الطبعة الأولى
شوال 1428 هـ الموافق أكتوبر 2007 م
جميع الحقوق محفوظة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدهُ ونَستعينُهُ ونستغفره، ونعوذ بالله مِنْ شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مِنْ يَهدِه اللهُ فَلَا مُضل لَهُ، وَمَنْ يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) } [ آل عمران: 102].
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) } [ النساء:1].
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) } [ الأحزاب: 70 - 71].
أَمَّا بَعْدُ:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهديِّ، هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَ الأمور مُحدثاتُها، وكل مُحدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلاله في النار.
اللهم صلِّ على سيدنا محمد النبي، وأزواجِه أُمهاتِ المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.
فهذه الصفحات كتبت من خطب ألقاها فضيلة الشيخ/ محمد الدبيسي تشمل خطبة عيد الفطر وبعض خطب الجمعة في شوال لعامين متتاليين وكان ترتيبها على ما اعتدنا عليه من الاختصار في هذه الرسائل، رجاء أن التوسع في بسط ما تعرضت له من موضوعات ليكون ذلك دليل المؤمنين على السير في طريق الله تعالى.(1/1)
وحال الخروج من رمضان قضية مهمة وخطيرة لارتباطها بأمرين :
الأمر الأول: بعد انتهاء الموسم العظيم الذي فتحه الله تعالى بالفرص العظيمة لأهل الإيمان ليتحققوا فيه بالمغفرة والعتق من النار، فاز فيه من فاز بالمغفرة والرحمة والعتق من النار وأخذ في السير في طريق الله تعالى وخاب من خاب وخسر، وكلا الفريقين يسأل: كيف يحافظ المرء على هذه الأحوال التي قد حصل في رمضان و أن يشكر ربه على ما كان من رحمة ومغفرة أو إذا لم يكن قد حصل شيئا وخرج خائبا فكيف يعاود طريقه إلى الله تعالى مرة أخرى ؟
الأمر الثاني: بعد رمضان ما تزال نعم الله تعالى تتوالى على المؤمنين بفتحه لهم أيام البر وموسم الحج إذ أنه من أعظم مواسم المغفرة والناس فيه على ضربين، الأول : الذي حصل المغفرة في رمضان فأتت هذه المواسم لتكون زادًا ليزداد من هذه الطاعات وليتمكن من شكر الله تعالى على مافتح عليه. والثاني: فهو الذي لم يحصل تلك المغفرة في رمضان فأتت كذلك تلك المواسم ليلتحق بركب السائرين في طريق الله تعالى وليتمكن من تعويض ما فات من الطاعات. ففتح الله تعالى هذه المواسم لكلا الفريقين ليغفر لهم ويرحمهم وتكون سببًا في عتقهم من النار وكذلك لتحقق بها أشواق أهل الأيمان للوصول لبيت الله تعالى تمهيداً لرؤية الرب في الميعاد المضروب يوم يقوم الناس لرب العالمين .
فجائت هذه الخطب بتوضيح علامات السائرين في طريق الله، وتبيين السبيل الذي ينبغي على أهل الأيمان أن يسلكوه في الأشهر المعلومات ولتشير لتلك المعالم المضيئة التي تعين السائرين على الاستقامة في طريق الله وعدم النكوص أو الانحراف.
واعلم أن ذلك كله لا يمكن تحقيقه إلا بالاستعانة بالله تعالى والارتكان إلى قوته والتوكل عليه والتضرع إليه سبحانه وتعالى ألا يكلنا إلى أنفسنا.(1/2)
وفي النهاية فما كان من صواب فمن الله تعالى وحده، وما كان من خطأ فمنا ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، ورحم الله امرأ أهدى إلينا عيوبنا.
نسأل الله تعالى أن ينفع به قائله وكاتبه وناشره والناظر فيه إنه سميع الدعاء.
……………مسجد
………الهدي المحمدي
طريق المؤمنين بعد رمضان
أولًا: علامات السائرين في طريق الله.
ثانيًا: بداية عهد جديد فورًا بعد رمضان.
ثالثًا: الاستقامة على طريق الله بعد رمضان.
رابعًا: الاستعانة بالله والتقوي به سبحانه.
علامات السائرين في طريق الله
"محبة الله تعالى.
"ذكر الله تعالى.
"المواظبة على قيام الليل.
"المسارعة إلى الخيرات.
"الانشغال بأمر الدين والدعوة.
"الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة.
أولًا: علامات السائرين في طريق الله
قبل رمضان وقفنا عند مفترق الطرق ، وأشرنا إلى أن الله تعالى قد فتح رمضان لتحقيق المغفرة، ولتحقيق أسباب العتق من النار؛ وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "رَغِمَ أنف امرئ أتى عليه رمضان فلم يغفر له، خاب وخسر من أتى عليه رمضان فلم يغفر له، أبعده الله، قل: آمين، قلت: آمين، أدخله النار، قل : آمين، قلت : آمين" (1).
لئلا يكون للناس على الله تعالى حجة بعد ذلك، فإذا ما أهملوا هذه الفرصة وتركوها ولم يتحققوا بأسبابها، ولم يأخذوا في أهبتها، في أن يحققوا فيها المغفرة، فليس لهم عذر عند الله تعالى، وقفنا عند هذا الحد، وها قد فتح الله تعالى لأهل الإيمان هذه الرمضانات الكثيرة ليجود عليهم بهذه المغفرة .
تراهم قد خرجوا مغفورًا لهم ؟!
تراهم قد خرجوا عتقاء من النار ؟!
تراهم قد أخذوا الأمر بجد وعلموا أنهم موقوفون ومسئولون أمام الله تعالى عن ذلك ؟!
تراهم قد خرجوا من رمضان وقد ظهرت عليهم آثار الرحمة، وآثار المغفرة، وآثار العتق من النار ؟
__________
(1) رواه الإمام الطبراني في المعجم الكبير (1990) وأبو يعلى في مسنده (5789) وصححه ابن حبان في صحيحه (410) .(1/3)
أم أنهم قالوا : لم يحدث ذلك وإن شاء الله في رمضان القادم سنبدأ من أوله وسنحاول، وسنجاهد وسنواصل، وسنفعل وسنفعل ؟!
تراهم قد أخذوا هذه الفرصة من الله تعالى بالفرحة والإقبال والجد والعزم وبذلوا فيها وقتهم وجهدهم ومالهم وصحتهم وفراغهم ليحققوا أسباب المغفرة، فإنهم لو بذلوا الدنيا وما فيها وجهدهم ومالهم ووقتهم وعمرهم ليحصلوا المغفرة لكان ذلك قليلاً، تراهم قد حصلوا ذلك ؟!
تراهم قد خرجوا وقد ظهرت عليهم آثار المغفرة، وآثار العتق من النار، وآثار التوبة، وصاروا خلقًا جديدًا أحب إلى الله، وأقرب إليه، وأسرع إلى مرضاته، وقد علاهم الخشوع والخضوع والإقبال على الحق، والاستعداد للقاء الله جل وعلا ؟ هذا هو مفترق الطرق .
ومحل السؤال اليوم : هل سرنا في هذا الطريق الذي حدده الله تعالى وأمر به، أو أن هذه الطرق قد تشتت بنا، ورجع من رجع، وتكاسل من تكاسل، وسوف من سوف، ثم انتظر أن يأتي رمضان الجديد ؟
هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يسأله المرء نفسه، وأن يعلم أنه إما أنه قد سار في الطريق الذي وقفنا فيه، وإما أنه قد تراجع عنه ؛ لأنه إما أن يتقدم إلى الله، وإما أن يتأخر، فليس هناك أحد يقف في هذا الطريق إلى الله تعالى، إما سائرون إليه مسارعون له متنافسون في الوصول إلى مرضاته، وإما مقبلون على الدنيا آخذون بأسبابها راكنون إلى الشهوات والملذات، منشغلون بالولد والمال وتحصيل الفاني الزائل الذي سرعان ما يموتون وينتقلون عنه ؟ هذا هو السؤال إذن .(1/4)
لو كان ذلك كما ندعي ونزعم فإننا لابد أن نقول: إن الطريق الذي قد اخترناه له علامات ينبغي أن يراها المرء فى نفسه، هل من سار فى هذه الطرق المفترقة سار إلى طريق الله تعالى، وسلك سبيله، وظهرت عليه آثاره، أو أنه لم يبدأ في هذا الطريق بعد، وينتظر هذا القول من النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رغم أنفه، أبعده الله، أدخله الله النار قل : آمين، قلت : آمين" (1).
ويسأل السائل ما هي علامات هذا الطريق الذي تدعي؟
وهذا الطريق أوله هذه المعاني التي ينبغي أن تكون في رمضان من معاني العبادة ومعاني الهمة وما ينبغى أن يكون بينه وبين الله تعالى، وبينه وبين أهله، وبينه وبين أمته، وبينه وبين الناس، تحمل بذلك كله وسار به وأخذ مسئوليته منه بحيث إنه لو قيل له : أنت اليوم منقول إلى الله تعالى ومرتحل إليه
لم يكن عنده ما يستطيع أن يزيد عليه، مما يستطيع أن يقدمه.
لم يكن عنده بذل جديد...
لم يكن عنده وقت جديد...
لم يكن عنده مال جديد...
لم يكن عنده جهد جديد يقدمه ....
فقد بذل جهده ووسعه ليحقق أسباب نجاته، كما بذل جهده ووسعه ليحقق أسباب الدنيا والسير فيها والمشقة لها والتعب في تحصيلها، ثم يموت وينتقل عنه.
1. محبة الله تعالى
أول علامات هذا الطريق ...محبة الله تعالى، فمن خرج مغفورًا له يعني خرج محبًّا لربه مقبلاً عليه متعلقًا به متوكلاً عليه واثقًا فيما عنده، قد امتلأ قلبه من محبته ومن نوره ومن ذكره ومن الطمأنينة له ومن الأنس به والشوق إلى لقائه والاستعداد لهذا القاء والمسارعة إلى طاعته وبذل المال والنفس والجهد لتحقيق رضى الله تعالى.
__________
(1) رواه الإمام الطبراني في الكبير (1990) وأبو يعلى في مسنده (5789) وصححه ابن حبان في صحيحه (410) .(1/5)
هل قدمت ذلك على الولد وعلى الزوجة وعلى الابن وعلى الأب وعلى المساكن وعلى الدنيا التي تراها التي قال سبحانه وتعالى فيها: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ } (آل عمران 014-015). هؤلاء للذين خرجوا من الصيام تقاة لله تعالى لهم { جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } (آل عمران 015).
أم أنك لا زلت تقدم نفسك وولدك ومالك وثروتك وراحتك ونومك وصحتك وعيالك وزوجتك على الله تعالى ؟! { قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } (التوبة 024) .(1/6)
فهذا هو المعنى الأول، هل خرج به المرء أم لم يخرج به؟ وهذا هو الحال الذي ينبغي أن يظهر على المؤمنين الذين سلكوا هذا الطريق، وقد فتح الله تعالى لهم هذه الرمضانات كلها يمتحنهم فيها ويبلوهم بها سبحانه وتعالى ليتميز المحبون له من أولئك الدخلاء على محبته من أولئك المقصرين المفرطين فى محبته تعالى ليتميز الطائعون من المفرطين المتكاسلين ليتميز المقبلون من المدبرين الناكصين وهذه هي بداية الطريق الذي وقفنا في مفترقه إلى الله تعالى فهل ساروا إليه أو نكصوا عنه وتقهقروا فيه ورجعوا إلى الدنيا متكالبين عليها غافلين بها عن الآخرة زاهدين بها في لقاء الله تعالى؟
2. ذكر الله تعالى
وكان الأمر الثاني الذي يتميز به أولئك السائرون إلى الله تعالى هو ذكر الله تعالى، قال تعالى: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } (البقرة 152).
تراه قد غلب عليه الذكر كما قال: { اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا } (الأحزاب 041)، فكان الذكر الكثير هو الغالب على حاله ؟ أو أن اللهو والغفلة والكلام الفارغ هو الذي قد زين طريقه ومعاملته وسيره ونومه وحركته وسكونه، لذلك قال تعالى: "أنا جليس من ذكرني " (1)
__________
(1) رواه الديلمي بلا سند عن عائشة مرفوعًا، وعند البيهقي في الشعب عن أُبَي بن كعب قال: قال موسى عليه الصلاة والسلام يا رب أقريب أنت فأناجيك أو بعيد فأناديك ؟ فقال له يا موسى أنا جليس من ذكرني، ونحوه عند أبي الشيخ في الثواب عن كعب والبيهقي أيضًا في موضع آخر أن أبا أسامة قال لمحمد بن النضر أما تستوحش من طول الجلوس في البيت ؟ فقال ما لي أستوحش وهو يقول أنا جليس من ذكرني.
وأخرجه أبو الشيخ عن محمد بن نضر الحارثي، أنه قال لأبي الأحوص أليس تروي أنه قال أنا جليس من ذكرني فما أرجو بمجالسة الناس ؟ وعند البيهقي معناه في المرفوع عن أبي هريرة أنه قال سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله عز وجل قال أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه. ورواه الأوزاعي عن أبي هريرة موقوفا ومرفوعا، والمرفوع أصح. ورواه الحاكم وصححه عن أنس بلفظ قال الله تعالى: عبدي أنا عند ظنك بي، وأنا معك إذا ذكرتني.(1/7)
، فهلا استأنس بهذا الجليس؟ بربه ومحبوبه؟ أم كان أنسه بالناس واختلاطه بهم وإقباله عليهم وأنسه بكلامهم، واستئناسه ووحشته من ربه والحجاب بينه وبين الله تعالى.
هل غلب عليه أن يكون ربه جليسه وحاضره ومحدثه، يناجيه ويبثه شجونه ودعواه، ويدعوه ويتملقه، ويرفع إليه ويتضرع إليه ؟هل غلب ذلك على حال السالكين إلى الله تعالى؟ هل نظروا إلى هذا الحال فبين لهم مقامهم وسيرهم إلى الله تعالى؟
ثم بين لهم أعلى الذكر وأفضله وهو قراءة القرآن الكريم، قراءة كلام الله تعالى. تراهم قد أقبلوا على هذا الكلام كما ذكرهم المولى سبحانه وتعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ } (فاطر 029) وكما قال تعالى: { إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } (الأنفال 002) هل ظهر عليهم ذلك ؟
هل ظهرت عليهم بركته ورحمته ونوره وهداه وشفاؤه { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } (فصلت 044) فكان دواؤهم الذي يأخذهم إلى الله تعالى، ويطهر ظاهرهم وباطنهم، ويطهر قلوبهم وأبدانهم وألسنتهم وجوارحهم في سيرهم إلى الله تعالى، كان ذلك الكتاب على هذا المعنى كما قال تعالى: { مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } (الزمر 23) { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } (الإسراء 082) ويبكون عند تلاوته وسماع آياته { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } (مريم 58).(1/8)
هذا القرآن تراك قد أقبلت عليه وأدمنت تلاوته وتدبرت معانيه، وصرت ملتزمًا بأوامره ونواهيه، تأخذ منه ما يكون سببًا لنجاتك عند الله تعالى، وصلاح قلبك وصلاح بدنك وسيرك إلى الله تعالى، أو ما يزال الحجاب بينك وبينه والبعد والتقصير هو السائد عليك الملازم لك؟
هل تحقق هذا المعنى في سير السائرين إلى الله أم أنهم ما زال بينهم وبين كلام الله تعالى هجراً ؟ { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا } (الفرقان 30).
3. المواظبة على قيام الليل
وكذلك من العلامات التى تبين حال محبي ربهم المقبلين عليه الذين قد سلكوا الطريق إليه، ويوشكوا أن يصلوا إلى محبوبهم تبارك وتعالى، ولم يكن حالهم حال الادعاء والتقصير، هي قيام الليل.
فقد كان في رمضان يقوم في الليل لله تعالى فإذا هو بعد رمضان تظهر عليه آثار ذلك القيام { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } (السجدة 016) ، { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ ×pyJح!$s% يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } (آل عمران 113) ظهر عليهم ذلك في وقوفهم لله تعالى وفي مناجاتهم له، وفي التلذذ بهذه المناجاة، فإن مناجاة الله تعالى ليست من الدنيا بل هي من الجنة اصطفى لها ناس أوصلهم إليها .
لذلك يقول جل وعلا: { كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } (الذاريات 017-018) هل وصلوا إلى هذا الحال الذي هو بداية الطريق إلى الله تعالى، أم أن الغالب عليهم النوم والكسل وراحة الجسد الفاني الذي إن هم أتعبوه في الدنيا وجدوا راحتهم في الآخرة وإن أراحوه في الدنيا تعب يوم يقوم الناس لرب العالمين .
4- المسارعة إلى الخيرات(1/9)
ثم ذكرهم سبحانه وتعالى أن يكونوا في بقية العبادة على حال المسارعة كما قال تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } (الأنبياء 090) فهلا كان ذلك منك؟
لما نزل قوله تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } (آل عمران 133) علموا أنهم هم المقصودون بهذه الآيات، وأنهم هم المطالبون أن يسارعوا فسارعوا فيها، وتنافسوا بينهم أن يصل كل منهم الأول إلى الله تعالى ؛ فلم يبق لهم جهد ولا مال ولا وقت إلا بذلوه لله تعالى ونحن نزهد في طاعة الله تعالى لنوفر الجهد والمال والوقت للزائل للشهوات، للبعد، للغفلة، للفرص الكاذبة، إلى غير ذلك من الأحوال الفاسدة التي تعلو هيئة المؤمنين وقلوبهم هذه الأيام.
هلا سارعوا وعلموا أن هذه المسارعة لابد وأن يقوموا بها لأن أيام الدنيا معدودة، وابن آدم عدة أيام، إذا مضى يوم مضى بعضه حتى ينتهي إلى الله تعالى؟
وقد وعظهم الله سبحانه وتعالى بأن ليس لهم وقت متبقي في الدنيا ، وهو قوله الذي نذكره كثيرا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ( الْحَشْرِ 18 : 19 )
والمعنى في قوله { اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } ( الْحَشْرِ : 18 ) هو أن أقرب الأيام أن يكون المرء عند الله هو الغد، ولو كان هناك يوم يمكن أن يكون المرء فيه عند الله قبل الغد لذكره الله تعالى، فكل نفس مطلوب منها أن تنظر فيما تلاقي به الله تعالى هل يبيض وجهها أو يسود وجهها ؟ من الذي نظر في أعماله وصحيفته فختمها بخاتمة تكون سببا أن يبيض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ؟(1/10)
فعندما يقول : { اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } ( الْحَشْرِ : 18 ) فكل نفس مطالبة بذلك ولكن الله تعالى نعى على المؤمنين لأنهم لن يقوموا بذلك وسيقصرون فيه فقال : (نفس) يعنى حتى نفس واحدة تقوم من هذه النفوس التي تدعي المحبة وتدعي الطاعة، وتدعي الإقبال والتوحيد أن تقوم نفس واحدة لله تعالى لتنظر ما قدمت لغد !! وذلك حتى يحضهم على أن يقوموا لله وأن تكون كل نفس منهم هي النفس التي تقوم لله تعالى .
هلا قامت كل نفس إذن لله تعالى ونظرت فيما قدمت وختمت يومها بالعمل الصالح وحاسبت نفسها على ما قدمت وأخرت حتى إذا لاقت الله تعالى لاقته وليس عليها شيء، لاقت ربها سبحانه وتعالى مسرورة بربها لاقت ربها وهو راض عنها سبحانه وتعالى؟ هذا فيما بينه وبين الله تعالى .
هلا أسرع في الإنفاق له هلا أسرع في بذل وقته هلا قام بما ينبغي أن يكون عليه من طلب العلم النافع والعمل الصالح والسير إلى الله تعالى هل قدمت هذه النفس كما ذكرنا ما يكون سبب صلاحها عند الله تعالى .
5- الانشغال بأمر الدين والدعوة
والسؤال هنا ماذا قدم هؤلاء المتقون لأمتهم التي وصلت إلى الحضيض؟ لمن تركوا الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، لمن تركوا التوسل إلى الله واللجوء إليه بالعمل الصالح ليرفع البلاء عن هذه الأمة ويدفع عنها ما نزل بها من الفقر وما ألم بها من المصائب التي هم السبب فيها { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } (الشورى 030) ما نزل بلاء إلا بذنب ولا يرفع إلا بتوبة، ماذا قدم هؤلاء فى الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة وهل قدموا لله تعالى كلمة يرجون ثوابها عند ربهم.... يرفعون بها البلاء عن أقوامهم....
ماذا قدم هؤلاء ؟؟؟ لمن تركوا بيوت الله تعالى في صلواتهم وعباداتهم وذكرهم وعلمهم، لمن تركوها ؟؟؟(1/11)
والمعنى التالي هو الحال الذي يكون عليه فيما بينه وبين أهله وولده، فيحملهم على الدين ويعلمهم طريق الله تعالى ويأخذهم من مفترق الطرق إلى طريق الله تعالى الذي يسير فيه، وكذلك أن يظهر بره لوالديه وإحسانه إليهما إلى غير ذلك مما ذكر الله تعالى وينتقل بعد ذلك إلى ما يكون بينه وبين المؤمنين من سلامة القلب لهم والتكافل بينهم والتعاون بينه وبين إخوانه { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } (المائدة 002)، "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " (1)، ليس بينه وبينهم بغضاء ولا شقاق ولا تدابر ولا تقاطع ولا حقد ولا غل ولا محبة نفس وإيثار الدنيا والأثرة عليهم بل بينه وبينهم الكرم، الجود والإحسان والعمل الصالح ثم دعوتهم إلى الله تعالى { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } (النحل 125) بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن يأمر بالمعروف بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر بالرفق واللين.
ترى هذه الآثار قد ظهرت في طريق المتعبدين واتضحت عليهم وبانت أنوارها عليهم في حركاتهم وسكناتهم وكلامهم وظاهرهم وباطنهم وعبادتهم وقربهم وذكرهم وقرآنهم ومساجدهم ومعاملاتهم وإحساناتهم، وظهر فيما بينهم من ترك المظالم والتناسي لما بينهم من المآسي والمصائب، وتجاوز كل عن أخيه يريد بذلك أن يتجاوز الله تعالى عنه، وتسامح كل في حقه يريد أن يسامحه الله تعالى فصاروا بذلك خلقا جديدا يستحق رحمة الله ومغفرته، ويستأهل أن ينزل عليهم سبحانه وتعالى بركته ويرفع عنهم بلاءه؟
6- الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة
__________
(1) رواه البخاري (6011) كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، ومسلم (2586) كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم.(1/12)
فهذه النفس التي سلكت طريق الله تعالى من بين هذه الطرق المفترقة التي ذكرنا، هذه النفس هي التي استعدت للقاء الله تعالى، ولا تكون مستعدة للقاء الله تعالى إلا بالزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة والركون إلى دار الخلود وترك الركون إلى دار الفناء وأن يكون من أهل الآخرة وأن يسارع مستعدا إلى الله تبارك وتعالى، ولا يكون من أهل الدنيا التي يتكلمون عليها ويتنافسون فيها ويعلون بها ويتعززون بها ويتكبرون بها .(1/13)
لو كان الله تبارك وتعالى تهمه هذه الدنيا لجعلها لهؤلاء الكفرة، كما قال تعالى: { وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } (الزخرف 033-035) فيقول سبحانه لجعل بيوتهم من فضة وسلالمهم كذلك وسررهم من ذهب ولفعل لهم ما لا يحسبه المرء أو يتخيله ولكنه قال: { وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } ، الآخرة عند ربك لمن سلكوا طريق التقوى الذي يوصلهم لرحمة الله، لذلك قال : { وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } (الزخرف 032) { وَرَحْمَةُ رَبِّكَ } أيها المسلمون خير مما يجمعون، خير من هذا الجمع الزائل الذي تسعى إليه، فتضيع به آخرتك، وتنسى به ربك وتفاجأ بملك الموت على رأسك يقول أخرجي أيتها النفس إلى الله تعالى حينئذ يقول : أخرني يومًا أتوب فيه إلى الله وأعمل صالحًا، أخرني ساعة، فيقال له : لا يوم ولا ساعة فنيت الأيام وفنيت الساعات وحينئذ يقال له كما ذكر الله تبارك وتعالى : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (المنافقون 10-11).
فإذا لم تظهر هذه العلامات، فالسؤال ما هو السبب الذي جعل المؤمنون يقصرون ويفرطون ويخرجون من رمضان وهم لم يسيروا بعد في طريق الله؟(1/14)
السبب في ذلك أنهم لم يستطيعوا أن يوفوا بعهدهم مع الله تعالى في رمضان، وإذا قلنا لماذا لم لا يستطيعوا الوفاء فإن السبب في ذلك ضعف الإيمان.
فلو استشعر أهل الإيمان موقفهم عند الموت لكان ذلك سببا لأن يسارعوا بالاستعداد للقائه وكذلك لو استشعروا موقفهم في الآخرة وأنهم قد يكونوا في محل عقاب الله تعالى وأنهم موقوفون ومسئولون لشاب شعرهم كما قال تعالى في هذه الآيات: { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا } ( الْمُزَّمِّلِ : 17 ) فلو كان المؤمنون يستشعرون ذلك لكان حالهم على غير هذا الحال، ولكان لهم خوف وخشية يدفعهم إلى الله تعالى وإلى التوبة والعمل الصالح.
وأيضا هؤلاء المتسارعون إلى الدنيا والمتنافسون فيها لو كانوا يستشعرون أن ربهم مطلع عليهم وناظر إليهم لكان لهم استحياء من الله تعالى غير هذا الذي هم فيه، لو كان يقينهم به وتوكلهم عليه لكان حالهم على غير هذا الحال، ولكنهم يفعلون ما يفعلون غير مستحين من الله تعالى، غير مبالين بنظر الله إليهم، غير مبالين بمقت الله لهم، غير مبالين بأن الله تعالى لو اطلع عليهم على هذا الحال يمكن أن يعذبهم، وأن يخسف بهم، ومع ذلك لا يهمهم ولا على قلوبهم، فهل هذا هو الإيمان ؟
لذلك المرء في حاجة إلى أن يجدد إيمانه مع الله تعالى، وأن يجدد هذا اليقين في الله تعالى والتوكل على الله تعالى وحسن الظن بالله جل وعلا، أن يجدد إيمانه بالآخرة والموت ولقاء الله والصحف والصراط والحشر وهذه الكرب والمصائب التي لا يطيقها أحد، فلو أحس بشيء من ذلك لتغير حاله، وتبدل من الفرح بغير الله ومن اللعب ومن الكسل إلى الحزن والبكاء على هذا الحال الذي يوشك أن ينزل به، ويوشك أن يلاقي الله تعالى به .(1/15)
فإذا لم يظهر ذلك فما زال الطريق متضحًا، وما زال الطريق إلى الله تبارك وتعالى واسعًا، ينبغي أن يسلكه المؤمنون وما زال الباب مفتوحًا لتوبة صادقة يبدأها المرء في يومه بل من ساعته هذه، يبدأها بعهد جديد يطلب من الله تعالى ويتضرع إليه أن يرزقه الوفاء به وأن يعينه عليه وأن يوفقه في طريقه وأن يسدده وأن يحفظه وأن يأخذ بيده وأن يكون له خير معين على أن يصل إليه سبحانه وتعالى وألا يعود عن طريقه أبدًا.
وأما من ظهرت عليه هذه العلامات واستشعر ازدياد محبته وقربه من الله تعالى وتنزل رحمة الله عليه وزهده في الدنيا وإقباله على الآخرة وتحصيله لمغفرة الله تعالى فأهم الآثار التي تظهر على أولئك الذين قد غفر لهم، شكر الله تعالى فالذين قد غفر لهم حالهم يتبدل بعد رمضان، فقد ظهرت عليهم آثار تخففهم من الأحمال، فهم لا ذنوب لهم ولا معاصي، أو قد تخففوا من هذه الذنوب والمعاصي والسيئات، فكلما تخفف المرء من الذنوب والسيئات والمعاصي كان أقرب إلى الطاعة، وكان قلبه أرق إلى العبادة، وأحن إلى الرجوع إلى الله تبارك وتعالى، كان قلبه أسلم لله سبحانه وتعالى، كان قلبه أصلب في رد المعصية، وفي دفع الغفلة، وفي البعد عن الشهوات والسيئات والخطيئات، فظهور آثار الشهوات والبعد والغفلة يدل على عدم القبول ؛ لذلك كان ينبغي أن يظهر على هؤلاء في هذه الأيام آثار هذه المغفرة وأن يتفكروا في قضية الشكر التي تحتاج إلى مجهود ضخم من المؤمنين لتحصيله.
- - - - -
بداية عهد جديد مع الله
الكل ... سيبدأ عهدًا جديد ًا مع الله.
{ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }
الطريق إلى الوفاء بالعهد مع الله:
1.عدم اتباع وصية الشيطان: ابدأ في رمضان القادم.
2.الحذر من الغرور بعبادة رمضان.
3.المسارعة في البدأ من ليلة العيد.
4.استشعار الحنين إلى الطاعة:
1. قيام ليلة العيد.
2. المسارعة بصيام ست من شوال.(1/16)
ثانياً: ابدأ اليوم مع ربك عهدًا جديدًا
فأول ما ينبغي فعله بعد رمضان
ذلك العهد الجديد،العهد الأخير، مع الله تعالى ،
العهد الذي يملؤه الإيمان وقرب الرحيل إلى الله تعالى، وتقديم محبة الله تعالى وخوف لقاء الآخرة وخوف الموقف بين يدي الله تعالى يدفعه إلى الخشية التي تملأ قلبه، ويدفعه إلى العمل ويمنعه من المعصية، ويسارع به إلى الله تعالى
لذلك: كل أحد سيبدأ بداية جديدة هذا العام بعد رمضان من ساعته هذه..
المقصرون ...المفرطون،
النادمون ....الباكون،
المرحومون .. المغفور لهم،
الكل لا بد أن يبدأ من هذه الساعة...
أولئك يبدءون بالتوبة والاستغفار، وأولئك يبدءون بشكر هذه الطاعات وشكر تلك الرحمات وشكر تلك المعونات التي أعانهم الله تبارك وتعالى عليها في تلك الأيام.
عسى أن يكون من الذين قال الله تعالى في صفتهم: { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } (الطور 025-026) فهذه حالهم { إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } (الطور 025-027) كانت حالهم الإشفاق... مشفقين من لقاء الله تعالى مشفقين من لقاء الآخرة مشفقين من حسابهم مشفقين من البعث والنشر مشفقين من الأهوال والكرب التي قال سبحانه وتعالى فيها: { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } (عبس 034-037).(1/17)
هلا فكر الناس إذن في هذا العهد الجديد بينه وبين الله عز وجل؟... وهلا بدأوا هذا العهد بأن ينظروا في أنفسهم وأهليهم وأولادهم وأن ينظروا بينهم وبين إخوانهم وأن ينظروا في حال أمتهم وأن يتحملوا مسئوليتهم وأن يعدوا للقاء الله تعالى جوابا كما قال تعالى : { مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } (القصص 065).
الفائزون المقبولون يكون عهدهم شكراً لله جل وعلا، على ما أنزل عليهم من رحمته وما تفضل عليهم من مغفرته، التي لو قضوا أعمارهم في شكرها لم يكن ذلك شيئاً بجوارها والخاسرون المردودون يبدأون طريق الاعتذار إلى الله تعالى والوفاء بعهدهم مع الله تعالى، ذلك العهد الذي لم يوفوا به في رمضان فكان سبب خسارتهم، وليعلم الجميع أنه كما قال تعالى: { وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [ الْفَتْحِ : 10] فهذا الأمر الذي ينبغي أن يتفكروا فيه ...
من أوفى بعهده مع الله تعالى ينتظر الأجر العظيم من الله جل وعلا...
وعلى الجانب الآخر فمن يعاهد الله على الطاعة ثم ينكص في عهده مآله أن يختم على قلبه بالنفاق، كما قال تعالى: { * وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) } (التوبة 075-077)(1/18)
وإن كانت الآية نزلت في المنافقين ولكنها لابد وأن تلحق المؤمنون شيء، وأن يلحقهم شيء من هذا الأمر ؛ لأن الله تعالى علاقته مع المؤمنين ليست كذلك، أن تعاهده وأن تخلف، أن تعاهده وأن تخلف، وأن تعاهده وأن تخلف، وأن تعاهده ... فتأتي المشكلة أن يطبع على قلبه بهذا الأمر بالنفاق إلى أن يلقى الله تعالى، ليست المسألة إذاً هزلاً في أخذ كلام الله تعالى، لا بد أن تأخذ الكتاب بقوة وتدع اللعب، وهو كما قال تعالى: { فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) } (الزخرف 083) ولكن لابد وأن تخاف من أن تعاهد الله تعالى ثم تخلف، وأن تخاف من أن يطبع عليك بهذا النفاق إلى أن تلقى الله تعالى، فيكون ذلك الخوف دافعا لسيرك إلى الله تعالى.
الطريق إلى الوفاء بالعهد مع الله(1/19)
وأول ما يحذر منه المرء الذي عزم على الوفاء بعهده مع الله تعالى هو ذلك الهجوم الذي يقوم به الشيطان على أهل الإيمان بعد رمضان، فالشياطين تنطلق في نهاية رمضان، فإنه إذا جاءت ليلة العيد انفلتت الشياطين من أصفادها وهمها الأول أن تفسد على المتعبدين في رمضان ما كان منهم من عبادة، فعمل الشياطين في هذه الأيام من ليلة العيد إلى بقية هذه أيام العيد ليس إلى أصحاب المعاصي والسيئات والذنوب، وإنما كل عملهم متوجه إلى المتعبدين في رمضان ؛ ليتم إفساد ما كان من عمل، وليحاولوا أن يعودوا بهؤلاء المتعبدين مرة أخرى إلى ما كانوا عليه من تقصير وتفريط، وإلى ما كانوا عليه من قلة العبادة وعدم الإحساس بحلاوة الطاعة والإقبال على الله تبارك وتعالى، ولذلك فمن النادر أن تجد حالة المتعبدين بعد رمضان في تلك الأحوال الحسنة التي كانت في رمضان ؛ لشدة ما يجلبه الشيطان من وسوسة وإفساد لما كان من هذا المعاملات والعبادات الحسنة في رمضان. وتختلف طرق وسوسة الشيطان باختلاف أحوال المؤمنين بعد رمضان ولكن كل همه أن يمنع المرء من أن يقوم وأن يجاهد نفسه، وأن يحاول السير في طريق الله كما سنوضح.
1. عدم اتباع وصية الشيطان: ابدأ في رمضان القادم
فيأتي الشيطان إلى فريق من المؤمنين يعدهم ويمنيهم، ويقول لهم : هذا رمضان قد مرَّ ولم تخرجوا بالمغفرة، ولم تخرجوا بالرحمة ولم تعملوا الأعمال الصالحة التي كنتم تريدون أن تعملوها، ولم تقوموا لله تعالى بحق رمضان، ولم تفعلوا كذا وكذا، وها قد خرجتم من رمضان لا أظن أن أحدًا منكم ينتظر مغفرة الله، ولا أحدًا ينتظر أن يعتق رقبته من النار، من الذي عمل من الأعمال الصالحة ما يعتق به من رمضان ؟ أو من الذي عمل من الأعمال الصالحة ما يكون سبب مغفرته ؟ من الذي فعل ذلك ؟(1/20)
وحتى إذا أيأسهم ، وهو حالهم على الحقيقة، أنهم فعلاً في رمضان الماضي قبل هذا قد عاهدوا الله تعالى على أن يأتي رمضان هذا فسيستعدون من أول يوم وسيبذلون جهدهم ووقتهم، وسيصلون ويقومون ويعتكفون ويتصدقون ويفعلون ويفعلون، وكفى ما مضى من رمضانات لم يستشعروا فيها مغفرة ولا لم يستشعروا فيها توبة ولا عتقًا من النار، وجاء رمضان ودخل وخرج رمضان كما هم اليوم كما كان سالف حالهم في الزمن الماضي، وهي حجة الشيطان وهي حجة صحيحة، أنه ها قد خرجت من رمضان ولم تفعلوا شيئًا، أوصيكم، هذه وصية الشيطان ، أن تعقدوا العزم مرة أخرى، وأن تعاهدوا الله تعالى أن تكونوا في رمضان القادم أحسن منه في رمضان الحالي، هذا هو عهده، عهد الشيطان ... للمؤمنين اليوم.
فيوصيهم الشيطان اليوم أن يستعدوا لرمضان القادم إن شاء الله .. دعك من هذا، وإن شاء الله في رمضان القادم ستكون أحسن، وعاهد الله تعالى على ذلك وحذار ألا توفي لابد أن توفي بذلك، هذا الشيطان يعظكم ، نعم عاهدنا الله تعالى هذه الأيام على أن يكون إن شاء الله الاستعداد في رمضان القادم، أليس كذلك ؟
فليكن المؤمن على حذر إذن من هذه الوصية وليعلم
أن الشيطان يقف له ليقطعه عن الطريق...
قطعه اليوم وسيقف له غدا...
لن يأتي له الشيطان في اليوم التالي ويقول له :ها.. أنت رجل طيب، أنا قد قطعتك عن طريق الله تعالى بالأمس، وقد عاهدت ربك اليوم فاذهب إن شاء الله أطع ربك واستكمل طريقك إليه؟!
لا ولكن سيقول له : أيها الأحمق...
قد ضحكت عليك في الأمس ومنيتك باليوم وبالغد، فقد ضحكت عليك، واليوم كالأمس والغد كاليوم وهكذا...
كما فعل به في رمضان الماضى والذى قبله والذى قبله، كل رمضان يأتي عليه ليقول له عندما لم يحقق أسباب المغفرة ولا أسباب الشكر، ولم تظهر عليه آثار هذه الأنوار من أنوار الطاعات،
فإذا به يقول له : إن شاء الله في رمضان القادم ستبدأ...(1/21)
وفي القادم يقول له : أيها المغفل.. تتخيل أنني سأتركك تعبد ربك ؟!! ها كما فعلت بك في العام الماضي سأفعل بك في هذا العام.
فها قد علمت ردك على قول الشيطان لك: إن شاء الله في العام القادم ستكون أحسن، أن تقول له: لعل هذا اللعب الذي نحن فيه، ولعل هذا التردد، وهذه اللامبالاة التي نأخذ بها كلام الله تعالى وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - - لعلها تكون سببا في إغلاق باب التوبة، لعلك تعيش إلى العام القادم كما عشت في المرة الماضية، ولكن من أدراك أن الله تعالى يفتح لك باب التوبة ؟ ويفتح لك باب المغفرة ؟
انظر المولى سبحانه وتعالى ينظر إليك، يريدك أن تأتي إليه وأنت على هذا الحال السيئ مع المولى سبحانه وتعالى، فلعلك إن تكون على هذه الحال فإذا به يغلق باب التوبة دونك، وإذا بك قد أغلق الله تبارك وتعالى هذا الباب فمن الذي أدراك أيها المسكين أنك إن عشت أن يظل باب الله تعالى مفتوحا لك، لم يغلق في وجهك بسبب سوء صنيعك وبسبب ترددك وبسبب كثرة لعبك وبسبب إخلافك وعدك مع الله تعالى وبسبب تركك للوفاء بالعهد معه جل وعلا ؟
2. الحذر من الغرور بعبادة رمضان
وقد يقول قائل : نعم أنا قد خرجت من رمضان وقد وفقت إلى العمل الصالح وفعلت كذا وكذا وكذا وكذا من الأعمال الصالحة، يقول له : نعم قد جاءك الشيطان بهذه المرة ليطمئنك إلى أنك قد عملت الأعمال الصالحة، جاءه الشيطان ليُلبِّس عليه، يقول له :لا ..أنت لست كغيرك، أنت قد اجتهدت فصمت وقمت إلى آخر هذا الاجتهاد الذي يدعي.(1/22)
وإذا بها تلبيسات أخرى من تلبيس الشيطان يريد منه أن يقعده عن العمل، وعن مواصلة السير إلى الله تعالى، وأن يكون هذا الشخص المسكين الذي ينظر هذه النظرة - يُدل بعمله على الله، أن يستعظم عمله على الله تعالى، وأن يظن أنه قد فعل وفعل، وقد ذكرنا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يهدم هذا التلبيس من الشيطان : " لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا : ولا أنت ؟ قال : ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته" (1).
فإن جاءك الشيطان وقال لك : أنت صمت، وأنت قمت، وأنت فعلت، قل له : لا، كل ذلك لا يثني عن مواصلة السير إلى الله، عن الاستعداد، عن بذل الشكر لله حتى لو قال لك : أنت فعلت وأنت صليت، قل له : إذن أنا أحتاج أن أشكر الله تعالى، وأن أخضع له، وأوفر هذا الوقت والجهد لطاعته سبحانه وتعالى، أن يصرف كل هذه النعم التي أعطاه الله تعالى في مرضاته شكرًا له.
فهذه تلبيسات أخرى للمؤمنين المتقين من خرج من رمضان وقد حَصَّل شيئا من التقوى لله تعالى كما ذكر الله تعالى { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ tbqà)s? } (البقرة 183) يحذر من هذه التلبيسات الشيطانية بأن يروا أنفسهم قد فعلوا شيئًا وهم لم يفعلوا على الحقيقة إذ هو محض فضل الله عز وجل، وليخش المرء من أن يكون ذلك الاستعظام للعمل سببا في أن يكون من المطرودين المردودين مع الله تبارك وتعالى، وأن تكون هذه بداية مرة أخرى للتفريط والتقصير في هذه الحقوق في هذه العبادات وهذه الرحمات التي قد حصلها في رمضان الذي نحن فيه.
__________
(1) رواه مسلم (2816) كتاب صفة القيامة والجنة والنار ، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله .(1/23)
ولكن إن فعلوا شيئاً فهم يحتاجون إلى الشكر، وإن وُفقوا للشكر، فهم محتاجون إلى شكر الشكر ؛ لأن الشكر نعمة من الله تعالى لا تستطيعه، لا يوفق الله تعالى أحدًا إلى الشكر هكذا، فإن وفقت إلى الشكر فنعمة عظيمة تحتاج أن تشكر عليها وهكذا، لتظهر في النهاية إلى مرحلة العجز عن الشكر.
3.المسارعة في البدأ من ليلة العيد
فمحاولة الوفاء بالعهد تقتضي منك أن تعاود ربك هذه الأيام أن تبدأ عهدك من ليلة العيد بأن توفي مع الله تعالى...
فأهم الأيام التي يوفي فيها بعهده بعد رمضان هذه الأيام الأولى من شوال،
ولا يظن المرء أن أيام العيد هي أيام التساهل...لا ،
ا تكون فترة العيد وفترة السرور والأكل، لا تكون أبدا سببا للبعد وسببا للتقصير وسببا للتفريط وسببا لترك ما كان عليه من أحوال حسنة ؛ لأن هذا دليل على أن هذه الأحوال الحسنة لم يكن لها هذا الأثر في قلب المرء ؛ لأن المرء إذا أحب ربه وأقبل عليه صعب عليه أن يتنازل عن السير في طريقه، كيف يتنازل عن هذه المحبة ؟ ذلك عنده كالموت ، أو كالسمك عندما يخرج من الماء، ويدل ذلك على أنه قد تعلق بربه فعلاً، وأنه مهما كانت الظروف لا يمتنع عنه، ومهما كانت الظروف فإنه لا يقصر في حقه، وإنه مهما كانت الظروف فإنه لا يقدم محبة شيء على محبته، ومهما كانت الظروف فإنه لا يستوحش منه، بل ربه كما ذكرنا أنيسه وذكيره وحبيبه وحاضره كما قال : "أنا جليس من ذكرني" وإذا كان ربه جليسه سبحانه وتعالى في الذكر وفي العبادة وفي غيرها فإنه يستوحش من غيره، ولا يحب أن يختلط بغيره حتى لو اختلط بغيره، يختلط به في المنفعة التي تعود على قلبه بالسلامة لا يختلط بما يكون سببا في أن يسهو قلبه عن الذكر والعبادة، وهذه الخلطة ومفسداتها نراها في أحوالنا يريد أن يقوم ليله لا يستطيع لقسوة قلبه وثقل هذه الخلطة على القلب والغفلة.(1/24)
فالمرء يجلس للكلام مع إخوانه، أو يذهب ليزور فلانا، أو فلانا أو ليفعل عملا من أعمال الدنيا - وهو عاقد بعزمه على أن يقوم ليله - أو أن يقرأ ورده أو أن يفعل شيئا من أفعال الطاعات إذا به بعد هذه الخُلطة قد ضعف قلبه، ولا يستطيع أن يقوم للقيام ولا للعبادة ولا لقراءة القرآن، وإذا به يقول : غدا - إن شاء الله - سأحاول مرة أخرى، فهذا غير الحال التي كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولننظر إلى حاله - صلى الله عليه وسلم - التي تختلف عن حالنا اليوم وكيف كان لا يفتُر يوما عن طاعة ربه جل وعلا، فقد كان عمله دائما - صلى الله عليه وسلم - ، وكان يقول : "أحب الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه" (1) فلم يكن عمله في رمضان ولا في غير رمضان بل كان عمله متصلاً، فإذا جاء رمضان وموسم من مواسم المغفرة العظيمة إذا به يزداد اجتهادًا ليحصل كما ذكرنا ليلة القدر وليحصل جائزة الرب وليحصل تلك المنافع والمصالح في هذه الأيام التي يقبل فيها المرء على ربه في العشر الأواخر تزاد هذه الطاعات بتحصيل هذه الرحمات ؛ لذلك كان يجب على المرء أن يكون على هذه الحال في هذه الأيام، وهي حال الحنين إلى الطاعة.
4. استشعار الحنين إلى الطاعة
__________
(1) رواه الإمام مسلم في صحيحه (785) من حديث عائشة رضي الله عنها .(1/25)
فلابد للمرء بعد رمضان أن يستشعر الحنين إلى الطاعة، سواء خرج بعد رمضان مقبولاً خرج مردودًا خرج خائبًا خاسرًا، خرج كما كان ،عاد سيرته الأولى قبل رمضان ؛ لا قيام ولا قرآن ولا ذكر، وإن كان شيء من ذلك فهو قليل لا يمكن أن يكافأ ما كان فيه في رمضان ؛ فإن ذلك الحال لا بد وأن يكون الجميع فيه على معنى الحنين إلى الطاعة والحنين إلى الوقوف بباب الله تبارك وتعالى. والحنين إلى حلاوة الإيمان، والحنين إلى التعلق بالله تبارك وتعالى ذكره والإقبال عليه، الحنين إلى الطمأنينة إلى الله تبارك وتعالى إليه والركون له، وهي علامات المحبة والإقبال على الله تعالى التي تبين أن المؤمنين إنما هم في كل حال كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحوالهم متصلة دائما مع الله تعالى.
لا تتأثر هذه الأحوال بشيء إلا ما يكون سببا لزيادتها ، زيادة المحبة والحنين إلى الله تعالى والشوق إلى الله تعالى والحنين إلى عبادته، وكذلك استشعار حلاوة الإيمان وحلاوة الطاعة، والذكر والتوكل، وما كان في المرء من أحوال حسنة يود أن تبقى ويود أن تستمر ويود أن تزيد مع الله تبارك وتعالى،
يستشعر فيها قلبه الثبات على طريق الله تبارك وتعالى ويستشعر فيه قلبه الإقبال على الآخرة والزهد في الدنيا، ويستشعر فيها كذلك أنه يحب الاستعداد للقاء الله تعالى وسرعة الرحيل إلى الله جل وعلا .
فهذه المعاني تبعث في القلب هذا النور الذي يحمل على المجاهدة وعلى ألا يترك باب الله تعالى أبدا مهما كان خائبا، ومهما كان مقصرًا ومهمًا كان على الحال السيئة التي أخذته الدنيا والولد والمال والمعيشة وما يتعلق بهذه المسائل التي تدعو إلى الغفلة، وتدعو إلى النسيان، وتدعو إلى عدم التذكر وإلى عدم الوفاء فيما عاهد الله عليه، أن يكون على الحال الحسنة في رمضان التي كان عليها.(1/26)
لذلك فلا بد أن يستشعر المرء هذا الحنين إلى الطاعة، وأن يستشعر محبة الرجوع إليها والسكون إلى هذه المعاني مرة أخرى لما لها من العواقب الحسنة. فكثيراً ما نسمع هذه المقولة، وهى أن السلف كانوا يدعون الله تبارك وتعالى ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان، وستة أشهر أن يبلغهم رمضان التالي، فكأنهم متعلقون بهذا الإقبال على الله تبارك وتعالى، فمن كان على هذه الحال بعد رمضان، من المحبة والإقبال، وفي نفس الوقت إذا لم يجد ذلك فيدل على حال الحزن والتألم مما رجع إليه من الأحوال السيئة، ومما عاد إليه من التفريط والغفلة، ومما عاد إليه من نسيان للعهود مع الله تبارك تعالى، والقعود عن الطاعة والنوم عن القيام والاجتهاد.
ويرجى بهذا الحال أمران:
الأمر الأول: مداومة الوقوف على باب الله تعالى ليفتح له أبواب الطاعة مرة أخرى، وأن يثيبه على هذه النوايا الحسنة، وعلى هذا الإقبال الجيد على الله تعالى.
والأمر الثاني: يوشك أن يبلغه ما لم يبلغه في رمضان وهو أن يعفو عنه ؛ لذلك كان يقولون : اللهم عافنا واعف عنا بعد رمضان أياما كثيرة يرجون بها العفو من ربهم سبحانه وتعالى.
فإذا لم يغفر لهم في نهاية رمضان بالصيام والقيام وليلة القدر، وهذه الأبواب من أبواب المغفرة والعتق من النار، فإن هذا الحنين إلى الطاعة والشكر والحزن على ما فات، وأنه يبدأ فيوفي بعهده مع الله تعالى في هذه الأيام يوشك أن يعفو عنه سبحانه وتعالى، ويفتح له هذه الأبواب من أبواب الطاعة والمغفرة.(1/27)
ومع أن أيام العفو قد مضت إلا أن ارتباطه بها وركونه إليها وحزنه على فواتها ومناشدته ربه سبحانه وتعالى أن يفتح عليه بهذه الأعمال من أعمال الطاعة واستشعار حلاوتها والرجوع إليها يمكن أن يكون مصاحبة هذه الأحوال الحسنة للعبد سبباً مرة أخرى في أن يعفو عنه سبحانه وتعالى وأن يغفر له وأن يعتقه من النار، وأن يهيىء له سبيل الرشاد مرة أخرى، وأن يفتح له طريقه إليه جل وعلا، وأن يأخذ بيده تبارك وتعالى، وأن يقويه على هذه الأحوال. وأهم ما يعاود المرء إليه شيئين:
1. معاودة قيام الليل من ليلة العيد
وأول الطريق الذي يبين هذا الحنين أن يقوم الليل من ليلة العيد...مهما عارضه من معوقات: الأهل والمال والولد والزيارة ويروح ويذهب ويأتي ويأكل كل هذه المعوقات ليست لليوم فقط، وإنما هذه المعوقات التي ترده على عقبه من أوله ومن آخره، والتي تكون لها آثارها السيئة بعد ذلك.
2. صيام ستة أيام متتابعة بعد يوم العيد مباشرة
والأمر التالي وهو الذي بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر" (1) ليدل بذلك على عدم تململه من الصيام وعلى الحنين إلى أيام رمضان وليحذرمن أن يأتي له الشيطان يقول له : تصوم ستة أيام متتابعة ؟ هذه كثيرة عليك !!صم الاثنين والخميس، وصم يومًا وأفطر يومًا أو الأيام التي سيكون فيها زيارات لك أو ستزور أهلك، أو يزوك الناس أَفْطِرْ فيها وهكذا... ويضل الشيطان يوسوس له حتى يخرجه عن هذه العزيمة، ويخرجه عن هذا الهم من هموم الطاعة والعبادة، فإذا به قد انفلت عقده، وإذا به انفرط عليه حاله وإذا بشوال يمر ، وإذا به لم ينته من هذه الأيام الستة ، ويقول : غدًا ذو القعدة، ليحاول أن ينتهي من هذه الأيام ؛ لذلك كان ما يظهر فيه هذا العمل ذلك الصيام وذلك القيام .
__________
(1) رواه الإمام مسلم في صحيحه (1164) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.(1/28)
وقد أشرنا في الزمان الماضي أن من علامة قبول الحسنة أن يوفق للحسنة بعدها، وأن من علامة رد الحسنة أن يفعل السيئة بعدها ؛ لذلك يقول الإمام ابن رجب في لطائف المعارف: ما أقبح السيئة بعد الحسنة ؛ تمحق هذه الحسنة، وما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحها، وأحسن من ذلك كله الحسنة بعد الحسنة تزيدها وتباركها عند الله تبارك وتعالى، إذًا فالمرء يحتاج إلى رسوخ هذا المعنى في ذهنه وهو أن يوفق للحسنة بعد الحسنة، وطريقها كيف يبدأ بالوفاء بما عاهد الله عليه ؛ لأن التوفيق إلى الحسنة يعني إن كان في القيام وفق للقيام بعد رمضان دل على قبول القيام في رمضان، وفق للصيام بعد رمضان دل على قبول الصيام، وفق للصدقة وفق لدوام الذكر، وفق لاستمرار تلاوة القرآن وإدمانه والإقبال عليه والتأمل فيه والتدبر.
- - - - -
علمنا إذن كيف خرج المؤمنون يتفكرون
كيف يوفون بعهدهم مع الله تعالى مرة أخرى...
كيف يبدأون مع الله تعالى بداية جديدة...
بداية الاستقامة على السير في طريق الله...
كيف يلازمون طاعة الله تعالى مرة أخرى، وأن يقبلوا على الآخرة، وأن يزهدوا في الدنيا، وكذلك على أن يتعلموا كيف يكونون مع الله تبارك وتعالى على حال لا تردد فيه ولا تراجع، وأن يكونوا مع الله تعالى على أحسن الأحوال التي ينبغي أن يتطلع إليها المؤمن، وأن يشتاق إليها مع الله تعالى، لا أن يكون كعبد السوء يوفي مرة ويتراجع مرة، ويتوب مرة وينكص مرة، ويطيع مرة ويعصي مرة، إذا كان ابنك على هذا الحال لا ترتضيه، إذا كان من يعمل عندك كذلك مرة يطيعك ومرة يعصيك ومرة يتأخر عنك ومرة يتكاسل ومرة يأتي، لابد وأن تطرده في النهاية.
- - - - -
الاستقامة على طريق الله بعد رمضان
1. معركة الشكر:
…1. القيام. 2. ورد القرآن. 3. ذكر الله تعالى.
2.إيثار الآخرة على الدنيا
1. قصر الأمل . 2. المسارعة للعمل الصالح.
3.التحقق بعلامات محبة الله
1. تقديم محبة الله ورسوله على كل محاب النفس.(1/29)
2. كراهية ما يكره الله تعالى من المعاصي.
3. إدمان كلام الله تعالى.
4. الحزن على فوت حظك من الله.
5. محبة المؤمنين والذلة لهم.
ثالثاً: الاستقامة على طريق الله بعد رمضان
وبعد ما علم المرء أن العهد الجديد هو بداية السير إلى الله تعالى، وعلم كيف يوفي بهذا العهد بعد رمضان مباشرة ولا يؤخر ولا يُسوف، فالسؤال الآن:
كيف يسير المرء السير الحثيث، المنتظم إلى الله تعالى؟
كيف يثبت على الاستجابة لأمر الله تعالى، وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟
كيف يتحقق بمعاني المجاهدة وكيف يحمله هذا إلى الله تبارك وتعالى ويثبته على طريقه ؟
كيف يستقيم على السير في طريق الله تعالى؟
فلم يأت رمضان لتكون عبدًا لله ثم بعد ذلك تعود إلى سيرتك الأولى من البعد والتكاسل والغفلة، ولكن رمضان وما يكون فيه من تسلسل الشياطين وما يفتح فيه من رحمات، يكون عونًا لأهل الإيمان على الوصول إلى طريق الله فما أن يخرجوا من رمضان حتى يستقيموا على السير الحثيث المنتظم ويتسابقون في هذا الطريق حتى يلاقوا الله تعالى، وهذا هو طريق عباد الله تعالى وأحبائه.
فالاختيار الآن بين ما ينبغي أن تكون عليه من المسابقة في الطريق ومن محبة الله تعالى فذلك يشعرك بالحياء من الله تبارك وتعالى والخجل أن تكون عبدا في هذا الحال ولا تسابق طريقه، وتتنافس لتكون الأول عند الله تعالى.
وقد ذكرنا من حال الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - وكيف كانوا يتسابقون في هذه الأعمال ؟ وقد ذكرنا كيف يتسابقون في القيام والذكر كيف يتسابقون في بذل النفس والمال لله تبارك وتعالى، كيف يكون هو الأول في الشهداء إلى الله تعالى ؟
كيف يكون هو الأول في أن يدفع ماله كله لله تبارك وتعالى؟
وكيف يكون هو الأول في أن يقوم ليله، وأن يداوم عليه ؟
وكيف يكون هو الأول في الصدقة والذكر وقراءة القرآن وتعلم العلم وحضور هذه المجالس من مجالس الخير ؟
كيف يكون هو السابق إلى ذلك كله لما علم ؟(1/30)
لما علم قول الله تعالى (سابقوا) علم أنه المراد بهذه المسابقة، وعلم أنه المطلوب أن يكون هو الأول فيها لا أن يكون المتقاعس المتأخر عنها الذي لا يحس بهذا الموضوع من أصله، ولا يهمه ذلك ولا يألمه ولا يثير فيه الأحزان والأوجاع ولا يثير فيه البكاء والحنين إلى الله تبارك وتعالى أن يكون هو المنفذ الأول لكلام الله تعالى المسارع إليه فهذه المسألة، إذًا هي الأمر الذي ينبغي أن يتفكر فيه المرء.
فقضية اليوم هي كيفية الانتظام على السير في طريق الله...
كيفية المسابقة في طريق الله تعالى...
كيفية الثبات على طريقه حتى يصل إليه سبحانه وتعالى.
- - - - -
1.معركة الشكر
فبعد التوفيق للطاعة والعمل الصالح والتوفيق إلى أعمال المغفرة والتوفيق إلى العتق من النار، خرج المرء محبًّا لله تعالى؛ أن وفقه إلى ذلك وأحسن إليه سبحانه وتعالى، وأفاء عليه برحمته وفضله وكرمه وغفرانه، في الوقت الذي يرى فيه الفسقة والفجرة والكفرة بعيدين عن الله تعالى لا يعرفون طريقه جل وعلا، وأهملهم سبحانه وتعالى وتركهم ولم يعبأ بهم سبحانه وتعالى، واصطفاك أنت أيها المسكين المقصر العاصي الجاهل، اصطفاك واجتباك لتكون من أهله سبحانه وتعالى وتكون من خاصته وتكون من أصفيائه وتكون من المقبلين عليه، المصلين له، المسبحين له، القائمين له، الصائمين له، المسارعين له في الخير، ثم إذا بك تترك هذه النعم وتقصر في شكرها، وتترك هذه النعم ولا تقوم بحقها، وتترك هذه النعم ثم تنشغل وتغفل عن مسديها ومكرمك بها سبحانه وتعالى لتنشغل بالفاني الزائل ؟!!!
لذلك كان شكر الله تعالى هو المطلوب الأول لمن أراد الاستقامة على طريقه، لأن الشكر للنعم له ميزاتان -على الأقل -(1/31)
الميزة الأولى: وهي أنه بشكر النعمة تثبت هذه النعمة التي أخذتها من الله تعالى، وبشكر النعمة تزداد النعم، كما قال الله تعالى: { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ } (إبراهيم 007) فمن وفقه الله للسير في طريقه فهذه نعمة عظيمة ويكون شكرها سببًا تثبيت ما كان من هذه النعمة وأيضًا في زيادتها بالمسابقة في السير في هذا الطريق، وعلى العكس فإن كفر النعم يمحق النعم، ويذهب بها، وكفر النعم يعني ترك الشكر ؛ لأنه قال :
{ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } (إبراهيم 007)
فدل على أن ترك الشكر، إنما هو كفر لهذه النعم، فهو يُعلم الناس بأن النعم ستؤخذ منهم، ستذهب هذه النعم التي فتحها الله تعالى عليهم، وكما ذكرنا أن الله تعالى يفتح النعم على المرء، ويعطيه ويهبه سبحانه وتعالى، ويكرمه ويصلح له أحواله التي يريد من الله تعالى، ويعطي ويعطي ويعطي، ينتظر من عبده أن يشكر، أن يشكر، أن يشكر، فإذا به لا يجد من عبده إلا كفر هذه النعم التى لا يستحقها. تمحق بركة هذه النعم، ويعود إلى ما كان بل أسوأ مما كان.
ثم إن شكر النعم يزيد هذه النعم ؛ لذلك المرء بعد رمضان يحتاج إلى هذه القضية ؛ لأن الله تعالى قد ذكر خطورتها في قوله تعالى: { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) } (سبأ 013)
وكأن الشيطان علم ذلك، وهي قصة الشيطان في قوله تعالى : { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ ِNخgخ=ح!$oےw وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } (الأعراف 016-017) .(1/32)
فقضية الشكر هي القضية المهمة التي يحاول الشيطان أن يفسدها على المؤمنين، حتى لا يكون من أهل الإيمان شاكرون لله تبارك وتعالى على الحقيقة؛ وأنه لا بد وأن يقف لهم هذه الوقفة ويقطعهم هذه القطيعة كما قال: { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) } (الأعراف 016)
يعني : ما إن ينتهى رمضان وقد بدأوا فيه السير إلى الله تعالى إذا به يقف لهم بعرض هذا الطريق حتى لا يمر أحد.
ولكن هناك من يمر...... من هم؟
يمر الشاكرون فقط...
الذين قال الله تعالى فيهم: { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) } (سبأ 013) هؤلاء الذين ثبتوا على الشكر، وفي نفس الوقت بذلوا له البذل الذي يمكن أن يكون سببًا لثبات النعمة، وأن يكون سببًا لزيادة النعمة من الله تعالى ؛
لذلك كان المؤمنون بعد رمضان في حاجة إلى الحذر من أن يكون العيد والأكل والشرب والتزاور وغير ذلك مما يمكن أن يحدث ، أن يكون سببًا من الأسباب التي يمنع بها الشكر، ويدخل بها الغفلة على القلب، ويكون كذلك من مواد إضعاف قضية الإيمان، وإضعاف قضية العبادة التي كانت في المرء في رمضان، فحتى لو أراد المرء أن يكون بعد رمضان على حال التزاور والأكل والشرب وغير ذلك، لا بد وأن يكون على حال التيقظ والعهد، وأن يكون موفيًا لعهده مع الله تعالى على بقاء أعمال الإيمان والطاعة.(1/33)
الميزة الثانية: وهو أن استمرار بقاء أعمال الإيمان والطاعة بعد رمضان دليل على أنه قد قُبل في رمضان ؛ لأن المرء بعد رمضان إذا وفق للطاعة وحفظ بها دل ذلك أنه في رعاية الله تعالى، وأن الله سبحانه وتعالى حفظه، وأن الله تعالى وفقه، وقَبل عبادته في رمضان، فإذا قبلت العبادة في رمضان كان دليل قبولها أن يوفق للعبادة بعدها، أما إذا لم تقبل هذه العبادات في رمضان فإن دليل الرفض ودليل الحرمان أنه بعد رمضان يُحرم هذه العبادات مرة أخرى. النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت أعماله دِيمة، يعني كانت أعماله - صلى الله عليه وسلم - في شعبان وفي رمضان وفي غيرها أعمالاً متساوية وإذا جاءت مواسم المغفرة ازداد في الاجتهاد - صلى الله عليه وسلم - ؛
لذلك كان المؤمن في هذه المعركة مع الشيطان في هذه الأيام...
معركة الشكر...(1/34)
وهذه المعركة تستوجب منه المحافظة على هذا العهد الذي عاهد الله عليه أن يستمر على صيامه، أن يستمر على ذكره أن يستمر على قرآنه، أن يبقى على ما كان عليه من أخلاق حسنة في البذل، في الإنفاق، في الجهد، في الإحساس بقرب الرحيل إلى الآخرة، في الزهد في الدنيا، في الإقبال على ربه متجردًا له محبًّا له متعلقًا به متضرعًا أن يحفظه، وأن يوفقه سبحانه وتعالى، وألا يطول عليه الفتور هذه الأيام، لأنه إن طالت هذه الأيام في بعده ونزوله عن الطاعة وفترته وانفكاك وانحلال هذه العزيمة التي كان عليها لا يستطيع أن يرجع بعد ذلك، هيهات أن يرجع المرء ؛ لأن الله تعالى كما ذكرنا في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (خاب وخسر من أتى عليه رمضان فلم يغفر له ) (1) فإذا كان قد خرج بالمغفرة من رمضان فإن هذه المغفرة كما أشرنا أول ما يستوجب هذا الشكر، فإذا كان قد حَصَّل العتق من النار، وحَصَّل رحمة الله تعالى أن الله تعالى قد غفر له فلا بد وأن يظهر عليه آثار هذا الشكر، وهي الآثار التي يسعى الشيطان لإفسادها حتى يخرج بالمؤمنين عن طريق الله تعالى. فما هي هذه الآثار ؟
آثار الشكر: 1. قيام الليل
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير (1990) وأبو يعلى في مسنده (5789) وصححه ابن حبان في صحيحه (410).(1/35)
وأول الآثار التي يسعى الشيطان لإفسادها على المؤمنين ليخرجهم من طريق الشكر..هو قيام الليل. إذا ما تمكن الشيطان من أن يفسد عليك هذا القيام، وأن يفسد عليك وردك من القرآن، انتهت مشكلته معك.. استراح الشيطان منك، وعلم أنك لن تستطيع أن تقاوم ذلك، فإن المرء إذا كان له ليل حسن مع الله تبارك وتعالى، فإن ذلك يعود على نهاره، فإن نهاره يكون نهارًا حسنًا، كذلك في العبادة والذكر تأتي عوائق الشيطان كما ذكرنا ومعوقاته في هذه الأيام لتكون سببا ؛ لأن يبعد المرء عن هذه الطاعات والعبادات، وليتخفف منها وليؤجلها وليُسوف بعضها ..وليترك بعضها، وليتخفف من بعضها ..حتى يصل المنحنى في النهاية إلى الصفر مرة أخرى ... ليعود المرء سيرته الأولى..
ويصاب المرء بعد رمضان ، بانفصام الشخصية والرجوع إلى السيرة السيئة الأولى ، فيظهر في قيام الليل، أول ما يفكر فيه الشيطان أن ينيمه في ليله، وألا يجعله قائما مرة أخرى لله تعالى، وأن يأتي عليه الليل فيقول : سأنام قليلا وأستيقظ قبل الفجر، هذه الحركات الشيطانية التي نفعلها، فإذا به لا يقوم ولا يصلي، ولا شيء من ذلك يفعله ؛ لذلك كان الوفاء بالعهد على حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول : "أوصاني حبيبي بثلاث لا أدعهن ما عشت : أن أوتر قبل أن أنام، وأن أصوم كل شهر ثلاثة أيام، وأن أصلي الضحى" (1).
__________
(1) رواه الإمام البخاري في صحيحه (1178) ومسلم (721) كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .(1/36)
فالحَذِر، الحريص لآخرته، المترقب لها، المحب لربه المقبل عليه الذي قد خرج ليكون عمله في الطاعة عملا متصلا دائما الذي لا يمنعه عن حبيبه شيء ، تجده متعلقًا به مقبلاً عليه محبًّا له روحه تزهق عندما يبتعد عن الإقبال عليه والتعلق به، ويعينه على ذلك حسن التوكل عليه سبحانه وأسوته في ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وحاله المشرف فلم يكن يشكر ويقرأ ويصلي ويقوم ويتصدق في رمضان، ثم بعد ذلك كأن رب رمضان ليس موجودًا في شوال وفي بقية الشهور، لا ..فهذا العمل الدائم هو الأحب إلى الله تعالى.
وليكن المرء على حذر من النقطة لأنها مرتبطة بالوفاء بالعهد الجديد مع الله تعالى فالمصيبة الأولى التي يصاب بها في قلبه وعمله والتي تكون سببًا لنكص العهد... ترك القيام. لماذا عاد بعد رمضان فلم يوفق إلى القيام ؟ ترى ماذا كان يفعل ؟
لماذا كان في رمضان يقوم ويتهجد وطوال الليل يصلي، ثم بعد ذلك لا يصلي؟ ما الذي فعله حتى حرمه الله تبارك وتعالى ذلك؟ فقيام الليل ولذة المناجاة من الجنة، فهي ليست من أعمال الدنيا ولا من سعادة الدنيا، فالدنيا لها سعادتها التي يسعى إليها الساعون في هذه الحياة الدنيا، أما قيام الليل ولذة المناجاة والإقبال على الله تبارك وتعالى والتملق والدعاء والمحبة كل ذلك ليس من الدنيا... ليس من سعادة الدنيا ولا من نعيمها ولا من سرورها، وإنما من سرور الجنة ومن سعادة الآخرة.(1/37)
وهذه لا يهبها الله تعالى إلا أناسا أحبهم فأقامهم لها جل وعلا، فلماذا أقامهم في رمضان وبعد رمضان انتهى ذلك ؟ حرمهم منهم، هل كان قيامهم في رمضان مغشوشا ؟ هل كان قيامهم في رمضان على غير المحبة والإقبال على الله تبارك وتعالى ؟ هل كان قيامهم في رمضان لوجود الناس فقط، ثم بعد ذلك لما اختلوا بربهم لم يوجد السبب الداعي لذلك من محبة لربهم وتعلقهم به وإقبالهم عليه سبحانه وتعالى، أو من استشعارهم قرب الآخرة ودنو الرحيل إلى الله تبارك وتعالى، أو لعدم ثقتهم فيما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفضائل التي قالها - صلى الله عليه وسلم - في قيام الليل والإقبال عليه.
فهذا التدبر لهذه المعاني أول حل هذه المصائب؛ لأن حل هذه المصائب سيحل كثيرًا من مشاكل المرء فحلها الذي ذكرناه في رمضان هل تذكرون ما كنا نقول فيه ؟ " لئن شهدت مشهدًا آخر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليرين الله ما أصنع "(1) وهو كيفية أن يوفي المرء بعهده يقول : ها قد حدثت هذه المصيبة ووقعت بعد رمضان،
لا بد وأن أوفي بهذا العهد...
وأن يوفي بهذا الوعد مع الله تبارك وتعالى...
وأن يري ربه سبحانه وتعالى ما يصنع في هذه القضية من قضايا المجاهدة وتعوده الشوق له والقيام لله تبارك وتعالى فيها...
__________
(1) رواه البخاري (2806) كتاب الجهاد والسير، باب قول الله تعالى : (من المؤمنين رجال صدقوا)، ومسلم (1903) كتاب الإمارة .(1/38)
وأن يكون مبدؤه في هذه المرة ألا ينام حتى يوتر، ألا ينام حتى يصلي وتره أن يقوم شيئًا مما كان يقوم لله تبارك وتعالى يستشعر به العودة إلى الله تعالى، ويستشعر به حلاوة الإيمان التي كان فيها ويستشعر بها أنه صار بها من أصحاب قيام الليل لله تبارك تعالى الذين لهم ليلهم مع ربهم في التضرع والمناجاة والدعاء والذكر والإقبال على الله تبارك وتعالى كما ذكرهم سبحانه وتعالى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } (السجدة 016) أو كما قال: { كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } (الذاريات 017)
إذا صلحت هذه النقطة بالذات بعد رمضان يصلح معها بقية الأحوال ؛ لأن من كان ليله صالحاً كان نهاره صالحاً، ومن كان نهاره صالحًا ظهر على ليله فلما كان ليله سيئا دل على أنه كان في نهار سيىء كما يقول العلماء.
لا شك إذًا أن تكون قضيتك كيف توفي؟
ليرين الله ما أصنع لن أنام هذه الليلة...
لن يمنعك مانع أن تصلي العشاء فتقوم لتحفظ ليلتك ، ستأتيك ما ذكرنا من وساوس الشيطان عن اليمين والشمال، ومن أمامك ومن خلفك لتقطعك وتأتيك العوائق ، سيقول لك الشيطان بعد العشاء: عندك مشوار، وعندك زيارة، وعندك كذا وكذا حتى يضيع عليك الليل ، يقول لك أَخِّرْ هذا القيام لما قبل الفجر، واستيقظ وحاول أن تصلي فتضيع الليلة، ثم تضيع الليلة بعدها والليلة بعدها إلى أن ينفرط عقده، ويجد نفسه على هذه الحال السيئة مرة أخرى فيبكي على ما كان إن كان هناك بكاء ؛ لأنه يصل إلى مرحلة لا بكاء فيها إذ قد قسا القلب، وجفت العين، ولم يعد يشعر بالخيبة التي وصل إليها ؛ لذلك لا بد أن يكون مبدؤه وشعاره مرة أخرى: ليرين الله ما أصنع ..لن ينام حتى يقضي ورده من الليل.
آثار الشكر: 2. القرآن(1/39)
ولأن ترك القرآن يأتي في المرحلة المصاحبة لقيام الليل، لذلك فهي الأثر التالي من آثار الشكر التي يسعى الشيطان لإفسادها على أهل الإيمان.
وهما المصيبتان اللتان يحس بهما المرء بعد رمضان، بأن ينشغل عن القرآن ويضعف ورده فيه، وتكاد علاقته أن تنقطع يوما بعد يوم إن قرأ شيئا اليوم فلعله لا يستطيع غدًا وهكذا ؛ لذلك كانت القضية الثانية والمرتبطة بإصلاح القلب والعمل هي قضية القرآن.
هذا الورد من القرآن الكريم سواء تقوم به في ليلك أو تقرأه في نهارك لا بد أن يتحقق ..لا تفرط فيه أبدًا...
لا يمر اليوم على المرء حتى يقضي ورده من قراءة القرآن، ومن التفكر في أعماله، وكيفية الوفاء بالعهد مع الله تبارك وتعالى؛ فلا بد وأن يقوم بورده ..ما فرط فيه في أَمْسه ..أن يقرأه في يومه.
فإذا لم يستطع المرء أن يري ربه ما يصنع في قيام الليل أن يريه ما يصنع في قرآنه وكلامه سبحانه وتعالى وهو كذلك سبيل من أعظم السبل التي يصلح بها القلب ويصلح بها العقل ويصلح بها الذهن ويصلح بها البدن، ويصلح بها الوقت وتصلح بها سائر الأحوال التي يوفيها، فإذا لم يتمكن من ذلك قال : ليرين الله ما أصنع في القرآن، ويربط نفسه ليله ونهاره في هذه الأيام ما كان فارغا فيها على كتاب الله تعالى أن يختمه كل ثلاث ليال...
فإذا ختمه كل ثلاث ليال استعاد القلب نشاطه، وحلت البركة مرة أخرى في القلب، واستعاد القلب قوته على مقاومة أمراض الشهوة ومقاومة وساوس الشيطان، ومقاومة وساوس النفس وبدأ القلب قويًا ثابتًا بهذا الكلام المبارك وأخذ منه قدرًا من الهدى والشفاء كما ذكر الله تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } (فصلت 044) فهذه الهداية التي يحصلها يستطيع بها حينئذ أن يقاوم بها شيطانه ونومه وكسله، وأن يوفي بها مع الله تعالى. و الحل الذي ينبغي على المرء
أن يحاول المرء على الوفاء به مع ربه أن يربط نفسه ثلاثة الأيام...(1/40)
من ساعته التي هو فيها.. لا يؤخر ذلك وليتذكر معركته مع الشيطان،
فإن قال له الشيطان : انتظر بعد اليوم ، دعك إلى الليل ، إن شاء الله بعد العشاء ...لا...
لا بد أن يسمع كلام الله تعالى...
وأن يسارع إلى تنفيذه كما ذكر الله تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } (آل عمران 133)، { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } (الحديد 021) { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } (المطففين 026) فدلت كل هذه الآيات أنه ما أن يسمع شيئا من كلام الله تعالى إلا ويسارع إلى تنفيذه لئلا تقطعه القواطع والعوائق والشواغل، وما يأتيه من وساوس الشيطان وأذاه الذي يقطع عنه هذا الطريق إلى الله تعالى، فدواؤك الثاني - بعد القيام - الذي تري ربك فيه ما تصنع ليكون سببا وسبيلا لسعادتك واستعادة قوتك وقواك النفسية واستعادة هذه الهداية وهذا الهدى، وهذا الشفاء : هو القرآن الكريم كما قال: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } (فصلت 044) وكما قال: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } (ص 029)
فمهما أخذت منه أخذت بركة وهدى وشفاء كما ذكرنا، فإن ربطت نفسك في هذه الأيام تريد بذلك أن تعاود ربك، وتريد بذلك أن معاودة الحنين في قلبك إلى الطاعة والمحبة، وتريد بذلك تقوية النفس، وأخذ البركة والنشاط، وأخذ الهدى والنور وأخذ الشفاء لهذه الأمراض التي أصابت المرء هذه الأيام
طريقك هو ربط نفسه هذه الثلاثة الأيام وختم كلام الله تبارك وتعالى فيها ختمة تحس فيها بعثاً جديداً،
وتستشعر مددًا جديدًا من الله تعالى،(1/41)
وبركة جديدة ووجد نفسه قد بدأ يعاود السير في طريقه المستقيم وبدأت الاستقامة تحل على قلبه وبدأ ينزل على هذا القلب بحيث لا يضطرب ولا يقلق ولا يتردد في السير إلى الله فلا رجوع ولا نكث ولا تقهقر.... بل سيثبت وتبدو عليه علامات الهداية وبشريات القبول والإقبال عليه من الله تعالى، لا بد أن يحاولها المرء هذه الأيام وفاء بهذا العهد مع الله تعالى، إن وفى بهذا العهد سيرى حسن عاقبة ذلك.
جرب أيها المسكين هذا الكلام في أن تُري ربك ما تصنع بعد العشاء صلاة وقيامًا وإقبالاً، أو أن تريه ما تصنع في كلامه والإقبال عليه وسترى نفسك عبدا جديدا مع الله تبارك وتعالى الذى بدأ يحيي هذه القلوب مرة أخرى بنزول هذا الغيث كما ذكر الله جل وعلا .
آثار الشكر: 3. ذكر الله تعالى
الأثر التالي الذي يبين شكر نعمة السير في طريق الله هو ذكر الله تعالى، لذلك فإن من أهم ما يوقع الشيطان فيه المؤمنين بعد رمضان هو الغفلة، فتجد نفسك غافلا عما كنت تنظر فى حالك ..لا حول ولا قوة إلى بالله ..أين القرآن ؟ أين أذكار الصباح ؟ أين أذكار المساء ؟ وتجد ساعات طويلة قد مضت عليك لم تذكر فيها ربك سبحانه وتعالى وغفلت فيها عما كنت فيه شغلك الشيطان انشغالا، تراه انشغالا رهيبا عندما تجلس بينك وبين ربك، وتفكر إذا بيومك كله قد ذهب هباء لم تفعل فيه شيئا حتى ما كان منك قبل رمضان لِلَّهِ
وإذا بك ترى اليوم وقد تفلت منك والليلة توشك أن تتفلت منك وقد تعب القلب إلى الدرجة التي لا يتمكن فيها أن يسير مرة أخرى إلى الله تعالى، فتراه يركن إلى النوم أو أي عمل من أعمال الغفلة.
ويأتيك الشيطان فيحاول أن يشغلك بأمور تشغل قلبك وذهنك، فيظهر ذلك عليك في لسانك وذهنك وقلبك.
يأتي على قلبه : اذكر كذا ..اذكر كذا ..اذكر كذا ..حتى يفسد هذا القلب، ويؤثر عليه في بتلك الغفلة.(1/42)
فكان الأمر التالي الذي تواجه به هذه الحالة من الغفلة، بعد أن يرى الله تعالى منك صناعتك في القيام، وأن يرى ما تصنع في قراءة القرآن، أن يرى كذلك أنك من الذاكرين له كثيرا والذاكرات.
لأن هذه الحالة الحسنة مع الله تبارك وتعالى قد ذكرها: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } (المنافقون 009)، فدلت الآية على معنى الخسران، فإذا ما غفل المرء فعلا عن الله تعالى وانشغل عنه إذا به يرى خسران أحواله، يرى الفشل في أحواله، ويرى في أحواله التراجع التقهقر، ويرى فيها انفراط عقده مع الله تبارك وتعالى، ولا يستطيع أن يلم شمل نفسه، ولا أن يجمع قلبه على الله جل وعلا، ولا يستطيع أن يجد ذهنه صافيا مقبلا على الله سبحانه وتعالى يرى قلبه وذهنه قد امتلأ بالأشغال في الدنيا وأرجاسها والمال والولد، وما كان وما يكون والسفر والمذاكرة وكذا وكذا، يجد ذلك كله.
فهذه الحالة من الحالات نهتم بها لأمرين:
الأمر الأول : أن هذا الذكر إنما يحفظ القلب كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذكر الله تعالى : " كرجل خرج العدو في أثره سراعًا حتى إذا أتى إلى حصن حصين حصن نفسه منهم" (1) كذلك المرء يحصن نفسه من الشيطان بذكر الله تعالى فهذا الذكر وإدمانه حتى لو كان شعارا للسان وحلية له فقط، فهذا أخف من أن يكون المرء غافلاً قلبًا ولسانًا عن الله تعالى، وربما من كثرة ذكر اللسان يتواطأ مع القلب حتى يستشعر القلب واللسان معا أن الذكر وحلاوة الذكر، وحلاوة الإقبال على الله تبارك وتعالى فترتفع درجة المؤمن، ويكون ذلك سبب تحصينه الذي يطلبه من الله تعالى كعدو خرج في أثره سراعا حتى إذا أتى إلى حصن حصين حصن نفسه منه.
__________
(1) رواه الإمام الترمذي في سننه (2863) وقال : هذا حديث حسن صحيح .(1/43)
ومن أكثر ما يذكر المرء به ربه : لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة كما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وبها، لو استشعر المعنى أن تحميه من كيد الشيطان، وكذلك أن تحافظ عليه من وساوسه وتعينه كذلك على ما يريد ويأمل من أعمال الخير والقربات والطاعات، فكلما أكثر المرء بعد الأذكار التي يأتيها من التسبيح والتهليل والتكبير لله تبار وتعالى، ومن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله تضم عليه قلبه .
الأمر الثاني : هو الوقاية من التشتت وانفراط القلب على المرء وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من أصبح وهمه الآخرة جمع الله تعالى عليه شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة " (1) كيف يحاول المرء إذا أن يكون همه همًّا واحدًا ؟ هذا الهم الواحد الذي يربط عليه قلبه ويقبل بقلبه على الله تبارك وتعالى، ويجمع عليه شمله ويبتعد بذلك عن الغفلة ويبتعد بذلك عن النوايا السيئة، ويبتعد بذلك عن الانشغال بأودية الدنيا فينسى بها الآخرة، والاستعداد للقاء الله تعالى، ويغوص بها ويغرق في الدنيا فينسى الزهد فيها، وإذا به زاهد في الآخرة غافل عنها لا يعلم أنه يمكن أن يؤخذ في يومه، يمكن أن يؤخذ في ليلته يمكن أن تكون ليلته آخر الليالي أو يومه آخر الأيام فيذهب على هذه الحالة السيئة التي هو فيها.
لهذا كانت قضية الذكر والإكثار من قول :لا حول ولا قوة إلا بالله حيث إنها من الذكر الذي يجتمع به القلب ويلم به شمله ويقبل به على قلبه ويجعل همه هما واحدا هو هم الآخرة إذ أن أهم الهموم أن يقوم لله تبارك وتعالى كما أراد منه جل وعلا، ومن أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه شمله لترى كيف السبيل إلى هذا المعنى ؛
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده (21080) والترمذي في سننه (2465) وقوى الحافظ العراقي إسناده في تخريج الإحياء (4/271).(1/44)
ولترى الحال التي أنت فيها ، وهي من أصبح وهمه الدنيا فإن الله تبارك وتعالى يشتت عليه شمله ويجعل فقره بين عينيه ولا يؤخذ من الدنيا إلا ما كتب الله له، وهذا الحال الذي يبين لك السبب لماذا قد تشتت عليك الشمل، ووجدت فقرك بين عينيك، وخوفك من الغد واليوم، وكيف تفعل؟ ويمكن وكذا وكذا، وهذا الذهول الذي يصيب المؤمنين عن آخرتهم وعن ربهم وعن ذكرهم وعن صفاء قلوبهم وأذهانهم لتلقي هذه المعاني من نور الله تبارك وتعالى الذي يقذفه في هذه القلوب المحبة المؤمنة كما ذكر الله تبارك وتعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ } (الشورى 052-053).
- - - - -
2. إيثار الآخرة على الدنيا
وبعد ما علم كيف يجاهد نفسه على الشكر فإن الاستقامة على طريق الله تعالى والثبات عليه، لها علامة أخرى أو مطلوب آخر ينبغي أن يراه المرء في نفسه وهو التجافي عن دار الغرور والميل إلى الآخرة والاستعداد للقاء الله تعالى والانشغال بالنفس لإصلاح الذات لملاقاة الله تعالى، والاستقامة على هذا الطريق حتى يلاقوا ربهم تبارك وتعالى.
ولا يستقيم إلا التائبون، { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ } (هود 112) التائبون هم فقط الذين يستطيعون الاستقامة، والتائبون أول منازلهم وصورهم التي يتسمون بها ويتصفون بها، التجافى عن دار الغرور والميل إلى دار البقاء وإيثار الآخرة على الدنيا. ولكن ما الذي يمنع المرء من ذلك؟
1. طول الأمل في الدنيا(1/45)
الذي يمنع المرء من هذا التجافي وذلك الإيثار هو طول الأمل في الدنيا وعدم اليقين في سرعة الانتقال إلى الله وسرعة الرحيل إلى الله جل وعلا.. وذلك من أهم أسباب خراب الشيطان على المؤمنين، ومن أسباب إخراجهم عن طاعة رب العالمين، بأن يقول له : إن شاء الله في العام القادم ستكون أحسن، وهذه تضيع أولاً على المؤمنين أول ما تضيع سنته هذه ؛ فيخرج متكلاً على أنه إن شاء الله في رمضان القادم سيفعل، فتضيع عليه أعماله.
من الذي ضمن لك أنك لن تؤخذ في هذه المدة ؟ وهذا الذي ينبغي أن يتفكر المؤمن فيها اليوم، وهي حال ترك الحذر من الموت، يقول : لا لن يموت اليوم، هو شباب : غدًا إن شاء الله سأفعل، إن شاء الله العام القادم سأفعل، من الأسبوع القادم سأبدأ، إن شاء الله من السنة القادمة سأحاول.
لو كان يظن أن ليلته آخر الليالي، وأن يومه آخر الأيام لكان حاله غير هذا الحال،
فلابد وأن يقول : سينتهي من يومه ذلك من كل ما يكون سببا لأن يسود وجهه عند الله تبارك وتعالى، ويختم يومه بالتوبة والإقبال على الله تبارك وتعالى وإصلاح ما كان واستدراك ما يمكن أن يكون من أعمال قد فاتت عليه حتى إذا لاقى الله تبارك وتعالى ؛ لعله أن يرضى عنه سبحانه وتعالى لما كان منه..
فلا يعول المرء على شبابه، على أنه ما زال في العمر بقية وفسحة، وأن هذه الفسحة بعد الشباب إن شاء الله، لا يظن أنه يمكن أن يؤخذ، كما يقول العلماء، فإذا نظر إلى شيوخ مسجده وجدهم عددا قليلا، وكأنه يقول إن الموت في الشباب أسرع من الشيوخ يعني ما عد من الموت لهؤلاء القلة وإنما الشباب هم الذين يذهبون، وأين أصدقاؤك وأصحابك ؟ كل ذلك قد طواهم الموت، ووضعوا تحت الثرى، ولم تتأثر بشيء من ذلك .(1/46)
ألم يأخذ الموت أحدا من إخوانك الشباب حتى تعتبر وتنظر إلى نفسك هذه النظرة ؟ وإذا عولت على صحتك وأنك يمكن أن تفعل، وأن في الوقت بقية، وفي القوة بقية، وفي الصحة بقية، فلعلك يداهمك الموت، أن يداهمك المرض والمرض بريد الموت ثم تنتقل إلى الله تعالى.
فقصر الأمل هي المشكلة التي لم تحل بعد، إذا جاءك الشيطان وقال في العام القادم أو غدا ستعمل أو بعد غد أو الأسبوع القادم أو عندما ترجع من السفر، أو عندما تخرج من هذا المرض، أو عندما تعود من هذه المشكلة، أو عندما ...، قل له: لا { اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } (الحشر 018)…يعني إن الغد أقرب الأيام إلى الله تعالى أن تكون في الآخرة، أقرب يوم لك ولو كان هناك أقرب من الغد لذكره الله تعالى، وذكر (غد) بهذه الصيغة من صيغة التنكير ؛ لأن الغد يوم صعب وخطير { اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } كأنه يقول هل تعرفون هذا الغد ؟ ذلك يوم خطير وعظيم، ويجب على كل أحد أن يستعد فيه لهذا اللقاء.
وهذ الحالة التي ينبغي أن تنظر فيها في نفسك، إن كنت تغفل عن ذكر الموت وتخالف أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "واذكروا هازم اللذات"(1)، وإن المرء إذا ذكر الموت قرب له البعيد، وبعد عنه القريب، وظن سرعة الرحيل، أسفر ذلك له الخوف فيما هو عليه من الأحوال السيئة، فيحاول أن يتوب عن هذه الأحوال وأن يستغفر وأن يرجع وأن يخرج من المظالم وأن يكون مستعدًّا للقاء الله تعالى حذراً منه.
__________
(1) رواه الترمذي (2307) كتاب الزهد ، باب ما جاء في ذكر الموت ، وقال : حديث حسن صحيح .(1/47)
فلا بد أن يخلص من مظالمه بينه وبين الله تعالى اليوم وبينه وبين الناس كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من كان بينه وبين أخيه مظلمة فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم" (1) فإذا به ينهي يومه أو ينهي ليلته على هذا الحال الذى لو ختم له به ختم له بما يمكن أن يقابل به ربه سبحانه وتعالى إذ لا يمكن أن يقابله وعليه مظلمة لا بينه وبين الله وكذا بينه وبين الناس.
__________
(1) رواه الإمام البخاري في صحيحه (2449) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(1/48)
لهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين قضية طول الأمل ويقول: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه"(1)، يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين طول الأمل الذي يجب أن يكون عليه المرء، وهو أن المؤمن ليس له أمل في الدنيا، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكما يقول ابن عمر : إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح " (2)، فأنت تجتهد في يومك فإن فتحت عليك بليلة شكرت الله تعالى وعددتها عمراً جديداً تتمنى لو مت أن ترجع إليه، أو أنك في ليلتك إن عشت إلى يومك شكرت الله تعالى فاجتهدت في ذلك اليوم لعله آخر يوم، أو اجتهدت في تلك الليلة لعلها آخر ليلة، فإن فتح في عمرك ليلة جديدة أو يوما جديدا شكرت الله تعالى على أنه لو ذهبت إلى الله تعالى تمنيت هذه الليلة، أو تمنيت هذا اليوم لأن المولى سبحانه وتعالى يقول: { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ } (المنافقون 010) يأتيه ملك الموت فيقول : أخرني يوما أتوب فيه إلى الله وأرجع، يقول : فنيت الأيام فلا يوم، أخرني ساعة، فيقال : فنيت الساعات فلا ساعة، { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا } (المؤمنون 099-100) فإذا فتح هذا اليوم فهو اليوم الذي لو ذهبت إلى الله تمنيته، فقد أعطاك الله هذا اليوم سبحانه وتعالى، أو قد أعطاك هذه الليلة فما أنت فاعل فيها؟
__________
(1) رواه البخاري (2738) كتاب الوصايا، باب الوصايا، ومسلم (1627) كتاب الوصية .
(2) رواه البخاري (6416) كتاب الرقاق، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كن في الدنيا كأنك غريب .(1/49)
قد ذهبت إلى الله فقلت: أريد ليلة أتوب فيها، أو يوما أتوب فيه وأرجع ؟ قيل لك: خذ هذا اليوم، خذ هذه الليلة، فجئت إلى الدنيا فما أنت فاعل فيهما، والفعل السيئ الذي نحن فيه اليوم أن يضيع الليلة، وأن يضيع اليوم ثم يرجع إلى الله مرة أخرى فيقول : أخرني يوما، قيل : قد أخرناك فلم تفعل شيئًا .
لذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا المعنى : "صل صلاة مودع" (1)، وعندما طلبوا من أحدهم أن يصلى بهم إماماً فقالوا: صل بنا، قال : لا، لا أصلي لكم، قالوا : صل صل، فصلى ثم قال :إن صليت لكم هذه الصلاة، لا أصلي لكم صلاة بعدها، قال : أوَتحدثك نفسك إذا دخلت الصلاة أن تصلي صلاة بعدها ؟ لِلَّهِ هذا طول الأمل، نعوذ بالله من طول الأمل الذي ضيع خير العمل؛ لأنك عندما تدخل الصلاة وتظن أنك ستصلي صلاة بعدها ضاعت عليك هذه الصلاة، انشغلت وخرجت إلى السوق والبيت والمنزل والأولاد والمال وكذا و .... ثم تقول : إن شاء الله في الصلاة التي بعدها سأحاول.
هذه الصلاة ليست صلاة، هذه وسوسة وانشغال، وليست فيها حلاوة إيمان، وإقبال على الله، الصلاة التي بعدها، أما لو دخل هذه الصلاة لذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "صل صلاة مودع" (2)، صل وأنت مودع بها هذه نهايتك التي ينبغي أن تكون فيها، لذلك إذا أتى الشيطان وقال لك : في العام القادم، قل : "صل صلاة مودع ".
كان محمد أبو حبيب - أحد من السلف - كل يوم إذا أنا مت هذه الليلة يقول لزوجته : فأرسلي إلى فلان يغسلني، وإلى فلان يكفنني، وإلى فلان يقضي كذا، وإلى فلان ...، فسئلت في ذلك قيل لها : هل رأى رؤية أنه يموت ؟ قالت : لا، بل كل ليلة يفعل ذلك .
__________
(1) رواه الإمام أحمد (22987) وابن ماجه في سننه (4171).
(2) رواه الإمام أحمد (22987) وابن ماجه في سننه (4171).(1/50)
وكان السلف أيضا يقال لأحدهم: لماذا لا تنام؟ يقول : أخاف أن أُبَيت، يعني يؤخذ غرة ، يأخذه الموت فجأة في ليله أو يأخذه على هذا الحال الذي هو فيه.
لذلك كان ولا بد وأن يكون المرء على حال إذا مات يكون سببا لرضا الله عنه ونجاته، "إذا أحب الله عبدًا استعمله، قالوا: وما استعمله ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : يوفقه إلى عمل صالح ثم يقبضه عليه " (1) والمرء لا يدري متى يقبض إلى الله تعالى فينبغي أن يكون على أعمال صالحة حتى إذا وافاه الأجل استعمله الله تعالى في خدمته ورضي له هذه الخدمة، وختم له به فكانت خاتمة السعادة عند الله تبارك وتعالى.
2. حب الدنيا
والسبب في طول الأمل الذي نعاني منه هو حب الدنيا، وحب الدنيا معناه أن المرء مرتبط بها، مرتبط بالمال والمسكن والأهل والولد والمركب وكذا وكذا، وكلما أحب المرء هذه الأشياء في الدنيا تعلق بها، وإذا أحس بفراقها حاول أن يدفع هذا الفراق عن نفسه، يعني يخاف أن يفارقها، ويكره أن يفارق هذه المألوفات التي أحبها.
قال تعالى: { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } ثم قال: { وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } يعني هم يؤثرون الدنيا، فكأنه يقول تؤثرون الحقير الفاني على الخير الباقي الدائم بجوار الله تعالى.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده (11625) والترمذي في سننه (2142) وقال : هذا حديث حسن
صحيح .(1/51)
فإذا به حتى إذا خطر له خاطر الموت دفعه عن نفسه ؛ لأنه لا يحب ذلك السبب الذي يكون مبعدا له عن هذه المحبوبات وتلك المألوفات في هذه الحياة الدنيا ؛ لذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " مالي وللدنيا " (1)، لا، إنما أنا كراكب استظل في ظل شجرة ثم راح وتركها، لأنه لو تعلق قلبه بشيء منها أحبه، وإذا أحبه فإنه لا يحب أن يفارقه، وإذا أحب ألا يفارق هذا الشيء معناه أنه لا يحب لقاء الله تعالى، لا يحب الموت الذي يعجل بلقائه لله تعالى، لا يحب الشوق إلى الله تعالى، ولقاءه.
وحتى إن تذكر الموت، وازدهر سراج الإيمان في قلبه بعض الشيء إذا به يسوف ويقول : غدا إن شاء الله عندما أكبر، عندما انتهي من هذا الزواج، عندما انتهي من هذا العمل، عندما انتهي من هذه الدراسة، ولا يعلم أن الدنيا كلما فتح له فيها شغل فإن هذه الأشغال تفتح له عشرة أشغال،
ولن تأتي الدنيا يومًا ما لتقول له : أنت رجل طيب، دعك من الدنيا هذه اليوم، هذه الأيام دعك من الدنيا وما فيها، واشتغل بالله تعالى، لن تقول له هذه الدنيا ذلك ،
ولن تساعده نفسه المحبة للدنيا على ذلك،
ولن يساعده ما هو فيه من الغفلة عن الآخرة، والغفلة عن لقاء الله تعالى أن يأتي بشيء من ذلك.
أحوال القلوب مع الدنيا
وبعد رمضان....
الناس في هذا الموضوع منقسمون إلى ثلاثة أقسام:
__________
(1) رواه الإمام الترمذي (2377) كتاب الزهد، باب ما جاء في أخذ المال بحقه، وقال هذا حديث حسن صحيح.(1/52)
الأول: قسم أمله في الدنيا طويل، منهمك في الدنيا، غافل عن الآخرة، لا يذكر الموت، ولا يذكر الرحيل إلى الله تعالى، ويكره ذكر الموت، وذكر الرحيل إليه سبحانه وتعالى، لانغماسه في الدنيا، وانشغاله بها، وتوسعه في جمعها وضمها أو بانشغاله الكبير بالدنيا ونسيانه للآخرة، وغفلته عن الانتقال إلى الله تعالى، وهذا يسميه العلماء المنهمك في الدنيا. الذي يغفل عن ذكر الموت، وعن لقاء الله تعالى، وفي نفس الوقت هو يكره الموت ويكره سيرته ويكره ذكره ؛ لأن هذا الموت سيفرق بينه وبين الدنيا التي يحبها وبين والأهل والمال والولد والتوسع فيها، وبين ما يأمل أن يكون فيها وأن يجمع فيها وأن يكون مكوشًا فيها كما يقولون، فهذا ذكر الموت عليه صعب، وذكر انتقاله إلى الله تعالى أصعب، وهذا ممن يكره لقاء الله تعالى، ومن يكره لقاء الله تعالى فالله تعالى يكره لقاءه كذلك.
والثاني: فهو التائب إلى الله تعالى، والتائب إلى الله تعالى يكره ذكر الموت؛ لا لأنه يكره لقاء الله تعالى لكنه لا يحب أن يلقى الله تعالى على الحال التي هو عليها، وإنما يحاول أن يستعد، وأن يتم توبته، وأن يكمل تمام الاستعداد حتى إذا لاقى حبيبه سبحانه وتعالى، يلاقيه على الحال الحسنة التي يود بأن يلقى الله تعالى عليها.
وهذا يخالف المنهمك في الدنيا في أنه يحب لقاء الله ولكنه يكره أن يلاقيه على هذه الحال السيئة، وعلامة هذا التائب المقبل المحب للقاء الله تعالى التي ينبغي أن تنظر في نفسك فيها، وأن تؤهل نفسك إلى أحسن منها، كمال الاستعداد للقاء الله تعالى، ويجتهد في تحصيل ما يحب الله تعالى وتمام تحصيل الزاد الذي يوصله إلى الله جل وعلا، وأنه منشغل بأن يكون على أحسن حال يلقى بها ربه جل وعلا، وإلا التحق بالمنهمك، التحق بهذا الغافل الذي يكره لقاء الله، التحق بصاحب الدنيا هذا الذي يكره الموت والذي يريد أن يمكث فيها ويريد في نفس الوقت أن يحصل الدنيا.(1/53)
فإن لم يكن حال التائب الذي يقول : أنا قد تبت وخرجت من رمضان على التوبة والعمل الصالح والاستعداد للقاء الله تعالى والاستقامة على أوامره جل وعلا، وأنه يسارع إلى الخير ويسابق وينافس فيه حتى يصل إلى أن يكون بمقربة من الله تعالى، فإنه يلتحق بهذا المنهمك.
ومحبة الدنيا ومحبة الله تعالى كالماء والهواء في إناء واحد، لا يجتمعان، إذا دخل أحدهما خرج الآخر؛ لأنه لا يمكن أن يقول القائل : أنا أحب الله تعالى، وهو يحب الدنيا وهي عزيزة عليه ويخاف من فقدها، وحريص على جمعها، ويحزن إذا نقصت عنده أو فنيت، أو يحزن إن لم يجد له فيها حظًّا ونصيبًا، وهو حزين على عدم تحصيلها، هذه الدنيا لا تجتمع وحب الله تعالى في قلب العبد ؛ لأنه إذا دخل حب الله تعالى فإن الله تعالى يُحقر الدنيا في نظر المؤمنين المتقين، ويبين لهم أنها لعب ولهو: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ } (الحديد 020) والزرع والحرث والسيارات والبنايات والأموال والمناظر التي تعلمون، لذلك لا يجتمع ذلك، يعني حب الله تعالى وحب الدنيا في قلب المؤمن.
وأما الأخير: فهم القليل الشكور، فإن هؤلاء يحبون لقاء الله تعالى ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه " (1)؛ لأنه يريد أن يخرج من دار العسير إلى جوار رب العالمين سبحانه وتعالى، لا يريد إلا مجاورة ربه سبحانه وتعالى .
وهذه الدرجة العالية التي لا يفكر فيها أحد إنما كل من يفكر اليوم يفكر فى ماذا سيعمل غدًا وماذا سيكسب ومتى سيسافر وأين سيفعل وماذا سيقدم،
ولم يقل يومًا ما.... غداً سأذهب إلى الله...
__________
(1) رواه البخاري (6507) كتاب الرقاق ، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومسلم (157) كتاب الذكر والدعاء ، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه .(1/54)
ماذا قدّم وماذا أخّر وبماذا يلاقي الله تعالى وعلى ماذا سيحاسبه ربه تعالى؟
والمؤمن التقي ليس له إلا حالان: حال التائب وحال المحب للقاء الله تعالى، وحال المحب للقاء الله تعالى حال عالٍ، ترى نفسك فيه قد تهيّأت له وانتظرته وأنت تدعو الله تعالى أن تكون على هذا الحال الحسن؟
أم أنك ما زلت هذا المنهمك الذي قد غفل عن الآخرة وغفل عن لقاء الله تعالى، وفي نفس الوقت يكره الموت ويكره ذكره، وإن ذكره ليستعد له، يقول : عندما تنتهي هذه السفرة، عندما يرجع من هذه السفرة، عندما تنتهي هذه الشغلة، عندما يتزوج، عندما يبني، عندما ينتهي، عندما يفعل، وكل ذلك الأمل الطويل الذي يفاجئه الموت بغتة فإذا به يعض على أصابعه الندم .
لذلك كان هذا الحال الذي ينبغي أن تفكر فيه، وهذا الحال يدفع المرء إلى التجافي عن دار الغرور والميل إلى دار البقاء وهذا هو حال المؤمنين المتقين، عندما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "مالي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل في ظل شجرة ثم راح وتركها " (1). أهل الدنيا لا يبالون بهذا الكلام ؛ لأن أهل الدنيا قد انغمسوا وانهمكوا فيها سواء كانوا يحبونها أو يريدون تحصيلها أو يخافون على فقدها، ينبغي أن يعلموا أن المقصود من هذا الكلام أنه من أراد الدنيا... فطريقه الآخرة... ومن أراد الآخرة ستحصل له الدنيا والآخرة.
فإذا سلكت طريق الله أيها الإنسان الخائف على الدنيا، إذا سلكت طريق الله تعالى فإن الدنيا ستأتيك راغمة، وهذا هو قوله - صلى الله عليه وسلم - : "من أصبح وهمه الآخرة جعل الله الإيمان في قلبه، وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة"(2).
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده (21080) والترمذي في سننه (2465) وقوى الحافظ العراقي إسناده في تخريج الإحياء (4/271).(1/55)
أيها المسكين الحزين... لن تفوتك الدنيا التى تخاف من ضياعها أو تحزن على عدم تحصيلها، ولكن كما قال الله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ } (النساء 134) .
فثواب الدنيا والآخرة طريقه المولى سبحانه وتعالى....
طريقه محبة الله جل وعلا....
فتأتيك الدنيا التي تبكي عليها....
تأتيك راغمة.....
فلن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها وأجلها، لن تخرج نفس من الدنيا لها عند الله شيء، وإنه كما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرزق يتبع الرجل كما يتبعه أجله" ، يجري وراءه حتى يحصله . وما عليك إلا أن تأخذ بأسباب الآخرة، وتأخذ بأسباب الدنيا الصحيحة، لتحصل الدنيا والآخرة.
المسارعة إلى العمل الصالح
وهي الحال التي ينبغي أن ينظر المؤمنون المتقون بعد رمضان وبعد الأعمال الصالحة وقبل أن ينتقلوا إلى أيام البر والإحسان في موسم الحج، أن يتفكروا في هذه المسألة المهمة والتي حث النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين عليها، وهي المسارعة والمبادرة إلى العمل الصالح.
والمبادرة يعني ألا يضيع المرء من وقته شيئًا إلا وهو على عمل صالح يبادر فيه ملك الموت كما يقال، ومعنى الكلام كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "بادروا بالأعمال الصالحة ستًا "، مثلاً الحديث الأول : "بادروا بالأعمال الصالحة ستًا" (1)... يعني بادروا بالأعمال قبل أن تقع الفتن التي هي كقطع الليل المظالم " يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرًا، ويصبح كافرًا ويمسي مؤمنًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا" (2)، شيء زائل من الدنيا.
__________
(1) رواه الترمذي (2306) كتاب الزهد، باب ما جاء في المبادرة بالعمل، وقال : حديث حسن.
(2) رواه مسلم (118) كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن .(1/56)
والحديث الأول يبين هذا المعنى وهو أنه لابد وأن تبادر بالعمل الصالح لأنك لا تملك قلبك أيها المسكين أن تصبح عاصيا وأن تمسي مؤمنًا، وأن تصبح فاسقًا وتمسي مؤمنا، من الذي يمسك قلبه، ومن الذي يغلقه الإيمان، لذلك قال - صلى الله عليه وسلم - بادر بهذه الأعمال، يخشى أن يحدث لك ذلك، وأنت مطمئن إلى أنك مؤمن، وأنك إن شاء الله ستصلي، إن شاء الله ستحضر رمضان القادم، وإن شاء الله ستفعل، وإن شاء الله ستفعل، وهذه خيبة الأمل كما ذكرنا التي أشير إليها في الحديث السابق : "صل صلاة مودع" (1)، ما كان يقول ذلك - صلى الله عليه وسلم - إلا لعلمه بهذا المعنى .
والمعنى الثاني يقول : " بادروا بالأعمال الصالحة ستا، هل تنتظرون إلا غنًى مطغيًا، أو فقرًا منسيًا أو هرمًا مفندًا أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر " (2)، والمعنى فيما يقول - صلى الله عليه وسلم - : من الذى يدريك أيها الفقير إذا أغتنيت أن تكون على طريق الإيمان ؟ وما يدريك أيها الغني إذا افتقرت أن تكون على الإيمان لا على التشكك والبعد والاعتراض على الله تعالى، أوأن يغنيك فتطغى فتنسى؟ وتنسى آخرتك وتنسى دينك وتشتغل بالدنيا وهي الحال السيئة السائدة اليوم.
أو أن يأتيك المرض فيخرجك عما كنت فيه من الأعمال الصالحة، أو أن يدركك الكبر فلا تتمكن من العمل الصالح، أو الدجال أو الساعة ؟ يعني كأنه يقول يمكن أن تأتيك فتن في خاصة نفسك أو في عامة الناس تكون سببا في أن تخرج عن مفهوم الإيمان وقضاء العبادة والتقوى والعبادة والرجوع إلى الله تعالى أن تبعدك عن ضوء الله تعالى.
__________
(1) رواه الإمام أحمد (22987) وابن ماجه في سننه (4171) وحسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3381) .
(2) سبق تخريجه.(1/57)
ومن أنت أيها المسكين الفقير ...كلما أتتك شهوة من الشهوات أضاعت عليك عبادة من عباداتك، وقربة من قرباتك، فما بالك لو جاءتك شدة عظيمة بعض الشيء أو جاءك ما يخرجك عن الطاعة والعبادة، لا شك من بدايتها إذا كنت في الشهوة الصغيرة أنت ممتحن فيها فقد رسبت فما بالك بالشدائد العظيمة أو الكبيرة بعض الشيء، وأنت ترى الراسبين في هذه الامتحانات إلى الله تعالى لذلك قال : "بادروا بالأعمال الصالحة " (1)، وقال - صلى الله عليه وسلم - : "اغتنموا خمسًا قبل خمس : اغتنم شبابك قبل هرمك، واغتنم صحتك قبل مرضك، وفراغك قبل شغلك، وصحتك قبل مرضك، وحياتك قبل موتك" (2).
النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين هذا المعنى في اعتراضك على الشيطان، وهو أنك مطالب بأن ترى أن هذه الأعمال وهذه الأنفاس التي تتنفسها اليوم وهذه الأوقات إنما هي عمرك الذي أنت مسئول عنه، فتغتنم ذلك كله قبل أن يحال بينك وبينه، قبل أن يحال بينك وبين العمل الصالح، قبل أن يحال بينك وبين التوبة، قبل أن يحال بينك وبين القرآن والذكر، أو أن يحال بينك وبين المسجد والعبادة، أو أن يحال بينك وبين بقية أعمال الإيمان، لذلك أمر - صلى الله عليه وسلم - بالمبادرة والمسارعة واغتنام الوقت لأنه لا يمكن لأحد أن يفعل ذلك إلا أن يضيع عمره فجأة، وإذا به يرى نفسه فجأة أمام ملك الموت، يقول: { رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ } (المؤمنون 099-100).
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) أورده البغوي في شرح السنة (7/277) ، وحسنه الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (5/204) وصححه - مع إرساله - الحافظ ابن حجر في فتح الباري (11/239) .(1/58)
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في عبادته لله تعالى وأصحابه من بعده رضى الله عنهم كابن عمر وغيره لا ينامون من الليل إلا قليلاً كما سماهم الناس رهبان الليل، كان - صلى الله عليه وسلم - ينام ثم يستيقظ فيتوضأ فيصلي ثم يغفو إغفاءة ثم يقوم فيتوضأ فيصلي ثم يغفو إغفاءة ثم يقوم فيتوضأ فيصلي صلى الله عليه وآله وسلم ليله أجمع، وكان كثير من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان على هذا الحال يخافون أن يأخذوا فيبادروا أعمالهم ويغتنموا فرصة حياتهم حتى إنه قد بلغ عنهم قصص صحيحة في النهاية من هذه الأعمال الصالحة حتى قيل عن بعضهم : لو جاءه ملك الموت لم يجد مزيدا من العمل الصالح، لو قيل : ملك الموت واقف على الباب، لم يكن عنده المزيد يقدمه من الأعمال الصالحة .
حتى في أكلهم وشربهم ودنياهم كانوا يقولون : بين أن يأكل طعامه وأن يتلذذ بهذا الطعام وما تلذذ به قال : بين الفتيت وبين مضغ الطعام خمسون آية، يعني كان يأكل أكله فتيتا يعني يسفه سفا لا يمضغه يقول : بين الفتيت وبين المضغ قدر خمسين آية، يعني يظل يمضغ ويأكل ويضع ... وكذا وكذا وكذا دنيا طويلة.
وكما ذكرنا في قصة عمير بن الحمام رضى الله عنه في غزوة بدر لما قال للنبى - صلى الله عليه وسلم - : لو مت ؟ فقال : دخلت الجنة. فقال عمير: أنا بيني وبين الجنة إلا هذه التمرات التي آكلها فألقاها بين يديه يقول: بخ بخ ، ثم قاتل حتى قتل، ليس بينه وبين الجنة إلا أن يأكل هذه التمرات فألقاها وهكذا. قال: لا حاجة إلى أن يدع نفسه على هذا الحال الذي يرى.
- - - - -
3. التحقق بعلامات محبة الله(1/59)
والأمر المهم في طريق السير إلى الله تعالى والتقرب إليه أنه من سار في طريقه صار أحب إلى الله وأقرب إلى الله وأعلى منزلة عند الله تعالى، وهذه الأحوال لها علامات ينبغي أن تظهر على المؤمنين المتقين لتدل على أنهم أحسن سيرًا إلى الله تعالى، وأقبل على الله تعالى وأكثر جدًّا واجتهادًا وبذلا في سيرهم إلى الله تعالى، وهذا هو المعنى الذي نريد أن نشير إليه، وهو معنى محبة الله تعالى.
كلٌّ يدّعي المحبة لله تعالى ويقول: هو يحب ربه، ولكن الله تعالى عقد الامتحان في محبته سبحانه وتعالى، ووضع الأعلام التي تبين من يحب ربه ممن لا يحب ربه، وتبين هذه الصور التي ينبغي على المؤمن أن يرى هل هو كذلك أم لا، وأن يبدأ فيحاسب نفسه اليوم على هذه المعاني، وإلا من ضاعت دنياه ضاعت أخراه، وإذا لم يكن على هذا الحال دل ذلك على بعده جداً عن طريق الله تعالى .
فما هي هذه المعاني التي تدل على محبة الله تعالى:
1. تقديم محبة الله تعالى ورسوله على كل محاب النفس
فالمحبون يقدمون محبة الله تعالى ورسوله على كل محاب النفس، وإذا تعارضت محبة الله تعالى ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الولد والمال والأهل، وتعارضت مع الجاه والسلطان، وتعارضت مع النفس والهوى، وتعارضت مع النوم والكسل، ومع شهوة الأكل والطعام والنكاح قدمت محبة الله تعالى عليها لذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين" (1).
__________
(1) رواه الإمام البخاري في صحيحه (14) كتاب الإيمان ، ومسلم (44) كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا .(1/60)
لا يجد شيئاً من حلاوة الإيمان من قدم شيئاً على محبة الله تعالى ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ " (1) وانظر إليك كيف تقدم نومك وراحتك على القيام لمحبة الله، وعلى القيام لذكره، وعلى القيام لطاعته، وكيف تفضل أكلك وشربك وشهوتك على القيام بالصيام والذكر والقرآن والقيام بمصالح الدين ومصالح المؤمنين، وكيف تفضل بخلك وحرصك وشحك على الدنيا على أن تنفق له وأن تعطي له وأن تبذل له، ليعطيك أكثر وليفيء عليك أحسن وليرفع منزلتك ويعلي درجتك . انظر إليك أيها المسكين كيف تحرم نفسك عطاء الله تعالى، ورحمة الله تعالى، وكرم الله تعالى، وجود الله تعالى، ومغفرة الله تعالى، وفي النهاية محبة الله تعالى.
__________
(1) رواه الإمام البخاري (16) كتاب الإيمان ، باب حلاوة الإيمان ، ومسلم (43) كتاب الإيمان ، باب بيان خصال من اتصف بها وجد حلاوة الإيمان .(1/61)
أنت الذي تقطع على نفسك هذا الطريق بأن تقدم محابك ومراضيك، أن تقدم ما تشتهي وما تميل إليه على ما يحبه ربك ويرضاه، واعلم أنك إن قدمت شيئًا على محبة الله تعالى كان شؤمًا عليك، إذا قدم المرء شيئًا على محبته سبحانه وتعالى عُذِّب به، أى كان سبب تعذيبه في الدنيا والآخرة ؛ لأنك ما تقدم من شيء تحبه في الدنيا فارقته في الدنيا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أحبب من شئت فإنك مفارقه" (1) . أحبب من شئت ستفارقه، إلا محبة الله تعالى، فإنك تجد هذه المحبة معك في القبر، ومعك في الحساب، ومعك يوم يقوم الأشهاد، حتى تدخل الجنة وليس لك شيء أحب منها كما قال سبحانه وتعالى: { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } (التوبة 072) ...
فانظر إلى المؤمنين المتقين كيف إذ تصادمت هذه المحبة، مع النوم، مع الأكل، مع الشرب، مع الولد، مع المال، مع الدنيا، مع الجاه، مع السلطان، مع غضبه لنفسه، كل ذلك يقدمه على محبة الله تعالى.
وانظر إليك حيث تعارضت عندك علوم الشرع ومحبة الله تعالى وخلقه، إذا بك تخترع عذر كذا، وتتأخر بسبب كذا، وتقدم عليه كذا وكذا، وتراك تفرط في هذه الأمور.
__________
(1) أورده الإمام المنذري في الترغيب والترهيب (627) وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (4355).(1/62)
وهو أول هذه المعاني الذي يجب أن تقيس نفسك به، وأن تقيس إيمانك به، وأن تعلم أنك قد تقدمت في طريق الله تعالى، أو أنك ما زلت كما كنت سيرتك الأولى، وأنك للشيطان، وأنك كما قال الله تبارك وتعالى: { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } الشيطان يعني { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا } فمحبة الله هي المحك، ومحبة الله تعالى يتبعها محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } وعواقب هذه المحبة: مغفرة الذنب، وعدم العذاب كما قال تعالى في هذا المعنى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } (المائدة 018)
قال تعالى لهم ردًّا على هذا القول الفاسد: { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } فكانت المحبة دليلا على عدم العذاب، وكانت المحبة دليلا وطريقًا إلى المغفرة: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } والثانية: { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ } لو كنتم أحباءه ما عذبكم.(1/63)
لذلك كان هذا الطريق هو الذي يبين المؤمنين الصادقين المتقين، من هؤلاء المدعين الذين يدعون محبة الله ويخالفون رسوله سرًّا وجهرًا، ويخالفون الله تعالى وهم يعلمون ذلك في بواطنهم، وفي أعمالهم، وفي أعمال القلب وأعمال الجوارح، ويقدمون محابهم ونومهم وكسلهم ودعتهم وخوفهم، ويقدمون ذلك كله على محبة الله تعالى، إن تعارض شيء مع طاعة الله تعالى، إذا بهم يقدمون هذا الشيء ويؤخرون الطاعة ويسوفونها، ويقومون بهذه الطاعة على الملل وعلى المشقة وعلى الخروج منها، لا على محبتها والإقبال عليها ودوام الوقوف بها لله تعالى، أو على محبة أعمال الإيمان، المقربة إلى الله تعالى .
2. كراهية ما يكره الله تعالى من المعاصي
فإذا كانت المحبة من هذه العلامات بل أعلاها، وكانت هي المحك الذي يبين الإيمان من عدمه كان العكس كذلك يبين هذه القضية، بمعنى أدق : هل صارت المعاصي عندهم أمر من الصبر في حلوقهم، فلا يكون محبًّا لربه قد ظهرت عليه آثار المحبة، وآثار الطاعة، وآثار الإقبال على الله تبارك وتعالى، وآثار التجافي عن دار الغرور، والميل إلى دار الآخرة، والزهد في الدنيا، والاستقامة على أمر الله تعالى، إلا أن تكون المعاصي أصعب شيء على قلبه.
يعني : أن يكره ما يكره ربه سبحانه وتعالى، فلا يكون المرء محبًّا إذا أحب ما يكره حبيبه أبدًا، فتراه يسارع في أن يعلم ما يكرهه فلا يفعله، أن يعلم ما يكرهه فلا يأكله، أن يعلم ما يكرهه فلا ينتصر له أبدًا ولا يغار عليه، أن يعلم ما يكرهه في كل أمره وتصرفه، وقوله وظاهره وباطنه وسره وعلانيته، إذا به لا يأتي شيئًا من ذلك البتة ؛ لأنه إن خالف شيئًا من ذلك يدعي محبة الإله وهو يعصي أمره هذا أمر - كما يقول - :ذلك أمر في القياس شنيع(1/64)
وهي من المسائل المهمة التي لا نرى استقامة أحوال المؤمنين المتقين عليها: أن تكون المعصية أمر في حلقك من الصبر، ذلك العشب المعروف بالمرارة، أن تكون معصيته في حلقك أمر من المر...
أصعب شيء عليك أن تعصيه سبحانه وتعالى..وهو ينظر إليك، وهو يكافئك بالنعم، وهو يوسع عليك، وهو يستر عليك، وهو يترك فضيحتك، وأنت تعصيه سبحانه وتعالى !! وأنت قد امتلأ قلبك من الوساوس والصور والخطرات، التي تعلم من نفسك أنه لو اطلع عليها الناس لوبخوك، ولسودوا وجهك من ادعائك محبة الله!!
كيف امتلأ قلبك ،الذي هو بيت الله تعالى، بما يخالفه وبما يغضبه من وساوس الشيطان وصور الفسق والفساد التي قد امتلأت بها قلوب العباد؟ ، الله تعالى مُطَّلع على ذلك، ينظر إليك ينبغي عليك إذاً أن يكون قلبك خالصًا له، سليمًا له.
إذا وقع في بيته ـ سبحانه وتعالى ـ ما يكره تراك أقرب إلى الغضب وإلى المقت أو إلى المحبة ؟
إذا نظر إليك وأنت تعصيه سبحانه وتعالى، وأنت تخرج عن أمره، وأنت تغضبه تراه سبحانه وتعالى يكون بك مسرورا ؟
تراه يكون لك ضاحكًا ؟ تراه ينزل عليك رحمته، وينزل عليك سبحانه وتعالى عفوه ؟
أو أنك تكون في محل المقت والغضب!...
فإذا سولت لك نفسك أو الشيطان الوقوع في معصية لا بد أن تكون على أشد الحسرة والأسف والتوسل والمسارعة إلى التوبة، والمسارعة إلى الخروج من هذه المعاصي والسيئات، والندم على وقوعها منك وكذلك البكاء لله تعالى أن يرحمك فيها، أن يتوب عليك، وأن يخرجك منها مع العزم على ألا تعود إلى ذلك أبدا، ما شاء الله تعالى.
3.إدمان كلام الله تعالى(1/65)
الذي يبين هذا الأمر من محبة الله تعالى هو دوام ذكره، العلماء يقولون في هذا : أن يكون مستهترًا بذكر الله تعالى، يعني ألا يفتر لسانه، وألا يصبر قلبه عن ذكر الله تعالى، فإن من أحب شيئًا أكثر من ذكره، وإن ذكرك لله تعالى في محل ذكره هو لك: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] كما قال سبحانه وتعالى.
فذكره يبين إقبالك عليه، واستقامة قلبك بعد هذه المواسم من مواسم المغفرة أما أن تعود إلى الغفلة أن يعود إليها لسانك، وأن يعود إليها قلبك، فدليل على أنك لم تستفئ من موسم المغفرة شيئا، وأنك لم تشكر ربك عليها فلم يزدك منها، وأنك قد عصيت وغفلت عنه فعدت إلى حالك السيئة الأولى.
لذلك كان من أدلة سلوك طريق المغفرة هو ذكر الله جل وعلا، ذلك الذكر هو أدل الأدلة عليها ؛ لذلك قال سبحانه وتعالى في طلب ذكره: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [ الأحزاب : 41، 42 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وأن ترك الذكر دليل الخسران كما بين المولى سبحانه وتعالى: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ المنافقون : 9 ] .
وهذا الذكر لله تعالى يبينه محبة القرآن ؛ لأن أعظم الذكر محبة كلام الله تعالى، وذكره سبحانه وتعالى في كلامه، ويبين ذلك إدمانهم كلام الله تعالى، محبة وتلاوتة، وتعلمًا وتعليمًا، واسترشادًا ويبين ذلك استشهادهم به كما بين المولى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } [ فصلت : 44 ] ؛ لذلك كان دليل محبة ذكره محبة كلامه سبحانه وتعالى، ومن جفى كلام الله تعالى وبعد عنه، زل مرة أخرى على تلك الحال السيئة.(1/66)
فمن أعظم الأحوال التي تبين لك أنك صرت في طريقه واقتربت منه وبين ذلك حالك هو إدمانك كلام الله تعالى، هو إدمانك تلاوة هذا الكلام، إدمانك تلاوة كلام الله جل وعلا، ومحبتك لهذا الكلام، وتدبرك لهذا الكلام، صلاةً قراءةً وتلاوة وقيامًا وذهابًا وإيابًا، كل ذلك لا يفتر عنه في محبة الله تبارك وتعالى، وإلا تعرض للخسران كما ذكرنا، وقد ذكرنا تفاصيل هذا الكلام، وإنما نبين هذه الأحوال التي ينبغي أن يتفحصها المؤمن في حاله، أن ينظر في أحواله، إن سار في هذه الأحوال الحسنة، أو مازال غافلاً، مازال منهمكًا، مازال بعيدًا، مازال ناسيًا لله تعالى، ناسيًا للدار الآخرة، وانظر إلى كلام الله تعالى الذي أشار إلى معنى التصدع والإقبال على الله تعالى : { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الحشر : 21 ]، يعني : لعلهم يتفكرون في أحوالهم، لو كانت جبالاً لقد انصدعت وخشعت لله تعالى، فما بالهم صاروا أصلب من الجبال وأشد منها جمودًا وأشد منها قسوة وأشد منها بعدًا، { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الحشر : 21 ].
4.الحزن على فوت حظك من الله
الحالة التالية التي تبين محبتك لله تعالى وهي الحزن والأسف على فوات حظك من الله تعالى، لا تتحسن أحوالك أبدًا بعدما يتم المغفرة، إلا وقد حزنت حزنًا شديدًا وتأسفت على ما فاتك من ذكر الله تعالى وطاعته.(1/67)
هؤلاء الذين لم يبالوا بما مضى عليهم ومروا لا يدل على محبتهم الله ؛ لأنه من فاته شيء من حظه من الله لم يكن أشد أسفا على حظه من الدنيا، فأنت تحزن على ما فاتك من حظك من الدنيا وتندم عليه وتأسف عليه.. وحظك يفوتك من الله تعالى، من ذكره وطاعته وقيامه والإقبال عليه، فلا تتأسف هذا الأسف عليه كما تتأسف على الدنيا ؟ أين محبة الله تعالى ؟ أين إقبالك على الله تعالى ؟ أين تعظيمك لله تعالى ؟ أين تقديرك لله تعالى: { مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } [ نوح : 13 ].
لذلك كان من أعظم الأمور التي تبين هذا الحال الحسن الذي انتقل إليه المؤمنون المتقون أنهم يتأسفون على ما فاتهم، وفي نفس الوقت بدءوا مرحلة جديدة من الطاعة ألا وهى ألا يستثقل المرء طاعته بحبه لله سبحانه وتعالى، ولا يملها، ولا يتضايق منها، ولا يتأفف من كثرتها، بل على العكس دليل المحبة والتحمل وعدم الاستثقال، أنه إذا أحب شخصًا في الدنيا لم يستثقل أن يقوم له بكل شيء، وأن يجاهد في سبيله بكل شيء، وأن يعطيه كل شيء، وتراه يتلذذ بذلك، ويحب أن يكون على خدمته، وأن يوفر له ماله، وأن يحمل عنه، وأن يسافر له، وأن يبذل المشقة الشديدة في تحصيل محبته... فما بالك بالله عز وجل.(1/68)
هذه العلامة المفتقدة في أهل الإيمان وهي عدم استثقال الطاعة بل المحبة لها والانشراح بها وعدم محبة الخروج منها، بل يود أن يكون دائمًا في خدمة محبه سبحانه وتعالى، لا يخرج عنها ولا يتأفف بها ولا يستثقلها ولا يمل منها . إذا كان ذلك كذلك، فـ "إن الله لا يمل حتى تملّوا"(1)، كما ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمؤمنون اليوم يستثقلون طاعة الله تعالى، يستثقل إلى أن يأتي إلى بيت الله لدرس العلم، يستثقل أن يأتي لتحصيل شيء يقربه إلى الله تعالى، ليحصل آيتين من كلام الله جل وعلا، ليحصل شيئًا يكون ثمن سعادته في الآخرة، يستثقل القيام، ويستثقل الصيام، ويستثقل الذكر وقراءة القرآن.
وسبب تنزل رحمة الله تعالى عليه، أن الله تعالى قد مشى إليه أو أتاه هرولة كما قال : "عبدي قم إلي أمشي إليك"، كما ذكرنا الحديث لله تعالى، "ومن أتاني يمشي أتيته هرولة " (2).فانظر هل تحب ربك فى استثقالك للطاعة، وخروجك بالأعذار منها، وأنك تود أن تخرج منها وأنها ثقيلة عليك سواء في صيام، في قيام، في ذكر، في بذل، في طاعة، في صدقة، في قيام بأعمال الإيمان، في قيام بمصالح المسلمين، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، كل ذلك انظر إلى نفسك، فإذا استثقلت هذه الطاعات ومللت منها علمت أنك قد خرجت عن قيد المحبة إلى بغض الطاعة وإلى استثقالها وإلى عدم المحبة لها، فانظر إلى حالك حينئذ مع الله، وانظر إلى قسوة قلبك حينئذ وجمود عينك وإلى غفلتك ونسيانك الرحيل والاستعداد وتجهيز الجهاز وإصلاح الذات في السير إلى الله تعالى.
5.محبة المؤمنين والذلة لهم
__________
(1) رواه البخاري (43) كتاب الإيمان ، باب أحب الدين إلى الله عز وجل أدومه ، ومسلم (785) كتاب صلاة المسافرين ، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أن يرقد .
(2) رواه البخاري (7536) كتاب التوحيد ، باب ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وروايته .(1/69)
العلامة التالية للمحبة، أن من محبة الله تعالى محبة المؤمنين، والرحمة بهم، والشفقة عليهم، أن يكون رفيقًا شفيقًا بأهل الإيمان جميعًا، وأن يكون على العكس شديدًا على أعداء الله تعالى، كما قال: { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ]، فإنه لا يكون محبًّا لربه، إلا أن يكون محبًّا لخلقه، محبًّا لعبيده، كما قال: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ crك‰خg"pgن† فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ 5OحIw } [ المائدة : 54 ] وذلك الحال هو الذي يفرق بين محبة الله وعدمها، أن يكون أذلة على المؤمنين، رحماء بينهم، أن تتحقق فيهم تلك الصفات من المحبة والمواصلة والسعي في مصالحهم وأن يكونوا مأتلفين متكاتفين، "المؤمن للمؤمن كالبنيان"(1) . كما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - يشد بعضه بعضًا، إلى آخر الأحاديث والآيات الواردة في هذا المعنى، المهم لن تكون محبًّا لربك إلا أن تتحقق محبتك للمؤمنين، وأكثر الناس محبة لله أشدهم محبة لإخوانه، كما هو في الحديث.
- - - - -
الاستعانة بالله والتقوي به سبحانه
فإن تقويت به سبحانه وتعالى كانت القوة التي لا تقهر وكانت العزيمة التي لا تنفصم، وكانت الهمة التي لا يعلوها همة.
رابعًا: الاستعانة بالله والتقوي به سبحانه
__________
(1) رواه البخاري (2446)كتاب المظالم والغصب،باب نصر المظلوم،ومسلم (2585) كتاب البر والصلة والآداب،باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم.(1/70)
وفي النهاية وبعد أن ساق الله لك الموعظة هل تجد في نفسك حزناً على ما فات من فراق أوقات الطاعة والأيام الشريفة في الإقبال على الله تعالى والمحبة لله جل وعلا ؟ وكيف أنك فرطت في محبته وتقللت من عبادته ، لم يحزنك ذهاب حلاوة الإيمان والطاعة التي كنت فيها ؟ وهو ينتظر مجيئك ورجوعك إن تقربت إليه شبرا تقرب إليك ذراعًا وأنت في هذا التكاسل والتباعد، تحب الكسل والنوم والبعد والجفاء بينك وبينه وتقدم ذلك كله على إقبالك عليه ومحبتك له وعلى شعورك بحلاوة الطاعة والإيمان والإقبال والتعلق والطمأنينة والثقة والإنابة والتوكل وحسن الرجاء فيه تعالى، كيف تقدم هذا الزائل ؟
ستنام نومًا طويلاً في قبرك، فلماذا تتكاسل وتنام من يومك هذا، وإذا ما أتعبت نفسك شيئا في الدنيا أرحتها في الآخرة فكيف تتعجل الراحة الزائلة على الراحة الدائمة التي أعدها الله تعالى لعبادته المتقين ؟ وماذا يفعل المرء بعد أن رأى حلاوة الإيمان وجد في قلبه هذا الجفاء وهذا البعد ولم يعد بعد ذلك بهذه الحلاوة، ولم يعد تنجع فيه العبرة التي يراها ويسمعها ؟
وإذا لم تستشعر ذلك فماذا نفعل في هذه الحالة السيئة التي نحن فيها والتي صرنا إليها ؟
وكيف التخلص من أخذ أمورك بهذه الهمة الضعيفة، وهذه العزيمة الواهية التي عند هبوب أول ريح من ريح الشيطان عليك تنسف عزيمتك وتضعف إرادتك؟
لن تستطيع أن تقوم بهذه الأعمال من أعمال القلب ومن أعمال الجوارح، إلا أن يكون لك همة عالية تنافي الكسل والركون إلى الدنيا، وتوجد بها العزم والحزم والإقبال والمسارعة وهذه القوة التي تستعين بها على قطع العلائق والعوائق التي تعترضك كائنا من كانت.(1/71)
فهذه الهمة وتلك العزيمة مرتبطة بقوة الله سبحانه وتعالى وأنك صرت مستقويا بربك متقويا به سبحانه وتعالى صرت بمدده تعيش وتمشي وبه تكافح وتناضل وبه تجاهد، لا بنفسك الضعيفة الأمارة بالسوء، وإنما بالله تعالى فإن صارت قوتك بالله تبارك وتعالى كانت قوة عظيمة يمكن أن تدافع بها، وأن تجاهد بها وأن تري ربك بها ما تصنع أما أن ترتكن إلى نفسك الضعيفة فهذه النتيجة التي توصلنا إليها..
إن ارتكن المرء إلى هذه الهمة الضعيفة وتلك العزيمة المنحلة التي نحن فيها، فلا يستطيع أن يتقدم شيئا وإن تقدم رجع مرة أخرى فلا بد في هذه الحال أن يتضرع إلى ربه سبحانه وتعالى أن يقوي همته، وأن يتململ بين يديه سبحانه وتعالى أن يقوي عزيمته وأن يمده بمدده وأن يأخذ بيديه وأن يأخذ بناصيته وكله إليه سبحانه وتعالى، وأن يجعل همه همًّا واحدًا وأن يعينه سبحانه وتعالى، وأن يرفع درجة الإيمان في قلبه وحسن التوكل عليه فكلما دعوت ربك حينئذ وتضرعت إليه من سوء حالك وسوء مآلك، وما أنت عليه يوشك إن كان ذلك صادقا منك وإن كان بإخلاص تريد به وجه الله أن يقبل عليك الله تبارك وتعالى، وأن يقويك وأن يمدك ،يوشك أن يأخذك الله تعالى إليه ، إلى قوة الهمة وصدق العزيمة فإن كان الله تعالى معك فمن يكون عليك.
فإن تقويت به سبحانه وتعالى كانت القوة التي لا تقهر وكانت العزيمة التي لا تنفصم، وكانت الهمة التي لا يعلوها همة وذلك الأمر مطلوب منك إذن في هذه الأيام ..
أن تجاهد نفسك كيف تتململ وتضرع إلى الله تعالى أن يقويك وأن يقوي همتك، وأن يعلي عزيمتك وأن يأخذ بيدك فكلما حدث شيء من ذلك واطلع ربك سبحانه وتعالى ورأى منك أنك صادق وأنك مخلص له فيها وأنك حزين تود أن تبذل مهما كان البذل حتى يعطيك سبحانه وتعالى وأن يهبك إياه وأن يساعدك فيه، وأن يقويك به فإن الله تعالى حينئذ لا يبخل على المرء المقبل عليه.(1/72)
بل إذا أقبلت عليه أقبل عليك أكثر من إقبالك، وإذا سرت إليه سار إليك أكثر من سيرك، وعاهدنا الله تعالى مرة أخرى أن نقوم بها وألا ينتهي اليوم على المرء حتى يستشعر هذه الأحوال، وأن يدعو الله تعالى أن يوفقه لها مهما كان بذله من وقت وجهد ؛ فإنه لا يوازي أن يفتح الله تعالى عليه بشيء منها.
لذلك فإن حال المؤمنين اليوم تستدعي أن يعاودوا رمضان مرة أخرى قبل أن ينفرط عقدهم، وقبل أن يعودوا إلى الغفلة عودًا سريعًا، وقبل أن ينشغلوا بالدنيا الانشغال الذي يضعف القلب عن الرجوع إلى الله تعالى وليكن ذلك بدءًا جديدًا مرة أخرى، ألا ييأس من أن الله تعالى الذي يمكن أن يفتح عليه مرة أخرى، وأن يقبل عليه جل وعلا، وأن يمده مرة أخرى بمدده، وأن ينعشه برحمته، وأن يقويه على استمرار السير إلى الله تعالى، وأن يضعف شيطانه وهواه ونفسه عن مقاومة أعمال الطاعة ومقاومة السير إلى الله تعالى .
فإذا سأل السائل: ما الطريق إلى أن يرجع رمضان مرة أخرى ؟ نقول له: عد إلى الله تعالى ليلة أو ليلتين أو ثلاث من هذه الليالي التي كنت تصليها، فقم فيها لله تعالى، عاود قرآنك فاختم في ثلاثة أيام ،كما أشرنا، أو عاود ذكرك وأورادك فاختر وردًا طويلاً من الاستغفار ومن التسبيح والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا أو يومين أو ثلاثة تجدد حياة قلبك، وتجدد نشاط روحك، وتقبل به على الله تعالى مرة أخرى، أن توصد على نفسك اليوم أي أن توصد على نفسك وقلبك بابك من اليوم من هذه اللحظة حتى تستطيع أن تعود إلى الله، اختم في ثلاثة أيام أو قم ثلاث ليال متوالية لله تعالى، واعلم أن ذلك سيزيد في نشاطك وقوتك، وسيعود بالمدد عليك من الله تعالى، سيأتيك الشيطان يقول : أنت متعب أنت وراءك عمل أنت وراءك أشغال أنت وراءك كذا وكذا، قل كل ذلك يرفعه الله تعالى عنك،
إذا أقبلت على الله تعالى خفف عليك كل ذلك،
إذا أقبلت عليه أقبل عليك، أمدك بمدده،(1/73)
وأعانك بعونه سبحانه وتعالى وقواك بقوته،
ولا تخف شيئًا،
لا تخف عاقبة شيء إن أقبلت على الله تعالى، فأقبل عليه هذه الأيام تعاود نشاط الروح والقلب وتجدد حياة العبادة في قلبك، وتقوى بدنك ونفسك على الرجوع إلى الله تبارك وتعالى، إذ بك يمكن أن تستقيم أحوالك بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
- - - - -
الموضوع…رقم الصفحة
مقدمة…- 3 -
أولًا: علامات السائرين في طريق الله…- 10 -
1. محبة الله تعالى…- 14 -
2. ذكر الله تعالى…- 16 -
3. المواظبة على قيام الليل…- 19 -
4- المسارعة إلى الخيرات…- 20 -
5- الانشغال بأمر الدين والدعوة…- 23 -
6- الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة…- 26 -
ثانياً: ابدأ اليوم مع ربك عهدًا جديدًا…- 34 -
الطريق إلى الوفاء بالعهد مع الله…- 37 -
1. عدم اتباع وصية الشيطان: ابدأ في رمضان القادم…- 39 -
2. الحذر من الغرور بعبادة رمضان…- 42 -
3.المسارعة في البدأ من ليلة العيد…- 45 -
4. استشعار الحنين إلى الطاعة…- 47 -
1. معاودة قيام الليل من ليلة العيد…- 51 -
2. صيام ستة أيام متتابعة بعد يوم العيد مباشرة…- 51 -
ثالثاً: الاستقامة على طريق الله بعد رمضان…- 56 -
1.معركة الشكر…- 58 -
آثار الشكر: 1. قيام الليل…- 64 -
آثار الشكر: 2. القرآن…- 70 -
آثار الشكر: 3. ذكر الله تعالى…- 74 -
2. إيثار الآخرة على الدنيا…- 80 -
1. طول الأمل في الدنيا…- 80 -
2. حب الدنيا…- 88 -
أحوال القلوب مع الدنيا…- 90 -
المسارعة إلى العمل الصالح…- 97 -
3. التحقق بعلامات محبة الله…- 103 -
1. تقديم محبة الله تعالى ورسوله على كل محاب النفس…- 104 -
2. كراهية ما يكره الله تعالى من المعاصي…- 109 -
3.إدمان كلام الله تعالى…- 111 -
4.الحزن على فوت حظك من الله…- 114 -
5.محبة المؤمنين والذلة لهم…- 117 -
رابعًا: الاستعانة بالله والتقوي به سبحانه…- 120 -(1/74)