|
المؤلف : محمد نزير مكتبي
الناشر : دار البشائر الاسلامية
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
خطب الجمعة
محمد نزير مكتبي
دار البشائر الاسلامية
www.islammi.8m.com
القسم الأول
خطبة النبي صلى الله عليه وسلّم في أوّل جمعة صلاها في المدينة
" الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره, وأستهديه وأؤمن به, ولا أكفره, وأعادي من يكفره, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له, وأن محمدا عبده ورسوله, أرسله بالهدى ودين الحق, والنور والموعظة, على فترة من الرسل, وقلّة من العلم, وضلالة من الناس, وانقطاع من الزمن, ودنوّ من الساعة, وقرب الأجل, ومن يطع الله ورسوله فقد رشد, ومن يعصهما فقد غوى وفرّط, وضلّ ضلالا بعيدا.
وأوصيكم بتقوى الله, فانه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضّه على الآخرة, وأن يأمره بتقوى الله.
فاحذروا ما حذّركم الله من نفسه, ولا أفضل من ذلك نصيحة, ولا أفضل من ذلك ذكرى, وانه تقوى لمن عمل به على وجل ومخافة, وعون صدق على ما تبتغون من أمر الآخرة, ومن يصلح الذي بينه وبين الله تعالى من أمر السر والعلانية _ولا ينوي بذلك الا وجه الله تعالى_ يكن له ذكرا في عاجل أمره, وذخرا فيما بعد الموت, حين يفتقر المرء الى ما قدّم, وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا, ويحذركم الله نفسه, والله رؤوف بالعباد.
والذي صدق قوله, وأنجز وعده لا خلف لذلك! فانه يقول تعالى:{ ما يبدّل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد}.
واتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية, فانه من يتّق الله؛ فقد فاز فوزا عظيما.
وان تقوى الله تقي مقته, وتقي عقوبته, وتثي سخطه, وان تقوى الله تبيّض الوجه وترفع الدرجة.
خذوا بحظكم ولا تفرّطوا في جنب الله, قد علّمكم الله كتابه, ونهج بكم سبيله, ليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين.
(1/1)
فأحسنوا كما أحسن الله اليكم, وعادوا أعداءه, وجاهدوا في الله حق جهاده, هو اجتباكم وسمّاكم المسلمين, ليهلك من هلك عن بيّنة, ويحيا من حيّ عن بيّنة, ولا قوّة الا بالله, فأكثروا من ذكر الله, واعملوا لما بعد الموت, فانه من أصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس ولا يملكون منه, الله أكبر, ولا قوّة الا بالله العليّ العظيم".
ذكره الحافظ ابن جرير الطبري بقوله: حدّثني يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي أ،ه بلغه عن خطبة النبي صلى الله عليه وسلّم في أوّل خطبة جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عمرو بن عوف_رضي الله عنهم_ أنه قال, وذكر هذه الخطبة.
وأورد ابن كثير اسناده البيهقي الى أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف قال: كانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أ، قام فيهم, فحمد الله, وأثنى عليه بما هو أهله, ثم قال:
" أما بعد_ أيها الناس_فقدموا لأتفسكم, تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع, ثم ليقولّن له ربه _ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه_ ألأم يأتك رسولي فبلّغك, وآتيتك مالا, وأفضلت عليك, فما قدّمت لنفسك. فينظر _أي العبد_ يمينا وشمال, فلا يرى شيئا, ثم ينظر قدّامه فلا يرى غير جهنّم, فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشقّ تمرة, فليفعل, ومن لم يجد فبكلمة طيّبة, فان بها تجزى الحسنة عشر أمثالها الى سبعمائة ضعف. والسلام عليكم وعلى رسول الله ورحمة الله وبركاته".
ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّة أخرى, فقال:
" ان الحمد لله أحمده, وأستعينه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضلّ له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له.
(1/2)
ان أحسن الحديث كتاب الله, قد أقلح من زيّنه الله في قلبه, وأدخله في الاسلام بعد الكفر, واختاره على ما سواه من أحاديث الناس, انه أحسن الحديث وأبلغه, احبوا من أحب الله, أحبوا الله من كل قلوبكم, ولا تملّوا كلام الله وذكره, ولا تقس عنه قلوبكم, فانه من يختار الله ويصطفي, فقد سمّاه خيرته من الأعمال, وخيرته من العباد, والصالح من الحديث, ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام.
فاعبدوا الله, ولا تشركوا به شيئا, واتقوه حق تقاته, واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم, وتحابّوا بروح الله بينكم, ان الله يغضب أن ينكث عهده.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
"محمد رسول الله" للشيخ عبدالله سراج الدين.
"الأنوار المحمدية" للشيخ يوسف النبهاني.
خطبة النبي صلى الله عليه وسلم
في حجّة الوداع
" الحمد للله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونتوب اليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أوصيكم عباد الله بتقوى الله, وأحثكم على طاعته, وأستفتح بالذي هو خير.
أما بعد, أيها الناس, اسمعوا مني أبيّن لكم, فاني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.
أيها الناس, ان دماءكم وأموالكم حرام عليكم الى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا, ألا هل بلّغت؟ اللهم فاشهد. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها الى من ائتمنه عليها. ان ربا الجاهلية موضوع, وان أوّل ربا أبدأ به ربا عمّي العباس بن عبد المطّلب, وان دماء الجاهلية موضوعة, وأول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث, وان مآثر الجاهلية موضوعة غير السّدانة والسّقاية, والعمد قود, وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر, وفيه مائة بعير. فمن زاد؛ فهو من أهل الجاهلية.
(1/3)
أيها الناس, ان الشيطان قد يثس أن يعبد في أرضكم هذه, ولكنّه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقّرون من أعمالكم.
أيها الناس, ان النسيء زيادة في الكفر, يضل به الذين كفروا, يحلّونه عاما, ويحرّمونه عاما لواطئواعدّة ما حرّم الله, وان الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض, منها أربعة حرم: ثلاث متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة ومحرّم ورجب الذي بين جمادى وشعبان, ألأ هل بلّغت؟ اللهم فاشهد.
أيها الناس: ان لنسائكم عليكم حقا, ولكن عليهنّ حق ألا يوطئن فرشكم غيركم, ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيتكم الا باذنكم, ولا يأتين بفاحشة؛ فان فعلن, فان الله قد أذن لكم أن تعضلوهن, وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح, فان انتهين وأطعنكم, فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وانما النساء عندكم عوان, ولا يملكنّ لأنفسهن شيئا, أخذتموهن بأمانة الله, واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
فاتقوا الله في النساء, واستوصوا بهن خيرا, ألا هل بلّغت؟ اللهم فاشهد.
أيها الناس, انما المؤمنون اخوة, ولا يحل لامرئ مال أخيه الا عن طيب نفس منه, ألا هل بلّغت؟ اللهم اشهد.
أيّها الناس, ان ربكم واحد, كلكم لآدم وآدم من تراب, أكرمكم عند الله أتقاكم. ليس لعربي فضل على عجمي الا بالتقوى. ألا هل بلّغت؟ اللهم اشهد. فليبلّغ الشاهد منكم الغائب.
أيها الناس, ان الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث, ولا تجوز لوارث وصيّة, ولا تجوز وصيّة في أكثر من الثلث, والولد للفراش وللعاهر الحجز. من ادّعى الى غير أبيه أو تولّى غير مواليه؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين, لا يقبل منه صرف ولا عدل. والسلام عليكم ورحمة الله ".
"نور اليقين", محمد الخضري.
من خطب سيدنا أبي بكر
رضي الله عنه
1. العمل لليوم الآخر:
أخرج ابن عساكر عن موسى بن عقبة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يخطب فيقول:
(1/4)
الحمد لله رب العالمين, أحمده وأستعينه, ونسأله الكرامة فيما بعد الموت, فانه قد دنا أجلي وأجلكم, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له, وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرا ونذيرا وسراجا منيرا, لينذر من كان حيّا ويحق القول على الكافرين. من يطع الله ورسوله فقد رشد, ومن يعصهما فقد ضل ضلالا مبينا.
أوصيكم بتقوى الله, والاعتصام بأمر الله الذي شرع لكم وهداكم به, فان جوامع هدى الاسلام بعد كلمة الاخلاص السمع والطاعة لمن ولاه الله أمركم, فانه من يطع الله وأولي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد أفلح وادّى الذي عليه من الحق, وايّاكم واتّباع الهوى, فقد أفلح من حفظ من الهوى والطمع والغضب, واياكم والفخر, وما فخر من خلق من تراب, ثم الى التراب يعود, ثم يأكله الدود, ثم هو حيّ وغدا ميّت؟!
واصبروا فان العمل كله بالصبر, واحذروا, والحذر ينفع, واعملوا, والعمل يقبل, واحذروا ما حذركم الله من عذابه, وسارعوا فيما وعدكم الله من رحمته, وافهموا وتفهّموا, واتقوا الله وتوقّوا, فان الله قد بيّن لكم ما أهلك من كان قبلكم, وما نجّى به من نجّى قبلكم, قد بيّن لكم في كتابه حلاله وحرامه, وما يحب من الأعمال وما يكره, فاني لا آلوكم ونفسي, والله المستعان, ولا حول ولا قوة الا بالله, واعلموا أنكم ما أخلصتم لله من أعمالكم فربّكم أطعتم, وحظّكم حفظتم, واغتبطتم, وما تطوعتم به لدينكم فاجعلوه نوافل بين أيديكم تستوفوا لسلفكم, وتعطوا جرايتكم حين فقركم وحاجتكم اليها, ثم تفكّروا عباد الله في اخوانكم وصحابتكم الذين مضوا, وقد وردوا على ما قدّموا, فأقاموا عليه, وحلّوا في الشقاء والسعادة فيما بعد الموت. ان الله ليس له شريك, وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه به خيرا, ولا يصرف عنه سوءا الا بطاعته واتباع أمره, فانه لا خير في خير بعده النار, ولا شر في شر بعده الجنة.
(1/5)
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم, وصلّوا على نبيّكم صلى الله عليه وسلم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
"حياة الصحابة" (4\243-245)
2. خطبته رضي الله عنه عن اخلاص العمل لليوم الآخر:
ان الله عز وجل لا يقبل من الأعمال الا ما أريد به وجهه, فأريدوا الله بأعمالكم, واعلموا أن ما أخلصتم لله من أعمالكم فطاعة أتيتموها, وخطأ ظفرتم به, وضرائب أدّيتموها, وسلف قدّمتوه من أيّام فانية لأخرى باقية لحين فقركم وحاجتكم, اعتبروا عباد الله بمن مات منكم, وتفكّروا فيمن كان قبلكم, أين كانوا أمس وأين هم اليوم؟.
أين الجبّارون؟ وأين الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في موطن الحروب؟ قد تضعضع بهم الدهر, وصاروا رميما, قد تركت عليهم القالات: الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات.
وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟.
قد بعدوا ونسي ذكرهم, وصاروا كلا شيء, ألا ان الله قد أبقى عليهم التبعات, وقطع عنهم الشهوات, ومضوا والأعمال أعمالهم والدنيا دنيا غيرهم, وبقينا خلفا بعدهم, فان نحن اعتبرنا بهم؛ نجونا, وان اغتررنا كنا مثلهم.
أين الوضّاء الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم؟.
صاروا ترابا, وصار ما فرّطوا فيه حسرة عليهم.
أين الذين بنوا المدائن, وحصّنوها بالحوائط, وجعلوا فيها الأعاجيب؟ قد تركوها لمن خلفهم. فتلك مساكنهم خاوية وهم ظلمات القبور, هل تحس منهم من أحد أ, تسمع لهم ركزا؟
أين من تعرفون من أبنائكم واخوانكم؟ قد انتهت بهم آجالهم, فوردوا على ما قدّموا, فحلّوا عليه, وأقاموا للشقوة والسعادة فيما بعد الموت.
ألا ان الله لا شريك له ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرا, ولا يصرف عنه سوءا الا بطاعة واتباع أوامره, واعلموا أنكم عبيد مدينون, وأن ما عنده لا يدرك الا بطاعته. أما انه لا خير بخير بعده النار, ولا شر بشر بعده الجنة.
(1/6)
أخرج هذه الخطبة الطبري في تاريخه عن عاصم بن عديّ باسناد فيه سيف. قال: وقام أيضا فحمد الله وأثنى عليه ثم فال:...
"حياة الصحابة" (4\242-243)
3. خطبته رضي الله عنه في الحث على العمل لليوم الآخر:
حمد الله وأثنى عليه, ثم قال:
أوصيكم بتقوى الله, وأن تنثنوا عليه بما هو أهله, وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة, وتجمعوا الالحاف بالمسألة, فان الله أثنى على زكريا وعلى أهل بيته, فقال:
{انهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين}.
ثم اعلموا عباد الله أ، الله قد ارتهن بحقّه أنفسكم, وأخذ على ذلك مواثيقكم, وعوّضكم بالقليل الفاني الكثير الباقي, وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه, ولا يطفأ نوره. فثقوا بقوله, وانتصحوا كتابه, واستبصروا به ليوم الظلمة, فانه خلقكم لعبادته, ووكل بكم الكرام الكاتبين, يعلمون ما تفعلون. ثم اعلموا عباد الله أنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيّب عنكم علمه, فان استطعتم أن تنقضي الآجال وأنتم في عمل الله, ولن تستطيعوا ذلك الا بالله, فسابقوا في مهل بأعمالكم قبل أن تنقضي آجالكم, فتردّكم الى سوء أعمالكم, فان أقواما جعلوا آجالهم لغيرهم, فأنهاكم أ، تكونوا أمثالهم.
فالوحى الوحى, والنجاء النجاء, فان وراءكم طالبا حثيثا مرّه, سريعا سيره.
"العقد الفريد" (4\61-62)
من خطب سيدنا عمر
رضي الله عنه
1.خطبته يوم الجابية
ذكر في كنز العمّال عن موسى بن عقبة, قال: هذه خطبة عمر بن الخطاب يوم الجابية:
(1/7)
أما بعد فاني أوصيكم بتقوى الله الذي يبقى, ويفنى ما سواه, الذي بطاعته يكرم أولياؤه وبمعصيته يضل أعداؤه, فليس لهالك هلك معذرة في فعل ضلالة حسبها هدى, ولا في ترك حق حسبه ضلالة. وان أحق ما تعهّد الراعي من رعيّته أن يتعاهدهم بما لله عليه من وظائف دينهم الذي هداهم الله له, وانما علينا أن نأمركم بما أمركم الله به من طاعته, وننهاكم عمّا نهاكم الله عنه من معصيته, وأن نقيم فيكم أمر الله عز وجل في قريب الناس وبعيدهم, ولا نبالي على من مال الحق, وقد علمت أقواما يتمنون في دينهم فيقولون: نحن نصلي مع المصلين, ونجاهد مع المجاهدين, وننتحل الهجرة, وكل ذلك يفعله أقوام لا يحمدونه بحقه, ون الايمان ليس بالتحلّي, وان للصلاة وقتا اشترطه الله فلا تصلح الا به, فوقت صلاة الفجر حين يزائل المرء ليله, ويحرم على الصائم طعامه وشرابه, فآتوها حظها من القرآن.
ووقت صلاة الظهر اذا كان القيظ, فحين تزيغ عن الفلك حتى يكون ظلك مثلك, وذلك حين يهجّر المهجّر, فاذا كان الشتاء, فحين تزيغ عن الفلك حتى تكون على حاجبك الأيمن, مع شروط الله في الوضوء والركوع والسجود, وذلك لئلا ينام عن الصلاة.
ووقت صلاة العصر والشمس بيضاء نقيّة قبل أن تصفارّ قدر ما يسير الراكب على الجمل الثّقال فرسخين قبل غروب الشمس. وصلاة المغرب حين تغرب الشمس ويفطر الصائم.
وصلاة الليل حين يعسس الليل, وتذهب حمرة الأفق الى ثلث الليل.
فمن رقد قبل ذلك فلا أرقد الله عينيه, هذه مواقيت الصلاة:{ ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوت}.
ويقول الرجل قد هاجرت, ولم يهاجر, وان المهاجرين الذين هجروا السيئات.
ويقول أقوام: جاهنا, وان الجهاد في سبيل الله مجاهدة العدو واجتناب الحرام. وقد يقاتل أقوام يحسنون القتال, لا يريدون بذلك الأجر ولا الذكر, وانما القتل حتف من الحتوف, وكل امرئ على ما قاتل عليه.
(1/8)
وان الرجل ليقاتل بطبيعته من الشجاعة, فينجّي من يعرف ومن لا يعرف, وان الرجل ليجبن بطبيعته, فيسلم أباه وأمه, وان الكلب ليهرّ من وراء أهله.
واعلموا أن الصوم حرام يجتنب فيه أذى المسلمين كما يمنع الرجل من لذته من الطعام والشراب والنساء, فذلك الصيام التام. وايتاء الزكاة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم طيّبة بها أنفسهم, فلا يرون عليها برّا.
فافهموا ما توعظون به, فان الحريب من حرب دينه, وان السعيد من وعظ بغيره, وان الشقيّ من شقي في بطن امه, وان شر الأمور مبدعاتها. وان الاقتصاد في سنّة خير من الاجتهاد في بدعة. وان للناس نفرة عن سلطانهم, فعائذ بالله أن يدركني واياكم ضغائن مجبولة وأهواء متّبعة ودنيا مؤثرة, وقد خشيت أن تركنوا الى الذين ظلموا فلا تطمئنوا الى من أوتي مالا. عليكم بهذا القرآن, فان فيه نورا وشفاء, وغيره الشقاء, وقد قضيت الذي علي فيما ولاني الله عز وجل من أموركم, ووعظتكم نصحا لكم, وقد أمرنا لكم بأرزاقكم, وقد جنّدنا لكم جنودكم, وهيّأنا لكم وأثبتنا لكم, ووسّعنا لكم ما بلغ فيكم وما قاتلتم عليه بأسيافكم, فلا حجّة لكم على الله بل لله الحجّة عليكم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
"حياة الصحابة" (4\256-259)
2. خطبته رضي الله عنه عن نعم الله:
(1/9)
ان الله سبحانه وبحمده قد استوجب عليكم الشكر واتّخذ عليكم الحجج فيما آتاكم من كرامة الآخرة والدنيا عن غير مسسألأة منكم ولا رغبة منكم فيه اليه, فخلقكم تبارك وتعالى ولم تكونوا شيئا لنفسه وعبادته, وكان قادرا أن يجعلكم لأهون خلقه عليه, فجعل لكم عامة خلقه ولم يجعلكم لشيء غيره, و{ سخّر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة}, وحملكم في البر والبحر, ورزقكم من الطيبات لعلّكم تشكرون, ثم جعل لكم سمعا وبصرا, ومن نعم الله عليكم؛ نعم عمّ بها بني آدم, ومنها نعم اختصّ بها أهل دينكم, ثم صارت تلك النعم خواصّها وعوامّها في دولتكم وزمانكم وطبقتكم, وليس من تلك النعم نعمة وصلت الى امرئ خاصّة الا لو قسم ما وصل اليه منها بين الناس كلهم أتعبهم شكرها, وفدحهم حقّها الا بعون الله مع الايمان بالله ورسوله, فأنتم مستخلفون في الأرض قاهرون لأهلها, قد نصر الله دينكم, فلم تصبح أمّة مخالفة لدينكم الا أمتان:
أمة مستعبَدة للاسلام وأهله, يجزون لكم, يستصفون معائشهم وكدائحهم ورشح جباههم, عليهم المؤنة, ولكم المنفعة.
وأمّة تنتظر وقائع الله وسطواته في كل يوم وليلة, قد ملأ الله قلوبهم رعبا, فليس لهم معقل يلجؤون اليه, ولا مهرب يتّقون به, قد دهمتهم جنود الله عز وجل, ونزلت بساحتهم مع رفاغة العيش واستفاضة المال وتتابع البعوث وسدّ الثغور باذن الله, مع العافية الجليلة العامة التي لم تكن هذه الأمة على أحسن منها مذ كان الاسلام, والله المحمود مع الفتوح العظام في كل بلد.
فما عسى أ، يبلغ مع هذا شكر الشاكرين وذكر الذاكرين واجتهاد المجتهدين, مع هذه النعم التي لا يحصى عددها, ولا يقدّر قدرها, ولا يستطاع اداء حقها الا بعون الله ورحمته ولطفه. فنسألأ الله الذي لا اله الا هو الذي أبلانا هذا أ، يرزقنا العمل بطاعته والمسارعة الى مرضاته.
(1/10)
واذكروا عباد الله بلاء الله عندكم, واستتمّوا نعمة الله عليكم وفي كجالسكم مثنى وفرادى, فان الله عز وجل قال لموسى:{ أخرج قومك من الظلمات الى النور وذكّرهم بأيام الله}
وقال لمحمد صلى الله عليه وسلّم:{ واذكروا اذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض}.
فلو كنتم اذ كنتم مستضعفين محرومين خير الدنيا على شعبة من الحق تؤمنون بها, وتستريحون اليها مع المعرفة بالله ودينه, وترجون بها الخير فيما بعد الموت؛ لكان ذلك, ولكنكم كنتم أشد الناس معيشة, وأثبته بالله جهالة, فلو كان هذا الذي استشلاكم به لم يكن معه حظ في دنياكم غير أنه ثقة لكم في آخرتكم التي اليها المعاد والمنقلب, وأنتم من جهد المعيشة على ما كنتم عليه أحرياء أن تشحّوا على نصيبكم منه, وأ، تظهروه على غيره قبله, ما أنه قد جمع لكم فضيلة الدنيا وكرامة الآخرة, ومن شاء أن يجمع له ذلك منكم, فأذكّركم اله الحائل بين قلوبكم الا ما عرفتم حق الله, فعملتم له وقسرتم أنفسكم على طاعته, وجمعتم مع السرور بالنعم خوفا لها ولانتقالها ووجلا منها ومن تحويلها, فانه لا شيء أسلب للنعمة من كفرانها, وان الشكر أمن للغير ونماء اانعمة واستيجاب للزيادة. هذا لله عليّ من أمركم ونهيكم واجب.
"حياة الصحابة" (4\264-267)
3. خطبته رضي الله عنه عن نعمة العز بالاسلام:
الحمد لله الذي أعزنا بالاسلام, وأكرمنا بالايمان, ورحمنا بنبيّه صلى الله عليه وسلم فهدانا به من الضلالة, وجمعنا به من الشتات, وألّف بين قلوبنا, ونصرنا على عدوّنا, ومكّن لنا في البلاد, وجعلما به اخوانا متحابّين, فاحمدوا الله على هذه النعمة, واسألوه المزيد فيها والشكر عليها, فان الله قد صدقكم الوعد بالنصر على من خالفكم. وايّاكم والعمل بامعاصي, وكفر النعمة, فكلما كفر قوم بنعمة, ولم ينزعوا الى التوبة الا سلبوا عزّهم, وسلّط عليهم عدوّهم.
(1/11)
أيها الناس ان الله قد أعز دعوة هذه الأمة, وجمع كلمتها, وأظهر فلجها, ونصرها وشرّفها, فاحمدوه عباد الله على نعمه, واشكروه على آلائه.
جعلنا الله وايّاكم من الشاكرين.
"العقد الفريد" (4\63)
من خطب سيدنا عثمان بن عفان
رضي الله عنه
أخرج ابن جرير الطبري من طريق سيف عن بدر بن عثمان عن عمه قال: لما بايع أهل الشورى عثمان خرج, وهو أشدّ كآبة, فأتي منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب الناس, فحمد الله وأثنى عليه, وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم , وقال:
انكم في دار قلعة وفي بقية أعمار, فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه, فقد أتيتم صبّحتم أ, مسيّتم, ألا وان الدنيا قد طويت على الغرور, { فلا تغرّنكم الحياة الدنيا ولا يغرّنكم بالله الغرور}, واعتبروا بمن مضى, ثم جدّوا ولا تغفلوا, فانه لا يغفل عنكم, أين أبناء الدنيا واخوانها الذين أثاروا وعمروها ومتّعوا بها طويلا؟ ألأم تلفظهم؟ أرموا بالدنيا حيث رمى الله بها, واطلبوا الآخرة,فان الله قد ضرب لها مثلا, والذي هو خير, فقال عزّ وجلّ:{ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا}.
" حياة الصحابة" (4\277)
وأخرج ابن جرير الطبري عن طريق سيف بن بدر عن عثمان عن عمه قال: آخر خطبة خطبها عثمان في جماعة:
(1/12)
ان الله عز وجل انما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة, ولم يعطكموها لتركنوا اليها, ان الدنيا تفنى والآخرة تبقى, فلا تبطرنّكم الفانية, ولا تشغلنّكم عن الباقية, فآثروا ما يبقى على ما يفنى, فان الدنيا منقطعة, وان المصير الى الله. اتقوا الله عز وجل, فان تقواه جنة من بأسه ووسيلة عنده, واحذروا من الله الغير, الزموا جماعتكم, ولا تصيروا أحزابا, {واذكروا نعمت الله عليكم اذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا}.
"حياة الصحابة" (4\282)
من خطب سيدنا علي رضي الله عنه
1. خطبة جامعة للخير ناهية عن الشر
(1/13)
الحمد لله فاطر الخلق وفالق الاصباحوناشر الموتى وباعث من في القبور, وأشهد أن لا اله الا الله, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, وأوصيكم بتقوى الله, فان أفضل ما توسّل به العبد الايمان والجهاد في سبيله, وكلمة الاخلاص, فانها الفطرة, واقام الصلاة, فانها الملّة, وايتاء الزكاة, فانها من فريضته, وصوم شهر رمضان, فانها جنّة من عذابه, وحجّ البيت, فانه منفاة للفقر ومدحضة للذنب, وصلة الرحم, فانها مثراة في المال, منسأة في الأجل, محبّة في الأهل, وصدقة السر, فانها تكفّر الخطيئة, وتطفئ غضب الرب, وصنع المعروف, فانه يدفع ميتة السوء, ويقي مصارع الهول, أفيضوا في ذكر الله, فانه أحسن الذكر, وارغبوا فيما وعد المتقون, فان وعد الله أصدق الوعد, واقتدوا بهدي نبيّكم صلى الله عليه وسلّم, فانه أفضل الهدي, واستسنّوا بينته, فانها أفضل السنن, وتعلموا كتاب الله, فانه أفضل الحديث, وتفقّهوا في الدين, فانه ربيع القلوب, واستشفوا بنوره, فانه شفاء لما في الصدور, وأحسنوا تلاوته, فانه أحسن القصص, واذا قرئ عليكم, فاستمعوا له وأنصتوا لعلّكم ترحمون, واذا هديتم لعلمه, فاعملوا بما علمتم به لعلّكم تهتدون, فان العالم العامل بغير علمه كالجاهل الجائر الذي لا يستقيم عن جهله, بل قد رأيت أن الحجة أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه على هذا الجاهل المتحيّر في جهله, وكلاهما مضلل مثبور, ولا ترتابوا, فتشكّوا, ولا تشكّوا فتكفروا, ولا ترخّصوا لأنفسكم, فتذهلوا, ولا تذهلوا في الحق, فتخسروا. ألا وان من الحزم أن تثقوا, ومن القة ألا تغترّوا, وان أنصحكم لنفسه أطوعكم لربّه, من يطع الله, يأمن ويستبشر, ومن يعص الله, يخف ويندم, ثم سلوا الله اليقين, وارغبوا اليه في العافية, وخير ما دام في القلب اليقين.
ان عوازم الأمور أفضلها, وان محدثاتها شرارها, وكل محدثة بدعة, وكل محدث مبتدع, ومن ابتدع فقد ضيّع, وما أحدث محدث بدعة الا ترك بها سنّة.
(1/14)
المغبون من غبن دينه, والمغبون من خسر نفسه.
وان الرياء من الشرك, وان الاخلاص من العمل والايمان, ومجالس اللهو تنسي القرآن, ويحضرها الشيطان, وتدعو الى كل غيّ, ومجالسة النساء تزيغ القلوب, وتطمح اليه الأبصار, وهي مصائد الشيطان, فاصدقوا الله, فان الله مع من صدق, وجانبوا الكذب, فان الكذب مجانب للايمان.
ألا ان الصدق على شرف منجاة وكرامة, وان الكذب على شرف ردى وهلكة.
ألا وقولوا الحق, تعرفوا به, واعملوا به, تكونوا من أهله, أدّوا الأمانة الى من ائتمنكم, وصلوا رحم من قطعكم, وعودوا بالفضل على من حرمكم, واذا عاهدتم, فأوفوا, واذا حكمتم فاعدلوا, ولا تفاخروا بالآباء, ولا تنابزوا بالألقاب, ولا تمازحوا, ولا يغتب بعضكم بعضا, وأعينوا الضعيف, والمظلوم, والغارمين, وفي سبيل الله, وابن السبيل, والسائلين, وقي الرقاب, وارحموا الأرملة واليتيم, وأفشوا السلام, وردّوا التحيّة على أهلها بمثلها أو بأحسن منها { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله ان الله شديدالعقاب}, وأكرموا الضيف, وأحسنوا الى الجار, وعودوا المرضى, وشيّعوا الجنازة, وكونوا عباد الله اخوانا.
(1/15)
أما بعد: فان الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع, وان الآخرة قد أظلّت وأشرفت باطلاع, وان المضمار اليوم وغدا السباق, وان السبقة الجنة والغاية النار. ألا وانكم في أيام مهل من ورائها أجل يحثّه عجل, فمن أخلص لله عمله في أيام مهله قبل حضور أجله فقد أحسن عمله, ونال أمله, ومن قصر عن ذلك خسر عمله, وخاب أمله وضرّه أمله, فاعملوا في الرغبة والرهبة, فان نزلت بكم رهبة فاذكروا الله واجمعوا معها رغبة, فان الله قد تأذن المسلمين بالحسنى, ولمن شكر بالزيادة, واني لم أر مثل الجنة نام طالبها, ولا كالنار نام هاربها, ولا أكثر مكتسبها من شيء كسبه ليوم تدّخر فيه الذخائر, وتبلى فيه السرائر, وتجمع فيه الكبائر, وانه من لا ينفعه الحق, يضرّه الباطل, ومن لا يستقيم به الهدى يجر به الضلال, ومن لا ينفعه اليقين يضرّه الشك, ومن لا ينفعه حاضره فعازبه عنه أ‘وز, وغائبه عنه أعجز.
انكم قد أمرتم بالظعن ودللتم على الزاد, ألا وان أخوف ما أخاف عليكم اثنان: طول الأمل فينسي الآخرة, وأما اتباع الهوى فيبعد عن الحق.
ألا وان الدنيا قد رحلت مدبرة, وان الآخرة قد ترحّلت مقبلة, ولهما بنون, فكونوا من أبناء الآخرة ان استطعتم, ولا تكونوا من بني الدنيا, فاليوم عمل ولا حساب, وغدا حساب ولا عمل.
ذكرها الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية", وقال فيها: هذه خطبة بليغة نافعة جامعة للخير ناهية عن اشر.
"حياة الصحابة" (4\296-300)
2. خطبته رضي الله عن الفناء وحال أهل القبور:
ذكر ابن الجوزي في صفوة الصفوة: أن علي ابن أبي طالب خطب فقال:
(1/16)
الحمد لله أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكّل عليه, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله, أرسله بالهدى ودين الحق ليزح به علتكم, ويوقظ به غفلتكم, واعلموا أنكم ميتون ومبعوثون من بعد الموت وموقوفون على أعمالكم ومجزيّون بها, فلا تغرّنكم الحياة الدنيا فانها دار بالبلاء محفوفة, وبالفناء معروفة, وبالغدر موصوفة, وكل ما فيها الى زوال, وهي ما بين أهلها دول سجال, لن يسلم من شرّها نزّالها, بينما أهلها في رخاء وسرور, اذا هم منها في بلاء وغرور, العيش فيها مذموم, والرخاء فيها لا يدوم, وانما أهلها فيها أغراض مستهدفة, ترميهم بسهامها, وتقصمهم بحمامها.
(1/17)
عباد الله انكم وما أنتم من هذه الدنيا عن سبيل من قد مضى ممن كان أطول منكم أعمارا وأشد منكم بطشا وأعمر منكم ديارا وأبعد آثارا, فأصبحت أصواتهم هامدة خامدة من بعد طول تقبلها, وأجسادهم بالية, وديارهم خالية, وآثارهم عافية, واستبدلوا بالقصور المشيّدة, والسرر والنمارق الممهدة, الصخور والأحجار المسندة في القبور الملاطية الملحدة التي قد بني على الخراب فناؤها, وشيّد بالتراب بناؤها, فمحلّها مقترب, وساكنها مغترب, بين أهل عمارة موحشين, وأهل محلّة متشاغلين, لا يستأنسون بالعمران, ولا يتواصلون تواصل الجيران, على ما بينهم من قرب الجوار ودنوّ الدار, وكيف يكون بينهم تواصل وقد طحنهم بكلكله البلى, وأكلتهم الجنادل والثرى؟ فأصبحوا بعد الحياة أمواتا, وبعد غضارة العيش رفاتا, فجع بهم الأحباب, وسكنوا التراب, وظغنوا فليس لهم اياب, هيهات هيهات! {كلا انها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ الى يوم يبعثون}, فكان قد صرتم الى ما صاروا عليه من الوحدة والبلى في دار الموتى, وارتهنتم في ذلك المضجع وضمّكم ذلك المستودع, فكيف بكم لو تناهت الأمور, وبعثرت القبور, وحصّل ما في الصدور, وأوقفتم للتحصيل بين يدي ملك جليل؟ فطارت القلوب لاشفاقها من سالف الذنوب, وهتكت عنكم الحجب والأستار, فظهرت منكم العيوب والأسرار, هنالك تجزى كل نفس بما كسبت, ايجزي الذين أساؤوا بما عملوا, ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا} جعلنا الله وايّاكم عاملين بكتابه متّبعين لأوليائه حتى يحلّنا وايّاكم دار المقامة من فضله, انه حميد مجيد.
وأخرجه الدينوري وابن عساكر عن عبد اللع بن صالح العجلي عن أبيه.
"حياة الصحابة" (4\286-288)
3. خطبته رضي الله عنه عن العظات الخمس:
(1/18)
أيها الناس!! احفظوا عني خمسا, فلو شددتم اليها المطايا حتى تنضوها, لم تظفروا بمثلها. ألا لا يرجون أحدكم الا ربه, ولا يخافنّ الا ذنبه, ولا يستحي أحدكم اذا لم يعلم أن يتعلم, واذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم, ألا وان الخامسة الصبر, فان الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد. ومن لا صبر له لا ايمان له, ومن لا رأس له لا جسد له. ولا خير في قراءة الا بتدبّ{, ولا في عبادة الا بتفكّر, ولا في حلم الا بعلم. ألا أنبئكم بالعالم كل العالم, من لم يزيّن لعباد الله معاصي الله, ولم يؤمنهم مكره, ولم يؤيسهم من روحه. ولا تنزلوا المطيعين الجنة, ولا المذنبين الموحدين النار, حتى يقضي الله فيهم بأمره.
لا تأمنوا على خير هذه الأمة عذاب الله فانه يقول:
{فلا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون}.
ولا تقنطوا شر هذه الأمة من رحمة الله:{ انه لا يايئس من روح الله الا القوم الكافرون}.
"العقد الفريد" (4\80-81)
من خطب الحسن البصري
رحمه الله
خطب الناس فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
با ابن آدم: بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا, ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا.
يا ابن آدم! اذا رأيت الناس في الخير فنافسهم فيه, واذا رأيتهم في الشر فلا تغبطهم فيه. الثواء ههنا قليل, والبقاء هناك طويل. أمتكم آخر الأمم, وأنتم آخر أمتكم, وقد أسرع بخياركم, فماذا تنتظرون؟ المعاينة؟ فكأن قد! هيهات هيهات, ذهبت الدنيا بحال بالها, وبقيت الأعمال قلائد في أعناق بني آدم.
(1/19)
فيا لها من موعظة لو وافقت من القلوب حياة! أما انه والله لا أمّة بعد أمتكم, ولا نبي بعد نبيكم, ولا كتاب بعد كتابكم! أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم, وانما ينتظر بأولكم أن يلحقه آخركم. من رأى محمدا صلى الله عليه وسلم, فقد رآه غاديا ورائحا, لم يضع لبنة على لبنة, ولا قصبة على قصبة, ورفع له علم فشمّر اليه, فالوحاء الوحاء! والنجاء النجاء! علام تعرجون؟ أتيتم, ورب الكعبة, قد أسرع بخياركم, وأنتم كل يوم ترذلون, فماذا تنتظرون؟.
ان الله تبارك وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم على علم منه, اختاره لنفسه, وبعثه برسالته, وأنزل عليه كتابه, وكان صفوته من خلقه, ورسوله الى عباده, ثم وضعه من الدنيا موضعا ينظر اليه أهل الأرض, وآتاه منها قوتا وبلغة, ثم قال:{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}, فرغب أقوام عن عيشه, وسخطوا ما رضي له ربه, فأبعدهم الله وسحقهم.
يا ابن آدم: طأ الأرض بقدمك, فانها عن قليل قبرك, واعلم أنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك. رحم الله رجلا نظر فتفكّر, وتفكّر فاعتبر, وأبصر فصبر, فقد أبصر أقوام ولم يصبروا, فذهب الجزع بقلوبهم, ولم يدركوا ما طلبوا, ولم يرجعوا الى ما فارقوا.
يا بن آدم! اذكر قول الله تعالى:{ وكلّ انسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} , عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك. خذوا صفاء الدنيا وذروا طدرها, فليس الصفو ما عاد كدرا, ولا الكدر ما عاد صفوا. دعوا ما يريبكم الى مالا يريبكم, ظهر الجفاء, وقلّت العلماء, وعفت السنّ’, وشاعت البدعة, لقد صحبت أقواما ما كانت صحبتهم الا قرّة العين, وجلاء الصدور. ولقد رأيت أقواما لحسناتهم لأشفق من أن ترد عليهم منكم من سيئاتكم أن تعذبوا عليها, وكانوا فيما أحل الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما حرّم الله عليكم منها.
(1/20)
مالي أسمع حسيسا, ولا أرى أنيسا! ذهب الناس, وبقي النسناس. لو تكاشفتم ما تدافنتم. تهاديتم الأطباق, ولم تتهادوا النصائح.
قال ابن الخطاب: رحم الله امرأ أهدى الينا مساوينا.
أعدّوا الجواب فانكم مسؤولون. المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه, ولكنه أخذه من قبل ربّه. ان هذا الحق قد جهد أهله, وحال بينهم وبين شهواتهم, وما يصبر عليه الا من عرف فضله ورجا عاقبته. فمن حمد الدنيا ذمّ الآخرة, وليس يكره لقاء الله الا مقيم على سخطه.
يا ابن آدم! الايمان ليس بالتحلي ولا بالتمني, ولكنه ما وقر في القلب وصدّقه العمل.
"كيف تكون خطيبا" (41-43)
من خطب سيدنا عمر بن عبد العزيز
رحمه الله
التذكير بالموت:
أيها الناس انكم لم تخلقوا عبثا, ولم تتركوا سدى, وانكم لكم معاد ينزل الله تبارك وتعالىللحكم فيه والفصل بينكم, فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء, وحرم الجنة التي عرضها السموات والأرض, ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين, وسيخلفها بعدكم الباقون, حتى ترد الى خير الوارثين, في كل يوم تشيّعون غاديا الى الله ورائحا قد قضى نحبه, وانقضى أجله, ثم تغيّبونه في صدع من الأرض غير موسّد ولا ممهد, قد فارق الأحباب, وخلع الأسلاب, وواجه الحساب, وسكن التراب, مرتهنا بعمله, غنيّا عمّا ترك, فقيرا الى ما قدّم. وايم الله اني لأقول لكم هذه المقالة, وما أعلم عند أحد منكم من الذموب أكثر مما أعلم عندي, فأستغفر الله وأتوب اليه, وما أحد منكم تبلغني حاجته الا حرصت أن أسد من حاجته ما قدرت عليه, وما أحد لا يسعه ما عندي الا وددت أنه بدئ بي وبلحمتي الذين يلونني حتى يستوي عيشنا وعيشكم. وايم الله لو أردت غير هذا من رخاء أو غضارة عيش لكان اللسان مني ذلولا, ولكنه مضى من الله كتاب ناطق أمرني فيه بطاعته, ونهاني فيه عن معصيته.
التذكير بالموت:
يا أيها الناس! انّ امرءا أصبح ليس بينه وبين آدم أب حي لمعرق له في الموت.
(1/21)
أيها الناس! ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين, وفي بيوت الميتين, وفي دور الظاعنين, جيرانا كانوا معكم بالأمس, أصبحوا في دور خامدين, بين آمن روحه الى يوم القيامة, وبين معذب روحه الى يوم القيامة, ثم تحملونه على أعناقكم, ثم تضعونه في بطن من الأرض, بعد غضارة من العيش وتلذذ في الدنيا, فانا لله وانا اليه راجعون, أم والله لو أردت غير هذا من الكلام لكان اللسان به مني منبسطا, ولكنت بأسبابه عارفا.
"سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الامام مالك بن أنس وأصحابه" لعبد الله بن عبد الحكيم.
من خطب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
ذكر أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي عن معاوية, رضي الله عنه:
أنه حمد الله وأثنى عليه وأ,جز, ثم قال:
(1/22)
أيها الناس انا قد أصبحنا في دهر عنود, وزمن شديد, يعد فيه المحسن مسيئا, ويزداد الظالم فيه عتوّا, لا ننتفع بما علمنا, ولا نسأل عما جهلنا, ولا نتخوّف قارعة حتى تحل بنا, فالناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه من الفساد في الأ{ض الا مهانة نفسه, وكلا حدّه, ونضيض وفره, ومنهم الصلت لسيفه, المجلب برجله, المعلن بشرّه, وقد أشرط نفسه, وأوبق دينه, لحطام ينتهزه, أ, مقت يقوده, أو منبر يقرعه, وليس المتجران تراهما لنفسك ثمنا, وبمالك عند الله عوضا, ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة, ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا, قد طامن من شخصه, وقارب من خطوه, وشمّر عن ثوبه, وزخرف نفسه بالأمانة, واتخذ ستر الله ذريعة الى المعصية, ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضآلة نفسه, وانقطاع سببه, فقصّرت به الحال عن حاله, فتحلى باسم القناعة, وتزيّا بلياس الزّهادة, وليس من ذلك مراح ولا مفدى. وبقي رجال أغضّ أبصارهم ذكر المرجع, وأراق دموعهم خوف المضجع, فهم بين شريد باد, وبين خائف منقمع, وساكت مكعوم, وداع مخلص, وموجع ثكلان, قد أخملتهم التقيّة, وشملتهم الذلّة, فهم في بحر أجاج, أفواههم ضامرة, وقلوبهم قرحة, قد وعظوا حتى ملّوا, وقهروا حتى ذلوا, وقتلوا حتى قلّوا.
فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ وقراضة الجلم, واتّعظوا بمن كان قبلكم, قبل أن يتّعظ بكم من بعدكم, وارفضوها ذميمة, فقد رفضت من كان أشفق بها منكم.
" العقد الفريد" (4\88-89)
من خطب الخليفة المهدي رحمه الله
(1/23)
الحمد لله الذي ارتضى الحمد لنفسه, ورضي به من خلقه, أحمد على آلائه, وأمجّده لبلائه, وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه راض بقضائه, وصابر لبلائه, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له, وأن محمدا عبده المصطفى, ونبيّه المجتبى, ورسوله الى خلقه, وأمينه على وحيه, أرسله بعد انقطاع الرجاء وطموس العلم, واقتراب من الساعة, الى أمة جاهلية, مختلفة أميّة, أهل عداوة وتغاضن, وفرقة وتباين, قد استهوتهم شياطينهم, وغلب عليهم قرناؤهم, فاستشعروا الردى, وسلكوا العمى, يبشّر من أطاعه بالجنة وكريم ثوابها, وينذر من عصاه بالنار وأليم عقابها, ليهلك من هلك عن بيّنة, ويحيا من حيّ عن بيّنة, وان الله لسميع عليم.
أ,صيكم عباد الله بتقوى الله, فان الاقتصار عليها سلامة, والترك لها ندامة, وأحثكم على اجلال عظمته, وتوقير كبريائه وقدرته, والانتهاء الى ما يقرّب من رحمته, وينجّي من سخطه, وينال به ما لديه من كريم الثواب, وجزيل المآب. فاجتنبوا ما خوّفكم الله من شديد العقاب, وأليم العذاب, ووعيد الحساب, يوم توقفون بين يدي الجبار, وتعرضون فيه على النار, يوم لا تكلّم نفس الا باذنه, فمنهم شقي وسعيد, يوم يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه, لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه, يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا شفاعة ولا هم ينصرون, يوم لا يجزي والد عن ولده, ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. ان وعد الله حق, فلا تغرّنكم الحياة الدنيا ولا يغرنّك بالله الغرور, فان الدنيا دار غرور وبلاء وشرور واضمحلال وزوال وتقلّب وانتقال, أفنت من كان قيلكم, وهي عائدة عليكم وعلى من بعدكم. من ركن اليها صرعته, ومن وثق بها خانته, ومن أمّلها كذبته, ومن رجاها خذلته. عزها ذل, وغناها فقر, والسعيد من تركها, والشقي من آثرها, والمغبون فيها من باع حظه من دار آخرته بها.
(1/24)
فالله الله عباد الله, والتوبة مقبولة, والرحمة مبسوطة. وبادروا بالأعمال الزاكية في هذه الأيام الخالية, قبل أن يؤخذ بالكظم, وتندموا فلا تقالون بالندم, في يوم حسرة وتأسّف, وكآبة وتلهّف, يوم ليس كالأيام, وموقف ضنك المقام.
انّ أبلغ الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله, يقول الله تبارك وتعالى:{ واذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلّكم ترحمون}.
أعود بالله من الشيطان الرجيم بسم اله الرحمن الرحيم:{ ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون * كلا لو تعلمون علم اليقين * لترونّ الجحيم * ثم لترونّها عين اليقين * ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم}.
أوصيكم عباد الله بما أوصاكم الله به, وأنهاكم عما نهاكم الله عنه, وأرضى لكم طاعة الله, وأستغفر الله لي ولكم.
"العقد الفريد" (4\101-102)
من خطب الخليفة هارون الرشيد رحمه الله
الحمد لله نحمده على نعمه, ونستعينه على طاعته, ونستنصره على أعدائه, ونؤمن به حقا, ونتوكل عليه مفوّضين اليه, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, بعثه على فترة من الرسل ودروس العلم, وادبار من الدنيا, واقبال من الآخرة, بشيرا بالنعيم المقيم, ونذيرا بين يدي عذاب أليم, فبلّغ الرسالة, ونصح الأمّة, وجاهد في الله, فأدّ عن الله وعده ووعيده, حتى أتاه اليقين, فعلى النبي من الله صلاة ورحمة وسلام.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله, فان في التقوى تكفير السيئات, وتضعيف الحسنات, وفوزا بالجنّة, ونجاة من النار, وأحذركم يوما تشخص فيه الأبصار, وتبلى فيه الأسرار, يوم البعث ويوم التغابن ويوم التلاق ويوم التناد, يوم لا يستعتب من سيئة, ولا يزداد من حسنة, يوم الآزفة اذ القلوب لدى الحناجر كاظمين, ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع, يعلم فيه خائنة الأعين وما تخفي الصدور. { واتقوا يوما ترجعون فيه الى الله ثم توفّى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.
(1/25)
عباد الله, انكم لم تخلقوا عبثا, ولن تتركوا سدى, حصّنوا ايمانكم بالأمانة, ودينكم بالورع, وصلاتكم بالزكاة, فقد جاء في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا ايمان لمن لا أمانة له, ولا دين لمن لا عهد له, ولا صلاة لمن ات زكاة له".
انكم سفر مجتازون, وأنتم عن قريب تنتقلون منم دار فناء الى دار بقاء, فسارعوا الى المغفرة بالتوبة, والى الرحمة بالتقوى, والى الهدى بالانابة, فان الله تعالى ذكره أوجب رحمته للمتقين, ومغفرته للتائبين, وهداه للمنيبين. قال الله عز وجل:{ ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة}, وقال:{ واني لغفّار لمن تاب وءامن وعمل صالحا ثم اهتدى}.
وايّاكم والأماني فقد غرّت وأردت وأوبقت كثيرا, حتى أكذبتهم مناياهم, فتناوشوا التوبة من مكان بعيد, وحيل بينهم وبين ما يشتهون, فأخبركم ربكم عن المثلات فيهم, وصرّف الآيات, وضرب الأمثال, فرغّب بالوعد, وقدّم اليكم الوعيد, وقد رأيتم وقائعه بالقرون الخوالي جيلا فجيلا, وعهدتهم الآباء والأبناء والأحبة والعشائر باختطاف الموت اياهم من بيوتكم ومن بين أظهركم, لا تدفعون عنهم, ولا تحولون دونهم, فزالت عنهم الدنيا, وانقطعت بهم الأسباب, فأسلمتهم الى أعمالهم عند المواقف والحساب والعقاب, ليجزى الذين أساؤوا بما عملوا, ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.
ان أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله, يقول الله عز وجلّ:{ واذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلّكم ترحمون}.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم:{ قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد}.
آمركم بما أمركم الله به, وأنهاكم عما نهاكم الله عنه, وأستغفر الله لي ولكم.
"العقد الفريد" (4\103-104).
من خطب الخليفة المأمون رحمه الله
خطبته يوم الجمعة:
(1/26)
الحمد لله مستخلص الحمد لنفسه, ومستوجبه على خلقه, أحمده وأستعينه, وأؤمن به, وأتوكّل عليه, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون.
أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله وحده, والعمل لما عنده, والتنجّز لوعده, والخوف لوعيده, فانه لا يسلم الا من اتقاه ورجاه, وعمل له وأرضاه. فاتقوا الله عباد الله, وبادروا آجالكم بأعمالكم, وابتاعوا ما يبقى بما يزول عنكم ويفنى, وترحّلوا عن الدنيا, فقد جدّ بكم, واستعدوا للموت فقد أظلّكم, وكونوا كقوم صيح فيهم فانتبهوا, وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا, فان الله عز وجل لم يخلقكم عبثا, ولم يترككم سدى, وما بين أحدكم وبين الجنة والنار الا الموت أن ينزل به, وان غاية تنقصها اللحظة, وتهدمها الساعة الواحدة, لجديرة بقصر المدّة, وان غائبا يحدوه الجديدان الليل والنهار, لجدير بسرعة الأوبة, وانّ قادما يحلّ بالفوز أو بالشقوة لمستحق لأفضل العدة. فاتقى عبد ربه, ونصح مفسه, وقدّم توبته, وغلب شهوته, فان أجله مستور عنه, وأمله خادع له, والشيطان موكّل به, يزيّن له المعصية ليركبها, ويمنّيه التوبة ليسوّفها, حتى تهجم عليه منيّته, أغفل ما يكون عنها. فيا لها من حسرة على كل ذي غفلة, أن يكون عمره عليه حجّة, أو تؤدّيه منيّته الى شقوة.
نسأل الله أن يجعلنا وايّاكم ممن لا تبطره نعمة, ولا تقصّر به عن طاعة ربه غفلة, ولا تحل به بعد الموت فزعة, انه سميع الدعاء, بيده الخير وهو على كل شئ قدير, فعّال لما يريد.
"العقد الفريد" (4\104-105).
خطبته رحمه الله في عيد الفطر:
قال بعد التكبير والتحميد:
(1/27)
ألا وانّ يومكم هذا يوم عيد وسنّة, وابتهال ورغبة, يوم ختم الله به صيام شهر رمضان, وافتتح به حجّ البيت الحرام, فجعله أوّل أيام شهور الحج, وجعله معقّبا لمفروض صيامك, ومتنفّل قيامكم, أحلّ الله لكم فيه الطعام, وحرّم عليكم فيه الصيام, فاطلبوا الى الله حوائجكم, واستغفروه لتفريطكم, فانه يقال: لا كثير مع ندم واستغفار, ولا قليل مع تماد واصرار.
ثم كبّر وحمّد, وذكر النبي صلى الله عليه وسلّم وأوصى بالبر والتقوى, ثم قال:
(1/28)
اتقوا الله عباد الله, وبادروا الأمر الذي اعتدل فيه يقينكم, ولم يحضر الشك فيه أحد منكم, وهو الموت المكتوبعليكم, فانه لا تستقال بعده عثرة, ولا تحظر قبله توبة, واعلموا أنه لا شيء قبله الا دونه, ولا شيء بعده الا فوقه, ولا يعين على جزعه وعلزه وكربه, وعلى القبر ظلمته, وضيقه ووحشته, وهول مطلعه, ومسألة ملكيه, الا العمل الصالح الذي أمر الله به, فمن زلّت عند الموت قدمه, فقد ظهرت ندامته, وفاته استقالته, ودعا من الرجعة الى ما لا يجاب اليه, وبذل من الفدية مالا يقبل منه. فالله الله عباد الله, كونوا قوما سألوا الرجعة فأعطوها اذ منعها الذين سألوها, فانه ليس يتمنّى المتقدّمون قبلكم الا هذا الأجل المبسوط لكم, فاحذروا ما حذركم الله, واتقوا اليوم الذي يجمعكم فيه, لوضع موازينكم, ونشر صحفكم, الحافظة لأعمالكم. فلينظر عبد ما يضع في ميزانه ما يثقل به, وما يملي به صحيفته الحافظة لما له وعليه, ألا فقد حكى الله لكم ما قال المفرطون عندها, اذ طال اعراضهم عنها, قال جلّ ذكره:{ ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربّك أحدا}, وقال:{ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا, وان كان مثقال حبّة من خردل أتينا بها, وكفى بنا حاسبين}. ولست أنهاكم عن الدنيا بأكثر ما نهتكم به الدنيا عن نفسها, فان كل ما بها يحذر منها, وينهى عنها, وكل ما فيها يدعو الى غيرها, وأعظم مما رأته أعينكم من فجائعها وزوالها ذمّ كتاب الله لها والنهي عنها, فانه يقول تبارك وتعالى:{ فلا تغرّنّكم الحياة الدنيا ولا يغرّنّكم بالله الغرور}. وقال:{ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد}. فانتفعوا بمعرفتكم بها, وباخبار الله عنها. واعلموا أنّ قوما من عباد الله أدركتهم عصمة الله فحذروا مصارعها,
(1/29)
وجانبوا خدائعها, وآثروا طاعة الله فيها, وأدركوا الجنّة بما يتركون منها.
"العقد الفريد" (4\106-107).
انتهى القسم الأول والذي يحتوي على خطب للرسول صلى الله عليه وسلّم والصحابة والتابعين.
من روائع الخطب
الاسلام... هو المنهج المخلّص
الحمد لله جميل الاكرام, والشكر له سبحانه على نعمة الاسلام, ,اشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له القائل في محكم تنزيله:{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون}, وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله المبعوث كافّة للناس بشيرا ونذيرا, صلوات الله وسلاماته وبركاته عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا عباد الله, أوصيكم ونفسي المخطئة بتقوى الله, وأحثكم على حسن طاعته والاخلاص في عبادته, وأذكّركم قوله الحق حيث قال:{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنّ الا وأنتم مسلمون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
(1/30)
ان من فضل المولى سبحانه وتعالى على البشريّة أن وضع لها منهجا ثابتا لا يتغيّر, وشرع لها دينا قويما لا يحرّف ولا يقبل التبديل, حيث أنزل معه حفظه وحراسته, فقال:{ انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون}, فاذا بالبشريّة تجد نفسها أمام الاسلام في كل زمان ومكان كما أنزله الله رب العالمين كاملا لا نقصان فيه, صحيحا قويما لا خلل فيه, تملأ معارفه وعلومه ومبادؤه وتعاليمه وجه الأرض, حيث تفيض ينابيعها دفاقة في أرجاء العقول, وتمتد أنواره ساطعة في آفاق الشعوب, فيدوّي صوته الهادر في شرايين, الحياة في كل مناسبة على ألسنة خطباء الجمعات ومن أفواه الواعظين وأقلام المفكّرين والباحثين, فتسمع البشريّة صوت الاسلام يصدعفي آفاق وجودها في كل يوم, يذكّرها بأنه ليس لها من سبيل نجاة وخلاص من أوهاق حياتها واضطرابات عيشها الا الانضواء تحت لوائه والدخول في رحابه, فهو دين الله الحق الذي أمر باتباعه, ونهى عن ابتغاء دين سواه, فقال:{ ان الدين عند الله الاسلام}, وقال:{ ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.
ولقد أدرك هذه الحقيقة الثابتة في دين الاسلام الواضحة فيه أشد من وضوح الشمس في رابعة النهار كبار المفكّرين والفلاسفة في العالم, منهم الفيلسوف الانكليزي برنارد شو الذي أعلن قائلا: (لقد وضعت دائما دين محمد موضع الاعتبار السامي بسبب حيويّته العظيمة, فهو الدين الوحيد الذي يلوح لي أنه حائز أهليّة العيش لأطوار الحياة المختلفة بحيث يستطيع أن يكون جذابا لكل زمان ومكان, وانني أعتقد أنّ رجلا كمحمد لو تسلّم زمام الأمر في العالم بأجمعه لتمّ له النجاح في حكمه ولقاده الى الخير, وحلّ مشكلاته على وجه يكفل للعالم السلام والسعادة المنشودة).
(1/31)
وقال:( اذا أراد العالم النجاة من شروره, فعليه بهذا الدين, انه دين السلام والتعاون والعدالة في ظل شريعة متمدينة محكمة, لم تنس أمرا من أمور الدنيا الا رسمته, ووزنته بميزان لا يخطئ أبدا).
ومنهم المستشرق الانكليزي المعروف (بالمر) الذي قال في مقدّمة ترجمته للقرآن الكريم: ( لقد جاء محمد بمبدأ للعالم عظيم, ودين لو أنصفت البشريّة لاتخذته لها عقيدة ومنهاجا تسير على ضوئه).
ومنهم ميخائيل أماري, المستشرق الايطالي الذي قال في كتابه "تاريخ المسلمين": ( لقد جاء محمد نبي المسلمين بدين الى جزيرة العرب يصلح أن يكون ديننا لكل الأمم, لأنه دين كمال ورقيّ, دين دعة وثقافة, دين رعاية وعناية).
أيها الأخوة المؤمنون:
لم يدع الاسلام صغيرة ولا كبيرة من حياة الناس الا صرف لها الدواء الناحج والحكم المناسب, فحيثما اتّجه الانسان وسار, يجد له هداية ورشدا في دين الاسلام, يضبط مسار اتجاهه, يصلح من واقع حاله, قال تعالى:{ ما فرّطنا في الكتاب من شيء}, وقال:{ انّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}.
وحيث كان الاسلام آخر أديان الله تعالى وختمها, اقتضى ذلك أن يصلح لأمم الأرض وشعوبها على توالي أزمانها وتلاحق أجيالها الى آخر الزمان. فلا تستغني البشريّة عنه, ولا تصلح بغيره, حيث قال الله تعالى عنه مخاطبا الناس جميعا من خلال شخص رسوله الكريم :{ فأقم وجهك للدين حنيفا, فطرت الله التي فطر الناس عليها, لا تبديل لخلق الله, ذلك الدين القيّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون}.
أيها الأخوة المؤمنون:
عندما أحسّت البشريّة بحاجتها الضرورية الى الاسلام وأنه سبيل الخلاص الوحيد لجميع شعوب العالم من اضطرابات عيشها وأزمات حياتها, هرع الناس في الشرق والغرب نحو الاسلام, يدخلون في سلكه, وينضون تحت لوائه, فاذا بك أصبحت تسمع عن علماء ومفكّرين كبار اتخذوا طريقهم الى الاسلام بكلّ فخر واعتزاز وصدق ايمان, نابذين أفكارهم ومعتقداتهم السابقة.
(1/32)
نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: اللورد هيدلي الذي أعلن اسلامه مسجلا بكتاب ألّفه بعنوان "رجل غربي يصحو فيعتنق الاسلام".
وليوبّولد فايس الكاتب والصحفي والسياسي البارع المعروف بمحمد أسد الذي سطّر واقعة اسلامه في كتابه "الطريق الى الاسلام".
وكات ستيفنس, ودونالد روكويل, وروجيه غارودي.. وغيرهم كثير.
واذا بك أصبحت تشاهد أثناء تجوالك في بلاد الشرق والغرب منارات المساجد ترتفع في تلك البلاد وصوت التوحيد يدوّي في آفاقها والأعداد الهائلة من الغربيين يهرعون الى مراكز الدعوة الاسلامية لاعلان دخولهم في الاسلام, انه دين الفطرة الانسانية والسعادة الأبدية.
أيها الاخوة المؤمنون:
ما ذكرته لكم هو غيض من فيض الشريعة الاسلاميّة, فواجبكم أن تفقهوا هذه الحقيقة, وتصدقوا مع دين ربكم الحق, وتلوذوا به في جميع أحوالكم, فهو سفينة نجاتكم في خضم حياتكم.
قال تعالى:{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا}.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.
والحمد لله رب العالمين.
المسلمون في أزمة التطبيق
الحمد لله حمد الشاكرين, والشكر له سبحانه على نعمة الايمان والدين. وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له, القائل في كتابه المبين:{ ان الدين عند الله الاسلام}. وأشهد أ، سيدنا محمدا رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين. صلوات ربي وسلاماته وبركاته عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغرّ الميامين.
أمّا بعد, فيا عباد الله, اتقوا ربكم التقوى الحق, والزموا طاعته, وتجنّبوا الفسق, واستقيموا على هديه, حيث خاطبكم بقوله:{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنّ الا وأنتم مسلمون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
(1/33)
لا يعاني المسلمون في هذه الأيام من أزمة جهل بالاسلام قدر ما يعانون أزمة التطبيق الواقعي لما يعرفونه من الاسلام. فعلماء الاسلام كثر ولله الحمد, والكتب التي تتحدّث عنه غزيرة, والدعاة اليه كثيرون, ومراكز تعليمه متعددة ومنتشرة في كثير من أصقاع الأرض, والصحافة والاذاعات وسائر وسائل الاعلام المقروءة والمسموعة والمرئية تتكلّم عنه يصورة مقتضبة أو مفصّلة, ولو أحصينا رصيد كل مسلم مما يحفظه من دينه لوجدنا أنه لا أقل من أن يحفظ آية أو سورة صغيرة من القرآ،, ومن الحديث حديثا أو حديثين, ومن الأحكام الشرعية حكما أو حكمان. وهذا القليل الذي يحفظه لو طبّقه بحذافيره لكان كفيلا بفلاحه ونجاحه وخلاصه من كثير من أزمات عيشه واضطرابات حياته, ولكنّه حيث لم يطبّق هذا القليل بقي غارقا في ظلمات العيش متخبّطا في لجّة الصراع الدائر في الحياة, لا يهتدي الى سبيل لخلاص, ولقد جاء في الحديث:" لو تركتم عشر ما أمرتم به لهلكتم, ويأتي على الناس زمان لو فعلوا عشر ما أمروا به لنجو".
فيا معشر المؤمنين:
اعلموا أنّ الله تعالى انما أنزل دين الاسلام ليطبّق في واقع الحياة, وليكون منهجا ضابطا لتصوّرات الناس وسلوكهم وعواطفهم ومعتقداتهم, فمن عطّل شرع الله عن التطبيق, وعزله عن دائرة التنفيذ العملي, واكتفى بحفظه والتفكّه بقراءته واثارة الجدل حوله, فانّ ما اطّلع عليه من الاسلام وعرفه من أحكامه, يصبح حجّة عليه يوم القيامة, وهذا ما حذرت منه سيدتنا عائشة رضي الله عنها عندما أتاها عطاء ابن رباح يسألها عن العلم, فقالت له: يا بنيّ, هل عملت بما سمعت؟ فقال: لا والله يا أمّاه. قالت: يا بنيّ, فيم تستكثر من حجج الله علينا وعليك.
وجاء في الحديث قال عليه الصلاة واليلام:" لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه, وعن شبابه فيما أبلاه, وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه, وعن علمه ماذا عمل فيه".
(1/34)
وكان الصحابة رضي الله عنهم على غاية الحذر من أن يعلم أحدهم شيئا من دينه ولا يطبّقه. فلقد قال ابن مسعود رضي الله عنه:" والله ما منكم من أحد الا وانّ ربه سيخلو به كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر ثم يقول: يا ابن آدم ما غرّك بي _ثلاثا_ ماذا أجبت المرسلين؟ كيف عملت فيما علمت؟". وكان أبو الدرداء يقول: ( ان أخوف ما أخاف اذا وقفت على الحساب أن يقال: قد علمت فماذا عملت فيما علمت؟ فلا تبقى آية من كتاب الله عز وجلّ آمرة أو زاجرة الا جاءتني تسألأني فريضتها, فتسألني الآمرة: هل ائتمرت؟ والزاجرة: هل ازدجرت, فأعوذ بالله من علم لا ينفع, ومن نفس لا تشبع, ومن دعاء لا يسمع).
أيها الاخوة المؤمنون:
لقد حذر الله من مغبّة نبذ العمل وتعطيل منهجه عن التنفيذ, فذمّ أولئك الذين لم يكن حظهم من دينهم الا قراءته ودراسته, فقال في حق علماء بني اسرائيل:{ مثل الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا}.
وأقول أيها الاخوة توثيقا لهذه الحقيقة: لقد أعلن العلماء أن مفهوم الاستقامة التي أمر الله عباده بقوله:{ انما الهكم اله واحد فاستقيموا اليه واستغفروه}, وبقوله:{ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا, انه بما تعملون بصير}, والتي أثنى بها على عباده الصالحين بقوله:{ انّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون}. وكذا التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله لأحد أصحابه:" قل آمنت بالله ثم استقم". هذه الاستقامة انما تعني التطبيق العملي والتنفيذ الصحيح لشريعة الله وأحكام دينه القويم, وهذا تفسير مفهوم الاتباع الذي ذكره الله بقوله:{ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه, ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله, ذلكم وصّاكم به لعلّكم تتقون}.
فيا معشر المسلمين:
(1/35)
ترجموا معنى انتسابكم الى الاسلام بحسن تطبيق أحكامه وتنفيذ توجيهاته وآدابه, واحذروا من أن 0تحملوه بألسنتكم وتنبذوه بأعمالكم, فان من يقرأ قول الله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة}, ثم يدع نفسه وأهله بلا تأديب, ويرتكس معهم في حمأة الملذات والشهوات والمعاصي والمنكرات يكون نابذا من خلال واقعه معنى هذا الأمر الالهي. والذي يقرأ قوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا}, ثمّ يقارف أكل الربا لا يفترق بواقعه عن الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها. والذي يقرأ قول الله عز وجلّ:{ انّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}, ث0مّ يخون الأمانة, ويظلم الناس, ويجور في حكمه, وهو أبعد ما يكون عن الاسلام, ولو قال انني من المسلمين.
يا معشر المسلمين:
(1/36)
تجنّبوا أن تتغرّبوا عن دينكم الذي ارتضاه الله لكم, واعلموا أنّ أعداء الاسلام الملاحدة حيث أيقنوا أن لا سلطان لهم على دين الله الحق, لأن الله تعالى تكفّل بحفظه, ووجدوا أنّ جميع ما يثيرونه حول الاسلام من شبهات قد تكسّرت هياكلها, وتحطّم زيفها أمام أصالة هذا الدين وجوهره المتين. فلم يقولوا: انّ الاسلام خرافة, لأنهم علموا أنه دين حارب الخرافة, وخاطب العقل البشريّ المجرّد, ودعا الى العلم والمعرفة. ولم يقولوا: ان الاسلام زيغ وتضليل, لأنهم علموا أنه منهج الهدى المبين. فلم يجدوا أمامهم سبيلا الى ضرب الاسلام في صميمه الا أن يبعدوا أتباعه عنه دون أن يقولوا لهم اتركوا الاسلام, وذلك عندما صوّروا لنا الاسلام أنّه مجرّد قيم مثالية ومبادىء عليا تبقى ماثلة في أذهان المسلمين وقلوبهم, ولا مجال لتطبيقها في واقع سلوكهم, فأبعدوهم عن دائرة الاسلام في واقعه العمليّ بما أغدقوا عليهم من عادات وتقاليد ومفاهيم اجتماعية وسلوكيّة تفقد المسلم أصالته الاسلاميّة, ليصبح الدين في نظره مجرّد فكرة عارية عن صلاحيّة التطبيق في واقع الحياة, فزيّنوا لأبناء المسلمين الزنا, وقالوا: انّه ذوق عصري متطوّر لطبيعة العلاقة بين الشاب والفتاة. وزيّنوا للمرأة السفور والتعرّي, وقالوا: انّه حريّة. وزيّنوا للرجال والنساء الاختلاط السافر, وقالوا: انّه حضارة ومدنيّة. وزيّنوا للتاجر الغش والخيانة, وقالوا: انّه ذكاء وفلهوية. وزيّنوا للناس مختلف صور الفساد الاجتماعي والضلال الفكري, وقالوا: انّه تقدّم وازدهار وحضاريّة.
فاحذروا أيّها المسلمون من أن تتخلوا عن عادات اسلامكم وتقاليده, واعلموا أنّكم ما ان تمسّكتم بدينكم ولزمتم تطبيقه قولا وعملا, واتخذتموه منهجا لحياتكم فلن تضلّوا, ولن تخسروا, ولن تذلّوا, ولن تهزموا, بل سوف تجدون فيظلّه العزة والكرامة والنصر والسلامة.
(1/37)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:" تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنّتي".
اللهم ألهمنا رشدنا, وثبّتنا على ديننا, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
والحمد لله ربّ العالمين.
الصلاة (مكانتها, وأثرها, وثمرتها)
الحمد لله حمدا يليق بجلال وجهه, والشكر له سبحانه على نعمة حبّه وقربه, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له القائل في محكم القرآن:{ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها, لا نسألك رزقا, نحن نرزقك, والعاقبة للمتقين}, وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله, صلوات ربي وسلاماته وبركاته عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بصدق واحسان.
أمّا بعد: فيا عباد الله, أوصيكم بتقوى الله وكثرة ذكره, وأحثكم على طاعته وشكره, فلقد قال سبحانه:{ يا أيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربّكم وافعلوا الخير لعلّكم تفحون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
سوف نلتقي في خطبتنا اليوم الحديث عن الصلاة التي جعلها الله عز وجل أحد أركان دينه واحدى قواعد بنائه, وفي ذلك أقول مستعينا بالله رب العالمين:
أيها الاخوة أهل الايمان والهداية:
اذا كانت جميع مبادئ الاسلام وكافة أحكامه وتشريعاته وتوجيهاته قد جاءت لتنظيم واقع العلاقة بين العبد وربه سبحانه, وتوطيد هذه العلاقة المقدّسة, فان الصلاة في الاسلام تحقق ذروة هذه العلاقة المجيدة, وتكوّن مركز قوّتها وأعلى مراتبها, لهذا عني الاسلام بالصلاة عناية بالغة, فجاء في كتاب الله تعالى:{ فأقيموا الصلاة, انّ الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا}, وقال:{ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين}, وأمّا في السنّة المطهرة, فقد جاء في الحديث الصحيح, قال عليه الصلاة والسلام:" بني الاسلام على خمس شهادة الا اله الا الله وأنّ محمدا رسول الله, واقام الصلاة, وايتاء الزكاة, وحج البيت وصوم رمضان}.
(1/38)
واعلموا أيها الاخوة المؤمنون, أنّ فريضة الصلاة ركن أصيل في جميع الأديان والرسالات الالهية, ولقد حدّثنا القرآن الكريم عن ذلك فنقرأ فيه قوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام:{ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا}. ولقد أكّد النبي عليه الصلاة والسلام هذه الحقيقة بقوله:" لا خير في دين لا صلاة فيه".
وانّ من أبرز أسرار هذه العبادة الجليلة ومعانيها السامية التي تتدفق من ينبوعها الثرّ أنّها بأفعالها وقراءتها ودعائها رمز لواقع الخشوع ومطلق الخضوع لله رب العالمين, وتحقيق لحال قرب العبد من ربه سبحانه, حيث قال عليه الصلاة والسلام "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد", وقال سبحانه مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم:{ واسجد واقترب}, وهي ايقاظ متكرر للانسان من غفلته عن الله, وتحريض له على كثرة الأوبة اليه سبحانه.
وهي في الوقت نفسه تطهير للقلب, وتزكية للنفس, وتنقية للروح, وتنظيف للجوارح من لوثات الشرور والآثام, وحسبنا دليلا على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:" أرأيتم لو أنّ نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم جمس مرّات, فهل يبقى على بدنه من درنه شيء؟" قالوا :لا, قال: "كذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا".
أيها الاخوة المؤمنون:
نظرا لأهمية الصلاة وأثرها البالغ في حياة المسلم في الدنيا ومصيره في الآخرة وواقع علاقته مع ربه سبحانه, فقد توعّد الله جاحدها وتاركها بالعقاب الشديد, فقال تعالى عن أهل النار:{ ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين}, وقال،{ فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون}.
فالاعراض عن الصلاة واهمال أدائها اعراض عن الله وعدم استجابة لمضمون قوله الحق { وما خلقت الجنّ والانس الا ليعبدون}.
ولا يخسر الانسان ويشقى في دنياه, ويخيب ويهلك في أخراه الا اذا أعرض عن مولاه.
(1/39)
واعلموا أيها الاخوة المؤمنون, أنّ لبّ الصلاة ومفتاح قبولها الخشوع, فاذا تجرّد منه المصلّي لم يتذوّق لذة الصلة بربّه, ولم يشعر بأثر الصلاة العميق في قلبه وفعاليّتها في توجيه جوارحه الى الخير والاستقامة.
ولقد كان الخشوع ديدن أسلافنا في صلاتهم حيث عاشوها صلاة صلة يؤدونها على هدي قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم:" الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك". فذكروا أنّ سيدنا عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما كان اذا صلّى تأتي الطير فتقف على كتفه ورأسه تظنّه جدارا قائما أو خشبة منصوبة. وذكروا أيضا أنّ سهما أصلب ساعد سيدنا علي رضي اللهعنه, فنزعه, وبقي النصل في داخل اللحم, فقالوا: يجب أن نشق في لحم الساعد شقا حتى نستخرج النصل, فقال: ( افعلوا ذلك اذا دخلت في الصلاة), فلما أخرجوا النصل, وضمّدوا جرحه وهو في الصلاة سألهم بعد أن أنهاها قائلا: (هل أخرجتم النصل؟).
انظروا أيها الاخوة:
كيف أنه رضي الله عنه لمّا دخل في صلاته لم يشعر بما حدث له في ساعده من جراحة وألم, لأنه كان يعيش في صلاته بلذة مناجاته لرب العالمين, قال تعالى:{ قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون }.
أيها الاخوة المؤمنون:
سابقوا الى حسن الصلة بربّكم, وأخلصوا في أدائها, وحققوا كامل خشوعها, لأنها قوّة روحيّة غامة تستمدّون بها من الله عزيمة صادقة في الثبات أمام المحن مهما اشتدّت, وفي معترك أزمات العيش مهما استعصت, وتطردون بها عن أنفسكم الهموم والأحزان, وتستجلبون الراحة لضمائركم, والطمأنينة لقلوبكم, والاستقامة لجوارحكم, وهذا ما فسّره قوله عليه الصلاة والسلام:" أرحنا بها يا بلال".
(1/40)
وانّ ما يصيب العالم من مصائب وبلايا, وما يثور فيها من شرور ومفاسد, تعصف, وتحطّم وتدمّر, لا يرد كيده عن العبد المؤمن الا بما يستعدّ به من قوّة روحيّة عالية, ولا شيء كالصلاة يحقق لهذا العبد تلك القوّة الروحيّة المنشودة, قال تعالى:{ انّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}.
اللهم اجعلنا من المصلّين, وثبّتنا على هدي الدين, واملأنا بنفحات القرب, وأكرمنا بمقام المخلصين.
والحمد لله رب العالمين.
فريضة الجمعة (مكانتها, أسرارها, أثرها)
الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر, وأشكره تعالى فهو الذي وعد المزيد لمن شكر. عباد الله, اتقوا الله فيما أمر, وانتهوا عمّا نهى عنه وزجر, وأخرجوا حبّ الدنيا من قلوبكم, فانّه اذا استولى أسر, وحافظوا على الطاعات وحضور الجمع والجماعات, واعلموا أن الله أمركم بأمر عميم, بدأ به بنفسه, وثنّى بملائكة قدسه, فقال تعالى ولم يزل قائلا حكيما, تشريفا لقدر نبيّه وتعظيما, وارشادا لنا وتعليما:{ ان الله وملائكته يصلون على النبي, يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما}. اللهم صلّ وسلّم وبارك على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيها الاخوة المؤمنون, يطيب لي أن أتحدّث اليكم في خطبتي هذه عن صلاة الجمعة, وما أودع الله فيها من أسراروحقائق.
(1/41)
لقد اختار الله تعالى لأداء فريضة الجمعة يوما من أشرف أيام الزمان وأكرمها عنده, انّه يوم الجمعة الذي جاء في حقه أنه خير يوم طلعت فيه الشمس, وهو سيّد الأيام وأعظمها: فيه خلق آدم, وفيه أهبط الى الأرض, وفيه مات, وفيه ساعة الاجابة, وفيه قيام الساعة, وهو يوم عيد للمسلمين. ومتب الله تلك الفريضة على كلّ مسلم بالغ عاقل الا عبدا مملوكا أو امرأة أو صبيّا أو مريضا أو مسافرا. وشرع الله تعالى لفريضة الجمعة ألاتؤدّى الا في جماعة حتى تتحقق الأهداف السامية والآثار الطيّبة التي تفيض منها في حياة الأمة عندما يشهدها المسلمون في كل اسبوع على صعيد كل مدينة, وكل قرية, وكل حي, وكل تجمّع لهم.
ولقد أوضح الرسول عليه الصلاة والسلام أهميّتها في حياة المسلمين فبيّن أنها ذروة العبادات التي أناط الله تعالى بها أمورا جليلة وآثارا عظيمة وخيرات كثيرة تستقيم بمقتضاها حياة الأمّة المسلمة قتلتقي في فكرها وسلوكها وعواطفها ومعتقداتها في ظل منهج الله تبارك وتعالى.
أيّها الاخوة المؤمنون:
انطلاقا من هذه المكانة العالية التي احتلّتها فريضة الجمعة في دين الله عز وجل حذر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عاقبة التساهل بها والتخلّف عن أدائها فقال:" من ترك ثلاث جمعات تهاونا من غير عذر طبع الله على قلبه". وأمر المسلم أن يتهيّأ لفريضة الجمعة, فجعل الاستعداد لها من أجل الطاعات وأرقى العبادات, حيث دعا الى الاغتسال لها والتطيّب والتجمّل في الملبس والمظهر حال حضورها, فقال فيما رواه الامام أحمد من حديث كعب بن مالك عن أبي أيّوب الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول:" من اغتسل يوم الجمعة ومسّ من طيب أهله ان كان عنده, ولبس من أحسن ثيابه, ثم خرج يأتي المسجد, فيركع ان بدا له, ولم يؤذ أحدا, ثم أنصت اذا خرج امامه حتى يصلّي, كانت كفّارة لما بينهما وبين الجمعة الأخرى".
(1/42)
وأعطى توجيهه للمسلم في مضمارها أن يتجرّد تجرّدا كاملا من الدنيا, وينخلع قلبه من شواغل المعاش جواذب الأرض, ليخلو بالله تعالى, وينصرف الى طاعته من أعماقه, عندها لا يفكّر وهو يجلس في خطبة الجمعة الا بما يسمع من ذكر الله تعالى وآياته التي تتلى, وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم التي تروى, وأخبار الأسلاف والصالحين, والأفكار والحكم والمواعظ التي تشحذ الهمّةفي الطاعة, وتترقى به في العبادة, وتزكّي عقله بالمعرفة, وتنير قلبه بالهداية.
أيها الاخوة المؤمنون:
لقد احتلّت فريضة الجمعة في مضمار الدعوة الى الله عز وجلّ منزلة أصبحت فيها عمادا من أهم أعمدة الدين, فهي صوت الاسلام الهادر في آفاق المسلمين الذي يقرع أسماعهم في كل أسبوع بمواعظه البليغة, فيوقظ عقولهم, وينبّه ضمائرهم, ويزكّي نفوسهم, وينير عقولهم, وذلك لما حفلت به هذه الفريضة العظيمة من معان روحيّة غامرة, وتوجيهات تربوية كريمة, وبواعث فكرية رائعة, ومناهج تنظيميّة بديعة تجلّى ذلك في صلاتها, وتجمّع المسلمين في مكان أدائها وفي انصاتهم لخطبة خطيبها.
(1/43)
وكأني بخطبة الجمعة تتجمّع فيها قوة التأثير العظمى بالنسبة لسائر جوانب تلك الفريضة, لأنها لسان الموعظة الاسلامية الصريح والمضمار الذي تتدفّق عبره الأفكار والمفاهيم والتصوّرات والمعتقدات التي تتعلّق بمختلف جوانب حياة المسلم, وتتناول شتّى أطوار عيشه وظروف وجوده, وتناقشها على ضوء المنهج الاسلامي القويم نقاشا تصرف فيه العلاجات المناسبة, وتوضع الحلول الصحيحة والأجوبة الصائبة لجميع قضايا المسلمين التي تجدّ في حياتهم, وتظهر على مسرح وجودهم. في مختلف الصعد الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية والدينيّة, وبهذا تكون صلاة الجمعة بخطبتها مؤتمرا دوريا أسبوعيا, يلتقي فيه المسلمون, يعرضون فيه قضاياهم على مائدة الاسلام ليصدروا عنها برأي واحد, وفكر واحد, ونتائج واحدة تنبثق من مشكاة القرآن الكريم وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وكم يحتاج المسلمون اليوم ازاء ما يمرّون به من ظروف قاسية وشدائد ومحن أن يلجو ذلك الحصن المنيع, ثم يصدروا عنه أشدّاء أقوياء مشحوذة عزائمهم أبيّة نفوسهم, متفقة مقاصدهم, متحدة أهدافهم, متألّقة آمالهم, يشكّلون من أنفسهم قوة صامدة, تتحطّم أمام صلابتها مقاصد أعدائهم ونوايا خصومهم. فعندما تذكّرهم منابر الجمعة مأساة المسجد الأقصى وما فعله اليهود الغاصبون من تذبيح وتقتيل للمصلّين في رحابه الطاهرة, يهز هذا التذكير مشاعرهم, ويؤجج بركان الغضب في أعماقهم, فيستحيلون في وجه المستعمر الغاصب والعدو الغادر حمما ثائرة لا تبقي ولا تذر.
(1/44)
وعندما تذكّرهم منابر الجمعة نضال المجاهدين من أبناء فلسطين الذين يتصدّون بحجارة ابائهم لرصاص غدر عدوّهم, فيتساقطون على أرض فلسطين يروون ترابها بدمائهم التي تحكي كل قطرة منها قصّة نضال شعب رفض أبناؤه الذل والهوان والضعف والاستسلام, فيحس المسلمون بواجبهم المقدّس في الوقوف الى جانب اخوانهم في فلسطين وقوفا يترجم التلاحم والتضامن الذي صاغتهم على أساسه رسالة التوحيد, حيث قال تعالى:{ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا, واذكروا نعمت الله عليكم اذ كنتم أعداءا فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا}.
فتنبّهوا أيها المسلمون الى هذه الحقيقة, وانطلقوا نحو العناية بفريضة الجمعة في همّة قعساء وعزيمة صادقة, تفلحوا, وتنجحوا. {انّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
والحمد لله رب العالمين.
من شعبان الى رمضان
الحمد لله حمدا يليق بجنابه الكريم, والشكر لله على نعمائه وفضله العميم, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له القائل في قرآنه العظيم:{ وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون}, وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الرؤوف الرحيم. اللهم صلّ سلّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم ومن تبعهم باحسان على هدي الصراط المستقيم.
أمّا بعد: فيا عباد الله, اتقوا الله حق تقواه, واذكروا قوله فيما أنزله على قلب نبيّه ومصطفاه:{ يا أيها الناس اعبدوا ربّكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلّكم تتقون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
ها نحن نعيش في الأيام الأخيرة من شعبان الذي جعله الله معبرة النور الى رحاب شهر رمضان المبارك.
(1/45)
فجدير بنا في غضون ما تبقى من هذا الشهر الكريم أن نعدّ أنفسنا لاستقبال أنوار الهداية في رمضان, ونوطّنها لاستنشاق عبق نفحات الايمان في أرجاء أيامه ولياليه المباركات, وذلك بالانعتاق من اسار الشهوات والملذات, والتخلّص من جواذب الأرض ومغريات الدنيا وماديّات الحياة, والانطلاق الى الله سبحانه بقلوب راغبة راهبة, وأعماق صالحة صادقة, وضمائر حيّة نظيفة, ومشاعر سامية نظيفة, ونوايا طيّبة طاهرة, مؤثرين الآخرة على الدنيا, معلنين ولاءنا لربنا سبحانه على هدي قوله الحق:{ انّ وليي الله الذي نزّل الكتاب, وهو يتولّى الصالحين}, وبالاستبشار بقوله:{ آلا انّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون* الذين آمنوا وكانوا يتقون}.
آن لنا أيها الاخوة المؤمنون أن نصرف قلوبنا عن تجارة الدنيا الخاسرة ونوجهها الى التجارة الرابحة, انها تجارة الآخرة التي دعانا اليها ربّنا سبحانه وتعالى, فقال:{ يا أيها الذين ءامنوا هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم, ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون* يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنّات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيّبة في جنّات عدن, ذلك الفوز العظيم}.
فمن كان له سعي حثيث في مضمار الدنيا لغايات مادّية كثيرة بذل في سبيلها الأفكار والجهود والأوقات التي يجب عليه أن يفكّر في نتائج هذا المسعى قبل أن يبالغ فيه, ويغرق في ظلماته الآثمة, فيكون من الهالكين, لأن الدنيا لا تثمر من واقع أهلها خيرا, ولا تمنحهم سعادة, وانما تخلّف في حياة المتهالكين عليها اللاهثين خلف زينتها الفانية الهموم والغموم, والآلام والأحزان, والقلق والاضطراب, والكتئاب والعذاب, والتمزق والضياع, والتحاسد والباغض, والتقاتل والدمار.
(1/46)
وانّ نظرة في واقع المجتمعات المادية الحديثة تكشف لنا النقاب عن هذه الحقيقة المؤلمة, اذا تحدّتنا تقارير تلك المجتمعات عن ارتفاع نسبة الأمراض العقليّة وفي قمّتها الشيزوفرانيا, وارتفاع نسبة جرائم القتل والسرقة والانتحار وانتشار المخدرات والرذيلة والأمراض الخطيرة وفساد البيوت وتفكك الأسر, وانحطاط الأخلاق الى حد تشمئز منه النفوس الخبيثة فضلا عن الصالحة, لذلك لك تستحق الدنيا من المصير يوم القيامة الا أ، تقذف في النار, وهذا ما نقله الينا سيدنا عبدالله بن عباس ترجمان القرآن حيث قال: يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوّه خلقها, فتشرف على الخلق, فيقال: هل تعرفون هذه, فيقولون: نعوذ بالله من معرفة هذه, فيقال: هذه هي الدنيا التي تشاجرتم عليها, وبها تقاطعتم الأرحام, وبها تحاسدتم وتباغضتم واغترركم, ثم تقذف في جهنّم, فتقول: يا رب, أين أتباعي وأشياعي؟ فيقول: ألحقوا بها أتباعها وأشياعها. مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي.
أيها الاخوة المؤمنون:
بموجب هذه الحقيقة ينبغي أن نقتصر من الدنيا وماديّاتها وشهواتها على ما يمكّننا من متابعة سيرنا الى الآخرة التى قال عنها سبحانه:{ والآخرة خير وأبقى}, وانما يتحقق ذلك باغتنامنا فرص الاقبال على الله سبحانه وتعالى والانصراف الى سوق الآخرة التي يتسع نطاقها في مواسم العبادة والطاعة.
ولقد كان لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلّم أسوة حسنة, وهو يقبل على الله رب العالمين في صلاته وذكره ودعائه, بل كانت حياته الشريفة كلها اقبالا على الله تعالى الذي أنزل عليه قوله:{ واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين}, وقوله:{ وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون}, وقوله:{ يا أيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلّكم تفلحون}.
(1/47)
فأعلن عليه الصلاة والسلام واقع العبوديّة المطلقة لربّه سبحانه في ليله ونهاره عبر قيامه وصيامه وجهاده في سبيل الله ودعوته اليه وبذله وعطائه ابتغاء وجه ربّه الأعلى الذي خاطبه بقوله:{ ومن الليل فتهجّد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربّك مقاما محمودا}, فكان يقوم الليل حتى تتورّم قدماه, وكان اذا قيل له: لم تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ أجاب:" أفلا أكون عبدا شكورا".
وكان من مظاهر حرصه على صادق الصلة بمولاه سبحانه أن تخفف من أثقال المادة والشهوات, فاكتفى بأبسط مظاهر العيش, وهو يقول:" مالي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا الا كراكب استظلّ تحت شجرة ثم راج وتركها".
وكان كثير الخشية من الله, فاذا سجد, بلّ الأرض بدموعه, وسمع لجوفه أزيز كأزيز المرجل من خشية الله, وكان يحذر أصحابه من خطر الدنيا فيقول:" ما الفقر أخشى أخشى عليكم؟ ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم, فتنافسوها كما تنافسوها, وتهلككم كما أهلكتهم".
أيها الاخوة المؤمنون:
لقد استمد المسلمون الأوائل من واقع حياة الرسول صلى الله عليه وسلّم التفسير الواقعي لمنهج العبوديّة الخالصة لرب العالمين, وذلك عندما حرّروا قلوبهم من أغلال حبّ الدنيا والتعلّق بشهواتها الفانية, فاستوى في نظرهم ذهبها ومدرها, وجعلوا الآخرة ومرضاة رب العالمين أكبر همّهم ومبلغ علمهم, فقاموا الليل مجسّدين معنى قوله تعالى:{ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون}, وأنفقوا في سبيل الله متمثلين هدي قوله تعالى:{ ويطعمون الطعام على حبّه مسكينا ويتيما وأسيرا * انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزآء ولا شكورا}, وجاهدوا في سبيل الله ورائدهم في ذلك قوله سبحانه:{ انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله}.
أيها الاخوة المؤمنون:
(1/48)
هلمّوا الى عز الدنيا وسعادة الآخرة في ظلّ توبة نصوح واغتنام لما تبقى من الأعمار في طاعة الغفار, وحسن عبادته في الليل والنهار, واذكروا المصير والحساب والجزاء, واعملوا ليوم لا يتفع فيه مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم, واجعلوا عظتكم بقوله سبحانه:{ واتقوا يوما ترجعون فيه الى الله ثم توفّى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.
وفقني الله وايّاكم الى حسن الاستماع واخلاص العمل.
والحمد لله رب العالمين.
استقبال شهر الصيام
الحمد لله الكريم الوهّاب, والشكر لله على ما تفضل علينا من مواسم الخير وفرص الأجر والثواب, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له القائل في محكم الكتاب:{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان}, وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله رفيع القدر والجناب. اللهم صل وسلّم وبارك على نبيّنا محمد وعلى آله وسائر الأصحاب.
أمّا بعد: فيا معشر المؤمنين, اتقوا الله, واستقيموا على هداه, والزموا سبيل طاعته حيث قال جلّ في علاه:{ وما خلقت الجنّ والانس الا ليعبدون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
ها هو رمضان يطل علينا من جيد بغرّته المشرقة, وطلعته المنيرة, ويعود الينا بعد انصرام عام كامل, باتت فيه قلوب المؤمنين تعالج لهيب شدّة الشوق الى لقاء شهر الصوم.
فمرحبا بك يا رمضان حيث تنزل في ساحة حياتنا في هذا العام تحمل الينا من ربنا الكريم أسمى النفحات, وأكرم التجلّيات, وسابغ البركات, وواسع الرحمات. فطوبى للمسلمين في استقبالك, وطوبى للمسلمين بنفحاتك واشراقاتك. فأنت خير الشهور, وأيّامك أعظم الأيام, ولياليك أبرك ليالي الزمان, كيف لا, وأنت شهر القرآن الذي أنزل فيك هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان. فقال فيك سبحانه:{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان}.
(1/49)
كيف لا, وأنت تحمل بين جنبيك للانسانية أفضل وأبرك ليالي العمر, انها ليلة القدر التي قال فيها الله عز وجل:{ ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها باذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر}, كيف لا, وأنت موسم التجديد والبناء, حيث تعيد بناء النفس الانسانية من جديد بعد أن هدمت الدنيا أركانها, وزعزعت بناءها, وقوّضت المادة كيانها. تعيد بناءها من جديد عندما تردّ الفطرة الانسانية الى أصلها الطيّب, وصفائها النيّر, عندما تعرّف الانسان حقيقة وجوده في هذه الحياة, حيث تثع في أرجاء أيامك ولياليك أنوار الهداية, وتهبّ على القلب الانساني نفحات الايمان, فيستيقظ من رقاده, ويصحو من غفلته, وينتبه من شروده, فينطلق في سبيل طاعة الله رافعا لواء العبوديّة لربّ العالمين, معرضا عن زخارف الدنيا ومفاتن الحياة, مستقبلا رضوان الله نعالى في ظلال قيام الليل وأفياء صوم النهار.
أجل يا رمضان, فيك يولد الانسان من جديد طاهر النفس, طيّب القلب, نقيّ السريرة, سامي الروح. وفيك ينكشف الستار عن حقيقة تسطع في القلوب والعقول كالشمس في رابعة النهار, تقول: انّك شهر الاصلاح العام.
ولقد حق لك أن يقول فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم" أتاكم رمضان شهر بركة, يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة, ويحطّ الخطايا, ويستجيب الله فيه الدعاء, ينر الله فيه الى تنافسكم, ويباهي بكم ملائكته, فأروا الله من أنفسكم خيرا, فانّ الشقي من حرم من رحمة الله عز وجل".
وانّك يا رمضان, شهر الصحوة الكبرى, حيث يستيقظ فيك السادرون, ويتنبّه الغافلون, فتتفتح أبواب الجنة بتفتح أبواب الخير, وتنغلق أبواب النار بانغلاق أبواب الشر, كما قال فيك سيّد المرسلين عليه الصلاة والسلام:
(1/50)
" اذا كان أوّل ليلة من شهر رمضان صفّدت الشياطين ومردة الجان وغلّقت أبواب النار, فلم يفتح منها باب, وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب, وينادي منادي يا باغب الخير أقبل, ويا باغي الشر أقصر, ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة".
فما أجلّ خصالك, يا رمضان, وما أعظم مآثرك, فأنت موسم البر والاحسان, حيث تتدفق أيدي المؤمنين بالعطاء, وتجود نفوسهم بالسخاء, فتتآلف قلوب الأغنياء مع الفقراء, وتتآزر زنود الأقوياء مع الضعفاء, وينتشر الحب والوئام, ويضمحل البغض والخصام, وتستطع في آفاق الصائمين أنوار الفضيلة ومحاسن الأخلاق, وتتلاشى ظلمات الرديلة ومساوئ الأخلاق, فاذا بشفاه المؤمنين تستعذب الكلمة الطيّبة والبسمة الصادقة, واذا بقلوبهم تهفو الى مواقع المعروف والعمل الصالح, وبنفوسهم تأنس الى الخير والبر والاحسان, وبجوارحهم تسعى في سبيل الطاعة, وتتحرّك في نطاق الفضيلة, حيث يراقب الصائم كل كلمة يقولها, وكل نظرة ينظرها, وكل تصرّف يتصرّفه, وكل فكرة يفكّر بها, وكل خفقة قلب يخفقها, وكل احساس وشعور ينبض في أعماقه, يحرص على أن يحظى بالعفو والغفران, والقبول والرضوان, لأنه يعتقد أن رمضان موسم الصلح الخالص مع الله رب العالمين, وموعد الرجعة الصادقة اليه, فيعمل على أن يكون قريبا من ربه حبيبا الى خالقه, ولا يحظى بمقام القرب ومنزل الحب الا من سعى في مضمارهما, وسار في طريقهما, وهذا ما أشار اليه رب العالمين كما أخبر سيّد المرسلين في الحديث القدسي قال الله عز وجل:" وما يزال عبدي يتقرّب اليّ بالنوافل حتى أحبه, فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها, ولئن سألني لأعطينّه, وان استعاذني لأعيذنّه".
(1/51)
هذا يا رمضان غيض من فيض منائحك, وبرض من عدّ محاسنك. ولا يسعني في نهاية المطاف الا أن أٌقول: أيها الاخوة المؤمنون, اغتنموا فرصة شهر الصيام, وأكرموا وفادته عليكم, وأروا ربّكم من أنفسكم خيرا, وتمثلوا قوله الحق في وصفه عباده المخلصين {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون}.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول ويتبعون أحسنه.
والحمد لله رب العالمين.
رمضان شهر القرآن
الحمد لله الاله الواحد, والشكر له سبحانه على ما أنعم وأوجد, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له القائل في محكم تنزيله الممجّد:{ وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا, كا كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلنه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا, وانّك لتهدي الى صراط مستقيم}. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الكريم الأمجد. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ما شدا طائر وغرّد.
أما بعد فيا معشر المؤمنين, أوصيكم ونفسي المخطئة بتقوى الرحمن, وأحثكم على العمل بمقتضى هدي القرآن, والسير على سنّة النبي العدنان.
أيها الاخوة المؤمنين:
ان من أجلّ وأكرم ما اختصّ به الله شهر رمضان المبارك أن جعله موعد افتتاح طريق الرسالة الاسلامية بين السماء والأرض, حيث تنزلت فيه أولى قطرات غيث الوحي الالهي على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال سبحانه:{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان}.
(1/52)
فالقرآن الكريم هو عطاء الله الخالد في شهر رمضان, وانّ خيرا ما يقضي به المسلمون أيّام هذا الشهر المبارك ولياليه أن يعيشوا في رحاب القرآن الكريم, وأن يصطبغوا في أقوالهم وأفعالهم بصبغته الطاهرة المقدّسة متأسّين بأكرم المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم الذي حدّثنا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أنه كان يأتيه جبريل في رمضان فيتدارسان القرآن. وجدير بنا نحن المسلمين في ظل موعظة شهر رمضان أن نلتقي القرآن لقاء تذكرة وايمان وعهد واستقامة وعرفان, ونحن نسمع القرآن الكريم يحدّثنا عن نفسه فيقول سبحانه:{ الر, كتاب أنزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات الى النور باذن ربّهم الى صراط العزيز الحميد}, ويقول:{ انّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}.
أيها الاخوة المؤمنون:
انّ الحديث عن القرآن الكريم حديث يطيب سماعه, ويعذب تناوله, وتشرق في القلب حلاوته, وتسمو بالروح قداسته, لأنّه حديث عن كلام الله المبين الذي أنارت معارفه العقول, وأرشدت هدايته القلوب, وطهّرت قداسته النفوس, وقوّمت مواعظه السلوك, وأرهفت معانيه المشاعر, وأشفّت نفحاته الأرواح.
فهو دستور الحق, ودستور العدل, ودستور العزة, ودستور الفلاح والسعادة, ودستور العلم والهداية, الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقوله:" هو حبل الله المتين, وهو الذكر الحكيم, وهو الصراط المستقيم, وهو الذي لا تزيغ به الأهواء, ولا تلتبس به الألسنة, ولا تشبع منه العلماء, ولا يخلق على كثرة الردّ, ولا تنقضي عجائبه, وهو الذي لم تنته الجنّ اذ سمعته حتى قالوا:{ انا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي الى الرشد فآمنا به}, ومن قال به صدق, ومن عمل به أجر, ومن حكم به عدل, ومن دعا اليه هدي الى صراط مستقيم".
أيا الاخوة المؤمنون:
(1/53)
لقد كان القرآن الكريم قوّة الكلمة الخالدة المؤثرة التي قلبت الموازين وغيّرت المفاهيم, فحطمت أعراف الجاهلية, ودمّرت صرح الكفر, وزلزلت كيان الباطل, وأيقظت العقول السادرة ونبّهت القلوب الغافلة, وأحيت الضمائر الميتة, وأقامت الانسان على صراط الحقيقة.
وعندما انطلق به رسول الله يقرؤه على الناس داعيا اياهم الى هديه المبين, لم يكن من بلغائهم وعظمائهم وصناديدهم الا أن تطامنوا أمام قوة تأثيره, وخضعوا لسلطان عظمته, ودونك منهم الوليد بن المغيرة المخزومي الذي لما سمعه من رسول الله عاد الى المشركين ليقول لهم:" سمعت من محمد آنفا كلاما ليس بكلام بشر والله, وان عليه لطلاوة, وان له لحلاوة, وان أعلاه لمثمر, وان أسفله لمغدق, وانه ليعلو ولا يعلى عليه".
ودونك منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه, لما دخل على أخته فاطمة وختنه سعيد بن زيد ليؤدبهما بسبب دخولهما في الاسلام, فرأى صحيفة القرآن في يد اخته فلما أصبحت في يده, وقرأ فيها قوله تعالى:{ بسم الله الرحمن الرحيم * طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * الا تذكرة لمن يخشى * تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى * الرحمن على العرش استوى}, تطامن أمام عظمة كلام الله الحق, وخارت قواه, وسكن غضبه, وقال بلطف العبد الذي هدى الله قلبه للاسلام:" دلّوني على محمد", فكانت نهاية قسوة قلب أظلمته الجاهلية, وبداية رحمة قلب أشرق بنور الاسلام.
وهكذا استطاع القرآن أن يفتح مغاليق القلوب, فيبدّد عنها طلام الكفر, ويقلب واقع الانسانظهرا لبطن ليصبح انسانا آخر كأنما خلق من جديد, قال تعالى:{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدّعا من خشية الله}.
(1/54)
وتحت راية القرآن تكوّنت خير أمة أخرجت للناس, وعلى مائدته المقدّسة تربّى الجيل الاسلامي الأوّل, حيث انطلق يقرأ القرآ، بلسانه تلذذا, وبعقله تدبّرا, وبمشاعره تأثرا, وبقلبه اهتداء, وبجوارحه تطبيقا, فكان واقع حالهم مع القرآن كما قال سبحانه:{ انما المؤمنون الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم واذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا وعلى ربهم يتوكّلون}, فكان الواحد منهم اذا مرّ بآية فيها ذكر الجنّة بكى شوقا اليها, واذا مرّ بآية فيها ذكر النار شهق شهقة وكأن زفير جهنّم في أذنيه.
أيها الاخوة المؤمنون:
أقبلوا على كتاب ربّكم في هذا الموسم العظيم, واستكثروا من تلاوته آناء الليل وأطراف النهار, وبادروا الى العمل بهديه وتطبيق أحكامه وآدابه, فهو حجة لمن عمل به وحجة على من أعرض عنه اذ قال عليه الصلاة والسلام:" والقرآن حجة لك أو عليك".
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
والحمد لله ربّ العالمين.
رمضان شهر التوبة والغفران
الحمد لله صاحب العفو والغفران, والشكر له سبحانه على ما أفاض على عباده من قلائد الجود والعرفان, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له القائل في محكم تنزيله:{ وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين}, وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الى آخر الزمان. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم ومن تبعهم بصدق واحسان.
أما بعد: فيا معشر المؤمنين, أوصيكم بتقوى الله تعالى فهي السبيل الى نعيم الجنان, فلقد قال ربنا عز وجل:{ انّ المتقين في جنات ونعيم}.
أيها الاخوة المؤمنون:
ها نحن نعيش في رحاب العشر الثاني من رمضان الذي يتسامى فيه قوله تعالى:{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله, ان الله يغفر الذنوب جميعا}.
أجل ايها المؤمنون:
(1/55)
انه عشر المغفرة الذي يحمل بين جوانحه نفحات عفو الله سبحانه عن عباده المسيئين ومغفرته لذنوب عباده المذنبين. اذا ما أقبلوا عليه معترفين بتقصيرهم, مقرّين بذنوبهم, معتذرين تائبين مستغفرين.. ولا شيء مالذنب يوبق الانسان ويشقيه في الدنيا والآخرة, لأنه يفقد بارتكابه نور الهداية, فيظلم قلبه, ويضلّ في الحياة, ويتخبّط في ظلمات الغفلة عن الله, ويرتكس في حمأة العصيان.
وحسبنا أن نقرأ كتاب الله وهو يحدثنا عن واقع العصاة المذنبين الذين أسرفوا في الشهوات, واستمرؤوا التمرّغ في أوحال الآثام والانغماس في الشرور والخطايا الى الأذقان, فسوف نجد القرآن الكريم يحدّثنا عن تخبطهم وشقائهم والظلمات التي تحيط بهم, وهم فيها غارقون, فيقول سبحانه في ذلك:{ ومن أعرض عن ذكري فانّ له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لما حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا* قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتنا وكذلك اليوم تنسى}.
وجاء في الحديث: قال عليه الصلاة والسلام:" تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا, فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء, وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء, حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا لا تضرّه الفتنة ما دامت السموات والأرض, والآخر أسود مربدّا كالكوز مجخيّا, لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا, الا ما أشرب من هواه".
أيها الاخوة المؤمنون:
لقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من خطر الذنوب وسوء عاقبة التهاون في ارتكابها فقال:" ايّاكم ومحقرات الذنوب فانهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه".
ولا ينزل البلاء, وتنتشر المجاعات, وتقلّ الأرزاق, وتكثر الهزائم, وتشيع الأمراض, وتدبّ الفرقة في الأمة الا بارتكاب الذنوب وفعل المعاصي, وهذ ما أخبرنا عنه القرآن الكريم حيث قال تعالى:{ واذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليهم القول فدمّرناها تدميرا}.
(1/56)
كما أخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:" ان الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" وبقوله:" لا تصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها الا بذنب, وما يعفو الله عنه كثير", وقرأ:{ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}.
أيها الاخوة المؤمنون:
لقد توقّى أسلافنا الصالحون ارتكاب الذنوب, وتجنّبوا مخاطر الوقوع في المعاصي تجنبهم أشد الآفات فتكا بالحياة, فكان الذنب في نظر أحدهم اذا ما ارتكبه كجبل أوشك أن يهوي عليه فيسحقه, فما يزال منه على فزع شديد حتى يعلم أن الله غفر له.
وذلكم واحد من شباب الصحابة يقع بصره على عورة امرأة فجأة, فيصرف بصره, وينطلق بعدها الى الجبال هائما على وجهه يخشى على نفسه عذاب النار من هول تلك النظرة التي لم تقصدها عيناه, ثم يحمل ذلك الشاب الى الرسول صلى الله عليه وسلّم محموما من هول التفكير بعاقبة ذنبه حتى يبشّره الرسول بعفو الله عنه, ويعلّمه آية ان قالها غفر الله له, وهي قوله سبحانه:{ ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}.
أيها الاخوة المؤمنون:
اعلموا أن الله تعالى لم يخلقنا ليربح علينا, فهو سبحانه غني عن العالمين, وانما خلقنا لنربح عليه, لذلك نشر رحمته على عباده وجعلها واسعة, فقال:{ ورحمتي وسعت كل شئ}, وجعلها تغلب غضبه بفضله, كما بيّنه رسول الله بقوله:" لما خلق الله الخلق كتب في كتاب, فهو عنده فوق العرش: ان رحمتي تغلب غضبي". ومن رحمته تعالى بعباده أن فتح لهم أبواب رحمته وعفوه ومغفرته ليبادرها المسيئون, فقال عليه الصلاة والسلام:" ان الله يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار, ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها".
(1/57)
ونادى المذنب المقبل عليه بتوبته مبشرا اياه بعفوه ومغفرته لذنبه, فقال:" يا ابن آدم, انك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي, يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء, ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي, يا ابن آدم انك لو لقيتني بقراب الأرض خطايا, ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة".
فمن أخلص في الاقبال على الله تائبا من ذنوبه غفر له ولو كانت ذنوبه مثل زبد البحر, وحسبنا دليلا على ذلك قول ربنا سبحانه:{ ان الله يغفر الذنوب جميعاْ}.
فبادروا يا عباد الله بالتوبة والانابة الى الله, واغتنموا عشر المغفرة في هذا الشهر الكريم بحسن اقبالكم على المولى سبحانه, وأنتم تذكرون قوله الحق:{ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات}.
والحمد لله رب العالمين.
رمضان شهر الحب والوئام
الحمد لله حمدا يلهج به اللسان, والشكر لله شكرا يقرّ به الجنان, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له شهادة تستقم على هديها الأركان, وأشهد أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الانس والجن, اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا في كل آن.
أما بعد: فيا عباد الله, أوصيكم ونفسي المخطئة بتقوى الله, وأحثكم على طاعته وأذكّركم قول الحق:{ يا أيّها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وأنتم مسلمون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
ان ما يثيره شهر رمضان المبارك في واقع حياة المؤمنين من بواعث الألفة والمحبة والتجاذب والترابط فيما بين قلوبهم وأرواحهم في صلاتهم وصيامهم وسائر ضروب عبادتهم لله تعالى, يذكّركم بالمعاني الانسانية الرفيعة التي نادى بها الاسلامودعا الى تطبيقها في واقع حياتهم.
يذكّرهم بأخوّتهم الانسانية والايمانية التي أفاضها الله تعالى عليهم نعمة كبرى حيث قال:{ واذكروا نعمت الله عليكم اذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا}.
(1/58)
ويذكّرهم بحقوق هذه الأمّة السامية ومتطلّباتها الانسانية الكريمة من التعاون والتباذل والتناصح والتآلف والتراحم.
ولعلّ الحب في الله يحتلّ قمّة هذه الحقوق, لأنه رباط الايمان الوثيق, وعنصر القوّة الحيّ, ومناط العيش الآمن, ومعدن السعادة الكاملة, وهذا ما أشار اليه سيّد المرسلين عليه الصلاة والسلام بقوله:" لن تدخلوا الجنّة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حت تحابّوا ألا أخبركم بشيء اذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم".
أيها الاخوة المؤمنون:
اعلموا أن الحب الذي حض الاسلام أن يشيع بين المؤمنين هو ذلك الحب البريء من نزوات الهوى, ورغبات النفس, وشهوات الحياة الدنيا. هو ذلك الحب الذي يثمر في واقع حياة المؤمنين برّ الولد بوالديه, ووفاء الزوجة مع زوجها واخلاصه لها, وأدب التلميذ مع معلّمه, ونصح المؤمن لأخيه المؤمن, وصدقه مع اخوانه المؤمنين, وتواضعه لهم, وتفانيه في سبيل خيرهم وصلاحهم, وتوقير الأمّة لعلمائها واجلالها لهم. ولن نتصوّر مجتمعا انسانيا ينشأ في واقع الحياة قويا متماسكا في بنائه من قاعدته الى قمّته الا يوم يلتقي أفراده على الود, وتجتمع قلوبهم على الألفة والمحبة, فتضمحل من واقع حياتهم الضغائن والأحقاد, وتنعدم في نفوسهم الأنانيّة وحب الذات, ويذوبون جميعا في بوتقة الحب في الله؛ فتلتقي أفراحهم ومسرّاتهم فاذا هي فرحة واحدة تشرق في قلوبهم جميعا, وتتحد أحزانهم وآلامهم, فاذا هي حزن واحد تأسى له قلوبهم جميعا. فيصدق فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم:" مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى".
(1/59)
وجدير بمثل هذا المجتمع الذي قام على أساس الحب في الله ألا تجد بين أفراده مظلوما ولا ظالما, ولا مخذولا ولا خاذلا, لأن ذلك يتنافى مع مقوّمات الحب الصادق الذي يقتضي أن يؤثر الانسان أخاه على نفسه, وأن يكون له عونا في جميع أمره, فلا يتخلى عنه في محنته, ولا يدعه عرضة لجائحات الزمان وغوائل الأيام, ولا يكون سببا في كربه وهمه, ولا عاملا على ايصال الاذى اليه واستيلاء الضر عليه. ولقد رسّخ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعائم هذا الحب القويم عندما نظفه من حظوظ النفس والهوى, وجعله خالصا لله وحده, فقال:" وأن تحب المرء لا تحبه الا لله". وبيّن مستواه اللائق في ميزان الاسلام, فقال:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه", وكشف النقاب عن واقعه العملي في حياة المؤمنين, فقال:" المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه".
أيها الاخوة المؤمنين:
ان الحب الذي أراده الاسلام بين المؤمنين ليس مجرّد مشاعر كاذبة وأحاديث فارغة ولا مجرّد كلمات منمّقة وشعارات برّاقة ولا مجرّد نزوة عارضة وستار خادع تختفي وراءه نزوات الهوى وحظوظ النفس. كلا أيها الناس, فهذا حب ساقط لا يورث أصحابه الا النكد والشقاء والشحناء والبغضاء. وأما الحب الذي أراده الاسلام, فهو واقع عملي ينتظم تصرفات المسلم وتصوراته, وتتجالى آثاره في مختلف أنماط سلوكه مع أهله وسائر أفراد مجتمعه على اختلاف منازلهم وأحوالهم.
معشر المؤمنين:
خذوا لانفسكم من سيرة سلفنا الصالح الأسوة الحسنة في ترجمتهم حقيقة ذلك الحب المقدّس الذي جعله الله تعالى الآصرة الطيّبة والوشيجة المحكمة التي تربط ما بينه وبين الصادقين من عباده حيث قال:{ يا أيها الذين ءامنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزة على الكافرين}.
(1/60)
وحسبكم أن تقرؤوا في صفحة حياتهم صوزة أبي سليمان الداراني رحمه الله, حين قال: ( لو أن الدنيا كلها في لقمة, ثم جاءني أخ لي لأحببت أن أضعها في فيه), وحين قال: ( اني اذا وضعت اللقمة في فم أخي أجد طعمها في حلقي).
أيها الاخوة المؤمنين:
لا عجب أن يبلغ المتحابون في الله ذلك, لأنهم قد انصهروا في بوتقة ذلك الحب المجيد, فأصبحوا شيئا واحدا.
واقرؤوا ان شئتم توثيقا لذلك جواب محمد بن المنكدر رحمه الله حين سئل: أي العمل أحب اليك؟ فقال: ( ادخال السرور على المؤمن ), وفي صفحة أخرى من حياتهم نقرأ أن أبا مسلم الجيشاني أتى الى أبي أميّة في منزله, فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" اذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه في منزله, فليخبره أنه يحبه", وقد جشت في منزلك لأقول لك اني أحبك في الله.
ونقرأ من صفحات حياتهم أيضا أنه لما حضرت ابن السمّاك الوفاة قال: اللهم اني وان كنت أعصيك, لقد كنت أحب فيك من يطيعك.
أيها الاخوة المؤمنون:
اعملوا في هذا الشهر المبارك على أن تكونوا من المتحابّين في جلال الله سبحانه, وأخلصوا في هذه المحبة بأداء حقها الكامل عليكم, تصبحوا يوم القيامة في ظل عرش الله يوم لا ظل الا ظله:" ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه".
اللهم ألّف بين قلوبنا, وثبّتنا على منهج الحب فيك.
والحمد لله رب العالمين.
رمضان شهر السموّ الروحي
الحمد لله على نعمائه, والشكر له على آلائه, وأشهد أنه سبحانه المعبود الحق لا شريك له في ملكه ولا في حكمه ولا في عبادته, وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه وعلى أله وصحبه ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله, أوصيكم ونفسي المخطئة بتقوى الله, وأحثكم على طاعته وحسن عبادته, وأذكركم بقوله تعالى:{ يا أيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلّكم تفلحون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
(1/61)
يأتي رمضان في كل عام لينتشل الغارقين السادرين في مستنقعات الشهوات, الغافلين المنغمسين في أوحال المادّة, ويخلّصهم مما هم فيه من ارتكاس وتخبّط, ويعيدهم عبر قيام ليله وصوم نهاره الى أصالة فطرتهم, وصفاء قلوبهم, وسموّ أرواحهم, معلنا في آفاق وجودهم أنهم لم يخلقوا عبيدا لشهواتهم, وأرقاء لأهواء نفوسهم, وانما خلقوا عبيدا لله وحده لا شريك له الذي أعلن قائلا في كتابه الحق:{ وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون}, والذي أمر الناس فقال:{ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون}.
فمن استنكف عن عبادة الله عز وجل وآثر عليها عبادة الدنيا, فتهالك على شهواتها الخاسرة, وزينتها الفانية, واستحب الفسوق والعصيان على الهداية والايمان لن يجني من ذلك سعادة منشودة, وطمأنينة مقصودة, وانما سيقطف ثمار ذلك شقاء وتعاسة وخيبة وخسرانا. وذلك هو واقع المجتمعات المادّية القابعة في ظلمات الحضيض البهيمي, لا يزال يحدّثنا عن انسانه الذي وقع فريسة شهواته وحب دنياه وملذاته, وحرص على تضخيم جانبه المادي على حساب كيانه الروحي, فانحصر تفكيره وطاقاته, وعواطفه واتجاهاته في دائرة طعامه وشرابه وأمواله ونزواته ولذائذ حياته, فلم يجن ذلك الانسان الذي آثر جسده على روحه, وعبد شهوته دون ربه, لم يجن نتيجة ذلك سوى مرارة الشقاء والنكد, حيث عصفت به ظلمات الشرور وسحقته رحى المادّة, رغم ما أحرزه من تقدّم باهر في مجال العلوم العصرية والاكتشافات العلمية والدراسات الكونية, وتمثل شقاء انسان تلك المجتمعات المادية الخاسرة في أزمات نفسية أخذت تحطم كيانه تحطيما, وأمراض خطيرة راحت تأكل جسده أكلا, ودمار في سلوكه وأخلاقه, وصراع دائم لا يهدأ بين أفراد مجتمعه, وتمزق في أواصره وروابطه الأسرية والاجتماعية والانسانية.
(1/62)
ولا ريب في أن من فقد اتزانه النفسي والفكري والاجتماعي, وارتكس في حضيض المادية الجارفة لا تعرف السعادة سبيلا الى قلبه, ولا يجد الأمن طريقا الى حياته. وليس له في سبيل الخلاص مما هو فيه الا أن يلتفت الى العناية بروحه, وذلك عندما ينطلق بها في معراج عبادة الله عز وجل, ويترقى بها في مدارج طاعته, ويسمو بفكره وقلبه ومشاعره مجتازا حدود الشهوات الرخيصة, والنزوات النفسية الهابطة,ليعيش في رحاب العبودية المطلقة لله رب العالمين ينعم بجلال الخضوع لوجهه الكريم, ويتذوق حلاوة مناجاته في الأسحار, والاقبال عليه في الليل والنهار, ما بين ركوع وسجود, وتضرّع وخضوع, ومناجاة ودموع, يتمثل في واقعه معنى قول رب العالمين في وصف عباده المؤمنين:{ تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون}, وقوله:{ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
ينبغي علينا أن نعلم أن انتعاش الجانب الروحي في كيان العبد بطاعة الله تعالى يفضي الى تطهّر جانبه المادي من لوثات الشر والفساد, وبذلك يسمو بشهواته ورغباته وميوله بعد ذلك الا فيما يحب الله سبحانه ويرضى, فيصبح ذلك الانسان مصدرا من مصادر الخير في مجتمعه ومنبعا للطهر والنقاء في سلوكه ومواقفه, وهذا ما يوضحه الحديث القدسي الذي يقول فيه ربّ العزة سبحانه:" وما تقرّب اليّ عبدي بشيء أحب اليّ مما افترضت عليه, ولا يزال عبدي يتقرّب اليّ بالنوافل حتى أحبه, فاذا أحببته, كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبصر فيها, ورجله التي يمشي بها, وان سألني لأعطينّه وان استعاذ بي لأعيذنّه".
(1/63)
فيا عباد الله: اغتنموا فرصة شهر رمضان بالعناية بأرواحكم في ظل طاعة ربكم وحسن الاقبال عليه في قيام الليل وصوم النهار وكثرة ذكر الله وتلاوة القرآن, وتمثلوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق هذا الشهر الكريم حيث قال:" من صام رمضان ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه".
واخلعوا عنكم نفوسا رثة بالية غارقة في مستنقعات الشهوات ومهابط العصيان, واستبدلوا بها نفوسا طاهرة زكيّة تعشق طاعة الرحمن وتنبذ الشيطان, وتهفو الى موائد الخير والهداية, وتتلمّس أنسها وطمأنينتها في مناجاة ربّها في الأسحار والخلوة معه في غضون الليل وأوصال النهار, واذكروا قول ربكم سبحانه:{ الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر لبمؤمنين فيا فوز المستغفرين!!..
والحمد لله رب العالمين.
ليلة القدر (فضلها وأثرها)
الحمد لله حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه. والشكر لله على ما أولانا من سابغ نعمه وجميل عرفانه. وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن سار على سنّتهم واقتدى بهم الى يوم الدين.
أما بعد: فاني أوصيكم _عباد الله_ بتقوى الله, وأذكركم موعظته بقوله:{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وأنتم مسلمون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
ها هي ليلة القدر تطل علينا في رحاب العشر الأواخر من رمضان. انها من أكرم ليالي الزمان, بل هي في ميزان الله تعالى خير من ألف شهر بأيامها ولياليها, وذلك لما أودع فيها سبحانه من الأسراروالحقائق واللطائف, ولما أنزل فيها على عباده من الخيرات والبركات والرحمات حتى أنزل فيها سورة من خمس آيات قال تعالى:{ وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر}.
(1/64)
تعالوا بنا أيها الاخوة المؤمنون, لنقف في خطبتنا اليوم حيال هذه الليلة المباركة عسى أن يمنّ الله علينا بأن نكون من أهلها والمقبولين عنده فيها.
معشر المؤمنين:
لقد حدد الله تعالى في كتابه الخالد خصائص تلك الليلة وأهمّ صفاتها بدءا من اسمها وانتهاء بطلوع فجرها.
فهي ليلة القدر حيث قال تعالى:{ انا أنزلناه في ليلة القدر}. وما أسبغ الله تعالى هذا الاسم الكريم عليها الا اشعارا بسموّ قدرها ورفعة شأنها عند خالقها القدير, وتنويها بفضلها على سائر أيام وليالي العام, وذلك لما تضمّنته من خصال, واشتملت عليه من صفات لم يحظ به غيرها من ليالي العمر. فهي الليلة الموعودة المشهودة التي تم فيها الاتصال المطلق بين الأرض وبين الملأ الأعلى, وهي الليلة الولود التي بزغت فيها شمس الهدى على الوجود كله, فكانت من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الادراك البشري:{ وما أدراك ما ليلة القدر}, فهي ليلة لا حدود لفضلها ولا عدل لها من أيام الزمان ولياليه, فهي خير من ألف شهر بل من آلاف الشهور وآلاف السنين قد مضت عقيما لا تلد شيئا ينتفع به, ولا تطلع على الناس ببارقة من خير يتلقونه منها, فانقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة من آثار وتحوّلات.
ففيها يفرق كل أمر حكيم, حيث تقوم فيصلا بالقرآن بين الحق الخالد والباطل الزاهق, وتوزن فيها أقدار الناس حسب قربهم وبعدهم من كتاب الله. كما تقدّر فيها الأمور والأحكام والأرزاق والآجال, وما يكون في تلك السنة الى مثل هذه الليلة من السنة المقبلة, ومعنى هذا أن الله يظهر ذلك لملائكته, ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم بأن يكتب لهم ما قدّره لتلك السنة, ويعرّفهم اياه, وليس المراد منه أن يحدثه في تلك الليلة, لأن الله تعالى, قدّر المقادير قبل أن يخلق السموات والأ{ض.
(1/65)
وقد قيل للحسين بن الفضل: أليس قد قدّر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال بلى. قيل له: فما معنى ليلة القدر؟ قال: سوق المقادير الى المواقيت. وتنفيذ القضاء المقدّر. فما وضع في تلك الليلة من قيم وأسس وموازين, وقدّر فيها من أقدار الفرد وأقدار الشعوب والأمم, وأقدار الحقائق والأوضاع والقلوب كفيل بأن يسمو بقدر هذه الليلة لتكون الوعاء الذي حمل الرحمة العامّة الى الانسانية كلها, والظرف الذي تنزلت فيه أولى قطرات غيث الهداية العظمى على الحياة.
وقد زاد المولى سبحانه في اعلاء شأنها بين ليالي الزمان, بأن خصّها بكثرة نزول الملائكة فيها, وهبوطهم بشآبيب الرحمة الالهية والبشرى على المؤمنين الذين يغتنمون هذه الليلة بالمثول بين يدي ربّهم ركّعا سجدا, يبتغون فضلا من ربّهم ورضوانا, فتتنزل عليهم ملائكة الرحمة بأمر الله: من العفو والمغفرة للتائبين والمستغفرين , والرضا والقبول للطائعين العابدين, والاستجابة والرحمة للسائلين المتضرّعين:{ وما نتنزل الا بأمر من ربّك}, فيهبط جبريل عليه السلام بكوكبة عظيمة من الملائكة تشريفا وتكريما, يصلّون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عز وجل, ويحفون بجموع المؤمنين.
(1/66)
فاذا بهذه الليلة المباركة يتدفق منها سلسال نور الهداية الخالد, فتموج بقلائده, وتفيض به هادئا ساريا رائقا ودودا: نور الله المشرق في قرآنه:{ انا أنزلناه في ليلة القدر}, {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين}, ونور الملائكة والروح في غدوّهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض والملأ الأعلى:{ تنزل الملائكة والروح فيها}, ونور الفجر الذي ينسابمتناسقا مع نور الوحي ونور الملائكة, ثم يتناغم هذا النور الالهي الخالد مع أريج السلام الهادئ الذي تنبض به شرايين تلك الليلة المباركة, ويتجلّى ذلك في الطمأنينة التي يسكبها المولى سبحانه في قلوب عباده الذاكرين الآيبين:{ والذين ءامنواوتطمئن قلوبهم بذكر الله, ألا بذكر الله تطمئن القلوب}. كما بتجلى في ذلك الأمن الذي يرفرف على الوجود وعلى الأرواح السارية في هذا الوجود من عباد الله القائمين الراكعين الساجدين:{ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}. فهي ليلة ولد فيها الأمن والسلام من بدئها الى ختامها:{سلام هي حتى مطلع الفجر}.
أيها الاخوة المؤمنون:
اعلموا أن هذه الليلة المباركة لم تحظ بهذا الشرف العظيم, وبذلك القدر الرفيع والفضل الجليل, وبذلك النور المقدس الدافق في شرايينها, وبتنزل الملائكة فيها, وبالسلام المرفرف هادئا على أهلها بل على الوجود كله في غضون سويعاتها المباركات, الا لأن الله عز وجلّ اختارها من بين ليالي الحياة لتكون موعد نزول القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان.
(1/67)
انه ذلك المنهج الخالد الذي أوضح للعباد صفاء العبودية الحقة لله تعالى, والذي أنزله سبحانه ليكون آخر منهج لحركة حياة الانسان على الأرض ودستور رحلته المقدسة الى يوم الدين حيث انبثقت منه عقيدة وتصور وشريعة وآداب, باتت منهجا واضحا كاملا صالحا لانشاء حياة انسانية طاهرة فاضلة, في كل بيئة وزمان. فكان القرآن مبعث الهداية الى الأقوم:{ ان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}, ولا عجب أن تسمو ليلة القدر, وتبلغ من العظمة بأن تكون ليلة النور والأمن والسلام, لأنها ليلة القرآن, والقرآن من مبدئه الى ختامه سلام وأمن كله, ورسالة القرآ، هي الاسلام الذي هو السلام والنجاة لمن أراد لنفسه النجاة والسلام يوم الدين{: يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم}.
فبادروا معشر المؤمنين الى اغتنام ليلة القدر, واجتهدوا في طلبها في هذا العشر الأخير من رمضان, وأكثروا فيها من الدعاء والتضرّع والبكاء, فلقد قال سيّد المرسلين:" من قام ليلة القدر ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه", اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
والحمد لله رب العالمين.
وداع رمضان
الحمد لله حمد الشاكرين, والشكر لله تعالىلا على كل ما أنعم في كل وقت وحين. وأشهد ألا اله الا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه المبين:{ ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون * نزلا من غفور رحيم}.
وأشهد أن سيدنا محمدا رسوله الأمين, وخاتم الأنبياء والمرسلين. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين, وأصحابه الغرّ الميامين.
(1/68)
أما بعد: فيا عباد الله, أوصيكم ونفسي المخطئة بتقواه, وأحثكم على أن تعبدوه عبادة عبد يعلم أنه يراه, واذكروا قوله تعالى:{ وتزوّدوا فان خير الزاد التقوى, واتقون يا أولي الألباب}.
أيها الاخوة المؤمنون:
ها هو رمضان قد أشرف على الرحيل, ولم يبق منه سوى أيام قليلة, لا يلبث بعدها أن يرتفع الى بارئه سبحانه بأعمال العباد , ليقدّم تقريرا شاملا عن واقع الخلق من خلال مكثه في حياتهم, ينقل فيه جميع ما كان من تصرّفاتهم وأحوالهم في رحابه, فهو وثيقة صادقة تثبت في ميزان العبد يوم القيامة, اما حجة له أو حجة عليه.
فمن أساء لرمضان وأفسد فيه وارتكب المعاصي وانتهك حرمات الله, فان رمضان يقوم حجة عليه يوم القيامة, فيقوده الى النار وسوء المصير, وحسبنا في ذلك تحذير المصطفى عليه الصلاة والسلام حيث قال:{ رغم أنف امرئ أدرك رمضان فلم يغفر له", وحيث قال:{ الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل". وأمل من أحسن وفادة رمضان, وتأدّب معه, فاجتنب المحرّمات, ولزم الطاعات, وحرص على حضور الجماعات, وفقل الخيرات, وعمل الأعمال الصالحات, واستقام على هدي الله سبحانه, فان رمضان يقوم يوم القيامة حجة له, ويشفع له عند ربه فيقول: "أي رب منعته الطعام والشهوات في النهار فشفعني فيه, فيشفع له", فينطلق هذا العبد الى الجنة حيث تستقبله مزيّنة مزخرفة, فيدخلها مع الصائمين من باب الريّان لا يدخل منه الا الصائمون.
(1/69)
فجدير بك يا أخي المسلم أن تجعل رمضان حجة لك عند الله, وذلك عندما تستعيد في سلوكك وتصوّراتك ومشاعرك المصوّرة الصافية لاسلامك, فتتمثل في أحكام الدين وآدابه في مختلف أوضاع عيشك, وشتى شؤون حياتك, وفي سائر أحوالك, فتذكّر أنك عبد الله, خلقك من عدم, وأنعم عليك بما تستقيم به حياتك, ويستمرّ بفضله وجودك من نعم لا تعد ولا تحصى, قال عنها سبحانه:{ وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة}. فمن حق الله عليك أن تعبده ولا تشرك به شيئا, وتستقيم على هديه, وتنفذ أحكام شرعه, وأن توليه حبا تسمو به على مستوى الدنيا وشهوات الأرض, فتؤثر طاعته على كل محبوب سواه, وأنت تذكر قوله حين قال:{ والذين ءامنوا أشد حبا لله}.. وتترجم مفهوم هذا الحب في بذلك في سبيله مبتغيا وجهه الكريم, وأنت تذكر قول الحق:{ الذين ينفقون أموالهم في الليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. وتذكر في غضون ذلك موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه, عندما بذل ماله كله في سبيل الله, فلما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلّم:" ماذا أبقيت لأهلك" أجاب " أبقيت لهم الله ورسوله".
(1/70)
وتترجم هذا الحب الخالص لربك في قيلمك الليل وهجرك النوم وكثرة اقبالك على الله في دعائك وبكائك وتضرّعك ورجائك, ذاكرا قوله سبحانه وتعالى في وصف عباده الصالحين:{ تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون}, وذاكرا في غضون ذلك تلك الصورة الرائعة لواقع العبد المقبل على الله في شخص النبي عليه الصلاة والسلام, كما روى لنا عطاء بن أبي رباح عندما سأل أم المؤمنين عائشة عن أعجب ما رأت من رسول اللهصلى الله عليه وسلم فقالت:" وأي شأنه لم يكن عجبا, انه أتاني ليلة فدخل معي لحافي, ثم قال:" ذريني أتعبّد لربي", فقالم وتوضأ, ثم قام يصلي, فبكى حتى سالت دموعه على صدره, ثم ركع فبكى, ثم اعتدل فبكى, ثم سجد فبكى, ثم رفع رأسه فبكى, فلم يزل كذلك حتى جاء بلال يؤذنه بالصلاة, فقلت: يا رسول الله, وما يبكيك, وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ قال:" أفلا أكون عبدا شكورا؟! ولم لا أفعل وقد أنزل الله علي هذه الليلة :{ ان في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}.
وتترجم هذا الحب الخالص لله برفضك زخارف العيش ولهو الحياة, واعراضك عن طغيان المادة وسلطان الشهوات, ذاكرا قول الله رب العالمين:{ زيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث, ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب}, وتذكر في غضون ذلك حال الرسول مع الدنيا واعراضهعن زينتها الفانية وقوله:" ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا الا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها",كما تذكر حال أصحابه وسلفنا الصالح في نبذهم للمتاع الزائل, وايثارهم ما عند الله على كل شهوات الحياة.
(1/71)
وتترجم هذا الحب الخالص لله برفض المعصية والاعراض عن المنكر ومحاربة الرذيلة, وأن تجعل بينك وبين المحرمات حاجزا من تقوى الله وسدا من مراقبته, وأن تذكر كلام سيد المرسلين لأحد أصحابه:" اتق المحارم تكن أعبد الناس ", وتذكر في غضون ذلك أحوال السابقين في رفضهم للمنكر وحفظهم جوارحهم من المعاصي وتمثلهم في سلوكهم وتصوراتهم مفهوم التقوى الحق الذي أشار اليه سبحانه بقوله:{ يا أ]ها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وأنتم مسلمون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
الزموا الحب الخالص لربكم باستقامتكم على هديه, وتزوّدوا في رمضان بقوّة من الايمان ورصيد من تقوى الرحمن ما يمكنكم من الصمود في وجه العدو الذي يتربص بكم بعد رمضان, انها الفتن والشهوات والدنيا والفساد, وتجنبوا أن تهدموا بعد رمضان ما بنيتموه فيه من الطاعة والاستقامة على منهج الله, واثبتوا على هدي قوله سبحانه:{ ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون * نزلا من غفور رحيم}. اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
والحمد لله رب العالمين.
من أسرار فريضة الحج
الحمد لله رب العالمين, والشكر له سبحانه على ما أولا نا من نعم أعلاها وذروة سنامها الايمان والدين. وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه المبين:{ وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}. وأشهد أ، سيدنا محمد عبده ورسوله امام الأنبياء والمرسلين, صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغرّ الميامين.
أما بعد: فيا معشر المؤمنين, اتقوا الله واستقيموا على هداه, واذكروا قوله في محكم التنزيل:{ وتزوّدوا فان خير الزاد التقوى, واتقون يا أولي الألباب}.
(1/72)
أيها الاخوة المؤمنون:
في مثل هذه الأيام تتهج مشاعر المؤمنين ويشتد حنينهم الى البيت العتيق الذي جعله الله تعالى مثابة للناس وأمنا, فتحرّك جموعهم الغفيرة من شتى بقاع الأرض متجهة الى المسجد الحرام, ليشهدوا أعظم مظهر عبادي عرفته الحياة, وأضخم وحدة روحية شهدها الوجود..
أجل أيها المؤمنون:
انها فريضة الحج التي يجسد المسلم بأدائها في أعماقه وسلوكه واقع العبودية الخالصة لربه, ويترجم مفهوم الاستجابة المطلقة لخالقه سبحانه في أوامره ونواهيه, ويوليه غاية الحب وصادق التذلل والخضوع لوجهه الكريم, فهو مدخل رحب الى طاعة الله تعالى ومسعى كريم الى القرب منه والتعرّض لرحمته ورضوانه, لهذا عندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال:" ايمان بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا؟ قال:" جهاد في سبيل الله" قيل ثم ماذا؟ قال:" حج مبرور".
فاعلم أيها المسلم أن الحج عبادة ترتقي بالمؤمن الى أعلى منازل الايمان وأسمى مراتبه, وتنطلق به في مضمار جهاد لا قتال فيه.
واعلم أيها المسلم أن الحج عبادة تفضي بالعبد الى المغفرة من الذنوب, وتخلصه من ماض تراكمت فيه الأوزار, وتفاقمت فيه الشرور والآثام والخطايا التي تنوء بها الجبال, فيرجع بذلك العبد الى أهله بعد أداء حجة طاهر القلب, زكي النفس, مشرق الروح, نقي الوجدان, نظيف الظاهر والباطن من الذنوب, مستقيما على هدي الفطرة, كما قال عليه الصلاة والسلام:" من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه".
فالحج يامعشر المؤمنين محرقة للذنوب, ومطهرة للقلوب, وفي ذلك قال رسول رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه:" تابعوا بين الحج والعمرة فانهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة, وليس للحج المبرور ثواب الا الجنّة".
(1/73)
أيها الاخوة المؤمنون تعالوا بنا الى عمق هذه الفريضة العظيمة, لنتعرّف في هذه الخطبة الى بعض أسرارها وحقائقها, فلقد أودع الله تعالى في مناسك الحج أعظم مظاهر التقديس وأجلى آيات التوحيد في الطواف حول البيت العتيق يتجلى معنى الالتفاف حول كلمة التوحيد والدوران حول قطب الايمان, لأن الكعبة هي علم الله المركوز في أرضه الذي يرمز الى وحدانيته, فيجتمع حوله المسلمون ليعلنوا توحيدهم لله ونبذهم لكل صور الشرك ومظاهر الوثنية, قال تعالى:{ واذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا}, وقال:{ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس}.
وفي استلام الحجر الأسود يتمثل المسلم تلك البيعة المقدّسة لرب الأرض والسماء على العمل والايمان والتصديق والوفاء, اذ يرمز الحجر الى يمين الله في الأرض كما جاء في الحديث:" وهويمين الله عز وجل يصافح بها خلقه" (رواه الطبراني), فمن استلمه وقبّله وانما يعلن بيعته لربه حيث يقول المسلم عند استلامه:" اللهم ايمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيّك".
اذن ان المسلم يعلن عند استلامه الحجر ايمانا بالله لا بالحجر, ووفاءه بالتوحيد الخالص لا بالشرك, واتباعه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا للأصنام والأوثان. فلا شرك ولا وثنية ولا خرافة في شعائر الاسلام, وانما هي طاعة وعبادة وتوحيد لله رب العالمين, لهذا وجدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما استلم الحجر خاطبه قائلا:" أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع, ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك", ثم بكى حتى سالت دموعه على لحيته وقال:" هنا تسكب العبرات, هنا تستجاب الدعوات".
(1/74)
وفي السعي بين الصفا والمروة يتجلى معنى التردد بين علمي الرحمة التماسا للمغفرة والرضوان. وفي الوقوف بعرفة يتجلى معنى البذل والمهج في الضراعة بقلوب مملوءة بالخشية, وأيد مرفوعة بالرجاء, وألسنة مشغولة بالدعاء, وعيون فيّاضة بالبكاء. وفي رمي الجمار تجسيد مادي لمعنى طرد الشيطان ونبذ وسوساته من أعماق النفس, ومقت لعوامل الشر ونزغات الشر والهوى, واعلان للتحرر من همزات االشيطان ومختلف صور المنكر والباطل والعصيان. فالحج في جميع مناسكه تجسيد عملي لمعنى التوحيد المطلق لرب العالمين الذي أشار اليه بقوله الحق:{ واذ بوّأنا لابراهيم مكان البيت أ، لا تشرك بي شيئا وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والرّكّع السجود}.
أيها الاخوة المؤمنون:
هذا غيض من فيوضات أسرار فريضة الحج, فبادروا الى أدائها, وأخلصوا في تنفيذها, فلقد قال سيّدنا محمد عليه الصلاة والسلام:" وليس للحجة المبرورة ثواب الا الجنّة".
اللهم وفقنا لأداء عبادتك ولزوم منهج طاعتك على الوجه الذي يرضيك عنا.
والحمد لله رب العالمين.
الحج.. معقل الوحدة الروحية
الحمد لله على جزيل فضله وكرمه, والشكر له سبحانه على سابغ جوده ونعمه, وأشهد أن لا اله الا الهه وحده لا شريك له القائل في محكم تنزيله:{ وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد.. فيا عباد الله, اتقوا الله حق تقواه, وراقبوه في سركم وفي علانيتكم واذكروا قوله الحق:{ واتقوا يوما ترجعون فيه الى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
(1/75)
لقد فاضت فريضة الحج بالأسرار والأنوار, وتدفق من مناسكها سلسال الهداية يروي قلوبا ظامئة وأرواحا متعطشة الى معرفة الله وحسن الصلة به على هدي منهجه القويم الذي ارتضاه لعباده حيث قال:{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا}.
وفي خطبتنا اليوم سوف نلتقي بعض أسرار هذه الفريضة لقاء نتعرّف ممن خلاله على ما تركته من أثر بالغ في حياة الأمة الاسلامية الممتدة على وجه البسيطة.
معشر الاخوة المؤمنين:
ان أبرز وأهم حقيقة تكشف عنها فريضة الحج تلك الوحدة الروحية الشاملة التي تجمع في كنفها المسلمين المنتشرين على وجه الأؤض, فتعصف هذه الوحدة بأسباب فرقتهم, وتعيد صياغة أمتهم الاسلامية من جديد صياغة تنصهر فيها مشاعرهم وأفكارهم, فاذا هي شعور واحد, وفكر واحد, وكيان واحد, كأنهم الجسد المتلاحم المترابط لا فرق بين عربي وعجمي, وأبيض وأسود, وصغير وكبير, وذكر وأنثى, وغني وفقير, وسيد ومسود, فتزول فوارق اللون والجنس واللسان والمادة بينهم جميعا, وب\يشعرون أن كل واحد منهم جزء من بناء أمة واحد صاغتها عقيدة التوحيد.
أيها الاخوة المؤمنون:
هذه الحقيقة الجليلة التي تفيض بها فريضة الحج تعدّ من أهم حقائق الاسلام الذي جاء ليجمع كلمة البشر تحت راية التوحيد, فيكونون أمة واحدة, لأن محمدا عليه الصلاة والسلام حمل رسالة الاسلام للبشرية كلها منذ انبثاق فجره الى قيام الساعة, وهذا ما أشار اليه ربنا تعالى بقوله:{ وما أرسلناك الا كافة للناس بشيرا ونذيرا},
(1/76)
واستطاع عليه الصلاة والسلام خلال مسيرة دعوته الخالدة أن يخرج البشرية من دوّامة تمزقها وضعفها وصراعها وضياعها وانحطاطها, ويستخرج منها خير أمة أخرجت للناس تجتمع كلمتها على الحق والايمان وتلتقي قلوبها على الود والعرفان. وانطلقت تلك الأمة بعد ذلك لتكتب أروع صفحات المجد في تاريخ البشرية, وتبني أعظم صرح حضاريّ عرفته الحياة, فاض بالعلم والهداية والحق والخير, والعزة والانتصار.
أيها الاخوة المؤمنون:
وشاء المولى سبحانه أن تتنزل على هذه الأمة الاسلامية فريضة تحقق وحدتها الروحية لتصون بها وحدتها الجسدية, فكانت فريضة الحج ذات البعد السامي والعميق في ترسيخ دعائم تلك الوحدة الاسلامية. حيث ينطلق المسلم في موسمها في كل عام يتخطى حدود بلاده ليصل الى البقعة التي ضمّت قبلة الاسلام, وجعلها الله المحور الذ تلتف حوله أقطار الأمة المسلمة من كل جانب, والقطب الروحي الذي تنجذب اليه أفئدة المؤمنين من كل فج عميق. فيلتقي المسلم الحاج بالأمة الاسلامية برمتها لقاء توحيديا شاملا يحس فيه بقربه الروحي والجسدي من كل مسلم في أية بقعة كان من بقاع المعمورة, بل يشعر بذوبانه في بحر التجمّع الاسلامي الكبير الذي تشهده الحياة في كل عام في أشهر معلومات وأيام معدودات.
أيها الاخوة المؤمنون:
يجب علينا أن نشعر بعمق تلك الوحدة الروحية الشاملة في حياتنا, فنتحسس من خلالها آلام المضطهدين والمعذبين من المسلمين في شرق الأرض وغربها حيث يسامون على أيدي أعداء الله ألوان العذاب والتنكيل, وما قضيّة فلسطين بسر, التي تي\ستصرخ مع كل قطرة دم تراق من أبنائها ضمائر المسلمين: أن هبوا لنجدتي, فقد استحرّ القتل في أبنائي, وهتك عرض بناتي, وتكسّرت راياتي.
(1/77)
أيها المسلمون لا يليق بنا أن نقف مكتوفي الأيدي أمام ما يجري على الساحة العالمية من ذبح للمسلمين وهتك لاعراضهم واذلال لهم, ننظر نظرة الخائفين.. بل علينا أن ننهض بعزيمة صادقة متكاتفين, فنقف وقفة رجل واحد ضد أعداء الله حصنا لدمائنا وصونا لأعراضنا وحماية لذمارنا, ونحن نذكر قول الله تعالى:{ انما المؤمنون اخوة}, وقوله:{ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان}, وقوله عليه الصلاة والسلام:" المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا".
والحمد لله رب العالمين.
الحج مدرسة الأخلاق الانسانية الكريمة
الحمد لله حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه, والشكر له سبحانه على سابغ نعمه وجميل غفرانه, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله خير نبي اصطفاه ورحمة للعالمين أظهره بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون, اللهم صل وسلم وبارك على سيد الأنبياء والأولياء محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله, اتقوا الله ما استطعتم, واستكثروا من طاعته, وتحلّوا بشمائل دينه وشريعته, واذكروا قوله المبين:{ يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}.
أيها الاخوة المؤمنون:
(1/78)
تعدّ فريضة الحج أعظم مدرسة تربي في المسلم كل خلق كريم وأدب رفيع, وتصبغ أقواله وأفعاله بخصال البر والخير والمعروف. حيث يجد نفسه في وسط تجمّع بشري هائل قد تعددت أجناسه وألوانه وألسنته, واختلفت مزاجاته وطباعه وطرائق عيشه تبعا لاختلاف بيئاته وتنائي بلاده, فلا بد للمسلم من أن يتحلى بالأخلاق الانسانية العالية التي تنهض به الى مستوى حسن التعامل مع هذا العدد الكبير من المسلمين, ولقد أشار سبحانه الى بعض سمات المنهج الاخلاقي الذي يلتزمه المسلم في سلوكه مع اخوانه المسلمين أثناء أدائه فريضة الحج, فقال جلّ ذكره:{ الحج أشهر معلومات, فمن فرض فيهن فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج, وما تفعلوا من خير يعلمه الله, وتزوّدوا فان خير الزاد التقوى, واتقون يا أولي الألباب}.
أيها الاخوة المؤمنون:
(1/79)
اذا كان يجب على المسلم أن يتحلى بمكارم الأخلاق وحميد الخصال في مسيرة حياته مع الناس, فان واجبه في التحلي بذلك آكد في مواطن العبادة, وحيث يعدّ الحج الى بيت الله الحرام أعظم تجمّع عبادي عرفته الحياة, فانه ينبغي أن يكون للمسلم في سلوكه ومواقفه خلال مناسكه وفي أجوائه صورة صادقة للنظام الأخلاقي الرفيع الذي جاء به دين الاسلام, والذي ينبثق من مشكاة القرآن وهدي سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام, فيتمثل المسلم هدي الله تعالى في قوله:{ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}, وفي قوله:{ ومن أحسن قولا ممن دعا الى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين * ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها الا ذو حظ عظيم}, وفي قوله:{ يا أيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خير منهم ولا نساء من نساء عسن أ، يكن خيرا منهن, ولا تنابزوا بالألقاب, بئس الاسم الافسوق بعد الايمان}, وفي قوله:{ ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}, وفي قوله:{ انما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم, واتقوا الله لعلكم ترحمون}.
ويتمثل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:" أكمل المؤمنين ايمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله", وفي قوله:" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده", وفي قوله:" الكلمة الطيبة صدقة", وفي قوله:" البسمة في وجه أخيك صدقة", وفي قوله:" أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وان كان محقا", وفي قوله:" رحم الله عبدا سمحا اذا باع, سمحا اذا اشترى, سمحا اذا قضى, سمحا اذا اقتضى", وفي قوله:" وما زاد الله عبدا بعفو الا عزا, وما تواضع لله أحد الا رفعه الله".
أيها الاخوة المؤمنون:
(1/80)
ان هذه النصوص الشرعية وغيرها تحدد لنا أهم ملامح وسمات النظام الأخلاقي في الاسلام وتبين أبرز الصفات والأخلاق الانسانية الرفيعة التي تحقق للانسان السعادة والطمأنينة في حياته مع الناس, وتضمن له الفوز والرضا من ربه تعالى في الآخرة.
ويجب على المسلم أن يعلم أن المنهج الأخلاقي الاسلامي لا يتجزأ, فكل خلق جاء به الاسلام ينير جزءا من حياة المسلم, فلا يمكن له أن يستغني عن ذلك الخلق بغيره لصلاح ذلك الجزء من حياته, فشمولية المنهج الأخلاقي في الاسلام من حيث تطبيقه تتوافق مع شمولية الحياة الانسانية, فكما أننا لا نتصور أن ينفصل الانسان عن جزء من حياته, فكذلك يجب أن لا يترك شيئا من مجموع أخلاق ذلك المنهج الاسلامي.
أيها الاخوة المؤمنون:
حيث لا يسعفنا ضيق وقت خطبتنا هذه عن جميع مظاهر النظام الأخلاقي في الاسلام, اسمحوا لي أن أتحدث اليكم عن أهم ما ينبغي أن يتحلى به المسلم في حجه من أخلاق ذلك المنهج الاهي, وعلى التحديد أتحدث عن ثلاثة أخلاق كريمة هي: التواضع, والحلم, والكلمة الطيّبة.
معشر المؤمنين يجب على المسلم في الحج أن يكون أكثر مراقبة لله تعالى في سلوكه ومعاملته لاخوانه المسلمين الذين توافدوا من بقاع شتى الى بيت الله الحرام, فليتجنب التعالي على أحد منهم حيث يجد منهم الفقراء البسطاء, وليحذر من التأفف والنفور من مظهر بعض المرضى والعاجزين والمتخلفين في معاشهم, فلا يظهر تقززه من طريقة أكلهم وشربهم ونظافتهم ورثاثة حالهم, فاذا أحس بشئ من الترفع في نفسه عليهم فليذكر أنه في مقام الخضوع المطلق لله تعالى, وأن دنياه وأمواله لا وزن لها عند الله الذي يقول في كتابه:{ ان أكرمكم عند الله أتقاكم}.
(1/81)
وليعلم أن التواضع وخفض الجناح للمؤمنين من صفات الصادقين مع الله الذين يحبهم ويحبونه والذين حدّث سبحانه وتعالى عنهم في كتابه الخالد فقال:{ يا أيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين}, وليذكر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه وقد اجتمعوا عنده وكأنهم جسد واحد, فيقرّب منه بلالا ويدني عمار, ويبتسم في وجه سلمان, ويعلّم المسلمين أن يتواضعوا لبعضهم, وأن يتحابوا في الله, ويقرأ عليهم أن الله تعالى أمره بخفض الجناح للمؤمنين في قوله:{ واخفض جناحك للمؤمنين}
وليذكر أنه يستوي مع سائر المسلمين في العبودية لله تعالى, وأنه تعالى لا ينظر الى الظاهر, وانما ينظر الى الباطن, وفي ذلك قال عليه الصلاة والاسلام:" ان الله لا ينظر الى أجسامكم ولا الى صوركم ولكن ينظر الى قلوبكم, التقوى ههنا وأشار الى صدره".
وأما من اغتر بما له, واعتدّ بجاهه وحول التميز عن الناس, فهو بغيض الله لأنه اتصف بآفة الكبر, وقد جاء في الحديث:" لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر".
فيجب على المسلم في حجه أن يلزم التواضع خلقا لا يحيد عنه في معاملة المسلمين, فيعمل على خدمتهم طمعا بما عند الله من أجر ومثوبة, وعليه أ، يعلم أ، من تعزز على خدمة اخوانه أورثه الله ذلا لا انفكاك له منه أبدا, ومن خدم اخوانه أعطي من خالص أعمالهم.
وتواضع الحاج المسلم لاخوانه الحجاج عنوانه لقبوله عند الله تعالى, لأنه من علامات التقوى, وقد قال سبحانه:{ انما يتقبل الله من المتقين}.
(1/82)
ويجب على المسلم في حجه أ، يتحلى بالحلم والأناة, لأنهما خلقان يحبهما الله ورسوله, وليتجنب الغضب لأنه من الشيطان, وليحذر كل الحذر من أسباب العداوة والبغضاء والخصام, فاذا حدث بينه وبين اخوانه شئ يغيظه, فليتذكر أنه في عبادة لا تقبل المعصية, وأن الغضب والشجار والسب والشتم لا يرضى به الاسلام, فعليه أن يضبط لسانه ملازما الكلمة الطيّبة المصلحة التي تحافظ على صفاء القلوب وطهارتها على المؤمنين, وليذكر موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعرابي الذي جبذه من برده وقال: يا محمد, أعطني من مال الله, فانك لا تعطيني من مالك ولا من مال أبيك, فقال عليه الصلاة والسلام:" المال مال الله وأنا عبده ورسوله", ولم يغضب ولم ينهر ذلك الأعرابي لما فعله به. وليذكر سيدنا عبدالله بن عباس رضي الله عنهما عندما وقف رجل على مجلسه يشتمه, ويسيء اليه القول, فقال لأحد أصحابه: أنظر هذا ان كان له حاجة فاقضها له, فاستحى الرجل وخجل من نفسه.
وفي ظل طيّب الكلام, على المسلم الحاج أن يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فحّلشا ولا متفحّشا ولا صخابا في الأسواق, بل كان ليّن الكلام مع أصحابه, وكان يبتسم لهم كلما رأى واحدا منهم, وكان سلوكه في خطابهم ومعاملتهم واقع هدي قوله تعالى:{ فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر}.
أيها الاخوة المؤمنون:
واعلموا أن القلوب لا تتآلف والنفوس لا تتواءم الا في ظل حسن الخلق.. فالزموا دينكم الحنيف في ذلك, واستقيموا على منهجه الأخلاقي القويم, وخذوا لأنفسكم من فريضة الحج منطلقا الى حياة نظيفة آمنة, تفيض بالأخلاق الكريمة والشمائل الزكية والصفات الحسنة التي تزيد المؤمنين ترابطا وتآلفا في ظل دين الله القويم.
والحمد لله رب العالمين.
الحج دوحة الذكريات
(1/83)
الحمد لله الذي هدانا الى الاسلام. والشكر له سبحانه على سابغ الفضل والانعام. وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له القائل في المصحف الامام:{ ان أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه ءايات بيّنات مقام ابراهيم, ومن دخله كان آمنا}, وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله الى جميع الأنام. اللهم صل وسلّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وأصحابه الكرام.
أما بعد: فيا عباد الله, اتقوا الله وكونوا مع الصادقين, والزموا طاعته وتجنبوا معصيته تسلموا يوم الدين.
أيها الاخوة المؤمنون:
كلما أطل هلال شوّال اهتزت قلوب المسلمين شوقا, وفاضت مشاعرهم حنينا الى زيارة المسجد الحرام والمثول بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدينته المنوّرة وأمام حجرته الشريفة في مسجده النبوي الطاهر. أجل أيها الاخوة المؤمنون: انها فريضة الحج التي تضمّنت بمناسكها ومشاعرها فيوضات من الأسرار والمعاني التي تزيد العبد ايمانا ويقينا وصلة صادقة بالله رب العالمين.
فيعيش المسلمون أجواءها أنوارا تتسامى بقلوبهم الى مقام العبودية الخالصة لربهم تبارك وتعالى.
وفي خطبتنا اليوم سوف نلتقي _اخوة الايمان_بعض المعاني والأسرار التي تنبثق من مشكاة هذه الفريضة العظيمة. وأجدني مشدودا الى الحديث عن الذكريات الرائعة التي تفيض بها وقائع هذه العبادة الجليلة, حيث تجري في بقعة مختارة من الأرض تحمل في كل ذرة من ذرات ترابها, وفي كل حصاة من حصبائها قبسا من ذكريات الدعوة الاسلامية في ابانها والى امتدادها وانتشارها.
(1/84)
هل تعلمون أيها الاخوة المؤمنون ما هي تلك البقعة من الأرض؟ انها مكة (أم القرى) مهد الرسالة المحمدية ومنطلقها الأوّل التي اختارها الله سبحانه لتكون قبلة المسلمين في صلاتهم حيث احتضنت بيت الله الحرام, وحسبنا اشارة الى ذلك قوله عز وجل:{ قد نرى تقلّب وجهك في السماء, فلنولينّك قبلة ترضاها, فولّ وجهك شطر المسجد الحرام, وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره}.
فاذا بالمسلم الحاج عندما تطأ قدماه تلك البقعة المقدسة يتمثل بين عينيه تاريخ المسلمين في ابّان دعوته, وتتوارد على خاطره ذكريات المسلمين الذين جاهدوا في الله حق جهاده, وضحّوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل دينه.. فيذكر صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر أصحابه الكرام في سبيل تبليغ دعوة الاسلام. فاذا وقعت عيناه على أنوار الكعبة المشرّفة ذكر طواف رسول الله صلى الله عليه وسلم حولها وسجوده في فنائها ومحاولات المشركين قتله وايذائه وهو ساجد في جوار البيت العتيق. فيذكر في غضون ذلك عندما حمل أبو جهل حجرا عظيما وأقبل نحو رسول الله وهو ساجد في صلاته ليرضخ رأسه الشريف بذلك الحجر, حتى اذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه من الفزع, ورمى حجره من يده, فقام اليه رجال من قريش فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت اليه لأفعل ما قلت لكم _أي قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم_ فلما دنوت منه عرض لي فحل من الابل, والله ما رأيت مثله قط هم بي أن يأكلني, فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ذاك جبريل ولو دنا لأخذه".
(1/85)
واذا مسّت قدماه حرّ الرمل والحصى, تذكّر أن هذه الرمال الحارّة اللاذعة طالما انكوى بها جسد سيدنا بلال رضي الله عنه عندما كان يعمد اليه أميّة بن خلف الجمحي اذا حميت الشمس وقت الظهيرة, فيلقيه في الرمضاء على وجهه وظهره, ويقول: ( لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد, وتعبد اللات والعزى), فكان بلال رضي الله عنه يقول تحت وطأة ذلك التعذيب الشديد: أحد أحد لا أشرك بربي أحد.
واذا سمع الحاج صوت المؤذن يصدع بكلمة التوحيد في أرجاء مكة يملأ صداه الآفاق, تذكّر يوم الفتح يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم مكة, فعمد الى الأصنام والأوثان فحطّمها, وطهّر البيت الحرام من رجسها, وهو يقول:" جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا", فنكّست راية الشرك, وارتفعت راية التوحيد, وصعد بلال رضي الله عنه ظهر الكعبة المشرّفة يجلجل صوته بكلمات التوحيد في أذان الاسلام, يملأ أسماع الناس وقلوبهم, وتردد الجبال والوديان والحجر والشجر مع صوته الهادر "الله أكبر الله أكبر". فاذا بهذه الذكريات المقدّسة تفجر بأعماق المسلم ينابع الحب الخالص لله ولرسوله ولدينه الحق, فيرجع الى أهله ووطنه يستشعر معنى هذه الذكريات وأثرها البالغ في أعماقه في قوة ايمانه وثباته على دينه واستقامته.
أيها الاخوة المؤمنون:
جدير بنا أن نجعل هذه الذكريات منطلقا الى حياة راشدة, وعزة شامخة, وانتصارات محققة في معترك قضايانا المصيرية وعلى رأسها قضية فلسطين. وايم الله لا يصلح آخر هذه الأمة الا بما صلح به أولها, فالزموها كلمة حق تنطلق بكم الى أمل منشود, ونضر مقصود, وعز مشهود, وسعادة أبدية. جعلني الله واياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
والحمد لله رب العالمين.
يوم عرفة
(1/86)
الحمد لله خالق الأرض والسماوات, والشكر له سبحانه على ما أولانا من سابغ النعم والخيرات, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له القائل في آياته البينات:{ وأذان من الله ورسوله الى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسولُه}, والقائل أيضا:{ فاذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام, واذكروه كما هداكم وان كنتم من قبله لمن الضالين}, وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله. صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فيا عباد الله , اتقوا الله وأطيعوه, واذكروه ولا تنسوه, فلقد قال وقوله الحق:{ يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وأنتم مسلمون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
لا يسعني في هذه الساعة المباركة الا أن أنتقل بكم الى أرض عرفات لنشهد معا بقلوبنا وأرواحنا وخوطرنا وعواطفنا مشهد الحج الأكبر حيث يحتشد المسلمون حجاج بيت الله الحرام في أرض عرفات, وقد تجرّدوا من كل مظاهر المادة وشهوات الدنيا وجواذب الأرض, وانعتقوا من سلطان الأهواء ورغائب النفوس, وأظهروا غاية الخضوع والتذلل بين يدي الله رب العالمين, وأقبلوا عليه بقلوبهم وأفكارهم وعواطفهم وجوارحهم يدعونه تضرّعا وخفية سرا وجهرا, ويناجونه بألسنتهم وقلوبهم ودموعهم وجوارحهم, ورائدهم في ذلك قوله تعالى:{ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}, وقوله:{ واذا سألك عبادي عني فاني قريب, أجيب دعوة الداع اذا دعان, فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}, وقوله عليه الصلاة والسلام:" الدعاء هو العبادة", وقوله:" ليس شيء أكرم على الله من الدعاء".
(1/87)
فتحس, أخي المسلم, وكأن كل ذرة من ذرات أبدانهم وكل خفقة من خفقات قلوبهم وكل دمعة تسيل من عيونهم قد أصبحت لسانا ينطق وفما يتكلم, فيقول: ( يا الله يا رب العالمين يا مجيب السائلين يا قابل التائبين), فتتبدّل أحوال العباد في ذلك الموقف العظيم والمشهد الرحيم الذي تتدفق فيه أنوار الهداية, وتتنزل فيه شآبيب الرحمة, ويزخر بالعفو والرضوان, حيث يفيض غيثا من الواحد الديّان الذي ينظر الى عباده المؤمنين, وهم يقفون في عرفات متجرّدين من مظاهر الدنيا ورفاهية الحياة, لا يبالون بشدّة الحر ولا بوعثاء الوقوف صغارا وكبارا, رجالا ونساء, ضعفاء وأقوياء, شيوخا وشبانا, الجميع على صعيد واحد وقفوا يسألون الله سبحانه, وقد تصاعدت أصواتهم, وارتفع بكاؤهم, وزاد نحيبهم, وتسامى دعاؤهم, فيتجلى الله برحمته وعفوه ورضوانه عليهم, وقد أشرقت في آفاق الموقف أنوار قوله الكريم:{ ورحمتي وسعت كل شيء , فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون}.
فينظر الله تعالى الى حشد عباده وتضرّعهم وابتهالهم, ويسمع بكاءهم ودعاءهم ورجاءهم, فيخاطب ملائكته كما قال عليه الصلاة والسلام:" ان الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء, فيقول لهم: انظروا الى عبادي جاؤون شعثا غبرا اشهدوا أني قد غفرت لهم}.
(1/88)
وفي غمرة هذا الموقف العظيم الذي تتسامى فيه النفوس عن مستوى شهوات الدنيا, وترتقي فيه القلوب والأرواح الى بارئها الرحيم, يتخاذل الشيطان ويتصاغر, وتتهاوى وسوساته وشروره صريعة أمام صدق الدعاء وخالص التضرّع والرجاء, فتشرق أرض عرفات بأنوار صلة قلوب المؤمنين بخالقها العظيم الرحيم, فلا يبقى فيها شبر ولا موضع قدم الا وقد أصابه غيث عفو الله ورحمته, فما يرى الشيطان _كما جاء في الحديث الشريف_ يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أغيظ ولا أحقر منه يوم عرفة, وما ذلك الا مما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذموب العظام. وذلك حيث يفيض المولى سبحانه بكرمه على عباده الذين رفعوا أكفهم اليه ضارعين تائبين باكين, فبغفر لهم جميعا, فما يكون يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة, ويتطوّل الله تعالى على عباده, فيهب مسيئهم لمحسنهم, ويعطي محسنهم ما سأل.
فاذا كانت عشية عرفة لم يبق أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من ايمان الا غفر له. هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أهل عرفة خاصة قال: بل للمسلمين عامّة.
أيها الاخوة المؤمنين:
بسبب هذه الفيوضات الاهية الغامرة والرحمات الربانية الوافرة التي تزخر في أجواء عرفات أعلن الرسول عليه الصلاة والسلام قائلا:" الحج عرفة" فان قمّة الخضوع والتذلل والضراعة والابتهال والدعاء الذي يشيع في مناسك فريضة الحج يكون في موقف عرفات, حيث يتحقق فيه الانصراف الكامل عن الدنيا وملذاتها وشهواتها والاقبال المطلق على الله رب العالمين, وهذا ما بيّنه الله رب العالمين, وهذا ما بيّنه رسول الله بقوله:" خير الدعاء يوم عرفة, وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا اله الا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير", وبقوله:" ان هذا اليوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له".
(1/89)
فبادروا, يا معشر المؤمنين, الى اغتنام هذا اليوم المجيد, وأكثروا فيه من الدعاء والتضرّع والرجاء, واذكروا في غضون ذلك هموم أمتكم وقضاياها وآلامها, فهي مفتقرة الى دعوة صادقة تنطلق من أعماق مخلصة, فتجيء الاجابة بلسما وشفاء ورحمة ودواء لما تعانيه أمتنا في هذه الظروف العصيبة من كروب طاغية, ومحن باغية, وأوضاع أليمة, وهموم جسيمة.
اللهم ارفع البلاء عن جميع المسلمين, وأصلح أحوالنا يا رب العالمين, وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين, فيا فوز المستغفرين.
والحمد لله رب العالمين.
العيد في نظر الاسلام
الحمد لله المبدئ المعيد, والشكر له سبحانه على نعمه التي بفضله تزيد, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له, القائل في كتابه المجيد:{ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعهوه}.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوثبالدين الجديد.
اللهم صل على حبيبنا وقرة أعيننا محمد وعلى آله وصحبه الكرام الأماجيد.
أما بعد: فيا عباد الله, أوصيكم بتقوى الله على كل حال, وأحثكم على طاعته بالأقوال والأفعال, فلقد قال سبحانه:{ يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وابتغوا اليه الوسيلة}.
أيها الاخوة المؤمنون:
يطيب لي في خطبتنا اليوم أن أتحدث اليكم عن فلسفة العيد وبيان مقاصده في نظر الاسلام, وفي ذلك أقول: لقد كانت أعياد الناس قبل الاسلام مرتبطة بمعايير مادية وذكريات عابرة من انتصار قبيلة في حرب أو تتويج ملك أو تولية زعيم. أو كانت مرتبطة بطقوس وعقائد دينية شوهاء من شرك ووثنية. وكان يشيع في أجوائها ممارسات المادية الجارفة وتعاطي الشهوات وفعل الموبقات وانتهاك الحرمات, وتنتشر فيها الاباحية الصارخة على أقبح صورها وأخس أشكالها, ولما جاء الاسلام قلب الموازين السائدة في حياة الناس, وقضى على أعراف الجاهلية, وأحلّ مكانها موازين السماء وضوابط شريعة الله, ومعايير الدين الحنيف.
(1/90)
وكان للعيد نصيب واقر من عناية الاسلام به, حيث سما به عن المستوى المادي الرخيص ليصبح في نظره موسما جديدا من مواسم العبادة والطاعة, يتحقق فيه بعد روحي عميق, يؤتي ثمرته في نفوس المسلمين تجديدا للايمان وحافزا على السير في مضمار عبادة الرحمن, لهذا ارتبط العيد في الاسلام بأقدس وأجلّ مظاهر العبادة الخالصة لله رب العالمين, وأعني بذلك عبادة الصوم في رمضان وعبادة الحج في موسم أدائها.
فأصبح العيد في نظر الاسلام موسما يعبّر فيه المسلمون عن شكرهم لله الذي وفّقهم لأداء تلك العبادة, وهذا ما أشار اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قدم المدينة, ولهم يومان يلعبون فيهما, فقال:" قد أبدلكم الله بهما خيرا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر".
وهكذا غدا العيد في ميزان الاسلام طورا جديدا من أطوار طاعة الله وحسن عبادته, يدخله المسلمون ليمارسوا فيه عبادة من نمط جديد ضمن هدي جديد, يزيدهم تفاعلا مع الحياة بقوة ايمان كبير يكتسبونها بفعل استجابتهم لله سبحانه.
ويأخذ العيد في نظر الاسلام خصائصه المتميزة بأنه موسم عبادي كريم حافل بالقيم الروحية, والمظاهر العبادية, والمعاني الانسانية, والآداب الاجتماعية الكفيلة ببناء جيل صالح ومجتمع كريك وأمة راشدة, فيكثر فيه المسلمون من تكبير اله بدأ من ليلة العيد الى وامتدادا الى صلاة العيد في يوم الفطر, والى عصر آخر أيام التشريق في يوم النحر, وتكبيرهم تعبير صادق عن مدى شكرهم لله الذي وفقهم الى طاعته وحسن عبادته في رمضان وفي الحج. وهذ ااسلوك الطيب في احياء الأعياد هو الذي أشار اليه المولى سبحانه وتعالى بقوله:{ ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}, وبقوله:{ كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم}.
أيها الاخوة المؤمنون:
(1/91)
ومما يؤكذ حقيقة العيد في الاسلام واصطباغه بصبغة العبادة الخالصة لرب العالمين أن شرع الله فيه الصلاة وخطبتين بعدها, يتم فيهما وعظ الناس وهدايتهم الى الله وحضهم على تمثل الأخلاق الاسلامية وآداب الدين الحنيف, ويشارك المسلمون جميعا في حضور صلاة العيد حتى ذوو الأعذار الشرعية. واليكم دليلا على ذلك ما جاء في الحديث الصحيح عن أم عطيّة رضي الله عنها, قالت: ( أمرنا رسول الله أن نخرجنّ في الفطر والأضحى: العواتق والحيّض وذوات الخدور, فأما الحيّض فيعتزلن الصلاة, ويشهدن الخير ودعوة المسلمين).
أيها الاخوة المؤمنون:
اعلموا أ، العيد في نظر الاسلام اذا كان يصطبغ بصبغة العبادة فلا يعني ذلك أن تضمحل حظوظ النفس المباحة خلال أيامه ولياليه, بل هو والى جانب ما ذكرناه يصطبغ بصبغة السرور واظهار الفرحة التي تتخذ طريقها الى بيوت المسلمين, فتدخل الى قلوب أطفالهم, وتظهر على قسمات وجوههم, وهذا ما يترجم موقف الرسول الكريم عندما دخل صاحبه الصدّيق رضي الله عنه في بيته, فوجد جاريتين صغيرتين تغنيان بغناء بعاث, وتضربان بالدف لسيدتنا عائشة رضي الله عنها, وكانت يومها صغيرة, فقال أبو بكر (مزمارة الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم), وانتهر ابنته عائشة. فقال عليه الصلاة والسلام:"دعهما", ثم قال له:" يا أبا بكر ان لكل قوم عيدا وهذا عيدنا", أي: انه يوم سرور شرعي, فلا ينكر فيه اللهو المباح ولا الأكل والشرب الحلال.
أجل أيها الاخوة المؤمنون:
(1/92)
فالعيد في نظر الاسلام ضرب عبادي متميّز تأخذ فيه النفس البشرية حظها من اللهو الحلال الذي لا ينسيها طاعة الله وحسن عبادته, وتتواصل فيه قلوب المسلمين وأرواحهم على أرقى المعاني الانسانية وأسمى الروابط الروحيّة, فيعيش المجتمع المسلم معنى السعادة في ظل طاعة الله تعالى. فبادروا, أيها الاخوة المؤمنون, الى تمثل هدي الاسلام في أعيادكم, وانبذوا كل دخيل من عادات وتقاليد تستحل المعاصي والاباحية والممارسات الخاسرة, واجعلوا العيد منطلقا الى حياة نظيفة توثقون فيها الروابط فيما بينكم على الألفة والمحبة والايمان والتعون على البر والتقوى في ظل قوله تعالى:{ انما المؤمنون اخوة}, وفي ظل قوله عليه الصلاة والسلام:" مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد, اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى".
وفقني الله واياكم الى حسن العمل والتطبيق انه على ما يشاء قدير وبالاجابة جدير.
والحمد لله رب العالمين.
ذكرى ميلاد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم
الحمد لله في كل وقت وكل حين, والشكر على نعمة مبعث سيد المرسلين, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه المبين:{ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم, تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا, سيماهم في وجوههم من أثر السجود, ذلك مثلهم في التوراة, ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزرع ليغيظ به الكفار, وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما}, وأشهد أن سيدنا محمدا خاتم الأنبياء والمرسلين, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
(1/93)
أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي المخطئة بتقوى الله, وأحثكم على طاعته وطاعة رسوله, وأذكّركم قوله الحق:{ يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم, والله غفور رحيم}.
أيها الاخوة المؤمنون:
هذا هو العالم الاسلامي اليوم يستقبل أعظم ذكريات الحياة, وأجلّها منزلة, وأعمقها أثرا في تاريخ البشرية وحياة الأجيال الانسانية, انها ذكرى ميلاد فخر الأنبياء, وامام الأولياء, وسيّد الكائنات سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه رب العالمين:{ يا أيها النبي انا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا الى الله باذنه وسراجا منيرا}, وقال:{ وما أرسلناك الا رحمة للعالمين }, وقال:{ وما أرسلناك الا كافة للناس بشيرا ونذيرا}, وقال:{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}, وقال:{ وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه}, وقال:{ قل ان كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله}, وقال:{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}.
أيها الاخوة المؤمنون:
جدير بالمسلمين في كل مكان أ، يغتنموا فرصة هذه الذكرى المباركة, فيجددوا في غضونها العهد مع الله سبحانه على أن يلتزموا منهجه الحق في ظل اتباع رسوله المصطفى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام, لأن حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت النموذج الواقعي لمنهج الله تبارك وتعالى, والتفسير العملي لأحكامه وآدابه وهديه, وهذا ما أكده الله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم ليخاطب الناس:{ فاتبعون يحببكم الله}, ويقوله:{ وما أرسلنا من رسول الا ليطاع باذن الله}, وبقوله:{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}.
(1/94)
فاذا أعرض الناس عن حياة رسول اله صلى الله عليه وسلم, ولم يلتزموا سنته الشريفة, وخالفوا منهاج سيرته الطيبة في أفعاله وأقواله ومواقفه, باؤوا بالخسران والذل والهوان, وأشرفوا على الضياع, وآلوا الى سوء المصير, لهذا قال سبحانه محذرا:{ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}, ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يوجه أصحابه, فيقول:" ما نهيتكم عنه فاجتنبوه, وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم", ويقول:{ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين, عضوا عليها بالنواجذ".
أيها الاخوة المؤمنون:
يجب على الناس جميعا أ، يعلموا أ، حياة سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نبع فياض غزير الخير, حافل بكل خلق كريم وبكل فعل حميد, وبكل وصف جميل, وبكل موقف جليل, وبكل معاني الفضل والخير والعدل, وبالعلم النافع, والفكر النيّر, والأدب الجم, وعوامل التقدّم الانساني, والابداع البشري, وطريقة الحياة الانسانية المثلى, ومعارج الروح الفيّاضة بأنوار الخضوع لجلال عبودية الله رب العالمين.
وحسب الانسانية نجاة من أرهاق عيشها, وكروب حياتها, وأزمات وجودها, أن تسير في ظل حياة سيّد المرسلين, وتلتزم سيرته الطيبة وأخلاقه الطاهرة, في رحمته, وفي صفحه, وفي عدله وفي حبه وفي وفائه وفي تعاونه وفي نصحه وفي صدقه وفي أمانته وفي اخلاصه, وفي سائر مسالك خلقه.
وكم من مفكر عاقل, وفيلسوف منصف, وأديب شاعر, وناثر بليغ, وقائد مصلح قرأ سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام, فأعجب بها أيما اعجاب, وآل الى نتيجة تقول لا مناص للبشرية في سبيل فوزها وفلاحها الا أن تتخذ حياة سيدنا رسول الله منهجا لا تحيد عنه قيد أنملة.
(1/95)
فمنهم من شرح الله صدره للاسلام, فاعتنقه عقيدة ورسالة كاللورد هيدلي الانكليزي الذي أصدر كتاب اسلامه بعنوان: "رجل غربي يصحو فيعتنق الاسلام". ومنهم من لم يتخطى عتبة باب الاسلام, ولكنه وقف معجبا بشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته الطيّبة, وصرّح معترفا بفضله ومكانته وحاجة البشرية الى اتباع سنته والتمسك بأخلاق رسالته, كالمفكر الغربي درابر الذي أعلن قائلا: (كان محمدا متخلقا بتلك الأخلاق التي اذا اجتمعت برجل واحد أهّلته لأن يكون ذلك الشخص الذي تتوقف عليه مقدّرات العالم).
أيها الاخوة المؤمنون:
ومما يزيد هذه الحقيقة ثقة وعمقا في نفوس الناس أيا كانت مذاهبهم واتجاهاتهم أن يحتضن التاريخ بكل دقة واحكام حياة سيدنا رسول الله محمد بكافة جوانبها وشتى نواحيها, منذ ولادته ونشأته الى أن غادر الدنيا راحلا الى الله بعد أن بلّغ الرسالة, وأدّى الأمانة, ونطق بالحجة, ونصح الأمة, وجاهد بالله حق جهاده. ولا ريب في أن الحياة القدوة التي تفتقر اليها الأجيال الانسانية في كل زمان ومكان, فتأخذ منها ما يصلحها في كل جوانب الحياة وأطوار العيش.
أيها الاخوة المؤمنون:
اعلموا أن المسلمين الأوائل لم يفتحوا الدنيا, ويبلغوا أعلى منازل العزة والكرامة, ويدخلوا تاريخ الأمجاد من أوسع أبوابه, ويحققوا أعظم الانتصارات في معتركات الحياة, ويشيّدوا أعظم حضارة انسانية في دنيا الحضارات الا بفضل استقامتهم على منهج القرآن وسنة النبي العدنان عليه الصلاة والسلام, حيث كانوا يتتبعون كل دقيقة وجليلة من حياته الشريفة ليطبقوها على أنفسهم.
(1/96)
فالقرآن والسنة هما مناط عزة المسلمين وتقدمهم حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تركت فيكم شيئين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي", ولقد حرص خصوم الاسلام على أن يبقى المسلمون بعيدين عن هدي هذين النورين الأقدسين ليظلوا مجرّدين من عوامل فخرهم وانتصارهم, فاستفيقوا أيها المسلمون على هذه الحقيقة, واستقيموا على هدي كتاب ربكم وسيرة نبيكم عليه الصلاة والسلام الذي قال:" حياتي خير لكم ومماتي خير لكم", واجعلوا يوم الذكرى انطلاقة راشدة الى السيرة النبوية العطرة تعيشون أنوارها وهديها, اللهم اجعلنا ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه.
والحمد لله رب العالمين.
بين يدي ذكرى الاسراء والمعراج
الحمد لله جليل الأسماء, والشكر له سبحانه على سابغ النعماء, وأشهد أن لا اله الا الله وحده القائل في حادث الاسراء:{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع البصير}, وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين. اللهم صل عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغرّ الميامين ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس, الزموا تقوى الله, فهي عدة النجاء, واذكروا قوله الحق:{ واتقوا يوما ترجعون فيه الى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
(1/97)
ها هي ذكرى الاسراء والمعراج تطل علينا من جديد حاملة بين جوانحها دروسا حكيمة وعظات رشيدة, ترتفع بها عن كونها مجرد رحلة انتقل بها رسول من رسل الله انتقالا غير مألوف للناس من مكان الى مكان في فترة زمنية محودة الى كونها حادثا جليلا ورحلة كونية عظيمة, تتجاوز بآثارها ومعانيها حدود زمانها ومكانها, وتمتد في حياة البشرية عبر تلاحق أجيالها كاشفة عما أودع الله فيها من أسرار وحقائق تحدث في واقع الأمة الاسلامية انفعالا متجددا كلما قرع حادث الاسراء والمعراج أسماعها, وعبر بذكراه آفاق وجودها.
أيها الاخوة المؤمنون:
لقد جاء حادث الاسراء والمعراج لمسة الاهية حانية على قلب رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بعد مرحلة عناء مريرة مرّ بها في طريق دعوته الى الله, حيث تنكّر له زعماء الشرك, ووقفوا في وجه دعوته, يسفهونه ويؤذونه, وما يوم الطائف بسر, حيث ابتدر القوم اليه يسلطون عليه غلمانهم وسفهاءهم, يضربونه بالحجارة, ويسيئون اليه ما استطاعوا, حتى توارى عن الناس في أحد البساتين, فكانت الدماء تسيل من قدميه, وقد أنهكه التعب ومعه غلامه زيد بن حارثة, يذود عنه, ويدافع ما استطاع, وفي غمرة ذلك الارهاق والشدة انطلق من أعماقه ذلك ال\عاء الرتيب الذي ينم عن ايمان كبير وعقيدة راسخة ورضى عن الله وتسليم:" اللهم اليك أشكو ضعف قوتي, وقلة حيلتي وهواني على الناس, أنت رب العالمين, وأنت ربي الى من تكلني؟ الى بعيد يتجهمني أم الى عدو ملّكته أمري؟ ان لم يكن بك غضب علي فلا أبالي, غير أن عافيتك أوسع لي, أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات, وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك, أو يحل علي سخطك, لك العتبى حتى ترضى, ولا حول ولا قوة الا بالله".
(1/98)
لقد كان دعاءا فياضا بالرضى عن الله والثقة بنصره وتأييده وعونه لعبده المؤمن مهما كانت شدّة الكرب, ومهما بلغ ضغط المحنة. فالمؤمن الصادق لا يبالي بكل ما يصيبه من ألم وايذاء ما دلم الله راضياعنه:" ان لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي". فماذا يفيد النعيم؟ وماذا يفيد الرخاء؟ وماذا تنفع الأموال والعقارات والدنيا كلها اذا لم يظفر صاحبها برضوان الله عنه.
قال تعالى:{ لا يغرّنّك تقلّب الذين كفروا في البلاد * متاع قليل ثم مأواهم جهنّم وبئس المهاد}, وقال:{ يوم لا ينفع مال ولا بنون * الا من أتى الله بقلب سليم}.
أيها الاخوة المؤمنون:
لقد جاءت تلك اللمسة الاهية الحانية بلسما يزيل عن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل عناء, ويمسح عن نفسه كل بلاء, لينطلق بعد ذلك في مضمار دعوته قويا صابرا ثابتا واثقا بأن دعوته هي الغالبة, وهي المهيمنة, ودينه هو الظاهر على كل دين وكلمته هي النافذة في الناس أجمعين, قال تعالى:{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}.
فمهما اشتدت المصاعب بعد ذلك, وازدحمت في طريقه العوائق والأهوال, فسوف يتخطاها جميعا, ويؤدي رسالة ربه حق الأداء, ويبلّغ دين الله كما أمره الله الذي خاطبه بقوله:{ يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل اليك من ربك}, وبقوله:{ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * انا كفيناك المستهزئين}.
أيها الاخوة المؤمنون:
(1/99)
تجلّت تلك اللمسة النورانية الحانية في حادث عظيم, في رحلة سماوية مقدّسة, عبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم آفاق الأرض والسماء بدءا من الاسراء الى المسجد الأقصى والانتهاء بالعروج الى السموات العلى الى سدرة المنتهى, حيث تجلّى الله تعالى على رسوله, وأوحى اليه ما أوحى من عطاءات لا تنفد, وخيرات لا تفيض, وفيوضات وسبحات, وتجليات وبركات, كل ذلك فاضت به رحلة الاسراء والمعراج, فكانت قطبا تنبثق منه سرائر الأنوار الاهية, ودقائق الحكمة الربانية.
فعلينا أيها الاخوة المؤمنون أن نقف حيال هذا الحادث الجليل لنستلهم منه الدروس والعبر النافعة, ولطائف الحكمة الربانية الساطعة, التي تولد في قلوبنا قوة انفعال لدين الله, وحبا خالصا لسيدنا رسول الله, وثقة بقوله سبحانه:{ انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون}.
والحمد لله رب العالمين.
من وحي الاسراء والمعراج
الحمد لله الكبير المتعال, والشكر له سبحانه على سابغ الفضل والنوال. وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له القوي الفعّال, وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله الكريم المفضال, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آلأه وأصحابه الأشاوس الأبطال.
أما بعد: فيا معشر المؤمنين, أوصيكم ونفسي المخطئة بتقوى الله في كل حال, وأذكّركم قوله تعالى حيث قال:{ يا أيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلّكم تفلحون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
أود في خطبتنا اليوم أن أقف واياكم حيال صرح عظيم, كلما جاءت ذكرى الاسراء والمعراج فجرت بركان عواطف المسلمين تجاهه, وهيّجت أشجانهم نحوه, انه المسجد الأقصى الذي احتشدت في رحابه وتجمّعت في أرضه وسمائه ذكريات جليلة, كانت كفيلة بأن تمد المسلمين في كل زمان ومكان بقوة في ايمانهم, وحدب على اسلامهم, وغيرة على مقدّسات دينهم.
(1/100)
فهو أزلى القبلتين, وثالث الحرمين الشريفين الذي حدد الله موقعه وتسميته قبل بنائه, فقال فيه سبحانه:{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا, انه هو السميع البصير}.
وقال فيه رسول اله صلى الله عليه وسلم:" لا تشدوا الرحال الا الى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى}.
فارتباط المسلمين بالمسجد الأقصى وبيت المقدس هو ارتباط مقدّس, لا يقف عند حدود أرض قد اغتصبت ولا شعب تشرّد عن أرضه, بل يمتد الى ما هو أبعد من ذلك حتى يصل الى جذور عقيدة التوحيد.
فالمسجد الأقصى يمثل معلما من معالم الاسلام ومشعرا من مشاعر الهداية والايمان. فواجب المسلمين تجاهه يتعلق بعقيدة راسخة في الأعماق, ويرتبط بعهد هداية وايمان, يسترخص في سبيله كل غال وثمين. من أجل هذا انطلق المسلمون الأوائل يحثون الخطا نحو بيت المقدس في مسيرة نشرهم الاسلام, لا يبالون بجيوش تقف في وجوههم, ولا بصعاب تعترض طريقهم حتى فتحوا بلاد الشام, فانطلق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على راحلته الى أن بلغ بيت المقدس, واستلم مفاتيحه من البطريرك (صفرونيوس) في غمرة استقبال حافل آل بالمسلمين بعد ذلك الى أن رفعوا جدران الأقصى, وشيّدوا صرحه الشامخ في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك, وراحت دعوة التوحيد تنطلق من الأقصى قوية عالية مالئة آفاق فلسطين معلنة أنه ينبغي ألا تعلو في بيت المقدس راية غير راية التوحيد, وألا تكون فيه سيادة لغير المسلمين.
(1/101)
ولما وقع الأقصى أسيرا في يد الصليبيين لم يطق المسلمين صبرا على ذلك, فما كان من صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الا أن هبّ يجمع الجموع ويوحّد الصفوف, وينطلق بجيش لا اله الا الله محمد رسول الله الى حطّين حيث دارت معركة طاحنة بين المسلمين والصليبيين, انتهت بهزيمة الكفار هزيمة نكراء, وتطهير بيت المقدس من رجسهم ودنسهم, وانتصار المسلمين, وعودة القدس الى حوزتهم في يوم الجمعة في السابع والعشرين من رجب, أي في يوم ليلة الاسراء والمعراج, فكان فتحا عظيما شهده العالم الاسلامي, واحتشد الناس في بيت المقدس من كل مكان, وامتلأت رحاب الأقصى بالمسلمين من جميع بلاد الاسلام, وصليّت فيه الجمعة يوم فتحه, وأصبح راسخا في أعماق المسلمين أنهم أمناء على هذه البقعة المقدسة من الأرض, التي ستغدوا في آخر الزمان معقلهم وحصنهم الحصين, عندما يخرج الدجال وينزل سيدنا عيسى عليه السلام, ويخرج يأجوج ومأجوج, كما أشار الى ذلك القرآن الكريم والحديث الشريف.
ثم تقع الكارثة في سنة 1917 بموجب وعد بلفور الذي منح الهود حق الاستيطان في أرض فلسطين, ثم تفاقم الشر عام 1947 عندما صدر قرار التقسيم, فأصبح لليهود حق شرعي في انشاء وطن قومي لهم في فلسطين, ثم استمر البلاء وتلاحقت المصائب على تلك الأرض المقدّسة, وأصبح الأقصى في معترك محن قاصية على يد شذاذ الآفاق الذين أخذوا ينتهكون حرمته في كل يوم بانتهاك جديد حتى سفكوا دماء المصلين الأبرياء على رحابه الطاهرة, بفوقون بذلك شراسة الوحوش الطاغية.
أيها الاخوة المؤمنون:
(1/102)
ما يزال الأقصى في جوف محنته مثخن الجراح, يصرخ في وجه المسلمين أن يهبوا لانقاذه من براثن قتلة الأنبياء وأعداء الحياة. فهل يجد الأقصى آذان صاغية لصرخته؟ وهل يحس من المسلمين همما تنفعل مع آلامه, فيستحيلون حمما لا تبقي ولا تذر, تمزق الغاضب المحتل شذر مذر؟ أخبروني أيها الناس, ألم يأن لنا أن ننطلق بهمّة قعساء وعزيمة شمّاء, فنحطّم البغاة الغاصبين, ونستعيد فلسطين؟ كيف يطيب لنا العيش ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يهان على يد أذلّ من مشى فوق التراب؟
كيف يسوغ لنا الطعام والشراب واخواننا في فلسطين تفضح أعراضهم, وتسفك دماؤهم, وتهان كرامتهم!؟
ان الواجب الاسلامي يحتم علينا أن ننفر خفافا وثقالا حتى نطهّر أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين من وباء الصهاينة المعتدين, ونعيد فلسطين الى عزتها وكرامتها في ظل راية التوحيد, ورائدنا في ذلك قول ربنا سبحانه وتعالى:{ انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلك خير لكم ان كنتم تعلمون}.
والحمد لله رب العالمين.
من وحي الهجرة الشريفة : استعلاء العقيدة
الحمد لله حمدا يليق بعزته وقدرته, والشكر له سبحانه على سابغ فضله ونعمه, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له القائل في محكم تنزيله:{ والذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا, لهم مغفرة ورزق كريم}, وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آل بيته وأصحابه والتابعين لهم باحسان الى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله, أوصيكم واياي بتقوى الله, وأحثكم على طاعته واتباع هداه, وأذكركم قوله حيث قال:{ اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلّكم تفلحون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
(1/103)
ها هو العالم الاسلامي الكبير يدخل في رحاب عام هجري جديد, فيستقبل مع بدايته المشرقة ذكرى هجرة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة الى المدينة المنورة.
وجدير بالمسلمين أن يتأملوا وقائع هذه الهجرة المجيدة, ليستخلصوا منها لأنفسهم عبرا وعظات ودروس هداية ورشاد, تكون لهم منهجا يسيرون عليه عبر حياة يعيشونها في هذا العصر المتأخر, تكتنفهم فيها ظروف قاسية, ويمرون عبرها بمحن شديدة, ويتعرضون خلالها لاغراءات الشهوات الخاسرة, وتيارات الفساد الجارفة التي تستهدف عقيدتهم واسلامهم وأخلاقهم ووجودهم كأمة واحدة أنزل الله فيها قوله:{ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}, وقوله:{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}.
أيها الاخوة المؤمنون:
أريد في خطبتي هذه أن أقف واياكم حيال درس واحد من دروس الهجرة الشريفة, أرى أن كل مسلم بمسيس الحاجة اليه في عصرنا هذا عصر الاغراءات المادية, واستعار أوار الغرائز البهيمية, واشتداد تيارات الانحراف, وتفاقم ظلمات الباطل, وازدياد حدّة المنكر والفساد.
ونقتبس هذا الدرس الكبير من وقائع حركة هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة المكرمة الى المدينة المنوّرة حيث تتراءى لنا صورتهم المباركة وهم يتركون أموالهم وبيوتهم وأهلهم وعلائقهم بمكة, وينطلقون فارين بدينهم الى أرض تقبل الاسلام, وتحتضنه رغبة به وحبا فيه, مؤثرين بذلك آخرتهم على دنياهم, وعقيدتهم على ماديات حياتهم.
(1/104)
فيتراءى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يودّع مكّة قائلا:" ما أطيبك من بلد وأحبّك اليّ ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك", كما تراءى صورته وهو يأوي الى غار ثور يلاحقه طلب المشركين وعيونهم, وصورته وهو يتوجه صوب المدينة المنوّرة, وقد ظهر من ورائه غبار, فاذا هو سراقة بن جعشم يريده طمعا بالفوز بالجائزة التي أعلن عنها المشركون لمن يأتيهم بمحمد, ثم تتراءى لنا صورة سراقة عندما أيقن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حماية ربه عز وجل, فآثر أن يرجع بكتاب أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويصد عنه الطالبين له باءيذاء.
وكذلك تتراءى لنا صورة صهيب الرومي رضي الله عنه عندما أراد الهجرة, فمنعه كفار قريش قائلين له: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا, وبلغت الذي بلغت, ثم تريد أن تخرج بنفسك ومالك, والله لا يكون ذلك. فقال لهم: أرأيتم ان جعلت لكم مالي, ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ربح صهيب ربح صهيب". وتتراءى صورة أم سلمة وزوجها أبي سلمة في هجرتهما وما جرى لهما من أحداث وآلام.
فنستشعر من خلال حركة المسلمين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم في هجرتهم المقدّسة تجسيد حقيقة الايمان الحق بالله رب العالمين, وكيف أنهم أعلنوا من خلال صبرهم وثباتهم: أنه لا ينبغي لدعوة باطلة واغراءات الشر وشهوات الدنيا أن تنال شيئا من سلامة العقيدة الاسلامية في قلوبهم, اذ أيقنوا أن الحياة بلا اسلام لا معنى لها, وأن الحياة بلا طاعة وعبادة لله تعالى لا خير فيها, بل هي أشبه بالموت, لأن كل شيء سوى الاسلام دمار, وكل شيء سوى توحيد الله ضياع, وكل شيء سوى طاعة الله رب العالمين عذاب وشقاء.
أيها الاخوة المؤمنون:
لقد شعر السابقون بهذه الحقيقة عندما قاسوا ما بين حياتهم قبل الاسلام وحياتهم بعده.
(1/105)
وكانوا قبل الاسلام على تمزق وفرقة وانحطاط وارتكاس في معتقداتهم وفي أفكارهم وفي سلوكهم, فهم يعبدون الأصنام, ويقطعون الأرحام, ويرتكبون الآثام, ويمارسون الفحشاء والمنكر, ويسفكون الدماء, ويأكل القوي منهم الضعيف, ويظلمون ويفسدون. وعندما دخلوا الاسلام انقلبت موازين جاهليتهم وأعرافها, الى عبادة الله وحده لا شريك له, وصلة الأرحام, ونبذ الرذيلة والفحشاء والمنكر, وحقن الدماء, ونصرة المظلوم, واتباع الحق والعدل والاصلاح في واقع الحياة.
أيها الاخوة المؤمنون:
لقد تلقى المسلمون الأوائل الاسلام عقيدة ترسخ في أعماقهم, وشريعة يستقيم على هديها سلوكهم, فآمنوا به على هدي قوله تعالى:{ فأقم وجهك للدين حنيفا, فطرت الله التي فطر الناس عليها, لا تبديل لخلق الله, ذلك الدين القيّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون}, وعلى هدي قوله:{ ان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}, وعلى هدي قوله:{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا}.
(1/106)
فما كان للمسلمين بعد ذلك أن يحابوا على اسلامهم, أو يداهنوا على ايمانهم, أو يتصاغروا أمام الدنيا, ويضعفوا أمام مغرياتها وشهواتها, فيؤثروها على دينهم وعقيدتهم, وما كان للمحن والشدائد مهما كانت قاسية وعنيفة أن تضعف من عزيمتهم وثباتهم في حمل دعوة الله وحمايتها من مقاصد أعداء الله. وانما انطلقوا وهم أكبر من الدنيا بكل شهواتها, وأكبر من الأرض بجميع زخارفها ومغرياتها, انطلقوا وهم أقوى من المحن والشدائد, لا يهمهم الا سلامة عقيدتهم واستقامتهم على منهج ربهم, لأنه الحياة الحقيقية التي تستحق تضحية وفداء وتفاني وجهاد, وقدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رسم معالم درب الحقيقة أمامهم مع أول موقف حاسم وقفه من المشركين, عندما أرادوا ثنيه عن دعوته, وكفه عن نشر رسالته, فصاح صيحة المنهج الحق التي حطّمت مقاصد الباطل وآمال الشرك:" والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أ، أرك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
أيها الاخوة المؤمنون:
لقد أعلن رسول الله بكل قوة وصلابة, أن دعوته أبعد منزلة من الشمس وأشد سطوعا من القمر, بل هي المهيمنة بمكانتها ونورها على الأرض والسماء, فلا ينبغي لحماتها ودعاتها أن يتطامنوا أمام مغريات المادة وجواذب الأرض, حيث كانت دعوتهم أكبر من مغريات المادة وجواذب الأرض. فاستعلاء عقيدتهم على كل الدنيا أهم ركائز انطلاقهم في نشرها وبث أنوارها ساطعة في قلوب الناس وآفاق حياتهم.
عليكم يا معشر المسلمين أن تدركوا هذه الحقيقة, وأنتم تواجهون في هذا العصر صنوفا عديدة من الاغراءات المادية والمطامع الأرضية تستهدف الفتك بقلوبكم والقضاء على عقيدتكم. فاحذروا من خطفات المادة وشراك الشهوات, وكونوا في معترك المغريات كالطود الأشم الذي لا تهزه عاصفة ولا تزعزعه قاصفة.
اللهم ثبتنا على ديننا, واجعل عقيدة التوحيد راسخة في أعماقنا, انك مجيب الدعاء.
…
(1/107)
والحمد لله رب العالمين.
مكانة المرأة في الاسلام
الحمد لله جمدا بالغ الحب, والشكر له سبحانه على نعمة الايمان ومغفرة الذنب, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين وتابعيهم ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله, أوصيكم ونفسي المخطئة بتقوى الله, وأحثكم على طاعته, وأذكّركم قوله تعالى:{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء, واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام, ان الله كان عليكم رقيبا}.
أيها الاخوة المؤمنون:
سوف أتحدث اليكم في خطبتي هذه عن المرأة ومكانتها في الاسلام.
معشر المؤمنين:
لقد اهتم الاسلام بالمرأة اهتماما بالغا, فأولاها حسن الرعاية وكامل العناية, وانتشلها بمقتضى هديه وتوجيهاته من حضيض امتهانها ولجّة ضياعها في الجاهلية ليجعلها مخلوقا كريما يحتل مكانة مرموقة في الحياة, ويؤدي دوره فعالا في بناء المجتمع وتكوين الأمة واعداد الجيل الانساني, فاذا كانت المرأة في الجاهلية تعدّ كسقط المتاع حيث قال سيدنا عمر رضي الله عنه:" والله كنا في الجاهلية ما نعد النساء شيئا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسّم لهن ما قسّم", فقد أصبحت في الاسلامذات مكانة واعتبار لا تنزل عن الرجل رتبة واحدة في ظل تقوى الله وتطبيق منهجه وبلوغ مرضاته وجنّته, حيث قال تعال:{ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض }, وقال أيضا:{ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أ, أنثى, بعضكم من بعض}. وأعلن أن الرجل والمرأة انما انبثقا من نفس واحدة, فقال:{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء, واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام, ان الله كان عليكم رقيبا}, وقال عليه الصلاة والسلام:" النساء شقائق الرجال".
(1/108)
أيها الاخوة المؤمنون:
اذا كانت المرأة في الجاهلية مسلوبة الارادة, مسلوبة الحريّة, مسلوبة الكرامة, فلا يخفى عليكم أنّ الاسلام منحها مطلق وكامل ارادتها وحريتها, ووافر كرامتها, فأخذ برأيها, وقدّر حكمها قدره, وحسبنا دليلا على ذلك يوم صلح الحديبية, عندما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يذبحوا ليتحللوا من عمرتهم, فلم يستجيبوا, فدخل عليه الصلاة والسلام على زوجه أم سلمة يقول لها:" هلك المسلمون أمرتهم فلم يستجيبوا", فأشارت عليه أن يذبح أمامهم, ففعل ما أشارت به, فأطاع المسلمون واستجابوا.
ونزل عند صواب حكمها وسداد اعتراضها, ومن أدلة ذلك ما وردأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صعد المنبر ذات يوم وخطب في الناس ينهاهم عن أن يزيدوا في صداق المرأة على أربعمائة درهم, فاعترضته المرأة من قريش قائلة: يا أمير المؤمنين أما سمعت ما أنزل الله في القرآ،؟ فقال: وأي ذلك؟ فقالت: أما سمعت الله يقول:{ وان أردتم استبدال زوج مكان زوج وءاتيتم احداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا, أتأخذونه بهتانا واثما مبينا * وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم الى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا}. فقال: ( اللهم غفرا, كل الناس أفقه من عمر), ثم رجع فركب المنبر, وأباح للناس أن يزيدوا في مهور النساء ما يحبون.
وأعطى الاسلام للمرأة حق الاختيار, فلا تقهر على ما لا ترضى, ودليلنا على ذلك أن فتاة دخلت على عائشة رضي الله عنها, فقالت: (ان أبي زوّجني من ابن أخيه يرفع بي خسيسته وأنا كارهة), قالت:( اجلسي حتى يأتي رسول الله), فلما جاء أخبرته, فأرسل الى أبيها فدعاه, فجعل الأمر اليها, فقالت: يا رسول الله, قد أجزت ما صنع أبي, ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من شيء.
وفي غضون حفظ الكرامة قسم الاسلام للمرأة نصيبها من الارث, وكانت من قبل تورث كما يورث المتاع, فقال تعالى:{ لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء كرها}.
(1/109)
وأسند اليها مسؤوليات جسام ومهمات عظام كامامة النساء, وحسبنا من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أمّ ورقة الأنصارية التي كانت قد جمعت القرآن أ، تؤم أهل دارها.
وضربت المرأة في الاسلام بسهم بالغ في مضمار العلم والدعوة الى الله عز وجل, فكان منها العالمة والمحدّثة والفقيهة والواعظة والمجاهدة.
أيها الاخوة المؤمنون:
حيث بيّن الاسلام أن لبمرأة طاقة فعّالة في الحياة, وأن عطاءها في البناء والاعمار لا يقل عن عطاء الرجل, فقد حضّ على حسن تربيتها وصدق العناية بها, وحذر من عاقبة اهمالها والاساءة اليها, واقرؤوا ان شئتم قوله تعالى في حق معاملة النساء:{ وعاشروهن بالمعروف, فان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا}. وقوله عليه الصلاة والسلام في حق البنات:" من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها, ولم يؤثر ولده عليها أدخله الله الجنة", وقوله في الحق المرأة الام عندما سأله رجل: من أحقالناس بحسن صحبتي؟ قال:" أمك", قال: ثم من: قال:" أمك", قال: ثم من: قال أمك", قال ثم من قال:" ثم أبوك".
وهكذا معشر المؤمنين, نرى كيف كيف نزلت المرأة في الاسلام في أكرم منزلة, واحتلت أسمى المراتب الانسانية في الحياة. فأروني في هذا العصر المتأخر ماذا بقي للمرأة من الكرامة في ظل الحضارة الغربيّة؟
لقد قضت قوانين الأمم الغربيّة ةأعرافها أن الأنوثة في المرأ’ تعتبر نقصا يستوجب الحجر عليها, فتفقد أهلية التصرّف بأموالها, وبمجرّد زواجها تفقد اسمها واسم اسرتها, وتصبح تابعة لاسم زوجها واسرته, واذا بلاغت سن السابعة عشر يسقط عن أبيها واجب رعايتها والانفاق عليها, فتضطر للبحث عن عمل تعيش منه. هذا عدا ما تعانيه من القهر والاذلال في مكان عملها وطبيعته, ومن الممارسات الخاسرة في حقها على يد الزوج والغرباء: من ضرب واغتصاب ومقامرة على شرفها وعفافها وغير ذلك.
(1/110)
لقد تحطمت المرأ’ على يد حضارة هذا العصر بينما أعزها الاسلام وصان كرامتها وعفافها, وكفى بالاسلام حارسا أمينا لمكانة الانسان وكرامته. اللهم أدم علينا نعمة هذا الدين انك سميع مجيب.
والحمد لله رب العالمين.
أثر المرأة في بناء المجتمع واعداد الجيل
الحمد لله كما علمنا أن نحمده, والشكر له سبحانه على ما أنعم به وأوجده, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله, اللهم صلى وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه الكرام الطيبين.
أما بعد: فيا عباد الله, اتقوا الله واستقيموا على شرعه, واعملوا بقوله حيث قال:{ يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وأنتم مسلمون}.
قال الله تعالى في محكم تنزيله:{ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة}.
أيها الاخوة المؤمنون:
اذا كنا في خطب سابقة قد تحدّثنا عن مكانة المرأة في الاسلام, فقد آن لنا أن نتحدث عن تأثيرها البالغ في بناء المجتمع الانساني الأمثل, وتكوين الأمة الراشدة, واعداد الجيل الصالح.
وخطبتنا اليوم سوف تدور في فلك هذا الموضوع, حيث أصبحنا نعيش في زمان صارت فيه المرأة قضيّة القضايا في نظر كثير من الباحثين والدارسين الاجتماعيين.
أيها الاخوة المؤمنون:
أقول في بداية هذا الحديث الهام: ان الدارس لتاريخ الشعوب والأمم الانسانية, والباحث في نشوء الحضارات وتكوين المجتمعات البشرية يجد بما لا يقبل الشك أن للمرأة دورا فعالا في صناعة تاريخ تلك الشعوب والأمم وبناء تلك الحضارات والمجتمعات التي تلاحقت وجودا وفناء على امتداد الحياة منذ انبثاق فجر الانسانية والى عصرنا الحاضر. ويتجلى تأثير المرأ’ في ذلك سلبا وايجابا.
(1/111)
فلقد أثبتت الدراسات النفسية والانسانية أن المرأة طاقة فعّالة في الحياة لها تأثيرها البنّاء وتأثيرها المدمّر في وجود الانسان, وحسبك أن تعلم أن عاطفتها بركان ثائر, فاذا انفجر وتتدفقت طاقته في قنوات الخير والفضيلة, كانت مادة صالحة لبناء حصون الأخلاق والقيم في حياة الشعوب والأمم, وأما اذا انفجر وتقاذفت طاقته في كل اتجاه متجاوزة الضوابط والحدود, دمّرت كل شيء أتت عليه, وأكلت الأخضر واليابس. هذا وناهيك عن عقلها الذي اذا نضج في الخير, كان معوانا على نشره في آفاق النفوس وأجواء الحياة. وأما اذا نضج في الشر وتنشأ في حضيضه, كان بؤرة فساد وافساد, ومباءة شر والحاد.
أيها الاخوة المؤمنون:
اذا ربيّت المرأة تربية صحيحة, ونشأت نشأ’ حسنة, وضبطت حركتها الفكرية والسلوكيّة والعاطفية بضوابط الحق والخير والايمان والفضيلة, ووجهت التوجيه السليم الى العمل النافع والانجاز الصالح وهداية البشرية وخيرها وفلاحها في الدنيا والآخرة, غدت كفيلة بالمساهمة في بناء مجتمع انساني كريم, ونشوء أمة عريقة راشدة, وتشييد صرح حضارة انسانية راقية.
وهذا ما يتجلى واضحا في واقع المرأة المسلمة التي رباها الاسلام, حيث استطاعت أن تساهم في بناء
خير أمة أخرجت للناس, فكانت مدرسة تخرّج منها البطل الشجاع كعبد الله بن الزبير رضي الله عنه, والفقيه الحاذق كربيعة الرأي, والعالم النحرير كالامام الشافعي, كل هؤلاء وغيرهم كان وراءهم أمهات صالحات صدقن في حمل أمانة البيت والزوج والولد.
أيها الاخوة المؤمنون:
اعلموا أن في صلاح المرأة صلاح المجتمع كله وفي فسادها فساد المجتمع كله, لأنها اذا انحرفت عن سواء السبيل, وأهملت تربيتها, وتركت تلهث خلف رغباتها ونزواتها, فسوف تجترّ نتيجة ذلك الشقاء, وتسوق المجتمع برمّته الى الهاوية, وهذا ما يعانيه المجتمع الغربي اليوم وكلّ المجتمعات المادية.
(1/112)
فواجب المسلمين في هذه الأيام أ، يصحوا على هذه الحقيقة, فيلتفت الآباء والأمهات الى بناتهم وسائر أولادهم, ويعمدون الى تربيتهم على تقوى من الله ومراقبته وانباتهم نباتا حسنا في ظل كتاب الله وهدي الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يسلم مجتمعنا وأمتنا من الانحراف والضياع.
أيها الاخوة المؤمنون:
اعلموا أن مجتمعنا لا يتم صلاحه على يد قتاة تسرف في الشهوات وأكل الحرام, وانما يتم صلاحه علي يد فتاة كرابعة العدويّة التي قالت لأبيها ذات يوم: يا أبه, لا أجعلك في حل من حرام تطعمنيه, فقال لها: يا بنيّة, أرأيت ان لم أجد الا حراما؟ فقالت: نصبر في الدنيا على الجوع خير من أن نصبر في الآخرة على النار.
ولا يتم صلاح مجتمعنا على يد فتاة تسهر ليلها في النوادي والملاهي أو على أفلام العري والفساد, وانما يصلحه فتاة كمنيفة بنت أبي طارق التي كانت اذا هجم الليل عليها قالت: ( بخ بخ يا نفس قد جاء سرور المؤمن), فتحزّم, وتلبس وتقوم الى محرابها, فكأنها الجذع القائم حتى تصبح.
ولا يتم صلاح مجتمعنا على يد زوجة لا تعرف من الزوج الا الشهوة وممارسة الجنس والهوى ومقارفة الفساد والاختلاط الخاسر بالرجال, وانما يصلحه زوجة كزوجة رباح القيسي التي كانت اذا عاد زوجها من عمله مساء صلّت العشاء الآخرة, ثم تطيّبت ولبست زينة ثيابها, ثم أتته فقالت: ألك حاجة؟ فان قال نعم, كانت معه, وان قال: لا قامت, فنزعت ثيابها, ثم صفت بين قدميها تصلّي لله حتى تصبح.
بأمثال هؤلاء النسوة ينصلح المجتمع, وتستقيم حياة الأجيال, وتبلغ الأمّة في العزة والرّفعة أعلى المنازل, وتحقق انتصارها في كل مضمار.
يا معاشر الآباء والأمهات:
بادروا الى حسن تربية بناتكم وتنشأتهن على هدي الاسلام في أحكامه وأخلاقه وآدابه, لتضمنوا سلامة مجتمعكم, وتقطعوا الطريق على خصوم أمتكم الذين يتربّصون بها الدوائر, ويعمدون الى الفتك بها من خلال افساد نسائها وتضليل رجالها.
(1/113)
اللهم ألهم قلوب نساء المسلمين هداية الى دينك واستقامة على شرعك, واحفظ الأمة الاسلامية بحفظ شبابها وفتياتها انك مجيب الدعاء.
والحمد لله رب العالمين.
الأم.. في المفهوم الاسلامي
الحمد لله خالق الأرض والسموات, والشكر له سبحانه على نعمة الآباء والأمهات. وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له القائل في آياته البيّنات:{ ووصّينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك الي المصير}.
وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم, وأحسن ختامي وختامكم وختام المسلمين والمسلمات.
أما بعد: فيا عباد الله, أوصيكم بتقوى الله عز وجل, وأحثكم على طاعته في القول والعمل, وأذكّركم قوله المبين:{ يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وأنتم مسلمون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
في ظلّ الاسلام احتلّت المرأة مكانها المناسبفي بناء المجتمع وتكوين الأمّة, وذلك على مختلف صعد حياتها, وشتى أ,ضاعها في نطاق الأسرة, وفي نطاق المجتمع, وفي نطاق الانسانية برمّتها.
وفي خطبتنا هذه سوف نجوب آفاق الحديث عن مكانة المرأة في الاسلام من حيث كونها أمّا.
اعلموا أيها الاخوة المؤمنون: أن الاسلام حض على البر بالوالدين, وأمر بالاحسان اليهما, وذلك لما للوالدين من فضل كبير على الولد في انجابه وفي تربيته وفي رعايته, وجاء الحض الاسلامي على الاحسان الى الوالدين وحسن الأدب معهما في كتاب الله الحق, فنقرأ قول الله تعالى:{ وقضى ربك ألا تعبدوا الا اياه وبالوالدين احسانا}, وقوله:{ أن اشكر لي ولوالديك اليّ المصير}, وقوله:{ وصاحبهما في الدنيا معروفا}.
(1/114)
وأمّا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم, فنذكر قوله الشريف عليه الصلاة والسلام:" رضى الرب في رضى الوالدين وسخط الرب في سخط الوالدين", كما نذكر أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يريد الجهاد فقال له رسول الله :" ألك والدان؟" قال: نعم, قال عليه الصلاة والسلام:" ففيهما فجاهد".
وقال لرجل سأله عن الوالدين:" هما جنّتك ونارك". وأعلن أن البر بالوالدين لا ينقطع بموتهما بل يبقى مستمرا الى آخر لحظاتحياة الولد, فعندما جاء رجل من بني سلمة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, هل بقي من برّ والديّ شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ قال:" نعم, الصلاة عليهما, والاستغفار لهما, وانفاذ عهدهما من بعدهما, وصلة الرحم التي لا توصل الا بهما, واكرام صديقهما". وحذر عليه الصلاة والسلام من عاقبة اهمال رعاية الوالدين وتضييع حقهما في البرّ والاحسان, فقال:ط رغم أنف, رغم أنف, ثم رغم أنف" قيل من يارسول الله؟ قال:" من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما, فلم يدخل الجنة".
ولكنّ الاسلام معشر المؤمنين في مسيرة دعوته الى البر بالوالدين والاحسان اليهما أعطى الأم خصوصيّة في العناية بها والاهتمام بحسن رعايتها, وذلك نظرا لصلتها الوثيقة الجسدية والروحية بالولد, ونظرا لشدّة المعاناة التي تعرّضت لها أثناء حملها ولدها ووضعه, وفي مرحلة ارضاعه والحنوّ عليه في طفولته, وفيضها من الحنان والعطف عليه الى آخر لحظات حياته, ولقد أشار الله تعالى الى هذا في محكم تنزيله فقال:{ ووصّينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك الي المصير}, وقال:{ ووصّينا الانسان بوالديه احسانا حملته أمّه كرها ووضعته كرها}.
(1/115)
وأكّد النبي صلى الله عليه وسلّم خصوصيّة العناية بالأم عندما جاءه رجل فقال: يا رسول الله, من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال:" أمّك" ثم قال من؟ قال: "أمك", ثم من؟ قال:" أمّك" قال: ثم من؟ قال:"أبوك".
وكشف النقاب في بعض مواقفه وكلامه عن سر هذه الخصوصية والعناية المتميّزة بالأم عندما أتاه رجل فقال: يا رسول الله, اني حملت أمي على عنقي فرسخين في رمضاء شديدة, لو ألقيت بضعة لحم لنضجت, فهل أديت شكرها؟ فقال:" لعلّه أن يكون لطلقة واحدة".
أيها الاخوة المؤمنون:
لقد نهل المسلمون الأوائل من معين هدي المصطفى عليه الصلاة والسلام معنى العناية بالأم وحسن رعايتها ورفيع الأدب معها, فكتبوا في سجل البر بالأمهات أروع الصفحات وأجملها ضياء, واليكم واحدة منها: ذكر أن أسامة بن زيد عمد الى نخلة فنقرها, وأخرج جمّارها (لبّها) فأطعمه أمّه, فقالوا له: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم؟ قال: انّ أمي سألتنيه, ولا تسألني شيئا أقدر عليه الا أعطيتها.
أيها الاخوة المؤمنن:
لقد أدرك أسامة رضي الله عنه, أن ارضاء الأم وادخال السرور على قلبها يفوق كنوز الدنيا كلها, لذلك لم يبال بنقر النخلة مهما بلغ ثمنها في سبيل أن يرى البسمة ترتسم متألّقة على شفتي أمّه. وهذا عين السعادة في نظره كما علّمه الاسلام وحضه عليه.
(1/116)
ولم يعتن دين الاسلام بالأم هذا الاعتناء, ولم يدع الى حسن الأدب معها والى تقديرها بمثل هذا الحماس, ولم يسبغ عليها مثل هذه الهالة من القداسة والجلال الا لما لها من أثر بالغ في بناء الحياة, وتكوين المجتمع وصناعة الأمة. فهي المربّي الأوّل للأجيال, والمصنع الأول للأبطال, والمدرسة الأولى للنماذج البشرية الصالحة من النساء والرجال. فاذا ما انتخبت الأم انتخابا, وأسّست تأسيسا متينا, ونبتت في منابت الفضيلة, وأعدّت فكريا وروحيا وسلوكيا اعدادا قويما على هدي منهج الله الحق كانت كفيلة بتخريج الجيل النساني الأمثل, وتربية الأطفال الشجعان, والقادة المحنّكين, والعلماء العاملين, والمفكّرين المبدعين, والمصلحين المخلصين الذي تتكوّن بمجموعهم أمّة قويّة لا تضعف, أبيّة لا تذل, أمّة عزيزة الجانب موفورة الكرامة.
فيا أيها المسلمون في كل مكان, بادروا الى واجب العناية بأمّهاتكم, وابتغوا بذلك مرضاة ربّكم, وتجنبوا العقوق فهو أشد البلاء, واجعلوا البرّ بأمّهاتكم وآبائكم صبغة سلوككم, فهو طريق العزة والنصر والسعادة والنجاح.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
والحمد لله رب العالمين.
الأمر بصلة الأرحام والتحذير من قطعها
الحمد لله العليّ العلام, والشكر له سبحانه وليّ الانعام, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له الآمر بصلة الأرحام, وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله المبعوث رحمة للعالمين, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الكرام.
أما بعد: فيا عباد الله, أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله واتباع هداه, وأذكّركم قوله تعالى:{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء, واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام, ان الله كان عليكم رقيبا}.
أيها الاخوة المؤمنون:
(1/117)
في ظل الاسلام ترابطت القلوب, وتآلفت النفوس, والتقت الأرواح, وتكوّن المجتمع الانساني المتلاحم والأمة القوية المتماسكة, وأحسّ الناس في واقع علاقاتهم وروابطهم الاجتماعية والانسانية بحقيقة قوله تعالى:{ انما المؤمنون اخوة}, وقوله عليه الصلاة والسلام:" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى".
وفاضت مآثر الاسلام على الحياة في هذا النطاق كريمة جليلة, ومنها مأثرة صلة الأ{حام التي تقود الناس الى الترابط والتماسك, والقوة والحياة الآمنة المستقرّة.
فلقد أمر الله بصلة الرحم, وبيّن فضلها ومكانتها عنده وواجب المسلم تجاهها فقال سبحانه:{ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}.
وقال مثنيا على عباده المؤمنين:{ والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب}.
وقال , كما جاء في الحديث القدسي, :" أنا الرحمن, أنا خلقت الرحم, وشققت لها اسما من اسمي, فمن وصلها وصلته, ومن قطعها قطعته, ومن بتها بتته".
أيها الخوة المؤمنون:
اعلموا أن الرحم تشتمل على كل قرابة قريبة أو بعيدة, فمن حق هذه القرابة أن توصل بالخير, بأن يتفقد حالها, وينظر في أمرها, ويصلح من شأنها.
واذا وقع الاعراض والانقطاع من جانب الرحم لم تقابل بمثله, وانما الواجب على المسلم وصلها مهما اشتد اعراضها وتفاقم نأيها, وهذا ما أشار اليه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقوله:" ليس الواصل بالمكافىء, ولكن الواصل الذي اذا انقطعت رحمه وصلها", ولما سئل عن أفضل الصدقة قال:" أفضل الصدقة على ذي رحم كاشح".
(1/118)
وأذكر لكم دليلا آخر تأخذونه توثيقا لذلك, جاء في صحيح مسلم رحمه الله, أن رجلا قال للرسول عليه الصلاة والسلام: ان لي قرابة أصلهم ويقطعونني, وأحسن اليهم ويسيئون اليّ, وأحلم عمهك ويجهلون عليّ. قال:" لئن كنت كما قلت, فكأنما تسفل الملّ ( رماد جهنّم) ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك".
أيها الاخوة المؤمنون:
اعلموا أن في صلة الأرحام مثوبات عظيمة وثمارا طيّبة في الدنيا والآخرة, فقد جاء في الحديث قال عليه الصلاة والسلام:" من ضمن لي واحدة ضمنت له أربعا: يصل رحمه, فيحبّه أهله, ويوسّع عليه في رزقه, ويزاد في أجله, ويدخله الله الجنة التي وعده".
وأما قطع الأرحام فقد حذر الله منه, وتوعّد مرتكبه بسوء المصير, وذلك لكا يترتب عليه من تمزيق الروابط الاجتماعية, ونحطيم الأواصر الانسانيّة, وازهاق الحقوق, وتحويل المجتمع الى أشلاء ممزقة, وحطام متناثر, حيث تبيد القيم, وتذهب الأخلاق, وينمحق الحب, وتصوّح أزاهير الرحمة, ويضمحل التعاون.
واقرؤوا ان شئتم معشر المؤمنين, قوله تعالى:{ فهل عسيتم ان تولّيتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمّهم وأعمى أبصارهم}.
لقد جعل الله سبحانه تقطيع الأرحام من مظاهر الافساد في الأرض حيث يحمل في طياته التدمير الشامل للروابط. ونقرأ وعيد الله لمقطّعي الأرحام في موطن آخر في القرآن في سورة الرعد حيث يقول سبحانه:{ والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار}.
(1/119)
واعلموا أيها الاخوة المؤمنون, أن من نتائج تقطيع الرحم على مرتكب ذلك: استحقاقه غضب الله ولعنه, واحباط عمله وضياع دينه, وحرمانه من رحمة الله ومغفرته وثواب عمله الصالح وأجر صدقته, ودخوله النار, وحسبنا أدلّة على ذلك ما قرأته لكم من آيات الوعيد والتهديد لقاطعي الأرحام, وقوله عليه الصلاة والسلام:" اثنان لا ينظر الله اليهما يوم القيامة: قاطع الرحم, وجار السوء", وقوله:" ان الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم", وقوله:{ ان أعمال بني آدم تعرض على الله عشيّة كل خميس ليلة الجمعة, فلا يقبل عمل قاطع رحم". وقوله:" لا يدخل الجنة قاطع رحم".
فيا معشر المؤمنين, اتخذوا طريقكم راشدة الى صلة أ{حامكم, وتجنّبوا قطعها, وخاصّة في زماننا هذا الذي تشيع فيه الفرقة, ويكثر التدابر والتناحر, بسبب حب الدنيا والتهالك على زينتها الفانية الذي أفسد القلوب, وجعل الانسان يستهتر بالقيم العالية والأخلاق الكريمة والروابط الانسانية المقدّسة.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
والحمد لله رب العالمين.
التسامح الاسلامي
الحمد لله رب العالمين, والشكر له سبحانه على نعمة الدين, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه الكريم:{ يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنئان قوم على أن تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}, وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله المبعوث رحمة للعالمين, اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله, اتقوا ربكم, واعقوا واصفحوا, واذكروا قوله حيث قال:{ وان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
(1/120)
يقول الله تبارك وتعالى:{ وما أرسلناك الا رحمة للعالمين}, ويقول:{ وان أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه}, ويقول:{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا اليهم, ان الله يحب المقسطين}, ويقول:{ وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكّل على الله}.
معاشر الاخوة:
تضعنا هذه الآيات البيّنات أمام حقيقة من أبرز حقائق دين الاسلام, وتعرّفنا روحه الدافقة بمختلف مظاهر التسامح واليسر التي استقبل بها الانسان على وجه الأرض.
واعلموا أن خصوم الاسلام حرصوا على طمس معالم هذه الحقيقة الجوهريّة بمختلف وسائل التضليل والتزييف, الا أن حقائق الاسلام ما لبثت أن مزقت بنورها المبين ذلك التزييف والتضليل لتبقى ساطعة في قلوب الناس وعقولهم كالشمس في رابعة النهار. وان الدّارس لتاريخ الاسلام والمسلمين يجده حافلا بأروع الأمثلة على سماحة الدين الاسلامي ورحابته في مجال علاقته مع الآخرين, ويجد أنه لم يقم بمختلف أحكامه وتوجيهاته على اضطهاد مخالفيه أو مصادرة حقوقهم أ, تحويلهم قسرا عن عقائدهم أو المساس ظلما بأموالهم وأعراضهم ودمائهم. بل يجد جميع مبادئ الاسلام وأحكامه وتشريعاته تجسّد لبمفهوم المطلق في مجاله الفكري والعملي.
تعالوا بنا أيها الاخوة المؤمنون لنسير قليلا مع الاسلام في بعض مواقفه, حتى نستجلي حقيقة التسامح الذي عامل به الناس جميعا.
(1/121)
اذا نظرنا الى ظاهرة انتشاره بين الجماعات البشريّة في بلاد العالم فسوف نجد أن الاكراه والقهر في الدين لم يكن يوما من الأيام وسيلة يعتمد عليها في ذلك الانتشار السريع, بل كانت روحه السمحة وتسامحه الجمّ ويسره البالغ العامل الأساسي في دخوله قلوب الناس وعقولهم بلا استئذان وانتشاره في كل أرض يصل اليها ومكان يحلّ فيه, وهذا ما صرّح به المستشرق الغربي غوستاف لوبون حيث قال: ( والسهولة العجيبة التي ينتشر بها القرآن في العالم شاملة للنظر تماما, فالمسلم أينما مرّ ترك خلفه دينه).
وليس عجيبا أيها الاخوة المؤمنون أن ينتشر اسلامنا بهذه الصورة الواسعة فهو الدين الذي تجلّى شعاره في قوله سبحانه:{ لا اكراه في الدين}, وهذ الشعار الانساني الرائع تجسّد واقعا عمليا في موقف الرسول عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية, وفي قولته الشهيرة يومها:" والله لا تدعوني قريش الى خطّة توصل فيها الأرحام, وتعظم فيها الحرمات الا أعطيتهم اياها".
كما تجسّد موقف الصحابة الكرام, رضي الله عنهم, فهذا هو عمر رضي الله عنه عندما فتح بيت المقدس أصدر أوامره مشدّدة بعدم الاضرار بأهل الذمّة وبمعابدهم وذلك عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلّم عندما قال:" من ظلم معاهدا, أو انتقصه حقه, أو كلّفه فوق طاقته, أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة". ولا يخفى عليكم أيها المسلمون, في مضمار الوقائع الفرديّة موقف سيدنا عمر رضي الله عنه, من أخيه عمرو بن العاص أمير مصر وولده الذي ضرب شابا قبطيا ظلما قائلا له: (خذها وأنا ابن الأكرمين), فأنصف سيدنا عمر القبطي من عمرو بن العاص وولده قائلا:" متى تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
(1/122)
كما لا يخفى عليكم قصة المرأة العجوز اليهودية التي ذكر أن عمرا بن العاص رضي الله عنه, هدم بيتها ليضمّه الى المسجد حيث دعت الحاجة الى ذلك, وكان قد أعطاها ثمنه كاملا, فشكت أمرها الى عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فأرسل الى عمرو بن العاص يأمره بأن يعيد للمرأة اليهودية بيتها, فأكبرت العجوز ذلك الموقف من عمر في تسامحه العجيب, فلم يكن منها الا أن أعلنت دخولها في الاسلام, ووهبت بيتها لبيت الله.
أيها الاخوة المؤمنون:
لم تكن هذه الروح الدافقة سارية في نفس سيّدنا عمر وحده بل كانت سجيّة كل من اعتنق الاسلام, فكان كل مسلم من مسلمي الصدر الأوّل بسلوكه ومواقفه نسخة واضحة من حقائق الاسلام, وتفسيرا بيّنا لروح التسامح فيه.
بل أقول, أيها الناس, ان مظاهر التسامح الاسلامي لم تتجلّ في حال المسلم فقط, بل كانت أظهر ما تكون في حال الحرب, حيث كانت وصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم لجنود الاسلام في القتال تفيض كلماتها بمطلق التسامح وغاية الرحمة الانسانية, فكان كما ذكر سيدنا عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما: اذا بعث جيوشه قائلا:" اخرجوا باسم الله تعالى, تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله, لا تغدروا, ولا تغلوا, ولا تمثلوا, ولا تقتلوا الولدان, ولا أصحاب الصوامع". وكما روى أنس رضي الله عنه: أنه عليه الصلاة والسلام قال:" انطلقوا باسم الله, وبالله, وعلى ملّة رسول الله, لا تقتلوا شيخا فانيا, ولا طفلا صغيرا ولا امرأة, ولا تغلّوا, وضمّوا غنائمكم, وأصلحوا, وأحسنوا, ان الله يحب المحسنين".
(1/123)
فانظروا أيها الناس, ولينظر معكم العالم أجمع الى هذا الموقف الاسلاميّ الرائع حتى من الأعداء, كيف ضرب الاسلام فيه أروع أمثلة السماحة والرحمة. ثم تأمّلوا في مقابل ذلك تلك الوحشيّة الكاسرة التي تمارسها الصهيونية العالميّة في فلسطين حيث تسفك دماء الأبرياء هناك بغير حساب, وتفتضح الأعراض, وتنتهك حرمة المقدّسات. لقد سجّل التاريخ وما زال يسجل أبشع الجرائم التي يرتكبها الصهاينة في حق اخواننا في فلسطين, فما نبأ صبرا وشاتيلا بسرّ, ولا قبلها مجازر دير ياسين وقبيّة بخبر تنساه مقلة الزمان, وما تزال القلوب تبكي دما حزنا على ضحايا مجزرة الحرم الابراهيهي في الخليل. فعطاء أعداء الانسانية بغي واجرام, وأمّا عطاء الاسلام فتسامح ووئام, وشتّان بينهما. في ظلّ الاسلام تسعد الانسانية وتحيا, وفي غيره تشقى وتفنى.
اللهم أحينا بالأمن والايمان, ومتّعنا بالسلامة والاسلام, واغفر لنا يا رحيم يا رحمن.
والحمد لله رب العالمين.
حرمة المسلم
الحمد لله علام الغيوب, والشكر له سبحانه مقلّب الأبصار والقلوب. وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه:{ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}, وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله, اتقوا ربكم, وأطيعوه, واذكروا قوله تعالى:{ يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا, واذكروا نعمت الله عليكم اذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا}.
أيها الاخوة المؤمنون:
(1/124)
لقد دعا الاسلام المسلم الى أن يعيش في مجتمعه حريصا على خير الناس محافظا على حرماتهم, مؤدّيا واجبه تجاههم في أقواله وأفعاله, رافعا يد الأذيّة عنهم, باسطا يد الرحمة والحب اليهم, جاعلا الصلاح بين الناس صبغة سلوكه, ومن أكرم شمائله. ولقد تجلّت هذه الدعوة صريحة في قوله تعالى:{وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان}, وفي قوله:{ انما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم}.
واعلموا أيها الاخوة المؤمنون, أن حرمة المسلم مهما كان شأنه في الناس تسمو عند الله تعالى على حرمة الكعبة التي يحج اليها المسلمون في كل عام, وتنحني عندها رقاب العباد, فلقد قال نافع: نظر عبدالل بن عمر رضي الله عنهما يوما الى البيت فقال: ( ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك).
فيا أيها الاخوة:
ازاء هذه المنزلة التي أولاها الله تعالى للمؤمن وجب على سائر المؤمنين في مجتمعهم أن يحرصوا على تكريمه وسعادته والمحافظة على حرمته وكف الأذى والشرّ عنه.
ومن أجل هذا حارب الاسلام الغيبة والنميمة والسخرية وفضح الأعراض والقتل بغير حق وأكل الأموال بالباطل والظلم وجميع مظاهر البغي والأذى التي تنتهك فيها حرمة المؤمن. فقال الله تعالى:{ يا أيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيرا منهن, ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب, بئس الاسم الفسوق بعد الايمان, ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون}.
فالهزء بالمسلم والسخرية منه حرام, ومن فعل ذلك فقد تعدّى حدود الله, وكان منتهكا حرمة من حرمات المسلمين, واستحق بذلك عذاب الله وسوء المصير.
(1/125)
وكلكم يذكر غضب رسول الله صلى الله عليهه وسلم من سيدنا أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عندما سمعه ينادي بلالا رضي الله عنه قائلا: (يا ابن السوداء), فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" انك امرؤ فيك جاهلية ليس لابن البضاء على ابن السوداء فضل الا بالتقوى", فلم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سيدنا أبي ذر أن يعيّر أخاه المسلم بلالا بلونه, وغضب من أجل ذلك غضبا احمرّ له وجهه, فرجع سيدنا أبو ذر الى نفسه يعنّفها ووضع وجهه على الأرض وأقسم ألا يرفعه على الأرض حتى يطأه بلال بقدمه.
أيها الاخوة المؤمنون:
نظرا الى ضرر الغيبة وكونها جريمة اجتماعية خطيرة يتسبب عنها تفرّق وحدة المسلمين, وفساد قلوبهم, وتمزق روابطهم, فقد حاربها الاسلام محاربة عنيفة, وتوعّد أولئك الذين ينتهكون حرمة المسلمين باغتيابهم ونشر عيوبهم, فقالتعالى:{ يا أيها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيرا من الظن انّ بعد الضن اثم, ولا تجسّسوا ولا يغتب بعضكم بعضا...}.
فمن أقبح صور الايذاء أن يغتاب المسلم أخاه المسلم, فلقد جاء في حديث الاسراء قال عليه الصلاة والسلام:" لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم, فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم".
وعندما قالت عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم( حسبك من صفية كذا ومذا) تعني قصيرة قال لها عليه الصلاة والسلام:" لقد قلت بكلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته", أي غيّرت رائحته لشدّة نتنها.
وأما عن واجب المسلم حين يسمع غيبة أخيه, فهو أن يرد عنه ويحفظ حرمته حيث قال عليه الصلاة والسلام:" من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة".
(1/126)
وحرّم الاسلام التجسس على المسلمين وتتبّع عوراتهم وكشف أستارهم, فمن فعل ذلك ارتكب شرا وأتى معصية وانتهك حرمة يستحق عليها ما جاء في الحديث حيث قال عليه الصلاة والسلام:" يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الايمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم, فانه من اتبع عوراتهم يتبع الله عز وجل عورته, ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته".
فمن اعتدى على عرض المسلم, وهتك ستره, توعّده الله بعذاب. وما شرع في الاسلام حدّ الزنا والقذف الا بدفع الحرص على أعراض العباد وصون حرماتهم... ولقد حدّثنا التاريخ كيف أن الرسول عليه الصلاة والسلام أجلى يهود بني قينقاع عن المدينة عندما فضحوا عرض امرأة مسلمة, وهتكوا سترها, فكيف من أدمن فضح الأعراض وانتهاك الحرمات؟
وكذلك أيها الاخوة, حرّم الاسلام خذلان المسلم وترك نصرته مع القدرة على ذلك, فقال عليه الصلاة والسلام:" ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته, وينتقص فيه من عرضه الا خذله الله عز وجلّ في موطن يحب فيه نصرته, وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته الا نصره الله عز وجلّ في موضع يحب نصرته".
بل أقول, معشر الاخوة: ان من أشار الى مسلم بحديدة يتهدده بها قال فيه عليه الصلاة والسلام:" فان الملائكة تلعنه حتى يدعه, وان كان أخاه لأبيه وأمّه".
وقال عليه الصلاة والسلام في حق من اعتدى على مال أخيه:" أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة", وقال:" ولو كان قضيبا من أراك".
فالمسلم الحق من أمنه الناس على دمائهم وأعراضهم وأموالهم وتمثل في سلوكه قوله عليه الصلاة والسلام:" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".
فيا أيها المسلمون, احفظوا دماءكم, واحما أعراضكم, وصونوا حرماتكم, وأنتم تذكرون قول المصطفى عليه الصلاة والسلام:" كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه", وبهذا تنصرون وتجبرون.
(1/127)
اللهم اجعلنا ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه واجعلنا ممن يقدّرون حرمة المسلم حق قدرها, ويستقيمون على منهجك القويم.
والحمد لله رب العالمين.
خطر الانحراف الخلقي على الفرد والأمّة
الحمد لله حمد اليقين, والشكر له سبحانه على نعمة الدين, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه المبين:{ يا أيها الذين ءامنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان, ومن يتّبع خطوات الشيطان فانه يأمر بالفحشاء والمنكر, ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكّى منكم من أحد أبدا ولكنّ الله يزكي من يشاء, والله سميع عليم}, وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
أما بعد:, فيا عباد الله, اتقوا ربكم, واستقيموا على هديه, وراقبوه في سرّكم وعلانيّتكم, فلقد خاطبكم بقوله:{ يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وأنتم مسلمون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
لا ريب في أن سلامة القاعدة الأخلاقية في حياة الأمة هي السبيل الى استقرارها واستمرار وجودها, وهي مناط قوتها وتقدمها وسيادتها, وحسبنا في ذلك كلام رب العالمين حيث قال في وصف أمة الاسلام:{ كنتم خير أمة أخرجت للناس الأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}.
ولا يمون ضياع الأمة ودمارها الا بفساد القاعدة الأخلاقية في حياتها, فاذا تفسّخت الأخلاق, وانحرف سلوك الأفراد, وتفجّر بركان الشهوات, وسيطرت الأهواء والنزوات على النفوس, أشرفت الأمّة على الهلاك, وآذنت بالبوبر والزوال. وهذا ما أشار اليه سبحانه وتعالى بقوله:{ واذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمّرناها تدميرا}.
وقمّة الانحراف الخلقي تكون في انتشار الفواحش ما ظهر منها وما بطن, حيث يفضي شيوعها بين أفراد المجتمع الانساني الى العواقب الوخيمة والنتائج المخزية والارتكاسات الخطيرة في حياة الشعوب والأمم.
(1/128)
وحيث أصبحنا نعيش في زمان تتصاعد فيه أمواج الفساد, وتتشتد فيه تيارات الفحشاء والمنكر أجد من واجبنا أن نستيقظ على الحقائق, وننتشل أنفسنا من ظلمات الغفلات بفضل الصيحات المحذرة والتذكرة الحسنة والعظة الرشيدة التي نهتدي بها الى الحق, ونتجنّب الزيغ والباطل. فأعيروني أيها الناس انتباهكم, وامنحوني عقولكم وأذهانكم, وخذوا كلامي بغاية الجد حيث لا ينفع معه الهزل, ولا يجدي التغافل, ونحن نرى كثيرا من شبابنا وفتياتنا يسقطون صرعى في أتون الفواحش المستعرة, وحضيض الرذائل المنتشرة.
اعلموا أيها الناس: أن خطر الفواحش والمنكرات يتمحجور على صعيد انتشارها في ثلاثة محاور, يتحقق تدميرها دمار الأمّة وهلاكها. وهذه المحاور الثلاثة هي: أولا الصحة, وثانيا الأخلاق, وثالثا الأسرة والمجتمع.
أما المحور الأوّل, فقد أعلن العلماء وكبار الأطباء في العالم أن انتشار الفواحش والممارسات الجنسية المنحرفة يورث أخطر الأمراض وأشدها فتكا بصحّة المنحرفين, واليكم تصريح الدكتور جون بيستون حيث قال: ( ان القرائن التي جمعت من عدّة دراسات تدل على أن الأمراض الجنسية تنتج معظمها عن العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج}.
واني أقول, أيها الاخوة, هنا: ان من أخطر الأمراض فتكا بجسوم الناس وأشدها تهديدا لحياة البشرية في أيامنا هذه مرض الايدز الذي أعلن العلماء بكل صراحة أنه نتيجة حتميّة للمارسات المحرّمة, وأنه أحد مفرزات انتشار الفواحش والمنكرات وانحراف أخلاق المجتمعات. وهو مرض خطيرانعقدت من أجله المؤتمرات, وألفت فيه كتب, وما تزال وسائل الاعلام العالمية حتى اليوم تنشط في تحذير الناس من عواقبه الوخيمة, وتدعو الى الحيلولة دون انتشاره, وذلك بالقلاع عن الممارسات الجنسيّة المحرّمة وتجنّب مواقع الرذيلة والفحشاء, وان المجتمعات الأمريكية والأوروبيّة اليوم تعيش حالة رعب شديد من هول هذا المرض الفتاك الذي لم ينجح فيه دواء, فذكر
(1/129)
أحد التقارير أن في لوس أنجيليس وحدها يوجد واحد من كل 9 أشخاص مصاب بالأيدز, وجاء في الاحصائيات أن عدد المصابين بمرض الأيدز منذ اكتشافه حتى سنة 1996 يربو على (27) مليون شخص وأن عدد المتوفى منهم بهذ المرض يزيد على (5) ملايين. وجاء في نتائج أبحاث المؤتمر الدولي الحادي عشر للأيدز الذي عقد في (فانكوفر) بكندا أن هذا المرض ما زال ينتشر بلا هوادة, وأن نسبة المصابين به في أنحاء العالم يوميا (8500), أي بمعدّل خمسة أشخاص كل دقيقة.
أيها الاخوة المؤمنون:
ان هذا المرض العضال الذي يجتاح المجتمعات الماديّة المرتكسة في حمأة الشهوات والذي يتسلل الى أقبية الرذيلة ومواخير المنكر والفجور, ويرتع في أحضان الفةاحش والمنكرات, يذكّرنا بتحذير المصطفى عليه الصلاة والسلام في قوله:" لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها الا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت على أسلافهم الذين قضوا", فالرذيلة والفواحش قضاء على الجسم البشري واجهاز على صحّته وتدمير لقوّته وشلّ لحركته. والمجتمع الانساني الذي تنتشر فيه الأمراض, ويكثر فيه أصحاب العاهات وذوو الأجسام العليلة هو مجتمع مشرف على الهلاك, لا يقوى على النهوض, وليس له نصيب تقدّم في رحاب الحياة.
وأما عن المحور الثاني فأقول, معشر الأخوة: ان مرتكب الفحشاء والمنكر والممارس للرذيلة والاعلاقات المحرّمة تهون عنده جميع القيم والمبادئ الأخلاقية والمثل العليا, وتسقط في اعتباره موازين الشرف والفضيلة, ويتحلّل من جميع قيودها وضوابطها, ويستبيح لنفسه ممارسة شتى الانحرافات الأخلاقيّة, فيستحل بموجب ارتكابه الفحشاء والمنكر: السرقة وهضم الحقوق والغش والخيانة والقتل, ولا يبالي بأي قيمة أخلاقيّة عليا, ولا بأي وضع انساني كريم, فتجده منحطّا في فكره وسلوكه وممارساته الى أدنى مستويات الانحطاط, ولا ريب في أن الأمة تضيع بضياع أخلاق أفرادها, وتفسد بفساد سلوكهم, ورحم الله شوقي حيث قال:
(1/130)
وانما الأمم الأخلاق ما بقيت فان همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وأضيف الى ذلك أ، فساد القاعدة الأخلاقية في حياة الأمة تفضي بها الى الهزائم المتلاحقة, ودونكم دليلا على ذلك هزيمة الروم في معركة اليرموك, فعندما لقي هرقل منهزمتهم في أنطاكية, وسألهم عن سبب هزيمتهم المنكرة أمام المسلمين أجاب شيخ منهم قائلا: أنا أخبرك أيها الملك من أين تؤتون. قال أخبرني. قال: لأن القوم يصومون بالنهار, ويقومون بالليل, ويوفون بالعهود, ويأمرون بالمعروف, وينهون عن المنكر, ولا يظلمون أحدا, ويتناصفون بينهم, ومن أجل أنّا نشرب الخمر, ونزني, ونرتكب الحرام, وننقض العهد, ونغضب ونظلم, ونأمر بما يسخط الله, وننهى عما يرضي الله, ونفسد في الأ{ض.
فالمعاصي والفواحش وجميع صنوف الرذيلة والتحلل من القيم الأخلاقية ةالفضلة من أكبر عوامل هزيمة الشعوب وخسرانها.
وأما عن المحور الثالث, فأقول, أيها الاخوة: ان انتشار الفواحش والمنكرات في صفوف الرجال والنساء سبيل الى التفلّت من تبعات مسؤولية بناء الأسرة ورفع قواعد المجتمع الانساني, اذ يؤثر اللاهثون خلف غرائزهم الجنسية المتهالكون على مواقع الفحشاء حياة الفوضى, فلا يفكّرون بالزواج, ولا يعنيهم ما يترتب عليه من بناء الأسرة, وما ينجم عن بنائها من المفاهيم والقيم والروابط الانسانية الكريمة, كالأبوّة, والأمومة, والبنوّة, والأخوّة, وتربية الأولاد, ومعاشرة الأزواج بالمعروف, وصلة الأرحام, ومعاني الشرف, والعرض والفضيلة.
أيها الاخوة المؤمنون:
لقد أحس رجال الفكر وعلماء الاجتماع وكبار القادة في العالم بخطر التهالك على مستنقعات الفحشاء والمنكر, وأثره البالغ في تحطيم الروابط الاجتماعية, وتقويض دعائم الأسرة, ومحق النسل الانساني, فارتفعت أصواتهم منذرة محذرة أفراد شعوبهم في كل مكان.
(1/131)
يا معشر المؤمنين: واجبنا أن نتنبّه لخطر الفحشاء والمنكر, وأن نسارع الى حماية شبابنا وفتياتنا وتحصينهم من شرّ الانحراف الخلقي بتقوى الله وضوابط شرعه والاستقامة على منهج طاعته.
فبادروا بهمّة الى هذا الواجب الكبير, وتداركوا قاعدتكم الأخلاقيّة قبل انهيارها, فالأمر لا يحتمل التأجيل.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
والحمد لله رب العالمين.
المخدرات سبيل الضياع النفسي
الحمد لله خالق العباد, والشكر له سبحانه على نعمة الهدي والرشاد, وأشهد أن لا الاه الا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه المبين:{ فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لما حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا* قال كذلك أتتك آياتنا فنيستها وكذلك اليوم تنسى}, وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله, أوصيكم بتقوى الله في كل حال, وأحثكم على طاعته في الأقوال والأفعال, أعظكم بقوله الحق حيث قال:{ يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وأنتم مسلمون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
ما أكثر أسباب الضياع النفسي في هذه الأيام! وما أكثر الضائعين نفسيا في خضم هذه الحياة! وما أفدح النتائج وأسوأ العواقب التي ينتهي اليها هؤلاء الضائعون, وتمنى بها مجتمعاتهم وأممهم!
انها والله لمأساة الانسان في هذا العصر المتطوّر الذي يتعاظم فيه البنيان المادي, ويتضاءل فيه الجانب الروحيّ.
وفي خطبتنا اليوم سوف نلقي الضوء على بعض وسائل الضياع النفسي التي أخذت تعصف بالانسان, وتلقيه جثة هامدة على هامش الحياة بعد أن تستأصله فكريا وروحيا ونفسيا واجتماعيا واقتصاديا.
وحسبنا أن نذكر هنا من تلك الوسائل المدمّرة أعتاها وأشدّها فتكا وتميرا ألا وهي المخدرات والمسكّرات.
(1/132)
ولا ريب أيها الاخوة المؤمنون, في أن الحديث عن هذه السموم الخطيرة حديث عن واقع مرير يمرّ به انسان هذا العصر في نفسه ومجتمعه, حيث يقع قطاع كبير منه فريسة هذه السموم الفتاكة التي أوشكت أن تنتشر في صفوف الكبار والصغار انتشار النار في الهشيم في شتى بلد العالم, حتى بلاد العرب والمسلمين لم تعد بمأمن من أخطارها الفادحة, اذ يقع كثير من شباب هذه الأمة وفتياتها في مباءتها المدمّرة.
ولقد اتسع نطاق الحديث عن المخدّرات والمسكرات والتحذير من أخطارها وتأثيراتها السلبية على الانسان في عقله, وفي نفسه, وفي جسمه, وفي مجتمعه, وفي سلوكه وأخلاقه, بل وعلى حياته كلها وجودا وعدما.
فجاء في تقرير المؤسسات والجمعيّات العلميّة والصحة العالميّة أن للمخدرات تأثيرا خطيرا في تدمير الطاقة الجسميّة والعقليّة في الانسان, فهي تضرب مراكز المخ العصبيّة, وتصيب العقل بالضعف وفقد القدرة على التفكير والتركيز, وتخرّب الجملة العصبيّة, وتؤدي الى الهلوسة والجنون والانحطاط البدني, وتقلل من مناعة الجسم ضد الفيروسات والفطريات الى جانب تخريبها لعدد من الأجهزة في الجسم البشري.
وأما عن الآثار النفسيّة فحسبنا أن نعلم أن تعاطي تلك السموم يؤدي الى التوتر والاكتئاب واضطراب المزاج والارتكاسات النفسيّة المستمرّة وارتفاع نسبة الأمراض العصبيّة الخطيرة التي تفضي غالبا بأصحابها الى الانتحار.
وأما عن الآثار الاجتماعيّة, فانها تؤدي الى اضطراب الوضع الاجتماعي للمدمن, وتفكك أسرته وضياع أطفاله وكثرة الانحرافات السلوكيّة والأمراض النفسيّة فيما بينهم.
وأما عن الآثار الاقتصادية فحسبنا أن نعلم أن مدمن المخدرات ينفق نسبة كبيرة من دخله على تحصيلها, فينعطف ذلك بالسوء على أفراد أسرته في المسكن والمأكل والنواحي الصحيّة والتعليمية وسائر أمور العيش.
(1/133)
وأما عن الآثار السلبية التي تخلّفها المخدرات في السلوك والأخلاق, فيكفيك أن تعلم أنها غالبا ما تسوق مدمنيها الى ارتكاب أبشع الجرائم الخلقيّة من نصب واحتيال وسرقة وخيانة وتزوير, بل كثيرا ما تكون سببا في ارتكاب جرائم ااقتل وافتراس الأبرياء من الناس الى جانب كونه دافعا قويا الى ممارسة الرذيلة والفجور وانتهاك الأعراض والانغماس الصارخ في مستنقعات الشهوات والفسق وتعاطي الزنا على أوسع نطاق. وما أكثر ما نسمع عن الضياع والدمار الخلقي الذي ينتاب مجتمعات الشباب والفتيات المتهالكين على المخدرات والمسكّرات في كثير من بلاد العالم, فنقرأ عن آلاف المراهقين والمراهقات الذين يقضون لياليهم في أقبية المخدّرات في بلاد الغرب, ونقرأ عن الجرائم والمخازي التي يرتكبونها وعن المصائر والناهايات التعيسة الخاسرة التي ينتهون اليها.
الأمر الذي دفع معظم دول العالم الى اصدار القوانين لمحاربة تلك السموم الفتاكة وملاحقة تجارها فارضة في حقهم أقصى العقوبات.
أيها الاخوة المؤمنون:
لقد وقف الاسلام من ترويج المخدرات وممارسة تعاطيها موقفا صارما حيث حذر من تناولها, وتوعّد عليه بشديد العقاب, لأنها من الخبائشث بل هي من أشدّها فتكا بالعقول والأجسام. ولكم أن تقرؤوا أيها الاخوة, في كتاب الله ما يحذر من تعاطي تلك السموم القاتلة وكل ما يؤدي الى تخريب الجسم البشري وتدمير الطاقة الانسانيّة. ومن ذلك قول الله الله تعالى:{ ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة}, والمخدّرات من أقبح التهلكات, وقوله:{ ولا تقتلوا أنفسكم ان الله كان بكم رحيما}.
وفي تعاطي المخدرات قتل للجسم والعقل والكيان الانساني كله, وقوله:{ ويحلّ لهم الطيّبات ويحرّم عليهم الخبائث}, والمخدّرات من أشد الخبائث ضررا وأعتاها خطرا.
(1/134)
وكذلك في السنة الشريفة لكم أن تقرؤوا ان شئتم قوله عليه الصلاة والسلام:" لا ضرر ولا ضرار", والمخدّرات عين الضرر الذي ينبغي الحذر منه. وقوله:" من قتل نفسه عذب في نار جهنّم", وهل ينكر أحد أن المخدّرات سموم فتاكة بالعقول والجسوم؟
أيها الاخوة المؤمنون:
يجب أن تعلموا أن من أهم الأسباب الداعية الى انتشار هذه السموم في كثير من الناس هو الخواء الروحيّ, والارتكاس الصارخ في حمأة المادة ومستنقعات الشهوات, ولا سبيل الى انقاذ الغارقين في جحيمها الا بانتشالهم من أوحال الشر ومنزلقات العصيان, والارتقاء بأرواحهم الى أجواء الهداية والايمان وطهر الحياة الانسانية الراشدة في ظل مراقبة الله سبحانه.
فتداركوا يا معاشر الآباء وأولياء الأمور, شباب أمتنا المسلمة وفتياتها, اغرسوا في أعماقهم الخشية من الله, وازرعوا في قلوبهم الثقة بالله, وصعّدوا نفوسهم في معارج العبادة, وأدّبوهم بأدب الاسلام, وربّوهم تربية القرآن, وحصّنوهم بالموعظة الرشيدة والتذكرة البليغة, حتى يسلموا من شرّ النخدرات وغيرها من وسائل الفساد.
اللهم احفظ أجيال أمتنا الاسلاميّة من غائلة الفساد وشرك المخدّرات انّك على ما تشاء قدير وبالاجابة جدير.
والحمد لله رب العالمين.
التقوى (حقيقتها وثمرتها)
الحمد لله نحمده, ونستعين به ونستهديه ونستغفره, ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضلّ له, ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له. وأشهد أ، سيّدنا محمدا عبده ورسوله, وصفيّه وخليله. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد: فيا أيها الاخوة المؤمنون, أوصيكم ونفسي المخطئة بتقوى الله, وأحثكم على طاعته, وأذكّركم قوله الحق:{ يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وأنتم مسلمون}.
يا أيها الاخوة المؤمنون:
(1/135)
ان لنا في القرآن الكريم عظة رشيدة وتذكرة بليغة, وحسبنا منها في خطبتنا اليوم قوله سبحانه وتعالى:{ يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد, واتقوا الله, ان الله خبير بما تعملون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
ان هذه الآية الكريمة تضعنا أمام أهم قضايا العبودية الخالصة لله رب العالمين.. انها التقوى. وهل هناك سبيل خير من تقوى اللهيكون فيه الخلاص من عذابه, والنجاة من أهوال يوم القيامة؟ هل سفينة خير من التقوى يعبر بها العباد خضمّ الحياة, فيصلون الى جنة عرضها السموات والأرض؟
أينما تلفت الانسان في حياته, وفي أي اتجاه سار, فانه لن يجد كالتقوى طريقا الى الله, فهي وصيّته الخالدة للسابقين واللاحقين حيث قال:{ ولقد وصيّنا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وايّاكم أن اتقوا الله}.
وهي سبيل الفوز بجنّات النعيم اذ قال تعالى:{ وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين}.
وهي ل\الميزان الضابط لقبول الأعمال كما قال الله عز وجل:{ انما يتقبّل الله من المتقين}.
وهي التي لا يقبل الله غيرها, ولا يرحم الا أهلها, ولا يثيب الا عليها, حيث قال سبحانه:{ ورحمتي وسعت كل شيء, فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
هل تدرون ما هي حقيقة التقوى؟
انها أن يجعل العبد وقاية بينه وبين عذاب الله, ولا تتأتى هذه الوقاية الا بتنفيذ منهجه سبحانه, وتطبيق أحكام دينه في واقع الحياة. فاذا استقام العبد على أساس هذا المنهج, بأن أدّى فرائض الله واجتنب نواهيه, وكانت جميع أحواله منسجمة مع هدي ربه كان من المتقين. ذلك هو معنى التقوى الحق التي أمرنا الله بها في قوله:{ يا أيها الناس اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وأنتم مسلمون}. ولما سئل سيّدنا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن المراد من تقوى الله الحق, قال: أن يطاع فلا يعصى, وأن يذكر فلا ينسى, وأن يشكر فلا يكفر.
(1/136)
فمن ضيّع فرائض الله, وتعدّى حدوده, وانتهك حرماته, واستخف بشرعه, وأدبر عن هديه, وتنكّر لنعمه وفضله, كام من الخاسرين, ولم يك من التقوى في شيء لقوله عليه الصلاة والسلام:" ان الله يقول يوم القيامة: أمرتكم فضيّعتم ما عهدت اليكم فيه, ورفعتم أنسابكم, فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم, أين المتقون؟ ان أكرمكم عند الله أتقاكم".
فليست التقوى فقط قيام ليل وصيام نهار والتخليط فيما بين ذلك, وانما التقوى أداء ما افترض الله, وترك ما حرّم الله, فمن فعل هذا باخلاص وقف على حد التقوى التي هي سبيل نجاته من عذاب الله يوم القيامة.
وهذا ما حدا بالحسن البصري رضي الله عنه الى أن يقول: ( ما ضربت ببصري, ولا نطقت بلساني, ولا بطشت بيدي, ولا نهضت على قدمي, حتى أنظر أعلى طاعة الله أم على معصية؟ فان كانت طاعة تقدمت, وان كانت معصية تأخرت".
ولقد جاء في الحديث القدسي ما يوضح مراد الحسن البصري رضي الله عنه في وصف نفسه مع تقوى الله حيث يقول سبحانه:" وما تقرّب اليّ عبدي بشئ أحب اليّ مما افترضته عليه, ولا يزال عبدي يتقرّب اليّ بالنوافل حتى أحبه, فاذا أحببته, كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها, ولئن سألني لأعطينّه, ولئن استعاذني لأعيذنّه".
ومن كان الله معه ببصره, غضت عينه عن محارم الله, ومن كان الله معه بلسانه, كف لسانه عن الغيبة والكذب وقول الزور والبهتان, ومن كان الله معه بسمعه, رفضت أذناه سماع المنكر والباطل, ومن كان الله معه في جميع كيانه, لم يقبل جوفه الحرام, ولم تسع قدماه الى المعاصي, ولم تبطش يداه ظلما, ولم تمسّ حراما, ويستقيم عقله على الحق, ويستنير قلبه بالهدى.
(1/137)
فهنيئا لمن آمن واتقى, وأصاح ما بينه وبين ربه, واستقام على هديه, وجعل تقوى الله أكرم ما أسرر, وأزين ما أظهر, وأفضل ما ادّخر, طمعا بأن يمون من الفئزين ومن أولياء الله الصالحين الذين وصفهم ربنا عز وجلّ بقوله:{ ألا انّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
فالزموا أيها المؤمنون تقوى الله وراقبوه مراقبة عبد يعلم أنه يراه, واعلموا أنكم اليه ترجعون وعلى أعمالكم ستحاسبون في يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين.
والحمد لله رب العالمين.
نعمة الرزق
الحمد لله العليّ الخلاق, والشكر له سبحانه مقسّم الأرزاق, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له, ,اشهد أم سيدنا محمدا رسول الله, اللهم صل وسلّم وبارك على قرّة أعيننا محمد وعلى آله وصحبه في الغروب والاشراق.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله في جميع الأحوال, وأكثروا من ذكره في الغدوّ والآصال, فلقد بشّر سبحانه عباده المتقين حيث قال:{ ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب}.
أيها الاخوة المؤمنون:
في زحمة الصراع الدائر بين الخلق على موارد الرزق, وفي زحمة نتائج هذا الصراع الطاحن من أزكات نفسيّة وأمراض عصبيّة واستسلام رخيص لليأس والقنوط, والهموم والشقاء, والتمزق والضياع, أجد من الضرورة بمكان أن أتحدّث في خطبتي اليوم عن قضيّة تتضمّن الدواء الناجح والعلاج النافع لتلك النتائج الخاسرة التي أسفر عنها ذلك الصراع المقيت.
وهذه القضيّة تعدّ من قضايا الايمان الهامّة وركائز الحياة الانسانيّة الآمنة, التي على أساس الايمان المطلق لله ربّ العالمين. هل تدرون ما هي هذه القضيّة التي سوف تكون محور حديثنا؟ انها قضيّة الايمان بالرزق المقسوم.
أيها الاخوة المؤمنون:
(1/138)
اعلموا أن الرزق المقسوم آية من آيات الله سبحانه وسرّ من أسراره قام دليلا ساطعا على تفرّده سبحانه بالألوهيّة والربوبيّة, وفي مضمار الحديث عن هذه الآية الكونية الجليلة التي تملأ حياتنا, وتغمر محيط المخلوقات من حولنا أقول:
أيها الاخوة المؤمنون:
لقد بيّن الله لنا في محكم تنزيله أنه جعل لنا الأرض مهدا تستقرّ فيه حياتنا, ويستمرّ على أديمه وجودنا فقال جلّ ذكره:{ والأرض وضعها للأنام}, وقال:{ ألم نجعل الأرض مهادا}, ومن مقتضى كون الأرض مهدا لحياة الانسان وسائر المخلوقات أنه أودع فيها ما يستدعي استمرار هذه الحياة من ألوان الرزق ووسائل العيش, وأشار سبحانه الى أن ما أودعه من الأرزاق وطرائق المعاش كاف للخلق أجمعين فقال تعالى:{ ولقد مكّناكم في الأرض وجعل لكم فيها معايش, قليلا ما تشكرون}, وقال:{ وان تعدّوا نعمت الله لا تحصوها}.
معشر المؤمنين:
حيث خلق سبحانه الخلق, وأوجدهم في هذه الحياة, وساق لهم أرزاقهم, أعلن أنّه ليس لأحد سلطان على هذا الرزق الا الله, ولخّص هذه القضيّة الايمانيّة بقوله:{ وما من دابّة في الأرض الا على الله رزقها}, فالرزق بيد الله وحده القائل في صرسح قرآنه:{ الله الذي خلقكم ثم رزقكم}, بل أقول أيها الاخوة المؤمنون: لقد حدّثنا الله سبحانه في كتابه العزيز عن الرزق في مئة وثلاثة وعشرين موضعا ما فيها موضع واحد صرّح فيه بأن الرزق بيد غيره أو أن لأحد من خلقه سلطان عليه, بل أعلمنا أنّ الرزق غيب من غيبه سبحانه فقال:{ وفي السماء رزقكم وما توعدون}, وبيبّن أنّ الرازق يقتضي أن يكون خالقا حتى تصحّ نسبة الرزق اليه, وأمّا المخلوق فلا يصحّ في العقل تصوّره أن يكون رازقا لاتصافه بالمخلوقيّة, فمن فقد القدرة على الخلق فقد القدرة على الرزق.
ولقد أكّد الله تعالى هذه الحقيقة في معرض تحدّيه للمعاندين, فقال:{ هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض}.
(1/139)
انظر أخي المؤمن: قال ربك سبحانه وتعالى:{ هل من خالق}, ولم يقل: هل من أحد أو هل من مخلوق, كأنه سبحانه يقول لنا: اعلموا أن الرازق لا يكون الا خالقا.
وحيث قام الدليل على أنه لا خالق الا الله, فتصبح القضيّة قي وجهها الصحيح لا رازق الا الله.
وقال سبحانه متحديّا من يعبد غيره من الآلهة المزعومة التي لا تقوى على شيء أن لو أمسك الله الرزق عن عباده, هل تستطيع هذه الأوثان أن ترزقهم من دونه؟ { أمّن هذا الذي يرزقكم ان أمسك رزقه, بل لجوّا في عتوّ ونفور}, كلا لن تفلح تلك الآلهة الباطلة في رزقهم, لأنها مخلوقة تحتاج لمن يسعى عليها, والاله الحق هو الذي يطعم ولا يطعم, هو الذي يحتاجه كل شيء ولا يحتاج الى شيء, هو الذي قال عن نفسه:{ ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * ان الله هو الرزاق ذو القوّة المتين}, وهو الذي خاطب عباده بقوله:{ يا أيها الناس أنتم الفقراء الى الله, والله هو الغنيّ الحميد}.
أيها الاخوة المؤمنون:
اذا تكفّل الله تعالى بأرزاق الخلق, ولم يكل أمر ذلك الى أحد سواه, اقتضى ذلك ألا يجزع الانسان على لقمة عيشه, والا يقلق على رزقه, ولو ضيّقت عليه منافذ الكسب وحيل بينه وبين رزقه, عليه أن يؤمن أن ما قسم الله من الرزق لا بد بالغه, ولو وقفت الدنيا كلها في وجهه, ولقد أكّد رسول الله صلى الله عليه وسلّم الحقيقة عندما قال:" ان روح القدس نفث في روعي أ، نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها, ألا فاتقوا الله وأجملوا فيالطلب, ولا يحملاكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله فانه لا يدرك ما عنده الله الا بطاعته".
بل أقول أيها الاخوة:
(1/140)
ان الله كتب رزق المخلوق في الحياة قبل أن يولد, فلقد قال عليه الصلاة والسلام في حديثه عن خلق الانسان وتكوينه في رحم أمّه:" ثم يرسل الروح فينفخ فيه الروح, ويؤمر بأربع كلمات, يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد}. فلماذا يفزع الانسان على لقمة عيشه ويسير من أجلها في الباطل والحرام, وهو يعلم أنه لن ينال أكثر مما كتب الله له من الرزق؟ فيجبر الرجل زوجته على تعاطي حبوب منع الحمل أ, على الاجهاض خشية انجاب الأولاد بحجّة عجزه عن اطعامهم ورعاية شؤؤنهم؟ أقول لهذا الانسان يكفيه أن يقرأ قوله تعالى:{ ولا تقتلوا أولادكم خشية املاق نحن نرزقهم وايّاكم}, وحسبه أن يقرأ في قصّة مريم قول ربّ العزة عز وجلّ:{ وكفّلها زكريّا, كلما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقا, قال يا مريم أنّى لك هذا, قالت هو من عند الله, ان الله يرزق من يشاء بغير حساب}, فالله وحده سبحانه المتكفّل الحقيقي بأرزاق خلقه, وأما كفالة العباد على بعضهم فهي كفالة صوريّة ظاهريّة. فليطمئن الانسان على رزقه فهو بيد من خلقه, ولن يضيع مخلوق في ظلّ رعاية خالقه سبحانه الذي قال:{ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا}.
فيا أيها الاخوة المؤمنون التمسوا أرزاقكم في مسالك الحلال, واجتنبوا الحرام, واكمئنوا فلن تبلغوا أكثر مما كتب لكم من الرزق, ولن يفوتكم منه ذرّة.
اللهم ألهمنا رشدنا, وارزقنا طيّبا, واستعملنا صالحين.
والحمد لله رب العالمين.
فضل الانفاق في سبيل الله
الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده ويدفع نقمه.
وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله خير نبيّ اصطفاه ورحمة للعالمين.
اللهم صل على سيدنا محمّد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغرّ الميامين, وسلّم تسليما كثيرا.
(1/141)
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله, وراقبوه في سرّكم وعلانيتكم, واسلكوا سبيل النجاة من عذابه بالنفاق ابتغاء وجهه الكريم حيث قال سيّد المرسلين عليه الصلاة والسلام:" اتق النار ولو بشق تمرة".
أيها الاخوة الامؤمنون:
لقد مجّد الاسلام الانفاق في سبيل الله, وجعله شعبة من شعب الايمان وبرهانا على مدى صدق العبد مع ربّه وحسن صلته به وتجرّد قلبه من علائق الدنيا وماديّات الحياة, وتفرّغه لطاعة ربه, لهذا قال عليه الصلاة والسلام:" والصدقة برهان".
فيتحقق بالانفاق في سبيل الله ثمرتان عظيمتانفي حياة العبد المنفق: أمّا الأولى فهي في اطار علاقته بالله سبحانه, حيث يعبّر العبد بالانفاق عن تجرّده الكامل لله عز وجل وانقطاع قلبه عن روابط الأرض الفانية, وفي قمّتها رابطة المادة والمال, التي نشهد آثارها المدمّرة في كثير من حياة الناس الذين خضعوا لسلطانها, فآثروها على الآخرة الباقية, حيث ألهتهم أموالهم ودنياهم عن طاعة الله رب العالمين, فأضحوا بذلك من الخاسرين, شأن قارون الذي بات مثلا لمن طغى على قلبه حب المال فأنساه ذكر الله.
واقرؤوا ان شئتم قول الله عز وجلّ:{ فخرج على قومه في زينته, قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون انه لذو حظ عظيم * وقال الذين أوتو العلم ويلكم ثواب الله خير لمن ءامن وعمل صالحا, ولا يلقّاها الا الصابرون * فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين}.
أما الثمرة الثانية فهي في اطار علاقة العبد بالناس, اذ يمون الانفاق في سبيل الله سبحانه عاملا على توثيق الروابط بين أفراد المجتمع, فهو تعبير صادق عن شيوع الحب بين المؤمنين, وحدب بعضهم على بعض.
(1/142)
ففي الانفاق يشعر الفقير بمدى حرص الغني على قضء حوائجه والعناية بشأنه. كما يشعر الغني بمدى واجبه تجاه اخوانه المؤمنين, فتتلاقى القلوب على الحب, وتجتمع على الألفة في اطار ذلك التباذل الذي لا يبتغي به المنفقون غير وجه الله تعالى.
وبهذا تتكشف حقيقة جليلة عن حقائق الاسلام التي تعلن عن نهضته الاصلاحيّة في واقع الحياة, فيعلم الناس أن هذا الدين الخالد ما جاء ليهبط بالانسان الى الحضيض, وليقذف به الى هامش الحياة ليعيش في قبور الفقر والفاقة, ولم يأت ليزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرا, وانما جاء ليحقق التوازن في حياة الخلق حتى تستقيم أمورهم, ويصلح معاشهم. جاء ليجمع الناس على مائدته الخالدة, فيكوننوا في ظلّه سواء لا فوارق بينهم الا بالتقوى. جاء ليسمو بالفقراء الى منازل الأغنياء, ثم يقول لهم: هكذا يجب أن تعيشوا مع بعضكم متعاطفين متحابين متعاونين متباذلين, لتستوجبوا بذلك محبّة الله تعالى لكم الذي قال:" وجبت محبتي للمتحابين فيّ. وجبت محبتي للمتباذلين فيّ".
ولتكونوا يوم القيامة في الجنة اخوانا على سرر متقابلين.
من أجل هذه مدح الله الانفاق في سبيله وحضّ عليه, وأثنى على المنفقين, فقال:{ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبّون, وما تنفقوا من شيء فان الله به عليم}.
وقال:{ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم}.
وقال:{ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
لقد ترجم المسلمون الأوائل دعوة القرآن الكريم الى النفاق سلوكا عمليا وتنفيذا فعليّا عندما اتخذوا من شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسيرته الطيّبة أسوة حسنة وقدوة صالحة في هذه الميدان المجيد, حيث كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر, وكان في جوده أسرع من الريح المرسلة.
(1/143)
وسطّر التاريخ من حياتهم أروع الصفحات وأنصعها في هذا المجال الايماني, فحدّثنا أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه عندما جاء بماله كلّه, فجعله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم لينفق في سبيل الله عز وجلّ, فسأله المصطفى عليه الصلاة والسلام:" ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟", قال: ( أبقيت لهم الله ورسوله). وحدّثنا عن عثمان بن عفّان رضي الله عنه عندما أنفق قافلة كاملة محمّلة بالطعام على الفقراء في المدينة المنوّرة.
أيها الاخوة المؤمنون:
يمّموا شطر الانفاق في سبيل الله, وأكثروا من الصدقة فان ثمرتها في الدنيا الخلف لقوله تعالى:{ وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه}, وثمرتها في الآخرة النجاة من حرّ الموقف والفوز بنعيم الجنان حيث جاء في الحديث:" كل امرىء في ظلّ صدقته حتى يفصل بين الناس".
جعلني الله وايّاكم من المنفقين, وأكرمنا بالفوز والفلاح الى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين.
الشهادة والشهيد
الحمد لله خالق الأرض والسماء, والشكر له سبحانه على ما أولانا من نعم ليس لها احصاء, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له القائل في حق الشهداء:{ والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضلّ أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنّة عرّفها لهم}, وأشهد أن سيّدنا محمّدا رسول الله, صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وعلى آله الطاهرين وأصحابه الكرماء.
أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم بتقوى الله, وأحثكم على طاعته وابتغاء مرضاته, فلقد خاطبنا الله تعالى بقوله:{ يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وابتغوا اليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلّكم تفلحون}.
أيها الاخوة المؤمنون:
(1/144)
لمّا كانت الشهادة أثرا من آثار الجهاد في سبيل الله ونتيجة من أقدس نتائجه, كان لا بد لنا من أن يحتفل بها الاسلام ويوليها العناية الكبرى والاهتمام البالغ, وأن يتلّ الشهيد منزلة عالية عند الله عز وجلّ, وأن يتسامى مقام الشهادة حتى يصبح غاية تطلب وهدفا يقصد, تسترخص في سبيل بلوغه الأرواح والدماء.
وفي كتاب الله عز وجلّ نجد الاشارة واضحة الى هذه الحقيقة, وذلك في قوله سبحانه:{ ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربّهم يرزقون * فرحين بما ءاتاهم الله من فضله}.
وفي ظلّ هذا المقام السامي الذي أعدّه الله تعالى للشهيد ضمن له أن يغفر له ذنوبه, ويؤمنه فتنة القبر, وينمّي له عمله, ويدخله الجنّة, وألا يكون بينه وبين الأنبياء الا درجة.
واقرؤوا ان شئتم قوله تعالى:{ يا أيها الذين ءامنوا هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم, ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنّات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيّبة في جنّات عدن, ذلك الفوز العظيم}.
وفي سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ستجدون قوله:" كل ميّت يختم على عمله الا المرابط في سبيل الله فانّه ينمّى له عمله الى يوم القيامة, ويؤمن فتنة القبر", كما نجد قوله:" يغفر الله للشهيد كل شيء الا الدّين", وقوله:" ان في الجنّة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض".
(1/145)
ولخّص النبي عليه الصلاة والسلام الخصال التي يظفر بها الشهيد من ربّه حيث أكرمه بمقام الشهادة في سبيله, فقال فيما رواه ابن ماجه عن المقدام بن معدي كرب:" للشهيد عند الله ست خصال يغفر له في أول دفعة من دمه, ويرى مقعده من الجنّة, ويجار من عذاب القبر, ويأمن من الفزع الأكبر, ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتيّة منها خير من الدنيا وما فيها, ويزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين, ويشفع في سبعين من أقربائه".
معشر المؤمنين:
انطلاقا من فضيلة الشهادة ورفيع مقامها عند الله سبحانه كان عليه الصلاة والسلام يعلن رغبته أن يكون من أهلها فيقول:" والذي نفس محمّد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل, ثم أغزو فأقتل, ثم أغزو فأقتل, فأدخل الجنّة".
وأما المسلمون الأوائل الذين تربّوا على عين رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتشرّبت قلوبهم حب الله وحب رسوله, فقد أحبّوا لقاء ربّهم, فتسابقوا الى الشهادة في سبيله, وتنافسوا فيها حيث أيقنوا أنها مناط عزهم في الدنيا وفوزهم في الآخرة. وأعلنوا من خلال تشوّقهم الى مقامها الجليل صدق ايمانهم بواجبهم المقدّس تجاه ربّهم سبحانه من اعلاء كلمته وحماية شرعه واحقاق الحق وابطال الباطل ورفع لواء الهداية والاسلام في آفاق الحياة.
وسجّل التاريخ من واقع جهادهم أروع صور البطولة وأكرم صور البطولة وأكرم مشاهد التضحية والفداء في معترك القتال اعلاء لكلمة الله, وطلبا للشهادة في سبيله.
(1/146)
اليك أخي المسلم مشاهد من تاريخ أسلافنا في بيان هذه الحقيقة الجليلة: في غزوة بدر سمع عمير بن الحمام رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول:" قوموا الى جنّة عرضها السموات والأرض", فقال عمير: يا رسول الله جنّة عرضها السموات والأرض؟ قال:" نعم", قال: بخ بخو فقال رسول الله:" ما يحملك على قول بخ بخ", فقال: لا والله يا رسول الله الا رجاء أن أكون من أهلها. قال:" أنّك من أهلها". فأخرج تمرات من قرنه, فجعل يأكل منهن, ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه انها لحياة طويلة, فرمى بما كان معه من التمر, ثم قاتلهم حتى قتل.
ولا ننسى استشهاد مصعب بن عمير, وأنس بن النضر, وسعد بن الربيع, وحمزة بن عبد المطّلب رضي الله عنهم, وغيرهم من الصحابة الكرام في يوم أحد وما سطّروه في استشهادهم من التضحيات الرائعة اعلاء لكلمة الله ونصرة لدينه.
وعندما نقرأ قول الله تعالى:" ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنّة, يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون, وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرءان, ومن أوفى بعهده من الله, فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به,..}, نذكر استشهاد العالمين الجليلين الشيخ يوسف الفندلاوي والشيخ عبد الرحمن الحلحول عندما خرجا مع أبناء دمشق لقتال الصليبيين, وأراد أمير دمشق أن يعيدهما قائلا: ( نحن نكفيكما القتال) فقالا له: (لقد بعنا واشترى) اشارة الى هذه الآية الكريمة. فلمّا دار القتال أبليا بلاء حسنا, وقاتلا قتالا أذهل الكفّار, ثم سقطا معا شهيدين, فأزكى استشهادهما حماسة المسلمين, فحملوا على الصليبيين حملة رجل واحد حتى طردوهم من البلاد شرّ طردة, فولّوا الأدبار منهزمين.
(1/147)
وهكذا, معشر المؤمنين, تسطع الشهادة في آفاق المجاهدين في سبيل الله لتكون عنوانا للنصر وثمنا مقدّسا لحماية الحق في جميع صوره وللدفاع عن الدين في أرضه ومبادئه ومقدّساته. وتلك هي صبغة أمّة الاسلام, منذ فجر تاريخها والى اليوم ما تزال قبلة أمم الأرض في التضحية والفداء, وما تزال الشهادة تحتلّ في حياة أبنائها منزلة عليا, فتتوالى قوافل الشهداء في هذه الأمّة في جميع ميادين جهادها, تكتب بدمائها الطاهرة أكرم صفحات البطولة والفداء في سبيل اعلاء الحق وازهاق الباطل ونصرة العدل ودحر الظلم والذود عن حياض الاسلام.
فانطلقوا أيها المسلمون الى دوحة الشهداء, وسابقوا الى مقامها المجيد في ظلّ الجهاد المقدّس في سبيل الله سبحانه تحريرا للبلاد, وهداية للعباد, واحقاقا للحق, ونصرة لدين الله. رزقنا الله وايّاكم منازل الشهداء ومقام السعداء, انّه سميع مجيب. والحمد لله ربّ العالمين.
الزمن.. من خلال منظور اسلاميّ
الحمد لله خالق الزمان, والشكر له سبحانه على جزيل الفضل والاحسان, وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له القائل في محكم القرآن:{ والعصر ان الانسان لفي خسر الا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}, وأشهد أن سيدنا محمّد رسول الله صلوات ربّي وسلاماته وبركاته عليه وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين وأصحابه أهل الجود والعرفان.
أما بعد: فيا عباد الله, أوصيكم ونفسي المخطئة بتقوى الله, وأحثكم على طاعته فهو سبحانه وليّ من أطاعه واتقاه, وأذكّركم قوله الحق:{ واتقوا يوما ترجعون فيع الى الله ثم توفّى كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.
قال الله تعالى في محكم كتابه:{ وهوالذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذّكّر أو أراد شكورا}.
أيها الاخوة المؤمنون:
(1/148)
في مطلع هذه العام الميلادي الجديد أجدني أمام داعية الوقوف حيال الزمن لأتحدّث عنه من خلال منظور اسلاميّ, وجدير بنا أن نتحدّث عن الزمن الذي تجري حياتنا به, وفي فلكه تدور أعمالنا وأقوالنا, وفي قناته تنساب حركتنا, وفي دائرته نتقلّب أطوارا من الطفولة الى الصبا الى الشباب الى الكهولة والى الشيخوخة.
أيها الاخوة المؤمنون:
ليس الزمن في ميزان الاسلام مجرّد حركة ميتافيزيقيّ’, وانما هو قيمة موضوعيّة ومسؤوليّة كبيرة, يرتبط ارتباطا وثيقا بحركة الانسان ووعيه, وهو أغلى شيء يملكه الانسان في هذه الحياة, بل هو رأس ماله الحقيقي الذي يجب أن يستثمره ويدّخره لا أن يضيّعه ويفنيه, لهذا أيها الاخوة المؤمنون حضّ الاسلام على اغتنام الوقت وملئه بما ينفع الانسان في دنياه وأخراه, وحذّر من مغبّة اهماله وتضييعه بما لا يفيد فضلا عمّا يحمّل الانسان تبعة ومؤولية الحساب يوم القيامة.
معاشر المؤمنين:
حسبنا تذكرة في ذلك موعظة سيّد المرسلين لأحد المسلمين حيث قال له:" اغتنم خمسا قبل خمس حياتك قبل موتك, وصحّتك قبل سقمك, وفراغك قبل شغلك, وشبابك قبل هرمك, وغناك قبل فقرك".
أيها الاخوة المؤمنون:
يمبغي عليكم أن تعلموا أنه ليس هنالك شيء أسرع من الزمن, فانّه لا يتوقف, فما أسرع ما تمرّ الليالي والأيّام بالانسان ثم تنتهي مدّة وجوده في الحياة ليصبح كأن لم يلبث فيها الا برهة من الزمن, ولقد أشار الله سبحانه الى هذه الحقيقة بقوله:{ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة}, وبقوله:{ كأنّهم يوم يرونها لم يلبثوا الا عشيّة أو ضحاها}.
والذي يمضي من الزمن لا يعود, فمن فاته اغتنام يومه بالخير ثم قال: غدا أفضل وأحسن, هو خاسر, لأن كل فترة من الزمان ظرف لعمل جيد, فان لم تملأ بالخير, ملئت بغيره, ورحم الله الامام الشافعيّ حيث قال:" الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك, ونفسك ان لم تشغلها بالخير شغلتك هي بالشرّ).
(1/149)
وحسبك يا أخي المسلم موعظة الامام حسن البصري, حيث قال: ( ما من يوم ينشقّ فجره الا وينادي: يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد, فتزوّد منيّ, فاني اذا مضيت, لا أعود الى يوم القيامة).
أيها المؤمنون:
على الانسان أن يتنبّه الى اغتنام عمره قبل أن يذهب منه سدى ولا يستطيع أن يسترجع منه دقيقة واحدة, فعندها لا ينفعه ندم, ولاتقبل معذرته, قال عليه الصلاة والسلام:" أعذر الله الى امرىء أخّر أجله حتى بلّغه ستّين سنة".
ورحم الله الامام الحسن البصري حيث قال: ( يا ابن آدم, أنت أيّام مجموعة اذا ذهب منها يوم, ذهب بعضك, واذا ذهب البعض, يوشك أن يذهب الكلّ).
فواجب المسلم اذا أن يملأ حياته بالخير, ,ان يستكثر من دواعي النجاة يوم القيامة بالأهمال الصالحة والسيرة الحسنة ةالتنفيذ العمليّ لمنهج الله تعالى, وألا يضيّع أوقات فراغه يلهو ويعبث, فالوقت نعمة عظيمة كما قال عليه الصلاة والسلام:" نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحّة والفراغ", فاذا لم يملأ الانسان أيّمه بالخير ملئت بالشرّ, وبذلك تصبح نعمة الوقت بليّة على هذا الانسان الذيحذّره الله من مغبّة اضاعة الوقت في العصيان حيث قال:{ وما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد}, ورحم الله أبا العتاهية حيث قال في هذه المقام:
انّ الشباب والفراغ والجده مفسدة للمرء أيّ مفسدة
فيجب على المسلم أن يسارع الى الخير , ويبلدر في اغتنام العمر بما يرضي الله, ويكون سبيل نجاته يوم القيامة قبل أن يفوت الركب, فيصبح من النادمين, وحسبه في ذلك حضّ الله له على الاسراع الى مسالك النجاة نحو قوله:{ وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنّة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين}.
وقوله:{ سابقوا الى مغفرة من ربّكم وجنّة عرضها كعرض السماء والأرض}.
(1/150)
وحسبه من ذلك أيضا حض رسول الله صلى الله عليه وسلّم على المسابقة الى الأعمال الصالحة قبل أن تفوت فرص النجاة, وتدهم الناس البلايا والفتن, كقوله:" بادروا بالأعمال الصالحة فتنا كقطع الليل المظلم يمسي الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويصبح مؤمنا ويمسي كافرا يبيع دينخ بعرض من الدنيا قليل", وكقوله:" بادروا بالأعمال سبعا, هل تنظرون الا فقرا منسيّا أو عنى مطغيّا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو موتا مجهزا أو الدجّال فشرّ غائب ينتظر أو الساعة أدهى وأمرّ".
وعندما سئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الأعمال وأحبّها الى الله قال:" الصلاة على أوّل وقتها", وذلك من قبيل الحض على المبادرة الى العمل الصالح وعدم تأجيله الى وقت آخر.
أيها الاخوة المؤمنون:
لقد أدرك المسلمون الأوائل هذه الحقيقة, فبادروا الى العمل الصالح واستقبال يومهم بما يرضي الله من الخير والمعروف والاحسان, فكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: ( ما ندمت على شيء ندمي يوم غربت شمسه نقص أجلي فيه ولم يزد فيه عملي).
فاغتنموا أيها المسلمون حياتكم, واملؤوا أوقاتكم بما ينفعكم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.
والحمد لله ربّ العالمين.
انتهى الكتاب والحمد لله رب العالمين انتهت الطباعة على الورد في 27\1\2002 ميلاديّة
(1/151)