نماذج من أبطال المسلمين
ما هي النوعيات التي يربيها هذا الدين إذا أعيد من جديد لتوجيه هذه الأمة؟ كان عبد الله بن جحش رضي الله عنه يقسم على ربه ويقول: اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غداً فيقتلوني، ثم يبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني: لم ذاك؟ فأقول: فيك يا رب.
فبر الله قسمه، وشوهد في آخر المعركة وأنفه وأذنه معلقتان في خيط رضي الله تبارك وتعالى عنه.
كيف لا يخافون من هذا الدين إذا عاد لتربية الأمة من جديد وهو الذي أخرج سعد بن خيثمة وأبوه خيثمة؟! فقد تنازعا على الخروج للقتال في سبيل الله، وكان لا بد أن يقيم أحدهما ليرعى النساء والأولاد، والآخر يخرج للجهاد، فيقول الابن لأبيه: والله لو كان غير الجنة لآثرتك به، فيقترعان وتخرج القرعة للابن، فيذهب إلى المعركة ويُقتل شهيداً في سبيل الله.
كيف لا يخافون من دين يصنع رجالاً لا يعرفون البكاء إلا من خشية الله، أو البكاء أسفاً على فوات فرصة الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى؟! يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: عُرضتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فاستصغرني ولم يقبلني، فما أتت علي ليلة قطّ مثلها من السهر والحزن والبكاء، إذ لم يقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان العام المقبل عُرضت عليه فقبِلني، فحمدتُ الله على ذلك.
وكيف لا يخافون من دين يربي نساءه على أنهن لا يرين غايةً للحمل والولادة والتربية أقرب من تقديم فلذات الأكباد إلى ساحات الجهاد؟! هذه هي تربية الإسلام، وليست تربية الذي قال: أسرة المستقبل المظلم! هذه تربية الإسلام للنساء المسلمات: أن المرأة لها رسالة خالدة، وهي أن تخرج رجالاً يجاهدون في سبيل الله، وتخرج رجلاً لخدمة هذا الدين، والجهاد في سبيله، كـ أم حارثة التي ذكرنا قصتها آنفاً.
وكيف لا يخافون من دين يصنع الفداء والفدائيين الذين لم يعرف لهم التاريخ نظيراً؟! مثل البراء بن مالك الذي كان يقود مجموعة من الجند في إحدى المعارك، فاستعصت عليه قلعة من قلاع العدو، فقال لجنده: ضعوا أتراسكم بعضها إلى جانب بعض، واجعلوني فوقها، وادفعوا بي دفعة رجل واحد، أفتح لكم الحصن بعون الله تعالى، فيفعلون ما أمرهم، ويحملونه على الترس ويدفعون به إلى داخل سور القلعة، فيقفز وحده في الداخل على رءوس الأعداء كالصاعقة، ويقتل منهم أكثر من عشرين رجلاً، ويفر الباقون فزعاً مما رأوا، ويفتح البراء القلعة، وينتصر المؤمنون! وهذا معاذ بن عمرو بن الجموح في معركة بدر، يقول: سمعت القوم يقولون: أبو الحكم لا يُخلَص إليه.
أي: أن هناك قائداً من قيادات المشركين وهو أبو جهل شديد البأس لا يستطيع أحد أن يصل إليه، يقول: فلما سمعته جعلته من شأني -يعني: كأنه قال: أنا له- فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه، فضربني ابنه عكرمة على عاتقي، فطرح يدي -أي: قطع يده- فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهدت، ولقد قاتلت عامة يومي، وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت عليها حتى طرحتها! ظلت يده معلقة وهو يجرّها وراءه، حتى آذته، وما استطاع أن يتحرك، فداس عليها وقطعها! كيف لا يخاف الكفار من دين يصنع رجالاً مسلّطين على الكفار، هوايتهم ملاحقة الظالمين، ونزال الطغاة المستكبرين؟! مثل خالد بن الوليد رضي الله عنه، سيف الله المسلول، فالكفار يخافون من مثل هذا، وهناك الكثير مما لا يتسع المقام لبسطه.(95/7)
الإسلام يهدد جميع كفار الأرض
الحقيقة التي تخفى علينا، وتعمى عنها أعيننا حتى لا ندركها واضحة ناصعة، أن الكفار يخافون من الإسلام؛ لأنه يهدد ما هم عليه.
وقف رئيس وزراء بريطانيا في أواخر القرن الماضي في مجلس العموم البريطاني، وأمسك بيمينه القرآن المجيد، وصاح في أعضاء البرلمان قائلاً: إن العقبة الكئود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد المسلمين هي شيئان، ولا بد من القضاء عليهما مهما كلّفنا الأمر، أولهما: هذا الكتاب.
وسكت قليلاً، ثم أشار بيده اليسرى نحو الشرق وقال: وهذه الكعبة.
ثم قال: ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، أو تكون هي نفسها في أمان!! أيضاً هناك مستشرق فرنسي يدعى كيمون مصنف كتاب (بثالوجيا الإسلام) يعني: علم الأمراض، فهو يتكلم عن أمراض الإسلام، وخطر الإسلام على الكفار، يقول: أعتقد أن من الواجب إبادة خُمس المسلمين! والآن البديل للإبادة: أنهم يبيدون أنفسهم بأنفسهم، وينتحرون انتحاراً جماعياً عن طريق تحديد النسل، يقول: أعتقد أن من الواجب إبادة خمس المسلمين، والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة، وهدم الكعبة، ووضع جثة محمد -صلى الله عليه وسلم- في متحف اللوفر الفرنسي!! والإبادة موجودة ومعروفة، فالشيوعيون مثلاً أبادوا خلال ربع قرن من الزمان ستة وعشرين مليون مسلم في الصين، أي: بمعدل مليون كل سنة! وكذلك حصل مثل هذا في روسيا، حينما أبادت الثورة الشيوعية أيضاً ملايين المسلمين تحت جنازير الدبابات.
وحتى العالم الغربي لا يستحي من هذا المنطق الذي تكلم به هذا الرجل، ففي حادثة سلمان رشدي لما ألف كتابه (آيات شيطانية) حصلت مظاهرات في داخل بريطانيا، فصاح بعض البريطانيين وقالوا: الذي لا يعجبه نظام هذه البلد فليغادرها، ولا يمكث فيها.
وقالوا: في بعض الجرائد: يبدو أن الجهة الوحيدة التي استطاعت أن تفهم اللغة التي يفهمها المسلمون، هي الاتحاد السوفيتي حينما سحقت الملايين منهم بعد الثورة الشيوعية، فهؤلاء هم الذين عرفوا اللغة التي يفهمها المسلمون!! وحينما اجتمع عدد كبير من المسلمين البريطانيين، ورفعوا قضية سلمان، وطلبوا مصادرة الكتاب، حكم القاضي البريطاني في نهاية القضية وقال: إن المادة التي سيطالب هؤلاء المسلمون البريطانيون بتطبيقها على كتاب (آيات شيطانية)، هي بشأن حماية الأديان، وهي: إنما تعني حماية الديانة الكاثوليكية واليهودية، والإسلام لا يدخل في هذه المادة!! هذه ملامح من هذه المؤامرة ومن الموقف الحقيقي الذي يتخذونه من الإسلام، يقول إسحاق رابين -وهو من المسئولين اليهود-: إننا نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب، ويجب أن يبقى الإسلام بعيداً عن المعركة، ويجب ألا نغفل لحظة واحدة عن تنفيذ خططنا في منع يقظة الروح الإسلامية بأي شكل، وبأي أسلوب، ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا في استعمال العنف في إخماد أي ظاهرة ليقظة الروح الإسلامية، وإذا فشلنا في إقناع أصدقائنا في توجيه ضربة قاضية في الوقت المناسب، فعلى إسرائيل أن تواجه الإسلام حينذاك وهو عدو حرصنا أن يبقى بعيداً عن المعركة، وستجد إسرائيل نفسها في وضع حرج إذا نجح المتعصبون المسلمون في تحويل معركتنا ضد البلدان العربية إلى معركة المجاهدين المتعصبين، وهم الذين يعتقدون أن أحدهم يدخل الجنة إذا قتل يهودياً أو قتله يهودي، وستقوم إسرائيل بالدور الذي قام به المشرفون من عملائهم، فيقومون بدورهم في تغيير عقلية المسلمين وتفكيرهم، فينشئون حركة تجديد الدين تحت اسم العلمانية إلى آخره.
إذاً: نستطيع أن نقول: إن إسرائيل دولة تشجع العلمانية في بلاد المسلمين، وهي دولة دينية، فإن دستورها هو التوراة، واسمها: إسرائيل، ويقصدون بهذا الاسم: نبي الله يعقوب عليه السلام، وهو بريء منهم بدون شك.(95/8)
خطورة الدعوة إلى تحديد النسل
لماذا نقبل الدعوة إلى تحديد النسل في بلاد المسلمين، وفي نفس الوقت تتجه الهجرات اليهودية من كل مكان صوب أرض الميعاد كما يزعمون بكل وسيلة وبكل طريقة، حتى يكثر عدد اليهود، حتى يستطيعوا أن يواجهوا ويحققوا أطماعهم في بلاد وديار المسلمين؟! هذه بعض فصول المعركة أو موقف هؤلاء الكفار من المسلمين، فمن خلال هذه النفسية تتخذ خطواتهم ومواقفهم من المسلمين، فالهدف من بدعة الترويج لتحديد النسل بهذه الطريقة التي ذكرنا أنها تنافي مقاصد الشريعة الإسلامية العليا، وهذه المقاصد العليا للشريعة الإسلامية مقدسة، ولا يصح أبداً أن تُمسّ من قريب أو بعيد، فالمحافظة على الدين والعقل والعرض والنفس والمال والنسل، هذه هي مقاصد الشريعة الإسلامية، وكل مفرداتها جاءت لتحافظ على هذه الضروريات الست، فالهدف من بدعة وضلالة تحديد النسل هو تقليل أمة المسلمين، والحد من تناسلها وتوالدها قدر ما يمكن، أو إيقاف ذلك بالكلية لو كانوا يستطيعون.
على ضوء الكلام الذي ذكرناه ليس الذي يخاف من كثرة النسل هم المؤمنون، وليسوا حتى الاقتصاديين، لكن الذي يخاف منه في الدرجة الأولى هم أعداء الإسلام الذين يتمنون أن يغمضوا أعينهم ثم يفتحوها فلا يجدوا على الأرض من المسلمين دَيّاراً، فهم لا يخافون الأفواه التي سوف تأكل وتلتهم الطعام، ولكنهم يخافون الأيدي التي يمكن أن تحمل السلاح، وتجاهد في سبيل الله تبارك وتعالى.
وهنا نستشهد بكلمة قالها الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى -وهو من علماء منتصف القرن التاسع الهجري- في شرحه لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا) يقول الحافظ: والحكمة في منعهم من الاختصاء إرادة تكثير النسل؛ ليستمر جهاد الكفار، وإلا لو أذن في ذلك لأوشك تواردهم عليه فينقطع النسل، فيقل المسلمون بانقطاعه، ويكثر الكفار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحمدية، وهي تكثير هذه الأمة.
فهم يهدون إلينا الألبان والجبن بكل أنواعه، ويهدون إلى إسرائيل الطائرات والمدافع والقنابل لحصد أُمّتنا، يهدون إلينا ساعة تدق فوق رءوسنا منذرة بأن هناك مولوداً موحداً ولد في مصر مع كل لحطة؛ حتى نأخذ حذرنا ونوقف هذا الخطر فنحد من الإنجاب، أو نقطعه نهائياً!! في مقابل ذلك تهدى إلى إسرائيل أجهزة الإنذار المبكر لربط حركتنا في حالة الحرب؛ حتى تضرب إسرائيل رجالنا قبل أن يتحركوا ويعدوا أنفسهم، ومن البدهيات التي يقر بها كثير من الخبراء في مصر، أن إسرائيل من الآن تعد لحرب شاملة مع جميع البلاد العربية وفي أولها مصر، وهذا ليس سراً، بل هذا شيء معروف ومشهور جداً!! فهذه الدعوة ما هي إلا تدبير مخطط يقصد منه المحافظة على الوضع الدولي الراهن، بحيث تظل الدول الاستعمارية صاحبة السيادة في كل شيء، وتظل الدول المسماة بـ: الدول النامية فقيره ومتخلفة، ويشتد قلق أمريكا بالذات من تزايد سكان هذه الدول؛ لأن هذا يهدد استغلالها لهذه الشعوب الفقيرة، وينذر بتخفيض النسبة العالية التي تحصل عليها أمريكا من الدخل، أو تحصل عليها هذه الدول من الدخل العالمي.
وبسبب تحكم الدول الكبرى في أسعار المنتجات الزراعية في هذه الدول، تخسر الدول النامية في التجارة الدولية ما يقارب من ثلاثة آلاف مليون جنيه سنوياً، وأيضاً ترتفع أسعار المصنوعات المستوردة من هذه الدول، فأمريكا لا تفعل شيئاً بدافع الإنسانية، ولا تقدم مساعدة بدون ثمن وبدون مقابل، بل تأخذ العوض أضعافاً مضاعفة، فأمريكا تحصل على جنيه ونصف جنيه استرلينياً مقابل كل دولار من المعونة التي تقدمها للدول النامية، حيث تشترط على هذه الدول شراء المنتجات الأمريكية بأسعار مرتفعة، وتجبرها على أن تصدر لها منتجاتها بأسعار منخفضة، فهي لعبة من اللعب الاستعمارية في لون جديد! إذا أردنا أن ندرك حقيقة هذه الجريمة التي ترتكب في حق الأمة بالترويج لهذه الضلالة وهذه البدعة، فلننظر كيف أن كُتّاب الغرب يفندون نظرية مالتوس التي كان من جرائها التحذير من المتوالية الحسابية والهندسية، والتي مفادها أن التزايد السكاني سيسبب انفجاراً سكانياً، فهم يلحّون في الغرب على الدعوة إلى الاستكثار من النسل، ورفع نسبة الكثافة السكانية عندهم، لكن إذا نصبوا منابرهم في اتجاه بلاد المسلمين، ونظروا إلى العالم الإسلامي الفسيح؛ تغيرت آراؤهم فجأة، وانعكس حديثهم عن هذه الدعوة، وأخذوا يحذرون العرب والمسلمين من استفحال تكاثر النسل، وما يسمونه بخطر الانفجار السكاني! يقول محمد إقبال -الشاعر الباكستاني المعروف-: وكل ما هو واقع اليوم أو هو على وشك الوقوع في الغد القريب في بلادنا؛ إن هو إلا من آثار دعاية أوروبا، هناك سيل عرم من الكتب والوسائل الأخرى قد انجرف إلى بلادنا لدعوة الناس إلى اتباع خطة منع الحمل، وتشوقيهم إلى قبول حركتها، على حين أن أهل الغرب في بلادهم أنفسهم يتابعون الجهود الفنية لرفع المواليد وزيادة عدد السكان، ومن أهم أسباب هذه الحركة عندي: أن عدد السكان في أوروبا في تدهور شديد، وتناقص مطّرد بناءً على الظروف التي ما خلقتها أوروبا إلا بنفسها، وقد استعصى عليها اليوم أن توجد لها حلاً مرضياً، وأن عدد السكان في بلاد الشرق على العكس من هذا، فهو في زيادة مطردة، فهذا ما ترى فيه أوروبا خطراً مخيفاً على كيانها السياسي.
وأيضاً: فالغربيون يبثون هذه الدعوة فيما بيننا حذراً من أن يقود التفوق السكاني في هذه المنطقة إلى تفوق في استخدام التكنولوجيا، والاضطلاع في العلوم، فإذا حصل هذا فسوف يتحررون من سلطان الغرب، ويمتلكون زمام القيادة في إدارة بلاد الاقتصاد والسياسة.
فالغربيون يخشون هذا، ويتصورونه ماثلاً أمامهم، وإن كانت أكثرية هذه الأمة ذاتها لا تتمتع من الطموح والآمال بما يضعونه من هذا التصور وإمكان حصوله.
تقول جريدة التايمز الأمريكية في عددها الصادر في 11/ 1/1961م: إن هذيان أمريكا وكل ما تبذل من المقترحات والمواعظ عن مشكلة السكان، إنما هو نتيجة إلى حدٍ كبير لشعورها بتلك النتائج والمؤثرات السياسية المتوقعة على أساس تغير الأحوال في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وخاصة على أساس زيادة السكان في هذه المناطق بحيث يصبحون أغلبية في العالم.
ويفضح أركر كرنك مقاصد الأوربيين في إلحاحهم على المسلمين بضرورة تحديد النسل، وهذا من باب: وشهد شاهد من أهلها، فتأمل ما يقوله هذا الشاهد، يقول: إن أهل الشرق سوف لا يلبثون إلا قليلاً حتى يطلعوا على حقيقة هذا الدجل، ثم لا يغتفرونه لأهل الغرب؛ لأنه استعمار من نوع جديد يهدف إلى دفع الأمم غير المتقدمة، ولاسيما الأمم السوداء إلى مزيد من الذل والانحطاط؛ حتى تتمكن الأمم البيضاء من الاحتفاظ بسيادتها!! فهم في الغرب لم يضعوا إلى الآن لشعوبهم مثل هذه الخطط الموضوعة لنا للحد من التزايد السكاني، بل على العكس، فهم يشجعون الإكثار من النسل، ومن أجل ذلك لا ينكرون العلاقات غير الشرعية التي تثمر الألوف من أبناء الحرام!! في الوقت الذي تعلن فيه السلطات الرسمية في أمريكا أن الأسرة الأمريكية تواجه أزمة من أشد الأزمات، وهي ارتفاع نسبة المواليد بشكل يهدد الحالة الاقتصادية في البلاد، ومع هذا أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق إيزنهاور في مؤتمره السنوي المنعقد في ديسمبر سنة 59م قائلاً: إن حكومته لن تفكر في تحديد النسل في أمريكا ما دام هو في البيت الأبيض!! ثم جاء نكسون في سنة 72 فأكد موقف إيزنهاور وأعلن أن الإجهاض لا يتفق مع الدين، ولا مع تقاليد الحضارة الغربية، فطالب بإعادة النظر في قانون إباحة الإجهاض التي أخذت بها بعض الولايات.
أما روسيا السوفيتية التي وصل تعدادها حالياً إلى 250 مليون فهي ترى أنها في حاجة ماسة إلى مزيد من النسل؛ لأنها في حاجة إلى مزيد من القوى البشرية والأيدي العاملة والمنتجة؛ حتى تستطيع أن تحتفظ بالتوازن بينها وبين الدول المجاورة لها، ومن أجل ذلك أصدر مجلس السوفيت الأعلى في موسكو قراراً بإهداء ميدالية فخر الأمومة إلى الأمهات المنجبات لكثير من الأطفال! أما في أسبانيا فإن الجنرال فرنكو كان أشد ما يكون حرصاً على زيادة تعداد الشعب الأسباني، وقد أهدى جائزة الأب المثالي لفلاح أسباني يبلغ من العمر مائة وسبع سنوات؛ وذلك لأنه أنجب واحداً وعشرين طفلاً وطفلة.
أما في إيطاليا -التي تعتبر مركز الكاثوليك- فإن المسمى البابا بولس السادس - وهو الزعيم الديني لأكثر من 500 مليون كاثوليكي- قرن اسمه بالحملة المضادة لتحديد النسل، حيث أعلن أن استخدام وسائل تحديد النسل إثم، وأن مستخدميها آثمون، ومن يدري لو كان يتمتع بالسلطة القديمة التي كانت في القرون الوسطى، لأصدر قرارات حرمان.
وذكر كبير النصارى في مصر نفس هذه العبارة، وزاد: أن هؤلاء الذين يحددون النسل خارجون عن شعب الكنيسة.
وأيضاً اليونان مع أنها محدودة المساحة والموارد، فإن الحكومة اليونانية حريصة أشد الحرص على تحقيق زيادة السكان؛ لتعويض النقص الحاصل في السكان بسبب الهجرة المستمرة، ولذلك قررت الحكومة اليونانية فرض مكافأة شهرية ثابتة لكل أبوين على إنجاب الطفل الثالث أو أي طفل يلدانه بعد الثالث تبلغ عشرة جنيهات.
ومنذ زمن ليس بالبعيد ناشد الرئيس الفرنسي دستانس الشعب الفرنسي العمل على زيادة النسل، وأكد أن عدد سكان فرنسا الذين يزيد عددهم على خمسين مليون غير كافٍ! ويتعين زيادة معدلات السكان؛ لكي تستعيد فرنسا مكانتها على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ووعد بعلاوات مالية مجزية للأسر التي لديها ثلاثة أطفال أو أكثر!! وأما في الصين فمن المعروف أنها مزدحمة بالسكان، ولكن الغريب أن حكومة الصين حتى الآن تستثني المناطق الإسلامية من قوانين الإجبار على تحديد الحمل والنسل؛ لأنهم يخافون من ثورة المسلمين؛ لهذا يعتبرون من صميم سياستهم عدم التدخل في نسل المسلمين في الصين، وتستثنى المناطق الإسلامية م(95/9)
حرمة تحديد النسل
هناك فتوى لفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف رحمه الله المفتي السابق لمصر وعضو مجمع البحوث يقول فيها: لقد أصدرت فتوى بهذا الموضوع بالذات مطبوعة في الفتاوى، خلاصتها: أنه لا يجوز تحديد النسل لغير ضرورة شرعية يقدرها الأطباء المسلمون المختصون، أخذاً من قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151]، وكانوا في الجاهلية يقتلون الأولاد خشية الفقر وعدم القدرة على القيام بتربيتهم.
ولقد تناولت الفتوى أن الإجهاض وأخذ الأدوية لمنع الحمل غير جائز شرعاً إلا للضرورة الصحية التي يقررها الأطباء المسلمون الصادقون، وعلى ذلك فلا يجوز أخذ الحبوب التي تمنع الحمل، مع العلم أنه لا يجوز إسقاط الحمل الذي نفخت فيه الروح؛ لأنه قتل لذي روح فهو لا يجوز، والفتوى بهذا منشورة منذ أكثر من عشرين عاماً في الصحف، والله المستعان.
يقول الشيخ مخلوف: وقد سمت الصحف تحديد النسل باسم: تنظيم النسل، والمعنى واحد، والمقصود واحد، وكله اتباع لآراء غير المسلمين الذين يرون في كثرة عدد المسلمين خطراً عليهم وعلى مدى دينهم، فيحاولون بجميع الوسائل تنقيص عدد المسلمين؛ سعياً وراء إضعافهم في بلادهم، وفي الدفاع عن دينهم.
يقول الشيخ مخلوف رحمه الله: وقد عثرت على رسالة وجهها أحد الرؤساء المسيحيين إلى الأطباء منهم، يحذرهم من منع الحمل بين طائفتهم، ويدعوهم إلى منع ذلك بينهم منعاً باتاً، بينما يدعوهم إلى مساعدة من يريد التحديد أو يريد التنظيم إذا كان من المسلمين، أملاً في أن يقلّ عدد المسلمين، ويكثر عدد غيرهم من غير المسلمين، وهذا المنشور قرأته بنفسي منذ بضع سنين، وهو منشور سرّي كتبه هذا الزعيم المسيحي، ونشره بين أبناء ملّته سراً؛ ليعمل به أطباؤهم، وينفذه حين يعرض عليهم الأمر، وخلاصته: تقليل عدد المسلمين، وتكثير عدد غير المسلمين، وبعبارة أخرى: إضعاف المسلمين وتقوية غير المسلمين في مجال الحياة، والله لا يهدي كيد الخائنين.
وهذا معروف من نشاطهم وخيانتهم، حتى في العمليات الجراحية، فقد ضبط كثير من الأطباء أنهم في أثناء العملية يستأصل بعض الأجزاء من المرأة بحيث لا تستطيع الحمل، ولا تدري بذلك، وتوجد قصص كثيرة في ذلك، قال بعض السلف: الخيانة عشرة أجزاء، تسعة منها في الكافرين.
وأحد هؤلاء المجرمين الأطباء النصارى الجزارين كان مشهوراً جداً بنشاطه الخطير في عملية الإجهاض وتقليل النسل والتعقيم وغيرها، وكانت عيادته في شارع محرم قريباً من مسجد أولاد الشيخ، وقد أهلكه الله -ولله الحمد- منذ سنوات، وكان هذا الرجل في عيادته، وفي إحدى المرات ذهبت إليه امرأة، وكان اسمها من الأسماء المائعة التي لا يتميز فيها المسلم عن غير المسلم، فظن أنها كافرة على ملّته، وعرف أنها تريد الإجهاض، فسألها عن اسمها، فظن بغبائه أنها نصرانية مثله، فانقلب تجاه وجهها، وأخذ يقذفها بوابل من الشدة والغلظة والمعاتبة والتقريع والتوبيخ ويقول: كيف تفعلين هذا؟! نحن لا نعمل هذا لأبناء ملّتنا، هذا ليس لنا نحن، فخرجت المرأة المسلمة من عنده وهي تنوي ألا تحدد نسلها أبداً بعدما سمعت هذا الرجل يقول: إنما نفعل هذا لغيرنا، ونحن لا شأن لنا بمثل هذه الأمور!! والدكتور عبد العزيز الدردير حفظه الله له كتاب يسمى: (لمصلحة مَنْ تحديد النسل أو تنظيمه؟!) يقول فيه: وإنني شخصياً لا يعجبني موقف رجال الكنيسة، فلم أر منهم من تكلم في موضوع تحديد النسل، فلم يكتب واحد منهم في هذا الموضوع كتاباً، ولم يلق أحد منهم فيه خطبة، ولم يصدر واحد منهم فيه فتوى، لا بحل ولا بحرمة، ولم يتكلم واحد منهم في هذا الموضوع بخير ولا شر، وقد يكون لهم في ذلك عذر، حيث إن الكلام في هذا الموضوع قد لا يعجب بعض المسئولين، وقد يتهم المتحدث فيه بمخالفة سياسة الدولة، فهم قد وفروا على أنفسهم ذلك كله، وأخذوا في داخل كنائسهم يعملون بكل قوة ونشاط على تكثير عددهم، وذلك عن طريق وصية القسس لرواد الكنائس بالعمل على كثرة التناسل، وإلقاء التعليمات إلى الأطباء المسيحيين بألا يوافقوا أي امرأة مسيحية على إيقاف نسلها، ولقد تكاثرت أعدادهم في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ، وإذا كنت في شك مما أقول فاذهب إلى أي تجمع يشترك فيه المسلمون والمسيحيون كالمدارس العامة الأميرية، أو كتائب الجيش، أو غير ذلك؛ فسوف تجد أن نسبة المسيحيين إلى المسلمين قد زادت كثيراً في الآونة الأخيرة عن ذي قبل، وكنت أتمنى من علمائنا إذا لم يستطيعوا أن يقولوا كلمة الحق فلا أقل من الصمت، أسوة بزملائهم من رجال الكنيسة!(95/10)
سبب حرص الكفار على تقليل نسل المسلمين في مصر خاصة
آخر ما أشير إليه هو سؤال مهم جداً، ويُلحّ علينا دائماً: ما هو السرّ في تفوق خط مصر من هذه الدعوة إلى تقليل النسل الإسلامي؟! هل هو فقط العامل الاقتصادي كما يظهرون؟! لا؛ لأن مصر في الحقيقة تملك كمّاً هائلاً من الثروات، وهذا الكلام لا أقوله بصفة متطفل على رجال الاقتصاد والخبرة، بل هذا كلام يقوله أهل الخبرة حتى في مجالات الاقتصاد، فقد وهب الله تبارك وتعالى مصر نهراً مبارك الغدوات والروحات، حتى قال المؤرخ اليوناني القديم هريدوس: مصر هبة النيل، ونحن نصحح هذه العبارة ونقول: النيل هبة الله، فنحن نعبد الواهب، ولا نعبد الموهوب، وهناك إشارة في القرآن إلى هذه النعمة العظيمة على أهل مصر بهذا النهر العظيم الذي هو من الجنة، كما جاء في الحديث الصحيح في البخاري، يقول الله تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} [السجدة:27]، قال كثير من المفسرين: المقصود بهذا الماء النيل، والمفسرون الذين قالوا: ليس مقصود به خصوص النيل، قالوا: إن أعظم مثال تتجلى فيه هذه النعمة هو النيل في مصر.
لو أنك أخذت صورة لمصر مأخوذة من القمر الصناعي، فستجد أن مصر صحراء، وتجد شريطاً أخضر رفيعاً جداً في وسطها، باستثناء منطقة الدلتا، فهذه هي مصر كلها، أما ما عدا ذلك فهي صحراء واسعة، وقد كانت هذه الصحراء منذ أكثر من ألفي سنة كلها مخزاناً للحبوب بما يكفي الأمبراطورية الرومانية.
قال علي بن أبي طالب لـ محمد بن أبي بكر حينما وجهه إلى مصر: إني وجهتك إلى فردوس الدنيا! وقال عمرو بن العاص لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: يا أمير المؤمنين! ائذن لي أن أسير إلى مصر.
وقال: إنك إن ضممتها إليك كانت كوة للمسلمين، وعوناً لهم، وهي أكثر الأرض أموالاً.
ولعل العيش في ذكريات الماضي يخفف علينا وطأة الحاضر، فما سجله التاريخ: أن مصر كانت على جانبي النيل مُدُناً متقاربة كأنها مدينة واحدة، والبساتين خلف المدن المتصلة كأنها بستان واحد، والمزارع من خلف البساتين متصلة، حتى قيل: إن الكتاب كان يصل من الإسكندرية إلى أسوان في يوم واحد، يتناوله عمال البساتين من واحد إلى واحد! ويحدثنا التاريخ أيضاً: أن المرأة على جانبي النيل كانت تخرج حاسرة لا تحتاج إلى خمار لكثرة الأشجار! وأنها كانت تضع على رأسها المكتل فيمتلئ بالثمر من كثرة ما يتساقط من الشجر! والقرآن الكريم قد سمّى مصر مصراً ومدينة كما قال عز وجل: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:61]، قال ابن جرير: المقصود بها مصر فرعون.
وهي التي يسمونها: (إيجبت)، وإيجبت مأخوذة من القبط، فإيجبت تعني: القبط، وهذه تسمية غير صحيحة؛ لأن المقصود بها: الدولة القبطية، وحتى الآن تسمى مصر في القواميس الغربية بـ: بلاد الأقباط، أو إيجبت، والأصل تسميتها باسمها: مصر.
قال تعالى: {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99]، وقال عز وجل: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص:15]، والمقصود بالمدينة: مصر، وقال أيضاً: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20]، وحين ذكر الشام قال: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100]، فكانت مصر هي مصدر الميرة، وملجأ الجائعين عند القحط، لا لأهلها فقط، بل لأهلها ولمن جاورها كالشام وغيرها، والرجوع إلى قصة يوسف عليه السلام يوضح لنا هذا تماماً، يقول تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} [يوسف:59]، وقال: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} [يوسف:63] يعني: إلى مصر.
ومصر حتى عهد قريب كانت في وضع اقتصادي مزدهر جداً، إلى أن أتى الزعيم الأوحد المهزوم دائماً عبد الناصر وبدد ثروة البلاد، مصر تسلمتها الثورة وهي مدينة لبريطانيا بما يعادل ميزانية بريطانيا لمدة سنتين! فالذي حصل أن عبد الناصر بدد ثروة مصر، وبدد رصيدها من الذهب في صندوق النقد الدولي، وبدأ في عهد الديون واستجداء المعونات، وضحّت مصر بصفوة شبابها وثروتها في حروب خاسرة في الكونغو، وفي حرب المسلمين فيما بينهم في اليمن، وفي سيناء في الحروب مع اليهود، وحصل تعطيل قناة السويس، واستيلاء اليهود على سيناء، وغير ذلك.
الشاهد من هذه الأحوال أنه بسبب هؤلاء الظالمين وصلنا إلى ما وصلنا إليه، حيث أتقن الإنجليز السُّمر أداء الدور الذي اجتهد فيه الإنجليز الحمر، ولكن الله لهم جميعاً بالمرصاد.
فالإنسان هو أهم عوامل الإنتاج في الأرض، فهم يحاولون دوماً أن يظهروا لنا أن الإنسان مجرد عنصر استهلاكي ولا يعتبر إنتاجياً، فكل إنسان يولد على الأرض لن يكون بطناً أو فماً فقط! ولكنه سيكون مزوداً بيدين ورجلين وعقل، فإذا كان هناك تخطيط وإخلاص فلن توجد مشكلة، وفي الحقيقة أن مشكلتنا في مصر بمنتهى الصراحة هي أننا لسنا حتى وطنيين، ولن نقول: إسلاميين مخلصين لدينهم ولإمة المسلمين، إننا لا نكاد نقف على شخص فقط يكون صادقاً فيما يدعيه من الوطنية، وإلا لأخلصوا لهذا البلد، ولما كان حالها كهذا الحال.
فمن الأفكار المشوشة أن نُبرز الجيل الجديد أو النسل على أنه استهلاك فقط يأكل ويلتهم، ولا ينتج على الإطلاق، وهذا خلاف الواقع، وبالذات إذا تخيلنا فترة الحضانة الاقتصادية مثلاً في الأرياف، فالطفل يعتبر ثروة مهمة جداً لأبيه في الريف، حتى بعد انتشار التعليم، وما زالت فترة الحضانة الاقتصادية لا تتجاوز عشر سنوات، ثم ينتج ويعاون أباه، ويكون العمود الأساس في حماية الزراعة ورعايتها، ومن الذي يقوم بمحاربة دودة القز ونحو هذه الأشياء سوى هؤلاء الأبناء الصغار.
نريد أن نبحث عن جواب سؤال مهم جداً: في حرب 1967م -حرب النكسة الشهيرة- حينما هزمت إسرائيلُ الجيشَ المصري تلك الهزيمة المنكرة بفضل الخيانات، وكادت أن تقضي عليه نهائياً، واحتلت أرض سيناء كلها، ووقف جنود إسرائيل على الشط الشرقي للقناة، بينما كان الطريق إلى القاهرة مفتوحاً براً وجواً وبحراً، وصرّح بذلك جمال عبد الناصر حيث قال: لم يكن بين السويس والقاهرة عسكري واحد، هذا باعتراف رئيس الجمهورية بطل الهزائم! فهو باعترافه يقول: لم يكن هناك أي عائق أمام إسرائيل في أنها تعبر القناة وتتجه إلى القاهرة وتحتل العاصمة!! والقاهرة هي أكبر عاصمة في المنطقة، فما هو السبب الذي منع إسرائيل من الوصول إليها؟! هل إسرائيل عندها ورع وخوف من الله وشفقة على الشعب المصري؟!! أليس من أهدافهم غزو مصر وبسط دولتهم من النيل إلى الفرات؟! فلماذا لم تفكر إسرائيل بأن تقفز إلى الشط الغربي للقناة وتتجه إلى مصر حيث لم يوجد عسكري واحد يعيقهم باعتراف عبد الناصر نفسه؟!
الجواب
بسبب ما تتمتع به مصر من الكثافة السكانية، بالرغم أن الشعب غير مسلح، ومع كل هذا فقد وقفت إسرائيل عند القناة ولم تتخطَّها! هل كان قادة إسرائيل لا يعرفون الوضع العسكري السيئ في مصر؟! كانوا يعلمون به تماماً، لكن الذي منعهم من دخول القاهرة وأرض الدلتا هي القوة البشرية في هذا الشعب المسلم، الذي لو دخل اليهود في وسط أرضه المعمورة والمأهولة بالسكان؛ لذابوا في وسط هذه الكثافة السكانية الهائلة.
أيضاً بين وقت وآخر نسمع من كثير من المسئولين الكلام على تحولات المصريين العاملين في الخارج، والاهتمام الشديد بهم، أليست هذه الأيدي العاملة في الخارج هي من النسل؟! أليست مصدراً من أهم مصادر جلب العملة الصعبة التي تحتاج إليها الأمة؟! فلو تقلصت هذه القوة العددية فلا شك أنه سوف يتقلص أيضاً مصدر عظيم جداً من الرزق والدخل.
فما يتشدق به البعض من وجود أزمات اقتصادية في مصر -كما يقول كثير من الخبراء- هو كلام في الحقيقة مختلق وغير صحيح، ونحن نضطر إلى أن نستشهد برجل من رجال الاقتصاد تربع على عرش رئاسة الوزراء في مصر، وهو الدكتور علي لطفي، وقد كان رئيس مجلس الشورى، وأيضاً كان قبل رئاسته لمجلس الشورى رئيس مجلس الوزراء.
ففي جريدة أخبار اليوم في القاهرة بتاريخ 14/ 4/1989م في الصفحة السادسة يقول الدكتور علي لطفي في ندوة الشباب: لا أزمة اقتصادية في مصر.
وأكّد أن مصر لا تواجه أزمة اقتصادية، بل تواجه بعض المشاكل التي سببتها الحروب العديدة التي خاضتها.
وحتى لو فرضنا وجود أزمة، فإن النزول إلى تحقيق أهداف أعداء الإسلام وأعداء الأمة هو نوع من العجز عن مواجهة المشاكل، والمشكلة في الحقيقة هي مسألة سوء توزيع للسكان، والسلوك الغير مستقيم لكثير من أصحاب المناصب، من الخيانات والاختلاسات، وإغفال وإهمال كثير من مصادر الخير الموجودة في مصر، ونحو هذه الأسباب التي تنتج عنها الأزمة.
وفي جريدة الأخبار أيضاً صفحة 3 بتاريخ 25/ 4/1989م كتب مقال بعنوان: (البحر الفارغ سلة الغذاء المنفية)، وهذا العنوان يُكّني به صاحبه عن اكتشاف فرع قديم للنيل يمتد من الجيزة إلى الإسكندرية، وهذا أحدث اكتشاف زراعي، حيث يضم (2) مليون فدّان صالح لزراعة القمح والذرة والبرسيم، والتربة من الطين المختلط بالرمال، من خلال عوامل التعرية التي تمت لآلاف السنين.
فالمهم أنهم اكتشفوا هذا الفرع من النيل بين الجيزة والإسكندرية، وتوجد بقايا الحيوانات والأسماك وبعض الحفريات التي تثبت أن ذلك المكان كان جنة خضراء.
وهناك مقال طويل يقول: إن هذه المساحة إذا زرعت بالإضافة إلى المساحات المزروعة الآن قمحاً لغطّت جميع استهلاكنا.
وأيضاً: لعلكم سمعتم عن مشروع (رابح)، فقد جاء في جريدة الأخبار بتاريخ 31/ 4/1989م تحت عنوان: (رجل من مصر يقضي على الجوع في العالم)، الدكتور رضا عزام عالم مصري، وأستاذ الكيمياء الإشع(95/11)
بدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب [1]
لقد أمر الله المؤمنين بالدخول في السلم كافة؛ لأن الدين كلٌ لا يتجزأ، وليس في الدين ما يسمى قشوراً، بل الدين كلّه لُبّ؛ إذ لا يمكن أن يأمر الشارع بشيء من سفاسف الأمور، وتفاهات الأعمال التي ليس من ورائها نفع للإنسان.
ومن هنا يتضح لنا أن ما ينادي به بعض ضعاف العقول من تقسيم الدين إلى قشر ولباب إنما هو ضرب من مكائدهم الهزيلة التي يحاولون بها هدم الدين.(96/1)
بدعة تقسيم الدين إلى قشور ولباب
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد ثبت عن الحسين بن علي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها)، رواه الطبراني في المعجم الكبير وابن عدي وغيرهما، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة.
وقد ذكر العلماء أن معالي الأمور هي الأخلاق الشرعية والخصال الدينية، لا الأمور الدنيوية؛ فإن العلو فيها مذموم في شرع الله سبحانه وتعالى.
فكل ما له علاقة بالدين فهو من معالي الأمور، أما أمور الدنيا فهي سفسافها ودناياها.
قوله: (ويكره سفسافها): السفاسف واحدها السفساف، والسفساف هو الأمر الحقير والرديء من كل شيء، وهو ضد المعالي والمكارم، وأصل السفساف ما يطير من غبار الدقيق إذا نُخل، والتراب إذا أُثير، فهذا هو السفساف.
كذلك السفساف من الشعر رديئه.
ويقال: أَسفّ إذا تتبع مداقّ الأمور، فهو يتتبع الأمور الدقيقة التافهة وطلب الأمور الدنيئة.
فإذا عرفنا معنى السفساف في اللغة، فيجب أن نعلم أن كل ما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين ليس من السفاسف مطلقاً، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، وأن كل ما فَعَله النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أمر به أمر إيجاب أو استحباب فهو من معالي الأمور، وكل ما نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام نهي تحريم أو كراهة فهو من السفاسف، وتركه يعتبر من أمور الدين ومن معالي الأمور، وكل ما تكلم فيه النبي صلى الله عليه وسلم بحيث صار من الدين فلا يجوز أن يوصف بأي وصف يوهم بالإغراء أو التنقّص، وإلا فقد أعظم على الله الفرية، وعرّض نفسه لغضب الله عز وجل وعقوبته وانتقامه! نعم هناك في قضايا الدين أصول وفروع، وكلّيات وجزئيات، وهناك أهم ومهم، لكن ليس موضوع حديثنا هو مناقشة أولويات الأمور وأهميتها، بل نريد أن نتكلم عموماً عن كل أمور الدين، حيث أن كل ما كان من أمور الدين وإن دقّ فهو من المعالي، ولا يمكن أن يُحتقر أو يوصف بالسفاسف أو بغير ذلك من الأوصاف الرديئة.
ولذلك اشتد نكير العلماء على من أطلق مثل هذه العبارات الفجّة في حق مسائل الدين وأمور الشريعة، بل إن منهم من أفتى بزجره وتأديبه، ولاسيما هذا التعبير المحدث، والمصطلح الدخيل، وهو تقسيم أمور الدين إلى قشور ولباب، أو إلى قضايا مهمّة وقضايا حقيرة ودنيئة، إلى غير ذلك من هذه العبارات الدخيلة!! ومن المعروف أن هذا من مصطلحات الصوفية، حيث إنهم يقسّمون الدين إلى شريعة وإلى حقيقة! وقد سُئل سلطان العلماء الإمام عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى: هل يجوز أن يقول المكلف: إن الشرع قشر وإن الحقيقة لُبّه، أم لا يجوز؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا يجوز التعبير عن الشريعة بأنها قشر؛ من كثرة ما فيها من المنافع والخير، ولا يكون الأمر بالطاعة والإيمان قشراً؛ لأن العلم الملقب بعلم الحقيقة جزء من أجزاء علم الشريعة، ولا يُطلقِ مثل هذه الألقاب إلا غبي شقي قليل الأدب، ولو قيل لأحدهم: إن كلام شيخك قشور، لأنكر ذلك غاية الإنكار، ويطلق لفظ القشور على الشريعة، وليست الشريعة إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيُعزَّر هذا الجاهل تعزيراً يليق بمثل هذا الذنب.
وقال الإمام العلامة تقي الدين السبكي في مقام ردّه على من أباح السماع والغناء: وقولهم: "من أهل القشور".
إن أرادوا به ما الفقهاء عليه من العلم ومعرفة الأحكام، فليس من القشور، بل من اللبّ، ومن قال عليه إنه من القشور، استحق الأدب، والشريعة كلها لُباب.(96/2)
دور العلماء في الرد على من يتهاون بالهدي الشرعي الظاهر بدعوى أنه قشور
لقد كان للعلماء صولات كثيرة في كل عصر من العصور في التصدي لظاهرة التهاون بالهدي الظاهر والسمت النبوي المحمدي وادعاء أن هذا من القشور.
من ذلك أن التهاون بالهدي الظاهر لابد أن يقترن به التشبه بالمشركين، فإن جاز التسامح في تقسيم الدين إلى قشر ولبّ، فالقشر لم يخلق عبثاً، وإنما هو الحارس الأمين لما بداخله من اللب؛ لأنه لابد لكل ثمرة من قشرة، وكل إنسان إن لم يتمسك بقشرة المسلمين فإنه سيتمسك بقشرة الكفار؛ لأننا لسنا أرواحاً ولا أفئدة فقط، ولكن لنا أجساداً فلابد لنا من مظهر.
إذاً: فكل من تخلى عن المظهر الإسلامي والقشرة الإسلامية على حد تعبيرهم، فإنه لابد أن يتمسك بقشرة غير دين المسلمين من الكافرين؛ ولذلك كثر كلام العلماء واستفاضت مؤلفاتهم في تأصيل هذا الأصل الخطير، وهو الردّ على من يتهاون بالهدي الظاهر بدعوى أنه قشور، وبيان أنه يقترن غالباً بالتمسك بهدي الكفار وسمتهم.
ولعل من أعظم وأكبر ما أُلّف في ذلك، ذلك السَّفْر النفيس الذي ألّفه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)، ومنها أيضاً رسالة لطيفة تسمى: (تشبه الخسيس بأهل الخميس) للحافظ الذهبي ومنها كتاب: (الاستنكار لهدي التشبه بالكفار) للشيخ أحمد بن الصديق، ومنها كتاب آخر باللغة التركية، وهو يتناول مسألة تحريم تقليد الكفار والتشبه بهم، وقد ألّفه الشيخ عاطف وفي هذا الكتاب أفتى الشيخ عاطف بتحريم ارتداء القُبَّعة؛ لأن أتاتورك -لعنه الله- كان قد أجبر جميع مسلمي تركيا على ارتداء القبعة، وكانت الشرطة في الشوارع تقوم بحملات على الناس كي تقبض على كل من لم يخلع الزي الإسلامي ويلبس القبعة، حتى إنه في إحدى هذه الحملات هجمت الشرطة هجمة واحدة، فرجع الناس إلى المحلات، وأخذوا يختطفون القبعات ويضعونها على رءوسهم كي ينجوا من العقوبة! ودائماً ما يرتبط انحراف المجتمع عن الهدي الإسلامي بتمسك القائمين عليه بهدي الكفار؛ ليسلخونا من هذا الذي أسموه قشراً.
ولما قام أتاتورك بانقلابه الآثم في تركيا، وبعد الانقلاب بسنتين تقريباً حوكم الشيخ عاطف، وكانت جريمته الوحيدة هي تأليف هذا الكتاب الذي فيه تحريم التشبه بالكفار.
وكان من أبرز ما تعرض له هذا الشيخ في هذا الكتاب قضية ارتداء القبعة، وأنه لا يجوز للمسلم أن يرتدي القبعة؛ باعتبار أن هذه القبعة رمز من رموز الكفار وشعار من شعاراتهم كالصليب أو غيره، والمسلم ينبغي ألا يلبسها خاصة إذا استحسنها وقدمها على شعار المسلمين، ومن المعروف أن هذا من شعار الكفار باعتبار أن الكافر لا يسجد ولا يركع، فهم لا يريدون مجرد ارتداء القبعة، بل يريدون رأساً لا يعرف السجود ولا الركوع؛ لأن الذي يلبس القبعة لا يركع ولا يؤمن بالله تبارك وتعالى! فلما مَثُل الشيخ عاطف أمام رئيس محكمة الاستقلال، خاطبه القاضي قائلاً: إنكم أيها الشيوخ مغرقون في السفسطة؛ حيث تزعمون أن الرجل حين يلبس العمامة على زعمكم يكون بذلك مسلماً، فإذا ما خلعها واستحسن القبعة صار فاسقاً أو كافراً؟! فأجاب هذا الشيخ قائلاً: أيها القاضي! انظر إلى هذا العَلَم المرفوع خلفك -وكان في العادة أن يكون خلفه علم تركياً مرفوعاً- استبدل هذا العَلَم بعلم انجلترا مثلاً أو أي دولة من هذه الدول، فإن قبلت وإلا فهذه سفسطة منك، إذ إن هذا قماش وهذا قماش.
لكن ما من شك أن هذا شعار وله دلالة خاصة، فهل يمكن أن يقبل القاضي أو يتنازل ويستبدل علم تركيا المرفوع خلفه بعلم بريطانيا أو فرنسا؟! كلا، لا يمكن، مع أن هذا قماش وهذا قماش! فبُهت القاضي، ولكنه مع ذلك حكم على الشيخ عاطف رحمه الله بالإعدام ظلماً وعدواناً، وأعدم الشيخ بالفعل.
حدثني شاب تركي لقيته منذ حوالى خمس عشرة سنة، وكان على علم ودراية، وهو الذي أخبرني بهذه القصة، قال: إن هذا القاضي مرض مرضاً شديداً كان يصيح منه كالكلاب على حدّ قوله، والعهدة عليه.
أيضاً من المواقف التي تتناول هذا الموضوع: ما قام به أحد الطلاب في إحدى الجامعات في البلاد الإسلامية، حيث قام بارتداء القبعة، فشذ بذلك عن كل المسلمين، فطلب منه المدرس أن يخلع هذه (البرنيطة) ولكن هذا الشاب أبى أن يخلعها، وقال: لا أخلعها إلا بحجة مقنعة تقنعني.
وجاءت الحجة حين قال له أستاذه: يا بني! ليست (البرنيطة) بنفسها شيئاً مذكوراً، ولكنها شعار القوم الذين أذلّوا أمتك وسلبوك حريتك.
ومثل هذا الشعور يظهر حينما نرى بعض الناس يضعون على السيارات أعلام أمريكا أو أعلام بريطانيا، أو يضعون في بعض وسائل الإعلام بكل اعتزاز وفخر شيئاً من هذا، وهؤلاء هم أعداء الإسلام الذين يحاربون ديننا وينكّلون بنا في كل مكان، ومع ذلك نجد الغفلة عن هذا الأصل واحتقار مثل هذه الأمور، وهي عظيمة في الحقيقة وليست هينة.
ويقول الشيخ عبد الله بن الصديق في نفس هذا الموضوع: و (البرنيطة) شعار خاص بغير المسلمين، حتى إن أتاتورك -لعنه الله- حين انسلخ من الإسلام، وأعلن أن تركيا دولة لا دينية، اتخذ (البرنيطة) شعاراً يعرفون به أنهم غير مسلمين؛ حتى يُسلخ المسلمون من وصف الإسلام.
ويقول: وصرّح المالكية بأن اللبس المختص بالكفار كالزنار، وهو حبل يضعه الكافر أو الراهب في وسطه، وهو موجود إلى الآن، و (البرنيطة) يكون لبسه رِدّةً إن فُعِل محبةً أو رغبة فيه.
ولما كان الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله شيخاً للأزهر في عهد حكومة الانقلاب الذي قام به جمال -خيّبه الله- ترك (الطربوش) الذي كان غطاء للرأس عند جمهور المصريين، وأراد أن يتخذ (البرنيطة) بدلاً عنه، واستفتى شيخ الأزهر الشيخ: محمد الخضر حسين - في ذلك فلم يوافقه، لكن الشيخ محمد الخضر حسين رأى في مجلة الشئون الاجتماعية فتوى منشورة مزوّرة عليه أنه وافق على لبس (البرنيطة)، فاحتج على رئيس تحرير المجلة قائلاً: كيف تنسب إلي فتوى لم أقلها؟! فقال له: إنه أَمْرٌ بنشر هذا الخبر! فاستقال الشيخ من منصبه، وكانت الحكومة عازمة على تنفيذ المشروع، لكن أعاقتهم عنه عوامل، ومن أهمها استقالة شيخ الأزهر فجأة، وبقي الشعب المصري منذ ذلك الوقت عاري الرأس، حيث طرح الطربوش فلم يرجع إليه، ووقاه الله لبس (البرنيطة) والحمد لله.
ونحن نرى مثل هذه العبارات لبعض العلماء؛ لأن هذه الأمور لا ينبغي أن يُنظر إليها هذه النظرة الساذجة على أنها قشور، أو أنها أمور مظهرية أو شكلية، وأن الإسلام لا يهتم بهذه الأمور.(96/3)
الدين كلٌ لا يتجزأ(96/4)
دلالات واضحة تبين أن الدين كلٌّ لا يتجزأ
إن أول دليل نستدل به بصورة واضحة تامة، بحيث ينقشع غبار هذه الفرية أو هذه البدعة أو هذه الضلالة: هو قول الله عز وجل في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208].
قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين به، المصدقين برسوله صلى الله عليه وسلم، أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره، ما استطاعوا من ذلك.
فاستدل على كلمة جميع بقوله: (كافة)، والمقصود بقوله: (السَّلْم): الإسلام.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (ادخلوا في السلم) أي: الإسلام، (كافة) أي: جميعاً.
وقال مجاهد: أي: اعملوا بجميع الأعمال، والزموا الذكر.
وقال الألوسي رحمه الله تعالى: والمعنى: (ادخلوا في السلم كافة) أي: ادخلوا في الإسلام بكّل نيتكم، ولا تدعوا شيئاً من ظاهركم وباطنكم إلا والإسلام يستوعبه، بحيث لا يبقى مكاناً لهجره.
وقال أيضاً: وقيل: الخطاب للمسلمين الخُلَّص، والمراد من (السلم) شُعَب الإسلام، و (كافة) حال منهم، والمعنى: ادخلوا أيها المسلمون المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم في شعب الإيمان كلها، ولا تخلوا بشيء من أحكامه.
وقد ظهر في هذا العصر أقوام تلقوا هدي الإسلام من واقع حياتهم، لا ينشئون نشأة طبيعية، وكان الأصل أن يتعلم الإنسان أولاً الإسلام، ثم يطبق هذا الإسلام ويحكم على الواقع من خلال الإسلام، لكن هؤلاء يقفزون فوق هذه الخطوات الأولى، ويتلقون هدي الإسلام من واقعهم، ويعتقدون أن ما هم عليه من الواقع هو الإسلام، ويتصورون مفاهيم الإسلام من الواقع المحيط بهم؛ لأنهم لم ينشئوا في جو علمي يتأثرون به في حكمهم على الأمة.
وبالتالي نراهم كثيراً ما يتخبطون ويحتجون أحياناً ببعض النصوص لإثبات عكس ما وضعت له هذه النصوص، ويسمون الأشياء بغير اسمها، وهذا أوضح وأجلى ما يكون في هؤلاء الذين يقسمون الشريعة إلى شكليات أو قشور ولباب.
وصارت هذه المقولة المغرضة شعاراً لهذا الشعار أنصار ودعاة وأقلام وصحف ومناهج وعقول.(96/5)
تعريف القشر واللُّبَاب
بالرغم من الحشد الذي التف حول شعار القشر واللباب فحتى الآن لا نجد ترجمة واضحة، ما هو القشر بالضبط؟ وما هو اللب بالضبط؟ ولم نجد تحديداً واضحاً للقشر واللب أو معناه، ورغم كثرة من ينادون بقضية القشر واللب وإلحاحهم عليها، وتأكيدهم على هذه القسمة، وإكثارهم من الحديث عنها، لكنهم لم يضعوا تعريفاً أو حدّاً لما أسموه قشراً أو لُباباً، بحيث ينتهي إليه الحد ويفهمه من أراد أن يعمل باللب ويهجر القشر، فلو جاء أحد وسألهم: ما هو القشر حتى أهجره وأستفيد من كلامكم؟ وما هو اللب حتى أعلمه وأتمسك به؟ فلن يجد عندهم جواباً ولا تحديداً ولا تعريفاً؛ وما ذاك إلا لأنها بدعة محدثة لم يعرفها السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم ولا من تبعهم بإحسان، وإنما هي نتاج أفكار المنهزمين المستعبدين للشرق أو للغرب، ونحن نحاول أن نضع حداً تقريبياً أو تعريفاً تقريبياً لهذين القسمين، فنقول: أولاً: تعريف القشر واللباب في جانب المأمورات الشرعية: فاللباب هو كل ما تحت حكم الواجب، والقشر هو ما خرج عن الحكم الواجب.
ثانياً: تعريف اللباب والقشر في جانب المنهيات الشرعية، اللباب هو ما يدخل تحت الحرام، والقشر هو ما لم يتناوله الحرام الصريح في المعاصي.
وعلى ذلك إذا قبلنا هذا التعريف التقريبي أو حاولنا أن نجتهد ونخترع له تعريفاً تقريبياً، فيكون اللب في الأوامر هو ما يدخل تحت الواجب، واللب في النواهي هو ما يدخل تحت الحرام، والقشر في الأوامر هو ما يدخل تحت المندوب والمباح، والقشر في النواهي هو ما يدخل تحت المكروه.
وبناء عليه يجتمع لدينا من القشور ما يزيد على نصف الدين، فيصبح نصف ديننا قشوراً، وهو المكروه والمستحب والمباح، ويبقى من لبابه أقل من النصف، فهل يعقل أن ندع أكثر من نصف الدين بحجة أنه قشور ونأخذ أقل من نصفه بحجة أنه لباب؟! ثم هناك مسائل مختلف فيها، هل هي من الواجبات أو من المستحبات؟ فمثلاً: صلاة الوتر فيها خلاف بين العلماء، بغضّ النظر عن تحقيق الكلام في هذه القضية، لكن هناك مسائل كثيرة جداً مختلف فيها هل تدخل في اللب أم تدخل في القشر؟ وأيضاً ليس هناك شيء من اللباب أو من القشور إلا وهو داخل تحت حكم الله وتحت خطاب الله عز وجل المتعلق بأفعال المكلفين، وهو الخطاب التكليفي، سواء على سبيل التخيير أو الطلب، والطلب إما طلب فعل أو طلب كف، وطلب الفعل إما طلب فعل لازم أو غير لازم، وطلب الكف إما طلب كف لازم وإما غير لازم.
فهذا كله يدخل تحت الحكم التكليفي الذي هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين، وبالتالي لا يصح تسميته قشراً على سبيل الاصطلاح الذي افترضناه، لا على سبيل التهوين من شأنه، فلو قلبت الأمر من هذه الجهة أو تلك الجهة، وحتى لو أردت التهوين من أمره فإنه يبقى تحت حكم الله المتعلق بأفعال المكلفين.
كذلك إذا أردت أن تقول: المقصود باللب هو الواجب والحرام، وما عدا ذلك فهو قشر، فهذا أيضاً لا يستقيم مع تعريفنا للأحكام الشرعية التكليفية التي هي خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل الطلب أو التخيير تركاً أو فعلاً.(96/6)
تقسيم الدين إلى قشر ولباب بدعة هدفها هدم الدين
إننا نعيش في وقت ارتفعت فيه مثل هذه النعرات، أعني نعرات القشر واللب، والظاهر والباطن، والحقيقة والشريعة، وغير ذلك من الشعارات التي سنبينها إن شاء الله تبارك وتعالى.
وهم يريدون بذلك تزهيد الناس في التمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وصل الأمر إلى أن صوّرت لهم شياطينهم وطوّعت لهم أنفسهم أن يسمّوا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تطرفاً، والله سبحانه يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، ويقول تبارك وتعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، وقال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
وحينما نردد بين الحين والآخر بل في عامة مجالسنا ذلك الشعار المقدس: وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ينبغي لكل مسلم حينما يسمع هذه الكلمة أو حينما يقولها أن يستحضر معناها؛ فهو ليس شعاراً يُرفع بدون تطبيق، بل كل موقف وكل محفل وكل أمر من الأمور لابد أن يوزن بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فنحن نعلمها ونعتقدها حينما نقولها، وكلما رفعنا أصواتنا بهذا الشعار فإننا نستحضر أنها تعني الاعتزاز بهذا الهدي، والاستعلاء به على كل طريقة تخالفه أو تنحرف عنه، انظر إلى العسكريين حينما يقفون الوقفة المعروفة احتراماً للعَلَم، مع أنه قطعة قماش، فنحن أشدّ احتراماً لهذا الشعار الذي يرفع فوق رءوسنا في كل حين: وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فالتمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما هو إلا عبارة عن مرآة تعكس ما يغمر قلوب مُحبيه صلى الله عليه وآله وسلم من حُب وتعزير وتوقير؛ لأن المحبة تدفع إلى التشبه والاتباع.
فالمحبة موافقة وتجانس ومشاكلة، وهذا نلمسه في كثير من الشباب الذين أولعوا حباً بالممثلين وبالرياضيين وغيرهم ممن يهوونهم ويعظمونهم، فتجدهم يقتدون بأحد هؤلاء في طريقة تسريح شعره أو في ملابسه، وربما قامت بعض الشركات بالترويج لبعض الملابس أو الموضات، فتظهرها مع صورة لبعض هؤلاء الممثلين أو الرياضيين أو غير ذلك ممن يسمونهم نجوم المجتمع، لتروج لها؛ لأن الناس سوف يقتدون بهم.
فهل يستكثرون علينا أن نهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ولو كانت الموضة هي تقصير الثياب وتقصير السراويل لقالوا: سمعنا وأطعنا، وحباً وكرامة، وعلى العين والرأس، أما إذا فعلت هذا من منطلق الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنك تصير حسب زعمهم متطرفاً ورجعياً ومهووساً ومتخلفاً، فهل هذا من الإنصاف؟! إن ما يتمادى به هؤلاء من زعمهم أن الدين قشر ولب، وحقيقة وشريعة، ونحو ذلك، لا يعدو أن يكون جهلاً بالشرع، أو ضرباً من العبث صادراً من إنسان عابث سفيه لا يتمسك بدينه ولا يعظمه، أو أن يكون عن سوء نية وخبث طوية من أعداء الإسلام، فنحن نحاول الردّ إن شاء الله على الفريقين، ونبين أن مصطلح القشر واللب مصطلح ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، ولما كان ظاهره قد يكون فيه الرحمة عند بعض الناس وباطنه من قبله العذاب، انقاد له الطيبين السذّج الذين اتبعوا هذا الطُّعم فاستحسنوه، وصاروا يروجون له دون أن يدركوا أنه قناع نفاقي قبيح، وأنه من أقوال العلمانيين الذين يتخذون شعار القشر واللباب قنطرة يهربون عليها من الالتزام بشرائع الإسلام، دون أن يخدش في انتمائهم إلى الإسلام.
صحيح أن هذه القضية تتوقف عند حسن النية من بعض المسلمين الطيبين المخلصين، ويقولون: دعونا من القشور لكي نهتم باللب، فهذا أقصى ما وصل إليه الطيبون المخلصون قليلو العلم من المسلمين، أو ممن ينتسبون إلى الدعوة أحياناً، فمقصودهم إهمال القشر لأجل الاهتمام بالقضية الكلّية للأمة، والتي تتعلق بمصيرها ونحو ذلك.
لكن هذه القضية عند المنافقين الحريصين على اقتلاع شجرة الإسلام من جذورها لا تقف عند هذا الحد، بل هذا مجرد مدخل وسُلّم إلى نبذ القشر واللب معاً، وهدم الدين كلّه كما يفعلون حينما ينشرون شعار الاهتمام بروح النصوص، وعدم الجمود عند ظواهرها.
لو أن قاعدة الاهتمام بروح الشريعة تقف عند هذا الحد فلا بأس؛ لأن ما يُستقى من القواعد الكلية للشرائع الإسلامية هو مراعاة المصالح الكلية لها، لكن إنما يستقيم هذا إذا تناوله وتعاطاه أناس أسوياء أو علماء مخلصون لهذا الدين، لكنه خطير جداً إذا رفعه أصحاب العاهات الفكرية والنفسية، والمشوهون عقدياً؛ لأن مقصودهم من التركيز على روح النصوص هو أن يذهبوا بروح النصوص، وليس ذلك حفاظاً أو حرصاً على الشريعة ولا تمسكاً بها، ولا أنهم يريدون التمسك بروح النص كي يظهروا روح هذا النص، بل لكي يرفضوا منطوقه ومفهومه، أو يوظفوا هذا النص بعد أن يحرفوه عن مواضعه لخدمة أهدافهم الخبيثة.
فالقوم الذين يوافقونهم لا يفطنون إلى أنهم يقفون معهم في خندق واحد في دعوتهم إلى تقسيم الدين إلى قشر ولب، وغير ذلك من التقاسيم، وبالتالي يقفون دون أن يشعروا في خندق واحد مع أعداء الدين الذين يريدون لنا ديناً ممسوخاً، ويريدونه ديناً كدين الكنيسة المعزول عن الحياة، والذي يسمح لأتباعه بكل شيء، ويبيح لهم كل شيء بلا حدود، حتى وصل الأمر إلى إباحة الفواحش التي تتصادم مع الفطرة، كما هو معلوم من أحوالهم، فالكنيسة تنازلت عن كل شيء في دينها، حتى أباحت للقوم كل شيء مقابل أن يسمحوا لها بالبقاء حية، ولو على هامش الحياة! فكذلك هم يريدون من الإسلام نفس الشيء، وذلك بأن يصل الأمر بالمسلمين إلى أن يُعزل الدين عن الحياة، وأن يبيح كل شيء مقابل أن يسمحوا له أن يبقى حياً على هامش الحياة محبوساً في الأقفاص الشمعية، ولا يتركوا له أي بصمة على واقع الناس ولا على مجتمعاتهم، وحالهم كما بين الله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33]، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17].(96/7)
كل أمور الدين لباب وليس فيها ما يسمى قشوراً
إن الله سبحانه وتعالى حينما خلق هذا الإنسان، وأنزل هذا الدين كي يبنى به الإنسان بناء متكاملاً، ويسعد به في الدنيا وفي الآخرة، أي إنسان عرف أن كل أمر أو نهي من أوامر هذا الدين ونواهيه هو عبارة عن نوع من الإسهام لكي يزيد في بناء هذا الإنسان، سواء كان هذا من المندوبات أو المباحات أو الواجبات أو المكروهات أو المحرمات؛ لأن كل هذه الأفعال تدخل في شُعَبِ الإيمان التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).
فنقص شيء من شعب الإيمان هو نقص في الإيمان، ولا أظن إلا أنهم يعتبرون إماطة الأذى عن الطريق ستكون قشراً على حدّ تعبيرهم، والرسول صلى الله عليه وسلم قد ذكر أن إماطة الأذى عن الطريق شعبة من الإيمان، وكونها شعبة من شعب الإيمان فإنها إذا تخلفت سوف توجب نقصاً في الإيمان بحسب التفريط في هذه الشعبة، ولذلك فإن أي شعبة يجتنيها الإنسان في دينه ستكون بمثابة الزيادة في إيمانه؛ لأن من أصول أهل السنة قولهم: إن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وهذا هو مذهب السواد الأعظم من الأمة المحمدية.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه).
يعني: فأي أَمْر أَمَر به النبي عليه الصلاة والسلام فالأصل التزامه واتباعه والانقياد له.
قوله: (إذا أمرتكم بأمر) أي: لا تتفلسفوا وتقولوا: هذا قشر وهذا لب وهذا جوهر وهذا مظهر، إلى آخر هذه المتاريس التي توضع في طريق السنة حتى تعوقها عن السير.
فهذا التقسيم كما بيّنا آنفاً هو تقسيم محدث لم يعرفه السلف الصالح، {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23]، وهذه القسمة لا تقف عند حّد، وليس مقصودهم مجرد تقسيم الدين إلى قشر ولُبّ، لكن يتبع ذلك خطوة أخطر وهي المناداة بإهمال الظاهر بحجة الاهتمام بالباطن، ثم يتعدى الملاحدة والمنافقون والعالم اليوم ذلك إلى إهمال الباطن والظاهر.
ولذلك نجد أن هذه الشعارات تلقى رواجاً عند المستهترين والمخدوعين؛ لأنهم يرون القوم يسمون لهم المعاصي بغير اسمها، فمثلاً: إعفاء اللحية باعتبار أنها من الأمور التي أوجبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيقولون: هذه من سنن العادة ولا علاقة لها بالدين! بل يزعمون أن من قال: إنها من الدين، يكون قد ابتدع في هذا الدين ما ليس منه، وغير ذلك من الشعائر الإسلامية يكررون محاولة إبطالها بهذا المعنى.
وعلى قولهم: إن هذه عادات لا علاقة لها بالدين، فنحتاج إلى أن نعرف ما هي العادة وما هي العبادة، وما هو الفرق المحدد بينهما.
ونحن نقول: إن ما تجري به أعراف الناس وعاداتهم وتقاليدهم قسمان: القسم الأول: ما سكت عنه الشارع ولم يتعرض له بإيجاب ولا بتحريم، فهذا مباح لا لوم على فاعله أو تاركه وصاحبه مخير.
القسم الثاني: ما كان في الأصل من العادات، لكن الشرع أوجبه أو أمر به أو حرمه أو نهى عنه.
فبمجرد أن يتعرض الشارع لشيء من العادات بأمر أو بنهي أو بإيجاب أو بتحريم فإنه حينئذٍ يدخل في دائرة الدين، ولم يعد داخلاً في العادات بل صار من العبادات، سواء كان من المناهي أم من الأوامر.
فما أكثر الأعمال التي كانت تجري مجرى العادات قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صارت من المناهي التي حرمها الشارع، فأصبح اجتنابها من الدين، مثل الوشم، لكن لما نهى عنه الشارع صار تحريمه عبادة، وكذلك وصل الشعر بالشعر، والنياحة على الميت، والميسر، وشرب الخمر وغيرها.
كل هذه كانت عادات عند العرب، ولكن لما تعرض لها الشارع بالنهي صار من الدين اجتنابها.
يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: اعلم أن مفتاح السعادة في اتباع السنة والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع مصادره وموارده، وحركاته وسكناته، وحتى في هيئة أكله وقيامه ونومه وكلامه، لستُ أقول ذلك في آدابه فقط؛ لأنه لا وجه لإهمال السنن الواردة فيها، بل ذلك في جميع أمور العادات، فبه يحصل الاتباع المطلق كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
يعني: أفضل أنواع الاتباع هو الاتباع المطلق، وكل ما كان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم فعليك أن تتبعه فيه، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
يقول: فلا ينبغي التساهل في امتثال ذلك، فتقول: هذا مما يتعلق بالعادات فلا معنى للاتباع فيه، فإن ذلك يغلق عنك باباً عظيماً من أبواب السعادات، بل حتى العادات إذا كانت من فعل النبي عليه الصلاة والسلام، إذا نويت بفعلها الاقتداء به، فإنك تثاب على ذلك وتصبح عبادة في حقك.(96/8)
الآثار السيئة المترتبة على تقسيم الدين إلى قشر ولب
إن من الآثار السيئة لتقسيم أمور الدين إلى أمور شكلية ومظهرية وأمور جوهرية، وقشر ولب، وحقيقة وشريعة، أنها تؤثر في قلوب العوام أسوأ تأثير، وتورثهم الاستخفاف بالأحكام الظاهرة، وينتج عنها الإخلال بهذه الأمور التي أسموها كذباً وزوراً قشوراً، فلا تلتفت قلوبهم إليها، ولما لا تلتفت القلوب لهذه الأشياء فمن الطبيعي أن تخلو من إنكار المخالفة، وبالتالي تخلو من أضعف مراتب الإيمان تجاه هذا المنكر، وهو الإنكار القلبي، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل)، والإيمان يدخل في القلب، فإن لم يستطع الإنكار باليد واللسان فلا سلطان لأحد غير الله على القلب فإنه ينكر بقلبه، أما اليد أو اللسان فيمكن أن يكون له عذر في التخلف عن إنكار المنكر أحياناً بهما.
فالتفريط في محقرات هذه الأعمال يؤدي إلى التفريط في عظامها، فإذا بدأ الإنسان في التردي في دينه بسبب التفريط في الصغير، فإن التفريط في الصغير يؤدي إلى التفريط في الكبير؛ لأن استمرار هذا التفريط يتحول مع الوقت إلى عادة تأسر الإنسان، وتنتهي بصاحبها إلى قلة الاكتراث بأمور دينه والتهاون بها.
وكما أشرنا من قبل فإننا إذا تسامحنا معهم في تقسيم الدين إلى قشور وإلى لباب، فإننا نلفت أنظارهم إلى أن قياس أمور الدين على الثمار، من حيث كون كل منهما له قشر وله لب، وظاهر وباطن، وهذا لا يعني أن القشرة التي أوجدها الله للثمرة إنما خُلقت عبثاً، حاشا وكلا، وإنما خلقها الله سبحانه وتعالى لحكمة عظيمة، وهي المحافظة على اللب نفسه، فهذا يحملنا على ألا نستهين بالقشر إذا تسامحنا في هذا الاصطلاح؛ لأن القشر حارس أمين على الثمرة، إذ لا يمكن أن تتخيل ثمرة بدون قشر، وإلا فإنه يسرع إليها الفساد، وهذا شيء مجرّب ومعروف.
وهكذا الشأن في أمور الدين الظاهرة، حيث تقوم بنفس الدور الذي تقوم به القشرة في حمايتها للب الثمرة.
كذلك تقسيم العلماء للدين إلى أصول وإلى فروع، قد استغله بعض الخبثاء الذين يريدون بالدين سوءاً، وأخذوا يذهبون بهذا التقسيم بعيداً عما أراده به العلماء؛ لأن العلماء حينما قسموا الدين إلى أصول وإلى فروع لا يُظن بهم أنهم أرادوا بذلك إيجاب الاتفاق على الأصول مع التسامح مطلقاً في الفروع.
فترى بعض الناس يسيئون فهم هذا التقسيم، فيميعون كل قضية شرعية بدعوى أن اختلاف الأمة في دينها رحمة، والاختلاف رحمة، فلذلك يقولون: من قلد عالماً لقي الله سالماً! حتى لو كان هذا الكلام فاسداً في غاية الفساد أو مصادماً للنصوص! فبالتالي يؤدي الأمر إلى الترخص واتباع الهوى، ونقص العبودية عند هؤلاء الناس، ويلزم من قولهم هذا أن الاتفاق يكون سخطاً، وهذا ما لا يقوله مسلم.
أما إذا قالوا كما قال ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه: الخلاف شر.
إذاً: لو نظرنا إلى الخلاف على أنه شر، لسعينا إلى الاتفاق ورأيت ذلك في كثير من المسائل المتناقضة التي لا يمكن التوفيق بينها إلا بردّ بعضها المخالف للدليل وقبول البعض الآخر الموافق له، وإلا إذا صح نسبة قولين متضاربين تماماً إلى الشريعة فهذا من التناقض الذي نزهت عنه الشرعية؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فليس ممكناً أبداً في الشريعة أن يكون في المسألة الواحدة قولان: الأول واجب والآخر حرام، بل قد يكون هناك خلاف في مسألة، بحيث يقول فيها الأول: هذا واجب، ويقول الآخر: هذا مستحب.
أو في مسألة أخرى يقول فيها الأول: هذا حرام، ويقول الآخر: هذا مكروه.
أما أن يختلف اثنان، فيقول الأول: هذا واجب يأثم تاركه، والآخر يقول: بل حرام يأثم فاعله! فمثل هذا الخلاف تتنزّه عنه الشريعة الإسلامية، وهذا الخلاف ليس من عند الله، ولا يمكن أن يوجد في شرع الله، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82].
فلما كان التشريع من عند الله فليس فيه مثل هذا الخلاف، فلا يصح إذاً جعل الخلاف شريعة مُتّبعة ورحمة منزلة، فالواجب التخلص من الخلاف ما أمكن ذلك، أو تضييق دائرته؛ عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سدّدوا وقاربوا)، أما إذا تحرى الإنسان الدليل وعجز عن التخلص من الخلاف فحينئذٍ يعذر بعضهم بعضاً فيما قد يختلفون فيه.(96/9)
شبهات باطلة والردّ عليها(96/10)
التلازم بين صلاح الظاهر وصلاح الباطن
إذا كانت النصوص السابقة قد أسست فكرة الربط بين الظاهر والباطن وردّ مسألة الاعتماد على الباطن وحده أو النية وحدها، فإن هناك جملة أخرى من النصوص قد فصلت العلاقة بين الظاهر والباطن، وأثبتت أن هناك تأثيراً متبادلاً بينهما، كحديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بنا القداح)، والقداح: هي خشب السهام حين تنحت وتُبرى، واحدها قِدح، فكان يبالغ في تسوية الصفوف حتى تصير كأنما تقوم بها السهام، لشدة استوائها واعتدالها، ونجد من الناس الآن في هذا الزمان من يسخر من حرص الإمام على تسوية الصفوف! ولعلكم سمعتم من أحد دعاة العقلانية الحديثة للأسف الشديد أنه سئل في إحدى المرات -وهو شيخ معمم-: ما هي آخر نكتة سمعتها؟ فقال: رأيت نكتة في إحدى المجلات: الناس يقفون صفوفاً للصلاة، والإمام يلبس القفازات التي يلبسها الملاكم، وسئل الإمام: ماذا تنوي أن تفعل؟ هل ستلعب الملاكمة؟! قال: لا، أنا سأسوي الصفوف!! يقصد بذلك السخرية من الأئمة الذين يهتمون بتسوية الصفوف، هل يوجد أحد يسوي الصفوف بقفاز الملاكمة ويضرب الناس؟! هذا من الكذب والافتراء على عباد الله.
وهؤلاء الناس الذين يسخرون ممن يهتمون بتسوية الصفوف ويقولون: هذه قشور، هم الذين يفعلون معسكرات ترفيهية أو إنشادية، ويقولون: لابد أن يكون فيها نظام، حيث يكون القصير في الأمام والطويل في الخلف، وغير ذلك من قواعد النظام في دقائق الأمور، فإذا قيل لهم: هذه قشور، كيف تهتمون بالطوابير وتهتمون بالنظام وغير ذلك؟! عندها يقول: ديننا دين انضباط ونظام، فهل يكون مهماً في مثل هذه الأمور بينما في أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين يُعتبر الترتيب قشوراً! وهذا من أوضح التناقض.
نرجع إلى الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوّي صفوفنا، حتى كأنما يسوي بنا القداح، حتى رأى أنّا قد عقلنا عنه -أي: تعودنا على تسوية الصفوف وحافظنا على ذلك- ثم خرج يوماً فقام حتى كاد يُكبّر، فرأى رجلاً بادياً صدره من الصف، -أي: صدره خارج عن الصف- فقال: عباد الله! لتسوّنّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)، وفي رواية: (أو ليخالفن الله بين قلوبكم).
وهذه إشارة منه عليه الصلاة والسلام إلى أن الاختلاف في الظاهر سينعكس على الباطن.
إذاً: فالظاهر يؤثر في الباطن كما أن الباطن يؤثر في الظاهر، فالاختلاف في الظاهر مثل تسوية الصف يوصل إلى اختلاف القلوب، فدلّ هذا على أن للظاهر تأثيراً في الباطن، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن التفرق حتى في جلوس الجماعة، فيأمرهم أن ينضم بعضهم إلى بعض، كما جاء عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآنا حلقاً، فقال: ما لي أراكم عزين؟!) يعني: متفرقين، وعن أبي ثعلبة الخُشني رضي الله عنه قال: (كان الناس إذا نزلوا منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلك من الشيطان.
فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض، حتى يقال: لو بسط عليهم ثوب لعمّهم).
ومما يقوي اعتبار الظاهر أيضاً ما تقرر في الشريعة من لزوم مخالفة الكفار وتحريم التشبه بهم، والأدلة على ذلك كثيرة معروفة.
وكذلك ما تقرر أيضاً من تحريم تشبه الرجال بالنساء، حيث جاء في الحديث: (لعن الله الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل)، وهذا معناه أن هذا الفعل من الكبائر، وهذا ظاهر، فمثلاً: لو لبس أحدهم فستاناً وقال: أنا نيتي سليمة! وكذلك المرأة تلبس ملابس الرجال وتقول: المهم هو النية؟ فالشرع يهتم بالمظاهر حتى لو وافقنا على تسميتها بالقشور، والمخالفة في ذلك قد تُدخل صاحبها في الكبائر المتوعد عليها بالنار.
والمقصود بالتشبه بالكفار هو التشبه بهم فيما هو من خصائصهم، لكن لو قال قائل: هم يأكلون ونحن نأكل، فهل هذا تشبه؟ نقول: ليس هذا تشبهاً، بل التشبه يكون فيما هو من خصائصهم، كالاحتفال بأعيادهم ومشاركتهم فيها، وكارتداء الملابس الخاصة بهم والتي يتميزون بها، وهذا مما حرص السلف الصالح على تجنبه، وهو واضح تماماً في سلوك الصحابة والفاتحين مع أهل البلاد التي فتحوها، حتى كانوا يشترطون في عقد الذمة أن لا يتزيّ المشركون بزي المسلمين.
فطريق الهدى والصلاح أن نصلح الظاهر والباطن معاً، نصلح ظاهرنا باتباع السنة، وباطننا بدوام مراقبة الله عز وجل، ولا ندع العمل الصالح حذر الرياء ولا نفعله رئاء الناس.
فقضية المظهر أو القشور كما يسميها بعضهم هذه قضية مبدأ وليست مجرد قشر أو ظاهر لا معنى وراءه، إذ إن هذه القشرة تحمي اللب وتحمي الهوية الإسلامية المتميزة، والعلماء لم يستعملوا لفظة القشر ولا المظهر، وإنما استعملوا لفظة الهدي النبوي الظاهر، وأفاض العلماء في بيان خطر ذوبان الشخصية المسلمة وتميعها، فما يشيع على ألسنة الناس من أن العبرة بالجوهر لا بالمظهر هذا فيه مغالطة جسيمة وخداع كاذب؛ لأن كلاً من المظهر والجوهر لا ينفكّ أحدهما عن الآخر.
فالمظاهر أو الظواهر معبرة عن المضامين، ويمكننا أن نستدل هنا بقول القائل: كل إناء بما فيه ينضح، والإناء لو ملأته بالزيت فسوف ينضح زيتاً، ولو ملأته بالماء فسينضح ماءً، ولو ملأته بالعسل فسينضح عسلاً، فالعبرة بالجوهر لا بالمظهر، والقضية قضية مبدأ وليست مجرد شكل ومظهر، والأمثلة على ذلك كثيرة، وإن شاء الله نرجو أن نفصلها فيما بعد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(96/11)
صلاح الأعمال الظاهرة هو الدليل على صلاح القلب
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صَلُحَت -يصح بضم اللام وفتحه- صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
نقول: الفهم الصحيح لهذا الحديث: أن فيه إشارة إلى أن صلاح جوارح العبد واجتنابه للمحرمات واتقاءه للشبهات يكون بحسب صلاح حركة القلب، فالقلب هو الموجّه للجوارح وهو القائد لها، فإن كان سليماً ليس فيه إلا محبة الله عز وجل ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه الله، فهذا قلب تصلح معه حركات الجوارح كلها، وينشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات.
وإن كان القلب فاسداً قد استولى عليه اتباع الهوى، فسدت حركات الجوارح كلها، واندفعت إلى المعاصي والشبهات بحسب اتباع هوى القلب، ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، والأعضاء جنودٌ له طائعون منقادون لطاعته وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء، كما هو مفهوم من الحديث: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فالقلب هو الملك الذي يصدر الأوامر، والجوارح جنود منقادة له، هذا هو مفهوم الحديث والمقصود منه.
فبالتالي يمكن أن يستدل الإنسان على صلاح القلب بصلاح الظاهر، حيث إنه إذا كانت الجنود في حالة سليمة صالحة فهذا يدل على أن القلب سليم، ولو رأينا مثلاً من يحلق لحيته ويقول: قلبي سليم! نقول له: لا، بل هناك فساد في قلبك يستوجب أن تعصي أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام بحلق لحيتك، ولو رأينا آخر يتشبه بالنساء ويقول: قلبي سليم.
نقول: لا، بل هناك مرض في القلب، ويدل عليه تشبهك بالنساء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء) وكذلك الحال في المتشبهات بالرجال.
فلو كان القلب سليماً يحب ما يحبه الله ويرضاه، ويكره ما يكرهه الله لظهر ذلك على الجوارح حتى تصلح صورتها وتتوافق مع سلامة القلب، لكن أي انحراف في الظاهر وفي أعمال الجوارح يعكس وجود الفساد في الملك الذي يأمر ويوجه ويقود هذه الجوارح.
فيمكن الاستدلال على صلاح القلب أو فساده بقدر ما تظهره جنوده من الانقياد لشرائع الإسلام، فالظاهر عنوان الباطن ودليل صلاحه وفساده.
لقد تقرر عندنا أنه لا يستدل مُبطل بآية أو حديث يؤيد الباطل الذي ذهب إليه إلا وكان فيه ما يدل على نقيض ما ذهب إليه، فنحن نهدم هذه البدعة بنفس الأدلة التي يستدلون بها، كما بيّناها من قبل في استدلالهم بحديث النيات، وكذلك الحال في هذا الحديث: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) فهل اللحية من الجسد أم ليست من الجسد؟
الجواب
هي من الجسد، فإذا حلق الإنسان لحيته بدون عذر معاندة للشرع، فإن هذا دليل على فساد في القلب؛ لأنه لو صلح قلبه لصلح جسده ووافق الشريعة، فمن استأصلها بغير عذر محتجاً بصلاح قلبه فهذه كذبة ظاهرة، ومن امتثل أوامر الشرع بإعفائها كانت هذه قرينة ظاهرة على امتثال هذا الرجل لشرع الله في الظاهر، أما الباطن والنية فحسابه على الله في الآخرة بحسب نيته، هل يقصد ترويج تجارته حتى يثق الناس به ويقولون: هذا الرجل طيب، فهذا في الحقيقة منافق كذاب مخادع، أم أنه يريد وجه الله فيثاب في الآخرة.(96/12)
العبرة في الشرع بصلاح القلوب والأعمال معاً
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) هذا الحديث مما يستدل به من لا يهتم بالأعمال الظاهرة، وهو في الحقيقة حجة على هؤلاء القوم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقتصر على ذكر القلوب فقط، بل قال: (ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، فالقلوب لا سبيل لنا للاطلاع عليها، لكن الأعمال نستطيع أن نحكم عليها بالظاهر، فلذلك عطف الأعمال على القلوب.
فالعمل شيء ظاهر، والله سبحانه ينظر إلى الباطن وهو القلوب، وإلى الظاهر وهو الأعمال.
فالمقصود بقوله: (ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) أي: وينظر إلى الأعمال التي تنبثق عن تلك القلوب، والتي لابد أن تكون صالحة موافقة لمرضاة الله، ويكون المراد بها وجه الله عز وجل.
فلماذا نحاول أن نضرب الأدلة بعضها ببعض؟! ولماذا لا نفهم النصوص في تناسق وتعاضد؟! فهذا الحديث يؤخذ منه أن المعتبر عند الله سبحانه وتعالى هو التقوى، كما يأتي في باقي الحديث: (التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره ثلاث مرات)، عليه الصلاة والسلام.
فمحل التقوى هو القلب، والمعتبر عند الله هو تقوى القلوب وليس الظاهر، كما قال عز وجل: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم} [الحج:37]، أي: هذا لا يصل إلى الله، ((وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم))، وقال عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
ومن هذا نفهم أن الإسلام لا يضع اعتباراً على الإطلاق للمظاهر والأمور الشكلية الجوفاء، وهذه هي القشور في الحقيقة، والتي ينبغي أن نحاربها، قشور في المآتم وقشور في الأفراح وقشور في الحكم على الناس بالمظاهر وبالملابس وبالزينة التي يلبسونها، والإسلام يقضي على هذه القشور ويحاربها، وهذه هي القشور التي ينبغي أن نسميها قشوراً، وندعو إلى هجرها وإحلال القيم والأخلاق الإسلامية مكانها.
فلا ينبغي أن تحكم على الناس بالمظهر أو بالزينة أو بالنعيم أو بالترف والجمال، أو غير ذلك من الأمور، كما هو لفظ الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم) فهذه ليس لها اعتبار عند الله، بل: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)).
فليس في الإسلام اعتبار للمظاهر الجوفاء والصور الجميلة، وليس لها ثقل عند الله عز وجل، فهذا يوسف عليه السلام الذي أوتي شطر الحسن لما رشح نفسه لإنقاذ الناس من المجاعة قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، ولم يقل: إني قد أوتيت شطر الحسن، بل اعتدّ بمدى علمه وأمانته وتقواه لله تبارك وتعالى.
في حين قال سبحانه وتعالى في المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:4]، فقد يملكون القوة والعضلات والبهاء والمنظر، ولكنهم منافقون، ولذلك قال عز وجل: {كََأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4]، وقد جاء تفسيرها في صحيح مسلم: كانوا رجالاً أجمل شيء.
يعني: شبههم بخشب مسندة إلى الحائط لا يسمعون ولا يعقلون؛ لأنهم أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام.
وقد رسخ الشرع هذا المعنى في نصوص كثيرة كما سنبين إن شاء الله فيما بعد بالتفصيل، ولكن سنذكر الآن هذه القصة التي رواها أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً من البادية كان اسمه زاهر بن حرام، وكان إذا أتى من البادية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أتى بشيء من طعام أو غيره من الأشياء التي يهديها البدو حسب بيئتهم، كذلك إذا أراد أن ينتقل من الحضر إلى البادية كان يزوده النبي عليه الصلاة والسلام بشيء من متاع الحضر، وكان يقول: (إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان دميم الخلقة.
وقد جاء الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم آتاه يوماً وهو في السوق يبيع المتاع الذي يحضره من البادية، فاحتضنه الرسول عليه الصلاة والسلام وضمه إلى صدره وهو لا يبصره، فقال: أرسِلْني من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو حتى ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حينما عرفه -أي: حرص على قرب النبي عليه الصلاة والسلام منه ما استطاع- وجعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحتضنه من خلفه يقول: من يشتري العبد؟ -يعني: كأن هذا عبد والنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يبيعه، يصنع ذلك معه مزاحاً- فقال: يا رسول الله إذاً والله تجدني كاسداً، يشير إلى دمامة خلقته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكنك عند الله لست بكاسد، أو قال: لكنك عند الله أنت غالٍ)، أخرجه الترمذي في الشمائل، وصححه الحافظ ابن حجر في الإصابة.
نفهم من الحديث عدم الالتفات إلى الصور والمظاهر والأشكال؛ فالعبرة بالقلوب والأعمال، فهذا هو المقصود من قوله: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم)؛ لأن الغنى والمظهر والبهاء كل هذا لا وزن له عند الله سبحانه وتعالى.
يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4].
لم يقل: ذوو الحسب، ولم يقل: ذوو الأموال والمظاهر والجمال! إنما الصفات التي تعتبر عند الله هي الإيمان والتقوى، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
هذا الأسلوب في فهم النصوص التي ذكرناها آنفاً هو الأسلوب الوحيد الكفيل بأن يسد الباب في وجه الزنادقة والملاحدة الذين يتحصنون وراء دعوى حسن النية، ويرتكبون المخالفات الشرعية، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12].
ويضربون بالأحكام الظاهرة التي هي شعار الإسلام وأعظم أركانه كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها عرض الحائط، ويريدون ألا ينكر عليهم مُنِكر، وألا يَخدش انتماءهم إلى الإسلام، حتى وإن هجروا هذه الشعائر! إن لم نفهم هذه النصوص بهذا الفهم الذي ذكرناه، فسوف يُنسب إلى الشريعة التناقض الذي تنزه عنه؛ لأن الشرع بنى أحكامه على ما يظهره الناس في دار الدنيا، فإذا أهدرنا كل هذه الشرائع الظاهرة بدعوى أنها من القشور، وزعمنا أن المهم هو النية وصلاح القلب، فهذا بلا شك سيقضي تماماً على أحكام الشريعة الإسلامية.
ومثل هذا الخبث لم يفعله حتى المنافقون في عهد النبي صلى الله عليه وآله، فالمنافقون لم يصلوا إلى أن يبتكروا مثل هذه القسمة الخبيثة كما يفعل الملاحدة والعلمانيون اليوم في هذا الزمان؛ لأن المنافقين ما احتجوا لهدم الأصول بهذه الطريقة، وإنما كانوا يُصلّون مع النبي عليه الصلاة والسلام، وكانوا يحجون معه، وكانوا يجاهدون معه، وكانوا يتناكحون مع المسلمين، وكان المسلمون يصلون عليهم ويدفنونهم معهم أخذاً بما يظهرونه.
ثم نقول: أليس الذي نطق بحديث: (إنما الأعمال بالنيات) وحديث: (ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم؟) هو الذي نطق بالنصوص التي تدل على اعتبار الظاهر، كقوله مثلاً: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)، والله عز وجل يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، لم يقل: وما ينطق بالهوى، وإنما نزّه كل ما يصدر في الدين على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام ما ينطق عن الهوى، بل هو وحي يوحى، والله عز وجل يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82].(96/13)
النية الصالحة لا تصلح العمل الفاسد
إن الذين قسموا الدين إلى قشر ولُبّ، ومظهر وجوهر، هؤلاء ركبوا مطايا الخير كي يصلوا بها إلى الشر، فاستدلوا على هذه البدعة ببعض النصوص الشرعية التي أوّلوها وحرفوا معانيها، منها: حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وهذا مشهور عند عموم الناس، فكثير من الناس إذا خالفته في شيء قال لك: الإيمان في القلب، وأنا قلبي سليم وقلبي أبيض وما أريد شراً بأحد، فيرفعون هذا الحديث في وجه من يخالفهم.
ومن النصوص التي استدل بها هؤلاء: ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام).
فالحديث الأول دليل على عظم شأن النية وخطرها، ولا يمكن الاستدلال به بحال من الأحوال على إسقاط شعائر الإسلام الظاهرة والاكتفاء بالنوايا الحسنة، بل هذا كلام الزنادقة والملاحدة كما سنبين إن شاء الله.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) تقديره: الأعمال الواقعة بالنيات، أو الأعمال حاصلة بالنيات، فمعناها: أن الأعمال الاختيارية لا تقع إلا عن قصد من العامل الذي هو سبب وجودها وعملها، وهذه إشارة إلى أنه من الصعب جداً أن يعمل الإنسان عملاً بدون نية، حتى إن من العلماء من قال: لو فُرض أن العبد كُلَّف بأن يعمل عملاً بدون نية لكان هذا من التكليف بما لا يستطاع؛ لأنه لا يوجد عمل إلا ويكون معه نية.
وقوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى) إخبار عن حكم الشرع، وهو أن حظ العامل من عمله يكون بقدر نيته، فإن كانت صالحة فله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد وعليه وزره.
وفي بعض الروايات: (إنما العمل بالنية) ف (ال) هنا للعهد، وإذا قلنا: إن (ال) للاستغراق، فسيكون معناه: إنما كل الأعمال بالنية، وسيكون المقصود إنما كل عمل بالنية، حتى لو كان العمل مخالفاً للشريعة، لكن المقصود هنا ب (ال) أنها للعهد الذهني، يعني إنما العمل الصالح بالنية.
ومثل ذلك قوله تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:16]، (ال) هنا للعهد، والمقصود بالرسول هنا هو موسى عليه السلام، كذلك: (إنما العمل بالنية) الحديث يقتصر على الكلام على ما يتم به صحة العمل الصالح، يعني: إنما ينفع العمل الصالح صاحبه إذا انضم صلاح النية إلى صلاح العمل، وهذا هو الصواب؛ لأن العمل الذي تتوقف صحته على صلاح النية هو العمل الصالح.
يقول الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: إنما الأعمال الصالحة بالنيات الخالصة، والنية الحسنة لا تجعل الباطل حسناً؛ لأن النية وحدها لا تكفي لتصحيح الفعل، فلابد أن ينضمّ إليها التقيد بالشرع.
وقد روى البخاري في كتاب الشهادات عن عمر بن الخطاب -وهو الذي روى حديث: (إنما الأعمال بالنيات) - أنه قال: (إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- أي: كما حصل مع المنافقين أو بعض المسلمين الذين أخطئوا- وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً صدّقناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لن نأمنه ولن نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة).
أيضاً في نفس الحديث ما يدل على خطورة النية، إذ يقول عليه الصلاة والسلام: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله رسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
إذاً: هذا مَثَل للأعمال التي تكون في الظاهر واحدة، فكل المسلمون هاجروا من مكة إلى المدينة، وهذا فعل اشترك فيه المؤمنون والمنافقون، وكذلك عند الخروج إلى الجهاد، فقد يخرج الإنسان يريد وجه الله وقد يريد شيئاً آخر، لكن العمل في الظاهر واحد، فيختلف صلاحه وفساده بحسب صلاح النية أو فسادها.
فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فمن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) فهل يمكن أن يأتي أحد ويستنبط من الحديث التنفير عن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ويقول: أنا أترك الهجرة ونيتي طيبة، ونيتي حسنة؟!
الجواب
لا؛ لأن تخاذله في الظاهر عن الهجرة دليل على فساد قلبه وسوء نيته؛ مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله: ألا وهي القلب)؟ فالنية المزعومة لا تصلح العمل الفاسد، والنية إذا كانت صالحة ولم ينبثق عنها متابعة للشرع وامتثال للأوامر واجتناب للنواهي فلا قيمة لهذه النية.
وهناك نصوص كثيرة جداً تعلق الانتفاع بالعمل على صلاح النية وصلاح العمل، يقول مطرف بن عبد الله رحمه الله تعالى: صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية.
ونجد أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى).
فلماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وحسابهم على الله)؟!
الجواب
لأنه لا يملك إلا الظاهر، فالحكم يكون على الظاهر فقط، أما السرائر والبواطن والنيات فهذه علمها عند الله، فلذلك قَبِل النبي صلى الله عليه وسلم منهم الظاهر، وقال: (عصموا مني دماءهم وأموالهم)، ثم قال: (وحسابهم على الله) فإن كانوا صادقين فسيثيبهم الله في الآخرة على قدر نياتهم، فالشهادتان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أعمال ظاهرة تعصم دم صاحبها وماله في الدنيا، إلا إذا أتى بما يبيح دمه، وهذا هو معنى قوله: (إلا بحق الإسلام) وأما في الآخرة فحسابه على الله عز وجل، إن كان صادقاً أدخله بذلك الجنة، وإن كان كاذباً فهو مع المنافقين في الدرك الأسفل من النار! وفي رواية لـ مسلم - بعدما قال عليه الصلاة والسلام: (وحسابهم على الله، ثم تلا: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:21 - 26])، يعني: كأن قوله: (فحسابهم على الله) منتزع من هذه الآيات التي في سورة الغاشية.
ومن ذلك أيضاً ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن خالد بن الوليد رضي الله عنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل رجل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا، لعله أن يكون يصلي، فقال خالد: وكم من مُصلًّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم).
فالله سبحانه وتعالى هو الذي ينظر إلى القلوب، كما يقولون: ربنا رب القلوب، نعم، الله هو رب القلوب، لكنه شرع لنا في الجملة ما يناسبها وما يقع في مكنتها، والذي نملكه هو أن نتعامل بالظاهر، حتى إنك تجد أن تعاملات الناس فيما بينهم تكون بما يظهرونه.
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث: (إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض، وإنما أقضي لكم على نحو مما أسمع منكم، فمن قضيتُ له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة)، فكم نرى من الناس من إذا حُكِم له بقضية فرح جداً؛ لأنه كسب القضية، وقد يكون هو في الحقيقة ظَلَم خصمه، وأخذ بحكم القاضي ما ليس من حقه، فالقاضي إنما يحكم بما يظهر له، وقد يكون هذا الرجل بليغاً فصيحاً يستطيع أن يُلبّس على سامعه، فيفرح جداً؛ لأنه كسب القضية حسب زعمه، وهو لم يكسب في الحقيقة بل هذا عين الخسران وعين الظلم.
فحكم الحاكم لا يغير الحقيقة في نفس الشيء، فإذا كنت تعلم أن هذا ليس حقاً لك فلا يجوز لك أن تأخذه حتى ولو حكم لك القاضي؛ لأن القاضي يحكم بما ظهر له فقط.
من ذلك أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالاً فله ما نوى)، وقوله: عليه الصلاة والسلام: (من طلب علماً ليماري به السفهاء، أو يجاري به العلماء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار).
فهذه كلها نصوص تنبّه على خطورة الإخلاص وأهميته، وأنه شرط في الأعمال الصالحة.
فلا يكون معنى الحديث: إذا كانت نيتك صالحة فافعل ما شئت؛ لأن ذلك سيؤدي إلى استباحة محرمات مقطوع بحرمتها، وترك ما فرض الله كالصلاة، ثم يقول لك أحدهم: هذه شكليات، وربما أسعفه الهوى بأن يستدل بقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115].
كذلك يقول بعضهم: الالتزام بطلوع الفجر لبداية الصيام من الشكليات! كذلك مثلاً: انتظار مغيب الشمس للصائم هذه أيضاً من الأمور الشكلية التي يكون المهم فيها هو النية! كذلك أيضاً القول بأن شعائر الحج من إحرام، ولبس المخيط من الثياب، والطواف بالكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفات، ورمي الجمرات ونحو ذلك، كلها من الشكليات التي يسع الإنسان تركها!! فهل يمكن أن يقول بهذا مسلم؟! إذاً: فخطورة هذه البدعة تكمن في أنها ليس لها حد تقف عنده، إذ ليس هناك تعريف للقشر ولا تعريف للّبّ، وبالتالي فإن هذا يفتح باباً للشر لا يُدرك مداه ولا ينتهي، وسوف يقع الخلاف، وكلٌّ يحكم حسب هواه، فيرى البعض أن المسألة الفلانية من القشور، والبعض الآخر يعتبرها من اللب، أو العكس، وبالتالي ينهار الدين(96/14)
بدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب [2]
لقد ظهر من أعداء الله عز وجل كثير من أنواع المحاربة، وإبعاد الناس عن الدين، وللأسف أنه قد تبعهم أناس من بني جلدتنا على ذلك، فصاروا يهرفون بما لا يعرفون، وقد ظهرت وسيلة جديدة من وسائل إخراج الناس عن الدين بالتدرج، ألا وهي: وسيلة القشور واللباب التي ليس لها حد ولا نهاية، فكل ما لا يعجبهم من السنن والواجبات جعلوها قشوراً لا قيمة لها، مع أنهم يهتمون بقشور الأعداء، وموضة المجرمين في الملبس والمأكل والهيئة.(97/1)
فضيلة التواضع في الكتاب والسنة وأقوال السلف
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيباً -فذكر الحديث إلى أن قال-: إن الله عز وجل أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد) رواه مسلم في صحيحه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال، ولا عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله عز وجل بها عزاً، ولا تواضع عبد لله إلا رفعه الله)، فهذا أيضاً فيه فضيلة التواضع لله عز وجل، فإن التواضع يرفع صاحبه، ولا يظن الرجل أنه إذا تواضع فإن ذلك ينزل مكانته، ولكنه إذا تواضع لله سبحانه وتعالى رفعه الله.
والله عز وجل امتدح نبيه في أشرف المقامات بصفة العبودية والتذلل والخضوع والتواضع لله عز وجل، فقال سبحانه وتعالى في مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]، وقال في مقام الدعوة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، وقال في مقام التحدي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] فامتدحه الله سبحانه وتعالى بوصف العبودية والتذلل والخضوع لله عز وجل، والتواضع له في أشرف المقامات، فدل على أن الشرف والعلو والرفعة والعزة إنما يكون في التواضع لله تبارك وتعالى.
وإن كان هذا الرجل يقول في محبوبته: فلا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي فكيف لا يفخر المؤمن بأنه عبد ذليل متواضع لله تبارك وتعالى؟! الشاهد قوله عليه الصلاة والسلام: (وما تواضع عبد لله إلا رفعه الله).
وقد ذكر الإمام البيهقي رحمه الله تعالى في كتابه: (شعب الإيمان) جملة من النصوص عن السلف الصالح رضي الله عنهم في قصص التواضع، فقد روى بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: يغفلون عن أفضل العبادة وهي التواضع.
أي: أن الناس في غفلة عن أعظم أنواع العبودية، ألا وهو التواضع لله تبارك وتعالى.
وعن عطاء بن السائب أن أبا البختري وأصحابه كانوا إذا أثني على أحد منهم ووجد عجباً في قلبه وتأثر بهذا الثناء حنا ظهره وقال: خشعت لله، خشعت لله.
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني منهما شيئاً عذبته) فالكبرياء والعزة لا ينبغي أن تكون إلا لله تبارك وتعالى، وهذه هي الصفات التي لا يليق بالعبد أن يتصف بها؛ لأنها من صفات الله التي لا يجوز منازعته تبارك وتعالى فيها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا رجل يتبختر يمشي في بردة قد أعجبته نفسه إذ خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)، فعجل الله له العقوبة وخسف به الأرض، فهو منذ أن فعل الله به ذلك ما زال يتجلجل إلى هذه اللحظة التي نحن فيها الآن، وفي حديث آخر: (بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل شعره إذ خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)، وعن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتلّ جواظ مستكبر) فمدح أهل الجنة بالتواضع، وجعل من صفات أهل النار الاستكبار والفظاظة.
كذلك عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المتكبرون يحشرون يوم القيامة أشباه الذر في صور الناس يعلوهم كل صغار، ثم يؤمر بهم إلى قصر في جهنم يقال له: بولس فيسحبون فيه، ويسقون من طينة الخبال من عصارة أهل النار)، فكما أنه كان يتكبر في الدنيا يعاقب في الآخرة بنقيض قصده، هو تكبر ليظهر العزة والرفعة، فعاقبه الله تبارك وتعالى بأن يحشر حقيراً ذليلاً في صورة البشر أمثال الذر والهباء الذي يكون في الجو، كما جاء في رواية أخرى: (يأتي المتكبرون يوم القيامة مثل الذر في صور الرجال يغشاهم أو يأتيهم الذل من كل مكان، يسلكون في نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار).(97/2)
بعض الآثار الواردة في التواضع
من علامات التواضع: ما ورد في بعض الآثار: (ما استكبر من أكل معه خادمه، وركب الحمار في الأسواق، واعتقل الشاة فاحتلبها) يعني: يلي شئون نفسه بنفسه فهذا لا يمقته.
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يخرج إلى السوق فيشتري، وكان سالم رحمه الله دهره يشتري في الأسواق، وكان من أفضل أهل زمانه.
وهذه المسألة أشار إليها بعض العلماء وهي أن العالم المقتدى به أو الذي له فضل ظاهر في الناس فلا يشتري حاجته بنفسه؛ لأنه إذا كان مشهوراً بين الناس بالفضل والعلم جاملوه في البيع والشراء لأجل دينه، فكان علماء السلف يحتمون أو يخافون أن يكون ذلك من الأكل بالدين، فكانوا يتحرجون من ذلك.
وقد سئل الإمام مالك: أتكره الرجل الفاضل أن يخرج إلى السوق فيشتري حوائجه فيحابيه الناس بفضله؟ فقال: لا، ولا بأس بذلك؟ قد كان سالم يفعل ذلك، وقرأ مالك: {يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7] فلأي شيء يمشون في الأسواق؟ وذكر مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي في الأسواق.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: وإنما كره ذلك للقاضي أن يتولى بنفسه خوف المحاباة، وربما أن يميل لأجلها عن الحق، إذا رفع إليه من حاباه مكرمة، يخشى أنه إذا جامله شخص ثم كان هذا الشخص في يوم من الأيام خصماً في قضية فتتأثر نفسه بتلك المجاملة فيحابيه في الحق، فلأجل ذلك كرهوا للقاضي أن يلي شراء حاجاته بنفسه.
وعن ابن الزبير قال: في قوله تبارك وتعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] قال: سبيل الغائط والبول، وترون ما أنتم حتى لا تتكبروا ولا تغتروا بصوركم.
يعني: هذا من صور التدبر في هذه الآية العظيمة، وإلا فإن وجوه التدبر فيها عظيمة جداً، خاصة في هذا الزمان الذي كشف فيه العلم الحديث آيات الله سبحانه وتعالى وبراهين توحيده في خلق الإنسان.
وقال ابن الزبير: ما ينبغي لمن خرج من مخرج البول مرتين أن يفخر.
وعن محمد بن أبي الورد قال: دون الفهم أغطية على القلوب، قد حجبت الفهم الذنوب والتكبر عن المؤمنين.
أي: أن الإنسان ليفتح عليه في فهم آيات الله وتدبر آيات الله تبارك وتعالى، ومما يحول دون الفهم والبصيرة بآيات الله عز وجل أغطية تحول دون القلب ودون هذا الفهم، وهي الذنوب والتكبر على المؤمنين.
وتلا قوله تبارك وتعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146] فجعل عقوبة الكبر صرف قلوبهم عن تدبر آيات الله تبارك وتعالى.
وقال إبراهيم بن أدهم: لا ينبغي للرجل أن يضع نفسه دون قدره، ولا يرفع نفسه فوق قدره.
وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: من التواضع أن تقنع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك فضل عليه لدنياك.
يعني: تضع نفسك عند الشخص الذي هو أقل منك في الدنيا وتتواضع عنده؛ حتى لا يحسبك متفضلاً عليه، وتشعر في نفسك أنك أفضل منه بسبب ما أوتيت من الدنيا، فعند الفقير تواضع له، يقول: وأن ترفع نفسك عند من هو فوقك في دنياه حتى تعلمه أنه ليس لدنياه فضل عليك.
وعن إبراهيم بن عبد الله بن مسعود قال: من خضع لغني ووضع له نفسه إعظاماً له وطمعاً فيما قبله ذهب ثلثا مروءته، وشطر دينه.
أي: أن نصف دينك وثلثي مروءتك يذهبان؛ لأنك تعظم الغني لأجل غناه، حتى إن العلماء الذين أباحوا القيام للقادم قالوا: إذا كان كبير السن كالأبوين مثلاً، أو إذا كان عالماً تقوم له إعظاماً لدينه، وهذه وجهة نظر عند الذين يبيحون ذلك، بغض النظر عن التحقيق في المسألة، وقالوا: لكن لا تقم لغني لأجل غناه؛ لأن هذه دنيا لا ينبغي تعظيمها، وإنما تعظم الشخص لأجل الدين.
بل سئل ابن المبارك عن التواضع فقال: التكبر على الأغنياء.
وهذا ليس على ظاهره، لكن لا يحمله غنى غيره وفقر نفسه على أن يتذلل ويخضع له بمجرد ذلك.
وسئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له، ويقبل الحق من كل من يسمعه منه.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله! فيقول: عليك نفسك أنت تأمرني.
وما شابه ذلك من العبارات التي تقال في هذا الزمان، كقول الرجل: أنا أتقي الله أحسن منك! وغير ذلك من العبارات الفظة التي يتفوه بها بعض الناس، في حين ينبغي للمؤمن أن يتبرأ من حال من إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ.
وعن يونس بن عبيد قال: كنت أذاكر يوماً مع الحسن التواضع قال: فالتفت إلينا الشيخ فقال: أتدرون ما التواضع؟! أن تخرج من بيتك حين تخرج فلا تلقى مسلماً إلا رأيت أن له عليك الفضل.
هذا هو التواضع ألا تنظر للمسلمين بعين الازدراء والاحتقار، لكن لا تقع عينك إذا خرجت من بيتك على مسلم إلا وتحسب في نفسك أنه أفضل منك وخير منك.
وذكر عند الحسن الزهد فقال بعضهم: اللباس، يعني: الزهد يكون في الملابس، وقال بعضهم: المطعم، وقال بعضهم: كذا، فقال الحسن: لستم في شيء، الزاهد الذي إذا رأى أحداً من المسلمين قال: هذا أفضل مني، وهذا الكلام ليس متكلفاً في الحقيقة؛ لأنك قطعاً لا تعرف عن هذا الشخص من البلوغ مثل ما تعرفه من نفسك، أنت على يقين من حال نفسك، وتعرف ما اجتنيت من الذنوب والمعاصي والمآثم، ولا تعرف عن غيرك ما تعرفه من نفسك، فينبغي أن تنظر إلى كل مسلم أن هذا عند الله أفضل منك، فهذه هي حقيقة التواضع.(97/3)
نماذج من تواضع السلف وفضل التواضع
لقد حفلت سيرة السلف بكثير من النماذج في التواضع فهذا أيوب السختياني رحمه الله تعالى يقول: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل.
يعني: مالي ولهم.
وهذا الإمام الشافعي يقول: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة وهذا مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف، يعني: أف لي أنا لا أستحق أن أدرج فيهم.
وقال بشر غير مرة: ما أعرف أحداً أقدر أن أقول: إني أحسن عاقبة منه.
يعني: نضيف هذه إلى سابقتها، بحيث إنك لا تنظر إلى أحد من المسلمين إلا وحسبت أنه خير منك؛ لأن المعاصي التي ارتكبتها تعرفها أنت جيداً، فإذا نظرت لأحد من المسلمين لا تنظر له بعين الحقارة فربما يكون أفضل عند الله منك.
أيضاً خواتيم الأعمال المغيبة لا تدري كيف تكون العاقبة، فيجب أن تخاف أيضاً على عاقبة نفسك، (فإنما الأعمال بالخواتيم)، وقول بشر: ما أعرف أحداً أقدر أن أقول: إني أحسن عاقبة منه.
فحتى الكافر لا تستطيع أن تقطع وتقول: أنا أحسن عاقبة منه ما لم تقيدها فتقول: إذا أنا مت على الإسلام ومات هو على الكفر؛ لأنه ربما يقلب القلب ويصرف والعياذ بالله عن الإسلام بالردة، وربما يمتن الله سبحانه وتعالى ويتفضل على هذا الكافر فيسلم، فتحسن عاقبته.
إذاً: الخواتيم لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى.
وعن مالك بن أنس قال: قال عمر بن عبد العزيز لرجل: من سيد قومك؟ قال: أنا، قال: لو كنت كذلك لم تكنه، فإن السيد لا ينظر إلى قوم على أنه سيدهم وكبيرهم وعظيمهم.
على أي الأحوال هذه جملة من الفوائد من شعب الإيمان للإمام البيهقي رحمه الله تعالى في فضيلة التواضع.(97/4)
وقفات حول بدعة تقسيم الدين إلى قشور ولباب
هذه القضية في الحقيقة لها نوع تعلق بالقضية التي نتناولها، كنا من قبل قد شرعنا في مناقشة قضية الهدي الظاهر وبدعة تقسيم الدين إلى قشر وإلى لب كما يفعل بعض المعاصرين، وقطعنا شوطاً في هذه القضية، لكن نلخص في مرور عابر ما تكلمنا عليه من قبل.(97/5)
الوسطية في السنن والمباحات
فكما ذكرنا يتأنق في مظهره وملابسه ويغلو في ذلك إلى حد الرعونة، نعم، صح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس) قوله: (وغمط الناس) يعني: عدم إنزالهم منازلهم بحيث يرى في نفسه أنه أعظم من هذا فيتكبر عليه، ويحاول أن يضع من قدره، ويعامله بأقل مما يستحق من المعاملة.
فحد الكبر هو بطر الحق وغمط الناس، يقول الله عز وجل: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85].
ونعم صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان له شعر فليكرمه)، وصح عنه أنه قال: (من كان له مال فلير عليه أثره)، (ولما رأى رجلاً شعثاً قد تفرق شعره، قال: أما كان هذا يجد ما يسكن به شعره) (ورأى رجلاً عليه ثياب وسخة فقال: أما كان هذا يجد ماء يغسل به ثوبه)، لكن ليس الأمر بحيث يكون شغل الإنسان الشاغل هو دهن الشعر والرأس وتسريحه عاكفاً أمام المرآة، حتى يكون هذا المظهر شغله الشاغل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما صح عنه وما مضى صح عنه أيضاً: (أنه كان ينهى عن الإرفاه) والإرفاه: هو كثرة التدهن والتنعم.
وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أيضاً في الحديث الآخر: (أنه نهى عن الترجل إلا غباً)، يعني: يوم ويوم لا، بحيث لا يواظب عليه كل فترة حتى يكون شغله الشاغل.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان: ترف ومخيلة.
وبين عليه الصلاة والسلام أن من علامات الحياء من الله والرغبة في الآخرة الإعراض عن زينة الدنيا، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله تعالى حق الحياء، من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموتى والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء).
وندبنا أيضاً إلى التواضع في المظهر، ووعدنا عليه الأجر والكرامة، فعن معاذ بن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها)، يعني: أن الإنسان لو كان عنده ملابس نفسية وجميلة جداً وغالية جداً وامتنع عن لبسها أحياناً أو دائماً بنية استحضار هذا الحديث وهذا الثواب تواضعاً لله عز وجل، فإن الله يكافئه بأن يدعوه يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها.(97/6)
أوجه التناقض عند أهل القشور واللباب
نحن في الحقيقة نحتاج قبل الاستطراد أن نقلب القضية ونعكس القضية على هؤلاء المفترين الكذابين، الذين يدعون إلى تقسيم الدين إلى قشر ولباب، وبالذات الملاحدة الزنادقة، أما أهل الدين فالأمر معهم أسهل وأوضح، لكن هؤلاء الذين يقسمون هذا القسمة بهدف تحطيم الدين كله، بحيث يجعلون الصلاة قشوراً وصيام رمضان قشوراً، حتى إن بعض النساء المتحررات من عبودية الله قالت: إن موضوع العقد والشهود والزواج هذه سخافات؛ لأن هذه المظاهر الجوفاء هي التي تقتل الإنسانية وتهدر كرامة المرأة، إلى آخر ما لهجت به هذه الخبيثة.
إذاً: فهذه القسمة الخبيثة كما ذكرنا ينبع خطرها من أنها لا يوجد لها حد محدود، ولا يوجد تعريف معين للقشور، الموضوع عائم، وكل واحد يمكن أن يعتبر أي شيء قشراً والآخر يعتبره لباً، فبالتالي يتحطم الدين كله وينهار.
فنقول: إن الدين كله لب لا قشور فيه، كله معالي لا سفاسف فيه، صحيح فيه أصول وفروع، فيه أهم ومهم، لكن ما دامت داخلة في إطار الدين فلا يجوز أبداً أن تسمى سفاسف أو قشوراً أو سخافات إلى غير ذلك.
فالقشور ليست سنة النبي عليه الصلاة والسلام وهديه، إنما القشور ما أحدثه الناس من القيم والأعراف والموازين الشكلية الكاذبة التي صارت تتحكم فيهم وتستعبدهم، وصاروا ينقادون لها كأنها شرع منزل، وإن جهد الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى ينبغي أن يوجه ليصطاد هذه القشور وهذه الشكليات وهذه العادات الجوفاء.
ومظاهرها كثيرة في مجتمعنا، فهذه هي التي ينبغي أن نسميها قشوراً وأن نركلها.
فمنها مثلاً: ظاهرة التطوس، الطاوس معروف بخيلائه وكبره الشديد، فهو مجبول على الكبر والخيلاء، دائماً الطاوس يحب أن ينتفش ويظهر بمظهره، وبعض الطيور الأخرى أظنه الديك الرومي دائماً يحب أن يكون على مكان عالٍ مرتفع؛ لما جعل عليه أيضاً من الكبر، فنسميها ظاهرة التطوس والتشبه بالطاوس في الكبر.
فترى بعض الناس ومنهم هؤلاء الذين يقولون بالقشور واللباب وهم من داخل الصف الإسلامي تراه يتأنق ويتزين في مظهره، ويفعل في نفسه أكثر مما تفعله الماشطة بعروسها، (الاستشوار) والزيوت و (الشانبوه) والبلسم والمرآة، وكل هذه الأشياء يتأنق في مظهره، وينسى آلام وجراح ومذابح المسلمين.
لماذا لا تتذكر مذابح المسلمين إلا عندما تذكر بسنة النبي عليه الصلاة والسلام؟ لماذا لا تتذكرها عندما تكون أمام المرآة وتكوي ملابسك وتشتري الفاكهة وتعمل الرحلات وتتنزه وتتنعم هذا النعيم؟! لماذا تسير حياتك كلها بطريقة رتيبة، بحيث يخرج في الصباح للعمل أو للدراسة ويقضي كل مآربه في الحياة، ولا يتذكر أن المسلمين في حالة نفير عام وأن النساء تذبح، لكن إذا عرض عليه بأن يحضر درس علم قال: المسلمون يقتلون ويذبحون وأنتم تتكلمون في الفقه، نقول لهذا: لماذا لا تتذكر مذابح المسلمين وآلام المسلمين إلا عند شرع الله وعند سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!(97/7)
التحذير من تهوين المعاصي والاستهزاء بالسنن والواجبات
لقد حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تهوين المعاصي واحتقارها، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد يئس الشيطان أن يعبد بأرضكم، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروا أيها الناس! إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وقال أنس رضي الله عنه: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات) رواه البخاري.
وجاء تفسير الموبقات المهلكات في حديث سهل بن سعد مرفوعاً، يقول عليه الصلاة والسلام فيه: (إياكم ومحقرات الذنوب! فإن مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود)، وجاء في بعض الروايات: (فحضر صنيع القوم) صنيع: فعيل بمعنى المفعول، يعني: كيف ينضجون الطعام، هذا يأتي بعود وهذا يأتي ببعرة وهذا يأتي بكذا، فيقول: (فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها أهلكته).
أخرجه الإمام أحمد بسند حسن كما قال الحافظ.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً) صححه ابن حبان.
وعن عبادة بن قرط رضي الله عنه قال: إنكم لتأتون أشياء هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات، فذكروا قول عبادة بن قرط لـ محمد بن سيرين فصدقه، قال: صدق.
وقال ابن سيرين: أرى جر الإزار منه، يعني: من الموبقات؛ لما جاء فيه من الوعيد الشديد، والناس يعدونه من الصغائر لفرط جهلهم وذنوبهم.
فهذا أنموذج من نماذج القضايا التي دائماً يضرب بها المثل إذا أرادوا الاستهزاء بمن يستمسك بالهدي الظاهر، ليس عندهم شيء يتذكرونه غير السواك، والثوب القصير، واللحية، وحمل كتب العلم الشرعي، فأصبحت هذه طرفاً ونكتاً وشيئاً يضحكون بها الناس، حتى إن بعض المستهترين قاموا بتمثيل مسرحية يسمونها إسلامية في إحدى الكليات منذ سنوات، وأتوا بشخص يظهر بصورة تسيء للشخص الملتزم، ومع الأسف هم ممن ينتمون إلى العمل الإسلامي، فأتوا بواحد ولبسوه قميصاً قصيراً ومعه السواك والكتاب واللحية والعمامة إلى آخره، وأتوا به بصورة شبيهة تماماً بما يفعله الجماعة في الأفلام والمسرحيات في السخرية من المشايخ وأهل الدين، حضر هذا الملتزم بالسواك فأتى وقال: (عنتر شايل سيفه) يعني: يسخر من السواك.
فهذا يحصل من الناس الذين ينتسبون إلى الدين وإلى الدعوة الإسلامية؛ لعدم تنبيههم إلى خطورة هذا الأمر، وهذا التنقص والاستهزاء من سنة النبي عليه الصلاة والسلام يخشى على فاعله الكفر والردة والعياذ بالله؛ لأن الاستهزاء والسخرية لا عذر فيه بالجهل؛ لأنه لا يوجد مسلم يجهل تعظيم رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا تعظيم سنته، فمن فعل ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية يخشى عليه الردة والعياذ بالله! وقد جاء عن الشريد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تبع رجلاً من ثقيف حتى هرول في أثره، حتى أخذ بثوبه فقال: ارفع إزارك قال: فكشف الرجل عن ركبتيه، فقال: يا رسول الله إني أحنف وتصطك ركبتاي) يعني: فيه نوع من الحنف أو الميل في ساقيه، كما يكون عند الأطفال المصابين بالكساح أو لين العظام، فهو يستحي أن يراه الناس على هذا المظهر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل خلق الله عز وجل حسن، قال: ولم ير ذلك الرجل إلا وإزاره إلى أنصاف ساقيه حتى مات).
وعن عمرو بن فلان الأنصاري رضي الله عنه قال: (بينما هو يمشي قد أسبل إزاره إذ لحق به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذ بناصية نفسه وهو يقول: اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك فقال: عمرو فقلت: يا رسول الله! إني رجل حمش الساقين -يعني: دقيق الساقين- فقال: يا عمرو! إن الله عز وجل قد أحسن كل شيء خلقه، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع من كفه اليمنى تحت ركبة عمرو فقال: يا عمرو! هذا موضع الإزار، ثم رفعها، ثم وضعها تحت الثانية، فقال يا عمرو: هذا موضع الإزار) يعني: إما أربع أصابع أو ثمانية.
كذلك من أعجب المواقف في ذلك: موقف أمير المؤمنين عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهذا الموقف حصل معه في سياق مصيبة هي من أعظم المصائب التي تمر على الجبلة: والموت أعظم حادث فيما يمر على الجبلة كان عمر في أحرج لحظات حياة أي إنسان، وهي لحظة فيضان الروح وخروجها والانتقال إلى الدار الآخرة، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: دخل شاب على عمر بعدما طعن عمر رضي الله عنه فجعل الشاب يثني عليه.
لأن السنة أنك إذا حضرت من أيس من حياته وأشرف على الموت أن تثني عليه فتذكره بأعماله الصالحة؛ لأن التخويف والزجر للشخص المحتضر يؤدي به إلى القنوط من رحمة الله، وقد يموت وهو سيئ الظن بالله والعياذ بالله، والله تعالى يقول: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء).
لكن الآن في هذا الوقت عليك أن تعظم رجاءه، وتذكره بنصوص الرجاء في الكتاب والسنة، وتذكره بأعماله الصالحة، كنت تفعل كذا وكنت تفعل كذا حتى يقبل على الله وهو حسن الظن به، فجعل الشاب يثني على أمير المؤمنين رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما أراد هذا الشاب الانطلاق رآه عمر يجر إزاره، فـ عمر وهو في سياق الموت قال له: يا ابن أخي! ارفع إزارك؛ فإنه أتقى لربك، وأنقى لثوبك، قال: فكان عبد الله يقول: يا عجباً لـ عمر! إن رأى حق الله عليه فلم يمنعه ما هو فيه أن يتكلم به، وفي رواية: فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض قال: ردوا علي الغلام.
وفي الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة: (أن رجلاً من المجوس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حلق لحيته وأطال شاربه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قال: هذا ديننا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكن في ديننا أن نحفي الشوارب وأن نعفي اللحية).
وعن يحيى بن أبي كثير قال: (أتى رجل من العجم المسجد وقد وفر شاربه وجز لحيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟ فقال: إن ربي أمرني بهذا -يعني: كسرى- فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله أمرني أن أوفر لحيتي وأحفي شاربي).
ولما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام، وبعث بالكتاب عبد الله بن حذافة رضي الله عنه فدفعه عبد الله إلى عظيم البحرين، ودفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزق كل ممزق، وبعد أن شق كتاب رسول الله عليه الصلاة والسلام كتب إلى باذان واليه على اليمن أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جلدين يأتيان به، فبعث باذان قهرمانه وهو بابويه وكان كاتباً حاسباً مع رجل من الفرس، أرسلهما حتى يقبضا على النبي عليه الصلاة والسلام ويحضراه إلى هذا الخبيث كسرى لعنه الله، فجاءا حتى قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخلا عليه وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر إليهما، التفت وكره أن تقع عينه عليهما، وقال: (ويلكما! من أمركما بهذا؟ قالا: ربنا أمرنا بهذا -يعني: كسرى- فقال عليه الصلاة والسلام: ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي، وقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربي قتل ربكما الليلة)، سلط عليه ابنه شيرويه فقتله، فرجعا حتى قدما على باذان.
على كل حال فليستحضر هذا الذي يستهين بالهدي الظاهر أنه بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أمره بشيء من هذه الأشياء التي يسميها القوم قشوراً، هل كان سيتجاسر أن يتقدم بين يديه أو يرفع صوته معترضاً عليه؟ لا شك أن أي مسلم أو مؤمن رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً سيقول له: حباً وكرامة وسمعاً وطاعة يا من أفديه بأبي وأمي.
فكذلك ينبغي أن يفعل المسلم مع سنته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فهذا واجبنا مع سنته إذا لم ندرك صحبته أن نعظم ما عظم، ونرفع ما رفع صلى الله عليه وآله وسلم.(97/8)
الرد على من يصنعون الشبهات في احتقار الطاعات
هناك أناس في هذا الزمان يتقنون صناعة الشبهات وضرب الأمثال، فيحلم الكثير من هؤلاء أن يتصدوا لكل من يدعو أو يشتغل بالقضايا العملية، أو الجانب الذي يسمونه جانب القشور والمظاهر، حتى بلغ الاستخفاف من بعضهم أنه استهزأ بأبواب فقهية، ألا تسمعون بين الحين والآخر بالذين يقلدون الخميني أشعل الله قبره عليه ناراً، الخميني الذي كان يسخر من علماء أهل السنة والجماعة ويقول: علماء الحيض والنفاس.
كررها بعض الخطباء ممن ينتسبون زوراً لأهل السنة بنفس العبارة، يرددون كالببغاوات ما لا يعون ولا يفهمون، فيسخرون من إخوانهم طلبة العلم والمشايخ فيقولون: علماء الحيض والنفاس، حيث قال بعض هؤلاء المشايخ، وسمعته بنفسي في القاهرة منذ سنوات، قال: متى تخرجون من فقه دورة المياه وفقه المراحيض؟ سخرية واستهزاءً بفقه الطهارة.
فموضوع القشر واللب لا يقف عند حد وليس له ضابط، فيؤدي إلى التحلل تماماً من الدين، وكما ترون الذي سماه أبوه أحمد بهاء الدين في يوم من الأيام قال: هؤلاء الأمريكان صعدوا على القمر ونحن ما زلنا نناقش: هل ربا البنوك حلال أم حرام؟ يعني: هؤلاء يهتمون بالقشور في حين صعد هؤلاء إلى القمر.
فهذه عبارة خبيثة المقصود منها التهوين من شأن هذه القضايا، وهناك نماذج كثيرة جداً ولا نقصد حصرها، فهم ينكرون على من يتكلم في القضايا العملية أو التي يسمونها قضايا قشرية، سواء جاء كلام هذا الشخص ابتداء، أو جاء كلامه إجابة لسائل يسأل، فيثيرون الدنيا ويقيمونها: هؤلاء يتكلمون في قضايا والمسلمون يذبحون والمسلمون كذا وكذا وكذا، وسيأتي الجواب على هذا كله إن شاء الله تعالى.
يقولون: ينبغي أن تتجه همة المسلمين الآن إلى الأمور الخطيرة والأمور الجليلة التي تهدد كيانهم، أما الاشتغال بالفقه وبالعلم وبالعقيدة وبتصحيح المفاهيم، كل هذا اشتغال بما لا يجدي، وهذا تضييع للوقت، هيا نقيم أولاً دولة الإسلام، ثم بعد ذلك ننشغل بالعلم وغيره.
إن لم يكن معك علم فماذا تفعل لابد أن تتخذ موقفاً وإلا سترتكز على أساس من الجهل، كما يقول بعض الناس: أنت سلفي، سلفية علم أم سلفية جهل؟ ما الذي يقابل سلفية العلم؟ سلفية الجهل.
فالشاهد أن العلم لا يضلك أبداً، بل يهديك ويبين لك الطريق.
فهم يقولون شبهات فارغة ساقطة تلبس على الناس أمر دينها، وكما ذكرنا من قبل إن كان الكلام على قضايا يسيرة من أمور الهدي الظاهر وليس له خطام ولا زمام فسوف ينجر الكلام بعد ذلك إلى كل أحكام الشريعة التي لا توافق أهواء الناس، بحيث إذا تواضعنا على هذه المقولة وقبلناها لا يبقى بعد ذلك مجال للدعوة إلى اجتناب الحرام أو تعظيم شعائر الدين، وتصبح الشريعة ألعوبة في يد المنحرفين عن أحكامها.
يعظم أحدهم ما يحتقره الآخر ويحتقر الآخر ما يعظمه الأول، فأخطار هذا المنهج وتداعياته قد يمتد زحفها في الطريق حتى يطال قضايا العقيدة والتوحيد، حتى تصبح هي أيضاً من القشور التي تفرق المسلمين، فماذا يبقى إذاً من الإسلام إذا تهاونا إلى هذا الحد؟!(97/9)
لكل قوم قشرتهم
نحن بشر لنا أجساد، ومقتضى ذلك أن لنا مظهراً مادياً محسوساً، ولسنا أرواحاً لطيفة ولا أطيافاً عابرة، والمظهر شديد الارتباط بالجوهر، وقد جعلت الشريعة الإسلامية الحنيفية تميز الأمة الإسلامية في مظهرها عمن عداها من الأمم مقصداً أساسياً لها.
بل إن كل أهل ملة ودين يحرصون على مظهرهم باعتباره معبراً عن خصائص هويتهم، وآية ذلك أنك ترى أتباع العقائد والديانات يجتهدون في التميز والاختصاص بهوية تميزهم عن غيرهم، وتترجم أفكارهم أو ترمز إلى عقيدتهم.
فإن كنا نقول للكفار: لكم دينكم ولنا ديننا، فنقول في هذا الاصطلاح الحادث مع شيء من التنزل: لكم قشرتكم ولنا قشرتنا؛ لأن الإنسان لابد له من قشرة، فإن لم يحمل صبغة الله وقشرة المسلمين فلابد أن يتغطى بقشرة الكافرين، وهذا أوضح ما يكون، هذا الشعار: لكم قشرتكم ولنا قشرتنا أوضح ما يكون عند عامة اليهود الذين يتميزون بطاقيتهم ولحاهم وأزيائهم الدينية، وفي المتدينين من النصارى الذين يعلقون الصليب، وفي السيخ والبوذيين وغيرهم، أليس هذا كله تميزاً صادراً عن العقيدة ومعبراً عن الاعتزاز بها؟! ألا ترى التاجر النصراني -رغم أن الجهر بالصليب أو بالصور التي يعلقونها قد تدفع بعض الزبائن من المسلمين إلى عدم الشراء منهم- يتحدى ويظهر ما يعبر عن عقيدته سواء بالصليب أو الوشم الذي يفعلونه أو الصور التي يعلقونها، أليست هذه كلها تعبيراً عن اعتزازهم بهذه العقيدة وإصرارهم على التمسك بها؟! فإذا كانت هذه المظاهر كالصليب وطاقية اليهود وغير ذلك من شعائر الوثنيين هي صبغة الشيطان التي كسا بها أهل ولايته من أهل الضلال والكفران، فكيف لا نستمسك نحن بصبغة الرحمن التي حبانا بها وقال فيها عز وجل: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138]؟! إن أهمية هذا الموضوع ليس بالحجم اليسير الذي يتخيله بعض الناس، وإلا فلماذا هم يقولون: لا تشتغلوا بالمظاهر واشتغلوا بالجوهر، ولا تهتموا بالشكليات والقشور واهتموا باللب والمضامين؟! نقول: إذاً لماذا أنتم تشغلون أنفسكم بمظهرنا؟ مع أننا لا ندعوهم ولا نقول لهم: التحوا ولا افعلوا، غاية ما في الأمر مجرد أن يراك بشكلك هذا يثور ويهيج ويقول: المهم الجوهر، وأنت لم تقل له شيئاً ولا دعوته، رغم أنه من حقك أن تدعوه بل ومن واجبك أحياناً، ومع ذلك فهو الذي يهتم بالمظهر في الحقيقة، وهو الذي يعطيه هذا الحجم الكبير، لماذا تشن الحروب الإستراتيجية على المظاهر الإسلامية كاللحية والحجاب وغير ذلك من المظاهر، لماذا تشن عليها هذه الحروب المنظمة؟ حتى إنه لتعقد من أجلها برلمانات وتصدر قرارات وتجيش الجيوش لهذا، ونحن أصحاب البيت كما يقول الشاعر: أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس كل دار أحق بالأهل إلا في خبيث من المذاهب رجس هذه ديارنا وهذا ديننا فمالكم تجزعون هذا الجزع؟ لماذا تهتمون بالمظاهر؟ افترضوا أننا لم ندعوكم إليها، لماذا تجزعون هكذا؟ فمن الذي يهتم بالمظهر؟! اتقوا الله يا غواة قليلاً واخلعوا العار عنكم والشنارا فهل كل هذا من أجل أنها قشور؟ كلا، بل لأنهم يدركون ما لهذه المظاهر من دلالة عميقة، ويدركون أنها تعبير عن الصمود والثبات على الدين، تصبغ المجتمع بصبغة غير التي ترضي أعداء الله تبارك وتعالى.
فمثل هذا التمسك بالشعائر الإسلامية، كالأذان وصلاة العيد وصلاة الجماعة والزي الإسلامي، كل هذه عبارة عن تعبيرات للتحدي لمحاولات التذويب والتمييع، فهذه هي عبارة عن صفعة توجه لمؤامرة استلاب هوية هذه الأمة كمقدمة لإذلالها ولاستعبادها.
فمن يتخلى عن القشرة الإسلامية سيتغطى ولابد بقشرة دخيلة مغايرة لها؛ لأن كل لب لابد له من قشر يصونه ويحميه، فالسؤال الآن: إذا كان لابد لنا من قشر لماذا يرفضون قشرة الإسلام ويرحبون بقشرة غيره؟ لماذا يأكلون مثلاً بالشمال ويحلقون اللحى ويلبسون النساء أزياء من لا خلاق لهن، ويلبس بعضهم في بعض البلاد القبعة وغير ذلك من المظاهر التي يقتبسونها عن أعداء الله تبارك وتعالى؟! لأنهم تخلوا عن قشرة الإسلام ولابد من قشرة للب، فاكتسوا بهذه القشرة التي هي صبغة الشيطان.
يقول بعض السلف: دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي.
يعني: لا تعرضوا لها بالآراء والأهواء، اتركوا لها الطريق سهلاً ميسوراً كي تمر، لا تضعوا أمامها المتاريس والعقبات كي تعوقوها عن المضي.(97/10)
موضوع القشور ليس له حد في مفهوم من ابتدعه
لقد لفتنا حال سلفنا الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم إلى ضرورة التميز في الظاهر والباطن عمن خالفنا في الدين، بل تكلمنا من قبل على قضية القشر هذه، وبينا أن القشر كلام عام ما له حد محدود، واجتهدنا في أن نحاول أن نستخرج لهذا المصطلح الدخيل وهذه القسمة الباطلة حداً معيناً فما وجدنا لها حداً محدوداً.
فالقشر مثلاً بعض الناس قد يرى أن العمامة أو القميص من القشور، والبعض الآخر يرى أن القشور هي مثلاً في اللحية والحجاب، والبعض الآخر سيرى الصلاة والصيام والحج قشوراً كما فعل مسيلمة الكذاب، لما وضع عنهم الصلاة وقال لهم: ليس هناك داع للسجود والركوع وهذه المظاهر، والله لا يصنع بتعفير وجوهكم شيئاً، اذكروا الله في أي حال.
فإذاً: موضوع القشور لم يقف عند حد، ولم يقتصر على مجرد الهدي الظاهر، لكن الزنادقة والملاحدة يريدون أن يجعلوا كلمة القشور هذه قنطرة حتى يقضوا بها على كل أحكام الإسلام، بحيث لا يبقى منه غير الجانب الوجداني الذي يحبس في الصدور وفي حنايا القلوب.
ذكرنا من قبل أننا حتى لو قبلنا تقسيم الدين إلى قشر ولب، هل القشرة خلقها الله عبثاً أم أن لها فائدة؟ لو تخيلت مثلاً البطيخ بدون القشرة الخارجية، والبرتقال بدون القشرة، وأي شيء من هذه الثمرات الذي جعل الله لها قشرة، هل القشرة خلقت بلا فائدة؟ حتى لو أعملنا القياس الذي ابتدعوه فلا شك أن الله خلق القشرة لحكمة، وهي المحافظة على المضمون، كذلك نفس الشيء إذا سمى الهدي الظاهر قشرة فليس بعبث، وإنما وراءه حكمة عظيمة، وهي المحافظة على ما بداخل هذا القشر وهو المضمون.
ومن أجل ذلك نراهم تزين لهم شياطينهم وتسول لهم أنفسهم أن الحجاب هذا قشور، وأن العفة شيء في نفس المرأة ليس له علاقة بالملابس، فإذا خرجت المرأة متبرجة بالمناظر القبيحة المعروفة على الشواطئ وغيرها من الأماكن فلا بأس عندهم؛ لأنهم يقولون: المهم النية مادام أن قلبي طاهر فلا يضرني هذا في شيء، فالقضية أخطر من أن يقفز إلى أذهاننا أن موضوع القشر واللب يقف عند حد، هو يزحف حتى يشمل أمور الدين كلها وشعائر الإسلام والهدي الظاهر، فهذه القشرة التي تحمل وتعبر عن الهوية الإسلامية المتميزة هي ما أسماه علماؤنا رحمهم الله تعالى بالهدي الظاهر، وأفاضوا في بيان خطر ذوبان الشخصية المسلمة وتميعها.
فما يشيع على ألسنة الناس من قولهم: إن العبرة بالجوهر لا بالمظهر، هذا فيه مغالطة جسيمة وخداع كاذب؛ لأن الجوهر لا ينفك عن المظهر، والظواهر هي المعبرة عن المضامين، وأولى بنا بدل أن نستدل بقولهم: العبرة بالجوهر لا بالمظهر، أن نستدل بقولهم: الإناء بما فيه ينضح.
فالقضية قضية مبدأ، ليست قضية أمور شكلية أو مظهرية، وقد أكثر العلماء في مصنفاتهم من الكلام على قضية التشبه بالكفار وخطرها على الإيمان والعقيدة، وفي ذلك كتاب رائع نفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية وهو: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم).(97/11)
أقسام من ينادي بتقسيم الدين إلى قشر ولب
إن بدعة تقسيم الدين إلى قشر وإلى لب يتنادى بها فريقان من الناس، فريق من الطيبين المسلمين المخلصين الذين يريدون الخير، لكن يخطئون الطريق إليه ويضلون الطريق إليه، فهم يريدون تقسيم الدين إلى قشر وإلى لب، يعني: جوهر ومظهر، وهدفهم من ذلك أن يهتموا باللب وبالقضايا العظيمة والكبيرة مع إهمال هذا الذي أسموه قشراً، وهذا يقتضيه حسن الظن بهؤلاء.
أما الآخرون من الملاحدة وأعداء الدين فهم الذين يقسمون الدين إلى قشر وإلى لب وإلى مظاهر وجواهر ونصوص وأرواح، هؤلاء هدفهم خبيث، هم لا يريدون كما يريد الفريق الأول الاهتمام باللب أو بالقضايا الكبيرة، لكنهم يريدون تحطيم كل شيء، لكنها عملية التدرج واستدراج المسلمين في الانحلال من دينهم رويداً رويداً.
إن الهدف من هذه العبارات وأمثالها خاصة في هذا الزمان وفي ظل المحنة التي نعيشها هو كما ذكرنا تزهيد الناس في التمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك الهدي الذي سولت لهم شياطينهم وطوعت لهم أنفسهم أن يسموه تطرفاً وتزمتاً ورجعية وتعصباً وإرهاباً إلى آخره، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] وقال عز وجل: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، وقال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
حينما نردد بين الحين والآخر هذا الشعار المقدس في بداية كلامنا، ليس كلاماً نكرره دون أن نتمعن فيه ونتدبره، بل إننا نقصد المعنى العظيم الذي يرمي إليه هذا الشعار المقدس الذي هو: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
هذه ليست كلمة تحفظ بدون معنى، وتقال في بداية بجهل، وما صدرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة إلا كي تكون ميزاناً بين يدي كل كلام نقوله، وبين كل حاجة نريد قضاءها، فنحن نستحضر كلما رفعنا عقيدتنا بهذا الشعار المقدس: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ونعتز بهذا الهدي ونستعلي به على كل طريقة تخالفه أو تنحرف عنه كائناً من كان ذلك الشخص الذي ينحرف ويحيد عنه.
فالتمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون تجزئة سواء كان ظاهراً أو باطناً، أصولاً أو فروعاً أو كما سموها قشراً ولباباً أو غير ذلك، فالتمسك بهذا كله ما هو إلا مرآة تعكس ما يعمر قلوب متبعيه عليه الصلاة والسلام من حبه وتعزيره وتوقيره.
فما يتنادى به بعض هؤلاء المرجفين لا يعدو أن يكون جهلاً بالشرع، أو ضرباً من العبث والتحلل من البعض الآخر، أو سوء نية وخبث طوية من هذا البعض الآخر.(97/12)
هدف أعداء الدين من تقسيم الدين إلى قشر ولباب
إن موضوع القشر واللب والنص والروح، والجوهر والمظهر، هذه في الحقيقة تقاسيم مبتدعة محدثة لم يعرفها السلف الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم، بل هو شعار ومبدأ باطنه فيه الرحمة لبعض الناس وظاهره من قبله العذاب، ومن أجل هذا التمويه وهذا التزييف انخدع به بعض الطيبين الذين ابتلعوا هذا الطعم واستحسنوه، بل صاروا يروجون له دون أن يدركوا أن هذا قناع نفاقي قبيح، وأنه من لحن قول العلمانيين من أعداء الدين الذين يتخذونه قنطرة يهربون عليها من الالتزام بشعائر وشرائع الإسلام، يريدون أن يتحللوا من الدين دون أن يخدش انتماؤهم إلى هذا الدين، فيأتون بمثل هذه الشعارات.
تتوقف القضية بالفعل عند حسن النية من المسلمين المخلصين عند إهمال ما أسموه قشراً لأجل التركيز على ما ادعوه لباً، لكن حزب المنافقين الحريصين على اقتلاع شجرة الإسلام من جذورها هي عندهم مجرد مدخل لأجل نبذ اللب والقشر معاً تماماً، كما يرفعون شعار الاهتمام بروح النص وعدم الوقوف والجمود عند منطوقه، نقول: هذا كلام طيب وكلام لا بأس به إذا تعاطاه وطبقه الأسوياء، لكنه خطير غاية الخطورة إذا رفعه أصحاب العاهات الفكرية والنفسية والمشوهون عقدياً؛ لأن مقصودهم في الحقيقة ليس مسألة روح ونص، وإنما مسألة إزهاق روح النص واطراح منطوقه ومفهومه، أو توظيفه بتحريفه عن مواضعه لخدمة أهدافهم الخبيثة.
هؤلاء يريدون ديناً ممسوخاً كدين الكنيسة العاجزة المعزولة عن الحياة، يسمح لأتباعه بكل شيء مقابل أن يسمحوا هم له بالبقاء حياً، حتى ولو على هامش الحياة، بحيث يكون محبوساً في الأقفاص الصدرية، لا يترك أي بصمة على واقع الناس ومجتمعاتهم، إنهم في الحقيقة يريدون هذا الشعار: {أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33]، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
ذكرنا من قبل أن تفسير قوله تعالى في صدر الرد على هذه البدعة والضلالة وهو قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، قلنا: إن السلم هنا معناه الإسلام، وليس المقصود السلام كما يذهب إليه بعض الناس.
يعني: هذا أمر بالتزام جميع شرائع الإسلام بحيث لا يفرق بين شريعة وشريعة وبين حكم وحكم.
والمراد هنا بالسلم شعب الإسلام.
(وكافة) حال، يعني: ادخلوا أيها المسلمون المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم في كل شعب الإيمان ولا تخلوا بشيء من أحكام الإسلام والإيمان.(97/13)
قيمة الرجال بجوهرهم لا بمظهرهم
لقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن قيمة الرجال بجوهرهم لا بمظهرهم، ونحن لا نقول هذا الكلام من أجل أن نقول للناس: انفشوا شعركم، والبسوا الثياب القذرة، أو تعمدوا لبس الثياب البالية، أو من كان عنده ثوب جديد فليمزقه وليصنع فيه الرقع، لا نقول هذا، لكن السياق الذي نتكلم فيه أن هؤلاء يشتغلون تماماً بمظاهر قشرية جوفاء ويغلون في ذلك، وينكرون على من يتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يزدرون إخوانهم إذا كانوا أولاً فقراء، أو يتزهدون في لباسهم، أو يلبسون ثياب المتواضعين المخبتين إلى ربهم تبارك وتعالى.
فقيم الإسلام وهدي النبي عليه الصلاة والسلام ألا نعطي المظاهر هذا الحد من الاهتمام، وهذه القشور هي التي ينبغي التحذير منها لا الأمور التي يقصدون التنفير منها.
ومما علمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قيمة الرجال بجوهرهم لا بمظهرهم بأعمالهم لا بأجسامهم.
فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) رواه مسلم.
يعني: ما أكثر ما تجد رجلاً أشعث أغبر لا يلبس الثياب النفيسة ولا هو كذا وكذا وكذا، بل شعره متفرق وعليه الغبرة من التراب، والناس يزهدون في لقائه وفي دعوته إلى بيوتهم، بل يدفع عن الأبواب، لكنه في ميزان الله سبحانه وتعالى وعند الله من أعظم أولياء الله، بحيث لو أقسم على الله لأبر الله قسمه؛ وذلك لعظم مكانه عند الله، ولأنه تزين بزينة الدين لا بزينة الدنيا، تزين بالخشوع والإخبات والتقوى والبر لا بالمظهرية الجوفاء.
فهذه هي موازين الإسلام ومن حاد عنها فهو المنحرف والمتطرف، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه رجل فقال: ما تقولون في هذا؟ -وكان رجلاً جلداً قوياً مفتول العضلات، حسن الثياب والمظهر- قالوا: حري -أي: جدير- إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، ثم سكت فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يستمع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا) رواه البخاري.
يعني: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا الغني الأول.(97/14)
حقيقة الرجال
هذا الشاعر المخضرم: العباس بن مرداس أمه الخنساء الشاعرة المعروفة، وهذا أدرك الجاهلية والإسلام، وأسلم قبيل فتح مكة، وكان من المؤلفة قلوبهم يقول: ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور ويعجبك الطرير فتبتليه ويخلف ظنك الرجل الطرير فما عظم الرجال لهم بفخر ولكن فخرهم كرم وخير بغاث الطير أكثرها فراخاً وأم الصقر مقلاة نزور ضعاف الطير أطولها جسوماً ولم تطل البزاة ولا الصقور لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير يصرفه الصبي بكل وجه ويحبسه على الخسف الجرير وتضربه الوليدة بالهراوى فلا غير لديه ولا نكير فإن أك في شراركم قليلاً فإني في خياركم كثير يقول: ترى الرجل النحيف فتزدريه.
أي: أن النحيف مظهره رث.
قوله: وفي أثوابه أسد مزير.
المزير: هو العاقل الحازم يقال: مزر الرجل مزاره إذا اشتد قلبه وقوي.
قوله: ويعجبك الطرير فتبتليه.
الطرير: هو الشخص ذو المنظر والرواء والهيئة الحسنة، وترى منظره يعجبك، فتبتليه وتحتاجه تفتش وراء هذه الثياب وهذا المظهر.
ويخلف ظنك الرجل الطرير.
أي: يكون إنسانا تافهاً.
قوله: فما عظم الرجال لهم بفخر ولكن فخرهم كرم وخير يعني: هذا هو الذي يفتخر به الرجال الكرام ليس بالهيئة وبالعضلات وبالمظاهر، لكن بالكرم وبالخير والخصال الجميلة.
قوله: بغاث الطير أكثرها فراخاً.
البغاث: الضعاف من الطير الذي لا يستطيع أن يصطاد.
قوله: وأم الصقر مقلاة نزور يعني: هي التي تضع واحداً فقط ثم لا تحمل بعد ذلك فهي نزور بمعنى قليل.
قوله: ضعاف الطير أطولها جسوماً ولم تطل البزاة ولا الصقور البازي والصقر أقوى، قوله: لقد عظم البعير بغير لب.
يعني: الجمل يكون حجمه ضخماً جداً وكذلك الفيل.
قوله: فلم يستغن بالعظم البعير يعني: هل نفع البعير أن جسمه ضخم، وأن منظره ضخم؟ ماذا يحصل للبعير؟ قال: يصرفه الصبي بكل وجه يعني: الطفل الصغير يتحكم فيه؛ لأنه إنسان عنده عقل يتحكم بهذا الجسم الضخم ويسخره.
قوله: ويحبسه على الخسف الجرير.
يحبسه على الذل، والجرير: هو الحبل.
قوله: وتضربه الوليدة بالهراوى.
يعني: بالعصي.
فلا غير لديه ولا نكير.
فإن أك في شراركم قليلاً فإني في خياركم كثير وهذا الإمام النووي رحمه الله تعالى وهو شيخ الإسلام كان إذا رآه الرائي ظنه شيخاً من فقراء سكان القرى، فلا يأبه له، ولا يخيل إلى ذهنه أن الإمام النووي شيء يذكر، فإذا سمعه يدرس أو يقرر أو يحدث فغر فاه من التعجب، أهذا الرجل الذي رأيته من قبل واحتقرته بسبب رثاثة هيئته وتواضعه ومنظره البسيط يتكلم الآن بهذا الكلام؟! فهو عندما يحدث ويناظر ويقيم الحجج تنكشف شخصيته عن جوهر زكي وعبقرية نادرة في العلم والزهد والتقوى، ولا عجب فالتراب مكمن الذهب، ولكن الناس في كل زمان ومكان يغرهم حسن الهيئة وجمال الهندام، فإذا رأوا من هذا صفته وقروه وعظموه قبل أن يعرفوا ما وراء هذه البزة، وقد يكون فيها نخاع ضامر، وفكر بائر، وقلب حائر.
ترون بلوغ المجد أن ثيابكم يلوح عليكم حسنها وبصيصها وليس العلى دراعة ورداؤها ولا جبة من شية وقميصها ويقول الآخر: ليس الجمال بمئزر فاعلم وإن رديت بردا إن الجمال معادن ومحاسن أورثن مجدا(97/15)
ترفع الشافعي عن القيم التافهة والشكليات الكاذبة
هذا الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: مبيناً أنه يعرف قدر نفسه، ولا يهتز لهذه القيم التافهة والحقيرة والشكليات الكاذبة، فهذه هي القشور أن يحكم على الإنسان من ملابسه بهذه الشكليات.
يقول الشافعي رحمه الله تعالى: علي ثياب لو يباع جميعها بفلس لكان الفلس منهن أكثرا وفيهن نفس لو تقاس بمثلها نفوس الورى كانت أعز وأكبرا وما ضر نصل السيف إخلاق غمده إذا كان عضباً حيث وجهته برى يعني: العبرة بالجوهر لا بالمظهر، هذه هي القشور التي ينبغي ألا نهتم بها، يقول: لو جمعتم ثيابي كلها ونظرتم كم تساوي فإنها لا تساوي فلساً، لكن داخل هذه الثياب نفس أبية عظيمة لو قيست بكل نفوس الخلق كانت أعز وأكبر، وهذا ليس كبراً، وإنما هذا من معرفة المرء نفسه، بل هذا قليل جداً في حق الشافعي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: وما ضر نصل السيف إخلاق غمده.
يعني: السيف لا يضره أن يكون الغلاف من الجلد خلقاً إذا كان السيف حاداً يقطع ويحصد الرءوس حصداً، فنفس الشيء العبرة بما في داخل هذه الثياب وليس في هذه المظاهر والقشور، هذه هي القشور التي ينبغي أن ننبري لمحاربتها وتصحيح مفاهيم الناس فيها.
وما ضر نصل السيف إخلاق غمده إذا كان عضباً حيث وجهته برى(97/16)
نحن قوم أعزنا الله بالإسلام
عن ابن شهاب قال: (خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام ومعنا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فأتوا على مخاضة -أي: بركة ماء أو بحيرة ماء- وعمر على ناقته، فنزل عنها وخلع خفيه ووضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين! أأنت تفعل هذا، تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة، ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك؟! حيث كان القساوسة واقفين على أسوار بيت المقدس يشاهدون هذا الموقف، فكيف يراه القساوسة والبطارقة وهؤلاء النصارى وهو على هذه الهيئة يفعل هذا؟! فـ عمر ثاني أفضل رجل طلعت عليه الشمس بعد الأنبياء، فإن أفضل مخلوق من البشر طلعت عليه الشمس بعد الأنبياء والمرسلين أبو بكر رضي الله عنه، يليه الفاروق عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فهل هناك من هو أعظم من هؤلاء حتى نتخذ منه قدوة، ونتلقى منه المفاهيم والموازين للناس والأشخاص والقيم؟ ماذا قال عمر لما قال له أبو عبيدة: (يا أمير المؤمنين أنت أنت تفعل هذا! تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة، ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك؟ قال عمر: أوه -هذا اسم فعل مضارع بمعنى أتوجع وأتضجر من هذه الكلمة- أوه لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم) لكن أبو عبيدة هو من العشرة المبشرين بالجنة، وهو أمين هذه الأمة رضي الله عنه، فقال: لو كان غيرك قالها لجعلته نكالاً ولأدبته تأديباً شديداً، لأجل هذا الخلل في مقاييسه وموازينه وحكمه على الأمور.
قال عمر: (أوه لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله).
فهذا قانون خاص للأمة المحمدية تعامل هذه المعاملة؛ فهذه سنة الله فيمن يكفر نعمة الله، الله الذي أنزل هذا القرآن قال: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10] يعني: فيه رفعتكم ومجدكم.
فبعدما كانت أمة العرب أذل الأمم وأحقرها فما رفعهم الله إلا بهذا الدين، فأي أمة أخرى إذا تمسكت بدينها تقهقرت! وإذا تخلفت عن دينها تقدمت إلا أمة الإسلام إذا تخلوا عن دينهم لابد أن يصيروا في ذيل الأمم؛ لأنهم كفروا نعمة الله؛ لأن الله شرفهم بما لم يشرف به أمة من العالمين بالقرآن وبالإسلام وبسنة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم.
فمن يكفر بنعمة الله يهنه الله، قال عمر: إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين فمهما نبتغي العزة في غير ما أعزنا الله به أذلنا الله، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، فمن ابتغى العزة في غير الإسلام وفي غير مفاهيم الإسلام يعاقب بالمذلة والصغار، هذه الأمة عندما تتمسك بالدين ترتقي، وعندما تتخلى عنه تعود إلى المؤخرة وإلى الذيل.
بخلاف الأمم الأخرى كما رأينا مثلاً أمة اليابانيين لما تخلوا عن دينهم ترقوا وتقدموا، وعندما يدعون أن الحضارة الغربية حضارة نصرانية هذا كذب؛ لأنهم ما ترقوا إلا بعدما كفروا بالكنيسة وكفروا بالدين وعزلوها وحبسوها داخل جدران الكنائس كما هو معلوم، ورفعوا في الثورة الفرنسية شعاراً معروفاً: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس.
الشاهد أنه ما ترقى الغربيون إلا بعدما طلقوا الدين وكفروا بالدين تماماً، المسلمون اليوم على العكس تماماً، فمن الظلم أن يطبق هذا الوضع الموجود الآن في بلاد الكفار وفي الغرب على المسلمين؛ لأن المسلمين لن يرتقوا حتماً، ونقسم على هذا بالله عز وجل أنه لا يمكن أبداً أن يصلح حالهم إلا بالقرآن والسنة وبالإسلام، بخلاف غيرهم من الأمم، فمن أراد العز في غير هذا الدين فلن يجني إلا المذلة، وفي رواية أن أبا عبيدة قال: يا أمير المؤمنين! تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه؟ فقال عمر: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نبتغي العزة بغيره.
فالعزة ليست بالمظهرية وبالشكليات وغير ذلك.
دخل أعرابي رث الهيئة على أحد الخلفاء فاقتحمته عينه، يعني: كأن الخليفة لما رآه بثياب بالية فكأنه استنقصه وظهر عليه أمارات التأثر بهذا، فعرف الأعرابي ذلك في وجهه فقال: يا أمير المؤمنين! إن العباءة لا تكلمك ولكن يكلمك من فيها، فأدناه وقربه فإذا به يظهر من فصاحة في القول والبلاغة؛ فجعله من خاصته.(97/17)
إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام وكان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه)، يعني: إننا نستفيد منه ما يستفيد الرجل من باديته من أنواع المتاع، ونحن حاضرو المدينة نعد له ما يحتاج إليه مما لا يجده هو في البادية.
كان يقول عليه الصلاة والسلام على هذا الرجل: (إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه وكان دميماً -يعني: قبيح الوجه رضي الله تعالى عنه- فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال: أرسلني من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو -أي: لا يبالي- ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحتضنه يقول: من يشتري العبد؟ من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله! إذاً والله تجدني كاسداً -يعني: تجد سعري قليلاً؛ لأنني ذميم الخلقة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكنك عند الله لست بكاسد، أو قال: لكن عند الله أنت غال) أخرجه الإمام أحمد والبغوي والترمذي في الشمائل وصححه الحافظ ابن حجر في الإصابة.
ففي هذا الحديث كيف كان صلى الله عليه وسلم يواسي الفقراء، وكيف أنه لم يلتفت إلى صور الناس؛ لأن العبرة بالقلوب والأعمال وليس بهذه المظاهر الكاذبة، هكذا تعلم منه الأصحاب الذين هم أولو الألباب رضي الله تعالى عنهم أجمعين.(97/18)
ذم الاهتمام الكبير بالمظهر
عن عبد الله بن شقيق قال: (كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عاملاً بمصر، فأتاه رجل من أصحابه وهو شعث الرأس مشعان، فقال: مالي أراك مشعاناً وأنت أمير؟! فقال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم ينهانا عن الإرفاه)، فأصل الرفه أن الجمل يتعود أنه كل يوم يذهب به إلى البئر ويرد الماء ويشرب، فأخذ منه معنى الرفاهية والترفه، قوله: (فكان ينهانا عن الإرفاه) يعني: كثرة التجمل والاشتغال بهذه المظاهر.
(قلنا ما الإرفاه؟ قال: الترجل كل يوم) رواه النسائي وصححه الألباني إننا نهتم بتخريج الأحاديث من وقت ما رأيت الإخوة البريطانيين يعتبون جداً على ألا يذكر الإنسان حديثاً ولا يذكر تخريجه ومن صححه، فاستفدنا منهم ذلك ألا نترخص بذلك.
في طريق أخرى عن يزيد بن هارون عن الجريري عن عبد الله بن بريدة رحمه الله: (أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر، فقدم عليه وهو يمد ناقة له، فقال: إني لم آتك زائراً وإنما أتيتك لحديث بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوت أن يكون عندك فيه علم، فرآه شعثاً فقال: مالي أراك شعثاً وأنت أمير البلد؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه، ورآه حافياً، فقال: مالي أراك حافياً؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نحتفي أحياناً).(97/19)
ربعي بن عامر يعلم رستم أن مظاهر الدنيا ليس لها قيمة
هذا ربعي بن عامر رضي الله تبارك وتعالى عنه، أرسله سعد قبل موقعة القادسية رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فلما دخل عليه وأراد رستم أن يظهر له العظمة والأبهة كي يذل الصحابة رضي الله عنهم بهذا المظهر، فزين مجلسه بالنمارق والزرابي، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة العظيمة، ووضع على رأسه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وجلس رستم على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب غليظة وفرس قصيرة، فأراد رضي الله تعالى عنه أن يلقنه درساً لا ينساه، أراد أن يعلمه أن كل هذا لا يساوي عندنا شيئاً، فتعمد رضي الله عنه أن يركب الفرس فلم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، حتى يبين أن هذه الأشياء ما لها قيمة عندنا ولا تهزنا هذه المظاهر، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك! فقال: إنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فخرق عامتها، يعني: أنتم تريدون أن تذلوني بدنياكم فهذه دنياكم، فأخذ الرمح وظل يمزق هذه النمارق والزرابي فخرق عامتها وأفسدها عليهم، فقال له: ما جاء بكم؟ فقال: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله.
إذاً: فهذه الأمور التافهة والمظاهر الدنيوية ليس لها أي قيمة في نظر من يريد الدار الآخرة، فكان جندي من جنود المسلمين يعرف لماذا خلق، ومن الذي كلفه بهذه الرسالة.
يقول: (إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام).(97/20)
مقاييس وموازين الإسلام للرجال
المقاييس التي غرسها الإسلام في نفوس أتباعه والقيم والموازين هي أن شأن عباد الله الصالحين أنهم لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، كما قال الله تبارك وتعالى في سورة القصص بعد ما حكى عاقبة قارون وما كان عليه من المظاهر والرياش والأموال: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76] يعني: كانت المفاتيح فقط تحملها عصبة من أولي القوة وتكون ثقيلة عليهم، هذه مفاتيح الخزائن فما بالك بما في الخزائن! لكن ماذا كانت عاقبة قارون؟ أهلكه الله تبارك وتعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81].
في نهاية القصة يقول تبارك وتعالى مبيناً العبرة والدرس من هذه القصة العظيمة: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، كلمة (تلك) إشارة تعظيم وتفخيم، وفيها تنزيل الشيء الغيبي منزلة المشاهد والمحسوس.
قوله: ((تلك الدار الآخرة)) يعني: تلك التي سمعت خبرها وبلغك وصفها هي الدارة الآخرة.
قوله: (نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) قيل: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس.
تأمل في الآية لم يقل تبارك وتعالى: نجعلها للذين لا يعلون في الأرض ولا يفسدون، لكنه نفى عنهم مجرد الإرادة، يعني: أنهم أصلاً لا يريدون فضلاً عن أن يفسدوا أو يعلوا في الأرض، حتى مجرد الإرادة أو الميل بالقلب لا يخطر على قلوبهم، ففي تعليق الوعيد بترك إرادتهما لا بترك أنفسهما مزيد تحذير منهما، بمعنى أننا يجب ألا نريد العلو ولا الفساد في الأرض فضلاً عن أن نقع في العلو أو الفساد، كما قال عز وجل: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113] فعلق الوعيد بالركون، والركون: هو مجرد الميل القلبي أو مساعدة الظالم، كما قال بعض السلف: لو أن ظالماً طلب منك أن تناوله قلماً لا تعطه أخذاً بهذه الآية؛ خشية أن يكتب به ظلماً فتعينه على ظلمه.
قوله: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً) العلو: هو الغلبة والتسلط بسوء وتكبر على المسلمين، ونتأمل هنا قوله تبارك وتعالى: (لا يريدون علواًَ في الأرض ولا فساداً) فكرر (لا)، إشارة إلى أن كلاً من العلو والفساد مقصود بالنفي، ليس هما شيئاً واحداً معطوفاً على بعض، يعني: لا يريدون علواً ولا فساداً.
قال عكرمة: العلو في الأرض: التكبر وطلب الشرف والمنزلة عند سلاطينها وملوكها، والفساد: العمل بالمعاصي وأخذ المال بغير حقه.(97/21)
اهتمام الناس بقشور المباهاة والمفاخرة ونقدهم لمسائل الدين
إن التواضع في الحقيقة له صور كثيرة جداً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كان يأتي الصبي الصغير أو الجارية الصغيرة فيأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فيمضي معه حيث أخذه، وقالت له عائشة رضي الله عنها وهو يأكل يوماً: (هلا اتكأت -يعني: نأتي لك بمتكأ تجلس عليه- فحنا رأسه عليه الصلاة والسلام وقال: بل آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد)، صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذه هي قيم الإسلام، وهذه قشور القوم، وهذا هو اللب والجوهر والروح، فما بال القوم قد ابتغوا العزة في رباط العنق (الكرفتة)، ويكون لونها مناسباً مع لون القميص ومع الأزرار والبدلة، وكذلك مع السيارة أحياناً، فجعلوا العزة في مثل هذه المظاهر، لا، هذه مقاييس أهل الدنيا، هذه ليست لنا، هذه الزينة وهذه القيم للقوم الذين جنتهم عجلت لهم: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر).
فمهما سابقناهم في هذا فلن ندركهم، فهم يسبقوننا في الرياضة، ويسبقوننا في الزينة وفي الرياش والفخفخة لن ندركهم ولن نلحقهم؛ لأن هذه ليست لنا، هذه لغيرنا، وزينتنا هي التواضع والبذاذة كما قال عليه الصلاة والسلام: (البذاذة من الإيمان).
زينتنا قيام الليل، وذكر الله عز وجل، وصلاة الجماعة، هذه هي الزينة التي تليق بعباد الرحمن، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] فما بال القوم ابتغوا العزة في هذه المظاهر الكاذبة والقشور الفارغة، في ربطة العنق وكي الملابس، وأهدروا أموالهم في مظاهر قشرية جوفاء، وإذا ندبت أحدهم إلى الاعتدال وقلت له: ترفق بنفسك مهلاً، انطلق كالصاروخ يسرد لك ما أسعفه من الحجج والمعاذير، في حين أنه بمجرد رؤيته لمن يتمسك بالسنة وبهدي النبي صلى الله عليه وسلم مثل: ارتداء القميص حيث كان أحب الثياب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه الأستر وفيه تواضع، والعمامة أو غير ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا به يشمئز ويقول: هذه شكليات وهذه قشور لا ينبغي الاشتغال بها، نقول: لماذا شغلت أنت نفسك بهذه القشور؟ أنا ما كلمتك وما دعوتك بأن تفعل مثلي، ومن حقي أصلاً أن أدعوك.
فمن الذي استفزته هذه القشور؟ وهناك مفارقات عجيبة في الحقيقة نلمحها في مجتمعاتنا تعكس الخلل في هذه القيم وفي هذه الأمور، فمثلاً تلمح بعضهم إذا رأى إماماً للصلاة متمسكاً بالسنة يلاحظ اهتمامه الشديد بتسوية صفوف الصلاة وبرصها أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، يقول: هذه شكليات هذه قشور، بل إن منهم من سخر من هذه السنة لما سئل في بعض الأحاديث الصحافية ما هي آخر نكتة، أو (كاريكاتير) أعجبك؟ فقال: رأيت (كاريكاتير) جماعة أحدهم لابس قفاز الملاكمة، فقالوا له: ماذا تفعل؟ هل أنت تستعد للملاكمة؟ قال: لا أنا سأسوي الصف.
من يفعل هذا؟ هل هناك من يضرب الناس حتى يسووا الصفوف؟ إن هذا تنفير من السنن واستهزاء بأشياء قد تضر إيمانهم وإسلامهم.
فالشاهد قولهم: هذه شكليات وهذه قشور، بينما تراهم في أنشطتهم إذا عملوا معسكرات كشافة أو حتى معسكرات رياضية أو حفلات واستقبالات سواء كانوا من الكشافة أو من الصحفيين أو غيرهم، فانظر إلى اهتمامهم بتسوية الصفوف مثلاً في الاستعراضات العسكرية، أو استقبال حرس الشرف، أو في المدارس والمعسكرات وطابور الصباح، وكل هذا من أجل المحافظة على مظهر الاستعراض! أليست هذه شكليات أو قشور؟! فيقول لك: هذا من لوازم الانضباط والنظام وكذا وكذا إلى آخر هذه المعاذير، هذا من المفارقات العجيبة في الحقيقة، لماذا تقولون في الصلاة: شكليات وقشور؟ ولماذا في حفلاتكم ومراسيمكم تهتمون بهذه المظاهر؟ إذا جاء الفقير ذو الدين والخلق الحسن إلى أحدهم يخطب ابنته تمسك بالمظاهر وتشبث بالقشر، وأهمل الجوهر واعتبر المظهر، وعقد الأمور، وغالى في المهور، وإذا كان رجلاً طيباً وتورع عن المغالاة في المهر وقنع باليسير لابد أن يظهر أمام الناس أن المهر قدره كذا وكذا، لماذا؟ من أجل الاشتغال بهذه القشور.
أما قشور المآتم فحدث ولا حرج عما يقع بسبب التباهي في المآتم، بل إنهم يتباهون بحسن أكفان الموتى، في أحد المساجد هنا قريباً في المنطقة تجد إذا دخلت الباب كفناً درجة أولى وكفناً عادياً وهكذا، وإلى عهد قريب إذا دخلت بعض المدافن تجد رخاماً مكتوباً عليه: مدفن درجة أولى ممتازة بكذا جنيه، ومدفن درجة ثانية بكذا جنيه، ومدفن عادي بكذا جنيه.
هذا التباهي في الجنائز، وهذا غير التفاخر بالبنيان فوق القبور، مع ما في ذلك من المخالفة الصريحة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البناء فوقها.
ومن القشور المدمرة كما يقولون: موت وخراب بيوت، أو كما يقول الشاعر الفصيح: ثلاثة تشقى بهن الدار العرس والمأتم ثم الجار فتجد في الجنائز إذا كان الميت له أقارب في مدن أخرى تتحول دار أهل الموت إلى فندق ومطعم يستقبل أفواجاً من المعزين تقيم الأيام والليالي، ويستنفر أهل الميت لخدمتهم وتأمين حاجياتهم، وحدث ولا حرج عن تكاليف السرادقات والتباهي بالمشاهير من المقرئين، وربما استدانوا لأجل هذه المظهرية، وربما دفعوا تكاليف هذه المظاهر الكاذبة الخادعة والقشريات من أموال قد صارت ملكاً لليتامى؛ لأن الميت انفصل عن ماله، صار ملك اليتامى القاصرين المساكين، فإذا بهم يأخذون من أموال اليتامى ولا يتحرجون، رغم أن هذا من أكل أموال اليتامى ظلماً وسحتاً في هذه المظاهر الكاذبة، فمن الذي يهتم بالقشور؟ ومن الذي تستعبده المظاهر وتلك العادات الخبيثة؟ وهذا أيضاً مخالف للسنة؛ لأن جيران أهل الميت الأصل أنهم هم الذين يصنعون الطعام لأهل الميت؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال عندما استشهد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فإنه قد أتاهم ما يشغلهم).
أيضاً في سبيل هذا التصور وفي سبيل المظهرية الفارغة يضحي بعضهم بالنفس والنفيس، وربما أشغل ذمته بالدين أركبه الهم والذلة في النهار وأرقه بالليل.
إذا فرح في الأفراح بذَّر في نفقات الإضاءة وأسرف في الولائم، مجاراة للتقاليد ومجاراة للأغنياء والوجهاء، يقول عليه الصلاة والسلام: (المتباريان لا يجابان ولا يؤكل طعامهما) رواه البيهقي وصححه الألباني.
قوله: (المتباريان) أي: لو أن شخصاً صنع وليمة وقام الثاني وصنع وليمة أفخم من وليمته، فتباريا كأنها مسابقة، فهذان يعاقبان شرعاً بأنهما لا يجابان ولا يؤكل من طعامهما، ويقول عليه الصلاة والسلام: (شر الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله) صلى الله عليه وسلم، رواه مسلم.
المقصود يمنعها المساكين من الدخول، فليس من الممكن أن تجد فقيراً في الأفراح، فلو ذهبت إلى (البوفيه) مثلاً فرأيت الفطائر والحلويات وهذه الأشياء فهل تجد رجلاً فقيراً مسكيناً رث الثياب يجلس مع هؤلاء الوجهاء الذين يتباهون بالملابس وبالثياب والمظاهر الفارغة؟ هل يمكن أن يتركوا واحداً فقيراً أو مسكيناً يأكل معهم؟ لا يمكن أن تجد هذا إلا أن يشاء الله، فهذه مظهرية فارغة.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (شر الطعام طعام والوليمة).
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يحضر أحدكم وعند كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها، ولا يدعها للشيطان) رواه مسلم، فإذا كانت اللقمة لا تتركها حتى لا تدعها للشيطان، فكيف بمن يطعم الشيطان ما لذ وطاب من أصناف الطعام والشراب؟ كنت في إحدى البلاد العربية في شيء مثل المخيم، فأتوا بخروف كبير جداً مشوياً بطريقتهم، وأتوا به على صواني كبيرة جداً كما هي الطريقة المعروفة عند بعضهم، فالناس أكلوا أكلاً يسيراً جداً، فبقي هذا الشيء يكاد يكون كما هو، والأكل الموجود من الفواكه والأرز بما عليه من الزبيب وغيره من الأشياء هذه كلها، وإذا أنا بهم يدخلون بإناء كبير جداً، جفان كالجواب ربما يصعد إليها بالسلالم، فالمهم أتوا ببقية الطعام فجعلوا يضعون اللحم على الخبز على الفواكه، فاستغربت من المنظر فقلت: أين تذهبون بها؟ فكأن الأخ أحرج فقال لي: نتصدق بها على الطيور، فهنا نقول: كيف تهدر نعم الله سبحانه وتعالى بهذا الشكل؟ هناك من المسلمين من يموت بالتخمة ومن الشبع، ومن المسلمين من يموت بسبب الجوع، فهل هذا هو شكر النعم التي أنعم الله تبارك وتعالى بها علينا؟ كل هذه مظهرية كاذبة لا تليق بالمسلم، فإذا كان الشيطان لا تترك له لقمة، فكيف تترك له أصناف الطعام والفواكه والشراب وغير ذلك حتى يهنأ بها ويتقوى عليك ويهزمك؟! وكيف بمن يرمي في القمامة أكواماً من الطعام تفقدها أفواه محرومة، وبطون خاوية، ويلقي في المزبلة بقايا الولائم في حين يغلي قلبه حسرة على ما ركبه من ذل الدين وهمه في سبيل قشور فارغة وفي سبيل المظاهر الكاذبة؟! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(97/22)
أقسام الناس في العلو والفساد في الأرض
إن الناس على أقسام فيما يتعلق بالعلو والفساد في الأرض، فمن الناس من يريد علواً في الأرض وفساداً كالحكام الظلمة والفسقة والفجرة، فهو يجمع بين أمرين: حب الرياسة والزعامة، والتسلط والقهر والعلو، ويريد أيضاً في نفس الوقت أن ينشر الفساد في خلق الله وإباحة المعاصي، وتيسيرها على الناس، فهذا يريد العلو ويريد الفساد أيضاً.
وهناك قسم آخر يريد علواً ولا يريد فساداً، وتجد هذا أحياناً في بعض أهل الصلاح، يريد العلو والرياسة، ولكنه ينهى عن المعاصي ولا يريد المعاصي، كما قال الشاعر: هلاك الناس مذ كانوا إلى أن تأتي الساعة بحب الأمر والنهي وحب السمع والطاعة وقسم ثالث: وهم الذين لا يريدون علواً ولكنهم يريدون أن يكون الفساد متوفراً لهم، فهذا الصنف يريد فساداً لا يريد علواً، لكن أهل الآخرة هم الذين قال الله فيهم: {لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (إن الرجل لو أحب أن يكون شسع نعله أجود من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية).
يعني: أن يحب أن يتميز على أخيه حتى في شسع النعل، والشسع: هو القطعة من الجلد التي تدخل بين أصبع القدم الكبيرة والتي تليها، فإذا أحب الرجل أن يكون شسع نعله أفضل من غيره فهذه درجة من درجات حب العلو في الأرض، لكن لا بأس أن يحب أن يكون نعله حسناً كما جاء في الحديث الذي ذكرناه، لكن لا يتكبر على من دونه في الدنيا، ولا يكون ممن يريد العلو في الأرض.
قول علي: (إن رجلاً يحب أن يكون شسع نعله أجود من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية) قال العلماء: لعل هذا إذا أحب ذلك لافتخر على صاحبه ويستهين به، وإلا فقد جاء في الحديث: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً؟ فقال: إن الله تعالى جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس).
فالكبر عمل قلبي أساساً لكن إذا كان الإنسان ركب سيارة أحسن من سيارة جاره، أو لبس ثياباً معينة حتى تكون ثيابه أفضل فهذا يريد العلو، لكن لا حرج أن تحب الجمال والنظافة والثياب الجديدة، لكن لا لتعلو بها على خلق الله، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا لبس أو استجد ثوباً كان يدعو الله تبارك وتعالى يقول: (اللهم إني أسألك خيره وخير ما صنع لأجله، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع من أجله)، فإنه يصنع ويلبس أحياناً لأجل التفاخر والتعالي على الناس وهذا منهي عنه، ويصنع ويلبس لأجل الستر والزينة وهذا لا بأس به، وكان علي رضي الله عنه يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة، يرشد الضال، ويعين الضعيف، ويأتي إلى البقال والبياع فيفتتح عليه القرآن، ويقرأ تلك الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
نحلم باليوم الذي ينزل فيه الرؤساء إلى الأسواق والشوارع ويتلون هذه الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
ولما قرئت هذه الآية عند بعضهم قال: ذهبت الأماني هاهنا، يعني: الآمال العظيمة التي يأملها الإنسان في الدنيا انقطعت الآن، عند هذه الآية يعرف الإنسان أنه ليس بحاجة إلى علو ولا إلى استكبار على خلق الله.
وجاء عن عمر بن عبد العزيز أنه في لحظة وفاته رضي الله عنه كان يرددها حتى قبض رحمه الله.
وقال أبو معاية: الذي لا يريد علواً هو من لم يجزع من ظلمها، ولم ينافس في عزها، وأرفعهم عند الله أشدهم تواضعاً.
ومر علي بن الحسين وهو راكب على مساكين يأكلون كسراً لهم من الخبز فسلم عليهم، فدعوه إلى طعامهم، فتلا هذه الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] ثم نزل وأكل معهم، ثم قال: قد أجبتكم فأجيبوني كما أجبت دعوتكم، فحملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم وصرفهم.
هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم.(97/23)
معتقد أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات [1]
لقد فرق الله عز وجل بين علم الدنيا وعلم الآخرة، وفضل علم الإيمان والدين على سائر العلوم، وأعظم شيء في علم الإيمان والدين هو علم التوحيد والعقيدة الذي منه باب الأسماء والصفات؛ لأن له تعلقاً بمعرفة ذات الله.
وقد ضل في باب الأسماء والصفات كثير من أهل الأهواء والبدع، فنسبوا إلى الله عز وجل ما لا يليق بجلاله من النقص والعيب، وسموه بما لا يرضى من الأسماء، ووصفوه بصفات خلقه، فألحدوا في أسماء الله سبحانه وتعالى.(98/1)
شرف العلم وأهله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: إن الله جل ذكره شرف أهل العلم الشرعي على غيرهم، فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، وقال سبحانه وتعالى مبيناً أنه يرفعهم درجات: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، ولم يأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله الزيادة في شيء إلا في العلم؛ لأن العلم فيه زيادة درجاته صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].
وبين الله عز وجل أن أشد الناس له خشية هم العلماء، فقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ولا ريب أن الله سبحانه وتعالى لا يعني في أمثال هذه الآيات علماء الدنيا، كعلماء الحساب، أو الهندسة، أو الطب، أو الصناعة، أو الزراعة، أو غير ذلك؛ لأن أكثر هؤلاء لا يؤمن بالله سبحانه وتعالى فضلاً عن أن يخافه أو يتقيه.
وهؤلاء الذين فرحوا بما عندهم من العلم بظاهر الحياة الدنيا جعل الله علمهم كالجهل في قوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:6 - 7]، فأبدل من قوله: (لا يعلمون) قوله: (يعلمون)، فدل على أن هذا العلم ما دام متوقفاً على ظاهر الحياة الدنيا دون أن ينفذ إلى باطن ذلك مما في هذا العلم من آيات ودلائل توحيد الله عز وجل فهو جهل.
والله تبارك وتعالى وصف أهل الكفر والشرك بالضلال والجهل، حتى ولو كانوا على علم بعلوم الدنيا، فقال تبارك وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة:118]، وقال أيضاً: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة:113] بذلك إلى المشركين، وقال الله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187]، فوصف أكثر أهل الأرض بالجهل على ما كانوا عليه من العلم، وعمارة الدنيا، ومهارة في الصناعة والزراعة، ونحو ذلك.(98/2)
من أشراط الساعة تناقص العلم الشرعي
بين النبي صلى الله عليه وسلم أن العلم يكون في تناقص، فبين في بعض الأحاديث أن من أشراط الساعة أن يظهر الجهل، ويرفع العلم، فإذا تأملنا واقع الناس اليوم وجدنا ظهور العلم الدنيوي، وانتشار الجهل بأمور الدين، حتى إنك تفاجأ أن من الناس من لا يعرف أصلاً أن الصلاة واجبة، يحكي لي قصة بدايته أن المواظبة على الصلاة كانت في سن الأربعين؛ لأنه وجد كتاباً عند أحد باعة الجرائد عنوانه: حكم تارك الصلاة، وكان وقتها لا يعلم حكم الصلاة، ففوجئ بأن الصلاة واجبة وفريضة، ولا ندري كيف نصدق أو نتخيل أن إنساناً يعيش في وسط المسلمين ثم يجهل أن الصلاة فريضة؟! بل هي عمود الدين الأعظم بعد التوحيد، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وهذه فنانة تائبة تقول: إنها لم تكن تعرف أصلاً أن الحجاب واجب، وإنما كانت تعرف أن الحجاب شيء اختياري.
ومظاهر الغربة في الدين في هذا الزمان كلها ناشئة عن أن الجهل بالعلم الديني هو الذي يشيع، ومع اجتهاد الناس في تحصيل علوم الدنيا، ولو على حساب الدين، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب في الأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة)، فهو في غاية الاجتهاد في تعلم أمور الدنيا، فإن كان نجاراً فهو يعرف أنواع الخشب وكذا وكذا، وإن كان مهندساً في السيارات فهو يعرف جميع ماركات السيارات وخصائصها وكذا وكذا، بل من الناس من يحفظ أسماء لاعبي الفرق في كرة القدم، وتفاصيل حياتهم الشخصية في كل أقطار الأرض، وغير ذلك من هذه التفاهات، مع أن ذلك لا يغني عنه عند الله سبحانه وتعالى شيئاً.(98/3)
العلم بالله وبشرعه أشرف العلوم
إن العلم الذي ينبغي أن ينصرف إليه الفهم -عندما تطلق كلمة العلم أو العلماء في القرآن أو السنة- هو العلم الذي هو أشرف علم في الوجود، وهو: العلم بالله، وبدين الله تبارك وتعالى، وبأحكام هذا الدين.
فهذا العلم هو الذي جاءت به الرسل لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهو الذي حواه كتاب الله العزيز، وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.
فعلم الدين هو أشرف العلوم على الإطلاق، فشرف العلم يكون بشرف المعلوم يعني: أن العلم يأخذ مرتبته في الشرف بحسب المعلوم الذي يتعلم عن طريق هذا العلم، ولا شك أن علم الطب مثلاً أشرف من علم الحشرات، مع أن هذا علم وهذا علم، لكن حتى علوم الدنيا تتفاضل؛ لأن هذا موضوع الحشرات، أما ذاك فموضوعه رأس مال الإنسان في هذه الحياة، وهو الصحة، وهكذا تتفاوت العلوم بحسب شرف موضوعها.
فعلوم الدين بلا شك هي أشرف من علوم الدنيا، ثم إن علوم الدين نفسها تتفاوت في الشرف: فمنها علوم خادمة، ومنها علوم مخدومة، فالعلوم الخادمة التي هي علوم الوسائل: كعلم النحو، والصرف، واللغة، ونحو ذلك من العلوم التي هي آلات في فهم الكتاب والسنة، أما العلوم المخدومة فهي الأشرف: كعلم الفقه، وعلم الحديث، وعلم التفسير، ونحو ذلك من علوم الشرع الكريم، لكن أعظم علم فيه على الإطلاق هو علم التوحيد؛ لأنه إذا كان شرف العلم بشرف المعلوم فإن علم التوحيد موضوعه هو معرفة الله سبحانه وتعالى؛ فبه نعرف الله عز وجل؛ ولأجل ذلك فإن العلم بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله عز وجل وبتوحيده هو أشرف العلوم على الإطلاق في هذا الوجود، فأشرف العلوم الشرعية هو العلم بأسماء الله الحسنى، وصفاته العلى؛ لتعلقها بأشرف معلوم وهو الله سبحانه وتعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والقرآن فيه من ذكر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثر مما فيه من ذكر الأكل والشرب والنكاح في الجنة.
يعني: أن الآيات التي فيها صفات الله عز وجل، وأسماؤه الحسنى أكثر بكثير جداً من الآيات التي فيها نعيم الجنة من الأكل والشرب والنكاح وغير ذلك، والآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته أعظم قدراً من آيات المعاد، فأعظم آية في القرآن الكريم هي آية الكرسي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بن كعب: (أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، إلى آخر آية الكرسي، فضرب بيده في صدره وقال: ليهنك العلم أبا المنذر!)، وهذا الحديث رواه مسلم، وهو دليل على أن أشرف آية في القرآن الكريم كله هي آية الكرسي، وإذا تأملنا آية الكرسي التي هي أعظم آية في القرآن الكريم نجد أنه ليس فيها أمر ولا نهي، ولا حلال ولا حرام، وليس فيها إلا الإخبار عن صفة الله، وما الذي يليق به فنثبته له، وما الذي لا يليق فننفيه عنه عز وجل، فقوله: (الله لا إله إلا هو) (لا إله) هذا هو الكفر بالطاغوت، (إلا هو) إثبات التوحيد لله عز وجل، وهكذا بقيتها في صفة الله عز وجل، قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255].
وكذلك أفضل سورة في القرآن الكريم هي سورة الفاتحة، كما ثبت ذلك في حديث أبي سعيد بن المعلى في الصحيح حين قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها -أي: مثل سورة الفاتحة-، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)، وفيها من ذكر أسماء الله وصفاته أعظم مما فيها من ذكر المعاد، كما هو معلوم.
وقد ثبت في الصحيح أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن، وليس في: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) التي لها هذه المنزلة العظيمة أو العظمى سوى الإخبار عن صفة الله سبحانه وتعالى، وكيف نعرف الله.
وكما نلاحظ أن المعرفة بالله سبحانه وتعالى منصبة على أسلوب التلقين؛ لأن الله لا نعرفه بالعقل، كما يشيع على ألسنة بعض عوام الناس؛ حيث تسمع منهم من يقول: ربنا عرفناه بالعقل، فنتدبر بالعقل في آيات الله وفي صفات الله، وصفات الله سبحانه وتعالى قد تعرف عن طريق التأمل في آياته التي تدل على توحيده، لكن معرفة الله أساساً إنما تكون عن طريق الوحي الذي أوحاه إلى أنبيائه، فبه يتعرف العباد على ربهم، فيتعرفون أن له تسعة وتسعين اسماً من الأسماء الحسنى، وأنه على العرش استوى، وأن له كذا، وأنه يحب كذا، وأنه يبغض كذا، وهكذا، فهذا يأتي عن طريق التلقين، وليس عن طريق الاجتهاد العقلي؛ لأن العقل لا يمكن أبداً أن يدرك صفات الله سبحانه وتعالى، ولا ما هي أسماء الله، ولا غير ذلك، بدليل أن أسماء الله عز وجل كثيرة لا تسعة وتسعين، لكن الذي أخبرنا به هو التسعة والتسعون، قال صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من حفظها دخل الجنة)، وقال عليه الصلاة السلام في الدعاء: (أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، فهذا يدل على أن لله أسماء لم نطلع عليها، ولا سبيل إلى الاطلاع عليها؛ لأن السبيل الوحيد هو الوحي، وقد انقطع الوحي، وهي غير موجودة فيما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر الصحابي الذي كان يختم القراءة في الصلاة في كل ركعة بـ (قل هو الله أحد)، فسأله عن سبب ذلك؟ فقال: إني أحبها؛ لأنها صفة الرحمن، فأخبره عليه الصلاة والسلام: بأن الله سبحانه وتعالى يحبه) والحديث متفق عليه، فبين أن الله يحب من يحب الثناء عليه بذكر صفاته وأسمائه عز وجل، فالله سبحانه وتعالى يحب أن يذكر بهذه الصفات العظمى والأسماء الحسنى.(98/4)
فائدة العلم بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته
العلم بأسماء الله جل ثناؤه وصفاته ومعرفة معانيها يحدث خشية ورهبة في قلب العبد، فمن عرف أن الله بكل شيء عليم، وأنه لا تخفى عليه خافية من أعمال العباد، ويؤمن بذلك فإنه يكون أشد خوفاً ممن لا يعلم ذلك، سبق أن تكلمنا في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل:105] وقلنا: إن (إنما) تفيد الحصر، فكأن صفة الكذب لا توجد إلا فيمن لا يؤمن بآيات الله، ولذلك المؤمن لا يكون كذاباً، كما جاء في الحديث؛ لذلك فإن من أخلاق من يؤمن بآيات الله أنه يتنزه عن الكذب، فهذه لفتة إلى أثر الإيمان بصفات الله سبحانه تعالى، وبآيات الله في سلوك الإنسان.
ومن يعلم أن الله لا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير أتقى ممن لا يعلم، وهكذا في سائر الأسماء والصفات، ولهذا قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى في الآية: إنما يخاف الله فيتقي عقابه بطاعته العلماء بقدرته على ما يشاء من شيء، وأنه يفعل ما يريد؛ لأن من علم ذلك وأيقن بعقابه على معصيته خافه ورهبه خشية منه أن يعاقبه.
إذاً: العلم بالله سبحانه وتعالى يدعو إلى محبته وخشيته ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وفي هذا فوز العبد وسعادته في الدارين، ولا يمكن معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وفهم معانيها، والعلم بالله عز وجل هو أحد أركان الإيمان، بل هو أصل الإيمان كله، وما بعده تبع له، وليس الإيمان مجرد أن تقول: آمنت بالله من غير علم ومعرفة بالله، بل إن حقيقة الإيمان أن يعرف العبد الرب الذي يؤمن به، ولذلك جاء في الحديث أنه لما أرسل عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فإذا لقيتهم فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله، ثم قال: فإذا هم عرفوا الله فأخبرهم: أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات)، فجعل أول واجب هو معرفة الله سبحانه وتعالى، وفي بعض الروايات: (فإذا هم وحدوا الله).(98/5)
أهمية معرفة أسماء الله عز وجل وصفاته
يجب على الإنسان أن يبذل جهده في معرفة أسماء الله وصفاته حتى يبلغ درجة اليقين، وبحسب علم العبد بربه تكون درجة إيمانه، فكلما ازداد معرفة بربه ازداد إيمانه، والطريق الشرعي للعلم بالله وبأسمائه وصفاته هو تدبر القرآن والسنة وما جاء فيهما.
ثم إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعبدوه، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: ليعبدوني وحدي، ولا يمكن أن يعبدوه دون أن يعرفوه، فلابد من معرفتهم له سبحانه ليحققوا الغاية المطلوبة منهم، والحكمة من خلقهم، والعبادة لا تصح من الكافر؛ لأن الكافر لا تصح نيته، والمؤمن تصح منه العبادة؛ لأنه ينوي التقرب بها إلى الله، والكافر لا يعرف الله، فكيف تصح منه العبادة لو أتاها دون أن يدخل في الإسلام؟! فالنصراني -مثلاً- إذا صلى أو حج أو فعل أي شيء من أفعال القرب يتقرب به إلى المسيح فقد أخطأ وضل الطريق، كما وصفهم الله بالضالين، فلا يمكن أن تصح عبادته وهو لا يعرف الله، ولا يعرف ما الذي يليق به، وما الذي ينبغي أن ينزه الله سبحانه وتعالى عنه، فالاشتغال بمعرفة الله عز وجل هو اشتغال بما خلق العبد من أجله، فالوظيفة التي خلقت من أجلها أيها الإنسان! أن تعرف الله؛ لأنه لا يمكن أن تعبده وأنت لا تعرفه، وترك هذا العلم وتضييعه إهمال لما خلقت له، وقبيح بعبد لم تزل نعم الله عليه متواترة، وفضله عليه عظيماً متوالياً من كل وجه أن يكون جاهلاً بربه معرضاً عن معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته.
والعالم بالله تعالى حقيقة يستدل بما علم من صفاته وأفعاله على ما يفعله وعلى ما يشرعه من الأحكام؛ لأن الله لا يفعل إلا ما هو من مقتضى أسمائه وصفاته، فأفعاله دائرة بين العدل والفضل، وكذلك لا يشرع ما يشرعه من الأحكام إلا على حسب ما اقتضاه حمده وحكمته وفضله وعدله، فأخباره كلها حق وصدق، وأوامره ونواهيه عدل وحكمة، وهذا العلم أعظم وأشهر من أن ينبه عليه، كما قال الشاعر: وكيف يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل قال أبو القاسم التيمي الأصبهاني في بيان أهمية معرفة الأسماء الحسنى: قال بعض العلماء: أول فرض فرض الله على خلقه معرفته؛ فإذا عرفه الناس عبدوه.
يعني: أن معرفة الله هي أول فرض أوجبه الله على عباده، فإذا عرفه الناس عبدوه، قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، وبدأ القرآن بالبسملة: بسم الله الرحمن الرحيم، يعني: أن أول شيء في القرآن هو البسملة، وفيها البداءة بأسماء الله: الله، الرحمن، الرحيم، ونزل الوحي أول ما نزل آمراً النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتدبر آيات الله كلها من خلال النظر في أسمائه الحسنى، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، فليس من علم ولا فهم إلا ويوصل إليه من خلال أسماء الله عز وجل الحسنى، والعلم بالأسماء الحسنى هو أساس قبول الدعاء؛ فإنك إذا لم تعرف من تدعوه فكيف تتوجه إليه؟! وإذا لم تعرف صفاته فكيف تتوجه إليه بالدعاء؟! ولذلك مما يدل على توجه العبد بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى معرفته بأسماء الله وصفاته.
والدعاء يرادف في القرآن العبادة ويعتوران، يعني: يتبادلان المواقع، فأحياناً تعبر العبادة عن الدعاء والعكس؛ لأن الدعاء من أظهر أنواع العبادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة، وقرأ قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]) فمجرد توجهك في الدعاء إلى الله له معانٍ كثيرة جداً منها: إثبات وجود الله؛ لأن العدم لا يدعى، ومنها: إثبات رحمة الله؛ لأن القاسي لا يدعى، ومنها: إثبات كرم الله وجوده؛ لأن البخيل لا يدعى، وإثبات كذا وكذا وكذا من الصفات التي بها يدلل على إيمانك بها.
كذلك العلم بأسماء الله الحسنى ينشئ حب الله تبارك وتعالى، ويقويه في قلب المؤمن؛ لما فيها من كمال وجلال وجمال.
قال بعض أهل العلم: لو أراد رجل أن يتزوج من رجل أو يزوجه أو يعامله طلب أن يعرف اسمه وكنيته واسم أبيه وجده، وسأل عن صغير أمره وكبيره، فالله الذي خلقنا ورزقنا ونحن نرجو رحمته ونخاف من سخطته أولى أن نعرف أسماءه وتفسيرها.
والله تعالى أعلم.(98/6)
أهمية العلم بأسماء الله عز وجل الحسنى
إن العلم بأسماء الله عز وجل ومعرفة معانيها ودلالتها، وآثار الإيمان بها من أعظم المقاصد، بل هو أصل للعلم بكل المعلومات.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: إحصاء الأسماء الحسنى والعلم بها أصل للعلم بكل معلوم، فإن المعلومات سوى الله سبحانه وتعالى إما أن تكون خلقاً له تعالى، أو أمراً.
إما خلق وإما أمر، إما علم بما كونه -يعني: بما خلقه- أو علم بما شرعه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، ومصدر الخلق والأمر أسماؤه الحسنى، فالأمور التكوينية والشرعية تصدر عن أسماء الله سبحانه وتعالى الحسنى، وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى بمقتضيه، فالأمر كله مصدره الأسماء الحسنى، وهذا كله حسن لا يخرج عن مصالح العباد، والرأفة والرحمة بهم، والإحسان إليهم بتكليفهم بما أمرهم به، ونهاهم عنه.
فأمره سبحانه وتعالى كله مصلحة وحكمة ورحمة، ولطف وإحسان؛ إذ مصدره أسماؤه الحسنى، فلا تفاوت في خلقه، ولا عبث، ولم يخلق خلقه باطلاً، ولا سدى، ولا عبثاً، وكما أن كل موجود سواه -يعني: لا يمكن أنه يكون موجوداً إلا أن يوجده الله سبحانه وتعالى- فوجود من سواه تابع لوجوده عز وجل، تبع المفعول المخلوق لخالقه، فكذلك العلم بها أصل للعلم بكل ما سواه، فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي أحصى جميع العلوم؛ إذ إن إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم؛ لأن المعلومات هي من مقتضاها، ومرتبطة بها.(98/7)
مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات
ذكر الشيخ محمد بن حمد الحمود حفظه الله في كتابه: (النهج الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) مقدمة يسيرة حول مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء الحسنى فقال: مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء الحسنى هو مذهبهم في الصفات عموماً، وذلك أن أسماء الله سبحانه وتعالى دالة على صفات كماله، فهي مشتقة من الصفات، فهي أسماء، وهي أوصاف، ولذلك كانت حسنى.
والذي درج عليه سلف الأمة ومن تابعهم بإحسان، واتفقوا عليه: هو الإقرار والتصديق بآيات الأسماء والصفات وأحاديثها، وإمرارها كما جاءت، وإثباتها دون تشبيه أو تعطيل أو تحريف أو تأويل.
عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي رحمه الله تعالى -وقد سئل عن صفات الله وما يؤمن به- يقول: لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته، لا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة ردها؛ لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها فيما روى عنه العدول، فمن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، أما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا بالروية والفكر، ولا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها، ونثبت هذه الصفات، وننفي عنها التشبيه كما نفى التشبيه عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
انتهى كلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وإسناده إليه صحيح.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أيضاً في الرسالة: ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته، الذي هو كما وصف نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه سبحانه وتعالى.
وعن محمد بن إسماعيل الترمذي قال: سمعت نعيم بن حماد يقول: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف به نفسه ولا رسوله تشبيهاً.
وقال الترمذي بعدما روى حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره) إلى آخر الحديث: وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث، وما يشبه هذا من الروايات في الصفات، ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا قالوا: قد ثبتت الروايات في هذا، ويؤمن بها، ولا يتوهم، ولا يقال: كيف؟ هكذا روي عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة.
وأما الجهمية فأنكروا هذه الروايات، وقالوا: هذا تشبيه، وقد ذكر الله تبارك وتعالى في غير موضع من كتابه: اليد والسمع والبصر، فتأولوا هذه الآيات، وفسروها على غير ما فسرها أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق بيده، وقالوا: إنما معنى اليد القوة.
وقال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه: إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع، أو مثل سمع، فهذا تشبيه، أما إذا قال كما قال الله: يد، وسمع، وبصر، ولا يقول: كيف؟ ولا يقول: مثل سمع، ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيهاً، فهو كما قال تبارك في كتابه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
انتهى من سنن الترمذي رحمه الله تعالى.
إذاً: إثبات الأسماء والصفات كلها تنحصر فيما هو ظاهر هذه الأسماء والصفات إذا أطلقت في حق الله تبارك وتعالى.
والصحيح أن يقال: ظاهرها هو ما يليق بالله، فلا ينبغي أن تصرف النصوص عن ظاهرها، أما من قال: إن ظاهرها هو التشبيه فهذا فر من ذلك إلى التعطيل؛ لأنه فهم منها التشبيه، فوقع في التشبيه أولاً، فنفر من التشبيه إلى التعطيل، تعالى الله عن ذلك.
فهو فر من فساد إلى فساد، لكن أهل السنة والجماعة يثبتون هذه الصفات والأسماء بلا كيف، وهذا هو مذهب الإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رحمه الله تعالى، الذي رجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وترك ما كان عليه من علم الكلام المبتدع المخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر نصوصاً في ذلك في (مقالات الإسلاميين) وهو كتاب للإمام الأشعري رجع فيه إلى مذهب أهل السنة والجماعة.
قال رحمه الله في كتابه (اختلاف المصلين ومقالات المسلمين) بعد أن ذكر فرق الخوارج، والروافض، والجهمية وغيرهم: ذكر مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث: جملة قولهم: الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبما جاء عن الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئاً، وأن الله على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
وأن له يدين بلا كيف، كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75].
وأن أسماء الله لا يقال: إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقروا أن لله علماً، كما قال تعالى: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر:11].
وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة إلى آخر كلام الأشعري في إثبات الصفات.
وهذه العقيدة هي التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وهي التي تلقاها التابعون منهم، وتواصوا بها جيلاً بعد جيل، محذرين بعضهم البعض من مخالفتها، والميل عنها، ودان بهذه العقيدة أئمة السلف الماضين من المحدثين والفقهاء، والمفسرين، واللغويين، والمصنفين، وكيف لا تكون هذه هي العقيدة صحيحة والله قد زكى اعتقاد نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين بقوله جل ثناؤه: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ} [البقرة:137]؟ فتأمل قوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ} [البقرة:137] ففيه إشارة إلى أن الإنسان لا يهتدي إلا بهذه المثلية، وذلك بأن تكون عقيدتهم مثل عقيدة الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين ومن تبعهم بإحسان، قال عز وجل: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:137 - 138].
فمذهب أهل الحق إثبات الأسماء الحسنى الواردة في الكتاب العزيز، وفي السنة المطهرة، والإيمان بها، وبما دلت عليه من المعاني، والإيمان بما تعلق بها من آثار، فمثلاً: نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى رحيم، ومعناه: أنه ذو رحمة، ومن آثار هذا الاسم: أنه يرحم من يشاء.
ومثال ثانٍ: نؤمن بأن الله قدير، ومعناه: أنه ذو قدره، ومن آثار هذا الاسم: أنه على كل شيء قدير، وهكذا القول في جميع الأسماء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: ولو ذكرنا قول كل من له كلام في إثبات الصفات من الأئمة لاتسع الخرق، وإذا كان المخالف لا يهتدي بمن ذكرنا أنه يقول: الإجماع على إثباتها من غير تأويلها، أو لا يصدقه في نقله فلا هداه الله.
يعني: إن كان لا يملأ عينيه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين والأئمة العظام الأجلة، كالإمام الشافعي والإمام أحمد والإمام أبي حنيفة والإمام مالك وسفيان الثوري، وكل هؤلاء الأئمة من أئمة أهل السنة وأهل الحديث، إذا كان يخالفهم ويشذ عنهم فيما نقلوه من الإجماع على إثبات الصفات كما يليق بالله سبحانه وتعالى، أو لا يصدقهم فيما نقوله من أن هذه عقيدة السلف.
يقول: أي: أنه يدعو على من لم يهتد بمثل ما آمنوا به بألا يهديه الله، فلا هداه الله، ولا خير والله فيمن رد على مثل الزهري ومكحول والأوزاعي والثوري والليث بن سعد ومالك وابن عيينة وابن المبارك ومحمد بن الحسن والشافعي والحميدي وأبي عبيد وأحمد بن حنبل وأبي عيسى الترمذي وابن سريج، وابن جرير الطبري وابن خزيمة وزكريا الساجي وأبي الحسن الأشعري، أو لا يقول مثل قولهم من الإجماع.
وممن حكى إجماعهم من الخلف الخطابي وأبو بكر الإسماعيلي وأبو القاسم الطبراني وأبو أحمد العسال إلى آخر هذه القائمة.
إذاً: هذه مقدمة تتعلق بمنهج السلف في إثبات أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، فإنهم قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف.
وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى فيما بعد لهذه القواعد.(98/8)
وصف أسماء الله تعالى في القرآن بأنها حسنى
وصف الله سبحانه وتعالى أسماءه بالحسنى في أربع آيات من القرآن العظيم، وهي قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، وقال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:8]، وقال أيضاً: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر:24]، قوله: (الحسنى)، هي تأنيث الأحسن، كالكبرى والصغرى تأنيث الأكبر والأصغر، وفي وصف الأسماء بكونها حسنى وجوه: الأول: أن أسماءه سبحانه وتعالى دالة على صفات كمال عظيمة، وبذلك كانت حسنى.
ثانياً: أنها حسنى لما وعد الله عليها من الثواب بدخول الجنة لمن أحصاها، فإن من أحصاها دخل الجنة.
ثالثاً: أن حسنها شرف العلم بها، فإن شرف العلم بشرف المعلوم، والبارئ عز وجل أشرف المعلومات، فالعلم بأسمائه أشرف العلوم؛ فلذلك كانت حسنى.
رابعاً: أن من تمام كونها حسنى: أنه لا يدعى إلا بها، لا يسأل الله سبحانه وتعالى ولا يدعى إلا بهذه الأسماء الحسنى، سواء كان دعاء الثناء والتحميد والتمجيد أو دعاء المسألة والطلب، فلا يسأل الله سبحانه وتعالى إلا بأسمائه الحسنى ولا يثنى عليه إلا بها، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]، قوله: (وذروا الذين يلحدون) الإلحاد في اللغة: هو الزيغ والميل والذهاب عن سنن الصواب، ومنه يسمى الملحد ملحداً؛ لأنه مال عن طريق الحق، ومنه اللحد وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط، ومنه: الملتحد على وزن مفتعل، قال تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف:27]، أي: لن تجد من تعدل إليه أو تهرب وتميل إليه.(98/9)
صور الإلحاد في أسماء الله تعالى
أما التفصيل في صور الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى الحسنى، فإن الإلحاد في أسماء الله عز وجل على أنواع:(98/10)
تسمية الله تعالى بما لا يليق بجلاله
النوع الخامس من صور الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى: تسمية الله بما لا يليق بجلاله، كتسمية النصارى له أباً، يسمون الله أباهم، يقولون: أبانا الذي في السماء، فهذا من الإلحاد أن يسموا الله أباً لهم، وتسمية الفلاسفة لله سبحانه وتعالى بأنه الموجد بذاته، أو تسميته بأنه علة فاعلة بالطبع، ومن هذا قول الكرامية: إنه -تعالى الله عما يقولون- جسم أستغفر الله! وقول بعضهم: إنه جوهر ونحو ذلك، وكما يقول الماسوني في هذا العصر حينما يصفون الله سبحانه بأنه مهندس الكون الأعظم!! كل هذا من الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى، لكن برأ الله أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله، فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما أنزلت إليه لفظاً ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات، فكان إثباته بريئاً من التشبيه، وتنزيههم خالياً من التعطيل.
قال العلامة المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: إن أسماء الرب تبارك وتعالى دالة على صفات كماله، فهي مشتقة من الصفات، فالرحيم اسم، لكن في نفس الوقت يتضمن إثبات صفة الرحمة لله عز وجل، فهي مشتقة من الصفات، فهي أسماء وهي أوصاف، وبذلك كانت حسنى، هذا هو السبب في كونها حسنى، إذ لو كانت ألفاظاً لا معاني لها لم تكن حسنى، ولم تكن دالة على حسن ولا على كمال، ولساغ وجود الانتقام والغضب في مقام الرحمة والإحسان وبالعكس، فيقال: لو أن الرحيم أو الغفور مثل المنتقم الجبار لكان للعبد أن يقول مثلاً: اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت المنتقم الجبار؛ لأن الرحيم نفس المنتقم تماماً!! أو مثلاً يقول واحد: اللهم أعطني فإنك أنت الضار المانع!! فهذه الأسماء عبارة عن حروف لا معاني من ورائها! مجرد أعلام بدون أن تكون متضمنةً لمعانيها التي تثبتها؛ ولذلك قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: حقيقة الاسم: كل لفظ جعل للدلالة على المعنى، إن لم يكن مشتقاً، فإن كان مشتقاً فليس باسم إنما هو صفة، يقول: هذا قول النحاة، يعني: أهل اللغة والنحو يجعلون حقيقة الاسم: اللفظ الذي جعل للدلالة على المعنى إن لم يكن مشتقاً، لكن إن كان مشتقاً فهو في هذه الحالة يكون صفة؛ ولذلك حكى عن أبي الحسن بن أخت أبي علي قال: سمعت خالي أبا علي يقول: كنا بمجلس سيف الدولة بحلب وبالحضرة جماعة من أهل المعرفة، فيهم ابن خالويه إلى أن قال ابن خالويه في المجلس: أحفظ للسيف خمسين اسماً، فتبسم أبو علي وقال: ما أحفظ إلا اسماً واحداً وهو السيف، فقال ابن خالويه -وهو يحسب أنه لا يعرف فعلاً الأسماء التي تطلق على السيف: فأين المهند؟ وأين الصارم؟ وأين الرسوب؟ وأين المخذم؟ وظل يعدد أسماء السيف، فقال أبو علي بعدما وجده سرد كل هذه الأسماء وهو يعرفها والآخر لا يعرفها، قال له أبو علي: هذه صفات، وكأن الشيخ لا يفرق فيه بين الاسم والصفة، فإذاً: أسماء الله مشتقة من الصفات، فهي أسماء وهي في نفس الوقت أوصاف لله سبحانه وتعالى، يقول ابن القيم: ونفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيها، قال تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]، يلحدون في أسمائه كالصور التي ذكرناها، ومنها صور أخرى يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى فيما بعد، كما يفعل الصوفية حين يلحدون في أسماء الله عز وجل بأن يطلقوا على الله أسماء بلغات غير مفهومة ولا واضحة، أو كما يسمون الله بأنه: آه، لما يذكرون الله، فبدل أن يقولوا: الله، يقولون: آه آه، أو: هو هو هو إلى آخره!! فهذا كله من الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى، كما سنبين ذلك بالتفصيل فيما بعد إن شاء الله تعالى، يقول: ونفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيها، قال تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]، ولأنها لو لم تدل على معانٍ وأوصاف لم يجز أن يخبر عنها بمصادرها ويوصف بها، لكن الله أخبر عن نفسه بمصادرها وأثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: اسم القوي، ليس مجرد علم، لكنه يتضمن إثبات صفة القوة، والدليل: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]، (ذو القوة) فهذا إثبات لصفة القوة، خلافاً لما يصنعه الملاحدة من الجهمية، فعلم أن القوي من أسمائه ومعناه: الموصوف بالقوة، ذو القوة، كذلك قوله تبارك وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر:10]، (لله العزة) والعزيز اسم من أسماء الله، فالعزيز هو من له العزة، فلولا ثبوت القوة والعزة له لم يسم قوياً وعزيزاً سبحانه وتعالى، ولذلك قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية: أسماؤه أوصاف مدح كلها مشتقة قد حملت لمعاني إياك والإلحاد فيها إنه كفر معاذ الله من كفران وحقيقة الإلحاد فيها الميل للـ ـإشراك والتعطيل والكفران(98/11)
تشبيه صفات الله بصفات خلقه
النوع الرابع من صور الإلحاد في أسماء الله الحسنى: تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى الله عما يقول المشبهون علواً كبيراً، فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطلة، يعني: كما أن المعطلة الجهمية وغيرهم عطلوا أسماء الله وصفاته الكاملة وجحدوا معانيها، فهؤلاء في الجهة الأخرى شبهوها بصفات خلقه، فجمعهم الإلحاد، وتفرقت بهم طرق هذا الإلحاد، فهؤلاء ألحدوا بأن شبهوا الله بخلقه، وأولئك ألحدوا بأن عطلوا أسماء الله وصفاته، فهؤلاء شبهوا الخالق بالمخلوق حتى كأنهم عبدوا صنماً، والجهمية نفوا صفات الخالق وعطلوها حتى كأنهم عبدوا عدماً، حتى وصل الأمر إلى أن بعض الجهمية تطاول وغلا ورمى الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه بالتجسيم، حتى قال ثمامة بن الأشرس -وهو من رؤساء الجهمية- عليه من الله ما يستحق: ثلاثة من الأنبياء مشبهة! موسى حيث قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف:155]، وعيسى حيث قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، ومحمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: (ينزل ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا)، إلى آخر الحديث.
وجُلُّ المعتزلة تُدخِل عامة الأئمة، فأغلب المعتزلة ينظرون إلى هؤلاء الأئمة بأنهم مشبهون، وهؤلاء الأئمة مثل مالك وأصحابه والثوري وأصحابه والأوزاعي وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم في قسم المشبهة، فهم يزعمون أن من قال إن الله فوق العرش فقد اعتقد أنه محدود ومحصور، والحدود لا تكون إلا لمخلوق فهذا القول تشبيه!! والسبب أنهم هم الذين شبهوا؛ فلذلك استفظعوا، أما لو لم يشبهوا لأثبتوا الصفة كما تليق بالله، ولما حصل هذا الإلحاد، يقولون أيضاً: إن من قال: إن لله علماً وقدرة وكلاماً فقد جعل الله محلاً للأعراض، وهي لا تقوم إلا بالجواهر فهو مشبه، إلى آخر ما يرمون به الرسل وأتباع الرسل من الألقاب التي يفترونها، تماماً كما كانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم، تارة مجنوناً وتارة شاعراً وتارة كاهناً وتارة مفترياً.(98/12)
تسمية الأصنام بأسماء الله الحسنى
النوع الأول: أن بعض الكفار سموا الأصنام بالأسماء الحسنى، فسموا الأحجار والأشجار والأوثان التي كانوا يعبدونها: آلهة، قال تعالى: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5]، وسموا اللات من الإلهية، يعني: على أنه مؤنث رب الجلالة والعياذ بالله، وسموا العزى من العزيز، ومناة من المنان، فهذا إلحاد؛ لأنهم عدلوا ومالوا بأسمائه الحسنى إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة.(98/13)
وصف الله تعالى وتسميته بالنقائص
النوع الثاني من صور الإلحاد في الأسماء الحسنى: وصف الله تبارك وتعالى وتسميته بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص، كقول اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم الدين: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، والعياذ بالله! فهذا إلحاد في أسماء الله أن يوصف الله بما يتضمن النقص، وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق الخلق!! وقولهم لعنهم الله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]، وأمثال ذلك من الإلحاد في أسمائه وصفاته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد نزه الله نفسه عما وصفوه به من الفقر والبخل والإعياء، فالإعياء من جنس العجز المنافي لتمام القدرة، صحيح أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض، وخلق المخلوقات كلها، لكن لم يمسه أدنى تعب أو إعياء معاذ الله، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، لم يمسه نصب أو إعياء؛ لأن الإعياء هذا من جنس العجز الذي ينافي كمال القدرة، والفقر من جنس الحاجة من الغير الذي يتنافى مع كمال الغنى، والبخل من جنس منع الخير وكراهة الإعطاء المنافي لكمال الرحمة والإحسان والقدرة والرحمة.(98/14)
تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها
النوع الثالث من صور الإلحاد في أسماء الله الحسنى: تعطيل الأسماء عن معانيها، وجحد حقائقها، وأنها مجرد أعلام فقط، يعني: أسماء لا معنى وراءها، لا تتضمن المعاني التي اشتقت منها، فهي مجرد أعلام، وعليه يكون الجبار مثل الرحيم مثل العزيز، كلها مجرد أعلام مع جحد معانيها وحقائقها، وهذا مذهب الجهمية وأتباعهم، فيطلقون على الله سبحانه وتعالى اسم السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم والمريد، لكن يقولون: هذه أعلام مجردة لا معنى وراءها، فهم يقولون: سميع بلا سمع! عليم بلا علم! مع أن الله تعالى يقول: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، فهم يفصلون الأسماء عن المعاني، فالله اسمه السميع بلا سمع، البصير بلا بصر، الحي بلا حياة، الرحيم بلا رحمة، المتكلم أو المريد بلا إرادة ولا كلام، لا تقوم به هذا الصفات، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلاً وشرعاً ولغة وفطرة، وهو يقابل إلحاد المشركين، فإلحاد المشركين وقع بأنهم خلعوا أسماء الله وصفاته وجعلوها لآلهتهم، أما هؤلاء فقد سلبوه صفات كماله وجحدوها وأبطلوها، فكلاهما ملحد في أسمائه.
ثم الجهمية وطوائفها متفاوتون في هذا الإلحاد، فمنهم الغالي والمتوسط والمنكوب، وكل من جحد شيئاً مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ألحد في ذلك فليستقل أو ليستكثر، وإذا كان الله سبحانه وتعالى أنكر على المشركين حينما جحدوا اسماً واحداً فقط من أسماء الله، وهو الرحمن، كما قال عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60]، مع أنهم كانوا يعرفون الله باسمه الرحمن، لكنه الجحود والنكران، وقال أيضاً: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]، فإذا كان هذا الإنكار في جحد اسم واحد فقط فكيف بحال الجهمية الذين جحدوا جميع صفات الله وأسمائه؟! نعوذ بالله من الخذلان؛ لذلك فإن العلماء يعتبرون الجهمية النفاة المحضة الذين ينفون كل أسماء الله وصفاته كفاراً أكثر من المشركين في شركهم وفي كفرهم، كما سبق أن تكلمنا في ذلك، وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله تعالى سبب ضلال الجهمية وأتباعهم فقال: سبب هذا الضلال أن لفظ التمثيل والتشبيه لفظ فيه إجمال، وهؤلاء أنفسهم وجماهير العقلاء يعلمون أنه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك، ونفي ذلك القدر المشترك ليس هو نفي التمثيل والتشبيه الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه، فالتشبيه الذي قام الدليل على نفيه: ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله سبحانه وتعالى، إذ هو سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ولهذا اتفق جميع طوائف المسلمين وغيرهم في الرد على هؤلاء الملاحدة، وبيان أنه ليس كل ما اتفق شيئان في شيء من الأشياء يجب أن يكون أحدهما مثلاً للآخر، يعني: حينما يوصف شخص بأنه عالم، وشخص آخر بأنه عالم، وثالث بأنه عالم، لا يقتضي ذلك تساويهم في درجة العلم، بل يتفاوتون؛ فما بالك إذا وصف المخلوق بالعالم ووصف الله سبحانه وتعالى بالعالم؟! لا شك أن علم الله يختلف تماماً عن علم المخلوقين، فالقاعدة: أن تماثل الأسماء لا يقتضي تماثل المسميات، فالعبد عالم والله عالم، لكن هناك فرق كبير هو تمام الفرق بين الخالق والمخلوق في هذه الصفات، كذلك يقال في: كريم حكيم عليم، وغير ذلك من هذه الأسماء.
ولا يجوز أن ينفى عن الخالق سبحانه كل ما تكون فيه موافقة لغيره في معنىً ما، فإنه يلزم منه أن يكون عدماً بالكلية كما فعله هؤلاء الملاحدة، بل يلزم من ذلك نفي وجوده ونفي عدمه، وهو غاية التناقض والإلحاد والكفر والجهل، انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
فالجهمية هم نفاة الأسماء والصفات، ويقولون: إنما يسمى بها مجازاً! أو المقصود بها غيره! أو لا يعرف معناه! وأصل تلبيسهم هو: أن إطلاق هذه الأسماء على الله فيه تشبيه له بخلقه، ولذا فيجب نفي الأسماء عنه، هذا هو مبلغهم من العلم والعقل، أو بتعبير أدق من الجهل والغباوة! فإنهم قالوا: إننا لو أثبتنا هذه الأسماء لله سبحانه وتعالى، فمعنى ذلك أننا نشبه الله بخلقه، فإذا قلنا: إن الله هو العليم أو العالم، فمعنى ذلك أن فيها صفة لله، فإذاً: هذا معناه أن الله يشبه خلقه! فلا يتحقق التنزيه في زعمهم إلا بنفيه؛ وكل اسم من أسماء الله هو بلا معنى، فهو عليم بلا علم في زعمهم، وهكذا في باقي الصفات.
وقال الجهم بن صفوان وهو إمام هؤلاء الجهمية الضلال: لا يجوز أن يوصف الباري سبحانه بصفة يوصف بها خلقه؛ لأن ذلك بزعمه يوجب تشبيهه، وهذا هو السبب في أنهم نفوا جميع أسماء الله وصفاته.(98/15)
أنواع أوصاف الله عز وجل
نضيف بعض التنبيهات والفوائد المتعلقة بقواعد الاعتقاد في أسماء الله عز وجل الحسنى: أما التنبيه الأول فهو: أن ما يوصف به الرب سبحانه وتعالى أو يخبر عنه أقسام: أولاً: ما يرجع إلى نفس الذات، كقولك: ذات، وموجود، وشيء.
ثانياً: ما يرجع إلى صفات معنوية، كالعليم والقدير والسميع والبصير، وهذه تسمى صفات ذاتية.
ثالثاً: ما يرجع إلى أفعال الله سبحانه وتعالى، كالخالق والرازق، وهذه تسمى صفات فعلية، ومنها ما يرجع إلى التنزيه المحض، فما يوصف به الله سبحانه وتعالى منه ما يرجع إلى التنزيه المحض، ولابد من تضمنه ثبوتاً؛ إذ لا كمال في العدم المحض.
والتنزيه هو: نفي ما لا يليق بالله عز وجل من الصفات أو الأسماء، والنفي المحض لا يعتبر كمالاً إلا إذا تضمن ثبوتاً، فمثلاً: إذا أتيت إلى الملك وأردت أن تمدحه -ولله المثل الأعلى- فطفقت تقول له: أنت لست جاهلاً، ولست جباناً، ولست بخيلاً، ولست فاسقاً، ولست زبالاً، ولست خادماً، ولست إلى آخر هذه الصفات كلها، فهل هذا يتضمن مدحاً؟
الجواب
لا؛ لأن النفي المحض هو صفة العدم؛ فالعدم هو الذي يوصف بأنه لا كذا ولا كذا ولا كذا.
أما النفي في صفات الله سبحانه وتعالى فإنه لا يحصل تنزيه الله عما لا يليق عن طريق هذه الصفات إلا إذا تضمنت إثبات الكمال، فلا كمال في العدم المحض.
ومن أسماء الله سبحانه وتعالى التي تضمنت هذا التنزيه: القدوس والسلام، فهذه الأسماء من الأسماء التي تضمنت تنزيهاً يتضمن أمراً ثبوتياً، وليس نفياً محضاً.
ومن أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته ما يدل على جملة أوصاف عديدة لا تختص بصفات معينة، فالعزيز دل على معاني العزة، يعني: أن الاسم نفسه يدل على معانٍ كثيرة جداً، نحو: اسم المجيد، والعظيم، والصمد؛ فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال، ولفظه يدل على هذا؛ لأن المجيد لغة هو: موضوع للسعة والكثرة والزيادة وتعدد الأوصاف وشمولها وكمالها، ولذلك قال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15]، لسعة العرش وعظمته، والعظيم أيضاً من اتصف بصفات كثيرة من صفات الكمال، وكذلك الصمد.
أيضاً مما يوصف به الله سبحانه وتعالى: صفة تحصل من اقتران أحد الوصفين مع الآخر، هذه صفة تحصل من اقترانهما معاً؛ وذلك قدر زائد على مفرديهما، يعني: كل اسم على حدة له معنى، لكن إذا اجتمعا واقترنا فإنه يدل على صفة زائدة تحصل من اقترانهما معاً، كقولك: الغني الحميد، العفو القدير، الحميد المجيد ونحو ذلك، فإن الغنى من صفات الكمال والحمد كذلك، أما اجتماع الغنى مع الحمد فله ثناء من غناه، وثناء من حمده، وثناء من اجتماعهما، وكذلك نظائرهما، فالغني وحده له معنى، والحميد وحده له معنى أيضاً، لكن اجتماع الغني والحميد يأتي بمعنى زائد على أحد الاثنين حينما يأتي منفرداً.(98/16)
باب الإخبار عن الله سبحانه وتعالى
باب الإخبار عن الله سبحانه وتعالى أوسع من باب أسمائه وصفاته، فهناك ألفاظ وعبارات يخبر بها عن الله هي أوسع من حدود الأسماء والصفات، كالموجود والقائم بنفسه والشارع، فهذا مما يخبر به عن الله عز وجل، ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فيقال: الشارع الحكيم كذا وكذا.
وهذا ليس من أسماء الله وصفاته، وإنما من باب الإخبار عن الله الذي هو أوسع من باب الأسماء والصفات، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في درء تعارض العقل والنقل: ثم أنت تسميه قديماً وواجب الوجود وذاتاً ونحو ذلك مما لم يرد به الشرع، والشارع يفرق بين ما يدعى به من الأسماء، فلا يدعى إلا بالأسماء الحسنى، وبين ما يخبر بمضمونه عنه، فالدعاء لا يكون ولا يحصل إلا بالأسماء الحسنى، كما أمر الله سبحانه وتعالى: {فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180].
فكل ما لا يليق أن يدعى الله به فهو قطعاً ليس من الأسماء الحسنى.
هذا أمر.
الأمر الثاني: ما يُخبر بمضمونه عنه من الأسماء لإثبات معنى يستحقه نفاه عنه ناف.
كما أنه من نازعك في قدمه أو وجوب وجوده قلت مخبراً عنه بما يستحقه: إنه قديم وواجب الوجود، وإن كانت هذه ألفاظ كلامية، والأولى استعمال الاسم الشرعي الذي هو الأول.
وقال شيخ الإسلام: الفرق بين مقام المخاطبة ومقام الإخبار فرق ثابت في الشرع والعقل، مقام المخاطبة هو دعاء الله سبحانه وتعالى، فلا يدعى إلا بالأسماء الحسنى، لكن مقام الإخبار عن الله عز وجل أوسع من مقام التقيد بالأسماء الحسنى، وبه يظهر الفرق بين ما يدعى الله به من الأسماء الحسنى، وبين ما يخبر به عنه عز وجل مما هو حق ثابت؛ لإثبات ما يستحقه سبحانه من صفات الكمال، ونفي ما تنزه عنه عز وجل من العيوب والنقائص؛ فإنه الملك القدوس السلام سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]، مع أنه قال: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19]، فأطلق عليه هنا وأخبر عنه بأنه شيء سبحانه وتعالى، لكن هل يقال في الدعاء: يا شيء؟ لا يقال في الدعاء: يا شيء؛ لأنه ليس من أسمائه الحسنى، لكن هذا من باب الإخبار عن الله عز وجل، أما باب مخاطبة الله ودعاء الله فلا يكون إلا بما هو ثابت من الأسماء الحسنى.
وقد وضح هذه الجملة الدكتور عمر الأشقر حفظه الله تعالى في كتابه في الأسماء والصفات، حيث يقول: ليس كل ما أخبرت به النصوص فهو من أسمائه تبارك وتعالى.
أي: أن النصوص حينما تخبر عن الله تخبر بعبارات أوسع من مجرد حدود الأسماء الحسنى.
يقول: فليس كل ما تخبر به النصوص عن الله يعد من أسمائه الحسنى؛ والسر في ذلك: أن الأخبار يتوسع فيها ما لا يتوسع في الأسماء، خاصة إذا كانت الأسماء تستعمل للمخاطبة.
أي: مخاطبة الله، ودعاء الله، وسؤال الله، فالقاعدة: أنه لا يسأل العبد ربه إلا بالأسماء الحسنى، لكن يخبر عنه بأشياء أوسع من الأسماء الحسنى.
فالله أخبر عن نفسه تبارك وتعالى أنه كثير العفو قابل التوب فالق الإصباح فالق الحب والنوى محب المؤمنين مبغض الكافرين فعال لما يريد عدو الكافرين منعم متفضل مكرم مقلب القلوب ونحو ذلك، فجعلها بعض أهل العلم من أسمائه، والعلماء يتوسعون في الأخبار، فيجيزون إطلاق اسم: الموجود والشيء والثابت على الله من باب الأخبار، وإن لم ترد في الكتاب والسنة، كما يقول المفسرون -مثلاً- في تفسير لفظ اسم الحق سبحانه وتعالى: الثابت الدائم.
يقول ابن القيم: ما يدخل في باب الإخبار عنه تبارك وتعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، كالشيء والموجود والقائم بنفسه؛ فإنه يخبر به عنه، ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وكثير مما عده أهل العلم من أسمائه الحسنى مما ورد في الكتاب والسنة ومما لم يرد فيهما هو من باب الإخبار لا من باب الأسماء، وهذا أمر مهم نبه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقد أفاد أنه لا يجوز الإخبار عن الله تعالى باسم سيء.
يقول رحمه الله: يفرق بين دعائه والإخبار عنه، فلا يدعى إلا بالأسماء الحسنى، وأما الإخبار عنه فلا يكون باسم سيء، لكن قد يكون باسم حسن أو باسم ليس بسيئ، وإن لم يحكم في حسنه مثل: اسم شيء، وذات، وموجود.(98/17)
أسماء الله عز وجل توقيفية
تنبيه آخر أيضاً يتعلق بقواعد فهم الأسماء الحسنى وهو: أن أسماء الله سبحانه وتعالى أسماء توقيفية، وهذا هو مذهب الجمهور من أهل السنة والجماعة، أن أسماء الله توقيفية لا يجوز تسميته بما لم يرد به سمع، يعني: أنه لابد أن نقتصر على ما ثبت في أسماء الله الحسنى في القرآن وفي السنة فقط؛ وذلك أن أسماء الله تعالى وصفاته من الأمور الغيبية التي لا يمكن لنا أن نعرفها إلا عن طريق الرسل الذين يطلعهم الله على ما شاء من الغيب، ثم هم يبلغونه للناس، ولا يجوز القياس فيها أو الاجتهاد؛ لأن هذا الباب ليس من أبواب الاجتهاد.
فالمنهج الصحيح لمعرفة توحيد الله عز وجل وأسمائه وصفاته هو الاعتماد على الوحي الذي أوحاه الله سبحانه وتعالى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمره باتباعه، فقال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19].
وقال: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الأنعام:106].
وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
وقال عز وجل: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3].
وقال أيضاً: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158].
فالعقل ليس قادراً على معرفة أسماء الله وصفاته، وهذا الكلام رد على من يقول قولاً مطلقاً: إن الله سبحانه وتعالى يُعرف بالعقل، وهذا غير صحيح، فالعقل غير قادر على معرفة الله سبحانه وتعالى، العقل هو: آلة للتأمل في مخلوقات الله؛ للتوصل بها إلى عظم صفاته وتوحيده، لكن معرفة الأسماء الحسنى وما يليق بالله وما لا يليق لا يستقل العقل بمعرفته، وإنما يعرف الله عز وجل بالوحي وبالسمع، وبالإخبار وبالتلقي عن طريق الوحي، وليس بالعقل كما يزعم بعض الناس.
فلو كان العقل قادراً على معرفة أسماء الله وصفاته وما يجوز أن يوصف به مما لا يجوز لما احتاج الناس إلى الوحي، ولأصبح إرسال الرسل إلى الناس من العبث، تعالى الله وتقدس عما يقول الظالمون علواً كبيراً! وتسمية الله سبحانه بما لم يرد به الدليل يدخل في الإلحاد في أسمائه الحسنى، وقد يقع صاحبه في التشبيه؛ لأن المشبهة وصفوا الله بما لم يأذن به.
قال أبو إسحاق الزجاج: لا يجوز لأحد أن يدعو الله بما لم يصف به نفسه.
وقال أبو سليمان الخطابي: ومن علم هذا الباب -أي: باب الأسماء والصفات- وما يدخل في أحكامه ويتعلق به من شرائط أنه لا يتجاوز فيها التوقيف، ولا يستعمل فيها القياس، فيلحق بالشيء نظيره في ظاهر وضع اللغة ومتعارف الكلام، كالجواد.
يعني: أن الله سبحانه وتعالى جواد، فهل يجوز أن يقاس عليه السخي، فيوصف الله سبحانه وتعالى بأنه سخي؟
الجواب
لا؛ لأن هذا قياس، والقياس دليل عقلي، فالأسماء الحسنى لا يجوز فيها القياس، بل هي توقيفية، بمعنى: أنه لابد أن نقف حيث أوقفنا الشارع في إثبات الأسماء الحسنى، فالجواد لا يجوز أن يقاس عليه السخي وإن كانا متقاربين في ظاهر الكلام؛ وذلك أن السخي لم يرد به الشرع كما ورد بالجواد.
والقوي لا يقاس عليه الجلد، كما تقول: رجل جلد، وتقول: رجل قوي، لكن لا يجوز أبداً في حق الله سبحانه وتعالى أن تقول: الجلد، وإن كان يتقارب الجلد والقوي في نعوت الآدميين؛ لأن باب التجلد يدخله التكلف والاجتهاد.
ولا يقاس على القادر المطيق ولا المستطيع؛ فالذي ورد في النقل هو القادر أو القدير، لذلك فلا يجوز أن يقيس عليه شخص لفظ المستطيع، أو المطيق.
وفي أسمائه تعالى العليم، وهو يدل على صفة العلم، لكن لا يجوز قياساً على العلم والعليم أن يسمى الله عز وجل عارفاً؛ لما تقتضيه المعرفة من تقديم الأسباب التي بها يتوصل إلى علم الشيء.
وكذلك الله سبحانه وتعالى لا يوصف بالعاقل، وهذا الباب يجب أن يراعى ولا يغفل، فإن فائدته عظيمة، والجهل به ضار، وبالله التوفيق.
قال السفاريني رحمه الله تعالى في نظمه للعقيدة: لكنها في الحق توقيفية لنا بذا أدلة وفية أي: لكن الأسماء الحسنى في المذهب الحق توقيفية، وهذا هو مذهب الجمهور كما ذكرنا، ولا يجوز الزيادة فيها بالعقل ولا بالاجتهاد.
قال في شرحها: لكنها: أي الأسماء الحسنى، في القول الحق المعتمد عند أهل الحق توقيفية بنص الشارع، وورود السمع بها، فمما يجب أن يعلم أن علماء السنة اتفقوا على جواز إطلاق الأسماء الحسنى والصفات العلى على الباري جل وعلا إذا ورد بها الإذن من الشارع، وعلى امتناعه على ما ورد المنع عنه.
وقال الغزالي: اتفق على أنه لا يجوز لنا أن نسمي الرسول باسم ما سماه الله به -أي: لا يجوز للواحد أن يسمي الرسول الله صلى الله عليه وسلم اسماً لم يسمه الله به، بل لابد أن يسمى الرسول بما سماه الله به- ولا باسم ما سمى هو نفسه به، فلا يجوز أن تسمي الرسول عليه الصلاة والسلام باسم لم يسمه الله إياه، ولا باسم هو نفسه عليه الصلاة والسلام لم يسم نفسه به، فإذا لم يجز ذلك في حق الرسول، بل في حق أحد من آحاد الناس فهو في حق الله تعالى أولى.
وأما المعتزلة والكرامية فقالوا: إن اللفظ إذا دل العقل على أن معناه ثابت في حق الله سبحانه وتعالى جاز إطلاق ذلك اللفظ على الله تعالى، سواء ورد التوقيف به أو لم يرد.
هذه بعض القواعد المتعلقة بالأسماء الحسنى.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(98/18)
معتقد أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات [2]
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن لله عز وجل تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر سبحانه يحب الوتر، وقد اختلف العلماء في معنى الإحصاء الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بين هذه الأسماء الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله عز وجل به أجاب، وإذا سئل أعطى، وقد اختلف فيه أيضاً، فعلى العبد أن يدعو الله سبحانه وتعالى بما شاء من أسمائه وصفاته.(99/1)
المسائل المتعلقة بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً)
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لا سيما عبده المصطفى، وآله المستكملين الشرفا.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لله تسعة وتسعون اسماً، مائة إلا واحداً، لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر) وفي رواية: (من أحصاها دخل الجنة).
هذا الحديث فيه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لله تسعة وتسعون اسماً، مائة إلا واحداً) هل المراد به حصر الأسماء الحسنى في هذا العدد أم أنها أكثر من ذلك؟ لكنها اختصت بأن من حفظ هذه التسعة والتسعين دخل الجنة.(99/2)
معنى الإحصاء لأسماء الله الحسنى
قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحصاها) يحتمل وجوهاً: الأول: أن يعدها حتى يستوفيها حفظاً، ويذكر ربه بها، ويثني عليه بجميعها، كقوله تعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:28].
واستدل له الخطابي بقوله صلى الله عليه وسلم-كما في الرواية الأخرى-: (من حفظها دخل الجنة)، وقال البخاري وغيره من المحققين معناه: حفظها، وهذا هو الأظهر لثبوته نصاً في الخبر، فقوله: (من أحصاها) فسرها قوله في الروايات الأخرى: (من حفظها دخل الجنة)، ولذلك قال ابن الجوزي: إن المراد بالإحصاء العد.
يعني: من عدها ليستوفيها حفظاً.
وإن كان كلمة: (حفظها) لا يلزم منها تعيين السرد عن ظهر قلب، بل يحتمل أيضاً الحفظ المعنوي كقوله صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك).
وقال الأصيلي: ليس المراد بالإحصاء عدها فقط؛ لأنه قد يعدها الفاجر، وإنما المراد العلم بها.
القول الثاني: أن المراد بالإحصاء: الإطاقة، كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل:20]، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصو)، أي: لن تبلغوا كل الاستقامة، فيكون المعنى: (من أحصاها) من أطاق الأسماء الحسنى، وأحسن مراعاته لها، وأن يعمل بمقتضاها، وأن يعتبرها فيلزم نفسه بواجبها، فإذا قال مثلاً: يا رحمان! يا رحيم! تذكر صفة الرحمة، واعتقد أنها من صفات الله سبحانه، فيرجو رحمته ولا ييأس من مغفرته، فإذا قال: السميع البصير، علم أنه يراه ويسمعه، وأنه لا تخفى عليه خافية، فيخافه في سره وعلنه، وفي كافة أحواله.
وإذا قال: الرزاق، اعتقد أنه المتكفل برزقه، يسوقه إليه في وقته؛ فيثق بوعده، ويعلم أنه لا رازق له سواه إلى آخره.
وقال أبو عمر الطلمنكي: من تمام المعرفة بأسماء الله تعالى وصفاته التي يستحق بها الداعي والحافظ ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: المعرفة بالأسماء والصفات، وما تتضمن من الفوائد، وتدل عليه من الحقائق، ومن لم يعلم ذلك لم يكن عالماًَ بمعاني الأسماء، ولا مستفيداً بذكر ما تدل عليه من المعاني.
القول الثالث: أن الإحصاء بمعنى: العقل والمعرفة، فيكون معناه: من عرفها وعقل معانيها، وآمن بها دخل الجنة، وهو مأخوذ من الحصاة، وهي العقلة، والعرب تقول: فلان ذو حصاة، أي: ذو عقل ومعرفة بالأمور.
قال القرطبي: المرجو من كرم الله تعالى أن من حصل له إحصاء هذه الأسماء على إحدى هذه المراتب مع صحة النية أن يدخله الله الجنة، وهذه المراتب الثلاثة هي للسابقين والصديقين وأصحاب اليمين.
القول الرابع: أن يكون معنى الحديث: أن يقرأ القرآن حتى يختمه فيستوفي في هذه الأسماء كلها في أثناء التلاوة، فكأنه قال: من حفظ القرآن وقرأه فقد استحق دخول الجنة.
والمراد: أن بعض العلماء قالوا: (من أحصاها دخل الجنة) أي: من حفظ القرآن دخل الجنة؛ لأن إحصاء الأسماء الحسنى يكون عن طريق قراءة القرآن كله.
والجواب على هذا: إن بعض الأسماء الواردة هي موجودة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أسماء زائدة عن القرآن.(99/3)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وهو وتر يحب الوتر)
قوله صلى الله عليه وسلم: (وهو وتر يحب الوتر)، الوتر: الفرد، ومعناه في صفة الله جل وعلا: الواحد الذي لا شريك له، ولا نظير له، المتفرد عن خلقه، البائن منهم بذاته وصفاته.
فهو سبحانه وتر، وجميع خلقه شفع، يعني: خلقوا أزواجاً، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات:49]، فظاهرة الزوجية لازمة للمخلوقات، ففي الإنسان والطيور والحيوانات الذكر والأنثى، وفي كل شيء، ففي الكهرباء يوجد فيها سالب وموجب، وظاهرة الزوجية موجودة في النباتات، والأنهار يوجد فيها الذرات السالبة والموجبة، فإذاً: ظاهرة الزوجية موجودة في كل شيء، فالله وتر لا ثاني له، أما خلقه فهم أزواج، وشفع، قال تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:3].
فالمراد: أن الله يحب الوتر من كل شيء، وإن تعدد انتفى منه الوتر؛ ولذلك أمر بالوتر في كثير من الأعمال والطاعات، فالصلوات عددها خمس، فهي وتر، وكذلك وتر الليل، وأعداد مرات الطهارة، وتكفين الميت وتراً، وفي كثير من المخلوقات كالسماوات والأرض، فهذا ما تيسر من الفوائد المتعلقة بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر)، وفي رواية: (من أحصاها دخل الجنة).(99/4)
خلاف العلماء في المراد بقوله: (إن لله تسعة وتسعين اسماً)
اختلف العلماء في المراد بقوله: (إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً)، ومائة إلا واحداً تساوي تسعة وتسعين، فهذا التكرار ما هو إلا للتأكيد، كما في قول الله سبحانه وتعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196].
وكما في قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل:51].
فقوله: (مائة إلا واحداً) تكرار بالتأكيد، بعض الناس ذهبوا إلى أن الأسماء الحسنى تنحصر في هذه التسعة والتسعين، والبعض قالوا: بل هي أكثر من ذلك، لكن فائدة اختصاص التسعة والتسعين بالذكر هو: أن في هذه التسعة والتسعين بالذات: من أحصاها دخل الجنة.
وذهب جمهور العلماء إلى هذا المذهب الثاني، ونقل النووي اتفاق العلماء عليه، وقال: ليس في الحديث حصر أسماء الله تعالى، وليس معناه: أنه ليس له اسم غير هذه التسعة والتسعين، وإنما المقصود: أن هذه الأسماء من أحصاها دخل الجنة.
فالمراد: الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها، لا الإخبار بحصر الأسماء، إذاً: ليس مقصود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الصيغة حصر أسماء الله الحسنى في التسعة والتسعين، وإنما مقصوده الإخبار عن هذا الثواب لمن أحصاها، وليس مقصوده صلى الله عليه وسلم أن يحصر الأسماء الحسنى في هذا العدد.
وقال الإمام أبو سليمان الخطابي: إنما هو بمنزلة قوله: إن لزيد ألف درهم أعدها للصدقة، هل يعني ذلك أنك تقصد ثروة زيد في أنها تساوي ألف درهم؟ لا، أنت تقصد أن الذي أعده للصدقة محدود بهذا الألف، وهذا لا ينفي أن له مالاً آخر غير هذا.
وكقولك: إن لعمر مائة ثوب من زاره خلعها عليه، ليس المقصود أنه ليس له من الثياب غير هذه الثياب المذكورة مائة ثوب، ولكن المقصود: أن هذه هي التي اختصها بالإهداء، فمن زاره خلعها عليه، فدلالة هذين المثالين: أن الذي أعده زيد من الدراهم هو للصدقة، وأن الذي أعده عمر من الثياب للهدية مائة ثوب، والذي يدل على صحة هذا التأويل الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك) يعني: سواء كان هذا الاسم سميت به نفسك، (أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فهذا يدل على أن لله سبحانه وتعالى أسماءً لم ينزلها في كتابه، حجبها عن خلقه ولم يظهرها لهم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد ما نقل كلام الخطابي: وأيضاً فقوله: (إن لله تسعة وتسعين) تقيده بهذا العدد، بمنزلة قوله تعالى: ((تِسْعَةَ عَشَرَ))، يعني: قال تعالى في ملائكة سقر: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30]، فلما استقلوهم أنزل الله تعالى قوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، فإنه لا يعلم أسماءه إلا هو أولى، يعني: إن كان جنود الله -وهي الملائكة- لا يعلمها إلا هو فأولى ثم أولى أن أسماء الله لا يعلمها كلها إلا هو سبحانه.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في تعارض العقل والنقل: والصواب الذي عليه الجمهور أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) معناه: أن من أحصى التسعة والتسعين من أسمائه دخل الجنة، ليس مراده أنه ليس إلا تسعة وتسعون اسماً، ثم ذكر حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه الشاهد.
وقال: وثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحصي ثناءً على الله، ولو أحصى جميع أسمائه لأحصى صفاته كلها، فكان يحصي الثناء عليه في هذه الحالة؛ لأن صفاته إنما يعبر عنها بأسمائه؛ لأن الأسماء هي وسيلة التعبير عن الصفات.
فقول النبي عليه السلام: (لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، اعتراف بالعجز عن توفية الله سبحانه وتعالى ما يستحقه من الثناء والحمد، ولجوء إلى التفويض، وأن هذا الثناء الذي يستحقه الله هو مفوض إلى الله؛ لأنه لا يحصي العد مهما مدح الله سبحانه وتعالى عز وجل وأثنى عليه، إنما الله كما أثنى على نفسه، ولا يحصي أحد الثناء الذي يستحقه الله عز وجل، ولو كان النبي عليه الصلاة والسلام أحصى جميع أسمائه سبحانه وتعالى فإنه يحصي بالتالي كل صفاته، فكما أنه لا يحصي ثناءً عليه فهو لا يحصي كل صفاته، وبالتالي لا يحصي كل أسمائه التي يعبر عنها بأسمائه.
خالف ابن حزم الجمهور في هذه المسألة، فذهب إلى أن عدد أسماء الله الحسنى ينحصر في التسعة والتسعين، ورد عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح فقال: وابن حزم ممن ذهب إلى الحصر في العدد المذكور، وهو لا يقول بالمفهوم أصلاً؛ لأنه لا يعترف بدليل الخطاب، أو مفهوم المخالفة، لكنه احتج -ليس بمفهوم تسعة وتسعين في قوله: (إن لله تسعة وتسعين اسماً) - بقوله: (مائة إلا واحداً)، قال: لأنه لو جاز أن يكون له اسم زائد على العدد المذكور لزم أن يكون مائة.
قال الحافظ: وهذا الذي قاله ليس بحجة؛ لأن الحصر المذكور عندهم باعتبار الوعد الحاصل لمن أحصاها.
المقصود بالحصر: (إن لله تسعة وتسعين اسماً) أن الثواب يختص بمن أحصاها.
فمن ادعى أن الوعد وقع لمن أحصى زائداً على ذلك أخطأ، ولا يلزم من ذلك ألا يكون هناك اسم زائد.
أي: هذا الحديث لا ينفي أن لله أسماءً أخرى زائدة على ذلك، ولكن الحديث سيق للإخبار عن ثواب من أحصى أسماءه، والراجح والله تعالى أعلم: تفويض علم سر هذا العدد بالذات إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لم يطلعنا على ذلك، فهو كأعداد ركعات الصلوات، والصلوات نفسها وغير ذلك مما علمه عند الله عز وجل.(99/5)
الأحاديث الواردة في تعيين اسم الله الأعظم
عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب)، وفي رواية: (فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى).
وهذا الحديث إسناده صحيح أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن أبي شيبة في المصنف، وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وفي بعض ألفاظه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وإذا رجل قد قضى صلاته وهو يتشهد فقال: اللهم إني أسالك يا ألله! بأنك الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد غفر لك! قد غفر لك! قد غفر لك!)، إسناده صحيح، لكن لم يرد فيه أن هذا هو الاسم الأعظم.
وفي لفظ آخر عن بريدة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسالك بأنك أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فقال: لقد سأل الله باسمه الأعظم والأكبر، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى).
على أي الأحوال: فحديث بريدة رضي الله تعالى عنه هو من الروايات الصحيحة التي ورد فيها تعيين الاسم الأعظم لله سبحانه وتعالى.
ومن خصائص الاسم الأعظم أن الإنسان إذا دعا الله به أجابه، وإذا سأله به أعطاه، يعني: إذا توسل إلى الله سبحانه وتعالى باسمه الأعظم أجابه، وعندما تذكر كلمة الاسم الأعظم تشتد حاجتنا إلى الوقوف عندما علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب، وإلا فلو فتح الباب لاستعمال كلمات الاسم الأعظم لرأينا ضلالات وطامات الصوفية الذين يزعمون أن هناك علماً خفياً لا يفشى سره للعامة، وأن موضوع الاسم الأعظم كغيره من أسرار الولاية يذكر في السر لسلالة معينة من الأولياء، عن طريق عهود ومواثيق وصلاة معينة مكتومة، ولا تظهر للناس إلى غير ذلك من ضلالات الصوفية المعروفة.
وليس في ديننا أسرار ولا طبقية دينية معينة تحتكر بعض الخواص وبعض الأسرار والأمور، فالمسلم بريء تماماً ولا يعرف في دين الإسلام أسرار، وما كتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً من الوحي كما هو معلوم ومقطوع به، فكلمة (الاسم الأعظم) عند الصوفية لها إيحاءات ودلالات، ولها أشياء تنفر منها القلوب إذا سمعت، لن نخوض في كلام الصوفية وضلالاتهم في هذا الباب، ولكننا فقط نريد أن نستجلي الحقيقة من مشكاة النبوة.
فهذه إحدى الروايات التي صح فيها تعيين الاسم الأعظم، وهو ذلك الدعاء الذي دعا به هذا الصحابي الجليل: (اللهم إني أسالك بأني أشهد أنك أنت الله) إذاً: هذا توسل بأسماء الله سبحانه وتعالى وكتابه، بتعبير آخر في بعض الروايات: (اللهم إني أسالك بأنك أنت الله)، ففي هذه الحالة هذا توسل بالأسماء والصفات: (اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد) إلى آخره.
وهناك لفظ وهو: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله)، توسل بالعمل الصالح، فهو توسل بشهادته هو، فهذا نوع من أنواع التوسل المشروع.
وهناك نوع آخر: وهو التوسل بدعاء الرجل الصالح إلى الله سبحانه وتعالى.
إذاً: هذه إحدى الروايات الصحيحة في تعيين الاسم الأعظم: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد).
صح أيضاً حديث آخر عن أنس رضي الله تعالى عنه: قال: (كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، ورجل يصلي فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت الحنان المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعا الله باسمه الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى).
إذاً: هذا الحديث أيضاً مما صح في تعيين الاسم الأعظم، ولا شك أنه إذا كان الاسم الأعظم له هذه الفضيلة العظمى فلا ينبغي أبداً لأحد أن يزهد في حفظه، وكثرة التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الدعاء: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت، الحنان المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى).
كذلك حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن: في البقرة، وآل عمران، وطه) إذا حاولنا استقراء هذه السور الثلاث، وبحثنا عن الاسم الذي تكرر في هذه الأحاديث الذي هو لفظ الجلالة (الله) فقد ورد في الحديث الأول، وورد في الحديث الثاني بصيغة (اللهم)، وإنما كان الأصل فيها: يا ألله! فلما حذف الياء من أول الحرف وبقي: (الله) جاء الميم في آخره بعدما حذف الياء في أوله؛ فأصبحت الكلمة (اللهم) تعني: الدعاء بجميع أسماء الله سبحانه وتعالى الحسنى.
كذلك أيضاً ورد في الآيات التي ذكرها بعض العلماء من سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة طه، فبعض العلماء قالوا: إن الاسم الأعظم في قوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111]، لكن الأرجح كما بينه الطحاوي رحمه الله تعالى: أن الذي في سورة طه هو قوله تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:7 - 8].
فإذاً: الحديث الذي فيه: أن الاسم الأعظم في ثلاث سور من القرآن: في البقرة، وآل عمران، وطه هو لفظ الجلالة (الله).
أما حديث أسماء بنت يزيد أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]، وفاتحة آل عمران {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:2])، فهذا الحديث ضعيف.(99/6)
الحجج التي ساقها الرازي على أن الاسم الأعظم هو لفظ الجلالة
ساق فخر الدين الرازي في كتابه: شرح أسماء الله الحسنى حجج من قال: إن الاسم الأعظم هو الله، فمن هذه الحجج: أولاً: أن هذا الاسم ما أطلق على غير الله سبحانه وتعالى، حتى العرب في أشد ما وصلوا إليه من الشرك لم يطلقوا لفظ الجلالة (الله) على غير الله سبحانه وتعالى، فإن العرب كانوا يسمون الأوثان آلهة، إلا هذا الاسم فإنهم ما كانوا يطلقونه على غير الله سبحانه وتعالى، والدليل عليه قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38] وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] معناه: هل تعلم من اسمه (الله) سوى الله؟! ولما كان هذا الاسم في الاختصاص بالله سبحانه وتعالى على هذا الوجه وجب أن يكون أشرف أسماء الله سبحانه وتعالى.
ثانياً: أن هذا الاسم هو الأصل في أسماء الله سبحانه وتعالى، وسائر الأسماء مضافة إليه تابعة له، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] فأضاف سائر الأسماء إليه، ولا محالة أن الموصوف أشرف من الصفة، ولأنه يقال: الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس كلها من أسماء الله تعالى، ولا يقال: الله اسم الرحمن الرحيم، فدل هذا على أن الاسم هو الأصل.
فإن قيل: لفظ (الله) قد جعل نعتاً في قوله تعالى في أول سورة إبراهيم: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [إبراهيم:1 - 2] ف
الجواب
أن نافعاً وابن عامر قرأا بالرفع على الاستئناف، أي: فلا يرد هذا الإشكال؛ لأن قراءة ابن عامر ونافع: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهَ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [إبراهيم:1 - 2]، ففي هذه القراءة ليس هناك تبعية، فرفع (الله) على الاستئناف والخبر يأتي بعد، أما الباقون فقرءوها: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [إبراهيم:1 - 2] عطفاً على قوله (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).
وقال أبو عمرو: والخفض على التقديم والتأخير يعني: قراءة {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [إبراهيم:1 - 2]، تقديم (صراط الله العزيز الحميد، الذي له ما في السماوات وما في الأرض) التفاتاً منه إلى هذا المعنى، وهو أن الأصل هو الله، وما بعده يكون مضافاً إليه، فلذلك حتى الذي قرأ بالجر على النعت: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1] (الله الذي) قال: هي من حيث القراءة هكذا، لكن من حيث التفسير فيها تقديم وتأخير بمعنى: إلى صراط الله العزيز الحميد الذي له، حتى تأتي العزيز الحميد بعد الاسم الأصلي الذي هو الله سبحانه وتعالى.
ثالثاً: من أدلة الرازي التي ساقها واستدل بها من ذهب إلى أن الاسم الأعظم هو (الله) قوله سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] خص هذين الاسمين بالذكر؛ وذلك يدل على أنهما أشرف من غيرهما، ثم إن اسم الله أشرف من اسم الرحمن لأمور: أولاً: لأنه يذكر قبله في الذكر، دائماً نبدأ بلفظ الجلالة، ثم تأتي بالرحمن بعدها، فهذا التقديم يشير إلى أنه أشرف منه، كما تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فتقدم اسم الله سبحانه وتعالى.
كذلك: أي إنسان سواء في الذكر في القصص في المواعظ فإنه دائماً يقدم اسم الله على ما عداه من الأسماء، وخاصة اسم الرحمن.
ثانياً: أن اسم الرحمن يدل على كمال الرحمة، ولا يدل على كمال القهر والغلبة والعظمة والعزة، وأما اسم الله فإنه يدل على كل ذلك، فثبت أن اسم الله تعالى أشرف.
رابعاً: هذا الاسم له خاصية غير حاصلة في سائر الأسماء، اختص بخاصية غير موجودة فيما عداه من الأسماء الحسنى، وهي أن سائر الأسماء والصفات إذا دخل عليها النداء أسقط عنها الألف واللام، ولهذا لا يجوز أن يقال: يا الرحمن! يا الرحيم! يا العزيز! يا الحكيم! بل يقال: يا رحمن! يا رحيم! يا عزيز! يا غفور! يا تواب! أما هذا الاسم فإنه يحتمل هذا، فيصح أن يقال: يا ألله؛ وذلك أن الألف واللام في هذا الاسم صار كالجزء الذاتي، فلا جرم ألا يسقطان حالة النداء؛ وفيه إشارة لطيفة، وذلك أن الألف واللام للتعريف، فعدم سقوطهما عن هذا الاسم يدل على أن هذه المعرفة لا تزول أبداً ألبتة، فلذلك لا تفارقها الألف واللام، تقول: يا ألله أو اللهم، لكن لا تقول: يا إله مثلاً.(99/7)
اختيار الطحاوي وابن القيم أن اسم الله الأعظم هو لفظ الجلالة
اختار القول بأن الاسم الأعظم لله سبحانه وتعالى هو (الله) الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى، وكذا العلامة المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى، رجح هذان العالمان الجليلان أن الاسم الأعظم هو لفظ (الله)، فقال ابن القيم بعد أن بين لوازم أسماء الله الحسنى: فاسم الله دال على جميع الأسماء الحسنى، والصفات العليا، بالدلالات الثلاث أي: بدلالة التضمن والمطابقة والالتزام، فإنه دال على إلهيته المتضمنة لثبوت صفات الإلهية، مع نفي أضدادها عنه، والصفات الإلهية هي صفات الكمال المنزهة عن التشبيه والمثال، وعن العيوب والنقائص، ولهذا يضيف الله سبحانه وتعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم العظيم، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180]، ولم يقل مثلاً: للعظيم الأسماء الحسنى، ولم يقل: للرحيم أو للجبار الأسماء الحسنى، وإنما الأسماء الحسنى تضاف إلى الأصل والأساس الذي هو اسم الله، ولذلك قال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180]، ويقال: الرحمن، الرحيم، القدوس، والسلام، العزيز، الحكيم من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء الرحيم، ولا من أسماء العزيز ونحو ذلك، فعلم أن اسمه تعالى (الله) مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، ودال عليها بالإجمال يعني: من دعا الله باسمه الأعظم الذي هو (الله) فكأنه دعا بجميع الأسماء الحسنى، والصفات العليا.
فعلم أن اسم (الله) مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، ودال عليها بالإجمال، والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم (الله) أي: أن سائر الأسماء الحسنى سوى اسم الله هي شرح وبيان وتفصيل لما تتضمنه لفظة (الله) عز وجل.
واسم (الله) دال على كونه مألوهاً معبوداً تألهه الخلائق محبة وتعظيماً وخضوعاً وفزعاً إليه في الحوائج والنوائب؛ وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمن لكمال الملك والحمد، وإلاهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله، إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا قادر ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أفعاله.
وصفات الجلال والجمال أخص باسم الله سبحانه وتعالى، أما صفات الفعل والقدرة، والتفرد بالنفع والضر والعطاء والمنع، ونفوذ المشيئة، وكمال القوة، وتدبير أمر الخليقة، فأخص باسم الرب سبحانه.
وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة والملك أخص باسم الرحمن.(99/8)
اسم الله الأعظم
عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد، فقال: لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب)، وفي رواية قال: (والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى).
وعن أنس رضي الله عنه قال: (كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد ودخل رجل يصلي فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت الحنان المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى).
وعن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اسم الله الأعظم في سور من القرآن ثلاث: في البقرة، وآل عمران، وطه).
الاسم الذي تكرر في هذه الأحاديث الثلاثة هو لفظ الجلالة (الله) إلا أنه ورد فيها بلفظ اللهم، وأصل (اللهم) يا ألله، فلما حذفت الياء من أول الكلمة، عوض عنها الميم في آخرها.(99/9)
أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن
آخر التنبيهات المتعلقة بلفظ الجلالة هو: أن: (أحب الأسماء إلى الله سبحانه وتعالى: عبد الله وعبد الرحمن) كما في الحديث الصحيح، ولما كان الاسم مقتضياً لمسماه ومؤثراً فيه كان أحب الأسماء إلى الله ما اقتضى أحب الأوصاف إليه كعبد الله وعبد الرحمن، ولا يصح حديث: (خير الأسماء ما عبد أو حمد)، لا يصح هذا، وإنما الصحيح هو: (أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن).
فإضافة العبودية إلى اسم الله واسم الرحمن أحب إليه من إضافتها إلى غيرهما، كالقاهر والقادر، فعبد الرحمن أحب إلى الله من عبد القاهر، وعبد الله أحب إليه من عبد ربه؛ وهذا لأن التعلق الذي بين العبد وبين الله إنما هو العبودية المحضة، والتعلق الذي بين الله وبين العبد من رحمة محضة، فبرحمته كان وجوده وكمال وجوده، والغاية التي أوجدهم لأجلها أن يتأله له وحده محبة وخوفاً ورجاءً وإجلالاً وتعظيماً، فيكون عبداً لله، وقد عبده لما لاسم الله من معنى الإلهية التي يستحيل أن تكون لغيره، ولما غلبت رحمته غضبه وكانت رحمته أحب إليه من الغضب كان عبد الرحمن أحب إليه من عبد القاهر، فهذا فيما يتعلق بلفظ الجلالة الله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(99/10)
عدم مشروعية ذكر الله مفرداً
التنبيه الأخير: أن هذا الاسم الجليل الذي هو الاسم الأعظم (الله) لا يشرع ذكر الله سبحانه وتعالى به مفرداً؛ وذلك أن بعض الجاهلين يذكر الله سبحانه وتعالى باسم الجلالة مفرداً، فيجعلون لهم أوراداً، وهؤلاء هم الصوفية كما تعلمون يجعلون أوراداً يرددون فيها لفظ الجلالة مرات عديدة، فيرددها ألف مرة ألفين مرة: الله الله الله الله إلى آخره، وأحياناً يجتمعون على ذلك في حلقات وهم جالسون أو واقفون فيتمايلون ذات اليمين وذات الشمال، ويقفزون بين الحين والآخر، ويصاحب ذلك دقات الطبول، وتشحب الأصوات حتى لا تسمع إلا: هو هو هو فيقولون: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:255] من أسماء الله الحسنى لجهلهم.
فيظلون يرددون هو هو أو: آه آه آه يعني: باعتبار أن هذا لحن في أسماء الله، ولجهلهم يستدلون بقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]، فيقولون: إنه كان يكثر قول: آه الذي هو في زعمهم اسم من أسماء الله عز وجل.
أو حع حع حع (حاء، عين)، ولا أدري من أين أتوا بهذا؟! يزعمون أنهم بهذه البدع النكراء يذكرون الله سبحانه وتعالى، ومادام فيها هذه اللحن لأسماء الله والرقص والمزامير والاختلاط أحياناً والأشياء التي يفعلونها فهذا ذكر الله أم نسيان لله؟ هذا نسيان لله، وغفلة عن الله، وإعراض عن الله، ولا يسمى هذا ذكراً بحال من الأحوال، إنما هذا بدعة وضلال.
فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبداً الذكر بالاسم المفرد، وما عرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أبداً في أي دليل أنه ذكر الله سبحانه وتعالى بهذا، فيستدلون بقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:19]، فـ (قل الله) هل هو بمعنى: الله؟ لا، {قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:19]، أي: قل الله أكبر شهيد فيما ذكر، فهي جملة كاملة؛ لأن اللفظ المفرد لا يفيد شيئاً من حيث المعنى، إنما اللفظ المفيد هو الذي يدل على جملة تامة يحسن السكوت عندها.
فإذاً: اللفظ المفرد ليس فيه سوى لفظ واحد، فقولهم: حي مثلاً، فذكر الله بهذه الطريقة بدعة، والبدعة تقصي من الله وتبعد العبد، وليست تقرب من الله عز وجل، فلم يأت ذلك الذكر في حديث قط، بل جميع الأذكار الصحيحة نجدها بلفظ الجلالة في جملة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده في يومه مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أحب الكلام إلى الله أربع لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلم يثبت أبداً في هدي النبي عليه الصلاة والسلام أنه ذكر الله بالاسم المفرد.(99/11)
لفظ الجلالة اسم مشتق غير جامد
بقي تنبيهات يسيرة تتعلق باسم الله الأعظم وهو لفظ الجلالة (الله)، هل هو مشتق أم أنه اسم جامد؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين أصحهما أنه مشتق، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: زعم السهيلي وشيخه ابن العربي أن اسم الله غير مشتق، قالوا: لأن الاشتقاق يستلزم ندبةً يشتق منها، واسم الله تعالى قديم والقديم لا ندبة له، فيستحيل الاشتقاق.
يقول ابن القيم مبطلاً هذا الرأي: ولا ريب أنه إن أريد الاشتقاق لهذا المعنى، وأنه مستمد من أصل آخر فهو باطل، إن أريد بالاشتقاق أنه يتولد من غيره فهذا باطل بلا شك، ولكن الذين قالوا بالاشتقاق لم يقصدوا هذا المعنى ولا ألم بقلوبهم، وإنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى، وهي الإلهية كسائر أسمائه الحسنى، العليم، والقدير، والغفور، والرحيم، والسميع، والبصير، فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب، وهي أسماء قديمة، والقديم لا ندبة له، فما كان جوابكم عن هذه الأسماء فهو جواب القائلين باشتقاق اسم الله.
ثم إننا لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، تلاقي وتوافق مصدرها في اللفظ والمعنى لا أكثر، فهذا هو المقصود بالاشتقاق، لا أنها متولدة منها تولد الفرع من أصله، وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلاً وفرعاً ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر، وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة.
قالوا: ولا محذور في اشتقاق اسم الله أو أي اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى بهذا المعنى، إن هذا هو أصل مادة الكلمة، وليس معناه أنه أجرى له التولد من غيره، فإذاً: هذا المحذور الذي ذكروه يسقط بهذا الاعتبار.
أما أصل كلمة: (الله) في اللغة فقد قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: مأخوذ من (إله) وتقديرها فُعلانية بالضم، تقول: إله بين الآلهة والأُلهانية، وأصله: من أله يأله، يعني: إذا تحير، يريد إذا وقع العبد في عظمة الله سبحانه وتعالى وجلاله وغير ذلك من صفات الربوبية، وصرف همه إليها أبغض الناس حتى لا يلين قلبه إلى أحد.
قال أبو الهيثم: فالله أصله إله، قال الله عز وجل: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون:91]، قال: ولا يكون إلهاً حتى يكون معبوداً، وحتى يكون لعابده خالقاً ورازقاً ومدبراً، وعليه مقتدراً، فمن لم يكن كذلك فليس بإله وإن عبد ظلماً، ما مناسبة كلمة (ظلم) هنا؟ الظلم لغة: وضع الشيء في غير موضعه، ولذا جعل الله الشرك ظلماً قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
فوضع العبودية في غير موضعها ظلم، لأنه لم يوجهها إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما وجهها إلى الأنداد.
فإذاً: يقول: ولا يكون إلهاً حتى يكون معبوداً، وحتى يكون هذا الإله لعابده خالقاً ورازقاً ومدبراً، وعليه مقتدراً، فمن لم يكن كذلك فليس بإله وإن عبد ظلماً، بل هو مخلوق ومتعبد، حتى إن حصلت العبادة لغير الله فهو ظلم؛ لأنه وضع العبادة في غير موضعها اللائق بها.
وأصل كلمة (إله) وله، فقلبت الواو همزة فصارت إله، كما قالوا: أصل كلمة (إيجاد) وجاد، ومعنى وله: أن الخلق يولهون إليه في حوائجهم، ويتضرعون إليه فيما يصيبهم، ويفزعون إليه في كل ما ينوبهم كما يوله كل طفل إلى أمه.
وقد سمت العرب الشمس لما عبدوها: إلهاً، وقد ضعف الزجاج هذا القول، وقال ابن سيده: والإله والألوهة والألوهية العبادة، وقد قرئ في قوله تعالى: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127] هذه قراءة الجمهور، لكن قرأ ابن عباس: (ويذرك وإلهتك)، يريد: وعبادتك.
إذاً: قراءة ابن عباس: (ويذرك وإلهتك) بكسر الهمز أي: ويذرك وعبادتك، وهذه القراءة الأخيرة عند ثعلب كأنها هي المختارة، وثعلب لما اختار هذه القراءة التي هي: (ويذرك وإلهتك)، قال: لأن فرعون كان يُعبد ولا يعبد، فهو على هذا ذو إلهة وليس هو آلهة، وعلى قراءة الجمهور: (ويذرك وآلهتك)، فهو ذو آلهة على هذه القراءة، وهذه القراءة أكثر القراء عليها، وهي قراءة الجمهور.
وقال ابن بري: يقوي ما ذهب إليه ابن عباس في قراءته: (ويذرك وإلهتك) قول فرعون: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقوله أيضاً: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فهذا يقوي قراءة ابن عباس في الآية: (ويذرك وإلهتك) يعني: يترك عبادتك ولا يعبدك.
وكان العرب في الجاهلية يسمون معبوداتهم من الأوثان والأصنام آلهة وهي جمع إله، قال الله عز وجل: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127] يعني: وهي أصنام عبدها قوم فرعون معه، والله أصله إله، على وزن فعال، بمعنى: مفعول، فهو إله بمعنى: مألوه، أي: معبود، ولذلك نسمي توحيد الألوهية توحيد العبادة.
وكقولنا: إمام، على وزن فعال، لكنها بمعنى: مفعول؛ لأنه مؤتم به، كذلك إله بمعنى مفعول أي: معبود، فلما أدخلت عليه الألف واللام: الإله، حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرته في الكلام؛ فصار اللفظ (الله)؛ لأن لفظ الجلالة يقال كثيراً جداً، فخففوه بحذف الهمزة.
وقال ابن القيم: القول الصحيح: أن الله أصله الإله، كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم.(99/12)
ترجيح أن اسم الله الأعظم هو لفظ الجلالة
وقد تكلمنا عن الأدلة التي ترجح أن اسم (الله) هو الاسم الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، ومن هذه المرجحات: أن هذا الاسم ما أطلق على غير الله سبحانه وتعالى، فإن العرب كانوا يسمون الأوثان آلهة، إلا أن اسم الله لم يطلقوه على أوثانهم، وإنما أفردوا الله سبحانه وتعالى به، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، يعني: هل تعلم من اسمه (الله) سوى الله؟! فانفرد الله سبحانه وتعالى بهذا الاسم الأعظم، فلما كان هذا الاسم في الاستحقاق بالله تعالى على هذا الوجه وجب أن يكون أشرف أسماء الله سبحانه وتعالى.
كذلك قلنا: إن هذا الاسم هو الأصل في أسماء الله سبحانه وتعالى، وسائر الأسماء مضافة إليه، فقد قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، ولم يقل: للرحمن الأسماء الحسنى، ولا للجبار الأسماء الحسنى، وإنما قال: ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى))، فأضاف سائر الأسماء إليه، ولا محالة أن الموصوف أشرف من الصفة، ولأنه يقال: الرحمن الرحيم الملك القدوس إلى آخره كلها من أسماء الله تعالى، ولا يقال: (الله) اسم الرحمن الرحيم، فدل هذا على أن الاسم هو الأصل.
كذلك قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110]، فخصهما بالذكر فدل على أنهما أشرف من غيرهما، ثم إن اسم الله أشرف من اسم الرحمن لعدة أمور: أولاً: لأنه يقدم في الذكر قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110].
ثانياً: لأن اسم الرحمن يدل على كمال الرحمة، لكنه لا يدل على كمال القهر والغلبة والعظمة والألف والعزة، وأما اسم (الله) فإنه يدل على كل ذلك؛ فثبت أن اسم الله تعالى أشرف.
كذلك قلنا: إن هذا الاسم له خاصية غير حاصلة في سائر الأسماء، وهي أن سائر الأسماء والصفات إذا أدخل عليها النداء أسقط عنها الألف واللام، ولهذا لا يجوز أن تقول: يا الرحمن! يا الرحيم! يا السلام! وإنما تقول: يا رحمان! يا رحيم! يا عزيز! يا قوي! أما هذا الاسم فإنه يحتمل هذا فيصح أن يقال: يا ألله؛ لأن الألف واللام في هذا الاسم صارا كالجزء الذاتي فلا يسقطان في حالة النداء، وفيه إشارة لطيفة وهي: أن الألف واللام للتعريف فعدم سقوطهما عن هذا الاسم يدل على أن هذه المعرفة لا تزول أبداً.(99/13)
نظرة في تاريخ العقيدة [1]
إنّ تاريخ هذا الدين وهذه العقيدة الإسلامية الحقّة تاريخ قديم قِدَم خلق الإنسان، وهذا الأمر أمر واضح جلي في الكتاب والسنة، ولا يجادل في ذلك إلّا جاهل أو مكابر أو طاعن، وبداية تلك العقيدة وتفاصيلها، وكيفية خلق الإنسان وبداية ذلك أمر غيبي لا يعرف إلّا من قِبل من يعرف الغيب، فلا ندع ذلك ونذهب نتخبط يميناً وشمالاً بحثاً عن تلك الحقائق التي نشأت قبل دهور طويلة، وقبل أزمنة مديدة، فإن ذلك مدعاة للتخبط والتخرص والقول القاصر والحدس، فتمسَّك أيها المسلم! بكتاب ربك، وسنة نبيك تنجُ وتفلح.(100/1)
تاريخ نشوء العقيدة والرد على المخالفين في ذلك
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لاسيما عبده المصطفى.
اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن الموضوع الذي سنتناوله اليوم هو موضوع النظر إلى تاريخ العقيدة الإسلامية، خاصة وأن هذه المسألة مع وضوحها كالشمس، لكن نجد في الناس من يخلط في هذه القضية المهمة.
فبعض الناس يزعم أن العقيدة لم يعرفها الإنسان على ما هي عليه مرة واحدة، وإنما ترقت العقيدة وتطورت خلال قرون سحيقة، وأطلقوا عليها عصور ما قبل التاريخ، أو العصور الحجرية، حيث يزعمون أن الإنسان الذي يسمونه البدائي أو الحجري لم يكن يعرف له رباً ولا معبوداً، ثم نشأت عنده بعد ذلك عاطفة التدين؛ بسبب أنه رأى الحيوانات تخشى القوى الخفية، فتخاف من البرق والرعد، فظل الإنسان يبحث عن معبود يشعر نحوه بالولاء والتقديس، مهما كانت صورة هذا المعبود.
وهذا فيه عملية إضفاء نوع من العذر والاعتذار عن هذه الجريمة التي تعتبر أكبر جريمة وقعت في الوجود، وهي الشرك بالله سبحانه وتعالى.
فكأن الإنسان الأول كان حائراً يبحث عن إله يأوي إليه ويحبه، وانظر إلى هذه العاطفة، فكأن الخبثاء يريدون أن يقولوا: إن الدين نبع من الأرض ولم ينزل من السماء، وإن الدين اختراع بشري، وإن الإنسان هو الذي توصل إليه واكتشفه؛ وبالتالي فإن هذه الأديان تستوي؛ لأنها صنع بشري، فلكل إنسان أن يختار الدين الذي يرتاح إليه، فانكمش هذا المعبود في الشمس وفي القمر وفي الكواكب، حتى في الأشجار وفي الحيوانات.
ثم قالوا: إنه تطور من وثنية إلى وثنية إلى أن اكتشف التوحيد من تلقاء نفسه، فعند هؤلاء أنّ الإنسان هو الذي اكتشف التوحيد.
فخلاصة الكلام أن الدين في زعم هؤلاء الناس هو نتاج العقل البشري واختراعه.(100/2)
طرق دراسة تاريخ أديان الأمم القديمة ومصادرها
ليس هناك دليل مادي على أمر التوحيد واتصال الأرض بالسماء بهذه الكيفية عند هؤلاء المستشرقين والباحثين، فالطريق الذي يسلكه جمهور الباحثين للوصول إلى هذا المطلب هو دراسة تاريخ أديان الأمم القديمة، عن طريق التنقيب في الحفريات والرمم والجثث المحنطة والآثار الحجرية، ثم البحث في أديان الأمم المعاصرة غير المتحضرة، وهذا هو المنهج الذي ارتضوه كي يصلوا إلى الحقيقة فيما يتعلق بقضية الدين.
وهم أيضاً متأثرون بفكرة النشوء والتطور، فلذلك هم يبحثون في هذين الخطين فقط في الأمم القديمة، والأمم المعاصرة غير المتحضرة، ولا يلتفتون إلى الدين؛ لأن الدين تخلف، والدين اختراع عتيق في متحف التاريخ، فالذي يريد أن يبحث في التاريخ ينبغي له أن يبحث عنه في الحفريات وفي طبقات الأرض (الجيولوجيا)، وفي تواريخ الأمم القديمة، وإذا كنا نبحث في القرون المعاصرة فعلينا أن نبحث في تاريخ الأمم المعاصرة غير المتحضرة، ويعتبر هؤلاء نهاية ما يعلمونه في القدم من أديان البشر، وما عليه الأمم الأشد تخلفاً من ممارسات دينية، صورة مطابقة لما كان عليه الإنسان الأول.
فزعموا أن ما عليه الأمم المتخلفة التي تعيش في المجاهل والأدغال الآن، والتي تعيش حياة الوحوش، هو صورة لما كان عليه الإنسان الأول.
أما بالنسبة للأديان القديمة، فليس لهم أي مصادر علمية، بل هو القول على الله بغير علم، ويستندون إلى النقوش والرسوم والرمم التي يستوحون منها ما يزعمونه قطعياً، ولما كانت تلك مصادر آرائهم اختلفت آراؤهم.
فذهب فريق إلى أن الدين بدأ بصورة الخرافة، وأن الإنسان أخذ يترقى في دينه على مدى الأجيال حتى وصل إلى الكمال فيه بالتوحيد، كما تدرج في علومه وصناعاته، حتى زعم بعضهم أن عقيدة الإله الأحد عقيدة حديثة، وأنها وليدة عقلية خاصة بالجنس الثاني.
وقد نادى بهذه النظرية أنصار المذهب التصوري الذي ظهر في أوروبا في القرن التاسع عشر، وذلك في أكثر من فرع من فروع العلم.
وهناك فريق آخر من هؤلاء الباحثين الماديين قال بفطرة التوحيد وأصالته، وأثبت أن عقيدة الخالق الأكبر هي أقدم ديانة ظهرت في البشرية، فردوا على أنصار المذهب الأول، ورفضوا ما قالوه، مع أن مسلكهما في تحديد بداية الدين مسلك واحد وهو: الوصول إلى ذلك عن طريق الرمم والنقوش والحفريات، وأيضاً دراسة تواريخ الأمم المعاصرة غير المتحضرة.
إنّ ممن أجاد وأفاد في هذا المبحث واكتشف فيه الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله تعالى، وهو من علماء الأزهر الذين لم توفهم الصحوة الإسلامية حقهم من الاهتمام بكتبه النادرة، فهذا من العلماء المعاصرين الذين ابتكروا البحث في تاريخ الدين، وهو في عامة بحوثه مبتكر، ولا يكرر مثل الآخرين، بل تجد أفكاره ناضجة جداً، وللأسف الشديد أنه لم يأخذ حقه من الاهتمام، ولم تذع كتبه كما كان ينبغي لها أن تذاع.
يقول رحمه الله تعالى: أما من حيث الغاية التي يهدف إليها البحث فهي تحديد أصل العقيدة، والمظهر الذي ظهرت به في أول الأزمنة، وهذه المنطقة البدائية المحضة اعتبرها العلم شقة حراماً حظرها على نفسه، وأعلم بصراحة خروجها عن حدود علمه؛ لأنه سيخبر عن غيب، فكيف سيصل إلى هذه المنطقة البدائية؟ وبم سيتكلم عنها؟ أيرجم بالغيب؟! فلذلك نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة من القرآن يمتن على نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه يخبره بأنباء الغيب، وجعل الله هذا دليلاً من أدلة صدق نبوته فقال: {ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران:44]، وهكذا في كثير من الآيات مثل قوله: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} [طه:99] إلى آخر الآيات.
فهناك آيات كثيرة في القرآن يمتن الله سبحانه وتعالى بها على نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه يطلعه على بعض أخبار الغيب التي لا سبيل إليها إلا عن طريق الوحي.
ويقول: ومؤرخو الديانات على الخصوص معترفون بأن الآثار الخاصة بديانة العصر الحجري وما قبله لا تزال مجهولة لنا جهلاً تاماً، فلا سبيل للخوض فيها إلا بضرب من التكهن والرجم بالغيب.
وأما من حيث المنهج وهو الاستدلال على ديانة الإنسانية الأولى بديانة الأمم المنعزلة المتخلفة عن ركب المدنية فهذا مبني على أساس افتراض أن هذه الأمم كانت منذ بدايتها على الحالة التي وصل إليها بحثنا، وأنها لم تمر بها أدوار متقلبة، وهو افتراض لم يقم عليه دليل، بل الذي أثبته التاريخ واتفق عليه المنقبون عن آثار الأمم الماضية، هو أن فترات الركود والتقهقر التي سبقت مدنيتنا الحاضرة كانت مسبوقة بمدنيات مزدهرة، وأن هذه المدنيات قامت بدورها على أنقاض مدنيات بائدة قريبة أو بعيدة، وذلك في أدوار تتعاقب على البشرية.
فانظر إلى قدماء المصريين، فقد كانوا في فترة زمنية قريبة، وليست بالسحيقة كالقرون الأولى من قبلهم، ومع ذلك فقد تركوا آثاراً تُظهر تفوقاً في بعض فروع العلوم، ولا يستطيع العلم البشري إلى اليوم أن يصل إلى عشر معشارها، فهناك بعض الألغاز الموجودة حتى الآن لم يستطع العلم الحديث أن يفسرها، وهذا ما حدا بالكثيرين إلى أن يقولوا: إن قدماء المصريين كانوا يستعينون بالجن والسحر؛ وذلك بسبب ضخامة ما خلفوه من علوم تدل على تقدم وازدهار حضاري كما يسمونه ويزعمونه.
وقد نُشر في مجلة لا أذكر اسمها الآن في أمريكا مقالاً تحت عنوان: مدينة الأبراج، وهي منطقة في حضرموت، وفي نفس المكان الذي نعتقد نحن أنه كانت فيه مدينة عاد إرم ذات العماد، فيقولون: إنهم عن طريق التصوير والاستعانة بالأقمار الاصطناعية اكتشفوا مدينة كاملة مغمورة تحت الأرض، وفيها مبان مرتفعة جداً، وسموها مدينة الأبراج، وهم لا خبر عندهم بما يتعلق بالقرآن الذي وصفها بهذا الوصف: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:6 - 8].
فهذا مما يدل على أن الأمر بالعكس، فهناك أمم في القرون الماضية قد يكون عندها حضارات وتقدم هائل جداً، ثم تحصل فترات ركود وانحدار، وذلك في فترات تتعاقب على البشرية.
ويقول: فمن العسير أن نحكم بصفة قاطعة أن الخرافات القديمة بداية أديان؛ لأننا حتى في هذا العصر الذي نزعم فيه الترقي والتطور والتقدم والحضارة وغير ذلك لا زلنا نجد هذا موجوداً، بل ومن أرقى الأمم تحضراً كأمة اليابان مثلاً، فاليابانيون يعبدون الإمبراطور ويعبدون العائلة المالكة كما كان يفعل المصريون.
وهنالك في أوروبا والغرب من يعبد آلهة قدماء المصريين، ويأتون إلى هنا، ويحجون إلى الأهرامات وإلى الآثار.
وهناك ما تعجبون منه، ففي بعض الدول في شرق آسيا من يعبد الفئران! وقد رأى أحد الإخوة منظراً مثل هذا في شرق آسيا، ورأى أشياء مقززة، ولولا ذلك لحكيتها لكم، وذلك فيما يتعلق بتقديس الفئران، وهي أمور لا يتصورها أي إنسان عنده فطرة سليمة، أو ذوق مستقيم، فهم يقدسون الفئران، ويبنون قصوراً من الرخام الأبيض الجميل؛ كي يعبدوا فيها هذه الفئران.
وهناك من يعبد النيران وغير ذلك من الأوثان، وهذا يحصل الآن -كما يقولون- في القرن العشرين.
إذاً: فليس هناك قديم ولا جديد فيما يتعلق بالعقيدة، بل هي فترات ركود وانحدار وانحطاط بعد الترقي، فهذه في حد ذاتها ليست دليلاً على صحة المبدأ الذي عليه هؤلاء الناس.
ويقول بعض إخواننا: لو يرانا عباد الفئران ونحن نقتل الفئران هنا لأقاموا علينا حرباً مقدسة، كما فعل إخوانهم في المسجد البابري في الهند، وسبب المشكلة في ذلك المسجد أنّه بُني على مسقط رأس إلههم، أي: أنّ الإله ولد في هذا المكان، إله يولد تباً لهم! فهذا المكان مقدس عندهم.
فيمكن أن تطرأ على بعض هذه الحضارات بعض الطوارئ فتمزقهم الحروب، أو تفسدهم بعض المؤثرات الاجتماعية، فينحرفون عن التوحيد الذي كانوا عليه، أو يقل اعتناؤهم بأصول دينهم فيضيع هذا الدين، ويبقى تعلقهم بأشياء محرفة أو مغلوطة.
فإذاً: هذه البحوث التي يسمونها بحوثاً علمية في تاريخ الأديان، كلها مبنية على شفا جرف هار، وليس لها دليل علمي يدل عليها؛ لأنها لا تقوم إلا على التخمين والظن اللذين لا يغنيان من الحق شيئاً.
وأما الاستدلال بالآثار والنقوش والحفريات ودراسة الرمم، فهذا أمر يحتاج إلى كثير من التأمل، وكل من كان له قلب فإنه يدرك مدى اختلاف الناس في الأشياء المشاهدة في وقت واحد، فكيف بتفسير أشياء بيننا وبينها قرون سحيقة، وما ندري ما وراءها!! ومن عجيب أمر الباحثين في موضوع تاريخ الأديان أنهم يغفلون تماماً آثار الأنبياء، فتراهم يتجاهلون قضية الأنبياء وآثار الأنبياء، ويتجاهلون كتب الأنبياء، ويتعلقون بالواهي من الأدلة ورموز الأخبار والآثار، وتزداد الغرابة وتعظم المصيبة حينما يكون الباحث مسلماً، ويتابع غير المسلمين في مثل هذه الأمور التي صرحت بها الرسالات السماوية، متجاهلاً للحقائق التي جلاها الإسلام بما لا يدع مجالاً للشك، سواء كان ذلك فيما يتعلق بقضية خلق الإنسان، أو تكوينه أو نظام حياته وتدينه، أو الحكمة من خلقه ووجوده، والله عز وجل يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، ويقول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51].(100/3)
زعم الأفّاكين: أن الإنسان الأول كان شبيهاً بالحيوان
إن من جملة مزاعم القوم في هذا الباب أن الإنسان الأول كان أقرب إلى الحيوانات، لذلك نجد كتب العلوم والأحياء وغيرها من الكتب تحاول دائماً أن تصور وتحفر في ذاكرة الطلبة أن هذه حقيقة لا مناص منها، والله سبحانه وتعالى يقول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51]، فهم يرجمون بالغيب، ويحاولون أن يطبعوا في أذهان الشباب صورة أنّ الإنسان ترقى من الشمبانزي وهذا نوع من القرود، وكيف أنه كان يترقى بانحناءاته وطريقته في المشي، وزوال الشعر عن جسده، إلى أن وصل إلى الإنسان الحجري، فهذه هي الصورة التي يحفظونها الأبناء.
ولن نناقش اليوم قضية الترقي والتطور في بنية الجسد البشرية؛ لأن هذا موضوع آخر نرجو أن نتكلم عليه في فرصة أخرى، وإن كنا قد تكلمنا عليه منذ سنوات ولكن بَعُد العهد به جداً.
ونرجو أن يتيسر لنا الكلام على نظرية دارون، هذه النظرية الفاشلة التي تستعمل لحرف العقيدة، وتشكيك الشباب في عقيدتهم ودينهم، مع أنها نظرية فاشلة بكل المقاييس، وليس ذلك فقط من الناحية الدينية، فهي حتى من النواحي العلمية نظرية فاشلة وقد انهارت، ومع ذلك يصرون على تدريسها في بلادنا في أحرج سنوات العمر، وهي فترة الثانوية العامة، ويركزون عليها وكأنها أمر ثابت، وهي كذب وتزوير كما سنبينه إن جاءت فرصة إن شاء الله تعالى.
فتصويرهم لهذا الإنسان بهذه الصورة، وتعليمهم ذلك للشباب يجعل الشاب يشعر في نفسه بتناقض، فنحن نؤمن بالقرآن وبالوحي وفيهما: أن آدم أول البشر، فهل كان عليه السلام بهذه الصورة؟ وهل كان آدم عليه السلام أقرب ما يكون لمنظر الشمبانزي والقرد الذي يزعمون أنه ابن عم الإنسان؟! فإنهم يقولون: إن الإنسان والشمبانزي انحدرا من أصل واحد.
فعلى هذا يكون هذا الأصل غير معروف، وهذه هي الحلقة المفقودة، وليس هناك دليل أبداً يسد هذه الحلقة، فهي مجرد افتراض وهمي.
فهل كان آدم عليه السلام بالصورة التي نتلقاها من القرآن والسنة، أو أنّه كان أقرب ما يكون إلى الحيوان من حيث التخلف العقلي والبدائية؟! أي: أنه منحن في مشيته والشعر على جسده مثل فروة الغوريلا أو الشمبانزي وغيرها من القرود، وأنه أقرب ما يكون للأبله الذي لا عقل له.
فهم يصورون هذا الإنسان الذي يسمونه بالإنسان الأول على أنه كان أقرب ما يكون إلى الحيوان، وأنه خُلق خلقاً ناقصاً غير مؤهل لأن يتلقى الحقائق العظمى كاملة، كما تزعم ذلك النظرية الدارونية الفاشلة كما ذكرنا، وأنه كائن تطور عن غيره، وعلى هذا الأساس فلا يكون هناك أي معنى لاستخلاف هذا الإنسان وتكليفه في هذه الأرض.(100/4)
زعم الأفاكين: أنّ الأصل في الإنسان الشرك
الأمر الثاني من هذه المزاعم الكاذبة: أن الإنسان كان مشركاً بطبيعته، ففطرته ملوثة بالشرك، وأول ما يبحث فإنه يبحث عن عبادة الأحجار والأقمار والأشجار والكواكب إلى غير ذلك، فيصورونه على أن الأصل في فطرته هو الشرك والوثنية، وبناءً على ذلك زعموا أن الأصل في عقيدة البشر هي العقيدة الفاسدة، ثم طرأ التوحيد بعد ذلك، حيث إن الدين الداعي إلى التوحيد جاء متأخراً عن وجود الإنسان على ظهر الأرض في زعمهم.
فدين التوحيد هذا لم ينزل، بل إنّ الإنسان هو الذي اكتشف أن أفضل شيء هو التوحيد، فبعد مضي أجيال طويلة اخترعت البشرية عقيدة التوحيد!(100/5)
زعم الأفاكين: أنّ الإنسان تطور بأفكاره حتى اكتشف الدين بنفسه
الأمر الثالث من هذه المزاعم: أن الإنسان سعى بجهده وعقله في البحث عن معبود، وأن أفكاره تطورت ذاتياً بناءً على تجاربه، وذلك دون توجيه رباني يهديه ويرشده، إلى أن اكتشف الدين بنفسه دون معلم يعلمه، وأنه كما ترقى في العلوم والصناعات، ترقى كذلك في معرفة الله تبارك وتعالى.(100/6)
زعم الأفاكين: أن قروناً طويلة مرّت على الإنسان دون أن يعرف فيها رباً ولا معبوداً
الأمر الرابع من هذه المزاعم: أن قروناً طويلة مرت على البشرية وهي لا تعرف لها رباً ولا معبوداً، لكن كلما تقدمت البشرية فإنها تترقى وتتطور في فهمها للدين، وعلى ذلك فكل من جاء بعد آدم من القرون البشرية كانوا على دين أكمل من دين آدم، لأن آدم كان هو الإنسان الأول، وكان متخلفاً عقلياً ولم يكن مؤهلاً لتلقي هذه الحقيقة العظمى، وهي حقيقة التوحيد، فمن أتى بعده فهو أكمل منه عليه السلام، وكلما تأخرنا تكون القرون المتأخرة أقرب للفهم الصحيح من الأمم المتقدمة! وعلى هذه المزاعم صنفوا تواريخ الأمم التي سبقت بعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
بما في ذلك تاريخ أوروبا على أنه تاريخ وثني جاهلي محض، لا أثر فيه لوجود الله ولا لدين طلب الله من البشرية أن تعتنقه، ولا لنظام ولا لشرع رباني طلب الله من بني آدم أن يُخضعوا حياتهم له، ولا وجود لرسل من قِبَل الله عز وجل يطلبون من الناس عبادة الله وحده لا شريك له.
ويفهم مما سبق انتفاء التكليف الإلهي للبشر، بل إذا أقروا بوجود خالق لهذا الكون، فإنهم يقولون: خلقه ثم حرّكه، ثم تركه، أي: أنه خلق الكون وحركة فالشمس تجري، والأرض تدور، والأقمار تسبح في الفضاء، ثم ترك العالم على هذا الأساس بلا تكليف ولا أمر ولا نهي.(100/7)
خطر الدسائس التاريخية والغزو الثقافي على الأمة الإسلامية
إذا تأملنا كيفية معالجة المستشرقين لتاريخ مصر والعراق وبلاد الشام والجزيرة العربية منذ أقدم الدهور، فهم عندما درسوا تاريخ هذه البلاد في القرون القديمة فإنهم يحذفون من حساباتهم ذكر الإسلام تماماً، ويهملون ذكر دعوات الرسل في حياة هذه الأمم التي سكنت تلك البلاد، وبهذا أصبحت جميع الأمم بلا استثناء تنظر إلى هذا الفترة من تاريخها على أنها خلقت وتركت هملاً، فلم تكن تعرف لها رباً ولا ترتضي لنفسها ديناً، بل أخذوا يرددون بأن الأصل في عقيدة أهل تلك الأقطار هي الوثنية، وأنهم تطوروا في الوثنية من التعدد إلى التوحيد، وأن أول الموحدين وذلك من تلقاء نفسه في التاريخ هو الفرعون أخناتون، أو أمنحتب الرابع، ويفخرون بـ أخناتون فخراً عجيباً جداً، فتجدهم في الأناشيد والأشعار والكتب يمدحونه على أنه أول مخترع للتوحيد، رغم أنه لم يكن توحيداً، بل كان شركاً نجساً خبيثاً.
إنّ أخناتون هذا هو أول من إلى التوحيد بين آلهة ثلاثة في إله واحد، وقد أخذ النصارى عن قدماء المصريين أفكارهم الشركية أيضاً.
فكان أمنحتب الرابع أو أخناتون يعبد القوة الكامنة وراء إله الشمس آتون، ويعتقد أن عبادته هي الحقيقة، وأنها هي الدين الصحيح، وأن هذه الفكرة انتقلت من مصر إلى بلاد العراق، حيث أقام إبراهيم دينه، أي: أن الإسلام ليس وحياً من عند الله تبارك وتعالى.
فهذه من الدسائس التي تسمم قلوب الشباب والأجيال، فتتخرج أجيال بعد أجيال على هذه العقائد التي يُلحّ إلحاحاً في تحفيظهم إياها على أنها حقائق مسلمة، فلا شك أنه بذلك تنقطع رابطة هؤلاء الشباب بالإسلام.
فالغزو في الحقيقة من كل جانب، فقد سمعتُ مؤخراً عن أشياء تُعرض في القنوات الفضائية مخالفة للشريعة، وقد يستهين بها كثير من الناس، وهناك أشياء كثيرة نستهين بها وهي تؤثر على نفسيات الأطفال أكثر، فالأشياء التي نستهين بها هي من أخطر الأشياء، فكثير من الناس يتهاونون مع ما يسمى بأفلام الكرتون، ويقولون: إن هذه تسلية للأطفال، وليس فيها رقص ولا غناء ولا أي منكرات! فأقول: كلا، بل فيها كثير من المنكرات، وهذا أنموذج من هذه النماذج سمعت عنه، فقد أتوا بقصة فيها: أن أباً وأماً وأولاداً خرجوا في رحلة جميلة، وكانوا في مركب في البحر، فجاءت عاصفة شديدة كادوا أن يغرقوا ويهلكوا بسببها، فأخرج الأب الذي هو رب الأسرة جهازاً لاسلكياً، واتصل بإله البحر؛ حتى يأتي وينقذه، فأتى هذا الإله وأنقذه من الغرق في الحال.
وفي مناسبة أخرى تكررت نفس القصة، فقد وقع الولد في نفس الورطة وأشرف على الغرق، فماذا فعل الطفل الصغير؟ أخرج الجهاز اللاسلكي، واتصل بابن إله البحر، أي: الإله الصغير، فأتى ابن إله البحر وأنقذه.
وأنا ما رأيتها، ولكني سمعت ذلك.
فلا شك أنّ هذه رسالة من خلال أفلام الكرتون لإفساد العقيدة، وتهيئة الأولاد لقبول فكرة أنّ هناك إلهاً كبيراً وأن له ابناً، وأن كليهما قادر على أن ينقذك في الضراء وفي الكربات.
إذاً: فمثل هذه الأشياء لا شك أنها تترك آثاراً خطيرة جداً، وخاصة أنها لا تقترن بما ينفر منها، بل العكس فإنها تقترن بما يرغب فيها من المحسنات والمزينات، فمثل هذه الحقائق كثير من المسلمين الجهلة ليس عندهم خبر بها، وما يشعرون بخطر التساهل في مثل هذه العقائد، فانظر إلى ما يدرسونه أبناءنا في التاريخ، يدرسونهم أن التوحيد أول من اخترعه هو: أمنحتب، أو أخناتون، ونفرتيتي، فإنهما عملا مع آتون شركة، ووحدوا هذه الآلهة الثلاثة في إله واحد وهو إله الشمس، فهذا أول اكتشاف بشري للتوحيد.
ثم بعد ذلك انتقلت عقيدة التوحيد هذه إلى بلاد العراق، حيث أقام إبراهيم دينه، فانظر إلى هذا الربط في قولهم: حيث أقام إبراهيم دينه، فما معنى ذلك؟! معنى ذلك: أنّ أبا الأنبياء وخليل الرحمن سبحانه وتعالى وإمام الحنفاء -الذي أَمرنا الله سبحانه وتعالى أن نكون على ملته، والذي كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [آل عمران:95]- اقتبس هذا التوحيد من مصر أم الدنيا، فهي التي نقلت التوحيد إلى إبراهيم الخليل، وعلى هذا الأساس أقام إبراهيم دينه، أي: أنّ الدين تأسيس بشري وليس له أصل إلهي.
وتأكيداً على هذه المزاعم، فقد حرص علماء الآثار من المستشرقين على طمس أي قرينة أثرية، أو ملامح تاريخية تؤكد أن الله سبحانه وتعالى فطر البشرية على الإسلام، وارتضاه لها ديناً، وبعث به الرسل، وعندما تظهر قرينة رغماً عنهم تؤكد أصالة خط التوحيد في حياة البشر، فإنهم يعزونها إلى تطور الفكر البشري، فهم يزعمون أن الإنسان قد تطور في معتقده كما تطور في صناعته.
فهؤلاء كما يسميهم كثير من الفضلاء: أصحاب منهج التجاهل والتجهيل، فهم يتجاهلون الحقائق، ويريدون أن يخرجوا جيلاً يتجاهل أيضاً هذه الحقائق، فهم متجاهلون ومجَّهلون لهذه الأجيال، ولا يستندون إلى أي دليل في هذه الفكرة الخطيرة سوى الجهل، والجهل لا يصلح أن يكون دليلاً.(100/8)
الطرق العلمية الصحيحة في معرفة الأمور
إن من خلال هذا التقديم قد رأينا أن مسالكهم التي يسمونها علمية لا علاقة لها على الإطلاق بالعلم، فإنّ العلم هو أن تصل إلى حقائق الأشياء على ما هي عليه في واقع الحقيقة، وعلى هذا الأساس فالحقائق الموجودة في الوجود لا تنحصر في الأمور المحسوسة.(100/9)
المنهج العلمي الصحيح في معرفة الأمور المحسوسة
إن الأمور المحسوسة تعرف عن طريق المنهج العلمي المادي المعروف، وهو ما يسمونه بالمنهج التجريبي، وهذه الطريقة تعتمد على التجربة والمشاهدة والاستنتاج، فهذا محصور في دائرة الأمور الحسية فقط.
فهذا ما يتعلق بالأمور التجريبية، فهي تخضع للحواس مثل: الذوق والشم والنظر واللمس وهكذا، فمن خلالها نصل إلى الحقائق الحسية، وهذا الجانب من العلم تركه الله سبحانه وتعالى للبشر يجتهدون في استخراجه واستنباطه، وإعمال عقولهم فيه، مع هدايته سبحانه وتعالى لهم.(100/10)
المنهج العلمي الصحيح في معرفة الأمور الغيبية الموجودة والماضية والآتية
أما القسم الآخر وهو الأخطر فهو العلم بحقائق موجودة، أو قد وجدت من قبل، أو ستوجد في المستقبل، فهو علم بلا حدود، وهذا لا سبيل على الإطلاق للوصول إلى العلم به، وإدراك حقائقه على ما هي عليه إلا من خلال نافذة الوحي فقط؛ لأن الذي خلق هذه الأشياء هو الذي يخبرنا بذلك، وأما غيره فلا يمكن أن يخبرنا بحقائق ذلك.
فلذلك عرفنا ما جرى في هذا الوجود قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، حينما أمر الله القلم فقال له: (اكتب).
وعرفنا أن أول مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وهو العرش.
وعرفنا أن الجن كانوا يعيشون في الأرض قبلنا، وأنهم أكثروا فيها الفساد.
وعرفنا قصة خلق آدم بالتفصيل، وإخراجه من الجنة، وسبب ذلك، وتوبة الله عليه.
وعرفنا قصص جميع الأنبياء عن طريق هذه النعمة العظمى نعمة الوحي.
كذلك نعرف ونجزم قطعاً بأحداث مستقبلية ستقع، لا لأننا نعلم الغيب، ولكن لأنه أخبرنا من يخبر عمن يعلم الغيب: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فأخبرنا عن أشراط الساعة، وما سيحصل في آخر الزمان بتفاصيل دقيقة، فذكر فتنة الدجال، وأشراط الساعة الصغرى والكبرى بكل تفاصيلها، وما يعصمنا منها.
وأيضاً هذا من العلم بالحقائق على ما هي عليه، وعلى ما ستكون عليه، ولا سبيل إلى ذلك إلّا عن طريق نعمة الوحي.
وكذلك نعرف أن الجنة موجودة الآن، وأن النار موجودة الآن، وما صفتها وما عدد أبوابها، وتفاصيل أحوال أهل الدارين، وما سيحصل في يوم القيامة إلى آخر كل هذه التفاصيل، فهذا علم.
وعرفنا صفات الله سبحانه وتعالى وأفعاله وما يتعلق بتوحيده عن طريق الوحي أيضاً، وهو أرقى وأشرف العلوم على الإطلاق.
فإذاً: لا سبيل لإدراك هذه الحقائق إلا عن طريق الوحي، فالقوم في مناقشتهم وبحثهم في هذا الأمر، ووسائلهم في ذلك، لا يمكن أبداً أن تقدم جواباً شافياً يطمئن إليه القلب والنفس عن ديانة الإنسان الأول.
فالمصدر الوحيد الذي يمكن من خلاله أن نستشرف هذا الغيب، وأن نقف على وجه الصواب فيه، هو الوحي الإلهي الذي يطلعنا على حقائق الماضي والحاضر والمستقبل التي تغيب عن عقولنا وحواسنا، إنه القرآن الكريم كلام الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من عزيز حميد.(100/11)
ضرورة استمداد الحقائق التاريخية من القرآن الكريم
إن القرآن الكريم وحده فقط هو مصدر معرفة حقيقة تاريخ هذه العقيدة، فليس هناك كتاب في الأرض يوضح تاريخ العقيدة بصدق إلا كتاب الله تبارك وتعالى، ففيه علم غزير في هذا الموضوع.
وعلم البشر لا يمكن أن يدرك هذا الجانب إدراكاً وافياً للأسباب التالية: الأول: أن ما نعرفه من التاريخ البشري قبل خمسة آلاف عام قليل، أي: لو أردنا أن نتعرف على حقائق التاريخ البشري فقط منذ خمسة آلاف سنة صعُب علينا جداً أن نصل إلى الأمور على حقيقتها.
وأما ما نعرفه من أحداث لهذا التاريخ البشري قبل عشرة آلاف سنة فأقل من القليل، أما قبل ذلك فهي مجاهيل لا يدري علمُ التاريخ عنها شيئاً، لذا فإن كثيراً من الحقائق ضاع بضياع التاريخ الإنساني.
السبب الثاني: أنّ الحقائق الموجودة لدينا عن تواريخ الأمم السابقة اختلطت بباطل كثير، بل ضاعت في أمواج متلاطمة في محيطات واسعة من الزيف والدجل والتحريف.
وأقرب دليل على ذلك أنك لو أردت أن تؤرخ لتاريخ جماعة معينة أو شخصية معينة حتى من العصر الحديث الذي نعيشه، لشق عليك أن تدرك الحقائق على ما هي عليه؛ لأنّه يدخلها الكثير من التحريف والدجل والأغراض الخبيثة التي تحاول أن توجه هذه الأمور لخدمة أشياء معينة.
فكيف نصل إلى حقائق تاريخ يمتد إلى الفجر الأول لهذا البشرية.
السبب الثالث: أن قسماً من التاريخ المتلبس بالعقيدة لم يقع في الأرض، بل وقع في السماء، وذلك ما وقع من خلق آدم عليه السلام، فإننا نرجع إلى فجر البشرية، وهذا بدأ بخلق آدم عليه السلام، ثم خلق حواء، ثم نزولهما من الجنة إلى الأرض.
فمن أين سنصل إلى الجنة حتى نأتي بذلك التاريخ؟! وذلك إذا قلنا: إنها جنة المأوى.
إذاً: فالذي يستطيع أن يمدنا بتاريخ حقيق لا لبس فيه هو الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
فلنتأمل في كتاب الله تبارك وتعالى، ولنأخذ هذه الحقائق بطريقة علمية موضوعية.
أول هذه الحقائق التي نستنبطها من القرآن أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم عليه السلام منذ البداية خلقاً سوياً مستقلاً مكتملاً، فآدم عليه السلام لم يتطور من غيره، وقد حطمت العلوم الحديثة فكرة التطور تماماً، فصارت الآن هذه الفكرة خرافة، خاصة بعد تطور علم الوراثة وعلم الجينات، فقد انهارت تماماً نظرية دارون الدجلية من أصلها.
فنحن نؤمن من خلال القرآن أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم منذ أول لحظة خلقاً كاملاً سوياً مستقلاً، ثم نفخ فيه من روحه، وأنه خلقه لغاية محددة وهي عبادة الله تبارك وتعالى وحده، وأنه عليه السلام خلق مؤهلاً لذلك، فقد كانت عنده أهلية كأكمل ما تكون عليه الأهلية؛ حتى يخاطب بتكليف الله سبحانه وتعالى، ولم يكن أبله، وكذلك لم يكن متخلفاً عقلياً أو شبيهاً بالوحوش وقرود الشمبانزي والغوريلا، بل خلق آدم عليه السلام في أكمل صورة، والدليل على أنها كانت أكمل وأجمل صورة، أن أهل الجنة يدخلون الجنة على صورة أبيهم آدم.
إذاً: فآدم عليه السلام خلق مؤهلاً للخطاب الإلهي، ولم يتركه سبحانه وتعالى لفكره كي يتعرف على ربه بطريقة التفكير والتأمل، بل عرفه سبحانه وتعالى على نفسه منذ البداية، فآدم عليه السلام منذ أول لحظة كان يعرف ربه، فالله سبحانه وتعالى عرفه على نفسه، ولم يترك له فرصة أن يتأمل ويتدبر في السماوات والأرض وفي المخلوقات؛ حتى يهتدي إلى التوحيد عن طريق التفكر والتأمل.
فقد دلت آيات القرآن المجيد على أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها، فتميز آدم على الملائكة بهذا العلم الذي علمه الله إياه، ثم أسكنه الله تعالى الجنة هو وزوجه، يقول عز وجل: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35]، فقول الله عز وجل: (يَا آدَمُ اسْكُنْ) هذا تكليف، وقوله (وَلا تَقْرَبَا) أي: لا تفعلا، فهذا يدل على أنه مؤهل لأن يخاطب.
فهل يخطر في بال عاقل أن يكون هذا المخلوق المكرم المعلم بالأسماء كلها لم يعرف الله سبحانه وتعالى؟! وآدم عليه السلام يرى الملائكة يسبحون الله ويحمدونه ولا يفترون عن ذكره، مع أن الله سبحانه وتعالى أمره وزوْجه بسكنى الجنة، والأكل من حيث شاءا إلا شجرة واحدة نهاهما عنها وحذرهما من قربها.
وقد أخبر الله تعالى آدم عليه السلام بعدوه وعدو زوجه إبليس لعنه الله، وأن مغبة طاعة إبليس خروجهما من الجنة، وحصول الشقاء لآدم {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117] فهذا تعليم وتحذير.
وآدم عليه السلام لم يعصِ الله سبحانه وتعالى متعمداً، يقول عز وجل: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115]، وقال سبحانه وتعالى حاكياً عن فعل إبليس: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21].
وقد جاء في كتب التفسير: أنّ آدم عليه السلام صدق إبليس قوله: (وَقَاسَمَهُمَا) أي: حلف لهما: (إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ).
{قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120]، فكان أبونا آدم يحب أن يبقى في الجنة، فأتاه إبليس من باب الحرص، وقال له: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى) فحلف لهما أنه صادق، فلم يتخيل آدم وحواء عليهما السلام أبداً ولم يرد على خاطرهما أن مخلوقاً يحلف ويقسم بالله ويكون كاذباً، فهذا غير وارد عندهما؛ ولذلك صدقاه، ولم يتذكرا تحذير الله سبحانه وتعالى لهما من قبل.
قال تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف:22].
وجاء في الحديث الصحيح: (أن آدم عليه السلام لما سقطت الثياب عنه وبدت له سوأته، ظل يجري ويتوارى، فقال الله سبحانه وتعالى له: تفر مني، فقال آدم -كما في معنى الحديث-: رب إني استحييت!) أي: أنه استحيا من الله سبحانه وتعالى، ومعنى هذا أنه كان مدركاً، وكل ذلك يدل على أن الإنسان الأول كان في أكمل درجات الوعي والإدراك والأهلية للتكليف بالتوحيد، وعبادة الله سبحانه وتعالى.
وبعد ما حصل من مخالفة آدم وحواء عليهما السلام قال تعالى: {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، أي: أدرك آدم وحواء بعد وقوعهما في المنهي عنه أثر المعصية وشؤمها، فندما على ما حصل منهما، وتوجها إلى الله تعالى طالبين مغفرته ورحمته، معترفين بالذنب وبظلم النفس، قال عز وجل عنهما: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
فهل هذا كلام من يعرف ربه، أم أنه كلام من يمشي كالغوريلا والشمبانزي، ويفكر مثلهما؟! إنّه كلام موحّد يعرف ربه كأكمل ما تكون المعرفة، فهو نبي عليه السلام.
وقال عز وجل في الآية الأخرى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37].(100/12)
ما جاء في التوراة من تزوير وتحريف في قصة آدم وحواء عليهما السلام
إن ما وجد في التوراة من قصص تتعلق بهذه الأحداث، فكلها تزوير وكذب وافتراء على الله سبحانه وتعالى، وهم ينسبون الخطيئة إلى حواء فقط؛ لأن حواء هي التي أغرت آدم بتلك الخطيئة، ولذلك يقولون: إنّ المرأة مصيبة وهي وراء كل شر وبلية، إلى آخر ما ينسبونه إلى المرأة، وأعداء الإسلام والمنافقون هنا في بلادنا يعزفون على نفس الوتر، فيقولون: الأديان كلها تعادي المرأة وتحتقرها وذلك انطلاقاً منهم من أن حواء هي سبب الخطيئة، فعليها أن تغطي رأسها عاراً؛ لأنها سبب العار والأذية للبشر، وسبب إخراجهم من الجنة، فعندهم أن الأديان تحتقر المرأة، وهذا من الكذب على الله سبحانه وتعالى، وسببه التأثر بقصص هذه الكتب المحرفة.
فهم حرفوا هذه الكتب، وزعموا أن آدم عليه السلام لما ارتكب هذه الخطيئة طرده الله من الجنة وغضب عليه، والسبب كما هو في كتبهم أن الله سبحانه وتعالى نهاه عن شجرة معينة، وهي: شجرة المعرفة والعلم والبصيرة، فهم دائماً عندهم تصوُّر أن الدين ضد العلم، وأن الإله يكره أن يكون عند العباد علم ومعرفة، لذلك فتصوُّر اليهود والنصارى لهذه القضية يعكس كذبهم على الله سبحانه وتعالى، فهم يقولون: إن هذه الشجرة هي شجرة العلم والمعرفة، ولو أكل منها آدم عليه السلام فإنه سيحصل على علم وبصيرة، فالله تعالى يخاف معاذ الله من الإنسان أن يتفتح عقله فيدرك الأمور على حقائقها؛ فلذلك نهاه أن يأكل منها.
فالذي ألف هذه القصة انطلق مما في ذهنه من العداوة بين الإله وبين العلم والمعرفة، فلذلك لما خالف آدم عليه السلام هذا النهي وأكل من الشجرة تحصل على العلم والبصيرة؛ لأنه أكل من شجرة المعرفة، فعاقبه الله وغضب عليه وطرده من الجنة، وليس هذا فحسب، بل هم لا يذكرون أبداً أن آدم عليه السلام تاب، ولا أن الله سامحه وعفا عنه، ولا يعتقدون هذا، بل يعتقدون أن البشرية كلها تولد ومعها الخطيئة الأصلية، فكل مولود يولد عندهم ملوثاً بخطيئة آدم الأصلية، ولا يولد على الفطرة كما أخبرنا سيد البشر عليه الصلاة والسلام.
فكلنا نرث هذه الخطيئة من آدم، ونصير مستحقين للخلود في جهنم، بل يقولون: إن البشرية منذ نزول آدم عليه السلام إلى الأرض إلى الصلب المزعوم -للمسيح عليه السلام -كانت ملوثة بخطيئة آدم، وأن جميع الأنبياء كانوا محبوسين في سجن جهنم، وهذا في كتبهم المحرفة أيضاً.
فهذا يعني أنّ موسى وهارون ونوحاً وكل الأنبياء قبل عيسى إذا ماتوا فإنهم يدخلون جهنم؛ بسبب خطيئة آدم، وأنه ليس هناك طريقة كي يعفو الله عن البشرية، أو يكفر عنها خطيئة آدم إلا أن ينفصل جزء عن الإله فيحل في رحم امرأة، ويبقى هناك تسعة أشهر ثم يخرج ويكبر إلى آخره، وفي آخر الأمر يصلب ويكون ضحية؛ كي تذهب هذه الخطيئة، ومع ذلك فهي لم تذهب، فهم يعتقدون أن كل مولود يكون ملوثاً بخطيئة آدم حتى بعد عملية الصلب المزعومة المكذوبة، وقد ذكرنا أنّ بعض الكنائس لها أراضٍ موقوفة لدفن النصارى، فإذا مات الشخص وكان أبواه نصرانيين، ولم يكن قد عمد قبل موته، فإنهم لا يسمحون بدفنه في وسط النصارى؛ لأنه لم يدخل في دين النصرانية، فهو مازال ملوثاً بالخطيئة.
إنّ النبي صلى الله عليه وسلم يبشرنا في كثير من الأعمال الصالحة بمغفرة الذنوب، وأننا نرجع كالطفل الذي ولدته أمه نقياً وطاهراً منها، فيقول: (من حج ولم يرفث، ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، فيضرب المثل بنقاء الطفل وطهارته من الذنوب فهذه أكبر منّة من الله سبحانه وتعالى أن يعود الإنسان طاهراً تماماً من الذنوب كالطفل، وحتى قبل التكليف فالإنسان يكون طاهراً، فلو بلغ إنسان وكلّف في سن الثالثة عشرة مثلاً فقبلها لم يُكتب عليه شيء من الأوزار، لكن انظر الحديث كيف خصّ المولود بالذكر: (كيوم ولدته أمه) وذلك مبالغة في طهارته من كسب أي ذنب.(100/13)
سبب الصدام الذي حصل بين العلوم الحديثة وما كانت تثبته الكنائس وسلامة ديننا من ذلك
إن عند النصارى أشياء تصادم الفطرة أصلاً، ولهذا لما ظهرت الثورة العلمية في الغرب صار كثير من العلماء والناس يعلمون كثيراً من الحقائق العلمية والتجريبية، ثم أخذت تلك العلوم بالتقدم والتطور، فبدأ الناس هناك يشعرون بالتصادم بين كثير من الحقائق العلمية وبين كثير من تلك العقائد الفاسدة التي كانت تبثها الكنائس، فكيف تقبل بمثل هذه العقيدة أن الله لا يتوب عليك إلا إذا فضحت نفسك، وذهبت إلى القسيس وجلست على كرسي الاعتراف، فتحكي له جميع تفاصيل الفاحشة، ثم يتوسط القسيس بينك وبين الله، فهذه العقيدة ترفضها الفطرة، ثم يعطونهم صكوك الغفران، ويقطعون لهم إقطاعات في الجنة، ويدعون لهم، ثم فوق هذا كله فقد مارست الكنيسة القهر والحرب الشديدين ضد أي عالم يكتشف نظرية جديدة، فقد قامت بحرقهم أو إعدامهم كما فعلوا مع نيوتن ومع جاليللوا وغيرهما، فهناك حوادث كثيرة جداً من الصدام، ولذلك رفض الغرب هذا الدين، وأما ديننا الإسلامي فلم يحصل في يوم من الأيام صدام بين الإسلام وبين العلم، ولا يمكن أن يقع، ونحل هذه المعادلة ببساطة وسهولة شديدة فنقول: إن الذي أنزل القرآن والوحي هو الله، والذي خلق حقائق الكون هو الله، فلا يمكن أن تتعارض حقيقة علمية مع آية أو حديث؛ لأن هذه مصدرها هو الله تعالى، فهو الذي خلق وهو الذي أنزل القرآن، لكن قد يحصل تعارض نتيجة خطأ في فهم الآية أو النص، أو يكون الحديث نفسه ضعيفاً وغير ثابت مثلاً، أو تكون القضية العلمية التي تتكلم عنها ما زالت نظرية، ولم تصل بعدُ إلى مرتبة الحقائق.(100/14)
توبة آدم وحواء عليهما السلام إلى الله تعالى
إن تلك الكلمات التي تضرع بها آدم عليه السلام إلى الله تبارك وتعالى توبة وإنابة لا تكون إلا بأسماء الله الحسنى، وصفاته العليا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
فآدم عليه السلام توسل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وهذا هو طريق الدعاء والمناجاة، وكان هذا قبل أن يهبطه الله تعالى إلى الأرض كما هو رأي بعض العلماء.
فبعد أن أهبطه الله إلى الأرض ذكّره ثانية بعداوة إبليس له، وأنه مصدر شر له، وبين الله سبحانه وتعالى أنه لا نجاة لك يا آدم ولا لذريتك إلا بأن تتبعوا الوحي الإلهي.
فهذه بكل سهولة حقائق هذا الوجود، يقول تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122].
إذاً: فقضية خطيئة آدم قد انتهت، والله تعالى يقول: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [النجم:38 - 40]، وهذا في صحف إبراهيم وموسى، أي: أنه كلام في الكتب السابقة.
فخطيئة آدم عليه السلام انتهت، فقد تاب الله عليه بعدما تاب هو إليه سبحانه وتعالى.
ولكن هذه المصيبة وهذه المعصية كانت سبباً في إنزال آدم إلى الأرض، لكن هل معنى ذلك أن الله لم يغفر لآدم؟ كلا، فقد انتهت خطيئة آدم تماماً، أما عملية التوريث وأن البشرية تورث هذه الخطيئة، ولا توجد طريقة تطهر الإنسان منها غير التعميد والتغطيس، فهذه الخرافات والأساطير أخذوها من الهنود وقدماء المصريين، فهذه العقيدة بكل تفاصيلها موجودة في المراجع الوثنية القديمة وفي أديان كثيرة، وهناك كتاب رائع في هذا الباب اسمه: (العقائد الوثنية في الديانة النصرانية).
فإنه يأتي بكل جذور الشرك التي أُخذت منها هذه العقيدة الخبيثة.
فالشاهد قوله تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:122 - 124].
وقال عز وجل حاكياً عن إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83].
إذاً: فهذه هي الحقيقة الأولى في تصحيح هذه المزاعم التي ذكرناها وهي: أنّ الله عز وجل خلق آدم عليه السلام منذ البداية خلقاً سوياً مستقلاً مكتملاً، وأنه بيّن له وظيفة محددة وهي: عبادته وحده لا شريك له، وأن آدم عليه السلام كان مؤهلاً لذلك، وأنه عرَّفه على نفسه منذ البداية، ولم يتركه ليتعرف عليه بطريقة التفكير والتأمل.(100/15)
كل مولود يولد على فطرة التوحيد والإسلام(100/16)
حقيقة الفطرة التي يولد عليها المولود
إن المولود يولد على الفطرة والفطرة هي الإسلام، لكن هل معنى ذلك أننا ندعي أنّ هذا الطفل الذي عمره سويعات قليلة يعرف أسماء الله وصفاته، ويعقل الرسالة وأدلتها والصلاة والزكاة؟!
الجواب
لا، نحن لا ندعي ذلك، وإنما نعني سلامة القلب وإرادته للحق الذي هو الإسلام، بحيث إن هذا الطفل لو ترك في نموّه الطبيعي من غير أن يخضع لمؤثر خارجي من الشياطين أو من الوالدين أو نحو ذلك، لما كان إلا موحداً مسلماً.
فهذه القوة العلمية والعملية تقتضي الإسلام مالم يمنعها مانع، كمؤثرات البيئة وتقليد الأبوين، فهي فطرة الله التي فطر الناس عليها.
فعند نمّو الطفل رويداً رويداً تبدأ هذه الفطرة تتحرك في أعماقه، ومع النمو تبدأ فطرة هذا الطفل تستيقظ وتتنبأ، وتجذبه بكل قوة نحو الحقيقة العظمى، ومن ثَم نلاحظ أنه في مرحلة معينة يبدأ الطفل بالسؤال عن بعض الأمور، وكلما كان الطفل نبيهاً وذكياً ستجد أنّ هذه الأسئلة تظهر مبكراً.
فيبدأ بإلقاء أسئلة لا تكاد تنتهي، فيسأل والديه عما يحيط به: من رفع السماء؟ ولماذا هي زرقاء؟ وأين تذهب الشمس ليلاً؟ ولماذا لا تظهر الشمس في الليل؟ وأين يذهب النور حين يحل الظلام؟ ولماذا تتلألأ النجوم؟ وأين تنتهي الأرض؟ ولماذا تفوح الروائح العطرة من بعض الأزهار دون البعض الآخر؟ ومن أين أتيتُ؟ وأين كنت قبل أن آتي إلى هذه الدنيا؟ وغير ذلك من الأسئلة التي كلنا نحفظها وكلنا يعرفها فهذه الأسئلة كلها أمارات تدل على أن الفطرة بدأت تستيقظ، ولذلك فالله سبحانه وتعالى من حكمته أنه لا يكلف الإنسان قبل سن البلوغ؛ لأن البلوغ يعبر عن ترجمة للنمو والنضج البدني، ويقارنه النضج العقلي الذهني والفكري، فهو في هذه السن يصبح مكلفاً، ويجري عليه قلم التكليف بمجرد البلوغ؛ لأنه الآن صار مهيئاً ومؤهلاً، فعليه أن يتفكر ويدرك.
فما الذي يدفع هؤلاء الأطفال إلى إلقاء هذه الأسئلة؟ إنها الفطرة المغروسة في أعماق نفوسهم، تبدأ بالاستيقاظ والتحرك والتعرف على خالق الكون وما في هذا الكون، وكلما نمت ملكاته وزاد علمه اطمئن قلبه للإيمان بالله وحده لا شريك له.(100/17)
موجبات الفطرة ومقتضياتها
إن موجبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئاً فشيئاً بحسب كمال هذه الفطرة واستعدادها، وبحسب سلامتها من المعارض، فكل مولود يولد على الإقرار لفاطره ومحبته والإذعان له بالعبودية، فلو ترك بلا معارض ولا حجاب لم يعدل عن ذلك إلى غيره.
كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة، كما قال عز وجل: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى).
فهل هذا الطفل درس ميكانيكة عملية الرضاع؟! فنحن لو تأملنا في الميكانيكة التي يتم فيها عملية الرضاع لوجدنا هذا الطفل وكأنه درسها دراسة متقنة، فمن علمه؟! لقد علمه (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) وهذه هي الهداية العامة التي تكلمنا عليها في القضاء والقدر، وهي المرتبة الأولى من مراتب الهداية الأربع.
فهذه النملة، اعمل معها مرة عملية مطاردة، وحاول أن تقتلها فماذا ستفعل؟ إنّها تحاول أن تهرب، فمن الذي هداها إلى هذا؟ إنّها هداية الله سبحانه وتعالى.
ادرس مملكة النحل وما فيها من العجائب، من أين للنحل هذه العلوم كلها؟! إنّ هذه من آيات الله العظام، فهذه حشرة أو طائر بسيط، من الذي يلهمه البحث عما ينفعه، والحرص عليه، والاجتهاد في دفع ما يضره؟ إنّه الله سبحانه وتعالى الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
وكذلك الفيروسات والبكتيريا، من الذي يهديها إلى هذه الهدايات التي نعرفها؟ إنّه الله سبحانه وتعالى.
فكما أننا نعترف أن الطفل عنده أنواع معينة من الهدايات، يغرسها الله سبحانه وتعالى في نفسه ويفطره عليها، فكذلك فيما يتلقى بفطرة التوحيد، فهو سبحانه خلق الحيوان مهتدياً إلى حب ما ينفعه وجلْبهِ، وبغض ما يضره ودفْعِه، ثم هذا الحب والبغض يحصلان فيه شيئاً فشيئاً حسب حاجته، لكن قد يعرض لبعض الأبدان ما يُفسد ما خلق عليه من الطبيعة السليمة، والعادة المستقيمة.
وهكذا ما ولد عليه الإنسان من الفطرة، فقد يطرأ عليها ما يصيبها، ولهذا شبهت الفطرة باللبن، بل كانت نفسها هي اللبن، وذلك في تأويل ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم حين عُرض عليه ليلة الإسراء اللبن والخمر، فاختار اللبن، فقيل له: (أصبت الفطرة، أو هديت للفطرة).
فمناسبة اللبن لبدنه وصلاحه به دون غيره كمناسبة الفطرة لقلبه وصلاحه بها دون غيرها، فكما أن هذا الطفل الذي يولد غذاؤه الوحيد هو اللبن، وصلاح بدنه لا يكون إلا باللبن، ولو أتيت له بأفخم المطعومات وأغلاها وأثمنها كاللحوم وغيرها فإنها تضره، وقد تهلكه؛ لأن البدن في هذه المرحلة لا يستطيع تحمل ولا هضم هذه الأطعمة، فالشيء الوحيد الذي يصلح له هو هذا اللبن، فالفطرة بالنسبة لقلبك وصلاحه كاللبن بالنسبة لبدنك.
فلذلك ربط في الحديث بين الفطرة وبين اللبن، وهذا يتعلق بمن تسلم فطرته وتنجو من مؤثرات البيئة من حوله.
أما الذي تفسد فطرته بعوامل البيئة المحيطة به، فإنه ينشأ على عقائد منحرفة أجنبية عن فطرته السوية، فأي انحراف عن الإسلام فهو خلاف الأصل، فالأصل هو التوحيد، والشرك طارئ، لا كما يزعم الجهلة الكذابون الدجالون من أن الشرك هو الأصل، وأن الإنسان بطبيعته مشرك، كلا، بل الإنسان بفطرته موحّد كما بينا.
يقول الله تبارك وتعالى في المنافقين: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16]، فجعل الهدى هو رأس المال الحاصل عندهم، إلا أنهم عرّضوه للزوال فخسروه، وذلك حين بدلوا هذه الفطرة المستقيمة القريبة منهم، واشتروا بها الضلالة البعيدة عنهم، فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين.
إذاً: فما هو الهدى الذي كان عند المنافقين الذين اشتروا الضلالة بالهدى؟ إنّه الفطرة.(100/18)
موانع الانتفاع بالفطرة السليمة
إنّ مثَل الفطرة مع الحق كبصر العين مع الشمس، فكل ذي عين مبصرة لو تركت عينه بغير حجاب عليها فإنه يرى الشمس، فالعقائد الباطلة كاليهودية والنصرانية والمجوسية مثل الحجاب على العين، فهي تحول بين البصر وبين رؤية الشمس، كما أن كل ذي حس سليم يحب الحلو إلّا أن يعرض في طبيعته فساد يجعل الحلو في فمه مراً، فيقول: أنا أشرب العسل فأجد أنه مر، فنقول له: أنت فيك فساد في حاسة الذوق في لسانك، فالأجزاء الحسية في اللسان فيها آفة، أو عندك سبب آخر، فالأذى فيك أنت، وأما العسل فهو هو، فكذلك العين السليمة يستطيع الإنسان أن يرى بها الشمس، لكن قد تأتي الحجب فتحول دون رؤيتها، والعين نفسها مستعدة لتتقبل ضوء الشمس وتعترف به، لكن الحواجز الموجودة تحجب الرؤية، كما يقول الشاعر: ومن يكن ذا فم مرّ مريض يجد مراً به الماء الزلالا أي: بعض الناس يصيبه مرض، فيقول: أنا أشرب الماء وأطعمه مراً، فهذا آفته في نفسه، وليست في هذا الماء الزلال.(100/19)
قصة تتعلق بالفطرة
وأذكر أني سمعت شريطاً لأحد الإخوة كان نصرانياً وأسلم، وذكر في قصة إسلامه السبب الذي فجر قضية الإسلام في ذهنه، وظلت في ذاكرته إلى أن نضج وكبر، ثم انتهى الأمر ولله الحمد إلى إسلامه، وهو من الدعاة إلى الإسلام الآن.
قال هذا الأخ: إن أباه تأخر جداً في اصطحابه إلى القسيس كي يقوم بعملية التعميد أو التغطيس، ومعروف أن التعميد لا يكون إلّا بأن يتجرد الإنسان من ثيابه تماماً سواء كان رجلاً أو امرأة، ولو كان ابن عشرين أو ثلاثين سنة ولم يعمد بعدُ، فيحمله القسيس وأعوانه ويغطسونه في ماء خاص، والله أعلم ماذا في هذا الماء، ويقولون: إن فيه بركة وأشياء من الزيوت ونحوها، والله أعلم.
المهم أن هذا الأخ لما اصطحبه أبوه كان عمره اثنتي عشرة سنة، ولم يكن قد عُمَّد بعد، فذهب مع أبيه إلى هذا القسيس لكي يعمدوه، فصرخ القسيس في وجه أبيه وقال له: صار الآن اثنتا عشرة سنة ولم تعمده بعدُ؟! أما تعلم أنه حتى الآن ما زال مسلماً؟! كيف تأخرت إلى الآن في تعليمه؟! فحفر هذا الكلام في ذاكرة الولد، فلما كبر سُّنه ظلت تلك الكلمات تحزّ في نفسه، فقال لنفسه لما أدرك ونضج: لو كان الله سبحانه وتعالى يعرف ديناً أفضل من دين الإسلام لفطرني عليه.
فكانت كلمة هذا القسيس سبب إسلامه.(100/20)
حقيقة الإسلام وعدم مصادمته للحقائق العلمية
إإن حقيقة الإسلام أن يستسلم العبد لله لا لغيره، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فيا سبحان الله! لو أنّ عاقلاً تأمل في حقائق هذا الدين، واعتبر نفسه محايداً لا علاقة له بالأديان، فتأمل وبحث عن صورة لعقيدة صحيحة، وأحكام كاملة، وقيم مثالية، ونظافة وطهارة، وكمال في كل شيء، فإنه لا يجد إلا الإسلام، فلا يمكن أن تكون هناك صورة أخرى للدين الصحيح في غير هذا الدين، وهذا كله يدرك بالعقل حتى دون الخوض في الأدلة الشرعية، فكل سؤال له في ديننا جوابه العلمي المنطقي الذي يقتنع به الإنسان.
فلا يصادم الدين الإسلامي الحقائق العلمية أبداً، فهو الفطرة السليمة، وهو قيم وأخلاق ومُثُل عليا.
فهذا هو معنى لا إله إلا الله، فالقلوب مفطورة على الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى، ولو استرجع الإنسان من فترات طفولته المبكرة، لشعر أن قلبه في حالة افتقار إلى الله عز وجل.
إنّ هذه القلوب لا تقنع أبداً، ولا تطمئن إلى أي محبوب سوى الله عز وجل، وكلما أحبت غير الله فإنها لا تقنع به، بل تنتقل عنه كما قال ابن القيم: لقد كان يسبي القلب في كل ليلة ثمانون بل تسعون نفساً وأرجحُ يهيم بهذا ثم يعشق غيره ويسلوهم من فوره حين يصبح فلما دعا قلبي هواك أجابه فليس أراه عن خبائك يبرحُ إلى آخرها، وهي قصيدة جميلة في أوائل كتاب (طريق الهجرتين) للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.
فالقلب لا يسكن ولا يطمئن إلا إذا عُمَّر بمحبة الله، وأما إذا عمَّر بغير ذلك فلا يمكن أن يجد سكينة أو راحة، بل قضى الله سبحانه وتعالى قضاء مبرماً لا يرد ولا ينقض أنّ من أحب غيره عذب به ولابد.
فإذا أحبت القلوب الله سبحانه وتعالى ووحدته سكنت واطمأنت واستقرت {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].(100/21)
معنى الفطرة لغة واصطلاحاً
الفطرة في اللغة: مأخوذة من فطر الشيء يفطره، إذا شقه، فشقّ الشيء معناه فطره، وتفطر يعني: تشقق، والفطر هو الشق، وجمعه فطور، ومنه فطر ناب البعير، إذا نبت.
وقال عز وجل: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1]، أي: انشقت، وفي حديث عائشة رضي الله عنها كما في البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه) يعني: تتشقق.
والفَطر هو الابتداء والاختراع، قال الله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1]، يعني: خالقهما ومبتدئهما.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كنت لا أدري ما (فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرت البئر، فهي بئري، يعني: أنا بدأتها.
ففهم معنى الفطر من قول الأعرابي، فهذا من حيث اللغة.
أما من حيث الاصطلاح، فالفطرة هي دين الإسلام.
كما في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].
إن الحقيقة التي نستنبطها من القرآن في هذه القضية: هي أن كل مولود يولد على فطرة التوحيد، فقد دلتنا قصة آدم عليه السلام على أنه كان على عقيدة التوحيد، ودل القرآن الكريم والسنة النبوية على أن هذا لم يكن خاصاً بالإنسان الأول وهو آدم عليه السلام، وإنما هو عام في كل مولود.
يقول سبحانه وتعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
قال ابن كثير: أي: سدد وجهك واستمر واثبت على هذا الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية السمحة، ملة إبراهيم عليه السلام التي هداك الله لها، وكملها لك غاية الإكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فقد فطر الله تعالى العباد على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره.
وقوله: (حَنِيفًا) يعني: مائلاً عن الأديان إلى الإسلام.
وقد اختلف العلماء في تفسير قوله تعالى: ((لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)) فقال بعض العلماء: إنها خبر بمعنى الطلب، كما تقول في الحديث: (لا ضرر ولا ضرار)، فلفظه لفظ الخبر، لكن المقصود به الأمر أو النهي، أي: لا تضر غيرك سواء ابتداء أو على سبيل المقابلة.
وكذلك مثل قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فلفظه لفظ الخبر، والمراد به الطلب والتكليف، أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا، بدليل أن الناس قد يرتكبون مثل هذا، فدل على أنه أمر شرعي إرادي، وليس أمراً كونياً قدرياً.
إذاً: فقوله: (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) خبر بمعنى الطلب، أي: لا تبدلوا خلق الله، ولا تحرفوا الناس عن فطرتهم.
القول الثاني: أنها خبر على بابه، وليس المقصود بها الأمر أو التكليف، لكن المعنى أن الله سبحانه وتعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة، فلا يولد أحد إلا على ذلك، ولا تفاوت بينهم في ذلك، فكل الناس يستوون في أنهم يفطرون على الفطرة المستقيمة السوية.
لقد فسر البخاري قوله تعالى: (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) قال: لدين الله، واستشهد أن قوله تعالى: {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137] يعني دين الأولين، ثم قال: الفطرة الإسلام.
وقال سبحانه وتعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213]، وزادها إيضاحاً في قوله: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس:19].
فهذه الآيات الكريمات تدل على أن الدين الحنيف هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وأن ذلك هو الدين القيم الذي كان الناس عليه قبل أن يختلفوا.
قال العلماء في تفسير قوله تعالى: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)) أي: أن الناس بقوا عشرة قرون على الدين الحق، وذلك قبل حدوث التغيير وظهور الشرك، فبقي الإسلام والتوحيد ولم يطرأ شرك إلا بعد ألف سنة من وجود البشرية في هذه الأرض، ثم طرأ الشرك بعد ذلك.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟)، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] رواه البخاري ومسلم.
يقول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: (ما من مولود) يعني: ليس هناك مولود من بني آدم.
قوله: (إلا ويولد على الفطرة)، أي: على الدين الإسلامي، وذلك كما في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]، وهذه الفطرة كما قال العلماء: هي الإيمان المعهود الذي أخذ الله عليه الميثاق من بني آدم، وذلك لما ضرب صلب آدم واستخرج منه كل ذريته عليه السلام، فأخذ عليهم الميثاق وهم في عالم الذر، وقال لهم:: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، فكل إنسان أخذ عليه هذا الميثاق، وقد يقول قائل: نحن الآن لا نذكر هذا الميثاق، فنقول: يكفي أن يخبرنا الوحي بوقوعه، فنؤمن بوقوعه كسائر أخبار الغيب التي أخبرنا الله عنها، فنصدقها وإن نسينا هذا الميثاق، ثم إنك تشعر في نفسك بهذا الميثاق وهذه الفطرة، فأنت تشعر أن قضية وجود الله سبحانه وتعالى مثلاً لا تحتاج إلى دليل بالنسبة للمؤمن السليم الفطرة، فلا تجد عنده جدلاً في قضية وجود الله، وإنما تجد الجدل في ذلك عند من تلوث بالشبهات والوساوس الشيطانية، ممن استمع لأهل الإلحاد والانحراف وأشباههم.
فتجد أنّ أقوى دليل عند الإنسان على وجود الله هو الفطرة، وهذه مسألة غير قابلة للنقاش عنده؛ لأنّ هذه الفطرة مغروسة في الأعماق، فهذا أقوى دليل على أن الله خلقنا بفطرة، فنحس بالانجذاب إلى التوحيد، والإقرار بألوهيته تبارك وتعالى.
وقال بعض العلماء في قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) أي: اثبت على إيمانك القديم الواقع منك في عالم الذر.
وهذه الفطرة هي فطرة الإسلام، والسلامة من الاعتقادات الباطلة، والقبول بالعقائد الصحيحة.
وتفسير الفطرة في الحديث وفي الآيات بالإسلام تدل عليه أشياء كثيرة وتؤيده وتثبت صحته، فالروايات المختلفة الألفاظ المتفقة المعاني والتي يفسر بعضها بعضاً تؤيد هذا، مثل رواية: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة) كما في الرواية التي ذكرناها، وهناك رواية أخرى: (ما من مولود يولد إلا وهو على الملة)، أي: الملة الإسلامية الحنيفية، كما في (صحيح مسلم).
أيضاً: مما يؤيد تفسير الفطرة بالإسلام قول أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بعدما ذكر قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) إلى آخر الحديث، ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا).
فقد فسر أبو هريرة الحديث بالآية.
وحكى أبو عمر بن عبد البر إجماع العلماء على أن المراد بالفطرة في هذه الآية هو الإسلام.
وأيضاً: فتوى أبي هريرة رضي الله عنه، فقد سئل رضي الله عنه عن رجل عليه كفارة، وهي عتق رقبة مؤمنة، أيجزئ عنه الصبي أن يعتقه وهو رضيع؟ فقال: نعم؛ لأنه ولد على الفطرة.
فاستدل أبو هريرة بالحديث السابق على أن هذه رقبة مؤمنة.
وقال ابن شهاب الزهري: يصلى على كل مولود متوفى وإن كان لغية.
يعني: من ولد الزنا؛ من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام فهو لا ذنب له، وإن كان أتى عن طريق الخطيئة فإنه يولد مبرأ من كل وزر.
وأفتى الزهري رجلاً عليه رقبة مؤمنة أن يعتق رضيعاً؛ لأنه ولد على الفطرة.
وقال الإمام أحمد: من مات أبواه وهما كافران، حكم بإسلامه، واستدل بقوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة).
وأيضاً: قوله: (فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)، فقد ذكر الانحرافات التي تطرأ على الفطرة، وذكر أنواعها، وذكر تغيير الفطرة إلى ملل الكفر، ولم يذكر الإسلام، فلم يقل: أو يمسلمانه، ولكن قال: (فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)، فعُلم أنه يتحول عن الإسلام إلى غيره بفعل الأبوين أو غيرهما.
وأيضاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (كما تُنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟)، فهذه إشارة إلى مثال أنتم ترونه في حياتكم وواقعكم، فالبهيمة خُلقت سليمة، ثم جُدعت بعد ذلك، أي: أنها تقطع أذنها، فهل تولد وهي مقطوعة الأذن؟
الجواب
الأصل أن البهائم تولد سليمة، وقطع الأذن شيء طارئ.
فالتغيير هو الانحراف والنقل عن الأصل، فلذلك قال بعده: (هل تحسون فيها من جدعاء؟) إشارة إلى أن البهيمة خلقت سليمة، ثم جدعت بعد ذلك، فكذلك الولد يولد سليماً من الكفر، ثم يطرأ عليه الكفر بعد ذلك، فالعيب الذي طرأ على البدن يقابله العيب الذي طرأ على الدين وهو الكفر.
فهذه الفطرة هي فطرة الإسلام، والسلامة من الاعتقادات الباطلة.(100/22)
الأصل في عقيدة الإنسان هو التوحيد
إن ذلك الحديث الشريف الذي سبق ذكره وفيه: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) يؤكد أن الأصل في عقيدة الإنسان هو التوحيد، وأنه يولد مهيئاً للعقيدة الصحيحة في فاطره وخالقه سبحانه وتعالى، وأما الشرك فهو انحراف يطرأ على هذا الأصل فيفسد الفطرة، وذلك بتأثير البيئة المحيطة به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فأبواه يهودانه)، أي: يجعلانه يهودياً إذا كانا يهوديين.
قوله: (أو ينصرانه) أي: يجعلانه نصرانياً إن كانا نصرانيين.
وقوله: (أو يمجسانه) أي: يجعلانه مجوسياً إن كانا مجوسيين.
والشاهد من الحديث أن الضلال عن فطرة الإسلام ليس من المولود، بل هو من مؤثر خارجي، فإن بلغ الحلم وبقي منحرفاً عن دين الفطرة بقي معه ضلاله، وإذا أسلم وجهه لله عز وجل انتفى عنه وعاد إلى الفطرة الإسلامية.
لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً يؤكد معنى الحديث فقال: (كما تنتج البهمية) يعني: كما تلد البهيمة قوله: (بهيمة جمعاء) أي: تامة الأعضاء، وسميت جمعاء؛ لاجتماع أعضائها.
(فالمولود يولد على الفطرة مثل نتاج البهيمة، فإنها تولد سليمة الأعضاء مكتملة).
قوله: (هل تحسون فيها من جدعاء؟) أي: هل تبصرون فيها مقطوعة الأذن أو الأطراف أو الأنف، وإنما يطرأ عليها قطع الأعضاء بعد ولادتها سلمية.
فكذلك الأبوان الكافران يغيران فطرة ولدهما، ويزينان له العقيدة الباطلة.
وهذا الذي دل عليه الحديث النبوي الشريف قد دل عليه الحديث القدسي الذي رواه عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته حاكياً عن الله عز وجل أنه قال: وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت عليهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً).
فقوله تعالى في الحديث: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم) أي: جمع حنيف، وهو الذي يميل إلى الشيء ولا يرجع عنه، كالحنف في الرِّجْلِ وهو ميلها إلى خارجها، فلا يقدر الأحنف أن يرد حنفه، والمقصود بالحنيف هنا: الذي يميل عن الأديان إلى الإسلام، فهذا الحديث يدل على أن الأصل في الآدميين هو الفطرة والتوحيد، وأن الشرك عارض طارئ.
فهذا ما تيسر من الكلام في شرح قوله صلى الله عيله وآله وسلم: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟).
ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (اقرءوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] إلى آخر الآية، وهذا الحديث رواه الشيخان كما بينا.
وللحديث إن شاء الله شيء من البقية، فهناك حقائق أخرى من القرآن فيها الرد على هذه المزاعم فيما يتعلق بالتاريخ الحقيقي لدين الإسلام ولفطرة التوحيد.(100/23)
الأسئلة(100/24)
شبهة والجواب عنها
السؤال
احتج القائلون بالتطوير على زعمهم بحديث للنبي صلى الله عليه وسلم وهو: (كان خلق آدم ستون ذراعاً في السماء، ثم تناقص الخلق حتى وصل إلى هذه الحالة) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فما الرد الصريح على هذه الشبهة؟
الجواب
طول الإنسان الآن يقرب من متر ونصف أو أكثر، فهل في هذا تصحيح لنظرية التطور الكذابة؟! فقد عكسوا كل شيء، فقالوا: إنّ الأصل في الإنسان هو الشرك، ونحن نؤمن أن الأصل في الإنسان هو التوحيد، وكذلك هنا في مسألة البنية والجسم، فالذي حصل هو عملية انحطاط في الجانبين: في العقيدة، وفي البنية، ففي العقيدة الأصل هو التوحيد، ثم طرأ الشرك، {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا} [البقرة:213]، فالشرك طارئ كما جاء في الحديث الذي ذكرناه آنفاً، وأما في بنية البدن نفسه، فهذا الحديث يثبت أن آدم عليه السلام كان في أكمل وأقوى وأجمل صورة، ستون ذراعاً في السماء، يصل تقريباً إلى ارتفاع عمارة مكونة من أربعة عشر دوراً، فهذه خلقة آدم، فلا يزال طول الخلق ينقص إلى اليوم، فهذا يدل على أن بنية الإنسان أيضاً حصل فيها عملية انحدار ونقصان، لا تطور كما تزعم نظرية التطور.
وصلى الله على عبد ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(100/25)
نظرة في تاريخ العقيدة [2]
لقد خلق الله تبارك وتعالى أبانا آدم عليه السلام خلقاً كاملاً سوياً في التفكير والتدبير والفهم والمعرفة، فلم يجعله خلقاً متوحشاً، ولا مخلوقاً ناقصاً في العقل شبيهاً بالقرود والحيوانات كما يزعم ذلك من لا خلاق له في العلم والعمل.
ثم بعد ذلك عرّفه الله على نفسه، وأمره ونهاه، ولم يتركه إلى عقله وفهمه ليكتشف التوحيد والدين عن طريق التجارب والممارسة، بل علمه الله كل شيء، والأدلة متكاثرة ومتواترة على ذلك، فتباً لعقول معكوسة، وفهوم مركوسة لا تفهم الأمور إلّا بالمقلوب، فصيرت الإنسان قرداً وحيواناً، وجعلت البقرة والفأر إلهاً ورباً معبوداً!!(101/1)
نبذة مختصرة عن تاريخ العقيدة وأهم مصادرها
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلّا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد شرعنا في الأسبوع الماضي في دارسة البحث المتعلق بتاريخ العقيدة وتاريخ الدين، وذكرنا التخبط الذي يحصل من بعض الباحثين في هذا الباب؛ نتيجة اعتمادهم على أشياء لا يجنون منها سوى التخبط والجهل، ولا تصلح أن يقوم عليها العلم والبحث في طبقات الأرض، أو في تواريخ الأمم القديمة من خلال الحفريات والآثار، أو في تاريخ -كما يزعمون- الأمم المعاصرة، أو الأمم غير المتحضرة، فهي تعكس في زعمهم ما كان عليه الإنسان الأول في عقيدته.
وانتهينا إلى أنه لا يوجد هناك مصدر نستطيع من خلاله أن ندرك هذه الأمور على حقيقتها سوى القرآن الكريم.
وقلنا: إننا في هذا الباب إذا تأملنا القرآن خرجنا بعدة حقائق، وذكرنا أولى هذه الحقائق وهي: أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم عليه السلام منذ البداية خلقاً سوياً مستقلاً مكتملاً، ثم نفخ فيه من روحه، وأنه خلقه لغاية محددة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وأن آدم عليه السلام كان مؤهلاً لعبادة الله، ولفهم هذه الرسالة، وللتعرف على ربه عز وجل، وأن الله سبحانه وتعالى عرّف آدم على نفسه منذ اللحظة الأولى، ولم يتركه لفكره وعقله ليتعرف على ربه بطريق التفكير والتأمل، وإنما عرّفه الله سبحانه وتعالى بنفسه منذ الوهلة الأولى، وذكرنا الأدلة على ذلك من القرآن الكريم.
ثم تعرضنا للحقيقة الثانية التي نستطيع استنتاجها من القرآن الكريم في هذا الباب وهي: أن كل مولود يولد على فطرة التوحيد، ويولد مهيئاً لقبول عقيدة التوحيد والإسلام.
وشرحنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟).
ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].
ثم بيّنّا أن هذه الفطرة لا بد أن تكون هي فطرة الإسلام لا غير، وذكرنا الأدلة على ذلك.
كذلك ذكرنا قول الله تعالى في الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً).(101/2)
الأصل في تاريخ البشرية هو التوحيد والإسلام
كنا قد تعرضنا ضمن الكلام السابق إلى أن التوحيد هو الأصل وأن الشرك طارئ عليه، فاعلم أخي المسلم أنّ التوحيد هو الأصل في تاريخ البشر، كما أن التوحيد مركوز في فطرة كل مولود، فهو الأصل بصفة فردية، وكذلك فيما يتعلق بتاريخ البشرية كلها، والشرك طرأ على الأمم بعد ذلك.
فتاريخ الأمة الإسلامية ليس كما يزعم بعض الناس أنه يبدأ من القرن السابع الميلادي ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنّ هذا خطأ فادح، بل إنّ تاريخ الديانة الإسلامية لم تبدأ بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم منذ أربعة عشر قرناً، وإنما بدأت منذ الفجر الأول للبشرية، وذلك مع خلق آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فاللبنة الأولى في تاريخ البشرية والمكونة من آدم وحواء وذريتهما كانت مفطورة على الإسلام، وكذلك كل من جاء بعدهم من الأنبياء والرسل الذين كان لهم شرف حمل رسالة الإسلام، كلهم كانوا على متن هذا الدين، وقد استجاب لهم أقوام عاشوا للإسلام وبالإسلام، ومنهم تكونت أمة الإسلام.
إذاً: فالأمة الإسلامية لم تبدأ هذه البداية منذ أربعة عشر قرناً، ولكنها موغلة في القدم، وهي الأصل في تاريخ هذه البشرية كلها.
ونزيد الأمر إيضاحاً وذلك بالتدليل من القرآن الكريم على هذه الحقيقة، وهي أن الجيل الأول من البشرية كان على التوحيد: فحينما هبط آدم عليه السلام إلى الأرض، أنشأ الله من ذريته أمة كانت على التوحيد الخالص، كما قال سبحانه وتعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] يعني: كانوا على التوحيد وعلى الدين الحق، {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213]، وهنا لا بد من أن نقدر كلمة نفهم بها السياق وهي فاختلفوا، {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:213].
وفي حديث أبي أمامة رضي الله عنه: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أنبي كان آدم؟ قال: نعم، مكلَّم).
يعني: كان نبياً مكلماً كموسى عليه السلام، كما في قوله: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253]، فآدم ممن كلمهم الله سبحانه وتعالى، (قال: نعم، مكلم، قال: فكم بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون) يعني: ألف سنة.
أخرجه أبو حاتم بن حبان في (صحيحه)، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في (البداية والنهاية): هذا على شرط مسلم، ولم يخرّجه.(101/3)
أول نشوء الشرك وسببه
جاء في (صحيح البخاري) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام) يعني: خلال الألف السنة الأولى كان كل من في الأرض ممن ينتمي إلى الجنس البشري على دين الإسلام، ثم بعد ذلك طرأ الانحراف، فأول انحراف عن العقيدة حصل بعد أن كان الناس أمة واحدة، وكان هذا الانحراف سببه هو الغلو في تعظيم الصالحين، فلم يزين الشيطان للبشرية الوقوع في الشرك بصورة صريحة واضحة، وإلا لسهل كشف أمره، ولكنه زينها لهم عن طريق الغلو في إظهار محبتهم للصالحين، فما زال بهم هذا الغلو والإفراط حتى رفعوهم إلى مرتبة الآلهة المعبودة، ففي (صحيح البخاري) من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، عند تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23].
قال ابن عباس: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم.
ففعلوا، فلم تعبد -أي: لم يعبدها الجيل الأول- حتى إذا هلك أولئك، وانتسخ العلم -يعني: ذهب العلم ودرج-، عبدت من دون الله تبارك وتعالى.(101/4)
تحذير العلماء من الغلو في الصالحين
إن العلماء رحمهم الله تعالى حذروا من الغلو في الصالحين والتعظيم لهم، وخصوصاً فيمن كان رئيساً أو زعيماً أو معظماً في قومه، فهذا يشتد الحذر والاحتياط في حقه أكثر من غيره، فلا يجيزون التصوير واتخاذ الصور أصلاً، ويزداد الأمر إذا كانت صوراً لأئمة أو معظمين في الدين؛ سداً لذريعة الإشراك بهم، والحديث يطول جداً إذا أفضنا في بيان هذا الأمر، وانعكاسه على واقعنا في هذا الزمان، ووقوع الناس في كثير من الشرك بسبب التساهل في تعظيم الصالحين، حتى صاروا يعبدون الموتى، ويطوفون بهم، ويجيئون لقبورهم، ويصفون بها، وينذرون لها النذور، فكل هذا شرك صريح وخروج من ملة الإسلام بلا شك.
فيظهرون كل هذا في ثوب التوحيد، وباسم الإسلام، وباسم التقرب إلى الله بمحبة الصالحين، حتى وصل الأمر إلى أنه وجد في دمنهور ضريح مدفون في مسجد، وهذا الضريح هو ضريح أبي حصيرة، وهو رجل يهودي، واليهود الآن بعد ما حصلت معاهدة السلام صاروا يأتون من فلسطين المحتلة إلى دمنهور كي يحجوا إلى هذا الضريح مع المسلمين، فهؤلاء يعظمونه وهؤلاء يعظمونه، فإذا كنتم تعظمون يهودياً مدفوناً في هذا المسجد فماذا بعد هذا؟! وأي دليل تطلبون واليهود يشدون إليه رحالهم؟!! وهكذا، فإنّ أكثر هذه المقابر والأضرحة مبنية على أوهام وخيالات، وذلك مثل قبر السيدة زينب، فمتى دخلت السيدة زينب إلى مصر؟! وأين دفنت؟ وإذا رجعنا إلى التاريخ نجد أن رجلاً كان في ناحية المكان يوزع فيه الماء فرأى هذا الرجل في المنام أنّ السيدة زينب أتته وقالت له: ابن لي ضريحاً في هذا المكان.
فقام الرجل وبنى لها ضريحاً وهمياً لم يُدفن فيه أحد أبداً، فكثير من هذه الأضرحة وهمية.
وكذلك قبر الحسين، وُيدعى وجوده في أكثر من خمسة أماكن في العالم الإسلامي، ففي سوريا هناك قبر، وفي العراق، وفي كذا وكذا قبر، وهو مقام الحسين رضي الله تعالى عنه.
إذاً: فهذه البضاعة لا تروج إلا في سوق الجهل والأمية والغلو الذي لم تنج منه حتى هذه الأمة.(101/5)
سبب إرسال نوح إلى قومه وجداله لهم
إنّ أول انحراف وجد في تاريخ البشرية عن التوحيد هو ما حصل من قوم نوح، وذلك بسبب الغلو في تعظيم الصالحين، فأرسل الله إليهم أول رسله نوحاً عليه السلام مصداقاً لوعده الذي أعطاه لأبي البشر آدم، فالله سبحانه وتعالى وعد آدم عندما أنزله إلى الأرض فقال: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38].
فالدليل على أن نوحاً عليه السلام هو أول رسول بعث إلى البشر هو حديث الشفاعة، وهو حديث متفق عليه، وفيه: أن الناس يأتون أولاً آدم عليه السلام، ثم يأتون نوحاً، فكان مما قالوا له: (يا نوح! أنت أول الرسل إلى أهل الأرض)، فهذا هو الدليل على أولية نوح عليه السلام بالنسبة للرسل، وأما آدم فهو أول نبي.
والنصوص التي بين أيدينا من كتاب ربنا عز وجل تدل دلالة واضحة على أن نوحاً قد دعا إلى التوحيد الخالص، فقد قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59]، وقال: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف:21]، وقال أيضاً كما حكاه الله عنه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:23]، والذين استجابوا لدعوته للتوحيد هم ضعفاء الناس.
فنحن إذا أعملنا الفرية الكاذبة المسماه: بنظرية التطور المزعومة التي يدعيها الملاحدة، فإن التطور على زعمهم يحصل في أحقاب سحيقة من التاريخ، فالألف سنة ونحوها تعتبر فترة وجيزة جداً لا يكفي أن يحصل فيها تطور بزعمهم، فيترتب على ذلك شموله لبعثة نوح، فإذا كان آدم عليه السلام متخلفاً وكان على هيئة القرد، ويمشي منحنياً، وجسمه مليء بالشعر كالغوريلا أو الشمبانزي، فكذلك نوح عليه السلام كان في عرفهم من أقسام الإنسان الأول الذي يزعمون؛ فبالتالي سنكفر بآيات الله سبحانه وتعالى جميعها؛ كي نصدق هؤلاء الملاحدة.
فهذا نوح أيضاً يدعو إلى التوحيد وإلى الإسلام، فاستجاب لدعوته ضعفاء الناس، وتنكر لها السادة والزعماء الذين يظنون في أنفسهم العقل والفطنة والذكاء، واستكبروا عن متابعة الحق، قال الله حاكياً عنهم: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأعراف:60]، والملأ: هم السادة والكبراء، وقالوا له: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27]، أي: ما نرى اتبعك إلا الضعفاء والفقراء والمساكين (بَادِيَ الرَّأْيِ) يعني: أنّ هؤلاء استجابوا لك من أول سماعهم لكلامك، وأما نحن فأهل الفطنة وأهل التفلسف والذكاء، فلا بد أن نتمعن في مثل هذا الكلام الذي تقول: إنه وحي من الله، ولسنا مثل هؤلاء السذج الذين قبلوا ما دعوتهم إليه لأول الأمر، ولم يتعمقوا فيه، وإنما اتبعوك بدون تأمل عميق ولا تفكير ونظر.
وهذا الذي رموهم به منقبة في حقهم؛ لأن الحق إذا ظهر فإنه لا يحتاج إلى نظر، بل يجب اتباعه، فهذا هو السر في أنهم اتبعوه فوراً، فهذا شأن الإنسان سليم الفطرة أنه إذا ظهر له الحق فإنه ينقاد إليه فوراً ولا يتردد، ولا يحتاج إلى تأمل ولا إلى تفكير.
وقالوا: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود:27]، أي: أنهم تعجبوا كيف يبعث الله بشراً رسولاً.
وقال عز وجل: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً} [المؤمنون:24].
ثم اشترطوا كي يتابعوه أن يطرد من حوله من الضعفاء والفقراء والمساكين، فرد عليهم نوح عليه السلام بقوله: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود:29].
فتطاول الزمان، وكثرت المجادلة بين نوح عليه السلام وبين قومه كما قال عز وجل: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت:14].
فمكث نوح عليه السلام يدعوهم إلى توحيد الله عز وجل تسعمائة وخمسين سنة، فلما أيس منهم ورأى أنّه لا يخرج من أصلابهم إلا كافر مثلهم دعا عليهم، قال تعالى حاكياً عنه: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27]، فأهلكهم الله عز وجل بالطوفان: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفرقان:37]، وأنجى الله نوحاً والمؤمنين برحمة منه، وخلت الأرض من الظالمين، ولم يبق فيها إلا الموحدون، فلما انحرفوا عن التوحيد أرسل الله إليهم رسولاً، يقول تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [المؤمنون:31 - 32]، فدعاهم أيضاً إلى التوحيد: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32].
وهكذا استمرت رحمة الله سبحانه وتعالى وعنايته ببني آدم، فكلما ضلوا وزاغوا أنزل إليهم ما يضيء لهم الظلمات، قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:44].
فهذه هي القصة الحقيقية للبشرية: صراع طويل بين الحق والباطل، بين الرسل الذين يعرضون الحق والهدى، وبين الضالين عن التوحيد المتمسكين بما أَلْفَوا عليه الآباء والأجداد بأهوائهم ومعتقداتهم الباطلة: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم:9 - 10].(101/6)
الشرك انحطاط وليس ترقياً كما يزعم الأفاكون
إن الشرك الطارئ انحطاط من الأعلى إلى الأدنى، وليس ترقياً ولا تطوراً، لا في بنية الإنسان ولا في عقيدته، فبالنسبة لبنية الإنسان: فإن الإنسان خلق في أكمل وأجمل وأعظم صورة، فقد كان طول آدم عليه السلام ستين ذراعاً في السماء، ثم بدأ الخلق يتناقص حتى وصلنا إلى الوضع الذي نحن عليه الآن، فهي عملية انحدار وهبوط وتدهور، وليست رقياً وتطوراً.
وكذلك أيضاً في شأن العقيدة، فالأصل هو التوحيد، ثم ينحدر الناس وينحطون إلى الأسفل وهو الشرك، وليس كما يزعم أهل التطور المزعوم أن الإنسان يترقى في اكتشاف هذه العقيدة.
فليس السبب في الشرك واتخاذ المعبودات من دون الله هو الترقي في العقيدة خلال القرون، بل سببه الحقيقي هو انحراف أتباع الرسل عما جاءت به الرسل، فهذا هو السبب الحقيقي في حدوث الشرك في الأرض، يقول تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]، واتباعهم الظن والهوى وتركهم الهدى، يقول تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23].
وقال عز وجل: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77].
وقال في اليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13].
وقال في النصارى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14].
إذاً: فهذا هو سبب الضلال والانحراف عن الوحي، وهذا هو تعليل وجود الشرك على ظهر الأرض، وليس عملية التطور المزعومة كما ذكروا.
وقال الله تبارك وتعالى أيضاً مبيناً سبب انحرافهم عن التوحيد الذي أمروا به: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].
فالرسل مبرءون من الذين انحرفوا عن منهجهم قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ} [المائدة:116]، فعبر عنه هنا بصيغة الماضي؛ للدلالة على تحقق الوقوع، فكأنه قد وقع، مع أنه سيقع في المستقبل، يعني: سيقول الله يوم القيامة {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:116 - 117] إلى آخر الآية.(101/7)
إرسال الرسل والنذر إلى جميع الأمم
إن الله سبحانه وتعالى لم يترك أمة بلا نذير، فآدم عليه السلام هو أول البشر خلقه الله تبارك وتعالى من تراب من غير أب ولا أم، ثم خلق منه زوجه، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، وكانت بداية عيش هذا النوع في الجنة، ثم أهبط إلى الأرض، فعرف آدم ربه في السماء وتوجه إليه وأناب بعد أن أهبطه الله إلى الأرض، فتولى الله سبحانه وتعالى هذا النوع من خلقه بهداه، إذ لا صلاح له ولا بقاء في هذه الدنيا إلا باتباع هدى الله، كما قال عز وجل: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38].
وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124].
ومن المعروف أنّ الهدى يأتي دائماً في مقابلة الهوى، وأنّ الهوى يأتي في مقابلة الهدى أو الوحي، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، كهذه الآية، ومنها أيضاً قوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50] يعني: فإن لم يستجيبوا لك في الوحي.
ومنها قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
وقوله: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص:26].
فالله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان عبثاً، ولم يتركه سدىً، وإنما خلقه لحكمة وغاية، وامتحنه بالفعل والترك حين أوحى إلى رسله، يقول تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]، يعني: فـ ((هَلْ)) هنا بمعنى: قد، {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:2 - 3].
ويقول تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115].
ويقول تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36].
ويقول أيضاً: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7].
وقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2].
وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، يعني: لا يمكن أبداً أن يكون كل هذا الخلق سدى وعبثاً بلا حكمة، ولا أن الله غائب عن خلقه عياذاً بالله، بل الله شهيد على ما تعملون، فهو سبحانه وتعالى يرعى هذه البشرية، ونعمه تعم المؤمنين والكافرين.
فكما ذكرنا أنّ أول الخلق هو آدم عليه السلام، وأنه أول الذين اصطفاهم الله وخاطبهم بالوحي، وهو نبي مكلم كما جاء في الحديث.
وقال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36].
إذاً: فكل أمة قامت عليها الحجة الرسالية، وأما أهل الفترة الذين لم يبلغهم الوحي فحالتهم استثنائية، لكن كل أمة بعث فيها رسول، فهذه نظرتنا المغايرة لضلال أصحاب نظرية التطور في العقيدة، فإنهم حينما يتعرضون لديانة قدماء المصريين مثلاً، يتصورون الأمر وكأنهم معذورون، أو كأنهم باحثون عن الحقيقة حتى وصلوا إليها بالفعل، وذلك لما وحدوا الآلهة الثلاثة، وأن أخناتون هو أول من اخترع التوحيد، وهذا كله دجل وهو يناقض عقيدة المسلمين، ولا يمكن أن يعتقد هذا مسلم.
أما نحن فنؤمن أن قدماء المصريين قد قامت عليهم الحجة الرسالية قطعاً، سواء كان ذلك بموسى أو بغيره من الأنبياء، فالله يقول: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]، ويقول: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل:36]، و (كُلِّ) صيغة عموم، وقال تعالى: {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
فكل أمة قامت عليها الحجة الرسالية، وآثار قدماء المصريين خصوصاً تكشف لنا اعتقادهم في كثير من الأمور الغيبية التي ما كانوا ليؤمنوا بها إلا عن طريق الوحي، كنصب الموازين يوم القيامة، وحشر الأجساد وغير ذلك مما تدل عليه النقوش التي تركوها، فتلك تدل على الرسالات الإلهية التي أرسلت إليهم.
ويقول تبارك وتعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24].
فالله سبحانه وتعالى منذ خلق الإنسان فقد تعاهده برعايته وعنايته، وشرع له الشرائع السماوية التي تدعوه إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه.
بل لما كانت بعض الأمم لا تناسبها شريعة النبي السابق فإنه يوحي إليها بشريعة جديدة؛ حتى تواكب ما تحتاجه، وكذلك إذا حصل فيها تحريف، فإنه يبعث رسولاً آخر يجدد لهم هذا الدين.
لقد تكفل الله سبحانه وتعالى بألّا يعذب أحداً إلا بعد أن تقوم عليه الحجة الرسالية، يقول تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
ويقول تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:165].(101/8)
دعوة جميع الأنبياء والرسل إلى دين الإسلام
لقد دعا كل الرسل والأنبياء إلى دين واحد، وهو دين الإسلام، وهذا هو البحث الذي سنفصله إن شاء الله فيما يلي: فنقول: منذ وجد الشرك والفساد والمعاصي في هذه الأرض، والأنبياء والرسل يدعون الناس جميعاً إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومع ذلك كانوا ينهون أيضاً عن كل صور الفساد في الأرض.
والحقيقة التي ينبغي أن نتنبه لها أيضاً هي أن هؤلاء الذين كانوا يتبعون الرسل، كانوا مؤمنين، فكل من اتبع الرسل في أي أمة من الأمم الخالية فإنهم مؤمنون.
وكذلك الأنبياء كانوا أول المؤمنين بلا شك، فنوح عليه السلام كان مؤمناً، وكان الذين اتبعوه من قومه مؤمنين، وكذلك إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين وخليل الرحمن كان مؤمناً، وكذلك إسماعيل عليه السلام كان مؤمناً مسلماً، وكذلك إسحاق ويعقوب وموسى، وكذلك كان الأنبياء من بعده إلى عيسى.
لقد كان الأنبياء عليهم السلام من نوح إلى بعثة عيسى عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، هؤلاء أجمعون كانوا مؤمنين، وكان أتباعهم مؤمنين، حتى بعث الله تبارك وتعالى إلى البشرية كلها خاتمهم وسيدهم محمداً صلى الله عليه وسلم مؤمناً، وأتباعه مؤمنون، واليوم في عصرنا هذا يعرف الذين انتسبوا إلى موسى عليه السلام باليهود، وأحياناً يسمونهم الموسويين، ويعرف الذين انتسبوا إلى المسيح عليه السلام بالنصارى، ويسمونهم خطأً بالمسيحيين، ويعرف الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، وكل يؤمن أن دينه هو الدين المرضي عند الله تبارك وتعالى.
إذاً: فكلنا متفقون يهود ونصارى ومسلمون على أن آدم ونوحاً وجميع الأنبياء الذين أتوا بعد نوح عليه السلام إلى موسى كلهم أنبياء الله، وهؤلاء كلهم كانوا مؤمنين، ثم بعث الله تعالى عيسى عليه السلام أيضاً، فأتباعه مؤمنون، وعيسى كان مؤمناً، كذلك بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
فكل دين من الأديان الثلاثة يقول: إن دينه هو الإيمان، وأن أتباعه هم المؤمنون، فلا يستطيع مسلم ولا يهودي ولا نصراني أن ينفي الإيمان عن نوح، ولا عن إبراهيم، ولا عن إسماعيل، ولا عن إسحاق، ولا عن يعقوب ولا عن غيرهم من الأنبياء قبل موسى عليه السلام، فالجميع متفقون على أن هؤلاء أنبياء الله، وأنهم كانوا على دين الحق، وأن من تبعوهم كانوا مؤمنين، وأنهم كانوا على الدين المرضي عند الله عز وجل، وفي نفس الوقت لا يستطيع أحد منهم أن ينسب إبراهيم عليه السلام أو نوحاً أو هوداً أو صالحاً أو شعيباً أو غيرهم من الأنبياء بأنهم كانوا يهوداً؛ لأن اليهودية لم توجد إلا بعد موسى عليه السلام، وكذلك لا نستطيع أن نقول: إنهم كانوا نصارى؛ لأن النصرانية إنما وُجدت بعدهم، فاليهودية والنصرانية لم تكن قد عرفت بعدُ في عهد أي واحد من هؤلاء الأنبياء قبل موسى عليه السلام.
وهنا سؤال يفرض نفسه وهو: ما هو الدين الذي آمن به الأنبياء من زمن آدم عليه السلام إلى آخر نبي بعث قبل موسى عليه السلام؟ ما هو دين هؤلاء الأنبياء الذين يتفق اليهود والنصارى والمسلمون على أنه دين الله، وعلى أنه هو الدين المقبول المرضي عند الله سبحانه وتعالى؟ فلم يرد في توراة اليهود ولا إنجيل النصارى الحاليين إثبات لاسم هذه الدين الذي آمن به هؤلاء الأنبياء ومن تبعهم، فكيف نستطيع معرفة هذا الدين؟
الجواب
السبيل إلى التعرف على هذا الدين هو التفكر في هذا الدين: ما حقيقته؟ وما مقاصده؟ فنحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى لما أرسل هؤلاء الأنبياء إلى أممهم أرسلهم بعقيدة واحدة وهي توحيد الله عز وجل، وبشرائع يدعون الناس إليها فيها أوامر الله، وفيها نواهيه، فمن قبل هذا التوحيد وهذه الشرائع فهو المؤمن الذي آمن بالله ورسوله المبعوث إليه، ودان بالدين الذي يرتضيه الله عز وجل ويقبله، فهذا الدين هو توحيد الله، والانقياد لشرائع الله، والاستسلام لحكمه والخضوع لأمره ونهيه، والإخلاص له عز وجل في ذلك كله.(101/9)
شمول الإسلام لمعنى الاستسلام والسلامة ودين كل الأنبياء والرسل
إذا بحثت في لغة العرب عن كلمة تعبر عن الاستسلام والسلامة، لوجدت أن الاستسلام: هو الخضوع والإذعان والانقياد لحكم الله ولأمره، والسلامة: هي السلامة من الشرك والإخلاص في التوحيد، فلا توجد في لغة العرب كلمة تعبر عن هذين المعنيين سوى كلمة الإسلام.
فإن الإسلام لله هو التعبير الوحيد الذي يمكن أن نعبر به عن الدين المرضي الذي يقبله الله سبحانه وتعالى ويعتبره، فهذا هو القاسم المشترك بين رسالات جميع الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فالأنبياء دعوا إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، والسلامة والبراءة من الشرك، ودعوا إلى الانقياد لشرائع الله التي أنزلت على هؤلاء الرسل والأنبياء، فهذا يعبر عنه بكلمة واحدة وهي الإسلام لله، ولما صارت مشهورة عندنا جداً صار اسمه الإسلام؛ لأنه صار معروفاً أنه لا يكون إلا لله عز وجل.
إذاً: فهذا هو القاسم المشترك بين جميع الأنبياء، وهذا هو وحده الدين الذي نستطيع أن نقول: إنه كان دين نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن تبعهم من المؤمنين، أي: التوحيد لله والسلامة من الشرك، والاستسلام والخضوع لأوامر الله سبحانه وتعالى وشرائعه، من أجل ذلك لم يكن لفظ الإسلام اسماً علماً على الدين الخاتم فقط، ولكنه في الحقيقة هو التعبير الوحيد عن جوهر جميع الرسالات السماوية، بما في ذلك رسالتي موسى وعيسى عليهما السلام، ولم يكن وصف المسلمين مجرد لفظ لأتباع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو معنى عام للإسلام والمسلمين دلت عليه عشرات النصوص كما سنبين فيما يلي: يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، فالإسلام العام هو الإسلام الذي كان دين آدم ونوح وإدريس وهود وشعيب وصالح وجميع الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فالله تعالى لم يقبل من أحد قبل محمد عليه الصلاة والسلام، ولا يقبل من أحد بعده غير دين الإسلام، فمن يلقى الله بغير الإسلام فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين.
ويقول عز وجل: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112].
وقال سبحانه وتعالى حاكياً دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة:128].
وقال عز وجل: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران:20].
وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء:125].
وقال جل وعلا: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71].
وقال أيضاً: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34].(101/10)
أقسام الناس في فهم معنى الإسلام
إن هذه الحقيقة الظاهرة الواضحة وضوح الشمس قد تغيب عن فريقين من الناس: الفريق الأول: غير المسلمين، وهم الذين لا يعرفون اللغة العربية على وجه الخصوص، وهؤلاء لا يكاد يتطرق إلى أذهانهم هذا المعنى العظيم الذي يعبر عنه بكلمة الإسلام، وصحيح أنهم يقولون في لغتهم عن الإسلام في الإنجليزية: إسلام، وفي الفرنسية: إسلام، في كل لغة يعبر عنه بالإسلام كأي عَلَم، فهم يقولون: إسلام كما نقول، ولكن لا يعرفون معنى كلمة إسلام، ونحن كذلك إذا أتينا بأي كلمة أجنبية من أي لغة أجنبية ونطقناها كما هي، فإننا ننطق الحروف كما نسمعها، ولكن لا نعرف معناها إذا لم نكن دارسين لهذه اللغة، فهذا الفريق ينطقون بهذه الكلمة ولا يفهمون منها ما نفهم نحن منها من الاستسلام والخضوع والإذعان لأمر الله، وذلك مع السلامة مما يخالف التوحيد من الشرك وغيره، فيجب علينا معشر المسلمين أن نشيع هذا اللفظ مقروناً ببيان معناه في لغتنا، بحيث يكون كلما ذكرت كلمة الإسلام فهم معناها في لغة العرب.
وأما الفريق الثاني: فهم غير المسلمين ممن يعرفون اللغة العربية، فهؤلاء إذا سمعوا قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وإذا سمعوا قوله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، تنصرف أذهانهم إلى الإسلام الخاص الذي دعا إليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحسبون أن رسالة موسى التي يعبر عنها الآن بالموسوية، أو اليهودية، وأنّ رسالة عيسى التي يعبر عنها الآن بالمسيحية، لا تدخلان في عموم الإسلام المذكور في الآيتين السابقتين، فاليهود والنصارى إذا قلت لهم: قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] فإنهم يتخيلون الإسلام ديناً آخر غير دين موسى وعيسى عليهما السلام.
وهذا غير صحيح، فإنهم إذا فهموا هذا المعنى الذي ذكرناه آنفاً لأدركوا أن هذا يشمل ما جاء به موسى وعيسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ومما يؤسف له أشد الأسف أن هذه الحقيقة لم تغب عن الأعاجم الذين لا ينطقون العربية ولا يعرفونها فقط، ولا عن اليهود والنصارى الذين يعرفون اللغة العربية فقط، ولكن المصيبة الكبرى أن تغيب هذه الحقيقة العظمى المعلومة من الدين بالضرورة، بل هي ألف باء الإسلام، أن تغيب على كثير من المسلمين.
وإذا سألت كثيراً من الناس وخصوصاً العوام أو المنصرفين عن تعلم دينهم انصرافاً كلياً، أو كلمته في تكفير اليهود والنصارى فإنه يقول: لقد خلقنا الله كلّنا، وهذا المنطق منطق جاهلي ساذج جداً، وقد يستدلون على هذا المعنى الفاسد بآيات من القرآن.
فالمهم أن بعض الجهلة من المسلمين يحملون الآيتين السابقتين على الإسلام الخاص، ولا يفطنون إلى أن الأسلام هو دين جميع الأنبياء والمرسلين، وأنهم هم وأتباعهم أجمعون كانوا مسلمين.(101/11)
النصوص الشرعية الدالة على أن دين جميع الأنبياء والرسل هو: الإسلام
إننا سنورد شواهد من القرآن الكريم تدل على أن دين الإسلام هو دين جميع الأنبياء والرسل.
قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً رسله الكرام عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:51 - 52].
فقوله: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ) ليس المراد بالأمة هنا: الشعب، أو الأمة العربية، لا، وإنما المراد بالأمة هنا: الملة، أي: وإن هذه ملتكم، فكلمة أمة جاءت في القرآن على عدة معان، فتأتي بمعنى الجمع من الناس والقوم، وتأتي بمعنى الفترة الزمنية، مثل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف:45]، أي: بعد فترة من الزمن.
وتأتي بمعنى قدوة، مثل قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] أي: قدوة وجامع لخصال الخير.
وتأتي بمعنى الملة والدين، كما في هذه الآية: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون:52] أي: هذه ملتكم ملة واحدة، وهذا دينكم دين واحد وهو دين الإسلام.
وقال عز وجل في بيان أنّ دعوة الأنبياء واحدة: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13].
وقال عز وجل أيضاً في حق الأنبياء: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:79 - 80].
وقال سبحانه وتعالى حاكياً عن أول رسول وهو نوح عليه السلام أنه قال لقومه: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72].
وقال عز وجل عن إبراهيم عليه السلام: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67].
وقال عن إبراهيم ويعقوب أيضاً عليهما السلام: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:130 - 132].
وقال أيضاً في شأن يعقوب عليه السلام: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133].
وحكى عن يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].
وحكى عن لوط عليه السلام أنه قال: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:31 - 36].
وقال عن موسى عليه السلام: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]، ولم يقل: إن كنتم يهوداً، لكنه قال: ((فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ)).
وقال عز وجل حاكياً عن سحرة فرعون الذين آمنوا بموسى عليه السلام: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126].
وقال تعالى حاكياً عن فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90].
وقال سبحانه وتعالى حاكياً عن بلقيس: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:29 - 31].
وقال سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل:42]، والمراد بقوله: (وكنا مسلمين) أي: سليمان ومن آمن معه، إلى قوله تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44].
وقال سبحانه وتعالى في شأن عيسى عليه السلام: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52]، فالحواريون كانوا مسلمين، وقال أيضاً عن الحواريين: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111].
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
قال الزمخشري في قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة:44]، قال: المراد بإجراء هذه الصفة التعريض باليهود، وأنهم بُعداء عن صلة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث، وأن اليهودية بمعزل.
أي: أن المراد: كأنكم يا يهود لستم مسلمين، فأنتم بمعزل عن صفة الإسلام وغير مرتبطين بها.
وقال ابن منظور في قوله تعالى: ((يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا)): فسره ثعلب فقال: كل نبي بعث بالإسلام غير أن الشرائع تختلف.
وقال تعالى عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:52 - 53] يعني: أن المؤمنين منهم بدينهم حقاً يقولون: إنا كنا من قبل نزول القرآن مسلمين، ولم يقولوا: إنا كنا من قبل يهوداً أو نصارى.
وقال سبحانه وتعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:83 - 84] يعني: لا نفرق بين أحد منهم في الإيمان، بل نؤمن بجميع الأنبياء، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
فقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:19] يفهم منه أنه سبحانه وتعالى لا يقبل من أحد ديناً سوى دين الإسلام، وأن من في السماوات والأرض قد أسلموا لله عز وجل طوعاً(101/12)
خطأ تسمية الأديان بالموسوية، والمسيحية، والمحمدية
من خلال هذا العرض نخلص إلى أمور مهمة جداً: الأمر الأول: أن من الخطأ تسمية هذا الدين الذي كنا نتحدث عنه بالموسوية، أو المسيحية، أو المحمدية، فإنما هو دين الإسلام، وهو دين واحد أرسل الله به جميع الرسل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، داعين أممهم إليه، فمن أجابهم كان مسلماً، فلا يصح أن تقول: الموسوية، أو المسيحية، أو المحمدية؛ لأنه ليس مذهباً أسسه موسى، أو عيسى، أو محمد، وإنما هم مبلغون فقط {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99].(101/13)
عدم جواز إطلاق عبارة: الأديان السماوية
الأمر الثاني الذي نستخلصه من هذه المقدمة: هو عدم جواز إطلاق عبارة: الأديان السماوية؛ لأنه لا يوجد أديان سماوية، وكيف تكون كلها أدياناً سماوية وهي متناقضة متعارضة؟! فالنصرانية تدعوا إلى التثليث والشرك بالله عز وجل، واليهودية فيها التشبيه وسب الأنبياء، وفيها الكثير من الضلال والانحراف.
وكيف أيضاً نصفها جميعاً بأنها أديان سماوية بصيغة الجمع؟ فهذا أيضاً خطأ؛ لأنه لا توجد أديان سماوية متعددة، فيمكن أن تقول لها: أديان، لكن لا تقل سماوية؛ لأن الأديان تشمل الدين الحق والدين الباطل، كقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]، وكقوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76].
أذاً: فكلمة الدين ككلمة الإله، فيها الحق وفيها الباطل، فيمكن أن تقول: الأديان بالجمع، وأما أن تقول: الأديان السماوية فلا يصح؛ لأن السماء لم ينزل منها إلا دين واحد فقط وهو دين الإسلام {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، فالدين لا يتعدد وإنما التعدد في الشرائع والرسالات، فمن الممكن أن تقول: الرسالات السماوية، وتعني: رسالة عيسى، ورسالة موسى، ورسالة نوح، وهكذا، أو تقول: الشرائع السماوية، وتعني: شريعة محمد، وموسى، وعيسى، فهذه تختلف وتتعدد، فالأحكام العملية تختلف من نبي إلى آخر، كتفاصيل الصلاة والطهارة وأحكام الزواج والطلاق، وكيفية العبادات والأحوال الشخصية والأحكام عامة.(101/14)
بطلان فكرة التقريب بين الأديان
الأمر الثالث الذي نستخلصه مما مضى: بطلان الفكرة الضالة الداعية إلى التقريب بين الأديان السماوية، فهذه الدعاوى الخبيثة قد تورّط فيها بعض الجهلة من المسلمين، ففكرة التقريب بين الأديان ليست دعوة حق، وإنما هي دعوة خبيثة كي يتنازل المسلمون عن دينهم، ولا يمكن أن نتنازل عن ديننا ولا عن أية جزئية منه، فهو أمانة الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن نحافظ عليه، فيكف نقول بالتقريب يبن الأديان السماوية، ونحن نؤمن أنه لا توجد أديان سماوية، وإنما هناك دين سماوي واحد وهو الإسلام؟! فمحاولة التوفيق بين الإسلام وغيره من الأديان إنما هي محاولة للتوفيق بين الحق والباطل، وبين الكفر والإيمان، وبين دين أنزله الله وحفظه وهو الإسلام، وبين دين أنزله الله لكن طرأ عليه التحريف والتغيير والتبديل، كاليهودية والنصرانية.
فإذا كان الدين عند الله واحداً كما سبق أن بينا، فكيف يصح أن ندعو إلى التقريب بين الشيء ونفسه؟! فالدين كله واحد، ونحن لا نحتاج إلى دعوة للتقريب.(101/15)
العقيدة الصحيحة المنقذة للبشرية من الهلاك هي العقيدة الإسلامية
الأمر الرابع: أن العقيدة الوحيدة الصحيحة على وجه الأرض منذ أن بعث الله سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وإلى اليوم لا توجد إلا في الإسلام، لأن الله عز وجل قد تكفل بحفظه من التغيير والتحريف والتبديل {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
وهذه العقيدة هي نفس العقيدة التي دعا إليها الرسل الكرام في كل زمان ومكان، فلا تختلف من رسول إلى رسول، ولا من زمان إلى زمان، وأما ما عداها من العقائد الموجودة على الأرض فهي عقائد فاسدة متعددة، وفسادها ناشئ من كونها نتاج أفكار البشر وأهوائهم، وقد يكون أصل بعض هذه العقائد صحيحاً، لكن التغيير والتحريف طرأ عليها كما هو الحال في زماننا هذا بالنسبة إلى اليهودية والنصرانية.
فاليهودية في وضعها الحالي عقيدة عنصرية، فهي مبنية على الاعتقاد بأنهم شعب الله المختار، وأن كل من عداهم من الأمم هم بمثابة الحمير التي خلقها الله لبني إسرائيل؛ كي يركبوها ويستذلوها ويسخروها، فهذه هي نظرة اليهود إلى كل من عداهم.
لذلك فاليهودية ليس فيها تبشير، واليهود لا يبشرون؛ لأنها ديانة عنصرية، فلا بد أن تكون من نفس اليهودي حتى تصير يهودياً، لذلك لا نجد في اليهودية خطر التبشير باليهودية والتهويد، لكن نجد عندهم خطر إفساد عقائد الناس الآخرين؛ حتى يفقدوهم عناصر القوة، وإفساد الأخلاق؛ حتى يحطموا هذه الأمم قبل أن يقيموا دولتهم الكبرى التي يسمونها: مملكة داود.
وكذلك بالنسبة للنصرانية.
فإذاً: هل يمكن أن يكون إنقاذ البشرية بديانة كالديانة اليهودية في وضعها الحالي؟! وهل يعقل أن يخرج البشرية مما هي فيه من الضلال والضياع أن تنتمي إلى الديانة اليهودية؟!! ومع ذلك فاليهود يقولون: غير مسموح لكم الولوج في هذا الباب؛ لأننا أشرف الخلق ونحن أفضل الأمم، وديانتنا ليست مفتوحة لهؤلاء الأوباش من الأمم الأخرى، فنظرة اليهود للأمم الأخرى التعالي والعنصرية.
فقطعاً لا يمكن أن يكون إنقاذ البشرية بديانة كاليهودية، وهذا بغض النظر أيضاً عن الأحكام الفقهية والعملية الموجودة في شريعة التوراة، فقد كان فيها تشديد؛ لأن الله عاقب اليهود بالتشديد عليهم حينما شددوا على أنفسهم، فوضع عليهم الآصار والأغلال، فلما جاء محمد عليه الصلاة والسلام وضع عنا الآصار والأغلال، فستشقى البشرية بحمل هذه الأغلال التي عوقب بها بنو إسرائيل؛ بسبب تعنتهم مع نبيهم موسى عليه السلام.
وهل يمكن أن تكون الديانة النصرانية هي المنقذة للبشرية؟
الجواب
لا، وتفصيل ذلك يطول جداً، ولكن نمر عليها مراً سريعاً وهي أن الديانة النصرانية فيها هذه الفلسفة الوثنية التي دخلت عليها فأفسدتها وهدمتها تماماً.
والنصارى أيضاً يصدقون بالتوراة وهي العهد القديم، وبالإنجيل وهو العهد الجديد، فالكتاب المقدس عندهم مكون من العهد القديم والعهد الجديد.
واليهود يؤمنون بالعهد القديم، وهو التوراة ولا يؤمنون بالإنجيل الذي هو العهد الجديد، بخلاف النصارى فإنهم يؤمنون بالكتابين معاً.
فهل يمكن أن تكون عقيدة الحق والنجاة في الصلب والتقديس والفداء وكذا وكذا، ثم لا يوجد لها أي أثر في العهد القديم على الإطلاق؟! وكذلك قضية آدم والخطيئة الأولى وتوريثها ذلك للبشر، وحصول الصلب بعد ذلك حتى يتحرر البشر من خطيئة أبينا آدم عليه السلام.
فهل هذه هي عقيدة الحق؟ وهل كل هذه الأجيال البشرية التي ماتت، ماتت على غير العقيدة الصحيحة؟! فهذا أدل دليل على أن هذا الفساد في دين النصارى فساد طارئ عليه، ويكفي أن النصارى كلهم يكفر بعضهم بعضاً، ويعتقدون أن بعضهم من أصحاب النار خالدين فيها؛ بسبب مخالفتهم إياهم في عقيدة الثالوث، وهل كل من الأقانيم الثلاثة له ذات مستقلة أم لا؟ إلى آخره، فهناك كثير من العقائد الفاسدة التي ترفضها الفطرة، كعقيدة التثليث، والخطيئة الأولى، والصلب.
ثم إنها ديانة خالية تماماً من التشريع، أو تكاد، وكما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ما في دين النصارى من الباطل أضعاف ما فيه من الحق، وحقه منسوخ، فما بقي عندهم شيء.
والأديان الموجودة الآن إما أديان صنعها البشر كالبوذية والزرادشتية والمجوسية، وغيرها من الأديان الضالة التي صنعت بأيدي البشر، فهذه كلها أديان، فالماركسية دين، والناصرية دين، لأنها طرائق في السلوك وفي الحياة وفي الاعتقاد تخالف ما عليه دين الإسلام، فهذه أديان باطلة صنعها البشر ابتداءً، وإما أنها أديان سماوية أصلاً، لكن طرأ عليها التحريف والتبديل والتغيير، كاليهودية والنصرانية، وأما العقيدة الوحيدة التي يقبلها الله منذ بعث محمداً عليه الصلاة والسلام إلى أن تقوم الساعة، فهي عقيدة الإسلام، ورسالة نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم.(101/16)
العقائد الأرضية المحرفة هي التي تقبل التعدد
الأمر الخامس والأخير الذي نستخلصه هو: أن هذه العقائد الأرضية والمحرفة هي التي تقبل التعدد، فيصح أن نسميها أديان، فنقول: الأديان الأرضية، والأديان الباطلة.
وقد سمى الله عز وجل الوثنية ديناً، فقال سبحانه وتعالى مخاطباً مشركي قريش: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6].
وليس المقصود منها إقرار الكفار على دينهم كما يفهم بعض الجهلة، وبعض الناس إذا أراد أن يفارق شخصاً فإنه يقول له: يا عم! لكم دينكم ولي دين!! والمقصود من قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون:6]، أي: الباطل الذي أنا بريء منه، {وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]، أي: دين الحق، يعني: أنتم بريئون مما أعمل، وأنا برئ مما تعملون.
وقال سبحانه وتعالى أيضاً حاكياً عن فرعون: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]، فسمى ما كان عليه وقومه ديناً.
وكذلك قال سبحانه وتعالى في حق يوسف عليه السلام: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76] يعني: في نظام وشريعة الملك، فسماه أيضاً ديناً، فكل منهج يوضع للناس كي يسلكونه، وينظم حياتهم وعقائدهم فإنه يسمى ديناً، فالاشتراكية دين، والناصرية دين، والوجودية دين، فكل مذهب يخالف دين الإسلام فهو دين، سواء كانت مذاهب نفسيه أو فكرية أو اقتصادية، فهذه أديان يدينون بها ويخضعون لها، وهذه المذاهب تخالف دين الإسلام في شموله ونقائه وخلقه.
فهذا ما تيسر اليوم من كلام في هذه القضية، وبهذا تقريباً نكون قد أنهينا الكلام في مسألة تاريخ الأديان وما يكتنفها من انحرافات في الفهم، وأهم النقاط التي ينبغي أن نلتفت إليها عند دراسة هذه القضية.(101/17)
الأسئلة(101/18)
النظام العالمي الجديد وأعماله الخبيثة
السؤال
ما المقصود بالنظام العالمي الجديد والشرعية الدولية؟
الجواب
ليس بجديد، بل هو نظام عالمي قديم جديد، مثل العهد الجديد والعهد القديم، وكلاهما باطل، فالنظام العالمي الجديد لا يحتاج إلى شرح، ولا إلى توضيح بعدما مرت سنوات تزيد على الثلاث سنوات من بداية انتشار هذا النظام في العالم، فحصل فيه من الفساد في الأرض ما الله به عليم، وما لا يكاد يحصى، فمنذ أن أمسكت أمريكا بزمام الأمور على الساحة الدولية ونحن نرى الفساد والظلم والقهر، وصارت ما تسمى بالشرعية الدولية عصا تضرب بها بلاد المسلمين، فمجلس الأمن صار مجلس تأديب للمسلمين، وليس له وظيفة غير تأديب المسلمين، فقد صار مجلس تأديب كمجالس التأديب في الجامعة وغيرها، وأمينه هو الخبيث الخائن المجرم بطرس غالي، وهو خصم الإسلام والمسلمين، فكيف يكون القاضي الذي يتحكم في قضايا العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه خصماً من خصوم الإسلام، وعدواً لدوداً لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام، كارهاً لأمة المسلمين وحاقداً عليها؟! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يأخذه ومن والاه أخذ عزيز مقتدر.
فهذا النظام نظام قرصنة، وهو نفس نظام القراصنة القدامى لم يتغير منه شيء، لكن العصابات صارت يحكمها زعيم واحد، ولم تعد متفرقة كما كانت من قبل، وهي عصابة يكشفها لنا قول الله تبارك وتعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8].
فعلينا أن نقبل خبر الله سبحانه وتعالى، وأن نوقن به، ولا نحتاج إلى دليل من الواقع.
من قبل كنا نرهق جداً مع الناس حتى نثبت لهم أن الكفار يتآمرون على الإسلام، يقول: كيف ذلك وهم أناس لطاف وأناس عندهم عدل وأناس عندهم كذا؟! أما الآن فقد كشروا عن أنيابهم، وظهرت الحقيقة التي كانت دفينة، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118].
فقد بعث الخبيث جون ميجور بياناً سرياً لـ دجلس هوك يبين فيه حقيقة السياسة البريطانية فيما يتعلق بالبوسنة والهرسك، فلما انتشر المنشور هنا، ووزع في بعض المحافظات، أسرعت السفارة البريطانية في تكذيبه، وأن هذا لا أساس له من الصحة.
فلنفرض أنه ليس له أساس من الصحة، فهذا ميجور نفسه الخبيث يقول في حديث صحفي وقد سئل: كيف لا توافقون على تسليح البوسنة والهرسك؟! فقال معتذراً: نحن لا نسمح بتسليح البوسنة والهرسك؛ لأن هذا سيطول مدى الحرب، ومعنى ذلك: أن نتركهم حتى يذبحوا عن آخرهم، فهذا هو الحل!!!(101/19)
درجة حديث صلاة الحاجة
السؤال
ما حال الحديث الوارد في صلاة الحاجة؟
الجواب
الحديث الوارد في صلاة الحاجة لا يصح، لكن من السنة أن الإنسان قبل أن يدعو الله تبارك وتعالى أن يتقرب إليه بعمل صالح، سواء كان صلاة أو غيرها، فمن هذه الحيثية يمكن أن تتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بعمل صالح قبل أن تدعوه؛ لأن هذا أرجى لقبوله واستجابته.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(101/20)
وقفة مع الجن [1]
إن موضوع مس الجان قد فشا وانتشر بين الناس، وغلا فيه البعض حتى تصدر لعلاج المرضى والمصروعين من ليس من أهل العلم والإيمان، فكان ضررهم أكثر من نفعهم، وأرادوا الخير فوقعوا في الشر، بل أصبح يدور بمخيلتهم أن كل مرض سببه المس.
وبالمقابل أنكر أقوامٌ الجن جملة وتفصيلاً، والحق وسط بين الإفراط والتفريط، فالجن عالم له أثره الملموس، وقد يصيبون الإنسان بالمس لكن ليس بهذه الصورة التي يتخيلها كثير من الناس.(102/1)
رسالة إلى المعالجين بالرقية
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فقد كثر الحديث منذ فترة ليست بالقصيرة عن قضية تسلط الجن وتلبسهم بالإنس، وكذا عن السحر والحسد وما إلى ذلك، وهي أمور واقعة لا شك فيها ولا سبيل لإنكارها، كما فعل ويفعل بعض المنسوبين إلى العلم ممن يدعون العقلانية في القديم والحديث، كما أنه قد كثر عدد المشتغلين والمهتمين بهذا الأمر ممن يسعون لعلاج الحالات الواقعة بالوسائل الشرعية المباحة، وهذا أمر حسن إذا تم الوفاء به، حتى لا يضطر الناس للذهاب إلى السحرة والدجالين والمشعوذين.
ولكن غير الحسن: أن تتسلط فكرة الجن على عقول وقلوب كثير من الناس، فإذا ما اشتكى إنسان أو أصيب بشيء من الأدواء صاح الناس على الفور: الجن!! العين!! السحر!! وهذا بدوره قد أنشأ العديد من المشكلات غير اليسيرة، والتي يخشى منها، وقد يزداد الأمر سوءاً عندما يتدرج البعض في هذه الأحوال إلى أن يصبح الأمر بمثابة حرفة من الحرف، وشيئاً فشيئاً حتى يتدخل الشيطان -هذا إذا أحسنا الظن وقلنا: إنه لم يتدخل منذ البداية- فيعمل عمله في القلوب، وتتبدل النوايا، فكم من عورات كشفت، وأموال أخذت بالباطل، بل وأعراض هتكت أو كادت، وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.
وهنا تظهر الآفات، والآفات تولّد آفات، والأمراض تنتج أمراضاً من المباهاة والسمعة، وإخلاف الوعد، والخداع، والجشع، والتحايل في كسب المال، ومهما خاب العلاج المزعوم ولم يأت بشيء، فالمخرج من الأمر سهل ميسور؛ فإن كان قد زعم من خلال ما يهذي به المريض أنه قد أخرج جنّياً أو أحرقه، فالمخرج موجود، هو وجوداً ثان وثالث ورابع ومائة، فإذا احترق الجني جاءت أمه ثم أبوه وأخوه، وهكذا الذي يخرج يأتي آخر بدلاً عنه، بل إن البعض قد يرغب في الاستكثار والتشبع بما لم يُعط، فيلجأ إلى بعض الكتب، ويتوسع في استخدام ما فيها من طرق للعلاج، وقد تكون من السحر الحرام! وقد اعترف البعض بذلك، إذ يبدأ طريقة بالعلاج بالقرآن والأذكار، وبمرور الأيام -ومع قلة العلم الشرعي- يتوسع شيئاً فشيئاً في استخدام السحر والطلاسم؛ لأنه يرى أن هذه الأشياء من جنس النشرات والتعويذات التي قد تبدو مبهمة، وهي موجودة ومصرح بها في بعض كتب أهل العلم، فإلى الله المشتكى من هذا الصيد الخبيث باسم الدين، فالكل يصطاد ويتصيد، ولكن الشباك تختلف وتتنوع، إلا من رحم ربك! توشك العين تغيظ والبحيرات تجف بعضها يصطاد بعضاً والشباك تختلف لا يجيء الباب رأساً لا يدور أو يلف والطبيب قد يعف والكبير لا يعف والإمام قد يسف والصغير لا يسف والثياب قد تصون والثياب قد تشف والبغي قد تداري سهمها وتلتحف والشتات لا يزال يأتلف ويختلف والخطيب لا يزال بالعقول يستخف والقلوب لا تزال للشمال تنحرف والصغير بات يدري كيف تؤكل الكتف لا تصانع يا صديقي بالحقيقة اعترف فإلى هؤلاء المعالجين نقول: يا قوم! اتقوا الله تعالى في أنفسكم، ولا تكونوا ذباب طمع، وفراش نار، اتقوا الله في أعراض الناس وأموالهم، اتقوا الله في دين الله المفترى عليه، واحذروا الحرام والبدع والشبهات، ولا تكونوا جُرآء على النار، ولا ينطبق عليكم قول الشاعر: طبيب يداوي الناس وهو سقيمُ! {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]، إن كنتم تريدون حقاً إخراج الشياطين، فتعاونوا جميعاً على إخراج شياطين الإنس من جسد هذه الأمة، أخرجوها بالعمل النافع، وبالعبادة الصالحة لله تبارك وتعالى، وبالدعوة الحكيمة، والعمل الدءوب إلى الله جل وعلا.
في عالم الأزياء موضات وصيحات وتقليعات، وكذلك في عالم الأفكار والدعوات تقليعات وصيحات وموضات! يفرضها علينا مرض الفراغ.
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وهذه الظاهرة التي نريد أن نعرف إلى أين تمتد، ما كان لها أن تنتشر بهذه الصورة الوبائية لولا الفراغ والخواء الذي ملأ القلوب، فوجد الشيطان فيها أرضاً خصبة، فصال وجال، وبذر وزرع وحصد! إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للمرء أي مفسده وبعدما كان الجدل حول الجن والسحر والحسد من التخصصات الشائعة في جيل العجائز الأميّات والنساء الفارغات، بحيث كان من خصائص المجتمعات النسائية الجاهلة، وكان يستنكف الرجل من الخوض فيه ترفعاً عن خصائص النساء، تمكنت طائفة ممن يسمون بالمعالجين من تصديره إلى مجتمع الرجال، شباباً كانوا أو شيوخاً أو مراهقين، بل صِبية! بل احتل أو بالأحرى اغتصب مساحة شاسعة من رقعة الدعوة إلى الله لتهدر طاقة بعض الدعاة -الذين هم صفوة الرجال- في هذا السعار المحموم، إما باقتحام هذا المجال كمعالجين، أو بالهجوم على المقتحمين، ولا أظن أنه أدل على هذه الحقيقة المؤلمة من تشوق الناس بكثرة للاطلاع حول هذا الموضوع.
إن موضوع السحر والمس وما يتعلق بالجن قد تسلط على العقول، واحتل القلوب بصورة مفزعة، فما أسرع ما تشير أصابع الاتهام إلى المس الجنّي بمجرد أن يعاني الإنسان من صداع أو ألم أو مشكلة نفسية عادية! ولن يكون حديثنا حول القضايا المسلّم بها، كقضية إثبات وجود الجن مثلاً، أو إثبات الصرع والمس وحقيقة السحر والحسد، ولا حتى تلقين طائفة المعالجين مبادئ التعامل مع حالات الصرع والحسد والسحر، فلقد طُرقت هذه القضايا كثيراً، وأُشبعت بحثاً، وامتلأت رفوف المكتبات بالغث والسمين منها، ولكنها وقفة معالجة مع طائفة المعالجين الذين صار العلاج بفضل جهودهم مرضاً وبائياًَ! والذين تجاوزوا أحياناً حدود الله، وتلبسوا بحالات من الانحراف تحوجهم إلى من يأخذ بأيديهم أو يأخذ على أيديهم.
ونُنبه إلى أننا لا نعمم الاتهام بهذه السلبيات التي نذكرها، فمن المعالجين قوم ذوو بصيرة وتقوى وعلم وورع، نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً، لكن كلامنا هنا موجه إلى فريق آخر خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فتورطوا في المخالفات، وسوف نتناول هذا انطلاقاً من منهج القرآن الكريم الذي فصل وفرق عند الكلام على اليهود: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75] إلى آخر الآيات، وكذلك كان الحال لما ذكر الله سبحانه وتعالى حال الأعراب فقد ميز بين الصادقين المخلصين وبين المنافقين الكاذبين، فنحن نقصد من المعالجين الفريق الذين تلبسوا بهذه الأدواء التي نذكرها لا غير.
بدايةً: نحن لا نختلف حول مبدأ التداوي، فقد جاء الإسلام بالعلاجات الشافية لكل الأمراض والأدواء، إما نصاً عليها وإما على سبيل الدلالة والإرشاد إليها، كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما تداوى وأمر الناس بالتداوي، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل)، رواه مسلم.
وفي صحيح البخاري مرفوعاً: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)، وفي مسند الإمام أحمد وغيره من حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله! أنتداوى؟ فقال: نعم عباد الله! تداووا؛ فإن الله عز وجل لم يضع داءً إلا وضع له شفاء، غير داء واحد.
قالوا: ما هو؟ قال: الهَرَم)، يعني: الشيخوخة.
في هذا الواقع الذي نعيشه الآن، والذي أفرزه مرض الفراغ، احتار المريض بين طبيبه وشيخه، فالطبيب يجزم بكل ثقة أن هذه حالة نفسية علاجها الدواء، والشيخ المعالج يؤكد أن هذه حالة مس من الجن، وعلاجها الدعاء وطرد هذا الجان.
فالغرب وتلاميذه متمادون في علومهم المادية، ومنكرون لكل ما هو غيب، وأصبحوا يتحدثون في مراجعهم الطبية عن العين والسحر والحسد على أنها أوهام وأساطير قديمة قد ملأت رءوس العامة في المجتمعات البدائية، وقد تخطاها الإنسان المتطور، وأصبح الحديث عن هذه الأشياء يثير السخرية عندهم.
أما في بلاد الشرق فقد بالغ الناس في الحديث عن عالم الجن والسحر والحسد، حتى اختلطت الحقيقة بأضعافها من الخيالات والأوهام والحكايات، وعلق كل شيء في عقول العامة على الجن والسحر والحسد، حتى أن أحدهم إذا ذهب إلى الطبيب فإنه يذهب قبل ذلك وأثناء ذلك وبعد ذلك إلى معالج يخلصه من الجن أو السحر أو غيرهما، وأصبح هناك الكثيرون ممن يمارسون هذه الوظيفة إن صدق بعضهم كذب معظمهم؛ لذلك نحن بحاجة ماسة إلى إيضاح الصورة، وضبط الأمور، وتخليص الحقيقة من بين ركام الخيالات والأوهام بعون الله تبارك وتعالى وتوفيقه.(102/2)
ما أنزل الله من داء إلا وله شفاء
قال عليه الصلاة والسلام: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل).
فما من شيء من الأمراض إلا وقد خلق له الله سبحانه وتعالى ما يضاده، وبلا شك أن هذا المفهوم الذي يؤخذ من هذا الحديث يؤكد فكرة النوعية، وتخصيص العلاجات للأمراض المختلفة، أي: أن هناك أنواعاً من التخصصات في علاج الأمراض، فليست كل الأمراض تعالج بنفس الطريقة كما يفعل بعض المعالجين الشعبيين، حيث أنهم يعطون نفس المادة لعدة حالات مرضية، ويتبعون نفس الطريقة في علاج جميع الحالات، وهذا تعميم خاطئ دحضه الرسول صلى الله عليه وسلم بحديثه، حيث بين أن (لكل داء دواء)، يعني: مختص بدفعه.
وأيضاً: لما قيل للرسول صلى الله عليه وسلم: (أرأيت رقىً نسترقي بها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال صلى الله عليه وسلم: هي من قدر الله)، فهذا يؤكد أن تقدير وقوع المرض والبلاء في نفس الإنسان أو جسمه ينبغي أن يواجه بأسباب هي أيضاً من قدر الله، فالمرض يقع بقضاء وقدر، وكذلك نحن نحارب القدر بالقدر، فندفع قضاء المرض بقضاء التداوي والعلاج المناسب المختص بهذا الدواء.
ولا نقاش أيضاً في لزوم الأخذ بالأسباب العادية المتاحة والأسباب الشرعية لمواجهة هذه الآفات، وهذا لا يقدح في التوكل، بل هو من التوكل، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكل).
ولا شك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل داء دواء) فيه تقوية لنفس المريض قبل الطبيب، وفيه حث على الاجتهاد في محاولة اكتشاف أدواء الأمراض، فما من مرض إلا وله دواء إلا الشيخوخة والهرم كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى الأمراض التي عجز الطب إلى الآن عن اكتشاف دواء حاسم لها كالسرطان والإيدز وغير ذلك، فنحن نوقن قطعاً أن لها دواء، ومن الخطأ أن نقول: ليس لها دواء؛ لأنه ما من داء إلا أنزل الله له دواء، لكننا لما نعلمه بعد، فمن اجتهد ويسر له الأمر فإنه يصل إلى علاج هذه الأمراض.
ولا شك أن المريض إذا تعلق بهذا الأمل الذي ورد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يقوي نفسه، وكذلك الطبيب يجتهد في إصابة هذا الدواء والتفتيش عنه.(102/3)
مسئولية الطبيب في المحافظة على النفس البشرية
ابتداء: ننبه إلى أمر هام جداً وهو: أن المحافظة على النفس من المقاصد العليا والأساسية للشريعة الإسلامية، فحفظ صحة الناس ونفوسهم ليس متروكاً للعبث، والشريعة لا يمكن أبداً أن تفتح الباب لكل من هب ودب أن يعبث بنفوس الناس وبجوارحهم وبأعضائهم بمثل هذه الصورة التي تحصل اليوم.
والنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بتحري الحاذق من الأطباء، فقد ذكر مالك في موطئه عن زيد بن أسلم: (أن رجلاً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أصابه جرح، فاحتقن الجرح الدم، وإن الرجل دعا رجلين من بني أنمار فنظرا إليه، فزعما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: أيكما أطب؟ -أي: أيكما أتقن للطب؟ - فقال: أو في الطب خير يا رسول الله؟ فقال: أنزل الدواء الذي أنزل الداء).
وروي عن عمرو بن دينار عن هلال بن يساف قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مريض يعوده، فقال: أرسلوا إلى طبيب، فقال قائل: وأنت تقول ذلك يا رسول الله؟! قال: نعم، إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له دواء).
فاطمئنوا ولا داعي لهذا الشعور الخفي الذي يجده كثير من الناس من التشكك في الطب، وفقد الثقة فيه، والنظر إليه نظرة احتقار وازدراء؛ فإن اللجوء إلى الطبيب في مجال تخصصه يعتبر من الأسباب العادية التي قد طولبنا بالأخذ بها إذا ألم بنا مرض أو داء.
ليس هذا فحسب! بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شدد في عقوبة من يتولى علاج الناس وليس له خبرة وعلم كافٍ، فلابد أن يأمن إيقاع الضرر بالآخرين نتيجة الأخطاء المهنية، بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم حمل هذا المتطبب دية الخطأ، كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)، أي: فهو مسئول، ويعتبر جانياً إذا أتلف شيئاً من أعضاء المريض، ويؤاخذ به شرعاً.
إذا كنا نحن الآن وقبل الآن ننكر على الذين يعذبون الناس، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم أنهم يغدون في سخط الله ويروحون في غضب الله، فقال عليه الصلاة والسلام: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس)، فإن كان هؤلاء من أهل النار، فما بالنا نتساهل مع أناس يمارسون أقبح أنواع الجنايات تحت اسم العلاج بالقرآن؟! وكأن كلمة (القرآن) ترس يتترسون خلفه، وحصن يتحصنون به ليستبيحوا إراقة دماء الناس وقتلهم جهلاً وظلماً وعدواناً.
إذا كنا ننكر على هؤلاء الذين يعذبون الناس فما بالنا نضفي الشرعية على هذه الأفعال؟! بل هذه الجرائم وهذه الجنايات التي ترتكب باسم العلاج بالقرآن؟! وهل التستر وراء القرآن يشفع لهؤلاء الذين يرتكبون نفس الجريمة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن).(102/4)
أهمية التثبت من المرض قبل العلاج
يجب أن نبين أن الظهور العلمي، والاكتشافات المذهلة في مجال الطب والعلاج، والتقدم العجيب الذي حصل فعلاً في مجال الأمراض النفسية قد اغتر به كثير ممن تربوا على طب وثقافة الغرب، وانبهروا به انبهاراً كلياً، حتى إنهم اعتقدوا أن كل شيء في هذا الوجود قد أصبح لهم واضحاً، وأن ما كان يعتقده الأولون في الماضي من حالات تلبس الجن أصبحت الآن مفهومة من خلال عملية اللاشعور التي تقوم بوظيفة دفاعية من أجل مصلحة توازن المريض.
وأكثر الحالات إثارة للجدل هي حالات الهستيريا، وهي الحالات المسئولة عن هذا التشوش، فحالات الهستيريا هي نفس الحالات التي استغلها هؤلاء المعالجون الشعبيون لإثبات صحة عملهم وفاعليته، وهذه الحالات تصيب الشخصيات غير الناضجة انفعالياً، والقابلة للإيحاء في نفس الوقت، وعند عدم قدرة الطالب أو عدم رغبته مثلاً في إكمال دراسته، أو عدم تكيف زوجة في زواجها، أو نحو ذلك من الضغوط؛ فإنه يحدث نوع من الانشقاق في مستوى الوعي، فتحدث حالات الإغماء أو الصرع الهستيري، أو يتصرف الشخص بالفعل كأنه شخص آخر، ليعبر عما لم يستطع التعبير عنه في حالاته العادية، وأحياناً يغير صوته، والأطباء يعرفون هذا جيداً، كأن يكون المريض مثقفاً، وكان قد قرأ، الذبحة الصدرية، أو يعرفها، فيستولي عليه الوهم حتى أنه ليأتي بكل أعراض الذبحة وما به من ذبحة، أو يأتي بأعراض الشلل وما به من شلل، كما حصل في أول حالة هستيريا عولجت، وقد حدثت هذه الحالة في زمان الإغريق، حيث شعر شاب بأنه مشلول، وأتي به إلى المعبد كي يتعالج من الشلل التام الذي ألم به، فقام أحد رهبانهم ومضلليهم واختطف حقيبة الشاب من يده بسرعة وولى هارباً، فما كان من هذا المريض الذي كان يدعي الشلل إلا أن لحق الراهب بسرعة وبدون شعور! فأكثر حالات الهستيريا هي من حالات الالتباس التي أثرت على هؤلاء المعالجين، وسنوضح هذا الأمر إن شاء الله تعالى بالتفصيل.
والشخص المعالج قد يفعل أشياء تؤكد هذا الإيحاء الذاتي الموجود عند المريض بسلوكياته، ويكون هذا المريض قد امتلأ عقله وشحن بعشرات القصص عن موضوع الجن، وسمع عدة أشرطة، وقرأ عشرات الكتب، وسمع محاضرات وأحاديث أصدقائه، ومجالس الحوار وغير ذلك، هذا إن لم يكن قد حضر حالات الجن، فهو مهيأ أصلاً لإتقان الدور تماماً، ويحفظ السيناريو -كما يقولون- من الألف إلى الياء بمنتهى الإتقان.
فهؤلاء المعالجون الشعبيون يمارسون نوعاً من الإيحاءات للمريض، وقد يحدثون له نوعاً من الإيلام بالضرب إذا لزم الأمر، فيفيق من هذا الانشقاق الهروبي بسرعة، وينبهر بذلك العامة، وتزداد ثقتهم بهذا المعالج! لكن نفس هذه الأعراض ما تلبث أن تعود من جديد عند أول ضغط نفسي أو اجتماعي؛ لأن المعالج لم يبحث عن السبب الحسي، وإنما عالج العرض الموجود فقط في جو من الغموض، بل ويحدث أن يتمادى المريض في أعراضه ويصورها بعد ما رأى وسمع من إيحاءات عن تلبس الجن، وتزداد الأمور تعقيداً، وهنا يعود أهل المريض إلى المعالج الذي يبتزهم تحت وهم تأثير الجن! وقد أراد البعض منهم أن يوسع تأثيره على الناس، فسجل أشرطة تبين كيف يخرج الجن من المرضى، وانتشرت الأشرطة، وسببت فزعاً لكل من سمعها، وقد جاءوا زرافات ووحداناً! إلى هذا المعالج كي يعالجهم من تأثيرها، وكثير من الأخصائيين النفسانيين حينما سمعوا هذه الأشرطة -وهم من المسلمين المتقين الذين يؤمنون بلبس الجن- لم يشتبهوا لحظة في أن هذه حالات هستيريا، وليست في الحقيقة حالات مس شيطاني، وإنما تحدث هذه الهستيريا تحت إيحاءات هذا المعالج؛ لأن المعالج يرتكب أول خطأ عندما لا يتأكد ويتيقن من التشخيص، بل أول ما يبدأ بقراءة القرآن، ولذلك يحس هذا الشخص المريض بأنه مصروع، حتى ولو لم يكن كذلك.
فالخطأ من المعالج عندما يربط بين قراءة القرآن وبين اللبس مباشرة دون تأكد، فالمريض عندما يستشعر أن المعالج يقرأ عليه القرآن الكريم، حينئذٍ يترسخ عنده نفس هذا الوهم والإيحاء بأنه مصاب بالمس.(102/5)
حقائق تتعلق بوجود الجن
نظراً لكثير من هذه الممارسات المؤسفة في هذا المجال، فقد وجدنا انشقاقاً وحيرة عند هذا المريض بين الشيخ المعالج وبين الطبيب المعالج أيضاً، الأمر الذي أدى بمعظم الأطباء إلى أن يستنكروا ما يحدث، وامتد استنكارهم وبالغوا فيه حتى أنكروا حقائق ثابتة في القرآن والسنة لا يسوغ لمسلم أبداً أن ينكرها، وجاء هذا كرد فعل لهذا التخبط الذي حصل وعانى منه الناس، فهي حقائق في الأصل، لكنها أحيطت بأخطاء هؤلاء المشعوذين، وأحيطت بمبالغات العامة وأوهامهم.
الذي يجهله كثير من الناس، خاصة الذين أنفقوا عمرهم في التشبع من الثقافة الغربية المادية الملحدة: أن مس الجن أمر ثابت، وأن السحر والحسد حقيقة ثابتة، بغض النظر عن هذه المبالغات والمجازفات التي تصدر من جهلة الناس، والله تعالى يقول: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ} [البقرة:275].
قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حالة صرعه وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياماً منكراً.
وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: (لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاتي، حتى ما أدري ما أصلي، فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ابن أبي العاص؟! قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما جاء بك؟ قلت: يا رسول الله! عرض لي شيء في صلاتي، حتى ما أدري ما أصلي، قال: ذاك الشيطان، ادنه، فدنوت منه، فجلست على صدور قدميه، فضرب صدري بيده) يعني: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم صدر عثمان بيده، دون كسر عظم أو ضرب على الوجه، (وتفل في فمي، وقال: اخرج عدو الله، ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: الحق بعملك)، رواه ابن ماجة وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة.
وعند الشيخين من حديث صفية رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، ولاشك أن الطب الغربي أو الطب المادي الملحد لا يعترف بحقيقة الشيطان، ولا بالروح، ولا بالله، ولا بالقرآن، بل يتعامل مع الأمور المحسوسة، فمِن ثَم خُدع من خدع من الأطباء بأن جارى المراجع الطبية في هذه المزلقة المهلكة والخطيرة.
وفي الجهة الأخرى بالغ مُدَّعو العلم بأسرار الجن في هذا الأمر، فادّعوا أن كل الأمراض هي مس من الجن أو هي تأثير سحر؛ ليستجدوا المرضى المساكين، خاصة أصحاب الأمراض المزمنة الذين يلتمسون الشفاء في أي مكان، وبأية طريقة، وهكذا انتشرت من جديد على أيدي هؤلاء المعالجين العرافة والكهانة بصورة جديدة، ولكن في هذه المرة تختفي وراء لحية عمامة وقميص، ووراء ادعاء العلاج بالقرآن الكريم حتى يمارسوا هذا الدجل في حماية القرآن الكريم، وكي تزداد ثقة عند عامة الناس بهم.
إذاً: الصنف الأول بالغوا في استنكار ما يحدث، وفي إنكار تأثير الجن والسحر والحسد بالكلية، ولاذوا واعتصموا بمكتسبات الطب الهائلة التي هي بالفعل قد كشفت كثيراً من الغموض، واعتقد الكثيرون منهم أنهم عرفوا كل شيء حتى لم يغب شيء عن مجال البحث والتجربة الملموسة! والواقع أن الأمر بخلاف ذلك، فما زالت أسباب كثير من الأمراض النفسية في مجال النظريات التي تتغير من وقت إلى آخر، وما زالت هناك أشياء في الطب شديدة الغموض، حيث تم وصف الكثير من مظاهر الأمراض، ولكن بقيت المسببات في حاجة إلى بحث طويل.
ونحن ندعو الفريقين سواء كان الأطباء المتأثرون بالمنهج الغربي، أو الغُلاة الذين غلوا في موضوع علاج الجن إلى أن يتخلى كل منهما عن موقفهما المتطرف؛ لتكون القضية واضحة وموضوعية، مع الاعتراف والالتزام والاعتقاد بما ورد من آيات وأحاديث صحيحة في هذا الشأن، دون تقليل أو تهويل.(102/6)
عوامل رواج السحر والمس ومظاهرهما
توجد هناك الكثير من العوامل، نذكر منها:(102/7)
فطرة حب الاستطلاع عند الإنسان
توصل الباحثون في تاريخ البشر وفي نفس الإنسان إلى أن الإنسان عنده ولع شديد بمعرفة الغيب، يقول العلامة ابن خلدون رحمه الله: اعلم أن من خواص النفوس البشرية: التشوف إلى عواقب أمورهم، وعلم ما يحدث لهم من حياة وموت وخير وشر، سيما الحوادث العامة، كمعرفة كم بقي من عمر الدنيا، ومعرفة مدد الدول أو تفاوتها، والتطلع إلى هذا الغيب طبيعة بشرية مركوزة في طبيعة الإنسان، مجبول عليها هؤلاء البشر، ولذلك يولعون بمعرفة ذلك عن أي طريقة، حتى عن طريق المنامات والرؤى، يريدون أن يعرفوا ويستكشفوا ما يأتي من هذا الغيب، أو ما يخفى عليهم من هذا الغيب.
وقد أتت الشرائع الإلهية متوافقة تماماً مع هذه الغريزة، وهي غريزة حب الاستطلاع، أو غريزة الفضول والتطلع إلى استكشاف الغيب المجهول، حيث جاءت الشرائع الإلهية متوافقة مع هذه الفطرة، فقامت بإشباع هذه الفطرة، فجاء في الوحي الإلهي وعلى ألسنة الرسل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام ما يشبع هذا النزعة في النفس البشرية، فحدثت الناس عن العوالم غير المنظورة التي سماها القرآن الكريم: عالم الغيب، حيث حدثهم ربهم سبحانه وتعالى عن نفسه، وعن أسمائه وصفاته وأفعاله، كما حدثهم عن عالم الملائكة، وحدثهم عن عالم الجن، وحدثهم طويلاً عن الموت، وعن سكرات الموت، وماذا يحدث بعد الموت، وماذا يحصل في القبر، وماذا يحصل في البعث والنشور، وكذا أحوال أهل الجنة وأهل النار، وأطلعهم على كثير من الحوادث التي ستقع على ظهر الأرض، وبالذات أشراط الساعة، كالمسيح الدجال، وغير ذلك من الأحداث التي تعلمون.
فهناك طاقتان فكريتان في كيان الإنسان: الإيمان بما تدركه الحواس، والإيمان بما لا تدركه الحواس، فالإيمان بما تدركه الحواس اقتصرت عليه جاهلية العلم، ونعني بذلك: العلم الذي قال الله سبحانه وتعالى في أصحابه: {لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:6 - 7]، فأبدل من العلم عدم العلم؛ ليدل على استوائهما؛ لأنه علم يقف عند الظواهر فقط دون أن ينفذ إلى ما وراءها من الحقائق.
أما العلم بالغيب الذي لا تدركه الحواس فقد أنكره العالم المادي، حيث أنكر الروح؛ لأنها لا تخضع لحاسة الذوق، ولا السمع، ولا الشم، ولا البصر، ولا اللمس، أما الإسلام فإنه يؤمن بالطاقات الإنسانية جميعاً، ويعطي كل طاقة ما يصلح لها من الغذاء، فالعالم المادي مبسوط أمام الإنسان يدركه بحواسه أو بواسطة الآلات، والمجال رحب ومفتوح للبحث والتنقيب واستكشاف ما يفيد هذا الإنسان.
أما عالم الغيب فقد أعطى الإسلام الإنسان غذاءً خصيباً في هذا المجال حينما أخبرنا عن الجن والشياطين، لكن قد اختلف حديث القرآن عن الجن عنه في حديثه عن الشياطين، فحينما حدثنا القرآن عن الشيطان فصل ووضح معالم الشيطان، ونفسيته، وأهدافه، ومراميه، وخطواته، ونوّع في الكلام تنويعاً كثيراً حتى نكاد نرى صورةً بارزة ومعالم واضحة مفصلة لهذا العدو المبين، بل كأننا نلمسه؛ لأن هذا -بلا شك- له دوره في حماية هذا الإنسان من كيد ذلك العدو المبين.
أما الجن فقد جاءت الإشارة إليهم مفصلة في سورة الجن، وجاءت مختصرة في مرور عابر في سورة الأحقاف، وفي قصة سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وفي هذا فائدة، وهي: إشباع هذه الفطرة المغروزة فينا من حب استكشاف ما حولنا من العوالم الغيبية، وهذا مما يزيد مساحة العقيدة ويوسع رقعتها، ويلبي ميلاً فطرياً عند الإنسان إلى الإيمان بكائنات لا تدركها الحواس.
إن الحديث عن الجن في بدايته موضوع شيق وجذاب، له بريقه؛ لأنه يلمس هذا الوتر الحساس في نفس كل منا، فللموضوع لذة وجاذبية، ويحيطه الغموض الذي يغري باكتشافه، ويشكل عامل جذب نحوه، ويشبع غريزة حب الاستطلاع والتفتيش وراء المجهول، وقد شكل هذا الفضول سبباً رئيساً في انتشار ظاهرة العلاج الشعبي للمس الجني.
فهذا من أعظم الأسباب التي روجت لهذا الأمر، وجعلته على كل لسان؛ حيث أنه يشبع هذه الفطرة والغريزة المركوزة في كل واحد منا، وهي حب الفضول وتتبع مثل هذه الأخبار؛ ولأنها تشبع هذا الشعور الموجود في الإنسان، فكثير من الناس إزاء هذا الشعور وهذا الإشباع لا يسعهم إلا أن يغضوا الطرف عن التحري والتحقق والتثبت مما يسمعون؛ لأنه يوافق هذا الميل عندهم.(102/8)
ترويج بعض الدعاة للموضوع من دون ضوابط
هناك أناس مسئولون عن شيوع هذه الظاهرة، وفي مقدمتهم للأسف الشديد طائفة من الشيوخ والدعاة المشهورين، حيث رحبوا منذ البداية بهذا الموضوع، ونشروا قصصه بأنفسهم على المنابر، ونشروا تجاربهم الشخصية والقصص التي حكاها لهم الثقات على الملأ، دون أن يضعوا في اعتبارهم طبيعة هذه الجماهير التي يخاطبونها، وأن هذه الطبيعة قابلة للغلو في هذا الباب، فمن ثم فتحوا الباب دون أن يضعوا له ضوابط أو قيود، وهم إذ فتحوا هذا الباب، ولم يضعوا له ضوابط ولا قواعد، ولم يوجدوا في نفس الوقت نوعاً من الإشراف الجماعي أو الإشراف العلمي على هذا الأمر، فانتشرت التجارب وعمت الأخطاء الفردية.(102/9)
اشتغال من قلت بضاعتهم من العلم والإيمان بالتأليف عن الجن
من المسئولين عن شيوع هذه الظاهرة: هؤلاء المعالجين الذين روجوا لهذا الأمر بصور شتى بين الشباب، فألفوا الكتب التي بلغب أكثر من (84) كتاباً -حسب إحصائية قام بها أحد الإخوة- وأنت حيثما حللت وأينما ذهبت في معارض الكتب فإنك تجد هناك قسم خاص بكتب الجن! ولو حاولنا عمل إحصائية متكاملة فإننا سنذهل بالعدد الكبير من المؤلفات في هذا الباب، وهذا أحد العوامل التي أودت بنا إلى هذه الظاهرة الخطيرة، حيث تفصل هذه الكتب في دراسة أعراض هذا المس المزعوم وطرق علاجه؛ فتتكلم عن الجن، وأحواله، ونواميسه، وكيف تعتدي على البشر، وكل مؤلف يقول لك: هذه تجربتي الشخصية، والحالات التي تأتيني، وفعلت كذا، وعالجت كذا، ولله الحمد والمنة استطعنا إخراج الجن.
إلى غير ذلك مما نسمعه ونقرؤه.
ليس هذا فحسب بل إن الشباب والأحداث والمراهقون خاضوا في هذا الأمر! فتجد حديث المجالس عن الجن، ويقرءون الكتب التي تتحدث عن الجن، وأشرطة الكاست أغلبها عن الجن، وهناك حوار مع الجني المسلم كما يزعمون! فالواحد منهم يظن أنه ما عليه إلا أنه يقرأ آيات من القرآن الكريم، فإذا ضحك المريض أو بكى أو اختنق أو تشنج؛ فإن هذا يعني أنه مصاب بالسحر أو بمس الجن، ويا حبذا لو تكلم فسرعان ما ينفعل المعالج مع هذا الجن، ويقوم بتسجيل المحاورة في أشرطة، ومن ثم يقوم بإذاعتها بين الناس.
وقد انتشرت الحكايات الكثيرة عما يحدث في جلسات العلاج، وهذا من أكبر أسباب انتشار هذا الأمر، ونحن نذكر هذه الأسباب؛ لأنها مهمة جداً في الوقاية من هذا الداء، ومحاربة هذه الظاهرة التي أصبح كل واحد منا مسئولاً عن مواجهتها وإخمادها والقضاء عليها؛ لما يترتب عليها من مخاطر جسيمة سنذكرها إن شاء الله تعالى حينما نتكلم في النهاية عن طرق الوقاية أو العلاج.(102/10)
الصحف
من المسئولين عن انتشار هذا الأمر وشيوعه: بعض الصحف؛ لأن الصحف لا تعترف إلا بالتوزيع، حتى تمتلئ جيوب أصحاب الجرائد، ولا نستثني الصحف المسماة بالإسلامية، فإنها قد دخلت أيضاً في هذا الموضوع، ولعبت دوراً كبيراً في الترويج له، وفتحت الباب على مصراعيه لإشغال الرأي العام بهذا الموضوع، وفتحت الباب لاستغلال الدجالين والمدعين لهذا الأمر.
ويكفي لبيان المهزلة إعلان حزب من الأحزاب السياسية بخط عريض: لعلاج فشل الخطوبة المتكرر، فهم يعزفون على الوتر الحساس عند الجهلة وقاصري العقول من الناس، ويغرون الناس بأن عندهم الحل لكل مشكلة.
إذاً: علينا أن نلقي هذا الطب -حسب اعتقادهم- في البحر؛ لأنهم يزعمون أن كل مرض سببه المس، بل إن هناك من يزعم بأن الجن يعمل عمليات جراحية! ويعالج العقم! ويعالج تكسير العظام! ويفعل كذا وكذا إلخ، وهناك أساطير وحكايات لا يعلم أين ستتوقف وكيف ستنتهي إلا الله سبحانه وتعالى.
فالحقيقة أن سلبيات هؤلاء المعالجين كانت سبباً رئيساً في تفاقم هذه الظاهرة، وفي كثرة هذه الحالات، وإلا فإن ظاهرة المس الجني موجودة في كل زمان، بل يوجد في كتب الطب النفسي بالذات صور لعملية الإحراق للمصروعين، حيث كانوا يعالجون حالات الصرع بالإحراق؛ حتى تخرج الأرواح الشريرة من المريض كما كانوا يقولون, وهذا يوجد منذ زمن بعيد جداً، حتى في كتب أهل الكتاب توجد حوادث تنسب إلى المسيح أنه عالج فيها المس الجني.(102/11)
التهويل والإفراط
ظاهرة المس الجني موجودة في كل زمان، لكنها كانت محصورة ومحدودة، وكذلك ظاهرة السحر والحسد، فإنه وقبل انتعاش الصحوة الإسلامية كان الناس يراعون أمور المروءة، وكان من أكبر العيب أن تسمع رجلاً يقول: عمل لي فلان عملاً؛ لأن هذه الكلمة لم تكن تصدر إلا من النساء الأميات القاصرات الجاهلات، وكان هذا يعتبر من خوارم المروءة، ولما كنت في الثانوية كان المدرس يقول لنا: ماذا تعمل في المسألة؟ نقول: نعمل عملاً، وكان الواحد منا يستحي من قول هذه الكلمة؛ لأنها لا تشيع إلا في حصص الرياضة، فنظراً لمشابهتها للألفاظ النسائية كان الإنسان يستحي من استعمال هذا التعبير، أما الآن فإن هذه الكلمة قد راجت حتى أنه لا يكاد يوجد حدود بين عقلية النساء التافهات القاصرات، وبين رجل ضخم البنية، كما قال تعالى: {تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4]، ثم تراه يقول: هذا عمل لي عملاً! ويستعملون هذه الألفاظ التي ما شاعت إلا على ألسنة النساء، وليس كل النساء بل فقط الأميات الجاهلات.
بفضل هؤلاء المعالجين المزعومين انتقل موضوع الجن والسحر والحسد من الوسط النسائي إلى وسط الرجال، أو بتعبير أدق: إلى وسط الدعاة، ومن بعض الدعاة انتقل إلى الوسط الرجالي، واستوى الرجال مع النساء في الاستغراق والاندماج مع هذه الظاهرة الخطيرة.
فكل ما فعله هؤلاء المعالجون أنهم لم يعالجوا في الحقيقة، بل وسعوا رقعة هذا البلاء، ونشروا خبره، وسلطوا الأضواء عليه، ولفتوا أنظار الناس إليه، وفتحوا أبواب الشر على مصراعيها! ولا زالت حالات المس والصرع الجني موجودة، لكنها في الحقيقة ليست بهذه الكثرة التي نراها اليوم، فكثير مما نرى أو نسمع عنه من الحالات -بل أغلبها في الحقيقة- ليست مساً جنياً، وليس لها علاقة بالصرع، وإن تكاثر المعالجون على الخطأ في تشخيصها، ومن ثم في علاجها.
وسوف أذكر دليلاً حياً عابراً على هذا الكلام: أحد المشايخ المشهورين في السعودية وهو الشيخ: العمري كان له للأسف الشديد دور فعال في نشر الاهتمام بموضوع الجن، حتى أنه من شدة استغراقه في هذا المجال كان العلماء ينكرون عليه الإفراط في موضوع الجن، ثم دار الزمان دورته، وإذا به تُنشر له مقالة في إحدى الجرائد العالمية المشهورة بأنه ينكر تماماً الصرع الجني، ولا يعترف بشيء اسمه: صرعاً جنياً! وهذا بسبب غلوه وإفراطه في موضوع الجن، حيث جعله ينقلب إلى الجهة المقابلة، بعدما خاض فيما خاض، والآن بنفس اللسان ها هو يقول: إن هذا الصرع لا أصل له على الإطلاق! وينكر حقيقة الصرع الجني للإنس، مما اضطر العلماء هذه المرة أيضاً أن يردوا عليه ليردوه إلى الحال الوسط، وهو إثبات المس.(102/12)
عدم التفريق بين المرض العضوي والنفسي وبين الصرع والمس
بعض المرضى بمرض عضوي مزمن أو نفسي ييأسون من علاج حالاتهم، أو من قدرتهم على الخروج من المشكلات الاجتماعية، فإذا ما انتبه صاحب هذا الدافع إلى هذا الداء الجديد داء السحر واعتداء الجن؛ فسرعان ما يتعلق بالقشة، ويهديه تفكيره إلى أن سبب هذا المرض الذي يعاني منه هو من الجن أو السحر أو نحو ذلك، فيهرع إلى طلب العلاج.
هناك أمراض عضوية، وهناك أمراض نفسية، والمريض بالمرض النفسي قد يتأثر بما يقرأه ويسمعه حتى يقع فريسة الإيحاء الذاتي، فيقرأ عنه من باب الفضول وحب الاستطلاع خاصة النساء؛ لأن أصل كلمة هستيريا مأخوذة من كلمة (هسترا) يعني: الرحم، فكانوا فيما مضى يقصرون هذا المرض فقط على النساء، إلى أن اقتنعوا في العصر الحديث بأنه مرض يصيب الرجال والنساء، لكن نسبة النساء فيه أكثر.
الشاهد: أن النساء لهن تأثر بهذا المجال أكثر من غيرهن، حيث يقرأن عن الجان، ونواميسه، وحركاته، وكيفية اعتدائه ومسه للإنسان، ويفصل مؤلف الكتاب، ويشرح أعراض المرض، وأسبابه، وطرق علاجه وأكبر خطأ يرتكبه المؤلفون: أنهم يجعلون هذه المادة متوفرة ومتاحة لكل من شاء، ويسترسل المؤلف في ذكر أعراض قد تتشابه في كثير من الحالات مع أعراض الأمراض العضوية والنفسية؛ من صداع، وضيق الصدر، وارتفاع ضغط الدم أو انخفاضه، أو مغص، أو غثيان، أو شبه غيبوبة، أو اضطراب عصبي، أو تشنجات إلى أو غير ذلك، وهذه الأعراض قد تقابلنا في حياتنا اليومية نتيجة أسباب شتى ومشاكل اجتماعية يعانيها الإنسان، فإذا كانت المرأة أو الشخص الذي يقرأ هذا الكتاب يعاني من هذه المشكلات فسوف يقتنع في ضوء ما قرأه أن به مس من الجن، أو أن هذه المرأة وقعت في شرك السحر، في حين أن الحقيقة غير ذلك، خاصة وأن بعض المرضى النفسيين يكون عندهم ما يسمى بالميل للاضطهاد، وكثير من الشعب المصري عنده ميل إلى أن يبين أنه مظلوم، وأن بعض الناس يحسدوه، أو يتآمروا عليه، أو يعملون له سحراً، أو أن الجن يؤذونه إلى غير ذلك من مظاهر الشكوى والتظلم؛ وإسقاط المشاكل على الآخرين.
فكثير من الحالات -التي هي في الأصل سالمة من الجن- عندها أعراض إما عضوية أو نفسية، وتجد أحدهم يتوغل في الوهم إلى أن يصبح الوهم في نظره حقيقة واقعة، وربما أدى به الأمر إلى أنه يتعرض لصرع الجن حقيقة؛ بسبب ذهابه إلى المعالجين، وهم الذين يجلبون له الجن، ويجنون عليه.(102/13)
كثرة التخوف من الجن والمبالغة فيه
من جراء انتشار هذا الكلام، والمبالغة في الحديث عنه من خلال الكتب والأشرطة والجرائد انتشرت الأوهام والوساوس، والخوف المرضي، والهلع، وتغلغل ذلك في قلوب كثير من الناس، حتى إنهم عظموا الجن، وخافوا ورهبوا منهم، وضعف التوكل على الله سبحانه وتعالى، وتعلق الناس بالمخلوق الضعيف الذي يعتقدون أن عنده العلاج بدلاً من وثوقهم بالله سبحانه وتعالى، فصار فيهم شبه بمؤمني الجن الذين قالوا: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6]، وهذا نفس ما حصل من هؤلاء المعالجين ومن هؤلاء المرضى، وقوله: (رهقاً) يعني: خطيئة وإثماً، قال القرطبي: المراد به ما كانوا يفعلونه في الجاهلية، كان الرجل إذا نزل في وادي وأراد أن يبيت فيه يقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه.
فيبيت في جواره حتى يصبح، أي: يتعوذ بملك الجن في هذه المنطقة من شر سفهاء قومه، فيبيت في جوار هذا السيد حتى يصبح.
قال مجاهد: ((فَزَادُوهُمْ)) أي: أن الإنس زادوا الجن طغياناً بهذا التعوذ، والواو هنا -على هذا القول- تعود إلى الإنس، يعني: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ} [الجن:6] أي: يتحصنون ويحتمون ويلتجئون، {بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] يعني: فتسبب الإنس بفعلهم هذا في أن زادوا طغيان الجن، ونحن لا نعتب على الجن في هذه الحالة؛ لأنهم وجدوا أناساً عقولهم ضعيفة، فما بالهم لا يلعبون بهم وقد أتوا إليهم بأنفسهم، وأعطوهم من السلطان ما لم يكونوا يحلمون به؟! ولماذا لا يصرعهم الجن في الحقيقة؟! حتى قالت الجن: سدنا الإنس والجن.
وقال قتادة وأبو العالية والربيع وابن زيد: ازداد الإنس بهذا فرقاً وخوفاً من الجن، وقال سعيد بن جبير: {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] يعني: كفراً.
وقد فُتح باب من الشر والبلاء، وخُدش التوحيد، وانتشر السحر، والجدل، وإهمال الدعوة بسبب الانشغال بكل هذه الأشياء التي فتحت لنا أبواباً من الشر ما كنا نسمع عنها من قبل، ولولا أني لست من أنصار تفسير كل شيء بالتآمر العلماني واليهودي والصليبي والاستشراقي لقلت: لا يبعد أن يكون هذا من فعل أعداء الإسلام، فهم الذين شجعوا هذا الخط، لكن أنا لست من أنصار هذا المنهج، وقد حقق هؤلاء من حيث لا يدروا لأعداء دعوة التوحيد مكاسب عظيمة جداً، ولابد أن أعداء الإسلام سيشكرون لهم أن شغلوا الناس بهذه الأشياء، وصدوا الناس عن سبيل الله، وأوقعوهم في الشرك، وأحيوا كثيراً من الفتن التي نلمسها!! يقول الرازي في تفسير الآية: المعنى: أن رجال الإنس إنما استعاذوا بالجن خوفاً من أن يغشاهم الجن، ثم إنهم زادوا في ذلك الغشيان، فإنهم لما تعوذوا بهم ولم يتعوذوا بالله استذلوهم واجترءوا عليهم، فزادوهم ظلماً.
إذاً: الإنس هم الذين تسببوا في زيادة طغيان الجن، وكثير من هؤلاء الناس الذين يدّعون الصرع، ومن هؤلاء المسمين بالمعالجين، كان لهم دور كبير في إشاعة المس الوهمي والمس الحقيقي، ((فَزَادُوهُمْ رَهَقًا))، فاغتنم الشيطان حالة الرعب والفزع التي انتابت الناس بطريقة وبائية أكثر مما غنم من الطبع واللمس نفسه.
ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه فكان أن زادهم الشياطين رهقاً لما رأوهم قد ولعوا باللبس الجني، ونفخوا في الشيطان، حتى خافوه ونسوا قوله تبارك وتعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76].
بدلاً من الدعوة إلى التوحيد، وإلى تقوية الإيمان والتوكل على الله سبحانه وتعالى، وأن يتلوا عليهم قوله تبارك وتعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76]، بدل هذا كله؛ إذا بهم ينفخون ويعظمون الشيطان الذي أُمرنا بتحقيره وتصغيره، والصواب هو تحقيره وازدراؤه، كما روى الإمام أحمد: (إن المؤمن لينضي شياطينه كما ينضي أحدكم بعيره في السفر)، قوله: (ينضي) يعني: يأخذ بناصيته ويقهره ويذله، ألم يكن إبليس كما قال النبي عليه الصلاة السلام في حق ابن الخطاب: (ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غيره)؟! بدل أن يوقدوا شعلة الإيمان واليقين في قلوب الناس، والتوكل على الله سبحانه وتعالى؛ حتى تحرق بنورها هؤلاء الشياطين، إذا بهم يجتهدون في إطفاء هذه الجذوة الإيمانية بتضخيم الشياطين، وأن الشياطين يفعلون ويفعلون! وهم بهذا الاعتقاد يضادون المنهج النبوي الذي علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن الرسول عليه الصلاة والسلام علمنا كيف نحقر الشيطان، وكيف نتجنب الأشياء التي تنفخ هذا الشيطان وتعظمه، فعن رجل من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فعثرت دابتي، فقلت: تعس الشيطان، فقال: لا تقل: تعس الشيطان، ولكن قل: باسم الله، فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى يكون مثل الذباب)، أي: لأنك إذا قلت: تعس الشيطان، كأنك تبين أن الشيطان قد بلغ منك مبلغاً حينما يكيدك وأنه يفعل بك ما يريد، وهذا مما ينافي سلوك أهل التوحيد.
فهؤلاء الذين يهزمهم الرعب والخوف هم مرضى من كثرة ما يسمعون، فهم يفزعون ويخافون، بل ويخيفون الأطفال، فإن الأطفال حينما يسمعون هذه الأشياء يخافون من النوم في الظلمة، ومن الجلوس في البيت بمفردهم، وهذا خوف مرضي، وهو خطر على نفسية الأطفال بلا شك.
فهؤلاء يهزمون أنفسهم بأنفسهم بسبب الرعب الذي يُدخلونه في قلوبهم من خوف الجان، {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر:50]، وينادي أولهم آخرهم: الجن الجن، السحر السحر، العين العين!(102/14)
خطر انغماس بعض الدعاة في علاج المس
إن ظاهرة انغماس المعالج في هذا الأمر ينتج عنها أشد الأضرار، وأول من يصطلي بنارها هو المعالج نفسه، فبمجرد أن يشاع أن فلاناً عالج حالة مرضية، إذا بالناس يتقاطرون على بيته ليل نهار، وإذا بطابور طويل من المرضى يتبعه من البيت إلى المسجد، ومن منزل إلى آخر، والنتيجة هي اضطراب شامل في نظام حياته، واستهلاك كامل لوقته، ولا أحد يعينه على الانتظام في عمله أو وظيفته أو دراسته، فيحدث عنده خلل على مستوى المسئوليات الشخصية أو الأسرية أو الاجتماعية أو الوظيفية أو الدعوية، فالذي كان داعية من قبل أصبح في وضع يقول له الناس: ألست أنت الذي كنت تنهانا عن الشعوذة ها أنت الآن تمارس ما كنت تسميه من قبل شعوذة؟! وهو مستغرق تماماً في علاج هذه الحالات المزعومة، وبعد أن كان محتسباً إذا به يترقى درجة ليصبح محترفاً ومرتزقاً بهذا العمل، وقد يصل به الأمر إلى المغالاة في الأجور، والإلحاح في الطلب! أما المعالج نفسه فمن أخطر الآثار عليه: أنه لو كانت الحالة ليست حالة مس، وإنما هي حالة وهم ومرض كاذب، فإنه قد يسلك مسالك تؤكد لهذا المريض الحالة التي عنده تماماً، ولا يبين له كما بين الطب الجسمي العضوي والطب النفسي، كأن تكون حالة أعصاب أو نوعاً من القلق أو الأرق، فقد يشتكي المريض من نفس الأعراض -وهو صادق في ذلك- لكن سببها هو سبب نفسي، وليس سبباً عضوياً، فهي حالة نفسية بطريقة معينه تؤثر وتوجد نفس الأعراض، وليس سببها هو الجن.
فهذا المعالج أحياناً يضرب هذا المريض، وقد يصل بالضرب إلى حد القتل! فيُصدم هو، وقد يصاب بالذهول، أو الجنون، وربما يؤثر على بيته؛ لأنه غالباً يهمل شئون أسرته فيتصدع بيته، وربما وصل الأمر مع زوجته إلى الطلاق، وإذا كان من الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أو من طلبة العلم الشريف فلا شك أن هذه الوظائف الشريفة سوف تُطوى في عالم النسيان؛ لانغماسه في علاج هذه الحالات، وهو في الحقيقة ضرب من التخدير، وإلهاء الناس عن واقعهم وعن الطريقة الصحيحة للتعامل مع الشيطان، وهي: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6].
فكم شغلت هذه الظاهرة دعاة عن الدعوة؟! وكم حولت دعاة إلى مشعوذين وكهنة؟! حتى أن بعض الناس يقول لأحد الإخوة: أنا بالأمس قابلت أخاً كاهناً! منذ متى أصبح الكاهن أخاً؟! ومنذ متى أُضيفت كلمة (أخ) إلى (كاهن) حتى يصبح أخاً وكاهناً؟! الله المستعان.
ومن الأمور الخطيرة جداً: أن الشياطين أذكياء في إغواء الناس وإضلالهم، فالشيطان إذا رأى الناس قد التفوا حول شخص من هؤلاء المعالجين، فإن له طرقاً شتى يحاول أن يفتن بها هذا المعالج، كأن ينفخ فيه الغرور، حيث يكون هذا الشيطان متلبساً بشخص، فيقول له الناس: سوف نأتي لك بالشيخ فلان المعالج، فيقول: إلا فلان! لا تحضروا هذا الشيخ؛ فإنه سيحرقني، أنا سأهرب وأخرج من غير أن تأتوا به!! والشيطان له هدف من وراء هذا الكلام، وهو نفخ المعالج، لكي يملأه بالغرور، حتى يتمادى في هذا الطريق المهلك؛ لأن الشيطان خبير في إغواء الناس وإضلالهم، فالشيطان يساعده في وظيفته دون أن يشعر هو، ويقع فريسة للشيطان دون أن يشعر، وكم سمعنا من هذه المواقف التي تماثل ما ذكرناه.
وقد انتشرت هذه الظاهرة المهلكة، ثم ينتج عن ذلك غلو في هذا المعالج، حتى ربما يعتقد الناس أن فيه سراً معيناً ليس موجوداً في غيره، فالناس يتزاحمون عليه ويشدون إليه الرحال من كل بلاد إليه ويضربون إليه أكباد السيارات حينما يسمعون ما ينشر عنه من حكايات غريبة، وكيف أن أكثر المصروعين تكلمت الشياطين على ألسنتهم أمام هذا القارئ، وأخذ العهد من الشيطان أنه لا يعود إلى ذلك المصروع، وهذا المعالج ينخدع بكلام هذا الجني الشيطان، وربما يكون المتكلم هو المريض نفسه حيث يتقمص شخصية الجني، ولكثرة ما سمع عن الجن فإنه يعيش نفس الدور بكل إتقان.
وهذا الكلام الذي يقوله الجن أو الشيطان إنما هو استدراج وفتنة له؛ كي يصرفه أكثر عن سبيل الله وعن الصراط المستقيم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولما كانت الخوارق كثيراً ما تنقص بها درجة الرجل -أي: تنقص درجته في الولاية بسبب حصول الخوارق- كان كثير من الصالحين يتوبون من مثل ذلك ويستغفروا الله تعالى، كما يتوبوا من الذنوب كالسرقة وغيرها، وتعرض على بعضهم فيسأل الله زوالها -يخشى من الكرامة؛ لأنها قد تنزل مرتبته- وكلهم يأمر المريد -أي: يأمر تلامذته- ألا يقف عند خوارق العادات، ولا يجعلها همه، ولا يتبجح بها، مع ظنهم أنها كانت كرامات، فكيف إذا كانت في الحقيقة من الشياطين؟! فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر، ويقول: هنيئاً لك يا ولي الله، فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك -أي: أنه شيطان- وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير ونحوها، وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء، ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك.
فأنت تعرف أن هذا شيطان، وهو الذي يمدحك، فليس في الأمر أي اشتباه، وإذا كان أحد السلف يأتيه الرجل ويقول له: رأيتك في الجنة تطير! فيبكي ويقول: لعلها تكون من الشيطان يريد أن يغرني ويريد أن يذلني.
فلابد أن يكون الإنسان على حذر من الشيطان حتى اللحظة الأخيرة.
وقد روي في ترجمة الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أنه عند موته فوجئ ابنه بأنه يقول: لا بعد، لا بعد، فبعد ما أفاق قال له ابنه: يا أبت! قلت شيئاً غريباً! كنت تقول: لا بعد، لا بعد، قال: يا بني! هذا الشيطان عرض لي في ركن الحجرة، وهو يعض أنامله ويقول: فُتَّني يا أحمد -أي: سوف تموت وما استطعت أن أضلك- فكان يرد عليه الإمام أحمد: لا بعد، لا بعد.
أي: ما دام فيَّ عرق ينبض فلا آمن الفتنة.
وهذا باب من أبواب الفتنة الخطيرة جداً، وأنت نفسك تعرف أن الشيطان هو الذي يقول: إلا المعالج فلان، انتبهوا! لا تأتوا لي بفلان، أنا سوف أخرج، لكن لا أريد أن يأتي ليحرقني إلى آخر هذا الكلام الماكر، فهو شيطان، وأنت تعترف أنه شيطان، فكيف تقبل نصيحة شيطان رجيم؟! وكيف تغتر بكلامه وبمدحه إياك وهو يريد أن يغرك ويفتنك عن صراط الله المستقيم؟! فهذا المعالج قد يتوهم أن الناس الذين ازدحموا على بابه من كل الآفاق إنما هو لقوة إيمانه، ويرى المرضى الكثيرون الذين يعافيهم الله سبحانه وتعالى على يده، وكيف أنه قهر الشياطين وقهر الجان، فأصبحت الشياطين تخاف منه وتخرج من المصروعين، فيتوهم أنه من الأولياء الأبرار، ويصيبه العجب الذي هو أخوف ما خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، وها هو عمر رضي الله تعالى عنه يخاف على أُبيّ رضي الله تعالى عنه من كثرة الأتباع والتلاميذ الذين يطأون عقبه، وهذا عمر رضي الله عنه يعزل خالد بن الوليد وهو في أوج انتصاراته وفتوحاته؛ خشية أن يفتن الناس بـ خالد بن الوليد ويظنوا أن النصر يأتي من خالد بن الوليد، فإذا كان هذا في حق خير هذه الأمة التي أُخرجت للناس، فكيف في حق هؤلاء الضعفاء؟! أما الأثر على المريض -ونعني به: المريض بغير الصرع، وعومل على أنه مصروع- من الضرب أو القتل الذي يحصل له إذا عولج بالقرآن الكريم وهو في الحقيقة ليس مصروعاً، فلا يحصل له شفاء في نظره، بل قد يحصل تشكيك لضعاف اليقين من هؤلاء المرضى في جدوى العلاج بالقرآن الكريم، وقد يصل أمر المريض إلى أن يفكر في الانتحار إذا أيس من العلاج.(102/15)
تصحيح نظرة العوام للقرآن
كثير من الناس يرى أن القرآن الكريم عبارة عن دواء يؤخذ للعلاج! هذا هو تصورهم للقرآن، وهذا هو المدخل الذي دخلوا منه للتعامل مع القرآن، فالقرآن في نظرهم ما هو إلا دواء، والمقصود منه أن يصل بالمريض إلى حالة الشفاء، وهذا اعتقاد غير صحيح، فينبغي التعامل مع القرآن على أنه كتاب الله سبحانه وتعالى، وأنه طريق السعادة في الدارين، ومنهج كامل للحياة، ولا يُنظر للقرآن على أنه فقط مجرد دواء لبعض الأمراض، بغض النظر عن أنه منهج شامل لحياته.
وينبغي ألا يكون التعامل مع القرآن الكريم من خلال التلاوة الذاتية التي يتعبد بها الإنسان بالتلاوة والصوت والحركات والحروف، أو من خلال تشغيل المسجل، وحتى الإخوة الملتزمون يكتفي بعضهم بسماع المسجل، ويقول أحدهم: أنا لا أقطع صلتي بالقرآن، بل أسمع إذاعة القرآن الكريم كثيراً.
صحيح أن هذا شيء طيب، لكن لا شك أن الأعظم والأجدى والأكثر ثواباً أن تقرأ وتتعبد الله بتلاوة القرآن، بحيث يخرج من قلبك ولسانك أنت، ومن الجفاء أن يغلب علينا الاهتمام بالقرآن عن طريق الأشرطة، أو الكمبيوتر.
ويحصل عند بعض المعالجين أن يصرف للمريض شريط تسجيل للقرآن الكريم فيه سورة البقرة وآيات محدودة معدودة، ويكون هذا كل ما يعالج به المريض من القرآن الكريم.
وكثير من الناس إذا مرض لهم مريض -وقد لا يكون مصروعاً- يسارعون قائلين: ابحثوا عمن يرقيه! ابحثوا له عن معالج! هل من راق؟! دون أن يكون هناك حافز على أن يرقي الإنسان نفسه، مع أن الأصل في العلاج أن كل إنسان يرقي نفسه، وإلا ما الذي وسع دائرة هذه الظاهرة؟! ما لماذا لا ترقي نفسك بالقرآن؟! هل من اللازم إيجاد وسائط؟! نحن لا نقول: إن الإنسان لا يجوز له أن يرقي غيره، لكن نقول: لماذا نحصرها في هذا الإطار الضيق؟! لماذا لا يرقي الرجل زوجته بدل أن يحملها بنفسه إلى هؤلاء الناس؟! لماذا لا يرقي ولده؟ لم لابد من معالج اصطفيناه لهذه الوظيفة بالذات؟ لقد اصبح الجهد الوحيد والهدف الوحيد عند حصول حالة من هذه الحالات هو البحث عمن يقرأ عليه وكفى! كأن الناس اعتقدوا أن هذا هو التصرف السليم، وتجاهلوا أن ربنا سبحانه وتعالى أقرب لأحدهم من حبل الوريد، فالقرآن موجود، والتحصينات القرآنية موجودة، والأدعية النبوية موجودة، فلماذا لا ترقي نفسك أنت؟ لم لابد من معالج كما يزعمون؟(102/16)
بعض أخطاء المعالجين بالقرآن
من أخطار المنهج الذي يتعامل به هؤلاء المعالجون مع هذه الحالات -وهذا يصدر عن حسن نية المعالج إن شاء الله- أنه يحاول أن يستثمر سلطة المرض في تحسين التزام هذا المريض بالإسلام، وهم يصيبون فعلاً حينما يقولون: هذا بسبب الذنوب والمعاصي، فيقول له مثلاً: الجني يأتي في البيت ويعاكسك بسبب وجود صور في البيت، أو فيه كلب، أو أنك تستمع الموسيقى، أو عندك تلفزيون أو فيديو إلخ، فعليك أن تتخلى عن هذه الأشياء؛ من أجل أن تحصن نفسك من الجن، ولكي تتحسن حالتك.
فكأن نظرته لطاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام ليست مبنية على أنه يجب عليه كمسلم أن يغير أسلوب حياته كله، وأن يلتزم بدين الله كله {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] بل كأن هذه حالة مؤقتة من الالتزام مرتبطة بالشفاء من المرض.
حكى لي أخ: أن رجلاً من هؤلاء الناس قالوا له: عندك صور في البيت؟ قال: نعم، قالوا: وموسيقى وتلفزيون؟ قال: نعم، قالوا: والنساء متبرجات؟ قال: نعم! فانتهى الأمر بالاتفاق معه على التخلص من هذه الأشياء لكي يُشفى هو أو زوجته من المرض، فتخلص منها، وطال عليه الأمر، ثم تحسنت الحالة، فإذا به يعود لهذه الأشياء مرة ثانية، فعادوا بالمريض للأخ المعالج، فقال له: أنت عدت إلى الصور وكذا وكذا؟ قال: نعم، فقال: لا يوجد علاج إلا أنك تترك هذه الأشياء، وهذا المدخل جعل الالتزام بأنه علاج حالة، وهذا مدخل غير صحيح، وأما المدخل الصحيح فهو أن يكون الالتزام هو الأصل، وطاعة لله سبحانه وتعالى هي الأساس، وحتى لو قدر مرض فهو بلاء على المسلم، وينبغي أن يصبر عليه، وليس مجرد الالتزام عبارة عن آلة نستعملها مؤقتاً ثم نخلعها بعد ذلك إذا شُفيت الحالة! وقد يكون المريض موهوماً، يتملكه التأكد من أنه مصروع وهو ليس كذلك، فما أن يُقرأ عليه القرآن إلا ويتأكد أنه فعلاً مصاب بالمس، وهو يحفظ الحوار؛ لأنه سمع الكثير من هذه الحوارات في الأشرطة وفي غير الأشرطة، فأول ما يقرأ عليه القارئ إلا وهو يتخيل
السؤال
ما اسمك؟ فيجيب: أنا جرجر! وهكذا يمثل الحوار، ويجيب على أسئلة المعالج، ويعيش الدور فعلاً بمنتهى الصدق، وبمنتهى الإتقان، مع أنه ليس فيه مس ولا شيء من هذا، وإنما لكثرة سماعه وتخيله، كما سندلل على ذلك إن شاء الله.(102/17)
خطورة التعمق والاسترسال في علاج الصرع والمس
لم أكن أود أن ننشغل بهذا الموضوع، لكن يبدو أننا محتاجون لوقت أكثر مع المعالجين وليس مع الجن! كثير من الناس يهابون التحدث في هذا الموضوع، وكثير من المعالجين يتحصنون وراء كلمة: (العلاج بالقرآن الكريم)، وإذا انتقدتهم قالوا: إذاً أنت تنكر أن القرآن شفاء! وهذا نوع من الإرهاب والتخويف الذي يغطون به جرائمهم، ويقولون: أنت تنكر المس، وأهل السنة والجماعة يقرّون به، وتنكر السحر وهو مذكور في القرآن، وهذا كله مما يتحصنون وراءه لكي يستبيحوا ما يفعلونه من هذه المخالفات.
وإذا تجردنا من كثير من الضغوط التي تفرض علينا في هذه القضية، سنجد أن الجن عالم يكتنفه الغموض من كل جوانبه، ولا نستطيع أن نستوضح كل شيء إن نحن فتحنا هذا المجال؛ لأن الله سبحانه لم يخبرنا عن كل شيء في حياة الجن حتى نخرج من عالم الإنس إلى عالم الجن، وماذا يأكلون ويشربون ويلبسون! فنحن بشر، وعلينا أن نتعامل كبشر، وأن نتفاعل مع الأحداث التي تمر بنا من مرض أو غيره حسب ما خوّلنا الله، ونتعامل مع المرض تعاملاً طبيعياً جداً، فالذي يمرض عليه أن يذهب للطبيب الأخصائي ويتعالج، وهو بذلك متوكل على الله سبحانه وتعالى، ويأخذ بالأسباب التي ندبنا إليها الشرع، أما أن نفتح باب الجن فهذه متاهات؛ لأن للجن عالم مجهول مجهول مجهول، وعالم غامض غامض غامض ليس له حدود، والإنسان إذا دخل فيه فإنه يضيع في متاهات ودروب ومسالك لا أول لها ولا آخر، بل عبارة عن حلقة مفرغة فقط.
حتى أن واحداً من أشهر معالجي الجن، وهو الشيخ العمري -سامحه الله- بعد ما دوّخ الدنيا كلها ونشر موضوع الجن وأشاعه وشجعه، وكان يحكي أشياء عن الجن، ومع ذلك ها هو الآن يأتي ويقول: كل هذا وهم ليس له حقيقة! آلآن بعد ما أذيع وأشيع وروج هذا الضلال المبين يعالج بالضد من ذلك؟! فهذا الموضوع كله مثل الدخان، كأنه حيرة وغموض وضباب وعدم وضوح، فهو فن لا تضبطه ضوابط نقلية محدودة وحازمة، والذين يكثرون الكلام في هذا المجال إنما يلتقطون أشياء من هنا وهناك، ويقولون: وجدنا كذا في الكتب والمراجع القديمة، وهي أشياء عجيبة غريبة، أو أشياء قالها علماء أفاضل، لكن كانت من باب الاجتهاد، ولا تقوم على دليل، فلماذا لا نرفضها؟! ولماذا ندس أنفسنا في كل هذه الأشياء وهي مما لم يقم عليه دليل بعد؟! ولاسيما السلفيين، أين السلفية؟! أليست السلفية: اتباع كل شيء بالدليل؟! أليست السلفية تمحيص أقوال العلماء ورفض ما لم يقم عليه دليل؟! إذاً لماذا كثر هذا الأمر فينا ونحن كنا أولى الناس بالتنزه عن الغوص في هذا الوحل؟! متاهات يهيم فيها الناس وراء من لا يعرفون من هم ولا كيف هم، أعراض غير محددة أعراض لمرض غير حاسمة أعراض تكتنفها الاحتمالات علاجات مخترعة بنفس الجو غير معروفة وغير محددة، وليس لها أول ولا آخر.
وأما من يضرب المصروع، نقول له: من أين لك أنه صرعه جني؟ وما هو الدليل على أن هذا مصروع بالجن؟ وما هو الضمان قبل الشروع في الضرب أن هذا الضرب سوف يقع على الجني لا الإنسي؟ أين الضمان أنك لن تظلم هذا المريض المسكين؟! وقد حصل في كثير من الحالات أن يخطئ هذا المعالج وينهال بضرب فظيع جداً على جسد المريض، وهو معتقد أنه يقع على الجني -كما قرأ في الكتب- ولا يقع على المريض، فيفاجأ بأن الجني غير موجود أو أنه قد هرب، ووقع الضرب على المريض، وأما كلام العلماء الذين قالوا هذا فكلامهم على العين والرأس، لكن أين الدليل عليه؟ وأين الضمان أنك حين تضرب هذا الشخص فإنك تضرب الجني الظالم ولا يقع الضرب على هذا الإنسان المظلوم؟! هل تعذيب الناس والعدوان على أبدانهم بهذه الطريقة مباح لكل أحد؟! هل إزهاق أرواحهم كما يحصل كثيراًَ أمر متروك هكذا؟! وهل يعفى عن المعالجين أن يفعلوا ما يشاءون؟! {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36].
وهل تُرك الأمر سبهللاً دون ضوابط أو حدود؟ أين الضمان؟ نريد دليلاً يضمن لنا أن الضرب سيقع على الجني وليس على الإنسي؟ كثير من الحالات التي يزعم هؤلاء المتفوقون في علاج الجن أنهم يصيبون فيها إذا هم يخطئون فيها، وبالفعل يقع الضرب على الإنسي، ويصل أحياناً إلى إزهاق الروح بحسن نية هؤلاء القاصرين!(102/18)
وقفة مع الجن [2]
عالم الجن من الغيب الذي يجب أن نؤمن به، ونؤمن أنه يمكن للجن أن تتلبس بالإنس، غير أنه يجب مراعاة أمور منها: أنه ليس كل صرع هو مس، وأن المصاب بالمس يعالج نفسه أو يعالجه غيره دون غلو يفضي إلى التعلق بالقارئ دون المقروء، وعلى المعالج أن يتقي الله فلا يتخذ العلاج حرفة ومهنة، وأن يقف عند حدود الله تعالى وضوابطه الشرعية؛ حتى لا ينجر إلى هاوية المحرمات، ثم إلى البدع والشركيات.(103/1)
مرض الصرع
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: الصرع قسمان: صرع عضوي، وله أسباب عضوية معروفة، وصرع جني -أي: عن طريق الجن- وله أسباب معروفة أخرى، وقسم كبير جداً من الصرع يعبر عنه الأطباء بـ (الصرع المجهول السبب)، وهذا هو الذي يقع فيه المس الجني غالباً.
أما الصرع العضوي فقد عرفه الأطباء بأنه: عبارة عن عاصفة كهربائية بسيطة أو قصيرة تحصل في الدائرة الكهربائية في الجهاز العصبي في جسم الإنسان.
فيقول الأطباء: إن الصرع يشبه قفصاً كقفص العصافير، وفي داخله منبه مضبوط على ساعة معينة، وهذا القفص مقفل بالقفل، وليس مع أحد مفتاحه، فإذا حان الوقت المحدد يصدر صوت رنين الجرس، وليس هناك حل غير أنك تتركه حتى تنقضي هذه النوبة؛ لأن الصندوق عليه قفل، ولا تقدر أن تمد يدك لتسكت المنبه؛ فاستسلم للحالة تلك التي تأخذ دقيقتين أو ثلاث إلى أن تمرّ دون أن تتدخل أنت بأي شيء، فلا تتدخل في هذا المصروع كأن تضع شيئاً في فمه أو ما شابه من الأفعال لمحاولة إيقافه، هذا هو المسلك الذي ينبغي أن نسلكه في حالة الصرع العضوي بناء على نصائح الأطباء، أما المسلك الذي يسلكه هؤلاء في الجهة الأخرى فهو: التدخل بالعلاج والرقية، فهذا طريق وله خطواته، وهذا طريق آخر وله خطواته.
وقد ذكر ابن القيم أن الصرع ينقسم إلى صرع عضوي أو صرع الأخلاط، وصرع الجن، ولم يحدد ابن القيم رحمه الله تعالى بشكل حاسم قواعد وضوابط تميز لنا كلاً من النوعين حتى نقطع ونجزم من أي نوع من النوعين هذا الصرع.
وإذا حصل تخبط في التشخيص فلا شك أنه سوف يحصل تخبط في العلاج، فلماذا لا نسلك الأسباب العادية في علاج حالة هذا المريض؟! وبعض المعالجين يسأل: هل تشنج المريض عندما ولد؟ هل تعرض لكذا وكذا؟ مع أن هذه حالات طبيعية، هل الطفل الرضيع إذا ارتفعت حرارته جداً وتشنج نقول: إن عليه جني، ثم نضربه لكي نخرج هذا الجني؟! من أين لهم هذا؟! لماذا لا نقبل على الطب بثقة، ونعترف أنه علم مبني على قواعد وأصول وليس عبثاً، لماذا نتصرف في الجانب المقابل ونغوص في عالم كله غموض لا أول له ولا آخر، ولا قواعد تضبطه، ولا ملامح محدده تحكمه؟! بل إن بعضهم إذا قرأ على المريض ولم يتكلم الجني على لسانه فإنه يقول: هذا فيه عين! هذا محسود! ونحو ذلك، وكأن بعض القراء المعالجين يشعرون في ذوات أنفسهم أنهم لا يقرءون على أي مصروع إلا ولا بد أن يرد عليهم الجني، أو يتكلم خوفاً منهم أو من القرآن الكريم، فما هو الدليل على لزوم هذه القاعدة التي يطبقونها في كل حالة؟ فالمصروع إذا قرئ عليه وخُوّف الجني الذي بداخله فقد يتكلم الجني ويخاف، وقد لا يتكلم ولا يخاف، فمن أين سنقطع بأنه ليس في المقروء عليه جني أو عين؟! إن عالم الجن عالم غامض ليس له حدود، ولن نستطيع أن نقطع في مثل هذه الأشياء، ويجب أن نتذكر هذا الأمر أثناء هذه الدراسة, والأمثلة كلها تؤيد هذا المعنى، فالجن لهم عالمَ غامض جداً، كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27].(103/2)
بدع وأخطاء المعالجين بالقرآن الكريم
يجب أن نفرق بين العلاج بالرقى الشرعية المنضبطة، وبين السلوكيات المنحرفة لبعض المعالجين، ونكرر أيضاً لهؤلاء المعالجين: لا تستعملوا آيات الله سبحانه وتعالى درعاً وترساً تحتمون وراءه كي لا يعترض عليكم أحد فيما تفعلون من هذه المجازفات.(103/3)
تنصيب المعالج نفسه للعلاج بالقرآن الكريم
هذه ظاهرة جديدة وهي: أن المعالج ينصب نفسه للمعالجة بالقرآن الكريم، كأن يفتح عيادة لاستقبال المرضى! مع أن السلف لم يعرفوا هذا، والحالات التي كانت تُعالج إنما تأتي اتفاقاً، مثل: أن يقابل المريض رجلاً من الصالحين فيدعو له أو يرقيه، وهذا لا بأس به، أما أن يفتتح مركزاً للعلاج بالقرآن، أو يعلن عن نفسه كمعالج بالقرآن، فهذا أول ما يؤخذ على المعالجين، حيث إنهم أحياناً يبادرون بأنفسهم بالتحري والتفتيش عن الحالات.
فنقول للمعالج: من أين لك هذا؟ نريد دليلاً على هذه المسالك التي سلكتها؟!(103/4)
الاستعانة بالجن وتصديقهم
بعض المعالجين يبدأ بالطرق المشروعة عند العلاج بالقرآن أو بالرقى، وينتهي إلى طرق يُعلّمها إياه الجني! في بداية الأمر كان موضوع الاستعانة بالجن غير وارد، وكانت هناك احتياطات؛ لأنهم لا زالوا متشبعين بمعاني دعوة التوحيد، وبالسلفية، فكان هناك حذر شديد، ولم يحدث أن أحداً طَرَق موضوع الاستعانة بالجن، لكن مع مرور الوقت أصبح شيئاً عادياً جداً، حتى أن بعض من تحصل بينه وبين آخر خصومة فإنه يقول له: سوف أؤذيك بالجن الذي معي!! ما هذا الهُراء؟! وما هذا البغي؟! والجن يعلمونهم أشياء كثيرة جداً، ونريد أن نؤكد قاعدة مهمة جداً، وهي: كل معلومة تأتي عن طريق الجن لا يُوثق بها، والمصيبة التي استجلبت إلينا هذا البلاء هي تصديق كثير من المعالجين لكلام الجن، وقد كنا نعيب على الصوفية أشياء كثيرة، ونختلف معهم في مصادر التلقي، فمصادر التلقي عندهم هي الوجد والكشف والأذواق والمنامات وغير هذه الأشياء، ونحن الآن أصبح الكثير منا يشابه الصوفية، حيث أصبح الجن مصدراً لتلقي المعلومات، وأصبحت كثير من الأساليب التي يعالجون بها إنما مصدرها الجني الذي يستعين به المعالج على العلاج، فالجني هو الذي علمهم أن من أراد أن يكشف على المريض فإنه يمسك المصروع من رأسه -بجانب عينيه- بالسبابة والإبهام، فأول ما يمسكه فإنه يسقط على الأرض، ثم يبدأ بمخاطبة الجني إذا كان مصروعاً، فهذا الأسلوب مأخوذ من الجن.
وأنا أتساءل: هل الجنّي يُقبل خبره يا سلفيون؟! هل سمعتم واحداً من العلماء يأخذ حديثاً عن طريق الجن: حدثنا الجني فلان عن الجني فلان؟! وإذا كان هناك إنسيّاً تراه وتعرفه، لكنه ليس بضابط ولا عدل فهل تقبل خبره؟ فماذا عن الجني الذي لا تعرف من هو ولا كيف هو؟! وإذا قال لك: أنا مسلم، فمن أين تثبت أنه مسلم؟ وكيف تصدقه؟ وما الدليل على صدقه في ذلك؟! الجن يلعبون بنا، ويستخفون بعقولنا، ونحن الذين زدناهم رهقاً، وكما كنا ننتقد الصوفية من قبل، فالآن لهم أن ينتقدونا، حيث صار الجن عند بعضنا مصدراً من مصادر التلقي والتوجيه، ومع أنهم عالم غامض، وعالم غير مرئي، لكننا انشغلنا به واندمجنا معه، حتى وصل الحال إلى ما وصل إليه الآن.(103/5)
استخدام الضرب المبرح
استخدام البعض للضرب بالصورة التي تحصل يجعل الإنسان يتساءل: من أين لكم الضرب بهذه الطريقة؟ وما الدليل على مشروعية هذا الضرب المبرح الشنيع الذي تقومون به؟! لكنهم لم يجدوا سوى أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد عالج بالضرب.
نقول: شيخ الإسلام على الرأس والعين، وهو متربّع في القلب، لكن هل هذا دليل شرعي أيها السلفيون؟! ثم إن شيخ الإسلام نسب إليه القول بفناء النار، فهل قال ذلك من كان قبله من السلفيين؟! هو إمام السلفيين في عصره ومن بعد عصره رحمه الله تعالى، لكن مع ذلك فقد مُحّص كلام شيخ الإسلام وحوكم في ضوء الأدلة من القرآن والسنة، فلربما كان وقوع هذا الضرب للجني لوجود البصيرة عند شيخ الإسلام ابن تيمية، فهل عندك بصيرة نافذة كبصيرة شيخ الإسلام رحمه الله تعالى؟! وتمادى هؤلاء المعالجون -ومنهم جَهَلة قاصرون- فاعتبروا كل الأمراض من تلبس الجن، واعتبروا أنفع الوسائل هي الضرب المبرح أو الخنق أو الكي أو إيذاء المريض بحجة أنه يؤذي الجني المتلبس! وقد حدثت مآسٍ كثيرة نسمع بها كل يوم، وقد حصلت بالفعل حالات قتل! نعم.
ليس لها اسم سوى القتل، وسوى إزهاق النفس التي حرم الله سبحانه وتعالى بغير حق، فيا ويل هؤلاء القتلة من إثم هذا القتل وهذا الإجرام.
وقد أذيع في إذاعة الـ ( BBC) أنه صدر حكم في محكمة بريطانية على رجل مسلم؛ لأنه قتل امرأة زعم أنه كان يريد أن يخرج منها الجن، وكم سمعنا عن امرأة ضربها هؤلاء المعالجون حتى ماتت، وشاب آخر مات تحت وطأة الضرب بحجة إخراج الجن! والسؤال الهام الذي يفرض نفسه الآن: من يستطيع أن يفرق بين الحالة التي يتلبس بها الجن، وبين الحالات المرضية الأخرى؟ وجواب هذا السؤال ليس بالأمر السهل، ولا بالأمر الهين.
الدكتور محمد عبد الفتاح المهدي من الأطباء النفسيين الأفاضل، وهو رجل ملتزم بدينه، ويؤمن بالصرع، والمس الجني كله، لكنه رجل منضبط، يقول: ومن خلال عملي في مجال الطب النفسي رأيت مدعي إخراج الجن يعالجون حالات مرضية نفسية، وأحياناً عضوية معروفة أسبابها، ولها تسلسل منطقي صريح في حياة المريض، وليس فيها غموض من ناحية تلبس الجن -يعني: أن هناك أسباباً واضحة تدل على أنها أمراض عضوية أو نفسية- وهم مع ذلك يصرون على تلبسها بالجن، وهذه الحالات ساءت كثيراً بسبب ما بث في عقولها من خيالات، وصاروا يعانون، وأضيف لمرضهم أمراض نفسية شديدة؛ نظراً لخوفهم الشديد من هذه القوى الخفية التي تحاربهم، ونظراً للجو الأسطوري المخيف الذي يعيشونه عند هؤلاء المعالجين.(103/6)
الوقوع في الشرك
من سلبيات بعض هؤلاء المعالجين: أنه قد يعالج بكلمات محرمة، أو يقع في الشرك! فوا أسفاه على أمة التوحيد!! ويا أسفا على من ينتسبون زوراً إلى السلفية وإلى الكتاب والسنة!! أحد هؤلاء الغارقين في هذا الغلو وهذا الضلال وجدت ابنته في يوم من الأيام صليباً ذهبياً كان قد خبّأه في البيت! والله أعلم ما سر وجود هذا الصليب في البيت، لكن هذا حدث، فالله أعلم ما وراء ذلك من لعب الجن وعبثهم بعقول الناس.
وهناك أمر مهم جداً: وهو أن بعض المعالجين الحريصين على أن الحالة تشفى، كان يجرب كلام الجن الذي يقولوه له، ويأخذ أموراً من كتب الضلال والخزعبلات، ويمارس بعض الأشياء التي قد يكون فيها شرك، أو نوع من السحر، أو غير ذلك من الأشياء المحرمة قطعاً، ثم يجد أن هذا العلاج له أثر في علاج الحالة، فيزداد فتنة، ويظن أنه ما دام العلاج قد نفع فيجوز له أن يستخدمه! نقول: هذا أمر محرم حتى لو انصرف الجني عن المصروع بهذا الكلام؛ لأن ما حرمه الله ورسوله عليه الصلاة والسلام يكون الأصل تركه؛ إذ ضرره أكثر وأكبر من نفعه، فما دام أنه محرم فلا ينبغي أن يبحث عن علاج فيه، وحتى لو حصل الشفاء فلا يجوز تعاطي هذه الأشياء المحرمة، فالعبرة بالوسيلة وبالغاية، كالسارق الذي يريد أن يأكل، نعم حقق غرضه عن طريق السرقة، لكن هل معنى ذلك أن السرقة حلال له؟
الجواب
لا يحل له ذلك، كذلك الكذاب الذي يصل عن طريق الكذب إلى غرض يريد أن يحققه، فهل الكذب حلال له؟!
الجواب
لا يجوز له أن يكذب أصلاً، وكذلك الخائن، وهكذا.
فقد يتشبع المعالج بما لم يعط، فيفتش في بعض الكتب، ويتوسع في استخراج أنواع أخرى من الوصفات التي هي من جنس السحر الحرام، وقد ينخدع البعض ببعض هذه الكتب، وقد نسبت بعض الكتب إلى بعض العلماء ككتاب: الرحمة في الطب والحكمة، المنسوب زوراً إلى الإمام السيوطي، فإن بعض الناس نسبه إلى مهدي بن ابراهيم الطبيري، وهو كتاب يحوي شركيات وضلالات وخزعبلات وطلاسم وجهالات، سماه بعض المشايخ: اللعنة في الطب والحكمة! نعم اللعنة وليس الرحمة، وسماه في موضع آخر: النقمة في الطب والحكمة! ولا أريد أن أنقل هنا بعض النماذج من هذا الكلام البشع، والضلال المبين، والكفر الصراح البواح الذي في هذا الكتاب؛ فلا ينخدع أحد بوجود اسم عالم من العلماء زوراً على غلاف الكتاب، فيأتي ويأخذ منه بعض ما فيه، وقد اعترف بعض المعالجين أنه بالفعل استخدم ما في هذا الكتاب من وصفات منكرة!(103/7)
استخدام أدوية وعقاقير طبية دون علم بالطب
وهذا شيء مؤلم جداً: أن بعض المعالجين كان يلتقط المعلومات الطبية، ويختطف كتاباً طبياً من هنا، والمريض إذا أتى ومعه وصفات طبية أخذها ثم يحفظ أسماء الأدوية التي أعطاها الطبيب لذلك المريض، ويجمع الوصفات التي مع المرضى، ويحتفظ بقائمة من هذه الأدوية، وفيما بعد يريد أن يعالج وهو غير واثق بالذي يعمله، فماذا يفعل؟ يدس الدواء في الداء الذي يقرأ عليه، ويسقيه للمريض دون أن يعرف المريض، وهذا من أخطر العدوان؛ لأن هذه الأدوية في قمة الخطورة إذا استعملها أحد بغير وصف الطبيب المختص بالجرعة، حتى المريض نفسه مهما حصل عنده من تحولات صحية فلابد له في كل خطوة أن يرجع إلى الطبيب يسترشده في تعديل الجرعة؛ لما يترتب على ذلك من آثار خطيرة جداً إذا حصل خلل في هذا الموضوع بزيادة أو بنقص، فهذا المعالج بجهله يأخذ الدواء الذي التقطه من الورقة، ويذوبه من غير أن يشعر المريض، ويدسّه بطريقته الخاصة في مسحوق أو مشروب، ثم يعطيه للمريض!(103/8)
استخدام بعض الحيل المحرمة
لقد وصلت الخيانة ببعض هؤلاء -وأنا أقول: البعض وليس الكل- إلى أنه يأخذ المشروب أو الماء الذي يقرأ عليه القرآن بزعمه، ويضع فيه منوم ليعالج مريضه في خلوة!! فكان ما كان مما لست أذكره فَظُنْ شراً ولا تسأل عن الخبرِ ومهما خاب العلاج، ولم يستطع المريض أن يصل إلى الحل، فالمخرج والعذر للمعالج موجود وسهل وميسور، حيث يقول للمريض: الجني الذي كان عليك أنا قد أخرجته أو أحرقته، لكن هذا خرج وجاءت أمه، أو أخته، أو أخوه، أو أبوه! فكأن القبيلة كلها حضرت، وأصبحنا نسمع أن مريضاً عليه ألف عفريت أو مائة عفريت!! ما هذا الكلام؟! ومن أقبح مسالك بعض هؤلاء المعالجين أيضاً: أنهم يذهبون إلى قصور الساسة والفنانين والممثلات أيضاً ليعالجوهم!! وهذا مما نسمعه، وأظن أن هناك كتباً تكلمت عن هذا.
ومن ضلالات بعضهم أنه لكي يروج ضلاله المبين يقول: أنا في اعتقادي أن نساء مصر كلهن ملبوسات! والله تعالى قال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36].
وهناك رجل يحمل نفس اسمي، وهو موجود في الزقازيق، وهذا الخبر عرفته أخيراً، واسترحت لأني عرفت سبب الإشاعات التي كانت تشاع عني، وهي: أن لي باعاً عظيماً جداً في موضوع علاج الجن، وهذا ليس بصحيح، فأنا في حياتي لم أتعامل مع حالة جن أبداً، لكن تشابهت الأسماء، فكان هذا هو السبب في إشاعة هذا الأمر عني، وقد ادعى هذا الشخص الذي يحمل نفس اسمي أن معه قرين الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن هذا القرين يصحح له الأحاديث ويضعفها، وأنه يفعل ذلك، وهو يستفتيه ويدله على الفتاوى الصحيحة كي يقضي على الخلاف بين المسلمين، وأنه قال له: سل تُعطه! وما معنى قوله له: سل تُعطه؟! إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (فلولا دعوة أخي سليمان لكان أطفال المدينة يلعبون به) يعني: الشيطان وذلك حينما أراد أن يقيده في السارية، فتذكر دعوة سليمان فأمسك عن هذا؛ لأن سليمان فقط هو الذي أُعطي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فهل أنت مثل سليمان حتى يأتيك هذا الشيطان ويقول لك: سل تُعطه؟! بعض هؤلاء يزعم أنه يعالج بالقرآن الكريم، وهو لا يحسن قراءة القرآن الكريم، بل قيل لي: إن بعضهم لا يحسن قراءة الفاتحة، حتى أن أحد هؤلاء كان يريد أن يعالج حالة جن، فأخطأ عند قراءة القرآن؛ لأنه لا يعرف قراءة القرآن، فسخر منه الجني.(103/9)
الاستجابة لطلبات الجن
من المعالجين من يستجيب لطلبات الجن، كأن يقول له الجني: هات لي قماشاً لبنياً! أو طبقاً لبنياً! أو كوباً لبنياً! وكل هذه التحكمات المعروفة من الجن إنما هي للتلاعب بالمعالجين عن طريق هذه الطلبات، وإذا استجاب المعالج لهذا فإنه يفتح باب شر وفساد عظيم.(103/10)
التوسع في أساليب الرقى المحدثة
من الأخطاء: كتابة القرآن في الأواني؛ لكي يغسل المريض الإناء ويشرب الذي فيه، وهذه الأساليب محدثة، ولا ينبغي اللجوء إليها، بل الذي صح وثبت في القرآن والسنة: أن تأتي بالمريض وتقرأ عليه القرآن الكريم والرقى الشرعية، ثم تنفث عليه مباشرة، أما الأساليب التي أُحدثت فما سمعنا بهذا عن سلفنا الصالح، فما ينبغي تعميمها بهذه الطريقة كأنها دين يدان به، كأن يأتي بالماء ثم ينفث عليه، فهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولم ينتشر إلا في العصور المتأخرة، فعن إبراهيم بن مهاجر: أن رجلاً كان يكتب القرآن فيسقيه، فقال: إني أرى أنه سيصيبه بلاء.
وعلى أي الأحوال: فإن المفروض على الإنسان أن يتجنب ما يخالف الكتاب والسنة، ولا يتعاطى إلا ما ثبتت مشروعيته.
وبعض المعالجين فتحوا أبواباً كثيرة في موضوع الرقى، حيث أدخل في الرقية ما ليس منها من البدع المحدثة والموروثات المخترعة التي لا أصل لها في كتاب ولا سنة، ولا هدي الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولكنها إلى الشعوذة ألصق وأقرب، حيث يجتمع الفئام من الناس في بعض المساجد، فيقرءون عليهم جميعاً قراءة واحدة؛ لأن الوقت لا يكفي بسبب كثرة الزبائن! فيجمعونهم في طابور طويل داخل المسجد، ثم يمسك بحبل أو ماسورة أو شيء من هذا، ثم يقرأ عليهم قراءة واحدة! والله المستعان.
وبعض الدجالين يتظاهرون بأنهم يعالجون بالقرآن، فيفتحون دكاكين لهذا الغرض ويخلطون الحق بالباطل، والدجال لا يكلفه الأمر إلا أنه يترك لحيته، ويضع شيئاً كالعمامة على رأسه، ويلبس القميص، ويكتب: معالج بالقرآن، ويوهم الناس أنه يعالج بالقرآن، ويستعمل الطلاسم أو السحر أو أي شيء من هذه الشرور، وما يدريك أن هذا الباب قد فُتح فعلاً للدجالين والمشعوذين لاختلاط أمرهم بالقراء! ويحكي بعض الشيوخ أن أحد هؤلاء كان يأتي ببرميل مملوء بماء أو زيت ويقرأ عليه، ثم يقوم بتقليبه بعصا أو عرجون، ثم يوزع منه على هؤلاء المرضى! شخص آخر يقوم بالقراءة على زجاجات الماء المعدنية وهي مغلقة من دون أن يفتحها؛ لعدم وجود وقت كافٍ للفتح! وهذه الحيل كلها من التوسع الغريب الذي لا دليل عليه شرعاً.
ومن العجائب في هذا الأمر: أن أحد هؤلاء خاطب جنياً في إحدى حالات العلاج، فسأل الجني عن الأشياء التي يكرهها الجن، ونحن قررنا أن الجن ليسوا مصدراً صحيحاً لتلقي أي معلومات، فلا تأخذ من الجن أي معلومات؛ لأنك لا تعرف هل هو صادق أم كاذب، ولا تعرف من هو، ولا كيف هو، فخبره مشكوك فيه، فلما سأله ذكر له ما يعرف لدى العطارين بزبد البحر! ولعل الجني كان يلعب به، وهل هناك شيء يسمى بهذا العطارين؟! فما كان من المعالج إلا أنه أحضر كمية من زبد البحر، وبدأ التجارة في زبد البحر! والمخبر بهذا من السعودية، وهو صاحب كتاب: النذير العريان، يقول: فكان يشتري الكيلو بأربعين ريالاً ليبيعه لمرضاه أو لضحاياه، الملعقة الواحدة بمائة ريال!! ويزعم أن على المريض أن يمزج الزبد المذكور بالماء ثم يغتسل به، ويقول: حدثني أحد من حضر من المرضى أنه كان يقرأ عليهم جميعاً مرة واحدة بالميكرفون، ثم يمر عليهم واحداً واحداً ليتفل لكل واحد منهم في وعائه، ويستمر التفل لمدة ساعة تزيد أو تقل حسب العدد الموجود، وكل هذا بالقراءة الجماعية التي قرأها في الميكرفون!! الخلاصة: أن من أخطر مقاتل هذا الموضوع: أنه يفتح باب الشر على مصراعيه، ولجوا إليه ومارسوا الدجل والشعوذة والشرك تحت ستار: العلاج بالقرآن الكريم، فيكون هؤلاء المعالجون الملتزمون إلى حد ما بالعلاج الفعلي بالقرآن الكريم يساعدون أهل الباطل، كما قيل: كماسك الشاة من قرنيها لآخر كي يحلبها، حيث إنه يعطيه المبرر ويساعده كي يعيث في الأرض فساداً.(103/11)
التوسع في طرق وأساليب غير شرعية للنشرة
الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري أتى بكلمة أثناء بشرحه لبعض الأحاديث، فقال: وفيه مشروعية النشرة، وكثير من الناس يبدءون من حيث انتهى الشرع، فينظرون إلى الشرع أين انتهى، ومن ثم يأخذون الرخصة ثم ينطلقون منها إلى آفاق بعيدة، ويخرجون عن حدود الشرع، كما حصل التوسع في موضوع النشرة بحيث اتسع الخرق على الراقع، وتسربت البدع والخزعبلات إلى كتب أهل العلم تحت ستار النشرة المشروعة، وفتحت لنا أبواباً عجيبة من النشرة كما سنذكر في الأمثلة الآتية إن شاء الله تعالى.
والنشرة الثابتة في الشرع: هي اغتسال العائن لمن حسده بالتفصيل المعروف، أما أن يفتح باب النشرة لكل متردية ونطيحة وأكيلة السبع لتدخل وتمر تحت ستار مشروعية النشرة، فهذا تفريط خطير لا يمكن أن يُقبل بحال، حتى لو حكاه بعض أهل العلم؛ لأن أقوال العلماء صارت الآن -لا سيما في هذا الموضوع بالذات- قنطرة تعبر من عليها الخزعبلات بحجة النشرة الشرعية.
ومن ضمن هذه النشرات المبتدعة: أن يطلب منك أن تأتي بحزمة من قضبان الحديد، وفأس ذي قطارين، ونار، وتضع الحزمة مع الفأس، ثم تسخنها، وتبول على النار ونحو هذا!! ما هذه النشرة؟! من أين لكم هذا؟ ولماذا حزمة القضبان بالذات؟! أما ينفع الزيت والقطران بدل القضبان؟! وفي وسط ازدحام النشرات المزعومة تدخل نشرات تحمل جواز مرور عليه تأشيرة: مُجرَّب، أي: قد جُرّب فنفع! وهكذا تنبعث سُحب الدخان الأسود لتدخل علينا وصفة الذئب الأغبر، والديك الأبيض، والورد الأحمر!! وما أروع كلمة قالها الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى في كتابه إرشاد الفحول، وهي مهمة جداً، ولا بد من التنبه إليها، يقول رحمه الله: ويا لله العجب! من جري أقلام أهل العلم بمثل هذه الأقوال التي لا ترجع إلى عقل ولا نقل، ولا يوجد بينها وبين محل النزاع جامع، وإنما ذكرناها ليعتبر بها المعتبر، ويعلم أن القيل والقال قد يكون من أهل العلم في بعض الأحوال من جنس الهذيان، فيأخذ عند ذلك حذره من التقليد، ويبحث عن الأدلة التي هي شرع الله التي شرعها لعباده، فإنه لم يشرِّع لهم إلا ما في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
مع التحفظ من كلمة: الهذيان؛ لأنه لا ينبغي أن يقال هذا في حق العلماء حتى لو رفضنا كلامهم المخالف للأدلة.
ومن هذه العلاجات ما يتم بقصيدة البردة للبوصيري، فيتلونها كما يتلى القرآن! ويكتبونها في الآنية، ويشربون ماءها! وتنشر فيها القصص، فلان قرأها فخف مرضه إلى آخر هذا الكلام الفارغ.
والباب مفتوح للأوراد المزعومة غير البردة من سيل الصوفية العرمرم، فمثلاً: يقول بعض المعالجين: بعد هذا الحزب يأتي حزب النصر للشاذلي، وهو أيضاً على هامش الدلائل، وفيه هذه الصيغة: (حم) مكتوبة ثمان مرات، حم الأمر وجاء النصر، فعلينا لا ينصرون، (حم عسق حمايتنا مما نخاف)! وبعدها يأتي الحزب البحري: (يا ميسر كل عسير بحق أب ت ث هـ ل أي، انصرنا وسخّر لنا هذا البحر، وسخر لنا كل بحر، وبحر الدنيا وبحر الآخرة، كهيعص، كهيعص، حم عسق، انصرنا فإنك خير الناصرين، باسم الله بابنا، تبارك شيطاننا، ياسين سقفنا، كهيعص كفايتنا، حم عسق حمايتنا) إلى آخر هذه الأشياء المحرمة، وكل هذا دخل تحت قنطرة النشرة والرخص، وأقوال التقطوها لبعض العلماء فتوسعوا فيها، والمطية التي يركب عليها واحدة وهي: قد جرب ونفع! ومن الملاحظ أن كل من فيه خير وعلم وورع فإنه لا يستمر في هذا الطريق، وهناك الكثير ممن أعرفهم بنفسي، غاصوا في هذا الأمر غوصاً عميقاً، وكانوا ممن يشار إليهم بالبنان، ولكن لأن فيهم خيراً انقطعوا وما استمروا، فأغلب من فيه خير وورع وعلم لا يستمر في هذا الطريق إذا ولجه، فقد تراجع الكثير من المعالجين في نهاية المطاف إلى العدل والوسطية، وانقطعوا تماماً عن الانخراط في سلك المعالجين؛ لما مسهم من لهيبه، ولفحهم من ناره، ومنهم الشيخ عبد الله بن مشرف العمري فقد تراجع وتاب، لكن للأسف أنه غلا ونفى الصرع الجني تماماً.(103/12)
بناء العلاج على الوهم وغلبة الظن
بعض الناس يحضر مجالس العلاج بالقرآن الكريم، ويرى حالات الصرع، ويسمع القصص المنتشرة عن أمراض المترددين أو المعالجين، فأصبح هذا الوهم يدب إلى نفوسهم وسط مشاكل الحياة الكثيرة، فبمجرد ما يصادف أحدهم في حياته مشكلة، سواء مشكلة زوجية، أو مشكلة اجتماعية، أو مشكلة في العمل، فسرعان ما يظن أن أحداً عمل له سحراً، أو أنه قد صرعه الجن! وقد كنت قبل أيام عند أحدهم فسقطت المرآة وانكسرت، فقال لي: يوجد جني يعاكسني هنا في المحل! زعم هذا لأن المرآة وقعت وانكسرت، وهذا من الوهم المنتشر بين الناس، وكذلك بعض من تحصل مشكلة بينه وبين زوجته سرعان ما يجزم أن هناك من حسده بعينه، ومن سقط على الأرض وأصابه وجع، أو اشتكى من وجع في ظهره، أو حصل له نوع من الألم؛ سرعان ما ينسب هذا للجن، حتى أصبح كل شيء يُنسب إليهم.
لقد أصبح مرض الوهم يتسبب فهذا المرض -الذي هو مرض الوهم- هو الذي يتسبب في تصور الحالة حتى تصل إلى الإغماء والتشنجات التي يعبر عنها بالإيحاء الذاتي، أو تظهر نتيجة الخوف أعراض عضوية عادية جداً، لكن سببها هو الخوف أو القلق، وليس سببها الجن، وهكذا أكثر الحالات، وينبغي التنبه لهذا، فقد ترى المريض يتشنج ويصيبه الصرع، ويتكلم ويغير صوته، وهو الذي يدير المسرحية كلها في أغلب الحالات! وهذه الحركات يصطنعها المريض بنفسه نتيجة لكثرة سماع هذه الأمور وتصورها، فأصبحت لديه خبرة وتمرس، وصار متقناً جداً لهذه التحولات، وقد يقول للمعالج: اعرض علي الإسلام، أنا أريد أن أعرف الإسلام، فيشرح له الإسلام، ثم يقول: أنا أسلمت، فيقول له المعالج: اخرج، فيقول: لا، أنا لا أقدر على فراقها، أنا أحبها ولا أريد أن أخرج منها؛ لكي أحميها من الجن الآخرين!! أوهام وقصص وسيناريو محفوظ، والمريض يسيطر عليه هذا الوهم، والمعالج نفسه يقوي هذا المسلك الهستيري، ويتصرف على أنها فعلاً حالة جن؛ لأنه طبعاً ليس عنده علم، فيظل يضرب ويقرأ بالساعات، وإذا عجز عن أن يخرج الجن كانت هذه إحدى حالات التحدي، والمريض نفسه يقول: لا أخرج! فإذا عجز المعالج عن إخراجه فإنه يحضر شيخه وأستاذه وزملاءه، فيتوافدون عليه فوجاً بعد فوج، ويزداد اقتناع المريض أن حالته مس من الجن، ويزداد حماس المعالجين للقضاء على الأعراض التي تزيد يوماً بعد يوم، حتى يزعم البعض أنه قد ارتفع عدد الجان إلى ستمائة مارد، وكل مارد له قصة، فتزيد حيرة هذا المعالج، ويقول لك: أنا أحرقت الجن، ثم يقول المريض: أنا أصلاً من الجن المنظرين، ولو متُّ سوف أحيا مرة ثانية! وآخر يُسلم ويطلب البقاء مع المرأة للدفاع عنها والتصدي لبقية أفراد الجن المشرك الذي يتوافدون عليها من كل حدب وصوب! والعلاج الحقيقي هو إقناع هذا المريض بأنه أسير تفكيره، مثل دودة القز التي تنسج حول نفسها قبواً ضيقاً جداً، وتحصر نفسها فيه، والعالم كله في نظرها منحصر في هذا القبو الضيق! كذلك هذا المريض هو الذي يحدث نفسه بهذا التفكير تماماً، وهو الذي صنع هذا الوهم وحاصر نفسه به، وقبر نفسه في ظلماته، ولا يرى العالم إلا في حدوده الضيقة، فينبغي أن يقنع المريض في هذه الحالة أنه أسير تفكيره، وأنه هو الذي دفع نفسه في هذا الوهم، ويُدعى ليحيا حياة طبيعية، ويؤكد له ذلك كما ذكرنا.
فالمريض يتخيل نفسه أنه ممسوس، ويتحدث بحديث الجان على لسانه، ويتمادى في الدور بناءً على المعلومات التي تشرّبها من مجالس الأصدقاء، وأشرطة التسجيل، وحكايات الناس، وقراءة الكتب والجرائد، ويحتاج الأمر إلى بعض التشنجات وحركات الجوارح التي يسببها اعتداء الجن في زعمه! ويتأكد هذا الوهم بعد كل جلسة علاج؛ لأنه يزداد اقتناعاً بأنه ممسوس ومريض، ومع طول فترة العلاج يترسخ في مخيلته أن هذا الجان بالذات جان مارد خطير لا يقدر على إخراجه أحد، الأمر الذي يئول به إلى حالة من اليأس وفقدان الثقة، ويتمادى في صناعة الأفلام والتمثيليات! ومما يزيد المسألة تعقيداً: أن قراءة القرآن عليه وهو في هذه الحالة يظهر بسببها ما يعزز عنده هذا الوهم، ثم يقول في نفسه: لو أن الجني لم يكن موجوداً فلماذا قرأ الشيخ عليّ؟ لا بد أن يكون المس موجوداً فعلاً، فالشيخ عنده خبرة! فهذه الحالة يجب أن يقنع صاحبها بالتخلي عن قناعته، مع الاستعانة بالله سبحانه وتعالى في دفع هذا الوهم المسيطر، ولا يكون صاحبه معذوراً.
فمثلاً: لو أن رجلاً صار يسرق، ويباشر عملية السرقة وهو مصرّ بقلبه أنه ينفذ جريمة السرقة بتحريض مسيطر من الداخل، ولا يستطيع التخلي عن هذا التحريض! فهل الحل أن نأتي بقارئ يقرأ عليه آية الكرسي حتى نمنعه من السرقة؟!
الجواب
لا، ليس هذا هو العلاج في هذه الحالة، بل لا بد من أن تقنعه بالعدول عن السرقة، فهو ليس مريضاً معذوراً، بل له إرادة، أو بتعبير أدق: هو مجرم أو سارق، فهل نعذره ونقول: هذا مسكين؟! أو هذا ضحية الجن؟! وهل نقعد نرقيه أم نبين له أنه لابد أن يعدل عن السرقة، وأن السرقة حرام، ووزرها كذا، وعاقبتها كذا، ونرغبه في التوبة وفي ثوابها؟! فأنت تخاطب النفس اللوامة، والشيطان يخاطب النفس الأمارة بالسوء.(103/13)
أمثلة لمرضى الوهم بالمس والسحر
من الأمثلة التي يحكيها بعض هؤلاء المعالجين أن محامياً كانت له مشكلة مع زوجته تتعلق بالعلاقة الزوجية، فذهب إلى أحد الناس المشهورين ممن يدعي أنه من أولياء الله الصالحين والذين يعالجون وقد كشف عنه كما يزعمون، فقال له هذ الشخص: إنك ممسوس من أنثى من الجان، وإن الجنية تحبك وتعشقك، وأثناء ما كان الشيخ المعالج يحكي له هذا الكلام، ويقول له: إن الجنية هذه سوف تقوم بخنق زوجتك، في الحال بدأت علامات الاختناق تظهر على الزوجة، وكأنها ليست قادرة على التنفس، وتقول: هناك من يخنقني!! ما معنى أنها ما اختنقت إلا لما سمعت هذا الكلام؟ لأن القناعة بدأت تتواجد نتيجة الخلفية القديمة عن الموضوع، ثم هي واثقة بالشيخ الذي يتكلم، فالشيخ يقول له: إن الجنية هي التي تكيدك، وهي التي تعمل على خنق زوجتك، وفوراً أحست الزوجة أن هناك شخصاً يخنقها.
أيضاً يقول له: الجنية هذه تعمل لك كذا، والجنية تعمل لك التشنجات، ويبدأ الرجل يحس بالتشنجات، وأن هناك صوتاً يسمعه بأذنيه تهمس به الجنية العاشقة الولهانة إلى آخر هذه الأشياء.
إذاً: ما نشأ هذا إلا بعد ما سمع هذا الكلام، فهذا مما يعزز الوهم عند بعض المرضى.
ثم ذهب إلى طبيب نفسي، فبيّن له أن الموضوع ليس له أصل، وأن هذا الإيحاء من هذا الشيخ كذب، وسلك معه طريقة صحيحة وأقنعه فعلاً أن هذا الكلام لا أصل له، فزالت الحالة تماماً كأن لم يكن لها أثر.
ومما يُحكى أيضاً وهو مثال قريب من سابقه: أن زوجة شخص معالج مكثت وحدها في البيت، وبينما هي جالسة وحدها تفكر في هذا الموضوع الشيق العجيب في أحداثه، فتذكرت حالة من تلك الحالات، وهي أن جنياً عشق امرأة واعتدى عليها مرات، ومع قوة تخيلاتها توقعت أن هذا سيحصل معها، ثم قالت: ولم يحصل معي؟ فهي لوحدها، والجني يريد أن ينتقم من زوجها؛ لأن زوجها هو الذي يطرده من جسد المرضى، واسترسلت في هذا التفكير إلى أن اقتنعت أن فعلاً أنه حصل كذا وكذا وكذا، ودخلت هي وزوجها في قصة طويلة عريضة كلها مبنية على وهم وتخيل لا أصل له.
كما أن هناك مرضى يصدقون أنفسهم، وهم في ذلك ليسوا متعمدين للكذب، وهو أيضاً صادق لأن هذا يحدث عن طريق الوهم والإيحاء الذاتي والملابسات التي حوله، والخلفية الفكرية سابقاً، فيتهيأ له ما يجعله يعيش الدور، ويغير صوته ويتكلم، وهناك أناس لديهم مهارة في تقليد أصوات المطربين والفنانين، فما هي المشكلة؟! الرجل ممكن أن يأتي بصوت الطفل، أو عجوز إلخ، هذه ممكن أن تقع، ويمكن أن يكون هناك مس جني حقيقي، وأنا لا أنكر هذا لكن هذا وارد، فلو قلت له: غيّر صوتك كان هذا شيئاً ممكناً، وهو يعيش الدور تماماً، فيمكنه أن يغير صوته إلى صوت امرأة أو طفل أو غير ذلك، وهناك فرق بين الجني الحقيقي وبين هذا الذي يغير صوته.
ويدور في فلك هؤلاء الموهمين أناس أصحاب حالات أخرى يتعمدون الكذب ويدعون المس والتلبس للخروج من مأزق معين.
مثلاً: جاءت امرأة لبعض المعالجين تدعي المس، هذه المرأة تهجر فراش زوجها، وتنشز عليه، وتنغص عليه حياته، وتقول: إن جنياً لبسها، وأنه يقول لها: لو استجبت لزوجك أفعل بك كذا، وأنه ليس هناك حل غير الطلاق، ولابد أن تطلقي منه إلخ.
فبعد فترة من العلاج الذي لم يجد نفعاً ولم يأت بأية نتيجة اعترفت للمعالج بالحقيقة وأنه ليس فيها مس، وأنها لجأت إلى هذه الدعوى للتخلص من زوجها كي تجبره على طلاقها؛ لأن زوجها شحيح بخيل، وكان مما قالت: تحولت حياتنا بسبب الشح إلى جحيم، هل رأيت رجلاً يراقب مقدار الجبن في الثلاجة؟! ويقيس زجاجة الزيت بالمسطرة ليعرف كم من الزيت استعملت؟! وهذا الوضع لا يُصبر عليه.
تقول هذه المرأة: لست مجنونة ولا مسحورة ولا ممسوسة، لقد أقدمت على ذلك لأتخلص من هذا الجحيم، ولييئس من حالي فيطلقني.
وكان المعالج في البداية تعامل معها ولم يقدر أن يميز حالتها، معنى هذا أنه حتى الذي عنده خبرة تلتبس عليه الأمور، حتى إنه ليضرب، وبعد فترات طويلة يجد أنه ليس هناك نتيجة، ما معنى هذا الكلام؟! وكلكم يقول: لدينا خبرة، وتؤلفون الكتب، وتردون على بعض، وتشتمون المشعوذين، حتى أنتم يخفى عليكم هذه الأشياء! إذاً: نعود إلى مكمن الغموض وهو أنه لا توجد علامات محددة ولا حدود واضحة يقف عندها كل طرف.
ومن المشاهدات في المجتمع قضايا عدة، مثلاً: - فتاة مثلاً تُكرَه على الزواج من شخص تكرهه، ولا تستطيع أن تصارح أهلها بأنها لا تريد الزواج منه، فينصحها نساء ماكرات بادعاء كونها ممسوسة، وأن الجني يطالبها بالطلاق وإلا فإنه سوف يقتلها.
- امرأة متزوجة تتفق مع عشيقها على أن تتدعي المس، وأن الجني يطالبها بالطلاق، وإذا مسها زوجها فسوف يحصل كذا وكذا.
- شاب يؤتى به ليُعالج من مس الجن، فيقرأ عليه فيظهر الجني قائلاً: أنا سلمان بن أبي سليمان، وفجأة ظهر جني آخر، فسأله: ما اسمك؟ فأجاب: أنا جرجر.
قال له: أنت نصراني أم يهودي؟ فأجاب الجني: أنا نصراني.
قيل له: هل تسلم؟ ويبدأ الحوار: ما هو الإسلام؟ والمعالج يتفنن في أن يعرض عليه الإسلام، وكيف يدخل في الإسلام، ثم يقول: اخرج، وإلا سوف أحرقك بالقرآن، وهذه هي الاسطوانة نفسها المكررة مع كل حالة.
يقول أحد الإخوة الحاضرين وقد حدثني عن هذا بنفسه، قال: شكّيت بسلمان بن أبي سليمان هذا، فقلت له بعد أن انتهى من: أنت كذاب، أنت لست ممسوساً، فقال لي: نعم، أنا لست ممسوساً، ولكن هناك مشاكل بيني وبين أبي، وأنا أريد أن أقنعه أني ممسوس حتى يخفف عني الوطأة والضغط.
- شاب يتورط في معاكسة الفتيات في الشوارع، ويفعل أشياء غير لائقة، فعندما يعاتب على ذلك يقول: الجني هو الذي يؤزني أزاً على هذا، والجني هو الذي يجعلني أتعرض لمثل هذا! وهذا أخطر ما في الموضوع، فهو يفتح باب الفساد على مصراعيه.
- امرأة ترتكب الفاحشة وتقول: الجن هم الذين فعلوا بها كذا وكذا! - يسرق شخص ثم يقول: الجني هو الذي سرق! ولو كان هذا عذراً فذلك يعني أن الحدود في الدولة الإسلامية لا تقام، فأية امرأة تفعل الفاحشة تدعي أن الجني هو الفاعل، فندخل في جو من الغموض والضباب والدخان والوهم الذي لا حدود له، وكأننا لسنا من الإنس، ونتعامل بقوانين وسنن ونواميس أخرى، فالشريعة تهدر هذه الاعتبارات، فأي شخص يثبت في حقه بالبينة الشرعية أنه فعل فعلاً يؤاخذ بجريرته، وإذا سرق سوف تقطع يده، والشرع لن يلتفت أبداً لمثل تلك الأعذا؛ لأن المسألة ليست لعباً ولا عبثاً بأموال الناس وأعراضهم ودمائهم، إن الشرع يهدر تماماً هذا الإدعاء، ولا يصح أبداً أن أي أحد يعمل جريمة ثم يقول: الجني هو الذي يؤزني على فعل هذه الجرائم.(103/14)
احتراف العلاج بالقرآن
نتعرض بشيء من الاختصار لقضية اتخاذ العلاج كمهنة وحرفة، ومزالق الجهلة؛ لأن بعض الناس قد توسعوا فيه، وانتهزوا الفرصة لجلب الأموال من طريق احتراف علاج الجن، وتحول الأمر من كونه أمر يسد به الحاجة إلى مصدر مفتوح للترف والجشع والابتزاز، وقد يفرض بعضهم أتوات باهظة على الناس بجانب التجارة بجوالين وقناني المياه التي يقرءون فيها القرآن، وتجد أمام المساجد قناني مكتوب عليها: (هذا الماء مقروء عليه قرآن) وتباع بحجة أن الشيخ قرأ عليها قرآناً، وكذلك تجارة في العسل وزيت الزيتون على أساس أنه مقروء عليه ويتخذ دهاناً يدهن به الجسد إلى آخر ذلك، حتى إنني حُدّثت عن شخص طبع لنفسه كرتاً فيه الاسم والوظيفة: معالج بالقرآن، الكشف: عشرة جنيه الحجز: مقدماً العنوان: مسجد كذا، أصبح الموضوع شيئاً مؤلماً جداً في الحقيقة.
أيضاً ليس من هدي السلف أبداً، وما كان على عهدهم أناس متفرغون وأصحاب مراكز وعيادات لعلاج مرضى الجن، مع أن المرض موجود في كل زمان، وكان المصاب إذا قابل شيخاً أو عالماً في الطريق فإنه يقرأ عليه دون تكلف، أو يدعو له أو يرقيه، لكن أن ترصد لذلك مجالس ومراكز وعيادات، وبهذه الطريقة لابد أن يقف هذا الأمر عند حده، إن التمادي فيه تمادٍ في تغييب الوعي، والعيش في عالم من الضباب والغمام والغموض لا نهاية له، هذه مسئولية كل واحد منا، العلاج هو إهمال هذا الموضوع تماماً.
وكنت أرى أن من إهماله ألا أتكلم، وهذا هو السبب أني حتى الآن ما تكلمت، وهذه أول مرة أتكلم في هذا الموضوع بالتفصيل، فعلاجه إذن أن نهمل تماماً هذا الموضوع، فلا أحد يحكي لأحد، أو يروج الأشرطة، ولا يسمعها، ولا يقرأ هذه الكتب، ولا يذهب لهؤلاء الناس، ومن أصيب بشيء يعالج نفسه بالقرآن الكريم، حتى لو كان مساً جنياً فهو الذي يعالج نفسه، المرأة يرقيها زوجها، والبنت يرقيها أبوها، وهكذا.
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كان فيهم أناس اشتهروا بإجابة الدعاء، كـ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، ومن الذين دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم باستجابة دعوته، كذلك أويس القرني أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه مجاب الدعوة، ومع ذلك ما فتحوا مركزاً لعلاج الناس، أو كان الناس يأتون إليهم ليدعوا لهم، ما حصل هذا، وما انصب الناس إليهم من كل حدب وصوب كي يطلبوا منهم الدعاء.
إذاً: هذا خلاف هدي السلف الصالح رحمهم الله تعالى أجمعين، ثم إن الأمر يتطور فيحصل تركيز على القارئ لا على المقروء، تركيز العوام أن البركة كلها في القارئ نفسه، مع غض النظر عن أهمية المقروء الذي هو القرآن الكريم.
وأنا لا أعترض على الجعل أو الأجر على الرقية، لأنه جائز، لكننا أصبحنا نبدأ من حيث انتهى الشرع، ونغالي في هذه الأمور حتى تصل إلى حالات مرضية.(103/15)
احتراف القراءة على المرضى سبب من أسباب التعرض لفتنة النساء
ثالثة الأثافي، ومصيبة المصائب، وفتنة الفتن: فتنة النساء قال الله تبارك وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران:14] الآية، فالفتنة تجر إلى غيرها من الفتن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء).
ولقد ترخص بعض هؤلاء المعالجين وتساهل وتعدى حدود الشرع بالخلوة، أو باللمس، أو بالنظر، واستدرجهم الشيطان إلى استباحة الخلوة، ثم الكشف عما يحرم كشفه، ثم المس بزعم الرقية، والدهان بالزيت المقروء عليه، وربما بغير حائل، ولا شك أن هذه قرة عين للشيطان، وشيء يدخل على إبليس أعظم السرور، وأنا لا أريد أن أستفيض في مثل هذا، والحقيقة أنه لا ينبغي لي وأنا في مثل هذا المكان أن ألقي على أسماعكم أشياء لا يليق بنا جميعاً أن نحكيها، {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42].
فهذه أحد المضار والحصاد الذي يحصده المريض وغيره من هذه الفتنة التي يجب إطفاؤها والقضاء عليها، كما يقول الشاعر: كان ما كان مما لست أذكره فظن شراً ولا تسأل عن الخبر أحدهم يشيد بنفسه، إذ إنه في كل يوم يكتشف طريقة جديدة، ولا يقتصر فقط على ما يلتقطه من الماضين، بل صار بعضهم يخترع ويجدد في هذا الفن.
فهذا أحدهم يقول: اكتشفت طريقة جديدة للكشف عن المرضى، وسماها: طريقة الكشف بالنظر، وهي ليست طريقة جديدة، بل هي مفتاح شر وسنة سيئة، وهذه الطريقة هي: أن المعالج ينظر في عيني المريض أو المريضة، ويقترب منه مثل طبيب الرمد عندما يكشف على غطاء العين، فيجلس أمام المريض أو المريضة وينظر إلى عينيه، ويأمر المريض أو المريضة أيضاً أن ينظر في عينيه وهو يقرأ القرآن كي يطرد الشيطان، يقول هذا الشخص صاحب هذا الاكتشاف الخطير: ثم أمرت المريضة أن تنظر إلى عيناي ففعلت، فظهر الجني، فأخذت أقرأ عليه وهو يصرخ، وأخذت أنظر في عينيها وأنا أقرأ وأعظه، ثم احترق الجني، وحينما سأله الإخوة الذين قرءوا كثيراً على هذا الجني، قالوا: نحن قرأنا عليه كثيراً ولم ينفع!! قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء! يطلق البصر إلى ما حرم الله ويسميه: (فضل الله يؤتيه من يشاء) الله المستعان! ولما سئل عن مشروعية هذا الذي يفعله من إطلاق البصر بهذه الطريقة، قال: إن الشيخ عبد الخالق العطار -سامحه الله فقد كان صاحب دور خطير في تأسيس هذه الظاهرة- لما سئل قال له: إن هذا الذي ذكرته حق، وله دليل في القرآن الكريم، ألا وهو قوله تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ} [القلم:6]، فيستدل بهذه الآية على مشروعية هذا العبث الذي يفعله، وأنه ينظر إلى عين المريضة ويقترب منها بهذه الطريقة.
فإذا نظرنا وقرأنا القرآن نعرف أيهم المفتون؟! لا، وإنما إذا قرأنا قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] عرفنا من المفتون، وإذا تذكرنا حديث النبي عليه السلام حينما أنكر على الفضل بن عباس عندما نظر إلى المرأة الخثعمية، فلوى المصطفى صلى الله عليه وسلم عنق الفضل إلى الجانب الآخر، ولما سئل عن ذلك قال: (رأيت شاباً وشابة، فخشيت عليهما الشيطان).
والعجب كل العجب من رجل يحمل امرأته أو ابنته أو زوجته بنفسه ويقف ينتظر دوره في الزحام كي يعالج زوجته أمثال هؤلاء الناس! هذا من المصائب التي حصلت في موضوع علاج النساء، وأعتقد أن هذا كافٍ لتحريك من لا يتحرك، ومن خمد أو برد دمه حتى لا يبالي بمثل هذه الأشياء، فالموضوع هذا خط فاصل لا يحق ولا يجوز فيه علاج رجل لامرأة، وبأي حال يجب حسمه، وهذا العبث وهذه الفوضى الأخلاقية يجب أن يحسم الأمر فيها، ولا يقبل فيه الخلاف بإطلاق.
ومن قبيح صنيع بعضهم أنه قد يطلب من المرأة أن تفتح عينيها للنظر ليحملق فيهما، وبعضهم يطلب أن تفتح فمها ليحملق فيه بحثاً عن الجني الذي قد يكون مختبئاً هنا أو هناك.
فنقول لهؤلاء: أين الغيرة على العرض؟ وأين الخوف من يوم العرض؟ فيصدق أن يقال: (معالجها حراميها)، كما يقول الشاعر: وراع الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها الذئاب(103/16)
قتل النفس المحرمة جهلاً وعدواناً
وهذه من الجنايات والمظالم التي ترتكب في هذه القضية، فما أكثر ما نزجر ونستنكر ونشجب هؤلاء الجلادين الذين يعذبون الناس في الدنيا، ونخوفهم بمثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يكون في آخر الزمان رجال معهم سياط كأنها أذناب البقر، يغدون في سخط الله ويروحون في غضبه) وقوله: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس) هؤلاء نحملق فيهم وننكر عليهم، ثم نحن فيما بيننا نتغاضى عن هؤلاء المعالجين الذين يمارسون أبشع صور التعذيب البدني والنفسي بحجة إخراج الجن، ويتفنون في إيقاع العذاب الذي قد يصل إلى القتل، ومن الجهل ما قتل.
يحكي بعض المعالجين قصة أرويها لكم بحروفها، وهي قصة مريضة تدعى وهيبة، يقول: وهيبة مريضة نفسياً طال مرضها، فذهب بها أهلها إلى مجموعة من الشباب المسموع عنهم علاج مثل هذه الحالات، وعجز هؤلاء الشباب عن أن يفرقوا بين المرض النفساني والمس الشيطاني، وحضرت وهيبة بين أيديهم يقرءون عليها، فلم ينطق الجني، فما كان منهم إلا أن قالوا: إنه شيطان ماكر يرفض أن ينطق، وانهالوا عليها ضرباً على فترات، وهمدت الجثة، وقال الأدعياء: لقد خرج لعنة الله عليه، ولم يكتشفوا بسبب جهلهم أن الذي خرج من وهيبة ليس الجني، وإنما خرجت روحها، اكتشفوا ذلك بعد أن تركوها فترة لتستريح، ثم طلبوا منها القيام، فقالوا: قومي يا وهيبة! فإذا بها قد توفيت، وإنا لله وإنا إليه راجعون!(103/17)
حرمة الاستعانة بالجن
من المهم التنبيه على موضوع الاستعانة بالجن، وهذا باب من أبواب الفتن، وقد فتحوه بعد أن كانوا في البداية لا يتجرءون على هذا الوضع، وما كان يقدر أحد أن يفتح أبداً موضوع الاستعانة بالجن إلا وينُظر إليه باشمئزاز، يقول القائل: كيف تستعين بالجن؟ هذا شرك، وهذا كذا وهذا كذا.
ثم التقطوا عبارة لشيخ الإسلام ابن تيمية فهموها على غير وجهها، وبدءوا من حيث انتهى شيخ الإسلام، وانطلقوا إلى أبعد الآفاق في موضوع الاستعانة بالجن.
الأمر الذي يجب أن نوضحه في نهاية هذا الحديث: أن خبر الجني لا يقبل، فكل شيء جاء عن طريق الجن يشطب عليه، وكأننا ما سمعنا شيئاً، فلو ادعى الجني بأنه يحب كذا، أو يكره كذا، أو دلنا على كذا، أو هذا الجني صالح، أو يساعدني، أو أستعين به، أو يعمل عمليات جراحية، أو يعالج العقم؛ كل هذا يشطب عليه، وكأن شيئاً لم يكن هذا هو المخرج من هذا الوضع.
أين العدالة والضبط في خبر الجني؟ من هو هذا الجني؟ هل هو صادق أم كاذب؟ مسلم أم كافر؟ ولو قال بأنه أسلم، فما أدراك أنه صادق؟ وكيف تحققت أنه صادق في هذا؟ هل الإسلام كلمة مجردة تقال هكذا؟ ثم أيضاً يعد هذا فتح باب خطير جداً، أعني: محاولة التعرف على الغيب عن طريق الجني بدأ بعضهم يعمل أشياء فظيعة جداً مثل المندل، ولو سرق شيء قالوا: تعال هات لنا الجن الذين معك، قل لنا: من الذي سرقها، وأشياء أخرى كثيرة فتحت علينا أبواباً من الشرور كنا في عافية منها، ووصل الأمر إلى أن بعضهم يهدد غيره، ويقول بتبجح: أنا معي جني، وسوف أسلطه عليك ليؤذيك، فتحصل خصومة، وهذه أمور في غاية الخطورة.(103/18)
نصيحة للمعالجين بالقرآن من المس
أرجو أن تكون الرسالة قد وصلت، وأن الحل الحقيقي -بجانب الالتزام بالشرع في هذه الأشياء كلها- لهذه الظاهرة أن تنكمش، وأن تعود إلى الحجم الذي كانت عليه، وعلينا أن نعلم أن هناك مساً جنياً، لكن ليس كل الحالات تعتبر مساً، فقد تكون ناتجة عن وهم، أو حالات هستيريا، أو خيال يسيطر على الإنسان، أو نتيجة عن حفظ الأدوار وإتقان تمثيلها احتيالاً؛ فينبغي دلالة هؤلاء الناس على الطريق الصحيح.
ونختم الكلام بهذه الموعظة لبعض الشعراء نهديها إلى هذه الفئة من المعالجين الذين تعدوا وتخطوا حدود الله سبحانه وتعالى وشوهوا وجه الحق: القلب ينشط للقبيح وكم ينام عن الحسن يا نفس ويحك ما الذي يرضيك في دنيا العفن أولى بنا سفح الدموع وأن يجلببنا الحزن أولى بنا أن نرعوي أولى بنا لبس الكفن أولى بنا قتل الهوى فالصدر أصبح كالوهن فأمامنا سفر بعيد بعده يأتي السكن إما إلى نار الجحيم أو الجنان جنان عدن أقسمت ما هذه الحياة بها المقام أو الوطن فلم التلون والخداع؟! لم الدخول على الفتن يكفي مصانعة الرعاع مع التقلب في المحن تباً لهم من معشر ألفوا معاقرة الفتن تباً لهم فعلاجهم قد لطخ الوجه الحسن تباً لمن باع الجنان لأجل خضراء الدمن أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(103/19)
وقفة مع الجن [3]
عالم الجان عالم يكتنفه الغموض من كل جوانبه، وقد ساهم اهتمام الدعاة بقضايا الجن في توسيع إطار الظاهرة المرضية التي نتجت عن الغلو من قبل عامة الناس في هذه القضايا، وكان للمعالجين أيضاً الحظ الأوفر في تفشي الأوهام، وتضخم مسائل الجان، حتى أصيب البعض بأوهام مرضية لا أساس لها، كما أنها كانت سبباً في إعراض الناس عن التداوي بالطب الحسي، ومن ثَم كونت هذه الظاهرة بيئة خصبة لانتشار الخرافات والمخالفات الشرعية.(104/1)
عالم الجن بين الإفراط والتفريط
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فقد شرعنا في بحث ظاهرة التمادي في علاج الجن، ويمكن أن يتلخص حديثنا في النقاط الآتية: - أن الاشتغال بموضوع الجن ومعالجة الجن هو مرض من أمراض الفراغ التي صادفت خواء عند بعض الشباب، فخاضوا فيه بهذه الصورة الملحوظة.
- أن هذا المرض انتقل من الأوساط النسائية الفارغة التي كانت تحتكر التخصص في الكلام في هذا الأمر إلى مجتمعات الرجال، بل إلى مجتمعات الدعاة والمشتغلين بالدعوة، ونحن لا نعمم هذه السلبيات، والمقصود هو ذم من يتلبس بشيء من هذه المسالك.
- لا خلاف في مشروعية التداوي بناء على قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل داء دواء) وما فيه من العموم.
- حيرة المريض بين جفاء طبيبه وغلو شيخه، فالطبيب الذي يتأثر بالمناهج الغربية المادية في التعامل مع هذه القضايا ينكر أموراً هي من صلب الدين ومن صلب العقيدة، كالإيمان بوجود الجن، وغير ذلك من السحر أو الحسد التي ثبتت حقيقتها بأدلة قطعية في القرآن والسنة، فما بين جفاء الطبيب، وغلو الشيخ أو المعالج يحتار المريض بين الفريقين.
- من مقاصد الشريعة الإسلامية العليا حفظ النفس وصيانتها، والشرع المطهر لم يدع صحة وعافية وجوارح الناس عبثاً بأيدي العابثين، فهم يخوضون بهم في بحار من الأوهام والغموض والمجهول الذي لا يمسك بزمام ولا بخطام، وإنما هو غموض في غموض في غموض، فلا نملك أدلة قطعية على التشخيص بأنها حالة مس جني، ولا نملك أدلة تثبت هذه المسالك التي أدخلت على أساليب العلاج الذي يذهبون إليه، ثم نرى -مع كل هذا الغموض وكل هذا المجهول- من يتجاسر على أن ينتهك حرمات الله سبحانه وتعالى ويعتدى على الأنفس بالتعذيب، والإنهاك، التعذيب البدني بالضرب وبالصعق بالكهرباء أحياناً، وبغير ذلك من هذه الأشياء الوحشية التي فيها مصادمة لحرمة الإنسان المسلم عند الله سبحانه وتعالى وفي شريعته.
أخيراً: نحن ننكر على الذين يعذبون الناس في السجون والمعتقلات، ونتلو عليهم الآيات والأحاديث التي ترهب من هذا الفعل، وتنذر بشؤم العاقبة، لكننا نغض الطرف إذا سمعنا أن أخاً من هؤلاء المعالجين قد أنهك رجلاً أو امرأة أو صبياً بالضرب وقد يصل الأمر إلى إزهاق روحه؛ بحجة العلاج، فأي علاج هذا؟ ما الذي أدراك أنه جني؟ لابد من ضبط هذا الأمر بضوابط واضحة وقاطعة، قبل أن تستحل العدوان على الناس بالضرب، وإلا كنت واقعاً تحت طائلة التعزير الشرعي، أو الحد إذا جنيت جناية تستوجب الحد، فالأمر ليس فوضى، والعدوان على أرواح الناس وصحة الناس وأبدانهم لا يجوز، والذي وصل في بعض الحالات إلى القتل، فهذا إجرام وانحراف وعدوان على حرمات المسلمين، وليس علاجاً.(104/2)
إفراط المعالجين في استخدام الوهم
سمعت من سائق يعيش في الساحل الشمالي أن امرأته اشتكت من مرض ما بعدما تزوجا بشهر تقريباً، فذهب بها إلى الطبيبة، فصرفت لها دواءً، وقبل أن تستكمل العلاج الذي وصفته لها الطبيبة إذا بشخص يتطوع ويقول: دعك من الطب، فهناك إخوة معالجون يعالجونها فلعل بها مساً من الجن، هكذا بمنتهى البساطة مع أنه مرض عضوي عادي جداً، فاذهب إلى الجماعة المعالجين للجن، فذهب إلى أحدهم وقرأ عليها ولم ينطق على لسانها جني، فقال: يظهر أن الجني أخرس، أو لعل الجني موجود، لكنه يتعمد ألا ينطق تماماً كما فعل آخرون في جريمة قتل مماثلة، أو لعله لا يوجد جني أصلاً ما دام أن المسألة مبنية على (لعل، وعسى) ولا نملك دليلاً نجزم به فما هو المسوغ للتمادي في الظنون نرجع إلى ما فعله هذا المعالج، ويكرره غيره من المعالجين الذين يزعمون أنهم تخصصوا وتفوقوا وتدربوا وتمرسوا في هذا المجال، ومع ذلك فهم يرتكبون مثل هذه الأخطاء التي ينبني عليها الإقدام بجهل على انتهاك حرمات الناس.
فقال له: أحضر لي عوداً متيناً كي أضرب هذا الجني الأخرس الذي يرفض أن يتكلم، فيقول: فذهبت إلى شجرة الزيتون -ويبدو أن الذين يعيشون في الصحراء، يعلمون أن عود شجرة الزيتون عود قوي ومؤلم- وانتقيت عوداً طويلاً يلسع لسعاً مريراً، فأخذ يضرب المرأة على ظهرها ضرباً مبرحاً دون جدوى، ولم ينطق الجني الأخرس.
المهم أنه حينما عاد إلى البيت وجد ظهر المرأة أخضر تماماً من كثرة الضرب، فقال لها: هذا يدل على أن الضرب وقع عليك أنت لا على الجني؟ قالت: نعم، قال: ما منعك من أن تتكلمي؟ قالت: أنا كنت منتظرة أن الجني يتكلم، أوهموها أن فيها جنياً، وسيطر عليهم هذا الوهم وكأن الوهم صار حقيقة لا تقبل الجدال، حتى إنه يستحل الضرب وهذا العدوان.
وهذه الحالة ينبغي أن يقتص فيها من أمثال هؤلاء ويضرب بجهله وعدوانه، وإلا صار الأمر فوضى بهذه الطريقة.
كما نجد آخرين متخصصين في كسر الإصبع الكبير، عالم من الجهل والجهلة، ومن المعتدين على حرمات المسلمين بهذه البدعة التي ابتدعوها، حتى أن المرأة اقتنعت أن فيها جنياً، فهي تعي وتتحمل الضرب ولا تريد أن تتكلم منتظرةً أن ينطق الجني الذي يلبسها.
أنا أعتقد أنني لو فتحت حواراً مفتوحاً وكل واحد يحكي ما لديه من القصص، بل من المآسي؛ أظن أن عندكم رصيداً كبيراً من هذه المآسي، لكننا نكتفي فقط بضرب الأمثلة التي تغنينا عن التفاصيل.(104/3)
خطر الانجرار وراء غيبيات عالم الجن
عالم الجن له حقيقة، ونحن لا ننكر مس الجني، وهي حقيقة شوهتها هذه الشعوذة، وهذا الدجل، وهذا الانحراف، والحالات التي فيها مس جني حقيقي هي حالات قليلة جداً جداً بالنسبة لما يحكى من الحالات الوهمية، ومن أسباب شيوع هذا الوهم فيما مضى.
ولما الإنسان لديه ولع به كان ذلك من أسباب انتشار هذه الظاهرة، فحينما يسمع بهذا الموضوع شخص يراه موضوعاً شيقاً، وجذاباً ومغرياً، فتدفعه الغريزة والفطرة وحب الاستطلاع والفضول والولع إلى استكشاف ما غيب عنه؛ لأن الإنسان عنده تعطش دائماً لأن يعلم شيئاً عن العوالم الغيبية وعما يحدث في المستقبل، وعما غاب من المخلوقات أو حقائق هذا الوجود، فالإسلام أشبع هذه الفطرة بأن وسع رقعة العقيدة، ومد مساحتها بإخبارنا عن كثير من الأمور الغيبية؛ لتشبع هذا الميل في الإنسان.
وقد يكون هذا السبب -وهو حب الاستطلاع والفضول- دافعاً لاستطلاع هذا العالم الغامض بالنسبة إلينا مما قد يؤدي إلى شيوع هذه الظاهرة المرضية التي بصددها.
وعلاجاً لهذه الظاهرة لا بد من كبح جماح هذا التطلع، وأن يحد بحدود الشرع، فأنت إذا أردت أن تشبع هذا الفضول والاستطلاع إلى هذه العوالم الغيبية فلا توجد نافذة يمكن أن نطلع من خلالها على الغيوب إلا نافذة الوحي فقط، ولا يمكن أبداً أن نطلع على الغيوب، ونقطع بصدق هذه المعلومات إلا من خلال نافذة الوحي المعصوم، أما ما عدا ذلك فلا أمل قطعاً في التطلع إلى الأخبار الغيبية إلا عن طريق الوحي الشريف.(104/4)
عالم الجن والشياطين في القرآن الكريم
تعرض القرآن الكريم لموضوع الجن ممثلاً بالشيطان بصفة أساسية، وفي كيد بني آدم، وفي شياطين الإنس والجن، وفصل تفصيلاً مهماً جداً، هذا هو الذي ينبغي أن ننشغل به: عداوة الشيطان لبني آدم، وأن الشيطان يقف وراء كل شرك ومعصية، وأن جنوده يجتهدون في إضلال الناس وإفساد ما بينهم، فنحن مطالبون بمحاربة كيد الشيطان بالاستقامة على طاعة الله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ} [الأعراف:27]، هذا موضوع أساسي، لكنه ليس موضوعنا الآن: عداوة الشيطان، وكيف نواجه هذا العدو؟ وكيف نكون منه على حذر؟ وكيف لا نقع في المعاصي؟ هكذا فصل القرآن وحذر من تلبيس الشيطان، وإضلاله إيانا سواء في العقيدة أو العبادات أو الأخلاق، أو غير ذلك من المسالك، هذا هو الموضوع الذي فصل القرآن فيه تفصيلاً عجيباً جداً، وكذلك السنة.
أما حقائق عالم الجن، فقد عرض القرآن لها بالتفصيل في سورة الجن، ثم في سورة الأحقاف بصورة عابرة، وما عهدنا أبداً لا من الصحابة ولا من السلف الانغماس في موضوع الجن بهذه الطريقة المرضية الوبائية التي انتشرت وصرفت الناس عن الواقع الذي يعيشونه باعتبارهم من بني آدم إلى واقع من الخيال، وشيء غائب عنا، وأغلب المعلومات التي نتداولها ليست من مصدر الوحي ولكنها أخبار الجن، أو السحرة، أو ممن يزعمون أنهم قد تمرسوا وتدربوا في هذا المجال، لكن أين الخبر المعصوم الذي يجب ألا نتعداه؟ وتساهلنا كثيراً في أن نشرب كماً هائلاً من المعلومات دون أن نتمحص ونتحرى المنهج السلفي الذين نزعم أننا ننتمي إليه.
فمثلاً: إذا قلنا لأخ: نريد دليلاً معصوماً على أن الجني يحرق بالقرآن؟ قد يدهش لأن الخبر حقيقة مسلمة، لكن من أين لك هذا؟ من أين أتيتم أن القرآن الكريم يحرق الجن؟ لن يجدوا دليلاً، إنما يتمسكون بعمومات من القرآن الكريم بعيدة تماماً عن تأييد ما ذهبوا إليه، نحن نريد احترام المنهج العلمي في مثل هذه القضية، أين الدليل على هذه الأشياء؟ أين الدليل على هذا الضرب المبرح بهذه الطريقة؟ هل الشريعة التي حرمت العدوان الصول على بدن وروح المؤمن تبيح في نفس الوقت هذا العبث وهذا الانتهاك لحرمات المسلمين بالصورة التي نراها والتي قد تصل إلى القتل في كثير من الحالات؟ أين العقول؟ أين منهج السلف الذي نزعم أننا ننتسب إليه؟ إذاً: ولع الإنسان بمعرفة الغيوب كان المدخل الذي من خلاله راج هذا الموضوع؛ لأننا نسينا أننا لا نتلقى الأخبار إلا من الوحي المعصوم، وفتحنا نافذة جديدة غير نافذة الوحي أخبار تأتينا عن عالم المجهول، وهذا إن كان جنياً بالفعل فإننا لا نعرف من هو، ولا كيف هو، ونعيش في عالم من الوهم، ونصدق هذه الأشياء، وأن الجني يسلم، ثم بعد ذلك يُعرض عليه الإسلام، ويقال له: ما اسمك؟ يجيب بأن اسمه جرجر، ثم يُسأل: من الذي بعثك؟ فيجيب شنودة إلخ، ونفتح أبواب خيال في خيال.(104/5)
شناعة ادعاء تأييد قرين النبي صلى الله عليه وسلم
هناك شخص يدعى محمد إسماعيل من الزقازيق، يدعي أن معه قرين النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يصحح له الأحاديث ويضعفها، وأنه يعطيه الفتاوى من أجل توحيد الصف المسلم وتوحيد المسلمين.
وهذا غريب وعجيب، هل نشطب على كل جهود المحدثين الذين بذلوا الأرواح والأنفس والأموال، وسهر الليالي والرحلة في طلب العلم؟! كل هذا يلغى لأن قرين الرسول عليه الصلاة والسلام المزعوم يخبرنا مباشرة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، إذاً: ما كان أسهل الأمر، لماذا أتعب المحدثون أنفسهم بالجرح والتعديل والضوابط والاصطلاح والرحلة والسهر؟ لقد كان من السهولة بمكان أن نستقي من هذا المعين الحي المباشر بواسطة أعلى إسناد في العالم، فهو واحد فقط يتلقى من النبي عليه الصلاة والسلام! هذا عبث، هل رأينا أحداً من علماء المسلمين فعل هذا أو قال بهذا، أو اعتبر هذا مصدراً من مصادر العلم؟ إذا كان من يعرف بالغفلة، وعدم التركيز في مجالس التحديث لا يؤخذ خبره، ويقدح في ضبطه، فكيف نتلقى من كائن مجهول؟! نحن لسنا متأكدين أنه جني أصلاً، وربما كان هو نفس الشخص الذي يتكلم، وإذا كان جنياً من أين لنا أنه مسلم، أثبت أنه مسلم؟ أين الشهود؟ أين الذين عاشروه كي يضبطوا لنا إن كان مسلماً، ثم حتى لو كان مسلماً كيف هو؟ كيف عدالته؟ كيف ضبطه؟ كيف حفظه؟ كيف كيف كيف إلخ؟ فكيف نستطيع أن نتخلى عن هذا المنهج العريق الأصيل الذي تحسد عليه أمة المسلمين كما قال اليهودي مارجليوث: (ليفتخر المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم.
علم لم تعرف الدنيا له نظيراً، ثم نأتي بهذه الخزعبلات ونقول: إن معنا قرين الرسول عليه الصلاة والسلام، الحقيقة أن هذا تنازل وانحطاط عن المنهج السلفي بطريقة ما، من كان يتصور أننا نصل إلى هذا المستوى؟ ما الفرق بيننا وبين الصوفية؟ نحن نقارن بين المنهج السلفي والمنهج الصوفي في مناهج التلقي، ونقول: نحن السلفيون منهجنا القرآن والسنة وفق فهم السلف الصالح، ثم نقول: ننتقد الصوفية لما عندهم من مصادر أخرى، كالكشف والإلهام والذوق والوجد والمنامات، ونقول: نحن نختلف معهم اختلافاً أساسياً في مصدر التلقي، أليس هذا انحرافاً في مصدر التلقي حينما نزعم أننا نتلقى من العالم الجني الغيبي من خلال نافذة غير نافذة الوحي المعصوم؟!(104/6)
دور الدعاة والمعالجين بالقرآن في نشر الظاهرة المرضية
ثمة عوامل أخرى مسئولة عن إشاعة هذه الظاهرة، في مقدمتها أولئك الطائفة من الدعاة الذين نشروا هذه الظاهرة في بداية الأمر، وسجلوا فيها الأشرطة، وخطب الجمعة، دون اعتبار وحذر من طبيعة الجماهير القابلة للغلو في هذا الجانب، بالذات جماهير العوام، وللأسف أيضاً أن نقول: طلبة العلم المزعومين الذين خاضوا في هذا الأمر ليل نهار، وصار شغلهم الشاغل، وانصرفوا حتى عن واجبات الدعوة والتعلم إلى موضوع الجن فكان ينبغي على هؤلاء الدعاة أن يراعوا طبيعة العوام -وطلبة العلم الذين هم في الحقيقة عوام وليسوا طلبة علم- أن عندهم قابلية للغلو في هذا الأمر، فإما أن توضع ضوابط لهذا الأمر، أو لا يطرق أصلاً، وكان ينبغي أن يحصل إشراف جماعي من العلماء على هذه الأشياء.
كما أن المعالجين أنفسهم كانوا عاملاً أساسياً في نشر هذه الظاهرة، وكذلك المؤلفون الذين ألفوا عشرات الكتب، بل لو أحصاها أحد لسوف تزيد عن المائة كلها تتحدث عن الجن، سوق رائجة لكل من هب ودب ليكتب عن الجن: مغامراته مع الجن، حوار مع الجني المسلم إلخ، نظرت في بطاقته الشخصية فوجدت أن اسمه كبجور، عرفت من أين أن اسمه: كبجور، على أي أساس صدقت؟ هنالك كتاب كامل على هذا الحوار، ما الدليل على صدقه؟ الرسول عليه الصلاة والسلام لما قال: (صدقك وهو كذوب) كان يعني ما يقول، فهو الرسول عليه الصلاة والسلام مؤيد بالوحي، وقد حكم لنا أنه صدق في هذا، لكن قال: (وهو كذوب) إشارة إلى أن الجني الشيطاني طبيعته الكذب، وذكرها بصيغة المبالغة، فما بالنا نأخذ بكلمة صدقك ونغفل الطبيعة الأصلية، مع أن الصدق بالنسبة إليه استثناء، أما الأصل الذي ينبغي أن نحسبه في كل ما يأتينا به من أخبار فهو: أنه كذوب.
إن أشرطة الكاست لجلسات هؤلاء المعالجين ساهمت بدور كبير في إشغال الرأي العام بهذه القضية، بجانب جلسات الشباب فيما بينهم، جلسات السمر والحكايات والمغامرات للجن، ثم أيضاً حضور جلسات العلاج بدافع الفضول، ثم دخلت في هذه الأزقة بعض الصحف الحزبية التي تريد أن تروج ركودها، وتعالج هذا الركود بأن تلفت أنظار الناس بأي شيء، وتطور الأمر حتى صار حزب الأحرار يعلق إعلانات في كل مكان بطريقة عجيبة جداً، ويتسترون وراء القرآن، ويستغلون القرآن مصدة ومجنة لإرهاب الناس، وإياك أن تتكلم؛ لأنك إذا انتقدت المبالغة في هذا فمعنى ذلك أنك تقول: إن القرآن ليس بشفاء، لا، بل القرآن أعظم شفاء لجميع الأدواء بدنية وروحية ونفسية وكل شيء، لكن ليس بهذه الطريقة التي يمارسونها ويفعلونها، ويتسترون وراء كلمة القرآن الكريم ليستروا ويخفوا عدوانهم، وانتهاك حرمات الناس، ويعزفون على الأوتار الحساسة عند الناس.(104/7)
حقيقة المس
المس حقيقة لا ننكره قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ} [البقرة:275]، أما الطب الغربي فهو طب إلحادي من ناحية الإيمان، ولا يؤمن بالله، ولا بالقرآن، ولا يعترف بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، فنحن لا نستغرب إذا أنكر هذا، مع أن الطب الغربي في الحقيقة لو احترم الحقيقة العلمية لحكم على نفسه كما يسمي في الاصطلاح الطبي: (إديوفاتك) يعني: غير معلومة السبب، أغلب حالات الجن غير معلومة السبب، فيقفوا عند حدهم، ويعترفوا قائلين: هذا شيء نجهله، فالجان هنا حالة نسبية، لكن ليس من حقه أن ينكر، هذا هو المنهج العلمي، فهذا ليس مجاله، إنما مجاله هو التعامل التجريبي مع الحالات المباشرة، أما أن يغتر الإنسان بما وصل إليه من العلم حتى يصل إلى حد التمادي وينكر حقائق غيبية، فهذا ليس مجاله، وليس تخصصه.(104/8)
التوهم من طرق الإصابة بالمس
أكثر المرضى يقعون فريسة الإيحاء الذاتي، وهي حالة مثل حالة الهستيريا تماماً، يسيطر فيها على المريض ويوهمه بأن عنده مثلاً الذبحة الصدرية، أو شلل، وهو في الحقيقة ليس مشلولاً، والبعض من كثرة ما سمع الأشرطة، والمحاضرات، وحفظ الحوار والسيناريو بكل دقة، فمجرد ما يقرأ القرآن ينفعل بنفس الكلام الذي سيطر عليه تماماً.
وأقوى دليل على ما نقوله من أن أغلب الحالات حالات وهمية: أنك لو سلكت معه وسيلة الإيحاء والتأكيد بثقة أن هذا مجرد وهم تجد نتيجة إيجابية في كثير جداً من الحالات إذا سلكت هذا العلاج الطبيعي، واستخدمت الأسباب العادية في صرفه عن هذا الوهم، وإقناعه بأن الموضوع لا يعدو أن يكون وهماً سيطر عليه ليس أكثر، وأنه سليم تماماً ومعافى، وأن عنده أعراض واقعية، ونحن لا نقول: إنه يكذب، فقد يحس بخفقان في القلب أو عرق أو اضطراب أو غير ذلك من أعراض القلق المعروفة، لكن هذا له تفسير آخر معقول جداً، فالأعراض موجودة، لكن سببها ليس الجن، أو مرضاً عضوياً، سببها هو مرض نفسي؛ لأن مركز الخوف في المخ بجوار المركز العصبي الذاتي، فإذا اشتعل هذا أثر على الجهاز العصبي الذاتي الذي بجواره، فتحدث هذه الأعراض؛ لأن المركزين متقاربان، لكن هذه الأعراض سببها الشخص نفسه، وليست سبباً عضوياً، وهذه الأشياء معروفة؛ فإتقان التشخيص ينعكس على العلاج الصحيح؛ لأن أغلب الناس إذا دخلوا في هذا الخط يدخلون معافين من الجن، وإذا بهم في النهاية يخرجون وقد لبسهم مائة جني بسبب المعالجين وجهلهم وانحرافهم في التشخيص، كما قال الله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6]، فيتمادى الجن، وبالفعل يتسلطون عليهم.(104/9)
عودة الأفاضل إلى الطريق المستقيم
هذه ظاهرة تستحق التسجيل، ولها دلالتها، وهي: أن أغلب من فيهم الخير لا يستمرون في هذا الخط، فبعد وقت معين يبدءون في التراجع؛ لأن فيهم خيراً، وهناك أشخاص كان يشار إليهم بالبنان في علاج هذه الحالات، ثم إذا بالواحد يندم على ما فعل وعلى خوضه في هذا المجال، ويقطع صلته به تماماً، ويشتكي من العناء الشديد، وهناك آثار لهذه الظاهرة على المعالج نفسه، وهي أن الجن يضحكون على بعض الشباب، فقد كان أحدهم يعالج حالة من الحالات يقول له: سوف يحضر فلان يقرأ عليك، فيصرخ الجني قائلاً: لا لا إلا فلان أنا لا أقدر عليه، سوف يحرقني بالقرآن.
يريد الجني أن يفتنه، ويزيد انشغاله بهذه القضية، ويتوهم في نفسه أنه قاهر الجان ولا حل ولا قوة إلا بالله.(104/10)
بُعد السلف عن الاحتراف بالقرآن
لما كان هذا المجال غامضاً فإن السلف ما اشتغلوا به بهذه الطريقة، وما فتحوا العيادات التخصصية لعلاج الجن، ولا مراكز علاج بالقرآن، ولا جلس أحدهم في مكان ما ينتظر الناس يتقاطرون ببابه، ويكتب أحدهم إعلانات وكروتاً تعجب من بياناتها الوظيفة: معالج بالقرآن الكريم، والكشف: عشرة جنية ويدفع مقدماً، والحجز مقدماً، وكأنها عيادات، من فعل هذا من السلف يا من تنتسبون إلى السلف؟! كان سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه مجاب الدعوة، والرسول صلى الله عليه وسلم دعا له أن يستجيب الله دعوته، وكذلك أويس القرني وما فتح أحد منهم مركزاً لعلاج الناس، ولا تفكر محتجاً بقوله: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، صحيح أن الرقية مشروعة، لكن هذا الغلو هو الذي يجب أن يوقف عند حده؛ لأننا كثيراً ما نبدأ من حيث انتهى الشرع، ونتمادى في الإفراط أو في التفريط، فالسلف كان فيهم من هو مجاب الدعوة، لكن ما فتح أحدهم مركزاً للعلاج، ولا قال: تعالوا إليّ، وأنا أدعو لكم، وأفعل بكم كذا وكذا.
إن هذا الموضوع يكتنفه الغموض والضباب، وعدم وضوح الرؤية من بدايته إلى نهايته، الواضح فقط هو ما تقيد بالقرآن والسنة من الرقية الشرعية المنضبطة والملتزمة بضوابط الشرع، كإنسان قابل رجلاً صالحاً فلا بأس أن يطلب منه أن يرقيه، هذه الأشياء هي التي قام عليها الدليل، أما كل ما عدا هذه الأشياء التي يخوضون فيها فلا يسندها دليل، وقد لا نجد دليلاً قاطعاً نستطيع أن نجزم به أن هذه حالة مس جني.
نعم.
هناك حالات قليلة فعلاً يتضح فيها بجلاء أنه مس، مثلاً: شخص أمي لا يقرأ ولا يكتب، وهذا معروف عنه تماماً، ثم إذا به يتكلم لغة إنجليزية في غاية القوة بصوت رجل أو امرأة أو غير ذلك مما يخالف جنسه، فهذه أدلة واضحة حسية نسمعها في الأذن، وكلام حسي يدل على أن هناك جناً بالفعل.
لكن هذه حالات قليلة، أما إذا كان الواحد يتكلم بصوت طفلة أو امرأة، فلربما أن المريض نفسه يقلد هذه الأصوات، فقد سمع أخباراً طويلة عن هذا، وحافظ كل الكلام اسمك ماذا؟ اسمي كذا، تسلم أم لا؟ تخرج أم لا؟ أنا أحبها ولا أريد أن أفارقها وتنتهي الحالة في الآخر إلى ما يشبه الأوهام فقط، وهذه الأشياء تعرفونها.
ذكرنا أيضاً بدع المعالجين وأحوالهم، وكيف أنهم توسعوا في موضوع الرقى والنشرة حتى دخلوا منطقة السحر المحرمة، والأخذ بأساليب السحرة كما سنفصل إن شاء الله.(104/11)
اتخاذ العلاج بالقرآن حرفة ومهنة خلاف هدي السلف
ظاهرة احتراف العلاج بالقرآن الكريم ظاهرة جديدة، وانتشرت بطريقة ليست من سلوك السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم في شيء، وقد فتح هؤلاء باباً عظيماً جداً من أبواب الفتنة، وهو فتنة النساء، وكيف أن الشيطان يستجلب بعض هؤلاء الناس؛ ولأن العوام جهلة، ممكن لا مرأة أن تأتي بمفردها، ثم يخلو بها، وبحجة العلاج يرتكب معها جرائم توجب الحد، وكبائر الذنوب بحجة العلاج بالقرآن الكريم، حتى يصل الحال ببعضهم أن يدهن الجسد بدون حائل عن طريق هذا الزيت الذي قرأ عليه، فهل يطمع الشيطان في أكثر من هذا اللعب بعقول الناس، وتوريطهم في أكبر هذه الكبائر؟! ذكرنا أن بعض المرضى مصاب حقيقة بالمس، وهذه نادرة وقليلة جداً بالنسبة للكم الهائل الذي نراه ونسمع عنه، وبعضهم يكون مرضه نتيجة الوهم الهستيري المسيطر عليه، فيتقن تمثيل الدور الذي قرأ فيه كثيراً، وسمع فيه أشرطة، وتكلم فيه كثيراً، وبعضهم يكذب متعمداً الكذب لمصلحة شخصية، كما في قصة الشاب الذي شك أحد الحضور في أنه متلبس بالجن، وكله نفس الكلام، أنت من؟ أنا سلمان بن أبي سليمان، أأنت نصراني؟ هل تخرج وتسلم؟ سوف أسلم وأشهد الشهادتين، ثم بعد تلك القصة الطويلة العريضة، قال أحد الحضور أنت كذاب، قال: نعم، الحقيقة ليس بي مس جن، مع أن الكذب راجع على الذي يعالجه، وراج على الحضور جميعاً، لكن هذا الأخ كان عنده بصيرة، فقال له: فعلاً أنا أمثل؛ لأن بيني وبين أبي بعض المشاكل، فأريد منه أن يخفف عني الوطأة قليلاً، فادعيت أنني ملبوس.
كذلك قصة تلك التي كانت تشتكي من زوجها البخيل، قعد أحد المعالجين يعالجها بنفس المراحل، وفي النهاية بعدما لم ير أي تحسن في الحالة، قال لها: ما الأمر؟ لأنه لا يرى أي استجابة للعلاج، فقالت: أنا في الحقيقة أفعل هذا وأمثل أنني ملبوسة نتيجة أن زوجي رجل شديد البخل حتى أنه يقيس الزيت بالمسطرة.(104/12)
الطريقة المثلى للتعامل مع غيبيات عالم الجن
علاقة أهل الإيمان بالشياطين علاقة القهر والإذلال كما روي في الحديث -وإن كان فيه ضعف- عند الإمام أحمد في مسنده: (إن المؤمن لينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره في السفر)، يعني: كما تأخذ بناصية البعير وتقهره وتذله، فكذلك المؤمن يفعل بشيطانه يقهره ويذله، لا أن يخاف منه، وبعضهم قال: ينضي: يجعله هزيلاً.
المؤمن كثير الذكر لله مما يجعل الشيطان هزيلاً ضعيفاً لا يجد فرصة لأن يتغذى ويسمن.
أليس إبليس -الشيطان الأحقر- هو الذي فر يوم بدر صارخاً فقال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال:48]، ساعة الجد يخذلهم، فما بالك بجنوده، هم أضعف وأذل وأحقر، فالمخرج والبديل هو أن نحقق قوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] فنقول للناس: اتخذوه عدواً، إذ لا تصلح معه هدنة، ولا الإحسان إليه، ولا المصانعة ولا المداراة، لا يصلح مع إبليس إلا طريق واحد فقط هو: اتخاذه عدواً، ومعنى اتخاذه عدواً: ألا نطيعه في معصية الله سبحانه وتعالى.
فمن هذا المدخل نقول للناس: التلفاز كله فساد، وإذا أردت أن تطيع الله ينبغي أن تحمي نفسك من فساده، تضييع الصلاة كفر ونفاق وكذا وكذا، لماذا نحن نربط التزامه بالعلاج؟ بمعنى: أن بعض الناس إذا لم يلق فائدة ربما رجع إلى التلفاز، فنحن لا نطيع الله سبحانه وتعالى ونلتزم بالدين إلا على أساس العلاج، فإذا قضيت الحاجة تركنا ذلك لا، المفروض أن تكون دعوة الداعية والمعالج إلى العبودية لله سبحانه وتعالى، وليس إلى تحصيل هذه المصلحة، فنتذكر قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]، وقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} [الأنعام:17] الكل يبحث على السحرة للعلاج من مس الجن، والفرج لا يأتي إلا من الله سبحانه وتعالى، أين: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وأين قوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام:17] استعن بالله سبحانه وتعالى بالدعاء وبالذكر وبالاجتهاد في الطاعة يكشف ما بك من شر، وقال تعالى حاكياً عن حبيب النجار: {إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23]، وقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51]، وقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] وغير ذلك من النصوص.
أيضاً من التنبيهات المهمة: أنه ينبغي أن نتعامل مع هذه الحالات بصفتنا بشراً، ونتعامل مع الواقع الذي نحن فيه، فإذا أصبت بمرض فاذهب إلى الطبيب المختص، فبسبب تدهور فكرك تسلط عليك الجن، ولهذا كثيراً ما يهرع الناس ابتداء إلى المعنيين بعلاج المس دون أدنى تمييز أو تفرقة بين الساحر والمشعوذ، وبين من يعالجون بالقرآن الكريم، وترك الأسباب المعتادة مثل: الذهاب إلى الأطباء المتخصصين في الأمراض العضوية والنفسية.
كذلك نجد انعكاسات سيئة لهذه الظاهرة وردود أفعال مشينة بصورة غير عادية كالإعلان الذي ينشره أصحاب حزب الأحرار عن علاج فشل الخطبة المتكرر، فلو أن واحدة خطبت وفشلت الخطبة، أول شيء تهرع إليه هو التفكير في سحر ما تقليداً للنساء، وهذا كله من أساليب العجائز من النساء الجاهلات، ثم صارت هذه الأساليب معترفاً بها حتى بين الرجال، وصار من المألوف أن المرأة إذا خطبت أكثر من مرة ولم توفق أن يعتقد أن فيها سحراً، وأن خطيبها الأول هو الفاعل، وكلام كثير بهذه الصورة المعروفة، بينما نحن نتعامل مع الواقع ومع الحقيقة ونبحث عن الأسباب، ولعل هذا الخاطب من النوع المتلاعب وغير الجاد، وربما الزواج لم يتم لأنه عاجز عن تقديم مستلزماته، أو أن الفتاة نفسها لا ترغب في الزواج، فالأولى أن يبحث عن السبب الحقيقي الذي أدى إلى ذلك نتجنبه، أما أن ندخل في مجال غامض ومبهم ولا حدود له ونقول: سحر أو ليس بسحر، ونفتح باب شر نحن في غنى عنه؟ لا.
ومن باب ما نظن أنه مصلحة نقع في الشرك عن طريق الذهاب للسحرة والمشعوذين، فينبغي على الإنسان أن يتعامل مع الأسباب المعتادة؛ فإن اعتراك مرض تذهب إلى الطبيب.
وأصبح من المعتاد جداً أن يسمع الواحد منا جنايات بمبررات غير سائغة، وأذكر أن أحد الإخوة سألني مرة فقال لي: الأخت كانت نفسيتها تعبانة قليلاً، فضربتها على رجلها ليخرج الجني، وكسرت لها أصبعها، ويتكلم وكأنه شيء معتاد، وكأنه لم يعمل جريمة، ويحكي ويسترسل في الحديث كأن الأمر ضيافة لها وكرامة.
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)، أنت مسئول عن هذه الجناية، ولولا غياب الشريعة الإسلامية، والتغاضي عن مثل هذه الأخطاء لعوقب هؤلاء العابثين بصحة الناس وبجوارحهم عقوبة شديدة، ولا شك أن الإسلام بريء من كل هذه الفوضى.(104/13)
بين الطب والعلاج بالقرآن
خلاصة الكلام يذكره أحد الأخصائيين النفسيين من ذوي الاستقامة، يقول: إن حالات تلبس الجن ثابتة في الكتاب والسنة، ولكنها ليست بهذه الكثرة، والممارس لمهنة الطب النفسي يلاحظ أن معظم الحالات التي تتردد للعلاج لها مسار مرضي محدد، وتسلسل منطقي واضح، واستجابة معقولة للأدوية المتاحة رغم حصولها، فقط يكتفي بالعلاج إذ إن العلامات واضحة كلها تماماً وتبين ما إذا كانت أعراض مرض نفسي أو مرض عضوي، والطب النفسي الآن ليس كما كان من قبل، الطب النفسي الآن عبارة عن (1 + 1 =2)، فيوجد وضوح كامل في قواعد التشخيص وعلاماته بعد التقدم الهائل في هذا المجال، فلا يصح أن نسيء الظن في هذا المجال الذي عظمه الشرع، وحثنا على السعي إلى أهل الخبرة والثقة من الأطباء.
ثم يقول: وإذا كانت هناك نسبة من الأمراض النفسية ما زالت أسبابها الحقيقية غامضة، فهذا يدعونا إلى البحث والدراسة والوصول إلى أسبابها، وليس أضر علينا من تفسير كل الأمراض على تلبس الجن أو السحر أو الحسد؛ لأن ذلك يوقف حركة الاجتهاد والبحث البشري، ولو كان الحال هكذا لما اكتشف علاج مرض واحد.
ويقول أيضاً: من الصعوبة على أي شخص أن يجزم بأن حالة معينة هي من تلبس الجن، ولم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه عالج كل الحالات على أنها تلبس جن أو سحر أو حسد، ولكنه عالج بكل الوسائل: عالج بعض الحالات بالعسل، وعالج بالكي، وعالج بالحمية، وعالج بالحناء، وعالج بالعصابة للرأس إلخ، وأمر صحابته بالذهاب إلى الطبيب مع أن دعاءه صلى الله عليه وسلم مستجاب، ولكنه يعلمنا الأخذ بالأسباب.
إذاً: التعميم والتعتيم الذي يمارسه بعض المعالجين الآن ما هو إلا جهل بالدين أو بالطب أو كلاهما معاً.
ثالثاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد)، وما يفعله الكثيرون من المعالجين البدائيين اليوم لا يخرج عن كونه عرافة أو كهانة؛ لأنهم يجزمون بتلبس الجن، والجن غيب عنا، والجزم بالغيب عرافة، وإذا كان بعضهم على علم فالغالبية على درجة شديدة من الجهل، وإذا كان بعضهم تقياً فالغالبية على غير الجادة، وليس هناك رقابة على ممارساتهم لذلك، فالمريض المسكين حين يذهب إلى أحدهم فهو يرمي نفسه في المجهول.
رابعاً: أن الاستعاذة من الجن ومن السحر ومن الحسد أمر يسير علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءة المعوذتين، وآية الكرسي، وباقي الآيات في الصباح والمساء، وبتقوية العلاقة بين الإنسان وربه دون الحاجة إلى وسيط، وهذه الأدعية يقرؤها الشخص المريض على نفسه أياً كان نوع مرضه، أو يقرؤها عليه أحد أقاربه أو أصدقائه، ولا يكون هناك شخص بذاته يتولى هذه المهمة ويتخذها وظيفة وإلا أصبحت كهانة صريحة.
خامساً: ليس هناك ما يمنع من الجمع، بل إنه من الضروري الجمع بين أخذ الدواء الذي يفرضه الطبيب المتخصص، وبين الدعاء وقراءة القرآن والرقية الشرعية، لا مانع على الإطلاق بجانب الأسباب العادية أن تتعاطى العلاج بالقرآن الكريم وبذكر الله سبحانه وتعالى، وبالرقية الشرعية التي علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل هذا من أمر الله وقدره وعلينا أن نحارب القدر بالقدر، سواء قدر التداوي بالأدوية، أو التداوي بالقرآن الكريم الذي قال تعالى فيه: {وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82].
أما الأخذ بشيء مع إهمال باقي الأشياء فهو من قبيل النقص، فالإنسان جسد ونفس، ولا يمكن الفصل بينهما، وللجسد ما يفيده وللنفس ما يلائمها.
يقول أيضاً الدكتور عبد الستار أبو غدة في بحث له قيم جداً حول هذا الموضوع، نلتقط منه بعض العبارات بسرعة، يقول: الأصل في المرض -أي: مرض كان- أن يبحث عن دوائه في الأسباب الكونية الظاهرة المقدور على فهمها وتفسيرها، ولذا لا يصار للبحث عن علاج آخر إلا عند العين، وسنرى أن الحالات المنقولة في السنة كلها فيها الإشارة إلى أن ما بهؤلاء المرضى قد أعيا الأطباء علاجهم، على أنه لا ينافي هذا أن يحصل الاقتران بين العلاج المادي والروحي الذي لا يتنافى اجتماعه مع الأخذ بالأسباب الظاهرة، ذلك أن الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى وسؤاله شفاء مريض مصاب بمرض غير معروف، والرقية له لا يقتصر على حالة العجز عن تحقيق الشفاء، وهذا الفصل أيضاً غير مرغوب في الإسلام، أما أن نعتمد فقط على الأدوية، ونهمل جانب الرقية والعلاج بالدعاء وبالذكر، واضح أن الإنسان بدن ونفس وروح، البدن يعالجه الطب، والروح يعالجها القرآن، وليس فيه داعي أبداً للفصل بين هذين الركنين، فالالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، وسؤاله شفاء مريض مصاب بمرض غير معروف لا يقتصر على حالة العجز عن تحقيق شفائه، بل إن ذلك الالتجاء يرافق عملية العلاج للمرض، سواء حصل الأمل بشفائه أو العجز عنه، إنما لا يسوغ الاقتصار على العلاج الروحي ويترك الأخذ بالأسباب الأخرى التي وضعها الله سبحانه وتعالى في صورة قوانين طبيعية، وجاءت الشريعة بالتأكيد على أن الأخذ بها لا ينافي التوكل على الله، بل إن عدم الأخذ بها عجز وتواكل منهي عنهما شرعاً، ومستنكران عقلاً وطبعاً.
يقول أيضاً: إن الإقدام على وسائل العلاج الروحي الزائدة على الدعاء والتعوذ والرقية من غلظة وشدة وانتهار وتهديد من المعالج موجهة في الظاهر للمريض يحل ذلك لا يحل إلا بعد أن يثبت أنه لا علاج له في الطب، أي: حتى يستيقن أن سبب هذا المرض غير عضوي، وأن يكون المعالج موقناً أيضاً بسلامة تصرفه، وأن تكون عاقبة ذلك مصادقة لما رآه، وإلا لم يكن بمنجاة من القصاص والتعزير، ثم ذكر أموراً من المعوذات المعروفة، والاستعاذة من نزغات الشياطين، وقراءة المعوذتين، وقراءة آية الكرسي، وسورة البقرة، والآيتين من سورة البقرة إلى غير ذلك من الأذكار المعروفة في هذا المجال.
ثم وجهت إلى الدكتور: عبد الستار أبو غدة في نهاية هذا البحث بعض الأسئلة -لأنه كان يحاضر بعض الأطباء- فسئل من أحدهم: نحن نعتقد بالجن باعتبارنا مسلمين -والتعبير هذا أدق فقول: (باعتبارنا أو بصفتنا) أولى، ولا داعي إلى كلمة (كمسلمين) التي تقتضي التشبيه- إلا أنه ما الدليل المستخرج من الشريعة على أن الجن قد يسببون الأمراض، وخاصة الأمراض العقلية النفسية؟ وما هو الدليل على أن الشفاء يتم باستخراج أو طرد الجن؟
الجواب
وردت بعض الأحاديث الصحيحة التي تدل على أن الجن قد يتسلطون على ضعاف الناس، ويسببون لهم أحوالاً مرضية لا يجدي فيها العلاج الطبي، وورد أن بعض هذه الحالات عولجت بتقوية نفس المصاب، وذلك بالتعوذ بالأدعية، وزجر الجني المتسلط عليه، ولا يقوى على ذلك إلا من كان قوي الإيمان والعزيمة، حتى يكون سلطانه على الأنفس الشريرة أقوى من سلطانها، فإذا تخلص المصاب مما كان يعانيه، دل ذلك على جدوى العلاج، هذا وإن درجة هذه الأحاديث تصلح للأخذ بها عملاً، ولم تصل إلى درجة أن يبنى عليها اعتقاد، يبدو أنه يقصد عدم التواتر وهذه قضية أخرى.
السؤال
كيف نتعرف على أن الجني مسيطر على شخص ما؟
الجواب
إذا أصيب الإنسان بمرض، أو خلل في جسمه أو عقله، فإن السبيل الذي دعت إليه الشريعة هو الرجوع إلى المختصين من الأطباء، فإذا لم يُجدِ العلاج الطبي فإن من المحتمل أن يكون سبب الإصابة أو المرض غير عضوي، فيضم إليه العلاج الروحي مثل: الأدعية والأذكار وتقوية نفس المصاب، والتغلب على تسلط النفس الشريرة المؤثرة عليه.
السؤال
ما حكم تعلم كيفية التخلص من الجن؟ الجواب: ليس هناك أمور خاصة تحتاج إلى تعلم أو تعليم، بل كل ما يحتاج إليه العلاج هو الدعاء بالأدعية المأثورة، وترداد الأذكار الواردة، مضافاً إلى ذلك صلاح المعالج وتقواه وقوة نفسه.
يقول أيضاً: إن الجوانب الروحية والدينية في علاج الأمراض عامة والنفسية منها بخاصة هي العنصر الدائم في العلاج مهما تبدلت الوسائل الأخرى الخاضعة لمعطيات التجارب والكشوف.
أيضاً في كلامه عن العلاجات الروحية الغيبية يقول: ومن الواضح أن العمل بالشيء أو تركه للآخر غير التصديق والجحود، ويقول: حين نقرر العلاج الروحي وتوقع بعض الصور الغيبية لا نلتزم ولا نقبل من صوره إلا ما ثبتت شرعيته بالنصوص الصحيحة، بعيداً عن الخرافات والأوهام، وذلك منهج واضح؛ لأن الإسلام قد وضع الأسس الكفيلة لإبعاد صور الدجل والاستغلال التي يخترعها كثيرون ممن يستغلون حال ضعف المريض واستسلامه لكل من يلوح له بالعلاج، وإن تسليط الأضواء على المنهج الصحيح كفيل بإزهاق الباطل حتى يذهب الزبد جفاء، وبإحقاق الحق حتى يبقى، وهو ما كان قائماً على أدعية وتعويذات مشروعة وهادفة، ولابد أن يؤدي إلى تراكم الشوائب التي علقت بهذا العلاج بسبب الغموض الذي يستغله بعض المشعوذين.
إن ما جاء في الطب النبوي من علاجات روحية في المرض والوجع واللدغة والإصابة بالعين مما صح في الأحاديث كله قائم على دعاء الله مباشرة دون وسيط، بأن يلزم الإنسان سواء السبيل للوصول إلى العلاج الناجح، (فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله سبحانه وتعالى)، وهذا الدعاء يصدر من المريض أو ممن يتوسم فيه استجابة دعائه بعيداً عن حمل التمائم والحجب.
ثم يقول أيضاًً: وهناك شعار يمكن رفعه في الدعوة إلى رحابة الصدر بهذا العلاج، وهو مستمد من قول النبي صلى الله عليه وسلم تعقيباً على استعراضه بعض الرقى المتداولة، وإقرار ما كان منها خالياً من الشوائب المخلة بالعقيدة أو السلوك الإسلامي، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، وإن تسليط الأضواء على هذا النوع من العلاج إباحة للنفع، كما أن من ينكر عن جهل مضمونه ومستنداته يوصد باباً للنفع، ويصد عن سبيله.
وهنا يرد على الأطباء الذين ينكرون العلاج بالقرآن والذكر وبالعلاج الروحي، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، ما دام فيه انضباط بالضوابط الشرعية المعروفة، وسد هذا الباب وإغلاقه على الناس يعد م(104/14)
سلسلة حول دخول البرلمان_طريق البرلمان الرأي والرأي الآخر
الأصل في دخول الدعاة إلى البرلمان للإصلاح والدعوة المنع؛ لأن في الدخول مفاسد كثيرة، وتنازلات عديدة، وقد أثبتت التجارب الكثيرة المتتابعة أن هذا الطريق شره أكثر من خيره، وأضراره أكثر من منافعه، ومن أبى إلا الدخول فلا نضلله؛ لأن دخوله مبني على اجتهاد ونظر، وهو أيضاً لا يجوز له أن يضلِّل من خالفه، والواجب علينا أن نعذر بعضنا بعضاً في المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف.(105/1)
الإسلام دين ودولة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (تنقض عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة)، والشاهد من هذا الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأولهن نقضاً الحكم) وفي هذا دليل على أن الإسلام دين ودولة، وأن الاشتغال بالسياسة بالمفهوم الإسلامي هو من صميم هذا الدين، بل -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- من عرى هذا الدين، فأول عرى الإسلام نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وليس في عنقه بيعة فميتته ميتة جاهلية) يعني: بيعة للحاكم المسلم.
هذا، ونحن نتعرض لموضوع الساعة وهو ما يتعلق بالعمل السياسي في المفهوم الإسلامي فلا ينبغي أن ننحصر في مفهوم الحكم، فإذا قلنا: العمل السياسي في الإسلام فلا نعني فقط ما يتعلق بالحكم، وإنما مصطلح العمل السياسي أوسع بكثير من مجرد الحكم، فالسياسة تشمل قيادة الناس، والاهتمام بالأمور العامة، وشئون الحكم منها، وعلاقة الدول بعضها ببعض، وغير ذلك.
فمن المسلمات التي لا يقول بعكسها إلا من ليس له حظ في الإسلام أن الإسلام دين ودولة، وربما لم يجتمع وصف الرسالة مع وصف الحكم والملك إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد اجتمع وصف نبي وملك في حق داود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام, أما رسول بجانب الحكم والقيادة فالوحيد الذي جمع بينهما في أكمل صورة هو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جمع بين مهمة الدعوة والبشارة والنذارة، وبين ممارسة واجبات الحاكم والسيادة، فقد كان هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً صلى الله عليه وسلم، وفي نفس الوقت كان حاكماً وقائداً وليس مجرد مرشد أو مبلغ كما يدعي البعض, بل كان حاكماً كما قال له الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال له عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] إلى آخر الآية، وكان قائداً كما قال الله له: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:84]، بل عاتبه الله سبحانه وتعالى في إذنه للذين استأذنوه في التخلف عن الجهاد فقال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، ومارس القيادة العسكرية حينما عين أسامة بن زيد رضي الله عنهما قبل وفاته مباشرة لغزو الروم, وقال عليه الصلاة والسلام: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) إشارة إلى اختيار النبي صلى الله عليه وسلم له للخلافة.(105/2)
الآثار المترتبة على غياب الخلافة الإسلامية
لقد مارس المسلمون السياسة في عهود الخلافة لمدة تقارب الثلاثة عشر قرناً، ابتداء من أروع أنموذج للخلافة الراشدة بعد النبي عليه الصلاة والسلام في عهد الخلفاء الراشدين، ثم في عهد بني أمية، ثم في عهد بني العباس، ثم في عهد بني أيوب، ثم في عهد بني عثمان, على تفاوت في درجة الالتزام بالشريعة كمرجعية إسلامية بصورة كاملة، ولا شك أن الأنموذج الأمثل للسياسة كان في عهد الخلفاء الراشدين، ثم بعد ذلك كانت المسألة نسبية، لكن بقي الإسلام هو الإطار المرجعي العام الذي يتحاكم إليه المسلمون بلا نقاش ولا خلاف أو انحراف بينهم في ذلك، حتى سقطت الخلافة العثمانية في سنة (1923م) , والخلافة كانت قد آلت إلى مراحل من الضعف نتيجة الانحراف عن الشريعة الإسلامية في فتراتها الأخيرة, التي ظهر فيها الانحلال والتدهور، فكانت مهيأة للسقوط, فما فعله أتاتورك هو أن الجدار كان آيلاً للسقوط فهو دفعه بيده فسقط ولو كان جداراً متيناً لما سقط بتلك السهولة، لكن كانت هناك أسباب أخرى للضعف انتهت بانهيار الخلافة العثمانية وغيابها، لكن كان المسلمون حتى في حالات الضعف يعزون أنفسهم بأن لهم خليفة ولهم بيعة في عنقه، ولهم كذا وكذا، لكن حتى هذا الوضع الشكلي الذي آلت إليه الخلافة العثمانية انتهى بإقصائها تماماً على يد أتاتورك وأعوانه.
وأول شؤم بعد سقوط الخلافة وضعف المسلمين في تلك المرحلة هو تقسيم الأمة الإسلامية إلى أقاليم جغرافية متعددة على أيدي أعداء الإسلام من الإنكليز والفرنسيين وغيرهم من أعداء الله سبحانه وتعالى؛ تطبيقاً لمبدئهم المعروف: فرق تسد, وكان الإنكليز وراء ما يسمى بالثورة العربية، وأشرفوا على عملية الانفصال بين الأتراك وبين العرب.
والأثر الثاني أن هذه الأقاليم خضع معظمها للاستعمار العسكري الكافر سواء انجلترا أو فرنسا أو إيطاليا أو هولندا أو روسيا، ثم حكمتها حكومات أقامها الاستعمار ممن يطيعه، مما نستطيع أن نسميه استعماراً وطنياً كما هو الحال الآن في العراق، حيث تنتقي الدولة المستعمرة أناساً يقومون هم بالتصدي لتنفيذ سياساتها وأغراضها، فهذا نوع من الاستعمار لكن بأيدي أناس من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.
ثم بعد ذلك شرع الكفار المستعمرون في استبدال القوانين الإسلامية والنظم الإسلامية بقوانين كافرة تنافي شريعة الإسلام، وهذه مرحلة الاستعمار التشريعي.
ثم بعد ذلك بدأ الزحف إلى مناهج التعليم فغيرت، ونشأت بسببها أجيال تعتنق المفاهيم الغربية وتعادي الإسلام ولا تعتز بالانتماء إلى الهوية الإسلامية، وهذا هو الاستعمار التعليمي والفكري.
لقد ألغيت الخلافة الإسلامية تماماً من الوجود, بل صدر في تركيا قانون يعتبر أن العمل لاسترداد الخلافة الإسلامية أو الدعوة إليها جريمة يعاقب عليها, حتى أن أربكان لما أراد أن يرشح نفسه للرئاسة أراد بعض الصحفيين أن يورطه في كلام يطبق عليه هذا القانون فبالتالي يقصى عن النشاط السياسي، فقال له: إذا وصلت إلى الحكم فكيف ستحكم تركيا؟ فاضطر أن يجيب إجابة تصور الخوف والوضع المتردي الذي وصل إليه المسلمون في تركيا, وأجاب إجابة ذكية ليهرب من هذا الفخ الذي نصبه له هذا الصحفي، وفي نفس الوقت يجيب بما يعتقده فقال: سوف أحكم تركيا بالنظام الذي كان يحكمها يوم أن كانت تسود العالم.
وكل هذا هروباً من كلمة النظام الإسلامي حتى لا يتهم بأنه يريد إعادة الخلافة! وبعد ذلك جاءت مرحلة نهب ثروات المسلمين واستغلالها وإذلال المسلمين, ثم أتت بعد ذلك مرحلة خروج الاستعمار من بلاد المسلمين، لكنه لم يغادر إلا بعد أن أرسى دعائم استمرار هذه الأنواع من الاستعمار، وترك خلفه واقعاً مغايراً للإسلام يصعب تغييره إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.(105/3)
العلاقة بين الإٍسلام والديمقراطية
من هذا الركام الذي وصل إلينا من خلال الاحتكاك بالعالم الغربي ومن خلال سفراء الغرب لدينا أو تجار الشنطة الثقافية كما يطلقون عليهم أن نبعت فكرة الديمقراطية كنظام يتبع، وأنه المخرج، وأنه النظام الأمثل إلى غير ذلك, فكانت هذه الفكرة من الأفكار التي وردت إلينا من الغرب، والغرب يحاول تسخيرها ليصل بها إلى مصالحه في البلاد الإسلامية.
والديمقراطية لو فرض جدلاً أنها تطبق فإنها نظام وفكرة نابعة من الثقافة الغربية, وهي تعني حكم الشعب نفسه بنفسه، يعني: أن يكون الشعب هو مصدر السلطات, والإسلام يرفض الديمقراطية تماماً باعتبارها لا تتوافق مع عقيدتنا ولا مع ثقافتنا الإسلامية لأسباب كثيرة سوف نفصلها إن شاء الله تعالى فيما بعد, لكن أهم الفروق التي بين النظامين: أن الدعاة إلى الإسلام يقولون: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, ويقولون: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] , {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] ويقولون: إن الإسلام هو محور الحياة وهو منهج الحياة, امتثالاً لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، أما دعاة الديمقراطية الغربية فهم يقولون: خير الهدي هدي الغرب! إذاً: يوجد افتراق عقائدي من المنبع ومن الأصل, نحن عقيدتنا أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, أما هم فيقولون: خير الهدي هدي الغرب, وهو النموذج الأمثل الذي ينبغي أن نتبعه، وهو المخرج، بخلاف شعارنا أن الإسلام هو منهج الحياة, والعبارة التي تشيع الآن وهي (الإسلام هو الحل) هي عبارة صحيحة، لكنها عبارة قاصرة, الإسلام فعلاً هو الحل وهو المخرج كما قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، لكن هي عبارة قاصرة؛ لأن الإسلام لا ينظر إليه على أنه مجرد حل, بل هو بالنسبة إلينا منهج متكامل للحياة، حتى لو كلفنا الغالي والنفيس, ولو كلفنا دماءنا وأموالنا وأرواحنا فإننا نبذل ذلك طواعية في سبيل إعداده, فعبارة (الإسلام هو الحل) قاصرة، لأن بعض الدول الكافرة قد تدرس النظام القضائي في الإسلام فترى أنه الحل الأمثل فعلاً لمشكلتها فتمتثله, لا طاعة لله ولرسوله، ولا تأخذ به من باب العبودية لله عز وجل، وإنما من باب إدراك المصالح التي تتحقق من تطبيق الشريعة الإسلامية, فهم قد يقولون: (الإسلام هو الحل) في جزئية معينة, أما نحن فلا ننكر عبارة (الإسلام هو الحل) إذا أطلقها مسلمون واعون, لكن نقول: هي عبارة قاصرة، وأشمل منها أن نقول: الإسلام هو منهج الحياة المتكامل، ونحن لا نلجأ إليه فقط ليحل مشاكلنا، ونحصد ما يترتب على امتثاله من بركات, وإنما نمتثله حتى ولو كان التزامنا به يكلفنا أرواحنا ودماءنا وأموالنا، فإننا نبذلها في سبيل الله تبارك وتعالى.
أما الديمقراطية فهي تعني حكم الشعب بالشعب وللشعب, فبدل ما يعبد وثن واحد: هبل أو اللات أو العزى, فإن الشعب كله يكون آلهة له حق التشريع والتحليل والتحريم, فالحكم في الديمقراطية للأغلبية أياً كانت نوعية هؤلاء الناس، أما في الإسلام فمفهوم الشورى بالمعنى الشرعي الواسع يخالف هذا، والذين يتخذون القرارات التي تحتاجها الأمة هم الصفوة من أهل الحل والعقد, وهم أولو الأمر كما سماهم الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] , فهم الذين يحددون القرارات المصيرية، ويقودون الأمة للخير، أما أن يكون الحق لكل الناس وآحاد الناس فهذا يتعارض تماماً مع شريعة الإسلام, نعم توجد أغلبية في الإسلام, ولكنها أغلبية الصفوة من العلماء والفقهاء والحكماء والقادة العسكريين والخبراء ونحوهم في كل مجالات الحياة, فالصفوة المنتقاة هم الذين تراعى أغلبيتهم، وليس رجل الشارع الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل الساعة في قوله: (ينطق الرويبضة, قيل: ومن الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمور العامة).
هذه إشارة عابرة في حكم الديمقراطية، فبيننا معشر المسلمين وبين الغرب اختلاف في الثقافة، فإن الغرب له موقف من الدين بناء على تجربته السابقة في القرون الوسطى المظلمة، حيث عانى فيها الغرب عناء شديداً جداً من تسلط الكنيسة وظلمها وقهرها للناس ومحاربتها للعلم وفساد العقيدة التي كانت تدعوهم إليها مع تصادمها مع الفطرة, فكان رد الفعل أن ثار الغربيون على الكنيسة وأقصوها عن الحياة ورفعوا الشعار المعروف: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس, أما عندنا فالإسلام دين العلم, ودين الفطرة, ودين التوحيد, ولا يوجد أي مسوغ لأن ننادي بفصل الدين عن الحياة؛ لأننا لم نعرف مثل هذا النوع من الحكم القهري الظالم المتسلط الذي يحارب العلم ويحارب التطور ونحو ذلك؛ ولذا فإن الغرب لما تخلى عن عقيدته الفاسدة تقدم, فتم الربط بأن التقدم لا يكون إلا بالتخلي عن الدين, وحصل نوع من التعميم الظالم لهذه القاعدة, والحقيقة أن هذه القاعدة تنطبق على كل الأديان ما عدا الدين الإسلامي, فكل الأمم غير أمة الإسلام إذا تمسكت بدينها تقهقرت, وإذا تخلت عن دينها تقدمت في علوم الدنيا، فمثلاً اليابان لما حصل منهم تمرد على عبادة الإمبراطور، وتخلوا عن عقيدتهم, وفصلوا دينهم عن دولتهم؛ تقدموا وترقوا, وكذلك الغرب لما تخلى عن العقيدة النصرانية المحرفة تقدم وتطور، أما المسلمون فإنهم يعاملون من الله سبحانه وتعالى معاملة خاصة, يقول الله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، فكلما تمسكت الأمة بدينها ترقت وقويت, وكلما تخلت عنه ذلت وضعفت كما قال عمر رضي الله تعالى عنه: إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، فهذا قانون؛ لأن تركنا لدين الله كفر بنعمة الله سبحانه وتعالى, فإن كفرنا بنعمة الله عز وجل ورفضنا ديننا ولم نحترم شريعتنا فإننا نعود إلى ما كنا عليه قبل الإسلام في مؤخرة الأمم وفي ذيل الأمم.(105/4)
نظرة التيارات الإسلامية في دخول البرلمانات
مشاركة الدعوة الإسلامية في البرلمانات أو الاندماج عموماً في العمل السياسي فيها أقوال كثيرة سنفصلها فيما بعد إن شاء الله تعالى, فمن قائل: إنها وسيلة دعوية فعالة يمكن تطويعها لخدمة الإسلام، ومن خلالها يمكن التصدي للمنافقين وأعداء الإسلام؛ لإزاحتهم عن الصدارة ليتولى الأمور من هم أحق بها وأهلها, ومن قائل في الطرف الآخر: إن هذا الاندماج في العمل السياسي أو في البرلمانات وتعليق الآمال على مثل هذه الأساليب هو نوع من السراب، ويؤيدون قولهم بأن التجربة طويلة حتى الآن, ومع ذلك ما أتت بفوائد كما يطمح إلى تحقيقها من خلال هذا النوع من النشاط.
ومعرفة الراجح من هذا الخلاف مهم جداً؛ لأن الخلاف في مسألة واحدة ويقول فيها فريق: إنها واجبة، والآخر يقول: إنها حرام، ولو كان الخلاف في شيء يقول فريق عنه: إنه مكروه، ويقول الفريق الآخر: إنه حرام, أو يقول بعضهم: إنه واجب، والآخر يقول: إنه مستحب؛ لكان الأمر أهون، أما خلاف في شيء واحد وفريق يقول: إنه واجب ومحتم، والآخر يقول: إنه حرام ويأثم من فعله؛ فهذا النوع من الخلاف مما تتنزه عنه الشريعة, لكن باختصار شديد نقول: إن الأقرب -والله تعالى أعلم- أن دخول البرلمان الأصل فيه الحظر، والدخول فيه نوع من الرخصة بشروط, والأصل الحظر للمحاذير الشرعية الكثيرة في الدخول في مثل هذه المجالس، لكن أقصى ما يمكن أن يقال: إن دخولها رخصة مشروطة بشروط كما سنبين ذلك إن شاء الله تبارك وتعالى.
والكلام في هذا الموضوع فيه شيء من التحفز والانفعال لكثير من الناس، وعندما نختلف ينبغي أن يكون خلافنا راقياً ومنضبطاً بآداب الشرع الشريف، فنحن لا نتناول القضية في ظل الانفعالات العاطفية والتحفز الذي قد يئول إلى تهارج وإلى تناكر، لكن نقول: إن قضية الترشيح لدخول البرلمانات لأجل التمكين للدعوة الإسلامية اختلف فيها العلماء المعاصرون، والتيار السلفي في الأعم الأغلب من حيث المبدأ يرفض الخوض فيها بإيجابية، وهذا الموقف في حد ذاته ناشئ عن اعتبارات سوف نذكرها إن شاء الله تعالى بالتفصيل فيما بعد, فالذي يتحصل باستقراء مواقف علماء السلفيين عموماً في هذه القضية هو رفض الدخول كدعوة، لكن ممكن السكوت عن مشاركة أفراد وآحاد من الناس، فنحن مع ترجيح القول بتجنب المشاركة في هذه البرلمانات لكننا لا نضلل المخالف, وفي مثل هذه القضية لا يضلل المخالف؛ لأن سلوكه وموقفه ناشئ عن اجتهاد فقهي ونظر مصلحي, وينبغي أن تتسع صدورنا لاستيعاب أدلته وفهم وجهة نظره, فالمخالف لا يدخل وهو يقول: إنني أعطي حق التشريع للشعب ليحل أو يحرم, لكنه يقول: أنا أدخل؛ لأن نص الدستور أن الدين الرسمي للدولة هو دين الإسلام، وبالتالي ينبغي أن نلزم هؤلاء الناس بالالتزام بهذه المادة وتطبيقها، ونطالبهم بأن يغيروا كل شيء إلى ما يوافق هذا النص، حتى لا يصبح مجرد نص صوري شكلي لا أثر له في الناحية الواقعية.
وللأدلة التي يذكرها من يحرمون الدخول في البرلمان أجوبة عنها للفريق الآخر سوف نذكرها إن شاء الله تعالى بالتفصيل فيما بعد، لكن من أهم الاعتبارات الموجودة عند أغلب السلفيين لرفض الدخول في مثل هذه الأنشطة, هو الجانب الاعتقادي، فأخطر ما في الموضوع هو أن الشعب يكون مصدر السلطات, فعند المسلمين أن الله سبحانه وتعالى هو الحاكم وهو مصدر السلطات، قال الله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف:40] , فهذا المجلس التشريعي قائم على الديمقراطية, وقائم على إعطاء حق التشريع لهؤلاء البشر.
أمر ثان وهو: أن السياسة تعتبر لعبة، وليست لعبة بمعنى تهريج, لكن لعبة بالدين، لها قواعد وقوانين تحكمها, فالسياسة تقوم على المصالح ولا تعرف المبادئ, تعرف القاعدة المكيافلية: الغاية تسوغ الوسيلة, وما أكثر الأساليب الحزبية والسياسية المعروفة, والواقع في عامة البلاد الإسلامية أن دخول هذه الحلبة والمشاركة في هذه اللعبة يستلزم دفع ضريبة, والسلفية بالذات إذا دفعت هذه الضريبة فسوف تفقد أهم مقوماتها وأهم أسباب وزنها وثقلها واستقامتها على الشرع الشريف, وهذه الضريبة ثمنها فادح, وسوف نوضح هذا إن شاء الله تعالى فيما بعد, ونوضح أن السلفيين لا يستطيعون أن يدفعوا هذه الضريبة.(105/5)
فشل التجارب الإسلامية الداخلة في البرلمانات
مما يثبطنا عن النظر بأمل إلى هذه الممارسات أن حصاد التجارب الإسلامية السابقة غير مشجع, فالإخوان المسلمون لهم أكثر من سبعين سنة وهم يحاولون الدخول في البرلمانات وإحداث التغيير من خلالها ولم يفلحوا، حتى حسن البنا رحمه الله رشح نفسه في البرلمان مرتين، ولكن أجبر على التراجع, فدخول الدعاة في البرلمانات محاولة للتغيير، ولا داعي أن نسميها مغامرة، لكن التجارب الكثيرة السابقة في العالم الإسلامي توضح النتيجة، فهناك تجربة الجزائر، ففرنسا التي تدعي أنها حامية حمى الحرية، كان رئيسها يقول: لو نجح الإسلاميون في الجزائر فسوف نحتل الجزائر! هكذا يقول بمنتهى الصراحة، فهم الذين أسسوا الديمقراطية، ولكنهم يرفعون شعار: لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية، مثل الشعار الذي كان أيام عبد الناصر: لا حرية لأعداء الحرية، فهم يعرفون التصادم والتعارض بين عقيدة الإسلام وبين العقيدة الديمقراطية, فالغرب يشجع الديمقراطية في بلاد المسلمين لأي اتجاه غير الاتجاه الإسلامي؛ لأن الديمقراطية لعبة أمريكية، والإصلاحات مفروضة من أمريكا، فهل النموذج الديمقراطي الذي جاء من أمريكا سيعيد لنا الخلافة الراشدة؟! انظروا النموذج الديمقراطي الذي في العراق, والنموذج الذي في تركيا, والنموذج الذي في الجزائر ونحو ذلك, فحصاد التجارب السابقة واللاحقة لا تشجع على أننا نعقد الآمال بأن يتم التغيير من خلال هذه المجالس, إنما يتم التغيير من خلال النائحة الثكلى, ومن خلال أبناء الدعوة الإسلامية الذين يجتهدون في هذه الدعوة, ويبذلون في سبيلها.(105/6)
تميز الدعوة السلفية في الفكر والمنهج
الدعوة السلفية بدأت في مصر منذ سنة (1975) أو (1976م)، والإخوان المسلمون كانوا في نفس الوقت موجودين، وكنا دائماً ندعو الإخوان أن يهتموا بالعلم والعقيدة ونحو ذلك, ورغم أن الإخوان كانوا موجودين قبلنا بخمسين سنة، ومع ذلك فإن الإخوان في الناحية العلمية ما زالوا في مكانهم، وللسلفيين بفضل الله سبحانه وتعالى مردود إيجابي للنشاط الدعوي العلني السلمي الذي سلكته الدعوة السلفية, وهو أثر واقعي واضح جداً في هذا الحصاد المبارك الذي انعكس في آثاره الميدانية على أمور كثيرة جداً من مجالات الحياة, مثل الاهتمام بطلب العلم, والالتزام بشريعة الإسلام, فهذا التغيير وهذه الأفكار الميدانية هي أثر مبارك لآثار هذه الدعوة، فالدعوة ليست عقيمة، ولا ينبغي أن ينظر إليها بنوع من الازدراء، بل بالعكس، فإن الدعوة السلمية العلنية التي نتبناها أثمرت ثماراً مباركة يلمسها القريب والبعيد حتى الإخوان المسلمين، فكان ينبغي لهم أن يستفيدوا من هذه التجربة, في يوم من الأيام ما كان لنا مسجد هنا غير مسجد عباد الرحمن، وهو الذي ولدت فيه الدعوة, وكنا نحارب ولا نجد مسجداً آخر, حتى مسجد عباد الرحمن هددنا فيه، وذهب بعضهم إلى الرجل الذي بنى المسجد وساوموه ليتخلص من الدعاة الذين فيه، ووعدوه أن يأتوه بدعاة حقيقيين، فصمد ولم يستجب لهم, فقد كنا في حالة غربة شديدة جداً، وكان عدد الإخوة قليلاً جداً نحو العشرة فقط في أول الأمر، إلى أن أذن الله سبحانه وتعالى بنشاط الدعوة فنمى الخير وتكاثر, وصار للدعوة أثر واقعي لا يستطيع أحد أن يجحده.
إذاً: الدعوة ليست نشاطاً عقيماً، بل الرصيد الحقيقي للدعوة هم أبناؤها المنتمون إليها، فكل واحد منهم يشكل لبنة, ويحمل عقيدة محددة، عندما تقول: أنا سلفي, فسلفي تساوي أنه يعتقد في الأسماء والصفات كذا, وفي القدر كذا, وموقفه في القضية الفلانية كذا, وموقفه من الفرق الضالة كذا إلى آخره، فتوجد قضايا محددة لا يمكن أن يختلف فيها سلفيان أبداً، التوحيد المنهج السلوك الاتباع وليس الابتداع رفض المظاهر الشركية ونحو ذلك, فالسلفية كلمة نوعية وراءها ما يدل على أن هذه اللبنات هي التي سوف يحترق قلبها على دعوة الإسلام, أما الاتجاه الثاني فليجربوا أكثر وأكثر، فنحن موقفنا مبني على أن الدعوة ليست عقيمة, بل هي دعوة مثمرة، وبركاتها -ولله الحمد- محسوسة وملموسة، فبالتالي رضينا بهذا الطريق، ونحن -والحمد لله- ماضون فيه، ونسأل الله أن يوفق الجميع.(105/7)
بعض مفاسد الدخول في البرلمانات
الأصل في الانضمام للبرلمانات هو المنع إلا لضرورة مثل الميتة، فهي في حالة الضرورة تكون رخصة بشروط, وأهم هذه الشروط الالتزام بالضوابط الإسلامية في دخول مثل هذه البرلمانات والتواجد فيها.
والحقيقة أن الإخوان المسلمين حيرونا وصدمونا صدمة شديدة في الفترات الأخيرة, حتى يقول الإنسان: هل عندهم تقية مثل تقية الشيعة؟ بعضهم يقول كلاماً خطيراً جداً يهدم الدعوة من الأساس، كما حصل من الدكتور عبد المنعم أبو فتوح والدكتور عصام العريان , ذكروا تصريحات مؤلمة جداً في الحقيقة, وهذا الخطاب السياسي فيه نوع من الازدواجية في الخطاب, فإن من ضمن الشروط الأساسية للدخول في حلبة اللعبة السياسية أنك تتخلى عن مبدئك, ولا ينفع عندنا قاعدة: الغاية تسوغ الوسيلة, لابد أن تكون الوسيلة مشروعة والغاية مشروعة، فالقاعدة المكيافيلية لا تليق بالمسلمين، وإن كانت هي الثمن للدخول في السياسة فلا نريدها؛ لأن الخسارة فادحة في هذه الحال, وذلك عندما نلبس على الناس العقيدة، ونخلط أمور الدين الأساسية التي ليست قابلة للمساومة، فبعض الدعاة مثلاً في ثقل الدكتور القرضاوي عفا الله عنه يقرر أن اليهود والنصارى مؤمنون، وأنهم قد يدخلون الجنة، أو يترحم على البابا, ويقول: البابا الله يرحمه! فمثل هذه الأخطاء الجسيمة هو متأول فيها تأويلاً فاسداً؛ ولذا لا نكفره بهذا، ولكن نقول: تأوله فيه ضلال مبين, ونسأل الله أن يهديه ويصلح حاله، وأن يوفقه للرجوع عن هذا الكلام, فالتجاوز عندهم وصل إلى تخطي الخطوط الحمراء التي لا يجوز أبداً تعديها ولا تجاوزها؛ لأن هذه قضية إسلام وكفر.
كنت أتمنى أن جماعة الإخوان المسلمين تصدر بياناً رسمياً في ثاني يوم مباشرة لتعقب على كلام أبو الفتوح، وتتبرأ من هذا الضلال المبين وهذا الانحراف الخطير عن الرسالة, وماذا بقي بعدما نقول: إننا نؤمن بحرية الإلحاد وحرية الزندقة, ولو أن رئيس الدولة كان نصرانياً أو زنديقاً أو ملحداً فمرحباً ولا توجد مشكلة, ولو أن الشعب عرضت عليه الشريعة الإسلامية فقال: لا، فنحترم اختيار الشعب إلى آخر الكلام الذي في غاية الضلال، الديمقراطية كمصطلح قد تلتبس على بعض الناس بالشورى, ولا يعرفون الفرق بينهما، لكن بعض التصريحات هي في غاية الخطورة وفي غاية الإيلام.
فهذه الأشياء تؤدي إلى ضعف الثقة في إمكانية أن يلتزم الذين يخوضون هذه المغامرة بالضوابط الشرعية التي هي شرط للدخول في البرلمان، وجماعة الإخوان لا أعتقد أنها تتبنى هذه التصريحات الخطيرة؛ لأن هذا يعتبر قضاء على عنصر التميز الأساسي, فتصير مثل أي حزب علماني, فينبغي لهم التبرؤ من هذه التصريحات على أعلى مستوى.(105/8)
الراجح في حكم المشاركة في البرلمانات
نحن نرجح القول بتجنب المشاركة في البرلمانات في الوضع الحالي، إلا أننا لا نضلل المخالف؛ لأن سلوكه ناشئ عن اجتهاد وعن نظر مصلحي، وبالتالي فموقفنا هو التجنب, والتجنب هذا ليس سلبياً؛ لأنه مبني على أدلة شرعية، ومبني على ربط المسألة بالعقيدة، وبإمكانية النفع الذي يأتي من جراء هذه المسالك، لكن مع ذلك لو ذهب إنسان ينتخب الإخوان المسلمين فإننا لا نزجره؛ احتراماً للخلاف الفقهي في هذه المسألة، لاسيما إذا كان المرشح أمامه معادياً للإسلام أو من هؤلاء القوم الذين يستعينون بأمريكا التي تسن لنا السكين, وتسنه لسوريا أيضاً، وقد فرحت بموضوع الحريري للضغط على سوريا، والعراق فيه ما فيه، وأهل السنة الآن يعانون في العراق أشد أنواع الاضطهاد والقهر, فهذه الورقة مثل مسمار جحا عندنا في مصر, وقد عقد مؤتمر في أمريكا يقولون: إن في مصر اضطهاداً للأقباط، وأن كذا ألف قبطي قتلوا خلال ثلاثين سنة, وأننا نعمل عملية إبادة عرقية للأقباط، ونمثل بجثثهم بعدما نقتلها، وأن المسلمين يخطفون بناتهم، ويقهرونهن على الإسلام أو على الزواج إلى آخر هذه الأكاذيب، مع أن أسعد أقلية في العالم هي الأقلية القبطية, وهذه أكاذيب غير صحيحة أساساً؛ لأن الإسلام هو الذي يضبطنا, فأصبحت هذه الورقة تضغط بها أمريكا على مصر وفي نفس الوقت تسن لنا السكين, فنرجو أن الإخوان عندما يدخلون في هذه المجالس أن يتصدوا في يوم من الأيام للمطامع المتوقعة المطالب بها فيما بعد, فقد يكون من وراء هذه المجالس خير، وهذا سوف يسرنا ولا يزعجنا, فدعهم يحاولون الإصلاح من هذه المجالس، ونحن لا نضلل المخالف لنا في هذه المسألة؛ لأنه يوجد فيها خلاف فقهي بين العلماء، فالشيخ أحمد شاكر ممن أيدوا دخول البرلمانات, وكذا الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين وكذا الشيخ الألباني على مضض.
على أي الأحوال نقول: هل سيحصل تغيير في الفترات الآتية؟ العملية ما زالت في المطبخ، والوجبة سنتناولها لمدة خمس سنوات, وهذه المدة -خمس سنوات- كافية لتقويم هذه التجربة والحكم عليها، ونرجو أن يكون تطور المسألة في صالح الإسلام وفي صالح المسلمين.
والذي نطلبه من إخواننا الإخوان المسلمين أن يطبقوا علينا القاعدة التي يحترمونها، وهي: ليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، فنحن مختلفون معكم في هذه المسألة, فلماذا التشنج والتهارج الذي يحصل بين الشباب أحياناً بسبب الاختلاف في هذه المسألة؟ هذه القاعدة أنتم طبقتموها مع الشيعة، وطبقتموها مع النصارى, وطبقتموها مع العلمانيين, وطبقتموها مع حزب الوفد, وطبقتموها مع كل الناس, فنحن أولى الناس بها، فليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
على أي الأحوال ينبغي أن تكون العلاقة بين جماعات الدعوة هي علاقة التكامل، ووظائف الدعوة الإسلامية كانت تقوم بها إمبراطورية عظيمة، لها وظائف وولايات كثيرة جداً من الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وكفالة اليتامى، وجمع الزكاة وتوزيعها، والجهاد والدفاع عن البلاد الإسلامية، فهذه الوظائف العظمى كانت تقوم بها دولة الخلافة، ثم لم يبق لهذا الكيان السياسي وجود, والجماعات الإسلامية الآن تحاول كل منها أن تقف على ثغرة, وهذه الواجبات الشرعية لا توجد أي جماعة عندها إمكانات لتقوم بكل شيء.(105/9)
فضل المنهج السلفي وآثاره على الأمة
من أعظم وظائف الدولة الإسلامية وظيفة حراسة الدين, ثم سياسة الدنيا بالدين, وحراسة الدين تكون بأساليب كثيرة جداً, والتيار الوحيد الذي يستحق بكل جدارة أن يؤتمن على حراسة الدين وحراسة الشريعة هو التيار السلفي, ولا أقول ذلك تعصباً، ولكن إقراراً بالوضع القائم، وليس ذلك بطلبة العلم من أمثالنا، ولكن بعلمائنا الجبال الكبار الذين ما زال تراثهم يهدينا ويرشدنا وينفعنا, من علمائنا الأحياء أو الأموات رحمهم الله تعالى, فالتيار السلفي هو الوحيد المؤهل لأن يقوم بوظيفة حراسة الدين، وصيانة الشريعة من التحريف, وتنقيتها من البدع والشركيات، وحماية وبعث التراث الإسلامي, والدفاع عن العقيدة السلفية, وتصحيح عقائد الناس, واتباع الدليل في القضايا الفقهية، ونبذ التقليد والتعصب المذهبي, ونشر العلم الشرعي, وإقامة الحجة على خلق الله, وصيانة المفاهيم الإسلامية من أي تحريف تحت ضغط العولمة أو تحت ضغط الأمر الواقع، ولا يوجد أي تيار من التيارات الإسلامية على مستوى العالم مؤهل لأن يقوم بهذه المهمة سوى التيار السلفي، فالوظيفة الأساسية للدعوة السلفية هي حراسة الدين, وصيانة المفاهيم من أن تتزلزل في عصر زلزلة الثوابت, نحن الآن في فتن يصبح فيها الرجل مؤمناً ويمسي كافراً, زمن تضطرب فيه المفاهيم, والأمور التي كانت غير قابلة للنقاش أصبحت قابلة للنقاش بسبب كثرة الإلحاح عليها وتكرارها من الفضائيات من جهة، ومن التبشير النصراني من جهة، ومن الشيعة من جهة، ومن الصوفية من جهة، ومن العلمانيين من جهة، ومن أعداء الإسلام في الغرب من جهة، فالسهام تتكالب علينا من كل جانب، فأصبحت مهمة صيانة المفاهيم من التغيير من أعظم المهمات؛ ليبقى الإسلام محفوظاً, وهو محفوظ شئنا أم أبينا؛ لأن الله تكفل بحفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، لكن حفظه له أسباب، ومنها الاجتهاد في حراسة الدين ومفاهيمه من أي تغير.
ولا يليق بالدعوة السلفية في الأوضاع الحالية أن تلبس ثوب الدخول في الاتجاه البرلماني؛ لأن هذا الدخول لا بد فيه من ضريبة الدفع, فلا بد أن تقول في قضايا المرأة كذا, وفي القضايا الطائفية تقول كذا, وقضايا الولاء والبراء تلغيها تماماً من القاموس, وقضية التوحيد والشرك والبدع، فلابد من عملية تقليم أظافر حتى يسمح لك بالدخول في حلبة اللعبة السياسية، فاللعبة السياسية لها ثمن, والدعوة السلفية بالذات لا يصلح أن تدفع هذا الثمن, ويوم أن يكون هناك ضمانات أنها لن تدفع هذا الثمن فهذه قضية أخرى, لكن الواقع الأليم يشهد بالتنازلات التي تتم من رموز كبيرة جداً على مستوى العالم, وللأسف الشديد نسمع تصريحات تدع الحليم حيراناً من شدة شذوذها عن كلام أهل العلم، بل عن مسائل الإجماع, فلا يستطيع أن يتأهل لهذه الوظيفة -وهي حراسة الدين وصيانته من البدع ومن الشركيات ومن الانحرافات ليصل للأجيال المقبلة نقياً من هذه الانحرافات- سوى التيار السلفي على مستوى العالم كله.
التيار السلفي نظرته لقضية الحكم نظرة معتدلة, التيار السلفي يرى أن الواجب في كل مرحلة هو ما يستطاع في تلك المرحلة, ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها, ونظرية أن الحكم غاية في حد ذاتها هذه نظرية غير دقيقة, فبعض الكتاب مثل سيد قطب رحمه الله أو المودودي رحمه الله وغيرهما كانوا يتكلمون دائماًَ على موضوع الحكم الإسلامي، وكأن الحكم الإسلامي نظارة لابسها على عينيه, ومن خلالها يفسر كل القرآن الكريم كما في الظلال, فيجعل قضية الحكم هي القضية المحورية حتى قال المودودي: إن الغاية من بعثة الأنبياء هي إقامة الحكومة الإسلامية.
بل تجاوز المودودي رحمه الله تعالى إلى قوله: إن من الأنبياء من نجح في إقامة الحكومة الإسلامية ومنهم من كذا! وكبرت كلمة، فالأنبياء لا يوصفون بالفشل، فالواجب أن تبلغ الحق، فمن الأنبياء من يأتي يوم القيامة ومعه واحد فقط، ومن الأنبياء من يأتي ومعه اثنان استجابا له، ومنهم من يأتي وليس معه أحد، فالمسألة أنك تبلغ الحق وتؤدي ما عليك بغض النظر عن النتيجة، فقضية الحاكمية هي جزء من قضية التوحيد, وليست كل القضية, الإمامة أو الحكم هي القضية الجوهرية عند الشيعة أساساً, فالإمامة عند الشيعة صلب الدين، بل يوجبونها على الله، ويعتقدون أنه يجب على الله ألا يترك الأمة إلا بإمام، وهذا تأثر بالمنهج الاعتزالي الضال, أما نحن فنقول: وجوبه على الأمة وليس على الله سبحانه وتعالى كما يدعي المعتزلة والإمامية، فنظرتنا للحكم أشمل وأوسع, ففي كتب أصول الفقه في بحث الحكم يذكرون الحكم والحاكم والمحكوم فيه والمحكوم عليه إلى آخر هذه الأقسام, فالحكم في الشرع الإسلامي يشمل الحكم بما أنزل الله على نطاق الأفراد وعلى نطاق الجماعات, فيجب الالتزام بشرع الله سبحانه وتعالى ما أمكن، فإذا لم نعش تحت ظل من يحكمنا بالشرع بصورة كاملة ففي هذا الحال نحن ملزمون بأن نمتثل قوله وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فأت بما استطعت مما كلفك الله تبارك وتعالى، فإذا فشلنا في إقامة الحكم أو صار ذلك عسيراً علينا فعلينا أن نقيم حكم الله في أنفسنا، وقد ترجم البخاري في صحيحه باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟ فقد تغيب الجماعة بمعناها السياسي، لكن لا يمكن أن تغيب بمعناها العلمي؛ وذلك لأن الرسول عليه السلام ضمن لنا بقاءها فقال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم أو من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فالجماعة بمعنى إقامة الحجة على الناس وحفظ الدين والكيان العلمي الذي يوضح منهج الحق منهج أهل السنة والجماعة؛ لا تغيب أبداً, ولا يمكن أن تزول عن الأرض بالكلية, وقد تتخلف الجماعة بالمفهوم السياسي كما هو وضعنا الآن, لكن لا تتخلف بالمعنى العلمي بسبب التراث السلفي, وبسبب جهود علماء السلفيين في خلال القرون كلها من بداية الصدر الأول إلى يومنا هذا, فهم الذين يحفظون ويحرسون هذا الدين من التحريف، ويحفظون حجة الله قائمة على خلقه, فلا يعني أننا نعجز عن إقامة الحكم أن نترك العمل، فالوظائف الأساسية موجودة، والهدف ليس هو إقامة الحكم فقط, فهذه جزئية من الجزئيات, لكن الهدف هو تعبيد الناس لربهم, فالله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فالهدف هو تعبيد الناس لربهم ما أمكن, فأنت تبذل كل ما تستطيع في الدعوة فعلي أن أسعى وليس علي إدراك النجاح.(105/10)
اللعبة السياسية تتصادم مع المنهج السلفي
اللعبة السياسية فيها تحريف للمفاهيم المجمع عليها، حتى التي هي حد فاصل بين الإيمان والكفر، وبين السنة والبدعة، فهذه الأمور غير قابلة للمساومة أبداً حتى تبقى حجة الله قائمة على الخلق نقية ناصعة، ولا يحصل فيها هذا الامتزاج الذي يكون ثمناً وضريبة تدفع من أجل الدخول في اللعبة السياسية؛ ولهذا فإن السلفيين أشد الناس نفوراً من اللعبة السياسية؛ لأن وظيفتهم الأساسية حراسة الدين، وهم أحق الناس بالقيام بهذه الوظيفة، بل هم الوحيدون المؤهلون لأدائها على خير وجه.
والخطاب السياسي في اللعبة السياسية يحتاج دائماً إلى التقية؛ لأنه يريد أن يصل إلى هدف، والغاية تسوغ الوسيلة, لكن لابد أن تكون الوسيلة مشروعة والغاية مشروعة، أما هذه القاعدة المكيافلية فلا تليق بنا, فكيف أجعل الهدف هو المقعد في المجلس، والوسيلة أن أتنازل عن عقيدتي؟ كيف نرضى بالشر ونقول: يمكن أن يكون الحاكم زنديقاً أو ملحداً أو نصرانياً؟ كيف نبيح حرية الإلحاد وحرية الرأي وحرية الفكر المخالف للشرع؟ كيف لا ننكر الكتب الإلحادية؟ لماذا نضحي بعقيدتنا ومنهجنا ومحور حياتنا في سبيل مقعد؟! إذاً: لا داعي للدخول في البرلمان في هذه الحالة؛ لأن شروط الرخصة لم تتوافر، والتنازل يتجاوز الخطوط الحمراء، وبالتالي فهذا خلط وتمييع للدين.
طه حسين أدخل التعليم المختلط في الجامعة بمكيدة، وأدخل الفتيات في الجامعة سراً، ثم أصبح أمراً واقعاً، فحصل عدوان على الأعراض من جراء هذا الاختلاط, فقال له بعض الصحفيين: أتنظر إلى شؤم الاختلاط الذي أنت دبرت مكيدته؟ فقد حصل كذا وكذا وكذا! فرد طه حسين وقال: لابد من ضحايا! فنقول: تضحي بالأعراض من أجل ماذا؟ فالعرض أغلى شيء فكيف تضحي به؟ ومن أجل ماذا نضحي به؟ فلا يصح أن نضحي بعقيدتنا في سبيل مقعد في مجلس الشعب, فالشرط الأساسي للرخصة عدم التنازل, وعدم استخدام التقية؛ لأن التقية في قضايا العقيدة والقضايا الجوهرية يترتب عليها تلبيس الحق على جماهير الناس، فتلتبس عليهم الأمور, وتختلط عليهم مفاهيم أساسية تمس العقيدة، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]، ثم انظر ماذا بعدها: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49].
فالتنازل عن أي قضية من حقائق الدين أو تلبيسها بما يخالف مفاهيم الدين جريمة كبرى وانحراف خطير يمس بأصل الدين, نعم قد يحصل تنازل بصورة عملية في بعض الظروف الضاغطة على المسلمين, لكن في قضايا عملية وليس في قضايا علمية أو اعتقادية، قد يضطر المسلمون مثلاً أن يبذلوا الأموال في سبيل فكاك أسرى المسلمين, وهذه الأموال سينتفع بها الكفار ويتقوون بها، لكن نحن نضطر أن ندفعها لهم في سبيل مصلحة أهم، وهي استنقاذ المسلمين من أيديهم, والرسول عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية رد بعض المسلمين إلى الكفار وقال: (إن الله سوف يجعل لهم فرجاً ومخرجاً)، فهذا تنازل عملي في سبيل تحقيق مصالح وبركات عظيمة جداً كانت من جراء صلح الحديبية، وليس هذا تنازلاً اعتقادياً وحاشاه عليه الصلاة والسلام، فالتنازل العملي في المواقف العملية هو من باب ترجيح المصالح, وليس فيه تزييف للشريعة, وليس فيه تغيير للأحكام؛ لأن النصرة في الدين أصل قائم كما قال الله: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال:72]، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء:75]، فقضية النصرة قائمة, لكن في الآية الأولى قال الله: ((وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ))، فالتنازل في القضايا العملية يرجع إلى قاعدة ترجيح المصالح أو ارتكاب أخف الضررين لتفويت الضرر الأعظم, ومثاله أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعاهد تميماً يوم الخندق على أن يتركوا قتال المسلمين ويرجعوا ولهم ثلث ثمار المدينة, فأراد أن يبذل لهم ثلث ثمار المدينة مقابل أن ينفضوا عن الأحزاب, فقال الأنصار: يا رسول الله! أهذا شيء أمرك الله به فنطيع أم شيء تصنعه لنا؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأحببت أن أنفس عنكم إلى حين) يعني: هو شيء أصنعه لكم لأخفف عنكم, فقالوا: والله! يا رسول الله لا نعطيهم إلا السيف, فهنا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتنازل في قضية عملية، وليس في قضية علمية أو قضية تمس الاعتقاد.(105/11)
سراب الديمقراطية
خلاصة ما نستطيع أن نقوله فيما يتعلق بهذه القضية: نحن لا نعقد كثيراً من الأمل -في ضوء الأدلة الشرعية وفي ضوء تجارب الواقع في مصر أو في خارجها- على أن الديمقراطية تنفع الدعوة، بل هي سراب, والرصيد الحقيقي للدعوة هو أبناؤها الذين يعيشون لها ويعيشون بها ويحيون من أجلها, هذا هو الرصيد الحقيقي للدعوة الذي تنعقد عليهم الآمال, أما أن المخالفين بمنتهى البساطة سوف يفسحون لنا الطريق ويقولون: تعالوا اقعدوا مكاننا، واحكموا بالشرع الشريف, فهذا نوع من السراب، وبعض الباحثين ألف كتاباً أسماه: سراب الديمقراطية، فهي سراب في الحقيقة، لكن مع ذلك نحن نقر بأن هناك اختلافاًً بين العلماء المعاصرين مناطه مدى ما يتحقق من مصالح أو يدفع من مفاسد بهذه المشاركة، لكن معظم علماء السلفيين يرفضون الدخول في هذه الأشياء، ويتجنبونها بناء على الاعتبارات التي ذكرنا، وأهمها الخطر الاعتقادي، ثم الدخول في حلبة السياسة التي لها ضريبة قد تدفعها بعض الاتجاهات، لكن الاتجاه السلفي بالذات لا يستطيع أن يترخص في دفع هذه الضريبة, وإذا زالت هذه الضريبة فقد يختلف الكلام, لكن مع وجود هذه الضريبة فلا تقبل ذلك الدعوة السلفية، وليس من حقها؛ لأنها مؤتمنة على الحفاظ على جوهر الدين نقياً، وهذا في حد ذاته من المكاسب التي لا تقدر بثمن، ولا توازيها على الإطلاق المكاسب المتوهمة من جراء هذا الأمر، فنحن نؤكد أننا على هذا الموقف, إلا أننا لا نضلل المخالف؛ مراعاة للخلاف الفقهي فيها، واعتباراً بأن سلوكه ناشئ عن اجتهاد وعن نظر مصلحي, وفي نفس الوقت نقول: لعل وعسى، ولن نقول كما قال الشاعر: يقلقني الوجد فآتيكم والقلب مملوء من اليأس لكن قد يكون هناك بصيص أمل، ونرجو لهم إذا نجحوا أن يحدثوا تغييراً، وإن كانوا مخطئين في ذلك فنسأل الله أن يعفو عن خطئهم، والعملية الآن تتم داخل المطبخ، والمطبخ مقفول بقوة، فننتظر خروج الوجبة التي سنأكلها لمدة خمس سنوات.
سوف تدري إذا انجلى الغبار أفرس تحت رجلك أم حمار فإذا انجلى غبار هذه المباراة, فعندنا خمس سنوات تكفينا لنقوم التجربة، ونرى العاقبة، فنرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفق المسلمين إلى ما يحب ويرضاه، وأن يعز هذا الدين، وأن يمكن له في الأرض، وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك, أشهد أن لا إله إلا أنت, أستغفرك وأتوب إليك.(105/12)
سلسلة حول دخول البرلمان [2] نظرية السيادة
السيادة المطلقة في الحكم والتشريع، والأمر والنهي والإباحة هي لله سبحانه وتعالى، فهو المتفرد بصفات الألوهية، وهذا على خلاف ما هي عليه اليوم الحكومات العلمانية، والبرلمانات الديمقراطية، فقد جعلت السيادة للشعب، فله أن يختار لنفسه نظاماً أو قانوناً وإن كان معارضاً لشرع الله، وهدي رسوله.(106/1)
زيف الديمقراطية الموجودة عند الغرب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فنشرع إن شاء الله تعالى في دراسة قضايا الساعة بنوع من التفصيل والتنظير، بحيث أنها تبقى ملفات تصلح مع الزمن خاصة أننا في هذه الأيام نخوض نوعاً من التجارب الجديدة ينبغي أن تضاف إلى رصيد الدعوة وخبرتها فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الواقع الذي نعيشه، ومع احترامنا لوجهة نظر إخواننا: الإخوان المسلمين، ونعذرهم باعتبار أن الخلاف في هذه المسألة معروف، حتى إن بعض العلماء السلفيين لهم اجتهاد في إباحة الحل البرلماني، لكن دعونا نخوض هذه التجربة ونرصدها، ونستفيد منها ما ينبغي أن يكون لنا رصيداً، ونعتقد أن أعظم وأهم فائدة هو ما أشرت إليه مسبقاً أنه لن يحمل هم هذه الدعوة، ولن يجري تمكينها إلا على يد النائحة الثكلى، وهي الأم التي فقدت ولدها، فتخيل كيف تبكي عليه! وكيف تحزن عليه! فلا يمكن أن يحمل هم الدعوة وهم الدين إلا أهله الذين رضوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، والذين ارتضوا هذا المنهج وعاشوا من أجله، وماتوا في سبيله، فهؤلاء هم لبنات الدعوة وأصحابها.
أما المشجعون والمتحمسون عاطفياً للإسلام فهم ليسوا الثقل الحقيقي بالنسبة للدعوة، الثقل الحقيقي هو فيمن يتبنونها، ويقتنعون بها، ويضحون من أجلها، أما المصفقون والمتعاطفون فساعة الجد لا يبقى منهم معنا أحد، وإنما نريد النائحة الثكلى، وليس النائحة المستأجرة.
ومع ذلك أنا أعتقد أن التجربة سوف تزيد وعينا لزيف الدعوة الديمقراطية، والديمقراطية لا تزيف عندنا فقط، الديمقراطية في أي نظام هي تزيف حتى في أمريكا، فالنظام الرأسمالي له طرق أخرى يكون فيها التزييف، وعندنا في هذا الوقت اختراع طرق عجيبة للتزييف مثل أطفال الأنابيب، وأطفال المفاتيح، وعندنا في هذا الوقت نظام جديد يطلق عليه نواب الظرف وهو أنه يوزع على الناخبين ظروفاً بسعر أصواتهم التي يعطونها له، يعني: بعض المرشحين يحكي لي موضوع نواب الظرف هذا، فقلت له: من الممكن أن يأخذ منه الفلوس ويدخل ينتخب شخصاً غيره، يعني: يأخذ خيري وينتخب غيري، قال لي: هو يعطيه قبل دخول اللجنة نصف المبلغ ويعطيه موبايل بكاميرا، ويدخل في الداخل ينتخب ويصور بالكاميرا، ويطلع خارج يأخذ بقية المبلغ، وهذه في الحقيقة أشياء عجيبة جداً، والتجارب سوف تزيد رصيدنا من أننا نقدر فعلاً أن نحكم على هذا الاتجاه، هل هو فعلاً فيه خيارات بغض النظر عن اعتقادنا نحن أنه يخالف الشرع من الأساس، لكن نقول: حتى إخواننا الذين عندهم أمل وطموح أن يحدث التغيير لحال الأمة بهذه الطريقة أعتقد سيستفيدون كثيراً، ونحن أيضاً سنستفيد معهم من هذه التجربة.
الديمقراطية تزيف في كل العالم لماذا؟ لأنها نظام بشري، والنظام البشري لابد أن يخضع للأهواء، يعني: أمريكا التي تدعي أنها صاحبة رسالة لتجمل وجهها القبيح وتقول: حقوق الإنسان والبيئة، والديمقراطية والإصلاح.
وأمريكا نفسها إذا نحن قعدنا تضربنا وتأمرنا بأن نقف، وعندما نقف تضربنا وتأمرنا بأن نقعد، فهي لا تريد لنا استقراراً؛ لأن عدم الاستقرار هو الذي يسوغ تدخلها كما حصل في العراق، وكما حصل من يلتسن لما ضرب مبنى البرلمان المنتخب في روسيا بالأسلحة والنار، وقد حوصر فيه النواب، فهذا ذبح للديمقراطية حقهم، لكن الغرب كله سكت وهلل؛ لأنهم كانوا يريدون انهيار المعارضة ضد يلتسن لأجل الوضع الذي كان معروفاً في روسيا.
فنحن متعودون على أن الشرق بالأولى يتعامل مع موضوع الديمقراطية نفس تعامل المشرك الجاهلي مع صنم العجوة، الإله الذي كان يعبده، وفي ساعة الاحتياج والجوع يأكل الصنم رغم أنه إلهه، والأمر نفسه يحدث عند الغرب فتراهم يمجدون الديمقراطية والإصلاح وكذا وكذا، لكن إذا جاعوا يلتهمون هذا الإله ويأكلونه في بطونهم، فهذا نموذج متكرر وليس حالة مفاجئة، فهذه الأساليب موجودة بصورة أو بأخرى تتفاوت بين مجتمع إلى آخر، لكن السبب أنه نابع من الأهواء البشرية، وهذه إحدى المزايا العظمى للشريعة الإسلامية أنها منهج رباني معصوم من الأهواء.
ولذلك لو تأملنا القرآن الكريم سنجد دائماً الهوى أنه يكون في مقابلة الوحي، فهما عدوان لا يلتقيان وضدان لا يجتمعان أبداً، قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26].
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] وقال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} [القصص:50] يعني: للوحي {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50] ولو استقرأت القرآن فستجد دليلاً للوحي في مقابلة الهوى، فالتحيز يكون نتيجة للهوى، ونتيجة العنصرية في اللون أو الجنس أو نحو ذلك، وسوف تجد هذا في هذه النظم الوضعية الأرضية، أما النظم المنزهة عن الهوى فهو النظام الإلهي الذي يتجسد في القرآن الكريم.
فنموذج صنم العجوة موجود، وهذه هي الديمقراطية؛ لأنها نابعة من نظام بشري غير معصوم، فبالتالي يحصل اتباع الهوى، وهذا ما أشار إليه الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم في سورة الحديد حينما نعى على النصارى اتباعهم وإحداثهم الرهبانية، فقال عز وجل: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] فقوله تعالى: ((وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا)) هذا إثبات أنها بدعة في النصرانية، ولم يشرعها الله سبحانه وتعالى، فتحريم الطيبات وتحريم الحلال هذا ابتداع من البشر.
قوله: ((مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ)) أي: ما شرعها الله سبحانه وتعالى ولا أمرهم بها.
قوله: ((إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ)) هذا استثناء منقطع، بمعنى: ولكن كتبنا عليهم أن يبتغوا رضوان الله عن طريق العبادات المشروعة لا المبتدعة، ومع أنهم ابتدعوها وألزموا بها أنفسهم إلا أنهم لم يرعوها حق رعايتها، فهنا الذم يكون أشد وأبلغ؛ لأنك تبتدع مبدأ ثم أنت لا تحترمه ولا تلتزمه فهذا أجدر بالذم، ونفس الشيء في الديمقراطية التي ابتدعوها ما كتبناها عليهم، وما رعوها حق رعايتها، وما أسهل ما تلتهم بكل ما أمكن من الأساليب.
ففي تركيا مثلاً توجد انتخابات وحرية وكذا وكذا، وليس عندهم تزوير، لكن عند ساعة الجد وعند أي اختراق للون الإسلامي أو الطيف الباهت فإنه يحسم الأمر ويحل البرلمان.
وفي الجزائر كانت تجربة صارخة، فمن الذي صنع الديمقراطية في الأصل؟ هم الغرب.
وفي الكويت في يوم من الأيام حُلّ البرلمان بجرة قلم.
وأنا أعتقد أن برلماننا العظيم سوف يكون برلماناً منحلاً على غرار الجماعة التي يصفونها بأنها منحلة، بمعنى: أنها حزب منحل، وإن كانت الكلمة لا تخلو من نوع من اللمز، لكن يبدو هكذا أنه سوف يبقى البرلمان كله منحلاً، والله المستعان!(106/2)
نظرية السيادة
ناقشنا هذا الموضوع منذ زمن بعيد، وكانت المحاضرة بعنوان: (السيادة للقرآن لا للبرلمان) فالسيادة هي الوجه القانوني للعملة ذات الوجهين، أما الوجه الآخر فهو الديمقراطية، وهي الوجه السياسي لهذه العملة، وقد كنت لخصت في تلك المحاضرة بحثاً قيماً للدكتور: صلاح الصاوي يناقش نظرية السيادة، وهذا يعتبر بحثاً تأصيلياً جيداً؛ لأنه يجمع بين توضيح موقف القانون، وبالتالي يتكلم عن القضية بأسانيدها المعترف بها عند أصحابها، ثم يربطها بالشرع في مقارنة جيدة بين النظامين.(106/3)
أصل نظرية السيادة ونشأتها
يذكر هنا في بحثه أن نظرية السيادة أصلاً هي نظرية فرنسية الأصل، نشأت في نهاية العصور الوسطى، ونشأت دفاعاً عن سلطة الملوك، لأنه كانت هناك سلطات أخرى تنازع سلطة الملوك، وبالتالي أراد الملوك بنظرية السيادة أن يتميزوا عن السلطات الأخرى التي كانت تنازعها سلطة أمراء الإقطاع في الداخل، وسلطة الإمبراطور أو البابا في الخارج، وكان النزاع على أشده بين الملك من ناحية، وبين البابا من ناحية أخرى، أو بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، فهذا أدى إلى نشأة هذه النظرية، وكل طرف أراد أن يوجد النظريات التي تسوغ أو تدعم موقفه في مواجهة خصمه.
كان هناك نظرية السيادة وكان فيه نظرية (السيفين المتقاطعين)، والمراد بها السلطتان، يعني: تجعل لكل من السلطة الدينية والسلطة الزمنية مجالاً مستقلاً لا تتعداه، هذه النظرية كانت غامضة لم تستطع أن تحدد بوضوح اختصاص كل طرف من هذين الطرفين بجانب الطموح والطمع من كل سلطة، إلا أنها تعتدي على سلطة الآخر وتخضعه، من أجل ذلك سعى كل فريق -السلطة الزمنية الممثلة في الملوك، والسلطة الدينية الممثلة في الباباوات- في تدعيم مطامعه، وإخضاع الطرف الآخر.
فأصل نظرية السيادة هي نظرية قذف بها الباباوات في وجه خصومهم من الملوك أو أمراء الإقطاع في الداخل، والقانون الفيزيائي يقول: لكل فعل رد فعل يساويه في المقدار ويضاده في الاتجاه، فلما قذفت الباباوية بنظرية السيادة في وجه خصومها كان رد فعل بعض الملوك الطامحين أن استخدموا نفس السلاح، وردوه إلى نحور الباباوات مطالبين بإخضاع الكنيسة للسلطة الزمنية، ومن ثم تلقف القانونيون الفرنسيون هذه النظرية، وصاغوا منها نظرية السيادة دفاعاً عن سلطة الملوك.
إذاً الذي طالب بهذه النظرية هم الباباوات فجوبهوا من الملوك بنظرية السيادة التي صاغها القانونيون من أجل أن يخضعوا الكنيسة لسلطة الملوك لإبطال مساعي الباباوات وسلطة الكنيسة.(106/4)
تعريف السيادة عند القانونيين
القانونيون لهم في تعريف السيادة اتجاهان: الاتجاه الأول: يرى أن السيادة خاصية من خصائص السلطة، مفادها عدم وجود سلطة أخرى أعلى منها أو مساوية لها في الداخل، وعدم الخضوع لسلطة دولة أخرى في الخارج، وهذا يعكس مرحلة من مراحل تطور نظرية السيادة وهي المرحلة الأولى، حيث لم تكن تفهم على أنها سلطة سياسية، لكنها خاصية لسلطة سياسية معينة، وهي سلطة الملك.
الاتجاه الثاني: يرى أن السيادة هي السلطة العليا الآمرة للدولة، والتي لا تعرف فيما تنظمه من علاقات سلطة أعلى منها أو مساوية لها، أو هي الحق في إصدار الأوامر إلى كل الأفراد المقيمين على إقليم الدولة، أو هي سلطة عليا على المواطنين والرعايا لا يحدها قانون.
وهذا تطور ثان للتعريف الثاني يمثل مرحلة أخرى من مراحل تطور نظرية السيادة عندما تم الفصل بين الملك والسيادة، فأصبحت السيادة عنصراً من عناصر تكوين الدولة، لم تعد -كما كانت في الماضي- مجرد خاصية من خصائص السلطة التي هي سلطة الملك، بل تجاوزت ذلك إلى اعتبارها مرادفة لسلطة الدولة، مما أعطاها المضمون الإيجابي لهذه السلطة، وأكد هذا المضمون سلطة عمل القوانين.(106/5)
مفهوم خصائص السيادة
السيادة: هي عبارة عن إرادة عليا تتميز بخصائص لا توجد في غيرها من الإرادات، وجماع هذه الخصائص أنها الإرادة التي تحدد نفسها بنفسها، فصاحب السيادة لا يمكن أن تلزمه إرادة أجنبية عنه بالتصرف على نحو معين، وهو لا يلتزم بالتصرف على نحو معين إلا إذا أراد هو ذلك كما أشار إلى ذلك دوبي في كتابه (السيادة والحرية) وهذا يعني أن سلطة صاحب السيادة مطلقة؛ لأنها لو لم تكن كذلك سوف تعتمد على إرادة أخرى تقوم بتحديدها، مما يتعارض مع ما تقرر لها من أنها سلطة أصيلة، بمعنى: أنها لم تتلق هذه الخاصية من إرادة سابقة عليها، أو من إرادة أعلى منها.
إذاً: نستطيع أن نجمل خصائص مفهوم السيادة فيما يلي: أولاً: الإطلاق، يعني: أنها سلطة مطلقة.
ثانياً: السمو.
ثالثاً: الوحدانية والتفرد.
رابعاً: الأصالة.
خامساً: عدم القابلية للتملك.
سادساً: العصمة من الخطأ.
فأول خصائص السيادة: الإطلاق، فصاحب السيادة لا يفرض عليه قانون، بل القانون هو تعبير عن إرادته، وليس لإرادة أجنبية عنه أن تلزمه بالتصرف على نحو معين؛ لأنه لا توجد إرادة تساميه أو تساويه، إرادته آمرة دائماً، وليس لأحد قبله حقوق، وعلاقته بغيره علاقة السيد بالرعية، أو المتبوع بالتابع، وعلى الرعية أو التابع تنفيذ ما يصدر عنه من أوامر، ليس بسبب مضمون الأوامر أو فحواها، ولكن لأنها صادرة عن إرادة هي بطبيعتها أعلى من إرادتهم.
يقول أحد فلافسة نظرية السيادة: إنه لا يتفق مع طبيعة النظام السياسي نفسه أن يفرض على صاحب السيادة قانوناً لا يستطيع أن يخالفه أو ينقضه.
إذاً: هذا فيما يتعلق بأنها سلطة مطلقة، فصاحب السيادة لا يمكن أن يفرض عليه قانون، بل القانون يعبر عن إرادته هو.
الخاصية الثانية: السمو، فهي في مجالها إرادة تعلو جميع الإرادات، العلو والفوقية، وهذه كلمة حساسة عند السلفيين (الفوقية)، فعندهم الفوقية للسيادة، فهي في مجالها إرادة تعلو جميع الإرادات، وسلطة تعلو كافة السلطات، لا توجد فيما تنظمه من علاقات سلطة أعلى منها، ولا سلطة مساوية لها.
الخاصية الثالثة: الوحدانية والتفرد، فلا يوجد على الإقليم الواحد إلا سيادة واحدة، إذ لو وجدت سيادتان على إقليم واحد لفسدت أحواله، ووجه ذلك أنه لو صدر من كل منهما تكليف يناقض ما أصدرته الأخرى فلا يخلو الأمر من أحد هذه الأحوال: تنفيذ التكليفين المتضادين معاً، وهو محال، أو الامتناع عنهما معاً، وفي ذلك إبقاء لسيادتهما معاً، أو إنفاذ واحدٍ منهما فقط فيكون صاحبه هو الأحق بالسيادة، وتبطل سيادة ما سواه.
الخاصية الرابعة: الأصالة، فهي قائمة بذاتها، يعني: السيادة قائمة بذاتها لم تتلق هذا العلو من إرادة سابقة عليها أو إرادة أعلى منها.
الخاصية الخامسة: عدم القابلية للتملك، السيادة غير قابلة لأن يتملكها أحد، فإذا اغتصبها من ليس أهلاً لها، وفرض على الناس سلطانه مدة من الزمن طالت هذه المدة أو قصرت، فإنه لا يستطيع أن يدعي شرعية سلطته أو شرعية سيادته مهما طال الأمد، فغصب السيادة سيظل دائماً غصباً لا يثبت بالحيازة، ولا يسوغه التقادم.
الخاصية السادسة والأخيرة: العصمة من الخطأ، فنظرية السيادة تنزع إلى اعتبار إرادة الأمة إرادة مشروعة، وأن القانون يعد مطابقاً لقواعد الحق والعدل، لا لسبب إلا لأنه صادر عن إرادة الأمة أو ممثليها، ولذلك فإن هذه النظرية تنسب إلى الأمة أو الشعب صفة العصمة من الخطأ حتى قال أحد زعماء وفقهاء ذلك العصر وهو بابلي: حينما يتكلم القانون يجب أن يصمت الضمير، هذه هي السيادة كما أصدرها الكتاب الفرنسيون، ونصَّت عليه القوانين الفرنسية المتعاقبة، وكما انتقلت منها بعد ذلك إلى معظم الدساتير في كثير من بلدان العالم، السيادة سلطة عليا آمرة تفردت بالحكم، فلا تشرك في حكمها أحداً، إرادتها هي القانون، وتوجيهاتها هي الشريعة الملزمة.
إذاً: تفردت بالحكم فلا تشرك في حكمها أحداً.
ثانياً: تفردت بالعلو، فلا تعرف سلطة أخرى تعلو عنها أو تساويها.
ثالثاً: قائمة بذاتها، فلم تكتسب سلطانها من إرادة أخرى.
رابعاً: حقوقها مقدسة لا تقبل التنازل، ولا يسقطها التقادم، معصومة من الخطأ، فكل ما يصدر عنها هو الحق والعدل.
إذاً: يضع الدكتور الصاوي تعريفاً للسيادة بناء على هذه الخصائص فيقول: إن السيادة هي السلطة العليا المطلقة التي تفردت وحدها بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال.
أو بتعبير آخر: هي السلطة العليا المطلقة التي تملك وحدها الحق في إنشاء الخطاب المتعلق بأفعال المواطنين على سبيل التكليف أو الوضع.
والتكليف قد يكون تكليفاً بفعل شيء، أو تكليفاً بتركه، أو تخييراً بين الفعل والترك، فخطاب التكليف هو الخطاب المتعلق بجعل الشيء واجباً أو محرماً أو مباحاً، أما الوضع فهو الربط بين شيئين برابطة السببية أو الشرطية أو المانعية.
فخطاب الوضع: هو الخطاب المتعلق بجعل الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً، وعلى هذا فالسيادة: هي السلطة العليا المطلقة التي تفردت بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال، فهي التي تملك جعل الفعل واجباً أو محرماً أو مباحاً، وهي التي تملك جعل الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً.
والذين درسوا أصول الفقه يشاهدون التشابه الشديد في قضية الحكم، ومبحث الحكم في كتب أصول الفقه سواء الحكم الوضعي أو الحكم التكليفي.
يقول: هذا ويلاحظ أن السيادة والديمقراطية تعبيران عن فكرة واحدة، فالسيادة هي التعبير القانوني، والديمقراطية هي التعبير السياسي، وعلى هذا فنظرية سيادة الأمة: هي التعبير القانوني عن الديمقراطية التي تميز نظام الحكم في الدول الرأسمالية.(106/6)
السيادة في المجتمعات الغربية
ثم يناقش بعد ذلك قضية: السيادة في المجتمعات الغربية، فيذكر تحت عنوان: (انتقال السيادة إلى الأمة على يد الثورة الفرنسية) يعني: السيادة فيما مضى كانت تمزج بين شخص الملك وبين الدولة، فنظام الحكم قبل الثورة الفرنسية كان قائماً على المزج بين الشخصيتين: شخصية الملك وشخصية الدولة، وعبر عنها في أوضح صورها لويس الرابع عشر بقولته المشهورة: أنا الدولة! أنا الدولة! وكان الملك هو صاحب الحق في السيادة بمقتضى ما له من الصفات الشخصية، وكانت تتركز فيه وحدة سلطة الدولة، فلما قامت الثورة الفرنسية توجه النظام إلى أساس آخر، وهو المزج بين الأمة والدولة، وأصبحت السيادة ملكاً للأمة، وأخذت فكرة سيادة الأمة طريقها إلى القانون العام الفرنسي، وفي المادة الثالثة من إعلان حقوق الإنسان الصادر في (1879م) النص على أن السيادة للأمة، وعلى أن القانون هو التعبير عن إرادة الأمة.
خلاصة هذا: أن السيادة للأمة باعتبارها شخصاً متميزاً عن الأفراد المكونين لها، فالسيادة ليست ملكاً لأفراد الأمة مستقلين، فليس لكل منهم جزء من السيادة، وإنما للسيادة صاحب واحد، وهو الأمة التي هي شخص جماعي مستقل عن الأفراد الذين يكونونها، فالإرادة العامة للأمة التي صارت مستقراً ومستودعاً لهذه السيادة هي ذلك الوجود المعنوي أو المجازي الذي انبثق من مجموع الإرادات الفردية، واستقل عنها.(106/7)
جوانب نظرية السيادة
هذه النظرية كما صاغتها الجمعية التأسيسية بعد الثورة الفرنسية لها جانبان: أحدهما سلبي، والآخر إيجابي.
الجانب السلبي يتمثل في أمرين: الأمر الأول: أن الملك لم يعد هو صاحب الحق في السيادة كما كان مقرراً من قبل؛ لأنه كانت تتركز فيه وحدة سلطة الدولة، بل أصبحت الأمة هي صاحبة السيادة باعتبارها العنصر الحقيقي المكون للدولة.
الأمر الثاني: أن السيادة لا تعتمد على أي سلطة أخرى، ويقصد بذلك التأكيد على أن إرادة الأمة مطلقة، يعني: لا تعتمد على أي إرادة أخرى.
أما الجانب الإيجابي لهذه النظرية في تلك المرحلة فهو يشتمل على سلطات ثلاث: الانتخاب، والتشريع، والتنفيذ.
سلطة الانتخاب وهي أولى السلطات، وذلك أن إرادة الأمة وسيادتها تقرر هذه السلطة، كما تقرر دائماً لغة الأدب السياسي، وتتمثل وظيفتها في أن يتم بطريق الاقتراع العام اختيار السلطة التشريعية.
أما اختصاصها: فهو التعبير عن إرادة مضمرة أو مادة خام لم تتضح بعد، ولهذا يعهد بها إلى جمهور الناخبين، وهم على الجملة غير مؤهلين للعمل الذي يحتاج إلى دراسة وتفكير، وأيضاً الانتخاب في ظل نظرية سيادة الأمة هو وظيفة وليس حقاً، وهذا مبني على أن السيادة لا تتجزأ، ولذلك الانتخاب وظيفة وليس حقاً يسوغ تقييده بما تقيد به الوظائف العامة من الشروط والقيود.
أما سلطة التشريع: فهي آكد مظاهر السيادة وأبرز علاماتها، وتختص بتوضيح الإرادات المضمرة الناشئة عن الانتخاب لتستخلص منها -من خلال المداولات- تمثيلاً أكثر وضوحاً من الإرادة العامة، فهذه السلطة في التشريع سلطة مطلقة لا تحدها حدود، ولا تقيدها قيود، ولا تلتزم بالتصرف على نحو معين إلا إذا أرادت هي ذلك.
أما السلطة الثالثة فهي سلطة التنفيذ، ووظيفتها تتلخص في الحكم والإدارة، فالحكم الذي يتمثل في ابتكار الحلول الملائمة للمشكلات التي تطرأ على المستويين الدولي والداخلي، والإدارة التي تتمثل في العمل على ضمان سير المرافق العامة بانتظام واطراد.(106/8)
النتائج والانتقادات التي ترتبت على انتقال السيادة للأمة
النتائج التي ترتبت على انتقال السيادة إلى الأمة هي: أولاً: أن القانون هو التعبير عن الإرادة العامة للأمة، وهي إرادة تعلو إرادات الأفراد، ولذلك تجب الطاعة لها.
ثانياً: الأمة وحدها هي صاحبة الحق في وضع الدستور أو تعديله دون ما أدنى تدخل من أي هيئة أخرى.
ثالثاً: أن النائب لا يعتبر ممثلاً لدائرته فحسب، ولكنه ممثل للأمة كلها.
أما الانتقادات التي وجهت إلى نظرية سيادة الأمة فهي: أولاً: أن فيها نوعاً من تضييق دائرة الحرية السياسية التي لا تؤدي دورها في ظل هذه النظرية إلا مرة واحدة، وهي المرة التي يتجه فيها الأفراد إلى صناديق الاقتراع، لاختيار الأشخاص الذين سيمارسون مهمة السيادة، وبعدها يتم تجريدهم من كل شيء، فلا يقدرون على ممارسة أي نوع من أنواع الحرية السياسية المباشرة.
والعلة أن هذه الممارسات تجزئ السيادة، والسيادة في ظل هذه النظرية كل لا يتجزأ، أيضاً لا يستطيعون ممارسة شيء من الحرية من خلال الوسائط السياسية الشعبية كالنقابات الطائفية والمهنية ونحو ذلك.
ثانياً: من عيوبها أيضاً: تضييق دائرة الاقتراع، وهذا من ثمرات القول بأن السيادة كل لا يتجزأ، فبما أن الأفراد الذين يذهبون إلى الانتخاب سينتخبون من سوف يضطلع بمهام السيادة نيابة عنهم لا يمارسون حقاً أو جزءاً من أعمال السيادة؛ لأن السيادة كل لا يتجزأ، لكنهم يؤدون وظيفة من الوظائف، ولما كانت السلطة السيادية هي التي تسند الاختصاص بالوظائف إلى الأفراد، وتعدد لشروطها، فإن لها أن تضع ما تشاء من الشروط أو القيود بما يكفل حسن الاختيار، ويوفر الكفايات المطلوبة.
وقد أدى هذا الوضع من الناحية العملية إلى التمييز بين نوعين من أفراد الأمة: أولهما: الأمة كحقيقة اجتماعية.
الثاني: الصفوة من أفراد الأمة، وهم الذين يؤهلون ويقدرون على ممارسة مهام السيادة نيابة عن الأمة.
وقد أدت الانتقادات التي وجهت نظرية سيادة الأمة إلى طرح جديد يتلافى هذه النقائص، ويحقق مزيداً من المكاسب، فجاءت نظرية سيادة الشعب، وكانت تمثل تطوراً سياسياً وقانونياً بالنسبة لنظرية سيادة الأمة.
والإخوة الذين يدرسون القانون هم القادرون على فهم هذا الكلام، لكن حاولوا فهم ولو العناوين الرئيسية لأجل أن هذا تمهيد للذي سيأتي.
نقطة البداية في نظرية سيادة الشعب أنها تقرر انتقال السيادة إلى الجماعة بوصفها مكونة من عدد من الأفراد، وليس باعتبارها وحدة مستقلة عن الأفراد المكونين لها.
إذاً: السيادة هنا -في نظرية السيادة للشعب- لم تعد كلاً لا يتجزأ، بل أصبحت -وفقاً لهذه النظرية- شركة بين جميع أفراد هذه الجماعة لكل امرئ منها نصيب معلوم، ولذلك نص الدستور الفرنسي في (1793م) على أن السيادة للشعب، وترتب على هذه النظرية الأخذ بمبدأ الاقتراع العام، وتحول الانتخاب من وظيفة إلى حق.
أيضاً: ترتب عليه تعبير النائب عن دائرته الانتخابية باعتباره ممثلاً عن ذلك الجزء من السيادة الذي يملكه ناخبوه، يعني: كل واحد له حق في التعبير، فأصبح الناخب يمثل الدائرة التي انتخبته.
وأيضاً توسيع قاعدة المشاركة الشعبية لإلغاء التمييز بين نوعي المواطنين الذي كان في ظل نظرية سيادة الأمة، بإتاحة الفرصة للمشاركة الشعبية المباشرة للحرية السياسية عن طريق الاستفتاء الشعبي، أو الاعتراض الشعبي، أو طلب إعادة الانتخاب، أو طلب حل الهيئة النيابية ونحو ذلك.
والاتجاهات الدستورية الحديثة ترمي إلى الأخذ بنظرية سيادة الشعب باعتبارها أكثر تحقيقاً للديمقراطية.
إذاً: هذا هو مفهوم نظرية السيادة في الفكر الغربي نشأة وتطوراً وخصائص وآثاراً.(106/9)
نتائج نظرية السيادة في الفكر الغربي
يمكن أن نخرج مما تقدم بالنتائج التالية: أولاً: أن هذه النظرية على الجملة قد تبلورت إثر صراع عنيف مع السلطة الدينية التي كانت تحيل الأمر في قضية السيادة إلى جهة مقدسة تستحل باسمها ومن خلال الانتساب إليها كل صنوف القهر والإفساد والطغيان في الأرض، فجاءت ردة الفعل في هذه النظرية مساوية للاتجاه الأول في القوة، ومضادة له في الاتجاه، جاءت لتعلن خلع الربقة والتمرد على كل ما هو مقدس، وتأليه إرادة الإنسان، واعتبارها معيار الحقيقة المطلقة، فجاء تمرد مطلق، يعني: رد فعل عكسي تماماً لطغيان الكنيسة والباباوات؛ لأننا لو درسنا تاريخ الباباوات والكنيسة في القرون الوسطى المظلمة، وطبعاً كل قرون أوروبا مظلمة، لكنهم يطلقون عليها القرون الوسطى المظلمة، ولن ندرسها من أي مصادر إسلامية، بل من كتب الغربيين أنفسهم، فهم شهود من أهلها يكشفون الطغيان والظلم والقهر والاستبداد والإذلال الذي مارسته الكنيسة في ذلك الوقت.
فحصل رد فعل في العبارة التي دائماً نكررها: (اشنقوا آخر قسيس بأمعاء آخر ملك) الصراع الذي خاضه رجال الكنيسة في هذه القضية لم يخوضوه باسم الوحي المعصوم، ولم يلتزموا فيه بأبسط مبادئ العدل الفطري، بل أطلقوا لأهوائهم وجبروتهم العنان، وتردوا خلاله إلى أسوأ دركات الفساد والإجرام، ثم نسبوا كل ذلك إلى الوحي، وإلى السماء، والذي درس رواية: (أحدب نوتردام) بأقلام غربية ولم يكتبها المسلمون، يجد هذا القدر من التسلط والقهر والإذلال الذي كانت تمارسه الكنيسة وعدائها الشديد للعلم وللكتب ونحو ذلك.(106/10)
انتقال نظرية السيادة إلى العالم الإسلامي
ثم يناقش بعد ذلك انتقال نظرية السيادة إلى العالم الإسلامي يقول: لقد كانت الشريعة الإسلامية هي الشريعة الوحيدة التي يقضى بها، ويتحاكم إليها في بلاد المسلمين، وقد يتهاون بعض الناس أو الحكام في التزام أحكامها، ولكن هذه الانحرافات لم تتجاوز على الجملة دائرة التنفيذ العملي لبعض الأحكام الشرعية، ولم تتعد ذلك إلى دائرة التشريع بحال من الأحوال، يعني: كان يحصل فساد من الجهة التنفيذية، لكن من جهة التشريع كانت الراية مرفوعة دائماً للتحاكم إلى الشريعة الإسلامية، بل ظلت الشريعة دينهم الذي به يدينون، ودعوتهم التي إليها يردون عند التنازع، ويتحاكمون إليها عند الاختلاف، ولم يحدث أن استبدلت الأمة بها شريعة أخرى عبر تاريخها الطويل، ثم أخذ الوهن يدب في جسم هذه الأمة، فضعفت شوكتها، وذهب ريحها، واجتمع عليها عدوها فغزا ديارها، وأوضع خلالها، وبث فيها سمومه، ونشر فيها كفره ورجسه فتنة لها في الدين، وتكريساً لما آلت إليه من تصدع وانكسار، وكان من بين المناهج الغربية التي غزت بلاد المسلمين نظرية السيادة التي سبق أن بيناها تحت ستار من التحرير، ومقاومة الطغيان، ووصف جوقة من العزف على نغمة حقوق الإنسان، ثم عرفت هذه النظرية طريقها إلى الدساتير العربية والإسلامية بعد أن أقصيت الشريعة، وألغيت أحكام الإسلام من قوانين هذه البلاد، فكانت هذه النظرية هي الحلقة الأخيرة في مسلسل إقصاء الشريعة وفصل الدين عن الحياة.
وتتجسد مظاهر السيادة التي نصت هذه الدساتير على تقريرها للأمة أو الشعب في ثلاثة مظاهر رئيسية: الأول: السلطة التشريعية.
الثاني: السلطة التنفيذية.
الثالث: السلطة القضائية.
أما السلطة التشريعية: فدورها سن القوانين التي يتحاكم إليها في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شئون الحياة.
الثاني: السلطة التنفيذية، ووظيفتها: المحافظة على النظام العام، والسهر على حماية هذه القوانين.
الثالث: السلطة القضائية، ووظيفتها: حل المنازعات والفصل في الخصومات، وفقاً للقوانين الصادرة من السلطة التشريعية.
وباستقراء الدساتير الصادرة في البلاد الإسلامية نجد أن هذه النظرية قد تم النص عليها صراحة في هذه الدساتير، كما أنه باستقراء الواقع العملي في هذه البلاد نجد أن إقصاء الشريعة وتحكيم القوانين الوضعية هو السمة البارزة على أنظمة الحكم فيها، وأن فصل الدولة عن الدين هو الواقع العملي المستيقن في ظل هذه النظم، وإن كان النص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، ولا يزال موجوداً في أغلب هذه الدساتير، الأمر الذي يؤكد أن تطبيق الشريعة وتقرير السيادة والتشريع للأمة أو الشعب نقيضان لا يجتمعان أبداً في نظام من الأنظمة، ولا في أمة من الأمم.
ثم يضيف ملمحاً جديداً وهو: أن رؤساء الدول يعتبرون أعضاء أصليين في السلطة التشريعية، والبرلمان الذي ينتخب بالصورة المعروفة هو سلطة تشريعية، لكن رئيس الدولة أو الملك في بعض البلاد يكون عضواً أصلياً في السلطة التشريعية لما له من حق الاقتراح وحق الإصدار، وحق الاعتراض أو التصديق، ومن هذه الحقوق ما يشتركون فيه مع غيرهم كحق الاقتراح، ومنها ما يستقلون به كالحق في التصديق على القوانين بعد إقرارها من السلطة التشريعية، أو الحق في الاعتراض على القانون، أو إعادته إلى البرلمان لمراجعته، والتصويت عليه مرة أخرى بأغلبية خاصة.
وقد نصت بعض الدساتير صراحة على اعتبار رئيس الدولة جزءاً أصيلاً من السلطة التشريعية، ومنها ما اكتفي بالنص على الحقوق التي يمارسها رئيس الدولة في مجال التشريع، وهي حق الاقتراح والإصدار، وحق الاعتراض أو التصديق.
فمثلاً: الدستور الدائم لمصر ينص على هذا الحق لرئيس الدولة، الذي هو التشريع في حالة تعطيل الحياة البرلمانية، إذا كان الأصل هو أن يمارس رئيس الدولة اختصاصاته التشريعية بالتعاون مع البرلمان، فقد تعرض بعض الحالات يستقل فيها رئيس الدولة بممارسة الوظيفة التشريعية وتتمثل فيما يلي: أولاً: التشريع في حالة تعطيل الحياة البرلمانية، مثلما كان يفعل السادات حيث يعطيه إجازة يوم الجمعة، ويصدر القانون الجمعة، فيبقى رئيس الدولة له الحق أن يشرع كما سار على نفس النسق الدستور المؤقت للجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية إلى آخره.
ثانياً: التشريع فيما بين أدوار انعقاد البرلمان، يعني: عند تعطيل الحياة البرلمانية الرئيس له أن يشرع ما شاء من القوانين، والنظام النيابي يقوم على توقيت البرلمان بمدد معينة يعود الأعضاء بعدها إلى الشعب ليجددوا انتخابهم، أو يسحبوا منهم ثقتهم، كما أن البرلمانات لا تنعقد باستمرار، بل يتخللها فترات من الراحة، فإذا حدث أمر طارئ لا يمكن مواجهته إلا بقانون كان لرئيس الجمهورية أن يصدر مراسيم لها قوة القانون على أن يعرضها على البرلمان عند انعقاده ليقرر في شأنها ما يشاء، وهذا نص الدستور في المادة (147).
ثالثاً: التشريع بتفويض من البرلمان، فالبرلمان هو الذي يفوض الرئيس أن يشرع، فمعظم الدساتير العربية تجيز هذا التفويض وتقيده ببعض القيود التي تمنع من اللجوء إليه إلا عند الضرورات، وإن كان الفقهاء القانونيون يضيقون ذرعاً من هذا الأسلوب، ويرون فيه تخلياً من البرلمان عن وظيفته الأصلية، كما لا يرون له الضرورة التي تسوغه كما في الحالتين السابقتين، يعني: هنا في دستور مصر مادة (108) لرئيس الجمهورية عند الضرورة وفي الأحوال الاستثنائية بناءً على التفويض من مجلس الشعب بأغلبية ثلثي أعضائه أن يصدر قرارات لها قوة القانون، ويجب أن يكون التفويض لمدة محدودة، وأن تبين فيه موضوعات هذه القرارات والأسس التي يقوم عليها، ويجب عرض هذه القرارات على مجلس الشعب في أول جلسة بعد انتهاء التفويض، فإذا لم تعرض أو عرضت ولم يوافق عليها زال ما كان لها من قوة القانون.(106/11)
السيادة في المنهج الإسلامي
ما تقدم كان يتناول نظرية السيادة في نشأتها الأولى وتطورها في المجتمعات الغربية، من حيث المضمون أو الخصائص أو الآثار، ثم انتقالها إلى المنطقة الإسلامية، وتبين من خلال هذا الكلام حقيقة هذه النظريات، وكيف أنها تعني الإقرار بالحق في السلطان المطلق، والتشريع المطلق، والإرادة العليا الماضية لممثلي الشعب أو الأمة، وما يقتضيه ذلك من فصل الدين عن الدولة، وخلع ربقة الإسلام، بل سائر الأديان في مجالات الحياة العامة؛ لتكون السيادة للأمة، وليكون القانون هو التعبير عن إرادتها الحرة، فماذا عن السيادة في الفقه الإسلامي أو الشريعة الإسلامية؟ لقد تقرر في قواطع الشريعة وبدهياتها الأولى أن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع لا غير، بل إن هذه الحقيقة هي الإسلام، فالقبول بها قبول بالإسلام، والكفر بها أو الإعراض عنها مروق من الدين وخروج من الإسلام، والدليل على هذه الحقيقة هو الإسلام نفسه، فمن صح عنده الرضا بالإسلام ديناً فقد صح عنده الرضا بهذه الحقيقة، رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، ومن أعرض عن الإسلام، أو تشكك في صحته، أو تردد في قبوله ساغ له أن يعرض عن هذه الحقيقة أو أن يتشكك في صحتها ويتردد في قبولها، يعني: لن يصدر التردد إلا ممن رفض هذا الشعار (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً) فهذا هو الذي سوف يتردد، فما من دليل يشهد بصحة إلا وهو دليل شاهد بصدق هذه الحقيقة، ولكننا نتنزل مع من تلتبس عليه البدهيات ويعشى عن الشمس وقت الظهيرة ليس دونها سحاب فنطرح هذا
السؤال
ما هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله؟ أليس هو الإسلام؟ وما حقيقة هذا الإسلام الذي جاء به وإليه دعا، وعليه قاتل، ومن أجله فرق بين الولد وأبيه، وبين الأخ وأخيه، وبين المرء وزوجه، أليس هو تصديق الخبر والانقياد للشرع؟ وما حقيقة الانقياد للشرع أليس هو الرضا بالشرع حاكماً وآمراً وناهياً، ومصدراً للحلال والحرام، وقبول سائر ما يصدر عنه من شرائع وأحكام؟ أرأيت لو أن رجلاً قال -سواء بلسان الحال أو بلسان المقال-: لا أقبل شرعاً يأتيني من عند الله، أو لا أقبل الإسلام حكماً في شئون الحياة، ولا أرضى بسلطان إلا سلطان الإرادة الإنسانية الحرة التي تحدد نفسها بنفسها، ولا تتقيد بقانون؛ لأن التعبير عنها هو القانون، وهي -أي: هذه السيادة والإرادة- لا تخضع لأي جهة سماوية كانت أو أرضية؛ لأن إرادتها عالية، وسلطانها مطلق، أفرأيت رجلاً يقول هذا القول هل يبقى له تعلق بالإسلام أو بقية انتماء إليه؟ ثم يذكر الإجماع على أن السيادة العليا، والتشريع المطلق حق لله تعالى وحده، يقول: إن الإرادة التي تعلو على جميع الإرادات، والسلطة التي تهيمن على جميع السلطات هي إرادة وسلطة الله، ومن خلال تعريف السيادة: فالسيادة هذه بالمعنى هذا هي أننا حين نرى أن من صفاتها العلو والفوقية نتذكر مباشرة الآيات التي فيها وصف الله سبحانه وتعالى بالعلو والقهر قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] وغير ذلك من الأشياء التي فيها منازعة واضحة للتوحيد، فالإرادة التي تعلو على جميع الإرادات، والسلطة التي تهيمن على جميع السلطات، والتي لا تعرف فيما تنظمه أو تقضي فيه سلطة أخرى تساويها أو تساميها، إنما هي إرادة الله عز وجل وحده لا شريك له، ولقد انعقد إجماع الأمة كلها في مختلف الأعصار والأمصار إجماعاً لم يشذ عنه كبير ولا صغير، ولا ذكر ولا أنثى، ولا حر ولا عبد، ولا طائع ولا عاص، أنه لا دين إلا ما أوجبه الله، ولا شرع إلا ما شرعه الله، ولا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، وإن من جادل في هذه البدهية فأحل ما حرمه الله، أو حرم ما أحله، أو رد شيئاً من حكمه، أو أعطى غيره حق التحليل والتحريم والإيجاب والندب، فهو مارق من الدين، كافر بإجماع المسلمين.(106/12)
السيادة العليا والتشريع المطلق حق الله وحده
ثم يذكر الإجماع على أن السيادة العليا والتشريع المطلق حق لله تعالى وحده، يقول: إن الإرادة التي تعلو على جميع الإرادات، والسلطة التي تهيمن على جميع السلطات هي إرادة وسلطة الله، ومن خلال تعريف السيادة نرى أن من صفاتها العلو والفوقية وهنا نتذكر مباشرة الآيات التي فيها وصف الله سبحانه وتعالى بالعلو والقهر قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] وغير ذلك من الأشياء التي فيها منازعة واضحة للتوحيد، فالإرادة التي تعلو على جميع الإرادات، والسلطة التي تهيمن على جميع السلطات، والتي لا تعرف فيما تنظمه أو تقضي فيه سلطة أخرى تساويها أو تساميها، إنما هي إرادة الله عز وجل وحده لا شريك له، ولقد انعقد إجماع الأمة كلها في مختلف الأعصار والأمصار إجماعاً لم يشذ عنه كبير ولا صغير، ولا ذكر ولا أنثى، ولا حر ولا عبد، ولا طائع ولا عاص، أنه لا دين إلا ما أوجبه الله، ولا شرع إلا ما شرعه الله، ولا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، وأن من جادل في هذه البدهية فأحل ما حرمه الله، أو حرم ما أحله، أو رد شيئاً من حكمه، أو أعطى غيره حق التحليل والتحريم والإيجاب والندب، فهو مارق من الدين، كافر بإجماع المسلمين.(106/13)
الأدلة على تفرد الله سبحانه وتعالى بالسيادة والتشريع المطلق
أما الأدلة على تفرد الشرع الشريف أو تفرد الله سبحانه وتعالى بالسيادة والتشريع المطلق فهي مستفيضة ومتعددة منها:(106/14)
حقيقة الإسلام الذي لا يقبل الله غيره
أن حقيقة الإسلام هي الاستسلام لله وحده، فقد أجمع الأولون والآخرون من المسلمين على أن الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، بل الذي جاء به الرسل جميعاً هو الإسلام، وأن حقيقته هي الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وطاعته وحده عز وجل.
فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وذلك بأن يطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت، ولهذا كان الإسلام دين الرسل جميعاً، قال عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] وقال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] إذا تقرر هذا فقد علم بيقين أن السيادة العليا، وأن السلطان المطلق هو لما جاء من عند الله عز وجل لا غير، وأنما سوى ذلك كفر وشرك وضلال.(106/15)
تضمن عقيدة التوحيد لإفراد الحكم لله
ثم إن عقيدة التوحيد تتضمن إفراد الله سبحانه وتعالى بالحكم والتشريع، وهذه المعاني للأسف في وسط الجو الذي نعيش فيه الآن أصبحت عند كثير من الناس معان غريبة مهجورة رغم أنها أصل دين الإسلام، وصلب عقيدة التوحيد؛ لأننا -كما قلت- في عصر زلزلة الثوابت زلازل على مقياس ريختر تكون في أعلى ما يكون، فتهد الدين من جذوره وأصوله، فلا بد أن ننتبه إلى تأثير مثل هذه الأشياء على عقائدنا وعلى زلزلة ثوابت هذا الدين، وهو أخطر ما نتعرض له الآن.
فإذاً: من اتبع غير شرع الله في خلاف شريعة الله وهو يعلم أنه خلاف حكم الله، وترك تحليل الله وتحريمه إلى تحليل غيره وتحريمه فهذا شرك بلا نزاع، وهذا متخذ لهذا المصدر الجديد إلهاً من دون الله تبارك وتعالى، إذا كان الأمر كذلك فقد صح أن السيادة للشرع لا غير، وأن الوحي المعصوم وحده هو مصدر التحليل والتحريم فقط لا غير، يقول الله سبحانه وتعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، ويقول تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، وحرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] أي: هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله.
ويقول في موضع آخر: وأما إذا حكم حكماً عاماً في دين المسلمين فجعل الباطل حقاً والحق باطلاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، ونهى عما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأمر بما نهى عنه الله ورسوله، فهذا لون آخر يحكم فيه رب العالمين، وإله المرسلين، مالك يوم الدين الذي له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
إذاً: هذا كله يدل على أن السيادة العليا والسلطان المطلق للشرع لا غير، وقد أوجبت قواطع الشريعة التحاكم إلى الشرع الشريف، وجعلته شرطاً للإيمان، ونفت الإيمان، بل أثبتت النفاق لمن يعرض عن هدي الله عز وجل، ويصد عن التحاكم إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] كما قلنا: الهوى دائماً عدو للوحي الشريف، وقال الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59]، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، وقال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] فأقسم بذاته المقدسة على نفي الإيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم، أو وجد في نفسه حرجاً من حكمه.
يقول الإمام الجصاص الرازي رحمه الله تعالى: وفي هذه الآية وهي قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُون) دلالة على أن من رد شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة، وقتلهم، وسبي ذراريهم؛ لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي صلى الله عليه وسلم قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان.
وهذا في الذين امتنعوا من أداء الزكاة جحوداً، أما المتأولون فهذا كان لهم حكم البغاة.
ويقول شيخ الإسلام أيضاً: ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين إنسهم وجنهم، فمن اعتقد أنه يسوغ لأحد الخروج عن شريعته وطاعته فهو كافر يجب قتله.
ويقول الحافظ ابن كثير: فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه؟ فمن فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين.
وهذا كله دليل على أن السيادة للشرع لا لغيره، وأن ما عدا الشرع الإسلامي الشريف كفر وضلال.
ويقول الله تعالى أيضاً: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61].
فالإيمان لا يعدو أن يكون زعماً إذا أراد صاحبه أن يتحاكم إلى الطاغوت، والطاغوت هنا يقابل ما أنزل الله، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والكفر بهذا الطاغوت هو أقصى درجات الرفض والتبرؤ، وهو الحكم الشرعي الواجب في مواجهته، والصد عن التحاكم إلى الشرع شأن المنافقين الذين آمنت ألسنتهم وكفرت قلوبهم.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله.
وقد تكرر الأمر المطلق بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم زهاء ثمانية وعشرين مرة، ولم تأت الشريعة بطاعة مطلقة لأحد بعد الله وبعد رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالطاعة لأولي الأمر مشروطة بطاعتهم لله؛ لأنه لا طاعة في معصية، و (إنما الطاعة بالمعروف)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] وكررت الآيات ذكر الطاعة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم تكرره مع ولي الأمر للدلالة على أن الطاعة لهم ليست مطلقة، بل فيما كان طاعة لله وللمسلمين فيه مصلحة، حتى طاعة الأبوين هي طاعة مقيدة وليست مطلقة قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] وطاعة الزوج أيضاً مقيدة إذ لا طاعة لزوج في معصية الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وقال أيضاً: (لا طاعة لمن لم يطع الله).
وقال شيخ الإسلام: إن من أوجب تقليد إمام بعينه استتيب، فإن تاب وإلا قتل.
يعني: من قال: إنه يجب تقليد أبي حنيفة أو الشافعي أو مالك أو نحو ذلك فيستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه قال كلمة: (يجب) لأن الله لم يوجب طاعة شخص طاعة مطلقة في كل ما يأتي ويذر سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما من عدا ذلك فلا يوجد عالم واحد من علماء المسلمين يقول: يجب أن تقلد الشافعي أو مالكاً أو أحمد أو أبا حنيفة، وإنما أقصى ما في التقليد أنه يسوغ أو يجوز رخصة للمقلد غير المجتهد في أوضاع معروفة، لكن من قال: يجب تقليد إمام بعينه ويأثم من لم يفعل، علماً بأنه لو أخذ بقوله بالدليل فيكون هذا مما يؤمر به، لكنه يأخذ قول الإمام دون أن يعرف دليلاً، وهذا هو التقليد.
فيقول شيخ الإسلام: من أوجب تقليد إمام بعينه استتيب فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه يوجب طاعة شخص طاعة مطلقة غير الرسول صلى الله عليه وسلم، فالطاعة المطلقة والاتباع المطلق لا يكون إلا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمن أسبغ هذه المنزلة على أحد من الناس فقد أشرك بالله عز وجل.
إذاً: هذا كله يثبت أيضاً أن السيادة للشرع لا غير، حتى الإجماع، يعني: الإجماع نفسه الذي إذا ثبت فإنه يعد حجة شرعية قاطعة ومعصومة؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، فإذا انعقد الإجماع بالفعل وثبت، فإنه أصل من أصول الشريعة، لكن مع ذلك الإجماع لا ينعقد إلا على نص، فأولى ألا ينعقد على خلاف نص شرعي.
وهذا أيضاً يدل على أن السيادة للشرع؛ لأن الإجماع عندما ينعقد فإنه يكون إجماعاً على نص، فالمرجع إلى النص لا غير، فالأمة في الإسلام لا تملك أن تنشئ الأحكام كما هو الحال عند الغربيين، وإنما يقتصر دورها على فهم الأدلة والتخريج عليها، يعني: دستور الدولة اللقيطة في فلسطين المحتلة دستورها هو التوراة، وهم ينتسبون زوراً إلى نبي الله إسرائيل أو يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فينبغي أن يكون المسلمون دستورهم هو القرآن، فإذا كان المستند في الإجماع هو النص فما فائدة الإجماع حينئذ؟ فائدته قطع الشك في دلالة الحكم على المراد، فجميع الأئمة في الاجتهاد فهموا النص بهذه الطريقة فخرجوا منه بالإجماع على مسألة معينة، فعندما تقول: إن هذا إ(106/16)
إجماع العلماء على أن العقل ليس مصدراً من مصادر التشريع
أيضاً: أجمع العلماء على أن العقل ليس مصدراً من مصادر التشريع، ليس بشرع وليس بدليل، فالأصوليون اتفقوا جميعاً على أن الحكم هو خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو الترخيص أو الوضع.
كما انعقد إجماعهم بل إجماع المسلمين أجمعين على أن العقل ليس بشارع؛ لأنه لا حكم إلا لله تعالى، حتى المعتزلة الذين جعلوا للعقل دوراً في تقرير بعض الأحكام اتفقوا على أن العقل كاشف عن الحكم الشرعي، وليس بمنشئ له.
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم فإنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية أو معينة في طريقها، أو محققة لمناطها، أو ما أشبه ذلك لا مستقلة بالدلالة؛ لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع.
وجاء في كتاب (فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت) مسألة: لا حكم إلا من الله تعالى بإجماع الأمة لا كما في كتب بعض المشايخ أن هذا عندنا، وعند المعتزلة الحاكم العقل، يعني: هو هنا يقول: إنه لا حكم إلا من الله تعالى بإجماع الأمة، ويرد على بعض المشايخ الذين قالوا: إن أهل السنة عندهم لا حكم إلا لله، بخلاف المعتزلة الذين يقولون: إن الحاكم هو العقل، فهو هنا يدافع عن المعتزلة، ويقول: لا، بل كل الأمة حتى الفرق الضالة كالمعتزلة يوافقوننا في هذه القاعدة مثل ما قلنا: إن العقل كاشف للحكم، وليس منشئاً له كما قال المعتزلة.
يقول: مسألة: لا حكم إلا من الله تعالى بإجماع الأمة لا كما في كتب بعض المشايخ أن هذا عندنا، وعند المعتزلة الحاكم العقل.
انظر إلى التعليل يقول: فإن هذا مما لا يجترئ عليه أحد ممن يدعي الإسلام.
يعني: هل يوجد واحد ممن يدعي الإسلام يجترئ ويقول: إن العقل حاكم، أو العقل مشرع، فهو هنا يدافع عن المعتزلة، وينفي أنهم يعتقدون أن العقل منشئ للأحكام.
يقول: مسألة لا حكم إلا من الله تعالى بإجماع الأمة، لا كما في كتب بعض المشايخ أن هذا عندنا، وعند المعتزلة الحاكم العقل، فإن هذا مما لا يجترئ عليه أحد ممن يدعي الإسلام، بل إنما يقولون: إن العقل يعرف بعض الأحكام الإلهية سواء ورد بها الشرع أم لا، وهذا مأثور عن كبار مشايخنا أيضاً.
وفي كتاب (دروس في تاريخ الفقه) للشيخ فرج السنهوري: لا حاكم إلا الله، ولا حكم إلا ما حكم به، على اتفقت كلمة المسلمين، حتى الذين قالوا: إن للأفعال حسناً وقبحاً عقليين، أي: يدركهما العقل، إذ أنهم لم يذهبوا إلى أكثر من اتخاذ الوصفين أساساً لحكم الله سبحانه يصدر على موقفهما، فالعقل لا دخل له في إنشاء الأحكام وإصدارها، وإن كان هو شرط التكليف، وله أعظم الأثر في فهم الشرع.
فالله جل وعلا قد قصر إنشاء الحكم عليه وحده عز وجل، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف:40]، وقال تعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، وقرأ ابن عامر من السبعة: (ولا تشرك في حكمه أحداً) بصيغة النهي، والخطاب متوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى عموم المخاطبين، أي: ولا تشرك أيها المخاطب أحداً في حكم الله عز وجل، بل أخلص الحكم لله من شوائب الشرك، وهذا كله مما يؤكد الحقيقة أن السيادة للشرع لا غير.(106/17)
إجماع الصحابة على أن الشورى لا تكون إلا في دائرة المباح
أجمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم والأمة على أن الشورى لا تكون إلا في دائرة المباح أو العفو، يعني: أنه لا يصلح أن نتشاور ونناقش في شيء منصوص عليه، لكن الشورى تكون في الأشياء المباحة، أو الأشياء المعفو عنها، ففي البخاري: كانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة فقال عمر: كيف تقاتل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله الله، فإذا قالوا: (لا إله إلا الله) عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله) فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تابعه عمر، فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة عمر إذ كان عنده حكم رسول الله في نص، في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة، وأرادوا تبديل الدين وأحكامه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن بدل دينه فاقتلوه) وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولاً كانوا أو شباناً، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل.
فالشورى تكون في دائرة المباح والعفو، أما ما قطعت فيه النصوص فليس لأحد أن يتقدم عنه أو يتأخر، ولهذا لما ترجح لدى أبي بكر أن النص ظاهر في وجوب قتال مانعي الزكاة لم يلتفت إلى مشورة عمر ولا غيره، وهذا كله يدل على أن السيادة للشرع لا لغيره.(106/18)
إجماع الصحابة وتابعيهم على أن الحجة في الكتاب والسنة
كذلك الصحابة رضي الله عنهم والأئمة أجمعوا على أن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع لا غير، وأن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له أن يدعها لقول أحد من الناس كائناً من كان.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لم أسمع أحداً نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله تعالى اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتسليم لحكمه؛ فإن الله تعالى لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ما سواهما تبع لهما، وأن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الشافعي أيضاً: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد، وقال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقال: كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي.
وقال مالك رحمه الله: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه، يعني: الدليل، وفي رواية: حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي، فإننا بشر نقول اليوم القول ونرجع عنه غداً، وقال أيضاً: إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي.
وقال أحمد رحمه الله: لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا.
وقال أيضاً: من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة.
يقول ابن رجب رحمه الله: فالواجب على كل من بلغه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفه أن يبينه للأمة، وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره، وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة، فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي معظمٍ قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأً.
فهذا كله مما يدل على أن كل الحجة في الكتاب والسنة، وأن السيادة المطلقة هي لشرع الله تبارك وتعالى لا غير، فإذا كانت هذه النصوص كلها هي مقولات أئمة الإسلام رضي الله تعالى عنهم، وهي متعلقة باجتهاداتهم في فهم أدلة الشرع، يعني: كل كلام الأئمة الأربعة كما رأينا يدور حول اجتهاداتهم في فهم أدلة الشرع، فهذا الاجتهاد إنما يحوم حول فهم أدلة الشرع، فالمصدر هو أدلة الشرع، وهم أئمة مجتهدون ثقات عدول أجمعت الأمة على قبولهم، وشهدت لهم بما كانوا عليه من ديانة وصيانة، وتحري للحق، واتباع للسنة، ومع ذلك انظر إلى كلامهم في أنه لا منازع أبداً لحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم حتى الأئمة الأربعة أنفسهم، فما الظن بجهة أو مجلس قام ابتداء على ادعاء الحق في التشريع المطلق، واطراح كل ما يمت للكتاب والسنة بصلة.(106/19)
اتفاق العلماء على أنه لا اعتبار لمصلحة شهد لها الشرع بالبطلان
لقد اتفق أهل العلم على اعتبار المصالح في الأحكام، إلا أنهم اتفقوا أيضاً على أنه لا اعتبار لمصلحة شهد لها الشرع بالبطلان، وذلك بوجود نص يدل على حكم في الواقعة، بخلاف الحكم الذي تمليه المصلحة، يعني: أحياناً تظهر لنا بالعقل مصالح في بعض التصرفات، لكن إذا كانت هذه المصلحة تصادم دليلاً شرعياً فهذه مصلحة ملغاة لا يلتفت إليها، مثال ذلك فتوى أحد الفقهاء لملك جامع في نهار رمضان، فالمفتي تحذلق فأفتى الملك بالصوم بدلاً من العتق، رغم كونه واجداً للرقبة وقادراً على إعتاقها، فالمفتي هنا المفروض أن يفتيه بالعتق دون بالصوم، فهو أفتاه بالصوم بدل العتق لمصلحة اعتبرها من عند نفسه أن الملك رجل غني فعندما نقول له: إن الكفارة عتق رقبة، فهذا أسهل شيء بالنسبة له فسيعتق رقبة، لكن لأجل أن أزجره فأنا أقول له: إن الكفارة هي الصيام، فعندما يصوم ستين يوماً أو شهرين متتابعين فهذا يكون أزجر له، فهو هنا ينظر لمصلحة معينة، لكن هذه المصلحة غير معتبرة شرعاً، فبالتالي هذا نوع من المصالح المهدرة أو الملغية لمصادمتها للنص الشرعي، وهي مصلحة متوهمة في مقابلة نص فلا اعتبار لها.
وكذلك بعض الناس يقول: إن الأنثى ينبغي أن تساوي الذكر في الميراث بدعوى أن المصلحة تقتضي ذلك؛ لأنهما يتساويان في درجة القرابة من الوارث، يعني: هذه بنته وهذا ابنه، فدرجة القرابة واحدة، فبناء على هذا النظر المصلحي تسوى الأنثى بالذكر في الميراث، ثم إن البنت أصبحت تشارك زوجها في أعباء الحياة، فساوت الابن أيضاً من هذه الجهة، فهذه مصلحة لكنها مهدرة وملغاة وغير معتبرة؛ لأنها وقعت في مقابلة النص الصريح القاضي بأن: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فإذا كان الأمر كذلك، وكانت الأحكام الثابتة بالنصوص مشتملة على المصلحة لا محالة أدركها من أدركها، وغفل عنها من غفل، فإنه لا اعتبار لمصلحة أهدرتها نصوص الشريعة، فهذا كله أيضاً مما يؤكد أن السيادة للشرع لا لغيره.(106/20)
إجماع الأمة على أن كل ما أحدث على خلاف الدين فهو رد
الأمة مجمعة على أن كل ما أحدث على خلاف الدين فهو رد، يعني: مردود في وجه فاعله باطل، والحديث في ذلك واضح، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا -أمرنا: ديننا الإسلام- ما ليس منه فهو رد) وهنا يقرر النبي صلى الله عليه وسلم إبطال كل ما أحدث على خلاف الدين، وهذا يعطينا معيار القبول والرد، ما الذي نقبله أو ما الذي نرفضه؟ نقبل ما يوافق الدين، ونرفض ما يخالفه، وهذا مما يؤكد أن السيادة للشريعة الإسلامية بلا منازع.(106/21)
عدم مشروعية التقليد للعلماء إلا في أوضاع خاصة
كذلك حتى في تقليد العلماء حينما نقلد العلماء في بعض الأوضاع التي يسوغ فيها التقليد خاصة بالنسبة لعوام المسلمين، فاتباع أهل العلم لا يكون اتباعاً لهم من ذواتهم من حيث هم، وإنما هو باعتبارهم ممثلين للشريعة ووسائط بيننا وبين الشريعة الشريفة في العلم والفقه.
وقد اتفقت الأمة على أن اتباع أهل العلم إنما يكون من جهة علمهم بالشريعة وقيامهم بحجتها، وحكمهم بأحكامها جملة وتفصيلاً، وأن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعاً ضلال وبهتان، وأن من علم أو غلب على الظن عدم إصابته للحكم الشرعي فيما ألقاه فلا يتبع في ذلك، بل يجب التبين ومواصلة السؤال حتى يغلب على الظن أنه حكم الله تبارك وتعالى، فأنت لا تتبع المفتي أو الفقيه أو الإمام لذاته، وإنما أنت تتبعه من حيث كونه وسيلة إلى تعليمك أو إعلامك وتعريفك بحكم الشرع الشريف، فحتى في التقليد المتبوع الحقيقي هو الشرع الشريف ليس هذا فحسب، بل أجمعت الأمة على أن زلة العالم الفقيه المخلص -الذي كل الصفات فيه- لا يصح الاعتداد بها، ولا البناء عليها، ولا على اعتبارها قولاً يعتد به في مسائل الخلاف، ولا يصح نسبته إلى الشريعة بأي حال من الأحوال، لأنها لم تصدر عن اجتهاد، ولا هي من مسائل الاجتهاد، وإنما كان صدورها لمجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته.
والخلاف الذي يعتد به هو الخلاف الصادر عن أدلة معتبرة في الشريعة، لكن إذا زل العالم زلة شديدة -وهذا موجود في العلماء- فهل تنسب زلته إلى الشريعة؟ وهو ليس قاصداً ولا متعمداً، فما بالك بمن يرفض التحاكم إلى الشرع أصلاً وابتداءً ويهدر سيادة الشريعة؟!(106/22)
نفي وجود أي خلاف في سيادة الشرع للمنهج الإسلامي
والسؤال الأخير الذي يفرض نفسه الآن: هل يعتبر تفرد الشرع الشريف بالسيادة موضع خلاف في المنهج الإسلامي، أو في داخل الأمة المسلمة؟! لا بد أولاًَ أن نحرر محل النزاع في هذه القضية، فالسيادة التي جرى حولها النزاع هي السيادة في مفهومها الغربي كما فصلنا فيما تقدم من الكلام، وهي السلطة العليا المطلقة التي تحدد نفسها بنفسها، فلا تتقيد بقانون؛ لأنها هي التي تضع القانون، ولا تعرف فيما تنظمه من علاقات سلطة أخرى تساويها أو تساميها.
فإذاً: أبرز ما يميز هذه السلطة الإطلاق، سلطة مطلقة بلا قيود، والعلو، والتفرد أو الوحدانية، والأصالة والقيام بالنفس.
وهذه الصفات تشبه كلام الأشاعرة: قيامه تعالى بنفسه، فهذه صفات الواجب الوجود وهو الله سبحانه وتعالى وهذه في اللغة الكلامية، فكذلك يشبه قيامه تعالى بنفسه قولهم: قيام صاحب السيادة بنفسه، أي: أنها لم تستمد هذه الخصائص من جهة أخرى؛ لأنه لا توجه فوقها، بل ولا مثلها جهة.
كذلك أبرز علامات السيادة: الحق في التشريع المطلق، فالقانون هو التعبير عن إرادتها الحرة، وليس لأي جهة كائنة ما كانت، ولا لشخص كائناً من كان أن يقيد هذه الإرادة أو أن يلزمها بالتصرف على نحو معين إلا إذا أرادت هي ذلك، فهل كانت السيادة على هذا النحو موضع نزاع في الفكر الإسلامي؟ وهل قال أحد من علماء المسلمين: إن أحداً بعد الله عز وجل له سلطان مطلق في التشريع يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء إلى آخره؟ إن الذي نقطع به ويقطع به كل مسلم أن أحداً من أهل الإسلام لم يجترئ على هذه المقالة في تاريخ الإسلام، اللهم إلا إذا كان قد كفر بعد إيمانه، وخلع ربقة الإسلام من عنقه، والدليل على ذلك ما سبق سرده من الأدلة، وأي محاولة لتصوير القضية على غير هذا النحو تمييع لها، ولذلك تلاحظوا الجماعة الذين يأتون في الإعلام ويتناولون هذه القضايا بناء على مصطلح يستعملونه وهو (دايالوج) و (مونولوج)، فالـ (مونولوج) يطلق على الطرح عندما يكون المتكلم واحداً ويفرض كلامه على الجالسين، أما الـ (دايالوج) فهو اشتراك أناس في حوار مفتوح لكن هناك من يفرض رأيه على الناس، فتجد أنه يتكلم في غرف مغلقة ولا يسمح لأحد أن يعترض عليه، ولا يمكن للصوت الآخر أن يصل، فيسمم أفكار الناس بما شاء من ضلالاته.
والحقيقة كما ذكرنا مراراً أن عموم الناس ما زالوا على ولائهم للإسلام، ويكفي أن الناس لو تجد أدنى ثغرة ينفسون فيها عن ولائهم للإسلام فإنه يحصل هذا الطوفان الهادر المزعج لأعداء الإسلام، وهذا الذي يجعلنا ندعو أن لا يتورط أحد في التكفير المطلق لعموم الناس؛ لأن المسألة أنه يحال بينهم وبين شرع الله تبارك وتعالى.
يقول الدكتور الصاوي حفظه الله تعالى: إن أي محاولة لتصوير القضية على غير هذا النحو تمييع لها، وتزييف للوعي في أخطر قضية تتعلق بواجب هذا الوقت، فأي مسلم أو عالم من علماء المسلمين في يوم من الأيام قال: إنه ممكن أن تكون السيادة لغير الشرع فالزعم بهذا حدث يجافي الواقع ويكابر الحقائق كما بينا، فحتى كبار علماء الحقوق الذين هم غير متخصصين في الدراسات الشرعية يقررون أن تفرد الشرع بالسيادة موضع إجماع الأمة قاطبة.
يقول الدكتور فرج السنهوري وهو من الذين عملوا في التشريع الوضعي ليس هنا فقط ولكن أيضاً خارج مصر، يقول: روح التشريع الإسلامي تفترض أن السيادة بمعنى السلطة غير المحدودة لا يملكها أحد من البشر، فكل سلطة إنسانية محدودة بالحدود التي فرضها الله، فهو وحده صاحب السيادة العليا، ومالك الملك، وإرادته هي شريعتنا التي لها السيادة في المجتمع، ومصدرها والتعبير عنها هو كلام الله تعالى المنزل في القرآن، وسنة رسوله المعصوم الملهم، ثم إجماع الأمة.
يعني: حتى الحقوقيين حينما تأتي تكلمه عن الإسلام يقول: اختاروا الذي أنتم تريدونه، لا إكراه في الدين، لكن عندما يأتي ذكر الإسلام يقول الحقيقة، ولا يمكن أن يوجد عامي من عوام المسلمين باق وثابت على إسلامه ويقول: إن السيادة -بالمعنى الذي ذكرناه- تكون لغير الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى يقول: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] فالذي يخلق هو الذي له الحق في الأمر والتشريع، أما هؤلاء فيفرقون ممكن يقولون: ربنا هو الخالق، لكن يرفضون أن يكون الله هو الآمر والمشرع سبحانه وتعالى.
وهنا نلخص فصلاً مما عقده يقول في خلاصته: إن الاجتهاد يكون في دائرة المباح والأمور التنفيذية البحتة، يعني: الاجتهاد يكون في دائرة المباح فلا تأت تجيش في قضية أن الخمر حرام وتفتح باب الاجتهاد فيها، فالأمور التي حسمت شرعاً لا اجتهاد فيها، وإنما الاجتهاد في دائرة الأمور المباحة، أو الأمور التنفيذية البحتة، أو في عملية القوانين الإدارية، لأن هناك فرق بين القوانين الإدارية وبين القوانين التي تصادم الشريعة، فالقوانين الإدارية تنظم مثلاً كشوفات العمال والموظفين وحقوقهم وكذا وكذا، وهذه أمور إدارية بحتة لا حرج فيها؛ لكن مطلوب فيها الالتزام بروح الشريعة والقواعد العامة من العدل والمساواة وغيرها.
يقول: كذلك: إن الاجتهاد يكون في دائرة المباح في الأمور التنفيذية البحتة التي يتولاها أهل الحل والعقد، الذين هم أهل الشورى مع رقابة عامة من علماء الشريعة، أما الاجتهاد في دائرة الحلال والحرام، وما كان مستنداً إلى النصوص أو حمل عليها بطريق الاجتهاد فإنه يتولاه العلماء وأئمة الفتوى، مع الاستعانة في معرفة الواقع وتوصيفه بأهل الاختصاص.(106/23)
أوجه المقارنة بين السيادة في المنهج الغربي والسيادة في المنهج الإسلامي
ثم يعقد مقارنة بين السيادة في المنهج الغربي، والسيادة في الشرع الإسلامي، يقول: الفرق الأول: مصدر السيادة في الفقه الإسلامي هو الله عز وجل الذي يقضي فلا راد لقضائه، ويحكم فلا معقب لحكمه قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] الدين ما أوجبه، والشرع ما شرعه، والحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، كما تفرد بالخلق فلم يشاركه فيه أحد تفرد بالأمر فلا يشرك في حكمه أحداً.
أما السيادة في النظريات الغربية فمردها إلى الإرادة العامة للأمة سواء باعتبارها شخصية معنوية، أو باعتبارها مكونة من عدد من الأفراد، وهذه الإرادة المطلقة لا تلتزم بقانون؛ لأن التعبير عنها هو القانون، ولا تقيدها جهة؛ لأنها أعلى من كل جهة، ولم تكتسب سلطانها من أحد؛ لأنه لا يماثلها ولا يساميها أحد، وبالجملة فإن الصفات التي يعتقدها المؤمنون في الله، يخلعها هؤلاء على هذه الإرادة المطلقة.
يقول السنهوري: روح التشريع الإسلامي تفترض أن السيادة بمعنى السلطة غير المحدودة لا يملكها أحد من البشر، فكل سلطة إنسانية محدودة بالحدود التي فرضها الله، فهو وحده صاحب السيادة العليا، ومالك الملك، وإرادته هي شريعتنا التي لها السيادة في المجتمع، ومصدرها والتعبير عنها هو كلام الله المنزل في القرآن، وسنة الرسول المعصوم الملهم، ثم إجماع الأمة.
يعني: حتى موضوع نظرية السيادة في المفهوم الغربي فهي ناشئة عن صراع داخلي هناك عندهم في الغرب، صراع بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، هل نحن المسلمين عرفنا هذا الصراع؟ ما عرفنا هذا الصراع؛ لأن الصورة قاتمة جداً، لو درستم تاريخ القرون الوسطى المظلمة -كما يسمونها- فإن الفرق شاسع، فالحاصل أنه تعميم على بلاد المسلمين بما لا ذنب لهم فيه، فأمتنا لم تعرف مثل هذا الصراع، ولا هذا التجزؤ كما شرحنا ذلك في محاضرة بعنوان: (العلمانية طاغوت العصر) حيث تكلمنا عن تاريخ أوروبا في تلك الحقبة بنوع من التوضيح والتفصيل.
إذاً: الوجه الأول من أوجه المقارنة بين نظرية السيادة في الشرع الإسلامي وبينها في الغرب مصدر السيادة، فمصدر السيادة هنا في الشرع الإسلامي هو الله سبحانه وتعالى كما بينا.
الوجه الثاني هو من حيث الثبات والتغير، فالقواعد التي تقررها السيادة الغربية قابلة للنسخ والتبديل في كل وقت؛ لأن من يملك الإنشاء يملك الإلغاء، حتى أنكم تلاحظون في بعض البلاد الدستور الذي هو يعتبر أقوى مرجعية في أي شعب فإنه يتغير، وها نحن رأينا أمريكا ماذا عملت في العراق؟ بمنتهى البساطة لأن ضابطها في ذلك أهواء البشر والضغوط التي تحصل على الأمم أحياناً، فهو فحوى كلامهم أن السيادة هذه أو السلطة هذه معصومة؛ لأنها مصدر السلطات، ومع ذلك يقبل حكمها التغيير والتبديل والنسخ في كل وقت؛ لأن من يملك الإنشاء يملك الإلغاء.
ولما كانت هذه القواعد تعبيراً عما سموه بالإرادة العامة الحرة فإن هذه الإرادة الحرة لها مطلق الصلاحية في نسخها وتبديلها متى تشاء، فقد تحل الشيء اليوم وتحرمه غداً أو العكس، ولا بأس عليها في ذلك ولا تثريب، ولكن القواعد التي تقررها السيادة الشرعية في الإسلام تتسم بالثبات والخلود، وقد انقطع الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فهي ثابتة باقية ما دامت السماوات والأرض، ولا مبدل لكلمات الله، فما أحله الله ورسوله فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة، ولا تملك الأمة الإسلامية ولو اجتمعت كلها في صعيد واحد أن تحل شيئاً مما حرم الله، أو أن تحرم شيئاً مما أحل الله.
يقول الدكتور الطماوي: إن القواعد والأحكام المستمدة من القرآن والسنة باعتبارها تعبيراً عن إرادة الله سبحانه وتعالى -بطريق مباشر وهو القرآن، أو غير مباشر وهو السنة- تتسم بالخلود، ولا يمكن أن تتغير بحال من الأحوال لأنها ليست من وضع جماعة المسلمين حتى يجوز لهم التعديل فيها، لهذا لا يمكن تشبيه القرآن والسنة حتى بالقواعد الدستورية وفقاً لاصطلاحات فقهاء القانون العام المعاصرين؛ لأن المسلم به أن للجماعة في كل وقت أن تغير دستورها بمطلق حريتها، ودون أي قيد في هذا الخصوص.
الوجه الثالث من أوجه المقارنة من حيث العلاقة بالدين: السيادة في المنهج الإسلامي هي سيادة الشرع، وغايتها تحقيق العبودية لله عز وجل، وسياسة الدنيا بالدين، فلا مجال في ظل هذه السيادة لعزل الدين عن شأن من شئون الحياة، أو تقليص سلطانه عليه، أو أن الدين يحبس في داخل القفص الصدري أو داخل جدران المساجد.
الفارق الأساسي بين دين الإسلام وغيره من الأديان، الدين الإسلامي دين حياة، ونظام كامل للحياة، لا يمكن أن يرضوا بنا حتى إن رضينا نحن بهم، لأن أهم شيء في الفرق بين الإسلام وغيره من الأديان أن الإسلام ليس ديناً كهنوتياً بل هو دين حياة، وتطبيق الشريعة الإسلامية يعتبر العدو اللدود لأعداء الإسلام.
فالشاهد من الكلام أن الإسلام دين حياة، ولا يمكن أن يعزل عن الحياة، فلذلك تجد العلماني دائماً حريصاً على خنق الإسلام منع الأذان منع الشعائر الإسلامية عدم اضفاء الصبغة الدينية على المجتمع، وهذا هو الهم الأكبر عند العلمانيين.
يقول الدكتور صلاح الصاوي حفظه الله تعالى: السيادة في المنهج الإسلامي هي سيادة الشرع، وغايتها تحقيق العبودية لله عز وجل، وسياسة الدنيا بالدين، فلا مجال في ظل هذه السيادة لعزل الدين عن شأن من شئون الحياة، أو تقليص سلطانه عليه، اللهم إلا جانب فوض الدين فيه الأمر إلى الخبرة والتجربة، وفيما عدا ذلك فالدين هو الروح التي تسري في أوصال المجتمع كله؛ لأن الإمامة في الإسلام موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، ولكن السيادة في المنهج الغربي لها مع الدين شأن آخر، فقد قننت نظريات السيادة في هذه المجتمعات الغربية لتنزع ابتداء السلطة من كل الملوك ورجال الكنيسة، والثورة الفرنسية التي يرجع لها الفضل الأول في نشر هذه النظريات كان شعارها (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس).
وإذا كانت السيادة كما يقول فقهاء الغرب: لا تقبل التعدد، ولا تعرف التقييد، فإن في تقرير هذه السيادة المطلقة لإرادة الأمة أو الشعب إلغاء لدور الدين بالكلية في مجال التوجيه والتشريع، وإبقاؤه مجرد ترانيم وطقوس يمارسها من شاء في أعماق المعابد دون أن يكون لها أدنى دور في مجال من مجالات الحياة العامة، فلا بأس بالدين في ظل هذا المنهج أن يبقى عقيدة في الحنايا، يعني: عقيدة محبوسة داخل القفص الصدري، وشعائر تؤدى في المعابد على أن تنتهي رسالته، ويقف دوره عند هذا الحد؛ لأن ما وراء ذلك من الشئون مرده إلى سيادة الأمة، وهي إرادتها العامة الحرة الطليقة التي تحدد نفسها بنفسها ولا تقبل سلطاناً عليها من أحد، ولهذا كان فصل الدين عن الحياة أمراً ملازماً لهذا المنهج لا ينفك عنه؛ لأن السيادة واحدة لا تتعدد، وقد نزعها هذا المنهج من الدين ومن الملوك، وجعلها حقاً خالصاً لإرادة الأمة.
كذلك من أوجه المقارنة من حيث الحق في التشريع: التشريع في المنهج الإسلامي لا يكون إلا لله، ولا تملك الأمة في ظل هذا المنهج إلا الاجتهاد في فهم النصوص الشرعية وتطبيقها على ما يجد من الحوادث، وليس لفقهائها ولو اجتمعوا في صعيد واحد أن يتجاوزوا الإطار الذي تحدده هذه النصوص، ومن فعل ذلك منهم ففعله منعدم لا شرعية له ولا اعتبار، يعني: نحن نقول للإخوة الذين يذهبون إلى الغرب ليقيموا: هناك كلام للعلماء في هذا، وهو أنه يجوز لك الإقامة في بلاد الكفار بشروط معينة من ضمنها إظهار الدين، هل من يدخل مجلس الشعب سيقوى على إظهار الدين بهذه المفاهيم التي نتحدث فيها؟ هل يستطيع أحد أن يدخل ويأخذ فرصة ليتكلم عن السيادة التي يمثلها مجلس الشعب في المنهج الغربي والسيادة التي يمثلها الإسلام؟ فهل هو قادر على إظهار دينه في وسط هؤلاء القوم؟ لا يستطيع.
نعم هناك دائرة المباح والعفو، وهو ما سكت الله عنه، وهذه فوضتها الشريعة إلى الأمة لتقرر فيها ما يحقق مصالحها العامة في إطار مقاصد الشرع وقواعده الكلية، ولكن الأصل فيما وراء ذلك هو التقيد بالنصوص والأدلة الشرعية، وقد تقرر في عقيدة التوحيد أن من زعم لنفسه الحق في التشريع بغير سلطان من الله فقد تجاوز حدود العبودية، وتطاول إلى مقام الربوبية، وجعل نفسه نداً لله تعالى، وإنه بذلك يكون قد خلع ربقة الإسلام من عنقه، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، ويعد هذا المعنى من الأمور البدهية التي يقف عليها كل من له صلة بعلوم الشريعة، وإن لم يكن من المتخصصين في هذه العلوم.
يقول الدكتور الطماوي: التشريع بمعناه الدقيق في الإسلام إنما هو لله تعالى، وعلى هذا الأساس لا تملك أي سلطة في الدولة الإسلامية -سلطة التشريع- أي: ابتداع أحكام في الدولة، وأما مواجهة الضرورات الجديدة فإنما يكون عن طريق استمداد ما يناسبها من أحكام من التشريع الإلهي، ولقد رأينا أن هذه الوظيفة إنما يقوم بها فئة خاصة من المسلمين هم المجتهدون.
انتهى.
ويقول الدكتور الصاوي: أما التشريع في ظل سيادة الأمة فهو حق خالص من الأمة، لا ينازعها فيه منازع، ولا يشركها فيه شريك، وهذا الحق ثابت لها بالأصالة وهو مطلق بلا حدود، فما تحله هو الحلال، وإن اجتمعت على حرمته كافة الشرائع السماوية كالزنا عن تراض على سبيل المثال، وما تحرمه هو الحرام، وإن اتفق على حله من في الأرض كلهم جميعاً، فإرادة الأمة في هذا طليقة من كل قيد؛ لأنها تعلو جميع الإرادات وتهيمن على كافة السلطات.
ثم يقارن من حيث المصادر الشرعية، فيقول: المصادر الشرعية في المنهج الإسلامي تتمثل في القرآن والسنة، وما حمل عليهما بطريق الاجتهاد، والمراجع التي يرجع إليها الباحثون في هذا المجال هي كتب التفسير، وكتب الحديث، وكتب الفقه، وكتب الأصول ونحوها، والأعلام الذين يستأنس بتفسيراتهم واجتهاداتهم هم الأئمة ال(106/24)