعال على وجهه. أنا أنبه إلى هذا، فإننا لا نقبل أن يموت الشهداء باسم الله، وأن يعبروا القناة بنشيد الإسلام، وهو تكبير الله جل شأنه، ثم تبقى هنا وهناك بقايا تريد أن نكفر بالله. لن نكفر سنكون مؤمنين، سنبقى على ديننا، وسنحيى تراثنا، وسنجمع الأمة على هذا الهدف فى موكب للحق لا يكبر إلا الله، ولا يحترم إلا دينه!. إننا نحذر من اللعب بالجنة والنار والملائكة، إن هؤلاء يلعبون بالنار، وإن مستقبلهم سيكون شرا عليهم وعلى من وراءهم. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) . عباد الله : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) . وأقم الصلاة ص _161(1/144)
تأملات في سورة الواقعة خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه 1973 م الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فموضوع خطبتنا اليوم تأمل سريع فى سورة الواقعة.. هذه السورة التى ألف كثير من الناس قراءتها، وتقرب إلى الله عز وجل بتلاوتها يمكن أن يلخص موضوعها فى جملة يسيرة: "موضوع البعث، ومنازل الناس بعده، وأدلة وقوعه "، هذا ما قامت عليه السورة.. البعث، ومنازل الناس بعد البعث، وأدلة وقوع البعث.. على هذا المحور دارت آيات السورة ص _162(1/145)
كلها.. ونحن نستعين الله فنصور هذه المعانى التى تجعل أول السورة تمهيدا لآخرها.. وآخر السورة تصديقا لأولها لتخرج من هذا التصوير بمعنى متكامل. (إذا وقعت الواقعة * ليس لوقعتها كاذبة * خافضة رافعة). يقال: وقع القول: إذا تحقق وثبت، وقعت الواقعة: إذا أصبحت أمرا واقعا فتحققت وثبتت.. ومع أن فى طباع الناس مكابرة مستغربة، ومع أن عددا كبيرا من الناس أوتى جدلا يحب أن يكابر به الواقع فإنه عندما تقوم القيامة تخرس الألسنة التى تعودت الجدل، وتغلق الأفواه التى ألفت المكابرة، ويشعر الناس جميعا بأنهم أمام حدث ما بد من الاعتراف به، والانحناء له، والخضوع لآثاره. (إذا وقعت الواقعة * ليس لوقعتها كاذبة) . وهنا نحب أن نشرح: لم كرر القرآن الكريم تصوير مشاهد البعث والجزاء والحساب، وما يتبع الحساب من ثواب وعقاب؟ السبب فى ذلك أن هناك علة فاشية فى الناس على امتداد القرون، واختلاف الأمكنة.. هذه العلة هى عبادة الحياة الدنيا.. إن عبادة الحياة الدنيا مرض فى الإنسانية قديم.. وقد استفحل هذا المرض، وزاد فى الحضارة الحديثة.. فإن هذه الحضارة مهدت للناس طريق المتع، وعلقتهم بتراب الأرض، وسخرت مما وراء المادة، وجعلت الناس.. يحسون انهم ما يحيون إلا هذه الحياة الدنيا، وأن ما بعدها وهم ما ينبغى الاستعداد له أو التعلق به.. يصدق فى هؤلاء جميعا قول الله عز وجل فى كتابه: (إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا) . وقوله جل شأنه : ص _163(1/146)
(فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) . وكرر القرآن فى كثير من السور ما نجده فى سورة الواقعة هنا، من تصوير لمشاهد الحشر والنشر والمثوبة والعقوبة، والسبب أنه يريد إحداث توازن فى الكيان المعنوى للإنسان، فإن الإنسان يحصر بين مشاهد الدنيا وبين واقع الأرض وبين ما يسمع ويبصر فتغلب عليه تلك المحسوسات وكأنها هى الواقع الذى لا شىء بعده، فكيف يستيقظ الإنسان من هذا الحاضر الذى استغرق فيه؟ وكيف يشعر بأن مع اليوم غدا، ومع الحاضر مستقبلا، ومع لذة الطعام والشراب والشهوة الآن لذات أخرى أرقى وأزكى ينبغى أن يحسها، وأن يستعد لها، وأن يعمل على منالها، وعقوبات أو آلام أنكى وأشق ينبغى أن يتحرز منها ويبتعد عها ويتحرج عن الوقوع فها؟ !!. إن إكثار القرآن الكريم من الكلام فى الدار الآخرة إنما هو لعمل توازن فى وعى الإنسان بين دنيانا التى تحيط بنا وتلفنا فى آلامها وآمالها، وبين ما لا بد منه فى الدار الآخرة.. لأنه حق ولكن الناس غافلة عنه !! ومن هنا جاء الكلام عن الدار الآخرة فى هذه السورة على أنها ستقلب الأوضاع. (إذا وقعت الواقعة * ليس لوقعتها كاذبة * خافضة رافعة) ستقلب الأوضاع، معنى (خافضة رافعة) أن ناسا فى دنيانا هذه يعتبرون فى مرتبة صغيرة أو فى درجة وضيعة سوف تعلو أماكنهم، وترتفع مناصبهم، وأن ناسا فى دنيانا هذه يشار إليهم بالبنان، ويرمقون فى مناصبهم أو فى أماكنهم على أنهم سادة وقادة سيكونون صعاليك فى الدار الآخرة: (خافضة رافعة) وقد نظر النبى عليه الصلاة والسلام يوما إلى آفاق الدنيا فى ليلة من الليالى كما روى البخارى فى صحيحه: " استيقظ النبى صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: سبحان الله.. ماذا أنزل الليلة ص _164(1/147)
من الفتن، وماذا فتح من الخزائن، أيقظوا صواحبات الحجر فرب كاسية فى الدنيا عارية فى الآخرة " . (خافضة رافعة) رب مكسو هنا يزين مفرقه التاج سوف يحشر مفضوحا عريان، ورب تافه هنا يرد عن الأبواب وتلقى إليه النظرات المنكرة سيكون من ملوك الدار الآخرة. (خافضة رافعة * إذا رجت الأرض رجا * وبست الجبال بسا * فكانت هباء منبثا * وكنتم أزواجا ثلاثة) . (أزواجا ثلاثة) أى أصنافا ثلاثة.. والناس فى الآخرة ثلاثة أصناف.. الصنف الأول هم: (..والسابقون السابقون * أولئك المقربون * في جنات النعيم) ومن السابقون؟ صح عن النبى عليه الصلاة والسلام قوله فيما روى البخارى وغيره: " إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدرى الغابر فى الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم.. قالوا يا رسول الله.. تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم.. قال بلى و الذى نفسى بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " . هل نظرت يوما وأنت فى بيتك إلى نجمة فى السماء تولد وتختفى من ص _165(1/148)
شدة بعد ما بيننا وبينها من سنين ضوئية ومسافات رحبة.. يبين عليه الصلاة والسلام أن منازل الناس فى الجنة هكذا؟ بعضهم فى الأرض، وبعضهم كهذا النجم البعيد.. هكذا أهل الغرف الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين.. إن الإيمان يصنع العجائب.. ويوم يكون الإنسان مؤمنا حقا، ودفعه إيمانه هذا إلى أن يؤدى حق الله عليه كاملا فإنه يكون سباقا.. الصنف الثانى هم: (..وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين * في سدر مخضود * وطلح منضود * وظل ممدود * وماء مسكوب * وفاكهة كثيرة * لا مقطوعة ولا ممنوعة * وفرش مرفوعة) إلى آخر ما و صف القران الكريم .. ونعوذ بالله من الصنف الثالث: (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم * وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم) لماذا ؟ (إنهم كانوا قبل ذلك مترفين) كانوا منعمين فى الدنيا ما يحسيبون للآخرة حسابا (وكانوا يصرون على الحنث العظيم) كانوا يغدرون فى عقائدهم فيقولون: الله أكثر من واحد.. وكذبوا.. فإن الله واحد.. واحد فقط، وكما أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام فقال: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) ولكن ليس له ولد.. ليس له ولد (وكانوا يصرون على الحنث العظيم) هذه منازل الناس على اختلافها؟ صورتها الصفحة الأولى من سورة الواقعة. فإذا انتقلنا إلى الصفحة الثانية من هذه السورة وجدنا أدلة البعث.. كأن المستمع أو القارىء يتساءل أصحيح هذا كله؟ أصحيح أن هذه الدنيا سيخرب عمرانها، ويهدم بنيانها، ويفض سرادقها، ويتنقل الناس منها إلى هذه الأماكن المختلفة، أو الدرجات المتباينة؟ هذا سؤال يرد.. ومن ص _166(1/149)
عظمة القرآن الكريم، ومن إعجازه الخالد أنه يعرض عقائده على كل عقل فى كل عصر بالأدلة المقنعة والبراهين الساطعة.. ولذلك فى هذه السورة سرد القرآن الكريم خمسة أدلة على صدق البعث والجزاء.. هذه الأدلة الخمسة بدأت من قوله تعالى: (نحن خلقناكم فلولا تصدقون) . هذا هو الدليل الأول، والدليل الثانى: (أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) . والدليل الثالث: (أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) . والدليل الرابع: (أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون) . والدليل الخامس: (أفرأيتم النار التي تورون * أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون) . فلنلق نظرات سراعا على هذه الأدلة الخمسة لنعرف ما قيمة كل دليل فى إقناعه بالحقيقة التى تصدى للبرهنة عليها. (نحن خلقناكم) هذا دليل بديهى.. الله يقول لمنكر البعث: لم تنكر أن أوجدك وقد سبق أن أوجدتك؟ لقد أوجدتك أولا فما يمنعني من أن أوجدك ثانيا؟ وفى تصوير القرآن لهذه الشبهة التى مسحها مسحا نجد أنه استعرض هذه الشبهة حديث نفس فى بعض السور، وصراخ مبطلين فى بعض السور.. حديث النفس فى قوله تعالى: (ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا * أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) هذا هو الجواب يجىء أيضا نوعا من التذكير النفسى للتساؤل ص _167(1/150)
النفسى الذى تحرك فى ضمير المرء وهو يتساءل عن البعث. البعض الآخر يصرخ: (وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا) . والجواب: (قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة .. ..) هذا هو الجواب . الدليل الأول فى جملة لا تستغرق نصف سطر: (نحن خلقناكم فلولا تصدقون) فهلا تصدقون بعد ذلك . الدليل الثانى والثالث يعودان إلى معنى لطيف أساسه أنك قد ترتاب فى إنسان يعدك أنه سيعطيك كذا، رأيته يمنح الألوف دون عجز، ويهب الكثير دون بخل فمن حقه عليك أن تقول: إن وعده هذا ميسور التصديق، ولم أكذبه وهو يقول سأعطيك وفى الوقت نفسه يعطى الآن الكثير؟ إن عطاءه الآن يرشح ويمهد لتصديق عطائه فيما بعد . الدليل الثانى والثالث: (أفرأيتم ما تمنون) ، (أفرأيتم ما تحرثون) أساسهما أن الخالق الذى يقول سأخلق بعد عدم لا يقول ذلك وهو عاطل الآن.. بل يقول ذلك وهو يخلق الآن بالفعل، يخلق الآن بالفعل.. ومن حق الناس.. من حق كل إنسان أن يسأل نفسه أين كنت قبل مائة سنة؟ سل نفسك.. إن ديننا أساسه العقل، ومن حق أى عاقل أن يوجه لنفسه هذا السؤال، أين كنت قبل مائة سنة؟ كنت ترايا فى سطح الأرض.. فى بلد ما.. كنت قطرة ماء فى موج من الأمواج التى تملأ البحار والمحيطات... هذا بدنى أين كان؟ هذا عقلى أين كان؟ عندما يسأل القرآن سؤال تقرير: ص _168(1/151)
(هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) . نعم أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، فكيف وجدت؟ ننظر كيف وجدت؟ أكل أبوك وأكلت أمك، أكلا من خيرات الأرض.. أكلا من أى شىء وصل إلى بدنهما ثم اشتغلت فى هذا البدن غدد.. اشتغلت الغدة المنوية فى جسمك.. إنها تشتغل دون أن تستأذنك.. دون أن تتلقى منك أمرا.. دون أن تعرف عنها شيئا.. إنها تشتغل وتكون الحيوان المنوى وفيه خصائص جنس.. فيه الأخلاق الأصيلة والمكتسبة من أبيك وجدك.. وربما تضمنت الغرائز التى انحدرت إليك عبر القرون من أول آدم ! من فعل هذا؟ من الذى خلق هذا الحيوان الذى أثبت العلم أن به خصائص الجنس كاملة.. بل بلغ دقته أن النطفة فى الجنس الزنجى تحمل خصائص سواد الجلد والشعر المجعد بطريقة معينة وما إلى ذلك من انفعالات سريعة، أوحده فى المزاج أو ما إلى ذلك، أأنت الذى صنعت هذا ؟ أنت الذى يأكل ولا يدرى.. هذه الغدة ما الذى جعلها تفعل ذلك؟ هذا هو تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون * ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون) كما أنشأناكم بطريقة معروفة الآن ننشئكم بطريقة أخرى لا تعرفونها.. هذا فى جسم الإنسان (أفرأيتم ما تمنون) دليل آخر: (أفرأيتم ما تحرثون) الزرع الذى يمون البشرية باستمرار بقناطير مقنطرة من الحبوب والفواكه.. من الذى صنع ذلك فى الحقول والحدائق؟ من؟ ما صنع ذلك إلا الله.. إن الفلاح يلقى البذور ويذهب إلى بيته ما يدرى كيف يتحول الطين إلى نسيج أحمر فى البطيخة ملىء بالماء الحلو، والسكريات، والفيتامينات والمعادن وما يدرى كيف تصنع القشرة فيها هذه الألوان التى يعجز الفنان العادى عن صنعها، وترمى فى صفائح القمامة إهمالا لها لكثرة ما يصنع الخالق منها، غنى مطلق : ص _169(1/152)
0(أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) الذى يخلق الآن يقول لك: سأخلق مستقبلا فما الذى يجعلك تستبعد؟!! كل شىء الآن يعطى الثقة فى أن وعد الله حق. (أفرأيتم الماء الذي تشربون) هنا فى الماء وفى النار إشارات غريبة إلى أن عناصر المخلوقات تشرف عليها قدرة تصنع العجائب.. إن الماء الذى نشربه كما أثبت الكيماويون هيدروجين وأكسجين.. فى شوارع القاهرة (لحام بالأكسجين ) لحام بالنار، وفيما سمعتم أن القنبلة الهيدروجينية أساسها ذرة الهيدروجين.. ومع ذلك فالله الكبير هو الذى يجعل من هذه العناصر الملتهبة مصدر رى لك يطفىء ظمأك !! وكما يفعل هذا بالماء يجىء بالنار من الحقول المليئة بالنضارة المليئة بكل ما يوحى بالحياة (أفرأيتم النار التي تورون * أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون) هل للنار شجرة ؟ نعم.. ويقول العلماء: كما أتنفس- والتنفس أساس حساتى- فأرمى بالكربون وآخذ الأكسجين فى جسمى فإن النباتات تصنع عملية عكسية.. ترمى بالأكسجين وتختزن الكربون.. وما الكربون؟ " هو الفحم.. هو النار.. هذه هى الشجرة التى تختزن النار فى كيانها.. الذى يصنع الماء بهذا الأسلوب، والذى يصنع النار بهذا الأسلوب أهو عاجز عن أن يعيد الحياة مرة أخرى ؟ لا.. (فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين) أتشكون فى هذا؟ (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون * وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) انتظروا.. انتظروا الساعة التى لا بد منها.. ساعة الاحتضار لكل إنسان. ! قد تغيب عنا ساعة البعث التى تطوى الحياة الدنيا ثم تنشرها، لكن كل واحد له ساعته التى لا بد أن يذقها.. وصف الله عز وجل هذه الساعة فقال: ص _170(1/153)
(فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين) ثم بين أن الأرواح عندما تفارق الأجساد تأخذ منازلها على النحو الذى بدأ أول السورة.. أصحاب السبق هم المقربون.. أصحاب اليمين.. أصحاب الشمال . . (فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم * وأما إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين * وأما إن كان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم * إن هذا لهو حق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم) . ختم البخارى صحيحه بحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم " كلمتان حبيبتان الى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان فى الميزان: سبحان الله وبحمده.. سبحان الله العظيم " أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم . * * * الخطبة الثانية الحمد لله (..الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) . ص _171(1/154)
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد.. عباد الله.. " أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل، وبالتأمل فى كتابه العظيم، وبالتدبر فيما أحكم من هذا الأسلوب، وأودع من تلك المعانى فى المصحف الذى بين أيدينا، نستطيع أن نقرأ فيه، وأن نتدبر معانيه. واعلموا أيها المسلمون أن الدنيا مليئة بالنحل المختلفة، والملك الكثيرة، والحق واحد لا يتعدد.. هو الصراط المستقيم.. هو القرآن الكريم.. هو الإسلام العظيم.. لكن الذى لاحظته أن الباطل انتعش أمره، وارتفع علمه لأمر فاتنا نحن.. هل تظنون أن من يعبد البقر يشعر أنه مضل أو ضالا.. إن الذين يعبدون البقر يعتقد ون أنهم على صواب.. وقد نبهنا الله لهذا فى مواضع من كتابه: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) إن الذين يشركون أو يجعلون لله أولادا وصاحبة أو يعبدون بعض الحيوانات لا يتصورون فى أنفسهم أنهم ضالون.. لقد حكى القرآن أصناف الناس فى أول سورة البقرة.. ثلاث آيات فى وصف المؤمنين، آيتان فى وصف الكافرين، ثلاث عشرة آية فى وصف المنافقين.. فى وصف المنافقين قال الله لنا منبها عن طبائع هؤلاء: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون * وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) طبائع الضالين أنهم متعصبون لما لديهم من ضلال.. المشكلة العويصة أبسالمعقدة التى أحسها وأنا أرمق المؤامرات التى تحاك للعالم الإسلامى، والحفر التى تبعثر فى طريقه.. المشكلة هى أن بعض المضلين متحمس لضلاله، مستعد للتضحية من أجله . أضحك وأنا أتصور ـ والصورة خطرت ببالى: لمن يكون النصر إذا كان الأمر ص _172(1/155)
هكذا- رجل يعبد بقرة- وفى الهند إذا اعترضت البقرة قافلة سيارات فى ميدان كميدان التحرير هنا فى القاهرة وقف الميدان كله.. فما يتحرك أحد، ولا تنطلق السيارات إلا عندما تتحرك البقرة إلى مكان آخر فإذا ذهبت البقرة إلى دكان فاكهى وأكلت قفص عنب مثلا استراح الرجل، وحلت البركة عنده، واطمأن وذهب إلى أهله مسرورا إذا كان صاحب هذا الضلال يستريح لفقد قفص من العنب فى سبيل وثنيته ثم وجدنا رجلا ينتسب إلى الإسلام ثم قيل له: أخرج هذا القفص من العنب لله فرفض، وأبي أن يضحى، فطبيعة الحياة أن من ضحى من أجل الباطل لا بد أن يهزم من بخل من أجل الحق ! فإذا وجدت رجلا يتحمس للضلال بينما عقيدة التوحيد عند بعض الناس ينظر إليها ببرود ويرمق معناها كأن المعنى تافه.. فإذا كلف بشىء استثقل التكليف، واستغلظ الفرض.. هذا النوع من الناس هازم الإسلام حتما.. والمشكلة أن عددا من المسلمين كبيرا إما جاهل بالإسلام وهو ينتسب إليه.. واما يعرفه ولكنه ميت الشعور والحماسة بالنسبة له.. هذا النوع من الخلق لا تنتصر به أمة ولا ترتفع به راية، ولا تستحكم به نهضة.. والمسلمون للأسف من هذا النوع.. فيهم عدد قليل لا شك متحمس لربه، غاضب من المنكر إذا وقع، قرير العين بالفريضة إذا استقرت، وبالمعروف إذا رسخ وتمكن.. لكن الله تعالى لا يحاسب الأمم بالقلة الصالحة فيها.. وإنما يحاسب الأمم بالكثرة الفاسقة فيها.. إننا نريد أن نكون ناسا عاديين.. لا أقول عباقرة.. لا.. ولكن كما يخدم عبيد البقر بقرهم ينبغى أن يكون أهل الحق كذلك.. ومع هذا فالذى أقوله غير ما قاله القرآن الكريم.. لأن القرآن الكريم يقول: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله) يجب أن يكون تعصبنا للحق أشد من تعصب غيرنا للباطل.. يجب أن يكون احترامنا للتوحيد أقوى من احترام غيرنا للشرك والتثليث.. أريد من أمتنا أن تعرف واقعها.. فإننى ألحظ في شيوخ(1/156)
المسلمين وشبابهم أنهم يكثرون من اللغو ويقلون من الجد.. وما بهذا تنتصر أمة . " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى ص _173
فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) . عباد الله : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) . وأقم الصلاة * * * ص _174
نعم. .للحقائق . .لا للصور خطبة عيد الأضحى المبارك بميدان عابدين القاهرة: 19/ 10/ 1980 م الحمد لله ذى الجلال والإكرام، والطول والانعام، والعزة التى لا ترام، والجوار الذى لا يضام. (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون * وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم). الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله اكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله اكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. لله الحمد، بيده الخلق والأمر، لا تفنى كلماته، ولا تنفد خزائنه، ولا تنتهى اختباراته. (وأن إلى ربك المنتهى * وأنه هو أضحك وأبكى * وأنه هو أمات وأحيا) . هو يحيى ويميت، ويعطى ويمنع، ويخفض ويرفع ويهدى ويضل، ويعز ويذل: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا) . الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد . ص _175(1/157)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو علىكل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فهذا يوم عيد، يوم عيد الأضحى، يوم اكتمال الوحى، ويوم تمام النعمة: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) . اختار الله هذه الأمة كى تحمل رسالته، وكى تبلغ أمانته، وكى تؤدى ما عليها فى هداية الحيارى وإرشاد الزائغين. اختار الله هذه الأمة، وأنزل هذه الكلمة، وعندما نتدبر هذه الكلمة، وهى من آخر ما نزل من آيات القرآن الكريم، نجد أن هنالك ما يشرحها، ففى الصفحة المقابلة لها تماما من المصحف الشريف تجد رب العالمين يذكر هذه الأمة بمكانتها فى القيادة، وبمنصبها من إمامة البشرية، ويقول: (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور) ، ثم شرع الإسلام يجلى آدابه، وينشر هداياته، وتبين أنه دين عدالة تغلب الغضب، ودين إنصاف يقهر المشاعر الجائرة: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) . فى الصفحة التى تليها مباشرة تجد إشارة إلى أن هناك محترفى تدين، ص _176(1/158)
احترفوا تزوير الوحى، واختلاق الكذب على السماء، احترفوا إضلال الناس، وزعموا أنهم أهل كتاب، فجاء القرآن ينفى ما ألفوا من تعصب، ويرفض ما توارثوا من جهالة: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) . هذه الآيات من سورة المائدة، وهى من آخر ما نزل من القرآن الكريم، فلنعد بالذاكرة إلى عشرين سنة قبل هذه الآيات النازلة، قبل هذا الوحى المبارك لنتلمس مبادىء الوحى وهو براعم تتفتح، وهدايات تتنزل نقف وقفه تأمل أمامها. فى مكة إنسان خاشع القلب، مستنير البصيرة، يريد أن يصلى لله، وفيها أيضا جبار يكره أن تنحنى الأصلاب لرب الأرض والسماء، لأنه ألف الوثنية، وعاش فى ظلمات الجاهلية، فنجد فى السورة الأولى من القرآن الكريم هذا الحوار: (أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى * أرأيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى) . لماذا يعوق المتقى فلا يمضى إلى طريقه ؟ لماذا تنشر العقبات أمام التقى فلا يبصر الناس بما لديه من نور؟ (أرأيت إن كذب وتولى * ألم يعلم بأن الله يرى) . لكن ما السبب فى هذا المسلك؟ خمرة القوة. إن للغنى سطوة، وإن للسلطة سطوة: (كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى) . ص _177(1/159)
هذا ما بدأ به الوحى فى السورة الأولى من كتاب الله. فى السورة الثانية تجد أيضا الوحى الأعلى يمضى فى خطته السماوية كى يقى الناس من غوائل الهوى، واتباع الشهوات، ويقول لمن اختير حاملا للرسالة: (يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر) . لكن هل ترك؟ لا، خمرة القوة عند من انتشوا بها، وللقوى المادية سطوة يذهب معها العقل، ويتيه الرشد، ولذلك فى نفس السورة : (ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا * سأرهقه صعودا) . ثلاث وعشرون سنة، والوحى المبارك بدأ يعرض الصلاة والتقوى، يعرض طهارة البدن والنفس، يعرض طهارة الفؤاد وسناء الفكر، والعوائق أمامه تريد أن تصده، ولكنه مضى فى طريقه حتى وصل إلى النهاية، وبعد ثلاث وعشرين سنة تنزل الوحى ليقول: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) . ومعه هذه الأشعة من حزم النور التى انتشرت فى آفاق المشارق والمغارب لتنقذ الناس من أنفسهم وتنقذهم من الجبت والطاغوت . الله أكبر، الله اكبر، الله أكبر. بماذا انطلقت الأمة الإسلامية عندما تعلمت هذه الهدايات واستمعت إلى هذه الآيات ؟. يجب أن تعرف الحقيقة، إن الذين ذهبوا إلى دار ( كسرى)، لم يذهبوا إليها باسطوانات المصحف المرتل، لم يذهبوا إليها بطبعة جديدة من المصحف الشريف، لا، لم يذهبوا بشىء من ذلك، فما يغنى شىء من ذلك، إنما ذهب إليه ناس على درجة غريبة من الوعى، وعلى درجة ص _178(1/160)
معجبة من الطهر والعدل . وقف " ربعى بن عامر " يعرض الإسلام خلقا وسلوكا، ويعرضه نظام حياة وأمل جماهير، بدأ يعرض هذا الدين فقال: " إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ". هذا سلوك يعرض، هذه سياسة راشدة تخامر الأفئدة، وتتسلل بأضوائها إلى أعماق المجتمع ليرى الناس رأيهم، كيف حدث هذا ؟. إذا كان القرآن الكريم قد بدأ بسورة العلق، وسورة المدثر، وختم بسورة المائدة وسورة النصر، فإن هذا كان الخط السماوى الذى يجب أن يعيش الناس به، لكن هناك جهدا يساوق هذا الجهد ويمشى معه. كيف يصب المجتمع فى قالب يعمل لله، ويتحرك بهداه لا بهوى الأنفس؟. كيف تتحول طاقة الأمة العربية إلى جهد لمحاربة الظلام والمظالم؟ كيف تبنى أمة من الصفر كى تغير وجه العالم؟ هذا هو الجهد الذى قام به كبير الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام ! هذا هو الجهد الذى أنشأ به من الصفر جيلا من الناس لم يعرف له نظير !!. ولذلك فإن عالما أمريكيا قرأتم نبأه وعرفتم كتابه ، عندما تحدث عن القمم المائة الأولى فى تاريخ الإنسانية، خلب بصره وفكره وبحثه منظر قمة متوجة بالجلال والأدب والعظمة هى القمة الأولى بيقين فى تاريخ البشرية كلها هى محمد عليه الصلاة والسلام، لأن هذا الإنسان الكبير هو الذى استطاع أن يبنى من العدم أمة، شكلها وفق قوانين السماء، وصمها فى قوالب الوحى، ودفعها بطاقات الروح، ثم تركها تخدم التوحيد وقضاياه، والقيم وطهرها، والأخلاق وسناءها، والتقاليد الناضرة، وإيحاءها، ص _179(1/161)
وهكذا كان البناء العظيم لأمتنا الإسلامية ولرسالتنا الضخمة، لكن هذا البناء لا يقدر عليه العابثون ولا يستطيعه اللاهون، إن هذا البناء يحتاج إلى جلد وإلى مصابرة وإلى قدرة. ولنعلم أن الدنيا دار اختبار، وأن كل امرىء مختبر بالآخر: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا) . والفتنة كانت شديدة، والاختبار كان مرا! لكنها طبيعة الاختبار الإلهى . إن الاختبار الإلهي يقتحم النفس الإنسانية من جميع أبوابها، ويدخل إليها من كل أقطارها، فلا مكان لغش، ولا مكان لادعاء، وما ينجح عند الله إلا من زكا، وما يسقط ويهوى عنده إلا من هلك، هكذا الاختبار الالهى، وقد قيل للمسلمين: تعلموا من تاريخ الأمم قبلكم أن الحق الذى اعتنقتموه، وأن اللواء الذى رفعتموه لا بد له من جيش محتسب يبذل دون كلل، ويكافح دون ملل، وهكذا قيل للمؤمنين: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) . هكذا يبلغ الامتحان نهايته، ويصل إلى ذروته، ولكن: والرأى إن تمض الليالي دونه وافى على جنباتهن صباحا لابد من أن يشرق الفجر مهما اشتدت الظلمة، ولابد أن تطلع الضحوة الكبرى مهما طال الليل، لكن الصبر مر، والتحمل لابد منه، ومن هنا جاءت فى هذا العيد ذكريات لابد أن نعرفها، ولابد أن نقف مليا أمامها. إن الاختبار وصل بأم إسماعيل عليه السلام أن رأت وليدها يكاد يقتله الظمأ ، فماذا تصنع؟ لقد قالت لإبراهيم عليه السلام- زوجها- ما دام الله أمرك أن تتركنا هنا فلن يضيعنا !!! لكنها الآن تواجه الهلاك، ص _180(1/162)
القدر لا يكذب: (ومن أصدق من الله حديثا) . إن الله إذا وعد لا يخلف وعده، ولكنه يصل بالامتحان إلى آخر رمق، ويصل بالاختبار إلى نهايته، ثم إن الزمن عنده ليس ماضيا وحاضرا ومستقبل كما نراه نحن البشر، لا، الزمن عنده صفحة مستوية. عندما كانت أم إسماعيل تجرى هنا وهناك تطلب الماء لولدها الذى يكاد يهلك من العطش كان رب العالمين يعلم أن الولد سيكون أمة، سيكون منه شعب، ستكون منه نبوة خاتمة، ستكون منه حضارة تظلل الأرض بأعظم ما ازدانت به الإنسانية من قيم، كان يعلم هذا ولكنه ينزل أقداره بحكمة: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) . ويسوق القرآن الكريم ألوانا من الصراع بين الحق والباطل ينظر الإنسان إليها متأملا. جاء موسى عليه السلام إلى فرعون يقول له: هذه الأرض لا تحتمل فوق ثراها شعبين يأكل أحدهما الآخر، فلنرحك من شعب إسرائيل: (فأرسل معي بني إسرائيل) . حل معقول، لكن الطاغية لا يعرف الحل المعقول، بل تلتوى الأمور فى نفسه، فعندما يرى أن سحره تلاشى يقول: (إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون) . وخرج موسى وقومه، وتبعه فرعون وجنده، هنا يبلغ الامتحان درجة خطيرة، فإن أتباع موسى رأوا أن الجبار الذى استباح دماءهم واستحيا نساءهم، وتجبر فى الأرض على أنقاضهم يوشك أن يضع يده عليهم وأن تعود الأمور سيرتها الأولى فى الذل النازل بهم والهوان الواقع عليهم : ص _181(1/163)
(فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين) . لابد من اختبارات إلهية، واختبارات شديدة، قد تكون قاسية، ولكن نتيجتها ناضرة تبيض بها وجوه المؤمنين وتسود بها وجوه الظالمين. كنت لأمر الله فى الشهور الثلاثة الأخيرة، مرة فى باكستان وسيلان فى جنوب العالم الاسلامى، ومرة فى وسط الجزيرة العربية وعلى شواطىء الخليج، ومرة فى الجانب الغربى فى الأرض الإسلامية فى الجزائر وما وراءها. ماذا رأيت ؟. رأيت أن هناك انتفاضة إسلامية توشك أن تكون لها آثارها فى تغيير العالم الإسلامى وما وراء حدود العالم الإسلامى !. رأيت- والله- الشباب فى كل مكان، ورأيت النشيد الإسلامي الذى ألف فى القاهرة- هنا- يردده الشباب فى الجزائر بعزم وتصميم، وهم يجأرون لله بكلمة التوحيد ويتعاهدون على ما ينبغى أن يقدموه للإسلام من فداء وتضحية كى تبقى كلمته وتعلو رايته. ومع هذا فقد كنت أرى هذه الحياة المشرقة بالإيمان، ثم أنظر بعيدا هنا وهناك وأنا شاعر بشىء من التوتر والحزن، قال لى أحدهم: ماذا؟ قلت له: والله لو استطعت أن أتكلم لقلت للمسلمين- فى الشمال والجنوب، والشرق والغرب، فى أفريقيا وآسيا وبقاياهم فى أوربا وأمريكا - لقلت لهم جميعا: افتحوا أعينكم بقوة، أيقظوا أعصابكم بحذر، احذروا إن الإسلام فى خطر !!. قلت هذه الكلمة فى وسط جزيرة العرب: إن أعداء الإسلام لهم من اليقظة والمنعة والقدرة والمكر والذكاء ما جعلهم يصنعون الكثير لضرب الإسلام والنيل منه. قلت هذا وأنا أرى أن الدم الإسلامى يسفك بغزارة فى دمشق ، ص _182(1/164)
يسفك بإرخاص وقلة اكتراث، ألوف من الناس ضاعت بالحديد والنار!! قلت هذا وأنا أرى أن الإسلام يحاط به فى أماكن كثيرة، لكنى كنت أدرك أن ما أصاب الأمة الإسلامية لعله بعض النار التى تشتعل فى الحديد كى يتطاير ما فى الحديد من أخلاط وأوشاب حتى يبقى المعدن صافيا ويتلاشى ما هنالك من دخن . إن الأمة الإسلامية تحتاج إلى أن تعرف الكثير من الحقائق التى ترشحها للحياة، والتى تعيدها كما قال ربعى بن عامر: " إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ". الأمة الإسلامية فى عصرنا هذا اشتغلت بالشكليات أكثر من الحقائق وعنتها الصورة أكثر عناها الجوهر، فكانت النتيجة أن بقيت تتحرك مكانها من أمد، ولكى تتحرك إلى هدفها وتبلغ هذا الهدف يجب أن تعرف الحقائق كاملة. حقائق الدين: إيمان، وإخلاص، وفكر نقى، وفقه ذكى. حقائق الدين غابت عن المسلمين فى بقاع كثيرة. الشكليات لا يحترمها الإسلام ولا يعطيها من تفكيره شيئا. خذ مثلا الثياب، بعض الناس فى طباعه أن يجمل نفسه ويحسن هيئته ويتجمل فيما يرتدى حتى فى نعله، فعن ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر قال رجل-: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: " إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس " . هل معنى هذا أن الثوب الحسن شارة الإيمان؟ لا، هناك حديث آخر يقول: رب أشعث أغبر ذى طمرين تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبره " . ص _183(1/165)
ربما ارتدى ثيابا رخيصة، ربما كانت أطماره البالية لا تساوى شيئا، فهى كما قال الشافعى- قيل يصف نفسه: على ثياب لو يباع جميعها بفلس لكان الفلس منهن أكثرا وفيهن نفس لو تقاس بمثلها نفوس الورى كانت أجل وأخطرا ما اهتم الإسلام بالثياب، ومع ذلك فقد ذهب بعض المسلمين إلى الولايات المتحدة وإلى المملكة المتحدة يعرض الإسلام على أنه ثياب بيض وأكل على الأرض !! ليس هذا فقها فى الإسلام، وليس هذا عملا مجديا لنشر الإسلام. أين من هذا قول ربعى بن عامر: " إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ". لا تعرض الإسلام من نعله اعرض الإسلام من قمته. أين هذا من قول النبى صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضى الله عنه يعلمه كيف يعرض الإسلام: " إنك ستأتى قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم. واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب " . ص _184(1/166)
مضت الشكليات بالأمة الإسلامية فتحول الإسلام إلى مظاهر. ثم يجىء الحج الآن، وأقول فى نفسى هل الحجاج الذين ذهبوا إلى الموسم الجامع يعرفون كيف كان الحج أيام النبى عليه الصلاة والسلام؟ لا، لا الحكومات ولا الشعوب تدرى هذا!! حجتان فى عهد النبى عليه الصلاة والسلام معروفتان، حج أبى بكر رضى الله عنه بالناس، وحج النبى عليه الصلاة والسلام فى حجة الوداع. فأما حج أبى بكر رضى الله عنه بالناس، فإن الموسم الجامع لم يذهب سدى، وإن الحشود التى التفت بالبيت الحرام طائفة أو ازدحمت بها ساحات عرفة داعية حاسرة ترجو رحمة الله وتخشى غضبه، هذه الجموع ما تركت هكذا، وإنما تقرر فى هذه السنة- السنة التاسعة- تنظيف المجتمع الداخلى للأمة الإسلامية من المشركين، وتقرر منع طواف العرايا بالبيت العتيق وتقرر إلى جانب هذا إلغاء المعاهدات غير المتكافئة الواقعة بين المسلمين وغيرهم، ومد فترة أربعة أشهر لمن يريد أن يبقى فى أرض الإسلام معتقدا عقيدة التوحيد. هذا المعنى الشامل الجامع هل يعرف جماهير المسلمين موضوع حجة أبى بكر بالناس؟ لا، حتى سورة براءة التى نزلت فيها يجهلها الناس أو ما يقرءونها فى صلاة، كأنها ثقيلة على آذانهم أو على قلوبهم أو على مسالكهم لماذا؟ لأنها سورة صفت المجتمع من أدرانه، وغسلت الأرض الإسلامية مما يشوبها، وكأن الناس تكره الدواء المر. ثم جاءت حجة النبى عليه الصلاة والسلام بالناس، فماذا أودع فيها؟. كان يعلم أنه تارك هذا الركب ينطلق إلى غايته وحده، فطمأنهم، إنه لعله لا يلقاهم بعد يومه هذا، لكن إذا كان لا يلقاهم بشخصه فقد قال لهم: " تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله " . ثم بين فى هذه الحجة حرمة الدماء والأموال والأعراض، ونقول هذا ص _185(1/167)
ووجوهنا سوداء ، لأن الأمة الإسلامية فى هذه المناسبة تسفك دمها كأنه ينابيع فوارة فى الخليج وفى إيران وفى غير هذا من الأرض، ومن المخطىء ؟ السلاح شيوعى أو أمريكى، لكن الغباء غباؤنا، والانحلال انحلالنا، ما الذى يجعلنا نسلم أرواحنا ومستقبلنا وأرضنا و تفكيرنا لهذه المؤامرات الخسيسة كلها؟. كانت حجة الوداع تعليما للبشرية أنه لا قومية: "أيها الناس: ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربى على أعجمى ولا لعجمى على عربى ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى". ثم نادى النبى عليه الصلاة والسلام فى هذه الحجة الجامعة بأن الأسرة الإنسانية واحدة، وأن الأسرة الإسلامية تبنى على رجل وامرأة بينهما تراحم و تعاون. إن هذا كله يعطينا أن الإسلام موضوع لا شكل، وأنه حقيقة لا صورة. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. إن أمتنا فى هذه الدنيا تحيا لربها، وتسيير فى الركب الذى رفع لواءه محمد عليه الصلاة والسلام. فلنعرف رسالتنا ولنقدرها قدرها، ولنؤد حق الله علينا. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. * * * ص _186(1/168)
الخطبة الثانية الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين . أما بعد: فانتظروا أيها الإخوة دقائق أخرى، فإن أمامكم أياما من المرح واللهو إن كنتم عشاق مرح أو لهو، نستطيع أن نتحمل هذه الدقائق لكى نتعرف أمورا أخرى، إننا بحاجة إلى بعض التوجيهات التى لابد من معرفتها. ديننا كما قلت لكم دين حقائق لا دين مظهريات، والشباب الذى يعمل له يحتاج إلى دعمكم وإلى تأييدكم، وإذ أنتهى من هذه الكلمة على عجل بالدعاء فإني ألفت النظر إلى أن الأخ/ محمود الراوى الذى اختير أميرا جديدا للجماعة الإسلامية فى الجامعة سوف يتحدث بعد أن أتم الدعاء. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) . * * * ص _187(1/169)
شهر له فلسفة خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه فى 21/9/1973 الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإن أياما طيبة توشك أن تفد إلينا، ربما كانت الجمعة المقبلة اليوم الأول من رمضان، إن بشائر الموسم الكبير- موسم العبادة والتقوى- تهب علينا، وتستروحها قلوبنا، وإن كان المرء يتساءل ما أسرع ما عادت الأيام ورجعت الذكريات!! إن قطار الزمن يجرى بسرعة غريبة إنه لا يتوقف فى محطة أبدا إنه دائب الحركة ليلا ونهارا !. وإذا ألقى الإنسان نظرة خلفه إن كان قد بلغ العشرين أو الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين أو أكثر أو أقل فإنه يشعر أن الأيام التى عاشها والليالى التى قضاها قد تداخل بعضها فى البعض، وأصبحت كتلة واحدة منكمشة مبهمة لا يدرى بالضبط إلا أنها أصبحت ماضيا تركه خلفه ولن يعود!!. الإحساس بالزمن غريب، لأن الناس يوم يلقون ربهم سيشعرون بأن الأعمار كلها وقد أصبحت ماضيا انكمشت وتداخلت أجزاؤها بعضها فى البعض الآخر، وأصبحت شيئا قليلا : ص _188(1/170)
(قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون) . تكرر هذا المعنى فى القرآن، فهو جل شأنه يتحدث عن الساعة: (يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا * يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما) . والواقع أن الإنسان يبقى على ظهر الأرض مدة طويلة، الطفل فيها يشب والشاب فيها يشيخ، ومع ذلك فالمرء ينظر إلى عمره الذى خلفه فلا يجد إلا أن هذا الماضى الطويل قد أصبح هذه الكتلة المنكمشة من زمن مبهم لا يدرى أوله ولا آخره، ولكن الإنسان الذى لا يدرى ما كان، يجب أن يعلم أن الله يسجل عليه كل ما كان (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) . وقد مرت سنة، ففى مثل هذه الأيام كنا نتهيأ لاستقبال شهر رمضان المبارك والآن نتهيأ لاستقبال شهر آخر حتى نلقى ربنا !. نرجو أن ننتفع من الزمن الذى هو رأس مالنا، هو هبة القدر الأعلى لنا، إنه لا يجامل، إنه إما صديق، وإما عدو، صديق إن انتفعت به، وعدو إن أهملته وأضعته. ورمضان يجىء، ولا نتحدث عنه طويلا، إنما نريد أن نتحدث عن فلسفة الإسلام فى العلاقة بين الروح والجسد، لمناسبة صيام المسلمين فى رمضان، فإن هذا الصيام فى حقيقته ترويض للغرائز البشرية العاتية، فليس هناك أعتى من غريزة البطن التى تطلب الأكل باستمرار!! وليس هناك أعتى من غريزة الجنس التى تريد أن تنفس عن تطلعها باستمرار !!. والبشرية قد تنكب نكبة قاصمة إذا هى لم تحسن تحديد موقفها من كلا الأمرين، والمتأمل فى سير القافلة الإنسانية يجد أن هناك فلسفتين ، ص _189(1/171)
استطاعتا أن تسيطر على جماهير كثيفة من الناس، فلسفة مادية موغلة. فى المادة، وفلسفة روحية موغلة فى الروح. فأما الموغلون فى الفكر المادى من ملحدين، ومن شيوعيين، ومن وجوديين ومن وثنيين، فإنهم يعيشون ليومهم الحاضر، ويطلقون العنان لغرائزهم فما تقف عند حد، إنهم يطلبون المتع!!. وطبيعة البشر أنهم إذا أحرزوا نصيبا من الشهوة استهانوا بما أحرزوه وازدروه وطلبوا شيئا أكثر وأعلى. ولذلك فإن الشهوات البشرية مسعورة يسلم بعضها إلى بعض، ويتطلع من حاز قليلا إلى كثير، ومن حاز الكثير إلى أكثر ! ومن هنا فإن القرآن هدد هؤلاء: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم) . إنهم فى هذه الدنيا فارغو البال يجرون وراء نزواتهم، ويقطعون الطريق إليها فى خفة، لكنهم يوم القيامة يدفعون ثمن هذا مرارة، يشعرون بغصتها فى حلوقهم، ويقال لهم: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون) . هذه فلسفة مادية، هناك فلسفة روحية قامت على الرهبنة، ورأت أن من عبادة الله كبت الغريزة الجنسية، وسحق نوازعها، واعتبار القرب من الله على أساس أن يميت المرء فى بدنه نوازع التطلع إلى الجنس الآخر، وأن يحيا بذلك رجلا كان أو امرأة، وربما استعان على ذلك بتقليل الطعام حينا، المهم أنهم دخلوا فى معركة ضد الجسد البشرى وهذه الفلسفة تبنتها الكنيسة المسيحية من قديم !!. ولكن من التقرير للواقع أن نقول: إن الفلسفتين قاتلت إحداهما الأخرى، وإن عواصم الغرب الآن سحقت فلسفة الكنيسة، وتخلصت ص _190(1/172)
منها، وإن عواصم أوربا الآن تنفق من وقتها، ومن مالها أغلب ما تكسب وقودا لشهوات الجسد!! وإن فلسفة الروحانية اختفت،وان الكنائس المسيحية ليس لها رواد حتى يوم الأحد، وإن المسيحية إذا كان لها وجود أو ازدهار فبين الأقليات التى تعيش فى العالم الإسلامي !! . ولذلك أسباب قد ندرسها فيما بعد، أما قصة إماتة الجسد، وقتل الغرائز بالرهبنة، فإن هذه القصة قد تلاشت، وتوشك الآن أن تنتهى بل إن الرهبنة نفسها أصبحت شيئا يفر منه أصحابه سرا أو علنا !. والواقع أيضا أن الإسلام كان دينا منصفا عندما احترم الروح والجسد معا، وعندما اهتم بالخصائص العليا للإنسان ، وفى الوقت نفسه كفل ضرورات الحياة للغرائز الدنيا، فجعلها تتحرك ولكن داخل إطار معلوم، وسياج حارس، وتقاليد ضابطة، وفضائل معروفة مقصاة، فترك الغريزة الجنسية تأخذ مداها فى بيت الطاعة، فى فراش الزوجية، ومنع ما وراء ذلك منعا صارما حاسما! وأباح للإنسان أن يأكل، ولكنه بين له أن القصد والعفاف خير له وأولى، وفى هذا يقول النبى عليه الصلاة والسلام: " كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا فى غير إسراف ولا مخيلة " أى إسراف وخيلاء.. كل والبس فى غير إسراف ولا خيلاء . صالح الإسلام بين الروح والجسد، فقال عليه الصلاة والسلام وهو يحافظ على جسده وروحه: " اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة، فإنها بئست البطانة!. وقال فيما صح عنه: اللهم إنى أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم ص _191(1/173)
إنى أعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت " الكفر ضياع الآخرة والفقر ضياع الدنيا !!. والإسلام كفل الاثنين معا: (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين) . الإسلام فى تعاليمه يريد تزكيتك، ورفع مستواك، فيطهرك جسدا بالغسل والوضوء، ثم يطهرك روحا بالركوع والسجود!! الإسلام جسد وروح، دنيا وآخرة وبين الإسلام حقيقة تعرف مع فلسفة الصيام، هذه الحقيقة أن الإنسان وإن كان قد نبت من الأرض جسده فإن قيمته ليست فى هذا الجسد الذى يطعم ويكتسى، ولكن قيمته فى الروح الذى يحركه. الإنسان من حيث هو جسد لا كرامة له، وما كلف أحد بأن يسجد له، إنما كان التكريم، وتكليف الملائكة بالسجود له، بعد شىء آخر، قال تعالى: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) . فسجود الملائكة لآدم إنما كان بعد أن سواه ربه ونفخ فيه من روحه، قبل أن ينفخ فيه من روحه. قبل أن يسويه بالعقل والشعور والإحساس كان طينة.من الأرض، إذا تحركت بحياة حيوانية فلا وزن لها، إنما الإنسان فى أنه نفخة من روح الله . والناس بعد ذلك قسمان: قسم يعرف من نفخ فيه من روحه ؟ من ص _192(1/174)
كرمه على سائر الخلق؟ قسم يعرف هذا، ويشكر ولى النعمة رب العالمين الذى سوى وكرم. هذا القسم هو المؤمن، عرف نسبه السماوى، وعرف الفضل الأعلى الذى أسبغ عليه فهو جدير بأن يحترم وأن ينعم فى دار الخلد. وقسم آخر: نسى ربه، نسى من نفخ فيه من روحه، نسى من برأه من عدم، نسى هذا كله، ولذلك يعاتبه ربه ويقول: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك) . لماذا تنسى؟ إذا كان الإنسان وهو فرد يؤمن ويكفر، أو ينسى ربه أو يذكر، أو يجحد نسبه الأعلى أو يعترف به، فكذلك الحضارات، وأنا آسف إذ أقول: إن العالم الآن تنفرد بزمامه حضارات ذهلت عن ربها، ونسيت حقه فإما أنكرت هذه الحضارات رب العالمين بتة كما تفعل الشيوعية، أو اعترفت به على نحو مضحك كما جاء فى العهد القديم عندما يوصف رب العالمين بأنه أكل من الوليمة التى صنعها إبراهيم عندما ذبح له العجل السمين وقال له: يا رب إن كان عبدك له نعمة عندك فكل من وليمته.. فأكل الله من وليمته ! هذا النوع من تصوير الألوهية رفضه العقل الإنسانى ، فكانت النتيجة أن ناسا إما كفروا صراحة، وإما انتسبوا إلى أديان لم تملأ فراغهم النفسى فعاشوا بأفئدة فارغة، وكملوا هم طريقة معيشتهم واتجاه سلوكهم على ما يشتهون !!. وهذا العالم تنقصه حضارة أخرى.. حضارة تعترف بالروح والجسد.. وتخدم الدنيا والآخرة.. وتحدد حقوق الناس إلى جانب ما لرب العالمين من حقوق.. هذه الحضارة.. هى الحضارة الإسلامية.. وهى حضارة ليس لها الآن من دعاة فى العالم.. وليس لها من كيان أدق محترم.. وليس لها عالم تأرز اليه، وتستجمع فيه وتقدم نماذج من تكوينها المادى ص _193(1/175)
والأدبى لينظر الآخرون إليه، ويوازنوا بينه وبين غيره. إن المدنية الإسلامية، أو الحضارة الإسلامية، أو المنطق الإسلامى فى فلسفة الدنيا والآخرة، والروح والجسد غير قائم الآن؛ لأن الأمة الإسلامية أمة ممزقة، وليست لها وحدة ثقافية يتبناها معهد عريق يستطيع أن يقدم النضارة الروحية والمادية لهذه الحضارة العظيمة. وكانت النتيجة أن بقى الناس كما وصف رب العالمين عند ظهور البعثة الأولى، أو عند ظهور محمد عليه الصلاة والسلام: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) . نعم.. أكثر الناس لا يعلمون علماء الإسلام بين مقصر يجبن عن أداء واجبه خوفا على رزقه، أو خوفا على أجله، أو كسلا حيث يجد الجد ويطلب الرجال أو إخلادا إلى الأرض واتباعا للهوى وطلبا للدنيا!!. أما العلم الإسلامي كما ينبغى أن يقدم، فالواقع أن أجهزته بين معطوب وكسلان الفلسفة الإسلامية لم نجد إلى الآن من يقدمها للناس. قال لى بعض الوافدين من عواصم أجنبية: والله لقد رأيت شبابا فى " باريس " من الفرنسيين اعتنقوا البوذية- وما البوذية؟ نحلة مضحكة، -نحلة وثنية- قال لى: وجدتهم حلقوا رؤوسهم على الطريقة البوذية حلقوها بالموسى وتركوا بعض الشعر فى وسطها ناميا لكى يدل على أنهم بهذا بوذيون !. قلت فهل للإسلام دعاة؟ لا، وبداهة امتداد الإسلام فى هذه العواصم إنما هو فرع قوته فى بلاده، والإسلام فى بلاده شاحب الوجه، خائر القوة، محدود الخطو !. يجىء رمضان فتبدأ قصة الصيام، وأنا لا أعلق على صيام المسلمين لأني أعلم أن رمضان شهر الطعام لا شهر الصيام، شهر الأكل والمتع، ص _194(1/176)
وليس شهر تدريب الغرائز وتكوين الإرادات، دعنا من هذا فلا أتحدث عنه إنما أتحدث عن ليالى رمضان، فإن الله جل شأنه لأمر ما أنزل كتابه فى هذا الشهر، بدأ نزول القرآن فى شهر رمضان، وكان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يضاعف من إقباله على القرآن الكريم، ومن مدارسته له، يضاعف، فهو طول العام يقرأ القرآن، ولكنه فى شهر رمضان يضاعف الدراسة وكلمة الدراسة شىء آخر غير القراءة العابرة، أو التلاوة المجردة، لأن القراءة العابرة نوع من حفظ الحروف، التلاوة المجردة نوع من ترتيل الكلمات، لكن روح القرآن فى معانيه، ويوم تقرع المعانى نفوس الناس، ومع ذلك تبقى هذه النفوس موصدة الأبواب، تبقى وعليها أقفالها فإن المشكلة كبيرة: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون). المسلمون لا يعرفون عظمة هدا الكتاب الذى شرفوا به. لكى نعطى لمحة من عظمة هذا الكتاب أقول لكم: ان الله جل شأنه جعل هذا الكتاب موازيا أو مساويا للكون الذى نعيش فيه، عندما وصف نفسه، رأيت أنه جل جلاله وصف نفسه بأمرين: أمر يقول فيه: أنا خالق الكون، وأمر يقول فيه: أنا منزل الكتاب، فجعل خلق الكون وإنزاله الكتاب صفتين كلتاهما تعادل الأخرى. تأمل فى قول الله تعالى وهو يذكر بركته، ويشرح نعمته، ويلفت النظر إلى ما فى الوجود من ثمرات دانية القطوف، ومن آيات رائعة الدلالة يقول مرة: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير) تبارك : كثرت بركته. ويقول مرة أخرى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا). فمرة.. تبارك من بيده الملك، ومرة.. تبارك من أنزل هذا القرآن، وعندما حمد ربنا نفسه، و أثنى على ذاته بما هو أهله قال مرة: (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور). فبين أنه أهل الحمد لأنه خالق الكون، وموجد ما يتخلل الكون من ظلام ونور، ويقول مرة أخرى: ص _195(1/177)
(الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا) ، كما وصف نفسه على هذا النحو، أقسم كذلك على هذا النحو. أقسم بعظمة الكون وأبعاده، وعلماء الفلك لهم حديث مذهل عن السنين الضوئية، وعما بين الكواكب من مسافات تسمع رب العالمين وهو يقول: (فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين) بمواقع النجوم أقسم، بالكون أقسم، ويتكرر القسم فى مواضع أخرى من القرآن: (فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون * إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين) . ويقول: (فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس * والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس * إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين * وما صاحبكم بمجنون) . فى هذه الآيات يصف رب العالمين الفترة قبل بزوغ الشمس وقبل مطلع الفجر والكون فى حالة ترقب لليوم الجديد الذى يطل على الناس ليفتتحوا معه صفحة جديدة، إنه يقسم بهذه الحالة لكى يلفت النظر إلى أن من أراد الهدى ففى القرآن هداه!! ومن أراد الحق ففى القرآن أمله، ومن أراد النصر والعزة ففى القرآن ما ينشده: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) . نحب أن نقول: ان هذا الكتاب جاء إلى الناس حياة تذهب الموت الأدبى، الموت العقلى، الموت الحضارى!!. الأمم محتاجة إلى عصر إحياء ، فمن الذى يحييها ؟ (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ..) . ما مصدر هذا النور الذى نمشى به بين الناس؟ ما مصدر هذه الحياة ص _196(1/178)
التي أذهبت الموت الأدبي والمادى فى الأمم؟. إنه القرآن. القرآن الذى جاء إلى أمة على هامش الدنيا فما زال يرتفع بها حتى جعلها قمة الوجود إ!. أمة كان ترتيبها " 130، ص 0 " لو نظرنا إلى عدد الأمم فى هيئة الأم المتحدة الآن، أصبحت أمة رقم 1 فى العالم!! ليست أمة رقم سنة أو سنتين أو خمسين سنة، بل عدة قرون . من الذي بوأها هذه المكانة؟ من الذي رفعها إلى هذا المستوى؟. إنه القرآن الكريم.. ولذلك فإن النبى صلى الله عليه وسلم حض على دراسته، حض على قراءته قراءة بحث واستطلاع وتفقه وترتيل، لذلك كان القرآن فى رمضان النور الذى تضاء به الليالى وتبيض. ومن أعجب ما قرأت فى وصف ليالى الصالحين الذين يقرأون القرآن، والذين ينتفعون بوعده ووعيده، وأمره ونهيه أبيات لشاعر من الشعراء وصف من يقومون الليل فقال : تتجاقى جنوبهم عن وطىء المضاجع كلهم بين خائف مستجير وطامع تركوا لذة الكرى للعيون الهواجع ورعوا أنجم الذجى طالعا بعد طالع لو تراهم إذا هم خطروا بالأصابع وإذا هم تأوهوا عند مر القوارع وإذا باشروا الثرى بالخدود الضوارع واستهلت عيونهم فائضات المدامع ودعوا يا مليكنا يا جميل الصنائع اعف عنا ذنوبنا للوجوه الخواشع اعف عنا ذنوبنا للعيون الدوامع أنت إن لم يكن لنا شافع خير شافع فأجيبوا إجابة لم تقع فى المسامع ليس ما تصنعونه أوليائى بضائع تاجرونى بطاعتى تربحوا فى البضائع وابذلوا لى نفوسكم إنها سفى ودائعى ص _197(1/179)
هذا قيام الليل فى رمضان، بعد صيام كما وصف نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم صيام يرتفع به مستوى الصائم فيتحول فى المجتمع إلى عنصر رحمة، إلى عنصر سلام، إلى عنصر طمأنينة وزكاة نفس وشرف خلق، ونضارة سيرة: " وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم " . الرفث: هو الكلام العيب، الصخب: الكلام الذى لا معنى له ولا خير فيه، والذى هو ضجة ليس لها عقل، إنى صائم، أى لا يكون سبابا مع السابين ولا شتاما مع الشتامين. هذا الشهر المقبل فيه فلسفة الإسلام فى ربط الدنيا بالآخرة، ربط الروح بالجسد، ربط الأرض بالسماء، ربط البشر بالوحى الإلهى، ربط الدنيا بالكتاب الذى أضاء لها الطريق، وحدد لها الغاية شهر ينبغى أن يعرف المسلمون فضله، وأن يستعدوا له. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. * * * الخطبة الثانية الحمد لله (..الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) . وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد الصالحين . اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين . ص _198(1/180)
أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل، واعلموا أيها المسلمون أننا قد تسلل إلى مجتمعنا ما أفسد المجتمعات الأولى . المجتمع الإسلامي عندما بدأ كان مجتمعا ناضرا حيا، كان الوحى فيه غضا طريا، كانت النبوة ترشد الناس إلى المسالك الشريفة، والمستويات العالية فيرتفعون معها، ويبذلون الجهود فى الاستجابة لها لأنهم يعلمون أن الحياة الحقيقية فى الاستجابة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم : (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ..) لكن فساد الأديان يجىء من أن بعض الناس ينتسب إليها شكلا، ويرفضها موضوعا، يأخذ شارة الدين من فوق، ولكنه فى الخبىء ما بينه وبين الله لا يعرف من الدين لا حقيقة ولا كيانا صالحا. عندما حقر الإسلام بعض رجال الدين الأوائل قال فى وصفهم: ليسوا رجال دين، هم تجار دين، يأكلون بالدين ولا يخدمون الدين، يأكلون الجماهير ولا يهدون الجماهير قال فيهم ربنا: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله) . سبحان الله، أحبار ورهبان، مفروض أن تكون وظائفهم أن يقتادوا الناس إلى الله، وألا يرزؤوا أحدا فى ثروته أو ماله أو ما يحرص عليه من دنياه، لكن هؤلاء الأحبار والرهبان عاشوا كما تعيش الطفيليات على الجسد البشرى فهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله. إلى جانب هذا فإن جوهر الدين هو القلب السابح فى معرفة الله، الواعى للوجود الإلهى حوله، الشاعر بالرقابة العليا ما تنفك عنه ليلا أو نهارا. هذا هو التدين، وعندما يفسد التدين يأخذ الناس الغطاء الذى يظهر فوق تعاليم الدين، أما الدين نفسه فيكون قد ضاع من قلوبهم. المجتمع الإسلامي الآن يصوم، وله فى صيامه تقاليد غريبة. قد يقرأ القرآن واستمعت إلى سورة الرحمن، والقارىء يقول : ص _199(1/181)
(كل من عليها فان) فإذا المستمع يقول: الله، الله.. أعد، ما هذا هل يعنى هذا الإنسان أن الآية تهدده بالهلاك، بالفناء، وأن الآية تشير إلى أن الوجود من حوله سوف يتلاشى، ويعود إلى ربه ليحتكم الطائع والعاصى، والمؤمن والكافر، ويشرح كل شىء مرة أخرى أمام الله ليبت فيه، ولتبيض وجوه وتسود وجوه. هل الذى يقرأ.. هل الذى يسمع يعى شيئا ؟. هذا نوع من التلاعب بالدين والقرآن، ليس هذا إلا حفاوة بالنغم أو حفاوة بشكل القرآن. وتسالى رمضان، هل ليالى رمضان للتسالى ؟ للسهر المجنون؟ للغو الفارغ ؟ للعبث التافه؟. ومن الذى يتسلى؟ ربما عذر الفارغ إذا تسلى،… فى الجاهلية التى لا ضوء فيها وجدنا شابا من أصحاب الخمر والنساء، عاش طول عمره صعلوكا ضئيلا هو: " امرؤ القيس " كان عاهرا، لما قتل أبوه شعر بالصدمة توقظه من ذهوله فقال: " اليوم خمر وغدا أمر ". الشاب الماجن ترك مجونه وأخذ يعمل لإدراك ثأره، والاقتصاص لمقتل أبيه، فلما أعياه أن يدرك ثأره، لأن قبائل العرب لم تسعفه قرر أن يذهب ومعه صديق له إلى بلاد الروم، وكان الصديق مخلصا ورأى الشاب الناعم الذى عاش فى الملذات ومجالسها، رآه يتعسف الطريق ذاهبا إلى غربة بعيدة فبكى، فقال امرؤ القيس: بكى صاحبى لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لا حقان بقيصرا فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا والله لوددت أن المسلمين اتبعوا حتى هذا العربى فى الجاهلية، إنهم يقولون: وأنا أعرف- نحن قوميون عرب أو بعثيون عرب، كونوا قوميين عربا، كونوا بعثيين عربا، كونوا عربا، أهذا المسلك الذى تسلكونه والبلاد محتلة، وأعداؤها جاثمون على صدرها، وسواد الذل يقطر من وجهها، ويراه أهل المشرق والمغرب فيتضاحكون منه؟. هل هذا وقت التسالى ، التسالى إنما هى وظيفة القلوب الميتة ص _200(1/182)
والأعصاب الهالكة، والسير الباردة، ومن يريد أن يعيش لا ليقول: اليوم خمر وغدا أمر، لا، اليوم خمر، وغدا خمر، وبعد غد خمر. لابد أن نصحو، لابد أن نستيقظ، ليالى العبادة لا تكون ليالى تسلية، ليالى العبادة تكون ليالى إقبال على الله. شهر رمضان موسم طاعة، ومواسم الطاعات جعلت معالم فى حياة الناس كى ينتهوا إليها ليبدأوا من عندها صفحة جديدة، ولذلك لابد لاستقبال الشهر من نية جديدة لمن أراد رضوان الله، نية جديدة.. أن أغير من حياتى كذا وكذا بالتحديد، أن أجدد فى حياتى كذا وكذا بالتعيين. هذا هو مفهوم مواسم العبادة، أما أن تجىء أنثى لذعها الهجر وغياب الحبيب فتتأوه ليستمع الصوام أو القوام إلى تأوهاتها، ويحتفل الناس بهذه التسلية فهذا نوع من العبث الذى تهلك به الأمم .. إن الله أهلك الأولين لما لعبوا بالعبادات، وأخذوها شكلا ولم يتحركوا بها قلبا!! وحذرنا ربنا أن نجرى وراء هذه المسالك الطائشة فقال: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) . " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر ". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) . عباد الله : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) . وأقم الصلاة * * * ص _201(1/183)
اللعب بدين الله خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه 25/5 /1973 الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين . أما بعد:. فإن جمهورا كبيرا من المسلمين تسيطر عليه عقيدة الجبر، وعقيدة الجبر هذه تعنى أن يتصور الإنسان نفسه لا قدرة له ولا إرادة، لا حرية له ولا اختيار، وأنه فى هذا الكون أشبه بالريشة المعلقة فى الريح، تهبط بها أو ترتفع، أو كما قال بعض الناس: ألقاه فى اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء وهؤلاء الذين تسيطر عليهم عقيدة الجبر، وهم للأسف جمهور كبير جدا من المسلمين، يرون أن قيمة العمل صفر، فربما اشتغل أحدهم بالعبادة، ثم كان من أهل النار، أو اشتغل بالفسق والفجور، ثم كان من أهل الجنة لماذا؟ لأنهم تصوروا أن الأمر جبر، قدر، شىء مكتوب لا دخل للناس فيه !. رمى الله بفريق من الناس فى الجنة، ورمى بفريق من الناس فى النار ؛ ولعل بعضهم يتصور أن هذا باب من التقوى، أو لون من التسليم لله ص _202(1/184)
فلو رأيت أحدا على معصية ثم حاولت أن تزجره لقال لك: (ولو شاء ربك ما فعلوه) لايقع فى ملكه إلامايريد، أقام العباد فيما أراد، لعل الله يهديه !! هذا الكلام الذى انتشر فى الأمة الإسلامية أوهن قواها وأسقط مكانتها، وأذل جانبها، وجعلها فى دنيا الناس أمة متبلدة متحجرة، ينطلق أهل الأرض فى فجاج الأرض ليملؤوها نشاطا أو حركة، وأولئك الناس كسالى واهنون لأنهم يرون أنهم مسيرون، وأنهم لا عزم لهم ولا إرادة ، وهم فى دين الله كذلك ما ينشطون إلى طاعة، وما يجتهدون فى خدمة الإسلام أو خدمة أنفسهم بشىء طائل، لأنهم تصوروا أنفسهم آلات فى يد القدر الأعلى، وأنهم يخطون ما سبق أزلا أن كتب عليهم. وعلى هذا النحو عاش المسلمون فى نوع من الإحساس الغامض بأنهم أشياء مسخرة، وقد قلت: إن هذا الإحساس كان من أسباب ضياع المسلمين وسقوط دولتهم وانهيار حضارتهم. هل هذا الكلام صحيح من الناحية الإسلامية ؟ . هذا الكلام باطل كلا وجزءا، من الناحية الإسلامية ليس له سند من دين الله فى قليل أو كثير، ولكن سبب شيوعه أن الأمة الإسلامية استولى على مقاليدها الثقافية نفر من أهل العلم لا يفقهون القرآن، ولا يعرفون السنة، ولا يدرسون التاريخ، ولا يدركون شيئا من سنن الله فى كونه. القصور العلمى عند كثير من الناس الذين اشتغلوا بالتوجيه سبب هذا التخريب العقلى للأمة الإسلامية . شىء آخر، رغبة كثير من الناس فى أن يجد فتوى لسقوطه، أوعذرا لهبوطه، أو مسوغا لانحرافه جعله ينفض الأمور من بين يديه أو من على كتفيه ليقول "وأنا مالى "!! هذا شىء كتب على وغلبت على أمرى!. رغبة الإنسان فى الخلاص من المسئولية تجعله يكذب على الله وعلى الناس أهذا هو السبب فى انتشار عقيدة الجبر، وهى عقيدة قال علماء المسلمين الأصلاء الفقهاء: إنها كفر بالله !! ص _203(1/185)
هل هذه العقيدة نشأت بين المسلمين من فرط التدين؟ لا،- لأن هذا الكلام فى الحقيقة كلام المشركين قديما، فإن بعضهم جاء إلى النبى عليه الصلاة والسلام وهو يعلم الناس، اوينصح للأمة،، ويأخذ بيدها إلى الخير جاء إليه بعض هؤلاء " الشطار " وقالوا له: لم تتعب نفسك؟ الله قادر على أن يهديهم، الله قادر على أن يصلح أحوالهم، الله لو شاء لجعلهم صالحين. يحرمون ما حرم، ويحلون ما أحل، ونزل قوله تعالى يحكى هذه الأكذوبة ، فجأء فى سورة الأنعام قوله: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) . وفى سورة أخرى، اعتذر المشركون عن شركهم: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون * أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون) . أين هذا الكلام؟ لا أصل له، وفى سورة النحل: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) . إن هذا الاعتذار بالجبر أو بإرادة الله، كلام فى غاية السقوط والضلال، وربما ذهب البعض إلى دين الله له ليأخذ منه كلاما لا يفهمه يريد أن يفسد به الدين، ربما يقرأ قوله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) أو يقرأ قوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها .. ..) . يقرأ هذه الآيات، فكيف يفسر هذه الآيات؟ يجيء للآية: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها .. ..) فيفسرها ص _204(1/186)
بدماغه على هذا النحو، كنا قادرين أن نجعل الناس جميعا مهتدين ولكننا قسمنا بعضهم للجنة وبعضهم للنار، وسقنا هذا إلى مصيره، وسقنا هذا إلى مصيره، ونحن لا نسأل عما نفعل!!. هذا هو التفسير السمج السخيف الذى يتطاول به على القرآن الكريم بعض من لا عقل له، ومن لا دين له، ليفسد به الإسلام وليشغب به على آيات القرآن: وسنرى من عشرات الآيات أن هذا كذب لأن معنى الآية: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها .. ..) أو (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) . معنى ذلك؟ قال العلماء.. أن الله عز وجل بيقين كان قادرا على أن يخلق البشر ملائكة، ومعنى أنه يخلقهم ملائكة أنهم لا يستطيعون معصية (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) . ولو شاء لجعلهم حيوانات جميعا فيسقط عنهم التكليف، ولا يختلفون فى شىء ولكن الله شاء غير هذا فما خلق البشر ملائكة، ولا خلقهم حيوانات ولكن خلقهم جنسا يستطيع أن يرقى وأن يهبط، يستطيع أن يستقيم وأن يعوج، يستطيع أن يذهب يمينا بحريته وإرادته، وأن يذهب يسارا بحريته وإرادته، هكذا شاء أن يخلق البشر صالحين للأمرين من رفعة وضعة، من طاعة ومعصية، هكذا شاء أن يخلقهم، وبين فى كتابه أنه خلق البشر هكذا، إن الله خلق خلقا كثيرين، خلق الجماد لا يحس، خلق الحيوان يحس ويتحرك ولكن لا عقل له، خلق الإنسان يحس ويتحرك وله عقل وشهوة، خلق الملائكة تحس وتتحرك ولها عقل وليست لها شهوة، وهكذا، والقول بأن جميع مخلوقات الله متحدة الخصائص والصفات غباوة وجهل، خالف الله بين صفات المخلوقين وكلف بقدر ما خالف، ولهذا يقول موضحا الحقائق: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد) . ويقول مبينا الحرية الإنسانية : ص _205(1/187)
(ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها) . ويؤكد حرية الإنسان وإرادته فى آيات كثيرة فيقول: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ويقول: (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها) ويقول: (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) . ربما خطر ببال بعض الناس أننى سقت بعض الآيات التى تقرر حرية الإرادة ومشيئة الإنسان واختياره، ولكننى تجاهلت الآيات التى تتحدث عن الإرادة العليا والمشيئة العليا، وهؤلاء يتصورون أن القرآن يضرب بعضه بعضا، أو يكذب بعضه بعضا، وهذا جهل فاضح، حقيقة هناك آيات كثيرة لعلى أقربها على الألسنة قول الله فى آيات كثيرة: (يضل من يشاء ويهدي من يشاء .. ..) (من يضلل الله فلا هادي له .. ..) . آيات كثيرة فى القرآن الكريم من هذا النوع، تقول لى:كما ذكرت آيات حرية الإرادة لم تنسى هذه الآيات التى تجعل الإرادة العليا هى التى تهدى وتضل؟ وهؤلاء لا يعرفون أولا معنى الإرادة العليا، ولا يعرفون ثانيا العلاقة بين الآيات بعضها والبعض الآخر، ولذلك نحن نشرح ذلك فى أناة، وكل ما أرجوه أن يفتح المرء عقله دون تعصب لشىء سبق إلى ذهنه من الإشاعات التى تروج فى المجتمع الإسلامى، أو من الخرافات التى تنطلق فى الثقافة الإسلامية وليست لها بكتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم صلة. الواقع أن مشيئة الله حتم، ولا يمكن أن يتم إيمان ولا كفر، ولا هدى ولا ضلال، ولا طاعة، ولا معصية إلا بمشيئة الله . ص _206(1/188)
هذا حق، لكن ما العلافة بين مشيئة الله ومشيئتك التى قال الله فيها: (.. .. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ؟ ما العلاقة ؟. العلاقة كشفتها آيات كثيرة خذ مثلا قوله تعالى: (.. .. فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم .. ..) فأنت تتجه إلى حيث تريد، والقدر يكمل لك ما تريد، فإذا قال الله: ( .. .. يضل من يشاء ويهدي من يشاء ..) فليس معنى قوله: (يضل من يشاء) أنه يجىء إلى طائع تائب مريد وجه ربه نشيط فى طاعته فيضله، لا. هذا جهل، لأنه يقول: (.. .. وما يضل به إلا الفاسقين * الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه .. ..) ويقول: (.. .. ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) ويقول (..إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) . فإذا قال: (يضل من يشاء ويهدي من يشاء) فمن يضل؟ ومن يهدى ؟ . هذا هو الجواب، نفهم الجواب من القرآن، لا من أدمغة الجهلة. إن القرآن يقول: (..إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب * الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ..) . هذا هو الذى يهدى، ويقول فى آيات أخرى كثيرة، ما يقرر هذا المعنى: (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) فى الضلالة، ويقول: (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) ، ويقول: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ....). فمن تصور أن: (يضل من يشاء ويهدي من يشاء) أن الله يحدث فى الكون فوضى تسوى بين الصالح والطالح والفاسد والتقى، وأن الأمر ص _207(1/189)
لا ضابط له فهو رجل كذوب على الإسلام، والله جل شأنه يقول: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) ؟ ليس من الدين أن يجىء أحد إلى آية من الآيات ليلعب بها، ومن قديم حدث هذا، فإن بعض الناس لعب بالطلاق، فغضب النبى صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، حتى قال بعض الناس له: نقتل من فعل هذا؟ وهو يقول: " أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم " ؟! إن ناسا كثيرين من المسلمين يريدون أن يلعبوا بدين الله، ومعنى اللعب بدين الله أن يجىء الواحد منهم إلى آية لا يفهمها، ويتصور أنها تخدم معصيته، أو تخدم كسله، ويريد أن يفسرها وفق هواه، وبذلك يجعل القرآن متناقضا يضرب بعضه بعضا، وهذا لا يجوز. أريد أن أضرب لكم بعض الأمثلة التى تبين العلاقة بين إرادة الله وإرادتنا، أو بين مشيئة الله ومشيئتنا، فإننى أعجب كيف يتصور الناس أن الله يرمى بحفنة من الخلق فى النار، وبحفنة من الخلق فى الجنة، ثم يقول بعد ذلك لعباده: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة ..) كيف تتصور هذا وذاك؟ هذا عجب من العجب، لكن ما معنى إرادة الله حتى نفهمها جيدا ؟ إن إرادة الله ترجمتها أو تفسيرها أو توضيح معناها، أنها: ما يحكم هذا العالم من قوانين، وما يسرى فى مادته من خصائص بمعنى أن الله عز وجل خلق الهواء، وخلق فى الهواء مادة الأكسوجين التى تعين على الاحتراق، فلولاها ما احترق شىء، هل لو جاء رجل مجرم وأوقد النار فى بيت من البيوت، هل يقبل منه عذر أن يقول: أنا غير مذنب لأن الهواء هو الذى أعان على الحريق، أو هو الذى جعل الحريق يلتهم البيت أو " الغيط " لا ، ص _208(1/190)
بداهة، الإنسان مكلف بشىء فى يده، ومشيئة الله تتمم بيقين ما يبدأ هو به، لنضرب الأمثلة: هذا المسجد مدت فيه سلوك الكهرباء، كان فى الساعة السابعة مطفأ النور، ساكت الصوت، لا شئ فيه، الأسلاك ممدودة، والكهرباء واصلة، لكن كى تنتفع بالكهرباء و المكبرات أو فى الإضاءة لا بد أن نحرك بأيدينا مفتاح النور، أو لابد أن نفتح أزرار المكبرات لكى تشتغل، لا يمكن أن يضاء المسجد إلا بأمرين معا، أن أحرك أنا المفتاح وأن يكون فى السلك تيار، فلو حركت المفتاح ألف مرة وليس فى السلك تيار ما أضىء المسجد ولا تحرك المكبر، وإذا كان التيار موجودا، وأنا لم أحرك مفتاحا، فلن يضاء المسجد، ولن يتحرك المكبر!! كذلك ما تفعله أنت من خير أو شر، إنك تنوى أن تصلى، هذه النية حريتك، إرادتك، لكن من الذى يستبقيك حيا حتى تذهب لكى تصلى؟ من الذى يجعل قلبك يدق فلا يتوقف، حتى تتم الصلاة؟ من الذى يستبقى الأرض تحت قدميك فلا تنخسف؟. إنه الله، فأنت تنوى ولكن لكى يتم ما نويت، لابد وأن يتمم الله لك ما نويت وأن يقدرك، خذ مثلا من الحقول، إن الزارع يذهب إلى الغيط ويضع البذر، هل ينتظر أن ينضج القمح أو القطن دون أن يضع الفلاح بذرا للقمح أو القطن؟ لا، لابد أن يضع البذور وأن يتعهدها، لكن هل يتم الزرع بوضع البذر؟ لا، إن وضع البذر سبب، هذا مفتاح للقدرة العليا، ثم تبدأ القدرة العليا تتمم لك ما وضعت أنت بذرته. أضرب لكم الأمثلة لموقف المسلمين من هذه القوانين، موقف المسلمين من هذه القوانين يشبه موقف موظف الكهرباء عندما يذهب بالإيصال ويقول للمشترك: أعطى المقدار المطلوب منك، فيقول المشترك أنا لم أصنع شيئا، أنتم الذين أرسلتم التيار فى الأسلاك. هذا موقف المسلم الذى يريد أن يعصى ثم يقول لله : أنا لم أعص أنت السبب !. هذا رجل لا يريد أن يدفع ثمن النور الذى استهلكه، بحجة أنه ما كان يمكن أن يستهلك النور لولا أن التيار في الأسلاك. . ص _209(1/191)
أو تصوروا رجلا يقاد للقضاء لأنه زرع دخانا أو حشيشا، فيقول القاضى له: لم زرعت الدخان أو الحشيش؟ فيقول: أنا زرعت؟ أبدا إن الله هو الزارع ألم يقل فى سورة الواقعة: (أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) . هذا موقف الأمة الإسلامية من قضية القدر، تريد أن تصنع، وأن يتحمل الله عنها كل شىء، فتنسب إليه ما هى مسئولة عنه، وما هى مكلفة به وما هى مؤاخذة عليه يقينا، وهذا شىء من الانتكاس فى الفطرة، ومن العبث بالدين، والغريب أن هذا اللون من التصرفات لا يزال يملك عددا كبيرا من الناس، تقول للواحد منهم: أطع الله، ودع ما أنت فيه، فيقول لك ببلادة: الله يتوب على !!. أين إرادتك لا، لا إرادة، أين حركتك؟ لا، لا حركة، ولو قيل له إن بعض مواد التموين توزع بنصف سعرها فى مكان كذا، نشط وسار إليها بسرعة البرق.. وما ذكر قدرا ولا جبرا ولا إرادة ولا مشيئة، ولا شيئا من هذا كله. إن الأمة تريد أن تعبث بدينها، وأن تأخذ فتوى من الدين على أن عبثها قدر وجبر، وهذا كذب على الإسلام !!. لاحظت وأنا أقرأ القرآن الكريم فى سور كثيرة، أن العصاة يوم القيامة يتمنون لو يعادون إلى الدنيا لتكون لهم حياة أرشد، ومنهج أسلم، وتقوى أظهر، ولكن ما يقبل منهم هذا، قلت: لو كان ، هؤلاء أحسوا أدنى إحساس بأنهم غلبوا على إرادتهم، ودفعوا إلى المعصية برغم أنو فهم لقالوا لله: إنك أنت السبب، ولكنهم ما يجرءون على هذا مع جرأتهم على الكثير، تأملوا معى قول الله فى سورة الأنعام: (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) يا ليتنا، تمن، هل التمنى يجاب؟ لا.. (..ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) هل هذا التمنى يقال ويمكن أن يقول هؤلاء: إن الله هو الذى سبب لنا ما وقعنا فيه؟ لا.. ص _210(1/192)
فى سورة الحجر تقرأ قوله تعالى: (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) . فى سورة إبراهيم قبلها: (وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل ..) . والجواب: (..أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) . فى سورة المؤمنون: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) . فى سورة فاطر: (وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل) . يكون الجواب: (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير) فى سورة السجدة : (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) . الجواب: لا، (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) . وكيف تملأ جهنم من الجنة والناس؟ تملأ هكذا ممن يفعل الخير أو ممن يريد الهدى أو ممن يرفض معصية ربه ويريد أن يرضيه ويبلغ مثوبته؟ لا، هذا الكلام من تخاريف الأمة عندما أرادت أن تعصى بفتوى، وأن تضل بمعذرة، وهيهات . ص _211(1/193)
ولذلك فى سورة الزمر نقرأ قول الله تعالى وهو يلفت نظر الناس إلى أنه لا عذر، لا شبهة، يقول: (إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون * أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين * بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) . لا عذر.. إن الاحتجاج بالأقدار على ما منح الإنسان فيه حق التصرف والاختيار أكذوبة قديمة . إن الكلام فى الأقدار يكون مقبولا ويكون حسنا وجيدا يوم يكون فى أمرلاعلاقة لنا به ولا حركة لنا فيه، عندئذ يكون ما يصيب الإنسان مما يحزن أو يفرح، ما يصيب الإنسان من حياة أو موت من شدة أو رخاء، يكون ذلك قدرا يساق فيه قوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون) . وبعض الناس يفسر الحسنات والسيئات تفسيرا بدماغه فيفكر أن الله عز وجل، عندما يقول: (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون * ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا ..) . المقصود بالحسنة والسيئة هنا الخير والشر، لكن بعض الناس يجىء للآية: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) فيتصور أن الحسنة والسيئة هنا هما العبادة والطاعة، هذا كلام ما قاله عالم، ولا عرفه مفسر، لأن الحسنات والسيئات هنا هى ص _212(1/194)
الأحوال التى تنتاب الأمم من شدة ورخاء، من خير وشر: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون * فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) . البأساء والضراء هى الحسنة والسيئة، كما ذكرت آيات كثيرة، لكن البعض كما قلت يريد أن يلعب بالنصوص وأن يعبث بها، صحيح أن الله يعلم كل شىء، ويعلم ما مضى بداهة، وما هو كائن بداهة، وما سيكون بداهة، لكن ما صلة علمه بعملك؟. أجمع العلماء على أن العلم كالمرآة تنكشف فيه الحقائق، ولكن لا سلطان له عليها، فلو وقفت أمام مرآة وابتسمت أو اكتأبت فليست المرآة مسئولة عن سرورك أو اكتئابك، لآن المرآة تسجل فقط، وليست لها القدرة على أن تصنع شيئا. والعلم الإلهى مرآة سجلت ما يكون وليست للعمل خاصة التأثير بالسلب أو الإيجاب، بالإيجاد أو الإعدام فى شئ من أحوال الناس. الأمر يحتاج كما قلت لكم إلى أن ندرك كتاب ربنا وسنة نبينا إدراكا حقيقيا حتى لا نعبث بديننا، وحتى لا نتأخر فى دنيانا أكثر مما تأخرنا. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم . * * * الخطبة الثانية الحمد لله (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون*ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). ص _213(1/195)
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإن الأمة الإسلامية لأنها عاشت فى قوقعة من تفكير- ضيق صنعه لها بعض القاصرين أو بعض الجهال، أصبحت فى دنيا الناس شيئا يستحق الرثاء حقيقة، لفت نظرى البعض إلى أن فضائح فى إنجلترا وقعت وجعلت وزيرين يستقيلان. قلت: ما فهمت من هذا؟. إن الصحافة فى بلادنا تريد أن تجعل من هذه الأمور ذريعة إلى أن الدنيا مليئة بالفضائح، وأن الشرق والغرب والقارات كلها وأن المسلمين وغير المسلمين وأن الدنيا عموما مليئة بالفضائح. هذا كلام سخيف وتفكير مضلل، إن المعصية تقع فى كل مكان، ولكن المجتمع المحترم هو الذى ينظر إلى المعصية فيحتقرها، ويحتقر صاحبها، ويسقطه من مكانه مهما كان منصبه، ويحاسبه حساب الملكين مهما كانت وظيفته!!. والمجتمعات الغربية بلغت هذا المستوى الناضج، فهم يحاسبون رجالهم حسابا شديدا على ما يرتكبون من أخطاء، والحرية المكفولة هناك جعلت أى صحافى يحاكم أكبر رجل فى المجتمع، وينزله على حكم الحق، هذه شعوب ارتقت كثيرا، أما الأمة الإسلامية التى تقوقعت داخل أفكار ضيقة وعفن فى مسالكها وتصرفاتها فهى لا تدرى، وليت العرب والمسلمين، ليت الحكام المسلمين فى أمة امتدادها بين المحيطين حوالى ثمانمائة مليون من البشر ليت الحكام المسلمين كحكام إنجلترا وأمريكا، وليت الشعوب هنا، وفى العالم الإسلامى من الرجولة القدرة و الهيمنة بحيث تقول لأى رجل فى منصبه: اذهب إلى بيتك فقد وتوسخت!!. لكن نظرت إلى الذين يتحدثون فى الموضوع، قلت سبحان الله !! كأن جماعة من المرضى فى مستعمرة الجذام يتناولون بالتنكيت بعض الذين ص _2 ص(1/196)
سقطوا فى مباريات كمال الأجسام!! ما لكم وللتعليق على المباريات؟ . التفتوا إلى تصحيح جذامكم والنجاة من عللكم !! إن أمتنا معتلة مختلة، وهى كأنما تمشى بلا وعى بلا قيادة، وتلمح الواحد منهم بشىء غير قليل من السخف يسألك أنا مسير أم مخير؟. طبعا هذا الذي لا يعرف أن له عقلا، وأن له إرادة، وأن له قدرة، وأن له اختيارا، بديهى هذا الإنسان مسير!! ومن يسيره؟ الجنس الأبيض الحاكم فى العالم، الجنس الذى اخترع واكتشف، هذا الجنس الذى شعر بأن له إرادة، طبعا هو الذى يحكم هذا الغبى البليد الذى يتساءل أنا مسير أم مخير؟ يجىء الإنجليزى من " لندن " كى يشق طريقا على ساحل البحر الأحمر ويستخرج البترول من رأس غارب ومن الغردقة، لأنه مخير، لأنه عاقل متحرك، بينما يجلس المتسكعون من أهل مصر ليسأل الواحد منهم نفسه أنا مسير أم مخير؟ طبعا مسير، وحاكمك هذا الذى جاء من بلده ليستخرج الخيرات من تحت قدمك وأنت بليد لا تتحرك، تسأل ألى عقل أم ليس لى عقل ألى قدرة أم ليست لى قدرة؟. ابق على هذا السؤال حتى يجعلك العالم كله قطيعا من الدواب تمتطى وتركب لينتفع بها أهل القدرة والذكاء !. لا أدرى ما الذى وقع للأمة الإسلامية؟ ما أسير فى بلد حتى يفاجئنى هذا السؤال، نحن مسيرون أم مخيرون؟، وأنظر إلى هؤلاء الناس، وكأنما أنظر إلى بعض الحشاشين المخدرين!!.. وأقول: لم أجيب هؤلاء؟ بم أجيبهم؟ أفسدوا دنياهم، وأفسدوا دينهم، ومكنوا العالم من أن يرتقى كثيرا جدا، ويبقوا هم متخلفين، لأني غبيا تطاول على القرآن ودخل فى آياته، وأمسك بآية أراد أن يفسرها تفسيرا يريح معصيته ويطمئنه على قصوره وتخلفه، ما هذا؟ لا ينبغى أن نظلم ديننا على هذا النحو. الدنيا كلها تقدمت، تحركت، البلد الذى نعتبره ظالما لنا قتل فيه " كيندى " رئيسه، وقاتله لا يزال حيا، لأن المحاكمات تمشى وفق قوانين سنها المجتمع واحترمها واحتكم إليها، أنا ساخط على الأمريكيين غاضب عليهم، لأنهم ضدى(1/197)
وضد دينى وبلدى !! ص _215
لكن يوم أرى المسلمين لا يحسنون الارتفاع إلى مستوى خصومهم يغلبنى القهر وأكاد أبكى!! أما الذى يجعلنا على هذا النحو من فساد التصور للأمور؟. إننى أريد أن نفهم ديننا بوضوح، وأن نتصرف فى دنيانا بوضوح، إن ديننا هذا دين سهل، إنه دين الفطرة: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها) وبالله.. ما معنى أن تسىء الظن بربك، وتتصور أن ما يحدث ما هو إلا رواية تمثيلية مكذوبة صنعها الله، وأرسل الأنبياء كذبا فى كذب، وأرسل الناصحين والشهداء كذبا فى كذب، وقال للناس افعلوا ولا تفعلوا، وهو يسيرهم على وجوههم بقهره وقدره؟ أى إهانة تلصقها بالله عند ما تتهمه بالظلم والكذب؟ وهو الذي أرسل الأنبياء وقال لنا: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ..) . بالله.. لو أنه أرغمنى على معصيته أما تكون لى الحجة عليه؟ أقول له لم تعذبنى وأنت أرغمتنى؟ وتسقط حجته، لكن المسلمين أفسدوا الفهم لكتابهم، لا أدرى عن عمد أو عن غباء؟ هذا ما حدث، ولا يزالون إلى الآن يترنحون فى بلادهم، وسوف تثقون كذلك حتى تصح أفهامهم فى كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) . عباد الله : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) . وأقم الصلاة * * * ص _216(1/198)
لماذا التسول ؟!! خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه 10/8/1973 الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فقد اتفق أصحاب الفطر السليمة على أن الإنسان إذا تسول وكان لديه فى بيته ما يكفيه ويغنيه، فهو شخص غريب الأطوار، شاذ المسلك، فإذا احترف التسول مع وجود ما يكفيه يقينا وما يغنيه فهو شخص مريض يستحق العلاج أو مجرم يستحق العقاب !. والأمم والجماعات فى هذا القانون كالأفراد والأشخاص سواء بسواء. فالأمة التى لديها ثروة معنوية طائلة، أو التى تملك تراثا حضاريا خصبا تعتبر أمة غريبة إذا نسيت ما لديها من كنوز، وما تقتنى من مصادر الغنى المادى والأدبى، ثم حاولت الالتحاق بجبهة شرقية أو جبهة غربية أو اصطبغت بلون من هذه الألوان التى تلقب حينا باليمين أو حينا باليسار بعد أن شرفها الله بصبغة واحدة: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون) . ص _217(1/199)
إن الأمة الإسلامية بالذات أمة أفاء الله عليها من المبادئ والقيم، من المشاعر الناضرة في قلبها، والأفكار الذكية في عقلها، ما يجعلها تعطي ولا تأخذ، وما يجعل يدها العليا لا السفلي، وكل ما تحتاج إليه أن تعرف نفاسة ما عندها، وعظمة ما زودتها الأقدار به. ولذلك جاء في القرآن الكريم تساؤل إنكاري، تساؤل فيه توبيخ لأولئك الذين يتطلعون إلي شئ آخر غير ما لديهم، وما لديهم كبير لأنه تراث السماء، وثروة خاتم الأنبياء صلي الله عليه وسلم واسمعوا إلي هذا التساؤل في كتاب الله عز وجل : (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا) . الكتاب مفصل لم يدع شيئا، قال تعالي: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) . يقول إمام من أئمة الفقه: إن التشريع الإسلامي له أوصاف في كل ميدان عمل فيه، إنه تشريع يكون أحيانا مخبرا، ويكون أحيانا منشئا، ويكون أحيانا مصلحا. متي يكون هذا التشريع مخبرا ؟ يكون مخبرا فى ميدان الاعتقاد، أي فى أصول الإيمان، هنا نجد الوحي الأعلي يجيء بجمل إخبارية يقينية الحكم لا ريب فيها، مثل قوله تعالي: (إن إلهكم لواحد) هذا خبر صادق، ومثل قوله تعالي: (وإن الدين لواقع) أي أن الجزاء حق. في ميدان العقيدة جاء التشريع الإسلامي بأخبار، الصدق لبابها وعنوانها قال تعالي: (ومن أصدق من الله حديثا) . ص _218(1/200)
فالتشريع فى ميدان العقيدة مخبر، وفى ميدان العبادة منشىء ، أى يكون الإسلام صورا لعبادات جاء بها، كالصلاة مثلا، كونها من قيام وقراءة وركوع وسجود، ورتب على هذه المجموعة من الأقوال والأفعال آثارا نفسية بعيدة المدى، تشعر بعظمة هذه الآثار النفسية والاجتماعية عندما تعلم قول الله فى الحديث القدسى: " إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بهما لعظمتى، ولم يستطل على خلقى، ولم يبت مصرا على معصيتى، وقطع نهاره فى ذكرى، ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة، ورحم المصاب ذلك نوره كنور الشمس …"… فالتشريع هنا منشىء لأنه يكون صورا جديدة لم يألفها الناس من قبل، كما يكون الطبيب مركبا كيماويا يكون به الدواء لعلل الأجساد عندما يصنعه من عناصر معينة. ويعود التشريع الإسلامى مصلحا فى ميدان المعاملات، فإن الناس قبل الدين ووجوده كانوا يتزاوجون أو يتناسلون، وكانوا يتبايعون فجاء الإسلام فوضع لهذه المعاملات شخصية كانت أو عائلية أو اجتماعية أو دولية وضع لها قواعد دقيقة. فرفض فى البيوع التغرير والغبن، وتعريض حقوق الناس للضياع، ونزلت أطول آية فى القرآن الكريم كى ترشد الناس إلى أحكام مالية، فى الديون وكتابتها، والبيوع والتجارات وإدارتها وهى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) هذه النواحى الثلاث: أن الدين مخبر فى ميدان العقيدة، منشىء فى ميدان العبادة، مصلح فى ميدان المعاملات العامة، هى التى جعلت القرآن الكريم بعد أن قال الله رب العالمين: (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا) قال مبينا أن ابتغاء الحكم جهل وعجز ص _219(1/201)
لماذا ؟ قال فى الآية التالية مباشرة: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) . فالصدق والعدل كلاهما جوهر الشريعة الإسلامية !! فمن خرج عليها أو ابتعد عنها ، أو طلب غيرها فهو يطلب شيئا غير الصدق، ويطلب شيئا غير العدل، ولذلك يقول جل شأنه فيمن يطلبون غير الصدق ويطلبون غير العدل: (ويل لكل أفاك أثيم * يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم * وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين * من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم) والإفك ضد الصدق، والإثم ضد العدل.. هذه حقائق نذكرها بين يدى ما سوف يشغل الأمة فى الأيام المقبلة، بل ما بدأ يشغلها الآن من "ورقة الحوار" التى قدمها رئيس الدولة إلى أمتنا كى تفكر فى مستقبلها، وتحدث بعض الناس فقال ربما كان هذا التفكير مخططا لمصير أمتنا إلى نهاية هذا القرن، وطبعا الصحافة عندنا لا تعنى القرن الرابع عشر للهجرة، فإن التاريخ الهجرى أهمل مع إهمال الإسلام كله، إنما يقصد التاريخ الميلادى الذى استعلى فى الأمة العربية والإسلامية، لأن الاستعمار العالمى هو الذى هيمن على مقدراتها المادية والأدبية، وفرض عليها أن تحترم تاريخه، وأن تستهين بتاريخها !! والمهم أن هذه " الورقة " عندما تدرس فإنما تدرس لأن مستقبل الأمة القريب والبعيد مرتبط بها . نحن نتبع دينا غنيا بأفكاره، خصبا بمبادئه، ونحن نعلم أن الفقيه فى الإسلام يقتحم كل ندوة ويقدم على كل مناظرة أو مناقشة، وهو يعلم أن الحق ظهيره ، وأن ما يمثل من ثقافة وما يحمل من قيم جدير بأن يثقل كل ص _220(1/202)
كفة يوضع فيها، وكل ما نريده أن يحترم الحق، قيل كلام فى أن هناك أمورا ليست موضع مراجعة، ليكن، وهذه الأمور هى: الوحدة، والحرية والاشتراكية. وأنا أريد أن ألقى ضوءا على الكلمات الثلاث التى قيل إنها ليست موضع مناقشة، إن الكلمات الثلاث عندنا لها معاني شتى وهى فوق المناقشة عندما ترتكز إلى تعاليم الإسلام، وعندما تستمد من ديننا، وعندما تستقى من منابعنا وحدها. لكن الكلمات الرجراجة التى يحاول البعض أن يكسبها ميوعة لا تثبت بها فى قالب ولا تنضبط بها مع مبدأ محدد، هى كلمات غريبة فى ميدان التربية والتوجيه ولا تصلح لشىء ، نحن بداهة نريد أمة واحدة : (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) . إن الأمة الواحدة هدفنا، وعليها ربينا، وكان ذلك مثلنا الأعلى طوال تاريخنا، بل نحن نعلم أن تمزيق أمتنا كان الفكر الأول للاستعمار العالمى، والقوى الشريرة التى تختبىء فى طياته، وتتحرك وراء قوافله، تمزيق أمتنا غرض، ونجن نجمع، ولكن التجميع على الإسلام، أى عار فى أن نتجمع على الإسلام؟. إن أمة نبتت إلى جوارنا لم تخجل أن تنتسب إلى اليهودية ! فإذا كان غيرنا لم يشعر بأى استحياء أن يعتنق التوراة والتلمود، فلم نستحى عندما نقول: يجب أن نعتنق الكتاب والسنة؟. إن غيرنا لم يشعر باستحياء عندما أعاد الحياة إلى اللغة العبرية التى كانت جثة متعفنة زكمت روائحها الأنوف، رد إليها الحياة، وتكلم بها دون خجل، فما الذى يجعل اللغة العربية لغة منكورة فى ميدان الثقافة، مستغربة فى ميدان التخاطب العام؟ وما الذى يجعل هذه اللغة مقصاة فى ميادين الطب والهندسة والعلوم، وشتى آفاق الحضارة الحديثة ؟ إننا نريد الوحدة، ولكننا نقول: من ثلاثين سنة أو أكثر أو أقل ص _221(1/203)
اشتبكنا مع اليهود، وبدأت هزائمنا تترى فما السبب؟ من حقنا أن ندرس الأسباب، من حق أى طبيب أن يدرس الجسم المعتل بين يديه، فإذا شخص العلة بحق لا بباطل بصراحة لا بدجل، فإن وصف الدواء يجئ سهلا، ونحن نريد أن نقول: إن اليهود انتصروا فى معارك كثيرة لأنهم اعتمدوا صراحة على عقيدتهم!! أما نحن فإننا إلى الآن لا نريد أن نجعل الوحدة المنشودة على الأساس الإسلامى الفذ الذى تنبت عليه وتنمو فيه!! كلمة الحرية كلمة جميلة، لكن ما المقصود بالحرية؟ المقصود بالحرية، حرية الفكر فى أن يبحث، حرية الإنسان فى أن يحتفظ بكرامته، وليست الحرية حرية الشهوة الحيوانية أن تنطلق، حرية بعض السفهاء من الرجال أو النساء أن يبيحوا تمزيق الأعراض، وأن يجعلوا بلدنا مفتوحة لارضاء نزوات أصحاب النزوات،؟ قالت امرأة!!. الحرية حرية العقل لا حرية الهوى، تحديد المفاهيم أمر لابد منه، إذا قلنا الحرية فمعنى ذلك أن البلاد التى سرقت تحت الشمس يجب أن يطرد سارقوها، وأن يبعدوا عن ترابها، وأن تعود إليها كرامتها، إذا قلنا الحرية، فمعنى الحرية: أن أصحاب الذكاء لا يجوز أن يتحكم فيهم الأغبياء ! إذا قلنا الحرية، فمعنى الحرية: أن اللسان الذى يدعو إلى الله يجب أن يأخذ الضمانات كلها حتى يستطع أن يقول الحق لا كما يقول المبطلون الباطل بل فوق ذلك بكثير. هذه هى الحرية. كلمة الاشتراكية أنا أحد المسئولين عنها، لأنى أحد الكتاب المسلمين الذين تداولت أقلامهم هذه الكلمة من ثلاثين سنة، من أول كتاب صدر لى، هل أنا مخطىء؟ خطأنى بعض الناس، هل أنا مُصيب؟ صوب لى بعض الناس، لكن أريد أن أذكر الأمر بأمانة حتى تعرف الأمور بدقة فأنصف نفسى و أنصف الناس، لقد كنت أكره الاستبداد وأفهم كلمة عمر رضى الله عنه وهو يقول لعمرو بن العاص رضوان الله عليه: "متى استبعدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا "!! إننى حمى الأنف ! خلقنى الله أحب الحرية لكل عباد الله!! وأكره كل فاجر من(1/204)
الحكام يستبد أو يطغى، أكره الفرعونية فى تاريخها كله، ص _222
ولذلك حاربتها بكل ما لدى من طاقة، فإذا كنت قلت: إن الشعوب تحكم بالديمقراطية فأنا قلت الكلمة، أخطأت فى نظر بعض الناس لأنى استعملت كلمة أجنبية، وأصبت فى نظر بعض الناس لأننى قررت حقيقة يحترمها الإسلام، أنا أتعصب للغة العربية، وقد أكون مخطأ عندما أقول كلمة الديمقراطية بدل كلمة الشورى الإسلامية، لكن ما قصدته هو محاربة الجبروت، محاربة الفرعونية، ولعلى أول من استعمل فى كتبه " الفرعونية الحاكمة " و " القارونية الكانزة "، وهو تعبير فى بعض كتبى، قصدت به محاربة طوائف من الناس عبدت المال من دون الله، وأكلت الحق المعلوم للفقراء والمساكين، كنت أريد أن أقف باسم الإسلام مدافعا عن طبقات كادحة كانت كما قيل: تزرع القمح وتأكل الطين!! تزرع القطن وتعيش عارية!!. قلت: أقف إلى جانب هؤلاء، وجعلت شعارى: (في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان). وعندما قلت كلمة "اشتراكية" ، كنت أقصد أن أعترض بهذه الكلمة المد الشيوعى الذى انطلق فى أماكن كثيرة، وأغرى القلوب والعقول ممن نشأوا فى كنف الاستعمار لا يعرفون دينا، ولم يتلقوا فى مراحل التعليم المختلفة ما يجعل الإسلام واضحا أمام أعينهم، فاستعملت كلمة الاشتراكية!. وقال لى بعض الناس بعد ذلك: أخطأت، فقلت فى نفسى: إذا كان الخطأ فى استعمال كلمة فإن الحقيقة التى أقصدها جزء من تعاليم الإسلام، والخلاف على العنوان شىء لا يساوى الكثير من العناء، ولهذا ومنعا لكل لغط فإنى أقول: إذا كان شعار أمتنا: الحرية والاشتراكية والوحدة، فليقل قبل ذلك وبعد ذلك إن هذا كله فى إطار الإسلام، وأن ما خالف الإسلام من تعاليم أو تطبيقات فهو تحت الأقدام، ولا كرامة، وتوجيهات الله أعلى وأقرب، وهى أولى عندنا بالتقديم على أى شىء آخر، وبذلك نغلق الأبواب أمام الذين يريدون العبث بتراثنا من سماسرة الاستعمار العالمى، وما أكثرهم!!(1/205)
ص _223
فى " ورقة الحوار " أريد أن يعلم ما يأتى: أن الأمم تبنى نفسها أو تنهدم بنفسها، فعراك الأقوياء أو صلحهم لا قيمة له، إذا كانت الأمم لا تبنى نفسها، إذا اصطلح الأمريكان أو الروس.، أو اختصم الأمريكان والروس، فهذا كله لا قيمة له إذا كانت أمتنا ذاهلة عن دينها ودنياها، ونحن أولا وقبل كل شىء الذين نبنى أنفسنا، فإذا أردنا البناء واعتمدنا على الله ساندنا الله، فلم يقف أمامنا جبار فى الشرق أو الغرب، أما إذا نسينا أنفسنا وجهلنا حق الله علينا، وانتظرنا من الصدف أو من الأمور العشوائية أن تساندنا، فنحن أغبياء ولن ترضى عنا الأرض ولا السماء!!. إننا قبل كل شىء المسئولون عن أنفسنا، إن أحدا لن يفكر لك، ولن يعمل لك، ولن يموت بدلك، أنت الذى تحيا، أنت الذى تموت، لا غير، أنت بنفسك، أنت وحدك، وعلى ذلك، فعلى الأمة الإسلامية أن تبنى نفسها على هذا الأساس: أن الله ظهيرها والمدافع عنها يوم تقرر الاحتماء به والإيواء إليه، ويوم تعتمد على كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلام ، ويوم تعرف قيمة التراث النفيس الذى زودها الله به. وأمتنا لكى تعرف هذه الحقائق يجب أن أوضح شيئا فى الدين غامضا عند بعض الناس، مع أننا تكلمنا فيه كثيرا، إن بعض الناس يظن أن الدين خصم للدنيا، وأن المتدينين يعيشون على هامش الحياة، و أن التدين بفلسفته النزاعة إلى الآخرة،الموجهة إلى ما وراء المادة، هذا التدين بطبيعته يجعل أممه على آخر الطريق، أو فى ذيل الركب الإنسانى وهو يتحرك إلى الأمام، هذا كلام قد توصف به أديان أخرى، أما الإسلام فإن وصفه بهذا الأسلوب جهل فاضح بحقيقة دين. إن التمكين فى الأرض فضل من الله على الناس وعلى الصالحين منهم خصوصا، فإن الله يقول عن يوسف بعد أن طلب أن يكون أمينا على المال متصرفا فى خزائنه، قال: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين)!. ص _224(1/206)
أى هذا التمكين فى الأرض جزاء المحسنين، ثم يقول بعد ذلك عن الجزاء الأخروى: (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون) . ويقول الله عن ذى القرنين: (إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا) . التمكين فى الأرض نعمة، التمكين فى الأرض بماذا؟ بالمال؟ بالعلم؟ كلاهما مما قال النبى عليه الصلاة والسلام:إن التنافس يكون فى هذا، إن الحسد يكون فى هذا، الحسد بمعنى التنافس، لأن صاحب الرسالة صلى الله علية وسلم يقول: " لا حسد إلا فى اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته فى الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضى بها ويعلمها ". العلم، والمال؟ قال شوقى: بالعلم والمال يبنى الناس ملكهم لم يبن ملك على جهل وإقلال ديننا دين العلم والمال، سمى المال خيرا فى مواضع لا حصر لها، يكفى فيها قول الله تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا) . سماه خيرا فى قوله: (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم) سماه خيرا فى قوله: (وإنه لحب الخير لشديد) . ص _225(1/207)
يقول عمرو بن العاص رضى الله عنه بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فأمرني أن آخذ على ثيابى وسلاحى ثم آتيه قال: ففعلت، ثم أتيته وهو يتوضأ فصعد فى البصر ثم طأطأ ثم قال: " يا عمرو إنى أريد أن أبعثك على جيش فيغنمك الله ويسلمك وأرغب لك رغبة صالحة من المال " قال فقلت يا رسول الله إنى لم أسلم رغبة فى المال ولكنى أسلمت رغبة فى الإسلام وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا عمرو نعما بالمال الصالح للرجل الصالح " . إن حضارة الإسلام قامت على المال الكثير والعلم الكثير، وعندما من الله على أهل مكة قديما وهيأهم لاستقبال الرسالة الخاتمة قال فى حقهم: (فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) . كلمة أطعمهم من جوع تعنى العدل الاجتماعى بالتعبير الحديث، تعنى الاشتراكية الصالحة بالتعبير الحديث، تعنى الشبع الموفور لكل الناس بأى تعبير لغوى، تعنى ضمان الحق المعلوم والعدل المكتوب بتعبير الإسلام، لكن الاقتصاد الكامل لا يكفى وحده، فإن البشر ليسوا قطعا من الحمير أو البغال يعنيها أن تشبع وكفى!! لا.. لابد مع الشبع، مع كفالة الضرورات البشرية لابد من ضمان الكرامة للناس، لابد من أن أبيت مطمئنا على مالى وعرضى ونفسى وولدى، وهذا معنى: (وآمنهم من خوف) . النظام الاجتماعى الذى يؤمن كل إنسان، ويجعله يعيش آمنا على نفسه، هو النظام الذى يسمى فى العصر الحديث ديمقراطية، فعلا ديمقراطية، لأن رجل الشارع الآن يشتم رئيس الدولة فى أمريكا ورئيس الدولة مهموم فى الدفاع عن نفسه ولا يستطيع إلا أن يبحث عن محامين ص _226(1/208)
يدفعون عنه! وبعض مرتزقة الصحافة هنا يتحدثون عن هذا كأن ذلك تأخر، كأن التقدم هو فى الفرعونية التى تجعل الناس يختبئون بالنهار لا بالليل فى بيوتهم .. إننا نريد أن نعلم الكلمة كاملة، قال لى صديق توفى رحمه الله، كان رقيق القلب، يقول: وضعت حبوبا للعصافير فى نافذة بيتى، ووقفت أرمقها، وأنتظر أن تجىء لتأكل فلم تجئ، فبحثت عن السبب وأدركت أنى تركت باب النافذة مفتوحا فخشيت العصافير أن تنزل حتى لا تصطاد !! فذهبت فأغلقت الباب فنزلت العصافير لتأكل!! فعلمت أن الشبع لا يغنى عن الأمان!! وعرفت قوله تعالى: (فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) . إن " ورقة الحوار " التى ستعرض علينا سوف نتناولها باسم الفكر الإسلامي الحر، وهذا الفكر الإسلامي الحر هو ما تحتاج إليه أمتنا كى تنهض من كبوتها وكى تسترد خسائرها وكى تمسح سواد العار الذى صبغ وجهها فى معاركها المتلاحقة مع بنى إسرائيل. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم . * * * الخطبة الثانية الحمد لله (..الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) . وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين . ص _227(1/209)
أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل، واعلموا أننى أضيق بخلق فى المتدينين، خلق كريه لنفسى، وهو السلبية، كأنما ينتظرون من الأقدار أن تساعدهم وهم لا يريدون أن يساعدوا أنفسهم، ستعرض " ورقة العمل " على الناس، وأريد أن أقول: إن المتدينين يجب أن يتكلموا، يجب أن يقولوا رأيهم، صحيح مضت على مصر فترة كان التدين فيها جريمة، وكان الجبن سيد الأخلاق، وكان ناس كثيرون يفرون من كلمة الحق لأنهم يخشون مغبتها، لكن الذين فعلوا هذا فى السجون الآن قبح الله وجوههم! لا أريد أن يجبن المتدينون، لا أريد أن ينفرد بالطريق وبالميدان وبالكلام من لا شرف لهم ولا خلق من الرجال المعروفين والنساء المعروفات الذين يحاربون الفضيلة، ويريدون أن تشيع الفاحشة فى المؤمنين والمؤمنات، لا أريد أن ينفرد هؤلاء بالجو، على المتدينين أن يتكلموا، ورئيس الدولة قال.: إن جو الحرية سيتوفر لكل متكلم، ويجب على المسلم أن يتكلم ابتغاء وجه الله و نصرة دينه، ابتغاء تسليم الإسلام لأولادنا كما تسلمناه من آبائنا، فإن سماسرة الاستعمار العالمى وهم يعملون فى كل بلد عربى وإسلامى، ويتلقون أوامرهم من سادتهم، هؤلاء يجتهدون لمحو الإسلام ثقافيا، وقانونيا، وأدبيا، و فى كل ناحية، يجب عندما تعرض " الورقة " ألا ندع ميدانا إلا وطئناه بأقدامنا وقلنا فيه ما يرضى الله . هذه حقائق يجب أن تعرف، نحن أمة على مفترق طريق، وإذا كان مستقلبنا سيصنع لعشرين سنة فما يجوز أن يصنعه المحامون والمحاميات عن البغايا فى شارع الهرم.. لا يصنع تاريخنا ولا مستقبلنا رجال ونساء خربت قلوبهم وأفكارهم من الدين وقيمه، هؤلاء يجب أن نقدرهم قدرهم، أنا شخصيا تمتلىء نفسى بالازدراء المطلق لهؤلاء كلهم، وإذا كان بعض الناس يعبرون بالبصق على هذه الأفكار أو هذه المبادىء فإن هذا التعبير لا ينقصنى فيما أقول وفيما أكتب إننى أحتقر من أعماق قلبى سماسرة الاستعمار العالمى، وفى كتاب لى(1/210)
جعلت عنوان أحد أبوابه " فى عالم البغال " وذكرت أسماء معروفة مرموقة فى بلدنا سجلت عليها ما قالته ضد الإسلام، وضد القرآن وضد السنة . ص _228
ورقة العمل ستلقى قريبا، يجب أن يتقبلها ا لمؤمنون كبد اية لحركة قوية فى عودة الأمة إلى إسلامها تشريعات وأدبا وتقاليد وتعليما وتربية، هذا معنى أحب أن نعرفه، أنا متفائل، أحس أن المستقبل للإسلام، أدرك أن قوى الشر وإن كان نقيقها يملأ أكناف المجتمع فهى كالضفادع الصغيرة التافهة المغروسة فى الطين التى تموت تحت أى قدم!! ومع ذلك فهى تملأ الليل بنقيقها!! هى ضفادع، سوف تختفى حتما من تاريخنا، ومن حياتنا، وأنا متفائل، وكلما وجدت البناء فى هذا المسجد يمضى فى طريقه، كلما شعرت بأن يوما ما يقترب ليكون هذا المسجد غريبا عن الصورة الاولى التى ألفناها، كان غارقا فى القمامة، كانت القمامة من أسفله إلى سقفه، حتى قيض اللا رجلا صالحا هو " محافظ القاهرة " ففعل ما فعل، ومضى فى طريقه إلى أن يبنى هذا المسجد.. نريد أن يعود المسجد؟ بدأه الفاتح الكبيبر عمرو بن العاص رضى الله عنه مدرسة إسلامية تشع الأنوار والهدايات، نريد أن يعلم الناس أن القاهرة ليست عاصمة الصعيد والدلتا : الوجه البحرى والقباى، لا، القاهرة عاصمة العالم الإسلامى. نريد أن تعود القاهرة بدورها التاريخى لى هدا امجال، وانا أعلم أن هذا المسجد من أكثر من نصف قرن وضعت المؤامرات لسحقه وجعله مقبرة، وللأسف الآثار المصرية أدت دورا غير مشكور فى هذا المجال لكن على كل حال الأمور بدأت تأخذ طريقها إلى الخير. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) . عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل(1/211)
والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) . وأقم الصلاة ص _229
في موكب الحج خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: ففى قمة الصالحات التى يقوم المسلمون بها فى عشر ذى الحجة أداء مناسك الحج. إن هذه المناسك مشهد ضخم، وميدان رحب للعباد الذين جاءوا من كل فج عميق يرضون ربهم، يرجون رحمته، ويخافون عذابه. يمكن أن يقال: إن مئات الألوف التى ربما بلغت مليونين من الأنفس، ربما يقال إن هذه الحشود المتكاتفة يمكن أن تكون مظاهرة متلاطمة الأمواج، الهتاف فيها ليس لبشر، إنما الهتاف فيها لرب الأرض والسماء لا يملأ أذنيك إلا طنين ضخم من كل ناحية بين تلبية وتكبير وتقديس وتمجيد، الحناجر تنشق بالهتاف لله وحده طلبا لرضاه، وانتظارا لجداه ورغبة فى ثوابه، ورهبة من عقابه . (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق * ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) . ص _230(1/212)
ناس جاءوا من حول البحر الأبيض والأسود والأحمر، من شطآن المحيط الأطلسى والهندى والهادى، من أعماق القارات الخمس، من كل شبر يطفع عليه نور الشمس، أو تحل فيه هدأة الليل، وقد تنبأ نبى الإسلام عليه الصلاة والسلام إلى أن دينه سوف ينتشر مع انتشار الظل والضوء على ظهر الأرض، وصدقت النبوءة . جاءوا من كل مكان، كلما صعدوا ربوة لبوا أو كبروا، وكلما هبطوا واديا لبوا أو كبروا، وكلما لاقوا فوجا لبوا أو كبروا، وكلما لقى بعضهم بعضا لبى وكبر. كل شىء دئة، هناك معارض زراعية أو صناعية آو تجارية يجيئها الرواد تشد عيونهم السلع المعروضة التى يهتمون بها، لكن المعرض المقام الآن فى الأماكن المقدسة ليس لشىء من الدنيا. إن كل شىء يدفع إلى الهتاف لله تكبيرا وتمجيدا وتلبية تتجاوب أصداؤها فى كل مكان. نريد أن نتساءل أصحيح ما يقال من أن أعمال الحج أعمال مبهمة أو غامضة، وأن الله جل شأنه اختبر الناس بما يعقلون فسمعوا وأطاعوا، فاختبرهم بما لا يعقلون حتى يتبين له كيف يسمعون وكيف يطيعون؟!. والجواب: هذا كلام بعيد عن الصحة، والواقع أن لأعمال الحج حكما عرفها من عرفها وجهلها من جهلها. إن لأعمال الحج حكما ينبغى أن تدرس بأناة، وأن تعرف حقائقها ص _231(1/213)
حتى يدرك الناس أن الاسلام ليس دين أوهام أو أضغاث أحلام، هذا دين كل شىء فيه له حكمته وله معناه. الطواف بالبيت وهو ركن من أركان الحج، ما سببه؟ سببه واضح، هناك أربع نقط نذكرها فى هذا المجال: النقطة الأولى: هذا البيت أول بيت وضع للناس متعبدا للناس فى أعماق القارات كلها، لم يبن قبله بيت للعبادة، فمن حق أول بيت أقيم ليكون قلعة للتوحيد، ومثابة للموحدين، وملتقى للمؤمنين المخلصين، من حق البيت الأول على ظهر الأرض أن تكون له مكانة خاصة (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) . إن مسجدنا هذا شرف وحددت معالمه ووضعت دعائمه وعرفت حدوده وأركانه، منذ قام إبراهيم وإسماعيل بالبناء، و إلى الآن البيت زاده الله تشريفا وتكريما، يجيئه الرواد من كل أفق، والحجاج من كل فج، يطيرون إليه؟ تطير الحمائم إلى أوكارها، فى أفئدتهم حنين، وفى قلوبهم مشاعر ملتاعة. النقطة الثانية: أن المسلمين فى المشارق والمغارب، فى الشمال والجنوب يولون وجوههم شطر هذا المسجد فى كل صلاة تقام فى القارات كلها، ومن حق الذين اتخذوا المسجد قبلة لهم أن يبعثوا كل عام منهم الوفد المستطيع لكى يرى قبلته، كى يحج إليها ويزورها. وأعرف أن أستاذا يحمل الدكتوراه فى الهندسة، كان عضوا فى مكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين ، وضع كتابا بين فيه أن مكة فى وسط المعمور من أرض الله، وأثبت هذا بجملة معادلات جبرية وجغرافية، وما ألفه علميا فى هذا الموضوع متداول الآن بين الناس . ص _232(1/214)
كأن أم القرى أم حقيقة، وكأن المصلين حول الكعبة دائرة محدودة، لكن هذه الدائرة تنداح وتتسع ولا تزال تنداح وتتسع حتى تشمل الأرض كلها وهى تتجه فى صلواتها لله رب العالمين تجمعها قبلة، وما يعبد المسلمون قبلة ولا يعرفون أن هناك حجرا له كرامة، إن كل حجر فى الكعبة لا يضر ولا ينفع وليس البر فى التمسك بجهة من الجهات، ولكن هذا تنظيم وضعه الله ليوحد بين الوجوه والقلوب والصفوف، ولا يسمح للشيطان أن يمزق الناس إلى وجهات شتى. (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) . النقطة الثالثة: أن هذه الأمة الإسلامية إنما ولدت فى التاريخ إثر دعوة صالحة مستجابة للأنبياء الذين وضعوا حجر الأساس في هذا البيت العتيق ونهضوا به وأعلوا دعائمه . (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) . (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) هى أمتنا. (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) وهو رسولنا صلى الله عليه وسلم صاحب الإمامة العامة فى محراب العبادة لخلق الله كلهم، صاحب الرسالة الخاتمة التى لا معقب عليها بنسخ أو تصحيح. فمن حقنا، ونبينا وأمتنا وتاريخنا نتيجة دعوة فى بناء هذا البيت، من حقنا أن نزور هذا البيت. ص _233(1/215)
النقطة الرابعة: أن الله عز وجل أراد أن يكرم الأمة العربية، أو أراد أن يكرم الجنس العربى، بم يكرم الجنس العربى؟ بدمه؟ لا فارق فى علم الطب بين دم العربى ودم الزنجى ودم الأمريكى ودم الأوربى، تركيب الدم وجريانه فى العروق والقوانين التى تحكمه واحدة، فلا فضل لدم على دم. هل يكرم الجنس العربى بالجلد أو باللون؟ إنما كرم هذا الجنس العربى، لأنه حمل الرسالة الخاتمة . ويوجد دجالون فى عصرنا وكذابون لا دين لهم، ولا شرف، زعموا أن الجنس العربى له شرف خاص بغير الإسلام والعرب من غير الإسلام مجموعة أصفار لا وزن لها لا قيمة ولا كيان . إن الله شرف الجنس العربى برسالة الإسلام وعندما أمر الناس فى كل شبر من أرضه أن يتجهوا لهذا البيت العتيق قال لنا- نحن الذين نقرأ القرآن وننطق باللغة العربية- أنا فعلت هذا تشريفا لكم. كنت أقرأ الكتاب العزيز من قوله تعالى: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون * كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) . وقفت كرجل يشتغل بالعلم وحرفته الدراسة، قلت: ما معنى " كما "؟ أخذت أتأمل فى الكلمة، وأتدبر ما قبلها وما بعدها، فوجدت المعنى واضحا، يعنى: أنا شرفتكم بأن تلتقى وجوه الناس عند كعبتكم، كما شرفتكم من قبل بابتعاث النبى منكم، فعلت هذا كما فعلت ذاك (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم) . وجهنا الناس إلى قبلتكم تشريفا لكم وإتماما للنعمة عليكم؟ شرفنا بابتعاث النبى الخاتم منكم عليه الصلاة والسلام . ص _234(1/216)
وفي سورة أخرى يقول الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) . شرف لك ولقومك وسوف تسئلون عن هذا الشرف. (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) . النتيجة المطلوبة: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) هل العرب ذكروا الله وشكروه؟ لا، العرب ذكروا أنفسهم فنسيهم الله، ولم يشكروا ولى النعمة، بل شكروا من صفعهم، من لطمهم، فأذلهم الله بين يديه!!. (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون * فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) . اذكروا دينى الذى شرفتكم به، اذكروا الكتاب الذى أنزلته بلسانكم . إننى أشعر بفجيعة يوم أرى إذاعات عالمية تخدم لغتها بحرقة وبقدرة وبحكمة وبذكاء، وهى لغات ليس فيها من رسالات السماء شىء. أما اللغة التى اختارها الله وعاء لكتابه، فقد أهملناها وتبرمنا بها، وأصبح الخطأ فيها علامة تقدم، وأصبح خطاب الجهلة بها لا حدود لغلطه ولا لما فيه من اضطراب. كل الناس يحترمون لغتهم ويضبطون قواعدها إلا هذه اللغة لا حرمة لها، يخطئ فيها من يشاء ولا تثريب عليه . ص _235(1/217)
أول ما نأخذه من الحج هذا الطواف وهذه الحكمة فيه، أربع نقط حددت لماذا نرتبط بهذه الكعبة. هذه واحدة، شىء آخر: السعى بين الصفا والمروة، ما معناه؟ لم نكلف به ؟ لم نمثل نفس الدور الذى كانت تمثله هاجر؟. المعنى واضح، إن الإنسان مادى، حسى، والأسباب الحسية هى التى تملكه أو هى التى تحكمه. يوم يكون فى يده مال يقول: مالى فى يدى، فهو يعتز به، لكن يوم يكون هذا المال وعدا فى الغيوب، وأملا فى المستقبل ورجاء عند الله، فإن قلبه يضطرب ويقول: ليس معى شىء. وجاء فى الحديث: " ليس الزهادة فى الدنيا بتحريم الحلال، ولا فى إضاعة المال، ولكن الزهادة فى الدنيا أن لا تكون بما فى يديك أوثق منك بما فى يد الله، وأن تكون فى ثواب المصيبة إذا أصبت بها، أرغب منك فيها لو أنها أبقيت لك " . لكن أنا ضعيف، ضعيف جدا، ما فى يدى هو الذى أستوثق منه، أما ما فى يد الله فإنه لا يؤمن به إلا الأقلون، الرزق غيب، ولا يؤمن برزق الله إلا أصحاب الإيمان الراسخ، النصر غيب، ولا يؤمن بنصر الله إلا أصحاب الإيمان الراسخ، والتوكل على الله عندما تكون الأسس فيه تعليق النفس بأمل عند الله، هذا النوع من الإيمان قلما يوجد، لكنه عدة المصلحين، كلما أظلم الليل عليهم، ولم يجدوا. بصيصا من نور اطمأنوا إلى أن فجرا سيجىء فهم ينتظرون بريقه بثقة. نلمح هذا اليقين أو هذا التوكل عندما نجد أن إبراهيم عليه السلام كلف بأن تسكن امرأته هاجر وابنها الرضيع إسماعيل قريبا من البيت العتيق، تركهما إبراهيم، وانطلق إلى أين؟ مكة صحراء جرداء ، جبال ص _236(1/218)
تشبه الكف التى تمتد منها الأصابع، ثم لا شىء، الرجل ماذا يقول؟ سكت، لكن لخمت المرأة، قالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: " إذا لا يضيعنا " كيف؟ لا شىء هنا إطلاقا، السماء والرمال والجبال الصم . يختبر الإيمان لآخر رمق، بدا الرضيع يتلوى من العطش، وبدأت الأم تحس بأن المستقبل مظلم أمامها، وبدأت تجرى يمينا وكالا، ثم أخبرها الملك أن نجدة جاءت وغمز بجناحه الأرض فتفجرت زمزم، وشرب الرضيع، وشربت الأم، و بدأ الخير. أستغرب عندما أنظر إلى دنيا الناس، وإلى الغيب الذى لا يعلمه إلا الله، أكانت المرأة مع رضيعها هذا تدرك أن ابنها هذا سيكون من ذريته نبى خاتم؟. سيكون من ذريته شعب كبير؟. سيكون من أثره حضارة تظلل الأرض برحمتها وسناها؟. ما كانت الأم تدرى شيئا من هذا، ونحن البشر علمنا قاصر، علمنا محدود، ولكن الده ذا العلم الواسع يدرى ما يصنع لعباده، ويختبرهم فى حدود علمهم القاصر وسعيهم المحدود وقدرتهم الضيقة، وهذا هو الاختبار الذى يتجدد باستمرار، الاختبار مستمر،، أتثق فى الله وفيما عنده وفيما غيبه عنا؟ هو عنده واقع لأن الله يستوى فى علمه الماضى والحاضر والمستقبل، الصفحات كلها مكشوفة أمامه، أما أنا فلا أرى إلا اللحظة التي أنا فيها ويغيب عنى ما وراء ذلك أنسى ما كان قبل ذلك. من هنا يجىء الاختبار، فإذا كلف الناس أن يفعلوا ما فعلت أم إسماعيل فلكى تتجدد فى مسالكهم عواطف الاتكال على الله، الثقة فى الله، الإيمان بأن ما عنده أهم مما عندى، ما عندى قد يحرق، قد يسرق، لكن ما عنده لا حرق ولا سرق . لذلك يجب أن نعرف معنى هذه الشعيرة فى مناسك الحج . ص _237(1/219)
ثم يلتقى الناس فى عرفة، وهو لقاء مهيب، ولقاء غريب لأن الناس فعلا جاءوا من كل مكان شعثا غبرا، ليسن هناك ما يميزهم من أبهة ولا من تلك ولا من سلطان، وحدت بينهم شارات لا تفاوت فيها، فى ملابس الإحرام، ثم جمعتهم فى هذا المكان طاعة الله، والجوار فى هذه الساحة بالدعاء، النشيد الذى يتردد باستمرار هناك: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير وهو على كل شىء قدير" . ويروى عن الحسين بن الحسن المروزى قال: سألت سفيان بن عيينة عن أفضل الدعاء يوم عرفة فقال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ". فقلت له: هذا ثناء وليس بدعاء. فقال: أما. علمت ما قال أمية بن أبى الصلت حين أتى عبد الله بن جدعان يطلب نائله؟ فقلت: لا، فقال: قال أمية: أأذكر حاجتى أم قد كفانى حياؤك؟ إن شيمتك الحياء وعلمك بالحقوق وأنت قرم لك الحسب المهذب والسناء خليل لا يغيره صباح عن الخلق الجميل ولا مساء وأرضك كل مكرمة بنتها بنو تيم وأنت لها سماء إذا أثنى عليك المرء يوما كفاه من تعرضه الثناء ثم قال سفيان: يا حسين، هذا مخلوق يكتفى بالثناء عليه دون مسألة، فكيف بالخالق ؟ ص _238(1/220)
كأن الفقير إذا جاء إلى غنى فلم يقل له اكثر من: " الحمد لله الذى أعطاك وأغناك وقواك ". فهذا الثناء معناه: أننى محتاج إلى ما عندك. وهو عندما يقف بين يدى الله يذكره بأسمائه الحسنى، إن كان مظلما فمن أسماء اللة.. " النور " فهو ينير له الطريق. إن كان حائرا فمن أسمائه " الهادى " فهو يبصره بسبيل الرشاد. إن كان فقيرا فمن أسمائه : " الغنى " فهو يفتح له من خزائن العطاء. إن كان جهولا فمن أسمائه " العليم " فهو يهب له العلم والمعرفة، فنحن عندما تتحقق بأوصافنا من ضعف وفقر وذل لين يدى الله فإنه يعطنا. ولذلك يقول ابن عطاء الله: " تحقق بأوصافك يمنحك أوصافه ". " تحقق بالذل يعزك، تحقق بالفقر يغنك ". والواقع أن يوم عرفة يوم من مفاخر الاسلام؟ لأن المسلمين فى هذا المكان يحتشدون ما يعرف بعضهم بعضا إلا هنا، كيف؟ قرر لهم وقت معين ومكان معين، فالمسلم الذى يعيش على شاطىء الأطلسى فى الرباط أو فى داكار أو فى لاجوس فى نيجيريا يلتقى بالمسلم القادم من أندونيسيا أو الفلبين. ولذلك كان هذا اللقاء الجامع نقطة استغلال لرؤساء الاسلام وقادته كى يوجهوا المسلمين فى اليوم المشهود إلى ما ينفعهم. ولذلك وقعت حجتان فى أيام النبى صلى الله عليه وسلم حجة أبى بكر رضى الله عنه بالناس، وحجته صلى الله عليه وسلم . فأما حج أبى بكر رضى الله عنه بالناس فقد تقرر فيه إلغاء المعاهدات غير المتكافئة الواقعة بين المسلمين وغيرهم، وتقرر إلى جانب هذا... و تنظيف المجتمع الداخلى للأمة الاسلامية من المشركين، ومنع طواف العرايا بالبيت العتيق . ص _239(1/221)
وانطلق المنادون وسط مضارب الخيام، ومجامع الحجيج، وملتقيات الناس يقولون: " ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان " . هذا حج، فأين هذا المعنى من حج المسلمين الآن؟ إن الحج أصبح شبحا، وأصبح شيئا أقرب إلى الصورية منه إلى دعم تعاليم الإسلام و حراسة الدولة، ورفع راية الحق، وتحديد المواقف مع من يعبثون بهذا الدين، ويبيتون لأمته الضياع. ثم حج النبى عليه الصلاة والسلام بعد ذلك حجة الوداع، وكان يشعر أن هذه الحجة آخر لقاء بينه وبين الناس، ولذلك كان يقول: " أيها الناس اسمعوا قولى فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا، بهذا الموقف أبدا " . فماذا يريد؟ أب يودع أبناءه فماذا يريد؟ يلقى فى آذانهم آخر ما فى قلبه من حب ومن نصح. " تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا أمرا بينا، كتاب الله وسنة نبيه " . " أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت " . وأنظر إلى الأمة الاسلامية الآن فأجد العجب، ما رأيت هذه الضراوة فى الحرب عندما كان العرب يشتبكون مع اليهود. سبحان الله !! ما هذه الدماء المسفوكة؟. إن الطواغيت قادت الناس إلى مهلكهم، والعيب عيبنا، والجهل جهلنا، وكما قيل : ص _240(1/222)
ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه إننا نخرب بيوتنا بأيدينا، إننا نمزق أرحامنا بأيدينا . إذا كان خلق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، فخلق مسلمى العصر الحاضر أنهم أشداء على المؤمنين رحماء بالكافرين! أى مسلك هذا؟ أى بلاء هذا؟ كانت الحجة الأخيرة- حجة الوداع- مليئة بما يمكن أن يسمى بالتقرير الحقيقى لحقوق الإنسان، وحريات الشعوب، وعالمية البشر، والقواعد الإنسانية النبيلة، وحسن العلاقة بين الرجل والمرأة، وأمور أخرى كثيرة. آسف إذ أقول: إن المسلمين أجهل الناس بها، وأبعد الناس عنها، لأن الأمة الاسلامية بحاجة ماسه إلى أن تعرف دينها معرفة صحيحة. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. * * * الخطبة الثانية الحمد لله (..الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) . وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين.. ! اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل ولنعلم أن أمتنا تختم الآن القرن الرابع عشر لها، ويوشك أن تستأنف قرنا جديدا . ص _241(1/223)
إن مر الليالى والنهار لا قيمة له بالنسبة إلى من فقد ذاكرته، وفقد وعيه، ونسى تاريخه. إن الأمراض التى تشيع أحيانا وتنقل أصحابها إلى مستشفيات الأعصاب أو مستشفيات المجانين أمراض فقدان الذاكرة. ويقول " شوقى " رحمة الله: مثل القوم نسوا تاريخهم كلقيط عي فى الناس انتسابا أو كمغلوب على ذاكرة يشتكى من صلة الماضى انقضابا لا يحسن المسلمون استقبال القرن الجديد إلا إذا عرفوا أخطاءهم و وضعوا أيديهم عليها وقرروا أن يتوبوا إلى الله منها. كيف نعرف هذه الأخطاء؟ وكيف نتوب منها؟. إن ذلك يحتاج إلى عدة خطب أو إلى عدة محاضرات، نسأل الله أن يعيننا على إلقائها إن شاء الله. " اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، نسألك ألا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا حاجة هى لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) . عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) . أقم الصلاة ص _242(1/224)
اليهود فى ميزان القرآن خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية 8/5/1981 الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين؟ ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، وأشهد أن محمدا رسول الله الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فحديثنا فى هذه الجمعة، عن بنى إسرائيل.. فإن القرآن الكريم تناول بنى إسرائيل فى أماكن كثيرة، حتى قيل إن أحط أ لم يذكر فى كتاب الله لا من الأنبياء المرسلين، ولا من الملائكة المقربين،كما ذكر موسى عليه السلام فى كتاب الله، فقد ذكر نحو مائة وثلاثين مرة. كما أن قصة بنى إسرائيل تكررت فى القرآن الكريم كما لم تتكرر قصة أخرى عن الأم الأولى، عن الأقوام الذين تلقوا الوحى واستمعوا إليه إما استماع طاعة وإما استماع معصية. لابد أن يكون لهذا التكرار سبب، ولابد أن يكون لهذا التناول المستمر من حكمة قصد إليها الشارع الحكيم. وقد اجتهدنا فى معرفة هذه الحكمة وتلمسها من مظانها الكثيرة فوجدنا أن القرآن الكريم تحدث عن بنى إسرائيل فى مراحل من تاريخهم، فمرة تناولهم بالمدح وإعلاء الشأن والتنويه بالمكانة. ص _243(1/225)
ففى سورة الدخان مثلا يقول رب العزة: (ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين * من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين * ولقد اخترناهم على علم على العالمين) . والعبارة واضحة فى أنهم كانوا يوما ما الشعب المختار، وأن اختيارهم لم يكن عن مجازفة أو عن إيثار فيه محاباة، بل اخترناهم على علم. وفى سورة الجاثية يقول سبحانه وتعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين * وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ..) . فبين فى هذه السورة أن الله أكرمهم ومنحهم ورجحهم بميزات أدبية ومادية كثيرة، وا لسورتان، مكيتان. فى القرآن المدنى نقرأ قوله تعالى فى سورة المائدة: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) . وفى سورة البقرة: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) . فى القرآن المكى، فى القرآن المدنى، وجدنا هذا الحديث الذى ينوه بمكانة بنى إسرائيل، ويعلى شأنهم. ما السبب؟. السبب أنهم فعلا بدءوا تاريخهم بداية حسنة فقد احتضنوا عقيدة التوحيد ودافعوا عنها وتحملوا البلاء فى سبيلها وبذلوا جهودا كثيرة ليبقوا عليها وليعرضوها على الناس، وتفاوتت صور العرض فبلغ العرض الجميل أعلى مدى له فى موقف يوسف من المسجونين معه، فإنه أفهمهم من هو؟ قال لهم: إنه من أسرة إسرائيل أو أسرة يعقوب، إنه من أسرة آمنت بالله ص _244(1/226)
الواحد، وصدقت باليوم الآخر، وكفرت بالوثنيات السائدة، وإنه هو أحد الذين ورثوا تلك العقائد وعاشوا من أجلها، يقول يوسف فى السجن لمن رأوا فيه رأيا حسنا (..لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون * واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء) . يعقوب أبوه، إسحاق جده، جده الأعلى إبراهيم: (ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) . ثم أخذ يهاجم الآلهة الوثنية التى اخترعها الناس وعبدوها من دون الله : (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) . يعقوب كان حريصا على أن يورث التوحيد لأولاده، ويعقوب هو الملقب بإسرائيل، وإبراهيم كان حريصا على أن يورث التوحيد لأولاده، ونجد هذا فى القرآن الكريم: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) أى ورث أولاده وأعقابه هذه العقيدة . المعنى نفسه عند يعقوب: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون) . إذن كان بنو إسرائيل فى صدر تاريخهم من المراحل الأولى من حياتهم، كانوا أمناء على دعوة التوحيد، تحملوا فى سبيلها المتاعب، فلما صبروا على المتاعب التى فرضت عليهم أو اختبروا بها مكنهم الله وجعل أقدامهم راسخة ص _245(1/227)
فى العالم، وذكر هذا فى كتابه عندما قال: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) . أى جمعوا بين الصبر واليقين فى علاقتهم بالناس وحراستهم للدعوة. وفى سورة الأعراف يقول: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا..) . كان الصبر والتحمل، كان اليقين والإخلاص، كان الصدق فى معاملة الله، كان كل ذلك سببا فى أنهم مكنوا، ثم ماذا ؟ يذكر الله مرحلة أخرى لبنى إسرائيل . أساس هذه المرحلة أن التاجر إذا نجح لأنه بدأ عمله فى تجارته مشهورا بالصدق والأمانة والنظافة والنظام فإنه لا يبقى مستديما لنجاحه إلا إذا بقى مستديما للأسباب التى أنجحته . أما أن يترك الصدق إلى الكذب، والنظام إلى الفوضى، والنظافة إلى القذارة، ثم ينتظر أن تبقى له تجارته نامية، أو أرباحه واسعة، وسمعته نقية، فهذا مستحيل . وبنو إسرائيل لما بلغوا مكانتهم التى بلغوها بالصبر واليقين، كان يجب عليهم أن يستصحبوا هذه الأخلاق حتى يبقى لهم تفضيل الله الذى تنزل عليهم، لكنهم لم يبقوا على هذه الأخلاق، سرعان ما أخذوا يتحولون. لكى يبقى الإنسان عائما فى البحر أو سابحا فى الأمواج يجب أن تضرب أذرعه بقوة إلى الأمام حتى لو "عاكسه التيار، فسيبقى عائما، لكن إذا انكسرت أذرعه، أو توقف سبحه فسيسقط فى القاع !. الذى حدث أن بنى إسرائيل تغيروا تغيرا عجيبا، فلما تغيروا تغيرت الأوصاف التى كانت لهم وتناولهم القرآن بشكل آخر، ففى سورة المائدة يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ص _246(1/228)
"قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون * قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل * وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون * وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون * لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون" . تغيروا إذن، بعد أن كانوا يؤمنون بالله الواحد، وبعد أن كانوا يصدقون باليوم الآخر ويستعدون للقائه، وبعد أن كانوا يحاربون الأصنام، ويخاصمون أهلها، وبعد أن كانوا يتحملون بصبر وجلد الأذى فى سبيل الله، تبخرت هذه الصفات بينهم، فأصبحوا شعبا غليظ الرقبة، قاسى القلب، زاهدا فى الآخرة، مقبلا على الدنيا. أخذ القران يصف التغير الذى وقع عليهم، بعد أن كان هناك إيمان بالآخرة، وصفهم القرآن فقال: "ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ..". حب الآخرة يستدعى فى أحيان كثيرة أن تنزل عن ثروتك لله لأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وهؤلاء يعبدون المال، وعرف هذا فى مسالكهم، حتى أن الأدب الإنكليزى على لسان أديب الإنكليزية الكبير " شكسبير " عندما كتب روايته " تاجر البندقية " كان يقدم اليهودى التاجر على أنه مراب مصاص للدم لا يرحم محتاجا ويقرض لا ابتغاء آخرة ولكن طلبا لدنيا يحرص عليها إلى حد الاستماتة !!. ويبدو حقيقة أن التغير الذى حدث فى شمائل بنى إسرائيل أو التحول الذى وقع فى أخلاقهم كان جذريا، بمعنى أنه إلى الآن لا يعرف فى شمائل اليهود أنهم يقودون إلى تقوى، أو يعرفون الناس بحق الله، أو يذكرون أحدا بالدار الآخرة !!. يمكن أن يكونوا عباقرة فى شئون المال. يمكن أن يكونوا عباقرة فى ص _247(1/229)
شئون السياسة، يمكن أن يكونوا عباقرة فى دغدغة الغرائز والإثارات الجنسية وخلق مباريات فى عالم الجمال أو عالم الرياضة، تجعل الشعوب تتيه عن رشدها، وتفقد وعيها وتنطلق كالحيوانات المجنونة لا يربطها هدف ولا تشدها غاية نبيلة!!. يمكن أن ينجح اليهود فى هذا كله، لكن فى ميدان الدين والخلق والعفة والروحانية والشمائل الرفيعة والخلق الرقيق أصبحوا لامكانة لهم!!. فكانت النتيجة أن لعنوا على لسان داود وعيسى بن مريم، وكانت النتيجة أن قال الله الذى منحهم المآثر الأولى ومدحهم بما قال، كانت النتيجة أن عاقبهم على التغير الذى وقع جذريا فى سيرهم وأحوالهم فقال: (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم) . ومن الغباء أن يحسب أهل جيل أن الفلك سمر، وأن من ارتفع اليوم ستبقى رفعته له غدا. ومن الغباء أن يظن الناس كتاب التاريخ صفحة واحدة تبقى ماثلة أمام الأعين. إن التاريخ صفحات متتابعة يطوى منها اليوم ما يطوى، وينشر منها غدا ما ينشر !!. هنا ما بد من أن نفهم العبرة، العبرة أن الله جل شأنه يختبر بالرفعة والوضاعة، يختبر بالزلزلة والتمكين، يختبر بالخوف والأمن، يختبر بالثروة يعطيها وبالفقر يرسله، يختبر بالضحك والبكاء ! (وأن إلى ربك المنتهى * وأنه هو أضحك وأبكى * وأنه هو أمات وأحيا) يختبر بالأمرين، وعندما يختبر هو عالم بخلقه، ولكن القاضى لا يحكم بعلمه، إنما يحكم بين العباد بما يظهر من أمرهم حتى تنقطع الأعذار، وتخرس الألسنة التى مرنت على الجدل، فإن ناسا سوف يبعثون ص _248(1/230)
يوم القيامة وهم مشركون ويقولون لله : (والله ربنا ما كنا مشركين) . فما بد من إقامة الدليل على الناس من عملهم هم . يعطى المال ويقول لصاحبه: أعطيتك المال لا لأنك عبقرى، لأن عباقرة يمكن أن يموتوا جوعا لكنى أعطيتك المال أختبرك!!. نجد اقتصاديا كبيرا مثل (قارون) يقال له: إن الله مولك ومنحك اعرف حق الله فيما آتاك، اتق الله فيما بسط عليك من رزق، اطلب الآخرة بما أوتيت فى الدنيا، لا تنس الله. يضيق الرجل بالله وذكر الله، ورقابة الله وتقوى الله، ويقول لهم: ما هذا بعطاء الله، هذه عبقريتى أنا!! (إنما أوتيته على علم عندي) . هذا المال لم يأتنى منحة من السماء ذكائى وعبقريتى وتجربتى وخبرتى بشئون الأسواق والمال هى التى جعلتنى كذلك، فكان هذا الشعور بداية الدمار الذى طواه!! (فخسفنا به وبداره الأرض ..) . هذا اختيار سقط فيه رجل من بنى إسرائيل، اختبار آخر لرجل من بنى إسرائيل هو " سليمان " اختبار بالسلطة.. فإن سليمان وهوفى فلسطين طلب أن يجاء له بعرش " بلقيس " وجىء له بعرش بلقيس، ونظر الرجل العظيم فوجد أن سلطانه واسع، وأنه أوتى بسطة فى القوة غير عادية، فهل اغتر؟ لا، تواضع لله، وقال: (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم) . الحقيقة أنه بالنسبة للأفراد أو بالنسبة للجماعات، كلنا يختبر، وثق أيها الإنسان أن حظك من أقدار الله كبير، وأن مالك من جهد محدود ! و أنك إذا كنت حسن الصوت فلأن الله زودك بأوتار لم يزود بها غيرك، وإذا كنت واسع الذكاء فلأنه زودك بكذا فى تلافيف المخ لم يزود به غيرك! ص _249(1/231)
وإذا كنت، وإذا كنت... ما من شىء تتميز به فى حقيقتك إلا وهو عطاء أعلى لا دخل لك فيه. ثم تختبر بعد ذلك فى هذا الذى أعطته اختبارا دقيقا، ترى أترد الفضل لصاحبه وتعرف الحق تقف موقف العبد الذى يستحى ممن منحه أن يبذل نعمه فى معصيته أم ماذا تكون؟. هذا بالنسبة للأفراد، وكذلك بالنسبة للدول والجماعات. هل قص الله علينا قصص بنى إسرائيل تسلية للمسلمين؟ لا، إنما هو توعية للمسلمين، كأنه سبحانه وتعالى يقول للمسلمين: هذا تاريخ من سبق، يقرأ عليكم وحيا معصوما، وتتلونه فى الصلوات وفى مجالس الرحمة قرآنا يذكر الناسين، ويوقظ الغافلين، لكى تتعلموا. فهل تعلمت الأمة الاسلامية من تاريخ بنى إسرائيل أن تستبقى أسباب المدح وأن تستبعد وسائل القدح مرة أخرى، وفى محنة من محن بنى إسرائيل تألم اليهود وقالوا لموسى: (..أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) . هذا كلام خطير، كأن موسى يقول لقومه قد تستخلفون، وعندما تستخلفون وتتمكنون ينظر الله ماذا تعملون؟ هل هذا الكلام قيل لبنى إسرائيل وحدهم لا نجد فى سورة يونس أن الله سبحانه وتعالى يقول للمسلمين: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين * ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) . الكلام واحد للفئتين، الكلام واحد للجنسين، الكلام الذى قيل للجنس العبرى من ثلاثين أو أربعين قرنا قيل للجنس الإسلامى أو للجنس العربى من أربعة عشر قرنا. وإننا نتساءل كيف هوى اليهود؟ هووا بحب الحياة، هووا بالحرص على المال، هووا من شاهق لأنهم لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر، هووا من شاهق لأن الشخصية الدينية التى تميزوا بها وكرموا من أجلها تلاشت فى خلالهم وانمحت من خصالهم!. وظن الحمقى أن حملة أخرى تربطهم بالله هى صلة النسب للأنبياء، فهم ص _250(1/232)
كما يقولون أبناء الأنبياء وأبناء الأسباط، ولاشيء من هذا له قيمة عند الله ؟.
ننظر إلى المسلمين فنجد فعلا أن الأمة الإسلامية فى عصرنا هذا تخالف
العصر الأول.
فى العصر الأول لما نزل قوله تعالى: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.." سارع جمهور الناس إلى توقيع العقد، بل قالوا: نعمت الصفقة.. نفوس هو خالقها وأموال هو رازقها، يأخذ هذا منا ليعطينا عليه الجنة!.
نعمت الصفقة.. هو المتفضل أولا والمتفضل آخرا، ننظر إلى المسلمين الآن، فماذا نجد؟ نجد شيئا آخر، نجد حبا غريبا للحياة، حبا دنيئا للحياة، حرصا غريبا على المتع، ذهولا عن الإسلاميات التى شرف بها الأولون، العرب الأولون ما كانوا يشرفون إلا بالإسلام، أما الآن: فإن اسم الإسلام يوشك أن يختفى، والأمة تحب المال والمتع، وعُرف هذا فى تصرفاتها على نحو غريب! كيف؟.
يقول أعداء الإسلام لأنفسهم ما نجد الأمة الإسلامية فى وضع أبعد لها
عن الله، وأنأى عن تعاليم دينها منها فى هذا العصر!
ويقول علماء القانون: إن القانون لا يحمى المغفل!.
حدث يوم كانت القدس فى سلطة الأردن صدرت أوامر للمسيحيين فى القدس أن يشتروا الأرض من المسلمين! كيف؟ قيل لهم اشتروا بأى سعر! إذا كان المتر بمائة جنيه فادفعوا ألفا .
وهذا شئ يوفر الكثير على العالم الصليبيى، إن العالم الصليبى ظل مائتى سنة فى العصور الوسطى يحارب من أجل الاستيلاء على القدس، وبذل فى هذا ملايين القتلى،: بذل فى هذا قناطير مقنطرة من الذهب!. فإذا وجد المسلمين قطعانا بلهاء تعيش فى القدس يمكن أن يشترى من أى مسلم أرضا!
يرى المسلم أن بيته الذى ورثه يساوى ألف جنيه، يعرضون عليه مائة
ألف! فيبيعه!
ووجد العلماء أن الأرض الإسلامية تتحول إلى أرض صليبية بثمن بخس دراهم معدودة، فأصدر علماء المسلمين الفتوى هناك بأن من باع أرضه لصليبى فهو مرتد عن الإسلام!.
ص _251(1/233)
القدس التى حاول هؤلاء الاستيلاء عليها فى قتال ظل مائتى سنة يراد الآن أن تؤخذ بغير قطرة دم ! لماذا ؟. أمة تحب المال، وأنا أعلم أن شراء الأرض فى فلسطين مر بأدوار، هناك أفنديات ورثت اقطاعات ضخمة ما رأتها، باعت الأرض لليهود فحولوها إلى مستعمرات عسكرية! وهناك من باع أرضه طلبا للمال وحده، وهناك مؤمن أعطشت أرضه حتى بارت وهو حريص على أن لا يبيعها! الناس مختلفون. الذى حدث عندما دخل اليهود فإن الثمن الذى دفعوه للأرض أخذوه من اللاجئين والمهاجرين، أخذوا كل سوار من ذهب، وكل حلية تحملها امرأة ، أو رجل، واستردوا المال الذى دفعوه للأرض! القانون لا يحمى المغفلين!. وإذا كانت الأمة الإسلامية فى أماكن كثيرة يقال لبعض الصليبين فيها اشتروا الأرض فى مكان كذا، فإن هذا مقصود منه تحويل دار الإسلام إلى دار كفر أو أرض الإسلام إلى أرض كافرة!. وهذا نوع من حب الدنيا الذى قال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم :"يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله فى قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت " . حب الدنيا.. ناس تبيع أرضها لأجل مال، رأيت أموالا كثيرة تحولت إلى أطعمة فى بطون الآكلين، ثم تحولت إلى فضلات فى المجارى، ثم مات أصحابها ودفنوا فى مزبلة التاريخ ثم تنتظر جهنم أولئك جميعا إلى النار وبئس القرار!. أهذا تصرف ترضاه أمة لنفسها؟ إن الله سبحانه وتعالى حكى لنا تاريخ اليهود فى أحوالهم لكى نتعلم أن أمتنا عزها فى الإسلام، وفى إرضاء الله، وفى أداء حقه سبحانه وتعالى، فإذا تنكرت لكتابها وسنة نبيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعاشت لشهواتها وأهوائها فلن تحصد من وراء ذلك كله إلا الضياع. أقول قولى هذا واستغفر الله لى ولكم. ص _252(1/234)
الخطبة الثانية الحمد لله ( ..الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: أيها الاخوة.. ألفت النظر إلى أمر ما يجوز أن ينسى: هذا العصر عصر الأديان، هذا العصر الذى نعيش فيه، عصر تمسك أصحاب الأديان بأديانهم، بل أكاد أقول: إنه العصر الذهبى للأديان كلها ما عدا الإسلام!. فإن اليهودية من ثلاثين قرنا، من ثلاثة آلاف عام ما كان يمكن أن تكون لها دولة أصبحت لها دولة، هذا عصر ذهبى لها، حتى الهندوكية التى تقدس الأبقار وتحترم القردة هى فى عصرها الذهبى الآن. كل صاحب دين يذكر دينه ويملأ فمه به، لكن وجدت أن مؤامرة عالمية إعلامية تتواصى بأن ينسى العرب الاسلام! العرب بالذات!. فمثلا أذاعات أجنبية تقول: إن الخط الفاصل بين الشطر المسيحى لبيروت والشطر الإسلامى لبيروت حصل فيه كذا وكذا.. فهى تذكر المسيحية والإسلام. أما الإذاعات العربية فتتكلم عن المسيحيين بوصف أنهم يمينيون.. انعزاليون وكيت و كيت . ص _253(1/235)
آما الوصف الذى يظهرون به ويعتزون به، ويعرفون به فلا يراد إظهاره، لماذا ؟ يجب أن يعرف هذا. تذكر قصة ايرلندا الشمالية وانجلترا بطريقة مغشوسة. المعروف أن السجين الذى مات منتحرا بعد أن ظل جائعا ستة أسابيع أو تسعة أسابيع وهو يرفض أن يتناول طعاما إلا ما يغذى به عن طريق الحقن. هذا كاثوليكى.. والكاثوليك هم الذين يقومون بالثورة ضد انجلترا، وأنا أسمع اليوم أن البروتستنت فى انجلترا أقاموا قداسا فى كنيستهم الكبرى ذكروا فيه القتلى الذين سفك دمهم الجيش الجمهورى الإيرلندى الكاثوليكي . حرب دينية بين البروتستنت الحاكم والكاثوليك الذين يريدون الحكم، لكن يطوى هذا حتى لا يفهم المسلمون أن الناس تتمسك بأديانهم. " مناحم بيجن " وهو رجل بولندى كذاب جاء إلى الأمة التى لا وارث لها والأرض التى لا صاحب لها وأخذ فلسطين، يريد أن يقول: إن تحالفا بين اليهود والنصارى هو الذى يبقى النصرانية فى لبنان.. والرجل كاذب بداهة. النصرانية فى لبنان قائمة منذ أربعة عشر قرنا ما أهلكها أحد، وكان المسلمون يستطيعون إهلاكها، ولكن أبوا تكرما، لماذا لا يذكر هذا؟. والنتيجة أن الأمة الإسلامية يراد أن تنسى ولاءها لدينها بينما عابد البقر يتعصب لدينه، وتابع كل دين أرضى أو سماوى يتمسك بدينه، وبطريقة ما يراد أن ينسى المسلمون دينهم أو عنوانه أو تاريخه، لماذا؟ !!. إن أمتنا يجب أن تكون أكز يقظة وأكبر صحوة. الواقع أن أنظر إلى أحوال المسلمين فى عواصم كثيرة، فأرى شيئا غريبا.. فلسفة الرجل أو فلسفة كرة القدم، فلسفة قذرة، أى فلسفة فى كرة القدم؟ ومع هذا فإن من الكويت والخليج إلى القاهرة عشرات الألوف من قطعان الأغنام تنطلق هنا وهناك بجنون!. هذا لهو ولعب، فكيف تضيع صلاة الجمعة وصلاة العصر، وصلاة ص _254(1/236)
المغرب من أجل أن مائة ألف يتفرجون على ملعب كرة ؟ هذا أمر عجيب !!. اليهود يرفضون لأنهم يقدسون السبت أن تنتهك شرائع السبت، بينما الأمة الإسلامية ببساطة تنتهك شرائع الجمعة وشعائرها لأنها تريد أن تلعب! أخذنا ضمانا من القدر بأن سننه الكونية لا تثأر من اللاهين واللاعبين؟ هذا مستحيل، وفى الحديث: " إن الله عز وجل يملى للظالم فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) . على المسلمين أن يصحوا حتى يدركوا أن فهمهم لدينهم على هذا النحو المتجاهل لا يقدمهم إلا إلى الذبح وإلا ليكونوا علفا لمدافع الأقوياء!!. وعندما أنظر إلى أمتنا وهى تائهة فى هذا المجال، أسمع كلاما غريبا، يأتي إلى سائل: آزر أبو إبراهيم أم عمه؟ كلب أهل الكهف من أرمنت أم من إنجلترا؟ سماع القرآن من الإذاعة حلال أم حرام؟. يعنى الأمة الإسلامية تشغل نفسها بأمور تحتاج إلى أن تراجع فيها قلبها وعقلها، فإنها إذا مضت فى هذا الطريق فإنما تمضى إلى قبرها لا إلى نصرها! إننى أنبه المسلمين إلى أن يجدوا فإن الأيام لا تلعب! " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) . عباد الله : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) . وأقم الصلاة
ص _003(1/237)
تصدير بقلم الدكتور عبد الصبور شاهين الحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فقد طلب إلى أخى الكريم الأستاذ حسن عاشور أن أكتب كلمة اقدم بها هذا الكتاب إلى القراء، فكان ذلك تفضلا منه وكرما، وحين ذكر لى أن هذه أيضا هى رغبة الأستاذ الشيخ الغزالى عددت ذلك شرفا تضفيه على هذه الدعوة الكريمة، فما أكتبه هنا هو شرف لى قبل أن يكون تقديما للكتاب. والحق أن كتابا يوضع على غلافه اسم الأستاذ الغزالى لا يحتاج إلى تقديم، فحسبه فى تقديري أن يتوج بهذا العلم الخفاق، وقد قرأت الدنيا له عشرات الكتب فى الإسلام ودعوته، وتلقت عنه ما لم تتلق عن أحد من معاصريه، حتى إن عصرنا هذا يمكن أن يطلق عليه فى مجال الدعوة: عصر الأستاذ الغزالى. غير أنى قد أجد القراء بحاجة إلى أن يعرفوا قدر المنبر الذى يقرأون صوته فى هذا الكتاب، من خلال رؤية لخطر المنبر فى حياة الأمة، وفى تاريخها. ذلك أن أمتنا المسلمة هى ابنة المنبر منذ كانت، صاغها يوم كان يرتقيه محمد صلى الله عليه وسلم، لقد كان منبرا وحيدا، ومع ذلك استطاع أن يربى جيلا من البشر، حملوا الرسالة إلى الآفاق، وأقاموا الدين والدولة معا، فكان أثر المنبر الواحد أعظم من تأثير مئات
ص _004(1/238)
الالوف من المنابر، ومئات الجامعات، وآلاف المدارس والمعاهد التى تمتلىء بها حوصلة عالمنا الإسلامي الآن، فهذه المنابر كلها ليست من ذاكم المنبر بسبب . ولو أننا سبرنا غور هذه المأساة فسنجد أنه راجع إلى تعدد نوعيات المنابر الحديثة، وتفرق دعاتها. لقد كان المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا، يصدع بأمر واحد، ويخاطب أمة واحدة كما أراد الله، وحين ذر قرن الفتنة وأنشأ بعض المنافقين منبرا آخر فى طرف المدينة اعتبره القران مسجدا ضرارا، فقال: "والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل" وأمر الله بهدمه وإزالته، ووصف دعاته بأنهم ظالمون: "لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم" وبقيت للمنبر المحمدى مهابته ما بقيت له وحدته، لقد بقى مصدر إشعاع وهداية لجماهير الأمة المعتصمة بحبل الله. أما الآن فقد تفرق المسلمون شيعا، واتخذت كل شيعة لنفسها منبرا تمارس من فوقه فنون الدجل والشعوذة، ومهمة تمزيق الأمة الواحدة إلى أشلاء ممزعة، بعدد مزع الأهواء، لقد اختلفت رسالة المنبر على أصحآبها، وتناقض ما يدعون إليه. وليس من الممكن إصلاح حال أمتنا إلا بالعودة إلى المنبر الواحد الذى يستخدم لغة واحدة، ويصدر عن فكر واحد، هو الفكر المحمدى، إن صح التعبير، وحينئذ تسقط كل منابر الضرار، منابر الريبة والتفريق. وأمر آخر لشق علينا آن نذكره فى هذا الصدد، لقد فقد المنبر فى أرجاء كثيرة من العالم الإسلامي فعاليته حين أصيب بالجمود، وتحول ارتقاؤه إلى حرفة يتوسل بها إلى الارتزاق، فحلت اللقمة فيه محل الفكرة، ولم يعد الخطيب يبحث عن جديد يتزود به، بل حسبه أن يقرأ ص _005(1/239)
على الناس كلمات دون معنى، وخطبا دون مضمون، حتى ليتندر المصلون به وهو يسمع عليهم ما يحفظون من كثرة ما لاكه على أسماعهم. وهذه ـ ولا شك ـ حال تدعو إلى معالجة عاجلة، ونظر بصير، وقد تقدم الزمن بالمجتمعات، وليس بمعقول أن يكون خطيب المنبر هو نموذج المتعلم الأمى فى مجتمع المثقفين المعاصر، فيصير المنبر علامة التخلف العقلى، وأضحوكة تقترن بالرثاء، يضحك عليها الصغار، ويبكى عليها الكبار!!. وللمنبر فى المرحلة القادمة آفاق رحبة، يجب أن ينفتح عليها. فهو أولا: طريق لتغيير واقع المسلمين وتحويلهم إلى مؤمنين "ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم" ، وتلكم هى مشكلة الإسلام المعاصر. وهو ثانيا: توجه إلى مشكلات الأقليات فى المجتمعات غير الإسلامية، ولا مفر من أن يمد المنبر الإسلامي يده إلى هؤلاء التعساء الذين وضعتهم الظروف موضع البلاء، ومن القصور الشائن ألا يتناول المنبر أحوال الأقليات المسلمة، فيبدوا وكأنه (أطرش فى الزفة). وهو ثالثا : عمل دائم من أجل تبليغ دعوة الله إلى الدنيا، إلى عالم غير المسلمين، وقد فتح الله على الإسلام قلوبا كثيرة فى الغرب الأوربي والأمريكى، وهم بحاجة إلى دعاة يحسنون استخدام المنبر لغة وفكرا، ويرتقون بالإسلام على درجاته صعدا، حين يقدمون حقائقه بلسان غير عربى مبين. والداعية فى كل هذه الأحوال مطالب بأن يكون كشكول معارف، قادرا على قراءة كل ما يتصل بدعوته، ص _006(1/240)
ومجتمعه ، ومهمته، وتمثل هذا كاملا فى عقله ووعيه، وتقديم حصيلته إلى جمهوره بلغة سهلة، ومنهج واضح، وتوجيه سليم، ومزج حكيم بين الجديد والقديم . إن الكتاب الذي تقدمه دار الاعتصام اليوم نموذج رائع من النماذج المعلمة، التى تتميز بأمرين: أولهما: أن موضوعات الخطب متنوعة وعصرية، تتصل بقضايانا الحيوية، وتعالج مختلف المشكلات التى تحرك بها وجدان أستاذ مصلح، ذى تجربة عميقة فى تناول قضايا المجتمع الإسلامي المعاصر. وثانيهما: أن القارئ يعيش فى قراءة الكتاب شكلا من أشكال المسرح اللغوى، فالمنبر قائم فى كل عبارة من عباراته، والموقف المتوتر نابض بالحياة فى تدفق الحديث، وفى تتابع المشاهد، وفى تلاحق الجمل وسرعتها. وهى ميزة لا تتوفر إلا فى هذا الأسلوب المرتجل النابع من قلب قائله. ومن وراء ذلك كله إيمان راسخ، وعلم واسع، وثقافة شاملة، وتجربة فذة، ووجدان مشغول بشئون الإسلام وشجونه، وحياة عمرت بمواقف النضال، وملاحم الدعوة. إن هذه الخطب هى خير ما يقرؤه الإنسان المسلم فى عصرنا ، لأنها تلتصق بأحواله، وتعالج قضايا الحياة من حوله بمنطق إسلامي ، وهى بعيدة تماما عن تعقيدات الفكر المؤلف، واللغة المنظومة. وإذا كانت وسائل الإعلام الحديثة كالإذاعة والتلفزيون قد أثرت فى جماهير المشاهدين، حتى حولتهم إلى تعاطى ألوان الثقافة المنطوقة، وصرفتهم عن التماس الثقافة المؤلفة المكتوبة؛ فإن نشر هذا النوع من الخطب المنطوقة يدعم مسيرة الكتاب ، حين ص _007
يمزج بين المستويين، فيخيل المنطوق مكتوبا، بكل ما يحمله النطق من حرارة، وما تطلبه الكتابة من افتنان.(1/241)
أما مادة الكتاب فلست أرى ضرورة أن أتحدث عنها، وهى تتحدث عن نفسها بأفصح لسان وأروع بيان، ثم وهى تشي بما يكمن وراءها من خلفية ثقافية غنية، تقوم على التثبت، والتنوع، والتعمق، ثم وهى تهز من وجدان القارئ الذى امتلأت نفسه بحب المؤلف، الصادق الشجاع، شيخ الدعاة إلى الله بحق، ولا نزكى على الله أحدا.
إننى أسأل الله عز وجل أن يمد فى عمر أستاذنا الغزالى، وأن يمتعه بالصحة، وأن يبقى له هذا اللسان المعبر، والصوت الندى، الناطق باليقين.
كما أشكر لدار الاعتصام همتها فى إعداد هذه الخطب، وما اقترن بها من تعليقات أثرت العمل الجليل، وجعلته خير زاد للدعاة والأئمة، والواعظين.
د. عبد الصبور شاهين
ص _009(1/242)
قصة هذا الكتاب الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبى بعده.. أما بعد... فإننى واحد من عشرات الألوف المؤلفة التى تعشق من أعماق قلوبها الداعية الإسلامي الكبر "الشيخ محمد الغزالى " حفظه الله ورعاه.. وأشهد أن حبى لهذا العالم الكبير، والداعية الشهير أكثر من حبى لنفسى.. فهو من القلة النادرة التى تربى على علمها وفعلها أكثر من جيل.. لا فى مصر وحدها.. ولكن فى كثير من البلدان العربية والإسلامية.. وكيف لا وهو الذى تربى فى أحضان الدعوة، ورضع من لبانها، وتتلمذ على جهابذة العلم، وأساتذة الفكر، وأساطين الدعوة.. وعلى رأسهم الإمام الشهيد حسن البنا.. قيل لأحد الفلاسفة: نراك تحب معلمك أكثر من أبيك !! فقال: إن أبى سبب حياتى الفانية.. ومعلمى سبب حياتي الباقية !!. هذا فى المعلم العادى.. فكيف إذا كان المعلم هو الداعية العملاق الشيخ محمد الغزالى؟!! وهذا النوع من الدعاة يشبه الماء فى ريه للظمآن، وتطهيره للأبدان، وتثبيته للأقدام.. إنه كالغيث.. أينما وقع نفع.. إنه كالشمس.. إذا غربت فى جهة طلعت فى جهة أخرى فلا تزال طالعة أبدا إن العلامة محمد الغزالى واحد من أبرز الدعاة الذين ينبهون الناس، ويرفعون الالتباس، ويفكرون بحزم، ويعملون بعزم، ولا ينفكون حتى ينالوا كل ما يقصدون . إن الشيخ محمد الغزالى ـ مد الله فى عمره ـ ينطلق فى دعوى على أساس أن الإسلام قضية ناجحة تحتاج فقط إلى محام مخلص، وعالم واع، وداعية فاهم.. وهو ـ ولا أزكيه على الله ـ من كبار المحامين المخلصين الذين تباروا فى الساحة دفاعا عن أصالة هذا الدين العظيم.. وهو من أبرز العلماء الواعين الذين عرضوا قضيته بحرارة وجرأة ويقين.. وهو على رأس الدعاة الفاهمين الذين يستميلون النفوس الطيبة، ويرضون العناصر المستعصية، ويستعرضون الأدلة والبراهين سهلة طيعة وهو فوق ذلك يدفع بنفسه دفعا إلى ساحات الجهاد بالكلمة فينطق بها صريحة فصيحة من مخارجها الصحيحة، لا(1/243)
يتردد ولا يتلعثم ولا يتقاعس ولا يتخاذل.. ولكن يقتحم المعارك وهو يحمل نفسا خاشعة تأنس للحق وتهش له، وتستعلى على الباطل وتعرض عنه، وترى فى ذلك كرامتها وعظمتها. ص _010
إن الذى خلق الحقيقة علقما لم يخل من أهل الحقيقة جيلا وإذا كانت الدعوة إلى الله تتطلب الدعاة الخبراء الأمناء مصداق قوله تعالى: (الرحمن فاسأل به خبيرا). أى استعلم عنه من خبير به، عالم بدقائقه فاتبعه ، ثم اقتد به.. إذا كانت الدعوة فى حاجة إلى هؤلاء الخبراء فإن شيخنا الغزالى من أبرز هؤلاء الخبراء الذين يحسنون عرضها ، ويميزون أصدقاءها من أعدائها.. إن مؤلفات صاحب الخطب التى أربت على الأربعين كتابا تشكل فى مجموعها جانبا مهما من المكتبة الإسلامية التى يمكن اعتبارها سجلا لتاريخ الدعوة الفكرى إلى حد بعيد، ونبراسا يهتدى به الدعاة فى ظلمات الفكر المعوج، ومتاهات الفلسفات المعقدة يقول الكاتب الإسلامي السورى الأستاذ عمر عبيد حسنة مدير تحرير مجلة الأمة القطرية: " كانت كتابات الشيخ الغزالى تحمل عاطفة الأم على وليدها المريض الذى تخشى أن يفترسه المرض، وبصيرة الطبيب الذى يقدم العلاج.. وقد يكون العلاج جراحة عضوية إن احتاج الأمر إلى ذلك.. وكانت كتبه وكتاباته تواجه التحديات الداخلية والخارجية على حد سواء.. وحين نعرض لمؤلفات الغزالى التى رافقت خطوات الدعوة الإسلامية الأولى فى العمر الحديث، والتى جاءت تسدد طريقها، وتبصر بأعدائها وتحذرها من المزالق التى ترسم لها فى الوقت الذى كانت تصطرع فيه الأفكار والمبادئ لإيجاد البدائل الثقافية للإسلام، وتكريس فصل الدين عن الدولة نجد الشيخ الغزالى فى الخندق الأول حيث أدرك الثغرات التى يمكن أن يتسلل منها أعداء الإسلام من خلال واقع اجتماعى ليس له من الإسلام سوى الاسم.. لذا نرى أنه من أوائل من كتب عن "الإسلام والأوضاع الاقتصادية "، " الإسلام والمناهج الاشتراكية " وكان كتابه " الإسلام المفترى عليه بين(1/244)
الرأسماليين والشيوعيين " أول صيحة فى التميز الإسلامي، كما أنه من أوائل من تنبه إلى الأخطار والأمراض التى يخلفها الاستبداد السياسى.. وكتب فى العقيدة وهى رأس الأمر كله.. وكتابه " عقيدة المسلم " من الكتب المبكرة فى هذا المجال.. وكتب فى السلوك الإسلامي، فقدم الكثير فى مجال المناصحة للدعوة الإسلامية نفسها!.. وهى تمثل وجهة نظره فى مشكلات الدعوة والأمراض التي أصيبت بها . ص _011
وقصة هذا الكتاب " خطب الشيخ محمد الغزالى " ترجع إلى عام 1980 عندما أعلنت نقابة المحامين بالقاهرة عن محاضرة بعنوان: " مسئولية الحاكم فى الإسلام " يشارك فيها فضيلة الشيخ محمد الغزالى.. وكنت قد تعرفت على فضيلته من خلال كتابه " مع الله " الذى كان مقررا علينا فى السنة الأولى بكلية أصول الدين بالقاهرة.. وكان ذلك أيضا فى عام 1985.. وكنت بعد قراءة الكتاب معجبا أيما إعجاب بفضيلة الشيخ، ووددت لو رأيته واستمعت إليه.. وكانت فرصة عظيمة أن تعلن نقابة المحامين عن محاضرة يشارك فيها الشيخ محمد الغزالى، فأسرعت إلى هناك يحدونى الشوق.. وجلست أترقب طلعته.. وتراءت لى صورته بكل هيبته ووقاره وتواضعه..كما ظهر لى وجهه الباسم.. المشرق المضيء.. وصوته الهادئ النابض بالثقة والإيمان وكأنما هو بقية من السلف الصالح.. لقد بهرنى حديثه بما فيه من دقة النظرة، وخبرة الحاذق، ودراية العارف بكنوز ديننا،؟كما شدنى تناوله للموضوع من زوايا محددة نحو هدف واضح يصل إليه بسهولة أخاذة وهو يسوق الجمل القصيرة التى تشبه القضايا المنطقية بأسلوب يجمع بين العمق والرشاقة وهما ينسابان إلى العقل والقلب معا !! ورأيتنى أردد فى نفسى قوله عز وجل: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب) . ومنذ ذلك اليوم وأنا حريص على لقائه من خلال كتبه ومقالاته.. ومن خلال خطبه ومحاضراته التى أصبحت متعتى الخاصة أسعى إليها طالبا لها، باحثا(1/245)
عنها.. وتد توافر لى عدد لا بأس به منها.. وإن كنت لا أفتأ أطلب المزيد.. وذات يوم حدثتنى نفسى: لو كانت هده الثروة العلمية العظيمة فى يد غيرى لأحببت أن تكون فى يدى.. فلم لا أحب لغيرى ما أحب لنفسى.. والنبى صلوات الله وسلامه عليه يقول: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " .. إذن فلأكن مؤمنا.. وقد يكون هناك من هو أوعى لها منى.. ولأكن فى ذلك مبلغا.. ففى الحديث الشريف: " نضر الله امرءا سمع مقالتى فبلغها.. فرب حامل فقيه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " .. ولما أفضيت بفكرتى إلى شيخى وأستاذى العالم العامل الفقيه فضيلة الشيخ أحمد عيسى عاشور حفظه الله استحسن الفكرة ، وتحمس ص _012(1/246)
لها.. فقلت لفضيلته: إننى أراها من موافقات القدر الطيبة أن تكون يا شيخى جامعا لأحاديث الثلاثاء التى ألقاها الإمام الشهيد حسن البنا رضى الله عنه والتى تلقاها الناس بقبول حسن.. وأن يكون تلميذك جامعا لأحاديث الإمام محمد الغزالى حفظه الله التى تلقاها الناس أيضا بقبول حسن.. وعندها عقدت العزم على تفريغ " الأشرطة المسجلة " التى أصبحت أمانة فى عنقى أخاف عليها الضياع والتلف.. ومضت فترة من الزمن لم أنجز فيها ما وعدت بإنجازه نظرا لاشتغالى بإعداد رسالة الماجستير.. فلما علم أستاذى الفاضل الدكتور محمد عاشور بالأمر طلب إلي أن أتفرغ للفكرة وأن أنكب عليها وهو يردد " هذا عمل عظيم، وإنجاز كبير، وكنز ينبغى أن يكون بين أيدى الناس.. وهو أيضا عمل صالح تلقى الله عز وجل به " ثم قدم لى المساعدات الفنية، والنصائح العلمية التى كانت وراء إخراج هذا العمل العظيم فى صورته المشرفة والمرضية.. ثم كان الختام المسك على يد الأستاذ المفضال المجاهد المجتهد الأستاذ حسن عاشور الذى ألبس الكتاب حلته الزاهية التى تليق بمكانته.. فجزاهم الله تعالى خيرا.. وما هذه أول بركات آل عاشور.. وبذلك أصبحت هذه المجموعة من الخطب حديقة ذات ألوان متعددة، وروائح مختلفة آملين أن تصبح من المراجع المهمة، والوثائق المعتمدة التى يفيد منها المؤرخون فى كثير من قضايا العمر التى تشغل عقول المعنيين بشئون الإسلام والمسلمين خلال الفترة التاريخية التى عاصرت هذه الخطب، والتى يمكن أن يتعرفوا من خلالها على الفعل ورد الفعل، وعلى المشكلات وحلولها ، والعلل و دوائها "ولا ينبئك مثل خبير" . أما هذه الخطب التى اشتمل عليها هذا الجزء فإننا نسأل الله العلى القدير أن يجعل فيها النفع، وأن يضع لها القبول، وأن يوفق كل من انتفع بشيء منها فيتوجه إلى الله عز وجل- وهو خير مسئول وأكرم مأمول- أن يثيب قائلها بأجزل الثواب وأحسنه، وأن ينسأ له فى أجله، وأن يبارك، فى حياته،(1/247)
وأن يجعله مفتاحا للخير، مغلاقا للشر، وأن يهدى به الضال، ويقوم به المعوج..كما لا أنسى نفسى من مثل هذه الدعوات وأنا أتعلق بهذا العالم المتمكن الذى أفادت منه أجيال تحتل الصدارة الآن فى ربوع العالم العربى والإسلامي تسير سيره، وتنهج نهجه، ومن سار على الدرب وصل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. كاتبه الفقير إلى الله عز وجل القاهرة: الدرب الأحمر. قطب عبد الحميد قطب فى يوم الأربعاء8 رمضان ص 07 هـ الموافق 6 مايو 1987 م
ص _017(1/248)
وهناك دعاة آخرون لا يفرقون بين الشكل والموضوع أو بين الأصل والفرع، أو بين الجزء والكل فهم يستميتون فى الإنكار بأى شكل من الأشكال ويبددون قواهم كلها فى محاربة هذا الشكل، أما الموضوع فهم لا يدرون ماذا يصنعون إزاءه ولهؤلاء عقلية لا تتماسك فيها صور الأشياء بنسب مضبوطة ولذلك قد يهجمون شرقا على عدو موهوم ويتركون غربا عدوا ظاهرا بل ربما حاربوا فى غير عدو . . وهؤلاء وأولئك عبء على الدعوة الإسلامية يجب إصلاحهم كما يجب إصلاح الذين يدخلون ميدان الدعوة بنية العمل لأنفسهم لا لمبادئهم فإن العمل الذى يستهدف القيم الإسلامية غير العمل الذى يدور حول المآرب الشخصية. تبين لى بعد أربعين سنة من العمل فى الدعوة الإسلامية أن أخطر ما يواجه العمل الإسلامي هو التدين الفاسد أى استناد النفس إلى قوة غيبية وهى تعمل للخرافات والأوهام، أو هى تعمل للأغراض والمآرب.. الدين مثلا يقظة عقلية وهؤلاء يعانون تنويما عقليا متصلا والدين قلب سليم وهؤلاء استولت على قلوبهم علل رديئة.. والأمر فى كشف التدين الفاسد يحتاج إلى تفاصيل للتعامل مع الآفات النفسية والعقلية التى تسبب هذا البلاء، وقد خصص أبو حامد الغزالى جزءا ضخما من كتابه (الإحياء) فى علاج هذه الآفات والتحذير منها كما وضع ابن الجوزى كتاب " تلبيس إبليس " للكشف عن صور التدين الفاسد وأبعاد العامة والخاصة عنه. وقد ألفت بعض كتبى وأنا مستغرق فى محاربة هذا الجانب من التدين المعلول سواء كان رسميا أو شعبيا مثل كتاب ( تأملات فى الدين والحياة) وكتاب ( ليس من الإسلام) وكتاب (ركائز الإيمان بين العقل والقلب) وأخيرا كتابى (الدعوة الإسلامية تستقبل القرن الخامس عشر). والحقيقة أن التدين الفاسد سر انحراف كثير من العقلاء لأنهم ينظرون إلى الدين من خلال مسالك بعض رجاله وآثارهم في الحياة العامة، والواقع أن بعض المتدينين كانوا فى القديم والحديث بلاء على الدين. بدأت الكتابة منذ الشباب(1/249)
الباكر وكانت هواية عندى ورغبة أجد راحة في تحقيقها ولم أتوجه إلى الكتابة الدينية إلا بعد أن اشتغلت بالدعوة(1/250)
مقدمة الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبى بعده. أما بعد: فيسرنى ويسعدنى أن أقدم للقراء الأعزاء الجزء الثانى من خطب الداعية الإسلامي الكبير فضيلة الشيخ محمد الغزالى. وفضيلة الشيخ محمد الغزالى- حفظه الله - غنى عن التعريف فهو بالنسبة إلى قراء العربية بمثابة الذهب فى عالم المعادن لا يكاد يجهله أحد !!. إنه صوت الإسلام الصافى الفذ الحنون الذى يعرف كيف يحرق الأفئدة ويضيئها فى الوقت نفسه !!. والحق أننى عندما عزمت على إعداد هذه الخطب التى ألقاها شيخنا كنت أستهدف بذلك أن أرد للمنبر هيبته، وأن أعيد للمسجد مكانته، وأن أثبت بالدليل القاطع أن الخطابة فى الإسلام - كما يقول شيخنا فى أحد كتبه- مظهر الحياة المتحركة فيه، الحياة التى تجعل هذا الدين يزحف من قلب إلى قلب، ويثب من فكر إلى فكر، وينتقل مع الزمان من جيل إلى جيل، ومع المكان من قطر إلى قطر.
ص _010(2/1)
وذاك هو السر فى أن نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم كان يخطب كل أسبوع وكل عيد، ويخطب أو ينيب عنه أميرا يخطب فى وفود الحجيج عند جبل الرحمة. أقول: وذاك هو السر فى تسجيلنا وإعدادنا هذه الخطب التى تجعل- فعلا- هذا الدين يزحف من قلب إلى قلب، ويثب من فكر إلى فكر، وينتقل مع الزمان من جيل إلى جيل، ومع المكان من قطر إلى قطر. لقد كنت أشعر وأنا أستمع إلى هذه الخطب الفذة بجلال المنبر وخطره، وفضل المسجد ودوره. .. فمن خلال هذه الخطب الفياضة طرحت مفاهيم العقيدة، وتعاليم الشريعة، وعولجت المشكلات، وقدمت الحلول. .. من خلال هذه الخطب تعلم الناس أن الإسلام روح يسرى فى كيان هذه الأمة فيحيى مواتها، ويبدد ظلامها!!. .. من خحل هذه الخطب تعلم الناس أن الإسلام دين ودولة، عقيدة وشريعة، مصحف وسيف، جسد وروح، عقل وعاطفة، إيمان ونظام، دنيا وآخرة. .. من خلال هذه الخطب ارتفع صوت الغزالى يذكر المسلمين بأيام الإسلام المجيدة، وعزهم المفقود، ويروى للأجيال أخبار الرجال الذين قضوا على دروب الجهاد فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا!!. .. من خلال هذه الخطب ارتفع صوت الغزالى مدويا كالرعد العاصف يحذر من الأخطار المحدقة بالأمة والتحديات الكبرى التى تنتظرها. ص _011(2/2)
من خلال هذه الخطب اشتبك الغزالى مع سماسرة الاستعمار العالمى فى العالم الإسلامى الذين عاشوا بيننا ينبحون ديننا ويخدمون أعداءنا.. اشتبك معهم الغزالى فكشف دورهم، وفضح ضلالهم، وشرد بهم من خلفهم !!. . من خلال هذه الخطب وقف الغزالى فى وجه ما أسماه بالفرعونية الحاكمة والقارونية الكانزة وخاض معركته مع هؤلاء تحت شعار فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان، فصدع بالكلمة التى ترض الله وتسخط كل عدو له!. .. من خلال هذه الخطب واجه الغزالى ما أسماه بالتدين المغشوش الذى يعلو صوته بالحفاظ على الإسلام حيث لا خطر، ويصمت كأن الأمر لا يعنيه حيث يوشك الإسلام على الغرق !!. بهذا التدفق العلمى والعاطفى والأدبى بين الغزالى حقائق الإسلام (.. ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم) . فكان بحق- ولا نزكيه على الله - من هؤلاء (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا) نشهد شيخنا ـ ولا نزكيك على الله ـ أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة فجزاك الله عنا وعن الإسلام والمسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها خير الجزاء. ونسأل الله أن يبارك فى عمرك ويمد فى أجلك، وأن يديم عليك نعمة الإيمان والتوفيق. وكلمة أخيرة تتصل بمنهجى فى التحقيق هى أننى فى هذا الجزء ـ وفيما يليه من أجزاء إن شاء الله ـ رأيت أن الحديث إذا أخرجه الشيخان أو أحدهما أن أكتفى بالإشارة إلى ذلك لأن المقصود معرفة صحته لا كثرة الرواية له. ص _012(2/3)
أما إذا لم يكن الحديث من أحاديث الصحيحين فإنى أكتفى بالإشارة إلى بعض الذين أخرجوه مع بيان درجته. وإنى لأبتهل الى الله سبحانه وتعالى أن يأخذ بيدنا ويعيننا على إخراج باقى هذه الأجزاء المباركة ليستهدى بها الخطباء والدعاة والمربون والمصلحون فى العالم الإسلامى. والله الموفق.. كتبه الفقير إلى الله تعالى قطب عبد الحميد قطب القاهرة فى 15 شوال 1408 هـ. * * * ص _013
القمة الأولى في تاريخ البشرية!! خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فقد استخرت الله تعالى، ورأيت أن أجعل خطب الجمعة فى شهر ربيع كله حديثا عن السيرة النبوية، وإبرازا للشمائل المحمدية.. قلت: ذلك شئ نراغم به أعداء الله، وخصوم النبوة الخاتمة.. فإن الاستعمار شرقيه وغربيه، وإن سماسرة الاستعمار عربا أو غير عرب، يظنون الإسلام دينا خارجا على القانون، ويظنون المسلمين أمما متخلفة ينبغى الخلاص منها، ويظنون النبوة الخاتمة نبوة دعية آن الأوان لينساها الناس !!!. ما بد فى وجه هذا الافتراء الغليظ، وهذا الادعاء الكذوب.. ما بد من أن نجلو الحقائق، وأن نوضح للناس ما هو الجهاد المحمدى؟ وما هى أبعاد الشخصية الكبيرة التى تفردت فى تاريخ الإنسانية كله.. تفردت على أنها قمة شماء توجها الجلال والمجد، وينبغى أن يعرف الناس حقيقة هذه النبوة، وقدرها العالى. ولنبدأ بتلاوة الآية الكريمة: ص _014(2/4)
(إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما). كلمة الصلاة هنا تعنى مزيجا من الثناء والمحبة ورفعة الشأن والدرجة.. ولذلك قال العلماء: عديت بـ " على " يصلون عليه: يثنون عليه، ينوهون بعظمته. وهذه الكلمة وردت بالنسبة إلى أعمال صالحة قام بها أصحابها فاستحقوا بها الصلاة وبالنسبة إلى جمهور المؤمنين عموما.. فمثلا الذين يصبرون على مصابهم، ويتحملون بجلد بلواهم.. هؤلاء لا يحرمون من عناية القدر وعطفه (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون). الذين يخرجون الحق المعلوم، ويكبتون وساوس الشيطان التى تأمر بالبخل والكزازة، ويبسطون أيديهم بالعطاء تفريجا للكرب، ودعما للجهاد.. هؤلاء أمر النبى عليه الصلاة والسلام أن يأخذ صدقاتهم، وأن يصلى عليهم (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم). أى يجيب دعاءك لهم وصلاتك عليهم. ورب العالمين يحب أهل الإيمان، ويتولاهم بالسداد والتوفيق، تحيط بهم فى الدنيا ظلمات شتى.. فهو. يخرجهم من الظلمة، ويبسط فى طريقهم أشعة تهديهم إلى الغاية الصحيحة، وترشدهم إلى الطريق المستقيم.. هذا المعنى فى عمومه ذكرته الآية: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ..). ثم جاءت آية أخرى تقول: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته ص _015(2/5)
ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما). لكن الصلاة التى يستحقها الصابرون على مصابهم، والصلاة التى يستحقها المؤتون لزكواتهم، والصلاة التى يخرج بها أهل الإيمان من الظلمة إلى الضوء، ومن الحيرة إلى الهدى.. هذه الصلوات كلها دون الصلاة التى خص الله بها نبينا محمدا عليه الصلاة والسلام، لماذا؟ لأن صلاة الله وملائكته على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تنويه بالجهد الهائل الذى قام به هذا الإنسان الكبير كى يخرج الناس من الظلام الذى أطبق عليهم فى القارات كلها، فشرد خطوهم، وأفسد بالهم وأضاع لبهم، وجعلهم ـ سواء كانوا أتباعا لأديان أرضية أو سماوية ـ لا يعرفون قليلا ولا كثيرا من هدايات الله. بل إما ضلوا ضلالا بعيدا، وإما شاب هداهم من السموم والأوبئة ما يجعله شرا لا خير فيه إ!. إن ظلمات القطين لا تستطع شبكات الكهرباء بمصابيحها المحدودة أن تزيحها، ولا أن تبدد عماها!!. إن ظلمات القطبين تحتاج إلى كوكب كالشمس تتعرض له فيبدد الغيوم ويذهب الكسف المتراكم !!. وكذلك العالم ما كان يمكن أن يهتدى أو أن يرعوى أو أن يرشد إلى الحق ويعرف طريقه ولو تحمل ذلك ألف داعية وألف مفكر وألف فيلسوف، كان أولئك جميعا سيبوءون بالعجز، ويرجعون بالخزيان. إنما الذى يستطع تبديد هذه الجاهليات، وإذهاب تلك المظالم والظلمات، هو الإنسان الفذ الذى اختاره الله ورباه على عينه وقال له: (...فإنك بأعيننا ..). هذا الإنسان هو وحده الذى كان يستطع أن ينقل العالم أجمع من الضلال إلى الهدى !!. أكد هذا المعنى قوله جل جلاله: ( لم يكن الذين كفروا من أهل ص _0 ص(2/6)
الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة). ما كان أهل الكتاب ولا كان المشركون ينفكون عن ضلالهم، يفارقون غوايتهم وحيرتهم وعوجهم وشردوهم، ما كانوا يستطيعون الانفكاك من مواريث الغفلة وتقاليد العمى؛ إلا بعد أن جاء هذا النبى الكريم صلى الله عليه وسلم وأخذ يحمل حملاته الصادقة على تقاليد الجاهلية ومواريثها الزائغة مسترشدا فى ذلك كله بالوحى الذى ظل ينزل عليه قرابة ربع قرن: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة * رسول من الله يتلو صحفا مطهرة * فيها كتب قيمة). فيها مكتوبات ذات قيمة، قيمتها من أنها هى الحق الذى لا ريب فيه، هى الصواب الذى لا خطأ معه، هى الطهر الذى لم يلوث بأهواء الأرض ولا إفك البشر ولا شهوات الضائعين المحرومين من معرفة الحق!!. كان ذلك النبى كما قرر ذلك المنصفون الذين لم يتبعوا دينه، ولكنهم درسوا تراثه قالوا: " إنه القمة الأولى بين عظماء الناس!! ". والمؤلف الأمريكى الذى ذكر مائة من قمم التاريخ ومن عظماء الخلق والذى جعل القمة الأولى فى هؤلاء العظماء محمدا عليه الصلاة والسلام كان هذا المؤلف رجلا ملهما صادقا عادلا. المقياس الذى وضعه لهذه العظمات المختلفة وترجيح عظمة على أخرى هو: مدى التغيير الذى أحدثه هذا العظيم فى الدنيا، ولقد وازن، ثم بعد موازنات عميقة وذكية، انتهى إلى أن الأثر الروحى والفكرى والخلقى والسياسى والحضارى الذى تركه محمد عليه الصلاة والسلام فى العالم ليس له نظير أبدا !!. ومن هنا اضطر مع مقدمات العقل والمنطق، ومع موازين الإنصاف والعدالة أن يقول: إن القمة الأولى فى العالم هى محمد عليه الصلاة والسلام. تغيير حاسم تركه هذا النبى فى العالم.. تتبعت عناصر هذا التغيير، ص _017(2/7)
وأخذت أتأمل فيها وأتروى فى عرضها، فوجدت عدة عناصر لا بأس أن أتحدث عنها بإجمال. العنصر الأول: رفض النبى عليه الصلاة والسلام أن يتعرف عظمة الخالق بالتأمل فى ذاته، فإن معرفة الذات العليا باكتناه هذه الذات مستحيل، بل إن معرفة الروح الإنساني مستحيل. قد أحفظ القرآن، أين هو من دماغى؟ إ! أين مكان الذاكرة؟ لا أدرى، فإذا كان الإنسان لا يدرى ما حقيقته هو فكيف يعرف حقيقة من نفخ من روحه فى ملايين الخلق؟ إ!. الآن خمسة آلاف مليون من الخلق تتحرك على ظهر الكرة الأرضية كل له عقل، كل له فؤاد، فيه اليأس والرجاء، فيه الحزن والفرح، فيه الإقبال والإدبار، دعك من هذا الجسد وما يحتاج إليه هذا الجسد فى دورة الدماء، وفى تنفسه بين الحين والحين، وبين حاجته إلى الإمداد المستمر، دعك من هذا كله؛ فإن الأرض وما عليها تكاد تكون صفرا فى الكون الكبير !!. إذا كان الإنسان أعجز من أن يعرف نفسه فكيف يعرف حقيقة الله؟!. إنما يستطع أن يلمح شعاعا من عظمة الوجود الأعلى عندما يتدبر فى الكون، ويتعرف على عظمة الخالق من عظمة المخلوق، وهذا هو ما انفرد القرآن الكريم به، فليس فى الدنيا كتاب كالقرآن تحدث عن الملكوت وآفاقه، وعن المادة وأسرارها، وعن القوانين التى تحكم هذا العالم، ثم من خلال هذا عرف الناس بربهم !!. هذا شئ لم يعرف فى كتاب دينى ولا مدنى قبل كتاب محمد عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون * فالق الإصباح ص _018(2/8)
وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم). نظرة فى الكون: (فالق الحب والنوى) من نواة ترميها بأصبعك على الأرض فتتدخل القدرة العليا فى هذه النواة، فإذا نخلة تتكون يصعد عليها عدة أشخاص فتحملهم!!. من فلق النواة عن هذه النخلة؟!! من فلق الحبة عن هذه السنابل ولوز القطن وغير ذلك ؟!! وهذا من عجائب الكون فى الزراعة وحدها. نظرة أخرى: (فالق الإصباح) الضوء يشق الظلام، وكيف يشق الضوء الظلام؟ أثر أصابع القدرة وهى تدفع بالكواكب شرقا وغربا، وتحرك هذا الكون الذى وصفه فلكى كبير بأنه كون راقص!!. كل شئ فيه يتحرك، ومع الحركة شروق وغروب، ومع هذه الحركة ينفلق الليل عن الصبح وتظهر الضحوة الكبرى!!!. هذا نموذج فى كتاب مشحون بالكلام عن الكون أغرب ما يؤسف الإنسان أن الكتاب المشحون بالكلام عن الكون، وأن الكتاب الذى قال لأتباعه: هذا الكون يدل على الله، وهو فى الوقت نفسه مسخر لكم، ترتفقونه وتنتفعون بخيرات الله الظاهرة والباطنة فيه: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ..). كان المفروض أن يكون المسلمون أسبق الناس إلى غزو الفضاء بتوجيهات هذا الكتاب! ولكن المسلمين سكروا بخمرة السلطة حينا، وخمرة الترف والدنيا المقبلة حينا، وخمرة الغفلة والغباء فى فهم النصوص حينا وخمرة السطحية التى تمشى وراء اللفظ ولا تعرف أنه وعاء للمعنى!! كل هذه الخمور جعلت الأمة الإسلامية فى وضع تنظر فيه إلى غزاة الفضاء ص _019(2/9)
وكأنهم جن !! بل بعضهم يستنكر أو يستغرب لأنه لا يدرى عن الكون شيئا، ولم لا يدرى عن الكون شيئا؟ !! لأنه لا يعرف عن الكتاب شيئا، إنه لا يدرى عن القرآن شيئا، ذلك الكتاب الذى فجر الطاقة الإنسانية فى البشر، هذا الكتاب ذهل عنه أهله. العنصر الثاني: لنترك هذا العنصر ولننظر إلى عنصر آخر. تحدث هذا الكتاب عن الإنسانية كعنصر متماسك يتوزع عليه اليوم والأمس والغد. نظر القرآن إلى الماضى فأخذ يسوق قصصه، ويزجى عبره، ويسرد أمام أعيننا ما كان من الأجيال الماضية والقرون الغابرة لنتعلم من تجاربهم ونستفيد مما وقع لهم، وكان أغرب ما أظهره فى هذا: أن الحضارات المترفة تتفسخ، وأن المدنيات العابثة تزول، وأن أنصار الحق وإن بدوا ضعافا، فإنهم ينمون فى مغارسهم كا تنمو الشجر فى مغارسها، لو دستها بقدمك أول ما تنبت لماتت، ولكنها تظل تنمو وتنمو حتى تتحول أشجارا باسقة، لو ركبها عدد من الناس لحملتهم!!!. ثم أهل الباطل الذين يبدءون طغاة جبابرة ولا تزال الأيام تلح عليهم وسنن الله تعمل عملها ضدهم حتى تجعلهم تحت الرغام !!!. (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون). . الصراع بين الهدى والضلال، بين الحق والباطل اتسعت له قصص الأنبياء، وقصص المصلحين فى كثير من سور القرآن الكريم. وتوقفت وأنا أعجب أمام بعض الآيات التى لاحظت فيها كلمات صارمة، ما تكون إلا من رب العزة، يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فى سورة الأنعام، والنبى صلى الله عليه وسلم مشتبك مع بعض أعدائه فى صراع حياة أو موت، ورسالة الإسلام ملتحمة فى ميادين شتى بين أتباع ضعاف، وضلال أقوياء يريدون إشاعة الفتنة، وتأجيج الشر والجاهلية يقول الله له تحمل: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ص _020(2/10)
ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين). كلمات الله هنا قوانينه الكونية التى سطرها فى الأزل، فهى كتاب العلم الإلهي، ليست كلمات الله هنا كلمات القرآن الكريم لا، إنما المقصود كلمات الإيجاد والإعدام والرفع والخفض، والإعزاز والإذلال (ولا مبدل لكلمات الله ) لابد أن تخضع الرسالات لهذه الأطوار التى يتم فيها صهر المؤمنين وإنصاف الكافرين (...ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة...). لابد من هذا التراخى (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ) ثم يقول له: (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين). وقفت عند الكلمة الأخيرة ويكاد شعر رأسى يقف!! ثم وجدت أن رب العالمين خاطب أخا لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قبل بهذه اللغة الصارمة، عندما قال نوح: (.. رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين). لرب العزة أن يتناول عباده- من الأنبياء فمن دونهم ـ بما يريد من أساليب التزكية والتأديب والتربية والتعليم!!. وهذا مسلك يدل على أن القرآن ليس من عند محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبدا، إنه من عند رب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذى يقول له: (فلا تكونن من الجاهلين) (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين). ص _021(2/11)
هذا رب محمد صلى الله عليه وسلم يتحدث إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا كلام رب العالمين الذى يجب أن نستمع له. وأن ننتفع به. عنصر ثالث: يتصل بيوم الناس هذا، هذا العنصر هو كيف نعيش يومنا ؟. كان اليهود يقولون: الجنة حكر علينا وحدنا!! كان النصارى يقولون: الجنة حكر علينا وحدنا!! وجاء الإسلام يقول: لماذا يحرم الجنة من أسلم لله وجهه وأخلص له قلبه وأحسن لى عمله؟! ما ينبغى أن يحرم، ولذلك لما قالوا: (.. لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين * بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). إننى أغتاظ أحيانا عندما يجئ السطحيون فيسألوننى عن أمور لا قيمة لها، قلت: وددت لو سألتمونى كيف نشيع الأمانة بين الناس؟ كيف نجعل كل امرئ يتحمل مسئوليته؟ كيف يتراحم المؤمنون ويسوق بعضهم الخير إلى البعض الآخر؟ كيف ينسلخون عن الأنانية التى تجعل الواحد منا يدور حول نفسه؟. شئ آخر.. مستقبل الإنسانية.. إن القرآن الكريم تحدث كثيرا عن الغد الذى نزيغ منه، لا نفكر فيه، تحدث القرآن عن الآخرة، وحديث كثير من المتدينين عن الموت والآخرة يحتاج إلى مراجعة. إنهم يفكرون فى الجسد وحده، بقولون لك: القبر مكان الظلمة.. مكان الدود.. هذا مكان الجسد. أعجبنى وأنا أحدث أحد الناس عن شهيد للإسلام فى هذا العصر.. فقال لى فى هدوء وثقة: لعله الآن يسبح فى أنهار الجنة!! لعله الآن يمرح فى ظلال النعيم!! لعله الآن مستريح فى جوار ربه يلقى من الرضا ما تقر به عينه أو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر!! ص _022(2/12)
قلت له: أحسنت.. هذا هو الجواب. إن الحديث عن الدار الآخرة كما وضحه الإسلام، ما يتناول القبر بهذه الطريقة، وإنما يتناول الروح ومستقبله عند الله، ويعرض حوارا بين مسلم مؤمن بالآخرة وبين شيوعى أو وجودى أو مادى، سواء كان من غرب أوربا أو أمريكا أو أى بلد فى العالم. والمادية الآن لها شقان: شق ملحد شيوعى، وشق ملحد آخر يدعى أنه من أتباع النبيين، ولا نبوة له ولا صلة له بالسماء: (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون * قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أئنك لمن المصدقين * أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون). أين هو؟ (قال هل أنتم مطلعون * فاطلع فرآه في سواء الجحيم). أى فى وسط الجحيم.. فى وسط النار.. فى قعر جهنم. (قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين). بهذا القرآن، بحديثه عن الكون، بقصصه التاريخى عن الأوائل، بوصفه للمسلك المستقيم فى يوم الناس هذا، بإعداده لليوم المشهود يوم اللقاء، بهذا غير محمد صلى الله عليه وسلم وجه الدنيا!!. وبعد أن كان التوحيد مطاردا، أو مجهولا هنا وهناك، وطأ له الأكناف وفتح له الآفاق، وجعل الناس يدخلون فى دين الله أفواجا، بالعلم، بالخلق، بالأسوة الحسنة. وما وضع سيفه إلا يوم وجد ناسا يغلقون الأفواه المؤمنة، يمنعونها الكلام، أو يفتنون الضعاف يمنعونهم الإيمان، عندئذ وضع سيفه ليكسر القوة ويمنعها من أن تقيد العقول والضمائر، إذا كانت فى الأرض فراعنة تقول للمؤمنين مقالة فرعون القديم: (...آمنتم له قبل أن آذن لكم …). ص _023(2/13)
سبحان الله ولماذا تستأذن حضرتك؟ !! من الذى سلطك على الضمائر، وملكك مفاتيح القلوب؟ !!. لا، لن تقولها، وسيقطع عنقك فبل أن تقولها !!. هذا ما فعله محمد عليه الصلاة والسلام لأنه نبى المرحمة، ونبى الملحمة، نبى الدليل يعرضه متألقا يشرح الصدور، ونبى السيف إذا جاء من يعترض الحق ويقول لمن اعتنقه: لا تعتنقه، أو يقول لمن عرف حجته: لا تذكرها لأحد !!. يقول له: لا.. سيسير الحق مقتحما العقبات، ومزيحا العوائق ولو أدى ذلك إلى أن تسفك دماء الفتانين والفاجرين. قمة تفردت فى العالم كله من أزله إلى أبده فى التاريخ القديم، في التاريخ الوسيط، فى التاريخ الحديث!!. لا توجد قمة بشرية تفردت بأعلى الشمائل، وأحلى الأخلاق، وأتعب الجهاد واستطاعت أن تقيم أعدل الحضارات وأزكى المدنيات، ليس إلا هذه القمة التى توجها الله بالطهر والعفة والجمال، وسميت فى التاريخ البشرى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم . أقول قولي هذا وأستغفر الله لى ولكم. * * * ص _024(2/14)
الخطبة الثانية الحمد لله (.. يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: عباد الله.. أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل، واعلموا أيها المؤمنون أن العالم الإسلامى الآن يفتتح القرن الخامس عشر الهجرى فى ظروف عصيبة وأزمات رهيبة، وقضايا دقيقة، ولكن مفتاحها ـ وإن زعم الشرقيون والغربيون أنه لديهم فهؤلاء وأولئك كذبة ـ إن مفتاحها بين أيدينا نحن !!. فى الوقت الذى تغير فيه روسيا على أفغانستان، والذى يغير فيه أتباعهم على المسلمين فى سوريا، والذى يتعرض فيه المسلمون فى بقاع شتى للترويع، فى هذا الوقت أحب أن أقول: إن المفتاح بين أيدينا نحن، إذا تجمعنا واستندنا إلى ربنا واستمددنا منه واعتمدنا عليه وواجهنا عدونا بقوة. إن آلام المسلمين لا تزال تنبع من أرضهم لا من عدوهم، وإن شاء الله فى مساء اليوم سينعقد مؤتمر أرجو أن تحضروه لنتحدث فيه عن حقيقة الموقف فى أفغانستان، عما يجب لأولئك المجاهدين من نصرة فى أعناقنا. ص _025
" اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _026(2/15)
هجرة وهجرة خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضي الله عنه فى 2/2/1973 الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، التابعين "أما بعد".. فإنه فى الغد أو بعده سيطلع هلال المحرم ويبدأ العام الثالث والتسعون من القرن الرابع عشر للهجرة، وكان التاريخ الهجرى هو التاريخ الفرد الذى نسجل به وقائعنا، ونثبت به أحداثنا، ونرتب عليه شؤوننا حتى زاحمه التاريخ الفرنجي وزحزحه عن مكانته، ومازال به حتى جعله تاريخا ثانويا، وجعل الهجرة وما يتصل بها أحفالا شكلية يحتشد الناس فيها بأجسادهم، ثم ينصرفون عنها، وقد نسيت الهجرة وصاحبها وتاريخها، وما يترتب عليها وما توحى به من عبر، وما تنضح به من ذكريات وأحداث. والواقع أن الصراع بين الغزو الثقافى صليبيا كان أو صهيونيا، هذا الصراع اشتد مع الإسلام وتراثه خلال هذا القرن الأخير ـ القرن الرابع عشر للهجرة ـ ويتسم هذا القرن بأنه قرن الأحزان والمذلة، والهزائم المخزية، والوقائع التى ألحقت بالإسلام. وأمته عارا بعد عار، ونكبة بعد أخرى . ص _027(2/16)
ولعل الرائحة الكريهة التى تهب علينا الآن، والتى يستنشقها رواد مسجد عمرو بن العاص رضى الله عنه تذكرهم بالوضع الذى آل إليه الإسلام كله لا هذا المسجد وحده، فإن الروائح المنتنة التى تهب من الجلود حولنا ومن الجيف، ومن القمامات، ومن، ومن.. كل هذا نوع من تذكير القدر لنا بالوهدة السحيقة التى تردى فيها تاريخنا، والأيام الكالحة التى تواجهها أمته والتى يجتازها القرآن الكريم والسنة المطهرة، والله يعلم متى يكون الخلاص من العقبات والعوائق، ومن هذه المحن الروحية والأزمات الثقافية و النفسية والاجتماعية والعالمية التى تحل بالأمة الإسلامية. إن مرور سنة على الإنسان وحده شئ خطير، بل مرور يوم واحد على الإنسان شئ خطير، لقد كان مما يروى عن الحسن البصرى رضى الله عنه قوله : " ما من يوم ينشق فجره إلا ويقول: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتروب منى بعمل صالح فإنى لا أعود إلى يوم القيامة ". فإذا كان مرور يوم له هذه الأهمية فكيف بمرور عام؟ إن طبيعة الإنسان أن ينسى، ولعل النسيان بعض ما يقيم الحياة الإنسانية ويجعلنا نحسنا البقاء على ظهر الأرض، فلو استصحب الإنسان كل ألم نزل به، وكل نكبة أقضت مضجعه لعاش مسهدا بل لكره العيش !! وعندما أقسم " أبو خراش الهذلى " أن يذكر قتيله، وأن يطلب ثأره قال: فو الله ما أنسى قتيلا رزئته بجانب قوسى ما مشيت كل الأرض استدرك الرجل فقال بلى إنها تعفو الكلوم وإنما نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضى الإنسان يذكر القريب، ولكن كلما ضرب الزمن بلياليه وأيامه بين الحوادث وصاحبها فإن الجروح تندمل، والمعالم تنمحى، وينشغل الإنسان بحاضره. لكن هل ما ينساه الإنسان ينساه الديان؟ ص _028(2/17)
لا، لا، فإن الأفراد والجماعات تفعل ما تفعل وتترك ما تترك، ولابد أن تواجه بما فعلت وبما تركت. (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون * هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) ما يمحو الله من كتب الحفظة إلا ما تمحوه التوبة، فإن الإنسان إذا تاب وصدق ما بينه وبين ربه فإن ما سجلته الحفظة يمحى، وكأنما يولد الإنسان من جديد !! ونحن إذ نواجه عاما جديدا نحب أن نستقبله وقد فكرنا فى صفحة جديدة وقد فكرنا فى أن نخط مستقبلنا على النحو الذى يرضى ربنا ويعز جانبنا. أن الأوربيين يصنعون فى منتصف أول يناير حركة تمثيلية يطفئون فيها الأنوار ثم يضيئونها علامة الفصل بين عام مضى وعام بقى. والحقيقة أن الأوربيين عبدوا الحاضر وقدسوا التراب، ونسوا الله!! وأن إطفاء الأنوار في أحفالهم وفي أيامهم لا يعنى إلا انتهاز المتع الحرام، واستغلال الأوقات فى معصية الله !! ولكن المسلمين الذين يقدرون الوقت بالنسبة لأنفسهم أفرادا أو جماعات يجب أن يعلموا أن الوقت سلاح ينبغى أن يستغلوه لمصلحتهم وإلا ذبحوا به !! إذا مرت السنون على المسلمين وهم على هذا النحو من الغفلة التى ترين عليهم فإنهم سيذبحون، ومر الزمن لن يكون لنا بل سيكون علينا!! لذلك ألفت النظر إلى السنة المقبلة، وإلى التاريخ الجديد، ألفت النظر وأنا أبين طبائع النفوس، وطبائع المجتمعات وسنن الله فى كونه. ص _029(2/18)
من طبائع النفوس أننا نحن المسلمين ننسى، بينما غيرنا يذكر، مع أن الله خلق الليل والنهار وبين أنه جعلهما يتعاقبان ليختبر الذاكر من الناسى والشاكر من الجاحد، وقال: (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) خلفة: أى يخلف أحدهما الآخر، وقصة الحياة يريد الله أن يبين فى خواتيمها من الذى ذكر؟ ومن الذى نسى؟ من الذى شكر؟ ومن الذى كفر؟ والناس فيما رأينا ونرى نوعان.. نوع يعيش لنفسه، لجسده، وإذا امتدت حياته الجسدية فى أولاده فهو يعيش لنفسه ولأسرته ويكفيه هذا، ما يفكر فى أفق أبعد، ولا غاية أشرف إنه أشبه بحيوان مهذب!! رزق العقل فهو يسخر عقله فى خدمة هذه المآرب التى جعلها فى الحياة هدفه، وجعلها فى الوجود قيمته ومثله الأعلى !! بينما يوجد ناس لا يعيشون لأنفسهم على هذا النحو الضيق المشوه التافه، بل يعيشون لربهم، ويوم يعيشون لربهم فإن ربهم يكفل لهم مصالح أنفسهم بأرقى وأجدى مما لو سخروا هم عقولهم وعزماتهم فى خدمة أنفسهم !! هناك ناس يقارنون بين دينهم، صلاة، زكاة، حج، جهاد، أمر بمعروف نهى عن منكر، إغماض البصر عن عورة مفضوحة أو سوأة مكشوفة !! إنه يفكر ويوازن، وكل امرئ لا بد وأن يوازن، لأنه يوميا يواجه الاختبار أيعيش لشهواته القريبة ويومه الحاضر ودنياه العاجلة، أم يعيش لربه ولغده ولشرف نفسه وزكاة روحه ونبل مستقبله، كل إنسان يوميا يوازن وبعض الناس على عجل يطرح نداء الحق، ويصم أذنه عنه، ويستمع إلى نداء العاجل القريب. ص _030(2/19)
الله جل شأنه بين للمسلمين أن من أراد أن يعيش لنفسه وحدها، أو لأسرته وحدها، أو لأولاده ومنزله ومصالحه ومعايشه، وأصدقائه وعشرائه فإنه ربما عاش، ولكن بعيدا عن رعاية الله وقبوله ورضاه، بل سيعيش وقد باء بوصف الفسق، قال تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) يوم يكون بقاؤك فى بيتك أحظى لديك من جهادك لربك، يوم يكون حرصك على مصلحتك أقرب إلى ضميرك من حرصك على دينك فقد خسرت الدنيا والآخرة. لما كان المسلمون فى مكة يحيون لدينهم، ويحيون لربهم فإنهم لم يطل بهم التفكير عندما قيل لهم: كى تخدموا الإسلام اتركوا مكة، اتركوا وطنكم الحبيب إليكم واذهبوا إلى بلد ليست لكم به مصلحة ولا تجارة ولا دنيا، وهناك أسسوا للإسلام الوطن الذى يحيا فيه، وينتعش به، اربطوا مصلحتكم الخاصة بمصلحة الإسلام الكبرى. وكانت نتيجة هذا العرض أن جمهرة المسلمين فى مكة غلقت بيوتها، وتركت مصالحها، وهاجرت إلى المدينة تريد أن تعيش لله، وأن تعيش بالدين، وألا تفضل مصلحتها الخاصة على مطالب الإسلام، هذا اختبار يعرض على الأمم وعلى الأفراد كل يوم، وهو يعرض على المسلمين باستمرار، وعندما عرض على المسلمين جاء العرض فى أيام من حق قادة الإسلام فيها أن يتساءلوا. فإن النبى عليه الصلاة والسلام كلف بالهجرة وعمره ثلاث وخمسون سنة !! ص _031(2/20)
كان قد نبئ على رأس الأربعين، وبدأ يدعو إلى الله ويشرح الحق، ويحارب الوثنية، ويمحو ما حوته الجاهلية من خرافات، وكان القرآن الذى نزل فى مكة يطمئنه إلى أن المستقبل له، وأن عاقبة الصراع مع الوثنية لابد أن يكون انتصار التوحيد، سمع سورة الصافات التى نزلت عليه فى مكة قول الله تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون) وسمع فى سورة الروم التى نزلت عليه فى مكة قوله الله (ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين) وسمع فى سورة غافر التى نزلت عليه فى مكة قول الله: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) سمع هذا كله خلال "ثلاثة عشر عاما ولكنه فى نهاية ثلاثة عشر عاما يرى نفسه مضطرا أن يهاجر بليل مختفيا هو وصاحبه من أعين المطاردين الذين ملكوا ظهر الأرض، ورصدوا الجوائز المغرية لمن يجئ بمحمد صلى الله عليه وسلم حيا أو ميتا!! ما هذا؟ أى ختام لهذا الجهاد بعد ثلاث عشرة سنة؟ ولكن حبل الجهاد طويل، ومراحله موصولة، والأمور لا تجرى وفق تقدير المجاهدين. لا، إنها تجرى وفق تقدير الله وحده !! عندما استعجل نوح وقيل له: (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين) فى أعقاب غزوة أحد وهزيمتها المرة قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) ص _032(2/21)
هنا نجد أن منطق المكافح الذى يؤدى ما عليه تاركا لله جل شأنه أن يخط مستقبل الدعوة كما يشاء، وأن يبت فى مستقبل دينه بما يحب، نرى النبى عليه الصلاة والسلام نفذ خطة الهجرة تنفيذا دقيقا، ومع التنفيذ الذى وضعه نلمح أمرين: الأمر الأول: أنه أفرغ جهد البشر فى إحكام الخطة، ما ترك للصدف ثقب إبرة !! أحكم الخطة تماما، المدينة المنورة شمال مكة، فالمسافر إليها يأخذ طريق الشمال كى يضلل المطاردين اتخذ طريق الجنوب. الأمر يحتاج إلى رواحل قوية، جاء براحلتين قويتين أعلفهما وأراحهما حتى تستطيعا تحمل متاعب الطريق ووعثاء السفر!! الطريق يحتاج إلى رجل خبير لا يعرف الطرق الممهدة فقط بل يعرف الطرق الجانبية التى يمكن أن تسلك حتى يمكن الفرار من المطاردين. والخبير بالطريق رجل مشرك، استعان به ولا حرج ثم ما أحس غضاضة فى أن يحسب كم ستتشنج قريش وتحاول العثور عليه بأى طريقة حوالى ثلاثة أيام؟ يختفى إذن فى الغار ثلاثة أيام!! كيف يعرف الأخبار؟ كيف يدرك وهو فى جوف الغار ما تتجه إليه قريش فى مخططاتها وأحوالها؟ إذن فلتجئ إليه الأخبار عن طريق راعى أبى بكر وبعض الأغذية عن طريق بنت أبى بكر!! ويكون راعى الغنم ماحيا للآثار حتى لا يترك للقافة وعراف الطريق أين اختبأ المطاردون الكبار!! كل ما يمكن من جهد البشر فعله!! احترام قانون السببية، هذا هو منطق الإسلام. ص _033(2/22)
يوسف عندما قال لحكومة مصر على عهده: ندخر الحبوب. قال فى الحب: (فذروه في سنبله) لماذا؟ حتى لا يستطيع السوس أن ينال منه . قانون السببية لا بد من رعايته، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم) الأمة لا بد أن تكون مستعدة حتى فى أثناء الصلاة!! ومع حرص الإسلام على قانون السببية، وتنفيذ النبى على صلى الله عليه وسلم له بدقة فأنا لا أعرف أمة استهانت بقانون السببية، وخرجت عليه، وعبثت بمقدماته ونتائجه كالأمة الإسلامية!! زعمت باسم التوكل أن كل شئ يمشى بطريق الفوضى وبديهى كان لابد أن تجنى المر من هذا الجهل!! النبى عليه الصلاة والسلام أحكم الخطة، ومع إحكام الخطة نرى شيئا من لطائف الله، أو من نسائم الرحمة يجئ للمجاهدين وهم فى مراحل الجهاد فيهون الصعب، ويملأ قلوبهم بنور الأمل!! حدث هذا مع يوسف وهو عيل عندما اختطفه إخوته: (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) ألهمنا يوسف وهو عيل أن هؤلاء الأخوة سوف يجيئونه يوما ما، متى، لا يدرى، فيوبخهم على هذا الذى يصنعونه معه الآن !! وتحقق الوعد الإلهي بعد عشرات السنين!! وجاء أخوة يوسف وهم جياع يقولون له (فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين * قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون) ص _034(2/23)
وكانوا اخوة على كثرة عددهم على درجة من الغباوة، ولأمر ما كان يعقوب متعلق القلب بيوسف، كان يوسف ذكيا نقيا، أما هؤلاء فكانوا أصفارا وان كانوا أجساما كبارا. (قالوا أئنك لأنت يوسف) أخيرا عرفوا مع أنهم جاءوا إليه مرة ومرتين ولكنهم لغبائهم ما عرفوا !! تحقق الوعد ليوسف بعد عشرات السنين، لكن عندما كان يصنع به ما يصنع كان الإلهام ينزل على قلبه يقول له: اطمئن، المستقبل لك!! هذا الذى حدث أيضا كان يحدث للنبى صلى الله عليه وسلم، فهو فى طريقه من مكة إلى المدينة كانت بوارق الأمل تلمع أمام عينيه وبصيرته عليه الصلاة والسلام، ويقول علماء التفسير: نزل فى الطريق بين مكة إلى المدينة قوله جل شأنه: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم) وقوله جل شأنه: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين) إذن كان يدرك وهو ذاهب من مكة إلى المدينة أن الله ما خذله، وأن مرحلة الجهاد الجديدة هى طريق النصر، وفعلا كانت طريق النصر، ولذلك كان تعبير القرآن عن الهجرة أنها نصر. (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) لا أريد أن أقص قصص الهجرة فطالما استمعتم إلى هذا القصص ولكنى ألقت النظر إلى أمرين: إن ترك الوطن من أجل عقيدة دافعة، أو من أجل غاية دينية يراد تحقيقها أمر حدث فى القرن الأخير، ولكنة بينه وبين هجرة المسلمين الأولين بون بعيد. ! ص _035(2/24)
إن اليهود بدوافع دينية خالصة تركوا البلاد التي يعيشون فيها كى يقيموا مملكة الله أو دولة إسرائيل فى الأرض المقدسة على انقاض فلسطين المسلمة !! بدوافع دينية احتقر اليهودى الروسى اللغة الروسية، واحتقر النظام الروسي والتربة الروسية، وقرر أن يدع روسيا إلى فلسطين كى يقيم مملكة إسرائيل. واحتقر اليهودى الامريكى الأرض الأمريكية والمصالح الأمريكية، وقرر أن يدع اللغة الإنكليزية، وأن يحترم اللغة العبرية، وانضم اليهودى الأمريكي إلى اليهودى الروسى إلى اليهودى من اليمن إلى اليهودى من مصر الذى كان يسكن هنا فى " السكاكينى " أو فى " الفجالة ". انضم هؤلاء وباسم الدين اليهودى، وباسم التوراة، وباسم اللغة العبرية وتحت علم إسرائيل كان هذا التجمع الدينى، أو كانت الهجرة، هجرة ثلاثة ملايين من أوربا وأمريكا وآسيا وأفريقيا إلى أرض فلسطين: هذه هجرة باسم الدين لكن الفارق يين الهجرة الحديثة وبين الهجرة الإسلامية الأولى، فارق كبير. أول الفوارق، أن المسلمين الذين هاجروا كانوا دعاة توحيد لله وإصلاح للأرض، كانوا يبلغون أو يعلمون الدنيا أن الله رب العالمين لا شريك له، وأن الناس يجب أن يسلموا وجوههم إليه وأن يحيوا على ظهر الأرض وفق الخطة التى رسمها لعباده !! فهم أصحاب مثل عليا لا نظير لها فى الأولين والآخرين!! أما الذين جاءوا إلى أرض إسرائيل فصلتهم بالله مغشوشة والدوافع التى جاءت بهم وإن كانت دينية إلا أن ما فيها من باطل أضعاف ما فيها من حق، وما يكتنفها من ظلم ليست معه شائبة عدل. هذه واحدة، والفارق الثانى أن الذين خرجوا من مكة لم يكن لهم على ص _036(2/25)
ظهر الأرض نصير!! كانت الدنيا تضيق بهم، كان أهل الملل والنحل يكرهونهم لأن توحيد الله على النحو الزكى الراقى الذى شرحه القرآن لم يكن معروفا لا فى الكتب المقدسة المتداولة يومئذ ولا فى تطبيقات الأمم التى تتبع أديانا أرضية أو سماوية !! كان الناس كما قال رب العالمين: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) فغضبت الدنيا من أولئك المسلمين، فكان المسلمون يخرجون وهم على وصف نبيهم صلى الله عليه وسلم الذى وصف بـ (المتوكل) كانوا متوكلين على الله، ليست هناك يد تحميهم إلا يد الله ولا كنف يأوون إليه إلا كنف الله، ولا ظهير يلتمسون العزة عنده إلا الله!! أما اليهود عندما خرجوا من هذه الأراضى الكثيرة التى تركوها إلى فلسطين، فإن الانتداب البريطانى على فلسطين كان يمهد لهم الطريق، كان الأسطول البريطانى فى بحار العالم يحميهم، وأخيرا فإن الدولة الكبرى فى العالم تحميهم. الفارق بعيد بين الهجرتين، وإنما ذكرت أن هناك شبها ما لأن الدافع دينى عند أولئك اليهود بيقين. ومن لعب الاستعمار العالمى بالأمة الإسلامية أنه خلق على تراب الأرض الإسلامية ناسا زهدوا المسلمين فى دينهم، زهدوهم فى تقاليدهم، زهدوهم فى تراثهم، زهدوهم فى تاريخهم، بل يقول أولئك الناس ص _037(2/26)
للمسلمين: دعوا الإسلام فإن المسيحيين تركوا المسيحية، وإن اليهود تركوا اليهودية وإن الوثنيين تركوا الوثنية، وإن العالم ترك أديانه كلها فاتركوا أيها المسلمون دينكم؟ ترك الناس أديانهم. والحقيقة المرة أنه فى هذه السنة التى نعيش فيها الآن، والسنة التى نفتتح بها عاما هجريا جديدا نقول بكل قوة ونكذب كل مدع زنيم نقول: إن العصر الحاضر هو العصر الذهبى لليهودية وللمسيحية وللوثنية وإن الناس عادوا جميعا إلى أديانهم يتشبثون بها ويقاتلون من أجلها ويريدون فرضها على غيرهم، وإن الكلام الذى يقوله أولئك الأفاكون للمسلمين دعاية مأجورة أخذ ثمنها إما بالنقود الروسية أو النقود الأمريكية أو النقود الأوربية أو الشهوات المبذولة لهؤلاء العملاء. والمقصود الإجهاز على الإسلام وتاريخه حتى لا يبقى له وسم ولا رسم!!. فلنستيقظ ولنبدأ عامنا الجديد بيقظة. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. * * * ص _038(2/27)
الخطبة الثانية الحمد لله ( الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد. عباد الله أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل. واعلموا أيها المسلمون أن كلا منا يستطع أن يدرك ثواب الهجرة، إذا تدبرنا قول نبينا عليه الصلاة والسلام: " العبادة فى الهرج كهجرة إلىّ " الهرج: يعنى عندما تكثر الفتن، وتشيع الجهالة، وتنتشر الآثام، وتغلب الرذيلة، ويصبح فيها العفاف مستغربا لغلبة التهتك، ويصبح فيها الحفاظ على الصلاة مستغربا لأن إضاعة الصلاة تقليد وعرف عام، ويصبح فيها المتشبث بالإسلام متهما، لأن ترك الإسلام باب الوجاهة وباب الوصول !! عندما يكون الأمر كذلك فإن تشبث المسلم بدينه، وتركه هذه الأعمال كلها، واختياره لله ولما عنده واعتصامه بالإسلام، كل هذا يعطه ثواب الهجرة!!. لأن الهجرة لم تكرم لأنها سفر من مكان إلى مكان، فما أكثر الذين يسافرون الهجرة لم تكرم على أنها سفر، وإنما كرمت على أنها انتقال نفسى، انتقال روحى، انتقال فكرى، استبقاء للإسلام على أرض الله عن طريق أن نكون نحن جسرا يعبر الإسلام عليه حيث يريد!!. والحرب المعلنة على هذه الفكرة حرب شعواء !!. ص _039(2/28)
وأنا أجمع فى تجاربى العاجلة بين الأمور الكبيرة والصغيرة لأن هذا لا يفوتنى وذاك لا يفوتنى عندما أقرأ اليوم لرحالة الأهرام المشهور رحلته فى أوربا وفيها نحو ثلاثة أعمدة عن الفتيات الكاشفات للأفخاذ وعن الجنس!! أسأل لم يعرض هذا على العالم الإسلامى المهزوم؟. قد يفكر حيوان منتصر فى أن يشبع شهوته لكن الحيوان المهزوم لا يجرى وراء شهواته على هذا النحو المسعور. ولكن التفكير الذى ينشر على هذا النحو مخطط له!! الذين أرسلوا راقصات ومغنيات إلى الجبهة يسيرون مع هذا التفكير. هناك حرب جلية وخفية، الخفى منها أكثر من الجلى ضد الإسلام وأفكاره ورسالته ودعوته وخملته. وإذا كان بعض الناس فهموا الفكر الناصرى على أنه شيوعية فإن هؤلاء الناصريين ينتشرون فى كثير من وسائل الإعلام وهم لا دين لهم، ويحاربون الإسلام بضراوة ومرارة وخبث ودهاء، بينما المدافعون عن الإسلام جبهة ما تزال ممزقة، ولا تزال قواها الضعيفة هى التى تتقدمها، أما أنبغ ما فيها وأقدره فهو مقيد مستضعف لا حول له ولا طول. !! " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _040(2/29)
الزحف اليهودي لا يوقفه إلا الإسلام خطبة يوم الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه 17/8/1973م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد .. فإن المناسبات التى تمر بنا نى هذه الجمعة وما يليها تفرض علينا أن نتحدث عن بنى إسرائيل.. والحديث عن بنى إسرائيل له مصادر كثيرة، ولكن المصدر الذى نأنس إليه، ونعتمد عليه، ونعتقد أنه تضمن جملة الحقائق الأولى والأخيرة فى هذا الموضوع هو القرآن الكريم… فإن هذا القرآن حكى عن ماضى بنى إسرائيل ومستقبلهم ما يكفى ويغنى، وفى هذا يقول الله جل شأنه: (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون * وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين * إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم). ص _041(2/30)
والنزاع بين العرب والمسلمين وبين بنى إسرائيل قد يطول سنين عددا لا نعرف مداها، لا ندرك بالضبط متى تنتهى الحرب بيننا وبين بنى إسرائيل، لكننا ندرك عن يقين جازم بأن هذه الحرب تتوقف بقدر ما يثوب المسلمون إلى رشدهم ويعودون إلى دينهم، فإذا رجع المسلمون مساء اليوم إلى دينهم فإن هذه الحرب تنطفئ صباح الغد !! وإذا رفض المسلمون اعتبار قضية فلسطين إسلامية، وإذا خجلوا من الانتساب إلى الدين، وإذا بعدت الشقة بينهم وبين الإسلام، وإذا استمرأ الشيطان إنامتهم والضحك منهم فإن هذا الحرب لن تنتهى بل ربما قامت لإسرائيل إمبراطورية من الفرات إلى النيل كما يؤملون !! والسر أن الحرب الدائرة الآن يديرها الطرفان بعقلية تستحق الدراسة والتأمل.. فأما عقلية بني إسرائيل فى إدارة هذا الحرب فواضحة.. بنو إسرائيل يعتقدون أن الكون والشمس والقمر خلق من أجل الأرض، وأن الأرض خلقت من أجل بنى آدم، وأن بنى آدم خلقوا من أجل بنى إسرائيل، وأن بنى إسرائيل هم الجنس المقدس، والشعب المختار، والأمة السيدة الموهوبة التى ينبغى أن يعنو الناس لها، وأن يخضعوا لسلطانها.. وبناء على هذا الفكر فإنهم يعتبرون عودتهم إلى فلسطين وصلا للماضى الذى انقطع وإحياء للتاريخ الذى تجمد أو توقف، وهم يريدون أن يقيموا-كما يقولون - " مملكة يهوه " التى يحكمون بها الناس لحساب رب إسرائيل وبنى إسرائيل.. فالحرب فى وهمهم وعزمهم وحركاتهم وسكناتهم حرب دينية تمدها أفكار! واضحة فى أدمغة القوم، ومشاعر مرتبة فى أنفسهم وأفئدتهم !، وهم ماضون فى هذا الطريق إلى نهايته.. بداهة استطاعوا بما يعطيه الدين من تعصب، وما يعطيه من رغبة فى النفقة، ورغبة فى البذل، وقدرة على التحمل، استطاعوا بهذا كله أن يكسبوا كل المعارك التى خاضوها ضدنا.. وبديهى أن ينضم إليهم الحاقدون على الإسلام من المستعمرين الذين هاجموا الأمة الإسلامية فى الحروب الصليبية الأولى انضموا إليهم أخيرا وتشابكت أذرع(2/31)
الجميع فى كيل اللطمات لنا ونيل ما يبتغون منا!!. ص _042
العقلية التى أدارت الحرب ضدنا هذا وصفها.. أما نحن فإن عددا كبيرا من الناس رفض رفضا باتا أن يصف الهجوم اليهودى على أرضنا بأنه هجوم دينى وقال: إنه هجوم سياسى.. وهذا الكلام كلام غريب لأنه يعتمد على جهل مطلق، هؤلاء الذين أقاموا بعض المعاهد الاشتراكية وبعض القيادات الفكرية فى بلادنا صوروا الحرب ـ عن عمدة ـ أنها حرب سياسية، وأن الدين لا دخل له فى هذه الحرب.. فإذا سألتهم: أتعرفون شيئا عن اليهودية؟ قالوا: نعم نعرف، درستم العهد القديم وقرأتم فيه كيف وضعت خريطة إسرائيل الممتدة من الفرات إلى النيل، كيف قيل لبنى إسرائيل: إن هذه أرضكم ويجب أن تأخذوها؟ درستم هذا؟ لا.. قرأتم بعد العهد القديم التلمود؟ لا.. قرأتم تاريخ اليهود أولا فى العهود القديمة ثم فى العهود الوسيطة؟ لا.. فإذا كنتم جهالا فما الذى يجعلكم تفرضون على الناس جهلكم؟ تصور رجلا يقول لك: أنا عالم بالإسلام فإذا قلت له: تعرف القرآن؟ قال: لا.. تعرف السنة؟ قال: لا تعرف الفقه الإسلامى؟ قال: لا.. فما علمك بالإسلام؟ لكن القيادات الفكرية الغبية فى العالم العربي فرضت نفسها وأقنعت ولا تزال تقنع العرب أن الحرب التى يواجهونها حرب سياسية أو استعمارية أو ما إلى ذلك من عناوين مكذوبة.. وهم قد عرفوا الآن كيف كانوا أغبياء، وأدركوا ـ وأرجو ألا يفوت الوقت ليدركوا ـ أن الحرب الدينية التى أدارها أعداؤنا بروح دينية يجب أن يقف بازائها الإسلام يحتل الجبهة المقابلة ويبدأ يقاوم ويفرض نفسه. شئ آخر قاله بعض الصغار من المرتزقة فى ميدان الإعلام قالوا: إن إسرائيل ألعوبة فى أيدى الاستعمار ليضرب النظم التقدمية فى العالم العربي.. وهذا سخف، فإن إسرائيل قسمت المملكة الأردنية وأخذت نصفها،كما أخذت سيناء وهى ضعف مساحة الوجه البحرى، وأخذت مرتفعات الجولان، وكان النسر يتعب لكى يصل إلى هذه المرتفعات !! أخذ اليهود كل(2/32)
هذا دون مقاومة تذكر، ودون بذل أو تضحية تسند المدافعين وتعلى شأنهم.. الأمر ما يستدعى حربا ضد النظم التقدمية، فإن النظم التقدمية يوم تطلق الإسلام وترفض مبادئ العلم والإيمان فإن هذه النظم فى الحقيقة تكون عميلة ص _043
لإسرائيل، بل إن إسرائيل إنما أقامها " لورد بالفور " و بعض الزعماء العرب الذين كرهوا الإسلام هم الذين شاركوا فى إقامة ملك إسرائيل العريض الآن.. لابد أن تعرف الأمور، ولنعد إلى كتابنا نحاكم إليه دعاوى القوم ومواقفنا منهم.. هؤلاء ادعوا-كما سمعتم- أنهم شعب مختار وأنهم جنس مقدس- الله جل شأنه خلق الناس قاطبة، ولم ينشئ علاقة خاصة بينه وبين جنس من الأجناس.. " كلكم بنو آدم، وآدم خُلق من تراب " فإذا كان قد شرف شعبنا فى بعض العصور أو رفع قدر أمة فى بعض الأزمنة فإن ذلك لما تمثل من حقائق الإيمان ويما تبذل فى الدفاع عن العقائد الصحيحة والفضائل الواجبة.. فإذا كان القرآن قد حمد لبنى إسرائيل- قديما- بعض مواقف الخير وقال فيهم: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين). ص _044(2/33)
فإنهم اختيروا أو فضلوا على عالم زمانهم.. والسبب: أنهم دعوا إلى التوحيد فى دنيا مليئة بالوثنية وتحملوا فى سبيل ذلك تضحيات شتى.. ولكنهم لما جحدوا رسالتهم، وفجرت مسالكهم، وفشا عدوانهم سقطوا من عين الله ووقع لهم ما وقع.. وهذا كلام يحتاج إلى تفصيل.. عندما كانوا قديما فى هذا الوادى ووقع عليهم من العذاب ما وقع، يحكى القرآن الكريم هذا الحوار: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون * قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) ماذا كان رد بنى إسرائيل على موسى لما قال لهم هذه الكلمة: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ) كان الرد هكذا: (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) فكان جواب موسى: (قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) فإذا أهلك الله عدوا استخلف بعده من شاء من الشعوب فإنه لا يستخلف هذه الشعوب لتفعل ما تريد، لا.. بل لينظر ما تفعل، فإن كان خيرا باركها، وإن كان شرا لعنها.. هذا الكلام يقال لبنى إسرائيل فى وضوح كما يحكيه القرآن الكريم- أوثق الصحائف التى امتلأت بالوحى الإلهى وظلت معصومة من الانحراف والخطأ حتى هذا القرن وما بقيت السماوات والأرض، لن يوجد كتاب فى القارات الخمس يمكن أن تقول وأنت واثق موقن: إن هذا وحى الله إلا هذا القرآن !! كتاب منصف: (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) هذا الكلام الذى حكاه رب العالمين فى صدد بنى إسرائيل تسمع نظيرا له بالنسبة إلى الأمة الإسلامية، فإن الله يقول للمسلمين: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات ص _045(2/34)
وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين * ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) نفس الكلام الذى قيل لبنى إسرائيل قيل للمسلمين!! إن الله لا يحابى ولا يظلم، وهو ينظر للشعوب ماذا تصنع؟ ثم يصنع بها ما تستحق: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون). ماذا فعل بنو إسرائيل؟ نذكر نماذج قليلة مما فعلوا لنرى على ضوء هذه النماذج ماذا فعلنا نحن ثم ندرك أبعاد النزاع القائم بيننا وبين غيرنا.. إن الله يحب لعباده أن يعيشوا آمنين مكفولى الحرية، مصونى الدماء والأعراض والأموال، حقوقهم فى ضمانات موثقة لا يجرؤ أحد على العدوان عليها.. تستوى فى هذا جميع الأمم.. عندما أرسل النبى صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضى الله عنه حاكما قال له: " اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب ". قال العلماء: والمظلوم هنا ناس ليسوا بمسلمين.. فدعوة المظلوم ولو كان كافرا يستمع الله لها! فكيف إذا كان المظلوم مؤمنا ؟!! لذلك فإن الله جل شأنه أخذ المواثيق على الأمم القديمة والحديثة ألا تظلم، ألا تسجن أحدا دون سبب، ألا تخرج أحدا من داره وتنتزعه من بين أهله دون علة واضحة، يقول الله بالنسبة إلى بنى إسرائيل: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون * ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى ص _046(2/35)
أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) هذه المواثيق أخذت على من قبلنا وتؤخذ علينا، لأن الله يقول لنا: (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور * يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) لكن بنى إسرائيل فى تاريخهم أكل بعضهم بعضا، ظلم بعضهم بعضا، اعتقل بعضهم بعضا، أسر بعضهم بعضا، سجن بعضهم بعضا، فعوقبوا، عوقبوا.. الأمة العربية الآن لأنها خرجت على مواثيق السماء، وابتعدت عن هدايات الله، وجدنا فيها العجب.. من شهر مضى- تقريبا- قرأت محاكمة قدم فيها نحو ثلاثين شخصا إلى محكمة ما، وحكم عليهم بالإعدام خلال ساعة، ونفذ الحكم خلال ساعة أخرى !! مجوس الأرض لا يفعلون هذا، هذا الذى يفعله العرب فى استرخاص الدماء، واجتياح المقدسات لا يفعله مجوس الأرض!! بأى وجه نقف أمام الله نسأله ونطلب منه؟ لابد أن نعقل، إن الله لا يحابى شعبا، لم يحابى؟ عندما قال اليهود والنصارى: (نحن أبناء الله وأحباؤه) رفض القرآن هذا: (قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق) ونحن المسلمين بشر ممن خلق، إن ظلمنا عوقبنا، إن أسأنا ابتعد الإحسان عنا.. يجب أن نعقل.. الأمة اليهودية أخذ عليها أنها ظنت أنها شعب مختار.. لماذا؟ لا اختيار هنالك.. الاختيار أن ترشحك مواهبك لعمل، فإن قمت به كنت أهلا للتكريم والتبجيل، !وإن سقطت عنه كنت أهلا للطرد والإبعاد.. هذه سنة الله.. فعندما ظن اليهود أنهم أولاد يعقوب، وأن هذا النسب فخر ذاتى، رفض الله هذا منهم، ليس عندى نسب، وعجب من فعلهم عندما قال لنا نحن المسلمين وهو يحكى ما فعل هؤلاء: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من ص _047(2/36)
الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ) رفضوا أن يحكم الله فى خلقه، رفضوا أن يحكم الوحى فى شئون الناس، رفضوا أن تكون شرائع السماء أساسا لإصلاح الأرض، ماذا تريدون؟ نختلق نحن أحكاما، نبتدع نحن قوانين، نشرع من عندنا قضاء، أما ما فعل الله وشرع فإن هذا لا خير فيه، لا أثر له، هذا شئ رجعى عفن ينبغى الخلاص منه: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون * ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون) هل هذا صحيح؟ إن هذا الذى قاله اليهود قال مثله المسلمون، فهم يعتقدون أن أمة محمد بخير، وأن أمة محمد لا تعذب، وأن أمة محمد من حقها أن تهمل قرآن محمد وسنة محمد صلى الله عليه وسلم ثم تنال الجنة!! لماذا؟ وبأى حق؟ هذا غير صحيح: (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون * فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) كلمة " نفس " تعنى البشر عرايا من كل نسبة، عرايا من كل زعم ولون، الناس يعودون إلى ربهم بشرا، نفوسا، وبقدر ما زكى الإنسان نفسه بالتقوى ينجو، وبقدر ما أهانها يكبو!! لكن الشعب المختار الذى ظن أن انتسابه للأنبياء يعطيه حقا سقط من عين الله ولعن، وجاء بعده الآن من يقولون: نحن عرب، ويملأ فمه بكلمة " عرب " و " البعث العربى " و " القومية العربية " من أنتم؟ إن كنتم مسلمين فذا كتاب الله وتلك سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكما قال القائل: أبى الإسلام لا أب لى سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم ما معنى أن أنتسب لعروبة ترفض الإسلام، وتكره الإيمان، وتحقد على محمد علي صلى الله عليه وسلم، وتأبى العودة إلى سنته، وتأبى التشرف برسالته؟ بداهة ص _048(2/37)
هذا الذى صنعه بعض الناس بيننا فى الأمة العربية الكبرى هو الذى صنعه اليهود عندما غضب الله عليهم وقال فيهم ما قال.. ماذا قال؟ قال: إن هناك أذكياء أو علماء تغلبهم الشهوات والأهواء ويتدلون فى طلبها، فهم بالنسبة إلى الأقذار التى يرعونها، والمآرب الخسيسة التى يحتبسون فى إطارها أشبه بالخنازير التى تحيا على القمامة، قال تعالى: (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون * قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل)، إن اليهود عادوا إلى فلسطين.. الحقيقة أنهم لم يعودوا بقواهم الذاتية قدر ما عادوا لأن المسلمين شحبت وجوههم، وغاضت منابع الإيمان فى تربتهم، وانقطع تيار الإيمان الذى يمدهم بالقوة.. فلما جاء اليهود وانتصروا، لم يكن انتصارهم فخرا لهم بقدر ما كان هذا الانتصار خزيا لنا.. إن اليهود فى كتابهم الذى يدرسونه الآن ـ وهو العهد القديم ـ لا يمثلون شيئا إطلاقا مما تشتاق إليه الإنسانية، ما الذى تشتاق إليه الإنسانية؟ تشتاق الإنسانية إلى محراب واسع تلتقى فيه ألوان البشر أمام رب واحد تسبح بحمده، وتهتف بمجده، وتركع وتسجد فى ساحته، وتستمد الهدى منه، ويعلم كل إنسان أن الله هو الذى تدينه يوم الدين، وأن البر لا يبلى، وأن الذنب لا ينسى، وأن الديان لا يموت!! هذه الفضائل والمثل ما يصور العهد القديم شيئا منها!! إن الأسفار الخمسة التى تمثل التوراة وهى دستور الحكم فى إسرائيل، أو دستور القيام الموجود الآن دوليا ومحليا لبنى إسرائيل، إن هذه الأسفار الخمسة ليس فيها شئ تعنى الإنسانية وتشبع جوعها الروحى، كل ما فى الأسفار الخمسة أن هناك شعبا مختارا مقدسا أوذى ويجب أن يملك وأن يحكم العالم بامتيازه الشخصى، بقداسته الذاتية، بكبريائه العنصرية.. هذا شئ غريب، ليس(2/38)
هناك فى أسفار التوراة ما يحكم العالم حكما راشدا، إن حاجة العالم ص _049
إلى القرآن، والقرآن كتاب شرف الله العرب فأنزله بلغتهم، وجعلهم بهذا الميراث السماوى قادرين على أن ينقلوا هداية الله إلى الناس.. هل يعرف العرب أن شرفهم بالإسلام؟ وأن كرامتهم بالقرآن؟ وأن عظمتهم فى الانضواء تحت لواء النبى العربى المحمد صلى الله عليه وسلم؟ يوم يعرف العرب فى هذه المنطقة- فى مصر وسوريا والأردن والجزيرة وكل من ينطق باللغة العربية- يوم يعرف العرب أن فخرهم وتاريخهم ويومهم وغدهم فى الإسلام، ويوم يقررون بجد أن يعودوا للإسلام قوانين وتقاليد، وتعليما وتربية، موضوعا وعنوانا، تاريخا قديما وحضارة معاصرة، يوم يعرف العرب هذا ثم يديرون المعركة مع بنى إسرائيل ومن وراء إسرائيل فكما قلت لكم: لو قررنا هذا مساء اليوم فإن صبيحة الغد ستشهد يوم النصر. الأمر كله فى النزاع القائم بين إسرائيل والعرب مرتبط بجواب واحد: هل سيعود العرب إلى الإسلام؟ هل ستكون قضية فلسطين إسلامية؟ هل سيركل العرب بأقدامهم التشريع الوافد- القانون الاستعمارى- ويجيئون بدله بقوانين الإسلام وتعاليم الإسلام؟ هل سيحترمون لغتهم العربية ويجعلونها لغة التخاطب، ولغة العلم، ولغة الكتابة، ولغة التأليف، ولغة عالمية لأنها لغة رسالة عالمية؟ هل سيعرف العرب أن قدرهم ليس من عروبتهم؟ العروبة وحدها لا تنشئ شرفا، ولا تكون جاها، ولا تحبو أصحابها قدرا، بل على العكس ستهبط بهم أسفل سافلين، إذا لم يعد العرب إلى الإسلام، ويبدأ نزاعهم مع إسرائيل بأخذ هذا الطابع الدينى المقابل للطابع الدينى الإسرائيلى فإن المعركة لن تكون لنا. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. * * * ص _050(2/39)
الخطبة الثانية الحمد لله ( الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد.. فإن الله تفضل على العرب بالإسلام، هدية اجتباهم بها واختارهم لها، فإن رفضوا الهدية عوقبوا وذلوا، وإن قبلوا الهدية استراحوا وأراحوا. لما تحدثت سورة الجمعة عن الرسالة الخاتمة: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين * وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم * ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) بعد هذا بين أن قيادة العالم لا تملك بالادعاء، إن أى سيارة تفقد الوقود لابد أن تقف فى الطريق، لأنها ما تسير إلا بوقودها.. والأمم إنما تسير بقوى تمدها بالطاقة والحماسة، وتغريها بالانطلاق واجتياح العقبات.. والأمة التى تفقد مؤهلات الزعامة تنحى ـ يقينا ـ عن الزعامة، لأن الله قال ـ مبينا لِمَ نَحَّى بنى إسرائيل ـ قال: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل ص _051(2/40)
القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين) والقوم ـ أعنى بنى إسرائيل ـ الذين لم يهذبوا أنفسهم لا يؤتمنون على تهذيب الناس، الذين لم يرتفع مستواهم لا يكلفون برفع مستوى الخلق الذين قيل فيهم: إنهم لم يفقهوا التوراة، ولم يحسنوا الأخذ بها، بل هم قد أصبحوا كالدواب الناقلة للكتب، والدواب الناقلة للكتب لا تتغير طبائعها لأنها حملت كتبا، إن الكتب تغير طباع الناس يوم يقرأونها، ويدرسونها، ويثقفون أنفسهم بها، ويحسنون أخلاقهم بآدابها، ويحكمون غرائزهم بقيودها.. هذه طبيعة الكتب عندما تنشئ حضارة وتجعل أمة ما قديرة على القيادة.. فليسأل العرب أنفسهم: هل زكوا أنفسهم بالقرآن؟ هل شرفوا سريرتهم وعلانيتهم بآداب الإسلام؟ هل نقوا بيوتهم وشرائعهم بتقاليد الوحى وقوانين السماء؟ لا.. إذا يوم يتقهقرون فالعيب عيبهم، والذنب ذنبهم: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا)، (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ) إننا يجب أن نصحو من نومنا.. لا يزال هناك نفر ـ هم فى نظرى ـ تماثيل للغباوة.. هذا النفر تمتلئ به وسائل الإعلام.. لا تنقصه الجهالة ولا الحماقة.. هؤلاء لا يعرفون عن الصراع العربى اليهودى شيئا، لأنهم فارغون، كل امرئ يقول لكم: إن الصهيونية شئ واليودية شئ اعلموا أنه شخص جهول، ما قرأ العهد القديم ولا قرأ كتب القوم ولا آمالهم، ويريد أن يفرض جهله عليكم.. نحن الذين قرأنا، نحن الذين درسنا وعرفنا، وهذه الكتب التى تجعل الحرب المعلنة علينا دينية موجودة فى تناول اليد لمن يريد أن يتعلم.. لكن القيادات الغبية فى وسائل الإعلام العربية لا تريد أن تتعلم، إنها متعصبة لجهلها، ودعوكم من خرافة النظم التقدمية والنظم الرجعية، فإن اليهود إذا بقوا على وفائهم لكتابهم وتعصبهم الذميم(2/41)
لمواريثهم فإنهم سوف يجتاحون النظم الملكية والجمهورية معا، لأن كلا النظامين لا يعرف أن العرب وعاء الإسلام، وأن كرامتهم فى انتسابهم لهذا الدين وحملهم لرسالته. ص _052
" اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). وأقم الصلاة * * * ص _053
تأملات فى سورة التوبة خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه 1 2/ 2 1/ 973 1 م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإن سورة براءة من آخر الوحى الذى نزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، هذا الوحى الذى ظل ينهمر قرابة ربع قرن، يربى الجزيرة العربية، ويمهد للحق مكانا حصينا فى ربوعها.. وهذه السورة تميزت بخاصة لم تر في السور الأخرى.. إن البسملة انتزعت من صدرها، نزلت هكذا: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين). والسر فى ذلك: أن السورة المباركة أنهت وضعا معلقا بين المسلمين وخصومهم.. فإن الإسلام منح الناظرين فيه والمستمعين إليه حرية واسعة فى أن يؤمنوا به إذا شاءوا، وأن يكفروا به إذا شاءوا، لا إكراه ولا ضغط، هو دين يعتمد على ص _054(2/42)
صلاحيته الذاتية، وعلى حقائقه التى تتجاوب مع منطق الفطرة والعقل، ولذلك فإنه ما يفكر في القوة يرغم بها الآخرين، إنه يعتمد على بيئة حرة يستمع الناس فيها ويشعرون بمسئوليتهم الأدبية بازاء ما يلقى عليهم وما يستمعون إليه ببصائرهم وأفكارهم.. ولذلك طالما قال ـ لمن يعارضونه ـ : (قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون) وعندما أراد المشركون نقل اللجاجة والجدل فى شخص الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم ومن معه كان الرد الإلهى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: (قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم) ثم يطمئن إلى ان المستقبل على امتداد الأيام للحق الذى يمكن من أن يعرض نفسه، وأن يسمع الآخرين وجهة نظره، وأن يبسط الأدلة التى ترد الشبهات وتكشف الترهات ، ولذلك يقول (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون). لكن هذه الحرية الواسعة فهمها أعداء الإسلام غلطا، فهموها خطأ، ظموا الحرية ضعفا، ظنوا المرونة ميوعة، ظنوا أن الإسلام إذ يعرض نفسه بهذه الأدلة وحدها، ويدفع عن نفسه هجوم المعوقين فقط، ظنوا ذلك دليل ضعف، ولهذا حاولوا النيل منه، وفكروا فى أن يتلاعبوا به، وأن يتخذوا طريقا مغشوشا، يستغلون الهدنة التى تفرض أو المسالمة التى يبسط المسلمون أيديهم بها، يستغلون هذا للعب بالإسلام والعبث به، فنزلت هذه السورة ترفض كل هذه المحاولات، وتكشف خبايا أصحابها، وتأمر المسلمين أن يعاملوا بالسيف من أبى أن يستمع إلى الحق، وأذ يترك غيره يقتنع به إذا شاء. هذه السورة بدأت بداية حاسمة صارمة، تمنع التلاعب ص _055(2/43)
والعبث، ولذلك نزعت معانى الرحمة من صدرها لأنها تضمنت القصاص من المجرمين والتأديب للمعتدين.. وكان العرب المشركون ـ عباد الأوثان ـ كانوا ثلاثة أصناف: صنف عاهد المسلمين عهدا مغشوشا، فهو يعطى الكلمة ولا يرتبط بها، يظهر أنه أمن غيره وقبل الأمان منه، وارتضى أن يعيش مسالما، ثم فى الظلام، ومن وراء ستار يبدأ يكيد للإسلام، ويؤذى المسلمين، هذا نوع عاهد ولم يرتبط بمعاهداته، ونوع آخر عاهد ـ من المشركين ـ ووفى بعهده. ونوع ثالث لا يدرى أن هناك شيئا يربطه بغيره، أو أن هناك دعوة ينبغى أن يحدد وضعه منها. وصدر سورة براءة نزل يحدد موقف الإسلام من الفئات الثلاث.. فأما الذين تلاعبوا بالعهود فقد أمر المسلمون أن يضربوهم، وأن يؤدبوهم، وأن يعالجوهم بالسيف: ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) ما هو المطلوب؟ لديكم مهلة أربعة شهور، تفكرون فيها تفكيرا جادا، فإما كنتم رجالا تحترمون كلمتكم، وتؤدون حق الله عليكم، وإما لا مكان لكم فى هذا البلد، وإما قطع الرقاب: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين * وأذان من الله ورسوله) إعلام (إلى الناس يوم الحج الأكبر) يوم عرفة أو يوم النحر على الخلاف بين العلماء ـ (أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) هذا الموقف ممن؟ ممن لعب بالعهود، وعبث بالكلمات. أما الذين عاهدوا واحترموا كلمتهم، ولم يحاولوا إيذاء المسلمين ص _056(2/44)
والنيل منهم فقد قال الله فيهم: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) الذين وفوا لهم الوفاء، والذين غدروا لهم السيف، وهذا تصرف حسن. ثم بعد انتهاء الشهور الأربعة يضرب المشركون، من الذين يضربون؟ الذين نقضوا العهود وعبثوا بها، قال تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم). هناك ناس لا يدرون شيئا، لا صلة لهم لا بنقض المعاهدات ولا بالوفاء بها، هم ناس عاديون لم يدركوا عن طبيعة الدعوة الإسلامية شيئا.. فما الموقف من هؤلاء؟ الموقف من هؤلاء أن يؤمنوا على أنفسهم، وأن يعاملوا بكرم وشرف، وألا يروعوا، بل يتركون على سجيتهم إن شاءوا دخلوا فى الإسلام وافرين، وإن شاءوا ابتعدوا عنه، قال تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) هؤلاء الجهلة لهم عذرهم، أمنهم على أنفسهم، أبلغهم المكان الذى يطمئنون فيه ويستريحون به، فإن جاءوا بعد ذلك مؤمنين اقبل منهم إيمانهم، فالإسلام لا يعرف الجبروت ولا الضغط، ثم يبدأ الوحى الإلهى يكشف عن السبب فى هذه المعاملة، ويحدد مرة أخرى الموقف ممن وفى بعهوده وممن لم يوف بها، فيقول جل شأنه: (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين) ويؤكد أن نقض العهد إنما كان مع من نقض عهده، ولعب بكلمته، وعبث بشرفه: ص _057(2/45)
(كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون * اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون) هل اعتدينا عليهم؟ لا.. هؤلاء هم الذين اعتدوا، ولذلك فإن معاملتهم بهذا الحسم عدالة: (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون) لا عهد ولا موثق ولا يمين، إذا لا كرامة لهم. هذا المعنى الذى بدأت به السورة يقتضينا أن نعرض وجهة النظر الإسلامية فى القتال، فإن بعض العابثين، بعض الجهال، بعض المبشرين والمستشرقين لا يدرون جيدا- وربما دروا ولكنهم يغالطون- موقف الإسلام من القتال.. العلاقة بين الإسلام وبين سائر الناس- من وثنيين، من كتابيين، من ملحدين- العلاقة أساسها على النحو الآتى: نحن أصحاب دين يكلفنا أن نعرضه على الخلق كلهم، هذا الدين يعرض نفسه على كل من يبلغه، على كل من له عقل، نعرض ديننا ثم نقول للناس: أترون أن قواعد هذا الدين سليمة؟ أترون أن مبادئه راشدة؟ أترون أن قيمه صحيحة؟ فإن قالوا: نعم وآمنوا، فهم منا ونحن منهم، هم منا ونحن منهم، لا تفضل أحدنا الآخر فى شئ.. وإن قالوا: لا نؤمن بما جئتم به، قلنا لهم: فلنا تساؤل معكم أنتم رفضتم أن تؤمنوا بما جئنا به أو بما عرضناه عليكم، نريد أن نسألكم سؤالا: هل تتركوننا نعرض هذا الدين على غيركم، وإذا قبل الغير هذا الدين هل تعترضون طريقه وتمنعونه من الإيمان؟ فإن قالوا لنا: أنتم أحرار، نحن كفرنا بكم ولم نصدقكم، لكن جربوا حظكم مع غيرنا، فإن آمن بكم آمن، مالنا به صلة، ولا لنا عليه اعتراض، إن كان موقفهم هكذا، فلا سبيل لنا عليهم، ولا كلام لنا معهم، ولا يجوز أن نعترضهم بشئ يسوؤهم فى أنفسهم أو أموالهم، قال تعالى فى هذا: (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما ص _058(2/46)
جعل الله لكم عليهم سبيلا) أما إذا قالوا لنا: لن نؤمن بكم، ولن نسمع دعوتكم، ولن نسمح لكم أن تعرضوا هذا الدين على غيرنا، وإذا حاول أحد من الآخرين أن يدخل فيه اعترضنا طريقه بوسائلنا المادية أو الأدبية!! قلنا لهؤلاء: فبيننا وبينكم عداوة لا تنتهى إلى آخر الدهر، فأنتم ظلمة، تكفرون وتصدون.. معنى الكفر: رفض الإيمان، رفض شخصى للإيمان.. ومعنى الصد: أن تمنع غيرك من أن يدخل فى الإيمان: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا * إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا * إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا) هذا موقف الإسلام من أصحاب الأديان الأخرى، أيرى عاقل أن فى هذا الموقف إحراجا للآخرين؟ نحن ندعو، وهذا حقنا، ومن حق من ابتعد عنا أن يبتعد، لكن لا يجوز له أن يكمم أفواهنا، ولا يجوز له أن يفتن من انشرح صدره بديننا ويمنعه من الدخول فيه.. هذه عدالة، لكن- آسف- هذه العدالة لم ترض الكثير بن الناس، هذه العدالة لم تمسح البغضاء من قلوب شحنت بالكره لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.. فنزلت سورة براءة تعامل هؤلاء المعاملة التى لابد منها.. المعاملة التى لابد منها معاملة جاءت بعد اثنين وعشرين عاما من بدء الإسلام، فإن الإسلام ظل يدعو على ما سمعتم، هذه السورة نزلت فى السنة التاسعة من الهجرة، وقبل الهجرة ثلاث عشرة سنة، معنى هذا أن السورة نزلت بعد اثنين وعشرين عاما من بدء الإسلام، لو تأملنا لوجدنا أنه لم تبق إلا سنة واحدة ويذهب النبى صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، أى أن سورة براءة نزلت قبل سنة من موت نبينا عليه الصلاة والسلام، والله جل شأنه يعلم أن العرب سيتركهم من رباهم، ومن دعاهم، ومن جمع شملهم، ومن رفع رايتهم، سيتركهم بعد سنة، هذا شئ فى غيب الله لا يعلمه الناس، ولكن عالم الغيب والشهادة الذى يعرف ص _059(2/47)
متى يسترجع نبيه صلى الله عليه وسلم إليه كان عندما أنزل سورة براءة، يعلم أنه سيسترجع نبيه صلى الله عليه وسلم بعد سنة، هل يسترجع نبيه صلى الله عليه وسلم إليه والمجتمع العربى مختلط مضطرب تعيث فيه جراثيم الفساد والنفاق؟ لا.. لابد إذا من تطهير هذا المجتمع من الشرك والنفاق، لابد من جعل هذا المجتمع نقيا بعيدا عن الغش والتدليس.. هذا هو المحور الذى دارت عليه سورة براءة (تطهير المجتمع الإسلامى) هذا التطهير: عملية تنقية المجتمع من الشوائب حتى يستطع هذا المجتمع المتماسك بروح الله، المستنير بعقيدة التوحيد، هذا الذى كلف أن ينقل دعوة التوحيد إلى العالم أجمع، وأن يصدرها إلى القارات الخمس، هذا المجتمع الذى كلف أن يكون رائدا للإنسانية وقائدا للعاملين، هذا المجتمع يجب أن ينقى حتى يقدر على حمل الأعباء، وحتى إذا رفع الراية لم يجئ من الظلام أو من وراء ستار من يعبث أو يحاول تنكيس الراية المرفوعة، إذا تنزل سورة براءة لجعل المجتمع الإسلامى ينقى من النفاق ومن الشرك.. كيف ينقى من الشرك؟ فى السنة التاسعة من الهجرة كان المشركون- على ما سمعتم- لا تزال لهم فلول متوارية، حقيقة انهزموا فى معارك كثيرة، لكن ما تغلغل فى صدورهم من حب للأصنام، ومن حنين إلى الجاهلية، ومن تمسك بمآثرها وما فيها من تقاليد ضالة، كان ذلك موجودا فى الأمة، موجودا فى الجزيرة العربية، فكيف الطريق إلى غسل رمل الجزيرة من كل آثار الشرك؟ الطريق أن يرسل النبى صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب بهذه السورة- بصدرها الأول- إلى موسم الحج، وكان أمير الحج فى السنة التاسعة أبا بكر رضى الله عنه، فذهب على وأبلغ أبا بكر المهمة التى كلف بها .. سورة براءة يمكن أن تقسم قسمين متميزين من ناحية الموضوع، النصف الأول أو الثلث الأول من السورة يطهر الجزيرة من الشرك، من عبادة الأصنام، من تقاليد الجاهلية القديمة.. الثلثان الآخران من السورة يطهران الجزيرة من(2/48)
النفاق. ص _060
تطهير الجزيرة من الشرك بدأ على هذا النحو: يذهب على بن أبى طالب رضى الله عنه ويقرأ صدر سورة براءة على الناس ويعاونه أبو بكر رضى الله عنه فيرسل منادين يرددون التعاليم الجديدة فى الموسم الجامع، ما التعاليم الجديدة؟. التعاليم الجديدة: " لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان " كانت الجاهلية تجمع بين زيغ كثير وحق قليل، كانت بقايا من ديانة إبراهيم تجعلها تحترم الكعبة، ولكن رواسب كثيرة من خرافات الفكر الوثنى كانت تسيطر على شعائر الحج، فكان النساء يطفن عرايا وتقول المرأة كلاما معيبا لا يقال هذا كلام يجب تطهير المجتمع الاسلامى منه.. ولذلك نزل فى صدر سورة براءة: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون * إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) وقد أمر المسلمون أن يمنعوا كل مشرك من أن يجئ إلى البيت حاجا بتقاليده القديمة وأوزاره الأولى، إن شاء آمن وطاف، وإلا فلا تقبل هذه الدنايا حول البيت الحرام: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) لكن هذا الكلام الحاسم له تبعاته، ما تبعاته؟ تبعات عسكرية، وتبعات ص _061(2/49)
اقتصادية، فأما التبعات الاقتصادية فإن المسلمين فى مكة أحسوا أن منع المشركين من المجئ سيجعل أسواق مكة تقفر أو يقل الرواد وبالتالي إذا ضعف موسم السياحة على هذا النحو قلت أرزاق الناس فى مكة، هذا أمر يتصل بالناحية الاقتصادية، أمر آخر يتصل بالناحية الحربية، أما ما يتصل بالناحية الاقتصادية فقد قال الله فيه: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة) ـ أى فقرا ـ ( فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم). وأما الناحية العسكرية فإنه يقول للمسلمين: متى كنتم تنتصرون بقواكم الخاصة؟ متى كنتم تكسبون المعارك بالجهد المادى وحده؟ إن المعارك التى كسبتموها قديما كسبتموها لأن الله رأى أن يرفع خسيستكم، وأن يعلى شأنكم، وأن يعز جانبكم، وإلا فلو ترككم وحولكم وطولكم وقوام ما كسبتم حربا.. ثم يقول للمسلمين: رقد كثرتم يوما وغرتكم كثرتكم وظننتم أن كثرتكم سوف تغنيكم عن عناية الله وتأييد السماء، فماذا حدث ؟ انهزمتم: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين) (وأنزل جنودا لم تروها) ما هى الجنود التى لا نراها؟ شئ يعلمه الله، ولكن الذى يتأكد منه المؤمن والكافر أن النواحى العصبية والعاطفية والفكرية يمكن أن تستقر وترشد وتضع أفضل الخطط، ويمكن أن تظلم وتضطرب وتعوج وتضع أسوأ الخطط، يمكن أن تصبر وتصابر وتتحمل، ويمكن أن تكل وتضعف وتتراجع وهذا كله بين أصبعين من أصابع الرحمن، ففى الحديث : "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء" . ص _062(2/50)
قد يجعلك جريئا جلدا مقداما تطفر بك الوقعات من نصر إلى نصر، وقد يجعلك هيابا قلقا تتراجع من مكان إلى مكان، لكن هل معنى أن الله عز وجل قال: " سأنصر" أن الذين كلفوا بالقتال وحملوا راية الإيمان يتواكلون أو يفرطون؟ لا.. لقد أمر المسلمون فى صدر هذه السورة بأن يستعدوا استعدادا أوله أن يعالنوا الناس بما عندهم، وأن يقولوا لكل مخلوق: لقد قررنا أن نقيم مجتمعا للإسلام ودولة تأخذ لربها ولنفسها ما تريد، فمن أراد أن يعترض فنحن له بالمرصاد، ومن نكص أو عجز أو غلبته الرهبة والخشية فلم يتحمل إقامة الدولة الجديدة فليعلم أنه ضعيف الإيمان، بعيد عن دائرة الإسلام، ولذلك يقول الله فى الصفحة الثانية من هذه السورة: (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون) الله لا يترك المؤمنين يحاولون أن يلعبوا على حبلين، أو أن يعيشوا فى الأرض بوجهين، لابد من مصارحة، إما أن تكون مسلما تؤمن بالدين كله، وتحوطه من جوانبه كلها، وتنهض مدافعا عنه دون قلق، وإما أن تعلم أن الله لا يرضى عنك ولا يؤيدك . هذا بالنسبة إلى الوثنية التى كانت تحج البيت مشركة وتطوف به عارية.. أما أهل الكتاب فإن الإسلام نظر إلى أهل الكتاب فوجدهم أنواعا، هناك أهل كتاب حقدة فسدة لا يؤمنون بالله ولا بأنبيائهم ولا بما لديهم من صحائف، هناك أهل كتاب يملأون الدنيا بالخنا، ويستبيحون فى أرضهم الزنا، ويجعلون الاقتصاد قائما على الربا، هناك أهل كتاب لا دين لهم فى الحقيقة، وهؤلاء كلف المسلمون أن يعاملوهم معاملة فيها بأس، لكن ما البأس هنا؟ قال: يجردون من السلاح، ويؤخذ منهم مال يعتبر " بدل عسكرية " ويبقون على دينهم فى حماية الأمة الإسلامية.. هذا المسلك أشرف وأعدل مسلك عرفته الدنيا، لم؟ أنا سأضرب مثلا صريحا: اليهود يحاربون "مصر" الآن- ولأكن مصريا فقط- كان فى مصر نحو خمسين ألف أو(2/51)
ثمانين ألف يهودى، إذا كلفنا اليهودى المصرى أن يقاتل اليهود فى إسرائيل، فهل أنتظر أن يكون مقاتلا مخلصا جلدا ص _063
صبورا؟ فإذا قلت له: ابق على دينك، وعش فى جوارى وادفع مالا هو ثمن ما أدافع أنا به عن هذه الأرض وعمن يعيشون فوقها آمنين، أأكون بهذا ظالما؟ أى مسلك أشرف من هذا المسلك؟ لا أكلفه مقاتلة إخوانه فى الدين، ويعيننى بمال قليل مثل ما يعين المسلمون بأنفسهم وأقل مما يعين المسلمون بأنفسهم ودمائهم، هذا المال القليل هو الذى يسمى " جزية " والذى تحدث عنه بعض المسعورين من الحاقدين على الإسلام، قالوا كلاما مغشوشا ليس فيه عقل ولا تقدير ولا عدالة، لأن الله يقول: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) أيا ما كان الأمر فإن هذه البحوث الفرعية ليست من منهجنا فى التفسير الموضوعى الذى حرصنا على أن يكون رسم صورة شمسية للسورة الكبيرة من القرآن.. وقد قلت: إن سورة براءة تدور حول محور واحد هو: تطهير الأمة العربية المسلمة، تطهيرها من الشرك ومن النفاق، وقد انتهينا من هذا الثلث الأول فى السورة، بينا فيه كيف طهر المجتمع العربى الأول من الشرك، ولنا عود إن طال بنا الأجل إلى الثلثين الباقيين من السورة نرى كيف طهر الإسلام المجتمع الإسلامى العربى الأول من النفاق. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _064(2/52)
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد عباد الله: أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل، وادرسوا أيها المسلمون تاريخكم الغابر والحاضر، القديم والمعاصر، وتأملوا كذلك تواريخ غيركم، فإن تاريخ غيرنا ملئ بالمآسى، إن الحروب الدينية لا يعرفها التاريخ الإسلامى أبدا، ولكن عرفتها أراض أخرى لوث أديمها بالدماء المراقة بغزارة بسبب الاختلاف لا فى الدين فقط بل فى المذهب الدينى، أما نحن فديننا بلغ من السماحة حدا لا يعرف لدين آخر أبدا.. لفت نظرى شئ- لو أنك اختبرت المثقفين عندنا من الدارسين- لا فى المدارس المتوسطة بل فى الجامعات- لو حدثتهم عن (شارل مارتل) ما عرف أكثرهم ما شارل مارتل،. والذى يقرره التاريخ أن شارل مارتل رجل فرنسوى أوربي هزم المسلمين فى معركة (بلاط الشهداء) فى الأندلس، وكان سبب انهزام المسلمين أنهم تفرقوا قبائل وعصبيات. ص _065(2/53)
وانتظروا الغنائم ونسوا وجه الله، فهزمهم شارل مارتل، وكانت الهزيمة عادلة، وإن كان عدد من المؤرخين- لا أدرى أهو حق أم هى أساطير؟ يقول: إنه يمر بمقابر الشهداء المسلمين هناك فيسمع خلالها- أحيانا- أصوات الأذان !! لا أدرى أهو حق أم خيال؟ لكنه على كل حال يعطى فكرة عن أن المسلمين الأولين قاتلوا من أجل: الله أكبر، وتحت لواء: الله أكبر، وهذا هو الذى جعل الناس يسمعون أو يتخيلون أن هؤلاء الشهداء لا تزال تسمع بين أضرحتهم وقبورهم: الله أكبر !! هزم المسلمون، المعركة- طبعا- لا تدرس، ربما يدرس تاريخ نابليون ولا يدرس السر فى هزيمة المسلمين فى هذه المعركة.. لكن أوربا لا تنسى.. فى الأسبوع الماضى هوجمت سفارة الجزائر وقتل عدد من الأشخاص وجرح نحو عشرين شخصا، وأعلنت الجمعية المسئولة عن هذا الذى حدث أنها جمعية (شارل مارتل) وأنها تريد إخراج العرب من فرنسا، وهم يشتغلون هناك عمالا !! نحن ننسى، أما غيرنا فيذكر، نحن أصحاب قلوب بيضاء إلى حد البله، أما غيرنا فإن ضغائنه راسبة فى أعماقه إلى حد الخبث والدهاء، ألا نرعوى.. ألا نفكر.. ألا نتجمع حول ديننا.. إن اليهود يتحدثون عن أن (مؤتمر جنيف)- لا أعيه مؤتمر السلام- سوف يعطل يوم السبت لأن العمل يوم السبت لا يجوز عند اليهودية!! هل يحترم المسلمون دينهم وشعائرهم ويعلمون أن هناك حلالا وحراما فى دينهم فينبغى أن يراعى هذا وأن تحترم حدود الله أم لا نفهم؟ وإلى متى لا نفهم؟. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). ص _066(2/54)
عباد الله (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). وأقم الصلاة * * * ص _067
الضغائن السود خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه ص /11/1973 الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد- وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد فنحن نعلم أن المعجزة الكبرى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم هى القرآن الكريم، يرى كثير من المؤرخين والمنصفين أن المعجزة التى تلى هذا الكتاب هى مجموعة الرجال الذين رباهم محمد عليه الصلاة والسلام، فأحسن تربيتهم وسكب من قلبه فى أكمدتهم من مشاعر اليقين والإخلاص ما جعلهم نماذج حية للإيمان الراسخ والفداء إلى آخر رمق. إن هذا الجيل من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، الذين حملوا مبادئه، ووفوا لها، وكانوا جسرا عبرت هدايات السماء عليه إلينا، إن هؤلاء الرجال طراز من الخلق يعجب، وفى الحقيقة عندما أقرأ سير الكثيرين منهم أشعر بقصر وتضاؤل وأحس أننى أمام قمم ذاهبة فى الفضاء لا تطاول!!. كنت أقرأ حياة رجل عادى اسمه غير معروف فى تاريخ الأصحاب؟ الذين رزقوا حظوظا كبيرة من الشهرة اسمه " أبو عقيل الأنيفي ص _068(2/55)
فى حروب الردة ظهرت بطولات فارغة قمعت الباطل وشرفت الحق وحروب الردة طالت شهورا، وبذل فيها حملة القرآن الحقيقيون بذلوا فيها أنفسهم، وأنا أقرأ فى صفحة عادية من الصفحات التى لا تلفت النظر، وجدت أبا عقيل هذا يصاب فى معركة اليمامة بجرح، مرق سهم قريبا من قلبه، فكاد يفصل ذراعه اليسر عن منكبه !! وبتعبير المؤرخين جر الى خيمة كى يداوى فيها، كانت المعركة- معركة اليمامة- تدور بطريقة مزعجة.. حرب بين كر وفر.. بين إقبال وإدبار، أتباع الدجال " مسيلمة الكذاب " استبدت بهم عصبية الجاهلية فهم يبذلون نفوسهم حتى لا ينهزموا، والمسلمون يريدون الإجهاز على هذه الخرافة والانتهاء من هذا الدجل، لكن الحرب كانت مدا وجذرا، كرا وفرا.. كادت صفوف المسلمين تتصدع من هول القتال !! فغضب الأنصار، وضاقت نفوسهم أن تدور الحرب على هذا النحو، قالوا: أخلصونا.. اجعلونا طليعة.. لا نريد أن يختلط بنا أحد فى الصفوف المتقدمة.. وصاح صائحهم ياللأنصار أخلصونا !! فأخذوا يتجمعون حول الصيحة.. وكان أبو عقيل جريحا فى الخيمة فنظر إليه عبد الله بن عمر وهو يتحرك، فقال له: " إلى أين؟ أنت رجل جريح تكاد ذراعك أن تسقط !! قال :إلا تسمعهم ينادون على !! فقال له إنما ينادى ياللأنصار، قال وأنا من الأنصار، والله لو كنت لا أستطع أن ألبى النداء إلا حبوا لزحفت !! ". وخرج بسيفه تحمله ذراعه اليمنى لأن الأخرى تكاد تسقط، وخرج يقول هو الآخر ياللأنصار، كرة كيوم حنين !! وكان يوم حنين قد بدأ بداية سيئة لأن المسلمين غرتهم كثرتهم، ثم لما انشكف الطلقاء والمرتزقة ومن يكثرون السواد ولا يصلحون فى الجد، نادى النبى عليه الصلاة والسلام نداءين لم يفصل بينهما: "التفت عن يمينه فقال: يا معشر الأنصار، فقالوا: لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك، ثم التفت عن يساره فقال: يا معشر الأنصار، فقالوا: لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك " فاجتمعوا عليه، وانتصر بهم وحدهم !! ص _069(2/56)
أبو عقيل رضى الله عنه يذكر الواقعة ويقول: كرة كيوم حنين!! وكر الأنصار فى زحف قرروا أن يفنوا فيه أو يبلغ مداه !! وبلغ مداه وقتل مسيلمة واقتحمت صفوف الشرك، وانتصر الإيمان!! ومر عبد الله ابن عمر رضى الله عنهما فى الميدان فإذا أبو عقيل على الأرض فنظر إليه، فوجد به أربعة عشر جرحا كلها نفذت إلى مقتل !! فقال: أبا عقيل. فقال له لبيك.. وسأله أبو عقيل وهو على الأرض لمن النتيجة؟ فقال: للإسلام، وقتل عدو الله، يقول ابن عمر: وكان الرجل يكلمنى بلسان ملتاث!! اعوج لسانه لأنه يموت، فأشار أبو عقيل بإصبعه وقال: الحمد لله، ومات!!. عندما قرأت سيرة الرجل قلت: سبحان الله !! لقد كان جريحا يستطع أن يقول: سقط عنى التكليف لأنى مريض، ولكنه تحامل على نفسه وأبى إلا أن يقاتل، وعندما بدأ يودع هذا الدنيا لم يكن تفكيره فى أهل أو مال، إنما كان تفكيره الذى شغله وسأل عنه هو لمن النتيجة؟ فلما علم أن النتيجة للإسلام حمد الله ومات مستريحا !!. من ربى هؤلاء؟ محمد عليه الصلاة والسلام والقرآن!! ومحمد صلى الله عليه وسلم لم ينته مادام كتابه موجودا، ومادامت سنته موجودة، وما دامت النماذج التى تركها من بعده موجودة. المهم أن نحسن نحن الاتصال به، التأسى به، الاقتداء به، الأخذ عنه، وهذا ما أريد أن أدور حوله الآن فى كلمة اليوم. أريد أن نعرف شيئا عن طبيعة الدين الذى ربى أولئك العمالقة، لابد أن نعلم أولا أن ما عندنا هو الحق، وأن ما عند غيرنا إفك وهوى وشهوات وأساطير. هذا المعنى أكده القرآن كثيرا، حتى تعلم أيها المؤمن أن ثروتك لا غش فيها، وأن مبادئك لا دخل فيها، يقول الله لنبيه.: (...ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير). ص _070(2/57)
أهواءهم.. وفى السورة نفسها يقول له: (...ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين). ويقول: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم ..). ويأمره فى سورة الأنعام فيقول له: (قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين * قل إني على بينة من ربي وكذبتم به …). هؤلاء أتباع الهوى، غيرنا يتبع الهوى، أما نحن فالدين والعلم عندنا اسمان لشئ واحد !! (...ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم …). العلم عنوان أو اسم للوحى !! فهو مقارن أو مرادف لكلمة الدين، الدين والعلم عندنا سواء، وذلك لأن الحق معنا.. يقول الله لنبيه فى وصف هذا القرآن: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل …). لكن هل الحق يمشى فى هذه الدنيا بقدرته النظرية، أو بأدلته العقلية، أو ببراهينه الدامغة، أو بالصور السليمة التى يقدمها؟ لا!! لم؟ لأن أهل الباطل لهم مواقف يجب أن تشرح، شرح القرآن الكريم مواقف المبطلين أعداء الحق فبين أولا أنهم يكرهون أى خير يصيبنا.!! ويريدون من أعماقهم أن تحيط بنا الشرور والآلام!! تأمل فى قوله تعالى: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم …). تأمل فى قوله تعالى: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ) تأمل فى قوله تعالى: (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون). لكن هل ودادتهم أن نكفر انتهت إلى التمنى القلبى ووقفت؟ لا، ص _071(2/58)
إن هذا التمنى القلبي تحول إلى سلوك عملى، كيف؟ أخذ شعبا مختلفة، فهم مثلا يريدون أن تدمر المساجد فلا يذكر اسم الله فيها !! لم؟ لم تكره المساجد؟ ولم يكره أن ينبعث من فوق مآذنها تكبير الله وتوحيده؟ لكن هؤلاء وصفهم القرآن فقال: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ...). شعبة أخرى إلى جانب كره المساجد وما ينبعث منها، شعبة أخرى هى كره الدعوة إلى الله، مقت الدعاة إلى الله، النظر إليهم بضيق ومحاولة التنكيل بهم وإخراس أصواتهم!! (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا …). يكادون يبطشون بهم !! هل هذه الرغبة الجامحة فى تدمير المساجد وإخراس الدعاة وقفت عند هذا الحد؟ لا. إنهم لن يرضوا إلا إذا تركنا هذا الدين!! لماذا؟ لأن الإسلام كنى الحقيقة عندما جاء العالم، جاءه بعد ظلام طال ليله، وبعد ظلم حملت الشعوب مغارمه من الملل والنحل التى لم تفلح فى تبديد الظلمة، ولم تنجح فى علاج الظلمة !! إن هذه الملل والنحل ضاقت عندما وجدت دينا جديدا يفلح حيث خابت، وينجح حيث فشلت، وكما يكره أدعياء الطب الطبيب الصحيح الناجح، وكما يكره التجار الفاشلون التاجر النقى الذى لا يغش، كما يقع هذا فى الدنيا وجدنا أتباع الملل الشاردة يضيقون بالإسلام ويكرهونه ويعلمون أنه ما بقى يعرض نفسه ومبادئه، ويمكن الناس من أن يطلعوا على حقائقه فلا مجال لهم ولا بقاء لهم !!. ولذلك كان القرآن واضحا عندما قال لصاحب الرسالة: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم …). هل يكتفون بعدم الرضا؟ لا، (…ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا …). ص _072(2/59)
إننا ما نشترى الشر ولا نحب أن تملأ الدنيا بالقتال والحروب، ما أظن أن تابعا لدين من الأديان يكرر كلمة السلام بلسانه كما تتكرر على ألسنة المسلمين !! خمس صلوات يوميا يسلم المسلم فيها يوميا يمينا ويسارا، يذكر كلمة السلام، ويحيى الناس بها فى الفرض والنافلة فى البيت والشارع فى كل مكان. لكن ماذا نصنع عندما نجد ناسا كثيرين وللأسف فى طليعتهم أهل الكتاب، يحقدون علينا؟. نحن نسمى أهل الكتاب فى هذا العصر أهل كتاب، وإن كانت صلتهم بكتبهم اضطربت، ولكنهم ما داموا يعتمدون عليها وينظرون إليها وينتسبون إلى ما فيها فهم أهل كتاب. سألت نفسى قلت: اليهود يريدون محو ديننا، يقول بيجن ـ الإرهابى الإسرائيلى الذى يتزعم المعارضة الآن فى إسرائيل، وقد يكون حاكما قريبا، وهو وإن كان زعيم المعارضة ما يختلف عن المرأة الحاكمة فى قليل ولا فى كثير فإنهم أشربوا التعصب لليهودية والكره للإسلام- يقول بيجين: إن الطريق أمامنا صعب لأننا نريد محو الحضارة العربية وإحلال الحضارة العبرية مكانها !!. الأمر أمر استئصال، الأمر أمر أن دينا يراد الإجهاز عليه وعلى أمته وإحلال دين آخر مكانه !! هذه هى المعركة !! أسأل نفسى وأقول: والذين من وراء إسرائيل ما الذى يجعلهم يؤمنون إسرائيل ويدافعون عنها ويتعصبون لها ويرسلون الأسلحة إليها؟ المنافع؟ لا، إن العرب فى أرضهم الواسعة، وإن المسلمين فى أرضهم الأوسع أسواق استهلاكية لا آخر لها للسلع الأوربية والأمريكية!!. هل أسأنا نحن للأمريكيين ؟ لا إنهم قوم ظهروا فى التاريخ من قرن أو قرنين على الأكثر، ونحن قبل ذلك قد شققنا طريقنا فى هذه الدنيا، ولعلهم ظهروا يوم بدأنا نضعف، فما الذى يجعل الأمريكيين يقولون: نتحمل شتاء باردا، نتحمل المشى على أقدامنا؟. الواقع الذى لا يذكره الكثيرون أن الأمر ليس عشقا لليهود بقدر ص _073(2/60)
ما هو كره لله ولمحمد صلى الله عليه وسلم، كره للقرآن والسنة، كره للعرب وللمسلمين، كره لهذا الدين توارثوه، ورضعوه من لبان الأمهات.
هذه الحقائق يجب أن تعرف، لقد بدأوا يشعرون بأن تأييدهم لليهود سيجر عليهم متاعب ومع ذلك فإن كرههم للإسلام جعلهم يمضون فى سياسة الغدر والظلم والافتيات وإضاعة الحقوق، ما الذى يسبب هذا كله؟ نظرت فى كتابنا، فى تاريخنا، فوجدت أننا ما أسلفنا يدا شريرة ولا آثمة ولا معنتة لأحد!!
هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان اليهود يسكنونها فعقد لهم المعاهدة، ولكنهم فى ظل معاهدة كفلت حرية العقل والضمير، وضمنت إقامة الشعائر الدينية لكل ذى نحلة !! افى ظل هذه المعاهدة حقدوا على الإسلام!!.
يقول مفسرو القرآن : إن رجلا أراد إرغام ابنه علي الإسلام، وكان الولد نصرانيا وكان الأب مسلما، وجاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم يقول: أيدخل بعضى النار وأنا قادر على منعه؟ ولكن الرسول عليه السلام تلا الآية: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).
هذا مجتمعنا، شئ آخر، حدثت قصة طريفة فى هذا المجتمع هذه القصة أن سرقة وقعت، وكان جيران هذا البيت المسروق بعضهم مسلم وبعضهم يهودى، وأسرعت التهمة إلى اليهودى، ولكن الوحى نزل يقول: لا، اليهودى برئ والذى سرق منافق يتظاهر الإسلام.
ودفاع النبى صلى الله عليه وسلم عن المسلم كان خطأ وقع فيه ونزلت الآيات تقول: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما * واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما).
أى مثالية فى الدنيا تنصف الذين لا يدينون دين الدولة كما فعل الإسلام؟.
ص _074(2/61)
يحكى التاريخ أن درعا فقدت لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه فنزل يوما فى السوق فوجدها عند يهودى، فأمسك باليهودى، وقال : درعى أنا أعرفها، واحتكم إلى القاضى، وكأن عليا كان يظن أنه ما دام رئيس الدولة، وما دام على بن أبى طالب المعروف بالشجاعة والإيمان فإن كلمته ستصدق، ولكن القاضى " شريك " قال له: يا أمير المؤمنين ألك بينة؟ فسكت على، لا دليل عنده، قال: اليمين خصمك، اليهودى يحلف، وليس لك إلا هذا: "البينة على من ادعى واليمين على المدعى عليه " . يقول المؤرخون: إن اليهودى دفع الدرع إلى على وقال له: هى درعك أخذتها منك منصرفك من " صفين " وما هذه إلا أحكام أنبياء!!. الرجل راعه أن تطبق العدالة عليه وهو خصم لأمير المؤمنين رئيس الدولة!!. هذا هو ما نصنعه مع غيرنا، لكن اليهود مع العدل الذى عاشوا فى ظله، مع الحرية التى كفلت لهم إقامة الشعائر، مع كل هذا ظل قلبهم أسود!!. وأقرأ سورة البقرة ـ وهى السورة التى نزلت أول ما نزل الوحى فى المدينة ـ فأرى أن اليهود بذلوا جهودا غريبة فى إحراج النبى. عليه الصلاة والسلام وفى تجريح دينه وأمته، وفى مناقشة المسلمين مناقشات لا معنى لها ولا ضرورة لها، فإن اليهود لم تمض عليهم سنة وقد وقعوا معاهدتهم مع النبى عليه ص _075(2/62)
الصلاة والسلام، ومع دلك فإن إحراجهم بلغ مداه، أخذوا ينددون به لأنه يتبع قبلتهم ولا يدين دينهم، وأخذ ا لقرآن الكريم يقول لليهود: اخجلوا: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون)، ولكن لا وفاء، ما يعرفون الوفاء. وجاءت غزوة بدر وانتصر المسلمون فيها، وكان انتصار المسلمين بعد سنة ونصف من إمضائهم المعاهدة مع اليهود، المعاهدة لا تزال جديدة، فماذا كان مسلك اليهود؟ سلكوا مسلكا غريبا، أخذوا يحقرون النصر الإسلامى داخل المدينة، ويقولون للمسلمين: لا تغتروا أن لقيتم ناسا لا يعرفون القتال فانتصرتم عليهم، أما لو التقيتم بنا لعلمتم أنا نحن الناس !. لكن هذا الاستفزاز لم يؤثر فى النبى صلى الله عليه وسلم ـ أو المسلمين، وسلك اليهود مسلكا آخر، أخذ شعراؤهم يرسلون القصائد رثاء فى قتلى قريش وتأبينا لصرعى الشرك والوثنية!! انضم اليهود إلى عبادة الأصنام فى صراعهم مع عبادة الله الواحد! لم هذا؟ هذه طبيعتهم. إننى أريد من هذا السياق شيئا، أريد أن نعلم حقيقة لا ريب فيها: يستحيل أن يوفى اليهود بعهد!! يستحيل أن يحترموا كلمة!!. لن ينتهى القتال معهم فى شهور أو فى سنين قلائل، إن الحرب حرب طويلة المدى، وهى تحتاج إلى ما لابد من شرحه: قلنا ومازلنا نقول: إن اليهود جاءوا فلسطين وهم يرون أنفسهم أولاد الأنبياء!! نوع من الجنون الدينى أو الدروشة الدينية، نوع من التعصب للدين بدأ بكاء عند جدار " المبكى " والبكاء هنا شىء خطير، يقول علماء التاريخ: أن الأمم لا تثور إذا ظلمت إنما تثور الأمم إذا شعرت بالظلم!! أما إذا مات شعورها فلا قيمة لها، وكما يقول المتنبى: من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام ص _076(2/63)
إنما يتحرك من يشعر بالظلم، نحن فقدنا " الأندلس " هل شعرنا بفقد الأندلس؟ لا، أما هؤلاء فقد أشعروا أنفسهم أن هنا أرضا فقدوها وأخذوا يبكون عليها !! البكاء بالدموع تحول إلى قطرات دم، تحول إلى احتلال للأرض. هذا ما تصنعه الأمم، هؤلاء جاءوا بعقيدة دينية ولذلك يستحيل أن يقضى عليهم وأن تجتث جذورهم، إلا بالعقيدة الدينية التى يريدون محوها، وأنا أعتبر خائنا ساقطا من عين الله كل إنسان ملك سلطة أو ملك قلما وجعل العقيدة الدينية ذات مكانة ثانوية فى التوجيه الأدبى أو المادى !!. وكأن الله جل شأنه أراد أن يقول لنا: سمعتم الكذبة الذين قالوا لكم: إن الهزيمة السابقة كانت للتأخر فى التكنولوجيا، لا كان معنا أسلحة أكثر مما معنا الآن، إنما انتصرنا لأن "الله أكبر" كانت فى المعركة الأولى جريمة !! أما الآن فإن الأنباء عندما كانت تجئ ـ وأنا كنت فى المغرب ـ كان التكبير يغطى على هدير المدافع !! كانت كلمة "الله اكبر" تأخذ مداها فى النفوس وفى الصفوف !! استدار المفتاح الدينى فى القلب العربى فانفتح !!. " أبو عقيل الأنيفى " والد لجنود مجهولين، لرجال تربوا فى المساجد، لضباط وقواد ليست لهم أسماء لامعة، ولكنهم وصلوا قلوبهم بكلمة الله، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت الأمة ـ برغم الكتابات التى ملأ طنينها الآذان وهى ملحدة ـ كانت سليمة الجوهر، الطبيعة المؤمنة رفضت كل مراودات الإلحاد، كل إغراءات الشرك، كل أكاذيب الإباحية والفجور، كل محاولات الصرف عن عقائد الإسلام وشرائعه وشعائره، فكان الشعار الدينى هو الذى قاد النصر، وكأن الله الذى يضحك ويبكى، وهو الذى يقول عن نفسه: (وأنه هو أضحك وأبكى * وأنه هو أمات وأحيا) كأن الذى أضحك وأبكى يريد أن يقول للمسلمين: أنا استطع أن أنصركم، وأن تدمر كل عدد الضلال التى تأنق فى إعدادها و تأنى فى تجهيزها، أنا أضحك وأسوق النصر إذا أردت، وأنا أسوق الهزيمة إذا أردت. ص _077(2/64)
أريد أن يعلم الناس أن اليهود يستحيل ما بقوا فى هذه الأرض أن تكون لهم كلمة مأمونة أو عهد محترم أو ذمة مرعية !! هؤلاء يستحيل ما بقوا أحياء أن يتركوا فلسطين إ!. لابد من سحق هذه العصابة المعتمدة على دينها بأجيال تربى.. يغذيها القرآن الكريم، يغذيها مربي الأبطال محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صانع الرجال، يغذيها بسنته. لابد من عقيدة دينية تغذى هذا القتال، ونعرف أنه ليس قتال أيام قلائل، لا، ما فسد فى خمسين سنة أو أقل أو أكثر لا يصلح فى خمسين ساعة أو فى خمسين يوما أو فى خمسين شهرا، لا، الزمن جزء من العلاج، وأمتنا محتاجة إلى علاج طويل، لكن الذى أطلبه الآن هو: أعداء الإسلام مكرة مهرة وقد كسب المتدينون المرحلة الأولى، لكنى أخشى عليهم أن تسرق منهم هذه المرحلة، أخشى عليهم كتابا مردوا على الضلال والمجون، أخشى عليهم حكاما عاشوا بعيدين عن الله وعن الصلاة، من باب الاعتراف بالواقع ـ وأنا كنت فى المغرب ـ سرنى أن يكون رئيس الدولة هنا مجمعا لا مفرقا، اجتمع العرب لأنهم شعروا بأن مصر تقاتل حقا وأن أهلها مؤمنون حقا، وأن الوقوف إلى جوارهم دين، وأن البعد عنهم خيانة، أما قبل ذلك فقد تركونا لأنهم لم يجدونا أهلا لأن يساعدونا، كان حكامنا فجرة كذبة. إننا لا نريد أن يستولى الضلال علي حصيلة ما صنعه الحق فى هذه المعركة، بنينا بقاعدة الإيمان، " الله أكبر " ليست صيحة تقال وينتهى الأمر، " الله أكبر " صيحة تفتح بها الصلاة فمن لم يصل فإن صيحاته فى الطريق لا تصلح، ينبغى أن يتعلم قول هذه الكلمة فى صلاة تبدأ من مفتتح اليوم، يصلى الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا). الرجل الذى يجلس فى ديوانه أو على مكتبه ويشعر بأن الناس عبيد له أو لأبيه هذا لص ! ومرتبه الذى يأخذه سحت ! ص _078(2/65)
الرجل الذى يجلس فى ديوان أو مكتب يجب أن يعلم أنه خادم للأمة وأن سيدة وسيد أبيه من قبله أبو بكر رضى الله عنه يقول. للناس: "إنى وليت عليكم ولست بخيرا إن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى "!! " الله أكبر " كلمة تفتح بها المدرسة لتكون التربية دينية، لن نسمح بإلحاد أبدا، لن نسمح إطلاقا لمن يشككون فى الله، أو فى عظمة محمد عليه الصلاة والسلام " الله أكبر " كلمة تستقر فى المحاكم لتكون أذانا بأن شريعة الله عنوان العدل والفضل: (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين * وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم). إننا نريد أن يعلم الناس أن اليهود لا عهد لهم، إنهم شنوا حربا دينية هدفها سحق رسالة محمد عليه الصلاة والسلام على أساس أن إسرائيل الكبرى سوف تكون قضاء على قلب الإسلام، وقلب الإسلام فى مصر!! وفلسطين ما هى إلا جناح من مصر صغير، كانت مكملة له عبر التاريخ كله !!. الآن يجئ رجل أمريكى ليقول: متى كانت سيناء مصرية؟؟ إن هؤلاء الأمريكيين لديهم عقدة، هم لا يعرفون كلمة " وطن " بمعناها الحقيقى لأنهم جميعا طرأوا على أرض لم تكن لهم، هذا ألمانى، هذا !إنكليزى، هذا فرنساوى، هذا استرالى، هذا عربى، تركوا بلادهم وذهبوا إلى أرض لا تاريخ لهم فيها يأكلون فيها ويرتزقون !!. فكلمة " الوطن " عندهم كلمة مبهمة لأن إحساسهم بها ضعيف، هم قوم ليس لهم وطن. وأريد أن نعلم قصة الحقد الدينى، إن " وايزمان " اليهودى يقول: إن " لويد جورج، ولورد بلفور " عندما ساعدونا لم يكونوا يساعدوننا عن رشوة يقدمونها أو عمل يفعلونه بعيدا عن ضمائرهم، لا، إنهم كانوا ص _079(2/66)
يتقربون بهذا العمل إلى ربهم، ويرون أن إعطاء فلسطين لنا تصديق لتعاليم العهد القديم.. التى يؤمنون بها !!. هذا ما يقوله: " وايزمان " اليهودى، يقوله فيعتبر علما وتاريخا، ونقوله نحن فيعتبر تعصبا!!. يجب أن نعلم ما هنالك.. بهذه الجملة من الحقائق يمكننا أن نواجه معركتنا القادمة. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. * * * ص _080
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: أيها الإخوة نحن كما قلت لكم لا نريد أن نخون ديننا ولا كتاب ربنا ولا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وسيقول بعض الناس إن دولة كذا ساعدتنا ودولة كذا أيدتنا، ودولة كذا وقفت إلى صفنا، ليكن، لكن ما علاقة هذا بأن نترك ديننا ونكفر بربنا ونرتد عن إسلامنا؟. إن ما بين الروس والأمريكيين من خلاف اجتماعى وسياسى لا شك فيه، وكلاهما يحيا على نمط اجتماعى لا صلة له بتاتا بالنمط الآخر، كلاهما له فلسفته العقائدية والأخلاقية لا صلة لها بالآخر، ومع ذلك فإن الروس ما وجدوا حرجا فى أن يتعاونوا مع خصمهم لمصلحة، وإذا كنا نحن سنتعاون مع غيرنا لمصلحة فللمصلحة فقط، ولا نقبل من أحد أن يقول لنا: اكفروا لأن من ساعدكم كافر!! لا. الله يعلم كيف استوردنا الأسلحة؟ والله يعلم الكثير مما ينبغى أن يقال، ولكن الذى يقال ويؤكد أن اعترافنا بجميل من أسدى إلينا الجميل، لا يعنى أن نخون ربنا وهو ولى نعمتنا الأول، وهو الذى بيض وجوهنا فى المراحل الأولى من المعركة، وثبتنا فيما بقى من مراحل، ان المعركة طويلة، ولا أحب من المسلمين أن يتصوروها سريعة، لا، المعركة أطول ص _081(2/67)
مما يظنون، ولكننا عندما نصابر الأيام، وعندما نرجع إلى ديننا بقوة وحماسة فالمستقبل لنا بيقين. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة * * * ص _082
الباقيات الصالحات خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإن الباقيات الصالحات هى هذه الكلمات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ومعنى أنها باقيات صالحات أنها تضمنت أوصافا حسنة لله ـ وهو أهل كل كمال ـ تضمنت نعوتا جميلة لذى الجلال والإكرام، معنى بقائها أنها خالدة لا تفنى، أنها مستمرة لا تتلاشى، قد تصف وطنا، الوطن يزول، قد تصف قصرا، القصر ينهدم، قد تصف كوكبا، الكواكب تأفل وينتهى سناها وتنطفئ نارها، لكن ما انضم إلى الله، ما أضيف إلى ذاته العليا، ما اتصف به رب العالمين يبقى ولا ينتهى، ولذلك سميت هذه الكلمات: الباقيات الصالحات!! ص _083(2/68)
وقد وردت كلمة: الباقيات الصالحات فى موضعين من القرآن الكريم، قال تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) الناس تسعى إلى هذا، ولا عيب فى أن يسعى الإنسان لأن يكون له مال، وأن يكون له بنون، وأن تكون له دنيا، لكن العيب أن يعبد الإنسان ذلك كله من دون الله، أر أن يصده شئ من ذلك عن ذكر الله، أو أن يفهم أن الكفة الراجحة للإنسان هى ما امتلأ بالمال والجاه، فإن الكفة الراجحة كما أتمت الآية المعنى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا). ووردت فى سورة مريم نفس الكلمة: (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا * ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا) أى خير مرجعا وعقبى، وقد تكون كلمة: الباقيات الصالحات إلى جانب ما ذكرنا من شروح السنة لها قد تكون متضمنة معنى اكبر، أو معنى مساوقا فى مبدئه ومنتهاه للكلمات الأربع التى ذكرناها كقوله تعالى (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) فإذا ادخر الإنسان شيئا عند ربه فهو من الباقيات الصالحات لأنه لا يفنى ولا يعروه زوال. نحب أن نتوقف قليلا عند هذه الكلمات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. الكلمة الأولى: سبحان الله.. أى تنزيها لله من كل مالا يليق بقدره، إبعادا لكل مستقبح أو مستنكر عن أن يتسرب إلى صفاته أو إلى ذاته، التسبيح تنزيه، والله جل شأنه أهل كل كمال، وقد وردت الكلمة فى الكتاب العزيز بتصاريفها كلها، جاءت فعلا ص _084(2/69)
ماضيا(سبح لله ما في السماوات وما في الأرض) وجاءت فعلا مضارعا: (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم) وجاءت فعل أمر: (سبح اسم ربك الأعلى) وجاءت مصدرا: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) جاءت الكلمة بتصاريفها كلها، لماذا؟ لأن الخطأ انتشر بين الناس فى تصور الألوهية وإدراك حقيقتها من ناحية الكمال والسمو والمجد والعظمة، فهناك من أخطأ خطأ فادحا فزعم أن لله ابنا، والله منزه عن هذا، ما يليق به ذلك: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون) هناك من زعم أن الله جسد ـ تجسد ـ وهذا كذب على الله، فإن خالق الأكوان، خالق السموات التى يتيه العقل عندما يتصور الأرقام الفلكية التى تحسب غروب وشروق الكواكب فى مداراتها الرحبة التى يستحيل أن ندرك شيئا من مداها، خالق هذا كله كيف يتصور أنه جسد أو جاء فى جسد، والغريب أن هذا الكلام الذى أقوله موجود فى كتب لها قداسة ـ عند أصحابها ـ كنت أسأل نفسى كثيرا لماذا تحدث القرآن عن ضيف إبراهيم المكرمين فى أكثر من موضوع؟ ثم عرفت بعد ذلك السبب لأنى وجدت فى " العهد القديم " أن إبراهيم كان جالسا عند بالوطات ممرا ـ مكان فى فلسطين ـ فلمح أشخاصا قادمين من بعيد ولمح الله بينهم، فأسرع إلى مقابلته، وسجد بين يديه، وقال له: إن كان لعبدك نعمة فى عينك تتغدى عندنا ما هذا الكلام؟ الله يتغدى؟!! هذا كلام غريب، وكما ذكر العهد القديم هذا ذكر أيضا: أن الله كان يتمشى فى الجنة فسمع خشخشة فى الشجر فقال: من هناك؟ قال: آدم ، ص _085(2/70)
فقال: لماذا أنت مختبئ؟ قال: أنا عريان، فقال: هل أكلت من الشجرة التى نهيتك عنها؟ قال: المرأة التى خلقتها لى هى التى أغرتنى!! والله لا يدرى شيئا عن هذا كله، ثم بعد صفحات يقول: وندم الرب على خلق الإنسان!! لأنه ما كان يدرى أنه شرير على النحو !! ولذلك كثر فى القرآن الكريم الحديث عن تسبيح الله.. تنزيهه.. بناء العقيدة على أن الله (…ليس كمثله شيء وهو السميع البصير * له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم) وليس فى القارات الخمس كتاب نزه رب العالمين، وأبعد كل نقص عن ذاته وكل قصور عن صفاته كهذا الكتاب العزيز، ليس فى الدنيا كتاب غير القرآن الكريم تحدث عن الله بكل ما ينبغى له من إعزاز وتوقير وتكريم وإعظام!!. هناك تسبيح يجئ بمعنى ينبغى أن يعرف لأنه قد يتصل بحياتنا العادية وسلوكنا الذى نباشره، ينبغى أن نحسن الظن بالله، قد تقول: ومن الذى لا يحسن الظن بالله؟ أقول لك: إن الذى يبخل لأنه يخشى الفقر يسئ الظن بالله، ولذلك قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لسيدنا بلال رضى الله عنه: " أنفق يا بلال ولا تخش من ذى العرش إقلالا ". الظن بأن الله لا يخلف على من أشفق ظن سئ ، ينبغى أن يسبح الله عنه، وقد ذكرت فى القرآن الكريم قصة تشير إلى هذا المعنى وهى قصة أصحاب الجنة- الحديقة- الذين رأوا أن يجنوا ثمرها بعيدا عن أنظار الفقراء حتى لا يأخذوا منها شيئا، بخلوا بحق الله فى الثمرات التى صنعها الله ما صنعها أحد معه- بخلوا بحق الله على المحتاجين من عباده: (فتنادوا مصبحين * أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين * فانطلقوا وهم يتخافتون * أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين * ص _086(2/71)
(وغدوا على حرد قادرين * فلما رأوها قالوا إنا لضالون * بل نحن محرومون * قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون * قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين) التسبيح هنا هو توحيد بيقين، لكن إلى جانبه: هلا عرفتم أن الله الذى خلق الثمر يختبر صاحب الثمر فى إخراج جزء منه، وظاهر الإخراج أنه نقص ولكن النتيجة الأخيرة نماء وزيادة ومضاعفة ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " ما نقص مال عبد من صدقة " هناك تسبيح من نوع آخر.. الحق قد يكون ضعيفا فى عصور كثيرة، ويختبر الله أصحاب الحق بأن يقفوا إلى جانبه وهم ضعاف، يختبرهم : (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون) هذا اختبار، يوما ما كان اليهود قد أدلوا بثرواتهم وشمخوا بأموالهم وملأوا الأرض فسادا، عندما طغوا واعترفوا بقواهم وظنوا أنهم فى حصونهم التى شيدوها يملأون الأرض فسادا ولن يعاقبهم أحد، وأن الذى يمهل سيهمل، قيل لهم: كذبتم، الذى يمهل لا يهمل ، بئس الظن أن تظن أن الله يهمل، ولذلك جاءت سورة الحشر بمطلع التسبيح حتى تعيد التوحيد وحسن الظن بالله لنفوس الناس: (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم * هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار) أنا أنبه دائما إلى أن العبرة لا يستطعها كل أحد، إنما يستطيعها أولوا الأبصار، ولذلك قلت وما زلت اكرر القول: بأن الإسلام ما ينتفع من الشعوب الغبية التى لا بصر لها، إنما ينتفع الإسلام من شعوب لها ثقافة ولها إدراك، وهو عندما ينزل فى شعوب ص _087(2/72)
متبلدة يبدأ فيرفع مستواها ويجعل بصرها حادا حتى ترى، وهو ما صنع القرآن الكريم عند من استمعوا إليه فلم يجروا عند قراءته صما وعميانا. الكلمة الثانية: الحمد لله.. كلمة الحمد لها شعبتان فى المعاني .. شعبة تتصل بتمجيد الله وكشف النقاب الذى نسجه الجهل على بصائرنا فلم نعرف ما ينبغى لله من مجد وعظمة.. الحمد هنا مدح، لما فى الذات العليا مما يجب أن يمدح، هذا شق من معانى المدح، ولذلك فإن الحمد هنا يذكر فى السراء والضراء، يذكر فى كل حين على أنه بيان لما يجب لله من إجلال، ولذلك بعد أن ينتهى الحساب ويستقر كل فريق حيث انتهى به عمله أو انتهى به فضل الله تأتي هذه العبارة: (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين)، (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) الحمد هنا شعور بما لله من عظمة وجلال ومجد، وهو المجيد، جل جلاله، أما الشق الثانى أو المعنى الثانى من معانى الحمد فهو: شعور بالشكر بازاء النعم التى تنهمر صباحا ومساء على العباد، وفى الناس جحود فهم يمرحون فى فضل الله، ما تطعم أحد إلا من خيره، ما يشرب أحد إلا من سحاب هو الذي أثاره وكونه وهو الذى أنزله ليروى به الظامئون، ومع ذلك فإن الناس تمرح فى نعمة الله وقلما تشكر ربها على ما أنعم، ولذلك كانت السنة الشريفة منبهة إلى هذه النعماء المنسية أو هذا الفضل المجحود، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من قال حين يصبح اللهم ما أصبح بى من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر " فقد أدى شكر ذلك اليوم " شكر الله على أنعمه، وفي الحديث القدسى: " يا عبادى كلكم ضال إلا من هديته فاستهدونى أهدكم، يا عبادى كلكم جائع إلا ص _088(2/73)
من أطعمته فاستطعمونى أطعمكم يا عبادى كلكم عار إلا من كسوته فاستكسونى أكسكم " . فهل يكتسى أحدنا ثم يذكر أن الذى وارى سوأته وأبرز وجاهته وأتم عليه زينته واستحق الشكر بهذه المنن هو رب العالمين؟!!. كان النبى عليه الصلاة والسلام إذا لبس ثوبا قال: " الحمد لله الذى كسانى هذا الثوب ورزقنيه من غير حول منى ولا قوة " هذا بالنسبة إلى النعم الكثيرة التى نحسن انتشارها بيننا وانهمارها ليلا ونهارا. هناك نعم ينساها أصحابها أو ينسبونها إلى غير صاحبها ولو عقلوا لنسبوها إلى أصحابها، افرض أنك ذكى، وأنك بذكائك حللت مشكلة عويصة، أو انتهيت إلى رأى ناجح، من الذى وهب لك الذكاء؟ من الذى جعل تلافيف المخ كثيرة بحيث تستوعب وتحيط وتحسن الاستنتاج هب أن صوتك حلو، من الذى صنع الحبال الصوتية ووضع فيها العذوبة والرقة؟ من؟ أنت؟ أبوك؟ أمك؟ من الذى صنع هذا؟ هبك قوى البدن مكتنز الجسد بالعافية متين الأعصاب، تعمل أربعا وعشرين ساعة دون إعياء، من الذى منحك هذا كله؟ ولذلك يقول ابن عطاء الله فى حكمه الجميلة: " من أكرمك إنما اكرم فيك جميل ستره، فالحمد لمن سترك، ليس الحمد لمن أكرمك وشكرك " !!. هذا كلام جميل.. الفضل لمن منحك لا لمن مدحك.. هذا كلام رقيق.. وابن عطاء الله من خيرة الذين تكلموا فى هذه الموضوعات.. الفضل لمن منحك لا لمن مدحك.. ولو شاء لعراك فما تساوى شيئا.. هذا ما ينبغى أن يعرف.. وما ينبغى أن ندركه فى أحوالنا وحياتنا. الكلمة الثالثة : لا إله إلا الله، فى الحقيقة لا ترتيب بين الكلمات لكن هكذا رويت ومع الرواية التى جاءت بها فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " لا يضرك بأيهن بدأت " لا يضر.. التسبيح والتحميد.. يجتمعان، ص _089(2/74)
وهما مع التوحيد حقيقة متكاملة، ولذلك تجد الآية: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون) وقت الظهيرة ووقت العشى ـ وهو وقت الأصيل ـ المساء بعد غروب الشمس، أما العشى فهو وقت الأصيل، والغداة وقت الصباح: (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال) آصال: جع أصيل، والغدو هو الصباح، وصلاة الغداة- كا تجئ فى بعض السنن- هى صلاة الصبح. كلمة لا إله إلا الله.. هى عنوان الإسلام ومدخله، وإليها ضميمة أخرى تذكر بها غالبا وهى: محمد رسول الله، فالاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم حقيقة لا يكمل دين إلا بها، ولا يتم إيمان إلا بتحقيقها ووجودها، ولكن هى إلى جانب ذلك علامة على صدق التوحيد، بمعنى أن أدعياء التوحيد كثيرون، فالذين يشركون يقولون: الله واحد !! والذين يثلثون يقولون: الله واحد!! والذين يجسدون يقولون: الله واحد!! مزاعم، أما التوحيد- بتعبير عصرنا: الماركة النقية، العلامة المميزة التى تدل على أن التوحيد نقى- فهو ما جاء عن طريق محمد عليه الصلاة والسلام، لأنه توحيد فعلا، فقد كشف أن مادون الله عبد لله، فليس هناك من تسرى إليه صفات الألوهية بتة، لا ملك ولا بشر، البشر من نبى فنازلا عبيد، والملك من جبريل- روح القدس- فنازلا عبيد: (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا)، ولا يجرؤ واحد من الملائكة أو من البشر أن يزعم لنفسه بعض شارات الألوهية: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) ص _090(2/75)
فلا الملائكة ولا الناس فيهم أحد يوصف بجزء من صفات الألوهية، هيهات.. الله واحد أحد فرد صمد: (قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد) ، وقد تميزت القمة الأولى فى البشرية وهى محمد عليه الصلاة والسلام بأنها أوضحت هذا بجلاء وبينت أن البشر جميعا- وأولهم محمد عليه الصلاة والسلام، لأنه فى ترتيب العبودية العبد الأول، وإنما كان فى ترتيب العبودية العبد الأول لأنه كان فى يقظته ومنامه. فى صحته ومرضه.. فى حربه وسلمه.. فى انتصاره وانهزامه كان وثيق الصلة بهذا الإله الواحد، لا يعرف غيره، لما انهزم فى أحد- وكانت الهزيمة مرة، وبلغت من هزها لأعصاب المسلمين ما بلغت، لكنه بعد السبعين بطلا الذين قتلوا- قال: (استووا حتى أثنى على ربى عز وجل) وصف المسلمين فى أحد وراءه يثنون على الله سبحانه وتعالى!! فهو ليس عبدا يحمد فى السراء ويزهد فى الضراء أو يرغب عن الله أو يقصر فى الثناء، لا، هو عبد الله. ولكلمة التوحيد زيادات كلها ثناء على الله.. لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير ومن الطرائف التى تجرى على قلوب العارفين أن واحدا من الناس سأل سفيان ابن عيينة: ما أفضل الدعاء يوم عرفة؟ فقال: " لا إله إلا الله وحدة لا شريك له، فقال السائل: هذا ثناء وليس بدعاء، فقال له أما علمت قول الشاعر" ص _091(2/76)
أأذكر حاجتي أم قد كفانى حياؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوما كفاه من تعرضه الثناء ثم قال المجيب الملهم للسائل:. هذا مخلوق يكتفى بالثناء عليه دون مسألة فكيف بالخالق؟ !! الكلمة الرابعة: الله أكبر.. عندما ذهب الأتراك بجيش لهم فى كوريا الجنوبية يقاتلون عن العالم الحر- كما قيل- يقاتلون الشيوعيين هناك، قالوا: كان هتاف الجيش التركى وهو يهجم: الله اكبر.. هذا هتاف تقليدى للأتراك.. وهذا الهتاف هو الذى دك أسوار القسطنطينية يوم كانت عاصمة للصليبية العالمية، وهو الذى قاد الفيالق المنتصرة عندما كانت تجوب هنا وهناك تقلم أظافر الضالين المضلين، الهتاف التقليدى بقى مع الجمهور، مع العوام، مع الفلاحين والعمال الذين جندوا فلم يدركهم فساد المفسد الكبير: مصطفى كمال أتاتورك، لم يدركهم ضلال المضلل الكبير: مصطفى كمال أتاتورك، فعلى سجيتهم قاتلوا وهم يقولون: الله اكبر، أتدرون أيها المسلمون أن هذه الكلمة جعلت الناس فى كوريا يستغربون، لأن الحماس الذى كان يصحبها، والجرأة التى كانت تنطلق معها، والإيمان العميق الذى كان يبدو من نبراتها لفت أنظار الكوريين فجاءوا يسألون عنها وعن الإسلام، وبدأ دخول الإسلام كوريا، ويوجد الآن خمسون ألف مسلم فى كوريا، بدأ وجودهم مع الفرقة التى جندت هناك، ومن عام واحد أرسل إليها واعظ مصرى يعرف الإنكليزية، على نفقة دولة قطر، يقول لى هذا الواعظ- بعد مجيئه- لو أن لنا حشدا من الدعاة لحولنا كوريا كلها إلى مسلمين!! هذه كلمة: الله أكبر، رزقنا الله العمل بالباقيات الصالحات، وألهمنا ترديد هذه الكلمات، والله ولى التوفيق. ص _092(2/77)
الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، الحمد لله موفق العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. عباد الله أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل واعلموا أيها المسلمون: أن هذه الدنيا ممر وليست مستقرا، وكما جاء فى صحيح البخارى: " ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل ". الإسلام يحتاج إلى عاملين لا إلى عاطلين، يحتاج إلى من يعتنقون فكرته، ويخدمون رسالته، ويستعدون للتضحية من أجله، ويؤدون حق الله عليهم بأمانة وصدق. إن المسلمين فى بداية القرن الخامس عشر- للأسف- فى وضع لا يشرف الإسلام، قلوبهم امتلأت بالشهوات ومزقتها الأهواء، وأرى الدنيا كلها تنظر إلى العرب المتنافرين المتشاكسين الذين اشتد بأسهم بينهم وأحسنوا تمزيق بعضهم بعضا، ينظرون إلى هذه الأمة باستهزاء وازدراء، ما أحوج أمتنا إلى أن تنظف نفسها من دنس الشهوات، وأن تعلم أن الدنيا التى تسعى وراءها ستُتيُهها فى كل درب وستنطلق فى هذه الدروب انطلاق الوحوش فى البرية ولن نعود بشئ، ولكن إذا اصطلحنا مع الله، وأخلصنا قلوبنا له وتعرفنا الطريق لدينه، ودرسنا كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأدينا ما علينا لله ولرسوله فإن الله يكفل لنا الدنيا (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين). أيها الاخوة: فى ظنى أن هذا المسجد من المساجد التى أسست على تقوى من الله ورضوان، وفى ظنى.. بل ما أحسسته أن حماية الله هى ص _093(2/78)
التى حفظت لا حماس الضعاف أمثالنا، فإن حماية القوى أهم من حماس الضعاف، حماس الضعاف لا يصنع شيئا، ولكن حماية القوى تصنع كل شئ، والحقيقة أننا اتجهنا إلى الله، وسألناه النجدة لبيته، وكان جل شأنه- فى علمه السابق، وفى قدره الماضى- كان قد تأذن ببقاء المسجد، وليس لبشر منا فضل. لا أحد هنا يزعم أنه صنع للمسجد هنا شيئا، حاشى الذين بدأوا وضع الأسس ورفع الدعائم والشرفات فلهم عند الله مثوبتهم، ولله المنة فى أعناقهم أن سخرهم لرفع حصن للتوحيد فى هذا المكان، المسجد دافع عنه الله، ليس لبشر فضل هنا- لا متكلم ولا مستمع: إنما اختبر الله ناسا هنا لكى يبدو هل هم مخلصون لله أم لا؟ ونجح كثيرون فى هذا الاختبار، على كل حال نحن كما تصدينا للذين توقعنا منهم الصد عن سبيل الله، ولم نر حرجا أن نكشفهم، نحن الان نقول بكثير من الإنصاف: إننا لما التقينا بالمسئولين الكبار وجدنا غيرة، ووجدنا ترحيبا، ووجدنا معاملة حسنة، ونحن نشكر للذين تحمسوا للمسجد وأبقوه على وضعه، وأقروا ما اتفقت عليه إدارة المسجد مع محافظة القاهرة عليه، أقروا هذا، نحن نشكرهم وندعو الله أن يزيدهم قدرة على إبراز المسجد وخدمته وجعله حصنا للحق والتوحيد ما بقيت المساجد فى القارات الخمس تصدر منها الصيحات التى تزد للعالم عقله الضائع وضميره النائم، إن هناك عشرات المؤسسات فى الدنيا تتنافس على تخريب العقل الإنسانى والضمير الإنسانى، وتريد إشاعة أن الله عدد- قل أو كثر- وأنه جسد- قوى أو ضعف وما بقى إلا هذه البيوت يصدر منها كل يوم خمس مرات: الله اكبر. الله اكبر.. إلى لا اله إلا الله... إننا محتاجون إلى أن تبقى هذه المساجد تؤدى رسالتها. اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء(2/79)
ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) ص _094
تأملات في سورة النور خطبة الجمعة بالجمعية الشرعية (مسجد الفتح بالمعادى) 25/10/1974 الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد فمن سور القرآن الكريم سورة النور.. وهى سورة تميزت بالحفاظ الشديد على كرامة الأسرة، وقيمة العرض، ودعمت جانب الشرف وفضلت ما ينبغى أن يلزمه المجتمع كى يحافظ علي حرمات الله وحقوق الناس، ورحمت للتقاليد الجنسية والاجتماعية صورا دقيقة ألزمت المؤمنين بها ووقفتهم عند حدود الله فيها.. ومع أن سور القرآن كلها منزلة من عند الله، ومعروف أنها سور إلا أن هذه السورة وحدها دون سور القرآن كلها ص _095(2/80)
تميزت بهذا البدء: (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون) والسبب فى ذلك: أن السورة تدور حول ، مشكلات الغريزة الجنسية وهى من أعتى الغرائز وأقواها ولما كان ضبط هذه الغريزة فى مسارها وانطلاقها لابد منه لضمان نفس شريفة، وخلق مستقيم، وعفة شاملة مستوعبة، ومجتمع نقى طهور فإن السورة بدأت هكذا.. ولابد أن نعلم ابتداء أن الإسلام دين الفطرة- أى دين الطبيعة السوية المستقيمة.. يرفض التكلف والافتعال.. وما أنزل الله من تعاليم فى هذا الدين القيم هو لضبط الفطرة وضمان أن تسير سيرا حسنا.. لهذا كان للغريزة الجنسية تعاليم واضحة فى هذا الدين:.. وكان لانحرافاتها عقوبات محددة فى هذا الدين. وسورة النور تتحدث عن احترام الغريزة وضبطها حتى لا تنحرف يمنة أو يسرة، ثم التخويف لمن يدع حدود الله أو يترك العقوبات التى قررت تقريرا حاسما فى هذه السورة المباركة.. القرآن الكريم لم يعتبر الغريزة الجنسية رجسا من عمل الشيطان.. اعترف بها وجعل المتنفس الوحيد لها الزواج: (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) واعتبر الزواج عبادة بل جاء فى السنة أنه نصف الدين: " إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف دينه فليتق الله فى النصف الباقى " إذا الزواج فريضة اجتماعية لابد أن تتواصى الأمة الإسلامية بتيسيرها.. لكن ذلك متروك للوعى العام والضمير المؤمن.. وقد جاءت آيات في هذه السورة تتحدث الى أولياء الفتيات، وجاءت أيضا تتحدث إلى من يريد الزواج أو من يقدر عليه ويطلبه.. فى الآيات الأولى نقرأ قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن ص _096(2/81)
يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) ويشرح النبى صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه فيقول: " إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة فى الأرض وفساد عريض " ووكل ذلك- بداهة- إلى تقدير ولى الفتاة والى تصور الأسرة للنفقة وما يتصل بها.. والواقع أن هذا التقدير لا يمكن أن يبت فيه قانون، إنما الذى يبت فيه مجتمع مؤمن، والذى يبت فيه رجال يتقون الله ويريدون أن يشيعوا العفة والقناعة فى المجتمع.. وإلى أن يتزوج طالب الزواج، وإلى أن يستكمل دينه ماذا يصنع؟ يقول الله: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله) فلابد أن يستعفف.. وعبارة الاستعفاف تعطى أن المرء يتكلف أو يعافى أو يتعب نفسه، ولابد من ذلك فى كبح الهوى وضبط الغريزة.. فإن الغريزة العاتية تحتاج إلى إرادة حديدية.. وهنا نجد أن الإسلام حارب الانحراف والجنس بمحاربة بوادره الأولى أو المقدمات التى تغرى به.. وكان فى هذا دينا عمليا. فى هذه السورة نقرأ قوله تعالى وهو يمنع الانحراف الجنسى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون) وكما قال أحد السلف: إذا سمعت الآية تقول: (يا أيها الذين آمنوا) فأعرها سمعك فإما خير تؤمر به أو شر تنهى عنه.. هذا النداء يستثير الإيمان.. لماذا؟ لأن الإيمان هو الذى يخلق الضمير اليقظان الحى الذى يجعل الإنسان إذا قرع بيتا ولم يجد الرجل فيه يرجع من حيث جاء.. لا يجوز بتة اقتحام بيت ليس فيه صاحبه.. لا يجوز دينا ولا مروءة واقتحام البيت وفيه المرأة وحدها فإن البيت حصنها، وينبغى أن تبقى فى هذا الحصن مصونة.. والإسلام ص _097(2/82)
يرفض كل تقليد اجتماعى يتواضع الناس عليه لجعل الخلوة بالمرأة ممكنة.. يرفض الإسلام هذا لأنه بذلك- فعلا يسد أبواب الفتنة. ثم توجيه آخر لابد منه وهو: غض البصر.. فإن الإنسان إذا أرسل عينه تتلصص على الأعراض من هنا أو من هنا فإنه يفتح أبواب الشر على نفسه.. وقد قال شاعر قديما: والمرء مادام ذا عين يقلبها فى أعين الغيد موقوف على الخطر يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحبا بسرور عاد بالضرر إن فتح باب الفتنة يكون بالعين المحملقة والبصر الطامح.. والإيمان أساس- هنا- فى كبح الهوى لأنه من الذى يعلم خائنة الأعين؟ من الذى يعرف كيف ترسل بصرك وما النية الكامنة وراء هذه النظرة؟ إن الإيمان هو الأساس الذى لابد أن يثبت فى القلوب: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون). توجيه ثالث وهو: منع المثيرات الحسية: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن) ومعنى هذا: أن جسد المرأة عورة ينبغى أن يوارى أو أن يدارى.. فلا يجوز أن تلبس ملابس تصف البدن أو تشف عن مفاتنه أو تغرى العيون الجائعة باستدامة النظر إليه فإن هذا كله فتح لباب الفتنة.. والإسلام عندما يأمر بالعفة وعندما ينهى عن الفحش فهو يسد الطريق ابتداء أمام المثيرات التى ينزلق بعدها القدم.. لهذا كانت السورة كما قلنا سورة آداب جنسية إلى جانب أنها ضمانات وحصانات للأعراض وللشرف وللقيم.. من ذلك فى أول السورة وآخرها أدب الاستئذان.. ففى أول السورة: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ص _098(2/83)
ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون * فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم). وفى آخر السورة يقول: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم * وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم) إن الأولاد فى البيت ينبغى أن يعلموا أدب الدخول فى الغرف.. هذا المعنى .. معنى أن الأسرة التى تسكن شقة وفيها غرف ينبه على الأطفال فى أوقات معينة ألا يدخلوا إلا بعد استئذان واضح.. هذا أدب إسلامى ينبغى أن يعرفه المسلمون وأن يلتزموه.. هذا أدب إسلامى لا ينبغى أن نتجاهله أو نزدريه لأنه من ضوابط العرض وصيانات الشرف التى تربى عليها الأسرة الإسلامية. فإذا حدث بعد ذلك أن انحرف أحد فإن العقوبة الإسلامية هى الجلد .. بإجماع المسلمين يجلد الزانى الذى لم يحصن.. أى لم يتزوج.. وجمهرة المسلمين على رجم المحصن.. والآية فى هذا واضحة (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) والجلد عقوبة للإنسان إذا هبط إلى درك الحيوان.. وكما أن الحيوان يضرب بالعصا حتى ينفذ الأمر الذى صدر إليه لأنه لا عقل له فكذلك إذا هبط إنسان عن منزلة العقل والضمير وارتكس فى حماة الشهوة وأصبح منقادا لغريزته، الحيوانية فإنه يتعرض للعقوبة التى يتعرض لها الحيوان.. لأنه ص _099(2/84)
أصبح حيوانا إذ يسطو على عرض كان ينبغى أن يصونه.. إذ ينتهك حرمات لله كان ينبغى أن يحفظها وأن يرعاها.. فإذا هبط إلى مستوى الحيوان فهو مستحق لعقوبة الحيوان.. على أن الرجم الذى جاءت به السنة إنما جاء إحياء لشريعة قديمة.. فالإسلام لم يبتدع عقوبة الرجم للزانى أو الزانية إذا كانا محصنين.. إنما هذه الشريعة شريعة التوراة ولا تزال برغم ما أصاب كتب اليهود من تحريف.. لا تزال هذه الشريعة موجودة إلى الآن تنص على رجم الزانى والزانية ماداما محصنين ويقول أحد الأدباء تعليلا طريفا لهذا الحكم : إن من هدم بيت الزوجية بزناه أو من هدمت بيت الزوجية بزناها ينبغى أن تنتقم أحجار البيوت كلها من جلده ومن بدنه حتى يتعلم كيف يصون البيت!! ولذلك قال القرآن: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) وإلى جانب صيانة الأسر عن طريق منع العمل الرديء فإن الأسر يجب أن تصان عن طريق رفض أى اتهام لا يليق من هذا القبيل، والإسلام فى هذا كان حاسما.. فمن قذف إنسانا بالزنا أو قذف أصله أو قذف فرعه الذى يتصل به ويمت إليه بسبب وثيق فإنه ينبغى أن يعاقب بالجلد ثمانين جلدة: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون) هذا ص _100(2/85)
نوع من التأديب لابد منه، وقد نُفذ هذا العقاب فيمن تطاول على مقام أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها.. فإن بعض الناس تسافه ووقع فى شراك أحد المنافقين الذين يكرهون النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويضيقون بدعوة الحق التى بُعث بها وحاولوا فى خبث وخسة أن ينالوا من مكانة البيت النبوى فأشاعوا عن السيدة عائشة رضوان الله عليها كلاما هى منه بريئة وهى فوقه بمراحل وقد نزلت براءتها من عند ذى العرش جل جلاله، وبين أنها أعظم من أن تُلِمَّ بهذا وأكبر من أن يُلاك عرضها على هذا النحو، وقيل للمؤمنين فى هذا كلام ينبغى أن يعرفوه وأن يحفظوه: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) ثم يؤدب الناس : (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين * لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) حتى لو رأيت بعينك وأنت واحد فلا يجوز أن تتكلم لأن الله جل شانه يريد أن يستر.. يريد أن يعطى فرصة للتوبة.. وفى الحديث: " من ستر على مؤمن عورة فكأنما أحيا موءودة " إن ناسا قد يخطئون ولكن الله جل شأنه لا يعامل الناس بخطأ يرتكبونه.. إنه يفتح لهم باب المتاب وفرصا لا حصر لها حتى يثوبوا إلى رشدهم ويستقيموا على الصراط المستقيم: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى). تلك الأحكام التى تقررت فيما يتصل بالانحرافات الجنسية وبالتهم التى لا ينبغى أن تجرى على لسان مسلم يحافظ على الأعراض.. هذه الأحكام ينبغى أن نرعاها وأن نحافظ عليها.. وسورة النور بينت أن رعاية هذه الأحكام تتطلب أمرين: - الأمر الأول: الشعور بعظمة الله، والإحساس بوجوده.. ص _101(2/86)
ولذلك بعد أحكام الانحرافات الجنسية وجدنا هذه الآية الجليلة: (الله نور السماوات والأرض) فإن الشعور بأن الوجود كله مشرق بنور الله، وأن أدلة الوجود الإلهى تزحم كل شبر فى فضاء الكون.. فى فجاج الأرض.. فى آفاق السماء.. وأن أدلة الوجود الإلهى تزدحم بها كل ذرة من تراب فى أرضنا، وكل ما بين السماء والأرض من فضاء لا نعرف حقيقته ولا اتساعه، والسماوات وما عجت به من أملاك.. كل ذلك مملكة الله الواسعة.. ولذلك بعد أن جاء بآية النور فى سورة النور: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون * ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير) هذا المعنى لابد أن يدرك فإن الشعور بوجود الله.. ثم هذا الشعور ضرب له مثل: (الله نور السماوات والأرض) مثل نوره فى قلب المؤمن؟ هذا رأى لبعض الناس.. مثل نوره فى آفاق الكون كله؟ هذا رأى لبعض المفسرين.. على كل المثل خطير ويحتاج تفسيره إلى محاضرة مستقلة.. لكن المهم آن بعد ضرب هذا المثل، وبعد بيان أن الله فى مملكته ينبغى أن يطاع، وأن كل شئ يسبح بحمده جل شأنه بعد هذا كله قيل للمؤمنين: لا يجوز أن تهدروا أحكام الله، ولا أن تكابروا فى جدواها، ولا أن تبتعدوا عن تطبيقها، لذلك قال جل شأنه: (لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) ثم يقول فى المنافقين جل شأنه (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين * وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون) هذا التساؤل يعطى أن تنفيذ أحكام الله التى شرحت فى السورة من آيات الإيمان، وأن ترك هذه الأحكام- أو تعطيلها اتهام لله بالحيف واتهام لدينه بالانحراف.. ص _102(2/87)
كذلك ربما كان فى إقامة هذه الأحكام ما يتعب البعض أو يضيق به البعض أو يجزع منه البعض.. لكن هذا لا يجول فى خاطر مؤمن، قال جل شأنه: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون) إن الذين لا يؤدون حق الله ليست لهم طاعة بل ينبغى أن يكونوا منفذين لأحكام الله كلها.. وهذا مالا بد منه حتى نستقيم على أمر الله. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. * * * ص _103
الخطبة الثانية الحمد لله ( الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد فإن هذه السورة بينت أن إقامة أحكام الله لابد منها وأن الذين يدعون الطاعة لله وفى الوقت نفسه لا يقيمون أحكامه يكذبون على الله:. ولكى يكونوا صادقين حقا يجب أن تكمل طاعتهم وألا يكون هناك مجال للانحراف والعصيان والجحود فى تصرفهم، ولذلك تقول السورة: (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين) هذا المعنى.. معنى استكمال الدين وجمع شعبه فى سلوك واضح ربما أتعب الناس فى عصر من العصور.. وقد أتعبهم أيام الدعوة الأولى.. فقد كان المجتمع ضائق الصدر بدعوة التوحيد.. وكان المجتمع ضائق الصدر بالصلوات والزكوات والعفة وقوانين الله فى الأموال والدماء والأعراض وما إلى ذلك مما قرره الإسلام.. ولم يكتف أن يضيق صدره بل ص _104(2/88)
ضم إلى ضيق الصدر مناوأة الدعاة وتعكير صفوهم وبث العوائق فى طريقهم حتى كان أولئك الذين يعملون للإسلام لا يشعرون باستقرار ولا براحة ولا بطمأنينة بل دائما يخالج قلبهم رهج ويعمل فى صدورهم قلق ويخطون فى الأرض وهم يخشون أن يتخطفهم الناس، فبينت السورة هنا أن الذين يدعون إلى أحكام الله ويستميتون فى شرح دعوة الإسلام وأن الذين يتجمعون حول الحقائق الكبيرة إن ضاق بهم اليوم ففى الغد متسع لهم، وإن شعروا بالحرج فى يوم الناس هذا فإن لله أياما تسوق الطمأنينة والنصر إلى من عملوا له وسعوا فى سبيله.. فى هذه السورة يقول الله جل شأنه: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) لكن الله يطلب أمورا حتى يتحقق بدل الخوف الأمن، وبدل الاضطراب السكينة، وبدل الهزيمة النصر.. يطلب شيئا.. يقول: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون) لكن هل يمكن أن يجئ النصر بعد هذا؟ يقول جل شأنه: (لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير) لا تهولنك قوتهم.. لا يخلعن قلبك أو استقرارك أو صلتك بربك انهم يملكون ما يَزحم البر والبحر والجو ص _105(2/89)
إذا أحكام الإسلام كما شرحتها سور كثيرة.. وانحرافات الغريزة الجنسية كما شرحتها سورة النور يجب أن تقام.. وإقامتها إسعاد للخلق، وإعلاء للحق، وسياج حول الشرف، وتقويم عظيم للمثل الفاضلة.. وإذا كان الغرب- أقصد بالغرب ما عدا الشرق الإسلامى من أنظمة أخرى كافرة علنا أو كافرة حقيقة وإن ادعت الإيمان عنوانا، إذا كان هناك خلاف رئيسى فيما يتصل بالغريزة فإن هذا الخلاف ينبغى أن يجعل كلا منا يعرف ما عنده وما عند غيره.. الخلاف حقيقى بين مبادئ الإسلام ومبادئ الحضارة الغربية أو الشرقية، فالإسلام يرى أن الغريزة الجنسية لا تجل لها حركة إلا فى بيت الزوجية.. أما أوربا- شرقيها وغربيها- فترى أن الغريزة الجنسية تتنزى وتتصرف كيف شاءت، لا يضير أن يكون هناك زواج أو غير زواج، والقانون الوضعى يقوم على هذه النظرة، فهو يرى أن اتصال أى إنسان بأى إنسان آخر- اتصال جنسى- ما دام على التراضى فإنه لا حرج ولا عقوبة! الخلاف بين الدين وقلة الدين أو عدم الدين واضح فى هذا المعنى، ولذلك يجب أن نحذر على أسرنا وعلى مجتمعنا، وأن نطالب بإلحاح أن تسود تقاليد الإسلام وأن تنفذ تعاليمه فى أحكام الأسرة وفى غير أحكام الأسرة. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم). عباد الله (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _106(2/90)
معاصي القلوب.. ومعاصي الجوارح خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين !.، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شئ قدير وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداه، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد فمن حق الله علينا أن نفعل ما يأمر به، وأن نترك ما ينهى عنه، وأن تشكر نعمته إذا أصابتنا سراء، وأن نسلم لحكمته ونصبر على قضائه إذا أصابتنا ضراء، من حق الله علينا أن يرانا حيث يحب، وأن لا يرانا حيث يكره، من حق الله علينا ونحن نعيش فوق أرضه، ونتنفس فى جوه، ونستظل بسمائه، ونستمد محيانا دقيقة بعد أخرى من إمداده، من حق الله علينا أن نسبح بحمده، وأن نصلى له، وأن نكون عبيدا لذاته تبارك اسمه، هذا حقه علينا. المعصية شذوذ فى الكون، لأن الكون فى مادته التى نسج منها وصنع منها العرش والفرش وما بينهما.. الكون كله يسبح بحمد الله: (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) فالذى يعصى ربه هو شذوذ فى الكون، والشذوذ من حقه أن يمحى، وأن تسود القاعدة، ولذلك يقول جل شأنه: (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب) ص _107(2/91)
وقد خلق الله هذه الدنيا واختبرنا بأن أحيانا فى هذه الأرض إلى حين، الحكمة من الإيجاد هى كما وضح فى سور كثيرة: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير * الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) وجاء فى الأثر تفسير لهذه الكلمة: أيكم " أورع عن محارم الله وأسرع فى طاعة الله " لهذا خلقنا، وما يخلد أحد فى هذه الدنيا، رووا أن ملكا وناسكا كانا يسيران قريبا من مقبرة، فقال الناسك للملك: هل تدرى ما تقول المقبرة؟ قال: لا، قال: إنها تقول: أيها الركب المخبونا على الأرض المجدونا كما أنتم كذا كنا كما نحن تكونونا فأدرك الملك أن المقابر لا تقول ولكن الرجل ينصحه، وكان الملك وثنيا فعرفه الناسك دين التوحيد وخمره كيف يعبد ربه وكيف يخرج من رواية الحياة وقد نجح فى امتحانها. نحن إلى حين على ظهر هذه الأرض فيجب أن نؤدى رسالة الأحياء التى خلقوا من أجلها وهى: طاعة الله، ولكننا تزل أقدامنا، ونقع فى الورطات، ونصيب من الذنوب مالا ينبغى أن نصيبه، ما السبب؟ السبب فى ذلك أمور نحب أن نتدارسها حتى نعرف مواطئ أقدامنا ونسير حيث نسير فلا ننزلق ولا نقترف ما يغضب علينا رب الأرباب. المعروف أن الإنسان يذهل وينسى، طبيعة الخلق، لما قتل أخو أبى خراش الهذلى فى بلدة اسمها " قوسى " قال: فوالله ما أنسى قتيلا رزئته بجانب قوسى ما مشيت على الأرض حلف الرجل أن لا ينسى لكنه استدرك وقال: إنه لا يمكن البر بهذه اليمين، لا بد من النسيان، فقال: بلى إنها تعفو الكلوم وإنما نوكل بالأدنى وإن جل ما تمضى ص _108(2/92)
نحن نذكر القريب أما ما بعدت به الأيام فنحن ننساه هذه طبيعة البشر، ولذلك يحتاج الإنسان باستمرار إلى مذكر، والبيئة التى تكثر فيها المذكرات بالله الباعثات على أداء حق بيئة سليمة صالحة، أما البيئة التى تكثر فيها المنسيات والملهيات فهى بيئة فاسدة طالحة، لابد من مذكر، ولذلك جاء فى القرآن الكريم: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين). هناك مع النسيان ضعف العزيمة أو انهيار الإرادة، والسبب قد يكون شديدا وقد يكون خفيفا وفق الملابسات التى تعترض الإنسان، وقد قرأت فى كتب ألفها أطباء مسلمون صادقون قالوا: أحيانا تفرز بعض الغدد إفرازات غزيرة فى الدم فتكون سببا فى ثوران غضبى أو ثوران جنسى فتعمى الإنسان عن هدفه، وتدفعه إلى أن يقترف ما يندم عليه بعد صحوته وما يضيق به بعد يقظته، فهى أحوال قد تحطم الإرادة، وهذه الأحوال تختلف بين الناس، فالغريزة الجنسية فى الشاب قوية وفى الشيخ ضعيفة، وهنا يساق الحديث الشريف: " لا ينظر الله عز وجل يوم القيامة إلى الشيخ الزانى ولا العجوز الزانية " لأن عامل الغريزة فى دمه أضعف من عامل الغريزة فى دم الشاب، وكذلك تقاس طباع كثيرة ونزوات شتى ومسالك تعترض الناس، ومن هنا فإن الإسلام لما تحدث عن المعصية الأولى فى الأرض وهى التى اقترفها أبونا آدم بين أن هذه المعصية وقعت من آدم عقب تلاقى الأمرين: ضعفت ذاكرته فنسى، واشتد هواه، وضعفت إرادته فعجز، قال تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) أبناؤه انتقل إليهم نفس الوضع، انتقلت إليهم الأحوال التى كانت لأبيهم. وقصة الإنسانية الصحيحة ليست قصة بشر معصوم، فإن القول بعصمة بشر- حاشى الأنبياء- مستحيل، كلنا خطاءون، قال عليه الصلاة والسلام: " كل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون " . ص _109(2/93)
قصة الخليقة كما قال آدم وحواء ـ بعدما ارتكبا ما ارتكبا : (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) هنا ينبه الإسلام إلى أمور نحب أن نستوعبها.. الأمر الأول: أن المعصية من مسلم يقظ لا تكون ملازمة له، بل تكون سحابة صيف عن قليل تقشع، وهو معنى قوله تعالى: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) قد يحاول الشيطان أن يعمى عليه الطريق وأن ينفث فى وجهه الدخان وأن يجعله لا يرى، لكن سرعان ما تخرج- بفضل الله من روحه ومن قلبه ومن صلته بربه- ريح تبدد هذا الضباب وشعاع يكشف الطريق: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) هذا البصر لا ينبغى أن يطول أمده ولا أن ينتظر الإنسان كثيرا حتى يبلغه، بل يحب على عجل أن يعرف أنه أخطأ، وأن عليه- على عجل- أن يرضى ربه الذى أغضبه وأن يصطلح معه بعدما أساء إليه، وهذا معنى قوله تعالى: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم * وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين). والناس تتفاوت فى نزوعها على عجل مما ألم بها أو مما أسفت إليه بقدر قوة الإيمان ويقظة القلب وصحة الضمير، تتفاوت الناس فى هذا، ولكن وصية النبي : " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها " كتبت غلطا امح بالأستيكة الغلط الذى كتبته، ينمحى وينسى الله الحفظة ما فعلت وينشئ لك صفحة جديدة لا خطأ فيها ص _110(2/94)
الأمر الثانى: أن الخطأ هو فى جنب الله، صحيح أنت الذى أصبت به، وأنت الذى وقعت فى عواقبه الوخيمة، والله فى الحديث القدسى يقول: " يا عبادى إنكم لن تبلغوا ضري فتضرونى ولن تبلغوا نفعى فتنفعونى" . لكن الله يحب عبده، ومحبته لعبده تجعله يغار عليه، ويريد أن يكون وضئ الموضوع، نظيف الشكل، لذلك يستعجله ليتوب، لمصلحة الإنسان ذاته، أما أن الله له مصلحة فى هذا فلا، إنه غنى عن العباد، ولذلك أول ما يجب الاستغفار، استغفار الله جل جلاله، لأنك أخطأت فى حقه فيجب أن تستغفره، والاستغفار أمر سهل، ولكنه مرفوض عندما يكون من قلب غافل لاه، ولذلك قال بعض الصالحين: استغفارنا يحتاج إلى استغفار!! لأنه يغلب أن يكون من قلب متبلد، أو من نفس فى عمايتها محجوبة، إنما يقبل الاستغفار عندما يكون الإنسان صاحى الفكر، يقظان الضمير، هذا هو الاستغفار الذى يقبله رب العالمين، والله وحده هو الغفار، فما شاع فى بعض الديانات من أن إنسانا يغفر أو أن إنسانا يستقبل الاعتراف ويعفو، أو أن إنسانا سفك دمه من أجل العفو عن خطايا الخلق فقد افتداها بدمه، هذا كله من الناحية الإسلامية خرافة: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون * وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ) ولما كان العصيان قذارة والتوبة اغتسالا من هذه القذارة ومحوا لأثارها فإن تعليمات الإسلام فى هذا واضحة: (اجتنبوا هذه القاذورات التى نهى الله عنها فمن ألم بشىء منها فليستتر بستر الله وليتب إلى الله) ص _111(2/95)
لا ليكشف لنا وساخته.. لعل هذا يكون أعون على التوبة، وأقرب أن يعود إلى ربه، فإنه إذا فضح نفسه بتبجح وحدث الناس بما ارتكب فإنه يسجل على نفسه المآسى، والناس لا تعين على توبة، الناس إذا عرفت إنسانا بمعصية ربما إذا أراد التوبة قالت له: ألم تكن تفعل كذا؟!! اجعل ما بينك وبين الله معاملة تستغفره فيها من خطك، فإن الناس إذا دخلوا فى هذه المعاملة كانوا ضدك أو كانوا عليك، ولن تجد جانبا أرق ولا أرحم من جانب الله جل جلاله، وقد جاء فى الحديث الذى رواه البخارى: " يدنى المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، تعرف ذنب كذا؟ يقول: أعرف، يقول: رب أعرف مرتين، فيقول: سترتها فى الدنيا وأغفرها لك اليوم " . إننا نبحث المعاصى على أنها قاذورات أو على أنها أمراض فأما أنها قاذورات فقد جاء الحديث الشريف يبين أنها قذارة، وأما أنها أمراض فقد جاء فى القرآن الكريم أنها أمراض: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) المرض هنا انحراف الغريزة الجنسية، أو رغبة الإنسان فى أن ينال أى امرأة تتكلم معه، فأمرت المرأة أن يكون كلامها صارما ولهجتها جادة حتى تقطع الطريق على أصحاب الغرائز المعوجة أن يفكروا فيها تفكيرا سيئا، وقد سمى الإسلام ازدواج الشخصية أو النفاق سماه مرضا فقال فى وصف المنافقين: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) فالمعصية أمراض كما سماها القرآن أو أقذار كما بينت السنة.. والأمراض تتفاوت، والأقذار تتفاوت، يقول الإمام الغزالى فى الإحياء: هناك وساخة تصيب الإنسان فقليل من الماء يزيلها.. هناك سيئات يلم بها المرء فالاستغفار العادى يذهب بها، وينقى القلب من آثارها، لكن هناك معاصى غليظة تحتاج إلى استغفار أعمق وتوبة أحر وعودة إلى الله أسرع وأصدق ويتصور هذا فى واحد وقع على ثوبه " زفت " لو وقع تراب أو طين ص _112(2/96)
يزول بسهولة، لكن " الزفت " الذى وقع يحتاج إلى مطهرات أخرى وإلى سوائل أخرى كثيرة حتى يمكن إزالة ما تزفت من ثوبه أو من بدنه، والمزفت باللغة العربية الصحيحة: الإناء الذى كان العرب يزفتونه لينقعوا فيه التمر ويصنعوا فيه الخمر، على كل حال هذا استطراد، المهم أن بعض الناس يرتكبون أمورا تحتاج إلى توبة غير عادية لأن وساختهم غير عادية، و كما قلت ـ قبل ذلك ـ التوبة لا تكون إلا إلى الله، لا دخل لبشر فى هذا، أذكر أنه جاءنى فى مكتبى ـ من نحو عشر سنين ـ فى وزارة الأوقاف قسيس إنجيلى ـ من ألمانيا ـ وتحدث معى فى المسيحية ـ هو بداهة ليس مبشرا معى- لكنه حديث استطرادى، وأنا فى شئ من المرح.. كنت أملأ قلمى الحبر، وكادت الدواة أن تقع، فقلت له وأنا أضحك: ما رأيك لو أن هذه الدواة وقعت على؟ فقال: طبعا الثوب سيتسخ، قلت له: لو أنك غسلت ثوبك ألف مرة فهل ينظف ثوبى أنا؟ فقال الرجل فى دهشة: لا.. قلت له: أنا الذى أخطئ.. أنا الذى أنظف نفسى، ما يصنع الآخرون شيئا لى.. فأدرك فى الحال أنى أعترض على نظام النصرانية فى أن عيسى قتل من أجل خطايا الخلق! قلت له: عيسى قتل أو لم يقتل من أجل خطايا الخلق.. أنا وسخت نفسى.. أنا الذى أنظف نفسى.. ما علاقة عيسى ومن هو أكبر من عيسى بى؟ ما العلاقة؟ من اتسخ نظف نفسه.. من مرض سعى إلى علاج نفسه وشفى نفسه. الأمراض أيضا خطيرة.. هناك أمراض يمكن أن تداوى بحبوب إسبرين، وهناك أمراض تحتاج إلى علاج مطول، وهناك أمراض ربما بلغت أن تكون سرطانا قاتلا، ولذلك قسم العلماء الأمراض إلى أمراض قلوب وأمراض أبدان أو معاصى قلوب ومعاصى أبدان، وقد تكلمنا فى هذا.. لكن الأمر يحتاج إلى إيضاح ـ وقبل أن أدخل فى شرح هذا.. أحب أن ألفت النظر إلى أخطاء يقع فيها المتدينون ـ وما أبرئ نفسى، فأنا أول الخطائين.. لكن من تجربتى وأنا أحاول إصلاح نفسى أعرض ص _113(2/97)
التجربة وأعرض ما قاله العلماء فى الموضوع.. بمعنى.. إذا اتسخت يدك فهل ينقيها أن تغسل رجلك؟ طبعا لا.. اليد هى التى اتسخت فهى التى تنظف.. ولو وقفت فى مجرى ماء طول اليوم تغسل قدمك ما نظف يدك.. لأنك لم تنظف يدك.. كذلك الأمراض التى تصيب الناس أو المعاصى التى تصيب الناس فى أخلاقهم وأحوالهم.. هب رجلا مصابا بمرض البخل.. ما الذى يجعله يشفى من هذه العلة؟ العطاء ـ لا غير ـ العطاء، والعطاء هنا يبدأ تكلفا كما قال عليه الصلاة والسلام: " ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله". " إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه ". والتربية هنا لابد فيها من معاناة وصلة بالواقع.. يعنى أن تعلم السباحة يستحيل أن يكون فى البر.. لابد من أن يكون في الماء.. لأن السباحة على الأرض لن تعلم أحدا قط.. رجل بخيل.. تريد أن تنجو من رذيلة الشح عود نفسك العطاء.. أخرج الزكاة.. أشعر قلبك العطف على المحتاجين والمساكين.. الرجل الذى أعطى للفقراء قال لابنه: كسرنا نصف الحلقة.. وهو يقصد بالحلقة ما ذكره القرآن فى سورة الحاقة وهو يصف صاحب النار فيقول: (ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه * خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين) سببان فى التقييد بهذه السلسلة : (لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين) أعط المسكين تكسر نصف السلسلة ص _114(2/98)
هذا عطاء.. علم نفسه العطاء.. يجئ رجل يريد أن يخدع الله.. يريد أن يحتال.. لديه مال كثير.. لكنه بخيل يبخل بحقوق الفقراء وينمى المال.. ويصوم الاثنين والخميس.. ما قيمة صيام الاثنين والخميس؟ هذا احتيال على الله.. هذا كالذى يغسل قدمه ويده ملوثة.. لا يغسل يده.. غسل القدم هنا لا ينظف يده.. صيام الاثنين والخميس هنا لا يجعله سخيا أو كريما.. دواؤك الذى يشفى به مرضك هو العطاء.. فإذا كان جبانا وقال: أربى أولادى وأبتعد عن هذه المآزق ثم أعتكف فى المسجد طوال اليوم، ما قيمة الاعتكاف؟ لا قيمة له..، لا خير فيه.. دواؤك الذى تشفى به مرضك هو قول الحق لا غير.. هنا نجد أن بعض الناس من المتدينين يحبون أو يريدون أن يخدعوا الله: (وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) يفر من مرضه لكى يطيع فى ميدان آخر.. هذا تصرف ما يجوز أو ما يليق أولا خير فيه . ندع هذا الآن إلى ما يسمى بأمراض القلوب.. أمراض القلوب أغلبها أو فصيلة كبيرة منها ـ فيما رأيتها ـ تعود إلى حب الذيوع، حب الفخر، حب العظمة، الرياء، الكبرياء، أمور كثيرة من هذا النوع ممكن أن تكون أمراضا للقلب.. من أمراض القلب التى أثرت عن أهل الكتاب الأولين: القسوة، قسوة القلب، ولذلك أنا قلت لواحد من الرهبان: هذا الذى يجيئك معترفا بذنبه أقرب إلى الله منك.. لأنه يشعر بالانكسار مع المعصية التى فعلها.. أما أنت فمغتر بنفسك تظن أن مفاتيح الجنة بيدك تدخل فيها من تشاء وتخرج منها من تشاء!! مرضك كالسرطان الذى لا دواء له.. هذا مرض قلب.. وأحب أن أقول: ـ وقانا الله وإياكم أمراض القلوب ـ إن أمراض القلوب تقع كثيرا بين العلماء وتقع كثيرا بين العباد.. وقد ألف ابن الجوزى كتابا أسماه (تلبيس إبليس) ذكر فيه كثيرا من أمراض القلوب التى تقع بين العباد والتى تقع بين العلماء.. ولعله اعتمد فى هذا على أحاديث وردت.. فمثلا ورد: " أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان" وأن ص _115(2/99)
الله تعالى قال: " من ذا الذى يتألَّى علىَّ أن لا أغفر لفلان؟ فإنى قد غفرت لفلان وأحبطت عملك ". هذا رجل متعبد، لكن قلبه قاس وهذا رجل متعبد لكنه مغتر بنفسه وسيئ الظن بصفات الله و بأعذار العباد.. هذا مرض موجود.. ولاحظت هذا المرض عند بعض الناس الذين يشتغلون بالجدل والقضايا التافهة.. وجدت ولدا يقول: إن الشافعى أفسد مصر!! قلت له: الإمام الشافعى أفسد مصر؟!! أنا فزعت لما سمعت الكلمة!! قلت: سبحان الله!! وأخذ الولد يتحدث عن المذهبية والتقليد.. قلت له: يا بنى إنك ترقى مرقى لا يعرفه أبوك ولا جدك.. وتدخل فى ميدان مالك به صلة.. الإمام الشافعى أولا: تلميذه أحمد بن حنبل الذى قال ـ يوم مات الشافعى ـ كان الشافعى كالشمس للدنيا والعافية للبدن فهل لهذين من عوض؟! لكن لا يعرف الفضل من الناس إلا ذووه، لا يعرف فضل الشافعى إلا رجل مثله أما أنت فإنك تقول: الشافعى أفسد مصر!! الشافعى خالف أبا حنيفة فى قضايا كثيرة، وما فى هذا؟ لكن من باب الإنصاف يقول الشافعى: الناس فى الفقه عيال على أبى حنيفة! وهو الذى خالفه، لا حرج فى هذا، الأنبياء اختلفوا، والصحابة اختلفوا، واحترم بعضهم بعضا لأنهم تفاوتت وجهات نظرهم فى مرضاة الله، والكل حسن النية، لكن يجئ ولد يقرأ كتابا- أنا لا آمنه، وأنا الحقير أن يقرأ ثلاثة سطور من كتاب لى قراءة صحيحة- يجئ فيقرأ كتابا فيجعل نفسه ديانا على العلماء وحكما بين الأئمة وموزعا للطاعة والمعصية على كبار الشيوخ.. ما هذا؟ هذا مريض بقلبه، عنده اغترار بنفسه، هذا الاغترار هو نفسه الاغترار الموجود عند فرعون الذى قال للسحرة لما آمنوا: (آمنتم له قبل أن آذن لكم) سبحان الله! يحتاج الناس لكى يؤمنوا بالله إذا عرفوا الدليل الصحيح إلى أن يطرقوا بابك ويقفوا بساحتك ويطلبوا الإذن منك أن يؤمنوا بالله!! لماذا؟! من أنت؟! هذه أمراض قلوب تنتشر بين بعض الذين يشتغلون بالعلم الديني سواء كانوا علماء أو عيالا.. ونشأ(2/100)
عن هذا أن وجد فى البيئات الدينية تفرق مر ص _1 ص
يخشى منه على مستقبل اليقظة الإسلامية المعاصرة.. هناك يقظة إسلامية فعلا.. وأنا وضعت يدى على هذه اليقظة بين المحيطات وأنا أجوب العالم الاسلامى، ولكن الذين يرصدون حركات الأمة الإسلامية لا حرج عليهم أبدا أن يكون لهم سماسرة وعملاء يروجون فى البيئة الدينية من أسباب الفرقة ما يجعل الإنسان يعجب.. أمس الأول وكنت أعطى درسا فى "الحوامدية" قال لى شاب: الجماعة اختلفوا.. قلت: فيم اختلفت؟ قال لى: فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من رآني فى المنام فقد رآنى حقا" قلت: سبحان الله ولم تختلفون؟ لم تختلف الجماعة الإسلامية هنا من أجل هذا الحديث؟ أنا أعرف أن ابن الجوزى فى كتابه (صيد الخاطر) شرح هذا الحديث على أن " من رآنى فى المنام فقد رآني حقا " أى رأى مثالى وأنكر أن تكون رؤية لشخصه.. ولعل السبب فى هذا أن ابن الجوزى وجد ناسا يقولون: رأينا النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام فقال لنا: كذا وكذا فى أحكام الحلال والحرام.. وأحكام الحلال والحرام لا تؤخذ من رؤيا أحد فى منامه ولو ادعى أنه رأى الله ورسوله.. لأن الله فى كتابه فصل القول والرسول صلى الله عليه وسلم فى سنته وضح الأمر فلا تنتظر منام أحد فى هذا .. المهم قلت له: يا بنى لا تفسدوا الناس علينا.. ما دخلكم فى هذا الحديث؟ ولكن السمسرة لمصلحة الاستعمار الأجنبى جعلت شابين، فى " الإسكندرية " واحدا يعلق صورا لآثار الدمار الذى صنعته " روسيا" فى " أفغانستان " فيجئ الآخر من ورائه ويمزق الصور ويقول: الصور حرام!! من الكاسب فى هذا؟ الشيوعية.. من الكاسب فى هذا؟ الإلحاد فإذا كان الجدل أو مرض القلوب أو حب الظهور أو الإعجاب بالنفس أو الإعجاب بالرأي يكون سببا فى هذا البلاء فهذا تصرف شنيع لأنه مرض قلب، مرض قلب.. قيل لأبى حنيفة: كلامك هذا الحق الذى لا شك فيه، قال: لا.. لعله الباطل الذى لا شك فيه رأى صواب يحتمل(2/101)
الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب!! هذا كلام العلماء ص _117
.. لكن أن يجئ من يحاول تمزيق الصف، وتفريق الكلمة بأمور من هذا النوع فهذا. مرض.. تركتهم فى " بنى سويف " متفرقين من أجل قضية خلق القرآن!! قلت: خلق القرآن قضية انتهت من إثنى عشر قرنا!! ما الذى يحييها الآن؟ والله ما يحييها إلا عملاء لبنى إسرائيل أو للشيوعيين.. كلام غريب يمزق الفكر الإسلامي.. هذه أمراض قلوب؟ قلت وليست معاصى جوارح.. أمراض القلوب خطرة لأنها متولدة من مرض إبليس الأول الذى قال لله (أنا خير منه) أنا!! المجادل الذى يريد أن ينصر رأيه، الإنسان السفيه الذى يريد أن يحقر الآخرين ويهبط بمكانتهم لأنه يريد أن يرفع خسيسته بمثل هذا إنسان مريض. نسأل الله أن يرزقنا وإياكم العافية فى الدين والدنيا. * * * ص _118(2/102)
الخطبة الثانية الحمد لله ( الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين . وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. عباد الله: ! أوصيكم ونفسى بتقوى الله.. واعلموا أيها الاخوة أن أعداء الإسلام خبثاء.. ولهم يقظة غريبة فى النيل منه.. وكما استطاعوا أن يثيروا لغطا فى البيئات الدينية تمزق الكلمة فقد أثاروا لغطا آخر فى بيئات غير دينية.. يريدون تمزيق الكلمة.. قرأت لرجل- من ثلاثة أيام، أستاذ فى كلية الطب، نشرت له " الأهرام " كلمة- يقول: إن ابن تيميه ـ صاحب كتاب السياسة الشرعية فى إصلاح الراعى والرعية ـ يقول: "إن القرآن نزل وأنزل الله الحديد ـ أى السيف ـ ليخدم به الحق فمن أبى هذا قومناه بهذا " هذا الكلام قاله ابن تيميه فى كتابه السياسة الشرعية لكن ماذا يقصد به ابن تيميه؟ يقصد ابن تيميه به وصف عمل الدولة الإسلامية.. الدولة تنفذ قول الله.: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم) فإذا رفض أحد حكم القرآن وأبى إلا أن يسرق وأن يسطو على كدح الآخرين ليعيش على البطالة والسطو أخذناه وقطعت الدولة يده.. هذا ما يعنيه ابن تيميه.. لكن كاتب الأهرام عن خبث، عن غفلة، عن أى شئ، نقل هذا الكلام ص _119(2/103)
إلى مجال الدعوة وقال: الإسلام لا ينتصر بالسيف، والإسلام لا صلة له بالسيف فى نشر الدعوة... ما علاقة نشر الدعوة ـ يا رجل ـ بوظيفة الدولة؟ ما الذى جعلك تحرف الكلم عن مواضعه وتنقل نصا من هنا إلى هنا؟ فى نشر الدعوة يقول الله تعالى: (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ) فى نشر الدعوة يقول الله تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) فى نشر الدعوة يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء). وللأسف تقوم أجهزة تنشر هذا الفكر الذى يقوله الكاتب ـ وهو فكر عميل للاستعمار العالمى ـ ويقع الإسلام بين نارين.. نار الأتباع الجهلة الذين يريدون تمزيقه بالخلافات الحقيرة.. ونار الأعداء المكرة الذين يريدون جعله عقيدة لا شريعة.. وهم بهذا لا يريدون إماتة الشريعة وحدها إنما يريدون بعد أن تموت الشريعة أن تموت العقيدة بعدها!! ولحساب من يقال هذا الكلام؟! إذا كان الإلحاد قد أقام دولة تحكم باسمه.. وإذا كانت اليهودية قد أقامت دولة تجعل الولاء لها والحكم باسمها.. فلحساب من يقال: الإسلام عقيدة لا شريعة.. ودين لا دولة؟ لحساب هؤلاء بداهة. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا وأجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . ص _120
(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). وأقم الصلاة... ص _121(2/104)
اليهود في المدينة المنورة خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضي الله عنه 4/ 5/ 1973 الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فقد كان اليهود فى الجاهلية التى سبقت الإسلام فى جزيرة العرب، كانوا يكونون لأنفسهم مستعمرات قوية حصينة فى المدينة المنورة، وشمال المدينة إلى خيبر، واكثر المؤرخين يرى أن اليهود قدموا إلى هذه البقاع فرارا من الاضطهاد الذى كان المسيحيون يوقعونه بهم، وأنهم فى جوف الصحراء وبعيدا عن بطش الدولة الرومانية، استطاعوا أن يحيوا فى هذه البقاع على ما يشتهون، كانوا فلاحين مهرة، وكانوا كذلك تجارا مهرة، وعاشوا يتاجرون ويزرعون، ويستغلون القبائل العربية استغلالا للمصلحة اليهودية وحدها، فهم يبيعونهم السلاح، وهم يعاملونهم بالربا، وهم حريصون على إشعال نار الفرقة بين العرب، فإنهم ما داموا مختلفين يكون استقرار اليهود فى المدينة أبقى وأدوم وهذه طبيعة اليهود ! هل فكر اليهود أن ينشروا دينهم فى الجزيرة العربية؟ لا، لأن اليهود ص _122(2/105)
ليسوا دعاة إلى دين، اليهود يعتقدون أنهم أسرة مفضلة، أو شعب مختار، وأن من حقهم أن يسودوا العالم وأن يستغلوه !. وكما نسوا الدعوة إلى التوحيد فإنهم استباحوا الربا، وكذلك عطلوا حد الزنا واستهانوا بالجريمة نفسها، وخلائق اليهود فى الاستهانة بالعقيدة وما ينبنى عليها من فضائل وما تورثه من ضمير يعاف الرذيلة وينفر منها، هذه الخلائق اليهودية لا تزال مع اليهود إلى الآن. فلو أن اليهود ـ فرضا ـ سادوا العالم وملكوه فهل سيقدمون لدين الله خيرا وهل سيرفعون بتعاليم السماء رأسا؟ أو يزكون بها نفسا؟ لا، هذا شئ لا يخطر ببالهم !. إن فكرتهم عن الله أنه اختارهم، وعن أنفسهم أنهم ينبغى أن يملكوا الأرض ومن عليها وما عليها !. هكذا عاشوا، وهكذا يعيشون. وعندما ظهر الإسلام، وانتقل تحت الضغط والاضطهاد من مكة إلى المدينة وجد اليهود ـ على النحو الذى وصفناه لكم الآن ـ ناسا يسكنون بقاعا خصبة، غنية، قوية، محصنة، لهم فيها تاريخهم الجديد، وآمالهم العراض، وهم يعيشون مستغلين فرقة العرب ووثنيتهم كى يحيوا هم، ويمتدوا وتنمو ثروتهم وتكثر. فلما جاء الإسلام- والإسلام دين إنصاف- عرض على اليهود ما لا معدى لهم عن قبوله، قال لهم: نقر حرية التدين، نعترف بحرية العقل والضمير، لكل إنسان أن يعتنق الدين الذى يحب، وأن يبقى عليه ما يشاء، وبيننا وبينكم فى المدينة جوار، فلنرع حق الجوار، ولنتعاون فى دفع أى عدو يفكر فى الهجوم على المدينة بوصف أن لنا مصالح مشتركة فيها، فهى وطننا الذى يضمنا والبلد الذى يؤوينا!!. ولم يجد اليهود بدا من أن يقبلوا المعاهدة، لأن فيها الإنصاف والعدالة، ولا معنى لاعتراض هذا الكلام، قبلوا المعاهدة " على مضض، أمضوها برضا ظاهر، ولكن ضيقهم النفسى بها بدأ يظهر على مر الأيام، كيف ظهر؟ يتحدث القرآن الكريم عن تاريخ العلاقة بين اليهود والمسلمين على نحو نحب أن نتدبره، فهو أولا يذكر: أن اليهود كرهوا الإسلام، ص _123(2/106)
وضاقت به صدورهم، وهذا تصرف غريب، فإن الإسلام دين توحيد، والذين يخاصمونه عباد أصنام، ولو أن اليهود يخلصون لله ولأنفسهم، ولو أن عندهم احتراما للتعاليم التى ورثوها بينهم لقالوا: الإسلام أقرب إلينا من الوثنية، وعبادة الله أقرب إلى ديننا من عبادة الأصنام، ولذلك كان ينبغى أن يهشوا للمسلمين، أو على الأقل يدعوا المسلمين وشأنهم، لا حب ولا بغض، ولكن القرآن يتحدث عن المشاعر النفسية لهم نحو الإسلام ونبيه فيقول: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا). ولماذا يودون ويتمنون أن يرجع الموحدون كفارا يعبدون الأصنام؟ قال جل شأنه: (حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق). فماذا نصنع معهم؟ قال: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير). ووقع شئ آخر حكاه القرآن، فقد ذهب وفد من بنى إسرائيل إلى مشركى العرب فى مكة يحرضهم على محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه !! فسألهم زعماء مكة من عبدة الأصنام وقالوا لهم: حدثونا أنتم أهل كتاب، وخبراء بما نحن عليه وبما يدعو إليه محمد، نحن أفضل منه أو هو أفضل منا؟ فقال زعماء اليهود: بل أنتم خير منه وأفضل!!. وقص القرآن السؤال والإجابة عليه، وهى إجابة فاجرة حتى آن بعض مؤرخى اليهود حزنوا لهذه الإجابة، وقالوا ما كان ينبغى أن يكون رد اليهود بهذا الأسلوب المزعج، لأن تفضيل الوثنية على التوحيد جريمة منكرة!! قال تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا * أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا * أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما). ص _124(2/107)
وامتد شطط اليهود فى معاملاتهم وعلاقاتهم بالإسلام، كان ينبغى أن يكونوا محترمين للمعاهدة التى أبرمت بينهم وبين المسلمين، ولكن كيدهم للإسلام أخذ يتزايد، ووضعوا خطة فيها شئ من المكر والدهاء، قالوا لا بأس أن ننفى عن أنفسنا تهمة التعصب، وأن يدخل بعض منا فى الإسلام على أساس أنه يتوسم فيه الخير ويظن به الحق ثم بعد قليل يرجع عنه ويرتد، ويقول: ظهر لنا أنه دين لا يصلح، لقد كنا غير متعصبين، ودخلنا فيه، فلما انكشف لنا أنه باطل وضلال تركناه !!. هذه هى الخطة التى وضعوها، قال تعالى: (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون * ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم). وصبر المسلمون على هذا التحدى، وهذا المكر، وتلك المؤامرات، ولكن اليهود مضوا فى طريقهم، طريق العداوة، يقولون: ما لهذا الرجل يتبع قبلتنا ولا يدين بديننا؟. وكان النبى عليه الصلاة والسلام فى مكة يرى أن الأصنام المحيطة بالكعبة تمنع من اتخاذها قبلة، فكان يتجه إلى بيت المقدس إشعارا بأنه نبى له كتاب، وأنه موحد، وأنه يرفض الوثنية، ولما انتقل إلى المدينة المنورة مهاجرا هو وأصحابه بقى الأمر على ذلك، فكان اليهود يضيقون، ويقولون مبكتين أو منكتين: ما لهذا الرجل يتبع قبلتنا ولا يدين بديننا ؟. فتمنى الرسول صلى الله عليه وسلم على الله ودعا دعاء حارا أن يصرفه عن هذه القبلة وأن يعزم له على قبلة أخرى، وكان ينظر إلى الأفق متشوقا إلى خبر يجئ من السماء يأذن له بالاتجاه إلى القبلة: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل(2/108)
عما يعملون). ص _125
ولما تسافه اليهود، وكثر لغطهم، وتحدثوا عن تغيير القبلة حديثا فيه شئ من العدوان والتحدى، قال لهم القرآن الكريم: إن التعلق بالشكليات هو عمل التافهين من الناس، وإن الأمر عند الله ليس أمر شرق أو غرب، أو شمال أو جنوب، إن الأمر عند الله أكبر من ذلك، إن الله يقرب الإنسان إليه يوم يكون الإنسان صادق اليقين، شريف الأخلاق، حسن التعاون مع الناس، صبورا على البأساء والضراء، مؤديا لحقوق ربه، يصلى له ويصوم، ويزكى من أجله وينفق، يوم يكون الإنسان كذلك يكون عبدا صالحا، أما الشكليات فلا قيمة لها، ما التعلق بقبلة هنا أو هناك؟ إنها أمور رمزية فقط، قال تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب). وحكى سبحانه ستة عناصر يتكون البر منها: (...ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون). ومضى اليهود فى تحديهم، كان الكلام في تغيير القبلة فى شهر شعبان ـ شهرنا هذا ـ كان الكلام والجدل الطويل حول بيت المقدس والمسجد الحرام، كان فى شهر شعبان هذا، فى رمضان وقعت معركة " بدر " وقال اليهود بعد أن رأوا النصر الحاسم الذى أحرزه المسلمون، قالوا للمسلمين: لا تغتروا أن وجدتم ناسا لا يحسنون الحرب فهزمتموهم، لئن التقينا بكم لتعلمن أنا نحن الناس!!!. هذا النوع من التحدى غريب، وانضم إليه أن شعراء اليهود أخذوا يرثون قتلى قريش فى معركة بدر !!. وهذا تصرف منكر، فإن المعاهدة المبرمة تحولت بعد ذلك كله إلى حبر على ورق !! ص _126(2/109)
وإذا كان اليهود فى المدينة يعاملون المسلمين على هذا الأساس، فإن الوفاء بالمعاهدة من جانب واحد يصبح نوعا من الضعف !!. ومع ذلك فإن النبى الحليم الكريم صلى الله عليه وسلم والصحابة رضى الله عنهم من حوله، كانوا يصابرون الأيام حتى يقع ما لابد من معاقبته، فإن امرأة مسلمة ذهبت إلى سوق " بنى قينقاع " تشترى حلية لها، فسخر اليهود بائعو الذهب منها وعلقوا شوكة بذيلها، فلما قامت تعرت وانكشف جسدها !! فصرخت، فقام أحد المسلمين ورأى الوضع فقتل اليهودى الذى صنع هذا! فتمالأ اليهود عليه وقتلوه !! وبلغ الأمر النبى صلى الله عليه وسلم فحشد جنده وهجم بهم على سوق بنى قينقاع، وعلى القبيلة كلها وهى قبيلة يهودية ماجنة، وحاصرها حتى اكرهها على ترك المدينة !!. هل فى تصرف المسلمين بعد هذا كله ما يشتم منه رائحة عدوان؟ لا، لقد صبر المسلمون حتى وقع ما لا يمكن السكوت عليه، فعاقبوا تلك القبيلة اليهودية، وكانت الضربة مفاجئة وسريعة بحيث سقط فى أيدى القبائل اليهودية الأخرى فعجزت أن تصنع شيئا !!. والمعروف فى تاريخ البطولات والقيادات أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كان يتمتع ـ بفضل الله وتوفيقه ـ بعبقرية عسكرية فريدة لا نظير لها فى دنيا الناس !! فضرب ضربته وكل الحيثيات معه، ووقف عند هذا الحد، لكن اليهود أبوا أن يتعلموا درسا من هذا الذى حدث، وفكر يهود " بنى النضير " فى أن يقتلوا النبى عليه الصلاة والسلام ، وانتهزوا فرصة ذهابه إليهم ليطالبهم ببعض الالتزامات التى تفرضها المعاهدة المبرمة وقال بعضهم لبعض: فرصة أتاحت ما نرى فرصة مثلها، لقد جاءنا خاليا، وأوعزوا إلى أحدهم أن يصعد إلى سطح بيت كى يلقى منه حجر رحى على رأس النبى عليه الصلاة والسلام وهو مسترسل لا يدرى ما يبيت له، فينتهوا منه !! لكن النبى عليه الصلاة والسلام استبان من حركات اليهود وتصرفاتهم ما رابه، فانطلق مسرعا وتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه فقالوا:(2/110)
نهضت ص _127
ولم نشعر بك؟ فاخبرهم بما همت به يهود، وجرد عليهم جيشه، وحاصر بنى النضير حتى كسر حصونها وحرق زروعها، وأنزلها على حكم الله، وتركها تخرج من المدينة لاحقة ببنى قينقاع !!. كان ينبغى ليهود " بنى قريظة " وهم بقية اليهود فى المدينة آن يستفيدوا من ذلك، والحقيقة أن رئيسهم تعلم من الدروس التى مرت كيف يكون وفيا !! فلما دخل عليه فى حصنه " حيى بن أخطب " سيد بنى النضير، وزعيم المتآمرين ضد الإسلام، قال له " كعب " زعيم " بنى قريظة ": يا حيى اذهب عنى أنت رجل مشئوم، إنكم غدرتم بمحمد فأصابكم ما أصابكم، وأنا لم أر من الرجل إلا وفاء وبرا فدعنى منك!! وأبى أن يفتح له بابه! ولكن اليهودى ظل يقرع الباب، ويرسل الكلام، ويقول له: يا مغفل جئتك بعز الدنيا، جئتك بعرب الجزيرة كلهم، قد حاصروا المدينة ولن ينصرفوا حتى يجهزوا على محمد ومن معه!! وأخذ يراوده فإذا الرجل السيئ المنكوب يتبع ما قيل له، وينسى الوفاء والبر اللذين لم ير غيرهما من محمد صلى الله عليه وسلم ، وينضم إلى أعداء الإسلام الذين حصروا الإسلام والمسلمين داخل المدينة فى معركة كاد الإسلام فيها يزهق!! قال جل شأنه: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا). فى هذا الوقت العصيب انضم اليهود إلى المهاجمين، فلما نصر الله المسلمين فى هذه المعركة وهو نصر ما كان مرتقبا أبدا، ما كان متوقعا على الإطلاق! فلما انتصر المسلمون كان من الطبيعى أن ينتهوا من قريش والأعراب الذين حالفوها ليتجهوا توا إلى بنى قريظة يؤدبونهم على غدرهم والخيانة العظمى التى ارتكبوها معهم، وانتهى الأمر بضرب رقاب بني قريظة وهم بذلك جديرون !! ص _128(2/111)
ثم انتهى اليهود من المدينة بانتهاء بنى قريظة، فلما فر من فر وبدأت المؤامرات تنبعث من " خيبر " اتجه المسلمون إليها، وأنهوا الوجود العسكرى اليهودى تماما فى هذه البقاع. أربع معارك متتابعة مع قبائل اليهود المسلحة المحصنة المستعدة المعبأة، انتهت جميعا بهزيمتهم وانتصار المسلمين عليهم!!. هنا يجئ سؤال ربما روجه المستشرقون والمبشرون، ومن لف لفهم من الأفاكين والمضللين، يقولون: لم هذا القتال؟ لقد كان قتالا دينيا!!. والجواب: هذا ما يتصوره قصار النظر، ومن لا عقل له، فإن القتال فى الحقيقة كان قتالا سياسيا عسكريا، ولم يكن قتالا دينيا بالمعنى المفهوم فى عصرنا !!. ما معنى هذه الإجابة؟ معنى هذه الإجابة: أن الإسلام ما كان عليه من بأس أن يبقى اليهود إلى جواره يعيشون بدينهم أبدا، دون أن يخرجوا ودون أن يرهبوا، لو أنهم لزموا حدود الشرف والوفاء !! ولكنهم لما تبجحوا بقواهم العسكرية وظنوا أنهم بهذه القوى يستطيعون سحق الإسلام، اشتبك الإسلام معهم فى حروب على النحو الذى سمعتم، فلما قلم أظافرهم، وانتزع أنيابهم، وجردهم من الأسلحة التى استعملوها فى الغدر والخيانة، قبل أن يبقوا في جزيرة العرب مواطنين يهودا يتبعون دينهم، ويعاملهم المسلمون معاملة حسنة!!. يروى البخارى فى الأدب المفرد: عن عبد الله بن عمرو أنه ذبحت له شاة فجعل يقول لغلامه أهديت لجارنا اليهودى؟ أهديت لجارنا اليهودى؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ". جار يهودى.. رأى تلميذ رسول الله أن يكرمه وفق تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم !! ص _129(2/112)
إن هذه الأقليات يوم تكون مجردة من القوة، يوم تكون بعيدة عن الإيذاء والشر، يوم تكون بريئة فلا تشتغل عميلة لأحد، يوم تحب أن تبقى على دينها فقط فإن الإسلام يقبلها، ويحسن إليها!!. إن الإسلام يكره الغش والخديعة، والتآمر، والمعاملات الوضيعة!! لعل التاريخ لا يعرف إنسانا مخالفا فى الدين يعيش فى بلد كثرته مسلمة، سلطته مسلمة، حكومته مسلمة، ثم يقول: لرئيس الدولة ورجلها الأول وقد جاء يشترى منه شيئا: لا أعطك إلا بالثمن أو برهن إ!. يهودى فى المدينة قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدة بسيطة، جاء الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منه بضاعة، والرسول صلى الله عليه وسلم يومئذ سيد الجزيرة العربية، كانت جيوش الإسلام قد هزمت الرومان، وخوفت الفرس، وكسرت العسكرية اليهودية ومرغتها فى الوحل، وكسرت ظهر الوثنية عابدة الأصنام، وجعلتها تلقى السلم. الرجل الأول الذى يملك كل هذه السطوة وكل هذه القوة يعطى مخالفيه فى الدين الحق فى كل شئ، فيشعر اليهودي فى المدينة المنورة عاصمة هذه الدولة بأنه آمن على نفسه، وعلى عرضه، وعلى ماله، وعلى أولاده، وعلى حرياته، وعلى كل شئ له، وأنه يجد من نفسه الجرأة ليقول لمحمد لا أعطيك حتى تأتى برهن!! فيعطيه صلى الله عليه وسلم درعه رهنا. إنما كان هذا ليعلم الناس طبيعة الأمة الإسلامية، وأن الإسلام يرعى القلة بشرط ألا تكون خسيسة، ألا تجحد الصنيع، ألا تبيت الشر، ألا تكون عميلة لأعداء الإسلام، وقنطرة لانتقال العدوان إليه!!. إن الإسلام دين شريف يحب الشرف، ودين حر يمنح الحرية، وقد دلل الأقليات فى أرضه الواسعة حتى بطرت معيشتها !!.، إذن لم تكن الحرب التى ضاع اليهود فيها حرب إكراه اليهود على دخول ص _130(2/113)
الإسلام، فإن الإسلام لم يكره أحدا على الدخول فيه، ولكن الحرب كانت لمنع الذئاب من أن تتخذ من أنيابها الحادة وسيلة لعض الآمنين، وترويع الذين يريدون أن يعبثوا هنا أو هناك بدينهم وضمائرهم وأفكارهم دون حرج. لكن اليهود ظلوا على خلالهم الخسيسة، لقد استبقاهم الرسول صلى الله عليه وسلم فى " خيبر " على جزء من زراعتها، وذهب إليهم الجابى كى يأخذ حق المسلمين من الأرض، فإذا هم يحاولون رشوته، ويريدون أن يشتروا ذمته، وينظر الرجل المسلم إليهم، ويقول لهم يا معشر اليهود؟ والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلى، وما ذاك يحملنى أن أحيف عليكم!! فلما رأى اليهود أمانة الرجل قالوا له : هذا هو العدل به قامت السماوات والأرض. إذا كان العدل به قامت السماوات والأرض فلم لا تعدلون؟ فاضطر عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعد محاولات مختلفة من هذا النوع أن يجلى اليهود من جزيرة العرب نهائيا، وكان ذلك، وعاش اليهود بعدئذ قلة فى العالم الإسلامى، ما أساء إليهم أحد، لكنهم هم الذين أساءوا إلى ثقافتنا، وإلى مجتمعنا، وإلى أحوالنا!!. وليس الملوم أولئك اليهود، إنما الملوم من ظن السماحة تعنى الفوضى!! ومن ظن الحرية للأديان تعنى أن يعرض الإسلام ـ مانح هذه الحريات ـ لشتى المؤامرات الخسيسة. إننا نلفت النظر إلى أن قوى الشر فى العالم تعمل ضد الإسلام بضراوة وقساوة، وهى تنظر إلى غير المسلمين فى العالم الإسلامي إلى أنه يصلح أن يكون عميلا للاستعمار أو الصهيونية وتحاول أن تجعل منه رمحا فى ظهرنا، وحربة تشق أضلعنا !! وعلى المسلمين ألا يكونوا مستغفلين، عليهم أن ينظروا إلى غير المسلمين نظرة فيها ذكاء، وفيها استبانة لما هنالك، فإننا نعامل بشرف من يطوى ضميره على الشرف، أما من باع ضميره للصهيونية والاستعمار، ويريد انتهاز الفرص للنيل منا فليعلم أنه بين قوم أيقاظ، فإن نبى الإسلام ص _131(2/114)
صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين" ألا فليترك المسلمون استرسالهم وغفلتهم وسذاجتهم ولينظروا إلى الغيوم المقبلة مع الأفق. إن مستقبل الإسلام خطير، تآمر عليه اليهود والنصارى فى أوربا وأمريكا، تآمر الكل عليه لينالوا منه !!. فإذا لم نكن صاحين أيقاظا فإن غير المسلمين ربما عبث بنا أو نال منا !! أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _132
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام الأنبياء، وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: أيها الاخوة: اتباعا لتعاليم نبينا واستفادة من التجارب التى مرت بنا بدأت أنظر إلى التاريخ نظرة أتعلم منها، وأعتبر بها، فإن من لم يعتبر بماضيه، لم ينتفع بحاضره، ولم يضمن مستقبله !! نظرت فوجدت عمر ابن الخطاب رضى الله عنه أعدل حاكم ظهر فى القارات الخمس !! يقتله كلب مجوسى متهما له بالظلم !! سبحان الله.. ما هذا؟ ويتبين من دراسة التاريخ أن مصرع عمر رضى الله عنه لم يكن قتلا فرديا من إنسان ظن كذبا أو صدقا أنه ظلم، لا، بل كان مؤامرة لليهود فيها ضلع، فإن رجلا جاء إلى عمر رضى الله عنه وقال له: رأيت فى التوراة أنك ستقتل بعد ثلاث ليال !! ما دخل التوراة فى مقتل عمر؟ ما هذا الكلام ؟ والقائل يهودى !! لقد كان اليهود يعلمون، وقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان وهو يتلو القرآن الكريم، وعلم أن " عبد الله بن سبأ " وهو يهودى كان من وراء قتله !! وقتل على بن أبى طالب رضى الله عنه، والأمر كذلك !!. الخلفاء الراشدون الأربعة أعظم حكام الإسلام يقتل ثلاثة منهم !! ما السبب؟ لقد ظهر لى أن التاريخ الإسلامى ينبغى أن يدرس بعناية،(2/115)
وأن المؤامرات التى تحاك الآن ضد المسلمين كثيرة، وأن الشغل فى الظلام، والمؤامرات فى الخفاء ونيات الشر التى تعمل فى جنح الليل، هذه هى التى ص _133
تعمل الآن ضد الإسلام !!. تسمعون فى المؤتمرات الدولية كلاما معسولا، وقرارات حلوة !! ولكن العمل فى الظلام هو الذى ينفذ، والحقد على الإسلام هو الذى يملى إرادته، وبدأ هذا الحقد على فلتات الألسنة، وفى تصريحات الساسة بدأ يظهر. إن الروح المتعصبة الخسيسة التى كانت تعمل فى جوانح " بطرس الناسك " عندما حرض أوربا على العرب والمسلمين، هذه الروح لا تزال هى هى فى قلب زعماء أوربا من يهود ونصارى.. لكن أنا لا أحمل هؤلاء التبعة، إنما أحمل التبعة أمراء المسلمين وعلماءهم، لماذا؟ لأن مؤتمرا كمؤتمر " بال " يعقد فى نهاية القرن التاسع عشر، ويبدأ عمله فورا فى أوائل القرن العشرين كأن العرب والمسلمين لا يدرون عنه شيئا، أو ينظرون إلى مقرراته ببلاهة، أو لعلهم هنا أوزاع، ربما عارك أحدهم الآخر على أنه صلى ورأسه عار، وتحولت التوافه إلى كبائر، واشتغل المسلمون بهذه الصغائر واستباحوا فيها الدماء والأعراض!! حتى جاء أعداؤهم فوجدوهم مشتغلين على هذا النحو فسحقوهم !! أين كنا يوم كانت هذه المؤامرات تقرر مصيرنا وتخطط لمستقبلها على أنقاضنا؟ يجب أن نبحث نحن المسلمين عن آثار العداوة ضدنا، إنها فى صمت، ودون ضجيج، بل ووراء ابتسامات صفراء تعمل قوى كثيرة بين ظهرانينا لتغتال الإسلام، لتمحق قوانينه وتقاليده، لتهين كرامته، لترمى بالعمامة البيضاء وحدها فى الأقذار !! أما غيرها ولو كانت تاجا على رأس خادم البقر فلها كرامة !! لعابد البقر، لسادن العجول كرامة من كرامة الدين المنتصر! أما الإسلام المهزوم فإن شاراته وشعاراته تداس، أريد من المسلمين أن يتركوا هذه الغفلة وألا ينظروا إلى التاريخ بهذه البلاهة، وأن يفكروا فى مستقبلهم تفكيرا. لا سذاجة فيه ولا غفلة !!. الأمر جد، إن مستقبلهم ومستقبل(2/116)
أولادهم فى مهب الرياح إن ظلوا بهذه المثابة !!. ص _134
لقد عاملنا الآخرين بشرف، ولكن الآمر كما قال الله تعالى: (ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور * إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط). والله لقد رأيت وجوها فى 1967 ـ عام الخزى والعارـ متهللة فى هذا البلد تصطبغ بالبهجة، وتخرج من معابدها مبتهجة، وكأن شيئا لم يقع !! لم هذا؟. أريد أن نخدم ديننا لا بالصياح الفارغ، ولا بالخطب الجوفاء، ولكن كما يخدم أهل الجد أهدافهم، وكما يبلغ أهل الجد أغراضهم. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، واصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) وأقم الصلاة ص _135(2/117)
التصوف ما له وما عليه خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد فإن الثقافة الإسلامية بحر متلاطم الأمواج، واسع الأبعاد، يقف الإنسان بشاطئه فيجد أمامه من جهود الفكر البشرى فى فهم الوحى الإلهى وخدمته، وفى فهم اللغة العربية وتوسيع دائرتها، يجد من ذلك العجب العجاب، وكما أن بحار العالم ومحيطاته كثيرة فإن الثقافة الإسلامية بحار شتى ومحيطات شتى. أمس كنت أطالع كتاب " المحلى " وهو كتاب يمثل فقه أهل الظاهر، ووجدت الرجل ـ وهو عبقرى له جدل وله ذكاء ـ يشتبك مع أئمة الفقه كرا وفرا وطولا وعرضا ويخطئ ويصيب، وليس هذا مستغربا على البشر فكلنا يخطئ ويصيب.. وقرأت فى كتاب آخر لابن مفلح فى الفقه الحنبلى فوجدت لونا آخر من التفكير يخدم السنة بطريقة تمزج بين احترام الرواية واحترام الفكر.. وقرأت فى كتاب آخر فى مذهب الأحناف الذى يمثل مدرسة الفحوى والاستحسان والرأى والقياس وما إلى ذلك... ص _136(2/118)
وانتقلت فى مكتبتى إلى بعض كتب التفسير.. والتفسير بحار متفاوتة الألوان.. فهذا التفسير أثرى كتفسير ابن جرير الطبرى وابن كثير.. يعتمد هذا اللون من التفسير على الكتاب والسنة وعلى أفهام الصحابة والتابعين.. أى على الرواية والنقل. هناك تفسير بلاغى يعتمد على التحليل الأدبى وضبط ألفاظ القرآن من ناحية الأداء البيانى وتصريف الكلمات وتركيب الجمل.. هناك تفسير عقائدى كتفسير الإمام الرازى الذى يطرح فيه عقائد الإسلام ويتناول الفلسفات والمذاهب الأخرى.. هناك تفسير فقهى كتفسير القرطبى المالكى أو الخازن الشافعى أو الجصاص الحنفى.. هناك تفسير صوفى كتفسير ابن عجيبة.. التفاسير كثيرة.. الثقافة الإسلامية بحر متلاطم الأمواج. دعانى إلى هذه المقدمة أني أحببت أن ألقى نظرة خاطفة على التصوف والتراث الصوفى، وأن أكون منصفا قدر ما أستطع فلا أهادن خطأ ولا أتتبع عورة، ولا أستهجن صوابا، ولا أغمط لأحد حقه، اجتهدت فى هذا، وفى الحقيقة قرأت فى التراث الصوفى لكثيرين.. لمتصوفين يحبون مذهبهم ويتعصبون له، ويدعون إليه.. وقرأت لنقاد يحملون على هذا اللون من الثقافة الإسلامية ويضيقون به. ثم يختلفون فبعضهم ينصف فى نقده كما قرأت لابن القيم فى كتابه " مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين " الذى يرد به على كتاب "منازل السائرين" لشيخ الإسلام أبى إسماعيل الهروى " الصوفى ـ وفى الحقيقة أن الجدل بين الرجلين ـ هنا ـ كان على مستوى عال من عمق الفقه وحسن الخلق وتحرى الحق والرغبة فى نفع المسلمين وإرضاء رب العالمين. أول ما ألفت النظر إليه أن ما يسمى طرقا صوفية فى البلاد الإسلامية بينها وبين التصوف القديم بماله وما عليه بخطئه وصوابه، بين الطرق المعاصرة وبين هذا التصوف القديم مسافة شاسعة بل تكاد تكون العلاقة منقطعة.. علاقة الطرق الموجودة الآن بالتصوف القديم تشبه علاقة اليونان الذين يبيعون الخبز فى الأفران أو المسكرات فى الحانات(2/119)
أو البقالة فى حوانيتها بالنسبة إلى سقراط صاحب نظرية المعرفة أو أفلاطون صاحب نظريه المثل أو أرسطو صاحب المنطق.. ص _137
الفرق بعيد بين صوفية العصر الحاضر والمتصوفين القدامى.. والمتصوفون القدامى أنواع، فيهم فكر فلسفى انتشر قديما وعرف رجاله مثل: محيى الدين بن عربى، وابن الفارض، وابن سبعين، وهذا اللون من التصوف كان موضع ضيق من جمهرة المسلمين ورفضه أغلبهم لأنه تصوف فلسفى، وتصوف فلسفى غلبت عليه عناصر مستوردة من فكر رواقى يونانى أو فكر هندى أو فكر بعيد الصلة بالإسلام، وهؤلاء قد يقع الخطأ من أحدهم فيكون خطأ شنيعا، ومن أخطاء ابن عربى- وهو فيلسوف صوفى- أنه يرى أن فرعون نجا وأنه من أهل الجنة!! الله يقول: (فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد * يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود) فكيف يقال عن هذا إنه نجا؟!! الله يقول: (وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين) ومع ذلك فقد قرأت رسالة للرجل يقول فيها: إن فرعون آمن ومات طاهرا لأنه عند الغرق قال: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) فالرجل آمن ومات طاهرا… طاهرا؟!! ما هذا يا رجل؟ آمن فى وقت لا يصلح فيه إيمان، والله قال له: (آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) فخطأ ابن عربى هنا مع أخطاء أخرى تنسب إليه ويعرف بها تجعلنا نؤيد جمهرة المسلمين فى رفضهم للفلسفة الصوفية عموما لأنها بعيدة عن الإسلام.. بعيدة عن المنطق الدينى.. بعيدة عن الضوابط الفقهية التى لابد منها لإدراك الحقائق. لكن المسلمين !عموما قبلوا التصوف السلوكى.. أى قبلوا تصوف الأخلاق والآداب والشمائل والذكر والعبادة، ومن أئمة هذه الطريقة التربوية أو السلوكية: أبو الحسن الشاذلى.. وشيخ المذهب لون وأتباع المذهب بعد ذلك قد يخطون ويصيبون، أبو الحسن كان رجلا له فقه، وله مع الله أدب، وله مع الناس توجيه حسن ص _138(2/120)
وهو صاحب التوجيهات اللطاف، كان غنيا، وعندما وضع أحد الدراويش يده على ثوبه فوجده سخيا فقال: يا إمام أهذا ثوب يعبد الله فيه؟ قال له: ثوبى ينادى على بالغنى عن الناس وثوبك ينادى عليك بالفقر إلى الناس !! وأبى الرجل الكبير إلا أن يكون ثوبه حسنا مخالفا بذلك حمقى المتصوفة الذين كانوا يلبسون المرقعات ويرون ذلك من باب التواضع لله أو الزهد فى الدنيا.. ابن عمر رضى الله عنهما ـ وهو متشدد فى معاملة نفسه ـ قال لمن استنصحه: البس ما لا يزدريك فيه السفهاء ومالا يعيبك عليه العقلاء !! ملابس عادية محترمة لا هى مزخرفة ولا هى سيئة.. وأيضا أبو الحسن هو صاحب الكلمة المشهورة ـ قال له تلميذه: أنا أترك الماء فى الشمس، قال له: لم؟ قال: أحارب نفسى فهى تشتهى شرب البارد، فقال له: انقل الماء من الشمس إلى الظل فإنك إن شربته باردا فحمدت الله انتزعت الحمد من أعماق قلبك !! كان رجلا عاقلا.. من هذا المسلك مسلك الحسن جاءته حلوى فاخرة فأخذ يوزعها فانقبضت يد صوفى حوله وأبى أن يأكل، فقال له الحسن: لم؟ قال: نعمة جزيلة لا أستطع أن أقوم بشكرها، فقال له الحسن: كل يا أحمق.. فى الماء العادى نعمة لا تستطع أن تقوم بشكرها!! التصوف عاطفة.. والعواطف أحيانا تكون سائحة ـ غير مضبوطة ـ فلا بد من ضبط العاطفة. التصوف السلوكى انتشر بين المسلمين وانتشرت طرقه، وعرفه ابن خلدون بأنه: علم محدث فى الملة يتصل بأعمال القلوب والجوارح. وهو تعريف لا بأس به.. ما.معنى أنه محدث فى الملة؟ أكثر العلوم استحدثت عناوينها وإن كانت موضوعاتها قديمة، بمعنى أنه ما يتصل بالإيمان وقضاياه والدفاع عنها ـ خصوصا عقيدة التوحيد وما يحميها ـ فهذا علم استقل به علم الكلام أو علم التوحيد أو علم العقائد.. وما يتصل بالعبادات من وضوء وصلاة وزكاة وصيام وحج فهذا علم انفرد به فقه العبادات.. ما يتصل بالبيوع والتجارات والشركات والكفالات والحوالات فهذا علم انفرد به فقه(2/121)
المعاملات.. ص _139
تفسير القرآن له علم التفسير.. السنة وما يتصل بتقويم السند ومعرفة الرجال انفرد به علم الحديث دراية.. وما يتصل بالمتون وما زوى عن النبى صلى الله عليه وسلم انفرد به علم الحديث رواية.. فما يتصل بحب الله والصبر والشكر والخوف والرجاء والتوكل والورع وغير ذلك من المعانى فانفرد به علم التصوف، وكتبت المؤلفات على هذا الأساس. عند التأمل وجدت التراث الصوفى يشبه منجما مليئا بنفائس كثيرة وبتراب كثير وغثاء كثير، وأن الذى يدخل هذا المنجم قد يكون غبيا فلا يخرج إلا بقفف من التراب، وقد يكون ذكيا فيستطع أن يستخرج بعض النفائس وينتفع بها !! وأشهد أن ابن القيم فى كتابه " مدارج السالكين " وابن القيم تلميذ لابن تيمية وكلاهما خصم للصوفية ـ أشهد بأن ابن القيم كان منصفا لأنه ما وجد خيرا إلا التقطه ونماه، وما وجد خطأ إلا ورد عليه بالحسنى، واجتهد أن يعتذر لصاحبه إن كان له عذر، وكان متواضعا لله، غمط نفسه ومكانته عندما قال: شيخ الإسلام حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه، ثم قال: إذا كنت قد أصبت بعض الحقائق التى لم يرها شيخ الإسلام فأنا مع شيخ الإسلام كالهدهد مع سليمان عندما قال له: (أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين) والهدهد هو الهدهد وسليمان هو سليمان!! فى الحقيقة هذا اللون من البحث عن الحقيقة والأدب مع الخصوم يحتاج إليه الكثيرون فى مصرنا، فإن أمتنا فقدت كثيرا من أدب البحث ومن حب الحق ومن تزيينه للآخرين حتى يكون حبيبا إليهم، وكثير من الذين عرفوا بعض الحقائق لم يحسنوا عرضها، وربما كانوا فتانين يصدون الناس عنها. لقد قرأت كما قلت فى الثقافة الصوفية شيئا كثيرا فوجدت أن هناك أمورا ينبغى أن نأخذها من هذا التراث، وقد تكون موجودة ضمن علوم إسلامية أخرى ـ لا بأس لكن التوسع فيها والحديث عنها كثر فى التصوف وتناوله أولئك العلماء بعاطفة حارة ونفس ملتاعة، وأحيانا كنت أشعر ـ والكلمة تخرج من مرب(2/122)
كبير فى ميدان التصوف، أو من محب لله ـ ص _140
أشعر كأن الكلمة فيها فعلا لذع الأشواق ونور الحب والرغبة فى مرضاة الله.. عليها من قلب صاحبها رواء يجعلها تصل إلى القلوب. التصوف من هذه الناحية يقبل يقينا، لماذا؟ لأنه تدريب على مقام الإحسان.. الإحسان تعريفه: " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " هذا كلام نظرى، لكن عند التطبيق كيف يتحول الإدراك النظرى إلى حس حقيقى تشارك فيه المشاعر ويكاد الإنسان يلمس بيده ما يريد أن يوضحه للناس، لأضرب لكم مثلا: المدرس عندما يشرح للطلاب فى الفصل حقيقة من الحقائق إذا لم يكن هذا المدرس فى دماغه من الوضوح والعمق، وفى لسانه من القدرة على الأداء ما ينقل هذا الوضوح إلى القلوب والعقول فإنه سيكون مدرسا فاشلا.. وكذلك جعل الناس يحسون بعظمة الله وينبعثون إلى طاعته بعزائم صلبة وشوق ملحاح، إن غرس هذه العقائد فى النفوس لا يقدر عليه عالم نظرى، ولا عالم مرتزق ولا عالم من طلاب الدنيا، إنما يقدر عليه رجل فى قلبه حب مضغوط لله، فهو إذا تكلم تفجر هذا الحب على لسانه ووصل إلى القلوب، ومن هنا استطاع أولئك الصوفية الأقدمون أن يؤثروا في الجماهير حتى دخلوا أدب اللغة العربية العادى ونقلوا منه مالا يصلح أن يكون إلا لله.. أبو فراس الحمداني ـ شاعر ـ مدح سيف الدولة بأبيات.. رفض الصوفية أن تكون هذه الأبيات فى سيف الدولة ونقلوها فى مدح الله. فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذى بينى وبينك عامر وبينى وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذى فوق التراب تراب نقلوها فى معاملة الله، والله أولى بها فى الحقيقة، الله أولى بهذه المناجاة وهذا المدح.. لهم فى هذا أشياء جديرة بالتأمل.. ولقد قرأت فى هذا كتاب " حِكَم ابن عطاء الله السكندرى " رفضت الشروح التي حول هذا الكتاب، لكنى وجدت حكم الرجل من أنضر ما قرأت فى حياتى.. في أدب السلوك ومعاملة(2/123)
الناس يقول: ص _141
" تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه، تحقق بذلك يمدك بعزه، تحقق بعجزك يمدك بقدرته، تحقق بضعفك يمدك بحوله وقوته ". وهذا كلام صحيح.. لأن اللة لا يقبل إنسانا يجئ إليه شامخا.. أنت عبد مقبل على سيدك فلماذا هذا الشموخ؟ ويقول فى هذا: " معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا " وهذا كلام صحيح.. ثم يعيب على الناس ما هم فيه فيقول: " اجتهادك فيما ضمن لك، وتقصيرك فيما طلب منك، دليل على انطماس البصيرة " كفل الله لك شيئا وكلفك شيئا، ما كفله لك تنشغل به، وما كلفك به تكسل عنه؟! انطماس بصيرة، وهذا كلام صحيح، لأن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم حتى يتعلم العباد منه: (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى * ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى * وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى) تأمل " نحن نرزقك " يا أخى لو أن رئيس دولة ـ وما رئيس دولة؟ قال لك: سأعطيك كذا، فإنك تصدقه فورا، فكيف بملك الملوك؟ لماذا ترتاب؟ ما وجه الريبة؟ لكن يقول لك: " نحن نرزقك " ترتاب. فى التربية نجد أمورا تحتاج إلى دقة، ولذلك لا يستطع أو لا ينبغى أن يدخل فى هذا الميدان من لا يحسنه.. من أوائل ما كتبه ابن عطاء الله: " ادفن وجودك فى أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه " كلمة غريبة، وربما قرأها أحد الناس الآن فقال: هذا هو الجنون الدينى.. رجل يقول لتلميذه: ادفن نفسك فى أرض الخمول !! طبعا معنى الكلمة ليس كما يتصور قصار الفكر والنظر، معنى الكلمة: لا تتقدم الصفوف حتى تنضج، لا تحاول أن تكون إماما قبل أن تستكمل مسوغات الإمامة.. بعض الناس لأنه صنع قصيدة يريد أن يكون شاعر الغبراء.. بعض الناس لأنه كتب مقالا يريد أن يكون أديب الأدباء !!(2/124)
لا..كما تختفى الحبة فى التراب فلا تظهر مدة من الزمن حتى تستكمل قدرتها على الإنبات والإخصاب والإثمار ثم تبدأ تشق طريقها لترى الشمس والهواء كذلك على ص _142
كثير من المتعلمين ألا يستعجلوا الشهرة وأن يعيشوا جنودا مجهولين يستكثرون من المذاكرة والتحصيل ومن أمور كثيرة حتى يمكن أن يكونوا نافعين.. أما الحبة التى توضع فوق ظهر الأرض فلا ثمرة لها ولا نتاج، ومادام حريصا أن يرى من أول يوم فلا خير فيه: " ادفن وجودك فى أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه " ويقول "ما بسقت أغصان ذل إلا على بذور طمع "وهى كلمة جليلة كلمة عظيمة، وكما قال الشاعر: ملكت نفسى مذ هجرت طبعى اليأس حر والرجاء عبد مادمت ترجو غنيا أو حاكما فأنت ذليل.. اليأس حر والرجاء عبد.. مادمت ترجو فأنت ذليل.. عندما تيأس من الخلق وتعاملهم على أن لا أمل فيهم إطلاقا فأنت ملك. هذا فيما يتصل بالناحية الطيبة فى التصوف.. هناك نواح مخيفة.. ما هذه النواحى؟ النواحى كثيرة اكتفى منها بثلاثة أمور.. الأمر الأول: كثرة المبتدعات مع جماح العاطفة، بمعنى أن ناسا كثيرين اخترعوا من عندهم أمورا كلفوا الناس بها، وعندما أنظر إلى العبادات أجد أن الشارع هو الذى استقل بتكليف الناس بها.. معنى الحكم الشرعى: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين.. ولذلك لا يمكن أن يضع حكما شرعيا بشر، لأن رب البشر هو الذى يكلف، نشأ عن سوء التكليف عندنا ـ عندما أخذ بعضنا يكلف البعض الآخر نشأت مفارقات كانت من بين أسباب ضعف الأمة الإسلامية الفكرى والفقهى، يقول الله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) هذا نص قرآنى، على رأسى، ما معنى أن أدعو الله باسمه الحسن؟ واحد يقول لك: قل يا لطيف مائة ألف مرة بالليل، هذا تكليف من عند واحد من الناس.. المعنى الحقيقى للآية أضرب له مثلين لتدرك ما المقصود شرعا بهذا. عندما تأمل يوسف الصديق أيامه التي مضت.. لما كان طفلا في أحضان أبويه، لما(2/125)
اختطف وبيع عبدا رقيقا بثمن بخس دراهم معدودة، لما تعرض لفتن النساء فى القصور. ص _143
لما أصبح واليا على شئون المال، لما تربع على عرش مصر، استعرض هذا كله ثم أعجبه القدر وتصرف الله معه فقال كما بين لنا القرآن: (إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم) ملاحظة اللطف الإلهى فى تاريخ البشر، فى حياة الناس، فى المسالك العادية، اعبد الله بهذا، بملاحظة اللطف الإلهى.. هذا فى تاريخ البشرية.. أما فى الأحوال العادية فعندما ترى التراب الميت تنزل عليه المياه من السماء فإذا الحبة المدفونة تخرج حاملة السكر والزلال والدهون والفيتامينات والأملاح.. من صنع هذا ؟ (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير) لطيف، لطافة، ينبغى أن تدرس، علم يدرس، الأسماء الحسنى لها معان كثيرة، ممكن أن ألحظ معنى " المنان " كيف من على أبى، كيف من على، كيف من على غيرى، ألاحظ المن الإلهى فى كل شئ.. ولأبى حامد الغزالى كتاب اسمه " المقصد الأسنى فى شرح أسماء الله الحسنى " وهو كتاب لطيف.. ينبغى أن يعرف الدعاة إلى الله الفرق بين أنواع التفكير البشرى.. ابن حزم فيلسوف، لكنه رجل مساح لظاهر الحياة والتواريخ مع ذكاء غير عادى.. ابن تيمية فقيه لا نظير له فى حرية الفكر والأخذ من المنابع الأصيلة للإسلام ولكنه يحمل دماغ فقيه فقط، بينما أبو حامد الغزالى يحمل دماغ فيلسوف، ولذلك فإن كلامه فى التربية يكاد يكون المصدر الأول أو الأوحد فى الثقافة الإسلامية وهذه طبائع الخلق.. من هنا أحب أن أقول للناس: من أعجبه من التصوف ما ذكرناه فليضبط نفسه بضوابط الشريعة، فالبدع كلها مرفوضة، هذه واحدة. الأمر الثانى: ما يتصل بقانون السببية.. من الظلم أن أقول: إن المتصوفة من أسباب انهيار الحضارة الإسلامية لأنها وهنت قانون السببية، لأن هذا التوهين اشترك فيه علماء الكلام وخصوصا الأشاعرة واشترك فيه عدد من علماء الحديث.. الحقيقة أن(2/126)
قانون السببية قانون ملزم، وأن ما يقع لهذا القانون من خوارق هو شذوذ، والشذوذ كما قيل: ص _144
يؤكد القاعدة ولا يهدمها، فإذا كانت النار تحرق فالنار تحرق، كون النار لم تحرق إبراهيم فليس معنى هذا أن النار تخفف حريقها أو إنهدم قانونها، لا... إبراهيم وحده له معجزة خاصة، وبقى القانون على امتداده يطبق على الكل، فلو رميت أحدا فى النار فينبغى أن يقبض علىّ على أننى قاتل وما يغنى عنى أن يقال: النار كانت بردا وسلاما على إبراهيم، لا.. هذا كلام لا يقال، فالقاعدة قاعدة.. من أسباب انهيار الثقافة الإسلامية أن قانون السببية دعى مع المتصوفين فإن كل رجل طيب فيهم جعلوا خوارق العادات تحشو حياته، فهو يفتح الباب بغير مفتاح، ويطير فى الجو بغير جناح، كل شئ سهل، كانت النتيجة أن البحر أصبح طحينة كما يقولون، ولم يبق فى حياة البشرية شئ متماسك، ووجد هذا فى كتب الفقه، قرأت فى الفقه المالكى، وفى الفقه الحنفى ـ مع أن أبا حنيفة ومالكا من أئمة الرأى وليسوا من أئمة الأثر ـ ومع ذلك قرأت كلاما لابد من رفضه، وما ينبغى أن يقال أبدا، ولا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من ذلك قول المالكية ـ فى كتاب من حوالى ألف صفحة أعطتنيه حكومة قطر العام الماضى، وكما تعلمون الذى يصلى الظهر فى مكة يصليه قبل الذين يصلونه فى القاهرة بحوالى خمس وعشرين دقيقة لأن خطوط الطول التى تنظم الوقت لها دخل فى هذا، فبين مصر، وجرينتش ساعتان فيجئ سائل فى الفقه المالكى ويقول: لو صلى الظهر فى مكة ثم طار ـ كيف طار؟ وهذا الكلام من قرون ـ ووصل إلى المغرب فهل يصلى الظهر مرة أخرى لأنه وصل قبل وجوبه على أهل المغرب؟ هذا كلام سخيف، عيب، أسقط العقل الإسلامى فى ميدان الاختراع والفيزياء والكيمياء وما إلى ذلك.. كلام لا يليق.. الطامة التى يقولها الأحناف أن رجلا فى المشرق تزوج امرأة فى المغرب وولدت دون أن يتصل بها، كيف هذا؟ يقولون: هو ابنه فقد يكون(2/127)
من أهل الخطوة!! هذا الكلام عيب أن يقال، قانون السببية طحنه المتصوفون بكثير من خوارق !العادات.. ويجئ رجل ببلاهة فيقول لك: هل تنكر خوارق العادات؟ هل تنكر كرامات الأولياء؟ وفرضنا جدلا أن رجلا أنكر هذا، ابن حزم أنكر هذا ودينه محفوظ، وغيره أقربها إذا كانت مروية بسند صحيح ورفضها إذا كانت بغير سند صحيح، فالمسألة فرعية ص _145
لا دخل لها فى العقائد، ولا دخل لها فى الكفر والإيمان، هذا أمر ثاني يؤخذ على التصوف. الأمر الثالث هو: ما يتصل بالدنيا، الدنيا سلاح خطير، يستطع بها الإنسان بمالها وجاهها وسلطانها أن يخدم عقيدته وأن يرفع شأنها إذا كان مؤمنا، إذا عبدها الإنسان أودت به، وإذا سخرها فى خدمة الحق رفعت مستواه وأعلنت درجته وذهبت به إلى عليين، انظر إلى رجل كعثمان ابن عفان رضى الله عنه أنفق على جيش واستطاع أن يجعل المسلمين يكسبون معركة.. والآن نجد العجائب لأن المسلمين فقراء فى البنغال، فى بنجلاديش، فى الصومال، فى أندونسيا، نجد نشاط التبشير المسيحى يعرض اللقمة بسرقة العقيدة، كيف نستهين بالدنيا: " نعما بالمال الصالح للرجل الصالح " هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول الله (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) التمكين فى الدنيا.. ولاية منصب كبير هذا شئ عظيم، يقول الله فى يوسف الصديق ـ لما ولاه شئون التموين والأموال وأصبح على خزائن الأرض ـ تعليق القرآن على هذا: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين) سمى التمكين فى الأرض رحمة، هذا فى الدنيا لأنه بعد ذلك يقول (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون) فلما جاء من قبح وجه الدنيا للناس على كل حال خسر المسلمون دنياهم، فلما خسروا دنياهم وتمكن منها أعداؤهم ساوموهم على عقائدهم وشرائعهم وشمائلهم فكانت النتيجة ما نحن فيه، الأمر يحتاج إلى إدراك للحقائق، ولذلك فإن التراث(2/128)
الصوفى كله كالفقه، ككثير من أبواب الثقافة الإسلامية المختلفة.. كل هذا يحتاج إلى غربلة وحسن نظر، والعصمة لكتاب الله ولما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم . ص _146
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام النبيين وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد أيها الأخوة لفتت نظرى أمور ـ فى هذا الأسبوع ـ تتصل بطريقتنا فى تربية المسلمين وفى تفهيمهم ما هنالك فى دنيا الناس. نظرت إلى صور الشابين اللذين ماتا فى (أيرلندا) خدمة لمذهبهما الدينى وهو الكاثوليكية فراعنى وأنا أنظر إلى الصور أن الصور كانت لشباب نسميه نحن (الخنافس) شباب وجهه صبيح، متجرد من كل شئ، شعره غزير يكاد يكون على منكبيه، استغربت، طول عمرى لا أغتر بالمظاهر ولا أهتم بالأشكال، لكن حقيقة راعنى أن المعتقد الدينى الذى يرسو فى قلوب شباب من هذا النوع، فإذا أحدهما يظل تسعة أسابيع يرفض الأكل حتى يموت ويصاب بالعمى وهو الوسيم الجميل ولا يبالى، وكذلك الشاب الآخر قضى ثمانية أسابيع حتى مات هو الآخر، اهتمام غيرنا بالتربية التى تنغرس فى القلوب لابد أن ندركه نحن، لم؟ لأن عددا كبيرا من المسلمين لا يفكر إلا فى الصور والمظاهر ويعول عليها كثيرا جدا، والصور والمظاهر فى معارك الحياة الكبيرة ليست كبيرة القيمة، قد تكون الصورة صورة، وكما يقول علماء القانون: الشكل لابد منه حتى يقبل الموضوع، لكن مع هذا فإن ديننا اهتم بالقلوب قبل كل شئ وقال لنا: " إن الله تعالى لا ينظر إلى ص _147(2/129)
أجسامكم ولا إلى صورم ولكن ينظر إلى قلوبكم " هذا شكل رأيته فأحببت أن أقول لناس كثيرين من البكائين على الأشكال: اهتموا إلى جانب الشكل بالموضوع وبالحقيقة، هذه واحدة، اهتممت أيضا بمحاولة اغتيال (بابا روما) أنا أكره الاغتيالات لأنها خسة، لا أحبها بطبيعتى، وعندما جاء قاتل (كليب) بالرمح وقال له: الرمح وراءك، قال له: تعال إلى من أمامى، لأن القتل غيلة ليس شرفا، أنا أحتقر هذا النوع من التصرفات، لكن فى الوقت نفسه أعجب لكل هذه الضجة العالمية التى اصطنعت اصطناعا، افتعلت افتعالا، بابا روما لا يزال يرى أن القدس لا ترد إلى العرب، وبابا روما لما ذهب إلى " الفلبين " قال للمسلمين: ضعوا السلاح، وهم يقاتلون عن دينهم، وما قال " لماركوس " القاتل: دع الناس أحرارا يتدينون بما يشاءون، فالرجل أتفه من كل هذه الضجة، أنا أرفض كما قلت أن يغتال، والاغتيال لا ينصر قضية لأمة، إننى أكره تكبير الصغار، أكره تكبير الخرافيين، إننى أحترم الرجولة.. كانس طريق يؤمن بأن الله واحد أفضل من رجل على رأسه التاج يقول: إن الله ثلاثة !!. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) عباد الله (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _148(2/130)
تأملات في سورة محمد صلى الله عليه وسلم خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فنظرتنا فى هذه الجمعة إلى سورة القتال أو إلى سورة محمد عليه الصلاة والسلام، كلا العنوانين اسم للسورة، وهذه السورة تميزت فى تاريخ الجهاد الإسلامى بأن الجيوش الزاحفة تحت علم التوحيد كانت تعلو أصواتها بتلاوتها، وكما يصرخ الفتية ـ الآن ـ بالنشيد الوطنى ـ مثلا ـ فى بعض البلاد، فإن النشيد الذى كان يعلو فوق هذه الفرق المقاتلة، ويحدد هدفها، وينظم خطوها، بل يكون الموسيقى التى تشد الأعصاب، وتدفع بالمجاهدين الى موارد الردى وهم مبتسمون، كان كثير من المقاتلين يقرأون سورة الأنفال أو سورة القتال، وما نعرف فى تاريخ الأولين والآخرين قتالا أشرف ولا أزكى ولا أطهر من القتال الذى حمل عبئه صاحب الرسالة الخاتمة أو أصحابه الذين جعلوا من أجسادهم جسورا عبر عليها الإسلام إلى القارات كلها ابتغاء ما عند الله، وانتظار مثوبة الآخرة، واحتقارا لعرض الدنيا وزينتها. ص _149(2/131)
سورة القتال نلقى عليها نظرة لنرى بدءا أن المحور العام الذى تدور عليه السورة هو: وصف أهل الحق وأهل الباطل وما يدور بينهما من نزاع حار أو بارد.. وبدأت السورة تذكر الفريقين من أول سطر فيها، فتذكر أن الرضا الأعلى، واليمن، والفأل الحسن من نصيب أهل اليقين والإيمان، وأن الغضب الإلهى، وشؤم العاجلة من نصيب الذين آمنوا بالجبت والطاغوت، وكفروا بالله الواحد الأحد، وتجهموا للرسالة وصاحبها، يقول تبارك اسمه: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم * والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم * ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم). (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) وللكفر صور كثيرة، أولها: إنكار الألوهية أصلا كما يفعل الماديون والشيوعيون وناس كثيرون ممن انتشروا فى قارات الأرض الآن، لا يعرفون إلا ما يعرفه سفلة الأعراب قديما عندما كان أحدهم يقول: إن هى إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر !! تحول هذا إلى فلسفة عامة، ودول مسلحة، ومذاهب تدعى المعرفة وتنطلق باسمها أبواق ودعايات وإعلام وصحف إلى غير ذلك، هذا نوع من الكفر.. هناك كفر آخر يؤمن بالله ولكن يراه جسدا يمكن فى نظره أن الله يجهل فلا يدرى ما يقع أو يندم على شئ صنعه لأنه لا يعرف عاقبته أو يأكل ص _150(2/132)
مع الناس ، أو يتصارع مع بعض عباده وهذا الكفر هو دين اليهودية الآن، وما ذكرته عنهم هو تلخيص لما ورد في العهد القديم أو فى سفر التكوين بالذات.. ثم هناك كفر آخر، ناس تدعى أن لله إبنا أو بنتا، أو صاحبة، أو أنه ابن لشخص آخر ، أو ما إلى ذلك مما لا أصل له، وقد اشترك فى هذا وثنيو العرب ونصارى العالم، والقرآن الكريم حاسم: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون * عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون) سبحان الله وتعالى: أى تنزه وترفع عن أن يكون له ولد، أو أن يكون ولدا لأب، أو ما إلى ذلك ما يقول الأفاكون وإن كثرت جيوشهم، وكثرت المخترعات الفتاكة بين أيديهم، فإن شيئا من هذا لا يحول الضلال إلى حق.. هناك كفر آخر، أن يعبد بعض الناس أصناما أو عناصر من الأرض يظنون أن الله حل فيها، أو جعلها مظهرا له، كما يفعل الهنادك فى الهند، أو كما يفعل البوذيون فى جنوب آسيا وشرقها، وهناك كفر ـ معروف أيضا ـ وهو أن يؤمن أحد الناس بالله ـ كما يزعم ـ ولكنه يرفض طاعته، والانقياد لأمره ونهيه، ويجادل فى الأحكام التى جاءت من عنده، ولعله يتهمها بالرجعية أو بالقسوة، أو بأن الفرائض تعطل الإنتاج، أو ما إلى ذلك مما يقوله كفار فى البلاد العربية فى عصرها الحديث.. وأعتقد أنه مما يدخل فى باب الكفر إنكار السنة جملة وتفصيلا، وهو ما حمل رايته الآن ـ بعض المعسكر الذين يحكمون "أجزاء من العالم الإسلامى.. وأنواع الكفر كثيرة، قد يكون الكفر مرضا فتك بصاحبه فانزوى به، وعالق فى سوأته وانتهى أمره على هذا ص _151(2/133)
النحو.. هذا كفر ضرره محدود، وان كان كفرا.. لكن هناك كفارا يرون أن ينقلوا الظلمة التى فى قلوبهم الى قلوب الآخرين، الخرافة التى فى رؤوسهم إلى رؤوس الآخرين، مهمة هؤلاء أنهم إذا اعوجت الطرق بهم لم يكتفوا بضلالهم، بل قرروا أن يعترضوا السائرين على الطريق المستقيم، فهم يضعون الألغام فى هذا الطريق، أو يعرقلون مسيرة أصحابه على أى نحو، وهؤلاء هم الذين سماهم القرآن فى سوره كلها (الصادين عن سبيل الله)، فمعنى الصد عن سبيل الله: أن تضع يدك فى فم يقول الحق حتى لا يقول الحق، أو تعترض بسلطانك سائرا على الصراط المستقيم حتى تلوى عنقه، وتضلل سعيه، وتجعله ينتكس بأى أسلوب.. هذا هو الصد عن سبيل الله، وهذا الكفر المزدوج، أو الضلال المضاعف، أو تحول الكفر من حيوان عات إلى حيوان فاتك.. هذا الكفر المزدوج المقرون بالصد عن سبيل الله هو ما شكا المؤمنون منه قديما وحديثا، هو ما أعلن القرآن عليه حربا شعواء: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا) (إن الذين كفروا وظلموا ـ جمعوا بين الكفر والظلم ـ لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا * إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا) قد يستطع الكفرة الصادون أن يملكوا السلطة، وأن يتولوا الأمور، ولكن إلى حين، إلى أن تتهيأ كتيبة الرحمن، وتستجمع خصائص القيادة، وتملك من الأسباب المادية والأدبية والعقلية والحضارية ما يجعلها قادرة على الوراثة فإذا هى ترث للفور، ولكن ما بقى هؤلاء الكفرة الصادون ما بقوا يحكمون فالشؤم فى أثرهم، والبوار فى أعمالهم.. وقد رأيت فى قطر من الأقطار قتل حكامه عشرة من أئمة المساجد وأحرقوهم، لأنهم رفضوا التسوية بين الرجل والمرأة فى الميراث!! هذا وقع فى الصومال، ويريد الله أن الأنهار التى تجرى فى الصومال جفت!! ويريد الله أن الحكام هناك يتسولون الأكل لمن حولهم، وهيهات!! (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم *(2/134)
والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما ص _152
نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم * ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم) تكرر هذا المعنى فى السورة ثلاث مرات أو أكثر، فمثلا فى أواخر السورة نقرأ قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم) نفى المعنى الذى افتتحت السورة به، لكن مع الزيادة وهو وصفهم بأنهم (شاقوا الرسول) ومعنى المشاقة: أن يكون هذا على شق وذاك على شق، أو بتعبير العصر الحاضر: على طرفى نقيض، ومعنى (يحادون الله ورسوله) معنى المحاداة: أن يكون هذا على حد وذاك على حد آخر، أى على طرفى نقيض، وهذا الاختلاف أو الافتراق ليس عن جهل، (تبين لهم الهدى) هذه إضافة فى الآية التى جاءت بها السورة، وذاك يعطى: أن على المسلمين ضرورة بيان الحق وإبلاغه لكل أذن، وتوضيح حقائقه لكل لب، وهناك تقصير شديد للأسف بين المسلمين فى هذا المجال.. وتكرر المعنى مرة أخرى فى السورة، قال تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم) والآية الثالثة تفيد أنهم طالت أمامهم فرص الحياة، وأتتهم النذر فما ارعووا ولا اهتدوا، ولكن تشبثوا بضلالهم حتى لاقوا حتفهم، فلما ماتوا كانوا حطبا لجهنم، ما يصلحون إلا لهذا.. هذا موضع ثالث، هناك موضع رابع تناول القرآن فيه هؤلاء على أحد معنيين: (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا) هذا التساؤل إما أن يكون عن بلادة وجهل، وهو واقع بين الكفار حقيقة، فإن ناسا ص _153(2/135)
من الكافرين سيطر عليهم الضلال فهم ما يعطون أى فكر لما يقال لهم، بل هم كما قال القرآن فى السورة الثانية ـ سورة البقرة ـ (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون) فقطعان الغنم أو قطعان الكلاب لا تسمع إلا صوت الراعى، تسمع رغاء، تسمع شيئا لا يحرك منها فكرا ولا عقلا، هذا هو شأن الكفار: (ومنهم من يستمع إليك) لكن لا يفهم وحيه، ولا يلقى باله ليفهم، ولا يسأل الفاهمين: (حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا) وقد يكون التساؤل سخرية، أو لعبا ولهوا، أو استهانة بما قيل: (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم). هذا فيما يتصل بحزب الباطل، أو بأولئك الذين فقدوا وعيهم، وعاشوا فى الدنيا لأنفسهم، ولم يحيوا لربهم، ولم يفكروا فى مرضاته، ولم يضبطوا سلوكهم وفق هداياته.. هذا نوع من الناس هو الجزء الذى تحدثت السورة عنه فى نصف آياتها تقريبا.. أما أهل الإيمان فإن الحديث عنهم أخذ عدة مواضع فى السورة نفسها، أول هذه المواضع: أن الله أمرهم بأن يكونوا أشداء على الكفار، وبأن يعتقدوا أن نصرة الحق لها أعباؤها، وربما اقتضت تكاليف ثقيلة من بذل الدم والمال، وما بد من أن يدفع المؤمنون الصادقون هذه الضرائب التى كتبت عليهم لينصروا الحق.. وبدأ التشديد فى نصرة الحق، وضرب المبطلين حيث كانوا بقوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم) ربما تساءل متسائل: لم هذه الشدة فى مؤاخذة الكافرين وملاقاتهم فى الميدان بهذا الأسلوب الصارم؟ ص _154(2/136)
السبب واضح، ويجب أن يشرح للمسلمين، فإن الأمة الإسلامية أحيانا تشبه إنسانا مخدرا لا يعرف ما يقع له، وأرى أن المسلمين فى عصرنا كأنما بلعوا بنجا فهم لا يدرون ما يقع لهم !! القبيلة التى منها (عيدى أمين) فى (أوغندا) ربما تكون أبيدت كلها فى صمت، ما يتحدث أحد، عشرات الألوف من المسلمين فى شرق وغرب أوغندا ماتوا هناك فى هدوء، فى صمت، ما يتحدث أحد، هذه واحدة.. عملية إبادة المسلمين فى (الفليبين) ما يتحدث عنها أحد، وهى تتم بقتل الألوف المؤلفة، فى هدوء، ما يتحدث أحد.. عملية قتل المسلمين فى (روسيا) لم يعرف العالم قصة نقل السكان، يعنى أن يصدر أمر بنقل سكان (القاهرة) مثلا إلى (أسوان) هذا شئ يحدث فى روسيا.. سكان (القرم) ـ وهى دولة إسلامية ـ يؤمر بنقلهم الى (سيبيريا) ويجاء بآخرين بدلهم، من الآخرون؟ مسيحيون، من الذين ذهبوا؟ مسلمون !! حتى لا يبقى المسلم مرتبطا بمسجد الى جواره أو بإنسان بينهما صداقة تنقل شعوب حتى تبتر من تاريخها ومن عقائدها ومن صلاتها بالزمان والمكان!! الحقيقة أن الباطل إذا ملك لم يلو عنانه شئ، ولم يكفكف شره أحد، ولكن المسلمين فى آذانهم وقر، ما يقرأون، ما يسمعون، ويؤخذون واحدا بعد الآخر، شعبا بعد شعب حتى تدور الدائرة على قلبهم فيطحن.. الواقع أن المسلمين الآن يعانون بلاء جسيما فى أقطار كثيرة.. والذى يغيظ فى هذه المعارك التى يبيد فيها الموحدون أن أحدا لا يصنع لهم شيئا، لأن الأمة الإسلامية أمام الإعلان العالمى لحقوق الإنسان لا تعتبر أمة لها حقوق إنسان !! إذا قتل المسيحيون فى (لبنان) هاجت الدنيا وماجت، أما إذا قتل المسلمون فلا حرج، ليست لهم حقوق إنسان، حقوق الإنسان لغيرهم، وهكذا، ولذلك قيل لمن يعملون مجاهدين فى سبيل الله: يوم تصطدمون بقوى الضلال فلا يكن فى صدركم مثقال من رحمة ص _155(2/137)
بهؤلاء: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها) الأسرى يؤسرون، ثم بين جل جلاله أنه ما خلق الدنيا لتكون دار استقرار، أو دار متع وملذات لمن أحبوه وآمنوا به، لا... هى دار اختبار لآخر رمق، الله قادر على أن يخسف الأرض بمن: يشركون به، الله قادر على أن يخسف الأرض أو يسقط كسفا من السماء على من يعاندونه ويرفضون الخضوع لأمره، ولكنه لا يفعل هذا، لأنه يختبر المؤمنين بالكافرين، ويختبر الكافرين بالمؤمنين، وكما قال فى سورة أخرى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا) . إنها فتنة (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم) سمع النبى صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو فى المسجد يقول: " اللهم إنى أسألك أفضل ما تؤتى عبادك الصالحين فلما قضى النبى صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: من المتكلم آنفا؟ فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قال: إذا يعقر جوادك وتستشهد فى سبيل الله " يقتل فى سبيل الله، هذا عطاء، هذا أفضل ما يعطاه الرجل الصالح هذه الدنيا: (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم) هذا أول ما كلف به المؤمنون أو الصفة الأولى فى أوصافهم، الصفة الثانية: إخلاص النية لله فى العمل، بمعنى أن القتال ينبغى أن يتمحض لله، وهذا شئ صعب فى الحقيقة، ففى اختباراتى لنفسى، واختباراتى لمن حولى، ونظرى لشئون الناس مؤمنهم وكافرهم وجدت أن عددا كبيرا من ص _156(2/138)
الناس وما أبرئ نفسى ـ تفكيره يدور حول نفسه، ولذلك فإن خلوص النية لله ليس عملا سهلا، إنه عمل كبير، ولكى نعرف ـ مثلا ـ نماذج من العمل الذى ليس لله: قرأت فى كتب الأدب قصيدة لعمرو بن معد يكرب ـ وهو شاعر فى الجاهلية وشاعر فى الإسلام، ولعل القصيدة التى قرأتها له كانت أيام جاهليته، أما بعد أن أسلم فقد كان رجلا من المسلمين الذين شاركوا فى جيوش الفتح، وفى غسل الأرض المحررة من ظلمات الجاهلية، وأدران الشرك، لكنه فى جاهليته بدأ قصيدته كلاما حسنا : ليس الجمال بمئزر فاعلم وإن رديت بردا إن الجمال معادن ومناقب أورثن مجدا فعلا هذا كلام صحيح.. ثم قال: أعددت للحدثان سا بغة وعداء علندي إلى أن يقول: كل امرئ يرى إلى يوم الهياج بما استعدا لما رأيت نساءنا يفحصن بالمعزاء شدا وبدت لميس كأنها بدر السماء إذا تبدى وبدت محاسنها التى تخفى وكان الأمر جدا نازلت كبشهم ولم أر من نزال الكبش بدا ص _157(2/139)
هل هذا قتال لله ؟ لا.. هل لله فى هذه الكلمات شئ ؟. لا.. إنه قاتل من أجل امرأة.. وكانت عادة العرب قديما أن النساء يخرجن وراء الجيش المقاتل، حتى فى غزوة أحد خرجت نساء قريش وراء جيشها تحرض الكفار على القتال وتقول لهم : إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق فراق غير وامق والله نساء قريش كن أشرف من نساء كثيرات الآن.. المرأة تقول للرجل: إذا لم تكن رجلا طلقتك، ابتعدت عنك !!. الآن هناك نساء لا تدرى إلا الجنس والملذات والسقوط الخلقى.. ليكن.. هل هذا القتال لله ؟ لا.. هذا نوع من غش النية .. هل لله فى هذه الكلمات شئ ؟ لا.. لا.. ليس لله فيها شئ. موقف آخر لشاعر آخر.. عنترة بن شداد العبسى، كان رجلا غريب الأطوار، فقد ولد أسود الجلد، ومن سفاهة بعض الناس أنهم يضيقون بالسود، ما دخل الجلد الأسود ثنى عظمة القلوب وقيم النفوس؟ لا دخل بداهة فى هذا، لا من ناحية علم تشريح الأعضاء، ولا من ناحية الأفكار الإنسانية بتاتا، لكن أباه كان أحمق، ضاق بابنه، وجعله ص _158(2/140)
عبدا يشتغل بجلب الماء من الآبار، أو بحلب الشياه وما إلى ذلك، فلما هوجمت القبيلة انهزمت، "وكان عنترة رجلا معروفا، قال له أبوه: قاتل، قال له: لا.. أنا عبد، العبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلاب والصَّرَّ، قال: كر وأنت حر.. فكر وقاتل وهزم الأعداء لكى يثبت مكانته، ولكى يثبت جدارته بالحرية هذا القتال هل لله فيه نصيب ؟ لا.. إنما القتال لله: " من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله" هذا هو القتال لله لتكون كلمة الله هى العليا، على نحو ما قال الشاعر: ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي شق كان لله مصرعى وذلك فى ذات الإله وان يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع لكن هذه النية تحتاج إلى تهذيب نفس، ما يحصل الإنسان عليها إلا بعد أن يهذب نفسه كثيرا حتى يكون عمله لله وحده، وهذا هو معنى الآية هنا: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم). ثم جاء فى أوصاف المؤمنين ـ أيضا ـ أن ولاءهم لله فى أثناء المعركة بارز، فهو لا يعمل لخدمة تراب من تراب الأرض، أو لإعلاء جنس من أجناس الناس، إنما هو يقاتل من أجل أن تكون كلمة الله هى العليا، من أجل أن يسود دين الله فى الأرض وتختفى الطواغيت من على صعيدها.. هذا هو الولاء الحقيقى لله.. وهذا المعنى استثار النبى صلى الله عليه وسلم في ص _159(2/141)
غزوة أحد، ومع أنهم كانوا مهزومين وآخر المعركة كان مظلم الوجه سئ الطالع، لكن رفض النبى صلى الله عليه وسلم أن يسكت عندما قال أبو سفيان: اعل هبل، فسكت المسلمون، فغضب النبى صلى الله عليه وسلم وقال: " أجيبوه " فقالوا ما نقول يا رسول الله ؟ قال: " قولوا الله أعلى وأجل ". ثم قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم- والعزى صنم حقير- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " أجيبوه " قالوا: ما نقول يا رسول الله ؟ قال: " قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم " وهو هنا ما قالته الآية: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم). صفة أخرى من صفات المؤمنين وهى تأميلهم فى الجنة ونعيمها، وقد يقال: إن نعيم الجنة حسى، والتعلق بالحسيات مهانة.. هذا كلام فارغ، لا قيمة له، فإن الإنسان إنسان، ومعنى أنه إنسان أنه جسد يأكل، والقول بأن جسدا لا يأكل ضلالة أو خرافة، والقول بأنه يكره المتع التى خص بها وزينت له كلام غير صحيح.. كون الإنسان يترك متعة خبيثة لما عند الله من متع طاهرة فهذا هو السمو، كون واحد يرفض الحرام أو يرفض الشح لأنه ينتظر عند الله نعما أوفر وأغزر فهذا هو الاكتمال، ولذلك جاء فى الآية هنا ما يجعل المسلم المقاتل لا يأسى إذا فات متع الدنيا لأنه لن يفقد شيئا إن فقد الأكل والشرب أو النساء أو الرضا أو المتع المعنوية فسيجدها أمامه، ولذلك ذكرت للمؤمنين هنا: " (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم) هذا هو الوصف الإسلامى الحقيقى للمتع الحلال التى ينتظرها من يركل بقدمه شهوات الدنيا لأنه يعلم أنها ممهدة له فى الدار الآخرة، فما هى إلا لحظات حتى ينتقل من ظمأ ووحشة ـ هنا ص _ ص 0(2/142)
إلى رحيق مختوم ونعيم مقيم هناك. بعد هذه المقارنة بين الفريقين تجد تحديد الهدف الذى من أجله دار القتال: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) هذه الكلمة يكابر فيها أربعة أخماس سكان الأرض، ولكننا نتشبث بها ثم نعلم أن، الذى أمر أن يقول هذه الكلمة وأن يعلمها الناس عبد لله، يطلب مغفرته، ويرجو رضاه، ويرسم من سنته نماذج لأهل الأرض الذين يوحدون ربهم، ويثنون أصلابهم ركعا وسجودا عندما يصلون له، ويقفون مخبتين قانتين يقرأون كتابه وهم يصلون له، وهم ليسوا معصومين، فهم يتبعون نبيهم صلى الله عليه وسلم فى طلب الاستغفار من رب العالمين: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم). هذا الجهاد حبله يطول، وهذا الامتحان يتكرر كل يوم، كل شهر، كل عام، إنه امتحان متكرر، وما بد من أن يثبت أهل الحق فيه لأن السورة هنا تقول: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) الاختبار لا بد منه، ويقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فى هذه السورة: ممكن أن أعرفك المنافقين ولكن دع التكاليف تكشف عنهم فإن المنافق يتكاسل عن الصلوات، يضيق بإعطاء المال فى الجهاد والزكوات، ومع ذلك ممكن أن نعرفك إياهم، ووقع فعلا أن النبى صلى الله عليه وسلم ـ يوما ما ـ خطب ثم قال: " إن فيكم منافقين فمن سميت فليقم، ثم قال: قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان، حتى سمى ستة وثلاثين رجلا ثم قال: إن فيكم أو منكم منافقين فاتقوا الله " ودائما فى كل جبهة تعمل للحق وفى كل ميدان يكون لله فيه جند فإن هناك عيونا تعمل ضدهم، أو نقلة كذبة أو صادقين يغشونهم، المقصود أن المنافقين موجودون فى كل زمان ومكان: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن ص _ ص 1(2/143)
القول والله يعلم أعمالكم) ومعنى لحن القول: إعطاء الكلمة رنينا خاصا، يقال: الأغنية تلحين فلان، الكلمات كلمات عادية، لكن إخراج الكلمة بطريقة معينة، برنة معينة، هذا شغل الملحنين (في لحن القول) فإن الذى يتربص بك السوء يقول كلاما له رنين خاص تعرف منه أنه غشاش: ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم على كل حال هذه السورة ـ بما استمعتم من آياتها ـ كانت هى النشيد الذى يقرؤه ويردده ويصرخ به المؤمنون وهم سائرون إما ليجهزوا على أنقاض الإمبراطورية الرومانية، وإما ليجهزوا على أنقاض الإمبراطورية الفارسية، وكلتا الإمبراطوريتين كانت تجمع بين الخصلتين: الكفر بالله والصد عن سبيله.. أما مجوس فارس فما كادت تبلغهم الرسالة التى بعث بها إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليؤمنوا حتى مزقوها وأصدر " كسرى " خطابا لرجال الشرطة بأن يجيئوا له بكاتب الرسالة ومن بعث بها ليقتل فى (المدائن) !! طبعا مزق ملك الرجل، قتله ابنه، وضاعت الإمبراطورية الفارسية، وذهبت فى خبر كان… ومن الذى أضاعها وهدمها وأقام العدل الإسلامى مكانها؟ العرب الذين أدبهم الإسلام.. وجدنا " ربعى بن عامر " ـ بدوى من البدو ـ لما تثقف بالقرآن الكريم وقف يقول لحاشية كسرى: " إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا الى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام " هذا رجل تخرج من مدرسة القرآن.. ثم وجدنا الإمبراطورية الرومانية لما شعرت بأن الإسلام يزحف فى الشمال ويريد أن يصل بطريق الدعوة الى كل مكان فى الشمال، فى الشمال من؟ الرومان، محتلون لمصر، محتلون للشام، محتلون لأماكن كثيرة، فلما بدأ زحف الدعوة شمالا بدأ الرومان يقتلون الدعاة "، بل قتلوا رجلا يحمل رسالة من النبى عليه الصلاة والسلام ص _ ص 2(2/144)
إلى أحد أولئك الولاة ، والرسل لا تقتل، ولكنها استهانة بالإسلام، فكانت معركة مؤتة ثم معركة ذات السلاسل ثم معركة تبوك، والملفت أن هذه المعارك- مع الدولة الرومانية التى تعتنق النصرانية- تدرس للمسلمين بغباوة فما يقال: إن المسلمين قاتلوا الرومان ولا قاتلوا النصارى المعتدين المعوقين لسير الدعوة.. كل ما يقال: والتقى المسلمون بأعدائهم فى مؤتة وقتل فلان وفلان، وانتهى الأمر، أى تدليس هذا؟! أى تعليم هذا؟! بعد غزوة تبوك عاد النصارى والرومان مرة أخرى لمحاولة ضرب الإسلام وتهديد الدعوة فى الشمال فاضطر النبى عليه الصلاة والسلام الى أن يعد جيشا بقيادة أسامة بن زيد رضى الله عنهما، الذى قتل أبوه- زيد- فى مؤتة، الابن حل محل الأب.. أخرج فقاتل من قتلوا أباك.. اخرج فقاتل من عوقوا الدعوة.. أخرج فقاتل الذين صدوا عن سبيل الله.. ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخرج جيش أسامة فأنفذه أبو بكر رضى الله عنه، فنحن قاتلنا، وما نقول إلا أننا قاتلنا، ولكن من الذين قاتلناهم ؟ من الذين كانوا يقرأون سورة القتال ـ سورة محمد عليه الصلاة والسلام؟ لقد كانت السورة ـ سورة القتال ـ تضم هذه المعانى، وأحسب فيما أظن أن تسميتها بمحمد صلى الله عليه وسلم كأنها لغرض أن النبى الذى يمثل غضب الأحرار إذا حاول عبيد الأرض استغلالهم، غضب المؤمنين أصحاب الحق إذا حاول المخرفون من عبدة الأوهام أن يشردوا خطوهم كان محمد عليه الصلاة والسلام تجسيدا لمقاومة الحق فى هذه الدنيا أمام باطل استأسد وظن أن أحدا لن يقاومه حتى جاء النبى العربى الخاتم صلى الله عليه وسلم فقلم أظافره، وكسر أنيابه، وعرف العالم أن للحق رجالا يحيون من أجله ويموتون فى سبيله !! هذه سورة محمد صلى الله عليه وسلم. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _ ص 3(2/145)
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). أشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام النبيين وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: وأنا أقرأ تفسير سورة القتال وأقارن بين تاريخ الأسلاف العسكرى والثقافى وبين عصرنا الحاضر وجدت أمورا هى كما قيل: شر البلية ما يضحك !! الإسلام الآن مظلوم بن نوعين من الناس: محترفين من أهل الدين لا علم لهم، وكذا بين ممن اشتغلوا بالكتابة والكلام عن الإسلام ولا علم لهم !!. قرأت فى كتاب عليه أسماء بعض الدكاترة، لا أدرى دكتور أطفال، دكتور بنج، دكتور دم، دكتور " بلاء أزرق " كلام فارغ مكتوب فى هذا الكتاب، ماذا قيل فى هذا الكتاب؟ حتمية تأويل آيات القتال فى الإسلام؟ قبح الله وجهك !! آيات القتال فى الإسلام تؤول كلها؟ لماذا؟ فى أى ظرف؟ فى مقتلة المسلمين بأوغندا ؟ فى مقتلة المسلمين بسوريا؟ فى مقتلة المسلمين بالفلبين؟ " فطانى " فيها خمسة ملايين ـ فى تايلاند ـ يدوخون الآن والعالم الإسلامى مبنج لا يدرى !! ويأتى واحد يكتب كتابا عليه أسماء ثلاثة دكاترة يقول فيه ! تؤول آيات القتال !! كيف هذا (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم) يعنى قتلوا الشهوات !! الله !! الله !! الكلام قبلها: (فإذا لقيتم الذين كفروا ص _ ص 4(2/146)
فضرب الرقاب) رقاب من؟ رقاب الشهوات؟! (فقاتل في سبيل الله) أى قاتل الهوى !! يقول الله: (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون * ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين * قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم) هل هذا قتل شهوات وأهواء؟ هذا كلام قاله رجل ملحوس اسمه: ميرزا غلام أحمد، فى الهند، فى بلد قاديان، تكلم هذا الرجل عن الإسلام ليبطل الجهاد لحساب إنجلترا، ينقل هذا الكلام الآن فى بعض الكتب ويمضى عليه بعض الدكاترة؟ ما هذا الهوان الفكرى؟ هذا كلام حشاشين !! هذا الهوان الفكرى ينشر ثم نجد ناسا ممن ينتسبون إلى الإسلام يقفون ببرود أو بجهالة لا يدرون كيف يردون على هؤلاء؟!. اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر! (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _ ص 5(2/147)
أسباب النصر وأسباب الهزيمة خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه 23/11/1973 الحمد لله رب العالمين، والعاتبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فقد اتفق علماء المسلمين على احترام قانون السببية، وربوا عليه تلامذتهم، وأشاعوه بين العامة والخاصة، وبينوا للناس أن الله عز وجل رتب شئون الحياة وأقامها على سنن لا تنخرم، وقواعد لا تعوج، وأنه جل شأنه لم يدع الحياة تمضى سدى بغير حكمة ولا على رسلها دون ضابط يسدد طريقها، ويوضح هدفها، وعلى هذه القاعدة من احترام الأسباب والمسببات. يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم عند القتال: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة). واحتراما لقانون السببية يقول الله للمسلمين: (يا أيها الذين آمنوا ص _ ص 6(2/148)
خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا). أى قاتلوا جماعات أو أفرادا وفق ما تملى به تعاليم الحرب ونظم القتال. واحتراما لقانون السببية رأينا يوسف عليه السلام يوصى المصريين عندما قرروا أن يدخروا حبوبهم لأيام المجاعة، قال: (فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون). ومعنى إبقائه فى سنابله ألا يتعرض للسوس والله عز وجل يقول: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) فكان التطهير بالماء لا بالوهم . المهم أن احترام قانون السببية شئ مقرر فى ديننا لا خلاف بين العلماء والفقهاء وغيرهم فى هذه الحقيقة. ومع احترام قانون السببية، فإن الله جل شأنه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم ولكل مؤمن معه: (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا * رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا) ويقول للمكافحين المجاهدين الذين يقاومون الباطل، ويقارعون الجبروت: تحملوا واصبروا، ويجرى على ألسنتهم هذا القول: (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون). ما السبب فى أن نؤمر باحترام قانون السببية، ثم نؤمر بالتوكل؟!. الجواب واضح، واضح جدا، ومعروف عند علماء المسلمين وعامتهم وخاصتهم، ذلك أن الإنسان ليس ملك كل شئ فى جسمه ـ فى جسمه هو ـ إن حركة أمعائه ليست ملك يده، إن حركة غدده ليست ملك يده، إن دقات قلبه ليست ملك يده، فإذا كان الله جل شأنه هو الذى يملك هذا الجسد ودقات قلبه وحركات رئتيه زفيرا وشهيقا، فمعنى ص _ ص 7(2/149)
ذلك أنه قادر على أن لا يتمم للإنسان ما بدأه !! ولذلك يقول: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه). قد تعزم على شئ عزما مؤكدا، وتنويه نية موثقة، ولكن الذى يملك دقات قلبك يوقفها !!. هل تستطع أن ترد الموت يوم يجيئك؟! لا، ويحسم الموت كل شئ، ليس ضروريا أن يحول بينك وبين غرضك بالموت، بل يستطع أن يحول بينك وبين غرضك بتغيير نيتك!! وما أكثر ما نلحظ فى الدنيا أن الإنسان قد يكون حارا وهو يبدأ مشروعا، ثم يفتر، أو ناشطا، ثم يكسل، أو مصمما، ثم تتراخى إرادته وتنفك عزيمته !!. هذه مسألة معروفة، ويقول فيها على بن أبى طالب رضى الله عنه: " عرفنا الله بفسخ العزائم ونقض العقود ". شئ آخر لا تبلغ به الأسباب نتائجها إلا فى حماية الله ورعايته إن هناك أسبابا كثيرة ليست ملك أيدينا تقع فتعكر الأسباب التى نملكها، افرض أنك خارج من بيتك لتصل إلى عملك، إنك لا تستطع أن تقول إنك تضمن الجو، فقد تمطر فتتعطل المواصلات، وقد تمضى فى طريقك وفجأة يصطدم بك شئ فيمنعك من الذهاب، أو يسقط عليك شئ من أعلى فيصيبك، ويقول فى هذا الشاعر: لا تلم كفى إذا السيف نبا صح منى العزم والدهر أبى يقع كثيرا هذا، ومن هذه المفارقات وهذه الملاحظات وجب على الناس أن يجمعوا كل ما يملكون من أسباب، ثم يتوكلوا على الله لكى يتمم لهم ما نسقوا، ويحفظ عليهم ما جمعوا، ويبلغ بكل شئ هدفه الذى نطلبه له. هذه؟ قلت حقائق تمهدت فى ديننا، وعرفها الأولون والآخرون، ص _ ص 8(2/150)
وعلى ضوء هذا وقع كثير من الخير فى الحرب الأخيرة التى دارت بيننا وبين أعدائنا . ولست من هواة جمع الغرائب، ولست ممن يتعشقون الخيالات البعيدة عن الحقائق، ولكنى اتصلت بكثير واتصل بى كثير من الذين عبروا القناة وقاتلوا اليهود، واستطعت أن أجع معلومات كثيرة . منها: أن موجة من الإيمان الجارف والتعلق بالله والاستنجاد به، والتوكل عليه غمرت أفئدة المقاتلين، وانتقل الإيمان من قلوب واثقة إلى قلوب كانت فارغة، فانتظم الجميع فى موكب يعتمد على الله، ولذلك كانت صيحات الله أكبر فى صحراء سيناء تتردد أصداؤها بين الوهاد والنجاد، بين الآفاق الرحبة والصحراء الممتدة، وكان لذلك أثره فى إقدام الجنود وتحملهم التضحية . إن حماس اليقين غمرهم، فكان بعضهم يجرح فما يحس بجرحه، وكان بعضهم يتحمل المصاعب ساعات متتالية، ومع ذلك فما نال الضنى من أعصابه ولا أوهن من جلده!!. وسمعنا فى ذلك أن طيارا سقط في لبنان، وأسرع إليه الأهالى، فلما عرفوه عربيا قدموا إليه الماء والشراب، فقال: إنى صائم وأريد أن أعود إلى دمشق كى أستأنف القتال مرة أخرى !!!. إن اليهود اكتشفوا الجو الجديد فى الجيش، فقد كانت خبرتهم القديمة أن المصريين أتباع شهوات وأحلاس أهواء، فأصدر اليهود أمرا إلى جيش من فتياتهم كى يدخل المعركة ويستسلم !!. ونظر الجنود الذين كانوا من وقت قريب يرسلون صيحات التكبير تشق أجواز الفضاء، ووجدوا الفتيات اليهوديات أمامهم وهم شبان، فمادا صنعوا؟ قتلوهن وأرسلوا الجثث إلى الجانب اليهودى!!. حتى يعلم أولئك أن الشهوات لا تفتك بجيش قرر أن ينتصر معتمدا على الله !! ص _ ص 9(2/151)
وقال لى كثيرون: تحملنا البلاء فى " السويس " عندما حوصرت، وسألت بعضهم- وأنا أعرف السويس، وخطبت كثيرا فى جامع الشهداء- قلت له: كيف حال مسجد الشهداء؟ قال: كاد اليهود يصلون إليه، وقاومنا وبذلنا جهدا إلى العصر، وأمكن أن ينسحبوا. قلت: كيف غلبتموهم؟ قال: والله ما ندرى!! قاومنا ومعنا بعض " الدانات " الفارغة والبعض الملئ، وأمكننا أن نحدث شيئا من الجهد انسحب هؤلاء من بعده وقد أوقع الله الرعب فى قلوبهم!!. قال: وعجنا الدقيق بماء الملح وتحملنا وكدنا نشرب ماء المجارى لولا أن الله فجر بئرين فأمكننا أن نرتوى، وكنا قبلا نكاد نهلك عطشا!!. وقال لى آخر: إننا كنا نصعد الحاجز الترابى ـ وهو حاجز متعب ويحمل أحدنا على ظهره حملا ثقيلا، والتوت قدمى تحتى فتعبت كثيرا، ولكنى قاومت، ونظرت فقلت: لو أن يهوديا أمسك بندقية لحصد أولئك الذين يتسلقون، فكيف أعماهم الله عنا؟!!. هذا شئ قاله المقاتلون، وقال أحدهم: كنت أرسل القذيفة، وحدث فى ساعة أن أخطأت مرماها فتغيظت، فإذا هى تصل إلى مكان آخر سرى، فيه لليهود أسلحة، فتفجرت وضاعت!!. كان القدر من وراء هذا كله، وكان النصر من عند الله، لكنى استغربت إذ وجدت أن كاتبا من الكتاب نشر كلاما تأملته، وقلت: يجب أن تعرف خبايا هذا الكلام وأن تكشف، لأنه يقول فى منطق لا تنقصه صراحة: إن جنودنا قاتلوا وانتصروا، وكان يجب أن ينتصروا، لا دخل لشئ وراء جهودهم !! لا إله، لا توفيق إلهى، لا ملائكة، لا تثبيت من ملائكة، لا شئ من هذا كله، هؤلاء انتصروا لأنهم جمعوا الأسلحة واستطاعوا أن ينتصروا بها!!. المقال الذى بين يدى، مقال تضمن ثلاث نقط. النقطة التى ينكر فيها تدخل القدر، يقول: " انتصرنا بالعلم والإيمان. ما العلم؟ هو الإعداد الصامت والدءوب والتدريبات الشاقة، ما الإيمان؟ هو الرغبة ص _170(2/152)
فى تحرير الأرض، الرغبة القوية فى تبديد خرافة الجيش الذى لا يقهر. النقطة التى يبنى عليها المقال أن التفكير فى أن هناك إلها أيد أو قوى الجند تفكير غير عقلى !!. أريد أن أوضح أن هذا الكلام ليس جديدا، الكلام الذى كتبه أستاذ الجامعة هنا ليس جديدا، هو كلام لو تأملتم فيما ترويه العامة من نكت لعرفتم أن الرجل إنما يتبنى فلسفة " جحا "!!. أنتم تعلمون أن " جحا " ذهب إلى السوق ليشترى بهيمة، فسأله سائل أين تذهب؟ قال: إلى السوق لأشترى بهيمة، فقيل له: قل: إن شاء الله، قال: لماذا أقول إن شاء الله؟ الفلوس فى جيبى والبهائم فى السوق!!. لا إله، ولا مشيئة، تفكير " جحا " الذى يرويه العامة هو الذى تبناه "فؤاد جحا" الذى يشتغل أستاذا فى الجامعة، يقول: نحن انتصرنا؛ لأن الأسلحة فى أيدينا ولأن الرغبة متوفرة فى إدراك النصر، أما الإله، وأما القوى الغيبية فهذا كلام غير عقلى، كدت أقول للكثيرين الذين جاءونى أقرأت ما نشر؟ كدت أقول لهم: رجل يقرر فلسفة " جحا " ويريد أن يدرسها للناس ! لكن وجدت الأمر هكذا سيجعل الأمة تنتكس انتكاسات خطيرة، لماذا؟ لأنى وجدت اليهود يعلمون أولادهم دينا، ففى " سفر التثنية " فى الإصحاح رقم (20) من العهد القديم، يقول الله لليهودى ـ كما يروى العهد القديم ـ إذا خرجت للحرب على عدوك ورأيت خيلا ومراكب قوم أكثر منك فلا تخف منهم لأن معك الرب إلهك الذى أصعدك من أرض مصر ـ يعنى نجاك من ظلم فرعون ـ وعندما تقتربون من الحرب يتقدم الكاهن ويخاطب الشعب ويقول لهم: اسمع يا إسرائيل أنتم قربتم اليوم من الحرب مع أعدائكم فلا تضعف قلوبكم، لا تخافوا ولا ترتعدوا ولا ترهبوا، لأن الرب إلهكم سائر معكم كى يحارب عنكم أعداءكم. ص _171(2/153)
قلت فى نفسى: العهد القديم يقول لكل يهودى ادخل المعركة والله معك سينصرك، ونحن هنا فى مصر يكتب " فؤاد جحا " فى صحيفتنا الكبيرة: أيها المصرى ليس هناك إله ينصر!!. يحاربنا هناك عدو يعتمد على الله، ونحارب نحن هنا بتوجيهات أن الاعتماد على الله تفكير لا عقلى !!. هذه واحدة، شئ آخر، فى العهد القديم فى " سفر التثنية " أيضا فى الإصحاح رقم (9) يقول الله: لأجل إثم هذه الشعوب يطردهم الرب من أمامك يا إسرائيل، ليس لأجل برك وعدالة قلبك تدخل لتمتلك أرضهم، بل لأجل إثم هؤلاء الشعوب يطردهم الرب إلهك من أمامك ". معنى الجملة ـ وهى جملة خطيرة ـ ليس أيها الشعب الإسرائيلى لأنك طيب أو تقى أنصرك، بل لأن الشعوب التى حولك آثمة مذنبة أنا أملكك أرضها!!. هذا ما يقال هناك، وهنا ينشر فى بلادنا أنه لا إله، وأن الحياة مادة، وأن فلسفة " جحا " التى ينكت المصريون بها أصبحت فلسفة يتبناها أستاذ جامعى. هذه واحدة أحببت أن ألفت النظر إلى المفارقة والتناقض بين الدولة التى تبنى على الإيمان هناك، وبين ناس من سماسرة الأقلام وعملاء الأعداء يشتغلون هنا لتفريغ القلوب من الإيمان وإشعار الناس بأنه ليس هناك إله نصر، ولا ملائكة ثبتت. إذا قال الله: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان) جاء تلميذ "جحا " ليقول لنا: لا ملائكة، ولا رعب فى القلوب. وهذا الكلام يسمى فلسفة عقلية، والإيمان تفكير لا عقلى، وينشر هذا اللغو فى الصحف القذرة التى يصدرها الاتحاد الاشتراكي فى بلادنا. ص _172(2/154)
هذه هى النقطة الأولى فى هذا المقال، النقطة الثانية فى هذا المقال أنه يقول:إسرائيل دولة رجعية، لأنها تقوم على الدين، أما الدول التقدمية فهى التى لا تقوم على الدين، ويقول الرجل- ببلاهة غريبة- فى وسعنا أن نستغل الميول العلمانية القوية التى تسود المجتمعات الغربية، لكى نحارب إسرائيل بسلاح لن يكلفنا شيئا، ولكنه فى نظر العقول المستنيرة سلاح فعال!!. إن الدعوة لإقامة إسرائيل سياسيا بدأت من خمس وسبعين سنة، ولكنها فى العهد القديم الموجود الآن بدأت من أربعة آلاف سنة، فمن قال فى العالم كله: إن دولة إسرائيل دولة رجعية، لأنها قامت على الدين؟ جاء نائب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية هنا وقال: إن إسرائيل هى نافذة التقدم فى الشرق الأوسط!! ورأينا العجوز التى تقود إسرائيل تذهب إلى أمريكا، ورأيت صورة رئيس الولايات المتحدة وهو يحييها وقسمات وجهه مسرورة، أساريره مستبشرة، كل حركة فى بدنه وفى ذراعه وهو يرفع يده ويضعها بتوقير إلى جانب أذنه وفى أعلى رأسه احتراما للمرأة التى تقود إسرائيل، كل هذا يدل على منتهى الإعزاز والإكرام. من قال إن قيام إسرائيل على الدين جعل أمريكا تحتقرها؟ من قال إن قيام إسرائيل على الدين جعل أوربا تحتقرها؟. إن قرار مجلس الأمن الذى نطالب بتحقيقه يجعل لها حدودا آمنة، ويقيمها طوعا أو كرها على أنقاضنا. إن روسيا التى لا تؤمن بدين اعترفت بإسرائيل وتستبقيها إلى الآن. وقد كتب " وايزمن " فى مذكراته ـ وايزمن مهندس يهودى اخترع سلاحا خطيرا وأهداه للجيش الإنكليزي، وأخذ ثمنه اعتراف إنجلترا بوطن قومى لليهود ـ كتب " وايزمن " فى مذكراته بتواضع، يقول: لا تظنوا أنى أنا الذى أقمت الوطن القومى اليهودى، إن " لويد جورج " و" لورد بلفور " وغيرهما من ساسة إنكلترا كانوا يصدرون عن روح دينية عندما ص _173(2/155)
أقروا بوطن قومى لليهود فى فلسطين، كانوا يحترمون مقررات العهد القديم التى يرجعون إليها !! العالم كله الآن يريد أن تبقى إسرائيل داخل حدود أكلتها من كياننا أكلا، وقضمتنا بأنيابها قضما، ولم يقل أحد إن إسرائيل فكرة رجعية، لا روسيا التقدمية، ولا أمريكا اللاتينية، ولا الولايات المتحدة البروتستنتية، لم يقل أحد منهم إن تعلق إسرائيل بالدين يعتبرها رجعية. الذى يراد أن يقال: إن الرجعية هى شئ واحد هى أن يتعلق العرب بالإسلام. لقد كتبت هذه الصحيفة أن اختراق " خط بارليف " مستحيل، محرر هذه الصحيفة كاد يلقى اليأس فى قلوب المسلمين والعرب والمصريين خاصة، وأخذ يصف الساتر الترابى وطوابق الأسلحة وما زودت به هذه الحصون من غرائب الاستحكامات، ومع ذلك فإن الذى حدث أن خط بارليف ضاع، من الذى هدمه؟ هل " هتلر " بترسانة الأسلحة التى صنعتها العقلية الألمانية العبقرية؟. هل العبقرية المصرية فى صنع الأسلحة وضرب الاستحكامات هى التى دمرت هذا الخط؟. إن أسلحتنا دفاعية، ولا يزال الناس إلى الآن يعجبون كيف أن فرقة من المشاة المصرية هى التى تمزق فرقة المدرعات اليهودية؟ هذا خارق للعادة جعل الناس يشعرون بأن قوى كبيرة تعمل معهم، وأن الإيمان رفعهم إلى مستوى كانوا به أهلا للنصر، إلا أن المشكلة الكبرى أن الصحافة فى بلدنا لا ترتفع إلى هذا المستوى من الإيمان ولا تحسن أن ترتفع إليه. ولنسأل أنفسنا السؤال الحاسم الأخير، تقول: إننا بجمع الأسلحة والرغبة فى القتال انتصرنا، وتقول: إن أولئك المؤمنين لا يعرفون العقل، لماذا؟ لأنه بلغ من هوسنا نحن المؤمنين أن قلنا: إننا انهزمنا سنة 1967، لأننا كنا ابتعدنا عن طريق التقوى، هذا هوس منا، كيف نقول: إن سبب الهزيمة ابتعادنا عن طريق التقوى؟ ص _174(2/156)
وأريد أن أقول: نعم كان سبب الهزيمة الابتعاد عن طريق التقوى، لأن القيادة يومئذ كانت لا تتقى الله. إذا كانت التقوى؟ تصور " فؤاد جحا" هى اللعاب الذى يسيل،، أو حبات المسبحة التى تصطك فى أيدى الغافلين، فما يقول أحد إن هذه هى التقوى، انعدام التقوى كما درسنا ودرس لنا هو انعدام الشرف والأخلاق واليقين فى الله والضمير الحى الذى يعصم عن الدنايا، انعدام التقوى معناه: تسلط الهوى على الشخص فيتحول الشخص به عابد نفسه، يتحول الشخص به تبعا لمعاصيه لا لقيمه ومثله. فى المعركة الأولى سنة 1967 كانت تقوى الله جريمة!! قسم العالم العربى قسمان: قسم تقدمى وهو القسم الذى يقترب من التيار الروسى، وقسم رجعى وهو الذى يحرص على الكتاب والسنة، ويتمسك بتاريخه و تراثه. وانطلق الدجالون يطعنون فى ملوك الإسلام ورؤساء الإسلام الذين ليسوا تقدميين، طعنا فى دينهم وأمانتهم وشرفهم، وهددنا بنتف لحاهم! لماذا؟ لأنهم مؤمنون، وبينت الأيام أنهم مؤمنون.. يقول الملك " فيصل " للمراسل الأمريكى: أنا رجل كبرت سنى، وأريد قبل أن ألقى ربى أن أصلى فى بيت المقدس، أريد أن أسترجعه!!. وهو الآن يقود مع شيوخ الخليج الذين لم تنتف لحاهم، ولم تحلق ذقونهم يقودون جميعا حرب البترول!! ما عيب هؤلاء؟ لماذا خسرناهم؟ أكان هذا تقوى؟ أكان هذا صلاحا؟ أكان هذا خلقا؟ أكان هذا ضمير إنسان يتقى الله فى شعبه؟ ثم ماذا صنعنا فى الحرب؟ الحرب تحتاج إلى كفايات.، تحتاج إلى رجال، لكننا كسحنا الكفايات، من قدم الولاء والذل والملق لنا قربناه، ومن كان رجلا شهما مؤمنا أبعدناه، فإذا اكثر الجيش ممن ذرب وربى وتعلم يزج ليشتغل فى المكاتب والخازن والشركات، ويبقى القليل الذى لا يحسن شيئا، يقول وزير الحربية يومئذ وهو نزيل السجن الآن- عندما تعبت دخلت بيتى وشربت كأسين من الويسكى! لعنة الله عليك، أبهذا تتقرب إلى الله لتنتصر؟. ص _175(2/157)
وقائد آخر يفر ويقول: ذهبت إلى فلان لأضحكه!! لأن إضحاك. الرؤساء طريق القرب منهم!! أهذه تقوى؟. ثم ماذا؟ ما وضعت خطة !! الجيش الذى خرج ليقاتل لم توضع له خطة، لأن الله طمس على قلوب أولئك الزائغين الطائشين فلم يحسنوا شيئا، إن الصناعة الوحيدة التى أتقنوها كانت صناعة الكذب!!. ثم ماذا؟ ثم يرسل الراقصون والراقصات والمغنون والمغنيات إلى الجبهة !!. شباب فى التاسعة عشرة وفى العشرين وفى الحادية والعشرين محرومون موجودون بالجبهة كى يستعدوا للقتال، ترسل إليهم امرأة تهز أردافها ونهودها !! لم؟. ثم تكون النتيجة أن تضرب طائراتنا كلها على الأرض، لأن الذين يركبونها ناموا بعد حفل ساهر راقص سكير!! رب أصباح محزنات يطرقها المرقص اللعوب وهذا ما حدث، كانت تقوى الله معدومة، فكانت النتيجة ما رأينا، لم كانت القيادة أيها الشيوعى فى يدك سنة 67 ففضحتنا، سبعة آلاف سنة تاريخ هذه الأمة ما قال أحد فى جيشها إنه جبان، لكن لما توليت أنت القيادة بكفرك وضلالك فضحتنا !!. كان اليهود طول امتداد التاريخ جبناء، من الذى جرأهم وعلمهم أن يكونوا شجعانا؟ أنت بجبنك وخستك وما صنعت لأمتك !!. هذا المقال من ثلاثة عناصر، العنصر الأول: لم يقال: إننا انهزمنا سنة 67 لانعدام التقوى؟ هذا لا يجوز أن يقال، وقد علمتم أننا انهزمنا سنة 67 لأن القيادة كانت ماجنة فاجرة، تحمل الجيش المسكين عبئها، ودفعنا الثمن عشرين ألف شاب قتيل على الأقل!! ولطخ جبين المصريين بالوحل. لم؟ لأن انعدام التقوى هو الذى قاد المعركة، فإذا قادت التقوى المعركة قلتم اليوم لا تقوى. ما هذا؟!. ويقول الكاتب كلاما مضحكا ذكره العلماء فى كتبهم ودرسه العيال ص _176(2/158)
الصغار فى الأزهر، يقول: إذا كان الجيش قد انهزم لانعدام التقوى فى سنة 67 فهل كان اليهود أتقياء؟. والجواب واضح، فالصحابة بقيادة نبيهم صلى الله عليه وسلم هزموا فى معركة " أحد " والذين هزموهم كانوا عباد أصنام، فهل كان عباد الأصنام أقرب إلى الله من الموحدين؟ طبعا لا، ولكن الله يحاسب كل فريق بميزان خاص، لكل إنسان، حساب خاص. عندما أرسل عمر بن الخطاب رضى الله عنه تعليماته إلى قائده سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه فى جبهة فارس، قال له: إنى آمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا من المعاصى منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. لماذا لأن الله يحاسب كل إنسان حسابا خاصا، عندما أرسل شخصا إلى الجامعة ويترقى فى سلك الدراسة، ثم يرسل حكما غبيا على هذا النحو، فإن له حسابا خاصا غير حساب رجل الشارع الذى ليست له تجربة ولا معرفة، لا ثقافة. إن الله يحاسب بقدر ما يعطى من علم، فإذا كان قد شرفنا بالقران والسنة فيجب أن نرتفع إلى هذا المستوى. كتبت يوم أقصيت مراكز القوى وذهب عدد من الشيوعيين إلى السجن، كتبت أقول: بعد أن أكد رئيس الدولة أن الحريات ستعود وأن الحقوق ستصان، وأن القانون سيسود، و لن تغل يد عن عمل شريف، و لن يكمم فم عن كلمة حق، ولن يؤذن لصغير أن يتطاول ولا لمنحرف أن يجور، قلت: استقبلنا هذه المعانى والأنفاس تكاد تختنق لما عراها من ضيق، فكانت هذه الكلمات نسائم منعشة تتسلل خلال جو رهيب مقنط، كانت بوارق رجاء توحى بالخير، أحس لشعب المصرى، أحس القابعون وراء السجن الكبير أن العصابة التى تسومهم سوء العذاب بدأت تتلاشى، وقلت يومئذ: إن إذلال الشعوب جريمة هائلة، وهو فى تلك المرحلة من تاريخ المسلمين عمل يفيد العدو ويضر الصديق، بل هو عمل لحساب إسرائيل نفسها، فإن ص _177(2/159)
الأجيال التى تنشأ فى ظلمات الاستبداد الأعمى تنشأ عديمة الكرامة، قليلة الغناء، ضعيفة الأخذ والرد، ومع اختفاء الإيمان المكين، والخلق الوثيق، والشرف الرفيع، ومع شيوع النفاق والتملق والدناءة، ومع هوان أصحاب الكفايات وتبجح الفارغين المتصدرين مع هذا كله لا تتكون جبهة صلبة، ولا توجد صفوف أبية باسلة، وهذا هو أمل إسرائيل عندما تقاتل العرب لأنها عندئذ ستمتد فى فراغ وتشتبك مع قلوب منخورة وأفئدة هواء، والواقع أن قيام إسرائيل ونماءها لا يعود إلى بطولة مزعومة لليهود، ولكنه يعود إلى عمى بعض الحكام العرب المرضى بجنون السلطة، وإهانة الجماهير، لو أنصف اليهود لأقاموا لهؤلاء الحكام تماثيل ترمز إلى ما قدموا لإسرائيل من عون ضخم ونصر رخيص !!. سيناء ثلاثة أضعاف الوجه البحرى فقدتها القيادة الفاجرة فى أربع وعشرين ساعة!! لم؟ إذا كان الشيوعيون، إذا كان الملحدون سيتطاولون فى هذه الأيام فإننا سنعرى سوءاتهم، سنكشف عوراتهم، سنفضح ما فعلوا بنا وبأمتنا. إن الأمة خرجت من هذه المعركة تحترم الإيمان، تحترم " الله أكبر " فإذا تحرك الآن من يريد أن يرد الأمة إلى الكفر، ومن يريد أن يعبث بيومنا ومستقبلنا فلن نقبل هذا، وسنموت دون أن يضيع الإيمان من بلدنا. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _178(2/160)
الخطبة الثانية الحمد لله (... الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إلى إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل، لقد نبهتكم إلى أن معركة الإسلام بدأت، وتقترب نتائجها، نبهتكم إلى أن الكسب الذى أحرزته قضايا الإيمان فى هذه المعركة كبير، وأن أعداء الإيمان سيبذلون جهودا لجعل الأمة ترتد عن دينها، وتفقد أرباحها، وأريد أن ألفت النظر إلى شئ، فى زمان مضى كان طريق الشهرة أن يطعن فى الإسلام، وأن ينكر وجود الله، وأن تنكر قداسة القرآن، كان ذلك أقصر طريق إلى الشهرة. نرجو أن ينتهى هذا الوهم، وأن تتعلم الأمة من الآن كيف تبصق على طلاب الشهرة من هذا الطريق. أمتنا بدأت طريق الإيمان، وكل من يحاول أن يقف هذا المد من الإيمان بالله واليقين فيه والعودة إلى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يجب أن يتلاشى وأن ينتهى. شئ آخر ألفت النظر إليه، أنا لست داعية إلا إلى الله ولا أعمل إلا لدينى، والكلمة التى أقولها الآن لمصلحة أمتنا، أنا أعلم أنه تحت عنوان الناصرية انطلقت قوافل مجنونة للكفر والضلال تطعن فى كرامتنا ووعينا، وفى الحرب ومن أعلنوها ومن أوقفوا القتال إلى آخره. ص _179(2/161)
أنا لا أعرف عنوانا إلا الإسلام، لا ناصرية ولا كلام فارغ، الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وديننا، لا شئ أكثر من هذا هذه واحدة، الشئ الثانى، أنا رجل أحترم ديني وما يوحى به، والله الذى لا إله إلا هو أقول كلمتى الآن لمصلحة أمتنا، أقول: إن بعض الناس قد يحاول إثارة شغب فى الجبهة الداخلية، عمل مظاهرات، عمل انقسامات، تعويق الطلاب عن الدراسة، إرغام القيادة على أن تستأنف القتال، كل هذا نوع من اللعب بمستقبلنا، إن الإلحاد يريد تعكير الجو داخل البلد لمصلحة الإلحاد، دعوا الأمور تمشى الآن فى هدوء، إننا نرقب ما تتخذه القيادة، الأمة العربية توحدت على أن الإسلام هدفها، إن الأمة الإسلامية مستقبلها يتصل بهذه المعركة الآن، فلا نريد أن يجرها الإلحاد إلى صفه، عندما أقول: يجب أن تنتظم الدراسة، يجب ألا نسمع لأحد يقول إضراب، أنا بهذا لا أتملق أحدا، إنما هى مصلحة دينى وأمتى، إن تحديد وقت القتال ليس إلينا. أيها الاخوة استيقظوا إن الإسلام يمكر به، وإن الإلحاد خبيث، وإن عدونا غادر، ولا أقبل حتى من رئيس دولة تريد أن تتحد معنا أن ينال منا أو أن يتهمنا بالخيانة باسم الناصرية، هذا نوع من الخبال والمراهقة السياسية. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيارة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _180(2/162)
أمهاتهم شتى ودينهم واحد خطبة الجمعة بجامح عمرو بن العاص رضى الله عنه 30/ 6/ 973 1 الحمد لله ـ رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، ولى الحمد، وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، لي النعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين. أما بعد: فقد سألنى البعض عن العلاقة بين الإسلام وما سبقه من أديان، وما نزل قبله من كتب، وعن علاقة نبيه عليه الصلاة والسلام بالمرسلين الذين قادوا قوافل البشر من قبله، وهدوا الناس إلى صراط الله المستقيم. وذلك السؤال لمناسبة ما قرأه من شبهات سطرها المستشرقون ورددها أتباعهم ممن لا يحسنون إلا التقليد الأعمى، وإلا نقل الأفكار المستوردة دون استبانة لحقيقتها. قلت له: هذا سؤال يحتاج إلى إجابة مفصلة.. ولا بأس أن يطول النفس فيها حتى نعرف حقا ما العلاقة التى تربطا بغيرنا، وما صلة نبينا ص _181(2/163)
عليه الصلاة السلام بإخوته المرسلين الذين سبقوه إلى رفع راية الحق وهداية البشر. هناك محور يجمع بين تعاليم الأنبياء كلهم، وتدور عليه هذه التعاليم على اختلاف المكان والزمان. أساس هذا المحور: أن الدين الحق يقوم على معرفة الله عز وجل معرفة صحيحة، وعلى الخضوع له خضوعا مطلقا.. بمعنى أننا يجب أن نؤمن بالله وحده إيمانا راسخا، وأن نشعر بأنه ليس له يد ولا ضد ولا صاحبة ولا ولد: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا). مع هذه المعرفة الصحيحة التى جاء الأنبياء كلهم من لدن آدم ـ أول الأنبياء ـ ومن لدن نوح ـ أول المرسلين ـ إلى خاتمهم وكبيرهم وإمامهم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.. كان هذا المعنى ـ معنى توحيد الله، وأن ما عداه عبد رق له وحده جل شأنه ـ منتشرا على ألسنة الكل، ونقله المرسلون كابرا عن كابر: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). إلى جانب هذا الإيمان الواضح.. لا بد من عمل صالح.. لا بد أن نخضع لوحى الله، وأن نسير فى الطريق التى رسمها الله لنا، وأن نتبع الخطة التى وضعها.. وفيها سعادتنا ونجاتنا.. وهذه الخطة.. خلاصتها: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا). فلا بد أن نعيش صالحين مصلحين.. ولا بد أن نعيش مؤدين للعبادات المطلوبة منا. ص _182(2/164)
وما شرع فى الإسلام من عقائد وعبادات ومعاملات وأخلاق هو صورة مكبرة لما بدأ شرعه على لسان الأنبياء الأولين من عقائد وعبادات، ومعاملات وأخلاق.. فإن الطريق واحدة والهدف واحد!! ولا بد وأن يجمع الناس بين الإيمان والصلاح.. بين اليقين والاستقامة.. بين صدق المعرفة لله وبين حسن العمل بما أمر.. إذا جمع الناس بين هذين فهم مؤمنون حقا. والجمع بين الإيمان الواضح، والعمل الصالح لخص فى كلمة واحدة هى: الإسلام!!. يخطئ بعض الناس فيتصور أن لله دينا جاء به نوح، وأن لله دينا جاء به عيسى، وأن لله دينا جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.. لا.. الدين عند الله واحد.. أركانه ومعالمه.. ما ذكرناه الآن.. هذا الدين الواحد له رجال بلغوا معناه، وشرحوا تفاصيله.. هم المرسلون.. والدين اسمه الإسلام. كلمة الإسلام وردت على لسان أول المرسلين نوح عليه السلام، وعلى ألسنة من جاء بعده.. قال تعالى: (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون * فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين). هذا نوح يقول: (وأمرت أن أكون من المسلمين). إبراهيم عليه السلام هو جذع الشجرة التى تفرع منها أنبياء كثيرون على العصور والأمصار المختلفة.. الإسلام كان شعاره: (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل). ابنه يعقوب الملقب بإسرائيل يقول الله على لسانه: ص _183(2/165)
(أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون). يوسف عليه السلام وهو أشرف أولاد يعقوب، وأجدرهم بالاحترام.. يقول: (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين). سليمان عليه السلام يرسل إلى بلقيس يدعوها إلى الدين: (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين). موسى عليه السلام كان يدعو إلى الإسلام: (وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين * فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين * ونجنا برحمتك من القوم الكافرين). عيسى عليه السلام كان مسلما يدعو إلى الإسلام: (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون). الأنبياء جميعا كانوا يدعون إلى الإسلام.. وصلة الإسلام الذى جاء به محمد عليه الصلاة والسلام بالنسبة للإسلام الذى جاء به الأنبياء من قبل صلة الإنسان بطفولته !! فأنا وعمرى خمس سنين أنا وعمرى خمسون سنة !! كل ما هنالك أن العقل نضج، وأن الجسم كبر.. ولكن أنا لم أتغير جسما وكيانا!! ص _184(2/166)
فحقائق الإسلام الأصلية موجودة فى الرسالات الأولى.. ولكنها فى القرآن الكريم نمت، واتضحت، وكثرت أدلتها، وتلاقت البراهين عليها فى وفرة وإحاطة لم تعرف فى كتاب سبق. والعقائد والعبادات والتعاليم التى استوعبها القرآن، والتى تمثل الحقيقة الضخمة للإسلام تجمعت عندنا فى سياق لا يدركه محو ولا تغيير، يكابر الزمن، ولا يجرؤ الزمن أن ينال منه!! وهذا شئ يحتاج إلى توضيح. أما أن القرآن أو تعاليم الإسلام هى ما مضى، فقال جل شأنه: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه). وقال جل شأنه: (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك). فإذا كان الإسلام دين الله، وإذا كان الأنبياء السابقون مدرسين فى مدرسة ناظرها أو مديرها محمد صلى الله عليه وسلم والكل يسعى إلى حقيقة واحدة.. فما العلاقة بين القرآن الكريم وبين الكتب السابقة؟. والجواب: لا خلاف بيننا نحن المسلمين فى أن القرآن مصدق كل التصديق للتوراة التى نزلت على موسى، وللإنجيل الذى نزل على عيسى، وللصحف التى نزلت على إبراهيم.. يقول الله فى آخر سورة الأعلى: (إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى). فإذا زكى القرآن الكتب القديمة فعلى النحو الذى شرحنا.. فالتوراة التى نزلت على موسى، والإنجيل الذى نزل على عيسى، والصحف التى نزلت على إبراهيم.. كل هذه الكتب موضع احترامنا، والإيمان بها كالإيمان بأصحابها جزء من تعاليم الإسلام، وركن من أركان الإيمان.. فى سورة البقرة فى الآيات الأولى منها: ص _185(2/167)
(والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك). هذه حقيقة لابد أن تعرف.. لكن يجئ سؤال له خطورته، أين صحف إبراهيم؟ اختفت!! انتهت مع الزمن!! أين توراة موسى؟ أين إنجيل عيسى؟. نتساءل لنجيب أولئك المستشرقين الذين يتساءلون: كيف يمدح القرآن التوراة والإنجيل؟ ويقول فى التوراة: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور). ويقول فى الإنجيل: (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين). كيف يتحدث القرآن عن الكتب التى تنزلت على أنبياء الله بهذا الأسلوب الجميل اللطيف؟ ثم كيف نوفق بين ذلك وبين موقف المسلمين من هذه الكتب؟. والجواب: أن التوراة التى نزلت على موسى كتبها الكاتبون وإن لم يحفظها الحافظون !! لأن الكتاب الوحيد الذى حفظت أحرفه عن ظهر قلب هو القرآن وحده !! أما ماعداه فما كان يحفظ بهذا النسق الفريد. التوراة بعد أن تعرض اليهود للشتات، وبعد أن دمر هيكلهم ومزقوا فى الأرض شر ممزق اختفت وضاع تواترها، ثم كتبت مرة أخرى كتابة لا نستطيع أن نقول إنها طبق الأصل لما نزل على موسى!! لماذا؟ الجواب: أن الله جل شأنه الذى وصف نفسه بالوحدانية المطلقة، وبأنه : (كمثله شيء وهو السميع البصير). ص _186(2/168)
وبأنه: (عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال). لا يمكن أن تقبل الصفات التى وجدت له فى التوراة التى كتبت أخيرا.. وكذلك الأشخاص الذين اختارهم لتبليغ رسالاته.. وهم ما يختارون عادة إلا من أشراف الناس.. ما يمكن أن تقبل الأوصاف التى وصفوا بها فى التوراة الموجودة الآن.. كيف هذا؟ يوصف الله تعالى بأنه تعب بعد أن خلق السماوات والأرض فى ستة أيام.. فاستراح فى اليوم السابع والله عز وجل لا يتعب.. قال تعالى: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب). وفى التوراة الموجودة الآن أن الله لا يعلم ما يقع فى الجنة، ولم يعرف أن آدم عصى . وفيها أيضا أن الله ندم وبكى على ما فعل ببنى إسرائيل وفيها كذلك أن الله دخل فى ملاكمة مع إسرائيل ظلت طوال الليل كأن إسرائيل هذا يشبه محمد على كلاى!!. هذا كلام لا يقال عن الله رب السماوات والأرض .. هذا كلام تافه. ثم جاءت فى التوراة صفات أخرى غريبة عن أنبياء الله.. منها أن إبراهيم قدم امرأته هدية إلى فرعون مصر كى يظفر ببعض الحمير. كأن إبراهيم هذا رجل ديوث !! وفيها أن لوطا أسكرته ابنتاه فزنى بهما وأنجب من كل واحدة منهما قبيلة من القبائل . وفيها أن داود احتال على قتل رجل من قواده أعجب بامرأته كلام فارغ لا أصل له وجد فى هذه التوراة. ص _187(2/169)
إلى جانب هذا.. فيها إلى الآن..أن الزانى يرجم إذا كان متزوجا وأن القاتل يقتل فهذه الكتب كما قال الله تعالى التبس فيها الحق بالباطل.. فيها حق، وفيها باطل.. فيها حق ما نستطع أن ننكره، فيها باطل ما نستطع أن نصدقه. والغريب أن هؤلاء بالنسبة إلى ما لديهم من حق لم ينفذوه؟!! وبالنسبة لما لديهم من باطل تعصبوا له والتفوا حوله !! فكان فسادهم مزدوجا.. ما بقى من حق أهمل، وما اختلق من باطل تعصب له!!. إذن مدح القرآن الكريم لهذه الكتب يرجع إلى أمرين: الأمر الأول: أن أصلها الذى نزل على موسى صحيح يقينا.. وهو موضع احترامنا، ونحن نؤمن بموسى النبى الرسول، ونحن نؤمن بما أنزل الله عليه . ما لديهم من كتب فيه حق قليل، وباطل كثير، نسوا الحق الذى لديهم، والتفوا حول الباطل الذى لديهم.. فنحن نؤيد الحق ونكذب الباطل، ونعتبر كتابنا المرجع الذى تحاكم إليه الصحف التى بين أيدى الناس.. فما وافق كتابنا علمنا أنه صحيح. فإذا وجد فى هذه الكتب أن الزنا باطل لا يجوز، وأن القتل منكر لا يجوز.. فهذا كلام صحيح لا نكذبه.. وإذا وجد أن الله واحد لا نكذب هذا.. إنما نكذب ما خالف كتابنا.. إذ أن كتابنا هو المرجع المهيمن الحاكم المصدق على ما قبله من كتب.. قال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق). بالنسبة إلى الإنجيل.. الإنجيل كتاب نزل على عيسى.. ولا يوجد الآن فى دنيا الناس ما يسمى إنجيلا نزل على عيسى!! اختفى هذا الكتاب كما ص _188(2/170)
اختفت الصحائف التى نزلت على إبراهيم وموسى، وما يوجد من الإنجيل فهو نتف أو نبذ كتبها بعض التلامذة الذين حضروا عليه، أو الذين لم يروه، وألفوا سيرا أو قصصا تضم حياته وبعض ما وصلهم من تعاليمه !!. وهذه الكتب كثرت.. وعلى كثرتها أو قلتها لا تسمى إنجيلا، وتسميتها إنجيلا نوع من التجوز، أو نوع من إطلاق الكلام بغير حقائقه.. لأن ما نزل على عيسى غير موجود، وما كتبه " متى، أو يوحنا، أو لوقا، أو مارقوس " لا يسمى إنجيلا. لقد كتب " ابن هشام " سيرة لمحمد عليه الصلاة والسلام، وكتبت أنا سيرة لمحمد عليه السلام.. فهل ما كتبناه نحن أو غيرنا يعتبر قرانا لمحمد عليه الصلاة والسلام؟ لا.. هذه كتب ألفها بعض التلامذة والأتباع تضمنت بعض التعاليم. فإذا نظرنا إلى الأناجيل التى تشيع الآن، وجدناها قصصا كتبها بعض تلامذة عيسى عنه تضمنت حقا وباطلا.. فأما الحق فأن الله واحد كما جاء فى بعض النصوص!! وأما الباطل فأن الله ثلاثة كما جاء فى بعض النصوص!!. فإذا. مدح القرآن التوراة أو الإنجيل فهو لا يمدح توراة وصف فيها لوط بأنه سكير وزان !!. وإذا مدح القرآن الإنجيل فهر لا يمدح إنجيلا وصف فيه الله بأنه ثالث ثلاثة!! أو أنه إنسان دخل بطن امرأة ثم قتل !!. هذا كلام. لا أصل له.. وما يمكن أن يعتبر القرآن متناقضا.. لأن الأمر كما شرحناه لكم. نحن نؤمن بموسى وعيسى، ونؤمن كالكتب التى تنزلت عليهما.. فأين هى هذه الكتب؟!! لا توجد إطلاقا، أو توجد وفيها خطأ وصواب، وفيها حق وباطل، وفيها صدق وكذب . وشئ آخر نحب أن يعرف.. سألنى بعض العامة.. يقول لى: إنه ص _189(2/171)
سمع إنسانا يقول: إن الحى أفضل من الميت.. وعيسى حى وغيره مات!!. وضحكت لهذا الكلام.. إن بعض الحمالين فى المحطات أحياء.. وبعض الأنبياء ماتوا.. فهل الحى أفضل من قمم الخليقة الذين ماتوا؟!!. كلام مضحك.. ومع هذا فأنا أحب أن أشرح الفكر الإسلامى فى هذا المجال شرحا لا عوج فيه. رئما ورثنا بعض الأقوال !، وجهلنا أقوالا أخرى.. بالنسبة إلى عيسى ابن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.. اتفقت كلمة المسلمين على أنه لم يقتل ولم يصلب!! وهذا نص حاسم فى قرآننا لم نختلف عليه.. ولكن هناك خلافا لاشك فيه عند علمائنا.. إذا كان عيسى لم يقتل ولم يصلب.. فكيف كانت نهايته؟ هنا اختلف علماؤنا.. قال بعضهم: مات موتا طبيعيا كغيره من سائر الخلق.. وقال آخرون: بل رفع رفعا لا ندريه.. كلا الرأيين موجود فى الإسلام.. ففقهاء الظاهر فى تراثنا يرون أن عيسى مات، ويستدلون على ذلك بظاهر القرآن الكريم: (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم). وابن حزم فى كتابه المحلى: يشرح هذا فيقول: كلمة الوفاة ليس لها إلا معنيان.. معنى الموت.. ومعنى النوم.. فمن قال: إن عيسى نائم فهو كاذب!! فلم يبق إلا أنه مات !! وهذا رأى فى الإسلام.. وكما اختلف العلماء هل يقرأ الإنسان خلف الإمام أم يسكت.. كذلك اختلفوا: هل عيسى مات أو لم يمت؟ كلا الرأيين موجود.. وليس هناك من حرج فى أن ترى أي الرأيين شئت. الرأى الآخر: أن عيسى لم يمت وإنما رفع بطريقة لا ندرى كنهها!! ويستدل هؤلاء بقوله تعالى: (بل رفعه الله إليه). ويرد ابن حزم ومن معه بأن الرفع هنا معنوى.. كقوله تعالى فى إدريس ص _190(2/172)
(واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا * ورفعناه مكانا عليا). وأنأ شخصيا عندما.أناقش طائفة من أهل الكتاب توصف بالتبجح أحب أن أخرسها، فأخلص من الأمر ابتداء بأن أقول لهم: لقد مات عيسى كما مات غيره من الناس، ولا أريد لجاجة، ولا أحب أن أسمع لغوا كثيرا.. لا يعنينى الآن أي الرأيين أقرب إلى الصواب.. إنما الذى يعنينى هو: أن يعرف المسلمون دينهم معرفة صحيحة، وألا يقفوا عند ظواهر بعض الآيات وقفة كما جاء أحد البسطاء إلى عبد الله بن عباس رضى الله تعالى عنهما وقال له: إن القرآن يتشابه علي.. فقال له: ويحك.. ما الذى يتشابه عليك فيه؟ قال: هناك آية تقول: (وقفوهم إنهم مسئولون) وأقرأ آية أخرى تقول: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) فقال له ابن عباس رضى الله عنهما: إنها مواقف!! يقصد ابن عباس أن المجرم قبل أن تثبت التهمة عليه يقدم إلى المحاكمة ويسأل. فإذا ثبتت التهمة بعد التحقيق وسيق إلى السجن فإنه لا يسأل. يعنى: قبل أن يبت فى الحكم: (وقفوهم إنهم مسئولون).. بعد الحكم: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان). هذا وصف لموقف.. وذاك وصف لموقف آخر!! ولا تناقض ولا تشابه. فإذا قال القرآن: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) فلا يقولن أحد: كيف تطعن القرآن فى المثلثين مع أنه مدح الإنجيل!! هذا شأن وذاك شأن آخر، ولا تشابه ولا تناقض. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _191(2/173)
الخطبة الثانية الحمد لله: ( الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين.. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين. أما بعد: أيها الأخوة: مما يذكر فى مثل هذه الأمور أن كلمة " آية " لها معنيان فى الإسلام.. فكلمة آية قد تكون بمعنى المعجزة الخارقة للعادة.. قال تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها).. فكلمة آية هنا: تعنى خارق العادة الذى يقترحه المشركون.. وكلمة آية تغنى: الجمل من القرآن كما قال تعالى:( تلك آيات الكتاب المبين). الآية هنا غير الآية هناك.. فيجئ بعض الناس ويقول: فى القرآن تناقض!! أين هذا التناقض؟. يقول: فى إحدى السور قال الله: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر) ص _192(2/174)
وفى سورة أخرى يقول: (لا مبدل لكلمات الله). والجواب: أنه لا مبدل لكلمات الله فى الآيات التى قال الله فيها : (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) أما خوارق العادات فتبدل.. فإن الله تعالى أيد موسى بمعجزة وغيرها.. وأيد عيسى بمعجزة أخرى وغيرها، وأيد محمد صلى الله عليه وسلم بآية أخرى.. وهكذا.. فأين التناقض؟ ولكنه القصور العقلى.. وطول اللسان.. لا تناقض هناك، وكذب المستشرقون والمبشرون.. وإنما يحتاج المسلمون إلى أن يعلموا دينهم، وأن يعرفوا حقائقه.. فإذا علموا دينهم، وعرفوا حقائقه، ثم مدوا أبصارهم فى الكتب الأخرى لحمدوا الله عز وجل ظاهرا وباطنا، سرا وعلنا على أن الله تعالى جعلهم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولم يجعلهم ضحايا للإفك والكذب، والتناقض المضحك فى العقائد كما وقع فى ذلك غيرهم. الحمد لله على نعمة الإيمان وتوفيق الإسلام. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، وأجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). وأقم الصلاة ص _193(2/175)
تأملات في سورة الفتح خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضي الله عنه 1/6/1973 الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد فنستعين الله فى هذه الخطبة ونتحدث عن سورة الفتح. والحديث عن هذه السورة يرجع بنا قليلا إلى أحداث سبقتها.. فإن المسلمين فى السنة الخامسة من الهجرة تعرضوا لهجوم الأحزاب على المدينة... كان هذا الهجوم كابوسا رهيبا زلزل المجتمع الإسلامى وترك المسلمين داخله يترنحون تحت وطأة حصار غامت نتائجه وصحبته متاعب شتى.. فلما حلت نعمة الله بالمسلمين وانفضت جموع الأحزاب عن المدينة بقدرة الله وحده قال عليه الصلاة والسلام معلقا على ما حدث: " الآن نغزوهم ولا يغزوننا" والمعنى: أن الوثنية فى جزيرة العرب ومعها اليهودية فشلتا فى دك المجتمع الإسلامى وخلع جذور التوحيد من تربته.. وبعد هذا الاحتشاد الذى أعدوا له واستماتوا فيه ثم تبدد أمره وانتهى بالبوار كيده.. بعد هذا نستطع ـ نحن المسلمين ـ أن نمسك بطرف المبادءة وأن نتحرك نحن لنؤدب غرنا لا لنتلقى الضربات منه: " الآن نغزوهم ولا يغزوننا" ص _194(2/176)
وبعد أن انفض الجمع من حول المدينة وأدب المسلمون " بنى قريظة " تأديبا أوقع الفزع فى قلوب الخونة مصداق قوله جل شأنه (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون * وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين). والواقع أن ناسا من أهل الكتاب حاولوا قديما ويحاولون حديثا أن يطعنوا الإسلام فى ظهره وأن يخونوا الأمة التى لم تسئ إليهم ولم تسلف شرا إلى أحدهم.. وحاولت أن تعيش معهم فى وئام.. ولكنهم لطموا اليد الممدودة وأصروا على الخصام فكان ما كان. وجاءت السنة السادسة من الهجرة والمسلمون باقون على دعوتهم.. ماضون فى طريقهم.. ماذا يريدون؟ ماذا يجعل الناس ضائقين بالإسلام؟ لم لا يكون الإسلام وجهة نظر لأصحابها، يتركهم الناس بها دون غدر، ودون مقاومة خبيثة؟.. إن المسلمين يقولون: إن الله واحد... وإن هذا الإله الواحد جدير بكل صفات الكمال.. منزه عن كل صفات النقص.. هل هذه جريمة يعتبر أصحابها أهلا لمخاصمة الناس؟ ويقول المسلمون: إن من حق كل امرئ أن يعرف هذا الإله الواحد وأن يعبده دون وساطة كاهن ولا شفاعة أحد من أهل الأرض أو السماء.. فهل هذه جريمة؟.. . ورأى بعض الناس أن الله اثنان.. وقال القرآن ردا على هؤلاء: (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون) خافونى أنا وحدى… ورأى البعض أن الله ثلاثة .. وأن الوالد قتل الولد افتداء بخطايا الخلق .. وقال المسلمون: يا عجبا !! كيف يكون القاتل والمقتول شخصا واحدا؟! إن القاتل غير المقتول بداهة وان الإله واحد، ولا يمكن أن ينشق عنه من يقتله.. هل فكر الإسلام فى أن يدخل هذه الأفكار فى أدمغة الناس بالعنف؟ لا.. انه يقول: (استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير * ص _195(2/177)
فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ) هذه وظيفتك.. ماذا فى الإسلام بعد هذا يضايق الخلق؟ لكن الذى حدث أن السنة السادسة بعد الهجرة جاءت.. والمسلمون متشبثون بإيمانهم.. مستمرون على طريقتهم.. يدعون الناس بالحسنى إلى مبادئهم.. فمن أجاب فهو أخوهم ومن رفض تركوه مادام يتركهم لا يخونهم ولا يعتدى عليهم.. وحاول المسلمون فى السنة السادسة أن يتحركوا فى المجتمع العربى.. فى أى إطار يتحركون؟ فى إطار أنهم قبيلة من القبائل العربية.. جنس من أجناس الناس.. حزب من الأحزاب يريد أن يحيا كما يحيا غيره من الخلق.. ولهذا فإن النبى عليه الصلاة والسلام أعلن أنه سائر إلى مكة ليؤدى عمرة.. ومعنى العمرة: أنه سيطوف بالبيت العتيق- تحية له- وأنه سيسعى بين الصفا والمروة، ويتحلل من عمرته، ويعود إلى مدينته، ولا شئ أكثر من هذا.. وأخبر النبى صلى الله عليه وسلم من استمع إليه فى المدينة: " أنه رأى فى منامه أنهم يدخلون المسجد الحرام ويطوفون به "! فخرج المسلمون من مدينتهم مولين وجوههم شطر مكة يريدون أن يؤدوا العمرة.. وقد ساقوا أمامهم " الهدى " هذا الهدى سيذبح لفقراء مكة يأكلون منه ويتمتعون به.. فأى حرج؟ ومضت قافلة العمرة فى طريقها الى البيت الحرام.. وحدث أن فوجئت مكة بالمسلمين وهم قادمون لأداء النسك والتقرب إلى الله بالعمرة.. فاستقر قرارهم على أن يمنعوا المسلمين.. وكان المسلمون قد استعدوا للعمرة ثم هم ليسوا بضعاف حتى يمنعوا.. ولم يعتبرون خارجين على القانون؟ ولم يعتبرون صنفا من الخلق يعامل على غير ما تقضى به القواعد المقررة فى جزيرة العرب؟ إن هذا البيت الحرام يستوى فيه الطارئ عليه والمقيم عنده.. جاره والغريب سواء.. وهو للكل وليس لواحد من المسلمين أو لجماعة من الناس أيا كان لونها.. فلم يصد الناس عنه؟ ولكن النبى صلى الله عليه وسلم لما رأى قريشا قررت منعه أراد أن تجل العقدة بالمفاوضات و جعله يلجأ إلى هذا(2/178)
الحل أنه وهو على ناقته متجه إلى مكة ص _196
حدث أن توقفت الناقة وقيدت فى مكانها فقال الناس " خلأت القصواء، خلأت القصواء،. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل " وحابس الفيل هو الله جل شأنه.. والفيل رمز لزحف الحبشة على مكة يريدون تدمير الكعبة فيها.. ولكن الله جل شأنه دمر الجيش الزاحف وقضى على الفيلة التى كانت تحمل الجند وانتهى الأمر.. ثم قال عليه الصلاة والسلام- بعد قوله " حبسها حابس الفيل، والذى نفسى بيده لا يسألونى خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم أياها " . وهنا بدأت مفاوضات عسيرة شاقة.. تذهب الوفود وتجئ دون أن تصل إلى نتيجة.. وأخيرا وبعد أخذ ورد انتهت المفاوضات إلى ما يأتى: أربعة شروط قبلها النبى صلى الله عليه وسلم وهى شروط عندما نستمع إليها تأخذنا الدهشة،لما احتوت عليه: أول الشروط: أن يعود المسلمون هذه السنة دون أن يدخلوا مكة معتمرين.. ويجيئون السنة المقبلة ليؤدوا العمرة قضاء.. أما هذه السنة فلا يدخلون مكة. الشرط الثانى: من كان يريد من مسلمى المدينة أن يرتد ويلحق بكفار مكة فلا يحجر عليه ولا يمنع من اللحاق بمكة.. أما الذى يسلم من أهل مكة ويريد أن يلحق بإخوانه فى المدينة فلا يجوز أن يستقبله أهل المدينة بالترحاب بل يردوه. الشرط الثالث: من أراد أن يدخل فى حلف محمد دخل، ومن أراد أن يدخل فى حلف قريش دخل. الشرط الرابع: تبقى هذه المعاهدة عشر سنين. وعندما بدأت الكتابة وجاء مندوب قريش وأخذ النبى عليه الصلاة والسلام يملى: " هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " ص _197(2/179)
رفض مندوب مكة وقال: لا تكتب كلمة رسول الله، ما نقر أنك رسول، محمد فقط وكان الذى يتولى الكتابة على بن أبى طالب فأبى أن يشطب.. ولكن النبى عليه الصلاة والسلام شطب بيده لقب الرسالة. وبدأت المعاهدة: بسم الله الرحمن الرحيم.. فقال مندوب قريش: لا نعرف الرحمن الرحيم اشطب.. وقبل النبى عليه الصلاة والسلام .. فلما فوجئ المسلمون بهذه النصوص خيم عليهم الصمت وأخذ شئ من الأسف والوجوم يشيع بينهم...،.. لقد تغيرت مشاعرهم النفسية.. خرجوا من المدينة وأملهم كبير فى أن يعتمروا.. لكنهم صدموا، ثم ما تضمنته الشروط من أن المسلم من أهل مكة يمنع من اللحاق بإخوته فى المدينة بينما يمكن من ارتد من المدينة أن يذهب إلى مكة.. هذا شرط فيه إذلال.. وتحرك عمر فى غضب يقول لأبى بكر: "لم نعطى الدنية فى ديننا؟ ولكن أبا بكر يقول له: " إنه لرسول الله وليس يعصى ربه، فاستمسك بغرزه، فو الله إنه على الحق " هذه هى الملابسات التى نزلت فى أحوالها وأفعالها وأجوائها سورة الفتح.. نزلت سورة الفتح لتشرح مواقف، ولتفسر مواقف، ولتبئ بمستقبل، ولتحسم الأمور فيما اشتبه على الناس من هذه القضايا كلها.. أول ما حسمته سورة الفتح من مواقف أنها فضحت النفاق.. فعندما خرج المسلمون ينوون العمرة من المدينة تحركت الريبة فى قلوب ضعاف الإيمان أو أدعياء الإيمان من المنافقين ورفضوا أن يخرجوا وقالوا: سيخرج ولن يعود.. إن هؤلاء الذين يريدون العمرة ستضربهم قريش ضربة تبدد جموعهم وتفض حشودهم وتنهى حاضرهم ومستقبلهم.. هذا ما وقر فى نفوسهم.. والمنافقون ناس أصحاب فرص.. يتحركون إن وجدوا نفعا.. ويفرون إن وجدوا خطرا.. ويعتذرون عندما تجئ الأمور على غير ما يتخيلون... ولذلك فإن السورة تحدثت عنهم فى قوله تعالى: (سيقول لك المخلفون من الأعراب) بعد عودتك إليهم ص _198(2/180)
(شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا) هو خبير بما فى نفوسكم.. نكشف مافى نفوسكم؟ نكشفه (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا * ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا) لكن ما هو الموقف مع هؤلاء مستقبلا لقد كُشف ماضيهم فما هو الموقف منهم بعد؟ (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم)! إن المنافقين عندما كانوا متوجسين من مستقبل المعركة اعتذروا وفروا.. لكن عندما يعلمون أن معركة ما مضمونة يريدون أن ينضموا إلى جيشها المؤمن كى يحرزوا ما يرتقبون من مغانم.. لكن لا.. يجب أن ينتبه المسلمون إلى هذا وأن يمنعوا أولئك من أن ينضموا إليهم أو يختلطوا بهم (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا). قيل للمنافقين: إن أردتم توبة فأخلصوا نفوسكم لله، ومحضوا نياتكم لله، وتحملوا التضحيات فى سبيل الله، ولا تكونوا أصحاب مطامع كلما لاح برقها تحركتم وكلما خمدت ريحها هبطتم (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما). هذا موقف فضح للمنافقين.. هناك موقف حُمِدَ وأُثنى على أصحابه ص _199(2/181)
وهو موقف المؤمنين.. فإنهم فى أثناء المفاوضات كان عثمان بن عفان رضى الله عنه قد ذهب إلى مكة فى محاولة لإقناع رؤسائها أن يتركوا المسلمين يحجون البيت ـ أى الحجة الصغرى يعنى يعتمرون ـ وعثمان كان رجلا محبوبا إلى الناس، وكان رقيقا نبيل الشمائل، فعرض عليه أهل مكة أن يعتمر هو.. فرفض وقال: لا أعتمر قبل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمين.. ومكثت المفاوضات مدة وانطلقت إشاعة أن عثمان قُتل.. فلما بلغ الأمر المسلمين قرروا أن يقاتلوا حتى الموت.. وبايعهم النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذا.. ونزلت الآية (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) وذلك لأن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يبايع على منفعة خاصة أو مجد شخصى إنما يبايع كى يُعبد الله فى الأرض عبادة صحيحة.. فإن العبادات المزورة ملأت القارات والكهانة الكاذبة زورت العقائد هنا وهناك.. فكانت البيعة لله.. ولذلك كان الذى يغدر بها أو يخون إنما يغدر برب العالمين ويخونه.. وتكرر الثناء على أهل البيعة وإعلان الرضوان الإلهى عليهم فى قوله جل شأنه (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم) أى ظهر علمه (فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا * ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما). هذه مواقف لطرفين متناقضين.. موقف المنافقين وقد كُشف.. وموقف المؤمنين من أهل الفداء والنجدة والتضحية وقد كُشف.. لكن الأمور تحتاج إلى تفسير.. كيف ينطلق هذا العدد ـ نحو ألف وأربعمائة ـ ليعتمروا فيردوا دون قصدهم بسهولة على هذا النحو؟ أهو ضعف من المؤمنين؟ أهو ضعف من ناصر المؤمنين؟ لا يمكن.. ومسحا ومحقا لهذه الشبهة تكرر فى السورة معنى فى عدة آيات.. هذا المعنى أن قُوى الأرض والسماء بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقول جل شأنه: (هو الذي أنزل السكينة في(2/182)
قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما). ص _200
كيف يغلب الله وكل شئ ملكه، وكل شئ جنده؟ كيف يغلب؟ ويتأكد هذا المعنى ويتكرر فى قوله: (ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما) ثم يؤكد هذا المعنى مرة أخرى فيقول فى نفس السورة: (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار) لو حدثت معركة لولى المشركون، لماذا؟ هذا هو السؤال، ولم لم تحدث وتتم الهزيمة عليهم؟ توضح السورة هذه المعافى فتقول: (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا * سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) إن هزيمة الباطل أمام الحق لابد منها ولن تتبدل سنن الله أبدا فى نهاية كل صراع بين الحق والباطل.. لكن لم لم تقع الهزيمة للمشركين؟ يقول الله: إنهم كانوا أهلا لأن تقع بهم الهزيمة.. لكن هناك سبب، لماذا كانوا أهلا للهزيمة: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما) وقبل ذلك يبين سبحانه وتعالى لم لم تحدث معركة.. يقول: إنه كان فى مكة ناس مؤمنون أخفياء.. ناس مؤمنون لا تعرفونهم.. كانوا يكتمون إيمانهم.. ولو حدث أن وقعت معركة واستُبيحت مكة وكان انتصار المؤمنين مؤكدا فى هذه المعركة.. لو حدث هذا لقتل كثير من المؤمنين: (لم تعلموهم أن تطئوهم) هذا المعنى ـ معنى أن هناك ناسا من أهل الإيمان أراد الله أن يصون دماءهم، وأن يمنع عدوان إخوانهم عليهم وهم لا يدرون ـ هذا المعنى هو الذى جعل المعركة تتوقف.. وعالم الغيب سبحانه هو الذى رسم الخطة على هذا النحو.. لكن هل كانت هذه الخطة مفيدة للإيمان ولأهل الإيمان؟ والجواب: ننظر إلى ما حدث كما كشفته الأيام وكما نبأت به سورة الفتح.. لقد بدأت ص _201(2/183)
سورة الفتح فقالت للمسلمين: الشروط التى ضقتم بها.. المعاهدة التى كرهتموها ينطق عليها قول الله تعالى: (وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) إن هذه المعاهدة فتح مبين !! فتح مبين، كيف تكون فتحا؟. والجواب: المستقبل كشف عن أن المعاهدة كانت فتحا.. فإن المعاهدة ما كادت تمضى عليها سنة وسنتان حتى كان الذين يدخلون فى الإسلام أضعاف من دخل فيه منذ بدأت دعوة الإسلام إلى أن وقعت قصة الحديبية أو نزلت سورة الفتح.. بدليل أن الذين اعتمروا مع النبى صلى الله عليه وسلم كانوا ألفا وأربعمائة فلما جاء فتح مكة فى السنة الثامنة ـ أى بعد سنتين من المعاهدة ـ كان الذين يشتركون فى الفتح عشرة آلاف!! كيف تضاعف العدد؟ والجواب: إن الناس تربصوا حين قرأوا المعاهدة، وكانت نفوس كثيرة تشعر بأن الإسلام حق.. تشعر بأن التوحيد أفضل من الشرك.. تشعر بأن منطق العقيدة كما يعرضه محمد صلى الله عليه وسلم فى قرآنه هو أفضل منطق يعرض به دين الله منذ نزل آدم إلى الأرض إلى أن يلقى الناس ربهم !! لأنه منطق واضح، ليس هناك أسهل ولا أعقل ولا أفضل من العقيدة، كما يشرحها القرآن الكريم !! الله واحد.. لا تناقضات ولا خرافات ولا أوهام.. نحن جميعا عبيده.. الرسل كلهم أخوة.. المؤمنون جميعا يمثلون حزبا واحدا.. البشر أخوة.. أى شئ فى هذا؟ فبدأ الناس يدخلون فى دين الله أفواجا.. دخلوا بكثرة فكان ذلك كسبا، لأن الإسلام بمعاهدة الحديبية اعترف به اعترافا قانونيا فى المجتمع بعد أن كان أهله ينظر إليهم على أنهم خارجون على القانون أو مبعدون عن المجتمع.. شئ آخر.. فسر النبى صلى الله عليه وسلم سماحه بأن من يترك المدينة مرتدا يخرج.. بأن من تركنا لا حاجة لنا به.. ما نستبقى بيننا من ترك ديننا.. فليذهب إلى حيث ألقت.. أما من ترك مكة موحدا واكرهه أهل مكة على أن لا يلجأ إلينا فثقوا أن الله جاعل له مخرجا وفرجا.. وفعلا فإن عشرات من المؤمنين الذين لفت النظر إليهم وأن الله(2/184)
أخر المعركة، ومنع الفتح فى السنة السادسة بسببهم. ص _202
كثير من هؤلاء خرجوا واحتلوا مكانا على الشاطئ ضربوا به تجارة قريش ضربة قاصمة.. فذهبت قريش إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى المدينة تقول له : تنازلنا عن هذا الشرط.. من ترك مكة مؤمنا بك وبرسالتك نرجوك اقبله عندك !! اقبله عندك !! لكن يبقى الحديث عن المستقبل.. الحديث عن المستقبل نزلت السورة تقول للمؤمنين: اطمئنوا لقد سمعتم من نبيكم أنكم داخلون المسجد الحرام.. ثقوا أنكم داخلون المسجد الحرام.. وما هى إلا سنة حتى دخلوا فى عمرة القضاء.. وما هى إلا سنة حتى دخلوا مكة وكسروا رأس الشرك فيها: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) النصر لابد منه.. وهو شئ تحقق للمسلمين. ثم بينت السورة أن الإسلام سيكون مصير البشرية !! إن البشرية التى تقدمت عقليا سوف تجيئها أيام ـ حتما ـ تشعر فيها بأن الإلحاد ظلمة، وأن الزعم بأن الناس ركبوا هكذا أجهزة مادية ومعنوية فى منتهى الذكاء، والأداء الجيد، وفى منتهى الضبط.. إن تصور أن الإنسان خلق هكذا، التراب خلقه هكذا عقلا عبقريا ومواهب ومشاعر فى منتهى الدقة والجودة.. إن التصور أن التراب فعل هذا جنون.. إن الإلحاد صائر إلى ضياع وإلى انتهاء.. أما الإيمان فإن الناس سوف يبحثون، وسوف يقارنون، وسوف يقول كل امرئ لنفسه: ترى من خلق هكذا الكون؟ من خلق هذا الإنسان؟ أهو واحد أحد فرد صمد لم يلد ولو يولد ولم يكن له كفوا أحد؟ أم هو إله يشتغل، ويتعب، ويعمل ويندم، ويلام ويهزم كما تقول بعض الكتب أن مصر الإنسانية إلى أن الله الواحد- كما شرح الإسلام وبين- هو الذى ينبغى أن يعبد.. ولذلك قالت سورة الفتح: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا). ص _203(2/185)
و بدأت السورة تبشر بالفتح وتبشر بمغفرة الله.. ومغفرة الله جل شأنه هى الجائزة الكبرى التى يتطلع إليها الأنبياء ويتطلع إليها المؤمنون والمؤمنات.. وقد بدأت السورة فبشرت النبى صلى الله عليه وسلم وجماعة المؤمنين معه أن الله غافر لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما) قال العلماء: إن مراتب الناس تختلف.. هناك من يتورع عن المحرمات والمعاصى.. هؤلاء عوام المؤمنين، هناك من يتورع عن الشبهات والريب.. هؤلاء أعلى درجة من أولئك، هناك من يترك بعض الحلال المحض لأنه قد يكون قريبا من حرام محض فلكى يحصن يقينه ويحمى إيمانه يبتعد عن الحلال فهذا أعلى درجة من الصنفين السابقين.. وهناك من ترتبط بصيرته بالله ويتجه فى حياته ومشاعره إلى الله فهو كما قيل: ولو خطرت لى فى سواك إرادة على خاطرى سهوا قضيت بردتي هذا نوع آخر من الخلق أرقى.. ولكل من هؤلاء على قدر درجته هفوات.. وهفوات الجنس الأعلى تعتبر كمالات للجنس الأدنى.. وهذا معنى مغفرة. الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم ص _204(2/186)
الخطبة الثانية الحمد لله ( الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. عباد الله: أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل.. لقد اخترت أن أفسر سورة الفتح لأن هناك مشابه بين المؤمنين قديما ـ فى أحوالهم وفيما يحيطهم من منافقين وكافرين ـ وبين المؤمنين فى هذا العصر. والواقع أن العالم العربى والإسلامى تتنازعه الآن ثلاث قوى رئيسية.. قوة ترفض الإسلام علنا، وتستميت فى أن تحكم الأمة العربية والإسلامية حكما علمانيا كما يقولون.. وقوة أخرى تريد أن تعود بالمسلمين إلى ماضيهم الأول وكتابهم الكريم وسنتهم المطهرة، لا تنزل عن آية من الآيات ولا تترخص فى حديث من الأحاديث.. وهناك قوة ثالثة لا تزيد أن تكون من هؤلاء ولا من أولئك، تريد أن تنتسب إلى الإسلام ولكنها تريد أن تتخير من أحكامه أحكاما تنفذها وأحكاما تتركها، عبادات تقوم بها، وعبادات تنأى عنها.. والصراع قائم بين القوى الثلاث.. وألفت النظر إلى أن القوة الأولى لو نجحت وتحول العالم العربى والإسلامى إلى الإلحاد والمادية فمعنى ذلك أنه انتحر وأهيل التراب على جثمانه وانتهى تاريخه.. أما القوة الثالثة التى تريد أن تأخذ بعضا من الإيمان وتترك بعضا، وتنتسب إليه انتسابا ولكنها لا توفى له الوفاء الواجب فسوف تؤخر الأمة الإسلامية عن ص _205(2/187)
بلوغ أهدافها، وعن غسل العار الذى نزل بها، ولن تنجو أمتنا أو تنجح إلا يوم تكون أزمتها فى يد المؤمنين الذين يريدون الإسلام كله شكلا وموضوعا، وعنوانا وحقيقة. والله ولى التوفيق اللهم اصلح لنا دينا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). أقم الصلاة * * * ص _206
بهذا كانت الكرامة...وبهذا كانت المهانة خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد فقد وددت لو أن العرب يعرفون فضل الله عليهم ومنته العظمى عندما حملهم رسالة الإسلام وشرفهم بالانتماء إلى هذا الدين، ولكن العرب لم يدركوا هذا الفضل، ولم يحسوا تلك النعمة فكان تفريطهم فيها كبيرا، وكان غبنهم لها فادحا. كنت أقرأ الآيات التى ضم فيها تحويل القبلة، وتدبرتها لأعرف أبعادها وأدرك حقائقها، فى قوله تعالى: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون * كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) وقفت طويلا عند كلمة : (كما أرسلنا فيكم رسولا) ص _207(2/188)
حاولت أن أعرف هذا الجار والمجرور، والارتباط بين الآيتين، والمعنى المقصود، وبعد لأى شعرت بأن المعنى قريب، وأن الله تبارك وتعالى اسمه يريد أن يقول للعرب: إننى رفعت شأنكم عندما جعلت الناس فى القارات كلها يتجهون إلى الكعبة المبنية فى جزيرتكم، عندما جعلت أجيال البشر على اختلاف الألسنة والألوان يعتبرون المسجد الحرام فى أرضكم القبلة التى يتوجهون إليها خمس مرات كل يوم، فعلت هذا (ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون) أنا بهذا أتم النعمة ولكن النعمة بدأت قبل ذلك، بدأت عليكم أيها العرب سابغة شاملة عندما ابتعثت النبى الخاتم منكم وجعلت الرسالة الأخيرة فيكم وأنزلت الوحى القاطع بلغتكم، نعمة لاحقة بعد نعمة سابقة تضاعفت بها أنعمي عليكم: (ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون * كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) بعد هذا كان لابد من تذكير الناس بحق النعمة، ولقد قال الله لليهود من قبل: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون) إذا وفيتم بما كلفتكم من عهود وبما واثقتكم من عقود فانتظروا وفائى وبرى وفضلى، كذلك يقول الله للعرب: بعد أن شرفتكم بالرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم وبالوحى المبين، وبالقيادة العقلية والخلقية للناس، بعد هذا الشرف الذى رفع شأنكم وأعلى مكانتكم، بعد هذا الشرف أدوا حقى، ولذلك بعد أن قال: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون). قال: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) أى كما ذكرتكم بفضلى اذكروا حقى، وكما تعطفت عليكم بنعمى اشكروها، ومعنى شكرها تقديرها، ومعنى أن ينهض العرب برسالتهم أن يعرفوا أن الله ربى محمدا ليربى به العرب وربى العرب بمحمد ليربى بهم ص _208(2/189)
الناس، فهم أمناؤه على وحيه وأساتذته بين خلقه، وهم بالمصحف الشريف الذى اختصوا به والرسالة الجليلة التى تبقى إلى آخر الدهر المنار الهادى والشعاع المضيء، بهذا كله يكون للعرب شأنهم وتكون لهم مكانتهم. لكن العرب للأسف خانوا رسالتهم، وفرطوا فى حقها، وظنوا أنهم بالانتماء إلى عمرو بن كلثوم أو حاتم الطائى أو عنترة العبسى ظنوا أنهم بهذا يكونون شيئا مذكورا، وهم بهذا ما يكونون شيئا لا منسيا ولا مذكورا. ما الذى صنعه الإسلام للعرب قديما؟ وما الذى يمكن أن يصنعه العرب للناس الآن؟ الإسلام صنع للعرب قديما الكثير، فقد ارتقى بهم عقليا، وارتقى بهم روحيا، أما الارتقاء العقلى فإن الثقافة القرآنية التى انتشرت مع امتداد الإسلام، وبدأت من صحراء غلبتها الأمية، وتحول أصحابها بهدايات القرآن إلى أرقى من الفلاسفة، وإلى أعظم من القادة والأئمة الذين ملكوا نواصى الثقافة فى كل دين، بهذه الثقافة القرآنية تحول العرب الأميون إلى أساتذة، ونظروا فى كتب الإغريق نظرة الأستاذ إلى كراسات الطلاب ونظروا إلى آداب الفرس نظرة المشرف من أعلى على العامة الذين يموج بهم السفح القريب، وبلغ من عظمة الإسلام كما يؤكد علماء أوربا أن الفرنسيين والإنكليز والإيطاليين كانوا يرسلون أبناءهم إلى جامعات الأندلس، يلتحقون بها، ويأخذون إجازاتهم العلمية منها، وفى القرن الحادى عشر للميلاد تولى بابوية الفاتيكان خريجون من جامعات الأندلس تعلموا الثقافة، واتسعت آفاقهم مع العلم الذى تقدم به الإسلام إلى البشر قاطبة، لأن معنى كلمة مسلم ومعنى كلمة إسلام: نهضة فكرية رائقة شائقة ينظر الناس إليها بإعجاب ويودون أن يغترفوا من منابعها وأن يشرفوا بالانتماء إليها، فكان العلم الإسلامى الذى قدمته هذه ص _209(2/190)
الحضارة موضع التقدير، بل أكد العلماء أن النهضة الأوربية ما كانت لتتم لولا ظهور الإسلام وقيام جامعاته الكبرى.. هذا من الناحية العلمية، أما من الناحية الخلقية فإن المروءة والأدب والسماحة ورحمة الصغار وتوقير الكبار وإسداء العون للضعاف وتحسين الحسن وتقبيح القبيح واحترام التقوى، كل هذه المآثر كانت تنضح من مجتمع يبدأ مع الفجر يصلى لله ولا يأوى إلى فراشه إلا بعد أن يصلى لله، فكان المجتمع المشغول بطاعة الله وتطهير البدن والروح، كان هذا المجتمع يقدم للناس فى المشارق والمغارب نماذج من الخلق العالى، هذه النماذج هى التى فتحت الأقطار للإسلام، خصوصا التواصى بالمرحمة، فإن المسلمين كانوا يزكون ويتصدقون، وأيديهم كانت العليا، ما تدع ثغرة للبأساء والضراء إلا سدتها، ولا حاجة من حاجات البشر يبدو فيها الفقر إلا بدا فيها العون الإسلامى.. وكان المسلمون يومئذ طول ألف سنة تقريبا سادة العالم، فقدموا للناس مع العلم النضير الخلق الزكى والأدب العالى، كان المسلمون كما قلت طليعة تقدمية فى كل مجال، والذي أفاء عليهم هذا الفضل هو الإسلام. ثم بدأ المسلمون ينحدرون ويبتعدون عن دينهم وتهتز ثقتهم فى وحيهم وتضطرب خطاهم بعيدا عن توجيهات الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأصابهم ما أصابهم، وبعد أن كانوا أمة طليعة فى العالم أصبحوا أمة متخلفة ينظر إليها الآخرون بازدراء. عندما حدثت قصة " المفاعل الذرى " فى العراق بدأت أفكر طويلا فى هذا الموضوع، قلت فى نفسى: المفاعل من صنع العقل الفرنسى المتقدم فى فهم الكون وتطبيق أسرار المادة على مرافق الخلق، ما الذى جعلنا نتحول إلى تلامذة لغيرنا فى هذا المجال؟ تأخرنا، تأخرنا، ثم بالمال الذى داوى جراحاتنا أمكن استقدام هذا المفاعل وهو فرنسى الصنع، ما بقى بعد ذلك إلا أن يحمى، إلا أن يحرسه من اشتروه، ثم قرأت أن الذين أغاروا عليه كأنما كانوا يغيرون على مدينة مفتوحة الدفاع أبله، القذائف(2/191)
طائشة، كأنه لا حراس هنالك، تغيظت فى نفسى وقلت: أين هؤلاء ص _210
الحراس؟ أكانوا يحششون؟ أم كانوا سكارى؟ أكانوا نائمين؟ أين هؤلاء المدافعون؟ !ثم بدأت أسخر من أحوال المسلمين، قلت فى نفسى: لو أن التربية الإسلامية سيطرت على تكوين هؤلاء لأدرك كل منهم معنى الحديث: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس فى سبيل الله " لو أدرك هذا الحديث وربى على قواعده لظل طول الليل ينقب فى الأفق ويحرس الأرض والسماء من أى عدو مغير، لكن من الذى يعلمه هذا الحديث؟ العرب نسوا رسولهم، العرب نسوا كتابهم من يعلمه هذا الحديث؟ لا أحد!! لو علم هذا الحديث، وتقرب إلى الله لكان هدفه الذى يصوب إليه فى الصميم، لأن الخطأ فى "ملليمتر" عند يصوب المدفع من أسفل قد يختلف بـ " كيلو متر " فى الأفق، فالذى يسدد القلب، ويلهم الرشد، ويضبط الأعصاب، ويحرك الأصابع الله!! يوم أكون معه أقاتل من أجله كان يمكن أن الطائرة المغيرة تلتهمها قذيفة منى فتنزل إلى الأرض !! لكن الله تخلى عنى، لأننى لا أعرفه ولا أعرف نبيه.. أنا قلت: بعث عربى ولم أقل: بعث إسلامى، بعث إسلامى لا.. لا إسلام، تخلى الله عنى، وتخلى عباده البررة والفجرة عنى، فمن لى؟ (أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور * أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور) بعث عربى، قومية عربية، وطنية مصرية، عبادة للتراب، تقديس للجنس، تقديس للدم، أين الله ورسوله؟ أين الكتاب والسنة؟ أين الينابيع التى نستقى منها؟ أين المعارج التى صعدنا فيها كما يصعد البواب فى " أسنسير " فيصعد به إلى أعلى !! هكذا فعل الإسلام بنا، صعد بنا طبقات رفيعة، فلم تركناه؟ هذا شئ عجيب، وبدأنا نشعر بأن العالم ازدرانا، أعداء يغيرون علينا يمرون ص _211(2/192)
بأجواء أربعة أقطار عربية ما يحس بهم أحد، ويضربون المفاعل ويرجعون ما فقد أحد منهم نعله !! انتزع الله مهابتنا من قلوب أعدائنا فكان هذا الذى رأيناه، قررنا أن نعود إلى ديننا، الحقيقة التى أذكرها: أننا فعلا قررنا أن نعود إلى ديننا بعد الضربات الموجعة واللطمات المخزية التى نالتنا من كل جبهة، بيدى لمست العودة من الأطلسى إلى الهندى إلى الهادى، وإن كنت لم أذهب إلى المحيط الهادى، لكن أخوتنا فى الفلبين- فى جبهة مورو- يقاتلون قتال الجبابرة، ولكن هذه النهضة تحتاج إلى توجيه، فإن الإسلام الذى نهض بالعرب قديما نهض بهم كما ذكرت لكم، جعلهم طليعة علمية، وطليعة خلقية، جعلهم أفقا روحيا صافيا نقيا، جعل قدرتهم المادية ونشاطهم العام موضع الاحترام فى كل مكان، إلا أن المسلمين الآن لما أرادوا العودة إلى دينهم ضل بهم الطريق، ولم يحسنوا العودة لأنهم أحبوا أن يأخذوا الدين قشورا لا أن يأخذوه عقلا نقيا وخلقا سنيا وقلبا موصولا بالله يستمد منه ويلجأ إليه، ولألفت النظر إلى هذا المعنى، لقد تأكدت أن المسلمين يجب أن يعيدوا النظر فى سياستهم التربوية والجماعية، والأخلاقية والسلوكية، والعلمية والثقافية، حتى يمكن أن يقفوا ندا لند أمام أعدائهم الذين تربصوا بهم. الخطط التى رعت لأكلنا بعيدة المدى.. فـ " هرتزل " قبل سنتين من نهاية القرن التاسع عشر بدأ مع حكماء إسرائيل يخططون لأخذ القدس وفلسطين، أى بدأوا من نحو ثلاث وثمانين سنة.. ووضع أولئك الناس خطة لخمسين سنة.. ومعنى ذلك أنهم بذروا وتركوا لأولادهم ولأحفادهم أن يحرثوا البذر وأن يحققوا النتائج . ص _212(2/193)
لا توضع عندنا خطط من هذا النوع، الخطط عندنا لخمسين يوما لا لخمسين سنة،. إن وضعت خطة، الخطط سريعة مرتجلة فيها قصور الطفولة وقصور الفكر، وجاء هؤلاء إلى فلسطين، ودرسوا كل شبر بن الأرض، عرفوا المياه الجوفية هنالك، وعرفوا مهاب الريح والقدرة على استغلالها لطاقة هوائية، بل الآن الطاقة الشمسية ـ تقريبا ـ تملأ مدن فلسطين، ما السبب؟ هؤلاء درسوا الحياة، الحكومة هناك غير الحكومات فى العالم الإسلامى، الحكومات فى العالم الإسلامى شئ آخر، حكومة هولندا مثلا، من ثلاث سنوات استقالت الملكة واختفت عن الأنظار، لم؟ لأن زوجها اتهم فى قضية رشوة !! أترى ربك يهزم هؤلاء الذين يحسنون الحسن، ويقبحون القبيح، ويحقرون الرشوة، ويحكمون على المرتشين ـ ولو كانوا ملوكا ـ أن يختفوا؟ أترى ربك يهزم هؤلاء ويترك المسلمين أصحاب الفخامة تمتلئ خزائنهم بالمال الحرام من كل ناحية؟! وما يجرؤ أحد أن يقول لهم شيئا!! أترى ربك يهزم هؤلاء ويقول للمسلمين: احكموا العالم بإباحة الرشوة أو بتيسيرها أو بعدم اعتراضها؟ أى كلام هذا؟ أى فكر هذا؟ الأمة الإسلامية لابد أن ترسم سياسة بعيدة المدى للحكم، للمال.، المال الذى قال الله فيه: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) المال الإسلامى هو الآن الطاقة التى تحرك بنوك الغرب في أمريكا وفى أوربا، مليارات من الدولارات يملكها العرب ماذا يفعل العرب بهذه الأموال، أنا قرأت لصديق مسلم يستغيث من أن الفقير المسلم فى إندونيسيا يضيع دينه لأنه محتاج للطعام !! القرن الأفريقى جف، الجفاف أكله، ولا من يغيث، والبعثات التبشيرية متخصصة فى سرقة العقائد من أولئك العراة الجياع، من ثلاثين سنة جاءت امرأة بروتستنتينية من أمريكا قرأت فى العهد القديم لترى (بختها) فوجدت كلمة (مصر)، فقالت : أذهب إلى ص _213(2/194)
مصر، وجاءت إلى مصر، وعرض عليها أحد الجنرالات أن يتزوجها فأبت، وفتحت " شقة " لها فى " أسيوط " وأمام الشقة سرير للقطاء، أى لقيط تستقبله، والآن ـ هى ماتت ـ لديها مستعمرة فيها أكثر من ألفى شاب وشابة تنصروا على المذهب الإنجيلى ـ المذهب البروتستنتى ـ أسأل: أين كان العلماء فى معهد أسيوط؟ أين المسلمون؟ أين الحكام؟ لا شئ، وكما قال القائل: ومن رعى غنما فى أرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد جاء الذئب فرعى الغنم لأنه ليس لها حارس.. ليس لها راع ، ما السبب؟ أمة مغفلة، والقانون لا يحمى المغفل، ماذا كنا نصنع ؟ هذا ما سألت نفسى عنه، ولذلك أجد لتوضيح الإجابة أن ألفت أنظار المسلمين إلى أمرين، وقبل توضيح الأمرين، نلاحظ أن القرآن دائما يقول: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) نحو سبعين آية: (آمنوا وعملوا الصالحات) ما هى الصالحات؟ الكلمة فى اللغة العربية كلمة عامة، اسم موصول على صفة يفيد العموم، كل شئ صالح، بالدراسة والفقه والتفكير وجدث أن الأشياء الصالحة نوعان لا يغنى أحدهما عن الآخر، قسمان، كما أن الكلمة اسم وفعل وحرف فكذلك الأعمال الصالحة، بعضها حدد الشارع له وضعا كالصلاة والزكاة والصيام والحج، فكل هذا له صورة خاصة، له مواصفات خاصة، له أزمنة وأمكنة محددة انفرد الشارع بها.، ولكن هناك أشياء تركها الشارع لنا دون تحديد، لماذا؟ لأن طبيعتها تفرض التغير والتطور بين بيئة وبيئة وزمان وزمان، هذا النوع الأخير نعطيه صورة سريعة، هناك أولا الحقائق الدينية التى ذكرت ولم تذكر وسائلها، مثل إقامة العدل، العدل حق، والأمم التى يضيع فيها العدل لابد أن تهان، وكما قال. ابن تيمية: إن الله ينصر الدولة الكافرة بعدلها على الدولة المسلمة بجورها !! وكما قال الله (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها ص _214(2/195)
مصلحون) وكما قال النبى صلى الله عليه وسلم: "إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع " كيف نقيم الحق؟ هذه أمور تحتاج إلى وسائل تختلف باختلاف الزمان والمكان، كيف أقيم محام للرؤساء والملوك والوزارات والكبراء والأغنياء حتى أضمن الحق؟ ما هى المصافى التى أضعها فى المجتمع لتحجز المال الحرام وتستبقى لأصحابه المال الحلال؟ هذا كله متروك للزمان والمكان واختلاف العصور، الجهاد، الجهاد حق، لكن ما وسائله؟ لم ترسم وسائله، لكن إذا كانت الوسائل الآن مكوكا فضائيا فعلى المسلم الذى كتب عليه القتال أن يكون بارعا فى قيادة مكوك فضائى وإلا فهو خائن للإسلام، لأن الشيوعية تقول: لا إله، الكون ليس له صاحب، العالم ليس له رب، من لم يعجبه هذا الكلام فعصانا فى أيدينا نهوى بها على أم دماغه !! فكيف تحمى التوحيد؟ وكيف تحمى الإيمان؟ إذا كانت الشيوعية مسلحة بالأقمار الصناعية وأنت مسلح بالجدل الفارغ والكلام التافه فستهزم الإسلام وتضيع كلمة التوحيد من بين أصابعك، لا وسائل لك لتحميها. فالصالحات نوعان: نوع حدد الإسلام مراسمه وصوره، ونوع ترك الإسلام للعقل العادى، للفطرة السليمة، للنية الخالصة، للرغبة العميقة فى حماية الكتاب والسنة، ترك هذا لاجتهادنا. الذى حدث أن الأمة الإسلامية بالنسبة لما وضعت له مراسم وصور فرغت الصلاة من محتواها الروحى والأدبى والخلقى والخشوعى وجعلتها صورا، والتفتت للصور، ولم تلتفت للروح، وكانت النتيجة: صلوات لا تنهى عن فحشاء ولا منكر. أما ما لم يضع الإسلام له صورة فقد جهلناه تماما، لا يزال الطب يستورد من الخارج، الدواء لا يزال يستورد من الخارج والأسماء الأجنبية فوقه، أين المسلمون؟ العيب الخطير فى دراسة الإسلام أن كلمة: ص _215(2/196)
فرض عين، وفرض كفاية لم تفهم على حقيقتها، فهم الناس أن فرض الكفاية يعنى أنهم غير مسئولين عنه، قد يقوم به الآخرون ويسقط من على أكتافنا، لابد أن نعلم أن فرض العين وفرض الكفاية كلاهما مطالب به الإنسان طلبا جازما حاسما، وأن التفريط فيه خيانة، لكن يحتاج الأمر إلى شئ من الإيضاح، هناك عبادة عامة، لا يختلف الناس فى أدائها يحسنها الكل، فالتكليف بها قاسم مشترك، لكن هناك عبادة أخرى تحتاج إلى موهبة معينة، هى فرض على صاحب الموهبة يأتى من المجتمع أو يتقدم هو إذا كان يأنس من نفسه التقدم.. أنا رجل لا أستطيع بناء هذا المسجد لكننى أستطع بناء مقالة أو بناء كتاب، هذه موهبتى، فتأليف الكتاب فرض على، يخزينى الله يوم القيامة ـ وأعوذ بالله ـ إذا فرطت فى هذا الفرض، فهو فرض عين بالنسبة لى.. الذى يستطع الإشراف على بناء هذا المسجد فرض عين عليه أن يقيم البناء وأن يشرف عليه ويخزيه الله يوم القيامة إذا فرط فيه.. هناك مجموعات من الأعمال لا ينهض الإسلام إلا بتشكيلتها، المجتمع يبحث عن الشخص الذى يصلح للطب، الذى يصلح للصيدلة، الذى يصلح للهندسة، فإذا اختير الإنسان ليكون طبيبا فمعنى ذلك أن مهارته فى الطب وأداءه للصلاة ركنان فى حياته، كلاهما كالآخر تماما، نسأل عنه أمام الله، لم؟ لأن عقيدة التوحيد لا تبقي فى الأرض إلا إذا خدمتها هذه التشكيلة من المواهب. الذى حدث أن أعدادا كبيرة من المسلمين لم تفهم أن الإسلام يخذل فى شئون الدنيا؟ يخذل فى المحراب، ولذلك وجدنا أعدادا من المسلمين يموج بعضها فى بعض، لماذا؟ الدجاج الذى نأكله لا ندرى كيف ذبح؟ سبحان الله!! هل تربية الدجاج تحتاج إلى عقل ذرى؟ هل إقامة مزارع للدجاج تحتاج إلى عبقريات تستورد من أمريكا أو من المريخ؟ والله يوم يحتاج المسلمون فى تربية الدجاج إلى خبراء من كل ناحية فإن بقاءهم فى الحياة لا معنى له وفروغ الحياة منهم أفضل، ما الذى يجعل المسلمين عجزة فى كثير من(2/197)
الميادين؟ نشتبك مع اليهود فيغلبنا اليهود، نشتبك مع النصارى فيغلبنا النصارى، نشتبك مع الشيوعيين فيغلبنا الشيوعيون، أفغانستان هجموا عليها بين عشية وضحاها، وبقى المسلمون يتسولون سلاحا، وإذا وجدوا ص _2 ص
سلاحا يتسولون من يدرب عليه وإذا وجدوا السلاح والمدرب يتسولون الطبيب الذى يداوى الجرحى، ما هذا كله؟! إننى أطلب من المسلمين بإلحاح أن يبدأوا فيغيروا فكرهم عن الدين والدنيا فإنهم بهذا التفكير القاصر سوف يجرون الهزائم على أنفسهم فى ميادين كثيرة، وكما قلت، والله وجدت شبابا مخلصا، وحماسا لله رائعا، ورغبة فى افتداء الدين عميقة، لكن الأمر يحتاج إلى توجيه، وإلى رسم الخطط السليمة، وإلى العمل البارع الرائع الذى يربطنا بديننا ويجعلنا نحسن خدمته على نحو سليم سديد. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _217(2/198)
الخطبة الثانية الحمد لله ( الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد.. أيها الأخوة.. الإسلام الآن فى القرن الخامس عشر له، لو مددت بصرى إلى تاريخنا القديم وتساءلت: هل استراح الإسلام يوما؟ الجواب: لا، إن الأعداء تربصوا به، ووقفوا له بالمرصاد فى كل ميدان، إن رب العالمين لم يفترض علينا الجهاد إلا لأنه يعلم أن كل خادم للباطل يكره الحق، وكل خادم للوثنية يكره التوحيد، وكل خادم للشرك ينتصب معترضا القافلة التى تكبر ربها، وتذكر أمداده، وتحيى كماله وجماله وجلاله. لقد درست الإسلام، وأقول: الحمد لله على نعمة الإسلام وتوفيق الإيمان، إن الله لما ورثكم هذا الدين توجكم بشرف نرجو أن نكون جميعا أهلا له، إن عبوديتنا لله الواحد شرف، وإن تبعيتنا للنبى الخاتم ـ النبى العربى المحمد ـ شرف، لكن أعداء الله ورسوله كثيرون، وهم يضنون علينا بهذا الشرف، وقد تواصوا فيما بينهم أن ص _218(2/199)
يضيعوا الإسلام، وأن يمحوا كتابه، وأن يسقطوا نبوته، تواصوا بينهم، وعقدوا المؤتمرات على هذا، أنا لا أستغرب عداوة عدو لأنى درست تاريخنا ـ أربعة عشر قرنا ـ ووجدت أن القبح يطارد الجمال، والخسة تطارد الشرف، والكذب يطارد الصدق، وأتباع الخرافة فى كل ناحية يكرهون الكتاب الذي قال منزله: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) فلا استغراب إذا وجدنا الأعداء كثيرين، لكن الغرابة أن تنام ملء عينك والأعداء يبيتون لذبحك إن الألف مليون مسلم الذين ينتسبون إلى هذا الدين- على ما بهم- يراد لهم الشر، والعالم يتربص بهم، ولكن قبل أن ألوم الآخرين لنيلهم منا، أريد أن أقول للمسلمين: ما دمتم لا ترشدون نهضتكم، ولا تحسنون خطتكم فلا تلوموا أعداءكم ولوموا أنفسكم، نحن بحاجة إلى أن نحسن أداء واجبنا وأن نتعرف بذكاء وألمعية كيف نخدم ديننا، وكيف نرد الأعداء عنا، لقد وجدت شبابا فيهم طيبة فعلا ولكن يحتاجون إلى من يضعهم على أوائل الطريق لكى يخدموا دينهم خدمة فيها صواب ولها نتيجة، أما الطريقة التى يعيش بها الكثيرون من حماس ينقصه العقل، أو من معرفة ينقصها الإخلاص فإن هذا لا يخدم الإسلام. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). أيها الأخوة.. وقبل أن نقيم الصلاة، المفروض أننا بالأمس نكون قد أرسينا الحجر الأساسى لمسجد ومعهد دينى وقاعة محاضرات بـ "الزاوية الحمراء " لكن تأخر هذا إلى هذا الأسبوع، "وإن غدا لناظره قريب، ص _219(2/200)
نحن كما أوضحت لكم نتوافق على أن القاهرة تبقى عاصمة للإسلام، وأن وجهها الإسلامى لا يقبل بتة أى تغيير له أو أى تشويه فيه. عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة... * * * ص _220
نعم للتوحيد... خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه 1973 م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد فإن التوحيد حقيقة الإسلام الأولى وخاصته التى تفرد بها، وعقيدة التوحيد هى الشارة التى تميز المسلمون باعتناقها، والراية التى عرفوا بالجهاد دفاعا عنها، وتمكينا لها، قال تعالى: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) وقال: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) وقال: (إن إلهكم لواحد * رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق) والاتصال بالإله الواحد معروف فى أعصار كثيرة، وفى أقطار كثيرة إلا أنه اتصال مضطرب جدا فى بعض الأديان، ومضطرب اضطرابا خفيفا فى بعض آخر، فإن عبدة الأصنام ما يزعمون أنهم منكرون للإله الواحد، إن الذين عبدوا اللات والعزى ومناة... ! إن أبا سفيان عندما قال فى غزوة أحد: أعل هبل، إن الوثنيين الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى كانوا إذا سئلوا: (من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) كانوا مشركين ولكنهم يؤمنون بالله الواحد، فإذا سألتهم.: ما هذه الإلهة التى اختلقتموها مع الله؟ قالوا: ص _221(2/201)
(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) ويجادلهم القرآن جدالا حسنا: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) مشركون ولكنهم يقولون فى الإجابة على هذه الأسئلة كلها: " الله ". !! (فقل أفلا تتقون) ألا تدعون الشرك بعد هذه الإجابة: (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون * كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون). وفى الدنيا الآن نحل وملل ومذاهب كثيرة، منها مذاهب تنكر الألوهية بتة، ويعيش أصحابها فى الدنيا هملا، ليس لهم معتقد يربطهم بالله جل جلاله، ومنهم من يؤمن بالله الواحد ولكنه ينسب إلى الله أنه يجهل ويندم ، ويلاكم ويغلب ويهزم إلى آخر ما وصفت إصحاحات العهد القديم أو ما يسمى عند اليهود بالتوراة، ومنهم من زعم أن الله الواحد هو مثلث وللمثلث زوايا: أ، ب، ج.. أب وأم وروح قدس!! ومنهم من زعم أشياء أخرى كثيرة، ونقول نحن المسلمين: لكل امرئ دينه، نحن الذين شرفنا الله بالحق وهدانا سواء السبيل ما نكلف أحدا رغما عنه أن يعتقد ما نعتقد، نحن مكلفون أن نشرح للناس إيماننا الصحيح، فمن اقتنع به ودخل فيه فهو منا ومن لم يقتنع به ورفض الدخول فيه فله وجهته ومالنا عليه من سبيل، يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) ص _222(2/202)
نحن المسلمين نشعر بأن الله أكرمنا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ونشعر بأن هذا الإنسان الجليل المهيب الكبير قد هدانا إلى الحق يوم عرفنا الوحدانية الصحيحة، ويوم أنزل الله على قلبه هذا الكتاب الكريم يبين لنا معالم التوحيد ويشرح حقائق الإيمان ويقفنا على الصراط المستقيم ويحشرنا تحت راية الحمد فى الدنيا والآخرة. لكن الذى نرفضه وندفع عن ديننا فيه ولا نسلمه لغيرنا أن يجئ بعض الناس فيقول: إن المسيحية فى الإسلام !! نقول له: إذا كنت تقصد بهذا أن عيسى نبى، وأنه عبد لله، وأن الإنجيل الذى نزل عليه وحى من الله لخلقه يقرر عقيدة التوحيد والجزاء، ويوجب على عيسى وغيره، من الناس إقام الصلاة وإيتاء الزكاة فهذا كلام صحيح ما ننكره، فإن الله جل شأنه نبأ أن عيسى أجاب عن نفسه وعن رسالته فقال: (قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) وكلمة السلام هنا على عيسى تشبه كلمة السلام على يحيى فى أول السورة: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) فإذا كان المقصود بأن المسيحية فى الإسلام هذا المعنى فهذا كلام صحيح، فإن توراة موسى وإنجيل عيسى كتب ممهدة للقرآن والقرآن مصدق لها يقينا، ونحن مكلفون أن نؤمن بهذه الكتب التى مضت وباحترام الرجال الكبار الذين جاءوا بها، لكن بعض الرسائل انتشرت الآن تقول: إن المسيحية التى تعنى التثليث وتعدد الآلهة فى إله واحد فى الإسلام نفسه!! ولما كنت رجلا من خدم القرآن الكريم وأعرف دينى فقد تناولت هذه الرسائل وأنا مطمئن، لماذا؟ قلت لكم: أن المحامى عن قضية صحيحة لا يقلق.. خصوصا إذا كانت القضية عامرة بالأدلة التى تدفع عنها، مليئة بالبراهين التى تدمغ الباطل وتتركه زاهقا ص _223(2/203)
تناولت هذه الرسائل ـ وأنا أعرف مصدرها، وأعرف الأقلام التى سطرتها ـ تناولت هذه الرسائل وقرأتها ولم أجد بدا من أن أضحك !! لماذا؟ سأعرض على إخوانى المسلمين ـ هنا ـ كيف أن هؤلاء الناس يتصيدون فى القرآن الكريم كلاما لا يشهد لهم أبدا، بل يشهد عليهم، وبلغ الأمر فى ذلك حدا يثير الضحك.. يقول الله جل شأنه: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا) لكن الرسالة التى تنشر الآن، والتى ألفها أحد كهنة الكنائس بيننا، واقتدى فيها برئيس المسيحية فى بلدنا، يقول ـ وأرجو ألا يضيق أحد أو يغضب فإن الضيق أو الغضب لا يجيئان بطائل ـ يقول ـ تحت عنوان بالثلث: شهادة الإسلام لثالوث المسيحية : ربما تتعجب يا عزيزى القارئ إذ أقول: إن القرآن يذكر ثالوث الله الواحد تماما كما تؤمن به المسيحية، فقد قر بنا أن ثالوث المسيحية هو ذات الله وكلمته وروحه وهذا هو عين ما ذكره القرآن فى آية واحدة: (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) فى هذه الآية يتضح أن الله له ذات، فى قوله: (رسول الله) فكلمة رسول الله، معناها ذات الله، وقوله: " وكلمته " معناها أن عيسى الأقنوم الثانى أو الشريك فى الثالوث، وقوله: " وروح منه " تأكيد لعقيدة التثليث!! أنا قرأت هذا الكلام واستغربت له، أدرته فى رأسى مرارا، كيف يفهم من قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) كيف أن " رسول الله " ذات الله؟ كيف أن " كلمته " العنصر الثانى فى الثالوث؟ كيف أن " وروح منه " تكون تأكيدا للعنصر الثالث.؟. ص(2/204)
_224
هذه الجملة ـ التى تحدث عنها الكاهن ـ جملة من آية طويلة تقول: (لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد) هل هذا الكلام معناه أن الله ثلاثة؟!! هذا شئ عجب !! هذا شئ مدهش !! ولكن: وليس يصح فى الأفهام شئ إذا احتاج النهار إلى دليل ماذا تقول لرجل يقول لك: (قل هو الله أحد) معناها أن الله ثلاثة!! هذا دماغ مخرب، وكاهن- مسكين- يؤلف ورقا لا أشك أن المال الأمريكى من وراء هذه الطاعة، ولكن أنا لا أهتم بهذا، إنما الذى يهمنى أن أرى كيف شهد الإسلام للتثليث؟ القرآن شهد للتثليث !! أين هذه الشهادة؟! هذه واحدة. الشيء الثانى: بدأت أبحث ـ كطبيب نفسانى، كعالم مسلم يعالج الضلالات بين الخلق، وسر عوج بعض الناس ـ فوجدت أن الرجل يخطئ. وأن غيره يقع فى نفس الخطأ بسبب أنه ينظر إلى الصفات ويجسمها فيجعلها ذواتا !! كيف؟ يقول: إن الله موجود بذاته ويطق عليه الأب، وناطق بكلمته ويطلق على ذلك الابن، وحى بروحه ويطلق على ذلك الروح القدس!! هذا الكلام أشرحه شرحا عاقلا هادئا لا غضب فيه، الله جل شأنه الذات الأقدس، له كلام، هل ننكر أن الله متكلم؟ لا ننكر هذا، ما كلامه؟ الوحى الذى نزل به الأمين على المرسلين كلهم، هذا نوع من الكلام، هناك أيضا كلمات لا حصر لها، فإن الكلام ترجمة الإرادة الإلهية وبيان ما تنتجه القدرة العليا فى عالم الإحياء والإماتة، فى عالم الإشقاء والإسعاد، فى عالم الإيجاد والإعدام؟ وكلمات الله هنا لا تنتهى؟ ويقول الله ـ فى هذا مبينا أن كلماته الدالة على علمه، وعلى قدرته، وعلى سعة ملكوته، وعلى بسطة نفوذه ـ يقول: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) ص _225(2/205)
صفة الكلام صفة أثبتناها لله بيقين لكن كيف مسخ فكر إنسان فتصور أن صفة الكلام تجسدت وأصبحت شخصا اسمه عيسى؟!! كيف تتجسد صفة، أو كيف تتحول صفة من صفات الله إلى ذات؟ هذا هو البله!! الشئ الثالث: أن الله حى، من قال: إن حياته هى الروح القدس يعنى الإله الثالث؟ هو حى بذاته، ويوم نجعل الحياة صفة وتدل علي إله، والكلام صفة ويدل على إله فماذا نفعل بالصفات الأخرى؟! لله علم واسع إذا يتحول الثالوث إلى رابوع، لله قدرة إذا يتحول الرابوع إلى خاموس، لله رحمة إذا يتحول الخاموس إلى سادوس!! ويمكن أن تتحول الصفات بهذا المنطق الأبله إلى أشياء كثيرة، هذا نوع من العجز العقلى فى فهم الأمور، الله الواحد له صفة الكلام ولا صلة لهذا الكلام ببشر، كون عيسى كلمة الله ككون آدم كلمة الله!! معناه أنه وجد بكلمة "كن" كن بشرا فكان بشر هذا معنى " وكلمته " (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) فإنسان خلق مثلى ومثل غيرى كيف يكون إلها؟ وكيف يتحول الواحد إلى ثلاثة أو الثلاثة إلى واحد؟! هذا شئ يضحك الإنسان له، ويستغرب وجوده، القول بأن الثالوث فى القرآن شئ مضحك بيقين!! ويعجب الإنسان لأن الفصل الثانى فى رسالة الكاهن بعنوان: شهادة الإسلام للتثليث والتوحيد ثم أربعة أبواب.. أولا: شهادته لتوحيد المسيحيين، ثانيا: شهادته لثالوث المسيحيين، ثالثا: شهادته أن المسيح كلمة الله، رابعا: شهادته للروح القدس !! أتناول الباب الأول فى هذا الفصل.. يشهد القرآن للمسيحيين بأنهم موحدون لله وغير مشركين!! نحن يسرنا أن يكون الناس موحدين، ونحن لا نلتمس للأبرياء العيوب، ولكننا نستغرب عندما يحاول بعض الناس أن يرمى التهمة عنه فيثبتها !! إن الله عز وجل يعتبر من يؤمن بثلاثة آلهة كافرا، والقرآن فى هذا حاسم: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد) ص _226(2/206)
ويقول جل شأنه: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) اعتبر هذا شركا، وفى سورة براءة يقول: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) اعتبر هذا شركا، لكن الرجل قال ببساطة: إن الإسلام يقول فى المسيحيين إنهم مؤمنون !! ما دليلك؟ قال: فى سورة العنكبوت يقول القرآن: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) ثم حذف من الآية: (إلا الذين ظلموا منهم) وذكر الكلام بعدها: (وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد) ثم قال: وبهذا يشهد القرآن أننا نحن المسيحيين أهل الكتاب نعبد الله الواحد !! هذا كلام عجيب!! فكوني أقول لعبدة الأصنام: ربى وربكم واحد، فليس معناها أن الذين يعبدون الأصنام موحدون، كونى أقول لأى إنسان: ربي وربك الله، فليس معناها أنه مؤمن بالله، ومع ذلك فمن هم أهل الكتاب؟ أهل الكتاب: هم اليهود والنصارى على سواء، فهذه الآية تشمل اليهود وتشمل النصارى متساوين، فإذا كان النصارى مؤمنين بالله فاليهود مؤمنون بالله أيضا، وإذا كان اليهود يكفرون بعيسى وأمه ويتهمونها بالزنا ويتهمون عيسى بأنه لقيط فكيف تطبق الآية عليهم؟ وكيف يوصفون بالإيمان؟ دليل آخر يقال: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) هذا كلام جميل، ونحن نصدق هذا الكلام، لكن لماذا يقطع هذا الكلام عما بعده؟ لنقرأ ما بعده لنعرف تتمة القصة: (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم ص _227(2/207)
لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين * وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين * فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) هذه هى الآيات.. فمن أحب أن يفهم منها ما يفهم الذى يقف عند قوله تعالى: (فويل للمصلين) ثم يسكت!! فهذا لون آخر من الفهم لا يمكن أن يعترف به عاقل ولا أن يحترمه منصف. آية أخرى جاء بها الكاهن: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة) هذا صحيح، فمن الذى اتبع عيسى؟ لننظر إلى الآيات، قبل هذه الآية آية تقول على لسان عيسى: (إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم * فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون * ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين * ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) فالذين يتبعون عيسى على أنه عبد لله يجرى الله على لسانه: (إن الله ربي وربكم فاعبدوه) هم المسلمون، ونحن الذين سنغلب إلى يوم القيامة مصداق قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون). إن الجدل يسرنى، ونحن المسلمين أبرع الناس فى دعم الحق بأدلته، وأبرع الناس فى سحق الشبهات التى تعترض طريقه، وقديما قيل لعالم: ما لذتك؟ قال: فى حجة تتبختر اتضاحا وشبهة تتضاءل افتضاحا !! ص _228(2/208)
ونحن المشتغلين بالعلم الدينى نعرف أن الإسلام فى ميدان إعلاء الحق وإثبات التوحيد تفر أمامه شياطين الأرض، وتنهزم أمامه قوى الباطل لا لشيء إلا لأنه على الحق قام وبالحق يبقى: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) أما التلاعب بالألفاظ، وبلاهة بعض الناس فى ذكر الأمور التى لا تفهم فلا يمكن أن يكون أساسا لقيام دين الحق. شئ آخر يضم إلى ما قلنا.. يحاول بعض الناس القول بأن قضية التثليث فوق العقل، وينبغى أن يؤمن بها على هذا النحو!! ونجيب بأن هناك أمرين مختلفين تمام الاختلاف، هناك أمور فوق العقل، وهناك أمور يجزم العقل باستحالتها، فإذا قال العقل: الجزء أقل من الكل، أو الواحد نصف الاثنين فهذه قضية لا يمكن أن تقبل نقيضها أبدا، أما إذا قيل للعقل: إن الروح مبهمة فلا تستطع أن تفهم سرها فإن العقل يسلم لأنه لا يستطع أن يفهم سر الذرة أو سر الكهرباء، هناك أمور يحكم العقل بعجزه عن فهمها، وهناك أمور يحكم باستحالة وقوعها، مما يحكم العقل باستحالته أن الثلاثة واحد، ومما يحكم العقل بأنه عاجز عن فهمه: ما هى الروح؟ ما هى الذات العليا؟ هذا أمر فوق طاقة العقل البشرى لأن المحدود يعجز عن فهم المطلق، أمور ينبغى أن نعرف حدودها حتى لا نتيه أو نغرق فى بحارها، وبعد ذلك لنا تتمة إن شاء الله. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم ص _229(2/209)
الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. عباد الله أريد أن تفتحوا قلوبكم لما أقول: إن أمتنا تمر بفترة عصيبة جدا، وإننا يجب أن تتوحد قوانا وراء جيشنا الذى عبئ لاستقبال اليهود المعتدين والرد عليهم ردا يقنعهم بأن الظلم مرتعه وخيم وأن عاقبة الظالمين مشئومة، لا نريد بتاتا أن تنقسم جبهتنا فى الداخل، لا نريد بتاتا أن يشغل المسلمون بأمر قد يسئ إلى وحدتهم أو يوهن قواهم فى مواجهة عدوهم، وأنا أدرى ـ أدرى جيدا ـ أن للاستعمار العالمى عملاء دربهم وأمرهم فى هذه الأيام أن يثيروا فتنة، وأمرهم فى هذه الأيام أن يشغبوا بما يجعل المسلمين ينفعلون ويفقدون صوابهم وتكون هناك مآس تحسب علينا لا لنا، ولذلك فأنا أطلب من المسلمين بإلحاح، وأرجوهم من أعماق قلبى أن يفوتوا الفرصة على العملاء، وأن يدركوا أن هناك ناسا مكلفين بإحداث فتنة، فلنطفئ الفتنة نحن، إننا سنرد عن ديننا بهدوء، بعقل، بحكمة، ولن نسمح لأحد أن يجرنا إلى معركة تسئ إلى حكومتنا أو أمتنا أو جبهتنا أو وحدتنا، إننى ألح من أعماق قلبى: فوتوا الفرصة على الفتانين.. العملاء الذين يشتغلون لحساب دول أخرى تريد لنا البوار، وتتمنى لنا الانقسام، والعار، أريد من المسلمين أن يضبطوا أعصابهم، ستسمعون أذى كثيرا، إننا لن نسكت عن أى مساس بعقيدتنا، لكن فى حدود تفهيم المسلمين الحق وحمايته بهدوء، إن خطة عدونا استغفال المسلمين، أن ينطلق هو والمسلمون فى غفلة وخطتنا نحن أننا لن ندع الضلال ينطلق ولكن طريقنا أن يستيقظ المسلمون من غفلتهم، هذا ما نريده فقط: (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) إن الخونة سيدفعون. ثمن خيانتهم من ص _230(2/210)
دمائهم، لكننا لا نريد أن نخون بلدنا ـ هذا بلدنا نحن ـ لا نريد أن نخونه بالانزلاق إلى فتنة تصيب مستقبل هذا البلد، إننى ألح وألح على المسلمين أن يفوتوا الفرصة. قرأت هذا الكتاب، وقرأت نشرات بالمئات غيره ولم تهتز لى شعرة لأنى عرفت أن المقصود استثارتنا، تشبث بالإسلام، علم ولدك الإسلام .، قد ولدك إلى المسجد، صح المسلمين النائمين وقل لهم أثبتوا على دينكم- هذا ما يمكن أن يقال الآن، لا نريد أن نعطى عدونا فرصة فإن القوى العالمية- وهى خصم لدود لنا ترقب أن نتصرف بحماقة لتنال منا، فضيعوا الفرصة على الخونة وعلى المتربصين. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). وأقم الصلاة.. * * * ص _231(2/211)
تأملات في سورة الممتحنة خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه يونيو 1973م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: ففى القرآن الكريم سورة يمر أكثر الناس بها لا يلقون إليها بالا، لعل غرابة أسلوبها، وطرافة موضوعها جعلها لا تقف الناس بازائها ولا تحملهم على تدبرها واستبانة ما فيها، وأمر بهذه السورة فأتدبرها وأقف طويلا بازائها، وأحيانا أسميها سورة الحب فى الله والبغض فى الله، أو سورة التعصب للحق، أو سورة الوفاء للمبدأ أو العيش به ومن أجله. هذه السورة اسمها فى المصحف سورة " الممتحنة "، وكلمة الممتحنة تعنى: المرأة التى هاجرت من مكة الى المدينة تاركة زوجها وعشيرتها وأهلها مؤثرة عليهم جميعا أن تذهب الى المدينة المنورة كى تلحق بالمجتمع الإسلامى وتعيش فى كتمه، هذه المرأة هى التى سميت السورة باسمها، ونزلت فيها آيات سوف نقرؤها، لكن السورة كما ذكرت لكم ص _232(2/212)
تدور حول محور أعمق، وتتجه إلى أهداف أبعد، ومع أنها نزلت من أربعة عشر قرنا وأحاطت بنزولها مناسبات خاصة إلا أن هذه السورة لا تزال تزكى مشاعر نحن بحاجة اليوم إلى إزكائها، وتقرر أحكاما نحن بحاجة اليوم إلى تقريرها. والسورة عند النظر السريع تتكون من ثلاثة أقسام. قسمها الأول نزل فى السنة الثامنة من الهجرة ـ قبيل فتح مكة ـ فى نفس الاستعداد للفتح والنفير العام الذى عبئت فيه قوى المسلمين فى المدينة كى يستعدوا لهذا الفتح، أما وسط السورة المتعلق باسمها ـ وهو الممتحنة ـ فإنه نزل فى السنة السادسة أوائل السابعة بعد معاهدة الحديبية. وأما آخر السورة فنزل بعد فتح مكة فى السنة الثامنة. وهذا ترتيب غريب فى السورة أن يكون أولها فى صدر الثامنة، وآخرها بعد الثامنة، ووسطها قبل السابعة!! ولكن الذى استيقنا منه أن المصحف الذى نقرؤه الآن على الترتيب الموجود عليه هو هو المصحف بترتيبه فى سجل اللوح المحفوظ عند رب العالمين، ولكن ينزل منه أو نزل منه أول ما نزل وفق المناسبات التى تتطلب توجيها خاصا وهداية معينة، فإذا نزلت هذه الهدايات تلبية للمناسبات التى طلبتها فإن صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم يأمر بوضع الآيات فى المكان الذى يلهمه الله أن يأمر بوضعها فيه وفق ترتيب المصحف عند رب العالمين. إن الواحد منكم قد يفتح المصحف فيقرأ أول ما يقرأ فاتحة الكتاب وهو يعلم أنها نزلت بعد المدثر، ويقرأ بعدها سورة البقرة وهو يعلم أنها نزلت بعد فاتحة الكتاب بأكثر من ثلاث عشرة سنة أى فى العهد الأول للهجرة، لكن هذا النزول المتأخر غير الترتيب عند الله فى اللوح المحفوظ بدليل أن قارئ الفاتحة يدعو فى ختامها: (اهدنا الصراط المستقيم)، وتجئ سورة البقرة بيانا لطريق الهدى فيقول جل شأنه: ص _233(2/213)
(ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) فالسورة الصغيرة التى فتح بها المصحف جاءت سورة البقرة تلبية وإجابة لدعاء المؤمنين فيها. فالترتيب عند الله قائم حسب مصحفنا الذى نقرأه، فكل محاولة لتغيير هذا الترتيب أو الخروج عليه فهى محاولة تمزيق الوحى وإبعاد الناس عن الترتيب الطبيعى له. ! إن السورة كلها نزلت كى تجعل المسلم يحيا لمعتقده، ويعيش وفق منطق الإيمان، فإذا أملى الإيمان حبا أحببنا، وإذا أملى كرها كرهنا، وإذا أملى زواجا تزوجنا، وإذا أملى طلاقا طلقنا، وإذا أملى بيعة بايعنا، وإذا أملى قطعة قطعنا. أساس السورة أنها نزلت كى تجعل المؤمنين يحيون لله، ولذلك بدأت السورة تؤكد معنى ما أحوج المسلمين إليه فى أيامهم هذه: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) أى أصدقاء: (تلقون إليهم بالمودة) ماذا صنعوا؟ (وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم) لأنكم آمنتم بالله أخرجوكم (إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي) أى فلا تفعلوا هذا، وعلى من تخبئون نياتكم وتطوون أعمالا غير لائقة فى طواياكم (تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل) نزلت هذه الآيات؟ قلت لكم الآن قبيل فتح مكة، والسبب فى نزولها : أن رجلا من المسلمين اعترته ساعة ضعف، فلما علم بذكائه أن العدة تُعد لفتح مكة أرسل كتابا مع إحدى النساء إلى أصدقاء له فى مكة يبلغهم بما يقع فى المدينة، وكأنما يحذرهم ما يعد لهم. هذا تصرف غريب، هذا عمل لا يليق، وقد يوصف بالخيانة،، كيف يقع هذا العمل؟ إن الرجل اعتذر عن نفسه لما كشف عمله وقبض على خطابه الذى أرسله، قال للنبى صلى الله عليه وسلم: أنا رجل مؤمن، ولكنى فى مكة لا عزوة لى ولا مكانة، ص _234(2/214)
وخشيت أن تدور بالمسلمين الدوائر فأردت أن تكون لى يد هناك، إذا ما أصبنا لم ينكلوا لى!! والنبى عليه الصلاة والسلام كما وصفه رب العالمين: (بالمؤمنين رءوف رحيم)، إن عمر رضى الله عنه قال: يقتل هذا المنافق !! لكن النبى صلى الله عليه وسلم فى محاكمته للرجل نظر إلى ماضيه، فوجده صاحب ماضي طيب، فمن أمجاده أنه ممن حضروا "بدرا" فعذر الرجل، أو بتعبير أدق رق له، وقدر أن ساعة ضعف ألمت به فجعلته يرتكب مالا يليق، وقرر أن يعفو عنه، لكن العفو عنه ربما فهم الناس منه أن ذلك الموقف يقبل أو سهل أو يتجاوز عنه، وهذا لا يمكن أبدا، ويستحيل أن تكون لهذا الموقف عند الله صفة القبول، إنها في ذلة أن تضرب فتستكين، إنها وضاعة أن يعتدى عليك فتقبل العدوان فى دينك ودنياك، إنه لا يجوز إذا أهين الإنسان فى معتقده، وإذا أصيب فى كرامته الدينية والدنيوية، لا يجوز بتاتا أن تلقى ذلك بالتسليم والخنوع، يجب أن يغضب لربه ونفسه، يجب أن يمنع أى شعور بالرضا أو بالهوادة يتسلل إلى فؤاده، يجب أن يغضب لله وأن يحقد على من أهان الإسلام والمسلمين ومن استباح حرماتهم وتجاوز حدودهم ونال منهم، ولذلك نزلت الآية هنا فى مطلع تلك السورة تكره للمسلمين هذا الموقف وتقول لهم: (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) ثم بين جل شأنه أن هؤلاء الذين هادناهم أو أرسلناهم أو أسررنا مودتهم، بين أن هؤلاء يكرهون الإيمان، ويحبون أن يجتثوه من جذوره، وأن يأتوا عليه من قواعده، وأن يروا المؤمنين كفارا ليس فيهم موحد، وليس فيهم من تبقى على الإسلام أو يعتز بالانتساب إليه، فقال مبينا حالهم: (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون) ثم بين جل شأنه أن الصلات التى تربط بين الناس بالدم أو بالمال أو بأى نوع من الصدقات أو المهادنات لا قيمة لها عند الله: (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم(2/215)
القيامة ص _235
يفصل بينكم والله بما تعملون بصير) ما الموقف الواجب؟ ما المسلك المفروض على المؤمن فى مثل هذه الأحوال؟ المسلك ما صنعه إبراهيم عليه الصلاة والسلام والمؤمنون معه ضد أعدائهم الكافرين بالله: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء) إن قول إبراهيم لأبيه مستثنى من القدوة الحسنة، لأن قول إبراهيم لأبيه إنما حدث لأن إبراهيم أمل فى إيمان أبيه ولذلك دعا له، لكنه لما علم أن أباه عدو لله تبرأ منه: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) هذا المعنى له تتمة نذكرها بعد قليل، قبل أن نذكر هذه التتمة نريد أن نعرض لوسط السورة وآخرها. وسط السورة تحدث عن الممتحنة التى سميت السورة باسمها، حدث فى السنة السادسة للهجرة أن عاهد النبى عليه الصلاة والسلام قريشا معاهدة تضمنت شروطا مثيرة فى ظاهرها مستغربة فى نصوصها، فإن هذه الشروط تضمنت: أن من ترك مكة مؤمنا لم يستقبله المسلمون فى المدينة ولم يفتحوا أبوابهم له، وأن من ترك المدينة مرتدا تركه المؤمنون ليلحق بالمشركين فى مكة دون عائق.. هذا الشرط معروف أن النبى صلى الله عليه وسلم اتخذه وأن بعض المسلمين حاك فى نفسه شئ من الضيق والتردد لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم حسم الأمر وأمضى العقد .. ورجع المؤمنون إلى التسليم لله ولرسوله ومضت المعاهدة دون أن يعترضها بعد ذلك شئ، لكن نزل القرآن الكريم باستثناء يقول: إذا خرج مؤمن من مكة وفوا بالعهد فلا ص _236(2/216)
تستقبلوه فى المدينة ما دام ذاك ما تعاهدتم عليه، لكن إذا خرجت امرأة مؤمنة من مكة تريد اللحاق بالمدينة فلتفتح لها الأبواب ولا يجوز أن ترد إلى مكة.. إلى زوجها، أو أهلها بعد أن تركتهم ابتغاء ما عند الله، إننا قبلنا ألا تفتح الأبواب فى المدينة للرجال ، أرض الله واسعة يستطيعون أن يخدموا الإيمان فى أى مكان، يستطيعون بولائهم لعقيدتهم أن يستقروا فى أية بقعة من الأرض وأن يجعلوا منها وطنا جديدا للإسلام، أما المرأة إذا منعت من أن تدخل المدينة فإنها تتعرض لبلاء ومتاعب هى دونها، ما تستطع أن تتحملها، فنزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن) اختبروهن.. ترى هل خرجن فعلا بدوافع الإيمان الخالص والتقوى لرب العالمين.. ما خرجت امرأة منهن طالبة ريبة أو مبتغية شهوة جنسية؟ فإذا استيقنا من أنها خرجت مؤمنة حقا اتسعت لها المدينة واتسعت لها القلوب، ووجب أن تستقر فى المدينة المنورة استقرارا لا ريب فيه، بل مضى الإسلام فى طريقه يقول: ـ منبها المسلمين إلى شئ يجمل بهم ـ ما دامت هذه المرأة جاءت مؤمنة تاركة زوجها الكافر فينبغى أن تتركوا أنتم معشر الرجال الزوجات المشركات ولا بأس أن تتزوجوا المؤمنات المهاجرات المقبلات ما دام قد استبان أنهن خرجن لله كارهات للكفر والكافرين، فلتكن المكافأة لهن أن يجدن بيوت المؤمنين مفتحة لهن: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا) أى عوضوا الكفار الذين تركتهم زوجاتهم.. أعطوهم تعويضا، أعطوهم ما دفعوا من مهر، ثم: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) يفسخ العقد بينكم وبين الزوجات الكافرات ، وهنا تستطيعون معشر المؤمنين أن تستبدلوا ص _237(2/217)
بهن أولئك النسوة المهاجرات هذا تصرف بنى تشريعه على أساس عاطفة الحب فى الله والبغض فى الله وتقدير ذلك.. كان ذلك فى السنة السادسة والسابعة أيام عهد الحديبية، ثم فتحت مكة فى السنة الثامنة، ودخل كثير من الرجال فى الإسلام، بايعهم النبى صلى الله عليه وسلم غداة الفتح، ثم انعقدت بيعة أخرى للنساء، وبيعة النساء جاءت بعد بيعة الرجال ليعلم أن المجتمع لابد أن يكون طرفاه أو جناحاه أو جنساه معا على درجة واحدة فى الاتصال بالإسلام، والفقه فى تعاليمه والأداء لحقوق الله المقررة، والاستقامة مع مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم.. وجاءت النسوة المبايعات ورئيستهن أو طليعتهن امرأة أبى سفيان ـ هند بنت عتبة ـ آكلة كبد حمزة بن عبد المطلب ـ سيد الشهداء وعم النبى صلى الله عليه وسلم ـ لكن محا الإيمان ما صنعت، افتتحت صفحة جديدة بإيمانها، كنا نكرهها لله فأصبحنا بعد أن آمنت نقبلها ونرضى ببيعتها بل نطلبها لتلك البيعة: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم) أضع خطوطا تحت كلمة (ولا يعصينك في معروف) كأن أحدا ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطاع إلا فى معروف، ويستحيل أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالمعروف، ولكن كلمة.. (ولا يعصينك في معروف) إشارة وتوكيد إلى العلاقات بين الناس جميعا لا تحترم إلا إذا كانت وفق مراد الله وما يرضاه وما قرره فى دينه وما رسمه فى وحيه، أى وفق قواعد المعروف، أما المنكر فلا طاعة فيه لأحد أبدا وختمت السورة بعد ذلك بآية أكدت أولها، وفى الوقت الذى أكدت فيه أولها تجعلنا نسأل عن التتمة التى وعدت بها.. يقول الله ص _238(2/218)
آخر السورة: (يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور). هل معنى النهى عن تولى الكافرين أو مصادقة الكافرين، هل معنى ذلك أن مجرد الاختلاف فى الدين يؤسس عداوة بين المسلمين وغيرهم من خلق الله؟ لا. هذا غير صحيح، مجرد الاختلاف فى الدين لا ينشئ عداوة بين المسلمين وغيرهم من الناس، فإن الاختلاف فى الدين قد تكون له أسباب فوق إرادات الخلق.. الإسلام دين عدل، ودين إنصاف، ودين منطق سديد، وكما قلت لكم: تميز الإسلام بأنه دين العقل والعدل.. إنه يقول: الخلاف فى الدين ليس سبب العداوة، إنما سبب العداوة أن يجئ أحد الذين خالفونى فى دينى فيجور على ويتنكر لى ويبتغى الريبة فى مجتمعى، ويطلب النكال لى دون سبب.. هذا الذى ينال منى هو الذى ينبغى أن أنظر إليه شررا وأرمقه بعين فيها ضيق وغضب، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين * وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) كأن الذى يلعب لى أو يستهزئ لى أو يتعرض لى أو يهاجمنى أو يفعل أفعالا سخيفة بازائى هذا هو الذى لا يجوز أن أصادقه ولا يجوز أن أتولاه.. فلنعد إلى السورة التى شرحنا صدرها ورأينا كيف نهى الله فيها عن مصادقة أعداء الله وأعدائنا قال: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) نجد أنه بعد عدة آيات يقول: (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم) إن ديننا يشتاق إلى السلام وإلى إقراره وإلى الأمن والطمأنينة وعهودهما الرخية الطيبة، ويبنى على هذا حكما محددا فيقول: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ص _239(2/219)
وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) البر والقسط صفتان أعامل بهما مخالفى فى الدين، البر والقسط (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) هذه سورة الممتحنة، سورة الحب والبغض فى الله، سورة التعصب للحق والمبدأ، ومعاملة الناس على أساس ذلك كله. ولنا تعقيب عملى على ذلك فى الخطبة الثانية إن شاء الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _240(2/220)
الخطبة الثانية الحمد لله.. (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد أيها الأخوة: لم يحدث على طول التاريخ الإسلامى أن كان المسلمون أصحاب تعصب أحمق أو أصحاب عنجهية غبية فى معاملة غيرهم من الناس الذين لا يؤمنون بدينهم، بل مع أن التاريخ الإسلامى تضمن أخطاء كثيرة للحكام ولبعض الفقهاء إلا أن هذا التاريخ ليس فيه أن المسلمين عاملوا مخالفيهم فى الرأى بالغباوة والضغينة والتحدى الذى انطوت عليه قلوب غير المسلمين عندما يحكمون ويتولون الأمور، وقد قال لى مسلم ساذج ـ وهو تعبير مخفف لأنى اعتبرته مسلما مغفلا ـ قال لى: إن قانون بناء الكنائس مخالف لنص الدستور الذى يبيح حرية العقيدة.. فقلت له: إن هذا القانون لابد منه، وهو قانون محترم، ولم يسنه الحكام لكى يصادروا به عبادة أو يضيقوا به على طائفة، أو يفرضوا الإسلام على أحد من الناس، ولكنك إنسان لم تدرس ولم تدرك ثم اندفعت بسذاجة أو بغفلة تحكم حكما ربما دمرت به بلدك ودينك!! قال لى: كيف؟ قلت له: لو أن إخواننا الأقباط أرادوا بناء كنيسة لهم ليعبدوا الله فيها ومنعهم المسلمون فأنا معهم ضد المسلمين حتى تبنى كنيستهم التى يعبدون الله فيها!! عمر بن الخطاب ص _241(2/221)
رضى الله عنه رفض أن يصلى فى الكنيسة حتى لا يتخذ المسلمون الكنيسة مسجدا، وجعلها تبقى لهم كنيسة.. وهذا عهد الله عندنا وشرف الإسلام فيما علمنا، لكن هناك شئ يفعل لا صلة له بحرية الاعتقاد، يوم يطلب الأقباط بناء كنيسة للعبادة فلتبن لهم كنيستهم، أما إذا كانت لديهم كنيسة يعبدون الله فيها وتسعهم بيقين ثم أرادوا بناء ثانية وثالثة ورابعة.. هنا يقال: لم؟ لا معنى لهذا التزيد فى البناء، وهذا التوسع فيما لا معنى له. إن الصليبية العالمية توعز إلى عملائها أن يضعوا الطابع المسيحى على الأرض حتى يضار الإسلام ويفهم أن هذه الأرض ليست أرض الإسلام !! هذا خطأ، مادامت هناك كنيسة تكفى فلا معنى لبناء ثانية وثالثة ورابعة، ولا معنى لتحدى الكثرة المسلمة، إن " لبنان " أوعز الأوربيون إلى الموارنة هناك أن يضعوا الصلبان على الجبال حفرا، وأن يقيموا معالم تحمل شارة الصليب!! لم؟ لأن المراد صبغ الأرض بالصيغة المسيحية أو طبع الأرض بالطابع الصليبى، لا معنى لهذا إذا كانت كثرة الأمة مسلمة.. إذا كنت تريد عبادة فأنا أبنى لك ما تعبد الله فيه، أما أن تريد بناء ما يعنى فى قيامه أن الأرض ليست للإسلام وأن المسلمين الكثرة قلة فهذا هو التحدى الذى لا معنى له، والحكومة مقدورة السلوك.. مشكورة التصرف عندما استبقت هذا القانون.. لأنه قانون حكيم وعادل.. افرض أنى أصلى فى الأزهر، فجاء رجل أحمق فأراد أن يبني كنيسة أمام الأزهر!! لم تبنيها أمام الأزهر؟! تريد إثارة فتنة، ليست هذه عبادة. إن الإسلام هدم مسجد الضرار، وهو مسجد، لأنه بنى لغير العبادة، فلا معنى لأن تبنى كنيسة أمام الأزهر، أبنيها لك فى مكان آخر وتعبد الله وأنت مطمئن فى هذا المكان، إذا هناك فرق بين بناء الكنيسة لعبادة الله وبين بناء الكنيسة لوضع الطابع الصليبى على الأرض ومكاثرة الأمة التى تسعة أعشارها مسلمون كى يقال: إن التراب ترابنا والبلد بلدنا إلى غير ذلك من السخف المنكور(2/222)
والادعاء المغموص الذى لا وزن له فى التاريخ، ومع ذلك فإنى مرة أخرى أقول للمسلمين: والله ما طمع فيكم طامع إلا لأنكم أسأتم الصلة بربكم وأوهنتم العمل بكتابكم واجترأتم على حدود الله فيما بينكم، ولو أنكم أديتم حق الله عليكم كاملا ونهضتم ص _242
بالمطلوب منكم وافرا ما فكر أحد فى أن ينال منكم ولكن الأمر كما قال القائل: إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها هوانا بها كانت على الناس أهوانا وألفت النظر إلى أن مستقبل بلدنا محفوف بالأخطار، وأن الغد القريب والبعيد يتطلب من المسلمين عقلا ووعيا.. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة... ص _243(2/223)
منهج وطريق خطبة عيد الأضحى المبارك 1407 هـ 1987 م بساحة مسجد مصطفى محمود بالمهندسين (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير * يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور). الحمد لله كما ينبغى لجلال وجهه وعظيم سلطانه. الحمد لله حمدا مضاعف الشكر والثناء والتمجيد. (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا). الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر ما بقيت الأرض بإذن ربها تُطعم وتسقى، وتُكفِت وتؤوى. (ألم نجعل الأرض كفاتا * أحياء وأمواتا * وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا * ويل يومئذ للمكذبين). ص _244(2/224)
الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. وها هى الأرض تستقبل أوائل المليار السادس على تربتها المباركة. خمسة مليارات من الخلق، ماذا يلحظ أولو الألباب فى هذا العدد الضخم؟ خمسة مليارات فم تطعم من رزق الله !! خمسة مليارات يد تبطش بقدرة الله !! خمسة مليارات قدم تسعى بإذن الله !! والعجب أن الذى دفع قوافل الأحياء تمشى على ظهر هذه الأرض لا يشغله شأن عن شأن !! فهو فى الوقت الذى يأمر المخ فيصدر تعاليمه لجهاز الأعصاب فى البدن كله، فى الوقت الذى يصدر تعاليمه للكلى كى تفرز الأذى وتطرده من البدن، فى الوقت نفسه تراه يدير القمر حول الأرض، ويدير الأرض حول الشمس، ويجعل الشمس تجرى لمستقر لها، ويبعثر فى الفضاء الواسع والملكوت الضخم ألوفا مؤلفة من المجرات التى تسبح بحمد ربها، ما يزيغ فلك من مساره، ولا ينحرف كوكب عن مداره !! إن الذى يدبر الأمر عند سدرة المنتهى هو الذى يدبر الأمر فى جهاز هضمى أو عصبى لحشرة تزحف على ظهر الأرض !! ما أعظم ملكوت الله !! ولكن المكذبين لا يعلمون (ويل يومئذ للمكذبين)! إننا ننظر إلى عظمة الله، وإلى جلال الله، وإلى فضل الله، وإلى حكمة الله فنشعر بخضوع العبودية وإخلاص من يتوجهون بسرائرهم وبصائرهم إلى ربهم يرجون رحمته ويخافون عذابه !! قد يقول قائل: ذكرت أن الله يطعم كل فم ومنه سبحانه بصر كل ذى بصر وسمع كل ذى سمع، إنك ذكرت الخير ولم تذكر أن هناك أفواها جائعة، وأمراضا شائعة، ومتاعب كثيرة وآلاما شتى، فلم نسيت ولما ذكرت؟ والجواب: أن الخير من الله سبحانه وإليه، أن الله سبحانه أصلح هذه الأرض وبارك فيها وقدر فيها أقواتها وقال للناس: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) قال للناس: سيروا وفق أوامرى، وامضوا حسب تعليماتى تظفروا بما أودعت فى الأرض من خيرات وما يسرت لكم من رحمات، ولكن ما تكون عليه الحال عندما نرى أمما لديها قناطير مقنطرة من الخير فتأبى إلا أن تحتكر لنفسها ما تحب وأن تحرق المحاصيل(2/225)
الزائدة حتى ص _245
لا يرخص السعر؟!! (آلله أذن لكم أم على الله تفترون) ماذا نقول لأمم تجند الأموال فبدل أن تجعلها تذهب لأفواه الجياع تصنع بها أسلحة الدمار الشامل؟!! إنها أمم تفسد فى الأرض، وهذا الفساد هى مسئولة عنه ومأخوذة به كما قال تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون). فى يوم ما كان الفساد يملأ الدنيا، وكانت الجماهير قد زاغت عن وحى الله، وكان من يحملون الدين عبيدا للدنيا، وكان الساسة والقادة مذهولين عن ربهم مشغولين بشهواتهم فابتعث الله من بين العرب الإنسان الذى قرر أن يصلح الدنيا به، فقد قلنا وما نزال نقول: إن الله ربى محمدا صلى الله عليه وسلم ليربي العرب، وربى العرب بمحمد صلى الله عليه وسلم ليربى بهم الناس أجمعين!! ذاك يوم يعرف العرب رسالتهم، ويوم يحسون مسئوليتهم، ويوم يدركون مالهم وما عليهم !! إن العرب استمعوا فى حجة الوداع إلى قول الله سبحانه- وهو الذى ندير عليه خطبتنا الآن (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) هذا العيد ـ عيد الأضحى ـ هو عيد اكتمال الدين، وتمام النعمة، وتهيئة أمة تنهض برسالة الخير والحق لتسعد نفسها وتسعد الناس أجمعين. (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) لكن اكتمال الدين لم يتم بين عشية وضحاها، إنما اكتمل الدين بعد أن ظل القرآن ينهمر بخيراته وبركاته نحو ربع قرن خلال ربع قرن كان نبينا عليه الصلاة والسلام يربى الأمة التى تنهض برسالتها، وتؤدى الحقيقة الكاملة التى زاغت أمم عنها (تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم) وإنه لمن ص _246(2/226)
الممكن بقيادة محمد عليه الصلاة والسلام وبجمهور فى نضارة السلف الأول واستحكام عقله وقدرته على الاتباع فى شئون الدين والابتداع فى شئون الدنيا، إنه لمن الممكن بهذه القيادة وهذه الجماهير أن تنهض حضارة. الحضارة التى أقامها الإسلام بدأت فكرا حرا، وخلقا قويما، وصراطا مستقيما، وتوجد الآن مذاهب وفلسفات قطعت من عمرها سبعين سنة ولكنها ما خففت فى الأرض إلا الأحقاد، ولا استبقت بين الناس إلا الإلحاد، وما عاشت- ولا تعيش- إلا فى ظلمات الاستبداد !! أما الأمة الإسلامية فقد جار عليها الزمن دهرا، ومع ذلك أوى الإيمان إلى قلوب واثقة من ربها إن أظلم عليها يومها أملت الشروق فى غدها واستمسكت بعروة الحق حتى تنتصر به إلى آخر الدهر !! أيها المسلمون يجب أن نعرف أن اكتمال الدين وتمام النعمة-كما يرشد إليهما عيد الأضحى ـ يطلب منا أن تدرى بدقة ماذا علينا، وما الذى نصنعه حتى نقوم بوظيفتنا، الدين اكتمل، والأمة انبعثت به فأضاءت المشارق والمغارب، لكن مرة أخرى نستدرك، كيف تم هذا الدين؟ أو ما هى العناصر التى يمكن أن نؤدى باستكمالها واجباتنا؟ يقول الله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون * فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون). ثلاثة عناصر نريد أن نتدبرها تكررت فى القرآن أربع مرات وهى تحدد طبيعة الرسالة التى يعتنقها المسلمون ومكتوب عليهم أن ينهضوا بها. أول هذه العناصر: التلاوة: (يتلو عليكم آياتنا) ثاني هذه العناصر: التزكية (ويزكيكم) التزكية هى التربية، ثالث هذه العناصر: التعليم (ويعلمكم الكتاب والحكمة). العنصر الأول: وهو التلاوة... ينبغى أن يعرف على حقيقته فليست التلاوة أن يجئ قراء حسنو الصوت لكى يقرأوا الآيات منغومة ويستمع ص _247(2/227)
الناس إليها وهم مسرورون بموسيقاها !! لا. التلاوة هنا تعنى: عرض منهج، تعنى: تقديم برنامج، تعنى: رسم الخط البيانى للأمة ـ للأمة كلها ـ فالتلاوة تعطى صورة مجملة للإسلام فى عقائده وعباداته وأخلاقه وأعماله، يقول الله تبارك وتعالى": (كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب) التلاوة هنا: رسم منهج، وبيان طريق، وإعطاء صورة عامة لملامح الإسلام، وهذا حسن، فإن عيب بعض المسلمين أنهم يدركون جانبا من جوانب الحق ويذهلون عن بقية الجوانب، والتلاوة عندما تقرع الآذان، وتصل إلى القلوب إنما تعرض الإسلام متكاملا، ولا بد من هذا التكامل بجميع دقائقه وأسراره. العنصر الثانى: وهو التزكية.. وهو عنصر أضاعه المسلمون للأسف.. (يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم) التزكية: هى التربية، كل أمة لا تربي لا خير فيها ولا تؤدى واجبها، التربية هى تكميل النفس الإنسانية بقمع أهوائها، وإطلاق خصائصها العليا وهو ما قاله الله تعالى فى مكان آخر (ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها) لا قيمة لإيمان يكون أوراقا ملصقة بالكيان الإنسانى، قد تدارى عورته أو تستر تشويها فى الجدار، الإصلاح الحقيقى: عمل داخل النفس الإنسانية، وكل منا يولد وله شهوات قد تكون جامحة، وله طباع قد تكون رديئة، وكل منا فى بيئته قد تتسلل إلى أحواله عادات سيئة ومسالك رديئة، لا يقوم دين ما بقيت هذه الشهوات تجمح، وما بقيت هذه العادات تسيطر،. لابد من تزكية، والتزكية كانت العنصر الثانى فى أغلب آيات القرآن بعد التلاوة، وإن كانت قد جاءت فى دعوة إبراهيم آخر العناصر الثلاثة ص _248(2/228)
(يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) لتكن التزكية العنصر الثانى أو العنصر الثالث فالواو كما يقول علماؤنا لا تفيد تعقيبا ولا ترتيبا، وإنما المهم أن نحسن الحسن وأن نقبح القبيح، وأن نسير بطباع بعيدة عن الهوى، وأخلاق بعيدة عن العوج. مر بأمتنا هذه ـ حتى فى أيام انهيارها ـ مر بها زمان كان التلميذ لو وصف بالغش لاحمر وجهه، أو لحاول استنكار ما نسب إليه، لا تزال بقية خير فى النفوس، أثر التزكية القديمة يوم كان للدين أثره، ثم وجدنا يوما أن هناك غشا جماعيا تتواصى به فصول ويتواصى به مربون وأولياء أمور !! كيف تنجح أمة يتحول فيها الضلال إلى أن يكون عنصرا سائدا يعيش الناس فى ظله؟!!. وما النتيجة يوم أن يتخرج طبيب وهو غاش مغشوش، أو مهندس وهو غاش مغشوش؟!! كيف تسلم الأمة في زمامها إلى أناس هم خريجو الغش؟ !!. إن العطب قد أصاب النفس الإسلامية فى صميمها، وليس هناك أمل إلا فيمن يربون داخل جماعة إسلامية. إن التربية لا تسمح بنبت شيطانى، التربية هى زرع أشرف عليه المشرفون ونموه بعين الله، وسقوه حتى نضج، ومنعوا عنه الآفات حتي اكتمل وأعطى حصاده كاملا موفورا، هذه هى التزكية، وما تتم إلا بتعهد، وما أحوج المسلمين إلى صناعة التربية، فإنهم بغير هذه الصناعة لن يصلح لهم لا حديد ولا نحاس ولا شئ من هذا كله، النفس أولا، الإنسان هو عنصر النجاح أو الفشل، هو عنصر النصر أو الهزيمة، وهذا ما فعله نبى الإسلام عليه الصلاة والسلام فقد صاغ من العرب شعبا هو بعقله المثقف وبقلبه المستنير وبما أودع الله فى سرائره من خير هو الخير كله وكان النجاح كله. العنصر الثالث: التعليم.. (ويعلمكم الكتاب والحكمة) كثير من المفسرين ظن ص _249(2/229)
أن الحكمة هى السنة، وهذا تفسير قد يصح فى بعض المواضع التى ذكرت فيها الحكمة فى القرآن الكريم، كلمة " الحكمة " ذكرت فى القرآن الكريم أكثر من عشر مرات، وهى تفيد أن العمل الصحيح المتقبل إنما يتم بصدق النظر وحسن الفقه، وأنه مع الجهل لا تقوم حكمة، إنما تقوم الحكمة مع الحكم الدقيق والنظر الصائب فى الأمور، وهذا ما نحب أن يعرفه الناس، وقد ذكرت كلمة " الحكمة " فى مواضع شتى.. منها قوله تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله) وذكرت فى قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا * ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا * كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها * ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة) نحن محتاجون الى أن نتعرف كيف نقيم العناصر الثلاثة لرسالتنا.. (يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة). الحقيقة أن الأمة الإسلامية اكتملت تعاليمها فى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولكن ظهر من انحرف بهذه التعاليم أو ابتعد عنها أو أساء إليها فماذا كانت النتيجة ؟ بدأنا ننحدر عن المكانة التى بلغ إليها آباؤنا، كان آباؤنا العالم الأول خلال ألف سنة تقريبا، من علمنا أضاءت الدنيا، ومن أخلاقنا انقمعت شهوات، إن الأمة الإسلامية نسق وحده فى تصحيح الأفكار، وفى صيانة الأعراض، وفى ضبط السلوك وفى ذكر الله وتحرى رضاه والاستعداد للقائه !! لكن أمتنا الآن بلغ بها حد الانحراف مكانا طوح بها فى مهاوى الذل، وأصبحت أمة أخرى غير الأمة الأولى !!. أمة تعرض الحق يجب أن تعلم ما يأتى.. يوم تكون يدنا السفلى نتسول من غيرنا طعامنا فإن من يكون أسفل اليد لا ينتظر من الآخرين أن يتبعوه، إنما يتبع الناس من يده العليا، والجهاد علم فى البر والبحر والجو ص _250(2/230)
ويوم يفشل المسلمون فى علوم البر والبحر والجو التى لا ينتصر الحق إلا بها، ويوم يمدون أيديهم لتلتقط الفتات من الآخرين فإنهم لن يعزوا الإسلام بهذا الضياع وبذلك الجهل !! أمتنا ربما تريد أن تسير سفينة فتحتاج إلى (علم) آخر لكى تستطع السفينة أن تسير، سفينة عزلاء لا تستطيع أن تمشى وحدها، هى بحاجة لأن تدخل فى جوار قوى، وأن تسير تحت " علم " قوى فإذا كان القوى كافرا بالله أو ضعيف العلم به أو مثلثا- يؤمن بالأب والابن والروح القدس- أفتظنون أن هذا الضياع العلمى والتخلف الحضارى يعز الإسلام ويدعم كلمة التوحيد!؟ إن أمتنا محتاجة إلى أن تعرف نفسها والمدى الواسع الذى تخلفت فى مبادئ طريقه، إنها أمة لم تحسن الاستماع إلى كتاب ربها، أحيانا أقول وأسأل نفسى: إنه تعالى ذكر لنا فى كتابه الذى أمرنا بتلاوته وتعلمه: (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) أقول: من الذى نفذ هذه الآية، ومن الذى استمع إليها؟!! ليست لنا سفينة مدنية أو عسكرية صنعناها فى بلدنا!!. ليست لنا حاملة طائرات!! ليست لنا مدمرات ولا طرادات !! ليست لنا أشياء نحكم بها الأمواج ونسير بها فى البحار !! من الذى استمع إلى هذه الآية: (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره) استمع إليها الروس، استمع إليها الأمريكان، استمع إليها الأوربيون، أما نحن فنستمع لا لنتربى ولا لنملك حضارة سخية غالبة منتجة، لا. إنما استمعنا وقلوبنا بعيدة، إن أمتنا تخلفت كثيرا، وما تستطيع أن تعود إلى مجدها الأول وعظمتها الغابرة إلا يوم تقيم العناصر الثلاثة التى شرحناها، وأمامنا بعد ذلك تعليق فى الخطبة الثانية لابد أن تستمعوا إليه إن شاء الله. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _251(2/231)
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). أشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام النبيين وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على"سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد أيها الأخوة.. كان يوم الجمعة الذى مضى من أيام الإسلام الحزينة، ووقعت فيه وقائع مؤسفة يندى لها الجبين، ويحس المؤمنون بازائها أنهم عصوا ربهم وابتعدوا عن صراطه المستقيم. أحب أن نعرف ـ أيها الأخوة ـ بعض الطبائع للأمكنة والأزمنة التى تقررت فى ديننا. عندما أقسم الله بأوطان الرسالات السابقة قال: (والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين) فالخاصة الأولى والبارزة فى البلد الحرام- مكة- أنها بلد الأمان.. (أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم) وعندما امتن الله سبحانه وتعالى على سكان الحرم امتن عليهم بأنه وفر لهم من الحريات الاقتصادية والسياسية ما جعل الناس لا يجوعون ولا يقلقون فقال جل شأنه: (فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). ص _252(2/232)
لا خوف هنالك، البلد آمن، لا فى عهد الإسلام وحده بل منذ أذن إبراهيم فى الناس بالحج، كان الرجل يلقى قاتل أبيه فى الشهر الحرام أو فى البلد الحرام فلا يستطيع أن يثأر لنفسه أو أن يقتص لما أصابه ويدع هواه تحت نعله لكى يبقى الأمان سائدا فى هذا المكان !!. النبى عليه الصلاة والسلام بين أن الدماء والأعراض والأموال مصونة ومكرمة ومحظور العدوان عليها كما حظر أى عدوان فى الشهر الحرام أو فى البلد الحرام، يقول النبى صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع: " يا أيها الناس أي يوم هذا قالوا: يوم حرام قال: فأى بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال فأى شهر هذا؟ قالوا شهر حرام قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فى بلدكم هذا فى شهركم هذا ". الإسلام حرم الجدل فى الحج وقال: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج) الإسلام حرم الجدل.. فى هذا المكان يتهاون الناس به ولا تزال مشاعرهم تنحدر بازائه حتى يقتل بعضهم بعضا فيه !! فى يوم الجمعة الماضية قتل نحو أربعمائة شخص ـ أكثر ـ أقل ـ لا يعنينى العدد ـ إنما الذى يعنينى أن الدم الحرام استبيح وأن البلد الحرام استبيح وأن الشهر الحرام استبيح وأن الأمة الإسلامية كأنما عادت إلى جاهليتها الأولى !! لست أفتح محضر تحقيق لأحد. إنما أحب أن أقول: إن الهتاف الوحيد الذى ارتضاه الله لنا فى مواطن الحج هو: " لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ". هذا هو الهتاف، لا نحب أن نهتف بحياة أحد ولا بسقوط أحد، هو هتاف يبقى حتى يوم عرفة ثم يتغير ليكون: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير، وهو عل كل شئ ص _253(2/233)
قدير) ثناء على الله واستجابة لندائه وأداء لحقوقه، هذه هى مناسك الحج، لا حرج أن تكون لى قضية أشرحها، ولقد رأيت وشاركت فى الموسم الجامع فى قضايا تحدث فيها إخوان لنا من " الفليبين " وتحدث فيها إخوان لنا من المظلومين، وأشرفت على هذه المجالس وشرح هذه القضايا وزارة الشئون الدينية هناك فى المملكة العربية السعودية أنا لا أدرى ما حدث وكرهى لما حدث يجعلنى أضيق به، ولكنى أغلغل البصر فى طباع أمتنا ثم أشعر بالحياء، أنا أستنزل لعنة الله على من استباح الحرم، ومن سفك الدم، أنا مشغول بالأمة الإسلامية وطبيعتها النفسية، اعرفوا أنفسكم، اعرفوا أنفسكم، روايات كثيرة تقول: إن مئات ماتت تحت الأقدام، ما معنى هذا؟ أنا أحدثكم بالشرح العلمى لهذا الذى حدث. هناك أمة تعرف أدب السلوك وتعرف ما أسميه: بنظام الصف، ما هو نظام الصف؟ نظام الصف هو الذى قال فيه صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام: " أقيموا الصفوف فإنما تصفون بصفوف الملائكة وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا فى أيدى إخوانكم ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفا وصله الله تبارك وتعالى ومن قطع صفا قطعه الله " نظام الصف هو الذى نبه القرآن إليه عندما قال: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) ! هذا نظام الصف، هناك نظام ـ هو لا يسمى نظاما ـ هو نظام القطيع، وما نظام القطيع؟ يكون العدد الضخم فى مكان فيجئ فزع فإذا بالقوى يثب فوق الضعيف وإذا بالكبير يقفز فوق الصغير وإذا بالنساء والصغار يذهبون تحت الأقدام !! اختفى نظام الصف وظهر نظام القطيع، كل يجرى لكى يحرص على حياته، كل يجرى لكى يصل إلى غرضه، ربما داس الرجل امرأته !! ص _254(2/234)
ما هذا؟ هذا نظام القطيع وليس نظام الصف الذى أقامه الإسلام، وأمتنا إلى الآن إذا صعدت سيارة فبنظام القطيع لا بنظام الصف، بينما نجد فى العواصم الأخرى أن نظام الصف هو الذى يسود المجتمع فى شئونه المدنية والعسكرية كلها، ما الذى دهى الأمة الإسلامية حتى تحولت إلى نظام القطيع ؟ ما الذى جعلها تفعل بنفسها هذه الأفاعيل؟ إننا أحوج أهل الأرض لأن ندرس ديننا وأن نتعرف أسراره، إننا ألف مليون مسلم يزيدون مائتى مليون أيضا، نحن المسلمين ربع سكان الأرض، فى كل أربعة أشخاص أو خمسة يوجد مسلم، مسلم بالوراثة، مسلم بالاسم، لكن أهو مسلم بالتلاوة وبالتزكية وبتعلم الكتاب والحكمة؟ أهو مسلم بالحضارة التى يقدمها للخلق؟ أهو مسلم بالإنتاج الذى يستغنى به عن العدو؟ أهو مسلم بالرقى العقلى والخلقى الذى يجعله طليعة للناس وإماما فى الدنيا؟ لا، ولذلك أنا أرى أن أمتنا الإسلامية أحوج ما تكون إلى أن تعود لنفسها كى ترتبط بدينها ارتباطا حقيقيا، أول الحدود التى تقام، أول الشرائع التى تحيا أن تكون على درجة محترمة من التربية، من الأخلاق، من الدراسة العلمية الواعية، من العقل الضخم الجميل الذى لا يستطع أحد أن ينال منه. انهزمت اليابان أمام أمريكا، هل استعمرت الولايات المتحدة اليابان؟ لا، العالم لا يستعمر عالما، انهزم الألمان فى الحرب، الألمان واضعو آثار الذرة وهم من وراء كشوف علمية كبيرة، العالم لا يستطيع أن يقول لعالم آخر: تعال يا ولد، لأنه عالم مثله، الإنتاج اليابانى الآن هدد أمريكا فى داخلها مع أنها انهزمت عسكريا، لنفرض أن المسلمين انهزموا عسكريا فى ميادين كثيرة فما السر فى هزائمهم الأخلاقية والحضارية ما السر فى أنهم فى ميدان الإنتاج ضعاف؟ السلعة تخرج من أى مكان لها كمالها ولها رواؤها وسلامتها وتخرج من بين أيدى العرب مشوهة ضعيفة !! ما هذا الضياع؟ التربية لابد منها، العمل الأول للجماعات الإسلامية الآن أن توقظ شعبا تخدرت(2/235)
مواهبه، ونامت خصائصه الرفيعة، إننا لا نريد أن نكون معرة للإسلام، نريد أن نرتفع مع مستوى الإسلام، فإن الإسلام يرفع ولا يخفض، ويعز ولا يذل، هذا واجبنا الذى نؤديه. ص _255
"اللهم أصلح لا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر " (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: هذا عيد إكمال الرسالة وتمام الوحى وبدء قيام الأمة برسالتها فنهنئكم بهذا العيد ونطلب منكم أن تنصرفوا فى هدوء، نطلب منكم أن تعودوا إلى بيوتكم وأنتم أهل لمغفرة الله ورضوانه. الهدوء... الهدوء... وعدم الاشتباك بأحد. وكل عام وأنتم بخير... وارجعوا مأجورين مشكورين... والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته.(2/236)
مقدمة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. أما بعد: فيسرنى ويسعدنى أن أقدم للقراء الأعزاء الجزء الثالث من خطب الداعية الاسلامي الكبير فضيلة الشيخ محمد الغزالى متعه الله بالصحة و العافية. انه ليشرفنى أن أقوم بهذا العمل وفاء وثوابا.. إذ أننى بفضل الله تعالى أحد الذين تربوا على مائدة الاسلام من خلال هذه الخطب الفياضة التى تعتبر بحق فتحا فى الثقافة الاسلامية. ان من يتتبع هذه الخطب والمحاضرات التى نوالى نشرها يعرف أن الكلمة الحية لا تموت بل تزدهر وتزداد جمالا مع الأيام، وتمتد أشعتها أمام عيون شديدة الحاجة اليها. فبهذه الخطب المجلجلة المدوية تذكر الناس نعمة الله عليهم بهذا الدين وميثاقه الذى واثقهم به على السمع والطاعة.
ص _008
بهذه الخطب المعلمة المربية تفتحت القلوب للإسلام، وتحمست للدعوة والجهاد، وتعلمت ألا تتخذ غير الاسلام حصنأ أو دون الله ودون رسوله ودون المؤمنين وليجة.. فجزى الله شيخنا خير الجزاء، وشكر له جهده، وبارك فى علمه وحياته.. قطب عبد الحميد قطب القاهرة فى:10جمادى الأولى1409 هـ * * * ص _009(3/1)
"الشهداء" خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه فى سنة 1973 م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فإن فكرة الناس عن الموت غامضة، أو بتعبير دقيق: فكرة يكتنفها خطأ كثير. أغلب الناس يظن الموت فقدان الإحساس، وانتهاء الحياة والدخول فى أودية العدم، والتلاشى للذات الانسانية.. وكما تنفق دابة من الدواب ثم ترمى تحت أكوام التراب لتتحول بعد قليل ترابا، أو كما تذبح بقرة وتتوارى فى بطون الآكلين وتنتهى، كذلك ينتهى الناس بالموت!!. هذا ظن عدد كبير من الناس فى الموت، وهو ظن يردد ظن الجاهلية الأولى، ويصور فهمها الشارد للحياة والموت معا، وهو فهم شاع فى العصور الحديثة، لأن هذه العصور عبدت الحياة الدنيا، وأنكرت ما وراءها، ولذلك فهى تحسب المادة هى الحياة، وما وراء المادة وهم !!. ص _010(3/2)
تفكير الناس فى أن الموت نهاية الآلام هو الذى يجعل رجلا متألما ينتحر، لماذا ؟ يتصور الأحمق أن الموت يحسم الوجود، ويقطع الألم، ولو أدرك أنه بالموت سوف يبقى حيا، وأنه بالموت ينتقل من مرحلة تمثل وجودا محدودا إلى مرحلة تمثل وجودا غير محدود لتريث كثيرا قبل أن يزهق روحه، وقبل أن يقتل نفسه. لكن هذا التفكير المادى البحت غلب كثيرا من الناس.. القرآن صور لنا الموت على أنه بدء الحياة، وفى حديث القرآن الكريم عن المجرمين وعن المؤمنين نسمع فى كلا الموضعين أن الموت بدء الحياة وبدء الحساب والثواب والعقاب. اقرأ قوله تعالى فى سورة الأنعام: ( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون) اليوم لا غدا. وفى قتلى المشركين يوم " بدر " يقول الله تعالى: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق * ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد) فهو يصور أن الملائكة وهى تنتزع أرواحهم تضربهم ظهرا لبطن وتديرهم فى سلسلة من العذاب ما يعرفها أو ما يحس بها إلا أولئك الناس، لأن هذا الذى يقع يتصل بالروح. وفى الحديث عن المؤمنين نقرأ قوله تعالى : (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) يقول العلماء: إن الآية نزلت من المحتضرين من المؤمنين، فإن المحتضر ص _011(3/3)
وإن كان مؤمنا إلا أن الطبيعة البشرية فيها ضعف، فهو يتهيب العالم الذى وقف على بابه لا يدرى ما هو، وما كنهه، ثم يتخوف على ذريته أو أولاده أو أحبائه، لا يدرى ما حالهم بعده، فتتنزل الملائكة فى هذه اللحظات القلقة لتقول للمؤمن وهو على أول منازل الآخرة وآخر مراحل الدنيا: لا تخف ولا تحزن: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم) وفى وصف المحتضر فى أواخر سورة الواقعة آيات تشير إلى هذا: (فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين * فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم * وأما إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين * وأما إن كان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم * إن هذا لهو حق اليقين) قد تقول: فإذا كانت الحياة بعد الموت مباشرة نصيب المؤمنين والكافرين فما معنى أن الشهداء أحياء عند ربهم؟. إذا كانت الحياة ستكون نصيب الجميع- من أثيب ومن عوقب- فما معنى أن الشهداء أحياء؟. والجواب: أن حياة الشهداء لها طراز خاص من التكريم الإلهي، ولها أوضاع آثرها الله بها. وفى سورة آل عمران عند الحديث على قتلى " أحد " نجد القرآن الكريم يقول: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) العندية: مكانهم عند الله، هذا وصف خاص. يرزقون: هذا رزق خاص: ص _012(3/4)
(فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) للشهداء مكانة خاصة، والفقه الاسلامى على أن الشهيد أرفع الناس درجة بعد الأنبياء والصديقين، وأن الشهادة درجة يرفع الله إليها من يتخير من عباده، فهى منحة وليست محنة، إذا أراد الله أن يرفع درجة إنسان اختاره شهيدا. " جاء رجل إلى الصلاة والنبى صلى الله عليه وسلم يصلى فقال حين انتهى إلى الصف: اللهم آتنى أفضل ما تؤتى عبادك الصالحين، فلما قضى النبى صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: من المتكلم آنفا؟ فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قال "إذا يعقر جوادك وتستشهد " . هذا أفضل ما يؤتيه الله عبدا صالحا، أن يقتل فى سبيله.. فالشهادة إذن مكانة خاصة لناس يريد الله أن يرفع درجتهم، ولذلك يقول الله فى شهداء أحد: (وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين) لكن من الشهيد الذى يستحق هذه الدرجة الرفيعة، وهذه المكانة السنية عند الله؟ من هو؟ أهو كل قتيل فى معركة؟ لا. إن اليهودي الذى يقتل فوق الأرض العربية معتديا غاصبا يريد أن يطوى الرسالة المحمدية، وأن يجهز على التاريخ الاسلامى هذا القتيل كأى لص يسطو على بيت فيطلق عليه الرصاص فيذهب إلى النار وبئس القرار. ليس كل قتيل فى معركة يعتبر شهيدا، وقد وضحت السنة أن الشهداء لهم تعريف خاص، تتبعنا هذه التعريفات للشهداء فوجدناها. أولا: " من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله " . ص _013(3/5)
من اعتنق الحق، وأخلص له، وضحى فى سبيله، وبذل دمه ليروى شجرة الحق به، هذا شهيد. شهيد آخر هو: الذى يأبى الدنية، ويرفض المذلة والهوان، فإن الله سبحانه وتعالى جعل العزة للمؤمنين، فإذا حاول أحد أن يستذلك فدافع، إذا حاول أحد أن يجتاح حقك فقاوم. " جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالى؟ قال: " فلا تعطه مالك ". قال: أرأيت إن قاتلنى؟ قال: "قاتلة"، قال: أرأيت إن قتلنى؟ قال: "فأنت شهيد " قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو فى النار . وجاء فى السنن أيضا: " من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن فتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد " . فالمسلم ينبغى أن يتشبث بحقوقه وأن يدافع عنها، وألا يجعل الدنية صفة له، بل ينبغى أن يحافظ على حقه الأدبى والمادى، وليس معنى الحفاظ على الحق المادى والأدبى أن يكون الإنسان حريصا على الحياة أو حريصا على الوجاهة فى الدنيا، لا. ليس هذا هو المطلوب، وإنما حدث أن النبى صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: " ستكون أثرة وأمور تنكرونها " قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: "تؤدون الحق الذى عليكم وتسألون الله الذى لكم " . ومعنى ستجدون أثرة بعدى: أف ستعيشون فى مجتمع لا يعطيكم حقكم ولا مكانتكم. ص _014(3/6)
ما معنى تؤدون الحق الذى عليكم؟ افرض أنى فى مجتمع جائر، هل أخون؟ لا. أأدى ما على كاملا وأطلب من الله الأجر، وهو حسب كل مؤمن ووكيله. يلحق بالشهداء أيضا من مات حرقا، من مات غرقا، من مات مبطونا، من مات مطعونا . عدد من المصاير الفاجعة التى تصيب الناس، والأصل فى هذا ما جاء فى الحديث الشريف: " ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه " . فإذا مات مؤمن فى حادث من هذه الحوادث المحزنة المتعبة فهو يلحق عند الله بالشهداء!!. لكن هل الشهداء تستوى منازلهم عند الله؟. لا. وإن كانت الشهادة- فعلا- ختاما حسنا لحياة الإنسان، إلا ص _015(3/7)
أن الناس الذين استشهدوا درجات: (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللأخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) وفى حديث عمر بن الخطاب- رضى الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الشهداء أربعة رجل: رجل مؤمن جيد الإيمان لقى العدو فصدق الله حتى قتل، فذاك الذى يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة هكذا ورفع رأسه حتى وقعت قلنسوته-يقول الراوى: فلا أدرى قلنسوة عمر أراد أم قلنسوة النبى صلى الله عليه وسلم قال: ورجل مؤمن جيد الإيمان لقى العدو فكأنما ضرب جلده بشوك طلح من الجبن أتاه سهم غرب فقتله فهو فى الدرجة الثانية ورجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا لقى العدو فصدق الله حتى قتل فذلك فى الدرجة الثالثة، ورجل مؤمن أسرف على نفسه لقى العدو فصدق الله حتى قتل فذلك فى الدرجة الرابعة " . الناس درجات، والحساب الإلهي دقيق، والناقد بصير، فيجب أن ننقب فى أنفسنا وأن نعلم من نعامل. الشهداء الذين ذهبوا إلى الله- على اختلاف أماكنهم ودرجاتهم- لهم نماذج فى التاريخ القديم والحديث، وما أحوج الأمة الاسلامية إلى هذه النماذج، ما أحوجها أن تعرف من رجالها الكبار، ومن أبطالها الذين تأخذ منهم الأسوة، وذلك لأن أعداء الإسلام ما طمعوا فيه ولا نالوا منه ولا تجرؤوا عليه إلا لأن أمتنا ثشبثت بالحياة على الأرض، وأخلدت إلى الهوى والشهوة، وقاتلت على الحطام الفانى، ونافست فيما لا وزن له عند الله. يقول التاريخ: إن الدولة الفارسية برغم أنها هزمت فى " القادسية " ص _016(3/8)
وسقطت عاصمتها بقيت تقاوم مقاومة عنيدة حتى خشى على بقاء الإسلام هناك، فدخل عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه المسجد وتفرس فى الصفوف ليختار قائدا من المصلين يبعث به إلى " فارس " فنظر فإذا " النعمان بن مقرن " رضى الله عنه يصلى، فذهب إليه و قال له: يا نعمان أريد أن أستعملك فى عمل فقال له النعمان: إن كان جابيا فلا- أى إن كنت تريد أن تبعثنى لأجىء بمال فلا- فقال له: بل بعثتك لتقود جبهة المسلمين فى فارس، فقال: نعم. وذهب النعمان ليقود المعركة الحاسمة فى " فارس " المعركة التى أجهزت على النفوذ الفارسى تماما، وأخمدت أنفاسه إلى الأبد، وتسمى المعركة فى التاريخ معركة " نهاوند " . الرجل قبل أن يهجم قال للمسلمين: إنى هاز لوائى ثلاثا، وإنى داع فأمنوا، ودعا فقال: اللهم ارزق المسلمين نصرا وارزقنى فيه الشهادة!!. الحقيقة أنى تأملت فى المعركة واستغربت، يقول المؤرخون: إن المعركة بلغ من ضراوتها وكثرة ما سفك من دم فيها أن الخيل كانت تنزلق على الصخر من كثرة ما سفك من دم !!. وقاد النعمان بن مقرن المعركة وأصيب بجرح قاتل وسقط، ولكنه سقط حيا، وقاد المعركة رجل آخر من المسلمين،، وانتصر المسلمون، وجاء البشير إلى النعمان وهو جريح يقول له: انتهت المعركة. قال: على من الدائرة؟ قال: على أعداء الله، فحمد الله ومات !!. انظر إلى الرجل القائد- خريج المسجد- الراكع الساجد، الرجل الذى أبى أن يذهب فى منصب ينتظر أن يغنم منه شيئا، أو يفيد منه خيرا، واشترط على الخليفة- عمر- أول ما حدثه ألا يذهب فى منصب من هذه المناصب، ثم لما دعا- ناس كثيرون قد يفكرون فى أن يعودوا إلى بلدهم ليجنوا ثمرة النصر الذى أحرزوه، تلتف حولهم الجماهير، يهتفون ص _0 ص(3/9)
لهم، يهنئونهم، يضعون الألقاب وراء أسمائهم، النعمان احتقر هذا كله- طلب النصر للمسلمين، والشهادة للنعمان!!. ولذلك لما جاء البشير إلى عمر بن الخطاب بالنصر سأل عمر: ما فعل النعمان؟ قال: فتل. فخرج إلى الناس فنعاه إليهم على المنبر، ووضع يده على رأسه وبكى . هذا شهيد من قادتنا، شهيد آخر أحكى قصته.. جاءنى إمام مسجد " العريش "- وأنا رجل مسئول فى المساجد- يقسم ويبكى يقول: عندما حاول اليهود دخول " العريش " وقف رجل- أظنه من " سوهاج " أو من أى بلد هناك- وقفة جبروت أمام طابور من الدبابات الصهيونية، وأبى أن يتركها تمر، وظل يقاومها نحو ثمان وأربعين ساعة حتى فنى كل ما معه من ذخيرة، وأصيب بطلق نارى فمات مكانه !. يقول الإمام- وهو يحلف ويبكى- إنهم جاءوا إليه بعد يومين أو ثلاثة يطلبون جثته، فإذا هم يشمون منه رائحة العطر !!. حقيقة عندما أنظر إلى هذه البطولة أقول فى نفسى: ضاعت هذه الرجولات.. هى لم تضع عند الله، الرجل ذهب شهيدا، ونال مجد الدنيا والآخرة- ولكن الذى غاظنى أن الخطط الغبية، والقيادات التافهة ، الحقارات التى تولت أمرنا أضاعت هذه البطولات سدى ولم تحسن الانتفاع بها !!. قى سنة 1942 كنت إماما لمسجد (عزبان) فى (العتبة الخضراء) ورأيت شبابا مسلما خرج إلى فلسطين ليقاتل، واستطاع هذا الشباب أن يهاجم مستعمرة.. وقتل ثمانية منهم أو قتلوا جميعا، وقال القائد الانكليزى- وهو يرى جثثهم ويستغرب: لو معى جيش من هؤلاء لفتحت به الدنيا !!. إن " مصر " تنجب بطولات كثيرة، لكن على أساس جندى مؤمن وقائد مؤمن. ص _018(3/10)
يوجد كثيرون من الشهداء الذين يشرفون تاريخنا الماضى والمعاصر على سواء، أولئك الشهداء نحب أن نوسع الدائرة التى تحيط بهم حتى نعرف.. أعد من الشهداء المسلمين الذين يقاتلون الآن فى " إرتيريا " لتبقى " إرتيريا " مسلمة توحد ربها، وتؤمن بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتقرأ القرآن، وهى تقاتل فى وجه من يريد محو هذا كله !!. عددت من الشهداء ناسا قاوموا فى جزيرة " زنجبار " قتل منهم ألوف وهزموا، ولكن المعارك ليست بخواتيمها القريبة، فإن الذين فتلوا هناك استماتوا فى استبقاء الإسلام، وما يزال الإسلام باقيا فى "زنجبار " وان كانت الضربات التى تناوشه عنيفة تجعله يترنح ويكاد يسقط !!. يوجد مسلمون- الآن- يحملون راية الإسلام فى وجه تيارات تريد ألا يبقى للإسلام كتاب ولا سنة ولا وحى يتلى ، ولا مسلك يقتدى به، الذين يتمسكون بدينهم على هذا النحو ويقاتلون من أجله إنهم عندما يقتلون شهداء. إن الشهادة شىء ينبغى أن يقدر فعلا، لماذا؟ لأنها دلالة وفاء لمبدأ، واحترام لعقيدة، وافتداء لإيمان كما قال أحد الشعراء قديما وهو يرثى شهيدأ مات: وقد كان فوت الموت سهلا فرده * إليه الحفاظ المر والخلق الوعر تردى ثياب الموت خمرا فما أتى * لها الليل الا وهى سندس خضر إن الشهداء هم سادة الحياة وملوك الآخرة !!. وينبغى لأمتنا أن تعرف من قتلوا، ومن استشهدوا، وأن يكون عرفانها لهم لا تقديرا لأشخاصهم- مع أن التقدير واجب وفرض- ولكن ليعلم الباقون أن طريق الحياة والمجد هو فى هذا المسلك !!. قال أبو بكر رضى الله عنه- لخالد بن الوليد- رضى الله عنه- وهو يبعثه مقاتلا: احرص على الموت توهب لك الحياة !!. ص _019(3/11)
هناك شىء لابد أن يذكر هنا وهو: أن الآجال ليس لها سبب مادى واضح يقربها أو يبعدها. افرض أن الشيطان قال لك: لو لم يخرج فلان إلى المعركة ما قُتل!. ما الذى يضمن لك أنه لو كان ماشيا فى شوارع " القاهرة " لم تدسه سيارة أو لم يصب بشىء ما يقضى عليه؟ !!. وهذا معنى قوله تعالى: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) انظروا إلى حادث الطائرة المنكوبة يتم ينجو اثنان فقط؟! لا شىء تستطع أن تجيب به إلا أن هذا قدر !! لأن الجميع تعرضوا لأسباب التلف، الجميع خضعوا لمقدمات واحدة تجىء بنتيجة واحدة، فما الذى جعل هذين ينجوان وأولئك يموتون؟. والناس يلحون الطبيب وإنما خطأ الطبيب إصابة الأقدار إن إيمان الإنسان بأن الشهادة قدر، وأنها منزلة، وأن الأجل لا يحين بالتعرض للقتل، ولا يبعد بالفرار من الهلاك هو الذى جعل على بن أبى طالب- رضى الله عنه- يقول: أى يومى من الموت أفر يوم لا يقدر؟ أو يوم قدر يوم لا يقدر لا أحذره ومن المقدور لا ينجو الحذر بهذه الروح.. الإيمان بالله الإيمان بالقدر..الإيمان بالجزاء الأخروي.. الإيمان بالكتاب والسنة.. بهذه الروح استطاع المسلمون أن يسودوا الدنيا قديما وأن يحقوا الحق , و يبطلوا الباطل , ولو كره المجرمون. أخيرا بدأنا نشعر بأن الشهداء يجب أن يحتفل بهم، إننى أعلم أن الروس- مثلا- لهم يوم يسمونه يوم الدم!! تسمية رهيبة، لكنهم ص _020(3/12)
يريدون بهذا أن ينشروا الباطل، أو يساندوا مالديهم من عقائد منحرفة بالتضحية.. فإدا كان الناس يجعلون من أيامهم يوما للدم فان المسلمين ينبغى- فعلا- أن يجعلوا من أيامهم أو من ذكرياتهم يوما للشهداء. والشهداء هنا-كما أوضحنا- كل مؤمن بالله، صادق الايمان، صحيح العقيدة، وفى لربه، وأدى ماعليه، وحمى مقدساته، واستبقى الأرض بعده أرضا إسلامية يصيح المؤنن فوقها بكلمات التوحيد وتكبير الله وتمجيده، يستبقى الأرض بعده أرضا إسلامية كما أسلمها إلينا عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص- رضى الله عنهما- نسلمها نحن لمن بعدنا أرضا إسلامية، وجه الإسلام فوقها نضير، وتاريخه فوقها كبير. أولئك هم الشهداء، وأولئك الذين يجب أن نحتفل بذكراهم، وأن نعلم أولادنا تاريخهم، وأن تكون سيرهم أمام أعيننا. قلت لنفسى يوما: أما يمكن أن تمثل رواية تظهر فيها بطولات للمسلمين فى رد الغزو الصليبى، بطولات للمسلمين فى كسر رأس الشرك الباغى الطاغى، بطولات للمسلمين فى تطهير " فارس " من الحكم الوثنى المجوسى الذى أذلها وقهرها، بطولات للمسلمين فى تحرير الأرض المصرية والشمال الإفريقى كله؟!!. لكن يبدو أن المشتغلين بالفن لا يستطيعون هذا إنهم عنصر طرى من الناس، يصلح للميوعة، يصلح لروايات الجنس، يصلح للتأوهات المريضة، ما يصلح للرجولة والبطولة !!. إن تاريخنا لكى نبنى على دعائمه رجالا، يجب أن يعرض العرض الصحيح، وأن يتصل الحاضر بالماضى تراثا وأصالة وتوجيها.. ثم مرة أخرى: من بين الركع السجود يختار القادة الذين يطلبون ما عند الله، ويزدرون ما عند الناس!!. أقول قولى هذا وأستغفر اللة لى ولكم.. ص _021(3/13)
الخطبة الثانية الحمد لله (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فإن نبينا عليه الصلاة والسلام- كان إلى قبيل أن يلقى رب العالمين، كان يزور شهداء " أحد " وكان يدعو للشهداء. نحن سنصلى صلاة الغائب، وقد سألنى بعض الناس: ما صلاة الغائب؟. الصلاة أربع تكبيرات، بعد التكبيرة الأولى اقرأ الفاتحة، بعد التكبيرة الثانية صل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد التكبيرة الثالثة ادع للميت بأى دعاء تحفظه، بعد التكبيرة الرابعة السلام. صلاة الجنازة أو صلاة الغائب خفيفة لا شىء فيها. أوجه النظر إلى شىء آخر: إن الحكومة مشكورة تحارب الشيوعية، ولكننا نحن الذين ندرى أساليب الفكر الشيوعى ودسائسه وكيف يلتف علينا: "كالأخطبوط " من حيث لا ندرى، ولذلك فإنى أوجه النظر الى أن الحكومة مشكورة- ألغت حفلات الصباح فى السينما، لماذا؟ لأن الطلاب كانوا " يُزَوِّغُون " ليحضروا الأحفال. ص _022(3/14)
الآن التفكير الشيوعى أن تعود الأحفال الصباحية، فلنوجه النظر إلى خطورة هذا التفكير. هناك عبارات مسمومة، فى " أهرام " اليوم قرأت لكاتب شيوعى أن الطائفية فى " سوريا " أحدثت هيجانا ضد الدستور المقترح، هذا تعبير مسموم. إن الدستور الذى اقترح على " سوريا " كان مستبعدا منه النص على أن الإسلام دين الدولة !!. وغضب المسلمون، ومن حقهم أن يغضبوا، وبلغنى أن رئيس الدولة نزل على رأى جمهرة المسلمين، وقرر أن يكون الاسلام دين الدولة فى الدستور. فالقول بأن هذا طائفية هذا تعبير شيوعى. إن إرغام 93% من العرب على ترك الإسلام، فإذا قالوا: نبقى على الإسلام، قال مأفون أحمر إن هذه طائفية؟!!. هذا كلام أبحث فى جيوب قائليه لأجد مالا إما من "أمربكا " أو " روسيا " أو " الصين "!!. هؤلاء أجراء، عملاء ضد الإسلام وضد أمته. أريد أن نصحو لهذه الدسائس، فنحن أغنياء عن الكفر، نحن زاهدون فى الضلال، نحن نريد أن نعود لربنا وكتابنا وديننا، ولا نريد نصوصا محنطة. نريد نصوصا حية عاملة تمكن من أن تنتشر فى المجتمع، وأن تطبق على الناس. الشىء الأخير هو: أن الذين يؤملون فى الألوف من رواد مسجد " عمرو بن العاص "- رضى الله عنه- جاءوا يذكروننا بأن. مسجد " النور " فى " العباسية " يحتاج إلى عون. ص _023
المسجد جمع له الكثير، ولكن لابد فى هذه البقعة من مسجد يمثل الحضارة الإسلامية. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) أقم الصلاة... * * * ص _024(3/15)
من نحن ؟!! خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فإن الناس يشيع بينهم مفهوم خاطىء عن معنى الدين، وبعض الناس يتصور أنه كما تنقسم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف يمكن أن ينقسم الدين الى يهودية ونصرانية وإسلام!! هذا فى الأديان التى تنتمى إلى السماء أو تزعم أن لها نسبا سماويا، ذاك إلى جانب أديان أخرى- تسمى أديانا كالبوذية والشنتوية فى اليابان، والبرهمية فى الهند، والكنفشيوسية فى االصين، هذا إلى جانب الالحاد الذى جعل من نفسه محورا لتجميع الأنصار على عبادة المادة وعلى تكريس الوقت والجهد لاستغلال هذه الحياة الدنيا كالشيوعية التى أحلت نفسها محل الدين!!. الواقع أن هذا التضليل فى مفهوم الدين وجعل هذا المفهوم مائعا يتناول شتى المتناقضات لا أصل له لا تراثا ول اتاريخا ولا عقلا. ولذلك أحببت أن أشرح الحقيقة، وأن أحسن تصويرها الآن، فإنه للأسف- مع- انتصار الأوهام فى عصرنا هذا أصبح لليهودية عصبية وظهير قوى، وكما قيل: إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عن أحد سلبته محاسن نفسه!!. ص _025(3/16)
وقد أقبلت الدنيا على اليهودية فجعلت من " العهد القديم " دينا!! وأقبلت الدنيا على النصرانية فجعلت من " العهد الجديد " دينا!! وأقبلت الدنيا على الشيوعية فجعلت من الإلحاد المسلح محورا لعقائد مادية وتجمعات حيوانية!! وهكذا بالنسبة إلى الأديان الأخرى أو ما يسمى أديانا. وأريد أن يعلم الناس الحقيقة التى لا تتغير ولا يجوز أن تتغير وإن أساءت الأيام إليها أو أدبرت الدنيا عنها أو نزل الهوان بأصحابها فإن الحقيقة لا تتغير مهما كانت الملابسات التى تحيط بها. يجب أن يعلم الناس أن الدين عند الله واحد من أزل الدنيا إلى أبدها، لهذا الدين الواحد مفهوم يصدقه العقل ويحرسه ويحميه، أساس هذا الدين الواحد أن لنا ربا خلقنا وحده، ومن حق الخالق أن يعبد وأن يعرف على نحو صحيح، وأن من حق هذا الخالق إذا عرف على نحو صحيح أن يكون سلوك الناس على أرضهم وفق ما يرسم ويخطط ويشرع، ومن حقه بعد هذه وتلك أن ينطلق المؤمنون به قافلة تحمى الحقائق التى تحملها، وتعرضها على الناس عرضا سليما، وتزيج العوائق عن الضمائر بحيث لا يكره أحد على باطل، ولا يحجز أحد عن حق يريد أن يبلغه. هذا الدين الواحد عنوانه: " الإسلام ". ومن باب الاستعجال الصحيح أقول: ان كلمة " إسلام وإيمان " كلمتان مترادفتان، وأنه ينظر إلى الحقيقة من أولها فيقال: " إيمان " لأن أساس الإيمان معرفة اليقين بالله الواحد، وينظر إلى الحقيقة من نهايتها فيقال: "إسلام " لأن ما يعقب المعرفة الصحيحة هو التسليم لله ، والخضوع له، والاستسلام لحكمه. فينظر للأمر من البداية فيسمى (أمانا وينظر له من النهاية فيسمى إسلاما، والكلمتان حقيقتان مترادفتان لشىء واحد هو الدين عند الله. كذلك كلمة " نبى ورسول " فالصحيح أن النبى والرسول يترادفان علي حقيقة واحدة، فإذا نظرنا للحقيقة من أولها قلنا: " نبى، نبى من النبأ وهو الخبر لأنه يخبر عن الله، وإذا نظرنا الى الحقيقة من نهايتها سميناه رسولا،(3/17)
لأنه يحمل الحقيقة ليبلغها للناس، فهو اليهم مرسل يخبر من عند ص _026
الله، فيسمى نبيا بالنسبة للوحى النازل عليه، ويسمى رسولا بالنسبة للبلاغ الذى يحمله إلى الخلق. فدين الله هو الإسلام، هذه الكلمة- إسلام- عرفت من أيام نوح عليه السلام (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون * فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين) . توجد- الآن- دولة اسمها " إسرائيل " كلمة إسرائيل لقب تشريف ليعقوب عليه السلام،كما أن المسيح لقب بتشريف لعيسى عليه السلام، ما دين يعقوب؟ يقول الله فى دين يعقوب: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون) ، فيعقوب يدين بالإسلام وراثة عن أبيه وعن جده. ما دين عيسى؟ الإسلام، وهو الذى دعا إليه الناس، فلما شعر بأن اليهود يمكرون به ويحاولون اغتياله والتنديد بمسلكه، والافتراء عليه نادى فى الناس: (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون) . قد يتساءل الناس: فهل الإسلام الذى جاء به نوح ويعقوب وموسى وعيسى هو الإسلام الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كما ممكن أن نقول: هو بالنسبة الى العقائد فى جملتها، فإن موسى أو عيسى أو نوحا كانوا دعاة الى الله الواحد (و ما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) . فيستوى نوح وعيسى ومحمد فى هذا المعنى، غاية ما هنالك أنه إذا كانت العقائد قاسما مشتركا بين أديان الله على امتداد الزمان والمكان فإن ص _027(3/18)
هناك ميزة فى الإسلام الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم !! ما هذه الميزة؟ تقوم هذه الميزة على أمور: منها أنه كثر الأدلة على عقيدة التوحيد، وفتح أمام البصر العقلى أو المنطق الفكرى أنواعا من البراهين، وفتح أمام السمع والبصر آفاقا كثيرة وقال: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) فكثرت فى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الأدلة، وهنا لابد أن نشرح بعض الميزات التى يتميز بها الإسلام فى عنوانه الأخير أو فى رسالته المكتملة التى جاء بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. بالنسبة إلى المعرفة هناك أوهام كثيرة تطرقت إلى العقيدة على امتداد الزمان والمكان، فكان الدين الخاتم هو الدين الذى أحصى المثالب والمقابح والعيوب والمآخذ التى تسللت إلى الديانات السابقة ونالت منها وعكرت صفوها، بين النبى الخاتم صلى الله عليه وسلم أن الحق هو ما جاء به وهو ما نزل على موسى وعيسى من قبله !!. افرض أن " العهد القديم " الآن يقول: إن الله استراح من العمل يوم السبت !! فإن موسى لم يقل هذا، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم برأ الدين من أن الله يتعب (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب) ولو أن موسى استيقظ من منامه الآن وأراد أن يرجع إلى أتباع يؤازرونه على الحق ما ذهب الى اسرائيل إنما يجئ الى مسجد من مساجد المسلمين فى القارات المعمورة ليقول: أنا مع هؤلاء لأن ما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم هو الحق الذى قلته للناس وضل عنه من ينتسب إلى أو من يدعى اتباعى !. قالوا عن الله: انه يأكل ، وأنه يجهل ، وأنه يندم !!. ص _028(3/19)
وقالوا عن أنبياء الله: إنهم سكارى ، وإنهم زناة ، وإنهم..و إنهم !!. كل هذا كذب، فالنبوة الخاتمة أو رسالة الإسلام-كما بلغها محمد صلى الله عليه وسلم بيان شاف للحق الذى نزل على أنبياء الله الأولين. بالنسبة إلى الإسلام والمسيحية. عيسى فى الحقيقة- عبد لله- جاء يدعو الناس بهذه الكلمة (إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) لكن هؤلاء غيروا الحقيقة، وغيروا أيضا شيئا آخر.. أساس الصلة بالله تكميل النفس، وجعل الإنسان على مستوى الخير والعبودية عندما ينتسب إلى الله، ولذلك لا شفاعات بالمعنى الوثنى، ولا أحد يحمل وزر أحد، هذا ليس كلاما جديدا أتى به محمد صلى الله عليه وسلم ، إنما هو الكلام الذى بلغه أنبياء الله من لدن إبراهيم إلى الذين جاءوا من بعده: (أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى) إذن ليس هنا فداء، ليس هناك أن شخصا فتل لكى يفتدينى بدمه، القصة اختلاق من الألف إلى الياء ولا أصل لها فالديانة الخاتمة وضحت على لسان خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بجلاء. شىء آخر يتصل بطبيعة حامل الرسالة، يقول بعض العلماء: ان الله وزع الفضائل على أنبيائه، فعرف نوح بالجلد والعزم والتصميم، وعرف إبراهيم بالكرم، وعرف موسى بالصرامة والجد، وعرف عيسى بالرحمة.. كل نبى من أنبياء الله له منقبة- نوع من الجمال ص _029(3/20)
الخلقى- ما أشيع فى المرسلين من أنواع الأخلاق الفاضلة والشمائل الرفيعة- فكما تجئ بعدسة تجمع الأشعة- فإن شخصية محمد صلى الله عليه وسلم تجمعت فيها الكمالات التى توزعت على الأنبياء السابقين، فما من خير يعرف به أحدهم إلا وجد له نور وشعاع فى حياة النبى محمد صلى الله عليه وسلم !!. هذه واحدة، ثم قيل له: مع تجارب الأيام انتفع بالتجارب التى مضت (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ) التجارب التى مضت كثيرة، التجارب التى مضت تظهر فى نفس طريقة انتشار الرسالة ومتابعة الأجيال لها وحسن التلطف بها مع الناس. فمثلا إبراهيم- عدو الوثنية ومحارب الأصنام- كسر الأوثان المعبودة، لكن ماذا حدث بعد أن كسر الأصنام؟ (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون * فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون) عود ثقاب اشتعل فى أذهانهم لحظة (فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون) لكن انطفأ العود: (ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون). إذن رجعوا إلى عبادة الأصنام مع أنها كسرت؟. فما الحل؟ الحل أن الدين الجديد لا يبدأ بتكسير الأصنام،. لأنه ما قيمة أن تكسر صنما فيجئ العابد الأبله ليصنع صنما آخر ليعبده؟ ما قيمة أن تذبح بقرة في الهند فيجيء هندوسى أحمق ببقرة بدل بقرة ويعبدها؟. إذن الأساس تغيير النفس البشرية !!. فجاءت الرسالة الخاتمة تعمل بدأب وقدرة عقلية على تغيير النفس الإنسانية والارتفاع بمستوى الفكر شيئا فشيئا ومستوى الفضيلة شيئا فشيئا حتى أصبحت الأمة الإسلامية- بعد أن استمعت للقرآن ثلاثا وعشرين سنة- على مستوى حضارى من حدة الذهن، وتألق البصيرة، ونقاء الضمير، وسعة الأفق ما جعلها لا نظير لها فى العالمين !!. ص _030(3/21)
هذا نوع من شخصية الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم ، ثم بعد ذلك نجد أن هذا النبى الكريم صلى الله عليه وسلم فهم الخطة، ما الخطة؟. الله الذى خلق الناس يريد أن يحكم أمورهم وأن يصف أقدامهم على الطريق المستقيم فوضع لهم الخطة : (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين). فهم النبى الخاتم صلى الله عليه وسلم الخطة، وفهم أن الإسلام دين للنفس والمجتمع والدولة، وأنه دين للسياسة والاقتصاد والتشريع والأخلاق والعبادات والمعاملات، وأنه دين يستقى من المشرع الأعظم الفرد الصمد وحده: (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين * وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) مضى فى طريقه يفهم القرآن، وكان خلقه القرآن، التيار العقلى للشخصية المحمدية هذا القرآن وكما جاء فى الحديث: " وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان " عاش به، وعاش له، ثم أخذ يغير العالم به !!. وهنا لابد من ان تذكر الحقيقة، كانت هناك استحالة واقعية أن تتغير الدنيا إلا بهذا الإنسان، لن ينفك الناس عن ضلالهم، لن يترك الناس أبدا جاهليتهم إلا بهذا الإنسان الذى فهم الكتاب المنزل عليه على أنه بصائر للناس، ثم طبقة فى نفسه وفى بيئته وأسرته ومجتمعه وحربه وسلمه وصداقته وعداوته وسفره وإقامته، انطلق فى كل مكان لكى يصنع أجيالا، لا جيلا واحدا، إن آثار السنة يرف عليها من شخصية النبى الخاتم ما يجعلها إلى آخر الدهر تصنع الروحانية الفواحة بالتقوى والعبادة العامرة بالإخلاص، والجهاد الذى لا يبالى بعقبة والذى يبتغى وجه الله وحده !!. ص _031(3/22)
من هنا قام للإسلام دولة- أقامها النبى الخاتم- استطاعت الدولة أن تمضى، الآن بدأت قرنها الخامس عشر، وهى ماضية إلى قيام الساعة إن شاء الله !!. لكن أوجه النظر إلى ما يجهله المسلمون من دينهم، كنت أدرس- كغيرى من المسلمين- الشخصية النبوية وأستفيد من هذه الدراسة ما يفتح الله به ثم أقارن بين ما عرا الإسلام فى دولته وفى أتباعه من تغير وأنظر إلى الأم الأخرى وأعلم أن الإسلام خالد، وأن يوم الإسلام قادم ان شاء الله فوجدت وأنا أقرأ كتابا- لم يكن معى عندما أشرت إليه فى الأيام السابقة لكنه فى أسفارى وقع فى يدى فجئت به، الكتاب اسمه " المائة الأوائل " مكتوبة بالعدد الأفرنجى المائة، المؤلف أمريكى ، وهو مؤلف مسيحى يتأثر بمسيحيته ويقول: ربما بدأ غريبا أن يكون محمد فى رأس هذه القائمة رغم أن عدد المسيحيين ضعف عدد المسلمين !!. أولا: هذا الكلام غير صحيح، ويؤسفنى أن أقول: إنه من استغفال المسلمين أن يقال لهم عددكم كذا وكذا، وحرب الإحصاءات حرب غريبة، والصحيح أن العالم ربعه مسلمون، وربعه مسيحيون، وربعه شيوعيون، وربعه وثنيون، هذا هو التعداد- إجمالا- فى العالم كله، ومن لا يعجبه هذا نحتكم إلى إحصاء محايد تشرف عليه هيئة الأمم. وإن كنت لا أهتم بالكثرة لأنه تبين من استيعاب الأحداث التاريخية أن القلة العاملة أنجح من الكثرة العاطلة وأقدر على الإمساك بالزمام. يقول الرجل- معللا القرار الذى اتخذه لجعل محمد صلى الله عليه وسلم أول العظماء المائة: " ولكن لذلك أسباب: من بينها أن محمدا قد كان دوره أخطر. وأعظم فى نشر الإسلام وتدعيمه وإرساء قواعد شريعته اكثر مما كان لعيسى فى الديانة المسيحية، وعلى الرغم من أن عيسى هو المسؤول عن مبادىء الأخلاق فى المسيحية غير أن القديس بولس هو الذى أرسى أصول الشريعة ص _032(3/23)
المسيحية وهو أيضا المسؤول عن كتابة الكثير مما جاء فى كتب " العهد الجديد "!!. ثانيا: أن محمدا هو المسؤول الأول والأوحد عن إرساء قواعد الإسلام وأصول الشريعة والسلوك الاجتماعى والأخلاقى وأصول المعاملات بين الناس فى حياتهم الدينية والدنيوية كما أن القرآن قد نزل عليه وحده، وفى القرآن وجد المسلمون كل ما يحتاجون إليه فى دنياهم و آخرتهم !! والقرآن الكريم نزل على محمد كاملا، وسجلت آياته وهو ما يزال حيا، وكان تسجيلا فى منتهى الدقة، فلم يتغير منه حرف واحد، وليس فى المسيحية شىء مثل ذلك فلا يوجد كتاب واحد محكم دقيق لتعاليم المسيحية يشبه القرآن !!. وكان أثر القرآن على الناس بالغ العمق، ولذلك كان أثر محمد على الإسلام اكثر وأعمق من الأثر الذى تركه عيسى على الديانة المسيحية.!! فعلى المستوى الدينى كان أثر محمد قويا فى تاريخ البشرية وكذلك كان عيسى!. وكان محمد على خلاف. عيسى رجلا دنيويا. (ومعنى هذا التعبير أن الإسلام عقيدة وشريعة وعبادة ومعاملة، وإيمان ونظام، أو بتعبير العصر الحديث دين ودولة) . فكان زوجا وأبا وكان يعمل فى التجارة ويرعى الغنم وكان يحارب ويصاب فى الحروب ويمرض.: ثم مات !!. ولما كان محمد قوة جبارة فيمكن أن يقال أيضا: إنه أعظم زعيم سياسى عرفه التاريخ ". هذا كلام رجل أمريكى الذى يشغله أو يعنيه هو ذكر الحقائق، وقد تحدث الرجل عن القديس " بولس " و الذى يهمنى هنا ما يأتى: ص _033(3/24)
أولا: معروف عندنا نحن المسلمين أن عيسى نبى من أنبياء بنى إسرائيل، يعنى يهودى الجنسية. ثانيا: أن رسالته محدودة ببنى إسرائيل لا يتجاوزها. ثالثا: أنه ممهد للرسالة الخاتمة، يقول للناس: انتظروا النبى الذى يجىء بعدى لأنه هو الذى سيقود العالم كله وهذا هو معنى الآية: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) إذن ما الذى حول المسيحية من دين محلى لبنى إسرائيل إلى دين عالمى للناس؟ ما الذى حول دينا يقوم على التوحيد- ولو فى نطاق ضيق- إلى دين يقوم على التثليث؟ ما الذى حول المسيحية من أصلها الذى عرفت به أول تاريخها إلى الوجهة الجديدة التى تعرف بها الآن؟. يقول المؤلف الأمريكى- مايكل هارت- يتلخص تأثير " بولس " على تطور الديانة المسيحية فى ثلاث نقاط: أولا: نجاحه العظيم كمبشر ولم يستطع أحد أن يقوم بمثل هذا الدور من قبله أو من بعده. ثانيا: كتاباته التى تؤلف قسما كبيرا من " العهد الجديد " فمن بين السبعة والعشرين سفرا من كتاب " العهد الجديد " نجد أن القديس " بولس " قد ألف أربعة عشر سفرا!!. ثالثا: من أهم أفكاره: أن يسوع المسيح لم يكن فقط نبيا بشرا بل كان إلها حقا!! وأنه مات من أجل التكفير عن خطايا البشر، "وأن الإنسان لا يستطيع أن يحقق هذا الخلاص من الخطايا بالإيمان بالكتب المقدسة فقط وإنما بالإيمان بيسوع المسيح فسوف تغفر خطاياه، وهو أيضا الذى أوضح فكرة الخطيئة الأولى !!. إلى أن قال: وبولس هو المسئول الأول عن تحويل الديانة المسيحية من ص _034(3/25)
مجرد طائفة يهودية إلى ديانة كبرى، وهو المسؤول الأول عن تأليه المسيح !!. "إذن الديانة التى جاء بها عيسى- كما يقول الرجل- ليست هى الديانة التى تنتشر الآن !!. ونعود مرة أخرى لنقول: ما الدين؟ والجواب: (إن الدين عند الله الإسلام ) الدين: معرفة الله معرفة صحيحة، ومعنى المعرفة الصحيحة أن الواحد ليس معه ثان ولا ثالث، ومعنى المعرفة الصحيحة أن الواحد القادر لا يعجزه شىء، وأن الواحد العالم لا يجهل شيئا، وأن الواحد المتفرد فى ملكوته لا راد لأمره ولا معقب لحكمه وهو يجير ولا يجار عليه!!. الدين: هو الإسلام كما حمل هذا العقم وبمن هذا العنوان الإنسان الأوحد فى حمله للحقيقة ومحافظته عليها وحسن بلائه فى نشرها محمد عليه الصلاة والسلام فى كتابه وفى سنته!!. إن سنته صلى الله عليه وسلم تنبع من شخصيته، وشخصيته قائمة على أساس الكتاب الذى ينسج الأعصاب والملامح الفكرية والعاطفية فى هذا الكيان النورانى العظيم الذى يسمى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام!!. لهذا المعنى أردت أن يعرف الناس من نحن؟. نحن لسنا أمة تنتمى إلى أرض معينة ولا إلى جنس معين ولا إلى لغة معينة إنما- نحن المسلمين- ننتمى إلى حقائق تنزلت من لدن رب العالمين وصاغها ربنا تبارك اسمه فى كتاب (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) ، ومثلها علميا وعمليا نظريا وتطبيقيا مربى هذه الأمة وأبوها الروحى والثقافى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام إليه ننتمى وبه نفخر وبدينه نستمسك ولا نقبل إلا هذا !!. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم.. ص _035(3/26)
الخطبة الثانية الحمد لله (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين.. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل، واعلموا أيها الإخوة أن القوى المعادية للإسلام ما فقدت جزءا ولو ضئيلا من حقدها على القرآن والسنة، ما فقدت جزءا ولو قليلا من كراهيتها لله ولرسوله، ما فقدت جزءا ولو قليلا من أضغانها الموروثة على الإسلام وأمته!!. وهذا لا يخيفنى!. إن كراهية الأشرار للرجل الفاضل تزيد من استمساكه بفضله ومن اعتزازه بنفسه، وقديما قال الشاعر العربى : لقد زادنى حبا لنفسى أننى بغيض إلى كل امرئ غير طائل وأنى شقى باللئام ولا ترى شقيا بهم إلا كريم الشمائل . ما فقد أعداؤنا ذرة من خصومتهم الخسيسة لنا، لكنى أخاف من شىء، أخاف أن تظاهر القوى المضادة للإسلام يوهن عزائم المؤمنين، ويضعف ص _036(3/27)
من تمسكهم بالحق ومن ولائهم له ومن حفاظهم عليه! ولذلك فإنى ألفت النظر إلى أن دعاة الإسلام يجب أن يبقوا على العهد، وأن يمضوا فى الطريق.. قد تكون المجتمعات التى تعيش فيها الأمة الإسلامية الآن ليست على ما ينبغى وليست على ما يريد الله لها من سمو واستمساك به والتفاف على دينه.. لكن ذلك لا ينبغى أن ينال من عزم الدعاة ولا من عملهم لله.. أقول هذا لأن نبأ بلغنى تألمت له، وأنا لم أخطب من شهرين تقريبا هنا، وعندما جئت ما كنت أدرى جيدا بالأوضاع حتى قيل لى: إن الشيخ أحمد المحلاوى الآن فى سجن طره !!. أنا أعرف الشيخ أحمد المحلاوى- يوم كان إماما لسيدى جابر ويوم كان يؤسس فرقا من الأساتذة المتخصصين فى المواد العلمية والأدبية ليقوى الطلاب المسلمين وينظم لهم فصولا تجمعهم على العبادة وعلى العلم، كان نعم العون لأمته ونعم الرجل فى دينه وخدمة عقيدته.. ثم سألت صديقا محاميا لى- له بالقضية صلة- فقلت له: ماذا هنالك؟ فقال: أنا سأدرس القضية وسآتيك بخبرها ولكن إجمالا هو متهم بأنه يعمل ضد " الوحدة الوطنية ". الوحدة الوطنية أصبحت التهمة التى تختار للدعاة المسلمين كى ينال منهم !! إننا أحنى الناس على وطننا وأحرص الناس على وحدته الوطنية، و والله ما يتهم بالعمل ضد الوحدة الوطنية إلا أناس أعرفهم، ربما ارتدوا ملابس الرهبانية وأردية الكهنوت ولكنهم يحملون قلوب قطاع الطريق وسير معتادى الإجرام !! وهم الذين أشعلوا الضغائن فى نفوس الناس، داخلا وخارجا ألبوا ضد المسلمين وضد من يعمل معهم أو يعمل بينهم !! فسبحان الله !! ما الذى جعل هؤلاء يفلتون ليتهم رجل فيه خير وفيه نهضة للإسلام؟!!. هذا شىء عجيب، لكن تذكرت المعرى، كان رجلا نباتيا، ضعف ص _037(3/28)
جسمه فجاء الطبيب وأوصى بأن يذبح له كتكوت صغير، وجاءوا للمعرى بالفرخ المذبوح فوضع يده عليه ثم قال: استضعفوك فوصفوك هلا وصفوا شبل الأسد؟ نعم.. استضعفوك فوصفوك، يعنى ليس هناك غير لابس العمامة البيضاء يتهم بأنه ضد الوحدة الوطنية؟. الوحدة الوطنية لابد من حمايتها، ونحن أولى الناس بحمايتها، لكن الأصابع كلها تشير إلى من حارب الوحدة الوطنية وإلى من أساء إلى هذه الأمة وأجج العداوة الخسيسة ضد الكثرة الطيبة التى تعيش فى تراب هذا الوادى!!. لذلك كنا أمس فى المؤتمر العام للدعوة الإسلامية- وهو المؤتمر العام الذى يجمع الجماعات الإسلامية العاملة فى القاهرة وغيرها- وقررنا أن ننظر فى القضية، وأن نعقد مؤتمرات عامة من بينها مؤتمر عام يعقد فى هذا المسجد فى الجمعة القادمة لنرى أن العلماء الذين يعملون للدعوة الإسلامية ما ينبغى أن يصادوا بهذه الطريقة، لأن الوحدة الوطنية عزيزة علينا ونحن حماتها ونرفض أن يقال فى الدعاة المسلمين إنهم ضد الوحدة الوطنية. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) عباد الله (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) أقم الصلاة ص _038(3/29)
قضية الذكر والنسيان كما شرحتها سورة طه.. خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فقضية الذكر والنسيان قضية عقلية مهمة، وقضية نفسية أهم، فإن معرفة الحق.، وحسن رؤيته ، وصدق الاتجاه إليه، والاستقامة على طريقه، إن ذلك كله هو الأداء الصحيح لرسالة الإنسان فى هذه الحياة.. ذلك أن رب العالمين بين أنه إنما خلق الزمان والمكان ليستطيع كل إنسان أن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يجحد: (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) وللبيئات التى يعيش الإنسان فيها أثر عميق فى قضية الذكر والنسيان، فهناك وسط يعين على حدة الذهن ويقظة القلب، وهناك أوساط تعين على الغفلة والخمول وبلادة السلوك والاتجاه!! ومن أعانه الله على أن يكون فى بيئة تسدد خطاه، وتقوى عزيمته، فقد يسمر له خيرا كثيرا، وإنما يتم ذلك بالدعاء، وقد جاء فى الحديث الشريف: "اللهم أعنى على. ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ". ص _039(3/30)
وجاء فى الحديث أيضا أن هناك أحوالا عارضة قد تعرض للعقل تعرض الغيوم للشمس فتكف ضوءها وتكسف شعاعها، هناك فقر يذهل ويجعل صاحبه وراء حصار من الهموم التى تبدد قواه وطاقته وراء مطالب الحياة الدنيا، وهو وجه نبينا صلى الله عليه وسلم النظر إليه عندما قال: " بادروا بالأعمال سبعا، هل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا... " . الغنى المطغى والفقر المنسى من البلاء الذى يصيب الناس، وتتبعت فى أدبنا العربى قضية الذكر والنسيان فوجدت شعراء العربية عرضوا لهذا الأمر فى مواضع من أدبهم، " فالبحترى " عندما وقف على ايوان " كسرى " أو البيت الأبيض أو القصر الأبيض الذى كان يسكنه الأكسرة، وقف أمامه بعد ما أوحش من سكانه، وبعدما انتقلوا إلى الله ليحاسبهم على ما قدموا فى دنياهم فقال فى قصيدته السينية المشهورة : ذكرتنيهم الخطوب التوالى ولقد تذكر الخطوب وتنسى وهم خافضون فى ظل عال مشرف يحسر العيون ويخسى وعندما عارض " شوقى " هذه القصيدة عارضها بقصيدته التى يقول فى مطلعها : "اختلاف النهار والليل ينسى " ص _040(3/31)
نعم، اختلاف النهار والليل ينسى، لكن عندما ينسى فما الذى ينسيه؟ والله إن أنس الحقائق التى لابد منها ضاع الإنسان، وإن أنس شيئا لا قيمة له فليذهب إلى مطاوى الغفلة غير مأسوف عليه. لكن يجب أن نعرف أن قضية الذكر والنسيان خطيرة، فإن نجاح الطالب إنما يكون بمقدار ما يذكر من حقائق العلوم التى حصلها وبقدر ما تشرق فى قلبه أنواع المعرفة التى درسها، فإذا طوى النسيان هذه العلوم كلها فلا نهاية إلا السقوط ولا ختام إلا الفشل !! التاجر الذى لا يدرى من تجارب الماضى ولا من العبر التى مرت به ما هى مواطن الربح والخسارة فى أحواله وأعماله فإنه يتعرض للبوار فى غده القريب أو فى مستقبله البعيد. وقد بين القرآن الكريم أن هناك ناسا يستقبلون الحياة ولا وعى لهم ولا ذكر، وهؤلاء منافقون أو أشباه منافقين، يقول الله فيهم: (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) قصة الذكر والنسيان قصة تحتاج الى شىء من المعالجة، وقد رأيت أن سورة من سور القرآن تعرضت لقضية الذكر والنسيان فى سبعة أو ثمانية مواضع منها فأردت- معكم- أن أمضى فى عرض هذه المواضع حتى ننتفع بها ونقتبس من كتاب الله ما ينير قلوبنا ويذكرنا بما لا يجوز أن ننساه من أمر ديننا. ذلك ولنعلم أن القرآن الكريم له أسماء رسمية أو أسماء إلهية، ليست أسماء شهرة أطلقت عليه من الناس بل هى أسماء إلهية أطلقت عليه ممن أنزله تبارك اسمه... فمن أسماء القرآن: " القرآن " ومن أسمائه،: " الكتاب " ومن أسمائه: "الذكر " قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ص _041(3/32)
سمى ذكرا لأنه يصحى القرائح الميتة، ويودع فيها حياة جديدة، ويذهب بالخمول الذى يرين على بعض القلوب، ويجعل منها أوعية لها بالله علاقة حسنة !! وليس حفظ الذكر بطبع ألف مليون مصحف جيدة الطبع، فهى أوراق ليست اكثر من حبر على ورق، وليس حفظ القرآن بألف مليون شريط مسجل عليها القرآن بأصوات حسنة أو بأصوات عادية، فهى أشرطة تثبت أو تمحى.. حفظ القرآن بحفظ ناس أنار الله أفئدتهم بمعرفته، وأنضج سلوكهم بالطيبة فإذا أخلاقهم حلوة، وإذا سلوكهم راشد، وإذا أثرهم فى الحياة عميق !! حفظ الذكر بحفظ أمة تعمل له، وتعمل به، وتدافع عنه، وتمثله على ظهر الأرض، وتعرضه على العالمين- لأنه رسالة خاتمة!! وإذا لم توجد هذه الأمة فسيطوى سرادق الحياة، ويرتد الناس جميعا! إلى ربهم مع انتهاء الدنيا وما عليها ومن فيها!! ما السورة التى أشرت إليها وقلت: إنها عرضت لقضية الذكر والنسيان فى ثمانية مواضع؟ هى سورة طه، أول سطر فيها (طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى) ومعنى الآية-كما أبناه- أنك يا محمد مكلف بالبلاغ وتذكير الغافلين وإعادة العلم إلى من جهلوه، وإعادة الفطر إلى سلامتها التى ولدت بها، إنك ستجد من ينصرف عنك، ومن يصد عن طريقك، لا تحزن، وقد كان الناس كذلك، وكان النبى صلى الله عليه وسلم حريصا على الدعوة، وكان المشركون يرونه من بعيد فيقول أحدهم للأخر: إذا لقينا فسيعرض علينا الإسلام تعالوا نختفى من طريقه، تعالوا نتشاغل عنه حتى لا يحدثنا عن دينه هذا: (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور) ص _042(3/33)
مع كرههم له ولدعوته ورسالته، وضيقهم بما يسمعون منه فقد قيل له: امض فى طريق الدعوة ولا تأسف إذا كفر بها من كفر، وجحد بها من جحد، لا تشق بهذا فأنت مكلف بالبلاغ والتذكير: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى) هذا أول ما عرضت له السورة من قضايا الذكر والنسيان، وكل ما تعطيه الآية أن صاحب الدعوة الحقيقى يتحدث كوالد ينصح بنيه، أو كمدرس شفيق حنون يعلم تلامذته وهو عميق الرغبة فى أن يرفع مستواهم وأن ينقذهم مما هم فيه من جاهلية وضياع!! الموضع الثانى فى السورة قوله تعالى: (وأقم الصلاة لذكري) والواقع أن الصلوات ساعات يعود الناس بها إلى ربهم، أو تعود بالناس إلى ربهم إذا شدتهم مطالب الدنيا وضرورات الحياة بعيدا عن ذكره ومراقبته واستلهامه الرشد واستمداد العون منه جل جلاله. عندما تفسد الأديان تفسد بتحولها من طاقة توقظ العقل وتحيى الضمير وتوجه الناس إلى شكل فرغ من محتواه، وأصبح صورة لا حقيقة لها أو جسدا لا روح فيه! والصلوات عند كثير من الناس حركات بدنية، وليست قلبا خاشعا، ولا فكرا ساجدا، مع أن الله جل جلاله بين للمسلمين يوم كانت الخمر فى مراحل التدرج- فلم ينزل نص قاطع بتحريمها- حرمة أن يقف الناس بين يديه سكارى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) هناك ناس سكارى بخمرة الدنيا يقفون بين يدى الله فلا يعلمون ما يقولون !! وهذا- بداهة- ليس من رسالة الصلاة. لا فى تأديب النفس، ولا فى قيادة المجتمع إلى الله. ص _043(3/34)
الموضع الثالث فى السورة يحكى طلب موسى من ربه أن يمنحه عونا له على أداء رسالته: (واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري * كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا) فالوظائف القيادية فى ميدان الرسالات الروحية والاجتماعية أساسها التسبيح والتحميد والذكر الدائم، وهو ما وعد موسى أن يكون عليه عندما يعينه الله بأخيه الذى يشد به أزره!! ولذلك جاء فى الموضع الرابع من السورة عندما أجاب الله سؤل موسى وحقق له أمله قال له: (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري * اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) (لا تنيا في ذكري) أى لا تتوانيا، لا تتكاسلا، لا تتراخيا فى ذ كرى. (لعله يتذكر أو يخشى ) إن التذكير هنا من أجل إنقاذ الرجل من الغفلة التى رانت على قلبه ولبه وجعلته يستعلى كثيرا على أمثاله من الخلق ويزعم أنه إله وما هو إلا عبد... والذكر هنا شعور بعظمة الله يؤنس من يتعرض لجبابرة الأرض، ولذلك لما قالا: (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى * قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) فذكر المعية الإلهية يعينه على أداء واجبه، ويذلل له الصعب، ويهون عليه العسير !! الموضع الخامس نجده فى قصة بنى إسرائيل مع موسى، فهناك موعدان ظفر بهما موسى للقاء الله، وذهب موسى للقاء الله بعد أن تمهد هذا اللقاء بأربعين يوما، وذهب وهنا نجد أن بنى إسرائيل ارتدوا عن دينهم !! فى دراستى لتاريخ اليهود فى هذه الفترة وفيما أعقبها من فترات وجدت ص _044(3/35)
أن تعصب هؤلاء الناس لدمهم يغلب فى كثير من الأحيان تعصبهم لمبادىء الإيمان وأصول العقيدة !! فكأن معرفتهم لله بر تستكمل، وكأن حلاوة الحق فى مذاقهم لم تتم، ولذلك بعد قليل جدا من نجاتهم وغرق أعدائهم نسوا هذا الخارق الغريب ثم عبدوا عجلا صنعوه وعبدوه عن محبة غالبة، وشهوة عارمة، قال تعالى: (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) كانوا محتالين، لما خرجوا قالوا للمصريين.: أعطونا خليكم ننتفع بها عارية ثم نردها، وأخذوها وخرجوا ليلا مع موسى، ثم شعروا أنهم لصوص فجمعوها فى حفرة وإذا واحد منهم يذيبها ويصنع منها عجلا له ثقوب تصنع صوت البقر فقال لهم: هذا إله موسى !! حلى تذوب وتصنع تمثالا لعجل تعبد على أنها إله؟ إ! أى شىء هذا؟ !! ولذلك قال الله لموسى: (وما أعجلك عن قومك يا موسى * قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى * قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري * فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي * قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري * فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي) نسى السامرى ونسى الشعب الضال معه كل ما كان، وهذه طبيعتهم (أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) والأمم التى تنسى تحتاج إلى قوارع تذكرها، وربما كانت هذه القوارع سنوات عضوضا، أو أزمات ماحقة، وبحسب قسوة الطبع وشدة الحجاب وكثافة الغفلة تكون الأيام التى تذكر، تكون جراحاتها عميقة وضرباتها موجعة... ص _045(3/36)
وشاء الله أن يحرق العجل الذهبى: ( لنحرقنه ثم لننسفنه في أليم نسفا * إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما) الموضع السادس- بعد هذه القصة مباشرة- يقول الله فيه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا) الذاكر هنا القرآن، وقد تحدثنا فى صدر الخطبة عن معنى كون القرآن ذكرا. هناك موضع سابع وثامن، فلنؤخر السابع قليلا لنذكر الموضع الثامن وهو قوله جل شأنه: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) أيها الأخوة: كون من يعرض عن ذكر الله يعاقب فهذا قانون إلهى، وتحت هذا القانون تفاصيل، فإن معاملة الله للناس تختلف بقدر ما ييسر لهم من علم، وما يتاح لهم من معرفة، وقد جاء فى الحديث: "الزبانية إلى فسقة حملة القرآن أسرع منهم إلى عبدة الأوثان فيقولون: يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان؟ ! فيقال لهم: ليس من يعلم كمن لا يعلم ". وجاء فى حديث آخر: " إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه " وفى حديث آخر " إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصلاة ص _046(3/37)
ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة، يكفرها الهموم فى طلب المعيشة " . قال العلماء فى حديث: " إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه " كيف هذا مع أن الله يقول فى بعض الناس (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) والآية صريحة فى أن فساقا وكفارا تزداد أموالهم، وتتسع ثرواتهم، فكيف يحرم إنسان الرزق بالذنب يصيبه؟ !! وكان جواب العلماء على هذا: أن رب العالمين يعامل من يحب معاملة خاصة فهو يؤدبهم فى الدنيا ليرجعوا إليه، فربما حرم إنسانا فيه خير حتى يرجع إليه لأن الحرمان حرقة فعرف أن له ربا يعطى ويمنع فلجأ إليه فوسع عليه !! أما إذا غضب رب العالمين على أحد فأنه يوسع له، قال تعالى: (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) وقال: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) بدأ "كارل ماركس " وغيره يضع فلسفة لتقسيم الأرزاق على الخلق فكانت النتيجة أن الأرض منعت خيرها، وأن الروس يحتاجون إلى النبات وإلى الثمار وإلى الحبوب من كل مكان !! طبيعة الحضارات المادية عموما حتى لو ازدهرت بمال كثير أنها تعمر ص _047(3/38)
لتدمر وتبنى لتهدم وتصعد لتهبط ولا بركة فيها: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) هذا هو الموضع الثامن فلنعد إلى الموضع السابع- وقد أخرته لأكثر الكلام فيه لأنه يتصل بنا كلنا. يقول الله- فى هذا الموضع يصف أبانا آدم-: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) أصيب آدم بمرضين: ضعف الذاكرة، وضعف الإرادة، وكلا المرضين قاتل، فإذا اجتمعا معا أخرج الإنسان من الجنة !! ضعف الذاكرة: قال الله له: لا تأكل من هذه الشجرة، فى غيرها ما يشبع وما يغنى، ليس هناك ما يلجىء إليها، فيما أباح الله ما يجعل الإنسان أغنى العباد عما حرم الله، ليصر فى محرم ضرورة أبدا... لكن آدم نسى، ضعفت ذاكرته مع غلبة أشياء أخرى عليه، وحتى ما بقى من معلومات باهتة عن هذا الأمر الإلهى فقد طواه ضعف الإرادة، فإن الشيطان جاء يسخر منه: منعت من الشجرة؟ الخلد أمامك !! الملك أمامك !! (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) بضعف الذاكرة وضعف الإرادة سقط آدم ثم تاب الله عليه. عندما ننظر- نحن أبناء آدم- إلى أنفسنا نجد المرض هو ، ضعفى الذاكرة، وضعف الإرادة، نعلم أن هذا يضرنا ونقع فيه، ولذلك نحتاج دائما إلى أن نبقى أقوياء الإرادة، وأقوياء الذاكرة، فلنغالب النسيان فى حياتنا، ولنغالب خور العزيمة فى حياتنا... يقول الله جل شأنه ليحيى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة ) النفس البارد لا ينتج شيئا، نريد حماسا، نريد إنسانا فى قلبه حرقة ص _048(3/39)
ورغبة فى أن يرضى ربه، وأن يؤدى ما عليه مع وضوح الرؤية-كما يقال فى العصر الحديث- ومعنى وضوح الرؤية أن نعرف الأمر الذى نعمل به ونحيا من أجله. ومضت السورة تنبه النبى عليه الصلاة والسلام إلى أن يؤدى واجبه مع الناس، مع أن الناس ينسون، ينسون ماذا؟ ينسون التاريخ، ينسون ما مضى من حياتهم، ولذلك جاء فى آخر السورة: (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى) أعجبتهم مساكنهم، والتذوا بما وفروا فيها من متع، ونسوا الرب الذى يسر وأعطى، وأغنى وأقنى... كنا قادرين على أن نبطش بهم، ونأخذهم أخذ قادر مسرع، لكن أخرناهم إلى حين: (ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ) (ولولا كلمة سبقت من ربك) بتأخير الناس إلى أجل مسمى (لكان لزاما) أى لكان العقاب لازما، ولكن أخرنا الناس إلى أجل مسمى لعلهم يثوبون إلى رشدهم، لعلهم يهتدون إلى الصراط المستقيم قبل أن تفارق الأرواح الأجساد، هذا هو ما تعطيه الآية... ثم قال لصاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام: يعينك على معالجة الناس، وعلى سوء مقابلتهم لك، وعلى رداءة مواقفهم منك أن تذكر ربك، وتلجأ إليه: (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى) " اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " ص _049(3/40)
الخطبة الثانية الحمد لله (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام النبيين وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل. عباد الله: أشعر بأن الأمة الإسلامية لا تزال على أول الطريق- طريق الخير- لم تمش فيه كثيرا، هل هى أمة كسول؟ ربما، هل هى أمة جهول؟ ربما، لكن الذى أعرفه أننا خنا رسالة الإسلام فى الوقت الذى يحرص فيه بعضنا على أمور تافهة لا تقدم ولا تؤخر فى معالم الإسلام شيئا !! من عشر سنين- تقريبا- أرسلنى الأستاذ الدكتور/عبد الحليم محمود شيخ الأزهر- رحمه الله- إلى " أوغندا " مع زميل آخر، وذهبنا إلى " أوغندا " ولقينا فيها " عيدى أمين " وأسسنا المجلس الأعلى للشئون الإسلامية هناك، وفى سياحتنا بهذا القطر لقينى رجل مسلم وقال لى كلمة- شعرت بعدها بالخجل الذى نكس رأسى وأذلنى- قال لى: يا أستاذ لماذا جاء آباؤكم بالإسلام إذا كنتم أنتم قد نسيتمونا؟!! فقلت له: على أية حال يعيننا الله ولا ننساكم. قال: نحن محتاجون إليكم. ص _050(3/41)
المسلمون فى " أوغندا " كانوا نحو عشرين فى المائة، والمسيحيون كانوا نحو عشرين فى المائة، والوثنيون نحو ستين فى المائة، ولكن كان المسيحيون يمثلون العدد الأكبر من المثقفين والعدد الأكبر ممن بأيديهم أزمة الأمور... ووضعنا خطة للنهضة بهذا البلد، على كل حال الذى حدث أن الأمور بلغت فى أيام "- عيدى أمين " أن الإسلام- تقريبا- وصل إلى أربعين فى المائة من تعداد السكان... الان- فى صمت غريب- يصفى الإسلام فى " أوغندا " وآخر ما سمعت- فى إذاعة لندن أن نحو اثنى عشر ألفا قتلوا فى الشمال الغربى لأوغندا، أى فى المواطن التى يعيش المسلمون فيها- مواطن عيدى أمين- لأن شمال أوغندا تقريبا كله إسلامى. والأمة الإسلامية فى القارات الخمس لا تعى شيئا عن هذا البلاء، الأمة غافلة، وأصرخ فى أى ميدان أقول: المسلمون يقتلون فى " أوغندا " ما يسمعنى أحد !! وقد زار أوغندا بابا الفاتيكان ويسر الطريق لهذه المذابح!! وقد زار -كما قلت لكم- " الفلبين " والمسلمون يستأصلون فى الفلبين فى صمت!! ما الذى يشغل الأمة الإسلامية؟ ثم ماذا؟ يذهب عملاء " حافظ أسد " فى " سوريا " إلى رئيس المركز الإسلامى فى " ألمانيا " ليقتلوه فلا يجدوا الرجل فى بيته فيقتلوا امرأته !! وامرأته بنت الشيخ " على الطنطاوى " من أعظم المذيعين فى المملكة العربية السعودية لتعاليم الإسلام !!. نكبات تنزل بالدعاة وبالأمة الإسلامية على نحو غريب!! فيا إخوانى أرجو أن تصحوا، الإسلام يقول لنا: التاريخ الماضى اعرفوه، لكن أنا أقول أيضا: التاريخ الحاضر اعرفوه، أمتنا تائهة، ويجب ص _051(3/42)
أن تعرف أحوالها وشئونها. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) عباد الله (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) أقم الصلاة * * * ص _052
علاقة المسلم بالدنيا خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه 8 /3 / 1974 م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فما هى علاقة المسلم بالدنيا التى يعيش فيها؟. إن بعض الملحدين- من شرق الأرض وغربها- يقولون: إن الدين يعلق أتباعه بالدار الآخرة، ويصرف أفكارهم إلى نواح غيبية مبهمة، ويبدد قواهم وراء العمل للدار التى يتوهمون أنهم يحشرون فيها أو يعودون إلى ربهم فيها، وذلك كله على حساب علاقتهم بهذه الأرض وما فيها ومن فيها، فترى المتدينين يضيقون بالحياة، ويستوحشون منها، ولا يأسون لما يفوتهم من التقدم فيها والاستكثار من خيرها، ويظنون أنهم إنما يحرزون أنصبتهم من الكمال النفسى ومن التقدم الأخروى على أنقاض هذه الحياة التى يتجهمون لها ويجهلون أساليب العيش بها !!. هذا كلام يقوله الملحدون- من أصحاب الفلسفات الشرقية أو الغربية عموما- وهم ينتقدون الدين ونظرته إلى الحياة. ص _053(3/43)
ونحن من باب الأمانة- نقول: إن هذا التفكير إذا قيس بحقائق الإسلام المقررة، وقيمه المعتمدة، وتعايى التى توطدت واستقرت فى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تبين أنه كلام تافه لا وزن له!!. لكن لاشك أن بعض المتدينين أعان على توجيه هذه التهم للإسلام، وأن مسلكه فى الدنيا هو الذى جعل ألسنة أعداء الله تطول فى قيمة الدين وأثره!!. ولو أن المسلمين أنصفوا أنفسهم وكتابهم ونبيهم، وأحسنوا الأسوة بسلفهم الصالح، وتمشوا فى الطريق التى أقام عليها الآباء الكبار أعرق حضارة عرفتها الدنيا لكان الملحدون من شرق الأرض وغربها قد تقاصروا عن هذا الكلام، وعجزوا عن توجيه التهم للإسلام!! ولكننا أسأنا الفهم، وأسأنا العمل، فكان من سوء الفهم وسوء العمل ما حرض أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن يصفوا دينه بهذا الوصف الذى لا أصل له. ما علاقة المسلم بهذه الدنيا؟. قال بعض العلماء: إن الإنسان له ناحيتان متقابلتان: هو أمام الله عبد يخضع له ويتلقى منه، وهو فى هذا الكون- الذى يعيش فيه- سيد يصدر أوامره !! هو أمام الله تابع يتلقى الأوامر، وليس له بالنسبة لهذه الأوامر إلا السمع والطاعة، ولكنه بالنسبة إلى الدنيا- التى يعيش فيها- ملك، يتنقل فى فجاجها، ويسخر كل شىء له، وله الحق أن يقترح وأن يجتهد وأن يبتدع لأنه أعلم بشؤون دنياه، أما فى شؤون الدين فلا حق له فى اقتراح ولا ابتداع لأنه يتلقى عن الله فقط !!. الناحيتان المتقابلتان فى كيان الإنسان هما النطاق الذى يعمل داخله، هو أمام الله عبد، يعترف بحقه، ويسبح بحمده، ويشعر بجميله، ويستعد ص _054(3/44)
للقائه، ويأبى أن يشعر بأن الحول كله له أو الطول كله له، ويعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله. أما الناحية الثانية فى الإنسان- وهى أنه سيد فى الكون- فهى تجىء من أن الله جعله كذلك , مكنه وملكه وسخر له، قال تعالى: (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) هذا التسخير- للإنسان- هو الذى يحدد لنا ما مكانة الإنسان فى الأرض، ما علاقته بهذه الدنيا التى يعيش فيها. هل خلق الإنسان ليكون مزلزل القدم على ظهر الأرض؟ هل خلق ليكون غريبا بين خيرات الله التى أحاطت به؟ كلا، يقول الله جل شأنه: (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون) التمكين فى الأرض وظيفة لها مؤهلات، وما يستطع أن يكون مكينا فى الأرض إلا من استجمع الخصائص الأدبية، والمواهب العقلية، والإمكانات المادية التى تجعل له هذا التمكين المطلوب. ولعله مما ينبغى توجيه النظر إليه أن الله سبحانه وتعالى كلما أنعم على إنسان جعل التمكين فى الأرض مرادفا لهذه النعمة.. فيوسف عليه الصلاة والسلام- عندما تولى شؤون المال فى " مصر " قال للملك: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) فهو يطلب منصبا ترشحه له مؤهلات خاصة- الحفظ والعلم- ولو كان لا يستجمع هذه الصفات ما اهل ولا طلب وما ينبغى له أن يطلب وهو لا يحفظ ولا يعلم، يقول الله جل شأنه- بعد أن نال يوسف هذه الوظيفة: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء) هل هذا التمكين فى الأرض نقمة أو لعنة؟ لا هو نعمة من الله، يقول جل شأنه: (نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين)، وهذا كله فى الدنيا أما فى الآخرة فقد تولت الآية التى بعدها شرح المكانة الأخروية: ص _055(3/45)
(ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون) تحدث القرآن الكريم عن ذى القرنين: (ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا * إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا)، التمكين فى الأرض كان الصفة البارزة فى قصة الرجل الذى أراد الله أن يسوق لنا خبره، وأن يحكى لنا تاريخه، وهنا نرى أن التمكين فى الأرض يبدأ نعمة من الله على من أراد من خلقه، فهو يمهد له ويعينه، ولكن على من يحظى بهذه النعمة أن يبذل قواه، وأن يمد أسبابه فإنه إن انكمشت يده وانقبضت، ولم يؤت السبب المطلوب منه ضاعت النعمة ولم تبق له، ولذلك يقول جل شأنه: (إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا * فأتبع سببا) أدى ما عليه واشتغل وبذل الجهد، ونرى جهده بارزا فى عمل- يؤسفنا كل الأسف بل ينكس رؤوسنا أن العمل الذى برز فيه هذا الرجل الصالح- قديما- لا يحسنه الآن من ينتسبون إلى الصلاح والتقوى! بل يحسنه من أتقنوا الإلحاد والزيغ فى الأرض!! لماذا؟ لأن الذين يزعمون الصلاح والتقوى ظنوا الجهل بهذه الأمور عبادة، وحسبوا أن عيش المرء على ظهر الأرض وهو جاهل بقوانينها، عاجز عن تسخيرها وتطويعها يؤهله للدار الآخرة!!. هذا كذب، هذا غباء، شاع أيام الغباء فى تاريخنا، وتاريخنا كالموج يرتفع ويهبط، وقد شاعت الآن- ولا تزال- أفكار من أيام الهبوط فى حضارتنا!!. هذا الرجل- ذو القرنين- جاء إلى قوم من الهمل- يشبهون الأمة الإسلامية الآن- لما جاءهم قالوا له شاكين باكين: ( يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا) جائزة ومكافأة (على أن تجعل بيننا وبينهم سدا) لم لا يحسنون بناء سد لهم؟ لأنهم عجزة !! فكان الرجل ذكيا تقيا قال: أنا مستغن عن جوائزكم ومكافأتكم وخرجكم: (قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما * آتوني زبر الحديد ) قطعه ص _056(3/46)
(حتى إذا ساوى بين الصدفين) بين جانبى الوادى (قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا) أى نحاسا ذائبا (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا). سطر فى القرآن الكريم وصف استحكامات حربية قامت كل أساس من سدود أذيب فيها النحاس والحديد والصخر والتراب فكان سدا ضخما!! من المهندس الذى أشرف على هذا العمل؟ رجل صالح من عباد الله الصالحين !!. وهذا العمل فيما يتصور الناس ليس عمل عباد الله الصالحين الآن!! لماذا؟ لأن عمل عباد الله الصالحين فى تصور الأغبياء أن يضعوا مسبحة بين أيديهم ثم يبدأون العبث بحباتها ويحسبون ذلك ذكرا لله، وهو نسيان لله!! ليس هذا تدينا.. ثم نرجع إلى الإسلام- نفسه- فى نصوصه القرآنية والنبوية لنرى الموضوع مفصلا.. من أهم ما تقوم به الأمم الزراعة، يرى الإسلام أن الزراعة عبادة، يقول النبى صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة ". وروى أحمد بن حنبل فى مسنده: " إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل " ومعنى هذا أنك تعمل إلى قيام الساعة، فلو قامت الساعة وأنت تزرع فلا ترم ما بيدك بل تمم الزراعة فإنك فى عمل صالح يحسب لك. ومن عجائب الإسلام أنه اعتبر أن الاقتصاد الإسلامي لا يجوز أن يقوم ص _057(3/47)
على مصدر واحد من مصادر الثروة بل لابد أن يعتمد على مصادر شتى، وأن الاكتفاء بالمصدر الواحد غلط، ولهذا جاء فى صحيح البخارى أن أبا أمامة الباهلى رأى سكة وشيئا من آلة الحرث فقال: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الذل " . وفى حديث آخر: " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتي الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " . قال ابن حزم : " إن الزرع المذموم الذى يدخل الله تعالى على أهله الذل هو ما تشوغل به عن الجهاد ". هذا كلام ابن حزم، و هو كلام يجمع بين النصوص المختلفة، ولكن الحقيقة أن ما يؤكده النبى صلى الله عليه وسلم هو أن الأمة لا يجوز أن تكتفى بالزرع، فلابد- مع الزراعة- من تجارة ومن صناعة!!. فيما يتصل بالصناعة نجد أمورا ينبغى أن تعرف: أحد أنبياء الله الكرام اشتغل فى الصناعة: (ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد * أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير ) ص _058(3/48)
وتفسير: (أن اعمل سابغات) أى دروعا سابغة. (وقدر في السرد ) أى أحكم النسج، أو كما يقول بعض المفسرين: اجعل مسامير الدروع دقيقة بحيث تضبط غلق الدرع وفتحه، فلا تكون الخروق واسعة فتخرج الأزرار أو ضيقة فلا تدخل . المهم إحكام الصناعة، من التفسيرات التى تضمنت بلاهة قول أحد المفسرين: كان الحديد كالعجين فى يده !! هذا كلام مضحك!!. إن كلمة (وألنا له الحديد) أى جعلناه ماهرا فى صناعات الحديد، فيقال- لغة وأدبا: لانت الصنعة فى يده إذا كان قد مهر فيها وأصبحت طيعة له. وليس معنى ذلك أن الحديد أصبح عجينا يقطعه كيف يشاء. وكان سليمان- ابنه- كذلك يقول الله جل شأنه: (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير * يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور) المحاريب: المساجد. التماثيل: كانت مباحة فى دينهم. الجفان: جمع جفنة: وهى القصعة. الجواب: جمع جابية أى: أحواض كبيرة يجبى إليها الماء. القدور: جمع قدر: آنية، ليس كآنية النحاس التى يحملها الواحد منا على عجل بل كانت القدور كبيرة تدل على صناعة كبيرة. وقد تحدث نبينا عليه الصلاة والسلام عن داود فقال: " ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبى الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده " . ص _059(3/49)
وعمل يده هو صناعة الحديد. وعندما سفه العرب أنفسهم اعتبروا الحدادة من الحرف الوضيعة!! سبحان الله!! إذا كانت الحدادة من الحرف الوضيعة فماذا تصنع الأمم لنفسها كى تدفع عن عقائدها ومثلها وقيمها؟ !!. إن الحديد باسمه سورة فى القرآن الكريم، والسورة تحدثت عن أن هذا المعدن من خصائصه الكبرى أنه ذو بأس شديد وأن الله يختبر الأمم- على امتداد الزمان- بمدى دفاعها عن دينها ونصرتها لربها بهذا الحديد: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) وهل يدافع الناس عن أوطانهم وعن شرفهم وعرضهم وعن الحقائق الكبيرة فى دينهم وتراثهم إلا بالحديد؟ ويوم نكون فيه عالة على غيرنا أو يوم نعتبر أن صناعاته وضيعة فكيف نعيش فى دنيا الناس؟!!. إن رب العالمين بين لنا أن الأرض خلقت لنا: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) ماذا صنع أسلافنا؟ معروف أن النبى الأمى عليه الصلاة والسلام بعث فى صحراء الجزيرة، والناس فى صحراء الجزيرة يعيشون عيشة بدائية، وسائل النقل عندهم: الجمال والبغال والجحاش، وما يعرفون غير هذا، لكنهم لما اعتنقوا الإسلام رفع خسيستهم، وأعلى مستواهم، وشعروا أنهم قد أصبحوا جيلا جديدا يحمل حضارة أزكى وأرقى، وواجهوا موقفهم من العالم مواجهة واضحة، فماذا صنعوا؟ يقول ابن خلدون: لما استقر الملك للعرب، وشمخ سلطانهم، وصارت أم العجم خولا لهم وتحت أيديهم، وجدوا أنفسهم مضطرين إلى أن يتعلموا فنون البحر فأخذوا يصنعون السفن وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح.. إلى أن ص _060(3/50)
قال: وكان المسلمون لعهد الدولة الاسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه، وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه، فلم يكن للرومان قبل بأساطيلهم، لأن أساطيل المسلمين قد ضرت عليهم ضراء الأسد على فريسته، وقد ملأت الأكثر من بسيط هذا البحر عدة وعددا واختلفت فى طرقه سلما وحربا فلم يظهر للنصرانية فيه ألواح . إن هذا النبوغ البحرى لأمة صحراوية لا مرجع له إلا تعاليم الإسلام كان العرب يعيشون فى أرضهم فلما جاء الإسلام سمى المحيط الهندى من ناحيتهم بحر العرب وأخذوا يجوبون الأرض بالتجارة لأنهم- فعلا تجاوبوا مع الإسلام. الإسلام يستغرب أن تكون الأمة المنتسبة له أمة تسكن جانبا خربا من الأرض بينما يسكن غيرها فى الجانب المعمور من دنيا الناس. الإنسان يعجب: ما الذى أخر أولئك المسلمين؟. ما الذى جعلهم فى ميدان الحرف والتجارات والصناعات متخلفين؟. الحقيقة التى لا شك فيها أن هناك أفكارا دخيلة على ديننا اختلقها ناس من أصحاب الجهالات ثم أشاعرها فأشاعوا الفقر والهزيمة فى أمتنا، ونحن نكره أن نجعل الاستعمار " المنديل " الذى نمسح فيه أغلاطنا فإن الاستعمار هجم علينا ونحن نيام فى بلادنا !!. كان " البترول " عندنا لم لم نفكر فى استخراجه؟. كانت " قناة السويس " بأيدينا يمكن أن نفتتحها نحن ولكن بعض الأغبياء- الذين فرضوا أنفسهم على دين الله- أفهموا الأمة أن العيش فى صومعة وأن الانحسار وراء بعض العبادات الضيقة هو الدين كله !! فجاء رجل فرنسوى وفتح " القناة " لحسابه الخاص !! وهكذا الدنيا!!. إن الرجل البلجيكى الذى جاء وبنى " مصر الجديدة " بنى فيها ستا ص _061(3/51)
وثلاثين كنيسة !! لماذا؟ رجل جاء إلى أرض خربة فبناها فوضع طابعه عليها. وأين أمتنا؟ سارحة وراء أوهام!!. وأين دين الله فى هذه الأوهام؟ لا يعرف. نريد أن ندرك الحقيقة فى ديننا، إن الله عز وجل-كما قلت لكم- مكننا فى هذه الأرض، وهنا أوجه النظر إلى أن القرآن الكريم فى وصفه للدين وتحديده لطريق النجاة قال: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا) العمل الصالح قسمان: قسم ضئيل قليل وهو ما حدده الإسلام من صلوات وزكوات وصيام وحج وما إلى ذلك. وهو قسم قليل لأنه لا يستغرق من وقت الإنسان شيئا يذكر. ولكن القسم الأكبر من العمل الصالح هو الفقه فى الدنيا وتطويع هذه الدنيا أو تسخيرها لخدمة التوحيد وإرساء تعاليمه والدفاع عنه!!. فإذا كانت الصلوات تستغرق من الإنسان ثلث ساعة أو نصف ساعة فى أربع وعشرين ساعة فأين ثلاث وعشرون ساعة ونصف؟. إن هذا الوقت الطويل هو الذى ينفقه الناس فى دنياهم كى يجيدوا فهمها ثم لا يعيشون لهذه الدنيا عبيدا بل يسخرون هذه الدنيا كى تحمى الصلاة والزكاة، كى تحمى التوحيد واليقين فى الدار الآخرة !!. إن علوم الحرب شىء طويل سواء كانت الحرب فى البر أو فى البحر أو فى الجو، علوم الدنيا شئ طويل يحتاج إلى كليات ومهارات، وعلى المسلمين أن يدركوا أن " الصالحات " هى إتقان الدنيا وتسخيرها لله، وعندما يكون أى نفل فى الصلوات أو الزكوات سببا فى تضييع هذه الدنيا- التى لابد منها فإنه يلغى فورا!! كيف؟ قال الله تعالى للمسلمين- لما أخذوا يقومون الليل تأسيا بنبيهم صلى الله عليه وسلم الذى فرض عليه قيام الليل قال: ص _062(3/52)
(إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه ) قليل من القرآن تقوم به ليلا مع كثير من الجهاد يستنفد وقتك نهارا هذا هو الدين.. ومعنى ذلك أن إنسانا لو سهر الليل فى قراءة القرآن ثم أصبح يفتح دكانه متكاسلا ويعرض بضاعته متواكلا ولا يحسن أن ينمى أو يثمر السلع التى بين يديه فهذا رجل يخون الإسلام لأن ضياع التجارة الإسلامية ضياع للإسلام نفسه، ثم إنه- أيضا- يخون نفسه وأهله وأسرته لأنه يوم يكون فقيرا فلن يحسن تربيتهم ولا الدفاع عنهم ولا حفظ مروءتهم ومكانتهم!!. لو أن المسلمين الذين هاجروا إلى " المدينة " كانوا أقل كفاية اقتصادية من اليهود لهزمهم اليهود، لو كانوا صعاليك ما استطاعوا أن يكونوا جيشا يزحف إلى دولة الروم وأن يجدوا رجالا كعثمان بن عفان يفتحون خزائنهم للإنفاق على هذا الجيش. إن الإسلام دين حركة وحياة وعمل وقدرة، ولابد من هذا كله.. بداهة ما تتم هذه الأمور إلا فى نطاق معرفة الله ومعرفة دينه، ونحن فى " خطة التنمية-كما نسمع- لنعلم أن البلد يحتاج قبل كل شىء وبعده إلى أن يفهم الإسلام فهما واضحا، وإلى أن تكون هذه الخطة فى إطار صنع الإنسان المؤمن، فإنه لن تنجح خطة تباشرها أيد لم تتوضأ قط!! الأيدى المتوضئة هى التى يضع الله فيها البركة، الضمائر النقية التى تتصل بالسماء وتعرف ربها هى التى تحل ما يسمى بمشكلة " الروتين " وعبادة " النظام المكتبى " وما إلى ذلك. نحن بحاجة إلى أن نعرف ديننا بدقة، وأن نصنع الرجال الذين يحسنون النهضة على أساس هذا الفهم الذى ذكرته. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _063(3/53)
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل. ولنعلم أن هناك أمورا لابد منها لكفالة نهضتنا، من هذه الأمور قول النيى صلى الله عليه وسلم: " من استعمل رجلا من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ". والمعنى أنك يوم تعلم أن فلانا يصلح لعمل فتأتى بمن لا يصلح وتضعه مكانه فإنك تخون الله والرسول وتخون جماعة المسلمين !!. إن أصحاب الكفايات لابد أن تسند لهم الأعمال الكبيرة، وأمام هذا عائق، ففى المجتمعات المنحطة- وهى تكثر فى المجتمعات العربية والشرقية- تؤخر الأمانة أو الكفاية ويقدم الولاء أو الملق!! بمعنى أن العمل يسند إلى من يحسن التنويه بالحاكم والثناء عليه ونسبة العبقرية كلها إليه وجعله مدركا لشؤون البر والبحر والدنيا والآخرة!!. والملق أو الكذب لا يمكن للأمم أن تنجح به، الكفاية يجب أن تقدم ص _064(3/54)
على كل شىء، وما نجحت الأمم الأخرى إلا لأن الكفء يقدم لعمله ويقدم العمل إليه فريضة !!. أما أن ينظر حاكم ما إلى أن فلانا لا يمدحه أو فلانا لا يذكره بخير فيحرمه من العمل فهذه خيانة عظمى !! ما يعرف هذا تاريخنا، كان عمر ابن الخطاب رضى الله عنه- قد نظر إلى رجل قتل أخاه فى الجاهلية، وأسلم الرجل، فليس لعمر لديه شىء، لكن عمر يكره من قتل أخاه، فقال للرجل: والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم!! فنظر إلية الرجل وقال له: يا أمير المؤمنين أيمنعنى هذا حقى؟ قال: لا !! فقال: إنما يأسى على الحب النساء !!. هذا شىء يجب أن يفهم، فلنفرض أن الأمور ليست على هذا النحو من تعاليم الإسلام، وأن الأمة بليت بمن يعبدون أنفسهم من دون الله فماذا نصنع ؟. يقول النبى صلى الله عليه وسلم: " ستكون أثرة وأمور تنكرونها قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: تؤدون الحق الذى عليكم وتسألون الله الذى لكم ". أى إذا كنت صاحب كفاية وظلمت حقك فلا تخن البلد من أجل حاكم سافل، إنما أد حق الله عليك واخدم دينك وبلدك بكل ما لديك من طاقة. فى بلدنا منطق عجيب تجد أن أوضاعا تمر بالأمم فتذهب حرمة الدماء والأعراض والأموال فإذا جنت الأمة من وراء هذا الاستهتار الشائن الخسيس بالدماء والأعراض والأموال- إذا جنت من وراء هذا- الهزيمة والتخلف والضعف والذل بدأت تؤمن، فقد صدرت تعليمات مشكورة بأن أموال العرب والأجانب لا تصادر ولا تؤمم، ثم قيل بعد ذلك: إنه لن تصادر أو تؤمم أموال المصريين قياسا على أموال العرب والأجانب!! أى قياس هذا؟!!. ص _065(3/55)
المفروض أننا أصحاب البلد الأصلاء ومفروض أن الدماء والأموال والأعراض مصونة مقدسة، وأن ما يجىء من الخارج ليست له قداسة زائدة، إنما هو يأخذ بالحكم الطبيعى قداسة الحق المقرر فى البلد.. لكن هذا يذكرنا بأيام عجاف كان يقال فيها: لا نريد الحفاء فى بلدنا لأن السياح يجيئون بلدنا ولا يجوز أن يروا الحفاء!!. كأنه إذا لم يجئ السياح بقى الحفاء، وذا لم تجئ أموال الأجانب بقيت المصادرات وبقى التأميم الأعمى!!. أى ضلال هذا فى فهم الأمور؟ !!. إن أمتنا محتاجة إلى أن تتلقى أبجديات الإسلام، إننا أمة تجهل دينها جهلا شائنا من سنين طالت، ونريد أن نعرف حقائق هذا الدين كاملة وأن نرد أوضاعنا إليها ردا حاسما. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) عباد الله (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) أقم الصلاة ص _066(3/56)
القران معجزة خالدة خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فقد شرحنا- فى الجمعة الماضية- أن خلود الإسلام وعمومه يفرضان أن تكون معجزته خالدة تصنع الإيمان على امتداد الزمان والمكان، وأن القرآن الكريم هو المعجزة الباقية التى لا تزال تزكى الإنسانية وتصقل معدنها وترفع مستواها وتقودها- على بصيرة- إلى الله رب العالمين!! ومع ذلك فإن ناسا تطلعوا إلى معجزات حسية، وطلبوا خوارق عادات من النوع الذى جرى مثله على أيدى الأنبياء السابقين: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها) ولكن رب العالمين لم يجب هؤلاء إلى ما يطلبون، لأن مهمة الدين ليس تجميد الطفولة العقلية لبعض الناس ولا السير مع جماعة من المنكرين والمعاندين لا يجدى شئ فى إقناعهم، بل وظيفة الدين أن يربى الناس بتفتيق عقولهم، وتهذيب طباعهم، والاستعلاء بغرائزهم، حتى يكونوا ربانيين حقا. ص _067(3/57)
وقد أجاب القرآن هؤلاء المقترحين أو طلاب الخوارق الحسية قائلا: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) ومع ذلك فإن بعض الناس يتساءل- ومن حقه أن يتساءل- وما المانع أن تساق لهم الخوارق التى اقترحوها والمعجزات إلمادية التى طلبوها؟ والجواب: أن أسلافهم طلبوا هذه الخوارق فلما أجيبوا إليها كفروا بها، فكان كفرهم بها سببا فى عذاب الاستئصال الذى نزل بهم فلم يبق منهم شيئا !! والله عز وجل يعلم من طبيعة المشركين فى مكة أن خوارق العادات لو تنزلت عليهم ما آمنوا بها لأن عنادهم بلغ حدا غريبا، أليس من العجب أن يبلغ العناد- بأصحابه- الحد أن يقولوا: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) هل يدعو عاقل بهذا الدعاء؟ العاقل يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه ووفقنا إلى اتباع صاحبه والسير معه... أما أن يبلغ الحقد على صاحب الرسالة وعلى الحق الذى جاء به أن يقول القائل: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم). فهؤلاء قوم أفقدهم العناد عقولهم، وكما قال جل شأنه: (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) وقد حدث- قديما- أن طلبت ثمود معجزة تجعلها تؤمن بنبيها صالح، وخلقت لهم ناقة من العدم وقيل لهم: الناقة عندكم تشهد لصاحبها بالنبوة، ولكن هيهات: (وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها ) كيف؟ قال تعالى: ص _068(3/58)
(إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر * ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر * فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر * فكيف كان عذابي ونذر * إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر) أصبحوا كالهشيم الذى يكون فى حظيرة دهستها الأقدام فلم تبق لها معلما !! هذا هو السبب فى أن رب العالمين لم يعط هؤلاء طلباتهم، لكن حتى تنقطع الألسنة المعاندة، وحتى لا يقال: إن محمدا لم يسلح بما سلح به الأنبياء السابقون من خوارق حسية أجرى الله خوارق حسية على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من النوع الذى يقهر أهل العناد على الإيمان، ولكنه لم يرتب على هذه الخوارق الحسية ما ترتب على الخوارق الأولى عندما كذب بها أصحابها... بمعنى أنه أرى الناس أن محمدا موصول بالسماء، وأن سنن الله الكونية يمكن أن تلين له، وأن خوارق العادات يمكن أن تقع على يده، ولكن معجزته الكبرى ليست هذه، معجزته الأولى هذا الكتاب الذى جاء يفتح العقول، ويصقل المعادن، ويرفع المستويات!! لكن مع هذا حدث جفاف كاد الناس يهلكون معه، والجفاف يقع فى الإنسانية باستمرار، من عشر سنين هلك نحو مليون شخص فى شرق أفريقيا من الجفاف، والآن يوجد جفاف فى ظل الحكومات الشيوعية فى " الصومال " وهى حكومة عربية كافرة- للأسف- قتلت نحو عشرة من العلماء حرقا لأنهم طلبوا الحكم بما أنزل الله، ولا تزال الحكومة التى فعلت ذلك قائمة !! ليكن، أصيبت بالجفاف، والجفاف مصيبة. لما وقع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب الناس إلى صاحب الرسالة يطلبون منه الإنقاذ، وفعلا طلب صاحب الرسالة- وهو على منبره- من ربه أن ينزل الغيث، فنزل الغيث أسبوعا متكاملا، حتى جاء الطالبون يقولون له: الماء زاد، كاد يأتى علينا، فإذا هو- على منبره- يطلب من الله: " اللهم حوالينا ولا علينا " وكلما أرسل ذراعه يمينا أو شمالا كانت الأشعة كأنها طوع أصابعه تبدد السحب، وتنكشف الآفاق، ويذهب المطر !! ص _069(3/59)
أليست هذه معجزة؟ هى معجزة بيقين، وعرفها الناس أنها خارقة من خوارق العادات.... من خوارق العادات أن إناء محدودا فيه قليل من الحبوب واللحوم لا يكفى إلا أسرة من أشخاص تعد على الأصابع أكل منه جيش وشبع ولا تزال البُرمة تفور والحبوب تزيد واللحوم تتصل !! ممكن جدا أن تكثر هذه المعجزات، ولكن كما قيل: هذه خوارق أيد الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ولكن لم يعطها المكانة الأولى فى الشهادة له بالنبوة، لأن الشهادة له بالنبوة وتصديق الرسالة جاءت على النحو الذى يليق برسالة عامة خالدة... وإذا كانت المعجزة تورث أصحابها- الذين رأوها- يقينا فإن هذا القرآن لا يزال- كما قلنا- يصنع اليقين، ويؤكد أن الإسلام هو الحق الفذ إلى يوم الدين !! ووسيلة القرآن فى هذا أنه- كما قلنا- يقول للإنسان : لست إنسانا إلا بعقلك، ولست إنسانا إلا بخلقك، ومهمة هذا القرآن أن يفتح عقلك فلا يظلم، وأن يفتح قلبك فلا يسيف ويهبط!! ونختار الآن عدة نماذج تشهد لما نقول، وتبين أن كتابنا جاء ليفجر الطاقة الإنسانية فى الناس، وليصحح نظرتهم إلى الأمور، وليجعل لهم منطقا سديدا يعرفون به الحق، ويبتعدون به عن الظنون والأوهام، ثم هو دين يقوم علي تصحيح القلب الإنسانى، وإبعاد الشهوات عنه، و ما يتم ذلك إلا بأنواع من الرغبة والرهبة، والخوف والرجاء، والوعد والوعيد... يقول الله تعالى فى سورة البقرة: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ) ص _070(3/60)
هذا كلام تضمن قضية من القضايا أن الله واحد، ليس ثلاثة كما يقول بعض المنحرفين، وليس اكثر أو أقل، لا، هو واحد، وما عداه عبد له، خاضع لحكمه، طوع إرادته، لا يمكن إلا أن يذل فى ساحته وأن يخضع لأمره ونهيه !! ما الدليل على هذا؟ الآية التى تليها: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) فإذا عرفت بعقلك أن الأرض والسماء وما بينهما من خلق الله، وأن هذا الملكوت المبدع يدل على بديع السموات والأرض، وأن هذه القوانين المحكمة تدل على إرادة شاملة وحكمة دقيقة، وأن الكون فعلا له خالقه الذى ينبغى أن نسبح بحمده، وأن نعترف بمجده، وأن نشكر له عطاءه ورفده، إذا عرفت هذا فما تكون علاقتك به؟ ان المشركين أحبوا أصنامهم، وإن الضالين استراحوا إلى ضلالهم، فماذا تكون علافة المسلم بربه؟ ينبغى أن يكون أقوى عاطفة، وأعظم حبا، واكز تضحية، وأشد ولاء لربه من كل ولاء أو عاطفة أو حب لو علاقة تربط الآخرين بما يعبدون، ولهذا قال الله- مباشرة بعد هذه الآية: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ) على هذا النحو يقيم الإسلام قلبا مفعما بمحبة رب العالمين بعد أن شرح العقل بمعرفة الله وأسمائه الحسنى وصفاته العلا !! فالقضايا تساق ومعها أدلتها وآثارها... ص _071(3/61)
خذ مثلا آخر من أول سورة الحج... البعث حق، وهذا الكون لابد أن ينتهى إلى أجله، وكما يتحلل جسد الإنسان عند مجيء الأجل فإن لهذا العالم أجلا ينتهى عنده كذلك، ويبدأ الانتهاء بصيحة البعث، وانتشار الزلازل وهذا الدمار الذى يغزو كل شىء فى الأرض والسماء: (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد). لكن هذا الكلام خبر، فما دليله؟ ما الذى يجعلنا نصدقه؟ يقول الله تعالى بعد هذا مباشرة: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ) ما دخل البشر فى هذه الأطوار كلها؟ البشر لا يصنعون شيئا، لا قطرات المنى ولا العلقة ولا المضغة ولا الطفل وهو كيان هلامى ولا بعد تصوير أجهزته من سمع وبصر، ولا بعد كسوة العظام لحما، ليس لبشر مدخل فى هذا... وقد استمعنا يوما إلى بعض الصحفيين المخبولين الذين قالوا: إن الإنسان يصنع فى الأنابيب !! الرواية على هذا النحو نوع من الخبل أو التضليل أو جيل الحواة،. فإن النطفة التى أُخذت من الرجل صنعها الله، والبويضة التى أُخذت من المرأة صنعها الله... ماذا صنع الطبيب؟ قرب الالتقاء- فى الأنبوبة- بين الاثنين لمدة أربع وعشرين ساعة أو ثمان وأربعين ساعة، ثم يعود هذا الكائن إلى الرحم مرة أخرى ليتكون فيه ويأخذ أطوار التخلق السبعة التى حكاها القرآن، كل ما صنعه الطبيب أنه ص _072(3/62)
قرب التقاء الحيوان المنوى بالبويضة لأن الرجل ضعيف أو لأن بويضة المرأة ضعيفة، هذا هو الذى صنعه، وبإلهام الله له صنعه، وما خلق شيئا قط... وإذا كان تكثير العجول أو تكثير الدجاج ـ الآن ـ يقع فى بعض مزارع الدجاج أو مزارع العجول فهل هذا صنع لبشر؟ أم أن أصل التخلق و الإشراف على الخلق من واهب الخلق جل شأنه؟ !! بعد ذلك يجىء دليل آخر: (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) النتيجة ماذا؟ (ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور) أترى هذا المنطق العقلى؟ معجزة تصنع الإيمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!! وأنا أقرأ السيرة رأيت ما جعلنى أتوقف وأتأمل، فقد كان لقريش- بعد غزوة بدر- سبعون أسيرا فى المدينة، أرسلوا مفاوضا عنهم اسمه " جبير بن مطعم" لكى يدفع الفدية ويرد الأسرى، قال الرجل: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فى صلاة المغرب بالطور- وذلك قبل إسلامه حين جاء إلى المدينة ليكلم النبى صلى الله عليه وسلم فى أسارى بدر- قال: فلما بلغ هذه الآية (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون) كاد قلبى أن يطير . الرجل تأثر بهذه التلاوة، وقد بدا لى أن أتدبر السورة، وجئت عند الآيات التى قال: إنها كادت تطير قلبه، وبدأت أدرس فوجدت- فعلا - أن هذه الآيات تضمنت خمسة عشر استفهاما أو كلمة " أم " وهى ص _073(3/63)
تعنى تحريك المعنى بحيث يضرب الإنسان عما قبله ويستفهم بما بعده، هذا وضع الكلمة البلاغى فى اللغة العربية... وبدأت أقرأ: (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون) التدين فى الإسلام ليس كهانة، ممكن لبعض ذوى الألاعيب والشهوات أن يشتغلوا كهانا ويضحكوا على شعوب وعلى رؤساء دول، ممكن جدا للكهان- وما أكثرهم فى تاريخ الدنيا- أن يخدعوا الجماهير، لكن نبى الاسلام صلى الله عليه وسلم ليس كاهنا، نبى الإسلام صاحب منطق راشد، وصاحب سياسة حكيمة، نبى الإسلام-كما قلت- فجر الطاقة الإنسانية للبشر وقال: إنما يتبعنى أولو الألباب، إنما يتبعنى من يحترمون عقولهم، لا كهانة هنا، ليس هنا إلا الفطرة الانسانية السليمة (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون * أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون * قل تربصوا فإني معكم من المتربصين * أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون * أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون * فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين * أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون * أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين * أم له البنات ولكم البنون * أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون * أم عندهم الغيب فهم يكتبون * أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون * أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون). خمس عشرة مرة تتكرر الكلمة، ويشعر الإنسان بأنه أمام كل جملة يمكن أن يتوقف ليشرح، ونكتفى- الآن فقط- بشرح ثلاث كلمات... قال تعالى: (أم خلقوا من غير شيء) هل العدم يخلق شيئا؟ هل الصفر يوجد شيئا؟ أبدا… (أم هم الخالقون ) هل خلق الإنسان نفسه؟ هل خلقه أبوه؟ هل خلقته أمه؟ هل أشرف الأبوان على تكوين الجنين خلال المراحل السبع التى يمر بها؟ لا. ص _074(3/64)
(أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون) الفطرة البشرية التى أيقظها الإسلام فى هذا المجال تجعل الإنسان يذكر- من باب ضرب الأمثال والتذكير بالوقائع- حادثتين حدثتا فى العالم الشيوعى... عندما كان " بريجنيف "- الرئيس السوفيتى- يفاوض ". كارتر " - الرئيس الأمريكى- كان هناك إلحاح من الروس على إمضاء المعاهدة، وإذا الرجل يقول لكارتر: إن الله لن يغفر لنا تأخيرنا فى إمضاء هذه المعاهدة!! الفطرة نطقت على لسان ملحد كفور، وغضب الحزب الشيوعى فى روسيا أشد الغضب لهذا الكلام ثم عدل العبارة لتنشر فى الصحف بعد ذلك على هذا النحو: إن الأجيال القادمة لن تغفر لنا تأخيرنا فى إمضاء المعاهدة!! وتواصوا مرة أخرى على الكفر بالله وإنكار صوت الفطرة. الحادثة الثانية: فى أول غزو للفضاء أحسن الرجل فى مركبته الفضائية أن الأرض تسبح فى الجو وحدها فأنطقته الفطرة قائلا: من يحملها فى هذا المكان؟!! والجواب الذى قاله القرآن هو: (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا) أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. * * * ص _075(3/65)
الخطبة الثانية الحمد لله ( الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام النبيين وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل. أيها الاخوة: أنا رجل ممن يشتغلون بالكلام فى الإسلام، ويعلم الله أن الكلام عندى ليس هواية ولكنه واجب أقوم به، لكنى ألحظ أن المسلمين جعلوا من الكلام فى الإسلام عملا لهم، وهذا شىء لا يصلح به أمر ديننا... التاجر لا يخدم الإسلام بالكلام، الطبيب لا يخدم الإسلام بالكلام، المهندس لا يخدم الإسلام بالكلام، قد يكون عمل هؤلاء فى ميادينهم أكثر مثوبة عند الله وأرجح فى موازين الصالحات من خطة بليغة يلقيها مثلى !! العمل أهم فى خدمة الإسلام- الآن- من كلام كثير يتسلى المسلمون بسماعه... أنا لاحظت أن أعداءنا يقل كلامهم ويكثر عملهم فى السر والعلن، ونحن أمة مطالبة أن تخدم دينها- الآن- بالعمل السديد والخطط المدروسة... " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا ص _076
التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) أقم الصلاة * * * ص _077(3/66)
الخطة الجديدة لضرب الإسلام خطبة الجمعة بمسجد الفتح بالمعادى 15/8/1975م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فإن أعداء الإسلام لجأوا إلى خطة جديدة فى النيل منه، خطة تنطوى على شىء- غير قليل- من المكر السىء والكيد الخبيث... كانت الخطط القديمة تقوم على تقوية التعليم المدنى وإضعاف التعليم الدينى حتى تشيب الأجيال الإسلامية الناشئة وهى ضعيفة البصر بحقائق الإسلام، ضعيفة البصر بمزالق الشيطان... كانت الخطط القديمة تقوم على تكثير ميادين اللهو واللغو وجعل مصايد الشهوات تنطبق على أقدام السائرين فيشغل الناس باللهو واللعب، عن الحق والخير... وكانت الخطط القديمة تقوم على أنواع كثيرة مما يزهد الناس فى دينهم ويغريهم بأى أمر آخر غير الحديث عن الدين والعمل به والسهر على مستقبله والخوف من المهالك التى تراد له... ص _078(3/67)
لكن بدا كأن الخطط القديمة لم تؤت ثمارها كما يبغى أولئك الذين وضعوها، فوضعوا خطة جديدة نحب أن نلفت النظر إليها، قد تكون هذه الخطة هى الخطة التى ستنفرد بالسوق أو تنضم إلى ما قبلها من خطط ليزداد الطين بلة أمام المتدينين والحراص على إيمانهم. لا ندرى بالضبط ما سوف يقع، إنما الذى نحب أن نكشفه هو أبعاد الخطة الجديدة. تقوم هذه الخطة على اتهام المسلمين وعلمائهم بأنهم لا يفهمون الإسلام، وأن فهم الإسلام- على حقيقته- احتاج إلى عبقرية اختصوا هم بها، وعرفوا هم الأسلوب الوحيد لشرح الوحى الإلهى !!. ا- فهم يقولون: أنتم تدرسون أن للذكر مثل حظ الأنثيين، لكن لا تدرون أن هذا كان قديما لظروف اقتصادية وثقافية، فإن المرأة كانت تجهل ولا تعلم، وكانت تكسل ولا تعمل، أما الآن فهى كالرجل علما، وهى كالرجل عملا، ومن هنا فدعوا الحديث عن أن للمرأة نصف حظ الرجل من الميراث، فهذا كلام قديم، أنتم لا تفهمون القرآن!!. 2- وهم يقولون: أنتم تحرمون الخنزير، وهذا قصور فى الفهم، لقد كان تحريم الخنزير يوم كانت المراعى رديئة ولم يكن هناك أطباء بيطريون يكشفون على اللحوم ويفحصون ما قد يكون بها من ديدان مهلكة، لكن الآن ذهب هذا القصور الصحى، وبالتالى لا يجوز أن تقولوا: إن لحم الخنزير نجس أو لا يجوز أكله. على هذا النحو من تحريف الكلم عن مواضعه وتشويه الحقائق اللغوية والعلمية للنص وجد فكر جديد، مهمة هذا الفكر أن يقول لك: 3- لقد كانت رسالة الإسلام إصلاحا اجتماعيا واقتصاديا مبكرا فى تقدمه وفى خطواته نحو الرقى العالمى!!. 4- يقول لك "-: لقد كان محمد زعيما اقتصاديا جاء ليرجح جانب الفقراء الذين ظلموا وليجعل كفتهم تميل نحو مصلحتهم لا نحو القلة المستأثرة بالمنفعة والتى احتكرت المصلحة لجانبها!! ويتبع هذا الكلام بأن ص _079(3/68)
رسالة الإسلام رسالة مادية اقتصادية دخلت فى معركة " الخبز " لأنها تريد أن تنصف الجياع وأن تكسو العراة !!. أما أن الإسلام دين يأمر الناس أن يؤمنوا بالغيب، وأن يوحدوا ربهم وأن يعبدوه على ما يسدى إليهم من نعم، وأن يحيوا وفق أمره ونهيه ووصاياه وحدوده فهذا كلام لا يقال، وبناء على هذا اعتبر صاحب الرسالة مصلحا اقتصاديا أو محررا اجتماعيا!!. 5- ثم ذكر تاريخ الصحابة فقيل فيهم: كان فيهم يمين ويسارا!!. وما اليمين واليسار؟ هذه كلمات اخترعت أيام الثورة الفرنسية، لكني هذه الكلمات طبقت كما يريد هؤلاء على عصر الصحابة، فاعتبر أن عمارا وأبا ذر هم قادة الإصلاح الإسلامى، أما أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وأبو عبيدة وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وغيرهم من قادة هذا الدين فهم يمين جار على الأمة وأكل حقوقها!!. وبدأ عرض الإسلام على هذا النحو، أى أن الذين يحاربون الإسلام دخلوا فى خطة جديدة أساسها أن يفسر الإسلام وفق المادية الجدلية أو وفق التفسير المادى للتاريخ، وبالتالى فلا يؤخذ منه إلا هذا الجانب الاقتصادى ويطرح ما عداه من جوانب!!. الخطة الجديدة خطورتها أنها كذب على الإسلام، وجهل بنصوصه ومعانيه وقيمه ومبادئه إلى جانب هذا فإن أولئك الذين مضوا فى خطتهم الجديدة لتشويه الإسلام ونشر الجهل بحقائقه ضموا إلى هذا جهدا آخر، هذا الجهد هو زخرفة المبادئ المعادية للإسلام وستر عوراتها البادية ورفض جوانب هائلة من حقائقها المريبة الكريهة، رفض اطلاع الجماهير على هذه الجوانب حتى تقع فيها وهى لا تدرى كنهها !!. إن سكان القارات الخمس- من مثقفين وعامة- يدركون أن الماركسية-كما قدمها طاغيتها ومفكر الشيوعية الكبير " كارل ماركس"- تعتبر أن الدين مخدر للشعوب، وأن الحياة هى المادة، وأن الروح خرافة، وأن الدنيا هى الأمل الأول والأخير لكل من فى بدنه حس، ص _080(3/69)
فليس بعد الدنيا آخرة ولا بعد الحياة على الأرض عيشة أخرى !! يعلم الناس أن هذا هو الفكر المادى، هكذا يدرس هناك، وأن الشيوعية لما أخذت مرحلتها التطبيقية فى " روسيا " أو فى " الصين " اعتبرت الأديان مخلفات يجب الإجهاز عليها وإخماد أنفاسها، واختير رجال الحزب الرسميون ممن بدا فى سلوكهم وفكرهم الكفر بالله والمرسلين جميعا، وعلمنا علم اليقين أن من بدت عليه أعراض التدين من أعضاء الحزب طرد شر طردة ولم يمكن من منصب قيادى هناك، وعرف أن موقف الشيوعية من الدين إما أن تلجأ إلى حمامات الدم لتصفية الجماهير الكثيفة التى تعتنقه، أو أن تترك بعض البيئات يتغير المناخ فيها كما تغير الطقس على بعض الحيوانات القديمة فبادت تلقائيا !!. هذا المعنى مؤكد ومعروف حتي جاء الغشاشون الدساسون- ممن يفسرون الإسلام على أنه مادية جدلية وخطوة اقتصادية، وممن يفسرون حياة الصحابة على أنها قد تقسمها اليمين واليسار إلى آخر هذا اللغو- حتى جاء هؤلاء فزعموا أن الحياة الاجتماعية فى روسيا والصين حياة اصطلحت مع الدين واحترمت القرآن، وأقيمت فى جوانبها الصلوات، وسيرت مواكب الحجيج!!. وهذا كله من أفضح الكذب وأجرئه على الله وعلى الناس، نريد أن تعرف الحقائق فى هذه المجالات لأن كل شىء فى حياتنا الاجتماعية يجعلنا نستبين بوارق الشر، ونذر الضلال من هنا ومن هنا لنحرس ديننا ممن يهاجمونه سيما وأن الفكر الشيوعى كان مطاردا فى " مصر " ثم بعد ثورة 23 يوليو سنة 1952 م أخذ هذا الفكر يبذر بذوره، ويستعيد نشاطه، ويكابر العوائق التى كانت موضوعة قديما أمامه، وأمكن فى يوم ما أن يوجد معهد فى " حلوان " يدرس الشيوعية باسم الاشتراكية، وتخلل أجهزة الإعلام فى الإذاعة المرئية والمسموعة وفى الصحافة اليومية والأسبوعية كثير من الحمر الذين يكفرون بالله والمرسلين ويحتالون على سرقة العقائد بأساليب كثيرة!!. فإذا غير هؤلاء خططهم وانضم اليهم من أعداء الإسلام قوم(3/70)
آخرون ص _081
فلا بد أن نكشف الخطة الجديدة، وأن نبين الحقائق التى يحتاج الناس إلى معرفتها.. الذى نعرفه أن حالة المسلمين فى " روسيا " وفى " الصين " تمضى بهم إن قريبا وإن بعيدا إلى أودية التلف وأماكن الفناء والتلاشى!!. كان المسلمون أيام القيصرية فى روسيا نحو ثلاثين مليونا، وكان سكان روسيا نحو مائة وعشرين مليونا، أى كان المسلمون ربع السكان، فإذا بلغ الروس الآن مائتى مليون فكان يجب أن يكون المسلمون خمسين مليونا على الأقل، بل كان يجب أن يكونوا ستين أو سبعين مليونا، لأن المسلمين فى العالم كله معروفون بالعفة، والعفة أساس فى تكاثر النسل!! فإن الذين يبعثرون نطفهم هنا وهناك لن يكون لهم شىء، وربما وجد بعض اللقطاء ولكنها بقية تفنى، أما جو الأسرة فهو الذى يكثر فيه الأولاد وتنمو فيه باسم الله.. فكان المفروض أن يكون المسلمون ستين أو سبعين مليونا، أى ثلث السكان فيما يسمى " الاتحاد السوفيتى "، لكن الذى حدث أن آخر تعداد وصف المسلمين هناك بأنهم نحو سبعة عشر مليونا!!. أى أن حمامات الدم ومؤامرات الاضطهاد وخطط التصفية تعمل فى صمت لإبادة هؤلاء المسلمين المنكودين !!. لعل أخبث وأحقر استعمار عالمى هو الاستعمار الروسى، ولكن تجهيل المسلمين فى هذه الحقيقة مقصودة، لماذا؟. روسيا تشمل- الآن- جانبا من أوربا وجوانب كثيرة من آسيا ، وما تملكه من آسيا يساوى تقريبا أفريقيا الإسلامية، وهذه كلها أرض إسلامية مائة فى المائة !!. كانت " سيبيريا " أرضا إسلامية ولها ملك مسلم ظل يقاتل حتى فقدت عينه، وهزم جيشه، وأرغم على أن يمضى معاهدة استسلام فأبى ومات وهو يأبى !!. ص _082(3/71)
ولكن المثقفين فى بلدنا يدرسون " روما " ويدرسون " فرنسا " ولا يدرسون " سيبيريا "!!. هكذا وضع التخطيط للعقلية الإسلامية حتى تشب جاهلة، وقد نشرت هذه الصفحات فى كتاب لى - منع دخوله " مصر " عدة سنين وطبع ثلاث طبعات فى الخارج- ووضحت فيه هذه الحقائق، وضحت فيه أن روسيا الأوربية كانت تساوى- تقريبا- فى مساحتها مساحة " مصر " نحو أربعمائة ألف ميل، ولكنها دخلت الأرض الإسلامية فى " تركستان " وتركستان فى مساحة مصر والسودان وجزيرة العرب! الأرض إسلامية مائة فى المائة، والمسلمون لا يعرفون هذا، لا يعرفون أن " البخارى " من " أوزبكستان " لأن الاستعمار الروسى محا الاسم القديم، محا عنوان الوطنية القديمة والقومية الأولى والديانة الأولى، الاستعمار مسح كل صلة للأرض بأصحابها ودينهم ويومهم وغدهم وقيل: الاتحاد السوفيتى!! ولو قيل لشعوب الاتحاد السوفيتى: تذهب كل أمة إلى دينها وجنسها لأصبحت روسيا بلدا صغيرا فى شرق أوربا !!. لكن هذا الاستعمار يغطيه بعض المثقفين هنا فلا يجعلون الناس يتبينون فضائحه ومظالمه!!. المسلمون فى روسيا يملكون أخصب البقاع وأغناها، ولو أن روسيا جردت من الأرض الإسلامية التى استولت عليها لعاش شعبها فقيرا، لكنه من أرض الإسلام يأكل، ومن بنيه يغتنى وينتفخ !!. ثم يجئ بعض حملة الأقلام وكتاب الصحف وسماسرة الغزو الثقافى فى بلدنا ليقولوا: إن روسيا تؤمن بالله واليوم الآخر، وإن بها مساجد يصلى فيها المصلون، وإن إلى آخر سلسلة الأكاذيب التى برع فيها من برع. نحن نريد أن يعرف الناس الحقائق، إن الأمة العربية خانت الإسلام ص _083(3/72)
خيانة فاجرة، ونتج عن هذه الخيانة أن الله أهانها وجعل المستعمرين يضربونها على أم رأسها، ويستبيحون أرضها لأنها خانت الإسلام!!. نحن- ببساطة- نعتبر " فلسطين " أرضا إسلامية يجب أن تستعاد، ولكن لم لا تستعاد " تركستان "؟ لم لا تستعاد " الأورال ! "؟ لم لا تستعاد " القرم "؟ لم لا تستعاد الأرض الإسلامية التى أكلها الاستعمار الروسى؟. لكن كلمة " استعمار روسى " اختفت من القواميس، اختفت من الصحافة!! لأن العملاء الذين يأكلون من موائد الغرب والشرق معا يريدون هذا، حتى يقال: لا استعمار هنالك، مع أن الاستعمار الانكليزى- علي شراسته وخباثته وسوء ما خلف فى أرضنا- كان أقل شرا أو أضعف أثرا من الاستعمار الروسى فى البلاد الإسلامية التى نُكبت نحن لا نفاضل بين شر وشر ولكننا نريد أن يعرف الناس الحقائق.. ! المعروف من مكر الفلسفة الحمراء أنها تركب قمة الموجة وتختفى وراء مواكب النمر التى تقع بعد الانتكاسات أو الانقلابات الكبيرة، وهذا هو الذى حدث فى " البرتغال " فإن الأمة هناك بينت أنها لا تريد النظام الشيوعى، ولكن النظام العسكرى هناك يريد فرض الشيوعية قسرا!!. إن انتشار الشيوعية لن يغ إلا بعد تدمير معاقل إسلامية كبيرة، فلم يتمكن الذين اعتنقوا الشيوعية أو خدموها من إلغاء " الأزهر "، ولكن أمكنهم أن يطوروه حتى يتوصلوا إلى إلغائه ! وهذا هو الذى حدث من خدام الاستعمار فى " تونس " فإنهم لم يستطيعوا إلغاء جامع " الزيتونة " وهو يؤدى فى المجتمع التونسى ما يؤديه الأزهر فى المجتمع المصرى، فاحتالوا على الأمر بتطوير الدراسة هناك حتى يتخرج متدينون عجاف أو علماء قاصرون أو ناس لا يحسنون أداء الرسالة الإسلامية، وبذلك يمكن أن ينهار الإسلام وأن تتلاشى معالم كتابه وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ والذى حدث فى العالم العربى أنه لما اشتبك مع الاستعمار العالمى الغرر انتهزت الشيوعية الموقف وعرضت على الحكام- هنا- السلاح لكن بشروط(3/73)
أحصيناها: ص _084
الشرط الأول: أن تبقى إسرائيل داخل حدودها فلا تهاجم ولا تمس ولا يجرؤ أحد على النيل منها. الشرط الثانى: أن السلاح الذى يأخذه العرب سلاح دفاعى. الشرط الثالث: أن هذا السلاح يباع بأغلى الأثمان. فلو جاء- الآن- من يعيد النظر فى ديون روسيا لدى مصر لوجد أن ألوف الملايين التى ندان بها ليست فى حقيقتها إلا بضع مئات فقط، ولكن الشىء الذى يباع بقرش سجل علينا فى الدفتر بعشرة قروش، والمغفلون يشترون، وهؤلاء يسجلون، ونحن مكلفون بالدفع- الآن- من قوتنا، من ثمرات أرضنا، من حصيلة تعبنا. الشرط الرابع: أنه لكى نأخذ هذا السلاح الدفاعى الباهظ الثمن يجب أن يمكن للدعاة الشيوعيين أن ينطلقوا. وكما يمكن هؤلاء من الانطلاق فى المعاهد الاشتراكية أو فى الصحافة اليومية والأسبوعية يجب أن تضرب الجبهة الإسلامية فى صميمها، فإذا ارتفع رأس فيها قطع، وإذا تحرك لسان أخرس، وإذا وجدت تجمعات قوية بددت!!. هذا كله حتى ينطلق الباطل دون أن يكون أمامه ما يعوقه. والشىء الأخير فى هذا " قطع الغيار " فإنه يكفى أن تفسد " لمبة " فى جهاز حتى يقول الخبير الروسى: الجهاز كله لا يصلح !!. كان يمكن أن تصلح بخمسة قروش، لا، الجهاز كله يشترى، لأن الجهاز الموجود أصبح معطوبا لا قيمة له، ويضاف هذا إلى قائمة الديون!!. هذه هى المساعدات الروسية للعالم العربى، يجب أن ندرك أن القوى. " الكافرة بالله سواء كانت ملحدة أو غير ملحدة- بأن اتصلت بدين ما- قد تضافرت جميعا على ضرب الإسلام !!. يبقى أن نذكر شيئا لابد أن نذكره: أن الإسلام رسالة عامة خالدة ضمنها الحق جل شأنه ما يكفل للناس معاشهم ومعادهم، وما يضمن لهم ص _085(3/74)
ماديتهم ومعنوياتهم وما يغنيهم عن حلول غلط يقعون فيها فى غيبة الوحى. إن الإسلام دين يقوم على العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، وكما يهتم بتقديم الغذاء الواجب للمعدة يهتم - قبل ذلك وبعده- بتقديم الهدى الواجب للقلب الإنسانى، ويستحيل أن يُشغل بعمل عن عمل، فهو كما يهتم بأن يلبسك لباس التقوى يهتم بأن يوارى سوأتك وأن يجعلك تزدان فى ملابس بل فى زينة تكفل بها ضروراتك ومرفهاتك على سواء!!. الإسلام دين شامل ينبغى أن يستبشر المتعبون به وأن يستريحوا إليه: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) ربما تضمن هذا الدين مجموعة من التعاليم التى يُصطلح- الآن علميا- بوصفها اقتصادية، أو يصطلح- علميا بوصفها اجتماعية، أو يصطلح- علميا- بوصفها إيمانية أو غيبية، هذه الاصطلاحات لا نهتم بها إنما الذى نهتم به أن مجموعة التعاليم تُغنى وتسد الحاجات البدنية والروحية للناس. خذ مثلا حديثا يعطيك فكرة عن الإسلام كله وهو: " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" . أعلى ما فى الدين أن تعرف من خلقك وأن توقره، وأن تشكره، وأن تستعد للقائه، وأن ترتبط به. من تعاليم هذا الدين- لأنها بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة- مجموعة اقتصادية تتصل بإيتاء الزكاة وإنفاق المال فى وجوه شتى يحتاج إليها المجتمع، وإذا كان من شُعب هذا الدين منع الأذى عن الطريق فهل يُمنع الأذى من الطريق ليسير فيه الكادحون ناكسى رؤوسهم لأنهم مظلومون؟!!. ص _086(3/75)
إن الإسلام- فى تعاليمه الاقتصادية- اعترف برأس المال: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل )، وقال: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ). والإسلام إنما اعترف برأس المال لأن الإنسان أحسن مستغل لماله، فهو يشد زناد النشاط الإنساني إلى آخر مدى عندما يعترف بالملكية الخاصة، ولهذا كان الإنتاج فى جو الملكية الخاصة إنتاجا ضخما كثيفا، أما فى جو القطاع العام أو فى جو الشيوعية السائدة فإن الإنتاج يضعف بيقين!! ومهما قيل فى المغريات، وأنواع الإرهاب والسياط التى تمسك بها الأنظمة الاستبدادية فإن الإنتاج فيها أضعف- يقينا- من الإنتاج فى البلاد التى تحرر فيها رأس المال من القيود المصطنعة. لكن الإسلام الذى اعترف بحق التملك واحترم رأس المال أثقله بالحقوق الاجتماعية، وبين أن لكل عامل حقا فى أن يأخذ أجرا وأن لكل عاطل حقا فى أن يأخذ عونا، وبين الإسلام أن المجتمع متماسك يأخذ قويه بضعيفه وغنيه بفقيره وعالمه بجاهله، بل إن الركب يسير وفق خطا الضعيف لأن الضعيف أمير الركب. فلسفة الإسلام الاقتصادية تحتاج إلى محاضرة خاصة، لكننا نلفت النظر إلى شىء خطير، هناك من يحارب الشيوعية لحساب رأس المال المستغل الجائر فى الشرق أو فى الغرب فى العرب أو فى العجم، وهناك من يحارب رأس المال لحساب الجهة المقابلة، نحن لا نحارب الشيوعية لحساب رأس المال المتسلط ولا نحارب رأس المال المتسلط لحساب الشيوعية، ولكننا- من ثلاثين سنة- نعرض الإسلام على أنه يرفض الرأسمالية الجائرة، كما يرفض الشيوعية الكافرة، وأن ناسا ينتسبون إلى الإسلام ربما جاروا عليه وأساءوا إليه بغباوتهم أو بسوء كسبهم أو باستحلالهم السحت، وما أكثر هؤلاء فى الأنظمة كلها حتى ما يدعى أنه اشتراكى، فكم من لصوص كبار تغلغلوا فى النظم الاشتراكية واستطاعوا أن يجتاحوا من أموال الأمة ما تترنح الأمم الآن بسببه !!. إننا نرفض أن نحارب مذهبا اجتماعيا(3/76)
لحساب مذهب آخر فإننا ص _087
ندافع عن وحى الله وعن تراث محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعن تطبيقات الخلافة الراشدة وعن هذا الدين الذى صان الله لنا أصوله وعرفنا ما ينبغى أن نؤديه. ولذلك فإننا ننظر نظرة غريبة إلى الهجوم الذى شُن أخيرا على شيخ الأزهر ، لا لأننا نهتم بشخص شيخ الأزهر ولكننا نرى أن التحرك الشيوعى له ما وراءه، وأن مناوشة شيخ الأزهر تعنى تصديا لهذا الدين ولممثليه تتم به حلقة أخرى إلى جانب حلقات سبقت لضرب المتحدثين باسم الإسلام والنيل منهم وشل حركاتهم إ!. إن هذا كله يجعلنا نذكر الأمة بأن انطلاق الشيوعية على هذا النحو يجب أن تتصدى له الجماهير الإسلامية بالاستنكار والضيق. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. * * * ص _088(3/77)
الخطبة الثانية الحمد لله ( الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام النبيين وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل، واعلموا أيها المسلمون أن هناك ناسا يتاجرون بكلمات طنانة لها رنين كما قيل: يشبه رنين قطعة النقد المزيفة، كلمات طنانة عن العلم، عن النظريات العلمية، فإذا تمشيت مع هؤلاء وجدت أن الجبل تضخم ثم تمخض عن فأر!!. قصة تحديد النسل قصة انكشفت، لم؟. سألنى البعض وأجبت ولم ينشر ما أجبت به، قلت له: لقد رأيت اليهود قد صدرت إليهم الأوامر بتكثير النسل، ورأيت الكاثوليك صدرت إليهم الأوامر بتكثير النسل، ورأيت الهندوك صدرت إليهم الأوامر بتكثير النسل، ورأيت الروس صدرت إليهم الأوامر بتكثير النسل وهم يعطون نحو مليونى جائزة سنويا- تسمى جائزة الدولة للاتحاد السوفيتى أو شيئا من هذا القبيل- لكل أم أنجبت أكثر من غيرها!!. وجدت- الآن وفى يوم الناس هذا- أن كل ذى دين صدر إليه الأمر بتكثير النسل، وقرأنا فى الصحف- هذا الأسبوع- أن فرنسا زادت فى الإحصاء الأخير بضعة ملايين !!. فقلت: هل مشكلة زيادة السكان لا تحل إلا بفناء الأمة الإسلامية وقلة عددها؟!!. ما هذا أيها الناس؟ !!. ص _089(3/78)
كل ذى دين ينفذ أوامر مشددة بتكثير النسل إلا المسلمين فإن الأوامر مشددة بتقليل النسل ! ويجئ اليوم من يكتب فى إحدى الصحف عن نظرية النسبية، نظرية الكم، نظرية التكاثر، نظرية العدد! أ. هذا الهراء الذى يكتبه بعض المتعاقلين- وما أكثر المتعاقلين فى مجتمعنا الذى تضخم فيه التافهون- ذكرنى بكلمة المتنبى : وما التيه طبى فيهم غير أننى بغيض إلىَّ الجاهل المتعاقل ما أكثر الجهال المتعاقلين فى صحافتنا وفى إذاعتنا وفى وسائل الإعلام عندنا، ماذا يريد الكاتب؟. يريد تحديد النسل آخر الأمر، ويقيم الدنيا ويقعدها، ويقيم النظريات العلمية ويقعدها لكى يقل النسل الإسلامى وحده !! وهو يعلم أن النسل زاد فى فرنسا وفى إيطاليا وفى روسيا وفى الهند وفى كل مكان !!. ما المقصود؟ المقصود أن يقل المسلمون وحدهم !!. هؤلاء الأوغاد السماسرة الذين يعملون ضد الإسلام هل يعلمون أن هذا الكلام ليس إلا تغطية لفشل الاقتصاد الذى وضعته مراكز القوة فى بلدنا؟ لو كان الاقتصاد المصرى بين أيدى علماء الاقتصاد من عشرين سنة لكانت مصر قادرة على أن تُطعم ثمانين مليونا !. متى يسكت الجهلة؟ متى يتاح للعلماء فى كل مضمار أن يقودوا هذه الأمة؟ متى نؤدى حق الله علينا بأدب؟ متى تخرس السفهاء فلا ينطقون؟.. يبدو أن هذه التساؤلات لن نجد الإجابة عليها كما ينبغى !!. إننى أطلب من المسلمين أن يتشبثوا بدينهم أمام الاستعمار وأمام الشيوعيين وأمام القوى التى وضعت خطة جديدة لتفسير القرآن وتفسر ص _090(3/79)
السنة وتفسير التاريخ الإسلامى على نحو لم يعرفه عالم مسلم ولا حتى مستشرق خبيث من أربعة عشر قرنا إلى يوم الناس هذا؟ !!. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة... * * * ص _091
الخط البيانى للتاريخ الإسلامي خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فيخطئ من يظن أن هزائم الإسلام فى القرن الأخير كانت بدعا فى تاريخه الطويل. لا. ان الخط البيانى للتاريخ الإسلامى متعرج، ينخفض انخفاضا شديدا، ويرتفع ارتفاعا شديدا، ويعلو ويهبط وفق القانون الإلهى الذى يقول: (وتلك الأيام نداولها بين الناس). نعم قد يعلو أمر المسلمين، وقد يهبط، هبط فى قرون مضت حتى اغتصب " الحجر الأسود "، أخذه " القرامطة " قسرا، وظل عندهم نحو ربع قرن، فما عاد إلا بعد لأى !. ص _092(3/80)
وهبط مستوى التاريخ الإسلامى إلى الحضيض يوم دخل " التتار " بغداد وقتلوا الخليفة وأذلوا الأمة الإسلامية أشد الذل. ولكن هذا التاريخ الذى هبط سرعان ما علا، فما مضى قرن حتى كان المسلمون يدقون أسوار " فينا "- عاصمة النمسا- ثم قبل ذلك وصلوا مخترقين " الأندلس " إلى " جنوب فرنسا " إلى أواسط " سويسرة ".. هذا التاريخ الذى يتأرجح بين " مد وجزر " حقيقة لابد من الاعتراف بها. ونحن المسلمين نواجه- بإيماننا- هذا الواقع، فقد يقع أن نعيش أو نولد فى عصر الإسلام فيه غريب، وأمته منهزمة، وأحواله مضطربة، وأعداؤه يتربصون به.. على الغرباء- من هذا القبيل- أن يتماسكوا، وأن يعلموا أن الله تعالى اختبرهم بهذه الغربة حتى يؤدوا ما عليهم فى إعزاز دينه، ورفع كلمته، وتعمير مساجده، وإحياء حدوده، وحفظ شرائعه، وما إلى ذلك كله مما لابد منه لحماية الإسلام. وهو معنى الغربة الذى ورد فى بعض الأحاديث: " بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء " وفى رواية أخرى: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قالوا يا رسول الله ومن الغرباء قال الذين يصلحون عند فساد الناس " . والحديث يفيد أن هناك غربة متكررة تعترى الإسلام فى مده وجزره، فهو يبدأ حركته غريبا- وبدأها غريبا فعلا- ثم آنس الله وحشته، وكثر أنصاره، وامتدت مساحته، وعمرت عواصمه، وانتشرت حضارته، ثم جاءت غربة فكسا الظلام مساحات كثيرة من أرضه، ثم آنس الله وحشته ص _093(3/81)
مرة أخرى فاستعاد أمجاده التى خسرها، وزاد عليها وأربى، ثم جاء الغروب مرة أخرى، وبدأ المؤمنون الأيقاظ يواجهون ما واجهه المؤمنون أمثالهم فى كل غربة مرت بالإسلام، وتطلع فيها الإسلام إلى أهل النجدة من أبنائه يؤدون حق الله عليهم، ويحملون الراية حتى لا تقع. وأنا لا أعرف- ونحن نستقبل القرن الخامس عشر- هل ستستقبل الدنيا قرنا سادس عشر وسابع عشر أم لا ؟. أنا لا أدرى، ولكن الذى أدريه جيدا أنه ما بقيت الحياة فسيبقى الإسلام، وأنه ما بقيت الشمس تطلع وتغرب فإن الإسلام يتجدد ولا يتبدد، وقد تمرض أمته ولكنها لا تموت، وعندما يظن أعداؤها أن جثتها أوشكت أن تدفن بدأ فجر جديد لها يحير الأعداء، ويجعلهم ينسحبون من حيث أقدموا، ويتقهقرون من حيث تقدموا !!. إن هذا الدين باق إلى قيام الساعة مصداق قول الله- سبحانه وتعالى على ألسنة أهل العلم والإيمان-: (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون). ويعجبنى فى كل غريب بإيمانه مستوحش بيقينه وإخلاصه أن يأوى إلى ربه، وأن يستند إليه، وأن يطمئن إلى حمايته،؟ قال " أبو نواس " وهو يصف كل غريب بمعتقده: تواريتُ من دهرى بظل جناحه فعينى ترى دهرى وليس يرانى فلو تسألوا الأيام عنى، لما درت وأين مكانى ماعرفن مكانى إن الغريب الذى يحيا بدينه، ويحيا لربه، ويحيا من أجل عقيدته قد يكون غامضا فى الناس أو غير معروف أو غير مشهور، ما يعنى هذا أحدا، إنما الذى يعنى كل مؤمن أن- يحيا لله، وأن يعيش فى كفالته، وأن يستمد منه النصرة، وأن يواجه الأحداث كلها بهذا اليقين. ص _094(3/82)
أريد من المسلمين فى هذا القرن الجديد أن يستقبلوه أفضل من استقبال آبائهم الأقربين للقرن الرابع عشر. القرن الرابع عشر كان نصفه الأول نصف هزائم شائنة، وآلام ساخنة، فمن خمس وثمانين سنة تقريبا انعقد مؤتمر "بال " فى "سويسرة" وقرر المؤتمرون أن ينشئوا دولة على أنقاض العروبة والإسلام فى فلسطين، وقرروا لإقامتها خمسين سنة.. وتساءلت: ماذا صنع آباؤنا عندما تم هذا المؤتمر؟. ألم تكن لهم حاسة يشمون بها ما وقع فى الدنيا؟. ألم يعرفوا أنهم هدف لأعداء لا ينامون؟. ما الذى عراهم حتى سكتوا؟.. وسكتوا، وكانت النتيجة الخزى، وأقيمت دولة لليهود على أنقاض العرب والمسلمين. فى القرن الرابع عشر وقعت الحرب العالمية الأولى، وخان العرب " الترك " وانهزم الأتراك، وقسمت تركة " الرجل المريض " على المستعمرين الأقوياء، ودرسنا فى التاريخ- ونحن طلاب- أن ليس فى إفريقيا دولة إسلامية، ولا دولة مستقلة !!. العرب بقضهم وقضيضهم ، والمسلمون باختلاف أجناسهم وألوانهم تحولوا جميعا إلى مستعمرات !!. ص _095(3/83)
فى النصف الأول من هذا القرن سقطت الخلافة الإسلامية الشبح، والخلافة تمثل فى تاريخ المسلمين أبوة روحية وثقافية واجتماعية لابد من حياطتها ولابد من إدراكها حتى لا نكون أمة يتيمة فى هذا العالم، خصوصا أن غيرنا صنع لنفسه كيانا روحيا أو اجتماعيا عاش به وتماسك بفضله، فكيف ينقسم المسلمون على هذا النحو الشائن؟. ولكن الآباء الأقريين- غفر الله لهم- ما أحسنوا التصرف أمام هذه الأزمات، ومضى النصف الأول من القرن الرابع عشر فإذا هو حافل بالهزائم والأحزان. لكن أمتنا المرحومة التى أبى الله إلا أن يجدد أمرها كلما بلى ، وأن يقوى ضعفها كلما زاد، هذه الأمة سرعان ما تحركت، ومشت فى طريق النهضة.. ويمكن أن نقول: إنها فى نهاية القرن الرابع عشر استطاعت أن تكون شيئا فى دنيا الناس، وهى حقيقة لا يمكن إنكارها، هذه الحقيقة: أن المسلمين الذين تبددوا فى النصف الأول من القرن الرابع عشر أمكن أن يكونوا فى نهاية القرن الرابع عشر أربعين دولة إسلامية !!. لكن أعداء الإسلام ما يسكتون، ولا عن هدفهم ينامون، إنهم يتحركون وفق خط واضح أمام أعينهم، ووفق خطة رسموها للنيل منا. وهذه الخطة يجب أن تعرف، وكشفها يحتاج إلى محاضرة مستقلة.. ص _096(3/84)
لكن أريد أن يعرف ما اكدته أولا: أن الإسلام قد يمرض ولكن لا يموت، وأن أمته قد تتبدد ولكنها تتجدد وتتماسك. وأذكر أنى قرأت لمستشرق أمريكى- كان لبنانيا وتأمرك- اسمه " فيليب حتى " ذكر فى كتابه " العرب " أن الأمة الإسلامية واجهت- فى أوائل القرن الثانى عشر للميلاد- وضعا غريبا، فقد اندحرت فى كل جبهة، وانهزمت فى كل ميدان، وانطلقت بين الناس كلمة واحدة هى:. أن كل شىء يؤذن بزوال دين محمد!! كيف؟!! قال: استطاع الصليبيون الزاحفون من غرب العالم الإسلامى أن يأخذوا بيت المقدس، وأن يتحسسوا الطريق إلى شمال الجزيرة العربية كى يصلوا إلى القبر النبوى فى المدينة المنورة!!. وفى الوقت نفسه استطاع " التتار " شرق العالم الاسلامى ان يهدموا المدن العظام، وبلغت الخسائر فى السكان نحو 90% أى تسعة أعشار السكان كانوا يبيدون، ولما دخلوا " بغداد " ورموا بالمكاتب الإسلامية فى " الفرات " اسودت المياه من كثرة " الحبر " الذى باد!!. كان كل شىء يؤذن بزوال دين محمد، ما بقى إلا أن تنطبق " الكماشة " وتقترب أذرعتها على قلب العالم الإسلامى فى " مصر " وغيرها ويتلاشى الإسلام من العالم كله!!. هكذا وصف " فيليب حتى " فصلا من فصول التاريخ الاسلامى، ولكنه فى نهاية الفصل قال: وعندما انتهى هذا القرن كان هناك سؤال آخر: هل سيقف شىء أمام دين محمد !!. كيف ؟!! ماذا حدث؟ !!. الذى حدث أن المسلمين استطاعوا أن يستردوا بيت المقدس بعد تسعين سنة من قيام دولة "لاتينية" فيه، كانت "فرنسا" و " الفاتيكان " هم الذين يعينون " الولاة " فى بيت المقدس!!.. سقطت الدولة، أسقطها " صلاح الدين الأيوبى " وأعاد الأذان إلى " المنارة " الخرساء، وأعاد التوحيد وكلمته إلى " المنبر " الساكت!!. واستطاع المسلمون " شرق العالم الإسلامى " أن يدخلوا " التتار" فى الإسلام !!. ص _097(3/85)
فإذا العالم الإسلامى فى القرن الثامن الهجرى يستأنف صفحة جديدة، وإذا به يتجاوز هزائم القرن السابع الهجرى لتنطلق دولة الأتراك العثمانيين خلال القرن الثامن ثم تبدأ تطوى الطرق إلى "القسطنطينية " حتى يصل أخيرا إليها الرجل الصائم القائم العباد السجاد المتهجد الشجاع " محمد الفاتح " الذى أسقط دولة " الروم الشرقية " ورفع علم التوحيد هناك !! هذا دين يجب أن يعرف أنه لا يموت، إنه باق إلى قيام الساعة، وعندما ينتظر أعداؤه أن تشيع جنازته يبدأ شروق شمسه من جديد !!. أريد أن نستقبل القرن الخامس عشر بهذا الروح، روح أن الأمة الإسلامية التى يتعرج خطها البيانى طولا وعرضا، فيرتفع وينخفض، وينحسر وينتصر، هذه الأمة يجب أن تبدأ القرن الخامس عشر. بروح جديد، وفكر جديد، وعزم جديد. إننا نعلم أن انتصارنا وانكسارنا لا يرجع إلى قوة أعدائنا أو ضعفهم، إن انتصار المسلمين وانكسارهم يعودان إلى الأمة الإسلامية نفسها, فإذا وحدت كلمتها، ومن قبل ذلك وحدت ربها، ولزمت أمره، وأقامت حقه نمرها: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) القلة والكثرة ليست من أسباب النصر، انتصر المسلمون فى "بدر" وهم قلة، وانهزموا فى " حنين " وهم كثرة، إنما ينتصر المسلمون إذا أحسنوا علاقتهم بالله، وأدوا ما عليهم له. ويوجب علينا هذا أن نعرف الخطة الجديدة التى سلكها أعداء الإسلام ضدنا فى العصر الأخير، وهذه الخطة سبق أن شرحتها و لكن (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) إن الاستعمار الصليبى الغربى عندما انهزم بعد مائتى سنة من قتال متصل قدر أن يستفيد من الهزيمة، واجتمع رجاله كى يتعرفوا السر فيما نزل بهم، وكان سؤالهم: لقد جمعنا لقتال المسلمين فما بخلنا بمال ولا تأخرنا عن جبن، ومضى القتال مائتى سنة فلم يكن القتال مباراة ساعة أو ساعتين للحظ دخل فيها، لا فما الذى جعلنا ننهزم آخر الأمر؟!!. وكان الجواب الذى أكده مؤتمرهم، وقرره علماؤهم، وسار عليه ساستهم: أننا(3/86)
أخطأنا فى أمور: ص _098
أولها: أننا كنا صرحاء فى محاربة الإسلام، وكان يجب أن نكون خبثاء فى محاربة الإسلام!!.. أفهمنا المسلمين أننا إذا احتللنا بلادهم فسنمحق دينهم، وكان يجب أن نمحق هذا الدين بنياتنا وأعمالنا دون أن ننطق بكلمة تدل على هذه النية أو تشرح هذا الاتجاه، فإن المسلمين إذا علموا أن دينهم سوت يمحق تحرك القاعد واستيقظ النائم، وتجرأ الجبان، ودافع الكل عن الدين!! قالوا: فلنقرر ذبح الإسلام فى قلوبنا ولكن نلبس " قفازات " من الحرير، و نقول كلمات من العسل، ونخدع الغافلين.، ونقول لهم كلمات أخرى: كعلمانية، تقدمية، قومية، كلمات كثيرة يمكن أن تخدع هؤلاء عن النية التي بيتناها فى قلوبنا لضرب الإسلام، وبذلك لا يتحركون ضدنا صفا واحدا إ!. هذا أول درس قالوه، ثم قالوا: لقد هجمنا على بلاد لم نحسن دراستها، ولم نعرف شئونها، ولم نخبر أحوالها، فكنا لا ندرى أين نضع أقدامنا، وكانت النتيجة أن ز!ت أقدامنا فى مواطن كثيرة.. إذن لابد من دراسة العالم الإسلامى، فكان علم الاستشراق وكان المستشرقون وتطور الاستشراق إلى ما نسميه الآن " الغزو الثقافى " فوجد كتاب لو نشاء ذكرنا أسماءهم، ذهب واحد منهم إلى " باريس " ونشر مقالا فى الجريدة الأولى من جرائد " القاهرة " يقول: وذهبت فوجدت الزواج الجماعى يُعرض فى المسرح!!. ويقول: الأعمال الجنسية تعرض فى السارح!!. هذا ما لفت نظرك فى " باريس "؟!!. كل "وغد " ينطلق من هذه البلاد ليعيش فى حى "البغاء" هناك يجئ إلى بلادنا ليقول: هذا هو تقدم الفرنسيين؟. لماذا لم تعرض على المصريين وعلى غيرهم من العرب كيف أن جنرال " ديجول " عندما وجد أمته محرومة من أسرار الذرة، ولا تستطع أن ص _099(3/87)
تفجر " قنبلة ذرية "- ضن عليها الأمريكيون والإنكليز بهذه الأسرارـ قال فى كبر: سندخل النادى الذرى بالعلم الفرنسوى !. ودخل الفرنسيون النادى الذرى!!. لماذا لم تذكر هذا؟ لماذا لم تذكر أن الفواكه والحلوى الفرنسية تصدر للشرق الأوسط كله؟. لماذا لم تذكر هذا التقدم وهذا الإنتاج الرائع؟. كل ما عناك وأنت هناك أن تجئ إلى بلدك لتقول: وجدت الزنا الجماعى يعرض دون حساسيات !. هذا الغزو الثقافى امتداد لعمل المستشرقين، وكم من كُتاب عاشوا بيننا لا عمل لهم إلا أن يسمموا الفكر الدينى عندنا، والفكر الثقافى عندنا، حتى تشب أمتنا على نحو سيئ، ماذا تنقل من أوربا وأمريكا؟ تنقل "عُلب الليل " تنقل " القمار " تنقل الوساخات التى تتسلل إلى المدنيات كى تنال منها. ومعروف أن رجلا مثل: " توينبى " حذر قومه من هذا المصير، قال لهم: إننى درست إحدى وعشرين مدنية، فسدت وانهارت لأن المرأة تركت البيت وشُغلت فى الملذات وأندية الليل !. هكذا يقول " توينبى " ليحذر قومه، أما سماسرة الغزو الثقافى فى بلدنا فإنهم يريدون أن ينقلوا الملذات إلينا، أما نقل العلم والتقدم فهو لا يخطر لهم ببال ! هذا درس ثان قاله أعداؤنا لأممهم وشعوبهم وأنفسهم. ودرس ثالث: قالوا: لم نحسن الاستفادة من الأقليات الدينية فى العالم العربى، وتوجد فى العالم العربى أقليات دينية يجب أن نشجعها على الانسلاخ من أوطانها، وعلى أن يكون لها كيان مستقل !! وقد أفلح فى " لبنان " حيث أمكن " للموارنة " الآن أن يُكونوا لهم قوة هائلة، ويريدون- فعلا- أن يهدموا " لبنان " الكبير، ويقيموا وطنا لهم يكون امتدادا للوطن الصهيونى الذى أقامه الاستعمار.. ص _100(3/88)
وهذا خط جديد عرف، ويجب أن يحذر، وأن يتم بين جماهير المسلمين عرفانه والتيقظ له. إذا كان أعداؤنا قد استفادوا من مر الزمن أن يغيروا خطط الهجوم، وأن يعرفوا أدواءنا، وأن يعرفوا كيف يضعون أقدامهم على ترابنا، وأن يعرفوا كيف يمزقون صفوفنا وينالون منا. فهل نستقبل القرن الخامس عشر بفكر بال، وفهم غبى، وعدم إدراك لما يراد بنا؟ لا. إن على المسلمين أن يستيقظوا، وأن يعرفوا أن صلحهم مع الله هو أساس نجاحهم، وأن انتصارهم رهن باستقامة أمورهم. يقول النبى صلى الله عليه وسلم: " إن الله زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتى سيبلغ ملكها ما زوى لى منها، وأعطت الكنزين الأحمر، والأبيض، وإنى سألت ربى لأمتى أن لا يهلكها بسنة يعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، وإن ربي قال: يا محمد إنى إذا قضيت قضاء فإنه لايرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبى بعضهم بعضا ". لو انتهت العلل التى تفسد ما بيننا فإن النصر حق لنا، وهو رحمة الله التى تجيء غدقا يوم تمتد أيدينا إليه نطلبها. إننى متفائل وأشعر بأن الأمة إلى خير، وأن على علماء المسلمين فى كل مكان أن يجندوا الجماهير لتبقى على وفائها للإسلام وتحمل البلاء فى سبيله. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم.. ص _101(3/89)
الخطبة الثانية الحمد لله (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله! إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسى بتقوى الله، واعلموا أيها المسلمون أن الذى استبقى أمتنا إلى الآن هم المربون الخلصون والعلماء الموقنون. من الذى أغرى " الجزائر " بأن تقدم مليونا ونصفا من الشهداء حتى تستعيد استقلالها وتتخلص من الاستعمار النازل بها؟. انه الإسلام ورجال الإسلام وعلماء الإسلام !!. من الذى أغرى المسلمين فى " الهند " أن يقيموا " باكستان " وأن يقدموا مليون قتيل حتى تبقى للإسلام راية مرفوعة؟ !!. انه الإسلام وعلماء الإسلام والمربون المخلصون !!. ولذلك يجب أن لا نسأم من التردد على المساجد والتجمع فيها موقنين بأن الخير سيكون فى ساحتها. أيها الإخوة: ان هذا المسجد-كما قلت فيما مضى- أمل المسلمين فى أقطار كثيرة، وان حماه يجب أن يصان، وإن الرسالة الموكولة اليه يجب أن تتم ، وان الوظيفة الثقافية والروحية لهذا المسجد يجب أن تؤدى على نحو كامل شامل.. ص _102(3/90)
لكن هناك مؤامرات تدبر للمسجد، وقد اتصلنا واتصل بنا رجال طيبون من ذوى السلطة ,فيهم وزراء، بل جاءنا هنا وزير مسئول ووعدنا وعدا حسنا، واستبشرنا خيرا باليقين الذى بدأ فى عينيه، والأمل الذى تركه فى نفوسنا. "اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) عباد الله (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) أقم الصلاة... * * * ص _103(3/91)
القرآن ينظم قوافل الأحياء خطبة عيد الفطر المبارك 1408 هـ بساحة مسجد مصطفى محمود بالجيزة الحمد لله حمدا مضاعف الشكر والثناء والتمجيد. الحمد لله الذى خلق فسوى، والذى قدر فهدى. الحمد لله الذى أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، ومنع وأعطى. الحمد لله، له الملكوت الذى لا يبلى، وله الخزائن التى لا تفنى: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا) الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله اكبر. الله أكبر. الله أكبر ما قامت بربها الأشياء، وما سبحت بحمده الأرض والسماء. الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. خير الخالقين ,وخير الرازقين ,وخير الراحمين ,وخير الغافرين : (كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون) وأشهد أن محمد رسول الله , خير من عبد وسجد , خير من وعى و دعا , خير من بلغ رسالة وأدى أمانة , خير من جاهد فما أبطره نصر عندما انتصر , و لا أيأسه غلب عندما انهزم. صلوات الله عليه , أدى رسالة جمعت بين العقل و العاطفة , وبين المادة و الروح , وبين الدنيا و الآخرة , أساسها هذا القران الذى طالما تلوناه ص _104(3/92)
فى رمضان، ولن نزال نتلوه ما بقى فى صدورنا نفس يتردد، ننقل للناس وحى الله الخاتم وهداياته الأخيرة إلى سكان المشارق والمغارب. أما بعد: أيها الإخوة: قرآننا هذا يجب أن نعرف قدره، إن الله سبحانه وتعالى عندما أحب أن يذكر بركته النامية، ونعماءه الهامية على الناس أجمعين اختار لذلك طريقين. قال تعالى: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير) وقال: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) فكان الملكوت الرحب- وهو بيد الله- مضارعا أو مساويا للكتاب الخاتم المعجز الذى أنزله الله، كلاهما فى الدلالة على بركات الله ونعمائه!!. ومثل ذلك فى الحمد، وربنا المحمود آناء الليل وأطراف النهار، وبعد فناء الزمان والمكان. عندما حمد نفسه قال: (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور) ، ثم قال مرة أخرى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا). إن هذا القرآن عالم آخر من المعانى والمشاعر والهدايات والتوجيهات، يضارع أو يساوى العالم الكبير الذى تدور أفلاكه ولا نعرف آماده ولا نهاياته. هذا هو القرآن الذى اعتمد عليه نبينا صلى الله عليه وسلم وهو يهدى الإنسانية. إن الله رباه ليربى به العرب، وربى العرب به لكى يربى بهم الناس جميعا !!. فهل عرفتم رسالتكم؟ وهل وعيتم مكانتكم؟ وهل أدركتم خطورة تفريطكم فى الكتاب الذى أنزل عليكم وكلفتم بتلاوته وتبليغ رسالته؟. ص _105(3/93)
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا * وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما) وصناعة القرآن للإنسان المسلم هى صناعته للمجتمع المسلم، وقد كنت- أنا شخصيا- متجاوبا مع القرآن الكريم التجاوب كله. عندما جئت من " الجزائر " إلى أن انتهيت هنا، كنت فى طائرة تحملنى فوق السحاب بمسافة، ونظرت إلى السحب المتراكمة، ولفت نظرى نتوء فى جبل أشم من هذه السحب المتراكمة، ثم أخذت- كما علمنى القرآن- أفكر فى السحاب المسخر بين السماء والأرض، فكرت وأخذت أسأل: هذا النتوء من السحب من أين جاء؟ أمن البحر المتوسط الذى أطير فوقه؟ أم من المحيط الأطلسى الذى أقترب منه؟ قلت: الله أعلم.. ثم مضى بى التفكير وأنا أقول: وهذا السحاب عندما يهمى ويتحول إلى مطر غزير ترى هل سنشربه من آبار، أو من ينابيع، أو من أنهار جارية، أو من صنابير مفتوحة؟ قلت: الله يدرى؟ قلت مرة أخرى: أم يتحول هذا الماء فى كيان الحبوب والفواكه والرياحين والأزهار التى ينطلق الماء خلالها مكونا أجسامها أو الجزء الأكبر منها؟ قلت: الله يدرى، ثم قلت: هل هذه أول مرة يتحول فيها الماء إلى ما ذكرت من نهايات أم أنه ذهب الى البحار والأنهار والحدائق والنخيل وحبوب الحصيد، ثم عاد مرة أخرى من بطون الآكلين ومن أفواه الشاربين ليتحول إلى البحر ثم إلى سحب ثم إلى مطر وهكذا؟!. إن الله سبحانه وتعالى يعلم، وهو بعلمه وقدرته وإبداعه وصنيعه العجب يتابع هذا كله ذرة ذرة ومرحلة مرحلة؟!. هكذا علمنا الإسلام أن نعرف ربنا معرفة صحيحة، نحن لسنا كذبة على الله نقول: إن لله أولادا، أو ان له أسرة، أو إن له شركاء، أو إنه غير موجود، أو إنه موجود مفقود !!. لا. نحن نؤمن بالله الواحد، هكذا تعلمنا من نبينا صلى الله عليه وسلم كما تعلمنا منه أن نتبع هذا الإله الواحد فى كل ما أمر به ونهى عنه، وأقام بيننا وبين ص _106(3/94)
ظهرانينا هذا النبى الخاتم صلى الله عليه وسلم يقول: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين * قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) أيها الإخوة: إن الدين الذى تبعناه وفر علينا تجارب كثيرة، مثلا: ضمن حق الملكية، وأثقله بواجبات دينية كثيرة، لم؟ لأن ضمان حق الملكية هو أساس الإنتاج الغزير والعطاء الواسع. ولم يعرف "الروس " هذا إلا بعد سبعين سنة من تقهقرهم الاقتصادى وتخلفهم فى الإنتاج العام!!. لكن ديننا أباح التملك، وأثقله بالحقوق التى لا يضيع معها فقير ولا بائس ولا محروم.. هل يكون الفرد ضائعا فى كيان دولة مستبدة يتفرعن فيها من تفرعن؟ أو يكون إنسانا حرا تمتد حريته حتى تشبع غرائزه كلها وأهواءه كلها؟. لا هذا ولا ذاك، إن الإنسان فى الإسلام حر ولكنه محكوم بدين الله، إنه سلبى مع الله الذى أوجده، وإيجابى مع الكون الذى يعيش فيه.. هكذا علمنا الإسلام، إن ديننا عظيم، ولكن يبقى التساؤل: إن الدين العظيم كون أمة عظيمة، كانت العالم الأول نحو: ألف سنة!! أما الآن فهى العالم الثالث أو العالم الرابع إن كان هناك رابع!!. ما السبب؟ السبب لا يتجاوزنا نحن، نحن المسئولون عما لحق بنا وعما أصابنا. أذكر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتى سيبلغ ملكها ما زوى لى منها، وأعطيت الكنزين ص _107(3/95)
الأحمر والأبيض، وإنى سألت ربي لأمتى أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربى قال: يا محمد إنى إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإنى أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبى بعضهم بعضا " . وصدقت الأيام الحديث، ما خذلنا إلا من داخلنا، وما ضعنا إلا من تفريطنا، ولو أن المسلمين وفوا لرسالتهم ما استطاع أحد فى الشرق أو فى الغرب أن ينال منا قليلا ولا كثيرا، ولكننا فرطنا، حتى إننى أسأل نفسى كثرا: هل نحن تخصصنا فى أن نخرب بيوتنا بأيدينا وأيدى أعدائنا معا؟. إن اليهود يقتلوننا، ولكنهم لم يقتلوا منا مثل ماقتل بعضنا من بعض !!. ما هذا الذى يقع فى الأمة الإسلامية؟ دماؤنا تسيل، ونحن الذين نسيلها، حقوقنا تهدر، ونحن الذين نهدرها !!. والغريب أن التاريخ يعاود نفسه، يقول التاريخ: إن بيت المقدس سقط أواخر القرن الرابع الهجرى، لم؟ لم يكن هناك مسلمون يكونون وحدة إسلامية متماسكة !!. لم تتحرك بغداد ولا دمشق ولا القاهرة ولا مكة، ما تحرك أحد، تركوا بيت المقدس يلقى مصيره،كما قال أحد المؤرخين الأجانب "غوستاف لوبون " يقول: كان قومنا كاللبؤة التى قتل ولدها فهى تتحرك فى كل مكان تبطش وتقتل.. سبعون ألف مسلم بين عشية وضحاها هلكوا !! والسبب فرقة الأمة العربية. ص _108(3/96)
نفس السبب قائم الآن، الأمة متفرقة، ما الذى فرقها؟ يجب أن نعرف. أيها الإخوة: طبيعة الأمة العربية التمزق والتفرق ما لم يجمعها دين، أمتنا العربية لم يعرف لها حكم مركزى أبدا فى جزيرة العرب، كانت قبائل قبائل، وستبقى إلى قيام الساعة قبائل قبائل ما لم يجمعها الإسلام، وما لم يوحدها الدين، ومالم يغسل أدرانها معتقد حق، وما لم تجتمع كلمة التوحيد فى ربوعها لتتوحد الكلمة على أساسها. هذه حقيقة يجب أن نعرفها، وكلما ابتعدنا عن الإسلام لم نزدد إلا ذلا، ولم نزدد إلا ضياعا، ولم يزدد أعداؤنا علينا إلا جراءة، وهذا ما يعرفه أعداء الإسلام، ولذلك نراهم يحاربون الانتماء الاسلامى فى كل ميدان، الانتماء الإسلامى جريمة عند المستعمرين من شرق وغرب، وقد رأينا جهود الجبابرة تبذل حتى تجعل الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة انتفاضة عادية قومية، مع أن الشباب كان يسميها انتفاضة المساجد، ومع أن الذين صنعوها- وأنا أتصل ببعضهم- ما يعرفون إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم إلى الآن يقدمون الشهداء.. هؤلاء سميت ثورتهم ثورة الحجارة، لأن كلمة المساجد بغيضة إلى نفوس وسائل الإعلام فى كل بلد، كانت ثورة المساجد، فسميت ثورة الحجارة، ثم ماذا تجتهد أقلام شتى وعقليات شتى كي تلقى طابعا قوميا على هذه الانتفاضة، وهى انتفاضة إسلامية لحما ودما. قلت: يا عجبا، اليهودية وهى تهجم تعلن عن ثوراتها، وعن تاريخها، وعن شعائرها، أما نحن فمحرم على الإسلام أن يكون دفاعا وأن يكون سلاحا للدفاع!!. أيها الاخوة: بقى أن تعرفوا شيئا من سنن الله فى الكون وفى الحضارة، هذا شىء لا ينبغى أن يفوتنا؟ لماذا؟ لأنها حقيقة ينبغى أن تعرف، هذه الحقيقة التى ينبغى أن تعرف هى أن فلسفة الألم فى الإسلام يراد منها تذكير الناس بالله، إن الله إذا أوجع الأمم، أو أوجع الشعوب إنما ص _109(3/97)
يريد بذلك أن يقول الناس: يا رب اصرف عنا الأذى، يارب اصرف عنا البلاء.. هكذا علمنا الله، يقول لنا: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون * فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا) هلا تضرع الناس عندما تألموا، هلا علموا أن لهم ربا يعطى ويمنع، ويخفض ويرفع، ويجيع ويشبع، هل علموا هذا ؟ لا: (ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون). إن الآلام تنزل بالأمة الإسلامية الآن سيلا منهمرا، جئت من " المغرب " والمغرب مهدد بأقطاره كلها بـ " الجراد " و بـ " الجفاف " ومع ذلك أتساءل: أين أصوات الضارعين؟ أين أصوات المستغيثين برب العالمين؟ لا تجد!! وادى النيل مهدد بأن النيل لا يجئ، ومع ذلك تجد هذا يضحك، وهذا ينطلق فى طريقه يمرح، وهذا لا يبالى، أهذه آلام تنزل ببشر أم تنزل بجماد؟ !! ألا نعرف ربنا حتى نضرع له، ونستغيث به، ونقول له: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون)، هلا فهمنا قوله تعالى: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا). ما الذى قطع علاقات الناس بالله؟ أنا أعلم أننى أعيش وغيرى يعيش فى ظل حضارة كافرة مجنونة تعبد المادة وحدها، شرق أوربا وغيرها سواء فى الجرى وراء اللذات، والانطلاق وراء الشهوات، إنهم لا يفكرون لا فى إله ولا فى يوم آخر !!. فإذا كانت هذه الحضارة النجسة تريد أن تفرض نفسها على المسلمين فما تعلقنا بديننا إذا كنا سيطوينا الغمار ونمشى وراء القوم دون وعى؟. يومئذ نتساءل: ما الذى ينزل بنا؟ وما الآلام التى تحيط بنا؟ والجواب: (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون * ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) ص _110(3/98)
وليس الاستغفار لحظة ضعف كالتى تعترينى أو تعترى غيرى، ولكن الاستغفار الحق أن نعرف أخطاءنا ونتوب منها، هذا كتابنا ينطق علينا بالحق. القرآن الذى صنع أمة شرقت حضارتها وغربت ما الذى صرفنا عنه؟ إنه ليس كتاب الموتى، إنه كتاب الأحياء، إن آياته لا تتلى التماس غفران لذنب عند ميت ذهب إلى ربه، ويعلم الله ما يثقل ظهره من أوزار، أو ما يبيض وجهه من استغفار، إن القران جاء لينظم قوافل الأحياء، وكما تنظم الإشارات الحمراء والخضراء قوافل المرور عبر الشوارع والميادين فإن هذا القرآن ينظم للإنسانية طريقها، ويضبط غرائزها، وكما قلنا: إنه يجمع الدنيا والآخرة، الجسم والروح، العقل والعاطفة، إنه كما قال منزله: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) ما أحوجنا إلى هذا الهدى، وما أحوجنا إلى تلك الرحمة. أيها الاخوة: إنكم تقتربون من الإسلام، ولست يائسا، ولست ممن يوهنون الأمل الكبير، والجهد الكبير الذى يبذل، ولا أقول هذا من باب فتح الآفاق أمام من يعمل وليس لى سناد إلا الأوهام، لا.. من سبعين سنة دخل الروس تركستان، وكانت قد تحررت، واستمات أهل تركستان؟ تحدث بذلك طاغية الشيوعية " لينين " كان " لينين " يقول للجيش الأحمر: تعلم من التركستانيين الحماس والتضحية والفداء !!. ولكن تركستان- وهى جزء من أرض الإسلام- سقطت، وضاعت بلاد " البخارى " فى أيدى الاتحاد السوفيتى، وحاول الروس مرة أخرى من عشر سنين أن يكرروا الدور نفسه فى " أفغانستان " ولكن والله الذى لا إله إلا هو لقد تركت فى " الجزائر " زوجين كلاهما جاء يطلب منى فتوى بأن يتركا الجزائر للجهاد فى أفغانستان!!. إن الذى حدث أن الوحدة الإسلامية استيقظت، وأن الجماعة الإسلامية امتدت، وأن مشاعرها أحيت ما كان هامدا، ورأيت البطاطين ص _111(3/99)
والثياب والأموال والأسلحة تذهب إلى المجاهدين فى أفغانستان فشدت أزرهم، وقوت جانبهم، واستطاعوا وهم جند قليل من العمال والفلاحين أن يهزموا جبابرة الأرض، وأن يرغموهم على الخروج من أفغانستان، وبقى بعض الخونة لا يزال يتعلق بهم ويتمسك بآثارهم. أنا لا أستطيع أن أنكر أن صيحات رجال عظام مثل: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، مثل حسن البنا وحسن الهضيبى، صيحات كثيرة لناس من أهل الخير والتقوى والمجاهدة والمجالدة التفت حولها الشعوب التى استيقظت من نومها، ورددت الصدى المنبعث من قادتها الكبار!!. فالأمة الإسلامية الآن تواجه مستقبلا أنضر، ولكن العوائق أمامها أكبر، لأن أعداءها لا ينامون!! ولذلك فأنا أوجه النظر إلى مالنا وما علينا، أوجه النظر إلى أن الجبهة الإسلامية- وهى جبهة تضم جماعات لا حصر لها- يجب أن يسودها الفقه.. يجب أن يسودها العقل.. يجب أن يسودها الإدراك السديد، يجب أن يسودها الوعى الراشد.. إنه لأمر يبكى أن تتحول معركة الإسلام التى يشتغل لها دهاقين الغرب والشرق فى غرف خفية، ووراء أسوار من الدراسة الواعية، والصمت الماكر يبذلون جهودهم كى يميتوا عقيدة التوحيد،كما قال الله تعالى: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) فإذا الجادون من أصحاب اليقظة الراشدة، والوعى السليم يجدون من حولهم من يقاتل فى معركة غناء، فى معركة حانات، معارك "الحوارى " لا يصلح بها دين !!. ما كان هذا هو الفقه، إن صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم هاجم الأصنام يوم بدأ يدعو إلى الله، وسبها وذمها وأهانها وحقرها، لكنه اكتفى بهذا، ما فكر أن يكسر صنما، ما فكر أن يجعل جهاد الفم جهاد يد، حتى بعد عشرين سنة من بدء الدعوة الإسلامية، ففى " عمرة القضاء " بعد " غزوة الحديبية " بسنة، وقبل " فتح مكة " بسنة صلى النبى صلى الله عليه وسلم بالمسلمين وطافوا حول الكعبة، وحول الكعبة أكثر من ثلاثمائة(3/100)
وستين ص _112
صنما، ما فكروا فى كسر صنم واحد!!. إن الذين يفهمون " الصبيانية " تقود أمة، وأن " قلة الفقه " تنصر رسالة هؤلاء بله!!. الإسلام يحتاج إلى الفقه، وإلى العقل، وإلى الإدراك السديد، أما أن يدخل مريض مصاب بـ " حمى شوكية " أو مصاب بـ " سرطان " فيكون كل ما يشد انتباه الطبيب أن المريض يلبس " جوربا "مثقوبا!! قبحك الله من طبيب، أهذا كل ما يعنيك من معالجة المريض؟!!. الأمة الإسلامية يجب أن تعقل مالها وما عليها، هذه واحدة، وشئ آخر أوجه النظر إليه، ولكن فى الخطبة الثانية إن شاء الله. إننى بفكر المذنب، وأمل التائب أدعو الله لى ولكم بالمغفرة، وأن يجعلنا وإياكم جندا للإسلام. * * * ص _113(3/101)
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام النبيين، وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فأمتكم- معشر المسلمين- ليست متعصبة لجنس ول اللون، ليست متعصبة إلا للحق، والحقيقة الأولى فى الوجود أن الله واحد، وأنه أكبر، ولذلك فإن صيحاتنا فى جهادنا- عندما كانت جيوشنا تقاتل حماة الضلال وأعداء الحق- كانت الله أكبر. أيها الإخوة: إن الانتماء إلى الإسلام هو ما نريده، والعمل للإسلام هو ما نبتغيه. ونحن لا ندعى العصمة، أنا أخطىء وغيرى يخطىء، ولكن عندما نصلح خطأ فيجب أن يكون لنا منهج، هو كما قال ربنا: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) إننى أستبشر بالوضع الذى أدافع عن نفسى فيه، وأكره التحدى والهجوم، وإن ظننى بعض الناس كذلك، إننى أطلب من أمتنا أن تعرف النقد البناء، ونترك النقد الهدام، تسألنى: ما النقد البناء؟ وما النقد الهدام؟. النقد البناء شرحه واحد من شعراء " المهجر " قال: ص _114(3/102)
لا تقل عن عمل ذا ناقص * جىء بأوفى ثم قل: ذا أكمل إذا رأيت مخطئا فلا تضربه على يده وعلى فمه، بل صور له الحق تصويرا حسنا، وقُده إليه قيادة رفيقة. هذا هو النقد البناء، لا تقل للمبطل: دع باطلك دون أن تكون قد صورت نموذجا حسنا للحق الذى تدعو إليه. لكننى رأيت من ينقد لقصد الهدم، رأيت ذلك- للأسف- فى أحوالنا وفى شئوننا. وأضرب مثلا قد يكون تافها: إننى فرحت جدا لما علمت أن هناك صناعات عسكرية بدأنا نزاولها، لأن وجهى أسودَّ من أن الفتية المؤمنين يقابلون الدبابات بالحجارة، لماذا؟. دبابة تقابلها دبابة، دبابة عليها التوراة تقابلها دبابة عليها المصحف، هذا هو الذى يجب، أما أن يكون سلاحنا نحن هو الحجارة فى وجه الدبابات فلا يجوز.. فرحت عندما كنت أسمع أن هناك صناعات عسكرية تجعل لأمتنا وجودا عسكريا، وفرحت كذلك عندما بدأت أشعر بأن أمتنا فيها وجود اقتصادى، وأن لها شركات تعمل بالمبادىء الإسلامية. لكننى استغربت عندما رأيت حرب حزازات، وحرب أحقاد، اللحية الإسلامية ظهرت فى ميدان المال، يجب حرقها!! لماذا؟!! دعوا هذه اللحى تشتغل للإسلام.. أنا لا أدافع عن أحد، لها أخطاء؟ قل: الصواب كذا فتمسكوا به، لكن ما وجدت صوابا عرض، ولا وجدت عيبا اخذ، وإنما وجدت بلاء ينزل بهؤلاء الذين يخدمون الإسلام فى الميدان الاقتصادى !!. وفكرت وأدركت من قراءات لبعض الصحف الإنكليزية وبعض المراجع الأمريكية أن اسم الإسلام يجب أن يخفى فى عالم الاقتصاد !!. وطبعا: يجب أن يخفى فى عالم الأدب، وفى عالم السياسة، وفى عالم ص _115(3/103)
الجهاد، وفى كل عالم !! هنا نستميت للانتماء الإسلامى، ونبقى على الإسلام بجهدنا وقدراتنا.. للحكومة أن تضع القوانين التى تضبط تداول المال، وحماية أصحاب الودائع ورؤوس المال، ولكن ليس لأحد فى المشرق أو المغرب أن يمنع الإسلاميين أن يؤسسوا جماعات وبنوكا وشركات.. فوجودنا فى عالم الاقتصاد لابد منه، وما ينبغى أن يهاجم أصحاب اللحى بهذه الضراوة.. إننى أعلم علم اليقين أن كلمة قالها " محمد محمود باشا "- وهو رجل صعيدى، وكان رئيس وزراء- قال: هناك رجال " قباقيب " يلبسون عند الخوض فى المعارك القذرة!! رأيت بعض أصحاب الأقلام، وبعض أصحاب الألسنة " قباقيب " يخاض بهم معركة قذرة يراد بها الإجهاز على الاقتصاد الإسلامى. أى شىء هذا الذى يصنع بأمتنا؟!! إننا نريد أن تعرف الأمم كلها أننا رجعنا للإسلام، وأننا نتعامل بالإسلام، ونعيش فى حدود الإسلام، وبهذا المنطق نريد أن نبقى. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) أقم الصلاة... ص _116(3/104)
تأملات فى مناسك الحج خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه فى سنة 1973 م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن- محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فإن الحج هو الركن الخامس فى أركان الإسلام الخمسة، وقد افترض الله هذا الركن على عباده فقال جل شأنه: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) ولما كان الحج يتضمن أعمالا مختلفة، وكانت هذه الأعمال موضع تساؤل خصوصا فى هذا العصر الذى توضع الأديان فيه موضع الاتهام، ويتحرك من يسمون أنفسهم مثقفين، أو أتباع الفكر العقلى الحر، يتحرك هؤلاء ليبدوا استغرابهم لمناسك الحج والأعمال التى يقوم المسلمون بها، ويطلبون لذلك تفسيرا يرون أنه قد يرضى عقولهم، ويشبع فضولهم. ونحن نسوق أفعال الحج كما وردت مع الحكمة التى اتصلت بها وشرعت من أجلها، ليعلم من يجهل ما فى الحج من منافع دينية ودنيوية، وأن هذه المناسك ليست أمورا غامضة، ولا أفعالا مبهمة كما يتصور هؤلاء. ص _1 ص(3/105)
الحج- أساسا- سفر صالح، ورحلة إلى الأماكن التى درج فيها الأنبياء، وانبعث منها الوحى، وكانت مشرقا للإسلام، ومجتمعا أول للسلف الصالحين. والمقصود من هذه الرحلة أمور عقلية وعاطفية معا، فإن الإنسان لا يعيش بالفكر النظرى وحده، ولكن مشاعره وعواطفه شديدة السيطرة عليه... والإسلام يجتهد فى تحويل الإيمان من صورة عقلية تسكن الرأس إلى معان عاطفية تغمر القلب، وتتشبث بالفؤاد، وينفعل الانسان بها، ويحيا طول عمره وفقها. معنى صيرورة الفكر العقلى إلى عاطفة حارة هو ما يقول الله جل شأنه فيه: ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون) قد ترى عقلا أن الله موجود، ولكن هذه الرؤية العقلية لا تكمل إلا إذا تبعتها مشاعر عاطفية تسكن قلبك، وتجعلك تتجه إلى الله بقلب يحس عظمته، ويكرم نعمته. قد ترى عقلا أن الكذب رذيلة، أن الشرك فضيحة، ولكن تحول هذا النظر العقلى إلى إحساس نفسى يجعلك تشمئز من الشرك والرذيلة كما تشمئز من الرائحة الكريهة ومن المنظر الرديء فإن كرهك للشر قد انتقل من معنى نظرى إلى حقيقة عاطفية. والإسلام عندما شرع مناسك الحج أراد أن يحول- فعلا- الإيمان من معان نظرية درست فى الكتب، وتلقاها الناس حقائق مقررة إلى معان عاطفية تربط الإنسان بنشأة الإسلام ونشأة المكافحين من أجل ظهوره.، تجعل الإنسان يرتبط بالمواطن الأولى للوحى، وبسير الدعاة والرعاة الذين حملوا هذه الأمانات، وعاشوا بها، وعاشوا من أجلها، حتى قدموها للناس ناضجة مستوية. ص _118(3/106)
هذه هى رحلة الحج، أو حكمة الحج، وما من أمة من الأمم حتى الأمم المادية التى تعبد التراب، ولا ترى وجودا لغير المادة، حتى هذه الأمم تحاول أن تستثير مشاعر المؤمنين بها، فهى تقيم " ضرائح " لطواغيتها، وتكلف الزوار الذين يجيئون إلى عواصمهم أن يترددوا على مقابر أولئك الطواغيت صفوفا منتظمة كى يؤدوا واجبا لميت يعلم الله أنه حطب لجهنم، وأنه كلب من كلاب النار، ومع ذلك فإن سدنة هؤلاء الطواغيت يريدون أن يربطوا الجماهير والأجيال الناشئة بمبادئهم وبأحزابهم، فهم يجلبونهم ليزوروا هذه الضرائح، وليتصلوا بها، ولترتبط علاقات نفسية مع أصحاب المبادئ الذين عاشوا بها، أو قدموها لغيرهم، هذا المعنى إلى جانب الأعياد التى تصنع مرتبطة بمعافى المبدأ المادى وما إلى ذلك وتسمى ذكريات وأعيادا، هذه كلها إنما شرعت فى الفلسفات المادية، والبلاد المادية، كى تجعل الجماهير تثوب إلى شاخص حسى يحول الاتصال بالمبدأ إلى تكريم له، وإلى هتاف له، وما إلى ذلك مما يراد غرسه في النفوس. والله عز وجل أراد أن يجعل المؤمنين- على اختلاف الزمان والمكان - يرتبطون بالدين الذى اعتنقوه- وهو دين التوحيد- ويريد أن يكلف القادرين منهم على أن يجيئوا للأماكن التى بدأت فيها معالم دينه تظهر كى يرتبطوا نفسيا بها. ولنأخذ المعانى معنى معنى. إن الرسالة الإسلامية، وإن بعثة محمد- عليه الصلاة والسلام- كانت استجابة لدعوة جده إبراهيم وابنه إسماعيل- عليهما الصلاة والسلام - وهما يرفعان القواعد من البيت... فإذا كانت رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم وإذا كانت دعائم تاريخنا مرتبطة ببناء بيت ص _119(3/107)
لله فهل على أتباع هذا الرسول صلى الله عليه وسلم من حرج أو عليهم من بأس يوم يذهبون زرفات ووحدانا إلى المكان الذى بعث فيه نبيهم- صلى الله عليه وسلم إجابة لدعوة قيلت عنده؟ !!. (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) ولقد بعث فينا رسولا منا إجابة لدعوة الجد الأكبر إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام. أفليس من حق الأبناء والأتباع أن يجيئوا إلى هذا المكان كى يذكروا كيف انبعثت رسالتهم منه، وكيف كان نبيهم الجليل- صلى الله عليه وسلم - استجابة لدعوة قيلت وجدرانه ترتفع وقواعده تمهد؟ ثم هذا البيت هو أول مسجد بنى على ظهر الأرض لتوحيد الله، بنى على أنقاض الوثنية التى حاربها إبراهيم طول عمره، بنى ليكون علما للتوحيد وراية للإيمان الخالص المنزه. أليس من حق هذا المسجد الأول أن يتبعه- بعد ذلك- كل مسجد ينشأ على ظهر الأرض؟ وأن يقف الركع السجود بساحات المساجد التى تنشأ بعد ذلك فيولوا وجوههم شطره ويصلوا ناحيته؟ إن تكريم المسجد الأول شي، ء عادى، وهذا سر قوله جل شأنه: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون * ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون). ص _120(3/108)
إن هذه الأسباب هى التى تجعل المسلمين يرسلون وفودهم كل عام ليذهبوا إلى المسجد الأول، إلى الكعبة المشرفة: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ) ومن مراسم تحيته أن يطوفوا به سبعا، هذا الطواف سن فيه للطائفين أن يشغلوا أوقاتهم خلال كل طواف- وكل طواف من سبعة أشواط- بتسبيح الله و تحميده وتمجيده وتوقيره ودعائه والطب منه والتضرع إليه ، والطواف صلاة ، يبدأ من مكان جعل الإسلام بداية هذا المكان الحجر الأسود، والحجر الأسود حجر عادى، لنفرض جدلا أنه نزل من أحد " النيازك " الملتهبة التى سقطت على الأرض، لنفرض أنه جاء من السماء، لنفرض ما نفرضه، إنه حجر لا يضر ولا ينفع، ومن ظن أن الكعبة تضر أو تنفع، أو أن حجرا فيها يضر أو ينفع فهو إنسان جهول، لأن الله جل شأنه علمنا أن الضار النافع، الخافض الرافع، المعطى المانع هو جل شأنه. ص _121(3/109)
الطواف صلاة، لسان المرء فيها يلهج بذكر الله وشكره. وإذا كان بعض المغفلين يزعم أن تقبيل الحجر الأسود نوع من الوثنية فليكن تقبيل الملوك والرؤساء لأعلام دولهم نوعا أيضا من الوثنية ومن عبادة الأقمشة !! من قال هذا؟! إذا كان الأمر لا يعدو إلا ترجمة لمشاعر الولاء لله فليس فى هذا شىء، ونحن فى هذا نلتزم ما ورد. ثم بعد الطواف يسعى المسلمون بين الصفا والمروة، والسعى بين الصفا والمروة رمز لأمر يحتاج المسلمون إليه احتياجا شديدا، فإن المعلوم من تاريخ النبوات أن أبا الأنبياء إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- جاء بامرأته هاجر، وأنه تركها وابنها الرضيع إسماعيل فى هذا المكان، وكان صحراء مجدبة لا أمارة فيها على عمران، ولا دلالة فيها على حياة، وكان التصرف بهذه المثابة تصرفا مستغربا حتى إن المرأة قالت لرجلها وهو يولى تاركا إياها: أين تذهب؟ ولكنه ما استطاع أن يجيب، ليس لديه شىء يقوله، إن الله أوحى اليه أن يفعل هذا، وهو ينفذ أمر الله، ولا يدرى الحكمة، فلما ألحت عليه ولم يجب قالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذا لا يضيعنا !! كانت كرجلها امرأة مؤمنة صادقة، ولكن مشاعر الأمومة هزتها عندما وجدت ابنها يتلوى، يحتاج إلى الماء، فذهبت تجرى يمينا ويسارا سبعة أشواط فى هذا المكان بين الصفا والمروة حتى شاء الله أن يفجر لها الملك نبع زمزم لتشرب منه !! ماذا نفهم من هذا؟ نفهم من هذا أن الإنسان عندما يعتمد على ربه فإنه يعتمد على مصدر القوى ومنبع الخير وسائق الفضل، وأن الإنسان إذا صدق إيمانه ربا توكله، وازدادت بالله ثقته، وضعفت علاقاته بالماديات، وليس معنى ضعف علاقاته بالماديات أن يستكين أو يتواكل، لا. ان المرأة قامت تجرى ص _122(3/110)
هنا وهناك حتى يسر الله لها آخر الأمر ما تحتاج إليه، لا بد من حركة، ولكن التوكل حتم، وقد سمى الله نبيه محمدا- عليه الصلاة والسلام- المتوكل . لماذا؟ لمعنى نحن المسلمين الآن فقراء إلى إدراكه... لقد بدأ وحيدا يدعو إلى الله، ليس فى الدنيا أضعف منه، رجل يتيم مستوحش معزول عن قوى الخلق فى دنيا اسودت فجاجها، وامتلأت بالظلمات وشرور الجاهلية آفاقها، كلف أن يغرس عود التوحيد ويرعاه حتى يثمر فى بيئة لا تدرى شيئا عن التوحيد، وتضيق به، وتألف الشرك وتعتز به، وتقاتل دونه، ومن وراء جزيرة العرب حضارات تفسخت من الطغيان والهوى وسيادة الشهوات!! ورجل واحد هو الذى كلف أن يقاتل كل هذا الظلام حتى يبدده ويمزق أسدافه ويقدم للدنيا فجرها الباسم الباقى إلى الأبد !! إنه ما جزع لأنه ضعيف القوة أو ذليل الجانب هو وأصحابه، لا. لكنه توكل على الله فنصره وجعل قوى الشر تتدحرج تحت أقدامه واستطاع أن يقيم دعوة التوحيد وينشر الرسالة الكبرى ويرعى رجاله الذين رباهم على يديه ولقنهم دروس الحق من فمه استطاع أن يقضى على الباطل فى الدنيا. التوكل على الله شىء خطير، ولو أن العرب أهل إيمان، ولو أنهم- فعلا- يئسوا من الخلق واعتمدوا على الخالق لنصرهم كما نصر نبيهم- عليه الصلاة والسلام – ولسقاهم كما سقى امرأة فى صحراء لا تجد هى ولا رضيعها شيئا !! إن التوكل شىء خطير، وعندما تساق الأمة إلى مكان نبع الماء فيه من صحراء لا ماء فيها ولا زرع ولا ضرع يعرف الناس أن الانقطاع عن الله جريمة، وأن الانقطاع إليه هو الاتصال كله وهو الخير كله !! ص _123(3/111)
ثم يغالب الناس الهوى، نحن نغالب الهوى عندما يوسوس الشيطان إلينا بتذكر الله، وتذكر الله جل شأنه يجىء إلى أفئدتنا همسا، ويتحرك فى قلوب المؤمنين باعث خير طيب، لكن الله يريد فى سفرة الحج أن يتحول الهمس إلى صوت جهير، وأن يتحول الذكر الخافت فى القلوب إلى هتاف عال، ولذلك فإن مناسك الحج تتحول كلها إلى مظاهرة ضخمة، الهتاف فيها لله وحده، والصياح باسمه. هذا هو المقصود من الحج، وترى أن هذا هو القصد عندما تستقرئ الآيات التى تتحدث عن الحج، ولنبدأ من قوله تعالي: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) الله واسع الغنى، ما يكلفه العطاء جهدا، إنها كلمة من حرفين "كن"، فلو أراد أن يجعل الدنيا تحت أقدامك ذهبا وفضة فعل، إن ذلك لا يعييه ولا يتعبه، ولذلك يقول للبشر: أنتم فقراء وبخلاء، لكن أنا غنى وسمح وكريم: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين) لاحظوا أن التعبير عن مناسك الحج أخذ كلمة " الذكر " دائما: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين * ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم * فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق * ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار * أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب) ثم إن القرآن لم يسم رمى الجمرات رمى الجمرات وإنما ذكرا ص _124(3/112)
فقال: (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى) يقصد أيام التشريق ورمى الجمرة- جمرة العقبة- فى العيد. ثم يقول: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف) ويقول: (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين) ذكر الله هو الأساس فى هذه المناسك كلها، يتحول المعنى الصامت المستكن فى الضمير إلى هتاف عال، ولذلك يسن أن الحجاج يصيحون بالتلبية: " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا لشريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " . وفى الحديث: " ما من ملب يلبى إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا عن يمينه وشماله " كأن كل شىء يتحول إلى كون يسبح بحمد الله ويذكره. يقف الناس قبل الطواف- طواف الفريضة- وقبل رمى الجمرات.. يقف الناس فى ساحة واسعة، يحتشد فيها مئات الألوف من الناس، ساحة واسعة يتوسطها جبل يسمى جبل الرحمة، والمفروض أن الناس طول هذا اليوم وجزءا من الليل لا عمل لهم إلا الذكر والاستغفار. مناسك الحج لا تعقيد فيها ولا صعوبة، والمقصود منها هذا المعنى العاطفى الروحى الذى شرحته لكم، لكن هل هذا فحسب هو ما يطلبه الإسلام من الحج؟. ص _125(3/113)
الواقع أن التجمع العظيم فى الحج لم يدعه النبى عليه الصلاة والسلام سدى، ولم يترك المسلمون يحتشدون مئات ألوف فى هذا المكان ليؤدوا العبادات فرادى ويرجعوا فرادى، لا.. لقد تمت حجتان أيام النبى عليه الصلاة والسلام حجة أولى فى السنة التاسعة، كان أميرها أبا بكر- رضى الله عنه- وفى هذا الحجة لم ينقض موسمها سدى، ولم يترك التجمع الذى حدث فيها ينفض دون استغلال دينى لقضايا الإسلام.. كان المشركون، كان أعداء الله من عبدة الأصنام، ومن جحدة أهل الكتاب كانوا يتنمرون حول الإسلام الناهض، كانوا يبيتون له نيات الغدر، كانوا قد سالموه على غش ، وعقدوا معه معاهدات على دخن، والإسلام دين شريف، دين صريح، يكره النفاق والغش، ويكره المداهنة والمراءاة، ولذلك يقول الله لنبيه عليه الصلاة والسلام وقد وصاه بالصراحة، وعرفه كيف يدعو إليه، يقول له: (ودوا لو تدهن فيدهنون) لا مداهنة فى دين الله، ولذلك فى السنة التاسعة رؤى أن يمزق الستار عن القلوب الغشاشة، وأن يقال لمن يريدون الشر بالإسلام: ويحكم، إن من يحاول العدوان علينا فلن نتركه، وقد تركناكم اثنتين وعشرين سنة، ونحن نعطيكم حق الحياة ونرجو إلى جواركم حق الحياة، ولكنكم تريدون الحياة لأنفسكم فقط ولجاهليتكم وشرككم !!. الآن أنتم بين أمرين: أمامكم أربعة شهور، من أراد أن يبقى على شركه فليترك هذه البلاد إلى حيث ألقت، ومن بقى وفيا للعهد قبلناه، وإلا فالسيف بيننا وبينه.. نزلت فى السنة التاسعة سورة براءة: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين * وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم). قرأها على بن أبى طالب- رضى الله عنه- على الناس، وكان قد ص _126(3/114)
أرسل بالسورة فى حجة أميرها أبو بكر- رضى الله عنه- أرسل بصدر سورة التوبة ليقرأها على الناس وانطلق المنادون وسط مضارب الخيام ومجامع الحجيج وملتقيات الناس يقولون: " ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان " . انتهى هذا الضلال واستقرت كلمة التوحيد فى هذه الأرض. كانت هذه هى الحجة الأولى، وكان أبو بكر- رضى الله عنه- أمير الحج يومئذ. ثم كانت الحجة الأخيرة، وكانت حجة الوداع، وكان أميرها النبى عليه الصلاة والسلام وقد خاطب فى الناس خطبته المشهورة، أمَّن فيها الناس على أموالهم وأعراضهم ودمائهم . إن كل صيحة نبتت خلال القرون الأخيرة، سواء كانت صيحات حمراء أو بيضاء كانت تدور كلها حول المحافظة على حقوق الإنسان، على مال الإنسان، ودمه وعرضه. وليت المسلمين حفظوا وصايا نبيهم عليه الصلاة والسلام فى حجة الوداع، ليتهم حفظوها. ماذا يطلب الإنسان فى الدنيا إلا أن يعيش آمنا على دمه وماله وعرضه. لقد نظر النبى عليه الصلاة والسلام إلى الكعبة ثم قال: " ما أطيبك، وما أطيب ريحك، ما أعظمك، وما أعظم حرمتك، والذى نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم حرمة ص _127(3/115)
منك ماله ودمه " . ومع ذلك فقد قامت فى بلاد الإسلام حكومات استباحت الدماء والأموال والأعراض. أي ترجمة لخطبة النبى عليه الصلاة والسلام فى هذا المسلك الخسيس؟. أى وفاء لتعاليم الإسلام، وأى عرض له فى دنيا الناس يوم ترى بلاد الإسلام بلادا متخلفة، الحكم فيها لمن يملك القوة والسطوة، ولمن يستطع أن يضع نفسه حديث وضعته العصابات وغير العصابات؟!!. وفى حجة الوداع يحرص النبى عليه الصلاة والسلام على حقوق النساء وينوه بها ويبين ما للنساء من حقوق. ومع ذلك فإن المسلمين فى كثير من القرى وبدو الصحراء بل وفى كثير من المدن أكلوا تراث النساء فما ورثن كما يرث الرجال النصيب المكتوب لهن فى كتاب الله أعرف ناسا كثيرين اجتاحوه، أهدرت لهن أشياء كثيرة. رسول الله عليه الصلاة والسلام لما بنى المسجد نظر إلى أحد أبوابه وقال: " لو تركنا هذا الباب للنساء " فسمى باب النساء، خص بهن، وكان ينبغى أن تكون هندسة المساجد فى بلاد الإسلام على ما فعل النبى عليه الصلاة والسلام باب للنساء يختصصن به، منه يدخلن ومنه يخرجن، وصفوفهن قائمة بذاتها، يشهدن الصلوات الجامعة، ويتصلن بالأمة فى جسمها وعقلها، وقضاياها القريبة والبعيدة، لكن المسلمين حولوا النساء إلى قواعد فى البيوت، ليست لهن رسالة إلا المتعة والشهوة فقط وكانت النتيجة أن تحكم اليهود الآن امرأة تذيق الرجال النكال!!. ص _128(3/116)
المسلمون يجب أن يعرفوا دينهم، وأن يتفهموا، تعاليم الإسلام، وأن يدركوا الحقائق التى كتبت فى كتاب الله وفى سنة رسوله عليه الصلاة والسلام وأن لا يتجرءوا عليها. نشأ عن هذا أن ناسا من العهار والدعار رجالا ونساء أخذوا يقودون الحركة النسائية عندنا.. ونشأ عن هذا أن إحدى الصحف هاجمت ملابس الحشمة، وفى الأسبوع الماضى تبعت مجلة " المصور " زميلتها لتحارب ملابس الحشمة، لأن رسالة أولئك الصحفيين موعز بها من خارج البلاد لنشر جراثيم الانحلال الخلقى فى بلدنا لحساب الصهيونية الزاحفة واليهودية الحاقدة.. هؤلاء عملاء، ولكن ما كان لأولئك من صوت لو أن أهل الحق عرفوا الحق وقاموا به وخدموه. إن الحج ليس رحلة ميتة، إن ناسا يذهبون إلى الحج الآن ثم يعودون مكتفين بأن حملوا لقبا!!. هل درست قضاياهم؟ لا. هل عادوا من موسم الحج بتحالف على محاربة الفساد الداخلى والغزو الخارجى؟ لا. إن الحج ليس عبادة فردية لا فى ديننا ولا فى تاريخنا. فيجب أن نعلم ديننا وكفانا جهلا حتى لا نستيقظ على الويل والثبور وعظائم الأمور؟!. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم.. * * * ص _129(3/117)
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإن " مصر " الإسلامية منذ بدأت عاش فيها أهل الذمة معيشة كريمة محترمة، وتمكن الأقباط فيها من أن تكون لهم حقوق مكافئة للمسلمين ماديا وأديبا. وليس ينتظر من المسلمين أن يغدروا، وليس ينتظر من المسلمين أن يعتدوا، وما يتوقع من المسلمين فى زمان ولا مكان أن يجىء منهم عدوان أو غدر أو طغيان. ولكنى أوجه النظر إلى أن الاستعمار العالمى، وهو استعمار يرتكز على أحقاد دينية وضغائن تاريخية يريد محو الطابع الاسلامى عن " مصر "، لا يريد أن تكون " مصر " إسلامية، وكل ما أطلبه من المسلمين: أولا: أن يوفوا بعهودهم لمن لا يدين دينهم!!. ثانيأ: أن يتشبثوا إلى آخر رمق بكل شعبة من شعب الإيمان، وكل حد من حدود الإسلام، وكل حكم من أحكام الله، وكل معلم من معالم الشريعة، فإن العالم المتنمر ضدنا يتهامس فيما بينه يقول: لقد عاش الإسلام أربعة عشر قرنا حسبه هذا يجب أن نجهز عليه!!. إننى أنذر حتى يعلم المسلمون أن معيشتهم فى يوم الناس هذا وفى الغد القريب والبعيد ستكون معيشة كدح وكفاح ودفاع عن تعاليم الإسلام أمام ص _130(3/118)
مؤامرات لا ينقصها الذكاء ولا المهارة!!. إننا نحن المسلمين نعيش أحيانا تستبد بنا الأوهام والأحلام والسذاجة التى تبلغ حد الغفلة !! وإذا كان القانون المحلى لا يحمى المغفلين فإن القانون العالمى لا يحمى المغفلين أيضا!!. ألا فلتستيقظ أمتنا ولتؤد واجبها نحو كتاب ربها وسنة نبيها عليه الصلاة والسلام. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التى إلها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر ". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) أقم الصلاة.. * * * ص _131(3/119)
قصة القتال فى الإسلام خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإذا كان هناك دين يحتاج إلى العنف كى يفرض تعاليمه على الناس فليس هذا الدين هو الإسلام. وإذا كان هناك مذهب يستغل التفوق المادى، أو القدرة العسكرية على فرض مبادئه ونشرها فى المشارق والمغارب فإن هذا المذهب لن يكون الإسلام. ان الإسلام دين أساسه عقلى فطرى، يجد طريقه ميسرا إلى القلوب، ممهدا إلى أولى الألباب. التوحيد لا يحتاج الى عصا تلهب الجلود كى يقتنع الناس به.. العبادات السمحة، والأخلاق الزاكية، والمعاملات العادلة، والشرائع الضابطة لأفضل المثل، وأشرف التقاليد ذلك كله ما يحتاج إلا إلى دعوة هادئة لا قناع مجرد. ربما يحتاج التفكير الذى يرفضه العقل، أو المذهب الذى يأباه الطبع، وتكرهه الفطرة، ربما احتاج هذا وذاك إلى العنف لينتشر. ص _132(3/120)
لكن الإسلام لا يحتاج إلى العنف، إنما يحتاج إلى فاهم له، وإلى سامع لا غش فى قلبه،. ولا هوى فى ضميره، فإذا تيسر هذا وذاك فما يحتاج الإسلام بتة- إلى العنف. بل نقول أكثر من ذلك، نقول: إن رسالات السماء التى بدأت مسيرتها على الأرض ما لجأت إلى العنف فى إقرار العبودية لله الواحد، وفى حشد الناس على صراطه المستقيم. منذ الرسالة الكبيرة- رسالة نوح عليه الصلاة والسلام- استبعد الإكراه طريقا إلى تعليم الناس أو إدخالهم فى دين الله. وفى ذلك يقول الله عز وجل- على لسان نوح-: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) هذا التساؤل الذى جاء على لسان نوح- عليه السلام- ظل يتنقل بين القرون جيلا بعد جيل، وعصرا بعد عصر، حتى وصل إلى الرسالة الخاتمة، ففى سورة يونس يقول الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) اعتمد الدين فى شرح مفهومه وبلوغ غايته على دعاة لهم لب ناضج، وقلب سليم، واحتاجت البيئة إلى أن تخلو من السدود العائقة، والطواغيت المستبدة. عندما يكون صوت العقل لا حجاب أمامه ولا عائق فإن الإسلام ينتشر وينتصر. وعندما نتدبر آيات الدعوة التى شرحت وظيفة الرسالة نجد هذا المعنى هو القائم، يقول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون) يقول له: (نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) ص _133(3/121)
يقول له: (فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر * إلا من تولى وكفر * فيعذبه الله العذاب الأكبر) " إلا " هنا- كما يقول علماء اللغة- استثناء منقطع، أو استدراك واستئناف لكلام جديد بمعنى "لكن ".. لكن (من تولى وكفر * فيعذبه الله العذاب الأكبر) يقول الله (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ) يقول الله: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) يقول الله: (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون) هذه الآيات كلها من القرآن الكريم الذى نزل بمكة المكرمة.. وقد قلنا: إن ما يطلبه الإسلام داعية يحسن فهم ما يقول وعرضه على الناس العرض اللبق الواعى اللطيف، ثم ناس قلوبهم سليمة، وبيئة خالية من الطواغيت التى تعترض سير الحق كما تعترض الجنادل مسيرة الأنهار.. فهل وجد الحق السبيل ميسرة أمامه لينتشر؟. هذا تساؤل ينظر إليه من خلال الواقع، لا من خلال الخيال.. فإن الذى حدث- فعلا- أن ناسا كثيرين ضاقوا بكلام المرسلين: (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا) هذا وضع غريب، أنت تنير الطريق فيجىء من يريد كسر المصباح ويقول لك: ابق معنا فى الظلام!! عندما مشى الإسلام فى طريقه يعرض ص _134(3/122)
نفسه على الناس وجد فى هذا الطريق من يقول له: اسكت، لا تتكلم !!. خطتنا فى العرض كانت واضحة، نحن نقول لغيرنا: عندنا دين صحيح لا زيف فيه، صادق لا كذب فيه، واضح لا غموض فيه، خير لا شر فيه، نعرضه عليك فإن قبلته قبلته، فإن قال: قبلت، فهو أخونا، وإن قال: رفضت، قلنا له: من حقك، لكن لنا معك موقف، ما هو؟ تدعنا نشرح الحق لغيرك، فإذا قال: ادعوا من تريدون، فأنا لا أصدكم، قلنا له: لا صلة لنا بك، أما إذا قال لنا: لن أدعكم تشرحون الحق لغيركم، ولن أدع غيركم يستمع إليكم، وإذا استمع وقبل فتنته ونكلت به. هنا ما بد من أن أشتبك معه، وأن أصفى حسابى معه بالدم، وما يلومنى أحد.. هذا هو خط سير الإسلام، والأساس الأول للقتال الذى دار بعد ذلك. نشرح مرة أخرى، أكان موقف أعداء الإسلام منه موقفا محايدا أو سلبيا؟. ننظر فنجد أن أعداء الإسلام وصفهم القرآن فكشف خباياهم بطريقة كان فيها واصفا للواقع وحده. يقول جل شأنه: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) لكن أنا لن أتبع لا ملة اليهود ولا ملة النصارى، إذا لن نرضى عنك أبدا، ليكن ما احتاج إلى رضاكم، ولا أسعى إلى طلبه، ولكنى أطلب العدالة فى المعاملة، بينى وبينكم العدالة، أنا إذا عاملتكم فعلى أساس ما علمنى الله: ص _135(3/123)
(فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير)، فإذا قالوا: لا: ومشى الأمر فى طريق آخر يصفه القران فيقول: ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) ما الحل إذا كنت سأسير فى طريق انتشر فيها لصوص العقيدة ليقولوا: لن ندعك تمر بالتوحيد أبدا، لن ندعك تمر بهذا القرآن أبدا؟. لابد إذا من أن أتسلح، وأن أضع كل ما أمكن من أسباب المقاومة فى يدى ويد من معى، وأن أورث أولادى هذه المقاومة إلى آخر الدهر. هل أوصف بأننى عنيف؟. أنا ما لجأت للعنف أبدا، إنما ألجأنى الآخرون إليه، من سالمنى فأنا معه كما قال الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) هذا هو الإسلام، فأنا أريد أن أمشى فى طريقى وأبقى مستجمعا أمرين: الأمر الأول: الجهاز العاقل الواعى الذى يعرض الدعوة بقدرة عقلية على أولى الألباب فى كل زمان ومكان. هذا الجهاز لابد منه لأنه أساسى الذى أقوم عليه، هذا الجهاز- حهاز الدعوة- الذى يدرس العالم كله وما يسوده من فلسفات، وما ينتشر فيه من أفكار، ويكون الجهاز قديرا على قياس مسافات القرب والبعد من العقيدة التى أدعو إليها والشريعة التى أحكم بها. هذا جهاز لابد من استبقائه وتنميته وتغذيته علميا بما يعينه على أداء رسالته. الأمر الثانى: لابد من جهاز آخر يقوم على المقاومة المسلحة لعوامل الفتنة التى تآمرت قوى العالم الشريرة على أن تعترضنى بها. ص _136(3/124)
أحب وأنا أنظر إلى التاريخ أن أكون واقعيا- وأنا أواجه الآخرين الآن. إن من أسباب فرحة النبى عليه الصلاة والسلام بمعاهدة "الحديبية" مع أن فى نصوص المعاهدة ما يشير بظاهره إلى أن فيها حيفا على المسلمين، لكن النبى عليه الصلاة والسلام كان فرحا بالمعاهدة، مستريحا إليها، لماذا؟. لأنه انتزع من أعدائه الاعتراف به، كان الدين معتبرا خارجا على القانون، وكان أتباعه معتبرين ضد السلطة القائمة والأوضاع القائمة، فلما ظفر بهذا الاعتراف قبل المعاهدة على ما بها. فماذا يصنع المسلمون إذا كانت قوى العالم الكثيرة لا تريد الاعتراف بهم؟. قد يقول بعض الناس: ومن قال لك: إن العالم لا يريد أن يعترف بك؟. والجواب: التاريخ قال لى هذا، ويشاء الله- وأنا رجل مسلم، وعالم من علماء الدين- كنت أذاكر فى " الأزهر " دار الحرب، ودار الإسلام، فكان بعض الناس يتساءل: لماذا نسمى بقية العالم دار حرب؟ قلت له: أظن المعاملة جاءت بالمثل، قال: كيف؟ قلت له: هناك أمور لا يمكن أن تحل داخليا، إنما تحل دوليا، قال: مرة أخرى: كيف؟ قلت له: ديننا يتشوف إلى الحزية- كما يقول علماء الفقه- وله فى هذا كلام لا يقال الآن، لكن هل يستطيع أن يصدر أمرا داخليا فى أرض الإسلام: أن كل أسير يحرر؟ كيف؟ إذا كان أسراى سيباعون فى أسواق الرقيق فهل تبلغ بى الغفلة أن أحرر- أنا- الأسرى تحت يدى وأترك أبنائى يباعون فى العالم كله؟. المعاملة بالمثل- هنا- أساس، ومعنى هذا أن أقول لهم: إن شئتم حررنا الأسرى جميعا، أما أن أحرر أنا وحدى فلا.. فإذا قرر العالم منع الاسترقاق فأنا أول من يمضى!! كذلك الاعتراف ص _137(3/125)
بى، إذا أبوا أن يعترفوا بى فكيف أعترف بهم؟. قلت: هذا من باب الاجتهاد وأنا طالب صغير، لكن قرأت فيما بعد ما أثبته فى كتاب صدر لى من خمس وعشرين سنة ، وما أثبته يعطى فكرة عن الوضع العالمى للمسلمين، النقول التى أقرؤها عليكم الآن من كتاب ألفه الدكتور " محمد حافظ غانم " وقد كان- فيما أعلم- وزيرا للتعليم العالى، وكان أيضا رئيسا- يوما ما- لمجلس الأمة، والكتاب مقرر على طلاب " معهد الدراسات العربية العالمية بجامعة الدول العربية ". يقول المؤلف تحت عنوان: " العائلة الدولية كانت تستبعد دار الإسلام من حظيرتها ": ومنذ نشأة القانون الدولى الحديث كان من المقطوع به اعتبار الإسلام خارج نطاق العلاقات الدولية، وعدم الاعتراف بتمتع الشعوب الإسلامية بالحقوق التى يقررها هذا القانون. وعلى هذا الأساس لم يكن الفقهاء الأوربيون راغبين فى اعتبار الدولة العثمانية جزءا من الجماعة الدولية.. فـ " جروسيوس " أبو القانون الدولى قال بوجوب عدم معاملة الشعوب غير المسيحية على قدم المساواة مع الشعوب المسيحية ومع أنه يرى القانون الطبيعى يجيز عقد معاهدات مع أعداء الدين المسيحى إلا أنه نادى بتكتل الأمراء ضد أعداء العقيدة. و " جنتيلس "هاجم " فرنسو " الأول ملك فرنسا لعقده معاهدة مع السلطان سليمان العثمانى فى سنة 1535. مع أن هذه المعاهدات أقامت سلاما بين الدولتين مدة حياة الملكين. وأعفت الرعايا الفرنسيين من دفع الجزية التى كانت مقررة على غير المسلمين إذا ما أقاموا فى دار الإسلام، ومنحتهم امتيازات دينية وقضائية. ص _138(3/126)
وذلك على أساس أن هذه المعاهدة تقيم تعاونا بين ملك مسيحى وبين غير المؤمنين. بل لقد ذهب فقهاء آخرون إلى أنه من الممكن إقامة سلام دائم فى أوربا على أساس تكتيل الدول المسيحية ضد العثمانيين. أنا نقلت من هذا الكتاب نحو ثلاث صفحات من موقف القانون الدولى ضد الإسلام، واعتبار الإسلام خارجا على القانون واعتبار المسلمين لا يعاملون بالقانون الدولى. هذا فى القرن التاسع عشر، ثم جاء القرن العشرون وأنشئت هيئة الأمم، ولم تر هيئة الأمم حرجا من أن تطرد عرب فلسطين المسلمين من أرضهم لتعطى هذه الأرض عصابات اليهود التى استقدمت من هنا ومن هناك ويبدو- إلى الآن- أن المسلمين يعاملون معاملة الجنس الأسود فى جنوب أفريقيا، فهم يعتبرون المسلمين من الدرجة الثانية، أو إن سمح لهم ببقاء فبقاؤهم فى حدود معينة!!. بداهة ما نرضى لأنفسنا، وما يرضى عاقل لنفسه أن يحيا على هذا النحو، بل لابد أن ندرك الحقائق كاملة، وأن نتعاون فى رد العدوان وكسر حدته، والنجاة بديننا من عبث هذه المؤامرات قانونية كانت أو غير قانونية. لذلك كان الإسلام فى تعاليمه جامعا بين الأمرين: إن أعطينا حق الحياة والكرامة والحديث إلى غيرنا أعطينا غيرنا هذا الحق، وإن ضن علينا بحق الحياة والكرامة والعيش وفق ديننا فإننا نضن على الآخرين بهذا الحق.. وما يلومنا أحد على هذا، أما الأساس الأول الذى يقوم عليه الدين فهو أن ينشر بغير إكراه. بعض المستشرقين أو المبشرين قال: إن الآيات التى تضمنت حرية المعتقد و التى قالت للآخرين: (لكم دينكم ولي دين) ، !كانت فى مكة، فلما شعر المسلمون بقوتهم، وتماسك السيف ص _139(3/127)
بأيديهم، وأسسوا بالهجرة دولة لهم قرروا أن يعاملوا الآخرين معاملة فيها غبن، وأن ينسوا ما كان من حرية المعتقد، و يلجأوا للقتال!!. هل هذا الكلام حق؟ هل القرآن الذى نزل فى المدينة يخالف القرآن الذى نزل فى مكة من هذه الناحية؟. الجواب: لا. لأن أول سورة نزلت فى المدينة سورة البقرة، وسورة البقرة تضمنت ثلاثة مواضع وهى تتحدث عن أتباع الأديان الأخرى. منها الآية العظيمة التى لا يعرف لها نظير فى مكان آخر من أرض الله، وهى قوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) ومنها قوله تعالى لأهل الكتاب: (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون) ومنها قوله تعالى وهو يتناول موقف اليهود منا: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير) ، بل إن آخر ما نزل فى القتال وشرائعه ما ختمت به سورة التوبة: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم * فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) قصة الجهاد فى الإسلام قصة مشرفة للمسلمين، وقصة القتال فى الإسلام قصة مشرفة للتاريخ الإسلامى. والقضية ليس فيها ما يريب، ولاما يحتاج إلى تدخل التافهين ليعبثوا بتعاليم الإسلام. وقع فى يدى كتاب عليه أسماء بعض الدكاترة الذين يشتغلون بالطب، ص _140(3/128)
مكتوب فى هذا الكتاب: " حتمية تأويل آيات القتال فى القرآن ". سبحان الله!!. قلت فى نفسى: كيف تؤول آيات القتال؟ وبدأت أقرأ فإذا بالدكاترة العباقرة ذكروا نصين كنماذج لهذا التأويل الذى لابد منه فى القرآن الكريم. النص الأول: قوله تعالى: (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم). قال الدكاترة العباقرة: إن المقصود بالقتل هنا قتل الشهوات والأهواء. هذه الكلمة ليست مستقلة وإنما هى جزء من الآية الرابعة فى سورة محمد عليه الصلاة والسلام أو سورة القتال كما تسمى فى كثير من المصاحف، هذا الجزء من الآية الرابعة يفهم بداهة مرتبطا بها، ما هى هذه الآية الرابعة؟ الآية الرابعة هى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم) يقول الدكاترة- الذين كتبوا الكتاب: إن الآية لا صلة لها من قرب ولا من بعد بالقتال الذى تسفك فيه الدماء!! ألا شاهت الوجوه. الآية تقول: عندما تلاقون المعتدين الصادين عن سبيل الله، الضانين عليكم بحق الحياة اضربوا أعناقهم، وقيدوا أسراهم، وأثخنوا فى الأرض حتى ترهبوا عدو الله وعدوكم، هذا كله يهدر ويقال: إن الآية فى حرب الشهوات؟!. أى شهوات؟ حرب الشهوات والأهواء لها آيات أخرى: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم ). أما أن تجىء لكلمة هى جزء من آية قتال ساخن دموى أساسه أنك تريد إنقاذ عقيدتك ممن يبغى سرقتها، وإنقاذ كرامتك ممن يبغى استباحها، ص _141(3/129)
وإنقاذ يومك وغدك ممن يريد التطويح بهما فى مهاوى الفناء فتجىء لتقول: هذا القتال فى حرب الأهواء؟!. النص الثانى الذى نقله الدكاترة العباقرة فى كتابهم هو قوله جل شأنه: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) قال الدكاترة العباقرة: إن المقصود بالقتال هنا الجدل والمجاورات العقلية ونقد الأدلة؟!. أى كلام هذا؟ الآية من سورة التوبة، وسورة التوبة بدأت بإلغاء المعاهدات التى عبث بها أعداء الله، وقالت للمسلمين: ارفضوا هؤلاء: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون * وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون * ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين * قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم) هل هذا القتال قتال أدلة خطابية أو إقناع عقلى؟ أم القتال هنا جاء لأناس انتضوا أسلحتهم لضربنا، وما بد من أن نكسر السلاح فى أيديهم، وأن نذيقهم وبال ما قدموا هم لأنفسهم؟!. الكلام الذى قاله هؤلاء الدكاترة خطير، فبعد صفحات قرأت تفسيرا لحديث نبوى معروف وهو حديث: " من رأى منكم منكرا فليغره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " يقول الدكاترة العباقرة: معنى الحديث: من رأى منكم منكرا فى نفسه هو فليغيره بيده!! وفى المجتمع؟ لا. سبحان الله!! أدركت أن هذا الكلام ليس وراءه عقل علمى ولا فقه إسلامى ولا شرف نفسى، بل هو كلام لحراسة الفساد فى بعض المجتمعات، أو لخدمة الاستعمار العالمى الذى ص _142(3/130)
استباح الدم الإسلامى فى كل مكان. وقد حدث أن الاستعمار الإنكليزى لما وجد الجهاد الإسلامى يعكر صفوه، ويعترض طريقه استعان برجل اسمه " ميرزا غلام أحمد " -زعيم القاديانية- فأبطل الجهاد، وأبطل الحج، حتى لا يتجمع المسلمون لا تجمعا مدنيا، ولا تجمعا عسكريا، وحتى ينتشر الضلال فى الأرض دون أن ينتصب له مؤمنون أشداء يقفون ضلاله وينكسون رايته. ولكن القاديانية فضح الله صاحبها، وفضح أتباعه، وعرفوا بأنهم أعداء للإسلام، وعوملوا- فى حكومة باكستان الحالية- على أنهم أقلية دينية مقطوعة الصلة بالإسلام. فهل ينتهى التخريف القاديانى فى الهند ليبدأ بعض الدكاترة- ومنهم أناس فى كلية الطب فى جامعة القاهرة- التخريف فى " مصر " ولا فقه لهم فى دين الله، ويتحدثون فى شرح الإسلام وقضاياه على نحو طائش أحمق لا يمكن أن يعترف به، ولا يمكن أن يتحدث عنه بهذا الأسلوب إلا خصوم لدين الله. والواقع أن هذا الكلام يجب أن توضع أمامه علامات استفهام كثيرة ليعرف لحساب من يقال؟ من وراء هذه الأراجيف؟. بقى شىء وحيد يمكن أن نشرحه، لأنه بحاجة- فعلا- إلى شرح، وربما كان ظاهر الحديث المروى سببا فى أن يحدث تساؤل ينبغى أن نجيب عنه. روى البخارى ومسلم عن النبى صلى الله عليه وسلم قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم منى نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله . ظاهر هذا الحديث يخدع، يخدع من؟ يخدع من لا ثقافة إسلامية له، لأنه سيفهم من هذا الحديث أن صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم مأمور بشن غارة على العالم كله حتى يقول الناس: لا إله إلا الله، وتنتهى الغارة عندما يقولون: لا إله إلا الله !!. هل هذا هو معنى الحديث؟ هذا كذب لا أصل له، والسبب فى ص _143(3/131)
هذه الخدعة التى فهمت من ظاهر الحديث كلمة " الناس " فى قوله:"أمرت أن أقاتل الناس "- فقد فهمها كثيرون على أن المقصود بالناس البشر عموما، وهذا غير صحيح. أول ما نذكره فى تكذيب هذا الفهم أن العلماء أجمعوا على أن كلمة " الناس " فى الحديث لا تشمل أهل الكتاب، لماذا؟ قالوا: لأن سورة التوبة تحدثت عن المعتدين من أهل الكتاب الذين لا يعرفون حلالا ولا حراما فى معاملتهم للمسلمين، تحدثت عن قتالهم وجعلت الغاية منه محددة: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) فكانت الغاية من قتالهم- لا أن يقولوا لا إله إلا الله وإنما: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون). فلا صلة للحديث المروى لا باليهود ولا بالنصارى. هل يتناول المشركين كلهم؟. لا: " فإن عمر بن الخطاب ذكر المجوس، فقال: ما أدرى كيف أصنع فى أمرهم- فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " . إذا هؤلاء أيضا ليسوا فى الحديث. ما المقصود من الحديث إذا؟. كلمة " الناس " هنا، قال العلماء: إنها عام مخصوص، وقد وردت كلمة " الناس " فى القرآن عموما يراد به خصوص فى مواضع كثيرة، منها قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا ) (الذين قال لهم الناس ) الناس هنا: بعض المنافقين (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) الناس هنا: بعض المشركين- إذا فالناس فى الآية ليس المقصود بها عموم البشر، آية أخرى هى قوله تعالى : ص _144(3/132)
(إذا جاء نصر الله و الفتح * و رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا)، ما الناس الذين دخلوا؟ أهل القارات؟ لا. عرب الجزيرة. كلمة " الناس " فى الحديث تفسير لكلمة " الناس " فى قوله تعالى: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله) الناس هنا: هم الذين خانوا الأمانات، ولعبوا بالمعاهدات، وعبثوا بالمواثيق التى أخذت عليهم، أما الذين بيننا وبينهم ميثاق فقد استثنوا من هذا القتال كله: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) المهم أن الحديث ليس على ظاهره، والحديث صحيح السند، ولكن يحتاج المعنى إلى فقه الفقهاء. يجئ واحد صعلوك فيقول: الحديث كذب لأنه عدوان على الناس!!. كيف كذبت الحديث؟ الحديث صحيح لكن له معنى، لكنها قلة الفقه وسوء الأدب. نسأل الله العافية. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _145(3/133)
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: أيها الاخوة: فى الحقيقة أننا نحتاج فى هذا العصر إلى شئ من التأمل والتؤدة ونحن نواجه المكايد والمؤامرات التى توجه للإسلام وأهله. ذلك أن هناك جهلة متدينين لكن فيهم بلاهة، وهناك أعداء وفيهم خبث ودهاء.. والإسلام بين نارين من هؤلاء وأولئك.. ورد حديث يقول: " إنا أمة أمية لا تكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا " يعنى مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين . ما معنى الحديث؟ العرب فى جاهليتهم كانوا أمة أمية، ما يعرفون الحساب الفلكى، ولا تشيع الكتابة بينهم، كانوا كالإبل الهائمة فى الصحراء، حتى جاء الإسلام فنقلهم بثقافته: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون) فانتقل العرب- بداهة- إلى أمة مثقفة، لها معارف خصبة، ولها حضارة رائعة . ص _146(3/134)
فالذى يفهم من حديث: " إنا أمة أمية " أن الأمية شرف، وأننا نسحب الطلبة من الكليات، ونفر بهم إلى الجبال فهذه غباوة ما يمكن أن يقول بها عاقل، ولا يصنعها إلا البله. يجئ آخر فيقول: الحديث كذب، لا. الحديث صحيح، لكن فهمكم أنتم له هو الكذب، فيفهم الحديث كذبا ثم يكذب الحديث، وتفتح ثغرة فى جدار الثقافة الإسلامية، لأنه عندما يجئ العيال والصعاليك ويكذبون البخارى ومسلما وكتب السنة فماذا يبقى فى الإسلام؟. القرآن؟ سيؤول على هذا النحو الذى شرحته لكم، ويضيع الدين كله. إن الله عز وجل لم يخلق الناس متساوين لا فى كفايتهم ولا فى مواهبهم، ولم يقل جل شأنه للناس إذا جهلوا: أسألوا الجهلة أمثالكم، ولكنه قال: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) ، وأمتنا محتاجة إلى جماعات كثيرة، كثيرة جدا من أهل الذكر يشرحون للناس دينهم، ويعرفونهم معاشهم ومعادهم. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ". (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة ص _147(3/135)
عهد المظالم والهزائم خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص 8/6/1973 م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فإن الناس يستقبلون فى الأيام الأولى من هذا الشهر- بالتقويم الميلادى- ذكرى كئيبة، تسود لها وجوه، وتنكس بها رؤوس، ويشيع معها جو من الأسى والعجب!! وذلك أن العرب لحقت بهم هزائم شنعاء فى هذه الأيام الأولى من هذا الشهر. وهى هزائم يريد العدو أن يبنى عليها أشياء خطيرة، يريد العدو بها أن يصف نفسه بأنه عدو ذو بأس شديد، وعزم حديد، وقدرة خارقة.. ويصف بعد ذلك العرب والمسلمين بأنهم شعوب فى طريق التلاشى، وأنهم أمم قد أخذت تفقد خصائص الحياة، وأن ما نزل بها من هزائم إنما كان تسجيلا لما تستحق من إدبار أمرها، وسقوط ألويتها. والأمر على هذا النحو لا يمكن أن نسكت عليه، ولا أن نستطيع أمام ربنا أن ندع الأكاذيب تربو وتنمو مع صمت من يعرفون الحقائق. أريد أن أقول- معتصما بالله-: ص _148(3/136)
إن الهزائم التى وقعت لم تكن هزائم للأمة الإسلامية، ولم تكن هزائم للجيوش العربية، لكنها كانت هزائم لطراز معين من الحكم، ولون معين من الرجال، ونوع معين من الخطط!! أما بالنسبة لنا نحن المصريين فإنى خبير بالشعب المصرى والجيش المصرى ، وينبغى أن أقول: إن أعداءنا يريدون أن نفقد ثقتنا بأنفسنا، وأن تشيع الأكاذيب التى روجوا لها، وبنوا عليها، وما ينبغى نحن أن نستسلم لهذه الخطة. إن ما وقع من هزائم لا يمكن إنكاره، ولكنه لم يكن هزيمة للجيش ولا للشعب، إنما كان هزيمة لعصابة من الناس وقعت أزمة الحكم فى أيديها فآذت الله ورسوله، وأهانت المؤمنين، وتركت وراءها هذا الدمار المادى والأدبى ينال من كرامتنا، ومن حقيقتنا!! الجيش المصرى سبقت له مواقف فى التاريخ ما تنكر، فهو الذى هزم الصليبيين فى " حطين " وغير حطين، وهو الذى هزم التتار فى " عين جالوت " وغير عين جالوت.. واستطاع فلاح تركى اسمه " محمد على " بهذا الجيش من المصريين أن يمد حدود " مصر " حتى " الجزائر " غربا، وحتى " منابع النيل " جنوبا، وحتى " الخليج العربى " شرقا، و حتى " القسطنطينية " وداخل " جزر اليونان " و " شبه جزيرة الموره " شمالا. الجيش جيش محترم يوم يرزق قيادة محترمة، لكن يوم تقع أزمته فى أيد غبية فإنه سينهار يقينا. الشعب المصرى ليس تافها، ولست أقول هذا لأنى مصرى.. إن هذا الشعب له خصائص أصيلة، هذا الشعب فى آخر قضاياه- ولا أذهب إلى الماضى البعيد- يوم استطاع الإنكليز أن يدخلوا " رشيد " فى أول حملة من حملات الاحتلال، وفرت الجيوش " الألبانية " من أمامهم، قرر الشعب المصرى أن يقاوم.. ص _149(3/137)
الشعب أعزل، ومع ذلك فإن اثنين من المؤرخين كتبا وثيقة- موضوعة الآن فى وثائق وزارة الخارجية الإنكليزية، ومترجمة فى بعض كتبنا " العربية والإسلامية- تقول: إن أهل " رشيد " قاوموا بجبروت، وتقول: إن الحملة التى نزلت سرعان ما بدأ الأهالى فى الحارات، وفى الشوارع، ومن أسطح البيوت، ومن نوافذ البيوت، أخذوا يحولون المدينة إلى بركان ثائر... كانوا يغلون الزيت ويسكبونه على الجنود، وكانوا يضربون بالرصاص و البلط والعصى... ووجد القائد الإنكليزي نفسه أمام محنة، إذ فقد نصف الحملة- تقريبا- فى شوارع " رشيد " وحاراتها مع الشعب بعد أن فر الجيش الألبانى... وكانت إشارة الهجوم على المحتلين من مسجد " المحلى" بـ" رشيد"!! هذا ما وقع فى " رشيد " مع الإنكليز، وما وقع مع الفرنسيين أن ربع السكان فى " مصر "- تقريبا قتلوا أو جرحوا وهم يقاومون الجيش الفرنسى بعد أن هزم المماليك!! وتاريخ المقاومة لا يدرس ولا يكتب، كأن هناك مؤامرة لإشعار هذه الأمة بأنها لا تحسن المقاومة... إن الجيش المصرى أصيل، وتاريخه مشرف، والشعب المصرى أصيل، وتاريخه مشرف، ومفتاح شخصيته الإسلام... يوم ينادى بهذه الصيحة، ويوم تدار فى أقفاله هذه المفاتيح المؤمنة فإنه يتحرك فلا يقف أمامه شىء فى الأولين والآخرين !! إن الهزيمة التى وقعت كانت هزيمة عصابة من الناس تستمتع بقدر كبير من الغباء والجهالة وكبرياء الضلال... ص _150(3/138)
هؤلاء كانوا فى واد والشعب فى واد آخر، لأن القانون سجن، ولأن كل إنسان كان مروعا، لم يكن هناك وجود لقانون عقوبات أو قانون أخلاق ... كان من الممكن لأى حاكم من هؤلاء إذا أعجبته عمارة من العمائر أن يعلن حراسة عليها ثم يسكنها أو يسكنها أتباعه !! كان التدين شبهة، وصلاة الفجر فى بعض المساجد مشكلة، والبعد عن الخمر والدنيئة يعرض صاحبه للهوان والضياع وخراب المستقبل بعد الحاضر!! فلما وقعت المعركة كان الناس يتفرجون!! وكيف وضعت الخطة؟. يقول لى طبيب: صدر فى أربع وعشرين ساعة نحو عشرين أمرا متضاربة متناقضة؟. فما استطاع الجيش أن يصنع شيئا أكثر من أن يحمل سلاحا ربما لم يجرب، أو ربما لم تفتح أغلفته ليعطه اليهود !!. كانت خطة لا نظير لها فى الغباء، الجيش معذور، والشعب معذور، والأمر محتاج إلى أن يدرك الناس الحقائق. كان الجيش يستطيع أن يفعل الكثير ولكنه عجز، وكانت الأمة تستطيع أن تفعل الكثير ولكنها عجزت. فى الحرب الأولى مع اليهود فى سنة 1956 م كنت يقظان مدركا لما هنالك، كانت فى شعبنا بقايا من الإيمان والوطنية، وعندما وزع السلاح على الشعب ليقاوم كنت موقنا أن هذا السلاح لن يستغل إلا فى ضرب العدو، وعندما أكره سكان القناة على أن يهجروها كان الناس بصدورهم وبيوتهم وعواطفهم وتقاليدهم يرحبون بالمهاجرين لأن بقايا الإيمان موجودة.. كنت موقنا أن شيئا حدث غير كريم وهو هزيمة جيشنا على الحدود ص _151(3/139)
الشرقية بسرعة غير متوقعة، وقيل يومئذ: السبب فى صدور أوامر الانسحاب أن الإنكليز والفرنسيين نزلوا فى " بور سعيد ".. والواقع أن هذا التعليل خادع، وأن المقاومة كان ينبغى أن تطول أكثر لو كانت القيادة أعقل وأحكم وأحزم. ولكن الخطأ وقع، وشاء الله أن تنجو البلاد، وأن ينسحب أولئك الذين جاءوا.. وقلت: بأى قدرة خرجوا؟ بأى قدرة غسلت الأرض منهم؟. وكان الجواب: قدرة من غير قدرة الله جل شأنه؟ !!. وقلت يومئذ: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) هو وحده الذى كف الأيدى عنا، ولكن الذين استمعوا لهذا الكلام ذكرونى بقصة الأقرع والأبرص والأعمى التى روتها كتب السنة، وكتب السنة تروى أحاديث. موجهة وأخبارا نافعة.. إن الإنسان فى طبيعته أن ينسى، وفى طبيعته- أحيانا- أن يغدر، بالنعمة وأن يجحد صاحبها. ضربت السنة مثلا لهذا بثلاثة نفر ابتلوا بالفقر والعلل، هذا أبرص وفقير، وهذا أقرع وفقير، وهذا أعمى وفقير: " إن ثلاثة فى بنى إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا لله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال: أى شىء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، قد قذرنى الناس، قال: فمسحه فذهب عنه فأعطى لونا حسنا وجلدا حسنا، فقال: أى المال أحب إليك؟ قال: الإبل. فأعطى ناقة عشراء، فقال: يبارك لك فيها. ص _152(3/140)
وأتى الأقرع فقال: أى شىء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عنى هذا قد قذرني الناس. قال فمسحه فذهب وأعطى شعرا حسنا، قال: فأى المال أحب إليك؟ قال: البقر، قال: فأعطاه بقرة حاملا، وقال: يبارك لك فيها. وأتى الأعمى فقال: أى شىء أحب إليك؟ قال: يرد الله إلى بصرى فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأى المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والدا، فأنتج هذان وولد هذا. فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من الغنم. ثم إنه- أى الملك- أتى الأبرص فى صورته وهيئته فقال: رجل مسكين تقطعت بى الحبال فى سفرى فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذى أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ عليه فى سفرى، فقال له: إن الحقوق كثيرة، فقال له: كأنى أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأقرع فى صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى فى صورته فقال: رجل مسكين وابن سبيل وتقطعت بى الحبال فى سفرى فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذى رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها فى سفرى، فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصرى وفقيرا فقد أغنانى فخذ ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشىء أخذته لله . فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضى الله عنك وسخط على صاحبيك " . ص _153(3/141)
النفس البشرية- أحيانا- تنسى ماضيها، تنسى فقرها، تنسى ذلها، ثم تزعم أن ما هى فيه من خير وعز ونصر وغنى هو جهدها، كما قال قارون- لما قيل له: (وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين * قال إنما أوتيته على علم عندي)، عبقريتي هى التى جاءت بالمال. وهذا ما حدث، فإن الحكم السابق فى بلدنا قال- ببساطة- انتصرنا!!. وأحسن صناعة أجدناها كانت الكذب!!. فانتشر الكذب، انتشر أننا بقدرتنا وحولنا وخططنا وذكائنا وعبقريتنا انتصرنا!!. والله وحده يعلم أنه هو وحده صاحب اليد الطُولى علينا، وهو وحده الذى أخرج العدو من بلدنا!!. كانت بقايا الإيمان- فعلا- ترشح الأمة لأن تنجو من كبوتها.. لكن الذى حدث فى سنة 1967 م كان شيئا لابد منه، كان لابد أن يفتضح الغرور، وأن ينكشف الجهل، وأن تتضح أمام أنفس الناس الهالات التى زورت، والقامات التى تطاولت!! وما يغيظنى فى الدنيا شئ كهذا اللون من الادعاء، وكثيرا ما أردد قول المتنبى : أفى كل يوم تحت ضبنى شويعر ضعيف يقاوينى قصير يطاول إلى أن يقول: وما التيه طبى فيهم غير أننى بغيض إلى الجاهل المتعاقل وعندما تقع أزمة البلاد فى أيدى الجاهل المتعاقل فلا تنتظر إلا الضياع. ص _154(3/142)
شعبنا شعب طيب، فيه مواهب أصيلة، هاجر منه من هاجر فهو الآن يشتغل فى غزو الفضاء، وفى تفجير الذرة، فهو شعب معدنه ذكى، ويحتاج إلى حاكم يحنو عليه، حاكم والد، حاكم طيب يحتاج إلى هذا. وأنا فى مكانى من العمل فى الدعوة الإسلامية- وأنا رجل خبير بدينى ودنياى- كتبت مذكرة وقلت فيها- لمن بيدهم الأمر عندنا: إننى بعد أن أذهب الله الإنكليز والفرنسيين واليهود أريد أن نعيد النظر فى شبه جزيرة سيناء، وعندى اقتراح سببه أنى مسلم قرأت فى كتاب الله: (وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للأكلين)، فقلت: معنى هذا أن شجر الزيتون الذى ينمو فى " لبنان " وفى " فلسطين " غابات كان ممتدا إلى " سيناء " ولابد أن عوائق حالت دون انتشاره، أو أن ظروفا زمانية أو مكانية منعت أن ينمو شجر الزيتون فى هذه البقاع، لكنى موقن وأكلت بفمى فاكهة نبتت فى سيناء أحلى وأشهى مما ينبت فى " وادى النيل " وقد عشت فى سيناء أمدا غير قليل من الزمن وأنا بها خبير.. قلت: أريد أن نبنى مستعمرات فى سيناء، أساسها ثلاثة نفر، عالم دينى، مهندس زراعى، ضابط عسكرى، الثلاثة تختار لهم بقاع معينة، وفى كل بقعة نوطن البدو، للبدو حقوق فى رقابنا، إنهم جهلة، يشتغلون برعى الغنم، وإذا كان هذا الاحتراف لا يعطى الكثير اشتغلوا بتهريب المخدرات، أو اشتغلوا بمعاونة الأعداء، فلم لا نمنع هذا البلاء ونبدأ فى توطينهم، ويكون التوطين على الأساس الدينى العسكرى الاقتصادى؟. وقلت: نبدأ بمحطات السكة الحديد لنن " القنطرة " و " العريش " و " رمانة " إلى " رفح " إلى " غزة " وتنتشر بعد ذلك المستعمرات. ووقع بعد ذلك التقرير الذى قدمته فى يد مسئول بدأ يقرأ، وبدأ ينظر إلى فى شىء من العجب أو من الازدراء، وقال: ليست هناك مياه يا أستاذ فى هذا المكان قلت له: أنا أعرف أن اليهود مدوا الماء من شهال " غزة " إلى " رفح " وزرعوا الأرض " بطاطس "!!. ونحن مددنا المياه إلى " مرسى مطروح "(3/143)
للمصيفين، فإذا مددناها ص _155
للهو نستطيع أن نمدها للجد، لكن هيهات، من تحدث؟!. من البلاء أن يكون الرأى لمن يملكه لا لمن يبصره!!. وكأن الرجل يقول: ما لرجل معمم يتحدث فى هذه الأمور؟. وشعرت بهذا وقلت وأنا أنتفض من العزة والكبرياء، قلت: إننى معمم فعلا ولكنى أضع خطة تمنع حاخامات اليهود من أن يهزموكم هزيمة ترفعون فيها أيديكم وأرجلكم وتضحكون العالم عليكم!!. إن حاخامات اليهود يفعلون الكثير من أجل دينهم، وأنا رجل مسلم أريد أن نخدم ديننا. لكن هيهات، ذهب الاقتراح إلى القمامة!! ونفذ الاقتراح بنو إسرائيل، نفذوه هناك بعد أن احتلوا أرضنا، الحاخام اليهودى مع الضابط الإسرائيلي مع المهندس الزراعى. إن ناسا تريد أن تصف ما حدث فتقول: نكسة. كلمة " نكسة " معناها أن رجلا كان يصعد فانزلق فسقط، فيقال: شىء باغته عن طريقه فما تم له ما أراد. والحقيقة أن بلادنا كانت تنحدر، الحقيقة أن الحكم السابق كان بهذه الطريقة التى يعيش بها يرشح الأمة لهزيمة نكراء؟!. ونحن لا نبكى على الماضى، فإن البكاء على الماضى شأن الانهزاميين، ولكنى أقول: فى المعركة القادمة- ولابد من وقوع معارك أردنا أم لم نرد- يجب أن لا تكون بين الشعب والحاكم فجوة، الحاكم الأمين الصدوق النزيه هو الذى يعرف أنه خادم للأمة لا سيد لها، الحاكم الأمين الصدوق النزيه هو الذى يرعى الدماء والأموال والأعراض ويقدسها، ليس ذئبا ينطلق فى أحشائها كى يشبع نهمته من الحرام، إنه يومئذ لن يكون حاكما لها إنما يكون عدوا لها وعميلا لأعدائها !!. وقال بعض الناس: ان نكسة " يونيو " كنكسة " أحد "!! ولم أر أغرب ولا أعجب من هذا التعليق، إن هذا الكلام خطورته بعيدة المدى، ص _156(3/144)
وهو اجتراء على حقائق التاريخ، فإن معركة " أحد " أرخ بعض كتاب السيرة لها ورفضوا رفضا باتا اعتبار ما حدث نصرا لقريش وغلبة للوثنية. قالوا: ربما لم يبلغ المسلمون مرادهم، ولكن ما حدث لا يمكن أن يوصف بأنه هزيمة. ونحن نريد أن نبرز خمس نقط: النقطة الأولى: أن المسلمين فى " أحد " أحرزوا النصر، وانكشف العدو، وولى الأدبار فى المرحلة الأولى من المعركة، وهذه الهزيمة التى لحقت بالعدو هى التى أغرت طلاب الدنيا أن يتركوا مواقعهم ليحصلوا على الغنائم فكان ما كان. لكن فى "يونيو 1967 م " ما حصلنا على شئ ما من النصر إلا ما كانت الإذاعات تكذب به وتقول: أسقطا عشرات الطائرات ومئات الطائرات وهو كلام من نسج المخدرات!!. النقطة الثانية: أن المشركين فى معركة " أحد " ما استولوا على شبر من المدينة، ولا فكروا فى دخولها، أما فى " يونيو " فإن مساحة إسرائيل تضاعفت كثيرا من أرضنا وبلادنا وخيراتنا. النقطة الثالثة: أنه بعد ما حدث فى " أحد " لم تمر عشية أو ضحاها حتى أصدر النبى الكريم صلى الله عليه وسلم - أمره بمطاردة قريش واللحاق بجيشها، ما صبروا على ما نزل بهم أربعا وعشرين ساعة !. النقطة الرابعة: أنه بعد ما يوصف بأنه هزيمة ما فقد المسلمون تدينهم ولا تقواهم، بل جمع النبى صلى الله عليه وسلم الناس وراءه وقال: " استووا حتى أثنى على ربى عز وجل " وأخذ يثنى على الله ويؤمن به ويدعوه ويستغفره. ص _157(3/145)
شئ آخر: تنظيم الناس فى مواقعهم فى الحياة أو فى الممات أمانة، كان زعيم الأمة ونبيها صلى الله عليه وسلم يرعاه حتى فى القبر، كان يجمع بين الرجلين من قتلى " أحد " فى ثوب واحد، ثم يقول: " أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحد قدمه فى اللحد وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة. وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا " . حتى فى الموت يقدم الأعظم تقوى ودينا، فإذا كان هذا فى الموت فكيف الشأن فى الحياة نفسها؟. كانت الأمة يقدم فيها أصحإب الكفايات، ويؤخر فيها من لا كفاية له. النقطة الخامسة: أن سبب الهزيمة فى " أحد " مخالفة الجيش للخطة، أما فى " يونيو" " فإن سبب الهزيمة أن الجيش لم توضع له خطة، كانت الخطة الموضوعة هى التى هزمته، كأنما وضعها عدو لهذه الأمة !!. الفروق !كثيرة جدا، قلت: لا أبكى على ماض، إن شهر يونيو يجئ وتجئ معه الآلام، ويريد اليهود أن يفتحوا أفواههم فى كل مكان ليقولوا: نحن أولو بأس شديد !!. كذبتم والله، والله لو أن أعدادكم من الناس كانوا كلابا أو ذئابا لانتصروا على العرب!! لأن العرب كانوا مخذولين بقادتهم، كانوا مهزومين بمن يحكمهم، لو اصطدم هؤلاء العرب بجيش من الكلاب لانهزموا !! لأنه ما كانت لديهم لا قوة ولا خطة ولا تراحم ولا تعاون!!. إن اليهود امتدوا فى فراغ، ويوم ترجع هذه الأمة إلى دينها وإلى القليل من السلاح الذى بأيديها فإن اليهود سوف تسود وجوههم، وسوف يضحك أهل الأرض من دعاواهم !!. ص _158(3/146)
إننى أريد بهذا الكلام كله شيئا واحدا: أن أكشف الحقائق، أن أرد الاعتبار لألوف من الشباب انتظموا فى الجيش وهم ليسوا جبناء، وما فكروا أن يبيعوا دينهم، ولكنهم ضاعوا بالخطط الرديئة، شعوب مؤمنة طيبة، ولكنها ذلت فى مدنها وقراها، كانت تتفرج هذه هى المأساة التى وقعت فى " يونيو " ربما مات من مات، ربما سجن من سجن، ربما ذهبت مراكز القوة المسئولة عن هذا إلى حيث ذهبت، لكن تبقى العبرة التى أريد أن يستفيد منها كل حاكم. لا يجوز أن تكون بين الدولة والأمة فجوة، لا يجوز أن يشعر رجل الشارع بأن حاكما ما ديان له، مسيطر عليه، رب له فى الأرض، لا. لا. يوم أراد أحد الملوك فى " فرنسا " أن يجعل من نفسه إلها على الناس، جاء الفرنسيون به وقتلوه !!. إن هذا الحكم الذى أجراه الثوار الفرنسيون كان حصانة لهم فيما بعد من حكام يريدون أن يصنعوا هذا الصنيع بشعوبهم. والأمة الإسلامية محتاجة إلى هذا كله، لقد ضاع المسلمون فى "باكستان " بسبب هذا الذى قلته لكم. جماعة من الجنرالات كانوا يسكرون و يهرفون بما لا يعرفون دوخوا مستقبل الإسلام فى الهند !!. هذا ما حدث فى "يونيو " أرجو أن نأخذ منه عبرة: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم.. * * * ص _159(3/147)
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فلغاية فى نفسى أحب أن أحكى شيئا حدث.. من عدة شهور جاءنى فى مكتبى رجل وأعطانى مبلغا من المال أحصيته فإذا هو ستمائة جنيه، قال لى: وزعها على المساجد التى ترى أنها بحاجة إلى المعونة. قلت له: لا بأس، ما اسمك؟ فإذا هو يولى ويتركنى فما أعرف اسمه !!. الجمعة الماضية وضع فى يدى " ظرف " ما أعرف من صاحبه، وعندما احتوتنى السيارة التى أعود فيها وجدت المبلغ ثلاثمائة جنيه، ومعه خطاب فيه: ضع هذا المبلغ فى مساجد معينة بأوصاف معينة. أنا أقصد بهذا ثلاثة أمور: الأمر الأول: أنه لاشك أن أمتنا- كما قلت- أمة تقية طيبة، معدنها سليم، والخير فيها كثير. الأمر الثانى: لا أريد أن يتكرر هذا معى ففيه شىء من التعب أو الحرج لى . الأمر الثالث: أن هذه النيات الطيبة فردية، بمعنى أنها لا تزال فى أماكنها كمناجم الذهب لا تكتشف إلا بالبحث. ص _160(3/148)
الهجوم على الإسلام هجوم جماعى منظم ولابد أن يكون الدفاع دفاعا جماعيا ومنظما. وألفت النظر إلى أن أمتنا لها مفتاح واحد هو: الإيمان، هو الإسلام، وأنها بهذا المفتاح تعطى المال، تعطى الدم، لأنها تريد وجه الله تعطى كل شئ وتصنع كل شئ. أما من يحاول إذلالها فماذا سيجنى؟ سيذل نفسه ويقهرها ويقهر الأمة معه ويذلها !!. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التى فها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة * * * ص _161(3/149)
1ـ تأملات فى سورة أل عمران مفتاح فى هذه السورة خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه 8/2/1974 م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فسنعود اليوم بمشيئة الله تعالى إلى التفسير" الموضوعى للقرآن الكريم. كنا قد ألقينا نظرات عجلى على سورة البقرة، ثم اعترضتنا مناسبة الهجرة فقضينا معها ثلاثة أسابيع، والآن نعود إلى سورة آل عمران- بعد سورة البقرة- لنلقى عليها نظرات عجلى نستبين فيها الهدايات التى أودعها الله فى تضاعيف الوحى المبارك، وننتفع بهذا الخير الذى خصنا الله به نحن المسلمين، ولعلنا نقدره ونرتفع إلى مستواه ونكون أهلا لفقهه وتبليغه. قلنا فى نظرة سريعة إلى هذه السورة: إنها يمكن أن تنقسم قسمين: قسم يتضمن مناقشات لأهل الكتاب، وهذا القسم ينتظم تقريبا نصف السورة الأول. أما القسم الثانى الذى يشيع فى نصفها الأخير: فهو التعليق على هزيمة ص _162(3/150)
" أحد " واستخلاص العبر مما أصاب المسلمين فيها من مآس ونكبات. ونحن نستعين الله عز وجل لننظر فى هذه السورة على نحو آخر يقترب من عرضنا الأول لها، ولكنه قد يضيف جديدا إلى هذا العرض. بدأت السورة- بعد حروف الهجاء المقطعة- بقول الله جل شأنه: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم). وصف رب العالمين نفسه بثلاث صفات: أنه لا إله إلا هو: أى لا شريك له، فما عداه عبد خاضع لجلاله، محتاج إليه. الصفة الثانية: الحى: حياته من ذاته، يفيض الحياة على غيره وغيره لا حياة له من ذاته، وإنما يكسب حياته من الله جل جلاله. الصفة الثالثة: القيوم: ومعنى القيوم: أن العالم علوه وسفله، عرشه وفرشه، ما نراه ومالا نراه، إنما يقوم لأن الله يمده بتيار الوجود، فإذا انقطع هذا التيار- لأن الله قطعه- فإن وجود العالم يتلاشى تلقائيا ويستخفى ويتحول إلى صفر وعدم مطلق!!. الأوصاف الثلاثة للذات الأقدس ترد على أهل الكتاب من يهود ونصارى وأيضا ترد على المشركين أنفسهم. ولكى نلقى نظرتنا ونحن نعرف ما يشيع فى السورة من أولها لآخرها، ولكى نستكشف المحور الذى تدور عليه السورة نوجه النظر إلى كلمة تكررت سبع أو ثمانى أو تسع مرات فى هذه السورة هى مفتاحها، هذه الكلمة هى: " آيات الله". تكررت- فيما أذكر- على النحو الآتى: (إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم). ص _163(3/151)
(يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون). (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون). (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين). (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون). (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب). فكلمة " آيات الله " تكررت فى هذه السورة فيما قرأت من آيات وفيما لم أقرأ- لأنى لم أستوعب إلا على عجل- على هذا النحو . نريد أن نتعرف على معنى كل آية من الآيات التى قرأناها، وما المقصود أولا " آيات الله "؟. إن الظاهر من كلمة " آيات الله " مع استعراضها فى سورة آل عمران أنها تعنى القرآن الكريم على أنه الوحى الالهى المصون المبرأ الذى كتب الله له الخلود، فما تستطيع بتة أن تقول الآن: إن الله فى القارات- الخمس وحيا خالصا مأمونا يُطمأن إلى صدقه وصفائه وخلوصه ونقائه إلا فى هذا المصحف المصون !!. وكلمة " آيات الله " ترددت فى هذه السورة ترد على أنواع من الخلق وأنواع من الشبه.. و لكى نعرف- بالضبط- كيف فتحت السورة بالكلام عن الله، ص _164(3/152)
وكيف أن النقاش بدأ مع أهل الكتاب فى النصف الأول من السورة، وكيف ختمت السورة بالكلام عن آيات الله، لكى نعرف هذا نعود بالنظر مرة أخرى إلى أول السورة. ذكر رب العالمين أنه تعهد الأمم السالفة بوحى لا شك فيه: (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام). الفرقان: الفارق بين الحق والباطل، وهو هنا الكتاب الذى استوعب ما فى الصحف الأولى التى نزلت على إبراهيم وموسى وعيسى، وفى الوقت نفسه جدد هداية الإنسانية بما أفرد الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من وحى خاص، زاد به على غيره، وكفل به معاش الناس ومعادهم ما بقى على ظهر الأرض بشر يحتاج إلى هدى!!. الناس تتصور كلمة " الكفر " على نحو يحتاج إلى شئ من الإيضاح. الوثنيون سموا كفارا، هل معنى أن الوثنيين كفار أنهم كانوا ينكرون الله؟. لا. كان الوثنيون يؤمنون بالله، ولكنهم كما حدث القرآن عنهم: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون). نحن نتصور أن الكفر هو إنكار الألوهية، إن إنكار الألوهية من أصلها كفر لا شك فيه، لكنه كان قليلا فى الدنيا قديما وإن كثر فى عصرنا هذا كثرة شنيعة.. أما الاعتراف بالألوهية فكان موجودا فى الديانات القديمة أرضية كانت أو سماوية، فالمشركون يؤمنون بأن الله موجود، و بأنه الخالق، و بأنه الرازق، وبأنه مدبر الأمر، وبأنه مالك السمع والبصر، وما فكر أحدهم فى أن حجرا خلق أو رزق، تلمح هذا فى قوله تعالى: ص _165(3/153)
(قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون * فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون) كان هؤلاء يؤمنون بأن الله هو الخالق الرازق المدبر لكنهم اعتقدوا أن هذا الإله لا يتوصل إليه مباشرة، لابد من شفعاء، ولابد من وسطاء وهؤلاء الشفعاء الوسطاء هم الآلهة الصغرى التى تعتبر فى نظرهم مفتاحا للإله الكبير!! وقد كذب القرآن الكريم هذا كله: (ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا ) (أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا) هذا كفر الوثنيين من عبيد الأصنام، وهناك كفر من نوع آخر، هو كفر أهل الكتاب، وكفر أهل الكتاب من يهود ونصارى جاء من ناحية أخرى، فتصور اليهود- مثلا- للألوهية كان تصورا شائنا فيه غض من عظمة الله، وفيه تشبيه له بالبشر، وفيه جراءة عليه، وفيه افتيات على حقه.. هؤلاء يرون أن الله صارع إسرائيل، وظلت المصارعة طول الليل، وكاد الإله يهزم لولا. أن شيئا من الاحتيال فى اللعب جعله يكسر حق إسرائيل ويتغلب عليه !!. وهؤلاء يرون أيضا أن الله كان يتمشى فى الجنة، وما كان يدرى ما وقع من آدم عندما أكل من الشجرة حتى أخبره آدم . وذكر " سفر التكوين " أيضا الذى ذكر القصتين السابقتين: أن الله ندم بعد خلق آدم لأنه ما كان يدرى أنه سيكون على هذه القساوة أو الشقاوة !! فهؤلاء كان جهلهم بالله غليظا بحيث جعلهم يتصورونه على نحو لا يليق. ص _166(3/154)
وتعبير القرآن فى سورة آل عمران: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) فيه تكذيب لهذه الصور كلها. وعندما قال الله فى سورة آل عمران: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء * هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) ، إنما كان يرد على هذه التصورات التى شاعت فيما يوصف الآن بأنه " توراة "، وما يعطى عنوان " الكتاب المقدس "!!. والواقع أن هذا الكلام ما جاء على لسان موسى، ولا أنزله الله على قلب أحد من خلقه، لأن هذا الكلام باطل فى وصف الألوهية تماما. إذن الآية الأولى: (إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) تتناول أصحاب الديانات الأرضية والسماوية كلهم، لماذا؟. لأنهم إما أشركوا بالله، وإما وحدوه على نحو طائش، والإسلام يرفض هذا كله. الديانة الأخيرة قبل الإسلام، وهى النصرانية جعلت الله أجزاء، وجعلت جزءا منه يوصف بأنه ولد له وهذا الولد هو كذلك إله معه: (وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين). كل هذا رفضته الآية الأولى فى السورة عندما قالت: (إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) هذا المعنى انضم إليه شىء ينبغى أن يعرف، وهو أن الباطل فى عصور كثيرة قد ينضم إليه ما يقويه وما يزينه وما يجعل له فى القلوب رهبة، وما يجعل له فى أنحاء المجتمع سطوة، وربما ازدان الباطل بأشياء تجعل له ص _167(3/155)
أبهة وفخامة، فى أحيان كثيرة يستعين المبطلون على فراغهم العقلى بالمظاهر الحسية الضخمة فتكون بيوت العبادة أشبه بالحصون الشامخة، والقلاع الضخمة تعويضا عن فراغ العقيدة مما يجعلها مقبولة عقلا، لكن القرآن الكريم ناقش هذا الاتجاه عندما قال المشركون فى الرد على رجال الإسلام وحملة دعوته: نحن خير منكم مسكنا وأعظم وأفخم ناديا : (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا). عندما قالوا هذا كان الجواب الإلهى: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا). أى أن المنظر الحسن، والأثاث الفخم، والقلاع الشامخة لا قيمة لها إذا كانت تخدم خرافة، أو كان ما تحتها شيئا لا وزن له فى ميدان العقل، وهنا لا قيمة للمال، ولا قيمة للجمال، ولا قيمة للمنظر، لأنه لا خير فيه. وهنا تجد سورة آل عمران تحدثت عن هذا فى قوله تعالى: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار * كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب). كان آل فرعون أصحاب أموال طائلة، وقصور شامخة،. ومظاهر فارهة، فماذا حدث؟ دعا موسى عليهم فقال: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم). فضاع كل هذا، وقيل فى تراثهم الذى حرموا منه وضاع منهم: (كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين * فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين). ص _168(3/156)
إن مصلى علي شاطئ ترعة يوحد الله فيه أفضل من مبنى يطاول السحب يشرك بالله فيه!!. الأمر ليس أمر فخامة فى المظهر: (فلا تعجبك أموالهم و لا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا و تزهق أنفسهم و هم كافرون). آية أخرى فى سورة آل عمران ذكرت فيها كلمة " آيات الله " وهى: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم * أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين). فآيات الله هنا رد على اليهود وحدهم، ولكن كما قال العلماء: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. الكلام هنا- فعلا- عن اليهود، لماذا؟ لأنهم هم الذين قتلوا الأنبياء، قتلوا زكريا ويحيى وهموا بقتل عيسى ومحمد، ولكن الله نجى نبييه كليهما عيسى ومحمدا، فما قتل أحدهما برغم المؤامرة التى دبرها اليهود وأحكموا خطتها، والآية هنا تقول: إنهم ضموا إلى محاولتهم قتل الأنبياء بذل الجهود لقتل كل من يأمر بالعدل: (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس) والذين يقتلون من يأمر بالقسط من الناس إنما يمثلون أنظمة إجرامية، والأنظمة الإجرامية قد يكون اليهود قد بدءوا بها أو اخترعوها أو شجعوا عليها، لكنها بغير شك انتشرت فى القارات الخمس، ووجد حكام كثيرون استطاعوا ـ من إملاء القدر لهم ـ أن يصدروا الأوامر بقتل الأبرياء، وأن يستحلوا دماءهم، وأن يملأوا بالترويع والقلق والرهبة والجزع نفوس من حولهم، وهؤلاء ينطبق عليهم ما انطبق على اليهود فى هذه الآية عندما بين رب العالمين أن ما يطلبه هؤلاء من عزة لهم- بهذا القتل- ومن كبرياء وجبروت- بهذا الإرهاب- لابد أن ينتهى إلى فشل، قال جل شأنه: (أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين). ص _169(3/157)
أى أن الناصرين يعجزون عن أن يدفعوا عنهم، أو أن يردوا قدر الله إذا دهمهم، فإن قدر الله عندما يفجأ الجبابرة يجيئهم من حيث لا يحتسبون، فقد يحصنون السقف، وقد يحصنون الجدران لأنهم يظنون أنه من هنا قد يجئ الفزع الذى يخافونه، ولكن عندما يريد الله فإنه يزلزل الأرض نفسها: (قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون). ونمشى مع كلمة " آيات الله " فى سورة آل عمران فنجد هذه الآية: (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون). والظاهر من النظر فى هذه الآية وما سبقها أنها تتجه إلى اليهود والنصارى معا، ذلك لأنه قبل هذه الآية اتجه القرآن إلى اليهود والنصارى فقال لهم: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون * يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون * ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون * ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين). وتمضى بنا الآيات إلى أن تجىء هذه الآية: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين) ، كلمة " آيات الله " هنا جاءت بعد توجيه سديد للمسلمين أن يكونوا منهم أمة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وبعد أن تضمن هذا التوجيه السديد للمسلمين أمرا أن يعتصموا بحبل الله وألا يتركوا أسباب الفرقة تمزقهم، فإن الفرقة هنا ربما ردتهم إلى الكفر، وكثير من أسباب الفرقة قد يعود إلى أسباب خلقية، وقد يعود إلى أسباب دينية. ص _ ص 0(3/158)
فأما الفرقة لأسباب دينية فقد نهى الإسلام عنها فى أول السورة عندما قال: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب). أى أن القرآن تضمن جملة من الآيات المحكمة، هذه الجملة هى أساس القرآن كله، لماذا؟. لأنها هى التى تضمنت العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق وجميع الشرائع المتصلة بالخلق والسلوك، وتنظيم الدولة، وتنظيم المجتمع، فليس فى هذا كله آية متشابهة. إذن أين تقع الآيات المتشابهة؟. تقع عند وصف الله جل شأنه، وهذا طبيعى، فإن وصف الله اكبر من أن تكون عقولنا المحدودة أهلا لإدراك كنهه، واستيعاب جوهره، ولهذا فإن الكلام يجىء متشابها، الراسخون فى العلم يدعون هنا أن يهديهم الله، وأن يجمع شملهم وألا يفرق كلمتهم: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب * ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد). وقد حاول بعض علماء المسلمين قديما أن يدخل فى ميدان العقائد بالفكر العقلى المجرد، وحاول أن يشرح الآيات المتشابهات بطريقة تقربها للعقل الانسانى، فماذا حدث؟ حدث أن قال قائلهم: نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعى العالمين ضلال! ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ! وكم من جبال قد علا شرفاتها رجال فبادوا والجبال جبال! ص _ ص 1(3/159)
هذا فيما يتصل بالعقائد، أو الخلاف من أجل العقيدة، أما الخلافات الأخرى فالذى تكشف لى من استقراء أحوال الناس أنها إمآ أن ترجع إلى بلاهة فكرية، وإما أن ترجع إلى رذيلة خلقية، وهذا ما يقع بين كثير من المسلمين، فإن بعضهم بعقل أبله يريد أن يضخم أحكاما صغيرة فى الإسلام ليجعلها عقائد، و بالتالى يحمل على غيره إذا لم يفعلها. شىء آخر، بعض الناس- فعلا- يستغل الخلاف ليفرض نفسه، لعله مجنون بحب الظهور، لعله مجنون بانتقاص الآخرين والتهجم عليهم ، وكثير من الذين يتاجرون بالخلافات من هذا النوع، وكلهم تنطبق عليه الآية الكريمة من سورة آل عمران: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين * ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور). ولنا إن شاء الله عودة أخرى إلى سورة آل عمران. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. * * * ص _ ص 2(3/160)
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل. واعلموا أن الأمة الإسلامية أصيبت منذ قرن من الزمن بانهزامات عسكرية وسياسية وحضارية جعلتها فى مكانة رديئة، وأغرت بها غيرها. وأسوأ ما تمخضت عنه هذه الانهزامات أنها أفقدت كثيرا من المسلمين ثقتهم بأنفسهم، واعتصامهم بدينهم، واحترامهم لتراثهم، فظن كثير منهم أن ما عند الآخرين خير مما عنده، وجعلت الكثير من المسلمين يرنو ببصره إلى دول العالم التى قويت، وشعوبها التى ارتقت واغتنت، ينظر إليها وكأنها مثل أعلى، أو كأنها الشىء الذى يستجلب ويتأسى به، وينقل خير ما فيه- أو ما فيه كله- إلى بلادنا!. وبداهة هذه النظرة قواها المستعمرون من شرق وغرب لأن أحب شىء إليهم أن يتعاملوا مع أناس لا يحترمون أنفسهم ولا تراثهم، ولا يكرمون ما لديهم من تعاليم، ولا يرتبطون بما ورثوا من تراث. كان هذا المعنى موجودا منذ قرن فى بلادنا، وقد غذاه-كما قلت لكم- رجال الاستعمار على اختلاف صنوفهم. وقد وجدت- وأنا أتتبع هذا الغزو الثقافى- أن خطط الغزاة فى منتهى الدهاء، وأن مكرهم ص _ ص 3(3/161)
عميق، وأن الأشخاص الذين يعملون لهم من فئات شتى، فيهم ملوك، وفيهم أدباء، وفيهم يساريون، وفيهم صحافيون. المهم أن يأخذ الغزو الثقافى طريقه، ويصل إلى هدفه، فمثلا: من عشرات السنين حكى التاريخ: أن الخديو إسماعيل - وهو ملك- قال: أريد أن أجعل " مصر " قطعة من أوربا!! لو أنه يقصد بالكلمة أن ينقل المصانع، أو أن ينقل العلم، لكان هذا الاتجاه محمودا له، مشكورا عليه، لكن الرجل حلس شهوات، وصاحب أهواء، وكانت غرائزه متنزية متطلعة منفلتة لا ضابط لها، فكان أول ما جعل " مصر " قطعة من أوربا أنه بنى هنا دار " أبرا " !!. إن " اليابانيين " أرادوا أن تكون بلادهم أيضا قطعة من أوربا، فماذا صنعوا؟ استقدموا المصانع، وجاءوا بعلماء مبرزين فى الميدان العلمى فكانت النتيجة أن أخذوا طريقهم الصحيح إلى التقدم!! أما نحن فأخذنا طريقنا إلى الانحراف، ولا شك أن من وراء هذا الحاكم الذى قال: أريد أن أجعل " مصر " قطعة من أوربا وراءه كثير ممن علموه الهزل وممن قادوه إلى هذا الطريق!!. جاء أديب مشهور وكتب فى كتاب له عن " مستقبل الثقافة فى "مصر " يقول: نريد أن نأخذ حضارة الغرب كلها، خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يذم منها وما يمدح، ما يجمد منها وما يعاب!!. هذا معناه إفناء الشخصية الإسلامية، وجعل "مصر" قطعة من أوربا، ولكن كان المسخر قبل ملكا، ثم جاء المسخر بعد ذلك أديبا، والآن يجىء- فعلا- من يكتب فى الغزو الثقافى ممن يصطنعون ص _ ص 4(3/162)
اليسارية، ماذا يقصد؟ لا يقصد إلا تمييع ا الشخصية الإسلامية، وجعل أمتنا ذنبا لغيرها فى كل مجال. لقد وجدت أن الغزو الثقافى فى خطته واحدة، ولكنه يغير الأشخاص، مرة ملك، مرة رئيس جمهورية، مرة عميد كلية، مرة صحفى، مرة شيخ طوائف من هذا النوع تكثر وتنتشر، والقاسم المشترك بينهم جميعا أنهم يزهدوننا فى قوانين الله، يزهدوننا فى أحكام الشريعة، يزهدوننا فى أصول العقيدة، يزهدوننا فى قيم الإيمان، يزهدوننا فى مكارم الأخلاق، يزهدوننا فى أصول العبادة وشعائر الإسلام!!. هذا هو الخط الذى جمع أولئك كلهم، أريد أن أوجه النظر إلى أن الغزو الثقافى يستأنف طريقه بألف حيلة، ولكننا كما علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم: " لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين " . لقد لدغنا من هذا الجحر فيجب أن نصحوا، وألا نلدغ مرة أخرى، افتحوا عيونكم، ستجدون كلاما غامضا، وكلاما غريبا، وكلاما لا هدف له، ونوعا من التشبث المقصود منه جعل الأجيال المتعلمة فى بلادنا تدرر فى دوامة لا آخر لها, والمهم إبعاد الإسلام عن الطريق، عن النهضة، عن التشريع، عن العلم، عن المعرفة، عن التقاليد!!. ونحن مستمسكون بديننا، ولا نريد- خصوصا بعد معركة رمضان- أن ندع الزمام تتحرك به أيد عميلة للغزو الثقافى، افتحوا عيونكم فإن مستقبل الإسلام مرهون بالسنوات القادمة التى تقع بعد " معركة رمضان ". هناك من سيحاول إبعاد الإسلام عن كل شىء، ولكننا سنضرب على يديه ونفرض دين الله استجابة لجماهير هذه الأمة التى ترفض الإلحاد، وترفض الانحراف، وترفض الاتجاهات المادية، وترفض أن يهمل دينها فى تشريع أو فى قانون !!. ص _ ص 5(3/163)
" اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة.. * * * ص _ ص 6
2ـ نظرات فى سورة أل عمران أهل الكتاب كما تحدثت عنهم السورة خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه 15/2/1974 م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فقد استعرضنا- بسرعة- بعض هدايات الله فى سورة آل عمران، وأبنا أن النصف الأول من السورة ناقش عقائد أهل الكتاب ومسالكهم.. واليوم نبدأ بتفصيلات لهذا الموضوع تلقى عليه أضواء كاشفة ولنلحظ بين يدى هذا الكشف أن الله جل شأنه أفهم المسلمين كما أفهم غيرهم أن التدين الصحيح يقوم على عقيدة واضحة فى الله الواحد جل شأنه. ومع هذه العقيدة الواضحة لابد من خلق ضابط وثيق يحكم الغرائز البشرية، ويكبح جماحها، ويقيم سدودا قوية أمام تياراتها، فإن هذه النفس البشرية قد تجيش فيها أهواء جامحة، إذا لم تكن السدود أمامها قوية انهارت، ومضت هذه الأهواء إلى غايتها دون ضابط أو رادع أو وازع.. ص _ ص 7(3/164)
نلمح هذا فى قوله جل شأنه : (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا). هذا حق، إن النفس البشرية تهوى النساء، وتهوى الأموال، وتهوى الزينة والمتعة، لكن هذا الذى تهواه إن عبدته من دون الله قتلها، وإن تناولته باسم الله أحياها!! إن لجج الماء قد تغرق الزرع فلا ينبت، وقد تغرق الإنسان فيهلك، لكنه إذا تناول هذا الماء بقدر منظم فإنه يحيا به، كما أن هذا الماء إذا ارسل إلى الأرض بمقادير معقولة نبت عليه الزرع والضرع، ولذلك قال الله- بعد أن وضح حقيقة النفس البشرية، وأن هذه الميول مفطورة عليه نفوسنا-: (والله عنده حسن المآب * قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد * الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار * الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار). إذا لم يكن التدين صانعا لخلق يحكم الهوى، وإذا لم يكن التدين صانعا لعاطفة رقيقة تجعل المرء يحنى رأسه وصلبه لربه، ويشعر بضعفه فيستغفر ذنبه، وينهض. فى الهجعات الساكنة كى يرقق روحه بمناجاة الله وطلب خيره، إذا لم يكن التدين صانعا لهذه المعانى فهو تدين شكلى لا خير فيه !!. كما نلحظ معنى آخر- بدأت السورة تنبه إليه- وهو أن التوحيد عقيدة عقلية، فإن الايمان بأن رب هذا الكون واحد- هذا المعنى- هو حكم العقل الصائب، ومنتهى العلم السديد، وأن الشرك خرافة، وأن التثليث جهالة، وأن كل ما يعكر رونق العقيدة الصحيحة فى إله واحد فهو ضلال مبين، ولذلك تقول السورة: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم). وأكدت السورة المعنى مرة أخرى فقالت: ص _ ص 8(3/165)
(شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم). لكن أهل الكتاب شردوا عن هذه المعانى، وأهل الكتاب- من يهود ونصارى- لما شردوا سجل القرآن- هنا فى هذه السورة- شرودهم، وهو بذلك كأنما يقول للمسلمين: إياك أعنى واسمعى يا جارة !!. الكلام تأنيب وتوبيخ لمن ضل وشرد، وهو فى الوقت نفسه تحذير وتعليم لهذه الأمة ألا تسلك ما سلك غيرها من أسباب الانحراف والعوج. أول ما ذكرته السورة هنا- بعد الملاحظتين اللتين قررناهما الآن- هو أن اليهود تركوا العدالة، ورفضوا أن يقوم الناس بالقسط، ولم يتركوا العدل والقسطاس فقط بل اتجهوا إلى دعاة العدل، وإلى الآمرين بالقسط فطوحوا بهم، ونالوا منهم، وأعدموهم، يقول الله جل شأنه: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم). إن المجتمع الذى يرفض العدالة، ويحيف على دعاتها لابد أن يستباح، ولابد أن يؤخر عن مكان الصدارة، وهو معنى يصوغه النبى- صلى الله عليه وسلم - فى حكمة بالغة، وكلمة موجزة، يقول: " إنه لا قُدِّست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع " . ص _ ص 9(3/166)
معنى لا تقدس أمة: أنها أصبحت مستباحة، إذا عدت عليها العوادى ونالت منها شر نيل فإن ذلك عقوبتها التى تستحقها، وهذا ما صنعه اليهود بأنفسهم، وما تصنعه كل جماعة ظلمت نفسها بنفسها. بعد ذلك- مباشرة- بين القرآن الكريم أن هؤلاء اليهود رفضوا الحكم بما أنزل الله، وتركوا آيات الوحى خلف ظهورهم، ما يحبون أن يعملوا بها، وليتهم لما تركوا العمل بها شعروا بخزى التقصير، لا. إنهم مع تركهم الحكم بما أنزل الله تبجحوا، وظنوا أنهم مع تركهم للحق النازل من السماء أن لهم عند الله مكانة، وأنهم يستحقون منه الجوائز!! علام؟! علام تنالون الجوائز أو تنتظرون التمكين؟ على تفريطكم؟ (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون * ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون). والأمم- ومن بينها الأمة الإسلامية- أحيانا ترتكب الدواهى ثم تظن أن لديها ضمانا يمنع عقوبة الدنيا والآخرة عنها، وكثير من المسلمين يفعلون بدينهم الأفاعيل ثم يقولون متبجحين: أمة محمد بخير!! وأمة محمد صلى الله عليه وسلم إنما تكون بخير يوم تكون وفية لمحمد صلى الله عليه وسلم ويوم تكون موقرة للكتاب الذى نزل عليه، ويوم تكون منفذة للتعاليم التى جاء بها، أما أن تنتسب إليه شكلا ثم ترفض مقتضيات هذا النسب موضوعا فهذا لعب بالدين سبقت إليه الأمم التى يحكى القرآن- الآن- قصتها، فنالها ما نالها. ماذا نالها؟ نالها أن الله صرف عنها نعمته، فإن اليهود كانوا يملكون القيادة الروحية للبشر، وكانوا يحتكرون رسالات السماء على امتداد القرون، ولكن لفا فعلوا هذا الذى ذكرنا صرف النظر عنهم، وأتى بغيرهم ليقود البشر، وهذا المعنى ـ فيما تلونا من آيات ـ هو التمهيد لقوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل(3/167)
شيء قدير). بعض قصار النظر يتصورون أن المشيئة الإلهية تخبط فى الوجود خبط عشواء !! وهذا التصور جهل فاضح، فإن المشيئة الإلهية- هنا- قبل أن ص _180
تجئ بهذه العبارات فى هذه الصيغة ذكرت الحيثيات التى من أجلها نزع الله الملك من اليهود وأعطاه الأمة العربية، وفى سورة أخرى يقول الله عن اليهود: (أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) والملك- هنا- ليس وراثة العروش، ولكن الملك- هنا- هو السلطة التى يمنحها الله من يقومون باسمه، ومن يصنعون الخير لعباده، ولهذا وجدنا الآيات- هنا- تحدثت عن السر فى أن الله حول النبوة من نسل يعقوب- أى من بنى إسرائيل- إلى نسل إسماعيل إلى محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ,واختار الأمة العربية لتصحب هذا النبى فى مسيرته وفى هدايته فقال: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير). والخير بيد الله يقينا، ولكن الله ما يمنح خيره إلا عبدا رفع يديه ضارعا يطلب من الله بذل العبيد أن يمنحه!! إن الله عز وجل لا يعطى خيره عبدا أدار لله ظهره، ولم يسلم إليه وجهه!!. إن الله عز وجل بيده الخير، ولكنه يعطى الخير من يرشح نفسه للعطاء بأن يعرف لله ألوهيته وللبشر عبوديتهم!!. أما ما عدا ذلك من مسالك فلا خير فيها. واستطرد الكلام عن اليهود فى مواضع شتى من السورة، نكتفى منها بقوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون). هؤلاء اليهود ظنوا أن الفضيلة تنقسم، وأنه يمكن أن يكون الانسان عفيفا عاهرا، أمينا خائنا، صادقا كاذبا !! وهذا يستحيل، فإن الفضيلة لا تنقسم، الرجل العادل يعدل فى كل شىء، الصادق يصدق فى كل شىء، الأمين أمين فى كل شىء، والله عز وجل عاب على(3/168)
اليهود فقدانهم ص _181
خلق الأمانة ورغبتهم فى اجتياح حقوق الآخرين.. إن الذى وقر فى نفس اليهودى أنه شخص ممتاز ، وأن هذا الامتياز الفردى، أو هذا الاختيار الشعبى يبيح له أن يأكل حقوق الآخرين !!. والإسلام أو الدين الحق يأبى هذا السلوك، إذا كنت معاهدا أحدا، أو معاملا بشرا فكن مؤمنا تقيا، ارع عهدك، واحترم حق كل إنسان: (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين). وفى هذا يقول النبى صلى الله عليه وسلم: " ألا من ظلم معاهدا أو انتقضه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة " ولماذا يكون النبى صلى الله عليه وسلم حجيجه؟. لأن النبى صلى الله عليه وسلم يريد أن يعرض دينه على الناس نظريا بحجة مقنعة، وعمليا بسيرة مشرفة، فإذا جاء مسلم وعامل الناس معاملة شائنة واتصل بغير المسلمين اتصالا يكون معرة للإسلام فهذا صاد عن سبيل الله، وهذا عدو لمحمد، محمد يدعو الناس إلى دينه، وهذا يصد الناس عن دينه!!. . نكتفى بهذا القدر من استعراض الآيات المتعلقة باليهود لننظر إلى الآيات المتعلقة بالنصارى فى النصف الأول من هذه السورة. إن عقيدة التوحيد- بكل ما فى التوحيد من رشد وصواب- هى لب الرسالة الإسلامية، وكما بينا هى الثمرة لأى بحث علمى فى آفاق السماء أو فجاج الأرض، كل شىء فى الأرض أو فى السماء يشير إلى أن الرب واحد: ص _182(3/169)
(ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون * عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون). لكن النصارى ضلوا، وقالوا: إن هناك ثلاثة، كل واحد منها يسمى إلها ، وكان الخطأ الذى وقعوا فيه غريبا ما يطيقه عقل، ولا يرتضيه علم، ولا تنتجه مقدمات منتظمة، لكن القوم استقروا على هذا!!. وقد تحدث القرآن الكريم فى سورة آل عمران فوجدنا أنه ناقش هذه العقيدة بنموذجين: نموذج مختصر- نذكره على عجل- وهو إذا كان وجود عيسى من غير أب شبهة تجعل بعض الناس يظنون الله أباه، إذا كان وجود عيسى بهذا الأسلوب سببا لأن يتصور بعض الناس أن رب العالمين والده، إذا كان الأمر كذلك فآدم أولى بالعبادة منه، فليس له أب ولا أم، وهنا يقول القرآن الكريم فى إيجاز: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين). أى فلا تكن من الشاكين، هل شك نبينا صلى الله عليه وسلم ؟ هذا مستحيل، وإنما يقول العلماء: إن الصيغ البلاغية فى اللغة العربية أحيانا تجىء بالفعل أمرا أو توكيدا أو بأى صيغة كى تجعل من على أمر من الأمور يبقى فيه، ويظل عليه. تقول للمجتهد الذى نجح فى جنى ثمرات اجتهاده: اجتهد، هو ليس كسولا، ولكنك بكلمة " اجتهد " تغريه أن يبقى على نشاطه، وأن يظل على مثابرته، وأن يقاوم أسباب الكسل التى قد تحيط به، كذلك (فلا تكن من الممترين) هذا نوع من استبقاء الرسول صلى الله عليه وسلم على الحق الذى شرفه الله تعالى به، وتأنيب للآخرين الذين ضلوا عنه، فهو يقول له: لا تكن مثل هؤلاء. ثم قال له: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين). فمن حاجك فيه: جادلك. من بعد ما جاءك من العلم: لأن غير هذا جهل. ص _183(3/170)
ماذا نعمل؟ نحن مخلصون، أصحاب حقيقة، تزعمون أنكم على حقيقة؟ تعالوا ندعو الله أن يهلك الكاذب، وكان ذلك فى مناظرة بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين بعض أساقفة النصرانية الذين جاءوا يجادلونه فى عقيدة التوحيد، ولقد رفض القوم أن يدخلوا فى هذه المباهلة، وأن يقفوا فى ساحة يتجهون فيها إلى الله أن يهلك من يفترى عليه الكذب. قبل هذا بقليل تحدثت السورة عن خوارق للعادات تقع غالبا فى جو النبوات، فإن الله عز وجل يريد أن يقول للناس: إن ميلاد عيسى مخالفا للسنن الطبيعية، أو للقوانين المعتادة لم يكن بدعا فى البيئة التى عاش فيها، فإن مريم أمه كفلها زكريا، فكانت هذه الأسرة مسرحا لبعض العجائب التى وقعت، كان زكريا يدخل فيجد طعاما لم يأت به عند مريم: (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) لما شعر زكريا بأن خوارق العادات تقع حوله طمع فى فضل الله، وكان رجلا شاخ، وهن عظمه، وتغصن جلده، وتأخرت سنه، وكانت امرأته عقيما، لو كان مع شيخوخته يتزوج امرأة مخصبة لكان هناك أمل، لكنه قد شاخ، والمرأة عقيم- مجدبة-: (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين * قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء) هذا المعنى فى جو النبوات من خوارق للعادات هو الذى حدث، وكون امرأة عقيم طول حياتها تنجب، وكون رجل انقطع من الناحية الجنسية ينجب فهذا خارق للعادة كولادة عيسى من أم بغير أب، وكما خلق آدم هكذا بدون أب وأم يستطيع أن يخلق ما يريد، هذه هى القصة، تختم القصة بخلاصة هى: ص _184(3/171)
(ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون). على هذا المعنى، أو فى هذا النطاق ذكرنا بعض المناقشات التى تضمنتها الآيات الأولى من سورة آل عمران. وقد ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ".. إن المغضوب عليهم اليهود وإن الضالين النصارى " . هؤلاء غضب عليهم، هؤلاء ضلوا سواء السبيل . إذا انتهينا علميا من هذا البحث فلنقل: إن الصداقة شىء والفروق العلمية المؤكدة شىء آخر، فأنا مكلف دينا أن أكون برا وعندى شرف وخلق وذمة مع من لا يدين بدينى ما دام لا يكيد لى ولا يتآمر على ولا ينتصب عدوا أمامى، ما دام سليما معى فيجب أن أكون أكثر منه برا، وخيرا منه عدالة، وأشرف منه سلوكا، فنحن أولى بالبر والخلق والصدق من أى إنسان على ظهر الأرض، لكن الخلق الفاضل، والحكم العادل، والصلة الطيبة شىء والفروق القائمة بين العقائد شىء آخر، فإذا صادقت أو صالحت أى إنسان من أهل الكتاب، وعاملته بالبر وبالعدل فهذا لا يخدش أو لا يقرب بين العقائد المتناقضة.. نحن أصحاب توحيد نحرص عليه ونرفض أن يمس، وغيرنا صاحب خرافة لا يمكن مهما كانت هناك صداقات أن نقترب منها أو نرحب بها أو نصطلح معها. العقائد شىء والسلوك الواجب على مقتضى الشرف والأمانة شىء آخر. أقول قولى هذا و أستغفر الله لى ولكم . ص _185(3/172)
الخطبة الثانية الحمد لله: (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء، سيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل. أيها الإخوة: ينبغى ألا ننسى أن الله سترنا فى المعركة الأخيرة، وأنه طول أسلحتنا القصيرة، وأنه أعاننا بجند من عنده، ينبغى ألا ننسى هذا.. لكن يبدو أن بعض الناس يريد أن ينسى رمضان، ومعركة رمضان وفضل الله الذى أدرك هذه الأمة فى رمضان وإلا فما معنى أن تذهب إلى " الزيتية "- فى " السويس "- جماعة من الممثلين ليعرضوا رواية مسرحية؟. هذه واحدة، شىء آخر، ما معنى أن يذهب طلاب من الجامعات ما يبقى إلا أن يضفروا شعورهم ليكونوا نساء- إلى الجنود وينظر الجنود إليهم ثم يتساءلون: ما هذه الشعور؟ وما هذه البنطلونات الحمراء؟ وما هذه المظاهر السمجة؟. ص _186(3/173)
وثالثة الأثافى وفضيحة الفضائح: جامعة الأزهر!!. أرادت جامعة الأزهر أن تحتفل بـ " العبور " فقررت إقامة ليلة ساهرة بعدد من الراقصات والمغنيات والممثلات!! ما هذا؟!! إننى أستغرب أن يقع هذا فى أى جامعة من الجامعات المدنية، فكيف تفكر جامعة الأزهر فى هذا؟!. لكن هذا الذى حدث هو فى الحقيقة فرض لكى يعلم المسلمون الواقع فى الأزهر.. أنا رجل أزهرى، وأعلم علم اليقين أن الأزهر وضعت له خطط جعلت الخيانات العلمية- الآن- تملؤه!! وأنا أنبه المسلمين إلى أن الأزهر إذا بقى على وضعه الحالى- عدة سنين- فسيخرج علماء لا يحسنون أن يقرأوا القرآن فى المصاحف !!. إذا بقى الأزهر على وضعه الحالى فإنه سيخرج منه ناس يكرهون أن يصلوا بالناس فى المساجد !!. إذا بقى الأزهر على وضعه الحالى ولم تتداركه عناية الله فإن أمر الإسلام إلى شر !!. ذلك أن الأزهر- فى حقيقته- مصنع الأدوية لعلل الأمة، فإذا غشت الأدوية التى يصدرها المصنع فإن العلل ستبقى مضاعفة !!. إن الأزهر يعانى، وقد وضعت له خطة محكمة كى يدمر، وأنا أوجه نظر المسلمين لهذا.. إن كل أهل الأرض الذين يتبعون ديانات أرضية أو سماوية اختاروا العمالقة فى أبنائهم وأشخاصهم، اختاروا أعتى الرجال وأقواهم كى يقودوا هذه الديانات!!. أما الأزهر فقد وضعت الخطة ليقوده المخابيل ، وليقوده المرضى بعقولهم والمرضى بأخلاقهم. ص _187(3/174)
إن الوضع غريب فى الأزهر، وإن جامعة الأزهر عندما تفكر فى أن تجئ ببعض النساء المغنيات للاحتفال بليلة العبور تكون بهذا قد سجلت الجريمة المنكرة على ما وصل إليه الأزهر من انحطاط وانهيار!!. كنا نريد أن يحتفل الأزهر فيعرض فصلا ثقافيا من خصوبة التشريع الإسلامى وسعته لمصالح الأمة، كنا نريد أن يعرض تفسيرا موضوعيا لسورة القتال وكيف أن الاعتماد على الله يجئ بالخير، كنا نريد أن يتحدث الأزهر عن اللغة العربية ويذكر نماذج من أدب القتال من الشعر الفحل الذى قيل أيام الحروب الصليبية وأيام الحروب الأولى كى يعرض على الناس ألوانا من أدب القوة لا يعرفها الأدب المائع المخنث الذى يتبناه الآن بعض محترفى الأدب. إننى ألفت النظر إلى هذا الوضع إن بقى فإن الإسلام يهدد، إننا بحاجة إلى أن نعود إلى العلم الدينى والثقافة الدينية والخصوبة الإسلامية والمعارف التى تتفجر من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فتحيى موات هذه الأمة. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا, وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). وأقم الصلاة... * * * ص _188(3/175)
3ـ نظرات فى سورة أل عمران النكبة الكبرى خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه فى 22/2/1974 م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإن المسلمين يعلمون أن القرآن الكريم لم ينزل جملة واحدة، وإنما نزل مجزءا، وقد أفادت تجزئته- هذه- فى معالجة قضايا متجددة، ورد شبهات مثارة، ومواجهة أحداث تكترث لها الأمة. ولعل سورة آل عمران مثل لنزول القرآن مجزءا يناسب ما تواجهه الأمة من أحداث، وما يلابسها من حرب أو سلام. وقد قلنا: إن النصف الأول من السورة تعرض لأهل الكتاب، أو واجه الحرب الباردة التى شنوها على الإسلام والتى لما تتحول بعد إلى حرب دامية ... أما النصف الأخير من السورة فإنه واجه المشركين الذين لم يكفهم أن أخرجوا الإسلام من وطنه الأول- فى مكة- حتى أرادوا متابعته حيث استقر كى ينالوا منه، ويجهزوا عليه، فتحولت حربهم الباردة الأولى إلى حرب ساخنة مدمرة... ص _189(3/176)
كان المسلمون يواجهون هذه القوى المعتدية الباغية التى انتشرت على جبهات عريضة تريد أن تنال من الإسلام، وأن تضع العقبات فى طريقه، بل تريد أن تجتث جذوره، وأن تطفىء نوره... فكانت العلاقة بين أول السورة وآخرها هى أن المسلمين ينبغى أن يواجهوا تلك القوى كلها فى لحظات واحدة، ومفتاح هذا من قوله تعالى: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور). كان الأمر بالنسبة لأهل الكتاب أمر مناقشات عقلية كان للإسلام فيها الفوز وله الغلب، لأن ديننا يعتمد فى حواره على المنطق السديد، والفكر الناضج، والعلم الصادق، وما يبارى فى هذه المجالات جمعاء، إلا أنه فيما يتصل بأهل الكتاب فقد أمرنا الله أن نعامل أهل الكتاب معاملة معتدلة، وألا نجادلهم فى شئون الدين إلا إذا بدأوا ذلك فليكن جدالنا لهم حسنا ، وقد زاد النبى صلى الله عليه وسلم إلى هذا أنه أوصى المسلمين ألا يفضلوه على موسى أو عيسى أو أحد من الأنبياء السابقين، ومع أنه- يقينا- أعلى الرسل قدرا- لأنه أوسعهم رسالة، ولأنه أعلاهم درجة- إلا أنه أبى أن يذكر بهذا الفضل، وقال: " لا ينبغى لعبد أن يقول أنا خير من يونس ابن متى " ويونس هو النبى الذى ترك بلده ضائقا بمواقف الكفار فيها، سأمان من المواقف الرديئة التى شعر بها، فكان أن التقمه الحوت وهو مول عن بلده ما يؤدى واجبه، قال تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم * لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم * فاجتباه ربه فجعله من الصالحين) . ص _190(3/177)
إن النبى- صلى الله عليه وسلم - كره أن يفضل على يونس بن متى، وهذا تواضع منه لله أولا.. وثانيا: رغبة فى إطفاء الفتن ومنع المسلمين أن يحرجوا اليهود أو النصارى بتفضيله على أنبيائهم.. فهل ارعوى أهل الكتاب لهذا المسلك، وتأدبوا مع المسلمين، وقدروا هذه المواقف النبيلة؟!. لم يقع هذا !!. والسبب أن المسلمين يؤمنون بأنبيائهم، ويصدقون برسالتهم، وهؤلاء لا يؤمنون بنبينا، ولا يصدقون برسالته، والمسلمون لا يرون حرجا فى أن يبقى أهل الكتاب على عقائدهم، وأن يجمع الكل وطن مشترك، أما أهل الكتاب فكانوا يرون حرجا فى أن يبقى المسلمون على توحيدهم وقرآنهم ونبوتهم ورسالتهم الجديدة!!. هذا المعنى جعل موقف المسلمين- لابد أن يكون- دقيقا، ولذلك أمرهم الله بأن يكونوا- من أهل الكتاب- على حذر، فليحسنوا إليهم، ولكن لا ينبغى أن يستعينوا بهم فى شئون السياسة الإسلامية، أو أن يطلعوهم على خباياها، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون * ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور). هذه التعاليم قُصد بها أن تستطع الأمة الإسلامية السير دون عائق ودون مؤامرات داخلية ودون أن تشعر بغش يتخلل كيانها ويسئ إليها. وبدأ المسلمون- فعلا- يتجمعون على هذا الأساس، ويبنون وحدتهم على ذلك الهدف الواضح، بيد أن أهل الكتاب بيتوا أمرا هو أن يبذلوا الجهود مستميتة لجعل الفرقة تدب بين المسلمين، فهم يشعرون بأن المسلمين إذا قامت لهم وحدة فإن وحدتهم ستنجح رسالتهم، وتوصل ص _191(3/178)
مبادئهم، وتجعلهم يدا واحدة على من سواهم فلا يمكن أن يغلبوا. حاول اليهود ذلك فى " المدينة " عندما نظروا فوجدوا أن المهاجرين من " مكة " وأن رجال " الأوس " ورجال!"الخرزج " الذين أكلت العداوات قلوبهم قديما قد أصبحوا أنصار الله، ثم أصبح الأنصار والمهاجرون جميعا إخوة. كان اليهود يشتغلون بالربا بينهم وبيع السلاح لهم، كانوا ينتفعون بالعداوات المهتاجة التى تثير هؤلاء على أولئك، وتجعل الدم لا يجف من بيوتهم !!. إذن لابد من تمزيق هذه الوحدة، وحاولوها- فعلا- وكادوا ينجحون لولا أن تدخل النبى صلى الله عليه وسلم وأطفأ الفتنة فى مهدها، ونزل قوله تعالى - فى سورة آل عمران-: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين * وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم). فعرف المسلمون أنها نزغة شيطان كادت تحطم كيانهم، وتضيع يومهم وغدهم، وتغضب عليهم ربهم، وتردهم إلى الجاهلية التى خلصوا من شرورها، وعرفوا أن الله شرفهم بهذا الدين ليكونوا به أمة خير، وليكونوا حراسا على تعاليمه، وليكونوا أساتذة للإنسانية كلها بما أودع الله فى هذه التعاليم من حق وبر. ولذلك حددت وظيفة هذه الأمة فى سورة آل عمران بقول الله جل شأنه: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). وأشار إلى أن أهل الكتاب الأولين قد فسدت تعاليم السماء بين أيديهم فأصبح القبيح لديهم حسنا، والحسن لديهم قبيحا، والتوحيد شركا، وفهم الألوهية غلطا، فنبههم إلى أنه ما يجوز للأمة الإسلامية أن تقع فى ما وقع فيه أهل الكتاب، قال تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم). ص _192(3/179)
وأكد رسالة الأمة الإسلامية فقال: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). لكن أهل الكتاب ما نسوا أن كيانهم أو نجاحهم ضد الإسلام إنما يتم بتمزيق الوحدة الإسلامية فدأبوا على ذلك، واستطاعوا على مر الزمن أن يحدثوا فتوقا بيننا، لكن هذه الفتوق سرعان ما تندمل جراحاتها، وتعود الأمة إلى وعيها، وتستأنف باسم الله مسيرتها، إلا أن النكبة الكبرى التى أصابت الأمة الإسلامية فى القرن الرابع عشر للهجرة كانت فوق الظنون، كانت نكبة جائحة تركت آثارا سودا إلى يوم الناس هذا فى مستقبل الأمة الإسلامية. ذلك أن الدسائس الصليبية واليهودية تلاقت.- فى هذا القرن الحزين الجريح- على أمتنا.. كانت الأمة موحدة فى ظل خلافة مريضة معتلة، لكنها خلافة شبح، والشبح- أحيانا- فى الحقول ربما منع الطير المتلصص !! كانت الخلافة شبحا، ولكن هذه الخلافة وقفت دهرا ضد الاستعمار العالمى، وبوسائلها الضعيفة قدرت على أن تصنع شيئا، فكان هدف الصليبية والصهيونية معا ضرب دولة الخلافة ضربا يجئ إلى صميمها فينال منه شر منال.. واتصل الإنكليز- فعلا- بالعرب عن طريق " الشريف حسين " والإنكليز ما كانوا مخلصين للقرآن أو السنة، ما كانوا ولن يكونوا مخلصين لأهل البيت، ما كانوا ولن يكونوا رحماء بالإسلام وأمته. لكن الرجل الطامع الأنانى اتفق مع الإنكليز على ضرب الأتراك. كان الأتراك ظلمة- فعلا- وكان العرب خونة- فعلا- وكانت النتيجة أن ذبح العرب الأتراك فى الحرمين!! وهزم الأتراك هزيمة منكرة بسبب خيانة العرب لهم، والعرب يقولون: خناهم لأنهم ظلمونا!! على كل حال الذى كسب المعركة الكفر والإلحاد!!. ص _193(3/180)
وكانت النتيجة أن الأمة العربية سقطت خلافتها الشبح، وانقسم بعضها- بعد ذلك-كما ينقطع حبل السبحة فتنتثر السبحة مائة حبة أو ثلاثين حبة حسب ما فيها من حبات!!. انتثرت- فعلا- الخيوط التى تجمع الأمة الإسلامية، وأصبحت هذه الأمة لا يعرف بعضها الآخر!!. ولو سألت أى مثقف فى الجامعة- الآن-: أتعرف أن فى " توجو " مسلمين يمثلون اكثر الدولة؟. لقال لك: ما " توجو "؟ ما " ملاوى "؟. دول إسلامية، لكنه لا يدرى، ما يدرى أحد عن الإسلام فى " أفريقيا" شيئا، ما يدرى أحد عن الإسلام فى " آسيا" شيئا، ما يدرى أحد أن المسلمين- الآن- يبلغون ثمانمائة مليون فى العالم ، وحرب الإحصاءات- وهى حرب خبيثة- جعلت المسلمين أنفسهم ما يعرفون عددهم!!. وقد قلت- بناء عن إحصاءات دقيقة من مصادر أمريكية-: إن المسلمين- الآن- فى " الحبشة " نحو 70% ولكن الكثرة المسلمة مسحوقة، والمسجد فى " أديس أبابا " تحيط به بيوت البغايا!!. هذا التمزيق جعل الأمة مجهلة فى كيانها، ولكن على رأس من يقع وزر هذا الجهل؟. الحق يقال: إنه يقع على الأمة العربية!! لماذا؟ لأن " العرب هم دماغ الإسلام وقلبه " احفظوا هذا التعبير.. ص _194(3/181)
ما دام القرآن عربيا، وما دامت السنة عربية، وما دامت الثقافة الإسلامية عربية، وما دامت الكعبة- قبلة المسلمين- فى بلاد عربية فمعنى ذلك أن الجنس العربى- بلغته ودينه- هو المسئول عن العالم الإسلامى كله !!. وعرف الاستعمار هذا، وأدرك أن العرب إذا استيقظوا باسم الإسلام تجمع الثمانمائة مليون مسلم فى وحدة كبرى !! فماذا يصنع؟. اجتهد فى أن يبعد العرب عن الإسلام، ونجحت جهوده، وأذكر لكم مثلا وحيدا- من عشرات الأمثلة التى أعرفها، وربما كتبتها يوما- " قبرص " بلد إسلامى، فتحه المسلمون بعد أن فتحوا " مصر "، فعمر الإسلام فى " قبرص " يقل عشر سنين عن عمر الإسلام فى " مصر " لأن " مصر " حررت من الاستعمار الرومانى فى عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- وحررت " قبرص " من الاستعمار الرومانى فى عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان- رضى الله عنه. ولرواة السنة الشريفة قصة لـ " قبرص " هذه، أحب أن تعرف.. عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الل صلى الله عليه وسلم فأطعمته وجعلت تفلى رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك- قالت: فقلت وما يضحكك يارسول الله؟ قال: ناس من أمتى عرضوا على غزاة فى سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة- أو مثل الملوك على الأسرة- قالت: فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلنى منهم. فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وضع رأسه، ثم استيقظ وهو يضحك. ففلت: وما يضحكك يا رسول الله، قال ناس من أمتى عرضوا على غزاة فى سبيل الله كما قال فى الأول. قالت: فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلنى منهم. قال: أنت من الأولين. فركبت البحر فى زمان معاوية ص _195(3/182)
ابن أبى سفيان، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت ". فلننظر كيف حققت الأيام رؤيا نبينا صلى الله عليه وسلم ؟ ومن الملوك الذين يركبون أمواج البحر؟ وماذا صنعوا؟ قال التاريخ: كان المسلمون فى حرب مع دولة الرومان، ودولة الرومان هى السبب فى هذه المعارك لأنها قتلت رسل النبى صلى الله عليه وسلم ، واشتبكت مع المسلمين- على عهد النبى- صلى الله عليه وسلم- نفسه فى حروب كانت تريد بها القضاء على الإسلام. دولة الرومان دولة استعمارية عجوز هزمت المسلمين فى " مؤتة" وانسحبت دون قتال فى " تبوك "، فكان على المسلمين أن يواجهوا الموقف، وواجهوه واحتلوا " الشام " بعد أن حرروها من الرومان، واحتلوا " مصر " بعد أن حرروها وكانت مستعمرة ذليلة وضعيفة داخل النطاق الرومانى الذى أكلها ماديا ومعنويا، فكان دخول الإسلام فى " مصر " إحياء لها، ومضى القتال فى طريقه بعد وفاة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وشرع عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه يؤدى دوره، وكان يعلم أن رأس الأفعى فى " القسطنطينية " . يقول التاريخ: ذهب عبادة بن الصامت- رضى الله عنه- وذهبت معه زوجه- أم حرام بنت ملحان- وقاتلوا فى " قبرص " إلا أن المرأة أدركتها الوفاة فى " قبرص " فماتت فيها، ويعرف قبرها- إلى الآن- بقبر المرأة الصالحة !! ص _196(3/183)
فماذا حدث لقبرص بعد ثلاثة عشر قرنا من امتلائها بالإسلام؟ عندما هاجم الإنكليز " مصر " واحتلوها احتلوا " قبرص "، كيف؟ كانت " تركيا " موجودة، ودولة الخلافة قائمة، لكنها دولة ضعيفة، فاتفق الإنكليز مع الأتراك الذين يحكمون " قبرص "- وكانوا يحكمون " قبرص " لأن " قبرص " كانت تتبع " الشام "، و " المحافظ " فى- " الاسكندرونة " أو " أنطاكية "- وكانت هذه ولاية شامية- هو الذى يتولى شؤون " قبرص " لأنها قريبة من الساحل السورى، ففرض الإنكليز على الدولة العثمانية أن يقيموا قاعدة لهم فى " قبرص " وأقاموا القاعدة، ورفض السكان المسلمون أن يعاونوا الإنكليز، فماذا صنع الإنكليز؟. بدأوا يستأجرون عمالا يونانيين، فكان مجىء العمال اليونانيين أول الوجود اليونانى فى " قبرص " وبدأوا يكثرون، فماذا حدث؟ قرر اليونانيون أن يأخذوا " قبرص " من الإسلام ودولته!! أكانت " قبرص " فى تاريخها الماضى السحيق تتبع اليونان يوما؟ لا. يقول التاريخ: ما كانت " قبرص " تتبع اليونان يوما من الأيام، فماذا حدث؟ المؤامرات العالمية التى أرادت أن تضرب الإسلام جعلت العرب يؤيدون " قبرص " اليونانية ضد " قبرص " الإسلامية!! هذا ما حدث، أننا مضيا منا فى محاربة الأتراك المسلمين قررنا أن ننضم إلى " مكاريوس " .. واليونان ضد الأتراك المسلمين!! ما هذا؟! بلغت الوقاحة بالسياسة الاستعمارية العالمية أن أوعزت لمنفذيها أن يستقدموا " مكاريوس " إلى " القاهرة " وأن يزور إدارة " الأزهر " ليقال: إن الأزهر مع اليونانيين القبارصة ضد المسلمين القبارصة!! ص _197(3/184)
العرب إذا قرروا محاربة الإسلام فإن الله عز وجل لا بد ـ أن يذلهم، وأن يخزيهم، وأن يُسوِّد بالهزائم وجوههم، وأن يجعل الدنيا تسخر منهم!! لقد قلت: إن العداوات التى تعمل ضد الإسلام كثيرة... العالم الاسلامى يمتد على رقعة بين المحيط الأطلسى والمحيط الهادى، أكبر رقعة فى تجمعات البشرية، ثمانمائة مليون مسلم يملكون أحشاء العالم بين أصابعهم، يملكون ممراته الكبرى، يملكون طاقاته الموجهة، ما يشكو العرب أو المسلمون فقرا! لكن الذى حدث أن الهجوم على الإسلام بدأ بعد تدويخ الفكر العربى فإذا المسلمون فى آسيا يؤخذون أخذا فى ظل " روسيا القيصرية " ثم فى ظل " روسيا الشيوعية "!! البلاد التى أنجبت الامام " البخارى " والامام " مسلم " وأنجبت" فخر الدين الرازى " وأنجبت " جار الله الزمخشرى " وأنجبت خدم القرآن فى باب الإعجاز واللغة: " سيبويه " و " الجرجانى " و"السكاكى " وغيرهم وغيرهم من علماء الدين واللغة!! البلاد التى أنجبت أولئك العمالقة ليست عليها ـ الآن ـ راية تقول: لا إله إلا الله ! الراية التى عليها راية كافرة ملحدة تنكر الألوهية أصلا!! أما المسلمون فى " الهند" فيعلم الله كم يعانون، المسلمون فى "باكستان"، المسلمون فى بقية الأرض الأفريقية والأسيوية ممزقون!! أتدرون من يجمع كلهم؟ العرب، العرب إذا رجعوا إلى الإسلام، أتدرون من يجمع شمل العرب؟ " مصر " إذا تمسكت بالإسلام . نحن بين قراءاتنا لسورة آل عمران عندما نتأمل قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). وعندما نتأمل قوله تعالى: ص _198(3/185)
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ). ندرك أن المكلف بهذا الكلام ابتداء الذين يعرفون اللسان العربى... المسلم " الهندى مسكين ما يعرف العربية، المسلم الزنجى مسكين ما يعرف العربية، المسلم التركى مسكين ما يعرف العربية، فإذا جاء حكم عربى وقرر أن يحارب التجمعات الإسلامية، أو يقف لها بالمرصاد، أو أن يطعن فى نيات أصحابها فإن هذا إنما يخدم الذين يريدون الإجهاز على الإسلام والنيل منه إ! إن أشياء كثيرة يجب أن تعرف، وأن تُنقد... ين أسوأ ما أصاب الأمة الإسلامية فى القاهرة- والقاهرة هى العاصمة الثقافية للعالم الإسلامى- أن الجهاز الذى كلف برعاية العقيدة واللغة وحراسة الآداب العربية أصابه عطب!! إنه لمن المحزن أن أعلم أنه فى يوم الأربعاء المإضى أقامت كلية اللغة العربية- فى الأزهر: حفلا مثلت فيه رواية " الصديقين "- والرواية فيلم هندى! ولا أدرى ما الذى يجعل كلية من كليات الأزهر تشغل نفسها بتمثيل فيلم هندى؟ لا أدرى السبب، ولكن الذى أدريه أن اللغة العربية منكوبة، وأنها مهددة فى يومها ومستقبلها، وأن من عجائب الزمن أن كلية دار العلوم أرسلت مبعوثا لها إلى " !لندن " كى يدرس فقه اللغة فى " لندن " ! فى هذه السنة يقع هذا، سبحان الله. أين كلية اللغة العربية؟ مشغولة بتمثيل فيلم هندى. ! أين فقه اللغة؟ لا تدرى عنه شيئا. لو كان لفقه اللغة أساتذة ما أرسلت " دار العلوم " إلى " لندن " مبعوثا يتعلم فقه اللغة هنالك، وهل " لندن " تُعلم فقه اللغة؟ هذا عجب ! والأعجب من هذا أن " الأزهر "- فى كلية البنات- أرسل فتاة لتتعلم الفلسفة الإسلامية فى " لندن " ! إننا ورثنا مجتمعا ظل جبانا فى نقد الحكومات وأجهزة الحكومة، ظل جبانا لأن الناقد كان يُعتقل أو يُسجن أو يُضرب أو يُهان! وجنت الأمة العربية- فى مصر- ثمرات هذا الجبن أن أذلها الله، ومكن العدو منها، ثم بدأنا نتوب ونتراجع ونأخذ طريقنا(3/186)
إلى ربنا صحيحا. ص _199
فلنعلم أن العقلية الخربة التى ظلت عشرين. سنة تعبث لا تزال موجودة، وأن هذه التصرفات يجب أن تطارد و الا فلسنا أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. ما معنى أن يرسل " الأزهر " فتاة تتعلم الفلسفة الإسلامية فى " لندن " ؟ أو ترسل "دار العلوم " شخصا يتعلم فقه اللغة فى "لندن "؟ اننا بدل أن نحس العار والخزى جئنا برواية فيلم هندى نمثله فى كلية اللغة العردية !! هؤلاء الناس يظنون أن التقدم. فى مخاصمة الإسلام، وأن المدنية فى مخاصمة اللغة العربية والقرآن الكريم والسنة النبوية. إننى أعلم أن بعض الذين حملوا الدكتوراه من العواصم الأجنبية لا يساوون شيئا !! وأن الورق الذى يؤخذ من " لندن "أو" باريس " ورق مزور !! إننى أقول هذا لأداوى عقدة الوضاعة فى نفوس المثقفين عندنا. لنعد فى " مصر " إلى كتاب ربنا وسنة نبينا- صلى الله عليه وسلم- ومناصرة الإسلام، وتصحيح الأجهزة المسئولة عنه. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _200(3/187)
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد عباد الله: أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل ومن باب إحقاق الحق وتقدير الناس أذكر لكم أن الأخ الجليل مدير مكتب الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر اتصل لى وقال لى: إن الإمام الأكبر اعترض الرواية أو الحفلة الماجنة التى نددت بها فى الأسبوع الماضى، وأنه طلب معاقبة المسؤولين عن وضع برامجها!! إننى أريد أن أقرر هذا، وأقرر معه- أيضا- أن الإمام الأكبر رجل فيه خير كثير لأنه هو الذى أوقفنى هذا الموقف، وهو الذى جاء بى إلى هذا المسجد، وهو الذى رأى أن يعمر بعد خراب، وهو الذى تفاءل خيرا فى أن المسلمين سوف يحتشدون هنا- لا حول شخص ولكن- حول فكرة أن الإسلام يجب أن تعلو رايته، وأن تنتصر جبهته، وأن يثوب إليه الذين ابتعدوا عنه وخافوا من الانتساب إليه. جزاه الله خيرا على هذا كله. هذه واحدة، وواحدة أخرى أرى نفسى ملزما بها، إن هذا المسجد ص _201(3/188)
بذل من أجله وعانى فى تعميره السيد الكريم / محافظ القاهرة، والرجل الآن- مريض، نقل من مكتبه مريضا، أظن واجب الوفاء يفرض على المسلمين فى هذا المسجد أن يسألوا الله له العافية، نحن نسأل الله من قلوبنا أن يصحح له بدنه وروحه وأن يسبغ عليه ثوب العافية، وأن يرده إلى عمله فى خدمة هذا المسجد وخدمة الإسلام وأن يجعله مثلا صالحا لإخوانه المحافظين كى يؤدوا واجبهم لخدمة هذا الدين العزيز. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى اليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة * * * ص _202(3/189)
4ـ تاملات فى سورة ال عمران غزوة أحد كما تحدثت عنها السورة خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه فى 1/ 3/ 1974 الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو كل كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فمن لطف الله بعباده المؤمنين أنه إذا وقع منهم خطأ طمأن قلوبهم بتقديم العفو عنهم قبل أن يذكر الذنب الذى فرط منهم، وذلك على نحو ما قال لنبيه- عليه الصلاة والسلام لما قيل الأعذار المختلقة التى تقدم بها المنافقون-: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين). وفى أواخر سورة آل عمران- فى النصف الأخير منها، النصف الذى تضمن معركة " أحد "- نجد أن رب العالمين فتح أبواب المتاب، ويسر للمسلمين الذين وقعت منهم أخطاء أن يرجعوا إلى ربهم، وأن يتخلصوا من أخطائهم، وأن يجدوا الطريق أمامهم مفتوحا لإحراز الثواب الكثير، وذلك فى قول الله جل شأنه: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين). إن هذه الآية وما بعدها نزلت فى أثناء الكلام عن معركة "أحد" وما وقع فيها من أحداث. ص _203(3/190)
والحديث عن معركة " أحد " بدأ من قوله تعالى: (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم). غدوت من أهلك: أى خرجت فى الصباح ترص المؤمنين فى الصفوف التى يقفون فيها كى يؤدوا حق الله عليهم فى الدفاع عن عاصمة الإسلام، وعن حمى العقيدة، ورد المهاجمين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم. بدأ الكلام من هذا الموضع، ثم قبل أن تذكر الهزائم التى وقعت، والآلام التى أحس بها المؤمنون فى قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * هذا بيان للناس وهدى و موعظة للمتقين * ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين). قبل أن تذكر هذه الهزائم نجد هذه الآيات: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين) ، من هم المتقون؟ عرفوا بأوصافهم: (الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) ، من المتقين يقينا كل من يقع منه خطأ ثم يسارع بالخلاص منه، والتوبة الى الله بعده، والبعد عنه جهد الطاقة. وهذا من رحمة الله بعباده، فإنه لم يفترض المؤمنين معصومين، وإنما فرض فى الطبيعة البشرية أنها تخطئ فالخطأ جزء من كيانها، وما يجرؤ أحد على القول بأنه لم يقترف طول حياته ذنبا، ولم يفرط فى جنب الله ويقع منه التقصير، ما يجرؤ أحد على القول بهذا.. ولذلك فإن من عناصر التقوى أن يسارع الإنسان بتنظيف نفسه من الخطيئة إذا هو سقط فيها: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) وبالنسبة إلى الرجال الذين اشتركوا فى معركة " أحد " ووقعت الهزيمة- إن صح التعبير- وهم يقاتلون، فإن الله تعالى أعلن صفحه عما بدر منهم: ص _204(3/191)
(إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم). والكلام عن معركة "أحد" يحتاج إلى شىء من التوضيح والتفصيل، فإن الهزائم لا تستوى، هناك هزائم تقع لأصحابها بعد أن أعدوا الخطة للمعركة، وبعد أن بذلوا الجهد فى بلوغ النصر الذى يحرصون عليه، ولكن عدوهم انتزع النصر منهم لأنه أكثر عددا، أو لأنه أشد سلاحا، أو لأنه أحكم خططا، أو لأسباب أخرى قضت بها حكمة الله جل شأنه. والمعارك من هذا النوع التى تصاب الأمم فيها بهزائم هى معارك تعتبر الهزائم فيها عوارض مؤقتة، فقد انهزم " الألمان " فى المعركة الأخيرة لهم فى الحروب العالمية الثانية، ولكن الهزيمة التى أدركتهم لم تنل من عبقريتهم العسكرية ولا الصناعية، وإنما عرضت لهم الهزيمة لظروف فوق الطاقة، وسرعان ما تغلبوا عليها، ولم تمض سنون حتى تجاوزوا الهزيمة، ورجعوا إلى مصاف الدول العظمى، وكذلك " اليابان ".. والهزيمة التى وقعت فى " أحد " من هذا القبيل. هناك لقاء بين العمالقة، ربما قرأ القارئون أنباء الملاكمات والمصارعات التى تقع فى حلائب الرياضية ان ناس بلغوا ممنتهى القوة، فما يهزم أحدهم الآخر إلا بعد عناء وجهد. هذا نوع من الهزيمة-كما قلنا- يستطع المهزوم فى عواقبه أن ينهض على عجل، وأن يداوى جراحاته برجولة، وأن يستأنف السير فى الدنيا بقدرة، لأن كيانه صلب، ولأن ما وقع له عارض مؤقت. وليست كذلك الهزائم التى أصابت المسلمين فى أيام أخرى من تاريخهم، انهزم المسلمون فى " الأندلس " وخرجوا تاركين هذا الفردوس المفقود، وبكى القائد الخارج لما وجد أن ماضيا عريقا قد ضاع، وأن ملكا ضخما قد تلاشى، فقالت أمه: ابك مثل النساء ملكا تولى لم تحافظ عليه مثل الرجال وكانت هزيمة المسلمين فى " بغداد " التى أدخلت " التتار " ص _205(3/192)
عاصمتهم من هذا النوع أيضا، فإن الخلافة فى " بغداد " كانت صورية، وكان الخليفة ومن حوله ناسا ما يعرفون إلا الشهوات المطاعة، والأهواء المتبعة، والكهانات الباردة، والانتساب للنبى صلى الله عليه وسلم - فى ورق تذكر فيه أسماء الآباء، ولكن ما ينتسبون إليه بالخلق العظيم، ولا بالفعل الكبير. ولذلك لما دخل " التتار " " بغداد " كانوا يقاتلون حكاما من هذا اللون الهابط السخيف الوضيع، فكانت الهزيمة شيئا لابد منه. فارق بين هزائم العمالقة وهزائم المهازيل.. إن المهزول شخص يمشى وهو ضعيف، جراثيم العلة تنخر فى كيانه، فلو لم يضربه أحد لسقط بعد قليل من تلقاء نفسه، لأن العلل تأكل فى جسمه، فالمعركة التى وقع فيها لم يهزم فيها لأنه لقى هزيمة عارضة، إنما هزم فيها لأنها كشفت ضعفه الحقيقى، وبينت ما فى كيانه من علل. ومن هذا النوع ما أصاب العرب سنة 1967 م فإن هزائم العرب يومئذ كانت شيئا طبيعيا، فإن الله تعالى لا يهزم العلم أمام الجهل، ولا يهزم النظام أمام الفوضى، ولا يهزم إخلاص القادة لأممهم أمام خيانة القادة لشعوبهم !!. الفارق كبير بين هزيمة وهزيمة، هناك هزائم تقع لأصحابها فيشعر المنتصر بأن خصمه رجل كبير، وأن انتصاره عليه انتصار له ثمنه، وهناك هزائم تقع لأصحابها فيشعر المنتصر بأنه إنما كان يقاتل من لا وزن لهم ولا قيمة !!. الذين اشتركوا فى معركة " أحد " طراز من الرجال لا نظير له فى الدنيا، ولذلك يرفض بعض المؤرخين القول بأن هزيمة وقعت فى " أحد " ويكتب السيرة النبوية على هذا الأساس، ويقول: لقد وقع قتال فعلا، ولكن موقف المسلمين فى نهايته يشبه موقف المشركين. كان يمكن أن نقول: إن المسلمين انهزموا لو أن شبرا من أرض " المدينة " احتل، ولكن ما احتل شبر من الأرض.. كان يمكن أن نقول: إن المسلمين انهزموا لو أن ما أصابهم أسقطهم فى الحلبة فلم ص _206(3/193)
يستطيعوا نهوضا.. لكنهم بعد يوم كانوا يشتدون فى دروب الصحراء يطاردون العدو، ويطلبون منه أن يتوقف كى ينازلوه مرة أخرى.. ثم شىء أخير وهو أنهم دخلوا المعركة بإيمان راسخ، ويقين باذخ، فانتصروا فى أولها انتصارا كاد يكشف جيش الشرك، بل إن " المشركين رُؤرا وهم يشتدون فى الأرض هربا!! ولولا ما حدث من مخالفة لأوامر النبى صلى الله عليه وسلم ما كانت الخسائر التى نزلت بالأمة الإسلامية يومئذ. لكى ندرك من هم الرجال الذين قاتلوا فى " أحد " أعرض هذه القصص لنعرف كيف يصنع الإيمان البطولة، وكيف يغرى بالتضحية، وكيف يحبب إلى الناس لقاء الله، وكأنه ذهاب إلى حفل تكريم يسعى الإنسان إليه ببشاشة ورغبة!! إن الرجال الذين يكتبون التاريخ بدمائهم، ويوجهون زمامه بعزماتهم هم الذين صلوا هذه الحرب فى " أحد " وحفظوا بها مصير الإسلام فى الأرض. روى أن " خثيمة " قتل ابنه فى معركة " بدر " فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لقد أخطأتنى وقعة بدر، وكنت- والله- عليها حريصا، حتى ساهمت ابنى فى الخروج، فخرج- فى القرعة- سهمه، فرزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابنى فى النوم فى أحسن صورة، يسرح فى ثمار الجنة وأنهارها، يقول: الحق بنا ترافقنا فى الجنة، فقد وجدت ما وعدنى ربى حقا. وقد أصبحت يا رسول الله مشتاقا إلى مرافقته، وقد كبرت سنى، ورق عظمى، وأحببت لقاء ربى. فادع الله يا رسول الله أن يرزقنى الشهادة ومرافقة سعد فى الجنة. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقتل بأحد شهيدا . وكان " عمرو بن الجموح " أعرج شديد العرج، وكان له أربعة أبناء شباب يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما توجه إلى "أحد"، أراد أن يخرج معه. فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن ص _207(3/194)
نكفيك، وقد وضع الله عنك الجهاد، فأتى عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنى هؤلاء يمنعوننى أن أجاهد معك، ووالله إنى لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتى هذه فى الجنة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد، وقال لبنيه : وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة. فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم " أحد " شهيدا. وقال " النعمان بن مالك ": يا نبى الله لا تحرمنا الجنة- وذلك قبل نشوب القتال- فو الذى نفسى بيده لأدخلنها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بم؟ قال: بأنى أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت. واستشهد يومئذ . وقال " عبد الله بن جحش " فى ذلك اليوم: اللهم إنى أقسم عليك أن ألقى العدو غدا فيقتلونى ثم يبقروا بطنى، ويجدعوا أنفى وأذنى، ثم تسألنى: فيم ذلك؟ فأقول: فيك . هذه صورة للرجولة الفارعة التى اصطدم بها الكفر أول المعركة وآخرها فماد أمامها؟ واضطربت من تحت أقدامه الأرض، فما ربح شيئا فى بداية القتال، ولا انتفع بما ربح آخره. وهذا اللون من البطولة مدفون تحت جدران التاريخ الإسلامى القائم إلى اليوم. ص _208(3/195)
وما يقوم للإسلام صرح، ولا ينكشف عنه طغيان إلا بهذه القوى المذخورة المضغوطة فى أفئدة الصديقين والشهداء. كنت مع أخى وصديقى الحاج / حافظ سلامة- بطل معركة السويس، وهو رجل من المؤمنين الخيار- قال لى: إن أحدهم سقط " فكه " فى المعركة، وأخذ الطبيب بخيط " لسانه " فى " حلقه " كى يستطيع أجراء عملية تثبيت الفك الأسفل، فكان يصرخ أثناء العملية بكلام لم نفهمه، ثم طلب ورقة فكتب فيها إنه صائم ولا يريد أن يتناول شيئا حتى يفطر!!. وقال لى مثل هذا فى بعض الضباط الذين قاتلوا بجلد.. وذكر أن روح المسجد هى التى صنعت هذه المقاومة، قال: إن الإيمان بالله، وإن الرغبة فى مثوبته- جل شأنه- وإن الحرص على مرضاة الله، وإن مواريث القرآن والسنة فى دمائنا وفى بيئتنا هى التى صنعت هذا اللون من الرجال الذين قاتلوا بقوة، وحرصوا على مرضاة الله إلى آخر رمق. وهذا النوع موجود بكثرة، و ينبغى أن تكتب صحائف ناضرة بسيرته وبأخلاقه، ويقال: هذا ما صنعه القرآن وصنعته السنة فى تكوين أبطال استخرجوا النصر من أشد الأيام ضنا به، فإن الواقع يوم يعرف سيعرف أن " المصريين " ما أدركوا هذا النصر بسهولة، ولكن الله امتن به على ناس تطلعوا إليه راجين فضله، تطلعوا إليه بأبصارهم وبصائرهم: (وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم) لكن هل ستكتب هذه الوقائع الشاهدة بما يصنعه الإسلام فى أيام الحرب وأيام السلام؟. أرجو لأن هناك-كما أشعر- تيارات شاردة زائغة تحاول أن تخفى عمل الإسلام فى هذه المعركة، وما تزال هذه التيارات تبذل الجهد لجعل الناس يعودون إلى الأيام الأولى- أيام العكوف على الشهوات، وأيام الجرى وراء الأهواء، وأيام الكذب على الله وعلى الناس- ولكننا لن نقبل ص _209(3/196)
هذا، فنحن لهم بالمرصاد، ومعنا جماهير المؤمنين التى أعلنت وفاءها لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونعود إلى سورة آل عمران وهى تتحدث عن المعركة، لقد تحدثت فذكرت الكثير، وما نستطيع أن نذكر هذا الكثير، لكن أول ما ذكرته الآيات أن الهزائم العابرة لا قيمة لها، وأن الأمم تدرك ما تريد بجلدها على تحمل الجراح ومضيها فى طريق الكفاح، و لابد أن تصل إلى ما تبعى أخيرا، وهذا معنى قوله تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ). ثم قال القرآن- فى واقعية ينبغى أن تعرفها الأمم- للمهزومين أو للمتعبين: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين). وهذه الكلمات أو هذه الجمل تحتاج إلى شرح، إن انتصار المسلمين فى " بدر " جعل دائرة الإسلام تزدحم بطلاب الغنائم، وطلاب الشهرة، وطلاب المنفعة، وطلاب الحكم، وهذه طبيعة الدنيا، إذا كان الإنسان فى رغد وفى قوة أقبل عليه الكثيرون، والله- عز وجل- يريد أن يكشف طبائع أولئك الذين ازدحموا حول نبيه صلى الله عليه وسلم ليبقى منهم الصادقون فى إيمانهم المخلصون لربهم، وليذهب بعيدا أولئك الذين جاءوا حوله انتظار منفعة، أو ارتقاب مغنم: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ). إن الله لا يكشف الناس بوحى فيقول: هذا مخلص، وهذا منافق، ولكنه يختبر المؤمنين، ومس السراء والضراء فى حياتهم هو الذى يبين أحوالهم، ويكشف خباياهم، فالمنافق إذا اغتنى شعر بالبطر، وإذا افتقر شعر بالقنوط، أما المؤمن فهو متماسك العاطفة، إذا اغتنى حمد الله فلم يبطر، وإذا تألم حمد الله فلم يقنط ، وهو بين الصبر والشكر متماسك الخلق، قوى العقيدة، رفيع الرأس. وبينت الآيات أن الاستشهاد ليس نكبة(3/197)
يعزى فيها. ولكنه رزق ص _210
إلهى، أو مكافأة سماوية يتخير الله لها من أراد من خلقه، يتخير الله لها من أراد إعلاء رايتهم، يتخير الله لها من أراد إعلاء مكانتهم، ولذلك كان التعبير: (ويتخذ منكم شهداء).. وبديهى أن الشهداء منازل، وليسوا فى مرتبة واحدة، ففى حديث عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الشهداء أربعة رجل: رجل مؤمن جيد الإيمان لقى العدو فصدق الله حتى قتل، فذاك الذى يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة هكذا ورفع رأسه حتى وقعت قلنسوته، يقول الراوى: فلا أدرى قلنسوة عمر أراد أم قلنسوة النبى صلى الله عليه وسلم قال: ورجل مؤمن جيد الإيمان لقى العدو فكأنما ضرب جيد بشوك طلح من الجبن، أتاه سهم غرب فقتله فهو فى الدرجة الثانية، ورجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا لقى العدو فصدق الله حتى قتل فذاك فى الدرجة الثالثة، ورجل مؤمن أسرف على نفسه لقى العدو فصدق الله حتى قتل فذاك فى الدرجة الرابعة " لا نريد أن نتتبع ما ذكرته السورة هنا تعليقا وتعقيبا على القتال الذى دار فى " أحد "، لكن أريد أن أبرز أمرين: الأمر الأول: أن المعركة جرت على هذا النحو خارج المدينة لأن النبى صلى الله عليه وسلم استمع إلى كثرة المقترحين عليه أن يخرج، وكان كثرتهم من الشباب الذى هزه ما سمع ثواب للمجاهدين، ومن كرامة للمستشهدين، فأراد أن يخرج متعجلا لقتال العدو. ص _211(3/198)
وكانت هناك قلة ترى أن يستدرج المشركون إلى داخل المدينة ليقضى عليهم فى دروبها وأزفتها، وكان النبى صلى الله عليه وسلم على هذا الرأى، لكنه لما وجد الكثرة تتجه إلى الخروج نزل على رأى الكثرة وخرج، وانتهى القتال بما انتهى إليه. هنا نرى أن الله جل شأنه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم كيف تعامل أصحابك بعد أن حدث ما حدث، هل تلومهم؟ هل تعاتبهم؟ لا.. كن بهم رحيما، كن معهم رقيقا، طيب خواطرهم، تلطف معهم، ولا تبرم أمرا إلا بعد أن تعرض الأمر عليهم وأن تشاورهم: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين). إذا عزمت فتوكل على الله: أى إذا استقر الأمر على شىء سواء كان رأيك أو رأى غيرك فتوكل على الله. وهذا ما حدث من النبى صلى الله عليه وسلم فإن الشباب بعد ما رأوا النبى صلى الله عليه وسلم قد خرج عليهم مستعدا للقتال لابسا ملابس الحرب قالوا: نحن استكرهنا النبى على هذا، وعرضوا عليه أن ينزل على رأيه الأول، فرفض وقال: " ما ينبغى لنبى إذا لبس لأمته- وهى الدرع- أن يضعها حتى يحكم الله بينة وبين عدوه " . وهذا هو التوكل على الله. هنا أوجه النظر إلى أن بعض الكتاب، وبعض الذين يقررون قضايا خطيرة فى فقهنا وتاريخنا يريدون أن يأخذوا من هذه الآية أن للحاكم أن يذهب إلى رأيه هو إذا كانت الشورى قد انتهت برأى يخالفه!!. وهذا كلام فارغ وتضليل، وهذا الكلام إنما دخل فى الثقافة الإسلامية ص _212(3/199)
أيام الملوك الفجرة، وأيام الحكام المستبدين، فإن الحكام المستبدين يحبون أن يفرضوا على الأمة آراءهم، ويريدون أن يعصوا الله، وأن يجيئوا بفتوى من هنا أو من هنا تسوغ لهم هذه المعصية!!. والدنيا كلها تعلم أن الشورى خير، وأن الشورى فضيلة عرفها المؤمن والكافر، والصديق والعدو، وأن تجريد المسلمين من فضائل الشورى إنما هو قضاء عليهم، وإنما هو خدمة لبعض الحكام المستبدين فيهم الذين يزعمون أنهم عباقرة، وما هم فى الحقيقة إلا أشخاص تافهون خلا لهم الجو فكانوا كالطير الذى قال فيه الشاعر : يالك من قُبرةٍ بمعمر خلا لك الجو فبيضى واصفرى قد رُفع الفخُّ فلا تحذرى ونقرى ما شئت أن تنقرى قد ذهب الصياد عنك فابشرى لابد يوما أن تصادى فاصبرى إن حكاما كثيرين تجاهلوا الشورى ونظامها، وهو نظام أساسى فى الإسلام، وبلغ من دقة التوجيه الإسلامى أنه فى جراحات " أحد " وفىغمرة الآلام التى أصابت النبى صلى الله عليه وسلم يقول الله له: (وشاورهم فى الأمر). وقد حكوا عن الشيخ محمد عبده أنه قال: ما تصلح الأمة إلا بمستبد عادل !!. والشيخ محمد عبده أشرف من أن يقول هذه الكلمة، لا يوجد مستبد عادل، كلمة مستبد عادل ككلمة صادق كاذب، عالم جاهل، تجمع المتناقضات. ص _213(3/200)
إن المستبد لا يكون عادلا، إن الاستبداد وليد الخنا، ووليد الفجور، ووليد المظالم، وهو سرطان فى الأمم ينبغى أن تتقيه وأن تبتعد عنه !!. الأمر الثانى الذى نريد أن نبرزه من غزوة " أحد ": أن المؤمن لا يجوز أن ينظر إلى الماضى إلا بقدر ما يأخذ منه العبرة، والنظر إلى الماضى لأخذ العبرة جزء من الإيمان، وهو معنى قوله جل شأنه: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور). إن أخذ العبرة استجابة لأمر الله : (فاعتبروا يا أولي الأبصار) لكن إذا كان النظر للماضى نوعا من التحسر على آلام الحاضر ونوعا من الفجيعة التى مبعثها جهل الأقدار الإلهية وعدم فهم الحقيقة الأزلية الأبدية التى قررها القرآن الكريم فى قوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون) إذا كان البكاء على الماضى من نوع:" لو أنى فعلت كان كذا وكذا" فـ: " لو " هذه تفتح عمل الشيطان " كما قال عليه الصلاة والسلام. وقد كان المشركون يقولون: (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) فرفض القرآن أن يكون هذا منطق المؤمنين: ص _214(3/201)
(يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم). المؤمن يقول كما أمر الله: (لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم). إن أحدا لن يموت ناقص أجل أو ناقص عمر، هو كتاب محدد: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) إن سورة آل عمران مضت إلى آخرها تعلق المؤمنين بعبر وهدايات انتهت بدعاء أولى الألباب، وانتهت بأن الدعوة المستجابة هى العمل الصالح، ثم انتهت بأمر صارم جازم يقول للمؤمنين: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون). اصبروا: فإن إطاعة الشهوات والجزع من التكاليف لا يكون شيمة مؤمن. وصابروا: أى غيركم سيصبر فليكن صبرا أكثر من صبر عدوكم، كأن هناك سباقا فى الصبر. ورابطوا: أى كونوا دائما مستعدين للقاء العدو، فإن نسيان المعارك أو العودة إلى حياة المرح هى قرة عين العدو، إن هذه العودة هى التى ستصنع هزيمة أخرى، وما نريد أن نعود عن رباطنا ضد عدونا، خصوصا وأن المعارك بين الإسلام وقوى الشر المتربصة به لا تزال باقية. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. * * * ص _215(3/202)
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد:. فى المسجد الآن وفدان، لكل منهما مطلب، نرجو أن تتبناه حكومتنا. الوفد الأول: من " جزيرة الذهب " وهى هنا تعترض " النيل " المبارك، ويعيش فيها ألوف ممن يقدمون لنا الخير، ويصنعون لهذا البلد الكثير من أسباب رفاهيته. فإن هذه الجزيرة قرأت- وقرأ غيرى- أن بعض الأغنياء عرض أن يشتريها بعشرة ملايين من الجنيهات كى يجعل منها جزيرة سياحية، ومعنى جعلها جزيرة سياحية أن نصنع بقعة نجسة لاهية عابثة فوق ماء النيل، وأن نحرم الألوف- الذين يعيشون على الزرع والضرع، ويقدمون للقاهرة الخير- من حياتهم الطبيعية. نحن لا نريد أحياء سياحية جديدة فى بلادنا، حسبنا الخزى الذى يقع فى شارع " الهرم "، حسبنا هذه الألوف من السياحات الخبيثة التى تعرض فيها الشهوات والملذات !!. نحن لا نريد أن نبيع هذه الأرض ولا بمائة مليون من الجنيهات، والمثل العربى يقول: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها !!. ص _216(3/203)
نريد أن يفهم هذا المثل الحريصون على السياحة فى بلدنا، إن السياحة يمكن أن تكون شيئا آخر غير ما يفهمه اللاهون والعابثون، يمكن أن نعرض أخلاق الإيمان وشمائل الرجال، وتواريخ الأبطال، وآثار الذين صنعوا الحضارة. أما أن نعرض مفاتن الراقصات، ونجيب الغرائز الدنسة فليست هذه سياحة، هذا عبث، ويجب أن تبقى الجزيرة ملك أصحابها. الوفد الثانى من: " وادى النطرون " يقول: إن هنالك عشرين ألفا من المسلمين الفقراء كانوا ينتظرون أن يفلحوا الأرض التى تم استصلاحها، ولكنهم فوجئوا بأن هذه الأرض تباع بالمزاد لمن يستطيعون أن يدفعوا الثمن الأكبر. هذا لا يجوز، فإن عشرين ألفا من الفقراء يحتاجون إلى أن يفلحوا الأرض يجب ألا يتركوا فقراء. نرجو أن يكون هذا وذاك موضع النظر، فإن أمتنا لا تريد أن تعود إلى عبث أو ظلم. " اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم). عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). أقم الصلاة.. ص _2 ص(3/204)
العالم فى انتظاره خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص وفى الله عنه 6/4/1973 م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، وأشهد أن محمدا- رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير.. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد.. فى شهر ربيع الأول سنجتهد فى جعل خطب الجمع خلاله حديثا عن النبى عليه الصلاة والسلام.. عن سيرته، وشمائله الزاكية، وأمجاده الخاصة والعامة، وعن علاقة الأمة به، واستمدادها منه، وعن حاجة العالم إليه، وضرورة تلقيه الهدى والبر والحق والبركة من النبى المبارك العربى المحمد عليه الصلاة والسلام. ونحن بهذا الحديث نتعرض لفضل الله.. فإن الحديث عن النبى الكبير عليه الصلاة والسلام ينعش الأفئدة، ويرفع المشاعر، ويرفع المستوى، ويصل النفوس بالله عز وجل صلة سمحة زاكية، نحن فى هذا العالم محتاجون إليها. وأبدأ الحديث بالإجابة عن سؤال تلقيته من بين الأوراق التى ترسل إلى أحيانا فى أعقاب المحاضرات التى القيها بين طلاب الجامعات. لقد جاءنى سؤال ووجدته فرصة سانحة للإبانة عن الحقيقة بعد ما قرأته. هذا السؤال هو: ما حاجة العالم إلى محمد عليه الصلاة والسلام بعد الرسالة التى قام بها عيسى عليه الصلاة والسلام؟. ص _218(3/205)
قلتُ فى نفسى هذا السؤال جاء فى إبانه، وكان من الخير أن يعرض على !!. وأجبت فقلت: إن الناس قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام كانوا على نوعين: نوع محروم من هدايات السماء فهو يتيه فى صحراء الحياة هائما على وجهه لا يعرف ربا ولا حدا، وربما قذس الأحجار، وعبد الأبقار، وعاش على هذا النحو السفيه الوضيع إلى أن يموت ليتحول ترابا، أو ليكون حطبا لجهنم.. الله أعلم بمصاير هؤلاء وفق ما أتيح لهم من هدايات، وما عرض لهم فى حياتهم من علم أو نور.. هذا النوع لا كتاب له، لا يدرى شيئا يمكن أن يسمو بالأميين.. لتكن تسميتهم ما تكون فقد كانوا جهالا حقيقة. نوع آخر يملا الأرض.. وهم كتابيون.. لكنهم ظلموا أنفسهم، وغشموا وحيهم، وزوروا كتابات الله التى تنزلت عليهم.. ** ما معنى أن نقرأ لأولئك الكتابيين أن الله تمشى فى الجنة، وفوجئ بأن آدم عليه السلام مختبئ، قد أكل من الشجرة، وربه لا يدرى.. فهو يسأله كيف أكلت وكيف خدعت!! ** ثم يقال فى هذه الكتب: إن الله بعد أن خلق آدم ندم على خفق آدم !! ** وبعد أن أغرق الأرض بالطوفان ندم على أن أغرق الأرض!! ** وأنه ظل سحابة ليلة بأكملها يصارع واحدا من عبيده هو يعقوب، وفى نهاية المصارعة أعطاه لقب إسرائيل!! ** وأنه مع اثنين من الملائكة دعوا إلى وليمة غداء أقامها إبراهيم لهم فأكل الإله !!. أى تزوير على صفات الألوهية على هذا النحو؟ !! ثم عند أولئك الكتابيين أن الألوهية " والد " و " ولد "، أو " زوج وصاحبة " !!، أو كذا وكذا من الترهات التى شاعت وانتشرت!! ص _219(3/206)
ما كان العالم ليعرف الرشد، ولا ليبصر الحق، ولا ليصف قدميه على الصراط المستقيم إلا لما جاءه محمد عليه الصلاة والسلام!!. لقد كانت حاجة الدنيا إلى محمد عليه الصلاة والسلام حاجة العين العمياء إلى البصر !! حاجة القدم المشلول إلى الحياة والحركة !! حاجة الجسد السقيم إلى البُرء والعافية !!. إن الذين يسألون: ما كانت حاجة العالم إلى محمد عليه الصلاة والسلام؟ يجب أن يعرفوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم بكتابه وسنته رد إلى الدين اعتباره، وأعطى الإنسانية بصيرتها النيرة، فكانت هذه البعثة خيرا للناس أجمعين، ورحمة في رجاء العالمين!! ما كان أحوج العالم إلى محمد عليه الصلاة والسلام.. إن هذا الإنسان الكبير هو أمل الإنسانية لكى تنقذ من حيرتها، وتأنس من وحشتها، وتحسن عودتها إلى ربها، وتتخلص من الجاهلية الطامة التى وقعت فيها.. ونحن عندما نتحدث عن النبى الكبير محمد عليه لصلاة والسلام نريد أن نتناول اليوم أطرافا قليلة من السيرة؟ لأن حديثنا كما قلت لكم، وكما أستعين الله، سيكون خلال هذا الشهر تناولا للسيرة النبوية، وحديثا فى الشمائل المحمدية. النبوة عندنا معشر المسلمين هبة من الله.. وليست جهد بشر يصل بعده الى مرتبة النبوة.. إن النبوة فضل إلهى أعلى تمنحه الله من أراد من خلقه.. وليست نتيجة كدح فى ميدان التربية، أو الفلسفة، أو المعاناة النفسية، أو الجهاد الخاص.. لا.. هى هبة من الله، وليست كسبا.. هذه الهبة العليا بداهة يتخير الله لها من خلقه من هو لها أهل.. أى أن النبوة بداهة لا يمكن أن تكون نصيب التافهين، أو المغموصين، ولا يصلح لها شخص منطلق الشهوة، أو بليد الفكر، أو ضيق الأفق، أو غطن النفس.. وهذا الذى أقوله هو معنى قول الله جل شأنه: (الله أعلم حيث يجعل رسالته ) إن التفاوت بين البشر كبير جدا.. فهناك بشر كقمم الجبال.. وهناك بشر كأكوام السبخ !! الفارق بين البشر من الناحية الفردية فارق واسع جدا.. هناك(3/207)
أصحاب عقول كأنها لمح البرق من ذكائها وتألفها.. ص _220
وهناك أصحاب عقول يعييهم أن يعرفوا البديهيات !! والكل منن أولاد آدم!!. وعندما يختار الله نبيا فهو يختار من القمم ولا يختار من السفوح !! (...أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون) كان هذا الجواب الإلهى لقوم تساءلوا: لم كانت النبوة فى ابن عبد الله ابن عبد المطلب.. وهو شاب محدود الثروة، محدود القوة، محدود السلطة؟!! ولم تركت النبوة العمد فى مكة والطائف، وأصحاب الدولة والصولة فى البلدين العظميين؟!. (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم). فكان الرد الإلهى: (أهم يقسمون رحمة ربك) إن مقاييس العظمة عند هؤلاء الجاهلين كانت مقدار ما يملك المرء من نياق، أو أبقار، أو معز وغنم !! هذا ميزان العظمة عند بعض الناس.. وهو ميزان سخيف فإن العظمة معدن نفسى نفيس، ومن المعادن.. النفيسة الغالية الكريمة يختار الله أنبياءه.. دون نظر إلى مال أو جاه.. وقد اختار الله محمدا بعد أن تخيره من نطف الآباء والأمهات، وأشرف على تربيته، وأذبه، وبسط عليه رعايته. اختار الله محمدا على هذا النحو.. ولذلك أوجه النظر إلى أمور لابد من توجيه النظر إليها.. إن الرسل بشر.. ولابد أن يكونوا بشرا.. لان الناس الذين يسكنون الأرض يحتاجون إلى بشر، يفهمون منهم، ويتلقون عنهم، ويحسون إحساسهم، ويأنسون بهم.. وعندما قال بعض المستغريين المستنكرين: (أبعث الله بشرا رسولا). كان الجواب: (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) لكن الناس بشر.. فيجب أن يتعلموا من مجانس لهم، من مشابه لهم فى خلقه.. فبشرية الرسول صلى الله عليه وسلم لا تنكر.. وإنما تنكر على بعض الذين يتحدثون فى بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ص _221(3/208)
أشياء يدسونها فى هذه البشرية كى يوهموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم رجل عبقرى، أو شخص صاحب مواهب ضخمة، وأنه بعبقريته الفريدة، ومواهبه الجليلة، استطاع أن يبلغ ما بلغ، وأن يصل إلى ما وصل إليه.. وهذا تدليس.. إنه بشر حقا، وذو مواهب حقا.. ولكنه بشر يتلقى عن الله، ويستقدم الوحى، بشر لم يبلغ ما بلغ بعبقريته الخاصة.. وإنما بلغ بتوجيه الله له، واعتنائه به.. فالذين يتحدثون عن بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم يخلطون أو يكذبون عندما يريدون إيهام الناس أنه بشر عادى.. لا.. هو بشر حقا ولكن يوحى إليه: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه)، ثم إن هناك خلافا واضحا بين النبوة وبين العبقرية مهما بلغت.. عبقرية فلسفية، عبقرية عسكرية، عبقرية سياسية.. أولئك العباقرة فيما درسنا من تاريخهم يرجع تفوقهم غالبا إلى امتداد فى موهبة من المواهب.. أما بقية مواهبهم فإما عادية أو هابطة.. ولذلك وجدنا عبقريات سياسية وعسكرية ترتكب الدنايا!!. خذ عبقرية عسكرية مثل " نابليون " الرجل فى معركة ما وهو يفتح الشام أمن المدافعين، وأعطاهم وعدا بأنهم إذا اسروا ضمنت لهم الحياة.. وما كادوا يقعون فى الأسر حتى أمر بقتلهم جميعا!!. غدر القائد فى كلمته، كذب فى وعده، كان خسيسا فى تصرفه.. هو عبقرية عسكرية.. ولكنه كان نذلا فى معاملاته الأخلاقية!!. الواقع أننا تقفز قفزة عالية جدا عندما ننتقل من شخص كنابليون أو غيره من قادة العالم إلى القمة الشماء فى تاريخ الإنسانية كلها إلى محمد ابن عبد الله عليه الصلاة والسلام.. عندما كانت ظلمات الجاهلية ترين على صحراء الجزيرة كان محمد عليه السلام فى أحشائها كوكبا متألقا بفضائله، وكان معروفا فى الجاهلية بأنه الصادق الأمين!! ذاك فى الجاهلية.. فكيف بعد أن تمت عليه النعمة، واختاره الله نبيا؟!! إن العبقرية شئ والنبوة شئ آخر.. السراج المنير لا يمكن أن تكون فيه نقط(3/209)
سوداء، ولا بقع معتمة.. لأنة منير من كل ناحية.. وفى الأنبياء وتلاميذ الأنبياء يقول الشاعر: ص _222
هم الرجال المصابيح الذين هم كأنهم من نجوم حية صنعوا أخلاقهم نورهم من أي ناحية أقبلت تنظر فى أخلاقهم سطعوا كواكب.. وهذا معنى وصف الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( وسراجا منيرا)، والسراج المنير مشرق فى جوانبه كلها.. مصدر نور، وإشعاع من أرجائه كلها!!. فنحن نرفض وصف النبى صلى الله عليه وسلم بالعبقرية، أو وصفه بالبشرية العادية، ونعلم أنه فعلا معدن ليس هناك ما يشبهه نفاسة وكرما.. ولكن النبوة اصطفاء أعلى، ولكن النبوة هبة الله لمن أراد من عباده، وقد ختمت النبوات كلها برجلها الأوحد نبى الأنبياء، وإنسان الإنسانية محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام!!. فى طلائع الوحى على النبى. عليه الصلاة والسلام دروس نحب أن نقف عندها لنتعرف الفلك الذى دارت النبوة المحمدية فيه. من أوائل ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم سورة "العلق ".. سورة "الضحى ".. سورة " الانشراح ".. سورة " المزمل ".. سورة " المدثر " قلت أتدبر الآيات التى نزلت عليه أول ما استقبل إشراقات الوحى الأعلى، ودون ترتيب مراعى فى السرد الآن.. أبدأ بسورة الضحى: الشيخ " محمد عبده " يقول: إن الله تعالى أقسم بالضحى والليل إشارة إلى أن فترات الوحى فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم كانت فترات تألق وسنى لامع.. وأما فترات الانقطاع للوحى فكانت تشبه وحشة الليل عندما يصمت وتنقطع كل حراك به!!. وقد كان النبى عليه الصلاة والسلام قد بدأ يستقبل الوحى دون ارتقاب له.. إنه ما كان يدرى أنه سيختار نبيا، ولا تطلع إلى الرسالة، ولا عرف أن مستقبل الإنسانية مرتبط بشخصه الجليل فى الأربعين سنة الأولى من عمره.. وهذا معنى قوله. تعالى: (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك)، كأن الله تعالى أرسل إليه ص _223(3/210)
الوحى، ثم قطعه قليلا عنه ليزداد شوقا إليه، ويزداد تهيؤا لاستقباله، ويزداد تشوقا إلى مطالعه عندما يجئ ولكنه أحس شيئا من الكرب عندما انقطع الوحى.. فطمأنه رب العالمين أن لا مكان للحزن وللكرب فى حياته ين هذه الناحية، قال له لا تظن أنى هجرتك، أو تركتك، أو حولت نعمتى عنك.. (ما ودعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى) ثم بين له كيف أنه رعاه من غير سؤال، وكيف أنه أشرف على تربيته وتوجيهه من غير طلب، وكيف أنه صنعه لنفسه، فقال مفصلا هذه المعانى: (ألم يجدك يتيما فآوى)، آواك والإيواء هنا ليس الإيواء الحسى لتدبير الكفالة له فقط.. ولكنه الإيواء المعنوى الذى يتضمن الإشراف على تربيته وتكوينه: (ووجدك ضالا فهدى) أقف قليلا عند هذه الكلمة.. أى وجدك حائرا لا تدرى الحق ولا تعرف طريقا إليه، والضلال فى اللغة العربية يعنى الحيرة، ويعنى الذهول، ويعنى النسيان.. (لا يضل ربي ولا ينسى)، (00 أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى). الضلال: الحيرة.. وفعلا كان النبى صلى الله عليه وسلم حائرا.. وآية: (ووجدك ضالا فهدى) فضلت فى سورة الانشراح بعد ذلك.. إذ قال الله له: (ألم نشرح لك صدرك) من أثر الحيرة، من أثر النظر فى شئون الناس، وأحوال الدنيا، والعودة من هذا النظر بغير شئ.. كل هذا ضيق صدرك، وكأنك تحمل على ظهرك حملا يكاد يقطعه، يكاد يقصمه.. لأن الرجل الكبير الجليل عندما يشعر بالحيرة لأنه عاجز عن أن يصنع شيئا، أو أن يخرج من الظلمات التى تحيط به، فإنه يتعب نفسيا جدا تعبا يكاد يرهق أعصابه ويمزق كيانه.. فكلمة: (ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك) هى هى التى قيلت فى آية أخرى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ) ص _224(3/211)
(ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) ، هذا التعليم الجديد هو التفسير لقوله جل شأنه: (و وجدك ضالا فهدى) وقوله فى السورة التى تليها: (ألم نشرح لك صدرك * و وضعنا عنك وزرك) أى كاد يقصم ظهرك لثقله، وشدة وطأته، وأنت حائر فى المجتمع الجاهلى بمكة لا ترى بصيص نور فى الوثنية السائدة، وفى ضلالات أهل الكتاب الذين ما يعرفون الكتاب إلا أمانى، ولا يدرون من الحقيقة المبرأة شيئا. ثم يرتب الله عز وجل على هذا الفضل أشياء.. يرتب عليه نتائج لمصلحة الجماهير.. فإن الذى يمرض ثم يصح أحق الناس برعاية أصحاب الآلام !!. والذى يغشى بعد فقر أحق الناس برعاية أصحاب الحاجات. والذى يعلم بعد جهل أحق الناس بأن يطارد الجهالة ويلقى نيرها عن كواهل أهلها !! ولذلك بعد أن امتن الله عليه قال له: (ألم يجدك يتيما فآوى * و وجدك ضالا فهدى * و وجدك عائلا فأغنى) ، رتب على ذلك هذه النتائج: (فأما اليتيم فلا تقهر * و أما السائل فلا تنهر * و أما بنعمة ربك فحدث). وكذلك فى سورة الانشراح.. رتب النتائج بعد أن قال: كنت موقر الظهر بحمل أزعجك وأتعبك، فخفف الله عنك، وتنفست الصعداء بعد أن زال هذا الكابوس، وطلع عليك فجر الوحى، واتصلت بربك، وأصبحت أسوة الناس وإمامهم، وهاديهم وراعيهم.. فماذا تصنع !؟ باستمرار أقبل على الله.. إن انتهيت من واجب اتصل بواجب آخر: (فإذا فرغت فانصب * و إلى ربك فارغب) هذا جهاد النبوة.. فالنبوة عبء.. ولكى يعرف عبؤها ننظر إلى ما نزل فى أوائل الوحى المبارك من سور.. فى سورة " المزمل " يعرف النبى صلى الله عليه وسلم أن الهوى خفيف على الأنفس، وأنه يتيح لأصحابه أن يناموا حتى يعقد الكرى " النوم " على أجفانهم ليالى طوالا، ويتشبعوا حتى ص _225(3/212)
يألفوا الراحة والخمول.. الهوى خفيف على الأنفس، حلو المذاق.. لكن الحق ثقيل على الأنفس.. فيه مرارة الدواء، فيه متاعب الجد.. ولذلك فى أوائل الوحى قيل له: ما مضى مضى.. أما الآن فأمامك سهر طويل: (يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا * إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) هذا القول الثقيل يتضمن الحقائق المرة: ** عقيدة التوحيد كم يضيق بها المعددون والمشركون؟ ** مسئولية النفس الإنسانية عن سلوكها وعن عملها.. م يضيق بها عباد القرابين، وأصحاب المزاعم فى أن الله يحتاج إلى كفارات من الدماء البشرية، أو الدماء الإلهية إن صح التعبير كى يرضى عن خلقه؟! لكن هذا الحق الثقيل يحتاج إلى رجال ذوى مناكب أيدة كى يحملوه بصلابة، وكى يطوفوا الآفاق به دون إعياء أو انقطاع. وتقرأ " سورة المدثر " وهى بعد المزمل ومن أوائل ما نزل.. فتجد أمارات الحدة فى الوحى الخاتم.. لأنه يبين للنبى عليه الصلاة والسلام معالم طريقه كى يقود الناس فيها: (يا أيها المدثر * قم فأنذر) انتصب لتعلم الناس ما لم يعلموا.. إن جماهير كثيفة شردت عن الطريق، وأنت مكلف أن تعود بها إلى الصراط المستقيم: (قم فأنذر * وربك فكبر).. إن الناس عبدوا الأوهام، وقدسوا الأصنام.. ولكن أنت اربط تعظيمك وتقديسك، وعلم الناس معك أن خوفهم ورجاءهم وركوعهم! سجودهم وتوكلهم، وركونهم إنما يكون على الكبير المتوحد بالكبرياء (وثيابك فطهر) ، إن بعض الناس فسر الآية بأن تطهير الثياب هنا إنما هو تطهير للأخلاق وللكيان المعنوي للإنسان.. وهذا تفسير قد يقبله البعض، أما رأى فإن كلمة: (وثيابك فطهر) تعطى المنهج الجديد للإنسان.. كان التدين قبلا يعتبر التقشف والرهبانية ووساخة الأجساد.. يعتبر ذلك لونا من القربى إلى الله.. لكن الدين الجديد احترم الجسد الإنسانى، واعتبر طيب الجسد، وطهارة الجسد، وزينة الجسد، والرائحة الزكية فى الجسد.. اعتبر(3/213)
ذلك من إمارات التقوى، ومن دلائل الإيمان، ومن حسن الصلة بالله!!. ص _226
ولعل تشريع الوضوء والغسل، ولعل تشريع الطيب والسواك.. لعل هذه الشرائع التى جعلت الجسد الإنسانى مكرما عند الله.. لعلها إشعار بأن الدين الجديد دين الفطرة السليمة، وأن تقدير هذا الجسد، وتقدير الإبداع الإلهى فى خلقه من معالم التقوى.. وكان النبى عليه الصلاة والسلام يقول فى سجوده أحيانا: " سجد وجهى للذى خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين ". هذا الجسد لا يوسخ.. هذا الوجه لا يلوث.. هذه الثياب يجب أن تطهر !!. لقد كان النبى عليه الصلاة والسلام آية فى وضاءة بدنه كله، وفى نظافة ثيابه كلها، وكان الناس إذا شموا رائحة جيدة فى مكان ما قالوا: لعل محمدا مر من هنا!! هذا هو التدين.. لا الرهبانية القذرة الوسخة التى تفتات على الجسد وتوسخه، وتجعل الناس يحتقرون البدن، ويرون الإجحاف به، والنيل منه قربى إلى الله. (وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر ) ص _227
إلى آخر ما يمكن استعراضه من هذه الآيات التى وجهت النبى صلى الله عليه وسلم إلى الحق والخير.. لا لتكوينه شخصيا.. بل لتكوين الأمة معه، ورسم الرسالة الإسلامية لتعرف معالمها من ملامحه، ومشخصاتها من مشخصاته. إن الله عز وجل ربى محمدا صلى الله عليه وسلم ليربى به العرب، وربى العرب بمحمد ليربى بهم الناس أجمعين. كيف ربى؟ كيف صنع الناس؟ هذا بحث آخر.. موعدنا إن شاء الله تعالى به فى عالمية الرسالة، وفى الآفاق التى تعمل فيها، وفى الأبعاد التى تتألق خلالها.. موعدنا إن شاء الله تعالى فى يوم الجمعة المقبلة . أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _228(3/214)
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام الأنبياء، وسيد الصالحين.. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإن أحفالنا التى ألفنا إقامتها فى شهر ربيع عاطفة مقدورة البواعث.. ولكنها لا تقبل ترجمة عن الحب الواجب لصاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام. وعندى لو أن المسلمين عطلوا هذه الأحفال كلها، وأقاموا بدلا منها حدا من الحدود المعطلة، أو قانونا من القوانين الإسلامية المهملة لكان ذلك أرضى لله عز وجل وأحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم !!. لكن نحن ننتهز فرص هذه الأحفال، كى نذكر.. والذكرى تنفع المؤمنين.. ومن الذكرى التى نؤكد بها ولاءنا لصاحبا الرسالة، وإعزازنا للتراث الذى تلقيناه عنه صلوات الله وسلامه عليه، أن نوجه الأنظار إلى أعداء الله عز وجل، وأعداء محمد صلى الله عليه وسلم.. أنا أعرف ناسا من العرب عندما يقع نزاع بين المسلمين والهندوك ينضمون إلى الهند. وعندما يقع النزاع بين القبارصة المسيحيين وبين الأتراك المسلمين ينضمون إلى اليونان !!! ص _229(3/215)
وعندما يقع النزاع بين الإرتريين والأحباش ينضمون إلى الأحباش. وعندما يصطدم الإسلام فى معاركه الطويلة العريضة بأى عدو.. فهم مع هذا العدو!!! وهم عرب يتسمون بأسمائنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويجدون من ينخدع بهم، ويستمع إليهم!!. هؤلاء أملهم أن يجعلوا " مصر " علمانية.. أى لا يكون الإسلام دينها، ولا مصدر التشريع فيها، ولا أساس الأخلاق والقيم والمثل لأبنائها!!. هؤلاء يجب أن نكشفهم وأن نتعرف آثارهم فى مجتمعنا لنمحوها. إن الإسلام فى هذه الأيام ليس فقط " جواز المرور " إلى الجنة عندما نلقى الله.. إنه قبل أن نلقى الله هو ضمان البقاء لنا على ظهر الأرض!!!. ! هذا الدين ليس فقط تأمين آخرتنا عند ربنا.. إنه الآن تأمين حياتنا العاجلة!! فإن. المسلمين أعلنت عليهم حرب إفناء، وأعلنت على محمد صلى الله عليه وسلم حرب اجتياح لكتابه وسنته وتاريخه وآثاره !!. فإذا أراد المسلمون أن يعيشوا هملا فمصيرهم هو الذبح..لا غير !! وأنا أسأل نفسى: أي خيانة ارتكبها المسلمون جميعا وهم يعلمون أو يجهلون فى أن نحو سبعة آلاف جزيرة شرق جزائر أندونيسيا كانت مسلمة كلها !! ثم هجم عليها الأسبان، ووضعوا عليها اسم ملكهم"فيليب" وسموها " الفليبين "، وبدأوا عملية محو القرآن والسنة، والمنتسبين إلى القرآن والسنة.. حتى محوا 87%، من السكان ونصروهم، وبقى الآن نحو 10%، يتعرضون للفناء !! إذا تحدث الناس عن التجمع الإسلامى، وعن الروابط الإسلامية، وجد من العرب من يقول: إن التجميع على الإسلام سياسة أمريكية !!، يا سبحان الله !! أى بلاء هذا الذى نزل بنا؟!! إن التجميع على الإسلام ص _230(3/216)
سياسة قرآنية: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) ، ألا فليستيقظ المسلمون وإلا هوت بهم الريح فى مكان سحيق !!. اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر . (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) عباد الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) وأقم الصلاة * * * ص _231(3/217)
تأملات في الهجرة خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمدا وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: فلا تزال بقايا من قصة الهجرة تحتاج الى تجلية، ولا تزال عبر فى هذا الحادث الضخم، ينبغى أن نقف بازائها حتى نصلح على ضوئها حاضرنا، فنحن ما نذكر تاريخنا الماضى- قصصه وأحداثه- إلا لتقتبس منه أضواء تحدد لنا الهدف وتجنبنا الزلل.. أول ما نوجه النظر إليه فى حادث الهجرة قانون السببية الذى تحدثنا عنه كثيرا، إن هذا القانون فرض نفسه فى الهجرة، لم يقل النبى عليه الصلاة والسلام إننى ومن معى أوذينا فى الله طويلا، وقد أخرجنا من ديارنا كرها، فعناية السماء يجب أن تلاحقنا، ولا حرج من بعض التفريط او بعض التواكل، فإن الله يجبر الكسر، ويكمل النقص، لم يقل النبى عليه الصلاة والسلام شيئا من هذا، وإنما وضع الخطة كاملة، كل ما يمكن أن يصنعه الإنسان العادى ليتجنب الأخطار، وليبتعد عن مكايد العدو فعله النبى عليه الصلاة والسلام. ما ترك ثغرة، ولا أبقى فى خطته مكانا يكمله الذكاء، فعل ما فى طوق البشر. ص _232(3/218)
عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما سمع بالطاعون فى الشام أبى أن يدخل البلد الذى قصد أن يدخل إليه، فقال له أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه: أتفر من قدر الله؟ فغضب عمر غضبا شديدا، وقال: يا أبا عبيدة: لو غيرك قالها!! أفر من قدر الله الى قدر الله!! أرأيت لو أن عندك قطع غنم فتركت المكان المجدب إلى المكان الخصب ألم تتركه بقدر الله إلى قدر الله؟ هذا المعنى يشرحه حديث آخر، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقى بها، وتقى نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: " هى من قدر الله " والرقية: دعاء المريض لنفسه بالشفاء أو تلاوته بعض سور القرآن للاستشفاء ببركتها كما صح من أن النبى عليه الصلاة والسلام " كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما " قل هو الله أحد " و" وقل أعوذ برب الفلق " و" قل أعوذ برب الناس " ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه- ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات " اتخاذ الأسباب إذن دين، وهذا هو الذى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفكر فى الاختباء فى الغار، وفى تضليل أعدائه فكان يتجه جنوبا وهو يريد أن يتجه إلى الشمال، وفى اتخاذ راحلتين قويتين مستريحتين حتى تتمكنا من السفر وتحمل وعثاء الطريق وطول المدة، واتخاذ دليل مدرب حتى يعرف ما هنالك من وجوه الطرق والأماكن التى يمكن التعرج عليها بعيدا عن الأرصاد المبثوثة هنا وهناك، وكيف يضلل من يبحثون عنه؟ قضية السببية قضية فرغ الإسلام منها، قرر أنها حق. لكن موقف المؤمن والكافر من السبب يختلف بعد ذلك، فالمؤمن بعد أن يتخذ الأسباب كاملة لا يعول عليها، ولا يربط نفسه بها، ولا يظن أنها هى التى تفعل أو ص _233(3/219)
تترك، بل يؤمن بأن الأمور بيد الله، وأن النتائج تتم بقدرة الله، وأن هناك بأسباب أخرى ليست فى يد الإنسان، الله جل شأنه هو الذى يوفرها ويكثرها لمن أراد أن ينجح قصده. ولذلك قارن العلماء بين موقفين للنبى عليه الصلاة والسلام قالوا: فى الغار عندما أحس أقدام المطاردين تقترب، وعندما بدأ أبو بكر رضى الله عنه يقلق ويشعر بالوجل، كان النبى عليه الصلاة والسلام يسكن روعه، ويبدد قلقه ويقول له: " ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما" قال العلماء: هذا الموقف يغاير الموقف فى معركة " بدر " عندما أخذ النبى عليه الصلاة والسلام يتجه بقلبه ولبه إلى الله فى ضراعة حارة، ودعاء متتابع، واستغاثة موصولة، يقول: " اللهم أنجز لى ما وعدتنى، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد فى الأرض "!! فمازال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه من منكبيه فأتاه أبو بكر.. وقال: يانبى الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك " . قال العلماء: ما السبب فى تفاوت الموقفين هنا وهناك؟ وكان الجواب: أن النبى عليه الصلاة والسلام فى الغار كان قد اتخذ الأسباب كلها، وأفرغ ما فى طاقته عمليا، فاطمأن إلى أن الله هو الذى سيكفله وهو الذى سيحقق ما يصبو إليه من أمل فى إنجاح الهجرة وبلوغها غايتها. أما فى " بدر " فإن الأسباب لما تكتمل من ناحية، وربما تعلقت الهمة بها، وعولت عليها، وانتظرت النصر منها، فأراد النبى صلى الله عليه وسلم أن يتجرد من هذه الأسباب، من الجيش الذى خرج إلى القتال، من العدو أو العدة اللتين أحاطا به عليه الصلاة والسلام، فكان دعاؤه، وكانت استغاثته، وكانت ضراعته، وكان استنصاره بالله جل، جلالة. الفارق بين المؤمن والكافر كلاهما يأخذ بالسبب، أما نحن المؤمنين فإننا نرى أن الأسباب أدوات للقدرة العليا، ومفاتيح لخزائن الرحمة الإلهية، وأن أى شئ انقطع عنه الإمداد الأعلى فإنه لا يصنع شيئا ص _234(3/220)
ويتوقف فى مكانه. أتظن الأرض وهى تدور حول نفسها لا تتخلف دقيقة عن ميعادها فى شروق أو غروب، ألديها ساعة تضبط بها الوقت؟ أترى وهى تدور حول الشمس لديها أجنحة تطير بها، أو مخزون من البترول أو الكهرباء يعينها على السرعة في جريها؟ لا شئ، إنها قدرة الله هى التى تحرك الأسباب علوا وسفلا!! فإذا كان الإنسان يقوم بالسبب ثم ينتظر من رب العالمين أن يحقق النتيجة فتلك طبيعة علمية ما ينبغى أن يكابر امرؤ فيها. المؤمن بأكل الخبز ثم يعلم أن استفادة جسمه من هذا الخبز ليس لأن فى ذرات الدقيق عقلا يحولها إلى عظم وعصب وقوة وطاقة، لا، هذا كله صنع الله إ! أما المادى فيتصور أن هذه الأسباب تتحرك تلقائيا بذكاء فى الدقيق أو بقدرة عقلية فى الرغيف!! هذا هو الفارق بين المؤمنين وغير المؤمنين. أما الأسباب فاتخاذها دين. مما نذكره فى قصة الهجرة أن ما قبل الهجرة وما بعده سواء فى قضية عرض الإسلام، بعض الناس يقول- وقد أكد هذا مستشرقون ومبشرون وسماسرة لهما- كانت الدعوة الإسلامية قبل الهجرة تعتمد على الإقناع المجرد، وعلى التفكير الحر، وعلى رفض الضغط فى جعل الناس يعتنقون ما يشاءون من عقائد، أما بعد الهجرة، وبعد أن تماسك السيف فى أيديهم فقد أخذوا يحكمون السيف، ويبتعدون عن منهج العقل!! هذا كلام يحتاج إلى أن نناقشه، صحيح أن الدعوة قبل الهجرة كانت تعتمد على الإقناع الحر، وعلى المنطق العقلى الواعى، وعلى ترك المعارضين يأخذون طريقهم كما استحبوا لأنفسهم. فى سورة الأنعام وهى مكية نقرأ قوله تعالى: (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ) ، فى سورة الكهف وهى مكية نقرأ قوله تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ، ص _235(3/221)
فى سورة يونس وهى مكية- نقرأ قوله تعالى: (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون) هذا منطق الإسلام فى مكة فهل تغير هذا المنطق فى المدينة؟ الجواب على هذا يتقاضانا أن ننظر فى الوحى الذى نزل فى المدينة لنرى أترك المسلك الأول أم بقى إلى هذه الوجهة يسير دون أدنى تغيير؟ نقرأ سورة البقرة وهى سورة مدنية بيقين، فنجد فيها قوله تعالى: (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم) ونقرأ فى نفس السورة قوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) ونقرأ فى نفس السورة قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير) ونقرأ فى سورة آل عمران، وهي مدنية بيقين، نقرأ قوله تعالى: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) ونقرأ فى سورة النساء وهى مدنية، نقرأ قول تعالى : (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) ونقرأ فى السورة نفسها قوله تعالى: (..فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) ونقرأ فى سورة المائدة، وهى مدنية، قوله تعالى: (ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) ونقرأ فى السورة نفسها قوله تعالى: ص _236(3/222)
(وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) ولا أريد أن أستعرض القرآن كله لأبين أن مكيه تمهيد لمدنيه، وأن مدنيه تصديق لمكيه، وأن مسلك الإسلام بعد الهجرة هو مسلكه قبل الهجرة، وأنه الدين الذى اخترع فى العالم الحرية الدينية، وبسط رعايته على من يعارضونه فما أحرجهم، ولا اضطهدهم، ولا استذلهم، ولا نال منهم قليلا ولا كثيرا !! ولكن هناك من على أبصارهم وبصائرهم حجب يريدون أن يكذبوا، وأن يزوروا التاريخ، وأن يقولوا للناس كلاما لا أصل له في تصور الإسلام وتصويره للأمور. شئ آخر يتصل بالهجرة وهو قصة التشريع. يشيع بين الناس أن ما بعد الهجرة كان عصر التشريع، وأن ما قبل الهجرة كان عصر التمهيد، هذا كلام مدخول، ويحتاج إلى شئ من التوضيح. فإن شرائع العقيدة كلها تمت قبل الهجرة، وشرائع الأخلاق الفاضلة كلها تمت قبل الهجرة، وأن العبادات من صلاة وزكاة تمت قبل الهجرة والحج معروف من شريعة إبراهيم، وإذا كان فرض الصوم قد تأخر إلى ما بعد الهجرة فلا يقدح هذا فى أن ما قبل الهجرة كان عصر تشريع لأهم ما تحتاج إليه الأمة فى عقائدها وعباداتها. الصلاة شرعت قبل الهجرة، الزكاة شرعت قبل الهجرة، أوائل سورة المؤمنون وهى سورة مكية، تقول : (قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) كل هذا شرع قبل الهجرة، بل كان تشريع الزكاة من أول ما عرف بعد الإيمان بالله والصلاة مباشرة. وسورة المدثر وهى من أول ما نزل، نقرأ فيها قوله تعالى على لسان ص _237(3/223)
المؤمنين وهم فى نعيمهم يسائلون المجرمين: (ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين) تشريع الخمر أغلب العلماء يرى أن الأمر الحاسم بترك الخمر كان فى المدينة ويرى آخرون أن الخمر من أسمائها " الإثم " يقول الشاعر: شربت الإثم حتى ضل عقلى - كذاك الإثم تذهب بالعقول والدليل على تحريم الإثم- الخمر- فى مكة قوله تعالى فى سورة الأعراف (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق ) تشريع الربا، صحيح أن آيات الربا من آخر ما نزل في سورة البقرة، ومن آخر ما نزل فى المدينة،.لكن تحريم الربا أشعر القرآن به فى الوحى المكى النازل بمكة، فى سورة الروم تقرأ قوله تعالى: (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) المضعفون.- آى الذين يضاعفون ثوابهم، ويكثرون عند الله أجرهم فالعصر الملكى كان عصر تشريع إلى جانب العصر المدني ألذى اكمل التشريع، وفرع فى كثير من المسائل بعد استقرار المجتمع الإسلامى وتكون الدولة فيه. مما ينبغى أن يعرف أيضا فى الهجرة.. أن القرآن الذى نزل فى مكة قبل الهجرة أو فى المدينة بعد الهجرة سواء فى إعجازه، سراء فى بلاغته، سواء فى التحدى به. نعم، يقول بعض العلماء: إن بعض القرآن ثوابه فئ التلاوة أو فضله على غيره قد جاءت به نصوص، مثلا، قرأنا أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن . ص _238(3/224)
قال العلماء: إنما تتفاضل السور بموضوعاتها، فإذا كانت سورة تتحدث عن العقائد وأصول الدين فهى اكثر مثوبة عند الله، واكثر مكانة من آية تتحدث عن المواريث، أو عن الزواج، أو عن الطلاق، فآية الكرسى تفضل غيرها، لأن موضوع الحديث فى الآية عن الله جل جلاله أما السور كلها مكيها ومدنيها والآيات جميعا التى تناولت العقائد أو العبادات أو الأخلاق أو المعاملات فهى كلها فى طبقة رفيعة من البلاغة، وفى أوج من الإعجاز تحدى الله به الإنس والجن لا فارق بين قرآن مكى أو قران مدني. وقد قال المستشرقون- ومن بينهم مستشرق مجرى اسمه " جولد زيهر " قال-: إن القرآن المدنى أقل بلاغة من القرآن المكى!! وتبعه فى هذا اللغو بعض الذين كانوا يدرسون فى كلية الآداب، وبقوا فى أماكنهم ينشرون هذا الإلحاد، بل حفظت لهم مناصبهم إلى أن ماتوا. ونحن نريد أن نوجه النظر إلى أن الغزو الثقافى له تسلل وله مداخل، وله سوآت ويجب أن نحتاط لديننا وعقائدنا من عدوان المستشرقين والمبشرين وسماسرتهم فى هذا البلد. وحديثنا المهم فيما يتصل بهذا الغزو فى خطبتنا الثانية إن شاء الله. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _239(3/225)
الخطبة الثانية الحمد لله (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء، وسيد المصلحين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.، أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل.. واعلموا أيها المؤمنون أننا نواجه مستقبلا يحتاج منا إلى اليقظة الكاملة، والوعى الدقيق، والبصر الفاحص المنقب لكل ما يراد بنا أو يبيت لنا، والسبب فى هذا أن مصر هى طوعا أو كرها دماغ الإسلام وقلبه، وأن نجاح الإسلام فيها نجاح له فى العالم أجمع، وأن ضياع الإسلام فيها ضياع له فى العالم أجمع، بل الأمر ليس أمر ضياع، وإنما الأمر أمر المكانة، يوم يدحرج الإسلام من مكانته كدين أول، وموجه أول، وأساس أول لكل بناء خلقى وثقافى وتشريعى واجتماعى، يوم يدحرج الإسلام من هذه المكانة لتكون له مكانة ثانوية أو ثالثية أو رابعية، فمعنى هذه الدحرجة أن مستقبل الإسلام سيمضى إلى الغروب إن لم يكن اليوم فغدا وإن لم يكن غدا فبعد غد!!. " ولهذا فإن المحافظة على مكانة الإسلام كموجه أول فى كل شىء له أهمية فى بلدنا !!. إن مكانة مصر ومكانة الإسلام فيها موضع دراسة ذكية لمن يكرهون هذا البلد و يتآمرون على مستقبله، وقد شاء الله تعالى أن تقع حرب رمضان وأن تكون هذه الحرب نقلة بعيدة المدى، ودعما سماويا". مباغتا لهذه ص _240(3/226)
الأوضاع فى العالم العربى والعالم أجمع، فإذا الإيمان يعلن عن وجهه الصبيح، وحقيقته الحلوة، وإذا الجيش الذى حمل عبء دعايات مرة، ومواقف مصنوعة، إذا هذا الجيش يزأر بكلمة التوحيد ويمشى تحت صدى التكبر الذى يملأ الأودية، ويهز الآفاق ويصل الى غرضه. اريد أن اقول: لقد أحرزنا نصرا مرحليا بعد هزيمة سوداء صبغت الوجوه بالذل والعار، أريد أن أسأل ما الذى أكسبنا هذا النصر الآن ؟ وما الذى اكسبنا الخزى والهزيمة من قبل؟ التحقيق فى هذا أن أوضاع الأمة قبل سنة 1967 كان يجب أن تنتهى بالهزيمة!! وأن أوضاع الأمة قبل معركة العاشر من رمضان كان معها الأمل . فى جنب الله أن يضع خيرا فى الأيدى الممدودة له، وأن يجعلها ترجع بما يبيض وجهها ويرفع رأسها. قبل 1967 كان هناك إذلال لطوائف كثيرة من هذه الأمة، كان هناك حرب على الإسلام، كانت هناك مساءات لديننا، كان هناك استبداد أعمى، كانت هناك معتقلات مفتحة، كان سجن كبير يعتبر الإسلام جريمة، أما عندما دخلنا المعركة الأخيرة كانت أبواب الحرية قد بدأت تتفتح رويدا رويدا، صفيت المعتقلات، عاد الجيش إلى كلمه التكبير فى تمريناته، وكان ذلك لا يعرف له، بدأت أمتنا ترجع ألى دينها دون قلق أو خوف، كانت الخيانات التى كانت على مستوى عال بدأت تنزاح عن تاريخنا وعن صدرنا وعن مجتمعنا، ولكن أيرضى هذا الذين صنعوا هزيمة 67 ؟ لا، لن يرضيهم هذا، والذين صنعوا الهزيمة من كتاب خدموا الجبروت، وتملقوا المستبدين، وعاشوا يصنعون للأمة الإلحاد الذى يعميها عن الله، أهؤلاء يرضون أن تنعم الأمة بالإيمان والحرية، وأن تأخذ طريقا جديدا يعود بها إلى الله؟ لا, أنهم لا يريدون هذا، إنهم يريدون استئناف نفس الأوضاع التى كانت قبل سنة 67، قد تسأل ما الذى يريدون استئنافه ولأقل بصراحة لقد فهمت أن الأصوات التى يجب أن تختفى لا تزال عالية وأن الذين صنعوا الهزيمة لا يزالون يريدون أن يصنعوها مرة أخرى لا أدرى، لقد استقدمت(3/227)
بعض ص _241
الصحف " بول سارتر" طاغية الوجودية وعمودا من أعمدة الكفر فى فرنسا، وجاءت معه بعشيقته !! واقتحم الرجل النذل وعشيقته القصر الجمهورى، وكان ينبغى أن يحرم على رجل وعشيقته، لكن مراكز القوة وأسباب الشر كانت تريد أن تفرض على أمتنا الإلحاد،، الانحلال وأن مجىء رجل مع عشيقته أمر عادى. والآن يستقلم من فرنسا زعيم للتحالف اليسارى الاشتراكى. ما حاجتنا إلى هؤلاء؟ ما الذى نتلقاه من هؤلاء؟ لكن الذين صنعوا هزيمة سنة 67 يريدون أن يصنعوا هزيمة أخرى لبلدنا. إن الذين قادوا معركة النصر هم المؤمنون، ومنهم الحاج حافظ سلامة زعيم السويس غير منازع، الرجل الذى رفض الاستسلام وخرج مع الجنود والمؤمنين في مسجد الشهداء فى السويس، وقاتل حتى هزم اليهود وردهم بعد أن أحرق دباباتهم. وردهم خارج المدينة وجعلها مدينة محترمة صامدة. هذا الرجل بقى فى المعتقل ستة وعشرين شهرا، يذوق الذل، حتى خرج أخيرا فى أيام الحرية وأدى واجبه؟ لم يقل هذا الإنسان أنا ما أدافع عن بلد ذقت فيه الذل، لا، ما قال هذا، عهد الذل انتهى، ينبغى أن ينتهى إلى الأبد، إن أعداء الإسلام أصحاب حيلة، وقد بدءوا الآن يفكرون كيف يعودون بالأمة إلى الشتات الذى كانت فيه؟ ستسمع ألف كلمه إلا كلمة الإسلام، ستقرأ قضايا كثرة إلا قضايا الإسلام،- سترى أن ضيوفا يجيئون حمرا أو صفرا، ولن يجاء برجل يمثل الإسلام !! لم؟ هؤلاء لم يرثوا مصر، إن مصر التى شاء الله أن يكسر قودها، وان يحرر أرضها، ينبغى أن يعلم الناس الآن أن هذا التراب حرام على الأصوات التى خدمت الجبروت، وبقيت فى كنف الذل تهتف له وتبشر به ؟ ص _242(3/228)
ليس هؤلاء قادتنا، إن قادتنا هم الذين حملوا راية الإيمان وبكوا من خشية الله، وبشروا بالحق، وبقوا إلى جانب الكتاب والسنة. إننا نريد أن تصحو هذه الأمة، إن الأمة التى تنسى ولا تذكر لا تستحق البقاء. وقديما قيل فى مصر: نسيت روعته فى بلد كل شىء فيه ينسى بعد حين ونحن اذا كنا ننسى كل شئ بعد حين فلا نصلح للبقاء. ينبغى أن نعرف أن الإيمان أساس نهضتنا، وأن الإسلام سياج عزنا، وأن راية الحق هى التى ينبغى أن ترفرف علينا، وأن الذين خدموا الإلحاد، وجاعوا بزعمائه من أوربا رجالا أو نساء، أو الذين يريدون تعكير صفونا وتوسيخ فكرنا، وجعل حياتنا تعتمد على مصادر من الخارج هذا كله غثاء ولغو، نحن ينبغى أن نبنى على قواعدنا، وأن ننطلق من مبادئنا، وأن نتجه إلى غاياتنا وأهدافنا. نحن أغنياء عن " بول سارتر "، وعن ". ميتران " وعن بقية أولئك الذين عاشوا فى الغرب يحرسون ضلاله. وأنا أعلم وغيرى يعلم أن سارتر جاء هنا وبعد يوم كان فى إسرائيل! وأنا أعلم وغيرى يعلم أن زائر مصر الحالى صديق لإسرائيل وصديق لزعيمة إسرائيل! فما الذى يجعل أمتنا تتسول الرجال والثقافات على هذا النحو الأعمى! لكن هى طبيعة القوم، هى طبيعة العصابة التى تآمرت على مستقبل بلدنا من أمد غير طويل. إننا بحاجة ملحة إلى أن نعرف الإيمان ورايته، ولا نمشى إلا تحت هذه الراية حتى نصلى إلى غايتنا أن شاء الله. ص _243
" اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر " (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) عباد الله (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) أقم الصلاة(3/229)
مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد.. فها هو ذا الجزء الرابع من خطب الداعية الإسلامى الكبير فضيلة الإمام الشيخ محمد الغزالى.. أمدّ الله فى عمره، وأيده بروح من عنده. ويضم هذا الجزء ـ كإخوته من قبل ـ فنونا شتى من الثقافة الإسلامية التى تتصل بالظاهر والباطن.. واليوم والغد.. والدنيا والآخرة.. ويشتبك فيها الكلام عن حقوق الله بالإرشاد إلى حقوق العباد.. والكلام عن الدار الآخرة بالكلام عن الدنيا.. وكيف نجتاز فترتها، ونخلف وراءنا من قواعد الحق ما يضمن سيرها على سواء الصراط. فجزى الله شيخنا الملهم الموهوب خير الجزاء، وشكر له جهده وجهاده، وبارك فى علمه وحياته. وصلى الله تعالى وسلم كل معلم الناس الخير سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. قطب عبد الحميد قطب 26 ذو القعدة 1409 هـ
ص _009(4/1)
كان خلقه القرآن خطبة الجمعة بمسجد النور بالعباسية 1401 هـ / 1980 م الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فقد قال ربنا تبارك اسمه وصفا للكتاب للعزيز:" الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء و من يضلل الله فما له من هاد ". معنى أن القرآن متشابه فى هذه الآية: أن معانيه متماثلة على كثرة السور، وأن المحاور التى يدور عليها متقاربة وإن تعددت الآيات وطالت. وليس معنى التشابه هنا ما يقابل المحكم فى قوله تعالى:" هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ". المقصود بالمتشابه فى آية سورة الزمر: أن معانى القرآن الكريم على كثرتها تدور على مبادئ معروفة محدودة، وأغراض معينة واضحة، ولذلك فإن فى الإمكان القول بأنها متشابهة. ص _010(4/2)
وأظننا فى الجمعة السابقة أوضحنا أن القرآن الكريم دارت آياته الكثيرة على أربعة معان: أولا: وصف القرآن الكريم للكون، وحديثه عن المادة وآفاقها وقواها وأسرارها. ثانيا: تاريخ الماضين وسرد قصصهم. ثالثا: اليوم الحاضر وما فيه من تكاليف، وما يقع على الناس من أعباء. رابعا: مشاهد القيامة وما إلى ذلك مما يتصل بالحساب من ثواب وعقاب. معنى المثانى: الازدواج فى الجمع بين أمرين، فالقرآن الكريم فى تربيته للنفوس، وفى توجيهه للأمم يجمع بين مصلحتى الروح والجسد، بين منطقى الفكر والعاطفة، بين مصلحتى المعاش والمعاد، بين الوعد والوعيد، بين الرغبة والرهبة. قلت: إننا فى هذا الشهر نتحدث فى السيرة الشريفة، فى النبوة الخاتمة وصاحبها عليه الصلاة والسلام، وقد بدأت بالحديث عن القرآن لأن نبينا عليه الصلاة والسلام كان قرآنا حيا فى مسلكه، فى خلقه، فى شمائله، فى عبادته، فى جهاده، فى حربه، فى سلمه، فى سفره، فى إقامته، فى انتصاره، فى انهزامه، فى صحته، فى مرضه، فى خلوته، فى جلوته، فى شئونه كلها. صحّ عن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها أنها سئلت عن خلق رسول الله فقالت للسائل: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: فإن خلق نبى الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن . المعنى الذى شاع لهذا الحديث أنه ما من خير جاء فى القرآن أو بر أو فضل أو محمدة إلا والنبى عليه الصلاة والسلام قد تخلق بذلك، وظهر به، واصطبغت نفسه بحقيقته، وما من شر أو مرذول من السلوك والعمل حذر ص _011(4/3)
القرآن منه ونهى عنه إلا ابتعد النبى عليه الصلاة والسلام عنه وكان أبعد ما يكون عن اقترافه أو القرب منه. هذا هو المعنى الشائع للحديث، كأن الحديث يجعل دائرة القرآن فى شمائل النبى وسيرته لا تتعدى الأخلاق. فى تأملى للسيرة وفى تأملى لآفاق النبوة وجدت أن الحديث يمكن أن يكون أوسع دائرة وأرحب آفاقا، يمكن أن يكون المعنى المقصود أن النبى صلى الله عليه وسلم كان قرآنيا فى حياته كلها. كيف كان قرآنيا فى حياته كلها؟ ذكرت لكم أن القرآن الكريم ـ فى العنصر الأول فيه ـ عرف رب العالمين عن طريق آثاره فى الكون وإبداعه فى الخلق، فهو يعرف الله جل جلاله فيقول: " الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون " " الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " " الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين " " الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون " فهنا نجد أن الوصف لله سبحانه وتعالى هو بتوجيه الأنظار إلى أسمائه الحسنى وصفاته العليا فى كتاب الكون المفتوح وفى هذا العالم الذى يسر لنا كل ما فيه وسخرت لنا سماواته وأرضه. كان النبى عليه الصلاة والسلام فى هذا الجانب من القرآن شديد الحس ص _012(4/4)
بالوجود الإلهى، ومعنى " خلقه القرآن... " فى هذه الناحية: أنه ما ينظر إلى شىء إلا ويرى الوجود الأعلى مسيطرا عليه، نافذا فيه، واضحا من خلاله، يتضح هذا فى ذكره لله واستشعاره مجده ونعمه ووجوده. فالله جل شأنه فى كل شىء زمانا ومكانا، وقبل أن نشرح الزمان والمكان أجىء بآية من سورة الأنعام تقول " قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله " فهذه الآية تتحدث عن المكان، والآية التى بعدها تتحدث عن الزمان، قال تعالى " وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم" ملاحظة هذه المعانى زمانا ومكانا كانت تظهر فى حياته عليه الصلاة والسلام نوعا من التسبيح والتحميد والتمجيد والذكر والشكر لم يعرف مثله فى حياة بشر آخر، كان إذا أصبح قال: " أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله لا شريك له لا إله إلا هو وإليه النشور " " أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين " " اللهم ما أصبح بى من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر " ص _013(4/5)
وكان يحمد ربه قائلا: "يارب لك الحمد كما ينبغى لجلال وجهك ولعظيم سلطانك " إلى آخر هذه التسبيحات والتحميدات التى لهج بها لسانه، وعمر بها جناته، وتحركت بها عواطفه، وتركها فى تراثه نورا يقود الناس إلى ربهم ، يربطهم به أوثق رباط. كان فى شعوره بهيمنة الله على الكون ينظر إلى القريب والبعيد فلا يرى إلا قدرة الله وجلاله، ينظر إلى الهلال وقد بدا فيقول: " اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام ربى وربك الله" كان إذا نزل المطر حسر ثوبه حتى أصابه من المطر، فإذا سئل قال: " لأنه حديث عهد بربه تعالى " . وعن عائشة رضى الله عنها قالت: " كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: اللهم إنى أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، وإذا تخيلت ص _014(4/6)
السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سرى عنه فعرفت ذلك فى وجهه قالت عائشة: فسألته، فقال: لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا" . كان إذا رأى قرية يريد دخولها قال: " اللهم رب السموات السبع وما أظلن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها هذا هو تجاوب النبى مع ما فى القرآن من وصف للكون. النظر العادى يرى الشمس تطلع ويراها تغيب، يرى الريح تعصف ويراها ترقد فلا يهتز. أما نبينا عليه الصلاة والسلام فقلبه مرتبط بمن سخر الشمس والقمر، وبمن شق الأرض عن النبات، وبمن أدار القمر هلالا ثم عاد كالعرجون القديم، إلى آخر ما فى ذلك من مظاهر الكون. كان ارتباطه بالقرآن تطبيقا، هو يقرأ القرآن وشعوره وهو يقرأ أنه مع الكون، يعرف رب الكون من خلال صفحات هذا الكون الكبير. هذه ناحية، وهى معرفة الكون وأسراره وآثاره جل جلاله فى ملكوته الضخم، وتجاوب النبى صلى الله عليه وسلم معه. ص _015(4/7)
الناحية الثانية: تاريخ الماضين وسرد قصصهم.، تاريخ الحياة، تاريخ الناس منذ ظهروا على ظهر هذا الكوكب وبدأ نشاطهم يملأ الأرجاء، إن هذا التاريخ يصور مدنيات ظهرت وبادت، وقرى عمرت بالإيمان وبالفجور ثم حصدت وعادت إلى ربها ليسألها عما قدمت وأخرت، هذا التاريخ يحكيه القرآن الكريم ليعيش نبينا صلى الله عليه وسلم وهو يتلاقى معه. فى سورة الأنعام نقرأ قوله تعالى- وهو يصف عمل المرسلين بين الناس-:" وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون " الأنعام: ، ثم يجرى رب العالمين على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الكلام:" قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون * وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون " الأنعام: ، ثم يقول الله له بعد جدال مع المشركين:" ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين " الأنعام: . هذا كلام يوجه به النبى صلى الله عليه وسلم وهو يتعامل مع المشركين فى مكة، لكن لا جديد تحت الشمس، وما يقع له فى مكة وقع مثله لأول المرسلين نوح، قال تعالى: ".. ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون * ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون * ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين * قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما(4/8)
أنتم بمعجزين * ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون * أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون * وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ": - ص _016
القصة واحدة، والقضية واحدة، والتلاقى بين الموضوعين ظاهر، إلا أننا نجد القرآن الكريم وهو يذكر قصة نوح قبل الطوفان يتجاوز العصور الطويلة بعد الطوفان إلى عهد البعثة المحمدية، ثم فى أثناء سرد قصة نوح تجىء آية: " أم يقولون افتراه " وهى كلام عن موقف المشركين فى مكة مع النبى الخاتم صلى الله عليه وسلم وهو يؤسس عقيدة التوحيد ويطارد خرافات الوثنية، تجىء هذه الآية- أثناء الحديث عن نوح- فتنقل الماضى كله إلى حاضر الناس وتنقله إلى يومنا هذا، وهى تشير إلى أن الإنسان الكبير الذى كان خلقه القرآن كان فعلا يعيش مع ماضى الإنسانية ومع حاضرها، وأن موقفه ممن كذبوه وآذوه وتربصوا به هو موقف الأنبياء من قبل، وأن النتيجة واحدة، ولذلك قال الله فى آخر السورة: "وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين * وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون * ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون " كان خلقه القرآن، كان مع القرآن فى وصفه للكون، كان مع رب الكون وهو يبدى مظاهر قدرته وحكمته فى العالم الذى نعيش فيه. كان خلقه القرآن، كان مع القرآن فى سرده قصص الأولين، وفى عرضه لما أصاب أولئك الأولين من خير أو شر، من نصر أو هزيمة، من عقاب أو عفو، كان مع هذا التاريخ يعيش فيه ويبقى معه. فهو قرآن يتحرك، لأنه مع القرآن فى وصفه لله عن طريق التدبر فى آفاق الملكوت، ومع القرآن الكريم فى وصفه لفعل الله بخلقه وهو يحكى التاريخ القديم، وما تضمن من- قصص يجب أن(4/9)
نلتفت إليها وأن نستفيد منها، فإن قصص الأولين ليست مقطوعة عن حاضر العالم. ص _017
من علماء المادة من اعتبر الزمن بعدا رابعا مع الطول والعرض والعمق، ونظرية النسبية تشير إلى هذا، وقد كتب أحد الأطباء فى كتاب " الإنسان ذلك المجهول " ما يؤكد هذه الحقيقة. وقد أشار بعض المفسرين عندنا إلى أن الزمن بعد رابع فى حياتنا، لأننا نجىء بعد أسلافنا، ونحن نحمل رسالتهم، ونتبنى قضاياهم، ونسير إلى أهدافهم، ونقر ما فعلوا، وندافع عنه، فنحن مسئولون عما قدموا وأخروا. وهذا صحيح، وبهذا فسر العلماء قوله تعالى لبنى إسرائيل فى المدينة: " وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم * وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون " البقرة: ، . بعض الناس يقول: ما لليهود فى المدينة والنجاة من فرعون وأهله؟! الصلة مقطوعة. لا، الصلة قائمة، ما داموا يتبنون عقائد آبائهم، ويسيرون وفقها، ويدافعون عنها.، وينشرون حضارتها، فهم مسئولون ومؤاخذون. والواقع أن الإنسانية تشبه رجلا فى الخمسين أو الستين من عمره، إنه يجب أن يتذكر ماضيه، فهو مسئول عما كان فى شبابه وما فرط منه فى أيامه الأولى، وينبغى أن يعتبر بما كان منه. ولذلك فإن قصص القرآن الكريم- فى الحقيقة- إنما يشير إلى هذا البعد الرابع فى كيان الأمم وفى شخصيتها عندما يحكى القرآن لنا ما كان، لأن ما كان ليس غريبا علينا، إنه يعنينا أتم العناية، فيجب أن نكترث به، وأن نلتفت إليه، وأن نستفيد منه، والرجل العظيم القرآنى النزعة الذى حمل هذا القرآن كان يمثل هذه المعانى. المعنى الثالث: اليوم الحاضر وما فيه من تكاليف. ص _0 ص(4/10)
إن القرآن الكريم يأمر وينهى، يعلم ويربى، يعظ ويذكر، لنسير وفق مراد الله لنا، ووفق ما خط لمحيانا على ظهر الأرض، ورب العالمين لا يستفيد من طاعات الناس شيئا، ولا يضره من معاصى الناس شيئا، إنما يفعل ذلك لمصالح العباد أنفسهم: " وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين " والواقع أن الناس ـ الآن وقبل الآن ـ قسمان: قسم يريد أن يحيا وفق هواه، ما يتجه بتوجيه الله له، إنما يريد أن ينبعث من رغباته ومن شهواته ومن أهوائه وآرائه لا يبالى بشىء. وقسم يستمع إلى هدايات الله ويرى أن فيها مصلحته ورحمته، وأن من الحكمة أن يعيش وفق الخط الذى أمره الله أن يستقيم عليه. حاضر الناس أو ما هم عليه فى معتقداتهم وفى أعمالهم وفى أحوالهم كلها كان نبينا عليه الصلاة والسلام صورة جيدة له، فهو فيما يصيبه من خير أو شر. يرى أصابع القدر فى كل شىء، هناك ناس ـ كما وصف الله ـ : " فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا و الآخرة ذلك هو الخسران المبين " رأينا نبينا عليه الصلاة والسلام فى أشد الساعات تعبا له يستقيم لقدر الله، ويرجو من الله الرضا. فى هزيمة " أحد " كان المصاب شديدا، وكان الجرح عميقا، وكان الألم مستوليا على المؤمنين غما بغم، ومع ذلك فإن النبى عليه الصلاة والسلام فى أعقاب المعركة قال لأصحابه: " استووا حتى أثنى على ربى "! المتنبى لما أغضبه سيف الدولة قال: فإن يكن الفعل الذى ساء واحدا فأفعاله اللائى سررن ألوف ص _019(4/11)
نحن نكبر نبينا عليه الصلاة والسلام عن أن نضرب له مثلا من موقف شاعر مع ممدوحه، ولكننا نقرب مثلا صغيرا ليعلم الناس أن الموصولين بالله يشغلهم ما يحسون به من رفد الله ومجده، وما يشغلهم من تسبيحه وحمده، إن ذلك كله يخفف من آلام الحياة إذا أحاطت بهم، بل لعل ما يشغلهم أولا وآخرا هو إرضاء الله. فى غزوة " الخندق " ظل القتال أمدا غريبا حتى ذهبت العصر فكان حزن النبى صلى الله عليه وسلم عليها شديدا وقال: " ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس " المعنى الرابع: اليوم الآخر وما يتصل به. اليوم الآخر ذكر فى القرآن وفى السنة كثيرا، والموت ذكر فى القرآن وفى السنة كثيرا، وينبغى أن يعرف شىء فى هذه النواحى، لماذا؟ لأن الناس تظن أن الدين هدم للدنيا، أو أن الدين يبنى الآخرة على أنقاض الأولى، أو أن المتدينين نظرتهم تشاؤمية انسحابية، هكذا يتصور الناس الدين، وهذا غير صحيح. الواقع أن السبب فى كثرة كلام الله جل جلاله عن الدار الآخرة هو كسر غرور الناس بالدنيا، فإن انشغال الناس بحاضرهم واحتباسهم فى آلامهم وآمالهم الحاضرة يكاد يذهلهم ذهولا مطلقا عن اليوم الذى ينتظرهم، فيريد الله أن يبين لأى إنسان ليستطيع فى لحظة أن ينتقل من صحراء الجزيرة إلى أنهار النعيم فى لحظة شهادة !! لحظة وحيدة سريعة تنقله من دار ليس فيها إلا الشظف إلى دار أخرى فيها النعيم المقيم والرحيق المختوم! هذا نوع من المعادلة، فى علم الطبيعة يقولون: إن ذراع المقاومة مع المقاومة يعادل ذراع القوة مع القوة. ص _020(4/12)
فالتعادل لابد منه، لكى يكون هناك توازن، والناس يفقدون توازنهم عندما يعبدون الأولى وينسون الآخرة، فلابد من إعادة التوازن، ولو أن إنسانا آثر الآخرة ونسى الأولى لكان مخطئا، فإنه ما يستطيع أن يكون آخرته إلا من نجاحه فى دنياه، وما يستطيع أن ينصر دينه إلا بامتلاكه للدنيا وفهمه لقوانينها وتسخير هذا الفهم أو الملك لنصرة الحق وتأييده، ما بد من هذا، وعلى ضوء ذلك نفهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها " . لماذا يغرسها والآخرة تقوم؟ لأن الغرس طلب للآخرة، لأن الغرس عبادة تضمن الآخرة، لأن الغرس يغنى المؤمنين عن ملأ أيديهم إلى طلب معونة الكافرين، لأن الغرس هنا ضمان للأولى، ثم مع الإيمان تسخير لهذه الضمانات فى إعزاز المؤمنين وإعفافهم. وكان نبينا عليه الصلاة والسلام إذا قرأ القرآن يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ يتعوذ. ورووا أنه كان فى الصلاة يوما فتأخر فسئل بعد ذلك فقال: " لقد رأيت لى مقامى هذا كل شىء وُعِدته، حتى لقد رأيتنى أريد أن آخذ قطفا من الجنة حين رأيتمونى جعلت أتقدم، ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا حين رأيتمونى تأخرت " !! هذا إحساس إنسان الروحانية الفوارة تغلب على شخصيته أحيانا فتكاد تسلخه عن الإهاب الآدمى ليرى ما لا يستطيع الآخرون أن يروه، وهو نبى ملهم وإنسان يُحدث من السماء !! ص _021(4/13)
هذا فى نظرى معنى " كان خلقه القرآن ". معنى كان خلقه القرآن: أنه ـ فى حياته على ظهر الأرض وبين آفاقها وأرجائها وتحت السماء الرحبة، ومع تاريخ الحياة والأحياء على امتداده الطويل، وفى زحام الأحياء الذى يلهى بمشاغله ومتاعبه، وفى هذه النهايات التى ننتظرها حصادا لحياتنا على ظهر الأرض ـ كان يتجاوب مع القرآن الكريم!! القرآن كتاب مشحون بفنون من الثقافات التى تتصل بالظاهر والباطل، واليوم والغد، والدنيا والآخرة، والأخلاق والمسالك، والنيات والظواهر. إن هذا القرآن إذا تجاوب إنسان معه صاغه صياغة جديدة فى أحواله كلها، ثم يمشى المؤمنون بعد ذلك على منهج نبيهم صلى الله عليه وسلم وقد أجرى الله على لسانه: " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين" هذه هى النبوة الخاتمة، وتلك صلتها بالقرآن فى معانيه التى تتشابه أو التى تزدوج. هذا هو كتابنا الذى يجمع بين التربية والتعليم، بين الرغبة والرهبة، بين الوعد والوعيد، بين الخوف والرجاء، بين الدنيا والآخرة، بين الروح والجسد، بين العقل والعاطفة، هذا الكتاب الذى تشابهت معانيه وهو يصف ملكوت الله وحياة الأولين ومستقبل الآخرين. هذا الكتاب كله تجسد سلوكا وجهادا، عبادة وقيادة، تشريعا ومعاملة وسياسة فى مسلك النبى الخاتم صلى الله عليه وسلم ، فكان بهذا قديرا على تغيير الدنيا إلى وضع آخر وإلى وجهة أخرى. وجدير بأتباعه إذا اعتنقوا القرآن وفهموه وتثقفوا منه وعاشوا فى وجوده أن يقوموا بتلك الرسالة وأن يؤدوا ما عليهم لله. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. ص _022(4/14)
الخطبة الثانية الحمد لله " الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد " وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام النبيين وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فهذا تقويم السنة الميلادية المقبلة، وجدت دسا فيه وإهانة لديننا وافتياتا على نبينا صلى الله عليه وسلم ، وأنا لا أريد شيئا أكثر من الدفاع وإلقاء شعاع من الضوء على ما فى هذا من غش. هذا التقويم الذى أصدرته مؤسسة الأهرام التجارية ـ وأظنها تتبع القطاع العام ـ فى 28 صفر سنة 1401 هـ أو فى 4 يناير سنة 1981 م كتبت فى ظهر الورقة الأولى ما يأتى: قال محمد صلى الله عليه وسلم : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " وقال المسيح عليه السلام: " أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، باركوا لاعنيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم " . هذا كلام يحتاج إلى تعليق هادئ، فأما حديث: " انصر أخاك ص _023(4/15)
ظالما أو مظلوما " فتتمته ما يأتى: " قال رجل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره ". هذا معنى الحديث فجاء الكاتب وأخذ الجزء الأول؟ كما يجىء إنسان ويقول: " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة " !! وأين "وأنتم سكارى"؟ المهم: لا تقربوا الصلاة!! وبعد أن بتر الحديث وأفهم الناس أن محمدا صلى الله عليه وسلم رجل يقول لأتباعه: انضم إلى أخيك معتديا أو معتدى عليه، قال عن المسيح إنه قال: " أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، باركوا لاعنيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ". أما أن. المسيح قال هذا فليس بكثير على نبى التسامح والمحبة أن يقول هذا، ولكنه أيضا قال كلاما آخر، ففى الإصحاح العاشر من إنجيل: " متى " يقول: " لا تظنوا أنى جئت لألقى سلاما على الأرض، ما جئت لألقى سلاما بل سيفا"!! وفى الإصحاح الثانى عشر من إنجيل " لوقا " يقول: " جئت لألقى النار على الأرض " !! صاحب مؤسسة الأهرام التجارية أراد أن يوهم الناس فاختار حديثا وبتره على طريقة: ما قال ربك ويل للألى سكروا بل قال ربك ويل للمصلينا منطق السكارى والحشاشين ينتقل إلى مؤسسة الأهرام التجارية فتقول: محمد يأمر الناس بأن ينضموا إلى إخوانهم ظالمين ومظلومين. هذه واحدة، فى 6 يناير و7 يناير وهو ميلاد السيد المسيح عند الأقباط جاء الكاتب بأبيات لأحمد شوقى : ص _024(4/16)
وُلد الرفق يوم مولد عيسى والمروءات والهدى والحياء وازدهى الكون بالوليد وضاءت بسناه من الثرى الأرجاء وسرت آية المسيح كما يسرى من الفجر فى الوجود الضياء هذا كلام صحيح، ونحن نؤيده، فإذا أردت أن تتحدث عن ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن تحدثت عن ميلاد عيسى صلى الله عليه وسلم فماذا تقول؟ كان يمكن أن تنقل عن شوقى، نقلت له أبياتا فى مدح عيسى عليه الصلاة والسلام انقل من شوقى البيت الأول ـ حتى ـ من الهمزية: وُلد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء لا، لم يقل هذا، بل قال ما يأتى: فى يوم الاثنين الموافق 23 إبريل سنة 571 م كان مولده ـ مولد من؟ الحقد طفح، ما قدر أن يقول: مولد محمد ـ كان مولده فى بيت أمه السيدة آمنة بنت وهب بعد وفاة أبيه عبد الله بن عبد المطلب، فى هذا اليوم الثانى عشر من ربيع الأول يحتفل المسلمون فى مشارق الأرض ومغاربها بمولده صلى الله عليه وسلم. هذا هو الذى قيل، نحن نعفو وندعو للعفو، لكن نقول للدولة: من أخطأ يؤدب، ولا ينبغى أن يترك مبشر يشتغل بمنطق السكارى أو منطق الحشاشين ليتناول صاحب الرسالة ودين الأمة بهذه الطريقة. إننا أهل سماحة، وقلت: إننى ـ فقط ـ أدفع عن نبينا وعن أمتنا، وأوضح أننا نكره العدوان، ولكننا نرفض من الآخرين أن يستغلوا طيبتنا فى النيل منا وإهانة ديننا ونبينا عليه الصلاة والسلام، وسننتظر ما يصنعه المسئولون مع مؤسسة الأهرام التجارية التى رأت أن تشتغل بالتبشير على آخر الزمان. ص _025(4/17)
" اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " . " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " . عباد الله: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " . أقم الصلاة * * * ص _026
عرض موجز لمسيرة الدعوة الإسلامية خلال أربعة عشر قرنا خطبة الجمعة بجامع عمرو بن العاص الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.. أما بعد: فإن العقل الإنسانى ينضج مع طول الدراسة وكثرة التجربة، والإيمان بالله ينمو ويستوى ـ أيضا ـ مع طول الدراسة، وكثرة التجربة، وملاحظة القدر الأعلى فيما يكون من شئون الناس، وفيما يقع لهم من ضحك أو بكاء، ومن هزيمة أو نصر، ومن رفعة أو ضعة. ومن هنا أمرنا رب العالمين أن ندرس التاريخ، وأن نستخلص العبر منه، وأن ننتفع بما كان من أحوال الناس وبما كان من سنن الله فى هذه الأحوال، وذلك حتى ينضج العقل والإيمان معا، قال تعالى: "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور " وعندما قرعت مسامعى أنباء الوحدة المرتقبة بين " مصر" وليبيا" شعرت بشىء من الرضا، ولكننى فى الوقت نفسه قلت: ينبغى أن نعود إلى ماضى أمتنا الطويل نقف بإزائه وجها لوجه، نتفرس فى ص _027(4/18)
ملامحه، ونتعمق فى معالمه، ونرجع منه بعظات تصون غدنا، وتحدو مستقبلنا، وتسدد خطانا إلى الغاية المنشودة حتى لا نرتجل تصرفا نندم عليه، وحتى لا يعبث بنا الأعداء كما عبثوا بنا قديما. وفى ساعة من طواف العقل بالماضى وجدت أن هذا الدين الذى نعتنقه سلخ من عمره ـ المديد إن شاء الله ـ أربعة عشر قرنا، وأن هذه القرون الأربعة عشر يمكن أن تقسم على خمس مراحل متميزة، وبداهة لا يمكن لبشر أن يتحدث عن الإسلام فى خطبة، ولكننى أتابع خطا بيانيا يمثل الانحدار والارتفاع فى هذه المراحل الخمس لكى نعود على عجل بعد سياحة سريعة إلى حاضرنا لنواجه يومنا وغدنا ببصيرة مفتوحة وفكر مستنير. إن المراحل الخمس التى مر بها تاريخنا خلال أربعة عشر قرنا يمكن أن توجز فى: أولا: عصر النبوة والخلافة الراشدة. ثانيا: عصر الدولة الأموية. ثالثا: عصر الدولة العباسية. رابعا: عصر الدولة العثمانية. خامسا: عصر الانحلال والتمزق والفرقة والتقسيم الذى بدأ منذ الهجوم الاستعمارى على الدولة التركية وإسقاط الخلافة العثمانية، وتحويل المسلمين فى أرجاء العالم إلى أمة ممزقة لا يجوز أن تجتمع على دينها ولا أن يرتفع لإسلامها علم واحد. هذه هى المراحل الخمس فى تاريخنا الطويل. فإذا نظرت إلى عصر النبوة وجدت أن محمدا عليه الصلاة والسلام ـ كما قلت بإيجاز ـ رباه الله جل جلاله ليربى العرب به، وربى العرب به ليربى بهم الناس أجمعين !! فاستطاع خلال حياة الرسالة ـ التى لا تتجاوز ثلاثا وعشرين سنة ـ أن يوحد الأمة العربية وكانت قبائل نافرة وطباعا شرسة غليظة وقوى مبعثرة هنا وهناك. ص _028(4/19)
استطاع هذا النبى الكريم ـ بوحى الله، وبإشراق النبوة، وبصفاء الرسالة ـ أن يجمع العرب قبل أن يموت فما تركهم إلا وهم أمة: الحق روحها، والإخلاص هو الذى يدور فى جهازها العصبى، والانطلاق لله هو الذى يحدوها تتحرك به أو تسكن، فجاءت دولة الخلافة، وكانت دولة التكوين للنواة الاسلامية، دولة الصراع مع الباطل، دولة التطبيق لمبادئ الإسلام وتعاليمه. ويلاحظ أن دولة الخلافة منحت المسلمين حقوقا رحبة، وفهم المسلمون ـ لأول مرة فى تاريخ الدنيا ـ أن الحاكم ـ بلغة عصرنا ـ موظف عمومى، أجير للناس، يكدح لهم، ويأخذ مرتبه نظير عرق جبينه الذى يتصبب وهو يخدم الأمة ويسعى فى مصالحها، وليس له حق مقدس، وليس له حق السمع والطاعة إلا فيما يرضى الله. وعرف عن دولة الخلافة الراشدة أنها وفرت للفرد امتداده المطلق، وعزته الموفورة، فكان الأمير يقول للناس: " أيها الناس: إنى قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى " . وعرف فى تاريخ الدولة الراشدة أن المال كان لمصلحة الأمة جمعاء، فما توافر فى بيت ليحتكر أو يستبد به أحد، وما ضاعت أسرة أو قبيلة من الناس وفى الأمة مال موفور. كانت الأمة الإسلامية تمثل الرشد السياسى فى العالم يومئذ، ولم يعرف فى تاريخ الأولين والآخرين عدل سياسى أو اجتماعى كالعدل الذى توافر للأفراد يومئذ !! إلا أن شيئا حدث يعتبره المؤرخون النقدة عيبا للجماهير، إن الجماهير ـ أحيانا ـ تخطئ فى استغلال الحريات الكثيرة التى تمنحها، وربما أسرفت فى استعمال هذه الحرية الى حد يسىء إلها، وبعض الملاحظين ص _029(4/20)
يقول: إن العمال فى " انكلترا " يستغلون السعة والمرح والعدالة والأمانة ووفرة الكرامة البشرية هناك لإملاء مطالب شخصية. قد يكون ذلك صحيحا أو خطأ، ليس هذا شأنى ولا هو موضوعى، إنما الذى أوجه النظر إليه أن جماهير المسلمين فى عهد الخلافة الراشدة عبت من الحرية حتى بطرت، وبلغ من حريتها أنها زحفت على المدينة المنورة تريد أن تناقش الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضى الله عنه بعض تصرفات نسبت إليه، وأيا كانت هذه التصرفات فما كانت تبيح فتنة ولا تسبب ثورة، ولكن عثمان بن عفان رضى الله عنه كان خليفة راشدا، ما فكر فى أن يستغل عصبيته ولا أن يستثير أحبابه وأنصاره وأقاربه لضرب الثورة ـ أو بتعبير العصر الحديث لإطلاق الرصاص على المتظاهرين ـ لا، كان الرجل أعف نفسا، وأشرف طبعا، وأشد تقديرا لحريات الجماهير مما يتصور الناس، فقتل بهذه السياسة . وجاء بعده على بن أبى طالب رضى الله عنه فشغب عليه بعض المتنطعين من أتباع الإسلام أو ممن يدعون التقوى والتوغل فى العبادة من الخوارج وأشباههم، فكانت فترة حكمه التى قضاها فى الخلافة ـ وهى خمس سنوات ـ فترة إعياء نفسى، وإرهاق عصبى، وتعب موصول، وكان أصدق ما قيل فى على بن أبى طالب وهو يذهب إلى ربه بعد أن قتل غدرا البيت الذى تمثلت به السيدة عائشة رضى الله عنها عندما بلغها مقتل على: فألقت عصاها واستقر بها النَّوى كما قَرَّعَيْنًا بالإياب المسافر ص _030(4/21)
استراح الرجل كما يستريح المسافر المتعب عندما يصل إلى بيته ويلقى رحاله ويريد أن يطمئن إلى يومه قبل غده. المهم أن الدولة انتهت وجاء بعدها حكم سياسى استبدادى، وهو ما يقع غالبا فى أعقاب الحريات الكثيرة التى لا تحسن الجماهير استغلالها، فجاء الحكم الأموى، وتميز هذا الحكم بأمور تحسب له وأمور تحسب عليه. فأما ما يحسب له: فقد مضى فى طريق التحرير والفتح، واستطاع أن يمد رقعة الإسلام شرقا وغربا إلى أبعد ما وصلت إليه تقريبا، وصل إلى " الصين " شرقا، وإلى " فرنسا " غربا، وتوغل فى " فرنسا " وفى جنوب " سويسرا "، وتميزت الدولة الأموية أيضا بأن الطابع العربى كان واجهتها وصبغتها. وأما ما يحسب عليه: فقد وقع نوع من الاستبداد السياسى، ومع الاستبداد السياسى حدثت أخطاء أطاحت بالحكم الأموى، ذلك أن طبيعة الاستبداد السياسى حصر الحكم فى أسرة، وحصر الملك فى أفراد معينين، وبناء طبقات أو بيوتات تعيش على هامش هذا الملك العضوض، ثم الافتيات على الناس فى الأموال وفى الحريات، ثم التنكر للكفايات الكبيرة عندما تظهر هنا وهناك، ثم انضم إلى هذا أن الواجهة العربية تجهمت للأجناس الأخرى، وهذا خطأ، فإن العروبة فى الإسلام ليست قرابة جنس، ولا عرقا دمويا يصل بين جماعة من الخلق، إن العروبة فى الإسلام لسانا أو لغة هى وعاء الوحى، فمن أجاد اللغة ودخل فى الدين فهو عربى مسلم ولو كان أبوه أمريكيا. هذه التصرفات أنشأت حالة من البلبلة، فإن كبار القادة لم يجدوا التكريم الذى ينبغى أن يوفر لهم، فـ " محمد بن القاسم " ـ شاب فى ص _031(4/22)
العشرين من عمره ـ قاد جيشا فتح به " السند " ـ لو أن هذا القائد فى بلد كفرنسا لجعلته مثل " نابليون "، لو أنه فى انجلترا لجعلته مثل "ولسن " ولكنه فى بلد تأكل الكفايات أو فى جو يحتقر العبقريات، فقال الرجل متمثلا وهو يعذب: أضاعونى وأى فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر!! وفاتح الأندلس رجع مهانا !! لِمَ؟ لأن الحكم الاستبدادى يعطى منافعه من حوله، ويرمى بالمغارم على الآخرين، ولا يكرم إلا من يخضع له أو يجعل ذمته أجيرة للتافهين الذين يحكمون. المهم أن الدولة الأموية انهارت بخيرها وشرها، وجاءت الدولة العباسية، وهذه هى المرحلة الثالثة، وهى مرحلة تحتاج إلى شىء من الدراسة، لماذا؟ لأن هذه الدولة فتحت أبواب الترجمة من أقطار الدنيا، واطلاع المسلمين على ثقافات الأجانب وعلى أنواع المعرفة التى تشيع بين الناس شىء مطلوب ولكن فى حدود وإلى نطاق معين لا يعدوه. إن الإسلام دين الفطرة السليمة، ودين العقل الراشد، وهو بهذه الطبيعة الفطرية الفكرية مفتوح لجميع الثقافات ومفتوح أمام جميع الحضارات والأجناس، ولكن على أساس التمحيص والنقد وميز الصواب ص _032(4/23)
من الخطأ، على أساس ألا تطرح ما عندك وتعجب بما عند غيرك وإن كان خرافة. والذى حدث أن فلسفة اليونان والسريان وسخافات الرومان ومن إليهم من أهل الأرض دخلت بلادنا واختلطت مع الثقافة الإسلامية اختلاطا أساء إليها. ثم وقعت الحضارة الإسلامية فريسة بين نوعين من التصرفات: نوع المنحلين الذين يبحثون عن الشهوات واللذات. ونوع المتزمتين المعزولين ممن تركوا الدنيا تسير وفق هواها وهم المتصوفون الذين أخذوا جانبا فى صوامعهم أو بيوتهم وأخذوا يعبدون الله جانبا !! وانتهزت الصليبية العالمية المتربصة هذه الميوعة الفكرية وهذا الاضطراب النفسى، وهجمت على بلاد الإسلام هجوما اكتتبت أوربا كلها فى فرقه، وأسهمت جميعها فى إمداده بالقوى المالية والعسكرية التى تعين عليه، فكان الإنكليز إلى جانب الفرنسيين إلى جانب الاسبان والطليان إلى جانب النمساويين،كان هؤلاء جميعا فى صف واحد، وانطلق هذا السيل المجنون يولى وجهه شطر بلادنا، ويحاول ـ خلال مائتى سنة ـ أن يدمر ما أمامه وأن يسقط أعلام التوحيد تحت سنابك خيله!! وانتهت الحروب بعد كر وفر وهزائم وانتصارات بأن خسرت أوربا هذه الجولة وعادت كسيرة النفس مقهورة لا تلوى على شىء. وكان ينبغى أن يفكر المسلمون يومئذ، وأن يقفوا على أعتاب الماضى ليدرسوا ما الذى حدث، ما الذى سبب لهم تلك النكبات، ما الذى أنقذهم أخيرا من هذه الورطات، إلا أن العرب كانوا فى حال من البلبلة والهوان جعلتهم لا يحسنون التصرف، فنهض الجنس التركى بالخلافة الإسلامية، وأشرف على مستقبل المسلمين فى القارات الثلاث المعمورة يومئذ: آسيا وأفريقيا وأوربا. وهنا نجد أنفسنا أمام المرحلة الرابعة من التاريخ الإسلامى، هذه ص _033(4/24)
المرحلة تميزت بأمور خطيرة، فإن الجنس الحاكم جنس تركى تعصب لتركيته لغة ودما، وبذلك وقعت فجوة غائرة عميقة بين الأتراك وبين الإسلام والجنس العربى والأجناس الأخرى. لِمَ؟ لأن الإسلام عربى فى مصادره التربوية والتوجيهية والاجتماعية والسياسية، القرآن عربى ولا يمكن أن يتترك، والسنة عربية لأن الرسول عليه الصلاة والسلام عربى، ومصادر الثقافة الإسلامية عربية، وأحد أمرين: إما أن ينسلخ القائد الذى يقود المسلمين من تركيته ليكون عربيا ويقود العرب ويقود الإسلام والمسلمين، وإما أن يتخلى عن القيادة للقادرين عليها من العرب، وهذا ما لم يفعله الترك، ولذلك حدث ما يأتى: بدأ. المسلمون فى أنحاء الأرض يضعفون ماديا وأدبيا، وبدأت مصابيح الثقافة تنطفئ فى مدائن الإسلام وقراه، وفى الوقت الذى أخذ فيه عصر الإحياء يصعد بالأوربيين فى سلم الترقى كان الحكم التركى يهبط بالمسلمين فى سلم التردى، وبعدت مسافة الحضارة بين المسلمين من ناحية وبين الأوربيين من ناحية. صحيح أن الأتراك كانوا مسلمين متعصبين للدين، يحبونه ويسفكون دمهم من أجله، ولكن العاطفة وحدها لا تكفى فى نصرة عقيدة ولا فى إقامة دولة ولا فى بناء حضارة.. لقد رووا أن جنديا تركيا كان ينام يوما، فصحا فى جوف الليل فوجد قدميه تتجهان إلى نافذة فيها مصحف، ففزع الرجل ووقف طول الليل على قدميه شاهرا سيفه يقول: مصحف شريف ! الرجل خاف على نفسه من الله أو ظن أن اتجاه أقدامه إلى المصحف كفر! فكانت النتيجة أن استيقظ طول الليل وترجم عن حبه أو عن إكرامه للمصحف بهذا الأسلوب، كان الأتراك متدينين، وعندما أعيد الأذان إلى بلادهم من بضع سنين كانوا يبكون فى الشوارع ! لكن العاطفة الدينية لا تكفى، بل يجب مع العاطفة أن يكون هناك عقل نير وعلم واسع ، وتجربة ص _034(4/25)
حصيفة وتمكن من الدنيا راسخ، يجب أن يكون مع العاطفة ما يعين على نجاحها. وما يستطيع الترك ـ وهم متعصبون لجنسهم ولغتهم ـ أن يكونوا القادة الحقيقيين للعالم الإسلامى، وكان الأوربيون يدرسون هزائمهم، فلما هجموا على الأتراك وعلى العالم الإسلامى كله كانت الكفة فى جانب الهاجمين. حقا استمات الأتراك وغير الأتراك من الأجناس المحكومة فى الدفاع وقتل كثيرون.. من مائة وأربعين سنة قرر الحاكم الفرنسى فى " الجزائر " أن يستولى على أجمل مسجد فى العاصمة ـ مسجد " كينشاوة " ـ وأن يحوله إلى كنيسة، وفعلا تحرك سلاح المدفعية الفرنسى ومعه سلاح المهندسين وهجما على المسجد، وقتل وراء الأبواب نحو أربعة آلاف عربى وهم يقاومون هذا الجنون من التعصب والحقد !! ولكن تمت الهزيمة وتحول المسجد إلى كنيسة، ولم يستطع الأتراك أن يصنعوا شيئا، وكل ما حدث أنه بعد استقلال الجزائر حول المسلمون الكنيسة مرة أخرى إلى مسجد، هذا كل ما أمكن صنعه. لكن الذى حدث أن الهجوم الاستعمارى فى هذه المرحلة الخامسة والأخيرة استطاع أن ينتهى إلى رمى الخلافة فى البحر وإسقاط علم الإسلام فى المجال السياسى العالمى، وتحويل المسلمين إلى أمة يتيمة ليست لها أبوة ثقافية ولا عسكرية ولا حكومية تحمل آلام الإسلام أو تترجم عن مآربه ورغائبه. ص _035(4/26)
جاء عصر المرحلة الخامسة ـ عصر التمزيق ـ وهذا العصر كتب فيه على المسلمين أن يعيشوا فى بلادهم حيث كانوا، لكن على أساس أن لا يكون الرباط الإسلامى منظورا إليه فى تأسيس قرابة مشتركة بينهم وبين غيرهم !! المسلم فى " الفلبين " إذا ذُبح يُذبح، مَن يبكى له؟ لا أحد إلا بعض الأفراد الذين فى نفوسهم عاطفة وفى قلوبهم بقايا من الشعور بالأخوة الإسلامية ومن الإحساس بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: " ترى المؤمنين فى تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى " . المرحلة الخامسة تتميز بأن المسلم حيث كان يدرس تاريخ بلده دون أن يصل هذا التاريخ بالتاريخ الإسلامى، فالمسلمون فى " نيجيريا " وفى نيجيريا أربعون مليونا من المسلمين ـ قد يدرسون شئون بلدهم، فإذا درسوا الجزيرة العربية ـ إذا حدث أن درسوها ـ فإنهم يدرسونها كما يدرسون الجزائر البريطانية، أما أنها منبت محمد عليه الصلاة والسلام ومصدر الإسلام وأساس الرباط الذى يجمع مسلمى نيجيريا بمسلمى مصر بمسلمى السعودية بمسلمى الهند فلا !! فى هذا العصر ـ عصر التمزيق ـ يسمح للفلسفات والمبادئ الفكرية أن تنتعش وأن تنتشر وأن تجد من يدعو لها، ولكن لا يسمح للكيان الإسلامى أن يتلاقى. أشْبهَ المسلمون رجلا ضرب بالنار، وشتت أولاده فى بلاد كثيرة ، وقيل لكل منهم: احذر أن تلتقى بأخيك، بل قيل لكل منهم: إذا حاولت ـ حيث كنت ـ أن تشير إلى الماضى قتلناك !! هذه سياسة أوربا الاستعمارية نحو العالم العربى والإسلامى. بعد هذه المراحل الخمس أحب أن أذكر حقيقة دينية: إن الأمة الإسلامية قد تمرض ولكنها لا تموت، إن الأمة الإسلامية قد تبلى ولكنها ص _036(4/27)
تجدّد، وفعلا مع أودية الموت التى وجد المسلمون أنفسهم داخلها، ومع أسباب التلف التى أحاطت بهم من كل ناحية كان هناك من يقاوم بجبروت هذا الزحف: بالقلم، باللسان بالتربية بالتوجيه، بالحكم، بكل ما لديه من طاقة، ولم يمت العملاق، لم يمت الإسلام، بل الذين يرقبون الأحداث من الأوربيين ـ على اختلاف ألوانهم ـ يعلمون أن العالم الإسلامى يوشك أن يتمخض عن نهضة كبيرة، وأن المسلمين يشبهون جذوة نار تحت تراب، لابد أن ينفخ هذا التراب ثم تكشف الجذوة عن دفئها وحرارتها وتألقها. الأمة الإسلامية بدأت تنتعش، ومظاهر الوحدة التى تبدأ، ومرحلة الوحدة التى لمحنا بشائرها الآن نستقبلها بحفاوة لأنه لا معنى لبقاء الخطوط التى وضعها المستعمرون من إنكليز وفرنسيين وطليان وغيرهم، لا معنى لبقاء هذه الفرقة. لكن ينبغى أن نعلم أنفسنا أن نبض الوحدة بين العرب وبين المسلمين كلهم هو الدين، وأن أعداءنا سوف يستميتون ليصلوا إلى أحد أمرين: إما أن يقتلوا هذه الوحدة فلا توجد أبدا، وإما أن يجعلوها وحدة بلا دين فتموت تلقائيا؟ ماتت الوحدة بين مصر وسوريا، لأن بعض السوريين فرض أن يكون الإسلام بعيدا عن الوحدة، فلما وضع دستور الوحدة لم يجئ فى نصوصه ما يشير إلى أن الإسلام دين الدولة !! أما الآن فنحن فى مصر قررنا أن الإسلام دين الدولة، وقررنا إلى جانب ذلك أن الإسلام المصدر الرئيسى للتشريع، وإخواننا فى ليبيا قرروا كذلك أن يكون الإسلام دينا للدولة، وتعاونوا مع بعض الفقهاء والمفكرين الإسلاميين أن يجعلوا الشريعة قانونا، وبدأ العمل العلمى فى هذا. إذن نحن نستبشر أن توجد وحدة فى إطار الإسلام، تنبع من روحه، وتتدفق إلى غايته، وتلف الجماهير حول راية التوحيد وهى مطمئنة إلى وفائها وبذلها وتضحيتها. يجب أن نرقب بدهاء وبصرة ويقظة دسائس أعداء الإسلام ـ وما أكثرهم ـ إنهم سيستميتون إما لمنع الوحدة أو لجعلها تولد سقطا أو ص _037(4/28)
جنينا ميتا بأن تكون بعيدة عن الإسلام. يجب أن نذود هؤلاء الوحوش عن وحدتنا، عن تراثنا، عن ماضينا وحاضرنا، عن شرفنا فى الدنيا ووجاهتنا عند الله. إن الإسلام هو ديننا الذى نبيض به وجوهنا يوم أن نلقى ربنا، وهو أيضا مصدر قوتنا عندما نلقى أعداءنا فى هذه الأرض، والعصر عصر العقائد المتناحرة، يخدعكم ويكذب عليكم من يقول: إن النصرانية تركت نفسها، إن اليهودية تركت ذاتها، إن الهندوكية تجردت أو تمردت على تعاليمها. إن هذا العصر هو عصر العقائد، استيقظت اليهودية بكل ما لديها من أحقاد تاريخية وخرافات دينية، واستيقظت كذلك جميع النزعات والديانات الأخرى. فالقول بأن الإسلام يضعف فى وقت يقوى فيه غيره، أو ينحى جانبا فلا يتولى الزمام بينما تولت الزمام فى أجناس الأرض الأخرى عقائدها وأديانها، فهذا ما لا يسمع وما لا يقبل، واحذروا على دينكم الخطافين من حملة الأقلام والدساسين من رجال السياسة الذين يحاولون أن يجعلوا من وحدتنا وحدة ميتة بإبعادها عن الإسلام وعقائده وشرائعه. ديننا إيمان ونظام، عبادة ومعاملة، عقيدة وشريعة، بتعبير العصر الحديث: دين ودولة، وعلى هذا سرنا، ونحن ندعو الله أن يبارك الخطى الطيبة التى بدأت. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. * * * ص _038(4/29)
الخطبة الثانية الحمد لله" الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد " . وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: أيها الإخوة: وأنا جالس هنا استمعت إلى القرآن المذاع، وأظنه مذاعا من الإسكندرية لأنى أظن الخطبة هناك، استغربت موقف المسلمين من كتابهم، القارئ صوته جيد وله استعراضات فنية واضحة، المستمعون ما أظن أن المعانى خطرت ببالهم، لأنى عندما استمعت إلى قوله تعالى: "كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ". جرى خاطرى في هذه الدنيا كيف أن خضرتها ستجف، وأن حركتها ستهمد، وأن عمرانها سيخرب، وأن ستارة ستنهى الرواية الطويلة العريضة بكل ما فيها من ضحك وبكاء، وفرح وحزن، ويحتكم بعد ذلك البشر إلى ربهم "فريق في الجنة وفريق في السعير " . لكن هذا الخاطر الذى مر بى طارده وطواه صوت الناس الذين يستمعون لأنه صوت مجنون، كانوا يحيون القارئ طبعا، أما المعنى فلا. لو أن إنسانا عبر عن المعنى بصوت لتأوه من الألم، لأن كون الموت يعدو على الحياة ويفض أعراسها ويحولها إلى مآتم مسألة محزنة، لكن لا تأوه. يجب على أمتنا أن تغير موقفها من القرآن، القرآن ليس كتاب أغان يتلوى القارئ به ويطرب المستمع إلى نغماته وترانيمه، القرآن لغير هذا ص _039(4/30)