بعض اقتراحات الدكتور الصباغ في تربية الأهل
اقترح الدكتور الصباغ بعض الاقتراحات في تربية الأهل فقال: أولاً: لابد أن تخصهم بجلسة أسبوعية كأقل تقدير، وإن استطعت أن تكون في مدة أقل كان أحسن، ويكون فيها درس عائلي للأسرة وللأهل.
ثانياً: إقامة حلقات للأولاد يتولاها أناس ظلهم خفيف، ودينهم جيد، وبيانهم مشرق، وإن كانت مستوياتها مختلفة للابتدائي والمتوسط والثانوي والجامعي فهو أفضل: (فالمرء على دين خليله).
هذه أمور هي بأيدينا، وهذه الأسباب في المحافظة على الأهل والأولاد وتربيتهم وأداء واجب الرعاية نحوهم، ونستطيع بها أن نقاوم هذا المد الجارف من الضلال والانحراف الذي يكتسح المجتمع.
فلنتق الله سبحانه وتعالى فيها، ولنصلح الفاسد، ولنحذر غرق سفينة المجتمع، فالأسرة هي القلعة الأخيرة التي ينبغي أن نوقف حياتنا وإمكاناتنا لحمايتها وحفظها، وإنا لمسئولون كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عز وجل سائل كل راع عما استرعاه، حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته).
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(69/11)
وصية الصباغ للزوج حديث العهد بالعرس
يوصي الأستاذ الدكتور/ محمد الصباغ حفظه الله تعالى الزوج العروس فيقول له: لا تشتغل طويلاً عن أهلك، واعلم -يا أخي- أن الجلوس إلى عروسك ومحادثتها ليس وقتاً ضائعاً، لاسيما إذا كانت المحادثة تسير في طريق هادف، وتسعى نحو قصد محدود.
بعض الدعاة يكون خارج البيت مع إخوانه الذين يتعاون معهم في الدعوة، وإذا عاد إلى البيت يعود بهم إلى البيت، وكل هذا على حساب رعيته التي رعايتها متعينة عليه! فلابد من التوازن بين الحقوق والواجبات، هذا التوازن قد أرسى قواعده النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف حينما قال: (فأعط كل ذي حق حقه).
فالإنسان له عدة صفات: فهو مسلم مطالب بالصلاة والصيام والزكاة والحج وطلب العلم إلى آخره، وداعية مطالب بكذا وكذا، وزوج مطالب بحقوق للزوجة، ومزور مطالب بحقوق ضيوفه، وأب مطالب بحقوق أولاده، وعليه حقوق لربه عز وجل، وحقوق لصحته، وهكذا (فأعط كل ذي حق حقه)، ولا تعطي البعض وتترك البعض: (فأعط كل ذي حق حقه).
فبعض الناس يرى أن الجلوس مع الزوجة لتوجيهها ومحادثتها وتعليمها وقت ضائع، وهذا كثير ما ينبع من مشكلة موجودة في مجتمعنا وفي تقاليدنا، ويكمن وراءها كثير من المصائب الاجتماعية، وهي مشكلة احتقار المرأة، فبعض الناس تربى على أن المرأة كيان محتقر، لا كرامة لها ولا شخصية ولا قيمة، ويتداولون في ذلك بعض القصص التي لم تصح، وليست من ديننا في شيء، وهي قصص موجودة في بعض كتب الأدب، وليست من القرآن ولا الأحاديث، لكن انظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال)، ومع ذلك نجد الاحتقار العميق للمرأة، والتكبر عليها، والنظر إليها نظرة ازدراء، مما ينعكس في الاهتمام بها؛ لأنها لا تستحق أصل الاحترام، أو المعاملة الكريمة، أو المجاملة أو غير ذلك، ونسمع أشياء فظيعة جداً من بعض الناس في معاملته لامرأته، ويرى أن الإحسان للمرأة بالكلام الطيب متناف مع الرجولة، ويستنكف أن يكلم المرأة بلطف! ويظن أن ذلك تذلل لها، والمفروض أن يكون شامخاً في السحاب، كيف ينزل إلى مستواها؟! ونسي أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما راعى فطرة المرأة في هذا الجانب بالذات جعل الكلمة الطيبة صدقة، يثاب عليها المسلم، بل أعظم من ذلك وأكبر شيء قاله خير مؤدب ومعلم عرفته البشرية صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: وجعل منها حديث الرجل إلى امرأته)، بمعنى: أنه يمكن أن يكذب عليها ويثاب، كيف هذا مع أن الكذب من الكبائر؟! ليس المقصود بالكذب أن تعدها بشيء ثم لا تفي به، وإنما المقصود به: المجاملة التي لا تكلفك شيئاً سوى أن تخرج كلمة طيبة فقط، وماذا سوف تخسر؟ والذي يمنع الزوج من الإحسان إلى المرأة بالكلام الطيب غالباً أنه الكبر، فهو كامن راسخ في نفسيته، واحتقاره المرأة وازدرائها يكون قد تشربه من الجو المحيط به في تنشئته أو من مصادر ثقافية معينة شوهت عند هذه المفاهيم، مثل أشياء تنسب للإسلام وليست من الإسلام، مثل الحديث الموضوع المزعوم: (شاوروهن وخالفوهن) يعني: شاور المرأة وانظر ماذا تقول، ثم خذ بخلافه، كيف هذا؟! ما أكثر ما تشير المرأة بقول يزن عشرات العقول من الرجال! كما حصل حينما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمشورة أم سلمة رضي الله عنها في قصة الحديبية.
وتوجد كثير من الألفاظ سيئة وبذيئة لا نستطيع أن ننطق بها، وكثير من الأشياء الموجودة في التراث فيها تحقير للمرأة، وإهدار لحقوقها ولكرامتها، وأنها كيان كقطعة أثاث في البيت! وأنها ينبغي لها أن تتلقى الإهانة تلو الإهانة، ولا تكترت بذلك ولا تتأثر، وكيف تتأثر وهي امرأة محتقرة ولا كرامة لها؟! النبي عليه الصلاة والسلام أباح للرجل الكذب في حديثه إلى امرأته، فما معنى الكذب؟ ليس معناه أن يعد وعداً فيخلف أو يكذب في شيء خارج دائرة المجاملات، والمجاملات أحياناً نفهمها خطأ، ونتصور أن المجاملة بشيء في أقصى درجته قد يكون مستحباً، لا، المجاملة قد تكون واجبة وفريضة في بعض الأحوال، أليس رد السلام مجاملة وهو واجب؟! قال الله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، فهذه مجاملة داخلة تحت حكم شرعي واجب، وتشميت العاطس مجاملة اجتماعية وهي واجبة.
فموضوع المجاملة واسع، قد يكون فيه واجبات، وقد يكون فيه مستحبات، وقد يكون فيه مباحات، فمجاملة المرأة أمر مهم جداً، فالرجل إذا كسب زوجته فإن ذلك في مصلحته، فإنه يستطيع حينئذٍ أن يتعاون معها على تربية أولاده تربية حسنة، ويستطيع أن يؤمن بيته من الزلازل التي تهدد استقراره.
فمن السياسة مع الزوجة المداراة والتلطف والمجاملة حتى لمجرد المصلحة، والمجاملة تدخل تحت إطار الكلمة الطيبة، وليس فيها إخلاف وعد ولا تزوير، بل هي في دائرة المدح كما يقول الشاعر: خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرهن الثناء ففطرة المرأة أنها تحب أن تمدح، فالشرع راعى هذا الجانب، وفطرة المرأة أنها تحب أن تتزين، فاستثنى لها الشرع لبس الحرير والذهب، وهذا كله مراعاة لهذه الفطرة، فالحرير والذهب حرام على الرجال، ومباح وحلال للنساء، وأباح لهن اللعب بالدمى مراعاة لفطرة الأمومة التي تبدأ عندهن منذ الطفولة الباكرة، فمباح للطفلة أن تلعب بالدمى حتى يغذى فيها هذا الشعور، ألم يقل الله تبارك وتعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]؟! وهذا إشارة إلى طبيعة المرأة حتى وهي طفلة صغيرة، فقد تجد طفلة لم تر تلفازاً ولا خالطت أناساً غير ملتزمين، ومع هذا تحب أن تقف أمام المرآة، وتسرح شعرها، وتلبس كذا، وتريد أن تسمع الثناء على أنها جميلة أو أنها تلبس ملابس جميلة وكذا وكذا.
فالكذب مع المرأة هو مراعاة لهذه الفطرة، فالشرع أباح للرجل أن يكذب في مجاملته لامرأته، كأنه يحبها كذا وكذا وأنه هو العاشق الموله وأنه كذا وما الذي سوف يخسره؟! بل سيكسب بذلك كثيراً جداً، ولا يخسر شيئاً، وإذا ركب رأسه وعاند فإنه سيدفع الثمن؛ لأن سوء العلاقة حتماً سينعكس على تربية الأولاد.
كلما كسب الرجل زوجته كانت الثمرة حسنة جداً في حق الأولاد، ومن المجاملة أن يقول عن طبخها مثلاً: إنه أحسن طبخ في العالم، ويمدح الملابس والشكل، وهذا كله مما يباح الكذب فيه، ويرجى أن يثاب المرء في ذلك، فهل هناك تقدير لنفسية المرأة أكثر من هذا؟! ومع ذلك نجد الحواجز الكثيرة عن هذا بسبب الشعور بالكبر، قال صلى الله عليه وسلم: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)، فكيف يتنزل من عليائه لهذا المخلوق الحقير في نظره؟ هو قد لا يقول الحقيقة، لكن سلوكياته تنبئ عن شعور كامل في قلبه باحتقار المرأة وإهدار كرامتها.
فالشاهد: أن الرجل ينبغي له أن يجتهد في معاملة زوجته بالمعروف، ولو بالمجاملة، والعلماء حينما تكلموا عن العشق ذكروا أن هناك عشقاً مباحاً وهو عشق الرجل لامرأته! والعشق: هو صرف المحبة، والزوجة يباح عشقها، والسبيل إليها متيسر شرعاً بخلاف الأجنبية، فعشقها يكون بلاء في الدين والدنيا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لم ير للمتحابين مثل النكاح)، فأحسن حل إذا حصل العشق هو الزواج.
الشاهد من هذا: أن العلماء ذكروا أن عشق الزوجة هو العشق المباح؛ لأنه لا ضرر فيه، ولا يوصل إلى حرام من خلوة محرمة ونحو ذلك، وإنما هو حلال، والشريعة اتخذت كثيراً من الإجراءات التي توطد العلاقة بين الزوجين.
يقول الدكتور الصباغ حفظه الله تعالى: لا تنشغل طويلاً عن أهلك، واعلم أن الجلوس إلى عروسك ومحادثتها ليس وقتاً ضائعاً لاسيما لو تأملنا الحديث في الحالات التي أبيح فيها السمر بعد العشاء، وهي طلب علم أو مؤانسة ضيف أو محادثة أهل.
وفي الحديث: (كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو ولعب إلا أربع: وذكر منها: وملاعبة الرجل امرأته)، فاللعب مع المرأة ليس من اللهو الباطل، بل هو مما يعين على الحق، ويعين على العفاف، لاسيما مع حديث العهد بالزواج، فإنه يحتاج إلى نوع من الألفة في المراحل الأولى، والشرع لم يهمل هذا، فقد خصص الشرع للزوجة الثانية أسبوعاً كاملاً يلازمها زوجها إذا كانت بكراً، ولا يذهب للزوجات الأخريات؛ ليحصل الائتلاف وزوال الوحشة بينهما في هذه الفترة.
وبعض الناس قد يغالي في فهم هذا الحكم، فبعضهم لا يخرج لصلاة الجماعة، فهذا غلو، والمقصود أنه لا يترك المبيت الذي هو الأساس.
يقول الصباغ: إنك بذلك تفهم زوجك، وتطيق لها أيضاً أن تفهمك، وهذا الفهم هو الخطوة الأولى للمعاشرة الحسنة، وكم رأينا في واقع الناس أزواجاً يقضون العشر والعشرين من السنين ولا يفهم أحدهما الآخر، وكان ذلك سبباً من أسباب النكد والشقاق.
إنك يا أخي بجلوسك إلى أهلك ومحادثتك إياها تفسح المجال لك لتقنعها بكثير من آرائك التي تبدو غريبة عليها بادئ الأمر.
فبعض الناس يشتكي من زوجته، ويريد أن تلتزم أو يشتكي أنها تقصر في كذا وكذا، فحينما تسأله: ما الدور الذي قمت به كي توجهها وتحبب إليها الحق؟ كيف علمتها؟ لا تجد شيئاً، وقد تجد من يريد أن يعذر نفسه فيقول: كلمتها ولم تستجب! هذا فقط! إن تنويع أساليب الدعوة مهم كالرفق والتلطف، والكلام بالمعروف وبالتي هي أحسن، وهذا لا أثر له ولا وجود له، ويريد البيت مثل الثكنة العسكرية، أوامر ضابط لجندي فقط، ويريد أنه يأمر والزوجة تسمع وتطيع.
يقول الصباغ: الكلام أول مرة لا يترك الأثر المطلوب، ولا يلمس الإنسان نتيجته، ولكن التكرار، وحسن اختيار الوقت المناسب، والأسلوب المناسب في عرض الفكرة، وضرب الأمثلة الكثيرة؛ لابد أن يترك أثراً كبيراً في الإنسان.
واعلم -يا أخي- أن الحديث الطويل الهادف غير الممل، والمؤانسة المهذبة؛ يمدان الحياة الزوجية بالقوة والنماء وأفضل الغذاء، ولتضع نصب عينك ما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه قا(69/12)
من آداب المجلس
بُعث النبي عليه الصلاة والسلام ليتمم مكارم الأخلاق، فعلّم أمته آداباً عظيمة، فيها خيرات كثيرة، ومصالح عديدة، ومن تلك الآداب: آداب المجلس، فينبغي على المسلم أن يتأدب بذلك في مجالسه؛ حتى تكون مجالسه مباركة خيرة.(70/1)
سبب نزول قوله تعالى: (ألم ترى إلى الذين نهو عن الجوى ثم يعودون) الآية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين.
أما بعد: فيقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:7 - 10].
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله سبحانه: (ألم تر إلى الذين نهو عن النجوى) قال: اليهود، وكذا قال مقاتل بن حيان، وزاد: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة، وكانوا إذا مر بهم رجلٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم، حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره، فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم فترك طريقه عليهم، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى، فلم ينتهوا، وعادوا إلى النجوى، فأنزل الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة:8].
وهذه روايات نذكرها من باب جمع ما قيل في الآية وإن لم نقف على من صححها، ومن ذلك ما روى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنبيت عنده تكون له الحاجة، أو يطرقه أمر من الليل فيبعثنا والمحتسبون وأهل النوب؛ فكنا نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: ما هذه النجوى؟ ألم تُنهوا عن النجوى؟ قلنا: تبنا إلى الله يا رسول الله! إنا كنا في ذكر المسيح -يعني: المسيح الدجال - قال: فرقاً منه؟ فقال: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه، قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك الخفي: أن يقوم الرجل يعمل لمكان الرجل)، قال ابن كثير: هذا إسناد ضعيف؛ فيه بعض الضعفاء.
على أي الأحوال الآية في حق قومٍ نهوا عن النجوى ثم لم يمتثلوا هذا النهي، وإنما عادوا لما نهوا عنه؛ فهذا يكفينا إذا لم يصح في سبب النزول حديث.
وقوله سبحانه: ((وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ)) أي: يتحدثون فيما يختص بأحوالهم، ويكون فيه إثم ومعصية، أما العدوان فهو إثم يتعلق بغيرهم، ومنه معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ومخالفته، حيث كانوا يصرون عليها ويتواصون بها.(70/2)
حكم تحية الرسول بغير ما حياه الله
قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة:8] عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم! فقالت عائشة: وعليكم السام، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، قلت: ألا تسمعهم يقولون: السام عليك -يعني: الموت- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوما سمعت أني قلت: وعليكم، فأنزل الله: ((وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ)) [المجادلة:8]).
وفي رواية في الصحيح: (أنها رضي الله عنها لما قالوا: السام عليك يا محمد! قالت: عليكم السام والذام واللعنة، فنهاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنه يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا).
ونستفيد من هذا أن الجواب يكون هكذا في رد تحية أهل الكتاب؛ لأنهم يلحنون في القول، وربما ذكروا مثل هذه الأشياء، كقولهم: السام عليكم، أو السام عليك، وهم يقصدون بذلك الدعاء على المؤمنين بالموت والهلكة، فعلمنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نجيبهم فقال: (وعليكم) يعني: نفس الشيء الذي تدعون به علينا فنحن ندعو به عليكم، فإن كان قال: السام، فعليه السام -أي: الموت- أيضاً.
ويحتمل أنه أراد أنها من الدعاء على حسب نية القائل، ويحتمل أنه أراد أن يذكرهم بأن هذا أمر مقدور عليه وعليهم لا يستوجب الشماتة أو الدعاء؛ لأن الموت من سنن الله تبارك وتعالى، فكل الناس صائر إلى الموت، فكأنه قال: وعليكم، أي: أن الموت مكتوب عليكم كما هو مكتوب علينا، لكن إن كان قصدهم الدعاء ثم أجاب بقوله: وعليكم، فإنه بين أنه يستجاب لنا فيهم إذا دعونا عليهم، أما إذا دعوا هم على المؤمنين فلا يجيب الله تبارك وتعالى لهم في المؤمنين.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه إذا أتى عليهم يهوديٌ فسلم عليهم، فردوا عليه، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: هل تدرون ما قال؟ قالوا: سلم يا رسول الله! قال: بل قال: سأم عليكم، أي: تسأمون دينكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوه، فردوه عليه، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: أقلت: سأم عليكم؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سلم عليكم أحدٌ من أهل الكتاب فقولوا: عليك) يعني: عليك ما قلت، وهذا مخرج في الصحيح.(70/3)
معاملة اليهود والمنافقين للنبي صلى الله عليه وسلم
قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة:8]، جاء في بعض الأحاديث أنهم كانوا يحيونه بما لم يحيه به الله، فكانوا يقولون: السام عليكم، وهو يقول: السلام عليكم، كما حياه الله بذلك، {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة:8] فهذا يدل على أنهم في الباطن مكذبون بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإما أن يكونوا منافقين، وإما أن يكونوا من اليهود، كما جاء في تفسير هذه الآية، فإنهم حينما يفعلون ذلك يستبطئون نزول عذاب الله، ويقولون: لو كان هذا نبياً حقاً لنزل العذاب.
وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة:8] أي: أنهم يحرفون الكلام وفيه إيهام السلام وليس بسلام، وإنما هو شتمٌ في الباطن، وهذه عادتهم، كما كانوا يقولون للنبي عليه الصلاة والسلام راعينا، وإنما يقصدون بذلك وصفه بالرعونة، ولذلك نهينا عن أمثال هذه العبارات، وإنما أمرهم الله أن يقولوا: انظرنا، ولا يقولوا: راعنا.
والملاحدة يعرفون في لحن القول الذي يلحنونه ليؤذوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهم يشتمونه في الباطن، ويقولون في أنفسهم: لو كان هذا نبياً لعذبنا الله بما نقول له في الباطن؛ لأنهم يخفون هذه النوايا الخبيثة، والله يعلم ما يسرون، ويقولون: لو كان هذا نبياً حقاً لأوشك أن يعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا، فقال الله تبارك وتعالى: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} [المجادلة:8]، وأما الدنيا فيحصل فيها الاستدراج والإمهال،، فليس التفسير الوحيد لعدم نزول العذاب أنه ليس نبياً؛ لأن عدم نزول العذاب قد يكون لأسباب كثيرة، وقد يكون رحمةً بهم أنفسهم، لعلهم يتوبون، أو لوجود الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم، فلا يحول ذلك دون نزول العذاب، أو لغير ذلك من الأسباب، لكنهم يعلقون على عدم نزول العذاب الدنيوي هذا الأمر فقط، فقال عز وجل: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} [المجادلة:8] أي: يكفيهم جهنم، وهل بعد ذلك عذاب؟ حيث يخلدون في عذاب الله أبد الآبدين، فهي تكفيهم؛ لأنهم في الدار الآخرة يصلونها فبئس المصير.
روى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سامٌ عليك، ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول: فنزلت هذه الآية: ((وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)) [المجادلة:8]).
قال ابن كثير: إسناده حسن.
وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة:8] قال: كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حيوه: سام عليك، قال الله: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8].(70/4)
النهي عن التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول
قال الله عز وجل مأدباً عباده المؤمنين ألا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} [المجادلة:9] يعني: كما يتناجى الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين، فلا تتناجوا مثلهم على الإثم والعدوان ومعصية الرسول، ولا تفعلوا فعلهم، وإنما: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المجادلة:9] أي: حين يحشركم يخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي قد أحصاها عليكم، وسيجزيكم بها.(70/5)
النجوى يوم القيامة، وبيان ستر الله على عباده المؤمنين
روى الإمام أحمد بسنده عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر رضي الله عنهما إذ عرض له رجلٌ فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، فيقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟)، فالأمر كما قال عز وجل: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] فالإنسان تمر السنوات الطويلة فينسى المعاصي، لكنها محصية عند الله بمنتهى الدقة، كما جاء في بعض الروايات: (حتى فثاثة التين بأصبعه) أي: إذا كان الإنسان جالساً وفت التين بإصبعه فسوف يسأل عنها، ويذكر بها، فكيف بالآثام؟ وكيف بالكبائر العظام؟! فيقرره الله بجميع ذنوبه، حتى الابتسامة والضحكة تحفظ عليه في كتابه فيقول له ربه: (أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18])، وهذا الحديث أخرجه الشيخان في الصحيحين.
ففي هذا الحديث تفصيل لمعنى الحساب اليسير المذكور في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:7 - 9]، فالحساب اليسير كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم هو العرض، وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب)، والحساب اليسير فسره صلى الله عليه وسلم بما يجب المصير إليه، فحينئذٍ لا ينظر في خلافه؛ فإذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير فلا يجوز النظر فيما يخالفه؛ فإنه أعلم الناس بكلام الله تبارك وتعالى، فقد فسر الحساب اليسير بأنه مجرد عرض الأعمال، كما جاء في الحديث السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يضع كنفه على المؤمن ويستره من الناس، ثم يقرره بذنوبه، فيذكره بجميع ذنوبه) وتأمل يوماً مقداره خمسون ألف سنة مما تعدون، وهو يقرره بذنوبه: أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ وهو يقول: بلى يا رب! بلى يا رب! ويقر على نفسه بجميع المعاصي، حتى إذا وصل إلى آخرها، وظن أنه هالك لا محالة، حينئذٍ يقول الله تبارك وتعالى له: (فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم) وهذا من كرم الله تبارك وتعالى؛ لأنه ستير يحب الستر، ومن رحمته تبارك وتعالى على عباده أنه عز وجل يوجب عليهم أن يستروا أنفسهم، وينهاهم أن يفضحوا أنفسهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافىً إلا المجاهرين، قيل: ومن المجاهرون يا رسول الله؟! قال عليه الصلاة والسلام: هو العبد الذي يبيت في الليل، فيعمل المعاصي، ثم يصبح في الناس فيقول: قد فعلت، وقد فعلت)، فهذا يعاقب؛ لأنه لم يستر نفسه، فمن ابتلي بشيء من القاذورات -المعاصي- وسترها الله عليه، فيجب أن يستر نفسه، حتى لو كانت المعصية تستوجب حداً، فيستر نفسه، ولا يفضحها، ولا يكشف ستر الله عليه، فإذا منَّ الله عليه بالستر في الدنيا فيرجى أن يستر عليه في الآخرة، كما في هذا الحديث، أما أن يجاهر بالمعاصي فهذا من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وقد ورد الوعيد الشديد في ذلك، كما في قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19]، فمما حرمه الله إشاعة الفاحشة بأي صورة من صور الإشاعة، كأن يجهر الإنسان بالمعاصي التي سترها الله عليه.
فعلى المسلم أن يستر نفسه، ويستر إخوانه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، ويجب ألا يتداول الإنسان في كلامه وفي مجالسه ما يفضح نفسه من الحوادث والأشياء البشعة، فلا يجوز للإنسان أن يحكيها، وبعض الناس يتساهلون في هذا، ويظنون أنهم لا يرتكبون شيئاً محظوراً!(70/6)
نشر الحوادث والجرائم في الجرائد والتلفزيون من إشاعة الفاحشة بين المسلمين
ما ينشر في الجرائد من حوادث القتل والانتحار والفواحش، وأن هذا فعل كذا وفعل كذا؛ هذا كله مما يخدم مقاصد الشيطان في إفساد المسلمين؛ لأن الأشياء إذا اعتادت الأذن على سماعها هانت على القلوب، وخف استعظامها في القلوب، فبالتالي تعين على ارتكاب المعاصي، وربما فتحت حكاية هذه الشرور أبواباً من الحيل للوصول إلى الحرام لم تكن تخطر ببال الناس، بل كان الناس منها في عافية، فإذا علم الإنسان -مثلاً- أن هذا الشخص كان في ضائقة، وحصلت له محن شديدة، فانتحر بالطريقة الفلانية، ويأتون بالتفاصيل، فربما يخلو الشيطان بالإنسان، فيهلكه بهذه الحيلة المحرمة! وإذا أراد أن يسرق يقول: فلان عمل كذا، فيفعل مثله، ولذلك تجد الأولاد الصغار يفسدون بسبب هذه الأشياء، وهذا من بلاء التلفزيون الذي هو دجال هذا الزمان، الذي اخترق على المسلمين بيوتهم، وصار يعيث فيها فساداً.
حكي لي أن صبيين صغيرين دخل عليهما أبوهما فوجدهما ماسكين كوبين من الماء، ويتخبطان ببعض، ويقول أحدهما للآخر: الكلام ذا يقال في صحتك! فهما يقلدان السكارى، ولا يلوم الأب إلا نفسه؛ لأنه هو الذي أدخل التلفزيون إلى بيته، فهذا أقل شيء يمكن أن يقع من الفساد، ولولا أني لا أحب أن أشيع الفاحشة لحكيت أشد من ذلك مما يقع في البيوت من جراء وجود هذا الجهاز الخبيث في بيوت المسلمين.
فالرجل يظهر أنه غيور، وأنه رجل شهم، وإذا دخل الرجال إلى بيته يحجزهم عن نسائه، ثم يأتي بأفسق الفساق في العالم كله ويدخلهم بيته؛ لتتعلم بناته الرقص! وكيف تعمل المرأة مع معشوقها! وكيف يتكلمون! وفي أثناء ذلك يحصل نوع من تعويد قلوب المسلمين على استمراء هذه المنكرات، وإظهار المرأة الناشز الفاسقة التي تتمرد على زوجها وتفسق عن أمر ربها بأنها مظلومة؛ لأن الشخص الذي يعمل التمثيلية أو يضع هذه القصة هو الذي يتحكم، والناس لا ينتبهون إلى هذا، فهو يريد أن يصل إلى القلوب بطريقة شيطانية ملتوية؛ حتى يغير وينشئ فكرة معينة، فتجد -مثلاً- أنهم في القضايا التي تتعلق بالأمور الشرعية يحاولون أن يظهروا المجرم على أنه مظلوم، حتى المجرم الذي تعدى حق الله تبارك وتعالى! فيقولون: إن المرأة مظلومة ومقهورة، وربما يأتون بالزوج حتى يتمكنون من الطعن في الحكم شرعي، والطعن في أحكام الطلاق، والطعن في تعدد الزوجات، والطعن في أي شيء من الأمور الشرعية، فمن أجل ذلك لا ينبغي أبداً للمسلم بأي حال من الأحوال أن يوجد مثل هذا الجهاز في بيته.
وأنا لا أدري كيف يفعل الأخ حينما ينظر هذه المناظر القذرة أمام بناته ونسائه وأبنائه في هذا الدجال الجديد! هل يغلق التلفزيون أم أنه يظل جالساً مع بناته ينظر إلى هذه الفواحش؟! نسأل الله العافية.(70/7)
الحكمة في الأمر بالستر والنهي عن إشاعة الفاحشة
الإنسان منهي عن إشاعة الفاحشة بأن يحكي ما ستره الله عليه؛ فالإنسان إذا ستر على نفسه في الدنيا يجازى أن يستره الله في الآخرة، أما إذا هتك ستر نفسه فليبشر بالفضيحة في الدنيا وفي الآخرة.
والحكمة من ذلك: أن المجاهرة بالمعاصي تهون استعظامها في القلوب، وتجرئ الناس عليها؛ بحيث تجعل المعصية شيئاً طبيعياً جداً، فالمرأة -مثلاً- تقتل زوجها وتضعه في أكياس! والأولى أن الناس تستفظعه، لكن تكراره يجعل القلوب تألفه، وتتعود عليه، وربما تتفتق هذه الفكرة في ذهن امرأة أخرى ما كانت تخطر ببالها هذه الحيلة! فهذا كله من إشاعة الفاحشة في المؤمنين، فمن أجل ذلك حرم الله تبارك وتعالى كشف الستر عن المسلم، فمن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة.(70/8)
تحريم الخوض في أعراض المسلمين
بعض الناس يظنون أن الخوض في أعراض الناس بطولة، وأن المتكلم في ذلك إنسان متابع لأخبار الناس، ويعرف ما لا يعرفه الآخرون، فيخوضون في أعراض الناس بأدنى أدنى شبهة، أو بأضعف أضعف قرينة، ويظنون أنهم يسلمون من العاقبة الوخيمة في الآخرة! ينبغي للإنسان ألا يخوض في عرض أحد من المسلمين؛ فإن الربا من أعظم الجرائم ومن أعظم الكبائر، بل إن أقل وأهون درجة من الربا مثل أن ينكح الرجل أمه والعياذ بالله! ذكر ذلك عليه الصلاة والسلام، ثم في نفس الحديث قال: (وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فأهون الربا وأقل درجة من الربا ذنبها يساوي أن ينكح الرجل أمه، لكن أعلى درجة من الربا -وهي أقبح وأغلظ في العقوبة- هي استطالة الرجل في عرض أخيه! فينبغي أن يفطن المسلمون لذلك، فالإنسان لا يصغي سمعه ولا يرهف سمعه لمن يخوض في عرض أي رجل من المسلمين، وكلمة العرض أعم من المعنى الضيق الذي يتبادر إلى أذهان الناس في هذا الزمان، فالعرض ليس متعلقاً فقط بمسألة الإحصان والفروج، وإنما العرض: كل موضع في الإنسان قابل للمدح أو القدح، سواء ملابسه شكله هيئته مشيته كلامه أموره الخاصة أولاده، فلا يجوز للإنسان أن يتكلم في عرض أخيه؛ فعرض أخيه: كل موضع فيه يقبل المدح أو القدح، فهذا هو العرض، وليس هو المعنى الضيق الذي يتبادر إلى أذهان الناس.(70/9)
تقرير الله عز وجل لعبده على ذنوبه يوم القيامة
يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه، فيستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: فإني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18])، وفي الحديث الآخر: (من نوقش الحساب عذب)، أما مجرد العرض: أتذكر كذا؟ أتذكر كذا؟ فهذا هو الحساب اليسير، أما الحساب العسير فهو المناقشة، فمن نوقش حسابه فلابد أن يعذب، وفي بعض الأحاديث أن العبد ينكر هذه الذنوب، فيقول: ما فعلت، ويحلف على ذلك، فالله تبارك وتعالى يقول: (إنني لن أقبل لك شهيداً دون نفسك، فيختم على فيه، وتنطق جوارحه، فيقول: ويلٌ لكنَّ إنما عنكنَّ كنت أناضل)، فتنطق جوارحه بما فعل من المعاصي، كما قال تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]، وقال تبارك وتعالى: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).(70/10)
تعريف النجوى وحكم التناجي
قال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:10] النجوى هي: المسارة، بأن يسر الإنسان في أذن صاحبه كلاماً، ويخفضان الصوت، هذه هي المسارة، وقد يتوهم الناظر إليهما أنهما يريدان به ومصدر هذه النجوى هو الشيطان، يعني: يصدر هذا الفعل من المتناجيين عن تسويل الشيطان وتزيينه، فهو الذي يزين لهم ذلك.
وقوله: {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:10] أي: ليسوءهم، ولكن: {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادلة:10] ومن أحس من ذلك شيئاً فليستعذ بالله، وليتوكل على الله؛ فإنه لا يضره شيء بإذن الله، وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي، إذا كان في ذلك إيذاء للمؤمن.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حدثنا وكيع حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجين اثنان دون صاحبهما؛ فإن ذلك يحزنه)، وأخرجه الشيخان وغيرهما.
ورواه الإمام مسلم بلفظ آخر: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الثالث إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه).(70/11)
حكم القيام للقادم
قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11]، في هذا الموضع من كتب التفسير يذكر العلماء أموراً مهمة من الآداب الشرعية، فعامة العلماء المفسرين حينما يصلون إلى هذا الموضع في سورة المجادلة يذكرون الأمور الشرعية المتعلقة بآداب المجلس.
قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11].
وهنا مسألة من أحكام القرآن، وهي: حكم القيام للقادم، فهل يشرع إذا دخل عليك إنسان -لاسيما إذا كان كبير السن أو من أهل العلم والمنزلة والفضل- أن تقوم له على سبيل الإكرام والتعظيم؟ اختلف العلماء في ذلك خلافاًَ كبيراً، ومن أشهر من ألف في هذه المسألة شيخ الإسلام الإمام محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف الدين النووي، والأفضل ألا نقول: محيي الدين؛ لأنه كان يكره ذلك، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية كان يكره أن يلقب بـ تقي الدين، لكن جرت عادة اللسان بذلك، فـ النووي قال: لا أجعل في حل من لقبني محيي الدين، واسم كتابه (الترخيص في القيام لذوي المزية والفضل من أهل الإسلام) وهذا الكتاب للإمام النووي، ونعرض الأدلة التي اعتمد عليها في هذه المسألة باختصار إن شاء الله:(70/12)
فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في حكم القيام للقادم
نختم الكلام بفتيا لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في القضية؛ فإنه رحمه الله تعالى سئل عن النهوض والقيام الذي يعتاده الناس من الإكرام عند قدوم شخص معين معتبر هل يجوز أم لا؟ وإذا كان يغلب على ظن المتقاعد عن ذلك أن القادم يخجل أو يتأذى باطناً، وربما أدى ذلك إلى بغضٍ وعداوة ومقت، وأيضاً المصادفات في المحافل وغيرها، وتحريك الرقاب إلى جهة الأرض والانخفاض، هل يجوز ذلك أم يحرم إلى آخر السؤال؟ يقول رحمه الله: الحمد لله رب العالمين، لم تكن عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كلما يرونه عليه السلام، كما يفعله كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك)، لكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقياً له.
أي: إذا قدم مسافر -مثلاً- فيمكن أن تقوم لتحييه أو تلتزمه وتسلم عليه، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لـ عكرمة، وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ: (قوموا إلى سيدكم)، وكان قد قدم ليحكم في بني قريظة؛ لأنهم نزلوا على حكمه.
يقول شيخ الإسلام: والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعدل أحدٌ عن هدي خير الورى وهدي خير القرون إلى ما هو دونه، وينبغي للمطاع ألا يقر ذلك مع أصحابه؛ بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد.
وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقياً له فحسن، وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لاعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد خفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة؛ فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك أصلح لذات البين، وإزالة للتباغض والشحناء، وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة فليس في ترك ذلك إيذاء له.
يعني: من كان يعلم أن هؤلاء الناس إذا دخل عليهم قادم لا يقومون؛ لأنهم سنيون سلفيون، ولأنهم يعلمون الحديث، ويقصدون بذلك معنىً شرعياً، وهو: الاقتداء بالسلف وبالصحابة بفعلهم، وهو يعلم أنهم يفعلون ذلك تديناً؛ فلا يجوز له أن يكره ذلك منهم، ولكن كلام شيخ الإسلام فيمن إذا دخل ولم تقم له، وهو لا يعلم هذا الحكم، ولا يعلم هذه الأحاديث، ولا يعلم أنهم يتدينون بذلك، بل يرى هذا تنقص، وأنهم لا يحترمونه؛ فأجاز شيخ الإسلام حينئذ القيام إذا كان في تركه فسادٌ لذات البين.
يقول شيخ الإسلام: وليس هذا القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)؛ فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد.
هذا تأويل شيخ الإسلام لهذا الحديث، يعني: أن يكون جالساً وهم يقفون على رأسه، وليس المراد أن يقوموا لمجيئه إذا جاء، ولهذا فرقوا بين أن يقال: قمت إليه، وقمت له، فالقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد.
وقد ثبت في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعداً في مرضه صلوا قياماً فأمرهم بالقعود، وقال: لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضاً)، فنهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد، وإن كان هذا الحكم نسخ فيما بعد، وقال: (لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضاً)؛ لأنه كان جالساً وهم كانوا قائمين، فنهاهم عن ذلك، وقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد لئلا يتشبهوا بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود.
يقول شيخ الإسلام: وجماع ذلك كله الذي يصلح: اتباع عادات السلف وأخلاقهم، والاجتهاد عليها بحسب الإمكان؛ فمن لم يعتقد ذلك ولم يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاد من الناس من الاحترام مفسدة راجحة؛ فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما.
وسبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(70/13)
قول الألباني في حكم القيام للقادم
هناك مذهب آخر في هذه المسألة، ونحن نذكر هذه الأدلة من باب أن الإنسان يكون على معرفة بمذهب من يخالفه، وأنه يعتمد على أدلة لا على هوى؛ حتى يفرق بين الإنكار في المسائل المتفق عليها والمسائل المختلف فيها، ويرتفع أفق الإنسان بمعرفة مآخذ المذهب المخالف، فمن العلماء من يمنعون القيام للقادم مطلقاً، وممن ينتصر لهذا القول العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله، واستدل بحديث أبي مجلز قال: دخل معاوية بيتاً فيه عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عامر، فقام ابن عامر وثبت ابن الزبير، وكان أدربهما -وفي بعض النسخ: أرزنهما، لكن الأصح أدربهما- فقال معاوية: (اجلس يا ابن عامر!).
فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحب أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، قال الألباني: صحيح، رجال إسناده ثقات، رجال الشيخين، قال: وللحديث شاهد مرسل في قصة طريفة، أخرجه الخطيب من طريق عبد الرزاق بن سليمان بن علي بن الجعد، قال: سمعت أبي يقول: لما أحضر المأمون أصحاب الجواهر فناظرهم على متاعٍ كان معهم، ثم نهض المأمون لبعض حاجته، فقام كل من كان في المسجد إلا ابن الجعد فإنه لم يقم، قال: فنظر إليه المأمون كهيئة المغضب، ثم استخلاه -أي: خلا به- فقال له: يا شيخ! ما منعك أن تقوم لي كما قام أصحابك، قال: أجللت أمير المؤمنين للحديث الذي نأثره عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وما هو؟ قال: علي بن الجعد: سمعت المبارك بن فضالة يقول: سمعت الحسن يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار).
قال: فأطرق المأمون متفكراً في الحديث، ثم رفع رأسه فقال: لا يشترى إلا من هذا الشيخ، قال: فاشترى منه في ذلك اليوم بقيمة ثلاثين ألف دينار.
يقول الألباني: فصدق في علي بن الجعد -وهو ثقة ثبت- قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]؛ لأنه إذا خالف التجار الآخرين خشي ذهاب البيع عليه، ولكنه خشي أن يخالف نهي النبي عليه الصلاة والسلام، وعومل الآخرون بنقيض قصدهم، وفاتتهم البيعة! ونحو هذه القصة ما أخرجه الدينوري في المنتقى من المجالسة قال: حدثنا أحمد بن علي البصري قال: وجه المتوكل إلى أحمد بن العدل وغيره من العلماء، فجمعهم في داره، ثم خرج عليهم، فقام الناس كلهم إلا أحمد بن العدل، فقال المتوكل لـ عبيد الله: إن هذا الرجل لا يرى بيعتنا -يعني: أنه لم يقم لي لأنه لا يعتبرني، ولا يعتد بإمامتي- فقال له: بلى يا أمير المؤمنين! ولكن في بصره سوء، يعني: نظره ضعيف فلم يرك، فقال أحمد بن العدل: يا أمير المؤمنين! ما في بصري من سوء، ولكنني نزهتك من عذاب الله تعالى؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فجاء المتوكل وجلس إلى جنبه! وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق بسنده عن الأوزاعي قال: حدثني بعض حرس عمر بن عبد العزيز قال: خرج علينا عمر بن عبد العزيز ونحن ننتظره يوم الجمعة، فلما رأيناه قمنا، فقال: إذا رأيتموني فلا تقوموا، ولكن توسعوا.
يقول الألباني رحمه الله في فقه الحديث: دلنا هذا الحديث -يشير إلى حديث: (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار) - على أمرين: الأول: تحريم حب الداخل على الناس القيام منهم له، وهو صريح الدلالة؛ بحيث إنه لا يحتاج إلى بيان، يعني: أن الوعيد الذي فيه (فليتبوأ مقعده من النار) وعيد شديد جداً، كما في قوله: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، فهذا من الكبائر القلبية الغليظة، ولا خلاف في هذا.
الثاني: كراهة القيام من الجالسين للداخل ولو كان لا يحب القيام، وذلك من باب التعاون على الخير، وعدم فتح باب الشر، وهذا معنىً دقيق دلنا عليه راوي الحديث معاوية رضي الله عنه، وذلك بإنكاره على عبد الله بن عامر قيامه له، واحتج عليه بالحديث، وذلك من فقهه في الدين، وعلمه بقواعد الشريعة التي منها سد الذرائع، ومعرفته بطبائع البشر، وتأثرهم بأسباب الخير والشر.
يعني: أنه يعتمد على قاعدة سد الذرائع؛ ولذلك قال بالكراهة ولم يقل بالتحريم، يقول: فإنك إذا تصورت مجتمعاً صالحاً كمجتمع السلف الأول لم يعتاد القيام لبعض فمن النادر أن تجد فيهم من يحب هذا القيام الذي يرديه في النار، وذلك لعدم وجود لما يذكره به، وهو القيام نفسه، وعلى العكس من ذلك: إذا نظرت إلى مجتمع كمجتمعنا اليوم قد اعتادوا القيام المذكور، فإن هذه العادة -لا سيما مع الاستمرار عليها- تذكره به، ثم إن النفس تتوق إليه، وتشتهيه؛ حتى تحبه، فإذا أحبه هلك، فكان من باب التعاون على البر والتقوى أن يترك هذا القيام، حتى لمن نظن أنه لا يحبه؛ خشية أن يجره قيامنا له إلى أن يحبه، فنكون قد ساعدنا على إهلاك نفسه، وهذا لا يجوز.
ومن الأدلة الشاهدة على ذلك: أنك ترى بعض أهل العلم -الذين يظن فيهم حسن الخلق- تتغير نفوسهم إذا ما وقع نظرهم على فردٍ لم يقم لهم! هذا إذا لم يغضبوا عليه، ولم ينسبوه إلى قلة الأدب، ويبشروه بالحرمان من بركة العلم؛ بسبب عدم احترامه لأهله بزعمهم، بل إن فيهم من يدعوهم إلى القيام، ويخدعهم بمثل قوله: أنتم لا تقومون لي كجسم من عظم ولحم، وإنما تقومون للعلم الذي في صدري! وكأن النبي صلى الله عليه وسلم عنده لم يكن لديه علم؛ لأن الصحابة كانوا لا يقومون له، أو أن الصحابة لا يعظمون النبي عليه الصلاة والسلام التعظيم اللائق به، فهل يقول بهذا أو ذاك مسلم؟! ثم يقول الشيخ رحمه الله: ومن أجل هذا الحديث وغيره ذهب جماعة من أهل العلم إلى المنع من القيام للغير، كما في فتح الباري.
ثم قال: ومحصل المنقول عن مالك إنكار القيام ما دام الذي يقام لأجله لم يجلس، ولو كان في شغل نفسه؛ فإنه سئل عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها؛ فتتلقاه وتنزع ثيابه، وتقف حتى يجلس؟ أي: أن الإمام مالك سئل عن امرأة حينما يدخل عليها زوجها تبالغ في إكرامه؛ فأول شيء أنها تتلقاه وتقابله، ثم تنزع ثيابه، ثم تقف حتى يجلس؛ إكراماً لزوجها، فقال: أما التلقي فلا بأس به، وأما القيام حتى يجلس فلا؛ فإن هذا من فعل الجبابرة، وقد أنكره عمر بن عبد العزيز.
يقول الألباني: قلت: وليس في الباب ما يعارض دلالة هذا الحديث أصلاً، والذين خالفوا فذهبوا إلى جواز هذا القيام بل استحبابه استدلوا بأحاديث بعضها صحيح وبعضها ضعيف، والكل عند التأمل في طرقها ومتونها لا ينهض للاستدلال على ذلك.
ومن أمثلة القسم الأول: حديث: (قوموا إلى سيدكم)، ففيه زيادة في الحديث: (فأنزلوه).
لأنه كان مجروحاً.
ومن أمثلة القسم الآخر الضعيف: حديث قيامه صلى الله عليه وسلم حين أقبل عليه أخوه من الرضاعة، فأجلسه بين يديه.
فهو حديث ضعيف معضل الإسناد، ولو صح فلا دليل فيه أيضاًَ.
ثم ذكر في موضع آخر حديث أنس رضي الله عنه قال: (ما كان في الدنيا شخص أحب إليهم رؤيةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما كانوا يعلموا من كراهيته لذلك).
قال: إسناده صحيح على شرط مسلم.
ثم قال الألباني رحمه الله: وهذا الحديث مما يقوي ما دل عليه الحديث السابق من المنع من القيام للإكرام؛ لأن القيام لو كان إكراماً شرعاً لم يجز له صلى الله عليه وسلم أن يكرهه من أصحابه، وهو أحق الناس بالإكرام، وهم أعرف الناس بحقه صلى الله عليه وسلم، وأيضاً فقد كره الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القيام له من أصحابه، فعلى المسلم -خاصة إذا كان من أهل العلم وذوي القدوة- أن يكره ذلك لنفسه؛ اقتداءً به صلى الله عليه وسلم، وأن يكرهه لغيره من المسلمين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير)، فلا يقوم له أحد، ولا هو يقوم لأحد، بل كراهتهم لهذا القيام أولى بهم من النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنهم إن لم يكرهوه اعتادوا القيام بعضهم لبعض، وذلك يؤدي بهم إلى حبهم له، وهو سبب يستحقون عليه النار، كما في الحديث السابق، وليس كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه معصوم من أن يحب مثل هذه المعصية، فإذا كان مع ذلك قد كره القيام له؛ كان واضحاً أن المسلم أولى بكراهته له.(70/14)
إكرام الناس على حسب مراتبهم وإنزالهم منازلهم
ثم ذكر الإمام النووي رحمه الله تعالى أطرافاً مما جاء في تنزيل الناس منازلهم، وإكرامهم على حسب مراتبهم، وما جاء في احترام وإكرام فضلاء المسلمين، وتوقير أولي السن والورع والعلم والدين، والرفق بطلبة العلم وأولي الفضل والفهم؛ تعظيماً لحرمات المؤمنين المسلمين، ومسارعةً إلى رضا رب العالمين، قال: وهو دليل لما قدمته، وعاضد لما أسلفته: قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]، وقال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
ثم روى حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتيكم رجال من قبل المشرق يتعلمون، فإذا جاءوكم فاستوصوا بهم خيراً).
وعن عامر بن إبراهيم قال: كان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا رأى طلبة العلم قال: (مرحباً بطلبة العلم)، وكان يقول: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بكم).
وذكر حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط) أي: الحاكم العادل.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا).
وهناك حديث ضعيف ذكره عن ميمون بن أبي شبيب أن عائشة رضي الله عنها مر بها سائل فأعطته كسرة، ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة فأقعدته فأكل، فقيل لها في ذلك، فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزلوا الناس منازلهم)، ولكن ميموناً لم يدرك عائشة.
وذكر أيضاً عن عائشة أنها قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم)، وهذا رواه مسلم في مقدمة الصحيح.
وعن إسحاق الشهيدي قال: كنت أرى يحيى القطان رحمه الله تعالى يصلي العصر، ثم يستند إلى أصل منارة مسجده، فيقف بين يديه علي بن المديني والشاذكوني وعمرو بن علي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم، يسألونه عن الحديث وهم قيام على أرجلهم، إلى أن تحين صلاة المغرب، لا يقول لواحدٍ منهم: اجلس، ولا يجلسون هيبةً وإعظاماً.
وذكر أيضاً عن الإمام البغوي أنه قال: وكذلك تجوز إقامة الإمام والوالي الرجل على رأسه في موضع الحرب، ومقام الخوف.
يعني: أن بعض الأئمة يحملون حديث: (من أحب أن يتمثل الناس أو الرجال له قياماً فليتبوأ مقعده من النار) على أن يكون الإنسان جالساً والناس قيام على رأسه، كالجنود والحراس ونحوهم، ويستثنون حالة الحرب والخوف؛ حتى يدخل الرعب في قلوب الأعداء، كما حصل في صلح الحديبية حينما كان يقف المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قائماً على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيف، وعليه المغفر.
يقول النووي: هذا الذي قاله البغوي رحمه الله تعالى متفق عليه.
يعني: استثناء هذه الحالة، وهو أن يقف على رأس السلطان بالهيبة والسلاح إرهاباً للأعداء في حالة الخوف والحرب، والحديث مشهور في الصحيح.(70/15)
أدلة المانعين من القيام للقادم
ثم ذكر الإمام النووي رحمه الله تعالى الباب الثاني في الأحاديث التي يستدل بها على النهي عن القيام وما أجاب به عنها أهل المعرفة والحذق والأفهام.
ثم روى حديث أنس رضي الله عنه قال: (لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لما يعلمون من كراهته لذلك)، وهذا الحديث صحيح.
الحديث الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار).
الحديث الثالث: عن أبي أمامة قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عصا، فقمنا إليه، فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً) وهو حديث ضعيف.
ثم أجاب الإمام النووي رحمه الله عن هذه الأحاديث فقال: أما الجواب عن الحديث الأول -وهو أقرب ما يحتج به- فمن وجهين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم خاف عليهم وعلى من بعدهم الفتنة بإفراطهم في تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، كما جاء في حديث الآخر: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله)، فقوله هذا من نفس هذا الباب؛ لسد الافتتان به والغلو في تعظيمه صلى الله عليه وآله وسلم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامهم له لهذا المعنى، ولم يكره قيام بعضهم لبعض، بل قام صلى الله عليه وسلم لبعضهم، وقاموا لغيره بحضرته، ولم ينكر ذلك، بل أقره، وأمر به في حديث القيام لـ سعد.
يقول: وقد قدمنا في الباب الأول بيان هذا كله، وهذا جواب واضح لا يرتاب فيه إلا جاهلٌ أو معاند.
الوجه الثاني في الجواب عن هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بينه وبين أصحابه رضي الله عنهم من الأنس وكمال الود والصفا ما لا تحتمل زيادته بالإكرام بالقيام، فلم يكن في القيام مقصود، بخلاف غيره، فإن فرض صاحبٌ للإنسان قريبٌ من هذه الحالة فلا حاجة إلى القيام.
أما الحديث الثاني -وهو قوله: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، يعني: فليجلس على مقعده من النار- فقد أولع أكثر الناس بالاحتجاج به، والجواب عنه من أوجه، والأصح والأولى والأحسن، بل الذي لا حاجة إلى ما سواه: أنه ليس فيه دلالة؛ وذلك أن معناه الصريح الظاهر منه: الزجر الأكيد والوعيد الشديد للإنسان أن يحب تمثل الناس قياماً له، وليس فيه تعرض للقائم بنهي ولا غيره، وهذا متفق عليه.
يعني: يحرم على الإنسان أن يحب قيام الناس له، فالإمام النووي يقول: هذا ليس فيه دلالة على المسألة التي نتكلم فيها؛ فالكلام ليس على حب القادم أن يتمثل الناس له قياماً، فهذا حرام، لكن الكلام في القائم نفسه، فهل في هذا الحديث وعيد له أم لا؟ فمذهب الإمام النووي أنه ليس هناك تعرضٌ لحال الذي يقوم، وإنما فيه تعرض لتحريم محبة القادم أن يتمثل الناس له قياماً، فالمنهي عنه هو محبته للقيام.
يقول: وليس فيه تعرضٌ للقائم بنهي ولا غيره، وهذا متفق عليه، وهو أنه لا يحل للآتي أن يحب قيام الناس له، والمنهي عنه هو محبته القيام، ولا يشترط كراهيته لذلك، وخطور ذلك بباله، حتى إذا لم يخطر ذلك بباله فقاموا له أو لم يقوموا فلا ذم عليه، وإذا كان معنى الحديث ما ذكرناه فمحبته أن يقام له محرم، فإذا أحب ذلك فقد ارتكب التحريم، سواءً قيم له أو لم يقم له.
يعني: لو أن رجلاً يحب أن يقوم الناس له -وهذا عمل قلبي-، وهم لم يقوموا له؛ فهو يأثم، حتى لو لم يقوموا له.
قال: فمدار التحريم على المحبة، ولا تأثير لقيام القائم، ولا نهي في حقه بحال، فلا يصح الاحتجاج بهذا الحديث.
فإن قال من لا تحقيق عنده: إن قيام القائم سببٌ لوقوع هذا في المنهي عنه، قلنا: هذا سؤال فاسدٌ لا يستحق سائله جواباً؛ فإن تبرع عليه قيل ما قدمناه: إن الوقوع في المنهي عنه يتعلق بالمحبة فحسب.
الجواب الثاني: أنه حديث مضطرب، والاضطراب يوجب ضعف الحديث، وهذا الجواب فيه نظر كما قال الإمام النووي رحمه الله.
ثم ذكر عن بعض الأئمة أنهم قالوا: إنما كره القيام على طريق الكبر، فأما على طريق المودة فلا، فكل من أحب أن تقوم له فلا تقم له.
أي: إذا علمت أنه يحب أن تقوم له فلا تقم له، وأظن أن من هذا -والله أعلم- ما يحصل في المدارس؛ حيث إن المدرس يحب أن يقوم التلاميذ له.
قال: من يغلظ على من لا يقوم، مخالف لسمت السلف، وهذا دليل على أنه يحب القيام له، حيث يغضب على من لا يقوم له، فالخوف عليه أكثر؛ لأنه وقع في الوعيد بما لا يحتمل التأويل؛ لأنه أحب أن يتمثل الناس له قياماً، فهذه من الكبائر القلبية.
وبعض العلماء قالوا: إن هذا الوعيد فيمن يأمرهم بذلك ويلزمهم إياه على طريق النخوة والكبر.
وأما أبو موسى فقال: معنى الحديث: أن يقوم الرجال على رأسه، كما يقام بين يدي الملوك.
أما الحديث الثالث -وهو: (لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً) - فهو ضعيف لا يصح الاحتجاج به، والوجه الثاني أنه على سبيل التعظيم، فهذا هو المذموم.
أي: إذا كان على سبيل النخوة والكبر والتعظيم.
أما حديث أبي بكرة -وهو: (لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه) - فأيضاً ضعيف، ويحتمل أن يكون المعنى: لا تقم من مجلس صلاة وسماع الوعظ والتذكير والعلم ونحو ذلك، على سبيل الإيثار فيما لا إيثار فيه، فلا يقوم الرجل للرجل من مجلسه إذا كان في مجلس علم، ولا يضح بموقعه الأحسن ويؤثر غيره به، فلا ينبغي الإيثار في هذا الموضع، وهذا التأويل ذكره بعض العلماء، وهكذا ما أشبه هذا من القربات التي يكره الإيثار فيها، فمن القصور أن تقام الصلاة وهناك مكان فارغ في الصف المقدم فيقول الإنسان لأخيه: تفضل، فيقول: تفضل أنت! هذا جهل، بل ينبغي أن يتسابقا في أعمال الآخرة التي فيها تنافس، كما قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
أما حديث: (ولا تنافسوا) فهذا في الدنيا، أما في الآخرة فكان الصحابة يبتدرون السواري إذا أذن المأذن، وكانوا إذا أقيمت الصلاة يتسارعون إلى الصفوف الأولى، والنبي عليه الصلاة والسلام رغبهم في هذا، وبين أنهم يستهمون إذا حصل النزاع على الأذان والصف الأول، فيقترعون على ذلك أيهم أولى، وهكذا الدور في التسميع على الشيخ لا ينبغي الإيثار فيه، فإذا جاء دور الطالب وآثر غيره به، فهذا من الزهد في الخير، فينبغي أن يحرص الإنسان أن يكون مقدماً في مجالس العلم ومجالس الفضل، والإيثار يكون في الطعام والشراب وحظوظ النفس ومتاع الدنيا، فيهدي إخوانه، ويؤثر على نفسه، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، فهو محتاج إلى الطعام ويتصدق، ومحتاج إلى الملابس ويعطي ولا يلبس هو، فهذا الإيثار محمود في أمر الدنيا، وحظوظ النفس، أما أمور الدين ومعالي الأمور فلا.
كان بعض الصحابة إذا كانوا اثنين يجلس واحد منهما في البيت والآخر يجاهد، ويقول الابن لأبيه: يا أبت! لولا أنها الجنة لآثرتك على نفسي! فهكذا ينبغي أن نكون، فالحق في التقرب لله تعالى لا يجوز تفويته، بخلاف الطعام ونحوه؛ فإن الحق فيه للنفس، وإن كان لله تعالى فيه حقٌ في بعض المواطن فنفعه ومقصوده يعود إلى الآدمي، وقد أوضحت هذا الفرق بشواهده وما يرد عليه من أكل الميت عند المخمصة، وجوابه في باب التيمم من شرح المهذب، وهذا القدر هنا كافٍ، والله أعلم.
ثم أنهى الإمام النووي الكتاب بقوله: نختم الباب ببيتين على عادة الأئمة والحفاظ: قيامي والعزيز إليك حقٌ وترك الحق ما لا يستقيم فهل أحدٌ له عقلٌ ولبٌ ومعرفةٌ يراك ولا يقوم هذا ما تيسر من تلخيص كلام الإمام النووي رحمه الله تعالى.(70/16)
أدلة المجيزين القيام للقادم
يقول رحمه الله: الله تعالى أمر باللطف بالمسلمين، وإكرام أهل العلم والورع والدين، فقال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]، ومن اللطف بهم والإكرام: أن يحترموا بإلانة القول لهم، والقيام لا على طريق الرياء والإعظام، بل على ما ذكرناه من التكريم والاحترام، وعلى هذا استمر ما لا يحصى من علماء الإسلام وأهل الصلاح والورع وغيرهم من الأفاضل الأعلام، فالذي يختار: القيام لأهل الفضل والمزية من أهل العلم وقرابته والوالدين والصالحين وسائر أخيار البرية، فقد جاءت بذلك جمل من الأخبار، وأقوال السلف الكرام الأبرار، وأفعال العلماء والصلحاء أهل الورع والزهاد وغيرهم من الأخيار.
ثم عقد باباً فيما ورد في الترخيص من الآثار والأخبار، وما قال فيه الأعيان من العلماء والأخيار.
وذكر بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن يهود نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، فأرسل إليه، فجاء على حمار، فلما بلغ قريباً من المسجد قال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى خيركم أو سيدكم)، وهناك رواية مشهورة على ألسنة الناس بلفظ: (قوموا لسيدكم)، لكن الوارد: (قوموا إلى سيدكم)، وأضف إلى قرينة وجود (إلى) كلمة (أنزلوه)؛ لأنه كان على حمار، وكان مجروحاً رضي الله عنه.
وروى الحافظ البيهقي وأبو موسى الأصبهاني بسندهما عن الإمام مسلم قال: لا أعلم في قيام الرجل للرجل حديثاً أصح من هذا، وهذا القيام على وجه البر لا على وجه التعظيم.
يقول النووي: وقد أفصح الإمام مسلم رضي الله تعالى عنه بحقيقة المطلوب في هذا الكلام المختصر رحمه الله تعالى ورضي الله عنه.
وقال الخطابي والبغوي بعد رواية حديث أبي سعيد رضي الله عنه السابق: في هذا الحديث أن قيام المرءوس للرئيس الفاضل والوالي العادل، وقيام المتعلم للعالم مستحب غير مكروه، وإنما جاءت الكراهة فيمن كان بخلاف هذه الصفات، فيحمل كراهة القيام للقادم فيمن كان فاجراً أو فاسقاً أو غير ذلك من الصفات الدنيئة، أو إن كان قيامه من أجل الدنيا أو الرياء.
قال البغوي والخطابي: وما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الرجال صفوفاً) فهو إذا كان يأمرهم بذلك، ويلزمهم به على مذهب الكبر والنخوة.
وعن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن جده كعب رضي الله عنه في حديث توبته الطويل المشهور فذكره إلى قوله: (وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت المسجد -يعني: لما بشر بنزول التوبة من الله عليهم- فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله! ما قام إليَّ من المهاجرين غيره، ولا أنساها لـ طلحة)؛ لأنه قام يهنئه بالتوبة، وهذا حديث متفق على صحته.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فقبلها، وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته، وأجلسته في مجلسها) رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وحسنه الترمذي، يقول النووي: وهذا الحديث من أصرح الأدلة في المسألة.
وروى النووي رحمه الله حديثاً مثل حديث عائشة، وهو: أن عمر بن السائب حدثه أنه بلغه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً يوماً، فأقبل أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه -يعني: من الرضاعة- فوضع لها شق ثوبه من الجانب الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه)، وهذا الحديث ضعيف.
وروى النووي أيضاً بسنده عن ابن شهاب: أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام كانت تحت عكرمة بن أبي جهل، فأسلمت يوم الفتح بمكة، وهرب زوجها من الإسلام حتى قدم اليمن، فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمن، فدعته إلى الإسلام، فأسلم، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحاً وما عليه رداء حتى بايعه، هكذا رواه الإمام مالك مرسلاً، وهذا والحديث الذي قبله وإن كانا مرسلين يصح الاحتجاج بهما في هذه المسألة؛ وذلك لأن أكثر الفقهاء قالوا بجواز الاحتجاج بالمرسل، وقال الشافعي وأكثر أهل الحديث: لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد.
ومذهب الشافعية هو التساهل في الأخذ بالحديث المرسل، لاسيما إذا كان عن كبار التابعين، وقال الشافعي رحمه الله كلاماً حاصله: إذا روي المرسل مسنداً أو مرسلاً من طريق أخرى، وقال به بعض الصحابة أو عوام أهل العلم؛ جاز الاحتجاج به.
وقوله: عوام أهل العلم ليس المقصود عوام الناس؛ فالعامي مأخوذ من العمى، وهو الذي يقوده غيره، لكن المقصود بعوام أهل العلم: عامة أهل العلم.
قال النووي: وقد وجد في هذا الحديث ما يجوز الاحتجاج به، وهو ما قدمناه من الشواهد له، وما سنذكره بعده من أقوال العلماء.
والله أعلم.
وأيضاًَ ذكر الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا فإذا قام قمنا قياماً حتى نراه قد دخل بعض بيوت أزواجه)، وهذا الحديث إن صح، ليس له تعلق كبير بالمسالة، فكلامنا على القيام للقادم، أما كون جماعة من الناس يجلسون، وبعدما فرغوا قاموا، فليس في هذه المسألة، إلا أن يقال: إنهم قاموا إكراماً له عليه الصلاة والسلام، يقول الإمام النووي: إسناد هذا الحديث إسنادٌ صحيح، ورواته كلهم مشهورون بالعدالة، إلا هلالاً فإنه ليس بمشهور.
وروى أيضاً عن أبي هشام الرفاعي قال: قام وكيع لـ سفيان، فأنكر عليه قيامه، فقال: أتنكر عليّ قيامي وأنت حدثتني عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله تعالى إجلال ذي الشيبة المسلم) يعني إن من تعظيم الله أن تعظم المسلم الذي شاب في الإسلام، فأخذ سفيان بيده، فأجلسه إلى جانبه.
وعن محمد بن الصلت قال: كنت عند بشر بن الحارث -يعني: الحافي الزاهد رضي الله عنه- فجاءه رجل فسلم عليه، فقام إليه بشر، فقمت لقيامه، فمنعني من القيام، فلما خرج الرجل قال لي بشر: يا بني! تدري لما منعتك من القيام له؟ قلت له: لا، قال: لأنه لم يكن بينك وبينه معرفة، وكان قيامك لقيامي، فأردت ألا يكون لك حركة إلا لله عز وجل خالصة.
وعن أبي أحمد بن عدي الحافظ عن عبد المؤمن بن أحمد بن حوثرة قال: كان أبو زرعة الرازي رحمه الله تعالى لا يقوم لأحد، ولا يجلس أحداً مكانه إلا ابن وارة، فإني رأيته يفعل ذلك معه.
يعني: لمكانته في الإمامة والعلم.
وقال الإمام أبو عبد الرحمن السلمي في كتابه (آداب الصحبة): ويقوم لإخوانه إذا أبصرهم مقبلين، ولا يقعد إلا بقعودهم، وأنشد: فلما بصرنا به مقبلا حللنا الحبى وابتدرنا القياما فلا تنكرن قيامي له فإن الكريم يجل الكراما وروى الحافظ أبو موسى بإسناده عن الإمام أبي سعيد النقاش قال: النبلاء من الرجال والعلماء يكرهون قيام الرجل لهم؛ لكراهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مباحٌ لبعض الناس أن يقوم للناس.
ثم قال النووي: هذا ما تيسر ناجزاً من الأحاديث وأقوال الأئمة في الترخيص في القيام، وحاصله: أنه ثبت ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة، وبأمره بذلك الأنصار، وبتقريره حين فُعل بحضرته، ومن فعل جماعة من الصحابة والسلف رضي الله تعالى عنهم في مواطن وجهات مختلفة، وفعل أئمة الناس في الحديث والفقه والزهد في أعصارهم.(70/17)
آداب التخلي [1]
لقد نظم الإسلام كل شئون المسلم العامة والخاصة، بل نظم أخص المسائل وأدقها بالنسبة للمسلم، فقد وضع أحكاماً وآداباً للاستنجاء وقضاء الحاجة، وبيَّن ما يكره وما يستحب في هذه المسألة، وهذا دليل على شمولية هذا الدين وعمومه.(71/1)
مقدمة بين يدي باب الاستنجاء وآداب التخلي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
دين الإسلام هو دين حياتي، يتعامل مع الحياة، وينظم كل شئون المسلم، حتى في الأمور التي هي أصلاً من العادات، فالشرع تعرض لها بأمر أو نهي، وبذلك تنتقل من العادة المحضة إلى العبادة، بحيث يصير هذا المأمور به أو المنهي عنه حداً من حدود الله تبارك وتعالى.
فينبغي أن يتعبد المسلم بطاعة ربه والاقتداء بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فيما شرع من هذه الأشياء، وقد تعجب بعض أهل الكتاب من هذه الطبيعة للإسلام، فقال بعضهم لأحد الصحابة رضي الله عنهم: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة! يعني: قضاء الحاجة.
ويقول بعض الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً إلا ذكر لنا منه علماً، ولا طائراً يطير بجناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً)، فصلى الله عليه وآله وسلم.
فهذا هو الإسلام وهذا الدين إذا نظرت إليه من أي زاوية من الزوايا قلت: إنه لا يمكن إلا أن يكون من عند الله عز وجل، وإنه الدين الحق، وشريعته الخالدة، وكلمة الله التي لا تبديل لها.
إذا نظرت إلى الإسلام من جانب العقيدة تجد التوحيد الذي فيه تطهير القلب وتنظيفه من نجاسة الشرك، ومن كل الأخلاق الرديئة والعقائد الفاسدة، وفيه تزكية للنفس بالعقائد الصالحة، وهكذا إذا نظرت إليه من جانب العبادات أو المعاملات أو العادات.
ولننظر في باب: الاستنجاء وآداب التخلي، الذي هو من الأمور الشخصية المحضة، فإن الإسلام جعل فيه تشريعاً وأمراً ونهياً وآداباً وحدوداً لله عز وجل حدها، ويجب على كل مسلم أن يتعلمها؛ كي يلتزم بها، وهذه آية من آيات تنظيم الإسلام لأدق شئون الإنسان، فما من الناس إلا وهو يحتاج إلى هذا الآداب حتى يكون متبعاً لكتاب الله ومقتدياً برسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لا يكون فقط في الواجبات أو المأمورات، وليس فقط أيضاً في الآداب الشرعية، وإنما أيضاً في العادات المحضة، قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه الأربعين: اعلم أن مفتاح السعادة في اتباع السنة والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع مصادره وموارده وحركاته وسكناته، حتى في هيئة أكله وقيامه ونومه وكلامه، ولست أقول ذلك في آدابه فقط، بل في جميع أمور العادات، فبه يحصل الاتباع المطلق، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
ثم يقول: فلا ينبغي التساهل في امتثال ذلك، فتقول: هذا مما يتعلق بالعادات فلا معنى للاتباع فيه، فإن ذلك يغلق عليك باباً عظيماً من أبواب السعادة.
وهذا في العادات المحضة فكيف بالآداب؟! بل كيف بالأوامر والنواهي التي فيها حلال وحرام ومستحب ومكروه وواجب؟!(71/2)
تعريف الاستنجاء والاستجمار والاستطابة
نبدأ بتوفيق الله عز وجل في ذكر بعض مسائل الاستنجاء وآداب التخلي، ونحاول أن نلتزم بالخطة الأصلية التي وضعها صاحب الكتاب الذي نشرحه وهو كتاب (منار السبيل بشرح الدليل).
قال المؤلف رحمه الله: [باب الاستنجاء وآداب التخلي.
الاستنجاء: هو إزالة ما خرج من السبيلين بماء طهور أو حجر طاهر مباح منقٍ، فالإنقاء بالحجر ونحوه أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء، ولا يجزئ أقل من ثلاث مسحات تعم كل مسحة المحل، والإنقاء بالماء عود خشونة المحل كما كان وظنه كافياً.
ويسن الاستنجاء بالحجر ونحوه، ثم بالماء، فإن عكس كره، ويجزئ أحدهما، والماء أفضل.
ويكره استقبال القبلة واستدبارها في الاستنجاء.
ويحرم بروث وعظم وطعام ولو لبهيمة، فإن فعل لم يجزه بعد ذلك إلا الماء، كما لو تعدى الخارج موضع العادة.
ويجب الاستنجاء لكل خارج إلا الطاهر والنجس الذي لم يلوث المحل].
هذا هو الفصل الأول من هذا الباب، فيبدأ بذكر تعريف الاستنجاء.
الاستطابة والاستنجاء والاستجمار هي كلمات تدل على إزالة الخارج من السبيلين، والاستطابة والاستنجاء يكونان بالماء وبالأحجار، أما الاستجمار فيختص بالأحجار.
فالاستطابة هي: الاستنجاء بالماء أو بالأحجار، يقال: استطاب وأطاب إذا استنجى، سمي استطابة؛ لأنه يطيب جسده بإزالة الخبث عنه.
أما الاستنجاء فهو استفعال من نجوت الشجرة يعني: قطعتها، فكأنه بهذا التطهير قطع الأذى عنه؛ فلذلك سمي استنجاء.
أما ابن قتيبة: الاستنجاء مأخوذ من النجوة، والنجوة: هي ما ارتفع من الأرض؛ لأن من أراد قضاء الحاجة بحث عن شيء مستتر من الأرض فاستتر به فمنه سمي الاستنجاء.
أما الاستجمار فهو استفعال من الجمار، وهي الحجارة الصغيرة؛ وذلك لأنه يستعملها الإنسان في استجماره.(71/3)
حكم الاستنجاء من الريح والنوم
مسألة: ليس على من نام أو خرجت منه ريح استنجاء.
يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ولا نعلم في هذا خلافاً، قال الإمام أحمد: ليس في الريح استنجاء في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما عليه الوضوء، يقول: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من استنجى من الريح فليس منا) عزاه في المغني إلى الطبراني في معجمه الصغير، لكن قال الألباني في إرواء الغليل حديث رقم (45): حديث ضعيف جداً، وعزوه للمعجم الصغير وهم.
إذاً: الاستنجاء من الريح ليس من الدين، بل هو بدعة.
وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] قال: إذا قمتم من النوم.
يعني: إذا قمتم من النوم وأردتم الصلاة فاغسلوا وجوهكم، لم يأمر الشرع بالاستنجاء من الريح والنوم، ولم يأت نص بذلك، وليس هذا في معنى المنصوص عليه حتى يقاس عليه؛ لأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة ولا نجاسة هنا؛ لأن النوم في حد ذاته لا يوجد به نجاسة حتى يزيلها، وكذلك إخراج الريح لا يستلزم الاستنجاء.
يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في المجموع: وأجمع العلماء على أنه لا يجب الاستنجاء من الريح.
إذاً: الدليل هنا هو الإجماع وليس الحديث الضعيف، فقد أجمع العلماء على أنه لا يجب الاستنجاء من الريح والنوم ولمس النساء والذكر، وحكي عن الشيعة أنه يجب، والشيعة لا يعتد بخلافهم، وخلافهم لا يقدح في صحة الإجماع.
قال الشيخ نصر في الانتخاب: إن استنجى لشيء من هذا فهو بدعة.
وقال الجرجاني: يكره الاستنجاء من الريح، والله أعلم.(71/4)
شروط ما يصلح الاستنجاء به
ذكر العلماء شروطاً في الشيء الذي يصلح أن يستنجى به، وقد ذكر المؤلف رحمه الله حداً مختصراًَ جداً لهذا الأمر فقال: (الاستنجاء هو إزالة ما خرج من السبيلين بماء طهور أو حجر طاهر مباح منقٍ).
أي: فإذا استعمل ماء في إزالة النجاسة فيتعين أن يكون هذا الماء ماءًَ مطلقاًَ، فلا يصح ولا يجوز إزالة النجاسة بمائع غير الماء المطلق.
قوله: (أو حجر طاهر) فيه احتراز من الحجر النجس، ثم قال: (مباح منق) وسنذكر التفصيل إن شاء الله.(71/5)
الشرط الرابع: عدم جواز الاستنجاء بما له حرمة أو متصل بحيوان
يشترط فيما يستنجى به: ألا تكون له حرمة، وهذه من المصائب والبلايا التي لا يلتفت لها كثير من الناس.
يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تبارك وتعالى: ولا يجوز الاستنجاء بما له حرمة، كشيء كتب فيه فقه أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما فيه من هتك الشريعة والاستخفاف بحرمتها، فهو في الحرمة أعظم من الروث والرمة، ولا يجوز بمتصل بحيوان كَيَدِهِ وعقبه وذنب بهيمة وصوفها المتصل بها.
قال بعض أصحابنا: يجمع المستجمر به ست خصال: أن يكون طاهراً جامداً منقياً غير مطعوم ولا حرمة له ولا متصل بحيوان.
يقول ابن قدامة رحمه الله: أما الطعام فتحريمه من طريق التنبيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الروث والرمة في حديث ابن مسعود، لكونه زاد إخواننا من الجن، فزادنا مع عظم حرمته أولى.
وهذا تنبيه إلى أنه لا يستنجي الإنسان بما هو زاد إخوانه الآدميين من الفواكه أو الخبز أو أي شيء مما يؤكل، لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستنجاء بالعظام؛ لأنها زاد إخواننا من الجن، فزادنا مع عظم حرمته أولى ألا يستنجى به.
يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في المجموع: فرع: قال أصحابنا: ومن الأشياء المحترمة التي يحرم الاستنجاء بها: الكتب التي فيها شيء من علوم الشرع، فإن استنجى بشيء منها عالماً أثم، وفي سقوط الفرض الوجهان، والصحيح لا يجزئه، فعلى هذا تجزئه الأحجار بعده، ولو استنجى بشيء من أوراق المصحف -والعياذ بالله- عالماً صار كافراً مرتداً، نقله القاضي حسين والروياني وغيرهما والله أعلم.
مسألة: يقول النووي: إذا استنجى بمائع غير الماء لم يصح.
يعني: كأن يستنجي بخل أو بأي سائل غير الماء لم يصح.
ثم يقول: ويجب عليه أن يستنجي بعده بالماء، ولا يجزئه الأحجار بلا خلاف في هذه الحالة.
وذلك لأن المائع من خل أو ماء ورد أو أي شيء من السوائل غير الماء إذا لاقى النجاسة فإنه ينجس بذلك، فتزيد النجاسة على النجاسة، ولا ينقي ذلك إلا الماء.
هذا ما يتعلق بشروط ما يستنجى به.(71/6)
الشرط الثالث: الاستنجاء بالطاهر لا النجس
يشترط العلماء فيما يستنجى به: أن يكون طاهراً، فإن كان نجساً لم يجزئ الاستنجاء به، فإن أزال النجاسة بشيء نجس لم يجزئ، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يجزئه؛ لأنه يجفف كالطاهر.
يقول ابن قدامة: ولنا: (أن ابن مسعود رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة يستجمر بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذه ركس) رواه البخاري، وفي لفظ الترمذي: (قال: إنها ركس) يعني: نجسة.
فهذا تعليم من النبي صلى الله عليه وسلم يجب المصير إليه، فعلل رفضه لاستعمال هذه الروثة بأنها نجسة، فيفهم من ذلك أن ما كان نجساً لا يجوز الاستجمار به.
أيضاً: عملية الاستجمار أو الاستنجاء أو الاستطابة هي عبارة لإزالة النجاسة، فكيف تحصل إزالة النجاسة بالنجاسة؟! وهذا مثل أن يغسل إنسان ثوباً متنجساً بالبول! فإن استنجى بنجس لم يجزئه الاستجمار بعده؛ لأن المحل تنجس بنجاسة من غير المخرج، فلم يجزئ فيها غير الماء كما لو تنجس ابتداءً، ويحتمل أن يجزئه؛ لأن هذه النجاسة تابعة لنجاسة المحل فزالت بزوالها، وهذه المسألة فيها خلاف كما ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى.
وهذه المسألة ذكرها الإمام النووي رحمه الله فقال: ذكرنا أنه لا يجوز الاستنجاء بنجس، هذا مذهبنا ومذهب جمهور العلماء، وجوزه أبو حنيفة وغيره.
أي: جوز أبو حنيفة إزالة النجاسة بالروث.
ثم يقول النووي: ودليلنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اتبعت النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج لحاجته فقال: أبغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا روث) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (وليستنج بثلاثة أحجار، ونهى عن الروث والرمة) والرِّمة: هي العظم البالي، والرُّمة هي الحبل، وبه سمي الشاعر ذو الرمة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: (فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: إنها ركس).
وعن سلمان قال: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروث والعظام) رواه مسلم.
وعن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله وسلم أن يتمسح بعظم أو بعر) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بعظم أو روث وقال: إنهما لا يطهران) رواه الدارقطني وقال: إسناده صحيح.
وحديث رويفع بن ثابت من الأحاديث الصريحة جداً في هذه المسألة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رويفع! لعل الحياة ستطول بك بعدي فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وتراً أو استنجى برجيع دابة أو عظم؛ فإن محمداً منه بريء) رواه أبو داود والنسائي، وقال الإمام النووي: هذا حديث إسناده جيد.
وهنا مسألة ذكرها الماوردي قال: لو أحُرق عظم طاهر بالنار حتى تفحم وتغير حاله فهل يجوز الاستنجاء به؟
الجواب
عند الشافعية في هذه المسألة وجهان: أحدهما: يجوز الاستنجاء به؛ لأن النار أحالته وحولت طبيعته.
الثاني: لا يجوز لعموم حديث النهي عن الرِّمة، والرِّمة هي العظم البالي، ولا فرق بين البالي بنار أو بمرور الزمان، وهذا الوجه الثاني صححه الإمام النووي رحمه الله تعالى.(71/7)
الشرط الثاني: الاستنجاء بشيء منق قالع للنجاسة
لابد أن يكون ما يستجمر به منقياً؛ لأن الإنقاء مشترط في الاستجمار، أما الزجاج والفحم الرخو وشبههما مما لا ينقي فلا يجزئ ولا يجوز الاستنجاء بهما، ولو كان جسماً صلباً؛ لأنه لا ينقي.
روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (قدم وفد الجن على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد! انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة -الحممة هي الفحم-؛ فإن الله عز وجل جعل لنا فيها رزقاً، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك) رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي وضعفه الدارقطني والبيهقي.
إذاً: فشرط الشيء الذي يستنجى به أن يكون قالعاً لعين النجاسة، ولا يشترط أن يزيل الأثر بالماء فقط.
ربما يقول بعض الناس: كيف نفصل في مثل هذه الأشياء ونحن الآن نعيش في المدن والأمور ميسرة إلى حد بعيد ولسنا بحاجة إلى ذلك؟! نقول: قال بعض السلف: تعلم العلم فإنك لا تدري متى تحتاج إليه.
إذاً: فشرط الشيء المستنجى به أن يكون قالعاً لعين النجاسة، فالزجاج أو القصب الأملس أو ما يشبههما لا يجزئ كما قال الإمام النووي.
أما الفحم إن كان صلباً لا يتفتت أجزأ الاستنجاء به، وإن كان رخواً يتفتت لم يجزئ؛ لأن حديث النهي عن الاستنجاء بالحممة ضعيف، فبالتالي لا يصح الاستدلال به.
ومن استنجى بزجاج ونحوه لزمه الاستنجاء ثانياً؛ لأن الزجاج لا يقلع عين النجاسة، إنما يستنجي بالحجر أو ما في معناه.
فإن استنجى بالزجاج ونحوه، فتعدت النجاسة محلها؛ فحينئذٍ يتعين عليه استعمال الماء، أما إذا لم تتعد النجاسة المحل فتكفيه الأحجار.(71/8)
الشرط الأول: الاستنجاء بالأحجار وما في معناها
يقول الشارح رحمه الله: [والاستجمار بالخشب والخرق وما في معناهما مما ينقي جائز في قول الأكثر].
قوله: (وما في معناهما) أي: ما يشبه الحجر؛ وذلك بأن يكون منقياً مطهراً.
قال: [وفي حديث سلمان عند مسلم: (نهانا أن نستنجي برجيع أو عظم)].
الرجيع هو الروث، ولا يجوز الاستنجاء به لكونه نجساً، وأما العظم فلأنه زاد إخواننا من الجن.
قال: [فتخصيصها بالنهي يدل على أنه أراد الحجارة أو ما قام مقامها].
أي: لأنه خص من الأجسام الصلبة الرجيع أو العظم.
قال المؤلف: (فالإنقاء بالحجر ونحوه أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء) أي: الاستنجاء بالأحجار لا تزيل العين والأثر، إنما تزيل العين فقط وتبقي أثراً معفواً عنه؛ لعموم البلوى به، ولمشقة الاحتراز منه.
وإذا استجمر أحد بالأحجار مع وجود الماء فلا بأس، وإن كانت الأحجار تزيل العين ويبقى الأثر، فإذا توضأ بعد ذلك فوضوءه وطهارته صحيحة.
قال في الشرح: [إن الإنقاء بالحجر ونحوه أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء.
بأن تزول النجاسة وبلتها، فيخرج آخرها نقياً لا أثر به] يعني: يخرج آخر الأحجار نقياً لا أثر به.
أما ما ذكر العلماء في شرط ما يستنجى به فيقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى في المغني: والخشب والخرق وكل ما أنقي به فهو كالأحجار، هذا الصحيح من المذهب -الحنبلي-، وهو قول أكثر أهل العلم، وفي الرواية الأخرى: لا يجزئ إلا الأحجار، اختارها أبو بكر، وهو مذهب داود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأحجار، وأمره بالأحجار يقتضي الوجوب، فقالوا: لابد من الأحجار، لكن الصحيح من مذهب داود أنه يجزئ الاستنجاء والاستجمار بالأحجار أو ما قام مقامها.
إذاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وليستنج بثلاثة أحجار) أخذ منه بعض الأئمة -ومنهم داود بن علي - عدم جواز الاستجمار بغير الأحجار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالاستنجاء بالأحجار، فحينئذٍ يجب أن يقتصر على الأحجار، والأمر يقتضي الوجوب، ولأن هذا فيه رخصة، والرخصة أتت بصورة مخصوصة، فيجب الاقتصار عليها فقط كما يقتصر على التراب في التيمم.
وأجاب العلماء عن ذلك فقالوا: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وليستنج بثلاثة أحجار) وشبهه من الأحاديث، إنما نص على الأحجار؛ لأن الأحجار هي غالب الموجود للمستنجي بالفضاء، ولأن أسهل شيء يستطيع أن يحصل عليه في ذلك المكان هو هذه الأحجار، فإنه لا مشقة فيها ولا كلفة في تحصيلها، فالنص على الأحجار إنما خرج مخرج الغالب، وهذا مثل قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:151] فهذا القيد لا مفهوم له، فهل يجوز أن يستدل بهذه الآية على أنه يجوز قتل الأولاد لسبب آخر غير الإملاق الذي هو الفقر؟! لا يجوز، لكن لما كان السبب الغالب الذي كان يدعو بعض العرب في الجاهلية إلى قتل الأولاد هو الفقر نص عليه.
كذلك أيضاً قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] فغالب الربا يكون أضعافاً مضاعفة، فلذلك نص عليه، فهل يصح أن يستدل بهذه الآية -كما فعل بعض الذين في قلوبهم مرض- على جواز الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة؟! كلا.
وكذلك قوله تبارك وتعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] هل هذا فقط في حالة الخوف أم أن هذه رخصة عامة في أي سفر يقصر الإنسان فيه الصلاة؟ هي رخصة عامة، وقيد الخوف لا مفهوم له؛ لكونه خرج مخرج الغالب، وهكذا نص على الأحجار لهذه العلة.
استدل الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى على أن كل ما يشبه الأحجار ويقوم مقامها له حكمها في جواز الاستجمار به بقوله: ولنا ما روى أبو داود عن حذيفة قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة؟ فقال: بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع) فلولا أنه أراد الحجر وما في معناه لم يستثن منها الرجيع، ولم يكن تخصيص الرجيع بالذكر له معنى.
وفي حديث سلمان رضي الله عنه قال: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستجمر برجيع أو عظم) رواه مسلم.
فتخصيص النهي بالرجيع -وهو الروث- والعظم يدل على أنه أراد الحجارة أو ما قام مقامها.
وروى طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أتى أحدكم البراز فلينزه قبلة الله ولا يستقبلها ولا يستدبرها، وليستطب بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب) رواه الدارقطني.
وقد روي عن ابن عباس مرفوعاً والصحيح أنه مرسل، ورواه سعيد في سننه موقوفاً على طاوس.
يقول الإمام البيهقي: الصحيح أن هذا من كلام طاوس وليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأيضاً ذكر البيهقي أن نفس هذا الحديث روي عن سراقة بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه ضعيف أيضاً.
قال البيهقي: وأصح ما روي في هذا ما رواه يسار بن نمير قال: (كان عمر رضي الله عنه إذا بال قال: ناولني شيئاً أستنجي به، فأناوله العود والحجر، أو يأتي حائطاً يتمسح به أو يمسه الأرض ولم يكن يغسله) أي: يجزئ الحجر وما في معنى الحجر، لكن التراب الرخو ليس فيه معنى الحجر، ولا يقوم مقام الحجر المأمور به، لكن إذا كان تراباً مستحجراً متماسكاً متضاماً يشبه الحجارة، وأمكن الإزالة به والإنقاء؛ فيكون حكمه حكم الحجر، فإن كان رخواً لا تمكن الإزالة به لم يجزئ؛ لأنه يعلق بالمحل.
ثم قال الإمام ابن قدامة مبيناً صحة الاستنجاء بالأحجار أو ما في معناها: ولأنه متى ورد النص بشيء لمعنى معقول وجب تعديته إلى ما وجد فيه المعنى.
أي: متى ورد النص بشيء في معنى معقول نستطيع أن ندركه بأنفسنا وجب أن يتعدى هذا الحكم إلى ما وجد فيه نفس هذا المعنى، وهو ما يسمى بالقيد، والمعنى المعقول ها هنا أن تزال عين النجاسة، وهذا يحصل بغير الأحجار، وبهذا يخرج التيمم فلا يصح القياس على التيمم؛ لأن التيمم غير معقول المعنى، فإن التيمم رخصة غير معقولة المعنى.(71/9)
حكم الاكتفاء بالأحجار في الاستنجاء أو الماء
يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: وهو مخير بين الاستنجاء بالماء أو الأحجار في قول أكثر أهل العلم.
أي: يجوز للإنسان أن يستنجي بالأحجار حتى مع وجود الماء، وهذا من الرخص ومن التيسير على عباد الله.
وحكى ابن المنذر عن سعد بن أبي وقاص وحذيفة وابن الزبير رضي الله عنهم أجمعين أنهم أنكروا الاستنجاء بالماء.
وذلك لأن الأصل في مجتمع الصحابة هو الاستنجاء بالأحجار.
وهذا يدل على شيوع الاستجمار بالأحجار في عهد السلف، فكان هؤلاء الصحابة لا يرون الاستنجاء بالماء.
وقال سعيد بن المسيب: وهل يفعل ذلك إلا النساء؟! وقال عطاء: غسل الدبر محدث.
وكان الحسن لا يستنجي بالماء.
وروي عن حذيفة القولين جميعاً.
وكان ابن عمر لا يستنجي بالماء ثم فعله، وقال لـ نافع: جربناه فوجدناه صالحاً.
وشرط أن يكون ما يستنجى به غير مطعومٍ هو في الأشياء الجامدة وليس في الماء؛ لأن الماء لا يدخل أصلاً في هذا الخلاف؛ لتواتر الأدلة الصحيحة على أن الشرع أجاز الاستنجاء بالماء، بل ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الإمام الخطابي رحمه الله: زعم بعض المتأخرين أن الماء مطعوم؛ فلهذا كره الاستنجاء به سعد وموافقوه، وهذا قول باطل منابذ للأحاديث الصحيحة، والله أعلم.
وحكى القاضي أبو الطيب من الشافعية وغيره عن الزيدية والقاسمية -وهما من فرق الشيعة- أنه لا يجوز الاستنجاء بالأحجار مع وجود الماء.
إذاً: الزيدية والقاسمية من الشيعة قالوا: إذا كان الماء موجوداً فلا يجزئ إلا استعمال الماء، ولا يجوز العدول عن الماء إلى الاستنجاء بالأحجار مع وجوده؛ فاحذروا أن تكونوا مثل الشيعة دون أن تشعروا، فبعض الناس يستغرب هذا الحكم، ويقول: كيف يجوز أن أستعمل الأحجار مع وجود الماء؟! نعم يجوز.(71/10)
حكم الاقتصار على الأحجار مع وجود الماء للمقيم والمسافر
يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: ولا شك في جواز الاقتصار على الأحجار مع وجود الماء وعدمه.
يعني: يجوز استعمال الأحجار مطلقاً سواء كان الماء موجوداً أو معدوماً، وسواء كان الإنسان مقيماً أو مسافراً.
قال: وهذا مذهبنا وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
يقول الإمام الماوردي: فلو استنجى أولاً بالماء لم يستعمل الأحجار بعده؛ فإنه لا فائدة فيه.
وهذا واضح؛ لأن الماء يزيل العين والأثر.(71/11)
أدلة أفضلية الاستنجاء بالماء على الاستنجاء بالأحجار
من أراد الاقتصار في الاستنجاء على أحدهما الماء أو الأحجار أو ما قام مقامها فالماء أفضل؛ لهذه الأدلة التي سنذكرها: سبب ورود حديث ابن عباس: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) أنه وضع للنبي صلى الله عليه وسلم الماء عند الخلاء قريباً منه حتى يتناوله، فقال: (من وضع هذا؟ قالوا: ابن عباس) فدعا له هذه الدعوة المباركة، فهذا دليل على استعمال الماء.
وعن أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء -أي: وعاء صغير من جلد- وعنزة -أي: عصاً مثل الرمح- فيستنجي بالماء).
وعن حديث عائشة قالت: (مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء؛ فإني أستحييهم، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله).
ومنها: حديث سبب نزول قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] في أهل قباء؛ لأنهم كانوا يستنجون بالماء.
إذاً: من أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل؛ لأنه يطهر المحل، ويزيل العين والأثر، بخلاف الأحجار فإنها تزيل العين فقط وتبقي الأثر، فليس هناك شك أن الماء أبلغ في التنظيف، وأن اقتصر على الحجر أجزأه بغير خلاف بين أهل العلم حتى مع وجود الماء؛ لما ذكرنا من الأخبار، ولأنه إجماع الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
والأفضل أن يستجمر بالحجر ثم يتبعه الماء، أولاً بالحجر ثم يتبعه الماء، لكن إن كان لابد أن يستعمل واحداً من الاثنين فقط، فالماء أفضل.
قال أحمد: إن جمعهما فالماء أحب إليه؛ لأن عائشة قالت: (مرن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة الماء من أثر الغائط والبول فإني أستحييهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله)، ولأن الحجر يزيل عين النجاسة فلا تصيبها يده، ثم يأتي الماء فيطهر المحل، فيكون أبلغ في التنظيف وأحسن.(71/12)
حكم الإنقاء بما دون الثلاثة الأحجار
يقول الإمام الخرقي رحمه الله تعالى: فإن لم يعد مخرجهما -أي: إن خرج شيء من السبيلين ولم يتجاوز المخرج ولم ينتشر إلى غيره- أجزأه ثلاثة أحجار إذا أنقى بهن، فإن أنقى بدون الثلاثة لم يجزئه حتى يأتي بالعدد، وإن لم ينق بالثلاثة زاد حتى ينقي.
لكن يستحب أن يختم على وتر، وإذا لم يتجاوز المخرج بما لم تجر العادة به -فإن اليسير لا يمكن التحرز منه- فإنه يجزئه ثلاثة أحجار منقية.
ومعنى الإنقاء: إزالة عين النجاسة وبلتها بحيث يخرج الحجر نقياً وليس عليه أثر لاصق إلا شيئاً يسيراً لا يزيله إلا الماء.
إذاً: لابد من الإنقاء واستعمال ثلاثة أحجار حتى يصح الاستنجاء بالأحجار، وإذا لم يحصل الإنقاء فلابد أن يزيد في الأحجار حتى يحصل الإنقاء، وهذا مذهب الإمام أحمد والشافعي وإسحاق وأبو ثور.
وقال مالك وداود: الواجب الإنقاء دون العدد.
أي: لو حصل الإنقاء بواحدة أو باثنتين يجزئ.
وأيضاً قال بهذا أبو حنيفة رحمه الله حيث أوجب الاستنجاء.(71/13)
أدلة من لا يشترط العدد في الاستنجاء بالأحجار
احتج أصحاب هذا القول بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من استجمر فليوتر، من فعله فقد أحسن ومن لا فلا حرج) فالعلماء الذين قالوا: إن الواجب هو الإنقاء وليس العدد، اعتبروا الشرط الوحيد هو الإنقاء ولم يشترطوا العدد، وقالوا: إن المقصود هو الإنقاء؛ لأنه لو استنجى بالماء لم يشترط العدد فكذلك الحجر.
وقد رد على هذا من الشافعية القاضيان أبو الطيب وحسين بالقياس بعبادة تتعلق بالأحجار ويستوي فيها الثيب والأبكار، فكان العدد فيها معتبراً ألا وهي رمي الجمار، ورجم الزاني المحصن يستوي فيه الذكر والأنثى.
إذاً: اعتبار العدد في رمي الجمار بحيث لابد أن نستعمل سبع جمرات يوافق اعتبار العدد في الاستنجاء بالأحجار.
لكن الإمام النووي بعدما ذكر هذا، يقول: ولا حاجة إلى الأقيسة مع الأحاديث الصحيحة.
وقد ذكرنا أن مخالفي الجمهور في هذه المسألة احتجوا بالحديث الذي ذكرناه آنفاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج) رواه الدارمي وأبو داود وابن ماجة وحسنه النووي.
وأيضاً قالوا: النجاسة لا تجب إزالة أثرها فكذا عينها كدم البراغيث؛ وقالوا: ولأنه لا تجب إزالتها بالماء فلم يجب غيره.
وقال المزني: ولأنا أجمعنا على جواز مسحها بالحجر فلم تجب إزالتها كالمني؛ لأن المني طاهر والبول نجس.(71/14)
الجواب عن أدلة من لا يوجب العدد في الاستنجاء بالأحجار
الجواب على من استدل بحديث أبي هريرة: (من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج) أن معنى قوله: (ومن لا فلا حرج) أي: فلا حرج في ترك الإيتار؛ وهو محمول على الإيتار الزائد على ثلاثة أحجار؛ حتى نجمع بين هذا الحديث وبين الأحاديث الأخرى التي اشترطت الثلاثة الأحجار، فلو حصل الإنقاء بأقل من ثلاثة أحجار فلابد أن يجعلها ثلاثة أحجار.
والدليل على هذا المذهب الصحيح هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا لكم مثل الوالد، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بغائط ولا بول، وليستنج بثلاثة أحجار).
فنجمع بين قوله: (وليستنج بثلاثة أحجار) وبين قوله: (من استجمر فليوتر) أي: فليوتر، ولا يوتر بأقل من ثلاثة أحجار.
ومن الأدلة حديث سلمان رضي الله عنه: (أن رجلاً قال لـ سلمان: إن نبيكم علمكم كل شيء حتى الخراءة -أي: آداب التخلي- فقال: أجل نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) رواه مسلم في صحيحه.
أيضاً حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن فإنها تجزئ عنه) يقول النووي: هذا حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارقطني وقال: إسناده حسن صحيح.
واحتج أصحاب الشافعي بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنزه من بوله)، وفي رواية: (لا يستبرئ من بوله) رواه البخاري ومسلم.
يقول الإمام النووي: في الاستدلال به نظر؛ لأن الدعوى هي أن من استنجى بأقل من ثلاثة أحجار داخل في هذا الحديث، وأنه لم يستبرئ من بوله، والدعوى يستدل لها ولا يستدل بها.
أيضاً من الأدلة قول ابن مسعود رضي الله عنه: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالثة فلم أجد، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: إنها ركس) رواه البخاري هكذا.
وروى أحمد والدارقطني والبيهقي في بعض رواياته زيادة قال: (فألقى الروثة وقال: ائتني بحجر) يعني: ائتني بحجر ثالث.
وفي بعضها: (ألقاها -أي: الروثة- وقال: ائتني بغيرها).
ألقى الروثة وقال: (ائتني بغيرها).
وأيضاً حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (من استجمر فليوتر) هذا متفق عليه، لكن هناك رواية لنفس هذا الحديث للإمام أحمد والبيهقي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثاً) قال البيهقي: هذه الرواية تبين أن المراد بالإيتار في الرواية الأولى ما زاد على الواحدة، فما هو الوتر الذي يزيد عن الواحدة؟ إنه الثلاث، فيكون الإيتار بالثلاثة الأحجار واجباً، والإيتار بعد الثلاث يكون مستحباً.(71/15)
ذكر بعض آداب الاستجمار والاستنجاء
يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: وإذا زاد على الثلاث استحب ألا يقطع إلا على وتر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من استجمر فليوتر) فإن حصل الإنقاء بوتر لم تستحب الزيادة، لكن إذا حصل الإنقاء بشفع استحبت الزيادة فيستجمر بخمس أو سبع أو تسع أو ما زاد على ذلك، فإن اقتصر على وتر منقية فيما زاد على الثلاثة جاز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن لا فلا حرج).
ويقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: قال أصحابنا: لو أن إنساناً بال ومسح الموضع مرتين أو ثلاثاً، ثم خرجت قطرة وجب استئناف المسح أي: إذا حصل بعد المسح بالاثنين مرتين أو ثلاث خروج شيء جديد فإنه يعيد المسح من جديد ولا يبني على ما مضى.
ومن هذه الآداب ألا يستجمر بيمينه؛ لقول سلمان رضي الله عنه: (إنه لينهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه) وسلمان صحابي معروف، وترجمته من التراجم المهمة جداً؛ لأنه أنموذج كامل للباحث عن الحق.
لو قرأتم قصة إسلامه لوجدتم كيف ينبغي لكل من سأل عن الإسلام أن يتحرى ويبذل الجهد حتى يصل إلى الحق، وأنه إذا أخلص في ذلك فإن الله يوفقه مهما كان أمامه من عقبات، وسلمان أصله فارسي من أصبهان، وهو مولى النبي صلى الله عليه وسلم، توفي بالمدائن سنة (36هـ) وعمر سلمان عمراً طويلاً جداً، فالمتفق عليه بين المؤرخين أنه عاش مائتين وخمسين سنة، وقيل: ثلاثمائة وخمسين سنة رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى) رواه أحمد وأبو داود بإسناد صححه النووي رحمه الله.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد -وقال فيه-: ولا يستطب بيمينه) فهذه من الآداب التي علمها عليه الصلاة والسلام أصحابه.
وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى أحدكم الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه، ولا يتمسح بيمينه) متفق عليه.
أي: إذا كان يستنجي من غائط أخذ الحجر بشماله فمسح به، وإن كان يستنجي من البول وكان الحجر كبيراً أخذ ذكره بشماله فمسح به.
مسألة: لو أن رجلاً استنجى بيمينه هل يجزئه ذلك؟ يجزئه، لكنه خالف الأدب الشرعي، يقول علماء الشافعية: يكره الاستنجاء باليمين كراهة تنزيه ولا يحرم.
قال إمام الحرمين: الاستنجاء باليمين مكروه غير محرم، قال: وحرمه أهل الظاهر.
وقال ابن الصباغ وآخرون: الاستنجاء باليسار أدب، وليس باليمين معصية.
وقال الشافعي كما حكاه المزني في مختصره: النهي عن اليمين أدب، لكن لو حصل ووقع أنه خالف فقد ارتكب مكروهاً كراهة تنزيهية، ولكن قد يصح الاستنجاء.
ومختصر المزني له مكانة عظيمة عند العلماء فقد قال فيه بعضهم: لم تراعيني ولم تسمع أذني أحسن نظماً من كتاب المزني.
يقول الإمام ابن قدامة: يبدأ الرجل في الاستنجاء بالقبل؛ لئلا تتلوث يده إذا شرع في الدبر، والمرأة مخيرة في البداية بأيهما شاءت.
والظاهر عدم التفريق، والله أعلم.
مسألة: لو أن رجلاً تغوط وقبل أن يستنجي قام، هل تجزئه الأحجار؟ لا تجزئه؛ لأنها تعدت المحل غير المعتاد، فلابد من استعمال الماء في هذه الحالة.
ومن الآداب الشرعية في هذا الباب: أنه إذا استنجى بالماء يستحب له أن يدلك يده بالتراب بعدما يفرغ.
يقول الإمام النووي رحمه الله: السنة أن يدلك يده بالأرض بعد غسل الدبر، ذكره البغوي والروياني وآخرون، كما في حديث ميمونة رضي الله عنها قالت: (وضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءاً للجنابة، فأكفأ بيمينه على شماله مرتين أو ثلاثاًَ، ثم غسل فرجه، ثم ضرب بيده الأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثاً) متفق عليه.
وفي رواية مسلم: (ثم أفرغ على فرجه وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً)، وهذا في الغسل.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء فاستنجى، ثم مسح يده على الأرض، ثم أتيته بإناء آخر فتوضأ) وهذا حديث حسن.
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الغيضة فقضى حاجته ثم استنجى من إداوة ومسح يده بالتراب) رواه النسائي وابن ماجة بإسناد جيد.
وهذا نوع من التنظيف ويجزئ عنه ما في معناه من الصابون أو غير ذلك.
الاستنجاء من البول يسمى انتقاص الماء، والانتقاص معناه: أن الإنسان إذا استبرأ من البول واستنجى بالماء؛ فإن ذلك يقطع نزول البول، فحينئذٍ يقال: إن الماء يقطع البول؛ ولذلك سمي الاستنجاء انتقاص الماء.
ويستحب بعد الفراغ من الاستنجاء بالماء أن ينضح على فرجه وسراويله؛ ليزيل الوسواس عنه؛ لأن هذا النضح يحدث بللاً، فإذا وجد البلل فإنه لا يفتح الباب للشيطان ليوسوس، وهذا باب خطير جداً إذا استرسل معه الإنسان، فحينما يتذكر أنه عمداً نضح سراويله بالماء فإنه يذهب عنه ذلك الوسواس.
يقول حنبل: سألت أحمد: أتوضأ وأستبرئ وأجد في نفسي أني قد أحدثت بعده؟ قال: إذا توضأت فاستبرئ، ثم خذ كفاً من ماء فرشه على فرجك ولا تلتفت إليه، فإنه يذهب إن شاء الله.
فالإنسان لا يتساهل في باب الوسواس؛ لأنه لو فتحه فسدت عليه عبادته.
روى النووي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جاءني جبريل فقال: يا محمد! إذا توضأت فانتضح) وهذا حديث غريب، لكن قد ثبت الانتضاح في حديث صحيح.(71/16)
حكم الاستنجاء من البول والغائط وكل خارج من السبيلين
مسألة: لو أن رجلاً قضى حاجته ثم توضأ ثم استجمر، ثم صلى فهل تصح طهارته؟ الطهارة صحيحة؛ لأنه إنما أخر الاستجمار، والشرط هو إزالة النجاسة من بدنه أو ثوبه، وهو قد أزالها، لكن يشترط ألا يمس العورة عند الاستجمار بالأحجار مثلاً.
يقول الإمام النووي رحمه الله: الاستنجاء واجب عندنا من البول والغائط، وكل خارج من أحد السبيلين نجس ملوث، وهو شرط في صحة الصلاة، وبه قال أحمد وإسحاق وداود وجمهور العلماء، ورواية عن مالك، وقال أبو حنيفة: هو سنة، وهو رواية عن مالك، وحكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والعبدري وغيرهم عن المزني، وجعل أبو حنيفة هذا أصلاً للنجاسات، فما كان منها قدر درهم بغلي عفي عنه.
إذاً: أبو حنيفة اعتبر هذا هو حد النجاسة، فإذا كانت النجاسة بقدر درهم بغلي عفي عنه، وإن زاد فلا، وكذا الحكم عنده في الاستنجاء إن زاد الخارج على درهم وجب وتعين الماء، ولا يجزئ عنده الاستنجاء بالحجر.(71/17)
آداب التخلي [2]
من سنن دخول الخلاء: التسمية والتعوذ عند إرادة الدخول إلى الخلاء، وتقديم الرجل اليسرى، والاستغفار بعد الخروج من الخلاء.
ومن آداب التخلي الاعتماد على الرجل اليسرى حال الجلوس لقضاء الحاجة.
ويكره الذكر وقراءة القرآن حال قضاء الحاجة، وفي مكان قضاء الحاجة.(72/1)
آداب دخول الخلاء والخروج منه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فالشرع الشريف شرع آداباً عند دخول الخلاء، يقول الإمام ابن النحاس رحمه الله: ذكر علماؤنا رحمة الله تعالى عليهم آداب التصرف في ذلك كله، وهي تزيد على سبعين خصلة، يحتاج من قام إلى قضاء حاجته أن يتأدب بها، وكلها مرتبطة بالاتباع، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
وهنا من مظاهر عظمة الإسلام، فالإسلام نظم كل حياة المسلم حتى أخص خصائصه وأدق الأمور في حياته نظمها له، ولله عز وجل حدود في كل شيء ينبغي أن يراعيها العبد وآداب ينبغي له أن يتمسك بها.
ونذكر بعض آداب التخلي مجملة، ثم نفصل ما أجملناه منها: أن ينوي أداء واجب استفراغ ما في المحل مما يخرج، وكذلك إزالة الاحتقان؛ امتثالاً لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول: (لا يصلين أحدكم وهو يدافع الأخبثين) وهذا نهي، فينوي أن يجتنب الأمر الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم: (وما نهيتكم عنه فاجتنبوه) فينوي من قضاء الحاجة أنه يفعل ذلك حتى لا يصلي وهو يدافع الأخبثين؛ امتثالاً لما شرعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يضم إلى ذلك نية امتثال السنن والآداب المشروعة في هذا الموقف.
ومن هذه الآداب أن يستتر عن الناس؛ لأنه ليس في كل الأحوال يتيسر بيت الخلاء في الصحراء مثلاً أو غيرها.
فإذا وجد الإنسان حائطاً أو كثيباً أو شجرة أو بعيراً استتر به، وإن لم يجد شيئاً أبعد حتى لا يراه أحد.
ويستحب له أن يستعد لذلك قبل الدخول، وذلك بأن يهيئ ما يستنجي به من الماء أو الأحجار قبل جلوسه.
وإذا دخل محل قضاء الحاجة قدم رجله اليسرى في الدخول وأخر اليمنى، وإذا خرج قدم اليمين وأخر الشمال.
أيضاً لا يجوز أن يستقبل القبلة ولا أن يستدبرها في الفضاء عند قضاء الحاجة، وأما إذا كان بينه وبين القبلة بنيان أو شيء يستره فلا بأس.
وقد تقدم أنه يجوز الاستنجاء بالحجر وبكل ما يقوم مقامه من كل جامد طاهر مزيل لعين النجاسة، وليس له حرمة ولا هو متصل بحيوان، ولا يجوز الاستنجاء بروث ولا عظم ولا طعام.
ويستجمر وتراً ولا يقل عن ثلاثة أحجار أو ما يقوم مقامها.
وذكرنا أنه يشترط في الاستنجاء شرطين: الأول: الإنقاء.
الثاني: العدد والإيتار بثلاثة أحجار.
وإذا أراد أن يستنجي فليغسل يده اليسرى قبل أن يباشر النجاسة؛ لئلا تعلق بها الرائحة.
ويبدأ الرجل في الاستنجاء بالقبل والمرأة مخيرة في ذلك.
وإذا استنجى بالماء ثم فرغ استحب له أن يدلك يده بالتراب، وهذا من باب النظافة.
ويستحب أن ينضح الماء على فرجه وسراويله ليزيل الوسواس عنه.
ومن الآداب: ألا يطيل القعود أكثر من قدر الحاجة بل يسارع في الخروج من ذلك المحل.
يقول الإمام أبو عبد الله القرشي رحمه الله تعالى: إذا أراد الله بعبد خيراً يسر عليه الطهارة.
وقال العلماء: من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء.
ومن مفاتيح دراسة شخصية الإنسان أن يسأل عن سلوكه في هذا الباب؛ لأن الإنسان إذا ابتلي بالوسوسة فهذا شيء خطير جداً؛ لأنه إذا تمادى في هذا الأمر فقد يصل إلى أمور تشقيه وتكدر عليه حياته، فينبغي للإنسان أن يكون حذراً.
ونشرع الآن في ذكر أهم آداب التخلي بالتفصيل.(72/2)
الأدب العاشر: كراهة البول في الحجر والثقب ومكان الاستحمام
ومن الآداب: أنه يكره أن يبول المرء في شق أو ثقب، والثَقب بالفتح أفصح من أن تقول: ثُقب بالضم.
عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يبال في الجحر أو نهى عن البول في الجحر) رواه أبو داود، وصححه الإمام النووي رحمه الله، وضعفه الألباني.
ووجه النهي أنه لا يأمن أن يكون في الجحر حيوان يلسعه ويؤذيه، أو أن يكون مسكناً للجن فيتأذى بهم، فقد حكي أن سعد بن عبادة بال في جحر بالشام، ثم استلقى ميتاً، فسُمِعَت الجن تقول: نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده وهذا لا يصح؛ لأن المعروف أن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه وجد ميتاً في مستحمه وقد اخضر جسده رضي الله عنه، ولم يصح أنه مات بهذه الحادثة.
أيضاً: لا يبول في مستحمه كما ذكرنا فإن عامة الوسواس منه؛ وذلك لحديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبولن أحدكم في مستحمه) أي: لا يبول في الموضع الذي يستحم فيه.(72/3)
الأدب الحادي عشر: حرمة البول على القبر
أيضاً من الآداب: ألا يبول على القبر، وهذا حرام أو مكروه؛ لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق!!) يعني: كلاهما سواء في عدم الجواز أو هما في القبح سواء، فمن أتى بأحدهما فهو لا يبالي بأيهما بدأ.(72/4)
الأدب الثامن: الاستتار والابتعاد عن الناس حال قضاء الحاجة
من الآداب التي ذكرها العلماء: أن يستتر عن الناس، فإن وجد حائطاً أو كثيباً أو شجرة أو بعيراً استتر به، وإن لم يجد شيئاً أبعد حتى لا يراه أحد.
والدليل على ذلك حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فقال: يا مغيرة! خذ الإداوة فأخذتها، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توارى عني فقضى حاجته) رواه البخاري ومسلم.
وعن جابر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد) وهذا الحديث فيه ضعف يسير.
يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: وهذان الأدبان متفق على استحبابهما، وجاء فيهما أحاديث كثيرة جمعتها في جامع السنة.
قال الرافعي وغيره: ويحصل هذا التستر بأن يكون في بناء مسقف أو محوط يمكن سقفه أو يجلس قريباً من جدار وشبهه، وليكن الساتر قريباً من آخرة الرحل، وليكن بينه وبينه ثلاثة أذرع فأقل، ولو أناخ راحلته وتستر بها أو جلس في وهدة أو نهر أو أرخى ذيله حصل هذا الغرض، والله أعلم.
يعني: لأن المقصود ستر العورة.
وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: (كان أحب ما استتر به النبي صلى الله عليه وسلم هدف أو حائش نخل) يعني: حائط نخل.
رواه مسلم في صحيحه.(72/5)
الأدب التاسع: عدم قضاء الحاجة في طريق الناس وظلهم وغيرهما
هناك أماكن معينة يجتنبها الإنسان عند قضاء الحاجة، يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ولا يجوز أن يبول في طريق الناس ولا مورد ماء ولا ظل ينتفع به الناس؛ لما روى معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل) رواه أبو داود وابن ماجة والبيهقي بإسناد جيد.
قوله: (البراز) بالفتح أو الكسر.
قوله: (في الموارد) أي: موارد المياه؛ وبعض العلماء قالوا: المورد: هو الطريق.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا اللاعنين -وفي بعض الروايات: اتقوا اللعانين- قالوا: وما اللعانان -أو وما اللاعنان- يا رسول الله؟! قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم) أخرجه مسلم.
ومن الآداب: ألا يبول تحت شجرة مثمرة؛ لئلا تسقط الثمرة عليه فتتنجس، أما في حال عدم وجود الثمرة فلا بأس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب ما استتر به لحاجته هدف أو حائش نخل.
ولا يبول في الماء الدائم، قليلاً كان الماء أو كثيراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن البول في الماء الراكد) متفق عليه، ولأن الماء إذا كان قليلاً تنجس به، وإن كان كثيراً فربما تغير بتكرار البول فيه، وأما الجاري فلا يجوز التغوط فيه؛ لأنه يؤذي من يمر به، وإن بال فيه فلا بأس؛ لأنه كثير لا يؤثر فيه البول؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خصص النهي عن البول بالماء الراكد، فدل على أن الجاري بخلافه، والأولى اجتنابه.
أيضاً: لا يبول على ما نهي عن الاستجمار به كالعظم وسائر المطعومات، فقد نهينا عن الاستجمار بها، فمن باب أولى لا يجوز أن يبول عليها؛ لأن هذا أبلغ من الاستجمار بها، العظام لا يستجمر بها؛ لأنها زاد إخواننا من الجن، فمن باب أولى لا يبول عليها.
وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اتقوا الملاعن الثلاث) الملاعن: هي مواضع وأماكن اللعن، وهي جمع ملعنة، مثل مقبرة ومجزرة، فالمقبرة موضع القبر، والمجزرة موضع الجزر، وكذلك الملعنة موضع اللعن.
وفي رواية أخرى: (اتقوا اللعانين) والمقصود بهما صاحبا اللعن، يعني: اللذين يلعنهما الناس كثيراً.
وفي رواية أبي داود: (اللاعنان) أي: الأمران الجالبان للعن؛ لأن من فعلهما لعنه الناس في العادة، فلما صارا سبباً للعن أضيف الفعل إليهما.
قال الخطابي: وقد يكون اللاعن بمعنى الملعون، فالتقدير: العنوا الملعون فاعلهما.
قال الخطابي: وغيره الموارد هي طرق الماء، واحدها مورد.
قال: والمراد بالظل مستظل الناس الذي اتخذوه مقيلاً ومناخاً ينزلونه أو يقعدون تحته، وليس كل ظل يمنع قضاء الحاجة تحته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قضى حاجته تحت حائش النخل كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، وللحائش ظل بلا شك.
قوله: (البراز) قال الخطابي: وهو هنا بفتح الباء البراز، وهو الفضاء الواسع من الأرض، كنوا به عن قضاء الحاجة كما كنوا عنه بالخلاء، وأهل الحديث يروونه البراز بكسر الباء، قال الخطابي: وهو غلط.
ثم ذكر أن البراز بالكسر الغائط نفسه لا الفضاء.
وأما قارعة الطريق فهي أعلى الطريق، وقيل: صدر الطريق أو ما برز منه، والطريق تؤنث وتذكر تقول: هذا طريق أو هذه طريق.
إذاً: اتقاء الملاعن الثلاث متفق عليه، وقضاء الحاجة في هذه الملاعن مكروه كراهة تنزيه لا تحريم كما قال بعض العلماء، لكن صحح الإمام النووي أنه ينبغي أن يكون محرماً؛ لهذه الأحاديث، ولما فيه من إيذاء المسلمين، وفي كلام الخطابي وغيره إشارة إلى تحريمه.(72/6)
الأدب السابع: كراهة الكلام حال قضاء الحاجة
يقول ابن قدامة رحمه الله: ولا يتكلم لما روى أبو سعيد رضي الله عنه حيث قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتيهما يتحدثان؛ فإن الله يمقت على ذلك) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة وغيرهم، وحسنه النووي وصححه الحاكم وضعفه الألباني في تمام المنة.
قوله: (لا يخرج الرجلان يضربان) أي: يأتيان، تقول: ضربت الأرض إذا أتيت الخلاء، وتقول: ضربت في الأرض إذا سافرت، كقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء:101].
علق الإمام النووي رحمه الله تعالى على ما ذكره الشيرازي في كراهة الكلام عند قضاء الحاجة فقال: هذا الذي ذكره المصنف من كراهة الكلام عند قضاء الحاجة متفق عليه.
قال أصحابنا: ويستوي في الكراهة جميع أنواع الكلام، ويستثنى مواضع الضرورة، بأن رأى ضريراً قد يقع في بئر، أو رأى حية أو غيرها تقصد إنساناً أو غيره من المحترمات، فلا كراهة في الكلام في هذه المواضع، بل يجب في أكثرها، فإن قيل: لا دلالة في الحديث المذكور على ما ادعاه المصنف؛ لأن الذم لمن جمع الأوصاف المذكورة في الحديث كلها، قلنا: ما كان بعض موجبات المقت فلا شك في كراهته.
والمراد حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط) يعني: يأتيان الغائط: (كاشفين عن عورتيهما يتحدثان؛ فإن الله يمقت على ذلك) فبعض الناس بناء على صحة الحديث يقول: إن المقت من الله إنما هو على كشف العورة والكلام لا على الكلام فقط، فلا ينطبق الحديث إلا على من جمع بين هاتين الخصلتين: كشف العورة، والتحدث، ف
الجواب
ما كان بعض موجبات المقت فلا شك في كراهته.(72/7)
الأدب الثالث: كراهة استقبال الشمس والقمر عند قضاء الحاجة
ذكر العلماء في أحكام التخلي ومنهم الإمام ابن قدامة: أنه يكره للمرء أن يستقبل الشمس والقمر بفرجه؛ لما فيهما من نور الله تعالى، فإن استتر عنهما بشيء فلا بأس؛ لأنه لو استتر عن القبلة جاز فهاهنا أولى، ويكره أن يستقبل الريح؛ لئلا ترد عليه رُشاش البول فينجسه.
قوله: ويكره أن يستقبل الشمس والقمر بفرجه لما فيهما من نور الله تعالى، أخذوا هذا الحكم من حديث ضعيف، والكلام في استقبال القبلة لا ينبغي ربطه بمسألة استقبال الشمس والقمر، فلا يقال: لا يستقبل الشمس والقمر ولا يستدبر القبلة ولا يستقبلها؛ لأن هذا قد يكون فيه مشقة، ومما يوضح أن هذا الحكم غير صحيح معرفة الفرق بين استقبال القبلة وبين استقبال الشمس والقمر: الفرق الأول: أن دليل النهي عن استقبال القبلة عند التخلي صحيح مشهور، ودليل استقبال الشمس والقمر ضعيف بل باطل، ثم هذا النور مخلوق؛ لأنه انعكاس لضوء الشمس على سطح القمر.
والحكم بالاستحباب أو الكراهة يحتاج إلى دليل، ولا دليل في هذه المسألة.
الفرق الثاني: أنه يفرق في القبلة بين الصحراء والبنيان كما يأتي إن شاء الله، لكن لا فرق هنا.
الفرق الثالث: النهي في استقبال القبلة واستدبارها للتحريم، وهنا يقولون: إنه للتنزيه إذا صح الحديث، وهو لم يصح.
الفرق الرابع: أنه في القبلة يستوي الاستقبال والاستدبار، وهنا لا بأس بالاستدبار، وإنما كرهوا أن يستقبل الشمس والقمر.(72/8)
الأدب الرابع: استحباب الاعتماد على الرجل اليسرى حال الجلوس لقضاء الحاجة
يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: يعتمد في حال جلوسه على رجله اليسرى؛ لما روى سراقة بن مالك قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتوكأ على اليسرى وأن ننصب اليمنى) رواه الطبراني في المعجم.
وهذا الحديث لم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(72/9)
الأدب الخامس: استحباب تغطية الرأس ولبس الحذاء حال قضاء الحاجة
يقول ابن قدامة: ويستحب أن يغطي رأسه، ويروى ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولأنه حال كشف العورة.
قال: ويلبس حذاءه؛ لئلا تتنجس رجلاه.(72/10)
الأدب السادس: كراهة الذكر والقراءة حال قضاء الحاجة
يقول ابن قدامة: ولا يذكر الله تعالى على حاجته إلا بقلبه.
فإذا سمع المؤذن يؤذن فلا يردد الأذان بلسانه لكن بقلبه، وكره ذلك ابن عباس وعطاء وعكرمة.
وقال ابن سيرين والنخعي: لا بأس به؛ لأن الله تعالى ذكره محمود على كل حال.
وروى المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلمت عليه، فلم يرد علي حتى توضأ، ثم اعتذر إلي فقال: إني كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر، أو قال: على طهارة) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم بأسانيد صحيحة.
وفي رواية البيهقي: (فسلمت عليه وهو يتوضأ فلم يرد علي) والكراهة المذكورة في هذا الحديث بمعنى ترك الأولى، لا كراهة التنزيه.
يقول ابن المنذر: وترك الذكر أحب إلي ولا أؤثم من ذكر، يعني: لا يحرم الذكر في هذه الحالة باللسان، لكنه مكروه كراهة تنزيه.
يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله: ولنا على هذه الكراهة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد السلام في هذه الحال، فذكر الله أولى من السلام ألا يفعل، فإذا عطس حمد الله بقلبه ولم يتكلم.
وقال ابن عقيل: توجد رواية أخرى عن الإمام أحمد أنه يحمد الله بلسانه إذا عطس.
والأول أولى للحديث الآنف الذكر أنه عليه الصلاة والسلام لم يرد السلام، مع أن رد السلام واجب، ففي هذه الحالة يمنع رد السلام مع وجوبه فكيف بما هو دونه مما ليس بواجب؟! وأيضاً لا يسلِّم الإنسان حال قضاء الحاجة ولا يرد على مسلِّم؛ لما روى ابن عمر: (أن رجلاً مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم فلم يرد عليه السلام) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي رواية البيهقي: (فسلمت عليه وهو يتوضأ).
وقد ذكر الألباني في إرواء الغليل حديث ابن عمر: (مر رجل بالنبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه وهو يبول فلم يرد عليه) فقال: أخرجه مسلم وغيره، وجاء في بعض الروايات: (فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه فقال: إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر، أو قال: على طهارة).
ثم قال الألباني في إرواء الغليل: هذه الزيادة فيها فائدتان: الأولى: أن ترك الرد لم يكن من أجل أنه كان على البول فقط كما ظن الترمذي حيث قال: وإنما يكره هذا عندنا إذا كان على الغائط والبول، كما فسر بعض أهل العلم ذلك.
ثم يقول: فهذه الزيادة تدل على أن الترك إنما كان من أجل أنه لم يكن على وضوء، فلازم هذا أنه لو سلم عليه بعد الفراغ من حاجته لم يرد عليه حتى يتوضأ، ويؤيده حديث أبي الجهم: (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ويديه ثم رد عليه السلام) متفق عليه.
ويفيد هذا الحديث استحباب ذكر الله على طهارة، وصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحواله، لكن يستحب ألا تذكر الله عز وجل إلا على طهارة، فهذا من آداب الذكر المستحبة، والدليل أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن متوضئاً حين سُلم عليه ولم يستطع أن يتوضأ في هذه الحال؛ فعمد إلى الجدار وتيمم حتى يرد عليه السلام، وهذه إشارة واضحة إلى استحباب أن يكون الإنسان متطهراً إذا أراد أن يذكر الله تبارك وتعالى، وأولى ثم أولى ثم أولى إذا أراد أن يمس أو يقرأ القرآن.
يقول الألباني: الفائدة الثانية من هذه الزيادة: كراهية قراءة القرآن من المحدث لاسيما المحدث حدثاً أكبر، فإنه كره صلى الله عليه وسلم أن يرد السلام من الحدث الأصغر فبالأحرى أنه يكره قراءة القرآن منه فضلاً عن الجنب.(72/11)
الأدب الثاني: الاستغفار عند الخروج من الخلاء
صح عند الخروج أن تقول: (غفرانك)، وهذا الذي صح في هذا الباب فقط، وما عدا ذلك فلم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله: (غفرانك) غفران مصدر، ونصب بمضمر تقديره: أسأل غفرانك.
قيل: وجه طلب الغفران في هذا المحل أنه استغفار عن الحالة التي اقتضت عدم ذكر الله مدة لبثه في الخلاء، فهو نظر إلى أن ذلك تقصير في حق الله، وإنما حال دون ذلك هذه الحالة التي لا يليق فيها ذكر الله عز وجل باللسان، فلأجل ذلك استغفر لتوقف لسانه عن ذكر الله في هذه المدة، فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يترك ذكر الله بلسانه إلا عند قضاء الحاجة، فكأنه عليه الصلاة والسلام رأى ذلك تقصيراً فتداركه بالاستغفار.
وقيل: وجه طلب الغفران أنه وجد القوة البشرية قاصرة عن الوفاء بشكر النعم التي أنعم الله بها عليه، وكأنه استحضر نعمة الله جل وعلا عليه في الطعام والشراب، وتسويغ هذا الطعام والشراب، وهضمه وامتصاصه، وغير ذلك من النعم الجليلة المتعلقة بالطعام إلى أوان تسهيل مخرجه، ولو شاء الله عز وجل لحبسه عنه فتضرر بذلك ضرراً عظيماً، وربما هلك، فعلم أن شكره قاصر عن بلوغ حق تلك النعم الجليلة والعطايا الجزيلة والمعافاة الجميلة، ففزع إلى الاستغفار من تقصيره في شكر هذه النعم.(72/12)
الأدب الأول: التسمية والتعوذ عند دخول الخلاء
يقول عند دخوله: باسم الله، أعوذ بالله من الخبُث والخبائث، وقد جاء في بعض الروايات الجمع بين البسملة والاستعاذة بهذه الصيغة، وقيل: لا يصح الجمع بين البسملة والتعوذ في رواية واحدة، وأصح ما يستدل به على سنية التسمية في هذا الموضع هو حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: باسم الله).
ومعنى ذلك: أن كلمة (باسم الله) تكون حجاباً بين الجن وبين ابن آدم في هذه الحال، بحيث لا يرون عورة الإنسان، مع أن من شأن الجن كما قال عز وجل: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، فهم يروننا ونحن لا نراهم إلا إذا قال المسلم: باسم الله، فإنه يحال بين الجن وبين رؤية الإنسان، وهذا فيه تقوية الحياء في نفس المسلم في هذا الموضع حتى عن أعين الجن.
وفي رواية أخرى: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا وضع أحدهم ثوبه أن يقول: باسم الله).
وقوله: (إذا وضع أحدهم ثوبه) أعم من حال التخلي.
قال بعض العلماء: في هذا الموضع تقدم البسملة على التعوذ، خلافاً للقاعدة المعروفة في الصلاة وفي القراءة حيث يقدم التعوذ على البسملة، فالتعوذ في قراءة القرآن إنما هو لأجل القراءة، فتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن البسملة من القرآن، فقدم التعوذ عليها، بخلاف تقدم البسملة على التعوذ هنا، فيقول أولاًً: باسم الله، ثم يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.
قوله: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) الخبُث: بضم الباء جمع الخبيث، والخبائث جمع الخبيثة، وكأنه عليه الصلاة والسلام أراد بذلك ذكور الشياطين وإناثهم.
وقد صرح جماعة من أئمة الحديث أنه بإسكان الباء في كلمة (الخبْث) منهم: أبو عبيد القاسم بن سلام، واختلف الذين رووا سكون الباء في كلمة الخبث في معناه، فقيل: الخبث: الشر، وقيل: الكفر، وقيل: الشيطان، أما الخبائث فقالوا: هي المعاصي؛ لأنها جمع معصية.
والمعروف عند غيرهم من العلماء أنه بضم الباء في كلمة الخبُث، والمعنى ذكران الشياطين وإناثهم.
وقال ابن الأعرابي: الخبث في كلام العرب المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار.(72/13)
الأسئلة(72/14)
حكم التعامل مع البنوك التي أعلنت إسلاميتها
السؤال
البنوك التي تعلن إسلاميتها في التعامل مثل بنك فيصل هل يحل التعامل معها شرعاً؟
الجواب
إن كان البنك لا يزال يتعامل بالربا، وإن ادعى أنه إسلامي، فيجب أن يتجنب الإنسان التعامل معه إلا عند الضرورة، والضرورة أن يكون عنده مال لا يجد موضعاً أميناً لهذا المال سوى البنك، فيضعه بدون ما يسمى بالفائدة، وهي في الحقيقة عين الخسارة في الدين.(72/15)
آداب التخلي [3]
اختلف العلماء في بعض المسائل المتعلقة بقضاء الحاجة، ودخول الخلاء والخروج منه، ومن هذه المسائل: حكم البول قائماً، وكذلك استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة في الفضاء والبنيان، ومعرفة أدلة المختلفين في هذه المسائل وجمعها من أسباب معرفة الصواب فيها.(73/1)
حكم البول قائماً
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمن آداب التخلي ألا يبول الإنسان قائماً، بل يبول قاعداً؛ لئلا يترشش البول عليه، وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من الجفاء أن تبول وأنت قائم.
وكان سعد بن إبراهيم لا يجيز شهادة من بال قائماً.
وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) قال الإمام الترمذي رحمه الله: وهذا أصح شيء في الباب.
وقد رويت الرخصة في البول قائماً عن عمر وعلي وابن عمر وزيد بن ثابت وسهل بن سعد وأنس وأبي هريرة وعروة رضي الله عنهم أجمعين.
ودليلهم هو ما رواه حذيفة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) والسباطة هي المكان الذي تلقى فيه الفضلات من التراب والكناسة.
فهذا هو الحديث الذي يستدل به من رخص في البول قائماً؛ فلذلك نحن قلنا: يستحب أن يبول الإنسان قاعداً، ومعنى ذلك أنه لا يأثم من بال قائماً، وسبب قول ابن مسعود: هذا من الجفاء، أنه لم يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم بال قائماً، وكذلك قول عائشة رضي الله عنها: (من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) لا شك أنها أخبرت عن علمها، لكن من علم حجة على من لا يعلم، فقد صح عن بعض الصحابة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يبول قائماً مرة أو مرتين، وهذا لا ينافي حديث عائشة، فهي أخبرت عما تعلمه.
ونقول: كان غالب حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم البول قاعداً، أما ما ثبت من تبوله عليه الصلاة والسلام قائماً فيأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى.
فأول دليل على الرخصة في جواز البول قائماً حديث حذيفة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) رواه البخاري وغيره، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ليبين الجواز، ولم يفعله إلا مرة واحدة، وبعض العلماء قال: إن ذلك كان لعلة بمأبضيه، وبعضهم قال: لأنه لم يكن هناك مكان يتمكن من الجلوس فيه.
وقد تأتي أغلب الأدلة في مسألة من المسائل بالمنع، ثم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فعل هذا الشيء الذي نهانا عنه، فيحمل العلماء هذا على أنه فعله ليبين الجواز، وليبين أن النهي ليس للتحريم، وإنما هو نهي كراهة تنزيهية مثل الشرب قائماً، وكذلك الشرب من فم القربة أي: السقاء، يقول بعض العلماء: وقد يفعل للمكروه مبيناً أنه للتنزيه فيكون في حقه من القرب كالشرب من فم القرب ومعنى البيتين: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد يفعل الشيء المكروه مبيناً أنه للتنزيه؛ لأن المكروه قد يطلق على الحرام، كما قال عز وجل بعدما ذكر قتل النفس والزنا وأكل مال اليتيم: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38] فهناك كراهة تحريم وكراهة تنزيه، فإذا نهى عليه الصلاة والسلام أمته عن فعل معين ثم فعله فهو يريد بذلك التوسعة عليهم، وليبين أن هذا النهي ليس للتحريم وإنما هو للتنزيه.
فقد يسأل سائل ويقول: إن الله عز وجل لا يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا ما هو أفضل، فإذا كان النهي عن هذا الشيء أفضل فكيف يفعل النبي عليه الصلاة والسلام المفضول الذي نهى عنه؟ ف
الجواب
أن هذا يكون في حقه عليه الصلاة والسلام قربة فاضلة وليست مفضولة؛ لأنها في مقام التشريع والتوسيع على أمته ورفع الحرج عنها، فكما نهى عن الشرب من في السقاء وفعل ذلك مرة؛ ليدل على أن الكراهة تنزيهية، وكذلك كان أغلب أحواله عليه الصلاة والسلام أنه لا يبول قائماً، وفعل ذلك مرة؛ حتى يرفع الحرج عن الأمة، ويبين أن البول حال الجلوس هو على الاستحباب وليس على الوجوب.
يقول ابن قدامة: ولعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لتبيين الجواز، ولم يفعله إلا مرة واحدة، ويحتمل أنه كان في موضع لا يتمكن من الجلوس فيه، وقيل: فعل ذلك لعلة كانت بمأبضيه، والمأبض: هو باطن الركبة من كل حيوان.
ويقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في المجموع: روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (ما بلت قائماً منذ أسلمت) رواه الترمذي في كتابه تعليقاً لا مسنداً.
وروى ابن ماجة والبيهقي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (أتى رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائماً فقال: يا عمر! لا تبل قائماً، فما بلت بعد قائماً) لكن إسناده ضعيف.
وروي عن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائماً) رواه ابن ماجة والبيهقي وضعفه البيهقي وغيره.
وهذه أحاديث ضعيفة يغني عنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وغيرهم، يقول النووي: وإسناده جيد وهو حديث حسن.
وأما الحديث الآخر: (أن النبي صلى الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) فهذا حديث صحيح رواه البخاري ومسلم من رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
قوله: (لعلة بمأبضيه) هذه الزيادة رواها البيهقي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، لكن قال البيهقي: لا تثبت هذه الزيادة.(73/2)
البول حال القيام بين الكراهة والإباحة
قال النووي رحمه الله: أما حكم المسألة فقال أصحابنا: يكره البول قائماً بلا عذر كراهة تنزيه، ولا يكره للعذر، يقول: وهذا مذهبنا.
وقال الإمام ابن المنذر رحمه الله: واختلفوا في البول قائماً، فثبت عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وابن عمر وسهل بن سعد رضي الله عنهم أنهم بالوا قياماً، وروي ذلك عن علي وأنس وأبي هريرة وفعله ابن سيرين وعروة، وكرهه ابن مسعود، وصح عنه موقوفاً أنه قال: (من الجفاء أن يبول الرجل قائماً) رواه البيهقي.
كذلك كرهه الشعبي وإبراهيم بن سعد، وكان لا يقبل شهادة من بال قائماً.
وقال مالك إن كان في مكان يتطاير إليه من البول شيء فمكروه، وإن كان لا يتطاير فلا كراهة.
قال ابن المنذر: البول جالساً أحب إلي وقائماً مباح، وكل ذلك ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(73/3)
جواب استشكال كونه عليه الصلاة والسلام بال في سباطة قوم خاصة بهم
قد يستشكل هنا كيف بال النبي صلى الله عليه وسلم في سباطة قوم وهي مكان خاص بهم؟! أجاب العلماء عن هذا الاستشكال بعدة إجابات أظهرها: أنه علم أن أهلها يرضون بذلك ولا يكرهونه، ومن كان هذا حاله جاز البول في أرضه.
الجواب الثاني: أن سباطة القوم لم تكن خاصة بهم فقط، بل كانت بفناء دور الناس كلهم، فأضيفت إليهم لقربهم منها.
الجواب الثالث: أنهم أذنوا لمن أراد قضاء الحاجة فيها بصريح الإذن أو معناه والله تعالى أعلم.(73/4)
سبب بوله صلى الله عليه وسلم قائماً
ذكر الخطابي والبيهقي في سبب بوله صلى الله عليه وآله وسلم قائماً أوجهاً: الوجه الأول -وهو المروي عن الإمام الشافعي رحمه الله-: أن العرب كانت تستشفي بالبول قائماً لوجع الصلب، فكان به صلى الله عليه وسلم إذ ذاك وجع الصلب.
قال القاضي حسين في تعليقته: وصار هذا عادة لأهل هراة، يبولون قياماً في كل سنة مرة إحياءً لتلك السنة.
وهذا كلام لا ينسب إلى الشريعة، وإنما ينسب إلى تصور أهل الدنيا في علوم الدنيا من الناحية الطبية، وربما يكون فيها شيء من الصحة، فهذا يرجع إلى العلوم التي كانت قاصرة فيما مضى، أو ربما كانت أساساً تقوم على التجريب، ولأجل ذلك نحن قد لا نقبل هذا التأويل في هذا الزمان.
الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم بال قائماً لعلة كانت بمأبضيه، وذكرنا أن هذه الزيادة رواها البيهقي، ولكنه ضعفها وقال: لا تثبت هذه الزيادة.
والمأبض يجوز فيه تخفيف الهمزة فتقول: مابض أو مأبض كما تقول: الراس أو الرأس، لما مات العباس رضي الله عنه استحيا الناس أن يعزوا ابنه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فتشجع رجل وأقبل عليه وقال: اصبر نكن بك صابرين وإنما صبر الرعية عند صبر الراس خير من العباس صبرك بعده والله خير منك للعباس والشاهد أنه قال: (الراس)، فهذه الكلمة يصح فيها تخفيف الهمزة.
الوجه الثالث: أنه لم يجد مكاناً يصلح للقعود، فاحتاج إلى القيام إذا كان الطرف الذي يليه عالياً مرتفعاً.
الوجه الرابع: أنه لبيان الجواز كما ذكرنا.
الوجه الخامس ما قاله الخطابي: لكون ذلك -أي: البول حال القيام في السباطة- في الغالب سهلاً ليناً ليس صلباً بحيث يتردد إليه الرشاش، وإنما يتسرب فيه البول ولا يرجع على البائل.(73/5)
حكم استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة
يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: لا يجوز استقبال القبلة في الفضاء لقضاء الحاجة -الفضاء أي: الصحراء أو الخلاء- وهذا في قول أكثر أهل العلم، وهو مذهب الشافعي وقول العباس بن عبد المطلب وعبد الله بن عمر والشعبي ومالك وإسحاق ورواية عن الإمام أحمد.
واستدلوا بما رواه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، ولكن شرقوا أو غربوا، قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل) متفق عليه.
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أتى أحدكم الغائط) الظاهر هنا أن الغائط المقصود به هنا الموضع الذي يتغوط فيه، قال أهل اللغة: أصل الغائط المكان المطمئن، كانوا يأتونه للحاجة، فكنوا به عن نفس الحدث كراهة لاسمه.
ومن عادة العرب التعفف في ألفاظها، واستعمال الكنايات في كلامها، وصون الألسن مما تصان الأبصار والأسماع عنه، وهذا في القرآن وغيره كثير جداً.
ولـ مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس أحدكم لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها).(73/6)
حكم استقبال بيت المقدس حال قضاء الحاجة في الفضاء والبنيان
قال العلماء: لا يحرم استقبال بيت المقدس ببول ولا غائط ولا استدباره لا في البناء ولا في الصحراء، لكن يكره؛ لكونه كان قبلة، واستدل بعض العلماء بحديث معقل بن أبي معقل الأسدي رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستقبل القبلتين ببول أو غائط) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة، وقال النووي: إسناده جيد ولم يضعفه أبو داود.
وهناك عدة أجوبة عن هذا: الأول: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استقبال بيت المقدس حيث كان قبلة، يعني: كأن النهي حصل مرتين، لما كانت القبلة أولاً إلى بيت المقدس نهى عليه الصلاة والسلام في ذلك الزمان عن استقبال القبلة التي كانت في بيت المقدس، ثم نهى عن استقبال الكعبة حين صارت هي القبلة، فجمعهما الراوي في حديث واحد فقال: (نهى أن يستقبل القبلتين ببول أو غائط)، وهذا جواب ضعيف.
الجواب الثاني: أن المراد بالنهي أهل المدينة خاصة؛ لأن من استقبل بيت المقدس وهو في المدينة استدبر الكعبة، وإن استدبر بيت المقدس استقبل الكعبة، وهذا التأويل ضعيف أيضاً.
أما المختار الظاهر عند الإمام النووي رحمه الله، فقد قال: إن النهي وقع في وقت واحد، وأنه عام لكلتيهما في كل مكان، ولكنه في الكعبة نهي تحريم إذا كان في الفضاء، وفي بيت المقدس نهي تنزيه، ولا يمتنع أن يجتمع نهي واحد يكون فيه تحريم وتنزيه وإن اختلف معناه، وسبب النهي عن بيت المقدس كونه كان قبلة فبقيت له حرمة الكعبة، وقد اختار الخطابي هذا التأويل.
فإن قيل: لم حملتموه في بيت المقدس على التنزيه؟ قلنا: للإجماع فلا يعلم من يعتد به حرمه، فالصارف للنهي عن التحريم إلى التنزيه هو الإجماع.(73/7)
حكم استقبال القبلة حال الاستنجاء والجماع
قال بعض العلماء: لحرمة الكعبة يكره استقبال القبلة حال الاستنجاء، قال الشافعية: لا يكره ذلك، بل يجوز استقبال القبلة حال الاستنجاء؛ لأن النهي ورد في استقبالها ببول أو غائط.
وقال الشافعية أيضاً: ولا كراهة في إخراج الريح إلى القبلة أيضاً لما ذكرنا.
وقال الشافعية أيضاً: يجوز الجماع مستقبل القبلة ومستدبرها في البناء والصحراء؛ لأن الشرع ورد في البول والغائط.(73/8)
مذهب أبي أيوب في استقبال القبلة عند قضاء الحاجة في البنيان
قال أبي أيوب رضي الله تبارك وتعالى عنه في الحديث الذي ذكرناه: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل).
أجاب بعض العلماء على ذلك من وجهين: أحدهما: أنه شك في عموم النهي للبنيان والفضاء، فلما شك احتاط بالاستغفار، فلا يحمل ذلك على أنه جزم بتحريم هذا حتى داخل البنيان، وإنما هو كنوع من الاحتياط والتورع منه رضي الله عنه.
الوجه الثاني: أن هذا مذهب أبي أيوب رضي الله عنه، فهو لم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحاً، وقد خالفه غيره من الصحابة.
إذاً: أحاديث النهي جاءت عامة بدون التفريق بين البناء والصحراء، كما في حديث أبي أيوب رضي الله عنه، لكن الشرع قد جاء بالتفريق بين كونه في البينان أو كان يستره شيء كما جاء عن ابن عمر وبين كونه في الفضاء، فإذا ورد الشرع بالفرق فلا يلتفت إلى قياس ولا إلى من يخالف هذه الأدلة، ومع ذلك فالفرق ظاهر بين الحالتين، فإن المشقة تلحق الإنسان في البناء دون الصحراء.(73/9)
من قال بجواز استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة
قال عروة بن ربيعة وربيعة وداود: يجوز استقبالها واستدبارها في البناء والصحراء؛ لما روى جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وحسنه النووي رحمه الله.
قال هؤلاء الأئمة الثلاثة: إن هذا دليل على وقوع النسخ؛ لأن الصحابي رآه يفعل ذلك قبل أن يقبض بعام، فدل على نسخ وإلغاء الحكم السابق الذي تضمنه حديث أبي أيوب رضي الله تعالى عنه.(73/10)
رد الجمهور على من جوز استقبال القبلة عند قضاء الحاجة في الفضاء
يقول الإمام ابن قدامة: ولنا أحاديث النهي وهي صحيحة.
يعني: على صحة مذهبنا الذي عليه جمهور علماء الأمة.
قال: وحديث جابر يحتمل أنه رآه في البنيان أو مستتراً بشيء.
وسيأتي حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النهي إنما هو في الفضاء، أما إذا كان في البنيان فيجوز.
ثم قال: ولا يثبت النسخ بالاحتمال.
أي: احتمال أنه كان مستتراً بشيء أو كان في البنيان.
قال: ويتعين حمله على ما ذكرنا؛ ليكون موافقاً للأحاديث الصحيحة في النهي عن ذلك.(73/11)
أقوال العلماء في استقبال القبلة واستدبارها في البنيان
قال ابن قدامة: أما في البنيان أو إذا كان بينه وبين القبلة شيء يستره ففيه روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما: لا يجوز حتى في البنيان.
يعني: لا يستدبر ولا يستقبل القبلة عند قضاء الحاجة، سواء في الفضاء أو البنيان، وهذه الرواية للإمام أحمد، وهو قول الثوري وأبي حنيفة؛ لعموم الأحاديث في النهي؛ لأن أحاديث النهي لم تخصص البنيان من الفضاء.
أما الرواية الثانية: فهي أنه يجوز استقبالها واستدبارها في البنيان، وروي ذلك عن العباس وابن عمر رضي الله عنهم وبه قال مالك والشافعي وابن المنذر.
يقول ابن قدامة: والصحيح أنه يجوز استقبالها واستدبارها في البنيان؛ لحديث جابر رضي الله عنه.
وقد روت عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له أن قوماً يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوقد فعلوها؟! استقبلوا بمقعدتي القبلة) رواه الإمام أحمد وابن ماجة وحسنه النووي، لكن أشار البخاري رحمه الله تعالى في تاريخه في ترجمة خالد بن أبي الصلت إلى أن في هذا الحديث علة.
يقول ابن قدامة: رواه أصحاب السنن وأكثر أصحاب المسانيد منهم: أبو داود الطيالسي رواه عن خالد بن أبي الصلت عن عراك بن مالك عن عائشة، قال أحمد: أحسن ما روي في الرخصة حديث عائشة وإن كان مرسلاً فإن مخرجه حسن.
وقال أحمد: وعراك لم يسمع من عائشة فلذلك سموه مرسلاً.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (أوقد فعلوها؟) استفهام لأن هذا النوع من الاستفهام يقتضي الإقرار به فضيحة، كما يقتضي الاستفهام الإخبار عن المستفهم عنه.
قوله: (استقبلوا بمقعدتي القبلة) المقعدة: بفتح الميم هي الموضع الذي يقعد عليه الإنسان لقضاء الحاجة، يعني: حولوا هذا الموضع إلى اتجاه القبلة، والحديث فيه علتان.
يقول ابن قدامة: وهذا كله في البنيان، وهو خاص يقدم على العام.
والعام هو حديث أبي أيوب: (إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره)، والخاص هو حديث عائشة إذا صح، فهو يدل على أن ذلك إنما يكون في البنيان، فالخاص يقدم على العام.
وعن مروان الأصفر قال: (رأيت ابن عمر رضي الله عنهما أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! أليس قد نهي عن هذا؟ قال:، بلى، إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس) رواه أبو داود والدارقطني والحاكم وصححه على شرط البخاري.
يقول ابن قدامة: وهذا الفعل من ابن عمر تفسير لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم العام في حديث أبي أيوب: (إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، ولكن شرقوا أو غربوا) ففعله يفسر أن ذلك إنما يكون في البنيان، فإن كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس.
يقول: وفيه جمع بين الأحاديث فيتعين المصير إليه.
لأن النسخ لا يصار إليه إلا عند العجز عن الجمع بين النصوص، ولأن النسخ فيه إبطال لأحد الدليلين في المسألة، وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، فهذا هو الذي ينبغي أن يسلك عند التعارض، فالجمع متى ما أمكن أولى.
وعن الإمام أحمد أنه قال: يجوز استدبار الكعبة في البنيان والفضاء جميعاً؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رقيت يوماً على بيت حفصة رضي الله عنها فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة) متفق عليه.
لذلك صدر المسألة ابن قدامة بالقدر المتفق عليه بين أكثر أهل العلم فقال: لا يجوز استقبال القبلة في الفضاء لقضاء الحاجة في قول أكثر أهل العلم، ثم تعرض بعد ذلك للاستدبار على التفصيل الذي ذكرناه.(73/12)
حكم تمشيط الشعر والبول في مكان الاغتسال والاستحمام
جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يمتشط أحدنا أو يبول في مغسله) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي وصححه النووي والحافظ ابن حجر وأيضاً الألباني.
وقد رواه بعض التابعين عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وجهالة الصحابي لا تضر؛ لأن كل الصحابة عدول رضي الله عنهم، وأقمع الله الشيعة وأذلهم حيث يترجمون لبعض الصحابة المشهورين جداً مثل عبد الله بن مسعود فيكتبون: مجهول! ولا حول ولا قوة إلا بالله! وهذا غير السب لهم والطعن واللعن.
إذاً: جهالة الصحابي لا تضر؛ لأن جميع الصحابة عدول، وقد زكاهم الله وعدلهم رضي الله عنهم، حتى في الأمم السابقة قبل أن يخلقوا وقبل أن يوجدوا، قال الله: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح:29].
قوله: (إن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى أن يمتشط أحدنا كل يوم) أي: لا يكون ذلك شغلنا الشاغل بحيث يمتشط أحدنا ويدهن ويسرح شعره ويضيع ما أوجب الله عليه، وهناك أحاديث أخرى في هذا المعنى، منها أنه عليه الصلاة والسلام: (نهى عن الإرفاه، قيل: وما الإرفاه؟ قال: كثرة التدهن والتنعم) وكذلك: (نهى عن الترجل إلا غباً) والترجل: هو تسريح الشعر.
قوله: (إلا غباً) يعني: في وقت دون وقت بحيث لا يواظب عليه ويكون شغله الشاغل.
قوله: (أو يبول في مغتسله) يعني: مكان الاغتسال، أو كما سماه في الحديث الأول: (مستحمه) وسمي مستحماً؛ لأنه مشتق من الحميم، والحميم: هو الماء الحار الذي يغتسل به.
يقول النووي: واتفق أصحابنا على أن المستحب ألا يستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة؛ لئلا يترشش عليه.
وهذا في غير الأماكن المتخذة لهذا الفعل كالمرحاض فلا بأس به؛ لأنه لا يترشش عليه، ولأن في الخروج منه إلى غيره مشقة.(73/13)
حكم تغطية الرأس ولبس الحذاء حال قضاء الحاجة
يقول الإمام النووي والإمام ابن قدامة: ويستحب أن يغطي رأسه حال قضاء الحاجة.
تغطية الرأس هي نوع من التعبير عن الحياء، فلقد كان السلف يستحيون أن يكشف أحدهم رأسه، وهذه المسألة ترجع إلى العرف، ففي بعض البلاد قد يقدح في مروءة الشخص إذا كان يكشف رأسه، وفي بعضها لا يقدح أن يكشف رأسه، فهذه الأمور ترجع إلى العرف، وأمور المروءة ليس فيها تحريم أو إثم، لكن يقولون في تعريف الرجل العدل: هو الذي لم يرتكب كبيرة، ولا يصر على صغيرة، ولا يأتي بفعل يخالف المروءة.
فالإنسان لابد أن يجتهد في مراعاة المروءات وأعراف الناس الذين يعيش بينهم؛ لأنه ليس كل شيء لابد أن يكون مثل حد السيف وفيه حلال وحرام ويكون عليه أدلة، لا.
فمثلاً: عندما نرى شخصاً يمضغ العلك في الشارع، نقول له: هذه الطريقة منفرة، فعلى الإنسان أن يراعي وقاره وهيئته ووجاهته، كذلك لو أن الإنسان مشى بإزار يستر ما بين سرته وركبته ففعله هذا ليس بحرام، لكن هل هذا من المروءة؟! لا ليس من المروءة.
فالشاهد أن على الإنسان أن يراعي ظروف المجتمع وعاداته ما لم تخالف كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
حكي عن نافع أنه صلى وهو حاسر الرأس، فقال له ابن عمر: هل إذا خرجت إلى الناس كنت تخرج هكذا حاسر الرأس؟ فقال: لا، قال: فالله أحق أن يتزين له، أو فالله أحق أن يستحيا منه.
جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال للصحابي الجليل معاوية بن حيدة (احفظ عورتك إلا من أهلك أو ما ملكت يمينك) وحفظ الفروج يتضمن أمرين: حفظها عن المحرمات كالزنا وغير ذلك، وحفظها عن أن تكشف، فقال هذا الصحابي للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! أرأيت إن كان أحدنا خالياً؟ - يعني: ليس معه أحد- فقال عليه الصلاة والسلام: فالله أحق أن يستحيا منه الناس) فحتى في حال الاختلاء يجتهد الإنسان ألا يتكشف.
يقول الإمام النووي رحمه الله: قال إمام الحرمين والغزالي والبغوي وآخرون: يستحب ألا يدخل الخلاء مكشوف الرأس، قال بعض أصحابنا: فإن لم يجد شيئاً وضع كمه على رأسه.
ثم قال: ويستحب ألا يدخل الخلاء حافياً.
روى البيهقي بإسناده حديثاً مرسلاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء لبس حذاءه وغطى رأسه) وهذا حديث مرسل ضعيف.
وروى البيهقي أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء غطى رأسه، وإذا أتى أهله غطى رأسه) لكنه ضعيف أيضاً.
قال البيهقي: وروي في تغطية الرأس عند دخول الخلاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو صحيح عنه.
يقول النووي: وقد اتفق العلماء على أن الحديث المرسل والضعيف والموقوف يتسامح به في فضائل الأعمال وهذا منها، وكلام الإمام النووي رحمه الله في حكاية اتفاق العلماء على هذا فيه نظر.(73/14)
حكم دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله
من الآداب ألا يصطحب شيئاً فيه ذكر الله عز وجل.
يقول ابن قدامة: إذا أراد دخول الخلاء ومعه شيء فيه ذكر الله تعالى استحب وضعه، لكن لا يجب عليه أن يضع هذا الشيء الذي فيه ذكر لله.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه) رواه ابن ماجة وأبو داود والبيهقي والترمذي والنسائي، وضعفه أبو داود والنسائي والبيهقي، قال أبو داود: هو منكر، وإنما يعرف عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ورق - أي: من فضة- ثم ألقاه) وقال النسائي: وهذا الحديث غير محفوظ، وخالفهم الترمذي فقال: حديث حسن صحيح غريب.
وقيل: إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضعه؛ لأن فيه محمداً رسول الله، ثلاثة أسطر: سطر فيه محمد، وسطر فيه رسول، وسطر فيه الله، وهذا ثابت في الصحيحين: (أن نقش خاتمه صلى الله عليه وسلم (كان محمد رسول الله)) عليه الصلاة والسلام.(73/15)
الغلو في الدين [1]
الغلو في الدين قضية قديمة قِدَمَ الأديان على هذه الأرض، فقد ابتلي به أناس على مدار التاريخ البشري، وقد كان ذلك إما بدافع الحرص على تحقيق العبودية الخالصة لله سبحانه، فأدى بهم حرصهم هذا إلى الخروج عن الطريق السوي الذي ارتضاه الله لعباده، وإما بسبب الاتباع والتقليد الأعمى للرؤساء الضالين عن الطريق السوي.(74/1)
استعراض مجمل لكتاب الغلو في الدين للشيخ اللويحق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فسنقوم بتلخيص البحث القيم الذي كتبه الشيخ عبد الرحمن بن معلا اللويحق وهو بعنوان: (الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة).
وكالعادة فنحن نختار أحياناً بعض الكتب والبحوث القيمة التي لا تتوافر مع الإخوة، فنحاول نشر ما فيها من الفوائد بإذن الله، فهذا البحث في الحقيقة موضوعه يكاد يكون هو موضوع الساعة، ونحتاج لوقفة حتى نستخلص حقائق الغلو في الدين وتحديد الكلام في هذا الأمر.
فيذكر المؤلف هنا في مقدمة الكتاب أنه قبل هذا العصر الذي نعيشه كان البحث في الغلو ينصب على غلو الصوفية كعبدة القبور، وعقائد الشيعة مثلاً، ونحو هؤلاء من الغلاة، ولكنه في العصر الحديث توجه وجهة أخرى.
أي أن الغلو فيما مضى كان يختص بأهل الأهواء وأهل البدع الذين غالوا وتطرفوا في تناولهم لبعض قضايا الدين، مثل القضايا العلمية أو القضايا السلوكية، أما في العصر الحديث فقد توجه البحث في الغلو وجهة أخرى، حيث وقعت بعض المذاهب التي تنتمي إلى الدعوة الإسلامية في الغلو وغير ذلك من الأوصاف المنفرة كالتعصب والتطرف والتشدد وغير ذلك، مما جعل أعداء الإسلام اليوم يستغلون هذه الانحرافات من أجل محاربة الإسلام نفسه، تحت شعار محاربة التطرف والغلو وغير ذلك.(74/2)
حقيقة الأطراف المتعلقة بالغلو
تجاذب هذا الموضوع أطراف متعددة، منهم الجفاة الذين يتهمون أهل التمسك بالدين بالغلو.
ومنهم الأعداء الذين يتخذون مهاجمة الغلو ذريعة لمهاجمة الإسلام.
ومنهم الغلاة أنفسهم الواقعون في الغلو حقيقة، ومع ذلك ينفون هذا الغلو عن ذاتهم ويتهمون غيرهم بالمروق من الدين.
إن أبرز ملامح هذا العصر ما يسمى بثورة المعلومات ووسائل الاتصالات، وهذه الوسائل أدت بدورها إلى نشر هذا الموضوع بكثافة شديدة جداً بين العامة والخاصة، وأضحى هذا الموضوع حديثاً للدهماء والعلماء دون أن يحكم بشيء من الضوابط والمعايير، فمن هنا تكمن أهمية تناول هذا الموضوع بإنصاف وتجرد.(74/3)
أهمية موضوع الغلو وتعلقه بمستقبل الدعوة الإسلامية وضوابطه
يقول المؤلف حفظه الله: إن لهذا الموضوع أهمية بالغة في ذاته وفي زمنه، وفيما يتعلق بمستقبل الدعوة الإسلامية، فمن حيث الموضوع ذاته فهو يتعلق بعقيدة المسلمين وتنقيتها من شوائب الغلو من جانب، ويتعلق بالدعوة الإسلامية والدعاة من جانب آخر.
أما من حيث زمن الموضوع فإن البحث كتب في الظروف الآتية: أولاً: بروز بعض أعمال الغلو وآراء الغلو من بعض المنتمين إلى التيارات الإسلامية، ولا شك في أن مثل هذه الانحرافات تحتاج إلى نقدها وكشفها نصحاً للمسلمين.
ثانياً: غياب معنى الغلو في الشريعة عن أذهان معظم الناس، فهم لا يعرفون ما معنى الغلو في شريعة الإسلام، وسحبوا على الإسلام مفهوم الغلو الموجود عند النصارى، فالنصارى يعبرون عن الغلاة بلفظة الأصوليين، هؤلاء هم الغلاة عند النصارى، فسحبوا نفس هذا اللفظ على الإسلام، مع وجود البون الشاسع بيننا معشر المسلمين وبين حقيقة هذا الإطلاق الخبيث كما سنبين إن شاء الله تعالى بالتفصيل.
إذاً: فغياب معنى الغلو عن معظم أذهان الناس جعلهم يأخذون مفهوم الغلو عند النصارى الذي يعبرون عنه بالأصولية أو يعبرون عنه بالتطرف، مما يؤكد الحاجة إلى بيان المعنى الصحيح حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها.
ثالثاً: اتخاذ محاربة الغلو ذريعة لمحاربة الإسلام، مما يستلزم رفع الستار عن أخطر ميادين الصراع بين الإسلام وبين الكفر، فلو أنهم ظهروا بأنهم يريدون تحطيم الإسلام وحرب الإسلام والتنفير من الإسلام ذاته لواجهوا مقاومة شديدة من المسلمين، لكن استغلوا بعض الغلو من بعض الناس فاتخذوه ستاراً كي يغطوا الزحف الذي يحاولون من ورائه القضاء على دين الله تبارك وتعالى.
أما من حيث مستقبل الدعوة فإن لهذا الموضوع أهمية عظيمة جداً؛ لأن التجرد من الغلو وكشف استغلال الأعداء لكلمة الغلو لاشك في أن له أثراً عظيماً جداً في تصحيح مسار الدعوة الإسلامية.
فبحث هذا الموضوع -موضوع الغلو- يمكن أن يساعد على ذلك، وذلك من عدة نواح: أولاً: بالتأصيل، وذلك بوضع القواعد التي تحكم المواضع التي يحصل فيها الخلط بين التمسك بالدين وبين الغلو.
ثانياًًً: بالتحصين، فإن الغلو -في الحقيقة- ليس مشكلة آنية وقتية فقط، لكنه مشكلة قد تتكرر في كل وقت وفي كل زمان، فالحادث يمكن أن يزول، لكن قد يطرأ مرة أخرى إذا وجدت عوامله، فلابد من بيان جذور الغلو التاريخية وأصل النشأة؛ حتى تقطع المشكلة ويحصن الدعاة بضدها فلا يتكرر نموها مرة أخرى.
ثالثاً: من أجل حماية الدعوة الإسلامية؛ لأن وجود الغلو سبب عرقلة الدعوة الإسلامية، ولقد أوجد الغلو المسوغات لضربها، فلابد من إبعاد هذه العوائق عن طريق الدعوة الإسلامية وحمايتها من كل ما يتسبب في عرقلتها والوقوف في طريقها.(74/4)
بيان مجمل لما يتضمنه كتاب الغلو في الدين
ذكر المؤلف أهمية الموضوع وذكر الموضوعات الأساسية التي سيتناولها بالبحث والتمحيص والتحقيق، فذكر في الفصل الأول تحديد مصطلحات البحث، وبيان وسطية الإسلام، ويسر الإسلام وسماحته، ومعنى الغلو في اللغة ومعنى الغلو في الشريعة.
وفي الفصل الثاني تكلم عن جذور الغلو في الدين، وطبيعته في حياة المسلمين المعاصرة في مبحثين: أولاً: جذور الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، وذكر فيه ثلاثة مطالب: الأول: الجذور التاريخية للغلو.
الثاني: الجذور الفكرية، الثالث: الجذور النفسية.
ثانياً: طبيعة الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، وحجم الغلو في الدين أيضاً، ومفهوم الغلو في الدين عند العلماء المعاصرين؛ لأن بعض العلماء لهم في بعض المواضع وجهة نظر في استعمال كلمة الغلو، كما سنبين إن شاء الله تعالى.
كما ذكر مفهوم الغلو في الدين عند العلماء اليوم، وفي الفصل السابق ذكر معنى الغلو في اللغة، ثم معنى الغلو في الشرع، وهنا ذكر تعريف العلماء المعاصرين للغلو.
ثم ذكر -أيضاً- مفهوم الغلو في الدين عند العالم اليوم؛ لأن التمسك بالدين في عصرنا صار غلواً وما عليه المجتمعات من الانحرافات هو الوسط، فأي انحراف عن هذا الواقع الذي تعيشه هذه المجتمعات يسمى تطرفاً وغلواً، ومن ثم ذكر مفهوم الغلو عند الغربيين.
أما الفصل الثالث -وهو من أهم الفصول في الحقيقة- فتكلم فيه عن مظاهر الغلو العقدية والتشريعية.
فذكر -أولاً- الغلو في قضية الولاء والبراء، باعتبارها قضية من أهم قضايا أصول الدين بعد التوحيد، فذكر أن هذه القضية طرأ فيها نوع من الغلو عند كثير من الناس.
ثم ذكر الغلو في مفهوم الجماعة؛ لأن بعض الجماعات غلت وشوهت بجمال الإسلام، وقسمت الإسلام إلى أحزاب وشيع متناحرة بسبب تحزبها وتعصبها لمفهوم الجماعة، وذكر أمثلة من نقول بعض المنتمين لهذه الجماعات تعكس مدى الغلو الشديد في هذا المفهوم.
ثم تكلم عن الغلو في التعصب للجماعة، بجعل الجماعة مصدر الحق، والغلو في القائد، والغلو في البراءة من المجتمعات المسلمة.
ثم ذكر في المبحث الثاني الغلو في التكفير، وذكر فيه أحد عشر مطلباً، أولها: معنى الغلو وخطورة التكفير، ثم التكفير بالمعصية، ثم تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله بإطلاق بدون تفصيل، ثم تكفير الأتباع المحكومين بغير ما أنزل الله بإطلاق، ثم تكفير الخارج عن الجماعة، ثم تكفير المقيم غير المهاجر، ثم تكفير المعين دون مراعاة الضوابط الشرعية، ثم تكفير من لم يكفر الكافر بزعمهم، ثم بدعة التوقف والتبين، ثم القول بجاهلية المجتمعات المسلمة المعاصرة، ثم الغلو فيما يتعلق بالحكم على ديار المسلمين اليوم وبأنها ديار كفر وحرب أو ديار إسلام، وما يترتب على ذلك من تداعيات في منتهى الخطورة.
وأما المبحث الثالث فهو يتكلم عن إحداث أصول تشريعية جديدة؛ لأن بعض أهل البدع وأهل الغلو أحدثوا واخترعوا أصولاً جديدة في الشريعة، فذكر -أولاً- الغلو في ذم التقليد، وفيه ثلاثة مطالب: الأول: الغلو في مفهوم التقليد وإنكار الإجماع، الثاني: الغلو في ذم المقلدين، الثالث: إلزام جميع الناس بالاجتهاد والتشديد على الناس.
أما الفصل الرابع فيقول: خصصته لبيان مظاهر الغلو العملية، ووسمته بمجالات الغلو العملية والسلوكية.
فالفصل الثالث كان في مجالات الغلو الاعتقادية، أما الرابع ففي القضايا عملية وسلوكية، وذكر فيه مباحث: المبحث الأول: الغلو في السلوك الفردي، وتكلم فيه عن أمرين: أولاً: التشديد على النفس.
ثانياً: تحريم الطيبات.
المبحث الثاني: الغلو في السلوك الاجتماعي، وذكر فيه قضية الخروج على الحكام والغلو فيها، وكذلك قضية تحريم التعليم والدعوة إلى الأمية والغلو فيها، وقضية تحريم الصلاة في المساجد بحجة أنها مساجد ضرار، وقضية إيقاف وتعطيل صلاة الجمعة بحجة أن البلاد بلاد كفر ولا يوجد إمام إلى غير ذلك من الكلام، وقضية اعتزال المجتمعات ومفاصلتها، وقضية هجرة المجتمعات ودعم القول بمرحلية الأحكام، وقضية القول بأننا نعيش في العهد المكي، وقضية تحريم العمل في الوظائف الحكومية ومظاهر الغلو في هذا الجانب.
لقد كان المؤلف -في الحقيقة- إلى حد كبير جداً موفقاً في هذا البحث، مع كثرة المصنفات في هذا الجانب، لكن الغالب على الناس خاصة في هذه الظروف التي نعيشها الآن أنهم يحرصون على أن يحصلوا على شهادة حسن سيرة وسلوك بالنفاق والمداهنة في مثل هذه القضايا الحساسة، لكن هنا قد وفق المؤلف في هذا البحث، ونحسبه -إن شاء الله- أنه كان متجرداً في عرضه للقضايا والبحث العلمي.(74/5)
معنى الوسطية في الإسلام ومظاهرها
نشرع في ذكر المقدمة التي تحدث فيها عن وسطية الإسلام؛ لأننا نريد أن نتكلم عن الغلو، أو بتعبير آخر: عن الإفراط والتفريط، أو بتعبير ثالث: عن التطرف، وهو الأخذ بالأطراف.
وحينئذٍ فلاشك في أننا نحتاج -أولاً- إلى أن نتحدث عن اتصاف الإسلام بالوسطية حتى نستحضر منذ البداية أن الوسط هو ما أنزله الله وهو الحق، وأن من حاد عنه صار متطرفاً.
إذاً: فبدلاً من أن نقول عن الذي يمتنع عن التطرف إنه (متطرف) سنقول: إن المتطرف هو الذي يصافح النساء، وبدلاً من أن نقول: إن المتطرفين هم الذين يحاولون تسييس الدين نقول: المتطرف والملحد والزنديق هو الذي يريد أن يفصل الدين عن الحياة ويدين بدين العلمانية.
وهكذا في كل قضية من القضايا سيخرج هؤلاء الذين تكالبوا على دين الإسلام عن وسطية الإسلام.(74/6)
حقيقة اتصاف الأمة المحمدية بالوسطية
إن وسطية الإسلام هي -في الحقيقة- من أبرز خصائص هذه الأمة المحمدية، فقد قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] فقوله: (أُمَّةً وَسَطًا) يعني: عدولاً.
لذلك نجد الإسلام في كل قضية من القضايا العلمية أو العملية يقدم المنهج الوسط والعدل والمعتدل في كل شئون الحياة، بل لا يكتفي الإسلام بهذا، وإنما مع أخذه بالوسطية يحذر تحذيراً شديداً جداً من الانحراف إلى أحد الاتجاهين: الغلو أو التقصير، أو الإفراط أو التفريط.
ونحن نكرر هذا الدعاء في اليوم والليلة على الأقل سبع عشرة مرة، وهو قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ولم يكتف سبحانه وتعالى بذلك، بل وصفه بقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] إذاً: الصراط المستقيم لا يمكن أن يكون مستقيماً إلا إذا خالف سلوك هذين الفريقين: أولهم: المغضوب عليهم وهم اليهود لعنهم الله.
ثانيهم: الضالون وهم النصارى؛ لأن اليهود عصوا الله عن علم فاستحقوا الغضب، والنصارى عبدوا الله عن جهل فاستحقوا الضلال.
فهذه الوسطية التي تميز الإسلام عما سواه من الأديان هي العدل، فإن معنى قوله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: عدولاً خياراً.
والدليل على أن سياق الآية يفيد هذا المعنى أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الوسطية علة لتكليف هذه الأمة بالشهادة على الأمم الأخرى؛ لأن الشاهد يشترط فيه العدالة، ولا تقوم الشهادة ولا تقبل إلا من عدل، وكذلك قوله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فلذلك قلنا: إن (وسطاً) تشمل -أيضاً- معنى الخيرية في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: عدولاً خياراً.
فبين وصف الأمة بالخيرية ووصفها بالوسطية تلازم؛ إذ إن الوسط في لغة العرب الخيار، كما سيأتي إن شاء الله، أما السنة فجاء الخبر فيها صريحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بتفسير الوسطية بالعدالة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب.
فتسأل أمته.
هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير.
فيقول: من شهودك -يا نوح- على أنك أبلغتهم؟ فيقول نوح: محمد وأمته عليه الصلاة والسلام) لأن هذه الأمة تؤمن بجميع الأنبياء، وتعظم جميع الأنبياء، وتنزه جميع الأنبياء عما لا يليق بهم، إلى غير ذلك من اعتقادها النقي في حق الأنبياء؛ لأن من أركان إيمان أمة محمد أنهم يؤمنون بنوح وغيره من الأنبياء عليهم السلام عن طريق القرآن والوحي الذي أخبر أن نوحاً أتى قومه وبلغهم وحصل معهم كذا وكذا وكذا، فلذلك هذه الأمة تشهد عن علم يقيني، وهو الوحي الذي أوحاه الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فلذلك لما ينكر قوم نوح ويقولون: ما جاءنا من نذير.
يظنون أن هذا الإنكار ينفعهم في هذا الموقف، قال صلى الله عليه وسلم: (فيقول: من شهودك؟ فيقول نوح -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-: محمد وأمته.
فيجاء بكم فتشهدون.
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] قال: عدلاً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]) هذا الحديث رواه البخاري وأحمد رحمهما الله تعالى.(74/7)
معنى الوسط في كلام العرب
يقول ابن جرير رحمه الله: وأما الوسط فإنه في كلام العرب الخيار، يقال: فلان وسط الحسب في قومه أي: متوسط الحسب.
إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه.
وورد عن أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه وصف المهاجرين في يوم سقيفة بني ساعدة بقوله: (هم أوسط العرب داراً) والمقصود به أنهم خير العرب.
ومن ذلك أيضاً قول زهير بن أبي سلمى: وهم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي العظائم فقوله: (وهم وسط) يعني: هم عدول.
ومن معاني الوسط الشيء الذي يكون بين طرفين، وليس هناك تعارض بين القول بأن الوسط هو العدل وبين القول بأن الوسط هو الجزء بين الطرفين؛ لأن الجزء بين الطرفين في موضع اعتدال من الجانبين، وهذا من حيث اللغة.
قال الطبري رحمه الله تعالى: وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلو بالترهب وقيلهم في عيسى ما قالوه فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله عز وجل أوسطها.
وكذلك العدل يأتي دوماً وسطاً بين طرفين ذميمين، قال حذيفة رضي الله تعالى عنه: (اتقوا الله يا معشر القراء خذوا طريق من كان قبلكم، والله إن سبقتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن تركتموه يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيدا) وهذا إشارة إلى نفس هذا المعنى.
وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كتاباً إلى عامل من عماله فقال بعد أن أوصاه بلزوم طريق من سلف: ما دونهم من مقصر، وما فوقهم من محسر، لقد قصر بينهم إخوان فجفوا، وطمع عنهم قوم آخرون فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد.
انتهى كلامه رحمه الله تعالى.(74/8)
حكم استبدال الألفاظ الشرعية بغيرها من ألفاظ البشر
يحاول بعض الناس الاعتياض عن هذه التعبيرات الشرعية العظيمة بكلام يسمونه الحكمة، كقولهم مثلاً في محاولة وضع حد لتعريف الوسطية: إن الفضيلة وسط بين رذيلتين.
والخطأ في هذه العبارة هو جعل هذه المقولة معياراً بشرياً للحكم على الرذائل والفضائل، وهذا ليس بصحيح؛ لأن تحديد الفضيلة والرذيلة ليس من شأن البشر، وإنما هو إلى الله سبحانه وتعالى، ولأن الذي جعلنا الأمة وسطاً هو الله سبحانه وتعالى، وذلك بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ} [البقرة:143] فإذاً: الميزان هو شرع الله تبارك وتعالى في تحديد الوسطية والفضيلة والرذيلة.
ولأن تحديد الوسط بالنسبة للعقل البشري شيء صعب جداً، فمن الصعب أن يتفق الناس على شيء وسط.
يقول أرسطو: إن إدراك الوسط في كل شيء أمر صعب جداً.
ويقول الغزالي: إن إدراك الوسط هو من أعقد الأمور وأعصاها، كذلك تحديد الوسط أمر نسبي يختلف باختلاف الأشخاص، ولذلك قال ابن سينا: ليس وسط الشيء عينه، بل الوسط بالنسبة إلينا.
إذاً: الوسطية ليست معياراً بشرياً، ولكنها ميزة تميز بها هذا الدين وتميزت بها شرائعه، فالدين وأهله براء من الانحراف، سواء الجانح إلى الغلو أو الجانح إلى التقصير.
إن مظاهر هذه الوسطية في الدين كثيرة جداً؛ إذ هي شاملة لجميع جوانب الحياة، فكل أمر من أوامر الإسلام جاء على وفق العدل.(74/9)
الوسطية ومواقف الناس فيما يتعلق بالسلوك المادي
نذكر هنا بعض الأمثلة لبيان أن مواقف الناس تتأرجح فيما يتعلق مثلاً بالسلوك المادي، فهناك موقفان متطرفان: الأول: زاغت طائفة فرأت أن المال هو الهدف الأسمى والغاية القصوى، كما هو معروف عن اليهود الذين وصفهم تبارك وتعالى بقوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] ومعروف حب اليهود للمال، وهو مما يتندر به الشعراء، حتى إن أحدهم يصف جمال امرأة بأنه ينسي اليهودي الذهب، وهذا يدل على إسراف اليهود في حب المال وعبادته.
الثاني: زاغت طائفة أخرى وهم النصارى، فحرموا على أنفسهم حقها من الحياة فابتدعوا الرهبانية، يقول عز وجل عنهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27].
وجاء الإسلام أمام هذين الانحرافين بالعدل، وأعطى كل ذي حق حقه، فقال عز وجل: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] وقال عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32].
ونهى عن الإفراط في حب المادة، فقال عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] ونهى -أيضاً- رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التشديد على النفس والترهب كما يفعل النصارى، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم؛ فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم).
فإذاً: كل ما يثبت عن الدين فلابد من أن نقطع بأنه هو العدل وهو الوسطية والخيرية، وأن نكل هذا الأمر إلى الدين وليس إلى العقول البشرية، فهو دين الوسطية والاعتدال، وهذه هي الميزة التي ميزت الإسلام عن سائر الأديان في كل القضايا بلا استثناء.(74/10)
اليسر والسماحة في الإسلام
إن من خصائص الإسلام أنه دين قد بني على اليسر وعلى السماحة، وهذه -أيضاً- مقدمة مهمة جداً قبل الخوض في مناقشة أطراف الغلو كما ذكرنا.
فيسر الإسلام وتيسيره من سماته التي تميز بها عما سواه من الأديان، فإن الله سبحانه وتعالى جعل من إحدى الحكم التي بعث من أجلها عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
يقول تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157].
كذلك جاءت الشريعة برفع الحرج والتضييق على الناس أو التعنت في تكليفهم، فليس الحرج معروفاً في الشريعة، بل نزه الله سبحانه وتعالى هذا الدين عنه بقوله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] يعني: في الدين الذي أنزله الله.
ولا يصح لبعض الناس أن يتهاونوا في أحكام الشريعة وأن يفرطوا بحجة أن لا حرج في الدين؛ لأنه الدين الذي لا حرج فيه هو الذي أنزله الله ليس الدين الذي تخترعه أنت لنفسك.
وبعضهم إذا أنكرت عليهم شيئاًَ خطئاً يقولون لك: الدين يسر.
فأي دين هذا هو اليسر؟! أهو الدين الذي أنزله الله والذي شرعه الله، أم الدين الذي اخترعتموه لأنفسكم من ترك للصلوات الخمس وغير ذلك؟! إن اليسر هو في الدين الذي أنزله الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعلم من خلق، ويعلم طاقة الناس، فهو سبحانه لم يكلفنا بالصلاة إلا ونحن نستطيع أداء الصلاة، يقول عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فهذا هو معنى أن الدين يسر، وأن الله لا يكلفنا إلا بما نطيق، وهناك بعض الحالات الاستثنائية، كأن يكون الإنسان مريضاً أو مسافراً، فشرع سبحانه من الرخص ما يخفف عن الإنسان هذه المشقة الطارئة، لكن ليس هذا هو الأصل.(74/11)
الموقف الشرعي العملي من المبتدعة والعصاة
لقد كان حال النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً) فالدين يسر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في ذي الخويصرة التميمي: (يخرج من ضئضئ هذا قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم …) وقال صلى الله عليه وسلم لقائمي الليل: (ليقم أحدكم ما استطاع، فإذا فتر عن ذلك فليقعد) إلى آخر الحديث، فكان ينكر على الغلاة حسب الحال وحسب الآثار التي تترتب على هذا الانحراف.
وعلى هذا فإننا نستحضر معنى في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه مع العصاة يتلطف وينصح برفق، لكن مع المبتدعين يقسو عليهم أشد القسوة؛ لأن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية.
ففي الحديث: (أن رجلاً أتى النبي عليه الصلاة والسلام نادماً وذكر له ما فعل، فنزل قوله تبارك وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] فقال الرجل: يا رسول الله! ألي هذه؟ قال: لمن عمل بها من أمتي) وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا في القتل وزنوا وأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]، ونزل قوله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]) فتجد في هذا الرفق والتلطف مع العصاة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أُتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، فقال: اضربوه.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هذا؛ لا تعينوا عليه الشيطان).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي فبال في المسجد) فتخيل الموقف! يبول داخل المسجد الذي هو أطهر بقاع الله، وفي مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، وبحضرة الرسول عليه الصلاة والسلام وأمام الناس! قال: (جاء أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين).
فتخيل لو أن هذه الحادثة حصلت الآن في زماننا، فماذا سيحصل من الناس؟ سترى الغلظة في التعامل، وبهذا ندرك الفرق بين رحمة النبي صلى الله عليه وسلم وحرصه على الأمة ورفقه بهم عليه الصلاة والسلام، وبين من ينتسبون إليه وهم لم يفقهوا بعد روح الإسلام من حيث السماحة واليسر والتلطف مع الناس حتى لو كانوا عصاة أو مخالفين، فقال لهم: (دعوه وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) فبين أن همهم بالوقوع في الرجل من باب التشديد المخالف لسماحة الدين ويسره، وبين لهم أن هذا البول يراق عليه دلو من الماء ويطهر بالمكاثرة، وبهذا علمنا أحكام النجاسات وكيف تزول النجاسة.
وعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه قال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله.
فرماني القوم بأبصارهم، قال: فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) وانتهى الأمر، فانظر إلى رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ورفقه بالصحابة! فلو أن واحداً اصطحب معه ابنه الصغير إلى المسجد فمعلوم أن هذا الطفل الصغير قد يلهو أو يبكي، فبمجرد أن ينصرف الإمام من الصلاة إذا بالأصوات ترتفع لدرجة أفظع بكثير من صوت هذا الصبي الصغير، ويحدثون ضوضاء أشد من ضوضاء ذلك الصبي الصغير المعذور، وهم غير معذورين.
وعلى أي الأحوال لا نستطيع أن ندرج كل صورة تخالف التيسير والسماحة التي شرعها لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أنصح البشر للأمة على الإطلاق، فعلينا نحن -المسلمين- أن نتبعه في تسامحه وتيسيره ولا نتشدد؛ لأن الانحراف عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأشياء يعتبر تشدداً وتنطعاً وتطرفاً.
يقول المؤلف: وليست هذه الأحاديث إلا صوراً عملية لبيان أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية معاملة العصاة والمخالفين، وإلا فالدين كله شاهد على أن العاصي لا يعامل بالتكفير، وإنما إن عوقب فأقيم عليه الحد فهو كفارة له وطهرة، وتطهير للمجتمع، ومن ستر الله عليه وتاب فهو إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه فإن شاء غفر له وإن شاء عذبه).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يبعثني معنفاً ولا متعنفاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً) صلى الله عليه وآله وسلم.(74/12)
مشروعية الرخص
هناك أشياء أخرى بجانب أدلة القرآن والسنة نستدل بها على يسر هذا الدين وسماحته، منها: ما ثبت من مشروعية الرخص، وهذا أمر مقطوع به ومعلوم من الدين بالضرورة، فإن هذا نمط من التشريع يدل قطعاً على رفع الحرج والمشقة، ولو كان الشارع قاصداً للمشقة في التكليف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف، والرخص كثيرة جداً، منها: قصر الصلاة في السفر، والمسح على الجوربين أو الخفين، والتيمم في حال فقدان الماء وعند تعذر استعماله لمرض وغيره، والفطر في الصيام للمريض أو للمسافر أو غير ذلك، وصلاة الإنسان وهو مريض جالساً أو حسب ما يستطيع، إلى غير ذلك.
ولقد حث الشرع في الأخذ بهذه الرخص، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) إذاً: الشرع لا يقصد بهذه التكاليف الشرعية أن يعنفنا وأن يوقعنا في الحرج وفي المشقة.
وقد أجمع العلماء على عدم وقوع الحرج في التكليف، وهذا يدل على عدم قصد الشارع له، وهذا متقرر باستقراء آحاد الأحكام.(74/13)
نهي الشرع عن التنطع والتشدد في جميع الأمور
ومن جانب آخر وجدنا نصوصاً شرعية فيها وصف الدين باليسر وبالسماحة وبالرفق مع العصاة وغير ذلك، وبالمقابل نجد في الشريعة النهي عن التشديد في الأمور، بحيث صار النهي عن التشدد وعن التنطع وعن التطرف والتعصب وغير ذلك من الأصول القطعية للشريعة الإسلامية.
والرسول صلى الله عليه وسلم اتخذ التيسير منهجاً شاملاً عاماً في حياته، كما جاء في الحديث أنه (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم) كذلك أيضاً كان آخذاً نفسه بالرفق داعياً إليه، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف) فكان عليه الصلاة والسلام ألطف الناس في دعوته وأرفق الناس بالناس، وكان صلى الله عليه وسلم يأمر دعاته ورسله باليسر والتيسير، فقد قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ وأبي موسى رضي الله عنهما لما بعثهما إلى اليمن: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا) وهذا التيسير المقصود به التيسير الجاري على وفق الشرع والعدل لا على وفق الأهواء.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) وحكمة هذا اليسر أن هذا الدين دين الفطرة، وأمور الفطرة مستقرة في النفوس يسهل عليها قبولها؛ لأنه متطابق تماماً مع الفطرة البشرية، كما قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] قال: يأتي نور الإسلام متطابقاً تماماً مع نور الفطرة.
وصاحب الفطرة السليمة ينفر من الشدة ومن العنف.(74/14)
التعامل باللين مع المخالفين
وكما أن الإسلام هو دين اليسر والسماحة فهو دين اللين، وأبلغ مظاهر سماحة الإسلام تبرز في نطاق الدعوة ونشر الدين، وفي معاملة العصاة والمخالفين، فقد جعل الله سبحانه وتعالى الأصل في الدعوة هو اللين وليس الشدة، حتى لو كان الشخص الذي توجه إليه الدعوة من أعتى خلق الله عز وجل، يقول الله تبارك وتعالى لموسى وهارون لما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
قال الحافظ ابن كثير: والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين سهل رفيق يكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع.
وذلك لأن المقصود ليس هو أن تكشف عوراته وأن تبين له بأنك أعلم منه أو أنك أقوى منه أو كذا، لكن المقصود هو أن تأخذ بناصيته إلى الله سبحانه وتعالى، وأن تهدي قلبه إلى الحق، فتسلك الطريق الأسهل والأقرب، وهو النصيحة بالرفق وباللين وبالتي هي أحسن.
يقول تبارك وتعالى واصفاً لنبيه صلى الله عليه وسلم وللدعاة من بعده طريق الدعوة ومنهجها: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125]، فأرشده سبحانه إلى القيام بالدعوة بإحدى طرق ثلاث: بالحكمة، والموعظة الحسنة، وبالجدال بالتي هي أحسن، وهذا من باب التأكيد على معنى السماحة في الدعوة وعدم التشديد والتعنيف فيها.
وقال عز وجل: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] يقول الطبري: أي: لا تجادلوا -أيها المؤمنون بالله وبرسوله- اليهود والنصارى -وهم أهل الكتاب- إلا بالتي هي أحسن، إلا بالجميل من القول، وهو الدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حدوده.(74/15)
حقيقة الجهاد في الإسلام وعدم منافاته لسماحة الإسلام
أما الجهاد لنشر الإسلام الذي هو جهاد الطلب وهو جهاد النصر لدين الله وجهاد الدفاع عن الأديان والمقدسات والأعراض والأموال فليس فيه منافاة للسماحة، فهو لا يكون إلا بعد استنفاذ الوسائل الأخرى؛ إذ هو لنشر الإسلام وإبعاد الشانئين الصادين عن سبيل الله، ولذلك فإن مظاهر السماحة فيه بينة، وهذا ما توجهه الفقرة التالية، فيذكر هنا المؤلف سماحة الإسلام في الجهاد، ويذكر حديث بريدة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله).
ونحن نرفض تماماً أن يقارن الإسلام بغيره من النظم الوضعية؛ لأن البشر حينما يضعون مواثيق وعهوداً ونظماً فيما بينهم، ويتنازل بعضهم مع بعض في المبادئ، سواء أكانت هذه النظم مع أمم نصرانية أم أجنبية أم مع أي شيء كان، فدين الله لا يتساوى مع غيره من الأديان، وهذا لا يمكن قبوله أبداً، فأهل الباطل دائماً يكونون مستعدين للتنازل حتى يتعايشوا تعايشاً سلمياً كما يزعمون، فأهل الباطل عندهم الحل الوسط هو أن نلتقي في وسط الطريق، نعبد معك إلهك سنة أو شهراً وتعبد إلهنا سنة أو شهراً، وهذه هي المساومة من كفار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله تبارك وتعالى بهذه الشدة وهذه الصرامة والوضوح: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون:1 - 6] أي: الذي هو الباطل.
{وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] أي: الذي هو دين الحق.
وليس معناه أن تقول: لكم دينكم ولي دين، وكل واحد على دينه.
لا، لكن المقصود بقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون:6] أي: دينكم الباطل.
كقوله عز وجل: {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41] يعني: كلانا على طريق آخر، ولا يحصل التقاء بين هذين الطريقين.
وإنما ذكرنا هذا لأن هناك تلاعباً شديداً بعقول بعض المسلمين، حيث فهموا موضوع التسامح فهماً خاطئاً، حتى إن بعض الناس من المسلمين كتب مقالات في الجرائد فيها الحمية والحماس يقول فيها: كيف تصفون النصارى بأنهم كفار؟! وبعض العلمانيين كتب في هذا وقال: إن اليهود والنصارى والصابئين كلهم داخلون الجنة.
واستدل على هذا بقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة:69] ونقول: هذا تحريف وإلحاد في آيات الله تبارك وتعالى.
ونعود إلى موضوعنا، فقضية الجهاد جاءت به شريعة الله سبحانه وتعالى لمن كان مؤمناً بها، فلا يناقش، لكن يقول: سمعنا وأطعنا.
فالله سبحانه وتعالى هو الذي فرض الجهاد، فهل تطيع الله أم تصطحب أي مذهب أو دين باطل؟! فالكفر كله الآن متحد ضد المسلمين، كل العالم بلا استثناء، فالمنافقون والزنادقة واليهود والنصارى والهندوس عباد البقر وعباد الأصنام متحدون ضد المسلمين، وهناك بعض الناس عندهم أمل في بطرس غالي على أساس أن هذا الرجل يتبع الأمم المتحدة والسلام والإنسانية إلى غير ذلك، وأقول: هذا خصم للإسلام، فهو في كل معركة بين الإسلام وأعدائه لابد من أن ينضم إلى أعدائه، فهل ينتظر من مثل هذا أن يكون عنده رأفة أو رفق بالمسلمين؟! هل ننتظر من الهندوس رأفة ورفقاً؟ انظر إلى الدساتير والقوانين التي لا تنفذ إذا كانت المعركة ضد المسلمين، هذا هو الوضع الحقيقي، حيث تجد أهل الباطل يتعايشون فيما بينهم، لكن لا يتعايشون مع الدين الإسلامي؛ لأن الوحي أوضح عقيدة الولاء والبراء بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] فالله سبحانه المطلع على ما في قلوبهم هو الذي يخبرنا بذلك.
فإذاً: أهل الباطل فيما بينهم يتنازلون حتى يتعايشوا، أما مع الحق فلا يمكن أبداً أن يحصل التقاء في وسط الطريق بين عقيدة الحق وبين هذه الأديان المزيفة أو المحرفة.
فبالنسبة لقضية الجهاد لا داعي لأن نتنازل ونقول: إن الجهاد في الإسلام كان جهاد دفاع لا جهاد طلب.
كلا، إن الإسلام دين جهاد ومبادءة، ولذلك على المسلمين أن يكونوا أقوى الناس وأشد الناس أخذاً بأسباب القوة، حتى ينتصر أهل الحق على أهل الباطل، ولم يحصل أن الإسلام أكره أحداً على الدخول فيه، كما هو معروف، بل إن الدين الإسلامي خير المشركين بين دفع الجزية وبين القتال؛ لأن الهدف من هذا الجهاد هو حمل الأمة لهذه الرسالة إلى البشر؛ لأجل سعادتهم في الدنيا والآخرة، وحتى لا تقف جيوش الكفر على حدود هذه البلاد وتمنع من انتشار هذا النور الذي أنزله الله للعالمين رحمة للناس، بل الهدف من الجهاد أن يدخل الناس الجنة ويقادوا إلى الجنة ولو بالسلاسل.
فهؤلاء الطواغيت يقفون بجيوشهم ليدافعوا حسب زعمهم عن الوطن وتراب الوطن المقدس وغير هذا.
والملاحدة والزنادقة يصفون الفتح الإسلامي بأنه هدم، ويقولون: إن بلادنا ظلت مستعمرة منذ كذا سنة.
ويقصدون بهذا أبهى فترة عاشتها بلادنا، وهي فترة العصر الإسلامي المشرق.
فالحمد الله الذي وفق هؤلاء المجاهدين من الصحابة الذين قهروا جيوش الفرس والروم حتى تمكنوا من أن يدخلوا إلينا دين الإسلام، وهذا من بركة جهاد هؤلاء الصحابة الذين ضحوا بأموالهم وأنفسهم وأبنائهم حتى يصل إلينا هذا الدين، وهناك من يحقد على الصحابة ويصفهم بأنهم غزاة، كما قال إسماعيل صبري في الأربعينات أو الخمسينات، قال: إنني أمقت النقاب والحجاب مقتاً شديداً؛ لأن الحجاب يذكرني بأولئك الفاتحين الأجانب الذين أتوا إلى هنا ونشروا الحجاب.
ويقصد بالفاتحين الأجانب الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وهم أطهر أمة وخير أمة أخرجت للناس، فلما عتا الباطل وانتفش وكان معه سلاح وقوة وقهر وبطش وإعلام وغير ذلك أبرز وأظهر ما كان بالأمس يخفيه، لكن الباطل في النهاية لابد له من أن يضمحل ويذوب، والمؤمن في حالة الضعف ينبغي أن يكون واثقاً بربه صامداً كالجبل في اعتقاده واعتزازه بحكم الله، ومعلوم أن الباطل مثل زبد البحر لا يلبث أن ينفض فقاقيع تطفوا على السطح، وكم سمعنا ممن حاربوا الإسلام ونكلوا بدعاة الإسلام وشوشوا على الإسلام ثم صاروا في خبر كان، وإذا ذكروا فلا يذكرون إلا باللعنة وبالدعاء عليهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحفظ الدين، وما وكل الله أحداً من الخلق بأن يحفظ دينه، قال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] والقرآن يبطل مفعول كل هذه السموم، فأي فكرة خبيثة يحاولون نشرها ويجندون لها كل الطاقات لنشرها تأتي آية واحدة من القرآن تدحضها وتبطلها.
وعلى كل حال فإن الجهاد لابد من أن نستحضر أنه حكم إلهي وهو عين العدل الإلهي، والعدول عنه هو التطرف في الحقيقة.
يقول بريدة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: اغدوا باسم الله في سبيل الله) وقوله: (في سبيل الله) يعني أنهم ما أرادوا مالاً ولا جاهاً ولا دنيا ولا شهرة، وإنما جاهدوا وضحوا في سبيل الله عز وجل، ولذلك رفع الله ذكرهم في العالمين، قال (اغدوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغدوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا) فنهي عن الغدر وعن التمثيل بالجثث، وقد روي أن المسلمين لما أرادوا فتح فارس مثل الخبثاء الفرس بجثث المسلمين، فقطعوا أعضاءهم وشوهوا جثثهم بعد قتلهم، فأقسم بعض المسلمين ليمثلن بهم كما مثلوا بقتلى المسلمين، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال لهم: (ومتى كان لنا في الفرس أسوة؟!) أي: نحن أسوتنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد غضب عليه الصلاة والسلام أشد الغضب حين وجد بين القتلى أطفالاً صغاراً وذرية، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألم أنه عن قتل الذرية) فهذه هي الأخلاق، وهذه هي القيم، وهذه هي المثل والفضائل، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين) إلى آخر الحديث(74/16)
عهود المسلمين مع غيرهم وموقف الإسلام منها
إذا أعطى المسلمون غيرهم عهداً من العهود أو الدخول تحت ذمة المسلمين أو أمانهم فإنه يجب الوفاء بالعهد، وأن يستقيم المسلمون على العهد ما استقام لهم الكافرون، ولذلك جاء النهي عن الغدر والأمر بالوفاء للمعاهد، ونصوص ذلك كثيرة في القرآن والسنة، يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، ويقول عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4] وقال عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9] ويقول عز وجل: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
فالمسلمون هم الفئة التي إذا غلبت عدلت ولم تظلم، بخلاف غيرهم، فإنهم كما قال الله عز وجل عنهم: {إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} [الكهف:20] ويقول عز وجل: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8] كما يحصل الآن في العالم كله من تواطؤ على ذبح المسلمين وإحراقهم وتجويعهم وإضعافهم وإنهاك قواهم، وهذا ليس جديداً علينا، فنحن نقرأ القرآن، وهذا موجود في القرآن فقوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} [التوبة:8] أي: كيف إذا كان لهم الغلبة والعلو؟! {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:8].
وإننا نلاحظ سماحة الإسلام في التعامل مع العصاة والمخالفين، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ثم أتى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم) كما بين أن المعاصي درجات، وأن كل عاص يعامل حسب جرمه، وأنه لو عومل جميع الناس بالزجر والضرب والهجر لكان ذلك سبباً في نفورهم من الدين.
يقول عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] فهذا هو رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول الله له: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) فالشأن مع العاصي والمخطئ ليس زجره وتكفيره، بل دعوته إلى التوبة وتصحيح المسار وبيان وجه الخطأ الذي وقع فيه، فهذه كانت مقدمة فيما يتعلق ببيان سماحة الإسلام ويسره.
ويبقى الكلام على معنى الغلو في اللغة ومعنى الغلو في الشرع.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(74/17)
الغلو في الدين [2]
لقد بيَّن علماء الإسلام أهمية الألفاظ الشرعية في العقائد وغيرها، وذكروا خطورة إطلاق المصطلحات غير الشرعية القديمة والحديثة، إلا في حالات استثنائية بعد معرفة معانيها ومقصود واضعيها، وهذا إذا احتيج إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة، وإلا فالأفضل البعد عن هذه الاصطلاحات الموهمة والمشتبهة.(75/1)
أهمية فهم الألفاظ الشرعية والمصطلحات الإسلامية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيذكر المؤلف تمهيداً في أهمية الألفاظ الشرعية والمصطلحات الإسلامية، وينبه إلى أن العلم بحقائق الأشياء والوعي بمفاهيمها لابد من أن يكون أساساً لتضييق دائرة الخلاف أو لإزالته؛ لأنك لا تكاد تجد خلافاً في أي مسألة من المسائل إلا ومن ورائه اختلاف أو سوء فهم بحقيقة الأمر المختلف فيه، قد يكون الطرفان متفقين، ولكن قد يوجد سوء فهم لبعض المصطلحات التي قد تغطي على الحقيقة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كثيراً من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة، حتى تجد رجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ أو نفيها، ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره، فضلاً عن أن يعرف دليله.
فحكم الإنسان على أي شيء أو على أي مبدأ راجع إلى التصور الموجود في ذهنه، لذلك فعلماء المنطق عبروا عن هذا بعبارة صحيحة، وهو قولهم: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
فإذا تصورت الشيء على خلاف ما هو عليه في الحقيقة سيختلف حكمك عليه.
مثلاً: كلمة التصوف، يمكن أن نجد من الناس من يتكلم في التصوف فيقول: هؤلاء ملاحدة وزنادقة ومشركون وخارجون من الملة إلى آخر ذلك، وكذلك عن حكم دراسة التصوف.
بينما آخر تجده يمدح التصوف ويذكر محاسنه، وأن أهله أهل دين، وأنهم أولياء الله، وغير ذلك من ألفاظ المديح، لكن إذا دققت ما الذي يقصده هذا الذي عمم في الجانبين ستجد أن من مدح التصوف إنما نظر لما في تصوره وفي ذهنه من أن التصوف هو ذكر الله والاجتهاد في طاعة الله، والتورع عن المحرمات، والاهتمام برياضة النفس وتهذيب القلوب وتزكيتها إلى آخره، وقد لا يخطر بباله على الإطلاق تلك المعاني الإلحادية التي انحرف بها بعض غلاة التصوف.
أما الشخص الذي يصف أهل التصوف ويعمم بأنهم ملاحدة وزنادقة وحلوليون، إنما نظر إلى المتطرفين جداً من الصوفية، خاصة في العقيدة، كـ ابن عربي أو غيره ممن ألحدوا في ذات الله تبارك وتعالى وقالوا بالحلول وبوحدة الوجود أو غير ذلك من العقائد الشركية التي تخرج فاعلها أو ناطقها من الملة.
فإذاً: على الإنسان قبل أن يتكلم في قضية أو في مصطلح معين أن يبين ما الذي يقصده من هذا الذي يذمه أو يمدحه.(75/2)
أسباب اهتمام العلماء بالألفاظ الشرعية والمصطلحات الإسلامية
اهتم علماء المسلمون بالألفاظ الشرعية والمصطلحات الإسلامية اهتماماً بالغاً، وذلك لأمور: أولاً: أن عدم تحديد الألفاظ ومعانيها وحدودها يجعلها نسبية غير محررة، فيستخدمها كل فريق كما يحلو له بمعنى أنهم يستخدمونها على ما تدفعه الأهواء وما تمليه عليهم العقائد، كما وقع -مثلاً- في تاريخنا الإسلامي من كون بعض الظالمين يصفون أهل السنة والجماعة بأوصاف متناقضة لا يمكن أبداً اجتماعها، حيث نجد المعطلة الذين يعطلون صفات الله تبارك وتعالى يطلقون على أهل السنة بأنهم مشبهة، والمشبهة يسمون أهل السنة بالمعطلة، أما أهل السنة فهم على صراط مستقيم لم تتقاذفهم أهواء هؤلاء ولا أولئك.
ثانياً: أهمية تحديد هذه المصطلحات قبل الخوض فيها؛ لأنه أحياناً قد تحدث معان محدثة طارئة لبعض الألفاظ، وليست معاني أصلية وردت في الكتاب والسنة، فتطرأ بعض المعاني والمفاهيم والاصطلاحات الحادثة لقوم أو فئة من الناس؛ لأن كثيراً من الناس ينشأ على اصطلاح قومه وعادتهم في الألفاظ، ثم يجد تلك الألفاظ موجودة في النصوص الشرعية أو في كلام أهل العلم، فيظن أن المراد بها نظير مراد قومه، ويكون مراد الشارع خلاف ذلك، وهذا الأمر اتضح وضوحاً تاماً في العصر الحديث، لما للإعلام من أثر في تغيير المصطلحات لكثرة استعمالها، مع أن المراد بها معان غير المعاني التي كانت لها أصلاً.
ثالثاً: تبرز أهمية الألفاظ الشرعية والمصطلحات الإسلامية في أنها أصبحت الآن أداة من أدوات الصراع الفكري، إذ يهتم أعداء أي فكرة أو مبدأ في صراعهم مع الأفكار الأخرى بالألفاظ والمصطلحات العلمية، وذلك بتحريفها وتغييب القول الحق فيها، إذ يأتون إلى المعاني الصحيحة فيبرزونها في قوالب منفرة، وكذلك العكس، حيث يأتون إلى المعاني الفاسدة ويبرزونها في قوالب محبوبة للناس، فمثلاً: الفن الذي هو صناعة التماثيل، والذي هو رسم الصور القبيحة التي لا حياء فيها، وغير ذلك، حيث يسمون أعماله الفنون الجميلة، ويقولون: كلية الفنون الجميلة.
ومثل هذه الأشياء فيها قلة الحياء، ومبارزة الله سبحانه وتعالى بتصوير ما فيه روح أو صناعة التماثيل، ولا شك أن هذا من أكبر الكبائر.
فإذاً: من أقوى أسلحة أعداء الإسلام في هذا الزمان الترويج للمفاهيم الفاسدة، ومحاربة المفاهيم الصحيحة من خلال اللعب بالمصطلحات، وهذا فن قديم يتقنه أعداء الدعوة في كل زمان ومكان، ولقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في بيان تلك الحقيقة شعراً، حيث يقول: تقول هذا جنى النحل تمدحه وإن شئت قلت ذا قيء الزنابير مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فعسل النحل الشهي الطيب هو في الحقيقة طيب وشفاء للناس، فيمكن أن تعبر عنه بجنى النحل من باب المدح له، ويمكن أن تعبر عنه بلفظ منفر، فتقول: هذا قيء الزنابير.
والقيء هو الذي تخرجه الزنابير من بطنها.
فهكذا ما يحصل اليوم في الصراع الفكري، حيث يقوم المخرفون باستعمال هذه المصطلحات للتلاعب بهذه الحقائق وتنفير الناس منها.
ومعلوم أن أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم استعملوا سوء التعبير فيه وفي الوحي الذي جاء به للتنفير عنه وعما جاء به.
ولو نظرنا في قصص جميع الأنبياء لوجدناهم وسموا ووصفوا بالجنون وبالسفاهة وبالضلال، وبغير ذلك من الأوصاف المنفرة، وهم أكمل الناس وأزكى الناس بلا شك، فهذا فرعون لعنه الله يقول في حق موسى عليه السلام: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] إلى غير ذلك من الألفاظ التي رمي بها الأنبياء أجمعون، والمقصود من ذلك تشويه هؤلاء الرسل لكي ينفر عنهم الناس، وهو نفس الشيء الذي حصل داخل الفرق الإسلامية، فنجد أعداء أهل السنة والجماعة قد حرصوا في شتى أحقاب التاريخ الإسلامي على التنفير من مذهب أهل السنة، وإطلاق الألفاظ المنفرة عليهم، كالحشوية والمعطلة أو المشبهة أو غير ذلك من الصفات.
أو تجد هؤلاء المخرفين يستعملون ألفاظاً طيبة لتغليف حقائق فاسدة، كالمعتزلة حينما يقولون: إن مذهبنا يقوم على خمسة أصول: منها التوحيد.
فما ذهبوا إليه من انحراف في فهم قضايا العقيدة أسموه توحيداً لترويجهم هذا المذهب الفاسد للناس، ومنها العدل، وهو ضلالهم في القضاء والقدر وغير ذلك.(75/3)
مصطلح العلمانية بين الحقيقة والزيف
وهنا مثال من أخطر الأمثلة في الحقيقة، وله أثر سيء جداً في واقعنا المعاصر، ألا وهو كلمة (العلمانية) أو (العالمانية) على الأصح، وهذا المصطلح الخطير حقيقته -كما نعلم- فصل الدين عن الحياة، فاستعمل النصارى هذا المصطلح، ومنهم فيكولر حيث ترجم مصطلح العالمانية إلى علمانية، لكي يلبس على الناس هذا الأمر، فأصبح عامة الناس إذا ذكرت العلمانية يفهمون أن العلمانية المقصود بها احترام العلم واتباع المنهج العلمي، في حين أن الكلمة لا علاقة لها على الإطلاق بالعلم، بل هي أقرب ما تكون إلى الجهل، ولذلك نتحرى أن لا ننطقها بهذا الوصف (العلمانية) حتى لا تلتبس على الناس، بل ننطقها (العالمانية) وهي لا تنسب إلى العلم على الإطلاق، لكن تنسب إلى العالم.
ومعناها: لا علاقة لنا بالدين، وإنما الإيمان بهذا العالم المادي الموجود أمامنا.
أي: فصل الدين تماماً عن القيم والأخلاق ونظم الحياة.
فهذا معنى الكلمة.
إذاً: أدق وأصح تعبير أن نقول: (العالمانية) نسبة إلى العالم، نسبة إلى هذه الدنيا بغض النظر عن الآخرة، واعتبار قضية الإيمان واليقين والآخرة والغيبيات والدين كلها قضايا شخصية لا ينبغي أن تتدخل في حياة الناس أو تنظم شئونهم.
فهذا نموذج من المصطلحات الخطيرة التي روجت، واستغل فيها جهل الناس لتمرير هذه المفاهيم الخبيثة، فقضية (العالمانية) وليست (العلمانية) هي -في الحقيقة- تقوم على الجهل؛ لأن الأشياء التي ينبغي أن تعلم في هذا الوجود ليست هي المعلومات المحسوسة فحسب، وإنما هناك معلومات أعظم وأخطر ينبغي أن نعلمها ونوقن بها، ومنها حقائق الغيب.
ففي الحقيقة حتى لو قلنا: إن العلمانية المقصود بها العلم التجريبي فهذا إنما مجاله -فقط- هو ما يخضع للحواس، فالمنهج العلمي -كما يقولون- هو التجربة والملاحظة والاستنتاج، فلابد في العلم التجريبي من أن يكون خاضعاً للحواس، يرى أو يشم أو يحس إلى غير ذلك.
إذاً: العلمانية في الحقيقة تحجب البشر من الاطلاع على القسم الأكبر والأخطر والأهم من المعلومات التي ينبغي أن يؤمنوا بها، وهو الإيمان بالغيب عن طريق الوحي الذي يعلمنا ويعرفنا بغيبيات موجودة لا ننكرها، فالعلمانية في الحقيقة دعوة جهل وليست دعوة علم.
إن العلمانية نشأت -كما نعلم- بسبب صراع الكنيسة مع العلم التجريبي؛ لأنهم كانوا كلما اكتشفوا شيئاً جديداً من الاكتشافات العلمية ثارت الكنيسة وطاردت العلماء وأحرقتهم بالنار وهم أحياء، وحصل صدام شديد جداً، لقد كانت الكنيسة دائماً تتسلط بعقيدتها الشركية التي قدمتها لهم: التثليث، والغفران، والعمد.
وهذا مصادم للفطرة، فأدى هذا التنفير والصدام إلى التمرد على هذا الدين، ولذلك فمن التلبيس -أيضاً- أن ينسبوا التقدم المادي في الغرب إلى دين النصارى، كلا، فهم ما تقدموا علماً إلا حين تحرروا من قيود دين كنيستهم المحرف، أما عندنا فمن الظلم أن تطبق هذه العالمانية على دين لم يعرف أبداً على الإطلاق صراعاً بين العلم وبين الدين؛ لأن هذا الدين أنزله الله، وهو الذي خلق الحقائق العلمية عز وجل، فلذلك يأتي نوراً على نور، ويتفق هذان النوران، ولا يمكن أبداً أن يحصل تناقض بين حقيقة علمية ثابتة قطعاً -ولا نقول: نظرية؛ لأن النظرية تتغير- وبين آية أو حديث، لا يمكن أن يحصل تناقض أبداً.
يقول شيخ الإسلام: إن الرسل تخبر بمحارات العقول ولا تخبر بمحالات العقول.
أي: تخبر بأشياء يحار فيها العقل بحيث يقصر عن فهمها وإدراكها على وجه التفصيل، ولا تخبر بمحالات العقول، أي: لا تخبر بشيء مستحيل.
والمستحيل هو اجتماع النقيضين، وهو لا يمكن أن يحصل، لكن يخبرون بغيبيات لا تطيقها العقول، فينبغي تفويض علمها وتفاصيل علمها إلى الله سبحانه وتعالى.
فالمهم أن كلمة (العلمانية) أنموذج من الاصطلاحات الخبيثة التي راجت على المسلمين، حتى إن بعض الشيوخ لم يحسن دراسة هذا المصطلح ونشأته وخلفياته، فلذلك صرح ببعض التصريحات وقال: إن العلمانية لا تتناقض مع الإسلام.
فهو يقصد أن العلمانية بمعنى احترام العلم، مع أن كلمة (العلمانية) لا علاقة لها -كما ذكرنا- بالعلم على الإطلاق من حيث الاشتقاق، ولا من حيث المعنى والمضمون.(75/4)
ضرورة الرجوع إلى اللغة العربية والشرع لمعرفة معاني الألفاظ الشرعية
إذا أردنا أن نعرف معاني الألفاظ الشرعية فلابد من أن نرجع إلى اللغة العربية وإلى مقصود الشرع من هذه الألفاظ.
وهنا نقف عند بعض المصطلحات التي تتعلق بهذا البحث ونلخص معانيها من حيث اللغة.
أولاً: الغلو.
تدور الأحرف الأصلية لهذه الكلمة ومشتقاتها على معنى واحد يدل على مجاوزة الحد والقدر.
أي: كل ما جاوز حده وقدره فهذا هو الغلو، ويقال: غلا السعر يغلو -وذلك ارتفاعه- غلاء؛ وغلا الرجل في الأمر غلواً أي: جاوز حده وغلت القدر تغلي غلياناً، وغلت السهم غلواً: إذا رميت به أبعد مما تقدر عليه.
فالغلو هو مجاوزة الحد، يقال: غلا في الدين غلواً أي: تشدد وتصلب حتى جاوز الحد.
فهذا بالنسبة لكلمة الغلو.
ثانياً: التطرف.
هذه الكلمة تدور في اللغة على أحد أمرين: الأول حد الشيء.
الثاني: الحركة في بعض الأعضاء، يقال: ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال ويقال: طرفت عينه.
أي: تحركت.
فمادة (طرف) تستعمل في حركة بعض الأعضاء، كما أن الطرف هو حد الشيء، وهذا هو المعنى الذي يهمنا في هذا البحث، وهو أن الطرف مأخوذ من حد الشيء وحافته، فالمراد من كلمة الطرف منتهى الشيء وغايته.
وكذا يقال: تطرفت الشمس.
أي: دنت للغروب، يقول الشاعر: دنا وقرن الشمس قد تطرفا وقال شمر: اعرف طرفه.
يعني: إذا طرده؛ لأنه إذا طرده يصل إلى غاية الشيء ومنتهاه ويخرج منه.
وكذلك يقال للناقة إذا رعت أطراف المرعى: طرفت الناقة.
أي: ذهبت إلى طرف البستان وأخذت تأكل من الحشائش فيه.
فالطرف هو منتهى كل شيء.
فإذاً: التطرف تفاعل من الطرف، يقال: تطرف يتطرف فهو متطرف.
وخلاصة الكلام أن الشخص إذا تطرف فقد تجاوز حد الاعتدال ولم يتوسط.
ثالثاً: التنطع.
التنطع هو البسط والملامسة، والتعمق في الكلام مأخوذ من النطع، والنطع هو التجويف الأعلى في الفم الذي يظهر عندما يتعمق الإنسان ويتشدق في الكلام، وعندما يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة، فيظل يتكلم حتى يظهر التجويف الذي في أعلى سقف الفم، ثم استعمل في كل تعمق، سواء أكان في القول أم في الفعل، فهذا معنى كلمة التنطع.
رابعاً: التشدد.
ومعناه القوة والصلابة، وشاده مشادة: غالبه وصارعه، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) يعني: غلبه الدين.
خامساً: العنف.
وهو خلاف الرفق، والذي لا يقود الخيل برفق يسمى عنيفاً.(75/5)
أقسام الناس تجاه دعوة الرسل
ينقسم الناس إزاء دعوة الرسل إلى أقسام ثلاثة: فمنهم من يكون متمسكاً بالحق ومعتدلاً على الصراط المستقيم.
ومنهم: المفرط الزائغ عن حدود الله عز وجل.
ومنهم الغالي الذي يتجاوز حدود الله.
أما النصوص الشرعية فقد جاءت بالتحذير من الغلو والإفراط والتفريط، وجاءت الشريعة تفرض علينا أن ندعو الله سبحانه وتعالى -على الأقل- سبع عشرة مرة في اليوم والليلة بقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] فهذا معنى سؤال الله سبحانه وتعالى أن يقي المسلمين شر الانحراف إلى هذا الطرف أو ذاك.(75/6)
أساليب القرآن في التنفير والتحذير من تعدي الحدود
الأسلوب الأول: الدعاء بطلب الاستقامة، وبيان أن الاستقامة لا تكون إلا بالبراءة من منهج هؤلاء الذين غضب الله عليهم والذين هم ضالون عن الطريق المستقيم؛ لأن كليهما متطرف، أما الصراط المستقيم فهو صراط الذين أنعم الله تعالى عليهم، كما في سورة الفاتحة.
الأسلوب الثاني: التحذير من تعدي الحدود، يقول عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229].
إذاً: هذا هو الميزان، وهذا هو الاعتدال، وهذا هو الصراط المستقيم، فكل انحراف عن هذا الاعتدال فهو في الحقيقة تطرف.
فمثلاً: المرأة المتبرجة تعدت حدود الله سبحانه وتعالى، حيث أمرها بالحجاب وهي تهتك ستر الله عز وجل، وتبارز الله بالمعصية وتجهر بها وتكشف ما أمر الله بستره، فهذه متطرفة منحرفة وظالمة، يقول الله عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] أي: لا تتجاوزوها.
ثم قال: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229] إذاً: فغير المحجبة هي المتطرفة، وليست المحجبة هي المتطرفة.
وكذلك أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بإعفاء اللحى، فالرجل الذي يحلق لحيته متطرف ومتعد لحدود الله؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بإعفاء اللحية، وهذا خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو متطرف وظالم، يقول عز وجل: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229].
إذاً: فينبغي أن نستحضر أن الميزان والوسط هو ما جاء به القرآن والسنة، هذا هو الاعتدال، وكل انحراف عن هذا هو في الحقيقة تطرف.
وقد افتتن بعض الإخوة بما وصم ووصف به أهل الدين وأهل الطاعة من التطرف والتنطع وغير ذلك، فينبغي أن ننظر إلى هؤلاء الذين وصفوا أهل الدين بالتطرف على أنهم هم المتطرفون في الحقيقة، ولا يفت في عضدنا هذه الحملات الشيطانية ليل نهار على أهل الطاعة وأهل الدين.
إذاً: فكل شخص يخالف أمر الله وأمر رسول الله نقول له: قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229] فالحدود هي النهايات لكل ما يجوز من الأمور المباحة المأمور بها وغير المأمور بها، وتعديها هو تجاوزها وعدم الوقوف عليها، وهذا التعدي هو الهدف الأعظم الذي يسعى إليه الشيطان؛ إذ إن مجمل ما يريد الشيطان تحقيقه أحد الانحرافين: إما الغلو وإما التقصير، فما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وإضاعة وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع له أيضاً، هذا بتقصيره عن الحد وهذا بتجاوزه الحد.
وذلك هو الأسلوب الثاني في معالجة الإسلام لقضية التطرف والانحراف.
الأسلوب الثالث: الدعوة إلى الاستقامة ولزوم الأمر وعدم الغلو والزيادة، يقول تبارك وتعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112] فقوله: (لا تطغوا) أي: لا تنحرفوا ولا تتعدوا حدود الله تبارك وتعالى التي أمر الله عز وجل بها.
الأسلوب الرابع في علاج قضية التطرف والغلو: النهي عن الغلو وتوجيه الخطاب لأهل الكتاب على وجه الخصوص، حيث يقول عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ} [النساء:171].
لأن اليهود اخترعوا له من قبل قضية الخطيئة الأصلية، وأن البشرية كلها ملوثة، فربنا -عندهم- لا يتوب على المولود؛ لأنه ولد ملوثاً بخطيئة آدم، فحتى يتاب عليه لابد من أن يعمد، وذلك بالتغسيل، فإذا غسل صار نصرانياً مستحقاً للنجاة إلى غير ذلك، وهذه من مظاهر غلوهم.
ومن مظاهر غلوهم اختراع الرهبانية التي ابتدعوها وما أذن الله تبارك وتعالى بها، يقول عز وجل: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27] والاستثناء هنا منقطع بمعنى (لكن).
أما إعراب (رهبانية) فهي مفعول به لفعل مقدر، أي: ابتدعوا رهبانية ابتدعوها.
وقوله تعالى: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) أي: ما أمرناهم بها ولا كلفناهم بها، كتحريم الطيبات والتعبد بترك الزواج وغير ذلك.
فقوله تعالى: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) أي: ما كتبناها عليهم، لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله عن طريق اتباع شرع الله، وليس بالابتداع.
هذا هو معنى قوله تعالى: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) عز وجل.
واليهود -أيضاً- عندهم قدر كبير جداً من الغلو، وإن كان النصارى أكثر غلواً في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف.
فكل هذه النصوص، كقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171]، وقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة:77] توجيه النهي فيها عن الغلو لأهل الكتاب إنما المقصود به تنبيه هذه الأمة حتى لا تقع فيما وقعوا فيه من الغلو، وحتى تجتنب الأسباب التي أوجبت غضب الله سبحانه وتعالى على الأمم السابقة.
الأسلوب الخامس الذي عالج به الإسلام قضية الغلو والتطرف: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أمته عن الغلو حتى لا يقعوا فيما وقع فيه من سبقهم من الأمم التي بعث فيهم الرسل عليهم الصلاة والسلام.
فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع -أي: صباح المزدلفة- هلم القط لي الحصى -حتى يرمي جمرة العقبة الكبرى- فلقطت له سبع حصيات مثل حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) وكأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد تحذيرنا مما يحصل الآن من جهلة الناس عند رمي الجمرات، فبعضهم يرمي إبليس عند الجمرات، وبلغني أن بعض الناس أطلق الرصاص على الشاخص، وبعضهم يرمون الجمرات بالنعال، ومن يذهب إلى الحج يراها، فهذا من الغلو.
ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) عليه الصلاة والسلام.
والمقصود بقوله: (لا تطروني) أي: لا تبالغوا في مدحي.
وتطرف البوصيري في فهم هذا الحديث فقال: إن النهي عن المدح بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام فقط عن أن نصفه بأنه ابن الله كما قالت النصارى، أما ما عدا ذلك فنحن في حل من أن نمدحه بما شئنا، فمن ثم خرج منه كثير جداً من مظاهر الغلو الشنيع، كمثيل قوله: دع ما ادعته النصارى في نبيهم وانطق بما شئت مدحاً فيه واحتكم يعني أن أهم شيء هو أن لا تقول: إن محمداً ابن الله أو ثالث ثلاثة.
فكان مما نطق به البوصيري من الكلام الشنيع قوله مادحاً النبي صلى الله عليه وسلم: فإن من علومك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فهذا غلو لا يرضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الأسلوب السادس من أساليب القرآن في التنفير من الغلو: بيان مصير الغالي وعاقبته.
فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) يدعو عليهم بالهلاك، أو يخبر بهلاكهم؛ لأنهم انحرفوا عن الجادة وتعدوا حدود الله تبارك وتعالى، فقوله إياها ثلاث مرات فيه توكيد للهلاك بالنسبة للمتنطعين، وهم المتعمقون المغالون المباينون الحدود في أقوالهم وفي أفعالهم.
وأيضاً يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم؛ فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) فهذه -أيضاً- صورة من مظاهر الغلو.(75/7)
عاقبة المشدد على نفسه في أمور الدين
لقد بينت السنة أن عاقبة الشخص الذي يخالف الفطرة ويكلف نفسه بأشياء فوق طاقته ينتهي به الأمر إلى أنه لا يصل إلى الغاية، وهناك بعض الآثار ما أظنها صحيحة، لكن تبين لنا هذا المعنى، منها: قوله: (فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) فقد مثل برجل خرج في الصحراء راكباً على دابته وحملها أثقالاً كثيرة جداً، ثم مشى في الصحراء وتوغل فيها وأتعب دابته، وانتهى الأمر به إلى أن الدابةلم تستطع حمل ما عليها؛ لأنه حملها فوق طاقتها، فهو بهذا لا أرضاً قطع؛ حيث إنه لم يصل إلى الموضع الذي يقصده، ولا ظهراً أبقى؛ حيث إنه أهلك هذه الدابة بالأحمال الثقيلة.
فكذلك الإنسان مثل هذه الدابة، حتى كان بعض العلماء يحسن اختيار طعامه، فقيل له في ذلك فقال: إن الدابة إذا أحسنت علفها فإنها تستطيع أن تنجز مهامها، فكذلك هذا الجسد هو الآلة التي تحمل روحك وتبلغ بها إلى مقاصدك وتنفذ بها حاجياتك.
فالإنسان إذا أنهك جسمه بأشياء فوق طاقته فإنه يعجز عن مواصلة السير، فلا يصل إلى هدفه، (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى).
وهذا في الحقيقة نلاحظه بصورة واضحة جداً فيمن يبتلى بالانتماء للجماعات المتطرفة بحق، كجماعة التكفير، حيث نجد الواحد منهم يكلف نفسه بأشياء فيها تجاوز لحدود الله عز وجل، فهذا الأمر يحتمله لكن لفترة محددة، ولا يستطيع الاستمرار عليه؛ لأنه ضد الفطرة، والشريعة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى جاء فيها: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فهذا خالفها وكلف نفسه فوق وسعها وتشدد في أخذ أمور الدين وأمور العقيدة وغير ذلك، فمثل هذا إن أراد الله به خيراً أعاده إلى الجادة وإلى طريق أهل السنة والجماعة والاعتدال والوسط، أو -والعياذ بالله- يحصل عنده انقلاب كلي وانحراف وتفلت كامل، فبعدما كان يكفر الناس من أجل بعض الأشياء التي لا تقتضي تكفيرهم إذا به يقع فيما هو أكبر مما كان يكفر الناس بسببه من الترخصات وتعدي حدود الله تبارك وتعالى؛ لأنه حمل نفسه فوق فطرتها، والفطرة تأبى الاستمرار على هذا طويلاً.
ولهذا تجد عامة هؤلاء متلونين لا يثبتون على قرار، فإذا ابتلي أحدهم بشيء من هذه الأفكار تجده دائماً كما يقول الشاعر: كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل فكلما جاءه رجل أجدل من رجل ترك ما جاء به جبريل إلى محمد عليه الصلاة والسلام لجدل هؤلاء.
فظاهرة تعدي حدود الله بتكليف النفس فوق ما تطيق يؤدي إلى عدم الثبات، فإما أن ينحرف تماماً وإما أن يأخذ الله بيده وينجيه من هذه الانحرافات.
والسنة بينت أن عاقبة المشدد على نفسه الانقطاع، وأنه ما من مشاد لهذا الدين إلا ويغلب وينقطع، فالسنة بهذا تبين لنا أن الشخص الذي يتجاوز حدود الله عز وجل هو عبارة عن مصادم لدين عز وجل والدين سيغلبه.
وهذا الدين الذي أنزله الله فيه اليسر والسماحة، فما من أحد يريد أن يغالب هذا الدين ويصارعه إلا غلبه هذا الدين وهزمه، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا) فقوله: (فسددوا) أي: ليكن هدفك الأول أن تصل إلى المقصود مائة في المائة، فالسداد أن تصيب النقطة التي هي في الوسط.
أما إذا عجز الإنسان عن السداد ولم يستطع أن يصيب الهدف وإنما اقترب من الهدف بقدر المستطاع فهذا يدل على أنه اقترب من الدائرة الأصلية، وبهذا يكون قد تفوق نسبياً على غيره ممن بعد عنه أكثر.
إذاً: فمعنى (سددوا وقاربوا) أي: افعلوا الأمور تماماً كما كلفتم بها، فإن عجزتم فاتقوا الله ما استطعتم، وذلك بأن تقتربوا من السداد بقدر المستطاع.
فهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) وفي لفظ قال عليه الصلاة والسلام: (والقصد القصد تبلغوا) فقوله: (والقصد القصد) يعني الاعتدال.
وقوله: (تبلغوا) أي: تصلوا إلى غايتكم ومرامكم.
يقول الحافظ ابن حجر: والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب، وحتى لا يقع ذلك جاء بختام الحديث آمراً بالتسديد والمقاربة.(75/8)
أنواع الغلو وأمثلته ونتائجه
إن الغلو ليس نوعاً واحداً، ولكنه يتنوع باختلاف متعلقه من أفعال العباد، فهناك غلو اعتقادي وغلو عملي، فالغلو الاعتقادي يسمى غلواً كلياً.
والبدعة أقسام: بدعة كلية وجزئية، والبدعة الكلية: أن تكون قاعدة مبتدعة يتحاكم إليها وتصير أصلاً، بحيثَ تَفصَّل القضايا على أساسها، مثل قاعدة تحكيم العقل في النقل، فهذه بدعة كلية.
والبدعة الكلية تنتظم تحتها فروعاً كثيرة جداً، فالمراد بالغلو العملي ما كان متعلقاً بكليات الشريعة أو أمهات المسائل في الشريعة الإسلامية، والمراد بالغلو الاعتقادي ما كان متعلقاً بباب العقائد، فهو محصور في الجانب الاعتقادي.
وأمثلة الغلو الاعتقادي الكلي كثيرة، منها: الغلو في الأئمة وادعاء العصمة لهم، كما يحصل من الشيعة، فإن الشيعة من أقبح الفرق المتطرفة في الإسلام، فهم يغلون كثيراً في أئمتهم الاثني عشر المزعومين، فلقد غلوا فيهم حتى وصلوا بهم إلى مراتب وصفات الألوهية.
ومنها الغلو في البراءة من المجتمع العاصي، كأن يعيش إنسان في مجتمع مظاهر بالفسق والعصيان فيغلو في التبرؤ من المجتمع، ويغلو في تطبيق قضية الولاء والبراء إلى حد تكفير أفراد هذا المجتمع واعتزالهم، وهذه سنناقشها إن شاء الله تعالى بالتفصيل.
ويدخل في الغلو الكلي الاعتقادي الغلو في فروع كثيرة من الأحكام، بحيث يكثر من الإنسان مخالفات في قضايا جزئية، حتى تصير بمجموعها كلية؛ لأن المعارضة للشريعة في الحالتين منطبقة عليهما كليهما، فمعارضة الشريعة بالقاعدة الكلية يترتب عليها مخالفات جزئية كثيرة حينما تطبق هذه القاعدة، كذلك إذا كان الإنسان منحرفاً في قضايا جزئية كثيرة ومتعددة جداً فمخالفة الشريعة تقوم بها -أيضاً- بصورة كلية تماماً كما في الحالة الأولى.
فإذاً: يدخل في الغلو الكلي الاعتقادي الغلو في فروع كثيرة؛ إذ إن المعارضة الحاصلة به للشرع مماثلة لتلك المعارضة الحاصلة بالغلو في أمر كلي، والغلو الكلي الاعتقادي أشد خطراً وأعظم ضرراً من الغلو العملي؛ لأن الغلو العملي مثل أن يقوم إنسان الليل ولا ينام، ويصوم النهار ولا يفطر أبداً، إلى غير ذلك من أنواع الغلو العملي، ومثل تحريم الطيبات على نفسه، وتحريم الظلال، وتحريم أكل اللحوم وهكذا، فهذا غلو عملي، لكن الغلو في العقيدة أخطر وأشد من الغلو العملي، وفي كل شر؛ إذ الغلو الاعتقادي هو المؤدي إلى الانشقاقات، وسبب تفرق الأمة هو الغلو الاعتقادي، فالأمة ما افترقت إلا بسببه، ولذلك فسر علماء الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) فسروه بأن الفرقة في أمة الإجابة لا أمة الدعوة.
والدليل على ذلك ما ورد في صدر الحديث: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقين) واليهود الذين افترقوا إلى إحدى وسبعين فرقة كانوا أهل دين واحد، وكذلك قوله: (وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) فهذه الفرق حاصلة في أمة الإجابة، وهي الأمة المسلمة، وهذا -أيضاً- يؤيده الواقع، فإننا رأينا أصول هذه الفرق -سواء المرجئة أو الخوارج أو المعتزلة أو القدرية وما تفرع عنها من البدع المعروفة- من المسلمين.
إذاً: فالانشقاق الذي حصل داخل الجماعة المسلمة إنما حصل بسبب الغلو الكلي الاعتقادي، فهذا هو المظهر السائد للفرق والجماعات الخارجة عن الصراط المستقيم؛ لأنها ما تسمى فرقة إلا لأنها انحرفت عن الفرقة الناجية.
يقول عليه الصلاة والسلام: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضو عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة).
فهذا دليل على أن مخالفة أهل السنة والجماعة هي التي تؤدي إلى حصول التصدعات والانشقاقات، فأساس الانشقاق في الأمة نابع من خلاف في العقيدة بسبب الغلو الكلي الاعتقادي.
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: ذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة لا جزئي من الجزئيات.
يعني: لا يصح أن تصف جماعة بأنها فرقة ضالة إذا كانت تخالف في قضايا جزئية، لكن يمكن أن تصفها بأنها فرقة ضالة إذا كانت تخالف في قضية كلية اعتقادية، مثل الشيعة، فهي فرقة من الفرق الضالة؛ لأنها تخالفنا في كليات، فعندها غلو كلي في قضايا الاعتقاد.
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: لا في جزئي من الجزئيات، إذ الجزئي أو الفرع الشاذ ما ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعاً، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية، أرأيت كيف غلت الطوائف كالخوارج والشيعة في كليات من الدين، فأدى غلوهم إلى ظهور فرق ونشوء جماعات، بينما غلا أشخاص في السلوك والعبادات فلم يؤد غلوهم إلى ظهور فرق جديدة.
يعني أن فرقة الخوارج نفسها تفرقت إلى جماعات كثيرة حتى كفر بعضهم بعضاً، وهذا شأنهم في كل زمان، ففي مصر لما ظهروا في الفترات الأخيرة منذ السبعينات تفرقوا حتى صارت فرقة تكفر الفرق الأخرى، كذلك الشيعة تفرقت إلى فرق كثيرة جداً حتى كفر بعضها بعضاًً.
وهذا دليل على أنَّ الغلو الكلي الاعتقادي أعظم خطراًَ بالنسبة للغلو العملي السلوكي؛ لأن الغلو السلوكي العملي الاعتقادي لم ينشأ عنه فرق انشطارية، وأوضح مثال على ذلك الصوفية، فعندما كانوا موجودين في صدر الإسلام لم يكونوا يشكلون فرقة خطيرة على المجتمع المسلم، فقد كانوا في بداية أمرهم على الزهد والاستقامة على السنة وإصلاح الظاهر والباطن، لكنهم لما طرأ عليهم بعد ذلك انحرافات في قضايا كلية اعتقادية كبدعة ادعاء العصمة لمشايخهم ونحو ذلك من أمور الغلو الكلي الاعتقادي، فحينئذ صاروا فرقاً شتى، منهم الملحد، ومنهم المبتدع، ومنهم من هو دون ذلك.(75/9)
الفرق بين الغلو الكلي الاعتقادي والغلو الجزئي العملي
أولاً: منطوق النصوص، فقد وردت في الغلو الكلي الاعتقادي أحاديث تدل على أنَّه بسبب هذا الغلو ستظهر جماعات وفرق وأحزاب، كحديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه في قصة الرجل الذي اعترض على قسمة النبي صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله، فهذا الرجل قال كلمة خطيرة والعياذ بالله، قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! فقال عليه الصلاة والسلام: (ويلك! من يعدل إذا لم أعدل؟! ثم أدبر الرجل، فاستأذن رجل من القوم في قتله -يقولون: إنه خالد بن الوليد - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من ضئضئ هذا قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان).
هذا الحديث يخبر عن فرقة الخوارج؛ لأن من صلب الرجل خرجت فرقة الخوارج، فأخبر أنه لا يرفع ثوابهم إلى السماء، ولا يقبل الله منهم هذا العمل، وهذا الوصف -في الحقيقة- للخوارج يتضح ويتبين منه أن الإخلاص وحده لا يكفي، بل لابد من الإخلاص والمتابعة معاً، فالخوارج لو اطلعت على اجتهادهم وإخلاصهم في العبادة لرأيت عجباً، كان يقول عنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (رأيت قوماً أيديهم كأنها نقر الإبل، جباههم قرحة من كثرة السجود) وكذلك صارت الركب مثل جلود الإبل في الخشونه من شدة العبادة والركوع والسجود، ولما دخل ابن عباس معسكرهم كي يناظرهم سمع دوياً كدوي النحل وهم يتلون القرآن، لكن -وللأسف- مع اهتمامهم بتلاوة القرآن فإنهم لا يفقهون القرآن، وهذا هو أحد أوصافهم الأساسية، كما سنبين إن شاء الله تعالى.
وكان عندهم ورع غريب جداً، لكن هذا الورع وجوده عدمه سواء، فهم لم يتورعوا عن قتل بعض الصحابة، وبقر بطون النساء الحوامل، وتكفيرهم للمسلمين، والخروج على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وهذه المأساة التي حصلت منهم، ومع ذلك كانوا في سيرهم زهاداً، فهذا واحد منهم أخذ تمرة من النخل فأكلها فقال له صاحبه من الخوارج: أخذتها بغير حقها! فما زال به حتى لفظها تورعاً.
وهذا آخر معه سيف أراد أن يجربه، فمر به خنزير لأهل الكتاب فقتله، فقالوا: قتلته بغير حق.
وذهبوا إلى صاحب الخنزير ودفعوا له قيمة هذا الخنزير، في حين تواطئوا على قتل المسلمين وإراقة دمائهم بغير حق، كما هو معلوم من سيرهم.
وجاء في بعض الآثار عن بعض السلف أنه قال: إن الشيطان إذا أراد أن يهلك إنساناً خلى بينه وبين العبادة وأمره بالخشوع والبكاء كي يصطاده ويصطاد به، حتى يجتهد في جانب العبادة على غير بصيرة، فيكون مبتدعاً وفتنة لكل مفتون.
فالشاهد من الكلام أن الشريعة نفسها فرقت بين الغلو الاعتقادي الكلي والغلو الجزئي العملي، فهنا النبي عليه الصلاة والسلام في جانب الغلو الاعتقادي حينما تكلم عن الخوارج قال في حقهم: (يخرج من ضئضئ هذا قوم) وذكر كلمة قوم، أي: فرقة صفاتهم كذا وكذا وكذا.
أما الغلو الجزئي العملي فمثاله ذلك الذي كان يغلو غلوا شديداً في قيام الليل، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد) فقوله: (ليصل أحدكم) عبر فيه بالواحد.
وقوله: (نشاطه) أي: مادام نشيطاً فليصل قائماً، فإذا فتر فليقعد، ولا يضع حبلاً بين الساريتين ويتعلق به؛ لأن هذا شدد على نفسه وكلفها فوق طاقتها.
وكذلك الغلو الاعتقادي الكلي بلاؤه عام على الأمة كلها؛ لأن الإنسان حين يغلو في اعتقاد ما، كأن يعتقد كفر المسلمين فهل سيقتصر على هذا الحد أم أن وراء هذه العقيدة مفاسد وأضراراً لا تحصى، علاوة على شناعة النطق بغير علم في مثل هذه القضية الحساسة، فيترتب عليها استحلال للدماء واستحلال للأعراض، وكم سمعنا من المآسي في هذا الباب، تجدهم يتزوجون المرأة وهي على عصمة زوجها؛ لأن هذا كافر حسب زعمهم، فيطلقها من زوجها ويتزوجها، وكذلك محاولة إراقة دماء كثير من المسلمين، ومعروفة حادثة قتل الشيخ الذهبي رحمه الله.
فإذاً: لا تقف القضية عند مجرد وجهة نظر فحسب، لكنها تنعكس في سلوك عملي شديد الضرر على المجتمع أو على المسلمين.
فإذاً: الغلو الكلي الاعتقادي عام الضرر على الأمة كلها، بينما ضرر الغلو الجزئي العملي مقتصر على الغالي والمتطرف نفسه.
وأيضاً: الغلو الاعتقادي الكلي مطرد الضرر في كل الأحوال وباستمرار، بينما الغلو الجزئي نسبي، بحيث يكون مؤثراً على الشخص نفسه وغير مؤثر على شخص آخر.(75/10)
الأوصاف التي تجمع وتربط الغلاة ببعضهم على مر الدهور والأزمان
إن الناظر في الغلاة وفي الفرق الغالية يجد على مر العصور أن بينهم خصائص وأوصافاً معينة تجمعهم وتربطهم ببعضهم تكاد تطرد فيهم، وقد ذكر العلماء لهم أوصافاً إجمالية وتفصيلية.
والمطرد هنا في كثير من فرق الغلاة وصفان يجمعانها، فكأن هذين الوصفين قاسم مشترك بين كل الفرق الغالية، وهذان الوصفان بينهما النبي عليه الصلاة والسلام في قصة الرجل الذي اعترض على قسمته صلى الله عليه وسلم وإعطائه صناديد نجد أكثر من غيرهم، وفي هذا الحديث (ثم أدبر الرجل فاستأذن رجل من القوم في قتله -ويرون أنه خالد بن الوليد رضي الله عنه- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من ضئضئ هذا قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان) فوصفهم بوصفين، وهذا الوصفان مطردان غالباً في الفرق الضالة كلها.(75/11)
الوصف الأول: عدم فهم القرآن ورد السنة
هؤلاء الغلاة الضالون قد يحتجون بآيات من القرآن، ولكن لا يفهمونها الفهم المناسب والفهم الصحيح.
إذا: فالقرآن لا نستطيع أن نفصله عن البيان العملي، والسنة بمثابة المذكرة التفصيلية التي تشرح القرآن، فلا نستطيع أن نستقل بفهم القرآن دون الرجوع إلى السنة وإلى أهل اللغة وأهل العلم في ذلك، فإن أدلة القرآن كثيراً ما تكون أدلة عامة، فترى صاحب الهوى يستدل بها لإثبات باطله، ومن ثم قال بعض العلماء: وكم من فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزل وليس معنى ذلك أن القرآن يؤيد الفرق الضالة، كلا، وإنما العيب فيهم؛ لأنهم أساءوا فهم القرآن ولم يحسنوا تفسيره على الفهم المستقيم.
وهذان الوصفان الموجودان في هذا الحديث يجمعهما قول الله عز وجل في الإنسان: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] الظلم والجهل، فهذا هو الوصف المشترك بين جميع الفرق الضالة.
فالسبب عدم فهمهم للقرآن، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم) أي: أنهم يأخذون أنفسهم بقراءة القرآن وإقرائه وهم لا يتفقهون فيه ولا يعرفون مقاصده.
يقول النووي رحمه الله: المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على لسانهم.
أي: القرآن لا يصل إلى حلوقهم فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم؛ لأن المطلوب تعقله وتدبره بأن يقع ذلك في القلب، ومن ثم فعدم فهمهم لآيات القرآن يجعلهم يحملون آيات أنزلت في المشركين ويطبقونها على المسلمين، حتى قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما في الخوارج: (إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين).
ومن مظاهر عدم فهمهم للقرآن أنهم يتبعون متشابه القرآن ويعرضون عن المحكم، كاستشهاد الخوارج على إبطال التحكيم بقول الله تبارك وتعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] فالخوارج لما قبل علي رضي الله تعالى عنه مبدأ التحكيم قالوا: كفرت بالله، والله عز وجل يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] وأنت تحكم الرجال، فقال أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه: (نعم إن الحكم إلا لله كلمة حق أريد بها باطل) ولذلك لما تولى ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما مناظرتهم قال لهم ابن عباس في الرد على هذا الاستدلال: ألم يقل الله عز وجل: {…….
فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35]؟ فها هو القرآن نفسه يشرع لنا عند وصول النزاع بين الرجل وامرأته إلى هذا الحد مبدأ التحكيم، فهل إصلاح حال امرأة مع زوجها أهم أم إصلاح حال الأمة؟.
هذه أمة انقسمت وتقاتلت، ففي أيهما التحكيم يكون أولى، في إصلاح حال الأمة وهذا الذي رضي به علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما نادوا إلى تحكيم القرآن، أم في إصلاح حال الزوجين؟! وكذلك لو أن امرءً اصطاد صيداً وهو محرم كأرنب أو غير ذلك، فقد شرع القرآن الكريم في ذلك مبدأ التحكيم، وذلك في قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] كما هو معلوم، فهذا في دم أرنب، أفلا يكون التحكيم أولى في حقن دماء المسلمين؟! فهذا استدلال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد رجع بسببه الآلاف لما سمعوا مناظرته القيمة معهم.
قال الحافظ: وكان أول كلمة خرجوا بها قولهم: (لا حكم إلا لله)، انتزعوها من القرآن وحملوها على غير محملها، فأدى بهم هذا القصور في فهم القرآن إلى الخروج عن السنة، وجعل ما ليس بسيئة سيئة وما ليس بحسنة حسنة، فهم إنما يصدقون الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف بزعمهم ظاهر القرآن.
ولذلك هذا الرجل الذي هو أساسهم وأصلهم ماذا حصل منه؟ لقد كان بداية ضلاله وشؤم ضلاله اعتراضه على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك تجد شؤم هذه المخالفة موجوداً في كل الخوارج تقريباً، تجدهم يستدلون بالقرآن ويستقلون بفهمه ويفصلونه عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم المبينة له، بزعم أن السنة تخالف ظاهر القرآن.
فهذا فيما يتعلق بكلمة (جهولاً) أي: عدم فهمهم للقرآن الكريم وأثر الانحراف في هذا.(75/12)
الوصف الثاني: الظلم واستحلال دماء المسلمين
الوصف الثاني هو الظلم، فهم يفترون على الله سبحانه وتعالى بالاستدلال بآياته في غير ما أنزلت له، ويظلمون خلق الله باستحلال حرماتهم عن طريق التكفير واستحلال الدماء، وقد ورد في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام في وصفهم قال: (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان) وهذا بناء على تكفير المسلمين الذي يكاد أن يكون وصفاً مشتركاً بين طوائف الابتداع والغلو.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: الفرق الثاني بين الخوارج وأهل البدع أنهم يكفرون بالذنب والسيئات، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام دار كفر ودارهم هي دار الإيمان.
وكذلك يقول في جمهور الرافضة وجمهور المعتزلة والجهمية وطائفة من غلاة المنتسبة لأهل الحديث والفقه ومتكلميهم.
فإذاً: استحلالهم دماء المسلمين ثمرة ونتيجة لغلوهم وابتداعهم؛ لأنهم يرون من ليس على طريقتهم خارجاً عن الدين حلال الدم، وهذا شأن كل صاحب بدعة، كما قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: محدثان أحدثا في الإسلام: رجل ذو رأي سوء زعم أن الجنة لمثل من رأى مثل رأيه، فسل سيفه وسفك دماء المسلمين، ومترف يعبد الدنيا لها يغضب وعليها يقاتل.
ويقول أبو قلابة رحمه الله: ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف.
وكان أيوب السختياني رحمه الله يسمي أصحاب البدع خوارج، ويقول: إن الخوارج اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف.
أي: اجتمعوا في الخروج على المسلمين.
إذاً: فهؤلاء يجمعون بين الجهل بدين الله وبين ظلم عباد الله، فجهلهم بدين الله تعالى حيث يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، والظلم لعباد الله حيث يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، وهاتان طامتان عظيمتان.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: طريقة أهل البدع يجمعون بين الجهل والظلم، فيتبعون بدعة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، وينبني على هذا التكفير استحلال دماء المسلمين وقتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان.
وهذا الأمر في الغالب، وليس مطرداً في كل الأحوال، ويمكن أن تضاف إلى هاتين الصفتين صفات أخرى -أيضاً- تتميز بها بعض فرق أهل البدع.(75/13)
الغلو العملي حكمه وأمثلته وضوابطه
ما مضى كان متعلقاً بالغلو الكلي الاعتقادي، أما النوع الثاني فهو الغلو الجزئي العملي أو السلوكي، والمراد بالجزئي ما كان متعلقاً بجزئية أو أكثر من جزئيات الشريعة العملية، سواء أكان قولاً باللسان أم عملاً بالجوارح، وذلك مثل قيام الليل كله.
وإذا كان الغلو الجزئي العملي مرتبطاً بعقيدة فاسدة انتقل إلى كونه غلواً كلياً اعتقادياً، وذلك مثل من يعتزل مساجد المسلمين؛ لأنه يراها مساجد ضرار، فهذا غال غلواً كلياً اعتقادياً.
وكذا إذا تعددت أبواب الغلو الجزئي العملي تحولت إلى غلو كلي اعتقادي؛ لأن الضرر المترتب عليها نظير الضرر المترتب على الغلو الكلي الاعتقادي.
وقد عالج النبي صلى الله عليه وآله وسلم صوراً من الغلو العملي التي حدثت في عصره، فمن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها -أي: قالوا: هذه عبادة قليلة- فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا.
وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر.
وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) فانظر إلى الشدة مع المبتدع والغالي، فاعتبر مثل هذا غلواًً وخروجاً عن هديه وسنته صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه -أيضاً- قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لـ زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، تقوم الليل فإذا فترت وتعبت من كثرة الصلاة فإنها تتعلق بهذا الحبل وهي تصلي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد) فقوله: (ليصل أحدكم نشاطه) يعني: أن تصلي قائماً ما دمت نشطاً وقادراً على القيام، فإذا تعبت وفترت فارقد، أو اجلس.
فهذا فيه الحث على الاقتصاد في العبادة والنهي عن التعمق والتنطع فيها.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل) - وأبو إسرائيل هذا صحابي كان مشهوراً بكنيته، واختلف في اسمه، فقيل: اسمه: يسير، قالوا: (أبو إسرائيل) نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه) فأقره على الفعل الشرعي فقط، أما ما عدا ذلك من هذا التنطع فألغاه.
قال الحافظ ابن حجر: وفيه أن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلاً مما لم يرد بمشروعيته كتاب أو سنة، كالمشي حافياً، والجلوس في الشمس ليس هو من طاعة الله، فلا ينعقد به النذر.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل وعندها امرأة فقال: من هذه؟ قالت: فلانة.
وأخذت تذكر من صلاتها واجتهادها في العبادة، قال: مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه) قوله: (عليكم بما تطيقون) أي: اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصاد على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق من العبادات.
وكذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما في تشدده في موضوع الصيام وغيره وكيف عالجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً: يتبين من هذا كله أن المسلم لا يحتاج إلى أن يوجب شيئاً جديداً على نفسه يتقرب به إلى الله عز وجل، فإن ذلك من تجاوز الحدود التي حددها الله وأوضحها، كما أنه لا يجوز للمسلم أن يحرم الطيبات التي أحلها الله عز وجل له، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة:87 - 88].
كما يتضح ذلك في بعض روايات النفر الثلاثة حيث حرم بعضهم على نفسه أكل اللحم، فهذا من الابتداع والتنطع والغلو.
فترك الطيبات تنسكاً وتعبداً لتعذيب النفس والتشديد عليها شبهة افتتن بها كثير من العباد والمتصوفة، متبعين في ذلك سنن من قبلهم من رهبان النصارى الذين ابتدعوا رهبانية لم يؤمروا بها في الدنيا، وذلك بتحريم الحلال وإضاعة المال، فإن كل ذلك مما جاء الشرع بالنهي عنه والتحذير من الوقوع فيه.(75/14)
ضوابط في مفهوم الغلو وغيره من المصطلحات الحديثة
سبق أن تكلمنا أن الشرع دائماً يرغب في التيسير وفي رفع الحرج، وأن الإنسان لا يشدد على نفسه، وأن يختار دائماً الأيسر ما لم يكن إثماً، كما كان فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتكلمنا في مقدمة الكلام عن معنى الغلو، وبينا أن الغلو معناه مجاوزة الحدود التي حدها الله تبارك وتعالى.
إذاً: أصل الإنسان الغالي أنه يقصد من غلوه التقرب إلى الله سبحانه، فهو ينظر إلى معنى قوله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] لكنه لا ينظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) فيتجاوز هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثم يتجاوز حدود الله.
ولذلك يقول العلماء في تعريف البدعة: هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بها المبالغة في التعبد لله عز وجل.
فكل مبتدع يقصد المبالغة في العبادة ولا يقنع بالحدود التي حدت له.
والغلو هو في حقيقته حركة في اتجاه القاعدة الشرعية والأوامر الإلهية، لكنها حركة تتجاوز في مداها الحدود التي حدها الشارع، فهو مبالغة في الالتزام بالدين وليس خروجاً عنه في الأصل، بل هو نابع من الرغبة في الالتزام به.
وأمر آخر هو أن الغلو ليس دائماً في الفعل، بل يدخل فيه الترك أيضاً، فمثلاً: ترك الحلال وتحريمه نوع من أنواع الغلو، هذا إذا كان تركه للحلال تديناً، أما إذا ترك المسلم الحلال من الطعام لأن الطبيب نهاه عن أكله لأنه يضره فهذا أمر لا حرج فيه، لكن أن يترك المسلم شيئاً من الطعام متعبداً بذلك ومتنسكاً ومتقرباً إلى الله بتركه فهذا مبتدع ضال، وهذا غلو في الدين وتجاوز لحدود الله، وهذا من الظلم.
ثم إن نسبة الغلو إلى الدين -كما يقول بعض الجهلة أو الخصوم للدعوة الإسلامية: الغلو الديني، أو التطرف الديني- هو تجوز في العبارة؛ إذ الغلو إنما هو في أسلوب التدين لا في الدين نفسه، والأسلوب هذا إنما هو راجع إلى البشر؛ لأنهم غير معصومين، وليس راجعاً إلى الدين نفسه الذي هو دين الله سبحانه وتعالى، فلا يصح أن تقول: الغلو الديني أو التطرف الديني كما ذكرنا، ولذلك جاء التعبير القرآني: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77] قوله: (لا تَغْلُوا) يعني: لا تغلوا غلواً دينياً.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والغلو في الدين) ولم يقل: إياكم والغلو الديني.
فهذا راجع إلى السلوك وليس إلى الدين نفسه، فالدين براء من الغلو، وهذا المعنى إذا اتضح لكثير من الجهلة ممن يحملون هذه الحملات على المسلمين وعلى عباد الله لكان لزاماً عليهم أن يستغفروا حتى الممات مما صنعوا من التنفير من الدين بسبب استعمال هذه العبارات المنفرة.
فالتطرف الديني والتعصب الديني والغلو الديني كلها ألفاظ غير صحيحة؛ لأن الدين ليس فيه غلو وليس فيه تطرف، وإنما الغلو يكون في سلوك بعض من ينتسبون إلى الدين.
فيجب أن يتأمل الإنسان قبل أن يحكم على شيء من الأشياء بأنه غلو، وذلك بأن ينظر إلى العمل بدقة، فقد يحكم عليه بأنه غلو مع أنه في ذاته ليس غلواً، لكن الوسيلة إليه قد تكون من باب الغلو، فيقع الخلط في هذا الباب، وهذا سوف يشرح إن شاء الله تعالى فيما بعد بالتفصيل.
ثم إنه ليس من الغلو طلب الأكمل في العبادة، ولكن من الغلو الإثقال على النفس إلى درجة الملل، فطلب الأكمل في العبادة مثل أن تكثر من صلاة النافلة، فهذا شيء حسن ومحمود؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليكثر) إذاً ليس المراد بالنهي عن الغلو منع طلب الأكمل في العبادة؛ لأن هذا من الأمور المحمودة، لكن المقصود من المنع من الإفراط المؤدي إلى الملل، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك ما هو أفضل.
وليس من العدل من العبد أن يصف شخصاً بالغلو إذا التزم رأياً فقهياً، فلا تعتبر وجهة النظر المخالفة تشدداً مادام التزام المرء جاء بناء على أحد أمرين: إما اجتهاد سائغ شرعاً بأن بلغ درجة الاجتهاد، وإما تقليد لعالم من العلماء موثوق في دينه وعلمه لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد.
لقد تعودنا أن نسمع إذا خالف شخص في قضية ما أن مخالفه يصفه بأن متشدد، وذكر هنا بعض الشيوخ مثالاً يقول فيه: رأيت امرأة تلبس جلباباً يغطي كل بدنها وفتحة واحدة فقط للعين تنظر منها الطريق وغير ذلك، فقلت: ما هذا التشدد وما هذا الغلو؟! فهذا الإنكار في مثل هذه المسألة لا يجوز، بغض النظر عن التحقيق العلمي في القضية؛ لأنه رأي ناشئ عن اجتهاد، سواء أكان اجتهاد أحد الأئمة الكبار أو اجتهاد من هو موثوق بعلمه لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد، وكان مأموناً في دينه وفي علمه من عدم اتباعه للهوى.
إذاً: لا يجوز أن تصف الرأي المخالف لك في مثل هذه القضايا بأنه غلو في الدين، بخلاف أهل الجهل وأهل البدع، فإنهم يتكلمون بالهوى، يقول الله عز وجل عنهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:23] لكن هذا اتبع أدلة شرعية معتبرة، فالأخذ بالرأي الأشد من الآراء المختلفة لا يعد دليلاً على الغلو، فقد يكون تشدداً من وجهة نظر المخالف، لكن هو في الحقيقة لا يراه تشدداً، بل هو يراه حكم الله، فلذلك لا يجوز استعمال مثل هذه العبارات الشديدة كالتنطع أو الغلو أو التطرف في حق من يأخذ برأي يراه مخالفاً وتشدداً، بينما يراه مخالفه أقرب إلى حكم الله.
وهناك غلو من جهة أخرى، مثل أن يأخذ الإنسان برأي، وهذا الرأي رأي صواب، وتجد صاحب هذا الرأي يصف المخالفين له بالمروق من الدين، كما يحصل أحياناً من بعض علماء الظاهرية إذا كان الحق معهم، فإذا بهم يسلطون ألسنتهم على من خالفهم في قضية فقهية ويقولون: لا يقول بهذا إلا فاسق لا مروءة عنده ولا دين.
ويشتمون أئمة العلم وأئمة الهدى، وقد يكون الذي خالفهم إماماً جليلاً كالإمام أبي حنيفة أو الشافعي أو غيرهما فتجد كلاماً فظيعاً تقشعر منه الجلود، فهذا غلو في أسلوب الانتصار للرأي وليس غلواً في الرأي ذاته، فقد يطرأ الغلو على الرأي الفقهي السليم بسبب أسلوب الشخص الذي يدافع عن هذه القضية.
كذلك في المقابل تجد إنساناً يأخذ بقول شيخ معين على أساس أن هذا الشخص معصوم لا يخطئ ولا يتطرق إلى كلامه خطأ على الإطلاق، فهذا -أيضاً- من مظاهر الغلو؛ لأنه ينتصر له بغير هدى من الله، فغاية علمه أنه مقلد.
إذاً: يمكن أن يكون للإنسان رأيه في قضية، أو عقيدته في قضية هي حق، ولكن وسيلته في إقناع الآخرين لهذا الدفاع والانتصار لهذا الرأي هي التي يدخلها الغلو.
لقد كان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما متشدداً في فقهه، كان يميل إلى الاحتياط الشديد في العبادة، لكن هل وصفه واحد من الصحابة بالغلو؟ هذا لم يكن.
إذاً: ينبغي على الإنسان إذا أراد أن يصف انحرافاً عن شريعة الله تبارك وتعالى أن يطلق وصفاً عاماً، بل يختلف الأمر بحسب درجة الانحراف.
ومن قواعد الشريعة أنه لا يكفي الانحراف في قضية جزئية في جماعة أنت تعلم أنها خارجة عن الدين أو أنها فرقة ضالة من فرق أهل النار حتى يكون انحرافها في قاعدة كلية من قواعد الشريعة أو في مسألة كلية من كليات الدين، فيطلق الوصف، بل لابد من أن نقول: النصارى عندهم غلو في عيسى عليه السلام حيث رفعوه إلى مقام الألوهية.
يقول شيخ الإسلام: والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر به عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج والرافضة والمرجئة.
ولا يعني هذا أن غيرها من الفرق ليست منحرفة، بل المقصود أن الابتداع أو الغلو الفرعي لا يصل بصاحبه إلى أن يعد من أهل البدع والغلو بإطلاق، بل يقال: غال في العمل الفلاني.
أو: مبتدع في الأمر الفلاني.
فلو أن الإنسان وضع يديه على الصدر بعد الرفع من الركوع فبعض العلماء -مثل الشيخ ناصر الدين الألباني - تكلم في هذه القضية وقال: هذا ابتداع.
أو: هذه بدعة وضلالة.
فيأتي بعض الإخوة الذين عندهم في فهمهم قصور فيقولون: إن الشيخ الألباني يقول عن الشيخ الفلاني: إنه مبتدع وضال.
مع أن الشيخ الألباني لم يقل: مبتدع.
ولم يقل: ضال.
وإنما قال: هذه بدعة.
نقول: هناك فرق بين أن تصف الفعل بأنه بدعة وبين أن تطلق على الشخص وصفاً عاماً بأنه مبتدع، ففي مثل هذه القضايا الجزئية الدقيقة لا ينبغي إطلاق وصف الغلو أو البدعة بصورة عامة، لكن لو أن شخصاً ابتدع في موضوع معين فلك أن تقول: ابتدع في الموضوع الفلاني، ابتدع في الأذان، ابتدع في كذا.
لكن لا تطلق الوصف إلا بالضابط الذي ذكرناه، فإطلاق وصف الغلو دون انتباه إلى هذا التقسيم تجوز في العبارة وتعميم في الحكم، وهو مثيل ما يتهم به الغلاة.
ومن وصف مسلماً ارتكب كفراً عملياً بالكفر وبأنه كافر مطلقاً فهذا يعتبر غلواً منه هو ذاته، وهكذا.
فتعميم إطلاق أوصاف التكفير والتفسيق دون رجوع للضوابط الشرعية هو -في حد ذاته- غلو من فاعله.
ومن الأمور التي ينبغي ملاحظتها حينما نطلق لفظ الغلو هو الحرص على اللفظ الشرعي، كما يقول شارح الطحاوية رحمه الله: والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الإلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة وطريقتهم، فهم يعبرون عن الحقيقة في القضايا المختلفة بالمصطلحات الشرعية التي استعملت في الكتاب والسنة.
فمثلاً: قضية الفوقية.
فأهل السنة لا يقولون: التحيز ولا الجهة، ولا مثل هذه العبارات التي أحدثها المبتدعون، لكنهم يستعملون ما ورد في الشريعة ولا يحيدون عنه أبداً.
وكذلك لا نقول: هذا تطرف.
بل نقول: هذا غلو؛ لأن التطرف لفظ أو مصطلح محدث ليس من الألفاظ الشرعية، لذلك لا تجد في كلام أهل العلم لفظ التطرف إلا على سبيل الندرة في مواضع متفرقة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهذا يدل على أنه لا مانع من مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صح(75/15)
مفهوم الغلو عند المسلمين وعند الغربيين
هناك فرق بين مفهوم الغلو عند المسلمين وبين مفهوم الغلو عند الغربيين، فالغلو عند الغربيين يعبرون عنه بهذه الكلمة التي ذكرناها، أي: (الأصولية) فهم يطلقون على حركات الغلو والتطرف كلمة ( exstravagant) باللغة الإنجليزية، وهذا المصطلح يرمز لمذهب معين في الحياة الغربية، والعقلية الغربية بمجرد سماعها لهذا المصطلح تتذكر واقعاً مر بها، ولكي نفهم الاصطلاح الغربي لابد من أن ندرس معنى ذلك المصطلح، وتاريخ نشأة الجماعة النصرانية المسماة بمصطلح الأصولية، وحتى نفهم حقيقة كلمة الأصولية هذه فها نحن نقول: مجلس الأمن الدولي.
فهل صحيح من حيث النسبة أنه مجلس الأمن الدولي؟! إن مصطلح الأصولية في مفهوم عامة الناس في الغرب هو التمسك الحرفي بالإنجيل.
ويرى بعض الباحثين الغربيين أن هذا التعريف بعيد عن الدقة، وأنه إذا أريد تعريف الأصولية فلابد من استعراض مجموعة من الصفات التي لا يقرها معظم النصارى، وهي في الوقت نفسه صفات مشتركة بين فئات الأصوليين النصارى.
أبرز تلك الصفات -كما ذكرها هو وغيره من الباحثين- في الأصولية النصرانية ما يلي: أولاً: عصمة الإنجيل عند الأصوليين وتنزيهه من أي نوع من أنواع الخطأ، لا في العقيدة والأخلاق فحسب، بل وفي كل ما يتعلق بالتاريخ ومسائل الغيب.
ثانياً: أخذ الإنجيل بمعانيه الظاهرة بلا تأويل، أي: أخذه أخذاً حرفياً؛ لأنه يمثل كلمة الله مدونة بالحرف الواحد.
ثالثاً: الإيمان بكل ما ورد في الإنجيل يعد أساسياً بالنسبة لحياة المسيحية.
رابعاً: رفض الآراء والنظريات الحديثة في علم اللاهوت والدراسات التي تتضمن نقداً للإنجيل وما ينتج عن ذلك من استنباطات وأطروحات.
خامساً: رفض الآراء العلمية المناقضة لما في الإنجيل، كنظرية النشوء والارتقاء، حيث هدفت الأصولية إلى تفنيد كل المحاولات الرامية إلى استخدام المذاهب العلمية الحديثة في التعامل مع نصوص الإنجيل.
سادساً: رفض الفصل بين الكنيسة والدولة، والطلب إلى السياسيين أن يأخذوا قراراتهم حسبما يأمر الله.
سابعاً: القول بمبدأ الألفية، وملخصه أن العالم أشرف على النهاية، وأن ألفاً من السنين ستبدأ بعد هذه النهاية، وهي تتميز بالسلام ووفرة الخيرات وتكون بداية هذه السنين بنزول عيسى عليه السلام.
وبناء على هذا المبدأ فإنهم يؤيدون ما يسمى بمبادرة حرب النجوم؛ لأنها تمهد لتدمير العالم تحقيقاً لتلك النبوءات، وهذا ما ذكره ريجن وكان ينتصر له رسمياً، كان يقول: علينا أن نتعاون مع اليهود حتى يمهدوا لمعركة الملحمة.
ويسمونها موقعة (هرمجدون).
إذاً: الغربيون يعتقدون بهذه الحرب وأنها ستحصل بينهم وبين المسلمين.
وفي حرب الخليج عبروا عنها ببعض التصريحات، كقولهم: إننا ذهبنا لهذه الحرب المقدسة أو للتمهيد لها.
ثامناً: أن فهم الأصوليين هو الفهم الوحيد الصحيح على الإطلاق للديانة النصرانية، يقول أحد الباحثين الغربيين: إن الأصوليين يؤمنون إيماناً مطلقاً بأن فهمهم للدين هو المفهوم الصحيح والوحيد على الإطلاق.
تاسعاً: أن الأصوليين هم المسيحيون الحقيقيون، ويحبون أن يسموا أنفسهم بذلك.
وأصحاب المذهب نفسه يفخرون بهذا الوصف، هذا فيما يتعلق بأمور الاعتقاد.(75/16)
أبرز صفات الأصوليين العملية في الغرب
أولاً: اهتمامهم بالجانب السياسي.
يقول بعض الكتاب: هم يشبهون أصحاب الأحزاب السياسية التي تود الاستيلاء على الحكم والسلطان من طريق تكثير السواد والحصول على كثرة نيابية في الولايات التي تكثر فيها جموعهم، ولذلك دخل بعض الأصوليين انتخابات الحزب الجمهوري الأمريكي المهيئة للانتخابات الرئاسية الأمريكية، وفاز المرشح الأصولي في ولاية ميتشجن، فنال نصف أصوات المندوبين الحزبيين.
ومن أدلة اهتمامهم بالأمور السياسية أن بعض زعاماتهم البارزة تؤيد مرشحين معينين في الانتخابات الأمريكية.
ثانياً: يسعى الأصوليون إلى استنان الشرائع والقوانين الرسمية المؤيدة لمذهبهم والمفوضة لمخالفيهم.
ثالثاً: في السلوك الفردي يمتنع الأصوليون النصارى عن تناول بعض المحظورات، فأغلبهم لا يتعاطون الخمر، ولا يشربون الدخان، كما أنهم لا يشاركون في حفلات الرقص، ولا يذهبون إلى السينما أو المسرح، إذ إن ذلك كله محرم على المنتمين للتيار الأصولي النصراني، ولعلنا سمعنا عن طائفة موجودة في أمريكا اسمها: (طائفة الأمش) وهؤلاء أناس يعيشون على الفطرة تماماً، ويرفضون أي شيء مصنوع من الأشياء الحديثة.
أي: لا يستعملون الكهرباء، ولا الملابس مصنوعة، كذلك الطعام المعلب المصنوع، ويعيشون في مناطق ريفية، والنساء فيهم محجبات بحجاب شبه كامل، وكل منتجاتهم وكل أكلهم من الأشياء الطبيعية، مثل الأجبان والألبان ونحو هذه الأشياء، ولا يشترون أي شيء صناعي، حتى السيارات لا يستعملونها.(75/17)
دلالة مصطلح الأصولية عند الغرب
تعتبر كلمة (الأصولية) كلمة تدل على الازدراء في المجتمع الغربي، يقول أحد الباحثين الغربيين: إن كلمة (الأصولية) تعتبر كلمة غير محببة للنفس، فهي عبارة تقترن عادة بالعداء والازدراء، وتدل على ضيق الأفق، والتعصب الأعمى، والنزعة المناهضة للتقدم وانتشار العلم، والنزعة الطائفية.
ويؤكد أن ذلك كان سبباً في شعور الناس في الغرب بالحساسية والنفور إزاء المسمين بهذا الاسم.
ونظراً لهذه الخلفية عن مصطلح الأصولية يكره الأصوليون النصارى أن يطلق عليهم، ويفضلون أن يسموا بأحد هذين الاسمين: (الإنجيليين) أو (الإنجيليين المحافظين) وهذا ما ينفي صحته كثير من الباحثين الغربيين، يقول أحدهم: إن مصطلح (الأصولية) هو التعريف المعتاد والمتداول عموماً في اللغة الإنجليزية للظاهرة التي نحن بصددها.(75/18)
نشأة الأصولية النصرانية وانتقالها إلى البلاد الإسلامية
نشأت الأصولية النصرانية في القرن التاسع عشر الميلادي، حيث عقدت حلقات ومؤتمرات للبروتستانت المحافظين، وفي أحد المؤتمرات -وهو مؤتمر (نياجرا) - في سنة (1995م) ميلادية أعلنت أسس الحركة الأصولية، ولكن الكنائس البروتستانتية انشقت في أوائل القرن العشرين فصار أتباعها فريقين: الأصوليين، والعصرانيين، ثم في الفترة ما بين (1901م) إلى (1915م) نشر الأصوليون في أمريكا عدة كتابات بعنوان: (الأصوليات) واستعملت فيها عبارة (الأصوليين) للدلالة على العناصر المتمسكة بالتعاليم التقليدية، والأفكار المستوحاة من النصوص الإنجيلية، والاعتقاد بألوهية عيسى عليه السلام وعذرية ميلاده، وغير ذلك من الأفكار، واستطاعت هذه الجماعة استمالة أكثر من خمسين ألف شخص في بدايتها.
ثم انتقل مصطلح الأصولية إلى البلاد الإسلامية، حيث نقل الغربيون هذا المصطلح ووصفوا به طائفة من المسلمين، وهذا تقريباً من سنة (1395هـ) أو (1975م) حيث دخلت هذه الفترة بأحداث كثيرة منسوبة إلى من يعلنون الإسلام ويدعون إليه، واندلعت بعد هذه الفترة بسنوات الثورة المسماة بـ (الإيرانية) ووقعت -خاصة في المنظمات الشيعية في لبنان- أحداث كثيرة، وحصل من كثير من بعض المنظمات بعض الأشياء التي فيها تهديد لمصالح الغربيين، وبدأت هذه المذاهب أو هذه الجماعات تلتفت للمجتمع الغربي، وذلك لما بدأ الصدام مباشرة وبعض العمليات التي نفذت ضد الغربيين.
يقول رجل يدعى دكتور فثري كرايان: إن إطلاق اسم الأصوليين على العديد من الناس قد أصبح شائعاً في الكتابات السياسية والصحفية في السنوات الأخيرة.
ومع نهاية عام (1980م) التي هي حوالي (1400هـ) أو (1401هـ) كانت الصحف الأمريكية تنشر الكثير عما نسميه بالمد الأصولي، كما أن هذه الفترة شهدت تنامي الصحوة الإسلامية وظهور المظاهر الإسلامية كالحجاب واللحية والدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وهذا كله جعل الغرب يعيش في حالة من القلق، إلى درجة دفعت ببعض الباحثين إلى وصفها بأنها حالة مرضية.
كما أن مصطلح (التطرف) -وهو مقابل في الاستعمال لكلمة (الأصولية) - استعمل أول ما استعمل في إسرائيل عندما بدأ المسلمون يعون ذاتيتهم ويعودون للإسلام، ووعوا أن الإسلام هو مصدر العزة والنصر.
وهذا ليس عليه برهان واضح، غير أن هناك دراسة وثائقية نشرت عام (1406هـ) بعنوان (عداء اليهود للحركة الإسلامية) فيها بعض ما ينشر في الصحف اليهودية وأذيع على الإذاعات الإسرائيلية، تذكر الأخبار التخوف الكبير من المتمسكين بالإسلام ووصمهم جميعاً بالتطرف، وبعض هذه الأخبار والمقالات متقدم في تاريخه، مما يشعر بأن اليهود من أوائل من استخدم مصطلح التطرف، وأنهم الذين أسسوه لتلامذتهم، ومعروف دور إذاعة لندن الخبيث في نشر مصطلح (الأصولية) ومقصودهم به كل ملتزم بالإسلام.
وعلى أية حال فسواء نشره اليهود أم غيرهم فمن المؤكد أن انتقال هذا المصطلح إنما كان عبر الإعلام الغربي الذي يتحدث عما أسماه.
ظاهرة الأصولية الإسلامية، متأثراً في تسميته هذه بالخلفية الموجودة عند الغربيين عن ظاهرة الأصولية النصرانية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(75/19)
كشف مؤامرة تحريم النقاب [1]
ظهرت في الآونة الأخيرة فتاوى جريئة على أحكام الله تعالى، سالت بها أقلام مأجورة، وكتبتها أيادٍ مطمورة، ونشرتها صحف مأزورة، وهذا في زمن غاب فيه أهل العلم حيناً، وفُقدوا عن تبصير الأمة أحياناً، وهذا ما فتح الباب للمبتدعة والنعّاق لينثروا ما في جعبهم من سموم، ومن تلك الفتاوى فتوى المدعو إسماعيل منصور الذي تجرأ على الله تعالى، فأفتى بتحريم النقاب، وحسبنا الله ونعم الوكيل.(76/1)
جهل من يخرج عن أحكام الدين بدعوى الاجتهاد والتقليد
بسم الله الرحمن الرحيم ولي المتقين.
الحمد لله رب العالمين الذي لا يهدي كيد الخائنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قاصم ظهر الماكرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد ولد آدم أجمعين.
اللهم! صل وسلم عليه وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإنه في حال انفتاح ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (قبل الساعة سنوات خداعة يُصدّق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويُخون فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرويبضة.
قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة).
وما أخبر به صلى الله عليه وسلم في قوله: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا).
فبقى الذين إذا يقولوا يكذبوا ومضى الذين إذا يقولوا يصدقوا وفي حال انفتاح ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في قوله: (سيأتي قوم يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم) وفي حال غياب رءوس أهل العلم حيناً، وقعودهم عن تبصير الأمة أحياناً، وفي حال تداعي الأمم علينا من كل أُفق، إلى غير ذلك مما يعيشه المؤمنون في قالب هذه الأزمات، خصوصاً الأزمات الفكرية الغثائية الحاسة التي أفقدتهم توازنهم وزلزلت كيانهم، كل بقدر ما علّ من هذه الأسباب ونهل، فصار الدخَل، وسار الدخن، وضعفت البصيرة، ووجد أهل الأهواء والبدع مجالاً فسيحاً لنشر بدعهم ونثرها، حتى أصبحت في كف كل لاقط، فامتدت من المبتدعة الأعناق، وظهر الزيغ، وعاثوا في الأرض الفساد، وتجارت الأهواء بأقوام بعد أقوام، إلى غير ذلك من الويلات التي يتقلب المسلمون في حرارتها، ويتجرعون مرارتها، إذا بسرب من المبتدعة يحاولون اقتحام العقبة لتكثيف الأمية الدينية وزيادة غربة الإسلام بين أهله، وهذا ممن يدعي العلم، وهو عارٍ عنه، وقد تزّيا بزيّ أهله، وراج سوقه على بعض العوام بما يلفقه من الأكاذيب والأوهام، ورأى حينما خاطب هؤلاء الأغمار الرعاع أنه لا معارض له من أولئك، كما يتكلم المتكلم بين المقابر بما شاء من الكلام، حتى تخيل بذلك أنه من العلماء الأعلام، ولو بقيت بدعته حديثة الأدراج أو الأوراق لهان الأمر، ولكان من الخطأ الرد عليها وتنبيه المسلمين إليها؛ لأنه إشهار لفكرة تكون قد ماتت في مهدها، ولفت لأنظار المسلمين لينظروا في بيتها.
ادعى هذا الرجل دعوى لو قالها قائل لـ عمر لهاجت سِرَتُه، ولبادرت بالجواب درّته، دعوى لا تقوم على قدمي الحق، ولا على قدمي باطل وحق، دعوى لا تستحق النظر فيها فضلاً عن الاشتغال بالرد عليها، ولكن لأن لكل ساقطة لاقطة، ولأن له صديقاً حميماً أشرف في نصرة بدعته، وفتح له باب جريدته، ونشر فيها إفكه وضلالاته كان السكوت على مثل هذه الضلالة يعرض كثيراً من الأبرياء للانزلاق من ورائه والتأثر بأباطيله، فهذا كله أوجب الرد عليه، والكشف عن افتراءاته؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] وفي ذلك -أيضاً- فائدة للباهت المفتري نفسه، وهي احتمال أن يعود إلى رشده، وأيضاً- التقليل من أوزاره من جراء تقليل عدد المتورطين المضللين به، الذين سوف يحمل أوزارهم فوق أوزاره كما قال عز وجل: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13].
وقال عز وجل: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25].
وهناك كثير من الإخوة يرون أن مثل هذه الردود ينبغي أن توجّه جلساتها لنواحٍ علمية مجردة عن النقاش والأخذ والرد، مع أن غالب هؤلاء قد يلتبس عليهم الأمر نتيجة نشاط هؤلاء المبتدعة وإفساح وسائل الإعلام لهم، فلا يتبينون حقيقة ما اختلف فيه الناس فضلاً عن التمسك به والدعوة إليه، ومع ذلك كنا نتمنى أن لا نضيع الوقت في ذكر هذا، ولكن كثيراً ما تجري الرياح بما لا يشتهي الملاح.
أساء المبتدع وافترى، ونال من أخواتنا المحجبات ومن حجابهن، بل وصل الأمر إلى رميهن بالفاحشة، فعلى الأقل علينا أن ننتصر لهؤلاء الأخوات امتثالاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ يخذل امرأً مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال، وليس بخارج) وردغة الخبال -كما في بعض الروايات المفسرة- هي عصارة -أو عرق- أهل النار.
فردع المبتدع بالبيان واجب، خاصة أنه يتسلم مقام الاجتهاد والتجديد، حيث يدعي أنه مجتهد ومجدد، وبالتالي لا نأمل في أن ينفتح من الشر ما هو أكثر من ذلك، نعم تكون هذه الفقرات يجتمع بعضها إلى بعض فتسبب سيلاً من البدع والضلالات التي قد تتفتح عنها عبقريته، فردعه عن بدعته بالبيان واجب؛ حتى لا تتوالى الخطرات التي يزخرفها بدعوى الاجتهاد والتجديد، فتكون سيلاً على توالي الغفلات.
ولا نشك في أنه لو كان هناك سلطان شرعي يزع الله عز وجل به ما لا يزع بالقرآن لما كان لمثل هذا جزاء إلا التعزير والتأديب والحجر عليه، ومنعه من الكلام في الدين استصلاحاً للديانة وأحوال الجماعة؛ لأن الحجر على هؤلاء الجهال ألزم وأوجب من الحجر الصحي لاستصلاح الأبدان، والمبتدع إذا هُجر وزُجر بات كالثعلب في جحره، أما ترك تحسيسه ببدعته فهذا تزكية وتنشيط له وتغرير بالعامة؛ لأن العامي مشتق وصفه من العمى، فهو ينقاد لمن يقوده.
لقد تجانف هذا المبتدع للعدوان والإثم، وجمع من الترّهات ما يمج سماعه أولو الألباب السليمة والعقول المستقيمة، وسمّى أوراقه بـ (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب).
واشتملت هذه الصفحات الكاذبة الخاطئة على ألفاظ مبتدعة، وإشارات مخترعة، وأقوال مختلقة، ليست من أقوال أهل الإسلام، بل لم يقل بها أحد من الأئمة الأعلام، وإنما هي من أوضاع الصحافيين والمسمين بالمفسرين اللئام.
استتر -كما تعودنا من أمثاله- وراء دعوى الاجتهاد، فهو يقول عن نفسه بأنه حصل أكثر أسباب الاجتهاد، وبأنه يجدد للأمة أمر دينها! هذا كما هو في كتابه باللفظ.
وفي الحقيقة أن أخطر أمرين في هذا الزمان -ونحن في نفس الوقت أحوج الناس إليهما- التجديد والاجتهاد، تجديد الدين، وفتح باب الاجتهاد لأهله، وهاتان النافذتان في نفس الوقت هما أخطر النوافذ لغزو الإسلام وإفساد أهله؛ لأننا نرى كل من أراد أن يخترع شيئاً في الدين ويخرج على قواعد أهل العلم يحتمي وراء هاتين الدعوتين: التجديد والاجتهاد.
فهذا الترابي -مثلاً- في السودان من خلال نافذة التجديد والاجتهاد يخرج على الأمة بآراء وبدع وضلالات ما أنزل الله بها من سلطان، فيدعو إلى إسقاط حد الردّة عن المرتد، وإلغاء حد شارب الخمر، وإباحة زواج المسلمة من الكافر اليهودي أو النصراني، إلى غير ذلك من الدعاوى الواسعة بدعوى الاجتهاد وبدعوى التجديد.
فهذه الدعوى ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها من قبله العذاب؛ لأنها دعوة لهدم الإسلام والتفلّت من أحكامه ونظمه، والثورة على تراثنا الفقهي، لكن بدون مواجهة التيار الإسلامي مباشرة ومعاداته، وإنما بالمشي معه تحت ستار الإسلام، لكن بلبوس جديد، هؤلاء -حقاً- هم قطاع الطريق على هذه الأمة في سيرها إلى الله تبارك وتعالى على الصراط المستقيم، فالله طليبهم وهو حسيبهم.
كان الأولى -إن كان هذا الرجل مخلصاً للإسلام وأهله- أن يتقي الله في شتات الأمة وغرس الشقاق في أنفسهم ونشر البلبلة وقد تكسرت الرماح عليهم من كل جانب، فإذا به يختار ميداناً محبباً لأعداء الصحوة الإسلامية والكائدين لرجالها ونسائها، ولذا طار به أهل الفتن والأهواء، ثم إن أجواء العصر الذي نعيشه على أهبة الاستعداد لاحتضان عالم الشقاق، فتحمل له العَلَم الخفاق لنشر صيته في الآفاق، فيغتر بذلك أثيرُ الحظ الزائل، وما زاد الأنصار بوقاً ينفح به العدو الصائل.
أثارت هذه البدعة عاطفة من الاستحسان والإعجاب في دوائر يتفق الجميع على الريبة في كل ما تستحسن، والشك في كل ما تصفق له وتهلل، كما قيل: قل لي من يصفق لك أقل لك من أنت.
وصارت مقالاته تكأة لاستعداء الأعداء على حكم الله الشرعي في هذه القضية، فمن اعتاد على تبسيط ما لا يمكن تبسيطه سوف يكون من الصعب عليه إدراك خطر هذه الدعوة إلى السفور باعتباره واجباً شرعياً، الأمر الذي لم يجرؤ عليه حتى قاسم أمين في ذروة ضلاله، حيث لم يتجرأ على هذه الدعوى العريضة الواسعة من أن النقاب محرم، وأن المنقبة مجرمة وآثمة، وتستحق النار، وأن المتبرجة أقرب إلى الله وأقرب إلى سواء السبيل، لم يجرؤ أحد على الإطلاق من قبل أن يتفوه بمثل هذه الدعوى، وما من شك أن فتح هذا الباب من جديد هو محاولة لإحداث نكسة في الصحوة الإسلامية حتى ترجع إلى الوراء خطوات وخطوات.
فنستعين الله تبارك وتعالى في كشف بدعة هذا الرجل، وإن كنت لست أهلاً لذلك، لكن الضرورة قد تُلجئ الإنسان إلى التيمم إذا لم يجد الماء، كما يقول أبو علي البصير: لعمر أبيك ما نُسب المعلّى إلى كرمٍ وفي الدنيا كريمُ ولكن البلاد إذا اقشعرّت وصوّح نبتها رُعي الهشيمُ(76/2)
كشف المبتدع ومشروعية الرد عليه إذا أظهر بدعته
قال بعض العلماء: القدحُ ليس بغيبةٍ في ستةٍ متظلّمٍ ومُعّرّفٍ ومُحذّرِ ومجاهرٍ فسقاً ومستفتٍ ومَن طلبَ الإعانةَ في إزالةِ منكرِ وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يكره التصدي لمجادلة المبتدعين، وقد حكى عنه الغزالي في كتابه المسمى: (المنقذ) أنه أنكر على الحارث المحاسبي تصنيفه في الرد على المعتزلة، فقال الحارث: الرد على البدعة فرض.
فقال أحمد: نعم، ولكن حكيتَ شبهتهم أولاً ثم أجبت عنها، فلا يُؤمَن أن يطالع الشبهة من تَعْلق بفهمه ولا يلتفت إلى الجواب، أو ينظر في الجواب ولا يفهم كنهه.
قال الغزالي: وما ذكره أحمد حق، ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر، أما إذا انتشرت فالجواب عنها واجب، ولا يمكن الجواب إلا بعد الحكاية.
نقول قبل أن ندخل إلى الموضوع: إن صاحب الحق المتفهم لحقه، والمحيط بأطرافه لا يبالي بالمخالفين وإن كثروا أو ضخُمت ألقابهم، ولا يبالي بكل ما يولدون من شبهات وإن بدت كبيرة قوية، ولا يجعل مناط الحق بمركز ولا لقب ولا شهرة؛ لأنه يعلم أن من سنن الله في الاجتماع وفي الكون أنه عز وجل يسلّط الأضداد بعضها على بعض، فيسلط الباطل على الحق، والضلالة على الهدى، والخطأ على الصواب، والجاهل على العالم، والسفيه على الحليم، والأحمق على الكريم، إن هذه ضرورة اجتماعية تخلّص الحق من شوائب الباطل، والصواب من متاهات الأخطاء، فيمتاز الحق بأهله، والباطل بأهله، مثل تلك الضرورة الكونية التي يسلط الله فيها الليل على النهار ليخرج الفجر ناصعاً من سواد الليل.
إن من المكابرة والعناد أن تقول بخلاف ما أجمع عليه أهل العلم بعد ثبوت ذلك بالسنة الصحيحة ومشاهدة إقرار أئمة الأمة وصلحائها وأفاضلها في كل زمان ومكان من عهد نزول الوحي إلى اليوم، وإن إنكار هذا الجاهل المبتدع لأمر مُجْمَع على مشروعيته لا قيمة له، وليس من المعقول أن يُكذب الصحابة والسلف ويُصدق هذا الفاذ الشاذ عن الجماعة، ثم إنك إذا نظرت في كلامه ترى أنه قضى -تقريباً- نصف الكتاب في مدح نفسه، والثناء على منهجه، وفي الكلام عن الأدلة، حتى أوهم الناس أنه على شيء من العلم أو أنه يحترم الأدلة، وهو أكثر ما يكون بعداً عن الأدلة، وكذلك في حواره الآن على صفحات الجريدة يكثر من الكلام في العمومات ويختبئ وراءها، فيذكر الأدلة العامة؛ لأنه ليس عنده قضية محددة ولا دليل محدد، ويتكلم عن احترام العلماء وأهمية العلم، وتسفيه الجهلاء، ويقول: لا نأخذ الحق من الرجال.
ثم يصول ويفتي ويعيد وكأنه على حق، حتى يغطي ضلاله وباطله وبدعته.
ونقول: نعم الحق لا يُعرف بالرجال، لكن نقول في نفس الوقت -كما قال الشاطبي رحمه الله تعالى-: إذا كان الحق هو المعتبر دون الرجال فالحق -أيضاً- لا يعرف دون وسائطهم، بل بهم يتوصل إليه، وهم الأدلاّء عليه.
ويقول بعض العلماء: الانفراد عن أهل العلم برأي في الشرع، والقول بما لم يقل أحد فيه ينبئان عن خلل في العقل.
وعن زفر بن الهذيل أنه قال: إني لا أناظر أحداً حتى يسكت، بل أناظره حتى يُجنّ.
قالوا: كيف ذلك؟! قال: يقول بما لم يقل به أحد.
أي: أن يقول الإنسان بما لم يقله أحد قبله من أهل العلم.
وأرى من الواجب الديني أن أوصيه إن كانت فيه مسكة من العقل وبقية صالحة للتعقل أن يترك الكتابة في الفقه والحديث؛ لأنه استبان من كتاباته ما يقضي عليه قضاء لا مرد له أنهما ليسا من صناعته، والعاقل يترك ما لا يحسنه.
وقد قال الشاعر العربي: خلق الله للحروب رجالاً ورجالاً لقصعة وثريدِ والغلط فيهما غلط في صميم الدين، والطيش فيهما هلاك في الدنيا والآخرة.
ويقول أبو عمرو بن العلاء البصري -وهو أحد القراء السبعة-: ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال.
ويقول الشاطبي رحمه الله تعالى: قلّما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد غلطاً أو مغالطة.
وهذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله ورضي عن أبيه وجدّه يقول: ليس ما لا يعرف من العلم، إنما العلم ما عرف وتواطأت عليه الألسن.
ويقول إبراهيم بن أبي عبلة رحمه الله: من حمل شاذّ العلم حمل شراً كثيراً.
ويقول الحافظ ابن حجر: إذا تكلم المرء في غير فنّه أتى بهذه العجائب.
وذكر أبو عمر بن عبد البر عن مالك رحمه الله قال: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة -شيخ الإمام مالك - فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه.
فقال: لا، ولكن استُفتي من لا علم عنده، وظهر في الإسلام أمر عظيم.
ثم قال ربيعة: ولبعض من يُفتي هاهنا أحق بالحبس من السّرّاق.
أي: أحق بأن يحبس ويسجن من اللصوص.
وقال الحافظ ابن حزم رحمه الله تعالى: لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدُّخَلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويُفسدون ويقدّرون أنهم يُصلحون.
وقال القاسم بن محمد: لأنْ يعيش الرجل جاهلاً خير من أن يقول على الله ما لا يعلم.
وقال الأمير شكيب أرسلان: ومن أسباب تأخر المسلمين: العلم الناقص، والذي هو أشد خطراً من الجهل البسيط.
لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشداً عالماً أطاعه ولم يتفلسف عليه، وأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري ولا يقتنع بأنه لا يدري، وكما قيل: ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلائكم بنصف مجنون.
وأقول: ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلائكم بشبه عالم.(76/3)
كشف مؤامرة تحريم النقاب [2]
إن من المتفق عليه بين الصحابة أجمعين، وبين جميع علماء الدين، أن النقاب مشروع بأمر رب العالمين، ولم يؤثر عن أحد من علماء الدين -لا من الفقهاء ولا من المحدثين- أنه صرح بكراهته فضلاً عن القول بتحريمه.
ومن قال بالتحريم فقد أسقط نفسه من منزلة التكريم، واتبع الظن والتوهم؛ إذ إنه جاء الأمة الإسلامية بما لم تعهده ولم تسمع به، فظن أنه قد أتى بما لم تستطعه الأوائل، ولم يعلم بأنه من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.(77/1)
مؤامرة تحريم النقاب والرد عليها
قال بعض العلماء: القدحُ ليس بغيبةٍ في ستةٍ متظلّمٍ ومُعّرّفٍ ومُحذّرِ ومجاهرٍ فسقاً ومستفتٍ ومَن طلبَ الإعانةَ في إزالةِ منكرِ وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يكره التصدي لمجادلة المبتدعين، وقد حكى عنه الغزالي في كتابه المسمى: (المنقذ) أنه أنكر على الحارث المحاسبي تصنيفه في الرد على المعتزلة، فقال الحارث: الرد على البدعة فرض.
فقال أحمد: نعم، ولكن حكيتَ شبهتهم أولاً ثم أجبت عنها، فلا يُؤمَن أن يطالع الشبهة من تَعْلق بفهمه ولا يلتفت إلى الجواب، أو ينظر في الجواب ولا يفهم كنهه.
قال الغزالي: وما ذكره أحمد حق، ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر، أما إذا انتشرت فالجواب عنها واجب، ولا يمكن الجواب إلا بعد الحكاية.
نقول قبل أن ندخل إلى الموضوع: إن صاحب الحق المتفهم لحقه، والمحيط بأطرافه لا يبالي بالمخالفين وإن كثروا أو ضخُمت ألقابهم، ولا يبالي بكل ما يولدون من شبهات وإن بدت كبيرة قوية، ولا يجعل مناط الحق بمركز ولا لقب ولا شهرة؛ لأنه يعلم أن من سنن الله في الاجتماع وفي الكون أنه عز وجل يسلّط الأضداد بعضها على بعض، فيسلط الباطل على الحق، والضلالة على الهدى، والخطأ على الصواب، والجاهل على العالم، والسفيه على الحليم، والأحمق على الكريم، إن هذه ضرورة اجتماعية تخلّص الحق من شوائب الباطل، والصواب من متاهات الأخطاء، فيمتاز الحق بأهله، والباطل بأهله، مثل تلك الضرورة الكونية التي يسلط الله فيها الليل على النهار ليخرج الفجر ناصعاً من سواد الليل.
إن من المكابرة والعناد أن تقول بخلاف ما أجمع عليه أهل العلم بعد ثبوت ذلك بالسنة الصحيحة ومشاهدة إقرار أئمة الأمة وصلحائها وأفاضلها في كل زمان ومكان من عهد نزول الوحي إلى اليوم، وإن إنكار هذا الجاهل المبتدع لأمر مُجْمَع على مشروعيته لا قيمة له، وليس من المعقول أن يُكذب الصحابة والسلف ويُصدق هذا الفاذ الشاذ عن الجماعة، ثم إنك إذا نظرت في كلامه ترى أنه قضى -تقريباً- نصف الكتاب في مدح نفسه، والثناء على منهجه، وفي الكلام عن الأدلة، حتى أوهم الناس أنه على شيء من العلم أو أنه يحترم الأدلة، وهو أكثر ما يكون بعداً عن الأدلة، وكذلك في حواره الآن على صفحات الجريدة يكثر من الكلام في العمومات ويختبئ وراءها، فيذكر الأدلة العامة؛ لأنه ليس عنده قضية محددة ولا دليل محدد، ويتكلم عن احترام العلماء وأهمية العلم، وتسفيه الجهلاء، ويقول: لا نأخذ الحق من الرجال.
ثم يصول ويفتي ويعيد وكأنه على حق، حتى يغطي ضلاله وباطله وبدعته.
ونقول: نعم الحق لا يُعرف بالرجال، لكن نقول في نفس الوقت -كما قال الشاطبي رحمه الله تعالى-: إذا كان الحق هو المعتبر دون الرجال فالحق -أيضاً- لا يعرف دون وسائطهم، بل بهم يتوصل إليه، وهم الأدلاّء عليه.
ويقول بعض العلماء: الانفراد عن أهل العلم برأي في الشرع، والقول بما لم يقل أحد فيه ينبئان عن خلل في العقل.
وعن زفر بن الهذيل أنه قال: إني لا أناظر أحداً حتى يسكت، بل أناظره حتى يُجنّ.
قالوا: كيف ذلك؟! قال: يقول بما لم يقل به أحد.
أي: أن يقول الإنسان بما لم يقله أحد قبله من أهل العلم.
وأرى من الواجب الديني أن أوصيه إن كانت فيه مسكة من العقل وبقية صالحة للتعقل أن يترك الكتابة في الفقه والحديث؛ لأنه استبان من كتاباته ما يقضي عليه قضاء لا مرد له أنهما ليسا من صناعته، والعاقل يترك ما لا يحسنه.
وقد قال الشاعر العربي: خلق الله للحروب رجالاً ورجالاً لقصعة وثريدِ والغلط فيهما غلط في صميم الدين، والطيش فيهما هلاك في الدنيا والآخرة.
ويقول أبو عمرو بن العلاء البصري -وهو أحد القراء السبعة-: ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال.
ويقول الشاطبي رحمه الله تعالى: قلّما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد غلطاً أو مغالطة.
وهذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله ورضي عن أبيه وجدّه يقول: ليس ما لا يعرف من العلم، إنما العلم ما عرف وتواطأت عليه الألسن.
ويقول إبراهيم بن أبي عبلة رحمه الله: من حمل شاذّ العلم حمل شراً كثيراً.
ويقول الحافظ ابن حجر: إذا تكلم المرء في غير فنّه أتى بهذه العجائب.
وذكر أبو عمر بن عبد البر عن مالك رحمه الله قال: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة -شيخ الإمام مالك - فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه.
فقال: لا، ولكن استُفتي من لا علم عنده، وظهر في الإسلام أمر عظيم.
ثم قال ربيعة: ولبعض من يُفتي هاهنا أحق بالحبس من السّرّاق.
أي: أحق بأن يحبس ويسجن من اللصوص.
وقال الحافظ ابن حزم رحمه الله تعالى: لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدُّخَلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويُفسدون ويقدّرون أنهم يُصلحون.
وقال القاسم بن محمد: لأنْ يعيش الرجل جاهلاً خير من أن يقول على الله ما لا يعلم.
وقال الأمير شكيب أرسلان: ومن أسباب تأخر المسلمين: العلم الناقص، والذي هو أشد خطراً من الجهل البسيط.
لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشداً عالماً أطاعه ولم يتفلسف عليه، وأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري ولا يقتنع بأنه لا يدري، وكما قيل: ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلائكم بنصف مجنون.
وأقول: ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلائكم بشبه عالم.(77/2)
عدوان إسماعيل منصور في جريدة النور وجراءته على القول على الله بغير علم
في أول شعبان سنة 1409من الهجرة نظم الحمزة دعبس -صاحب جريدة النور- تظاهرة إعلامية، وفجر هذه القنبلة في ساحة الفكر، وبدأها بقوله: وددت لو أن العاملين في الحقل الإسلامي لا يُقدِمون على عمل من الأعمال في الحياة العامة -في مصر وغيرها- قبل أن يبحثوا عن هذا العمل في الكتاب والسنة، ولا يجوز لواحد منهم أن يتقدم خطوة واحدة في تنفيذه قبل ذلك، فإن وجد هذه الخطوة في كتاب الله أو في السنة المشرفة أو فيهما معاً خَطَاها، وإن لم يجد هذه الخطوة فيهما فلا يخطوها، وفوق ذلك فإن القرآن والسنة ليسا من الكلأ المباح يبيحه لنفسه كل واحد من الناس، ولكن ذلك مقصور على أهل العلم والفقه؛ لأنهم يملكون وسائل المعرفة فيقدمون، وأما غيرهم فلا يملكونها، ولا يجوز لهم من ثَمّ أن يقتحموها، ومن يفعل ذلك وهو لا يملك هذه الوسائل فقد ظلم نفسه، وعرّض نفسه ومن يتبعه للهلكة.
ثم أخذ يتكلم على مشكلة النقاب، وأنها أخذت حجماً متزايداً في الحقل الإسلامي في الآونة الأخيرة، حتى بلغ أمرها ساحات المحاكم، وأدت إلى كثير من الاضطرابات، واختلف الناس في حكم النقاب، ثم ذكر في خلاصة الكلام أنه طول عمره يعلم أن النقاب إما واجب أو مستحب، ثم قال: وقد زارني أخي في الله الذي أحبه في الله -وكان الأَولى أن يبغضه في الله لبدعته وضلاله- الدكتور إسماعيل منصور رئيس تخصصات الطب الشرعي والسموم.
كأنه ظن أن كلمة طب شرعي تعني أنه درس علماً شرعياً، فما هي مؤهلاته التي بهرته وجعلته -ما بين طرفة عين وانتباهتها- ينقلب رأساً على عقب، فيرى الواجب حراماً! لمجرد أنه عَلِمَ أنه يرأس تخصصات الطب الشرعي والسموم؟! نعم! يحق له أن يباهي بهذه الشهادة ويتيه بها على أقرانه في كليات الطب البيطري، وإن كانت الشهادة الأخرى التي هي ليسانس الآداب في الفلسفة فليفتخر بها في كلية الآداب في قسم الفلسفة، ثم الشهادة الأخرى -وهي شهادة مجروحة في الحقيقة- دراسات في القانون، حيث إنه حاصل على رسالة الحقوق من جامعة القاهرة، وله دراسة في قسم الدكتوراة في هيئة القانون العام، وهذه ليفتخر بها في ساحات المحاكم التي تحكم بغير ما أنزل الله أو في كليات الحقوق.
لكن حتى الآن ليس هناك أي شيء يشهد له بأن له أن يتكلم في العلم الشرعي بهذه الطريقة الجريئة، مع أننا لسنا نقول: لا يتكلم في الشرع إلا من كان معه شهادات، فإن تكلم بحق فأهلاً به ومرحباً، ولكن -وحتى الآن- كل هذا لا يفيدنا بشيء.
ثم قال: ولم يكتف بذلك -يعني: لم يكتفِ بالطب الشرعي البيطري، والطب الشرعي والسموم، والحقوق، والآداب (الفلسفة) - حتى حصل على إجازة في تجويد القرآن، ثم راح ينفق علمه هذا بلا مقابل في الدعوة الإسلامية -وظل يمدحه في نشاطه في الدعوة، ثم يقول: وأنا لا أزكيه على الله!(77/3)
تحريم إسماعيل منصور للنقاب واختيار عنوان البحث
ثم قال: وقد سعدت بزيارته سعادة بالغة؛ إذ لا يتحدث في أي مسألة من مسائل الدنيا والآخرة إلا رد أقواله رداً أصولياً إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مع أن الكتاب لا توجد فيه صفحة واحدة فيها عزو لأحد من أهل العلم، ولو فتحت أي صفحة لا تجد فيها أي عزو في الهوامش إلى أي مصدر من المصادر التي ينقل منها، وبهذا يتبين أن الرجل لا يعرف شيئاً اسمه التأصيل العلمي.
ثم قال: ويحدثك عن صحة الحديث أو حسنه أو ضعفه، ويملك عليك شوارد حسك، فإذا استفهمت أجاب ودلل على كل كلمة في إجابته، وذلك هو النمط الذي يجب أن يكون في مجال العمل الإسلامي، لا يركن إلى سقاطيف من كتب، ويدعي بها علماً.
ثم يقول: زارني الدكتور إسماعيل منصور، وتبادلنا أطراف الحديث، وفوجئت بحكم جديد علي في النقاب إذ قال لي: إن حكم النقاب (حرام!!) وقد دهشت لهذا الحكم؛ فإني لم أسمعه من قبل، بل سمعت ما يناقضه، وقال لي: إنه اهتم بهذا الأمر اهتماماً بالغاً، وأعدّ حوله بحثاً، ورجوته رجاء حاراً أن يوافيني بهذا البحث، وفي الأسبوع الماضي أنجز وعده، وأحضر بحثاً مستفيضاً، وقعد يعرض البحث باختصار، وأعلن الدكتور إسماعيل منصور أن توجيه الأحكام الشرعية بدعوى الحماس أمر خطير في الدين؛ لأنه يفضي إلى القضاء على شرف هذه الأمة التي ما قامت إلا على الدليل والبرهان.
ويظل يسرد ويبدئ ويعيد كلاماً في الأدلة والبرهان، واتباع الكتاب والسنة، ونقض من يحيد عنهما، وعادته في ذلك التهويش والتهويل؛ ليطلق هذه النصوص كستار من دخان يختبئ الزحف من ورائه.
يقول: وانتهى إلى أن وجه المرأة ليس بعورة بأدلة من القرآن كأننا نسمعها لأول مرة.
هذا ذنبك أنت أيها الصحفي؛ كونك في مثل هذا الموقع الحساس -مسئول عن جريدة- إذ كان ينبغي أن تعرض مثل هذا البحث على أهل العلم ليقولوا فيه قولتهم، فإذا كان صالحاً نشرته، وإلا فلا تفعل.
يقول: فقلت للدكتور إسماعيل منصور: وإلامَ انتهيت في هذا البحث؟ قال: إنه ليس واجباً ولا مندوباً ولا مباحاً وإنما هو تكلف وحرام!! فقلت له: إن نشر هذا البحث على أجزاء يقتضي وقتاً طويلاً.
وفتح له باباً من أبواب الجريدة فوراً، وفي طرفة عين تحول الواجب الذي يعتقده واجباً أو مستحباً إلى حرام، وسمح له بالنشر فوراً! لو أتاك رجل لبس الحق بالباطل، وبحث وفق الأدلة -كما يزعمون- وأفتى بوجوب شرب الخمر، ووضع بحثاً له عنوان، بحيث يكون العنوان جميل ومسجوع مثل (إيضاح الأمر في وجوب شرب الخمر) هل تقول له: أنا أول مرة أسمع هذه الفتوى.
ثم تنشر له البحث فوراً، وتجعله باباً ثابتاً تفرضه على القراء لمدة تسعة أو عشرة أشهر؟!! ما أسوأ ظن هذا الصحفي بعقول القراء!! هل كل الناس مغفلين هكذا؟! قد تستطيع خداع كل الناس بعض الوقت، أو بعض الناس كل الوقت، لكن أن تخدع كل الناس كل الوقت فلن يستطيع أن يفعل هذا أحد.
فإذاً: هذه المسألة ما هي إلا قنبلة إعلامية فجّرت حتى تنفق الجريدة أكثر، أو حتى تلهي الناس عن واقعهم الأليم، وإلا فماذا؟!! يقول: فقلت له: ويحسن أن نختار له عنواناً.
ليست المشكلة في الصحف الآن أن تبحث كيف صار الواجب حراماً؟! لكن المشكلة عندهم الآن: ما هو أنسب عنوان لهذا البحث القيم؟! يقول: واقترحتُ أن نطلق على هذا الباب اسم: تأثيم وعقاب من تتكلف النقاب.
انظر إلى صحبة السوء التي كانت تجتمع في هذا الوقت وتتآمر لاختيار عنوان للبحث، وهؤلاء هم الأُمناء جداً!! وجعلوا عنواناً بخط عريض في الجريدة: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب!!) ولأن مستوى البحث في بعض الأشياء يصعب على عوام الناس هضمه، فيكفي أنك تظل لمدة عشرة أشهر تنشر عنواناً عريضاً في الجريدة: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) وهذا التكرار أسلوب من أساليب الصحافة المغرضة، وهي قاعدة: (ما تكرر تقرر) فكثرة التكرار يحفّظ الجماهير والعوام هذه العناوين.
تمشي الآن الأخوات المنقبات في بعض الأماكن، فيراهن العوام الجهلة -لأنهم بيد من يقودهم- فإذا بهم يعيّرون الأخوات وينكرون عليهن، ويقولون: النقاب هذا حرام!! الآن العوام يُفتون في الشوارع؛ بسبب هذا المبتدع، وبعض الخطباء الجهلة انبهر أيضاً بالكلام، وخصص خطب الجمعة لمهاجمة النقاب! سبحان الله ما أشد غربة الإسلام في أهله!! وأول عنوان كانوا قد اختاروه لهذا البحث: (تأثيم وعقاب من تتكلف النقاب) فاعترض أحدهم قائلاً: حتى من ارتدته بغير تكلف فهي آثمة! فاختار صديق أن يكون اسمه: (النقاب تكلف معاب يستوجب الإثم والعقاب!!) فقلت -أي: الصحفي-: إن كلمة معاب فيها تكلف واصطناع، فذكر ثالث عنوان: (القول بتعميم النقاب تكلف يستوجب العقاب) فقال الدكتور إسماعيل منصور: هذا تأثيم لمن يقول بذلك، وهو حق! غير أن البحث متوجه لاتخاذ النقاب رداءً.
فهتف الأخير: وجدتها! وانتبهنا إليه، فقال: (القول في النقاب أن من تركه يثاب) فقلت: إن هذا يصح في الحرام والمكروه، وقد انتهى الدكتور إسماعيل منصور إلى أنه حرام.
قلتُ: إذاً نسميه: (حكم النقاب في الإسلام أن ارتداءه حرام) قال: نقترح غيرها ونوازن بينها.
فقال صديقنا: (فصل الخطاب بتحريم النقاب) فقال الدكتور إسماعيل منصور: أنا رأيي صحيح! ولكنه يحتمل الخطأ -مع أنه يرى أن رأيه لا يحتمل الخطأ كما سيأتي- ولذا فلا أسميه فصل الخطاب.
كأنه يريد هنا أن يتشبه بالأئمة في تورعهم عن الفتيا بغير علم.
فقال: لو أطلقنا عليه: (إرشاد الأصحاب إلى تحريم النقاب) أو: (تبصير الأصحاب في تحريم النقاب) ثم رجع إلى نفسه وقال: ولكن الإرشاد والتبصير قد يكون فيه نوع من الاستعلاء، وأعوذ بالله منه!! ثم قال: لو أطلقنا عليه: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) لكان أجدر؛ لأننا أُمرنا بالتذكير في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10] وانشرحت صدورنا لهذا التعبير، واتخذناه عنواناً لهذه السلسلة من المقالات الشيقة التي فيها من العلم الكثير، وفيها من الفائدة ما هو غزير، وأمتع ما في هذه السلسلة هو طريقة البحث، والمثابرة على الحق! والوقوف في وجه الموجة وإن كانت عالية، وفي مقابلة القوة وإن كانت عاتية، وعدم الخوف من الاتهام بالخروج على المألوف، ومن بعض الأشخاص الذين رفعوا أنفسهم أو رفعهم الناس إلى مرتبة التخويف، واعتبار كلامهم بمنزلة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.(77/4)
خيانة صاحب الجريدة وعبثه بالرسائل التي ردت على إسماعيل منصور
يقول الحمزة دعبس: فقلت له: أنا سأنشر الردود التي تردّ عليك كلها.
فقال لي: هذا حق مصون، وأنا أرحّب بها كل الترحيب، ولكن أجّلها إلى نهاية المقالات.
ومن المعلوم أن أي جريدة -غالباً- حينما تنقل بعض المقالات تقول: المقالات أو الآراء المنشورة في هذه المجلة على مسئولية أصحابها، والجريدة غير مسئولة عنها.
حتى لو كانت حقاً واضحاً، فكيف بمثل هذه الفرية وهذه البدعة والضلالة؟! وأنت أيها الصحفي انحزت بكل قوة إلى هذا الرأي الذي لم يسبق لك دراسته، ثم لم تعرضه على أهل العلم قبل أن تنشره، ثم فرضته بالقوة أيضاً خلال عشرة أشهر أو ما يقارب ذلك فرضاً، وحجبت كل الردود التي وصلت إليك، هل هذا السلوك فيه تجرد وفيه إنصاف أم لأنك أنت في يدك المحبس تتحكم كما تشاء وكما تهوى؟! أهذه هي الأمانة؟! ومن العدل أن كل ما تنشره من مقالات، فعليك أن تنشر الردود عليها أو تعرضها على العلماء ليقولوا قولتهم، أما أنك تنشر خلال هذه المدة الطويلة، وتحفّظ الناس: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) لتتخذ من أساليب الصحافة المغرضة وسيلة لزعزعة هذا الحكم الشرعي فحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم بعد أن انتهت المقالات، لم ينشر الرجل رداً واحداً من الردود التي وصلت، وأخفى الردود، وإذا بأحداث العراق والكويت تفجر القضية من جديد، وحوار مع الأصحاب حول موضوع تحريم النقاب، ومن جديد يفجّر القضية، وينشر صورة قبيحة لامرأة محجبة لتشويه الحجاب، وهذا المسلك السيئ لا يسلكه المنصفون أو أهل العلم والفضل، إنما يسلكه الصحفيون في وسائلهم للتشنيع على الأخوات أو على المسلمين عموماً في طريقة النشر لتلك الصور التي تثير الاستفزاز، حيث إن فيها نوعاً من التنفير من صورة المنقبات، وهذا من أساليب الصحافة المغرضة.
وهذا الحمزة دعبس كان قد أخذ على نفسه العهد بعد العهد أنه سينشر الردود حتى يسكت الأصوات المعارضة، فإذا به فجأة يحيل جميع الردود التي وصلته إلى الخصم ليكون هو القاضي! ويقول له: نريد أن ترد على هذا الكلام الذي وصلنا.
انظر إلى هذا التمادي في الظلم والتجنيّ، فبعد كل هذا العدوان يعطيه في الأخير جميع الردود ويعرضها من وجهة نظره هو، ثم يقوم الدكتور بالبتر والتحريف للكلام، ويخفي ما يمكن أن يدينه أو يهز صورته.
كانت أول مقالة: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) في أول شعبان عام (1409) هجرية كما ذكرنا، وفي الأسبوع المقبل بعدها مباشرة كتب الحمزة يقول: اعتذار: قدمنا في العدد الماضي سلسلة من المقالات للدكتور: إسماعيل منصور في التذكير بتحريم النقاب، وقد اتصل بي العديد من الزملاء والأصدقاء، وأسدوا إلي نصيحة بعدم نشر هذه السلسلة؛ لأن النقاب في مصر من الندرة الشديدة بمكان، فلا تكاد المنقبات يمثّلن شيئاً يُذكر، أو نسبة يُعتّد بها في المجتمع المصري.
وهذا كلام تشم منه رائحة الازدراء والاحتقار.
ثم يقول: هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: فإن العمل الإسلامي يعاني من الفض على بعض أعضائه الذين يتعرضون للتعذيب، وهم في صدام مع الشرطة وغيرها، ولسنا بحاجة إلى أن نحملهم هموم جديدة، تتوالى عليهم من الأصحاب، وتكفيهم شرور السلطة، وتسلط الشرطة، وهجوم الكُتّاب العلمانين من النصارى والشيوعيين.
فكأن هذا منه رحمة ورأفة بالعمل الإسلامي؛ لأنه يعلم أن العمل الإسلامي القائم على العلم، والأصالة، واتباع الدليل، واحترام الشرع، هم الذين يلتزمون بهذا الحكم، فهذا لا يجهله، فيقول: لا نريد أن نزيد همومهم، ويكفيهم ما لاقوا من المعاناة، ومن المحن، فلا ننضم نحن أيضاً عليهم!! يقول: وقد استمعت إلى النصيحة، وذهبت أوازن بين مزايا النشر وعيوبه، واستشرت من حولي، فأيدوا وجهة نظر الناصحين، وتدبرت حالي مليّاً، فوجدت أن حكم الإسلام واجب التبيان! وأن السكوت عنه مع العلم به قد يكون فيه عصيان! سبحان الله! يُقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ ولكني سمعت أصواتاً عديدة تهتف: الخلاف شر.
فاكتفيت بإثبات رأي الدكتور إسماعيل منصور الذي أكنّ له كل تقدير واحترام، والذي انتهى فيه بالدليل والبرهان إلى أن النقاب تكلّف وحرام، وأذعنت للنصيحة عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لينوا لإخوانكم) وأنا مقدّر كل التقدير لأدلة الدكتور إسماعيل منصور وله أقدم الاعتذار.
إذاً: الاعتذار موجّه إلى إسماعيل منصور!! ولم يعتذر أنه انحاز مسبقاً بكل قوة إلى هذا الرأي الباطل، ولم يعتذر عن هذه الديباجة المثيرة التي زيّن بها هذا الباطل وزخرفه، ولم يعتذر للأخوات، بل يزدري المنقبات ويحتقرهن، ويقول: هن ندرة! ولا يشكلن أي ثقل في المجتمع! إذاً: ما الذي جعلك تعدل عن هذه الحكمة وهذا التعقل؟! وما الذي جعلك تعدل عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لينوا لإخوانكم)؟! فهذا عذر أقبح من ذنب.
وكان ينبغي ألا يوجه الاعتذار إلى ذلك المبتدع، كان ينبغي أن يعتذر إلى ملايين المسلمين الغيورين على دينهم، والذين آذاهم بما فعل، وإلى آلاف النساء المنقبات اللاتي هَمَزهن ولَمَزهن.
فالشاهد: أنه هنا أبرم أمر رشد لم يلبث أن نقضه في العدد الثاني الصادر في الأسبوع الذي بعده، بحجة هي أوهن من بيت العنكبوت! ما هي الحجة؟ هي أنه قبل أن يعمل بهذه النصيحة نسي صلاة الاستخارة، فعاد وصلاها فانشرح صدره أن ينشر المقالات من جديد.
هذه هي الحجة التي جعلته يبطل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لينوا لإخوانكم)! يقول: نسيت أن أستخير.
فلما تذكر الاستخارة استخار، ورأى أنه انشرح صدره لنشر هذا النور في الآفاق!! وأنا مضطر إلى أن أتكلم عن الرد الذي أرسلتُ إليه بعد أن نشر هذا الاعتذار، باعتبار أني كنت ممن أرسلوا ردوداً، وكنت أحد ضحاياه أيضاً! فأتحدث عن ما لامسته بنفسي، ولعله إذا انضم إلى الكلام من أرسل مثلي، فقد تكون هناك طامات أكبر لم نطّلع عليها في الخيانة وعدم الأمانة في نقل كلام الآخرين، فهذه الرسالة قبل أن أتلوها عليكم قد جاءت رداً على هذا الاعتذار، قبل أن يكون إسماعيل منصور نشر حرفاً واحداً من مقالاته، بل خبأ هذه الرسالة، وفي الشهر الماضي في أواخر الشهر الماضي بدأ ينشر من جديد ويقول: إنه وصلتنا رسالة من فلان، وسوف نرد عليها.
فأوهم القراء أنه ليس هناك رد إلا رسالتي هذه فقط، فأقول: أولاً: هذه الرسالة لم تكن رداً على إسماعيل منصور؛ لأنه لم يكن نشر شيئاً، بل هي رد على صاحب الجريدة، وقد كان المفروض أن ينشرها، لكنه كتمها وخبأها كما فعل مع آخرين، ثم إنني قبل موسم الحج أرسلت إليه الجزء الثالث من كتابي: (الحجاب) مع خطاب صغير، وقلت له: من صفحة كذا إلى صفحة كذا يتضمن الرد على إسماعيل منصور، فإن كنت ترى أن تنشره كما هو فلك ذلك، وإن كان طويلاً فكلِّفْني بالأمر وأنا أختصر الرد وأرسله إليك.
فإذا كلفني فيكون فيه التزام ضمني بأنه لا يحرّف الكلام؛ لأنه هو الذي قال لي: اكتب، فانتظرت فلم ينشر أي شيء، ثم إنه بعد ذلك قال إسماعيل منصور في الأسابيع الأخيرة: وصَلَنا خطاب صغير من فلان، يشير فيه إلى أنه أرسل مع الرسالة مطبوعات عن الحجاب.
فكأنني صوّرت له صفحات معدودة من عدة كتب، ولم يبين أن هذا ردّي الذي أرد به عليه، لكنه قال: مطبوعات عن الحجاب -حتى يوهم أنها مطبوعات قليلة- وفيه أدلة لوجوب النقاب، وتتضمن ردوداً عن المقالات السابقة بالتحريم.
ثم قال بعد ذلك معلقاً على الرد الذي أرسلته إليه: ولم يأتِ رد علمي ولا غيره في نفس المقالة.
وهذا لأنه قال: بعث مطبوعات.
ولم يقل: بعث رداً، فقال: لم يأت رد علمي ولا غيره، وإنما أوصل رسالة ليس فيها رد علمي على الإطلاق، بل هي مليئة بالاتهام وسوء الظن.
فكأن هذا هو المنهج السلفي في نقد الآراء المخالفة له، فأوهم الناس أن الذي رد عليه هو هذه الرسالة، والصحيح أن هذه الرسالة ليست رداً على إسماعيل منصور، بل كانت رداً على الحمزة دعبس، فكتمها إلى قبل أسابيع قليلة، ثم نشرها من خلال عيّنة أعطاها لـ إسماعيل منصور، حيث قال له: رُدّ على هذه الرسائل.
فالمفروض إن دعبس يجعل كل طرف يمثل وجهة نظره الخاصة به إذا كان هذا مبطلاً والآخرون على حق، لكنه أوهم أن هذا هو الرد على إسماعيل منصور، وهو رد على الحمزة دعبس قبل أن ينشر إسماعيل منصور حرفاً واحداً.(77/5)
نص الرسالة التي فيها الرد على إسماعيل منصور وتلاعب الصحافة بها
هذه نص الرسالة التي كانت رداً على الاعتذار، وهذه الفقرة التي سأذكرها حُذفت من الرسالة بكاملها: بسم الله الرحمن الرحيم (فتيا شاذة واعتذار يحتاج إلى اعتذار).
كنت أتلهف شوقاً للحصول على نسخة من العدد الأخير من جريدة النور؛ لأطالع ما وعد به الأستاذ الحمزة دعبس -وفقه الله- من نشر سلسلة مقالات بعنوان (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) والذي مهّد لها بديباجة مثيرة للمشاعر، وقبل أن ينشر دليلاً أو حتى شبهة دليل على دعواه تحريم النقاب وتأثيم المنقبة، وإذا به -عفا الله عنه- يصدّر الصفحة الرابعة من الجريدة باعتذار موجّه -فقط- إلى صاحب المقالات، مع أنه كان ينبغي له أن يعتذر عن إعلانه المسبق بالتحيز الكامل لهذا الرأي الجريء، فضلاً عن أن اعتذاره يحتاج إلى اعتذار؛ لما ينبعث منه من روح الاحتقار والازدراء للمنقبات، فجاء اعتذاره أشد على النفوس من الذنب نفسه، لهذا نناشد الأستاذ حمزة دعبس أن يبادر بالاعتذار عما نشره من دعاية مسبقة توهم أن صاحب المقالات أتى بما لم تستطعه الأوائل! أو أن يواصل المسيرة وينشر البحث كاملاً، ويضرب عرض الحائط بالأصوات المتعقلة التي نصحته بالكف عن هذه الحملة على المنقبات؛ حتى لا يقف في خندق واحد -وحاشاه- مع أعداء الصحوة الإسلامية، ولا أدري كيف استطاع الأستاذ حمزة -حفظه الله- أن يقنع ضميره بأنه برأ ساحته بهذا الانسحاب السريع، كيف وقد أشعل الفتيل بالفعل ثم انسحب وهو لا يدري ما ترتب على ما قدمه من آثار.
فحذفت هذه الفقرة بكاملها، ولم ينشروا منها حرفاً واحداً سوى كلمة (وقال: إن اعتذاره يحتاج إلى اعتذار) فأتى بالمقالة في الأسبوع الثاني وسماها (اعتذار عن الاعتذار).
ثم إن الفقرة الآتية حُذف السطر الأول والثاني منها، حيث كنت تكلمت فيها عما حدث من منصب الإفتاء الذي جلس عليه رجل من كلية الآداب، وشتم الأخوات المنقبات، وتطاول على الإخوة بألفاظ لا تليق حكايتها، وحرّض مسئولي الجامعة على أن يمنعوا المنقبات من دخول الجامعة.
فالفقرة الثانية من الرسالة: ولقد كنا بالأمس القريب نستنكر فتوى بعض الذين يوظفون الإسلام خادماً لأهواء الساسة، غافلين عن أن دين الله يُخدم ولا يَخدم، أعني تلك الفتيا المفزعة المحلولة العقال، المبنية على التجّري لا التحرّي، المؤسسة على الظن وهو أكذب الحديث، أو الهوى وهو معبود باطل خبيث، التي أصدرها طائفة تعج منهم الحقوق إلى الله عجيجاً، وتضج منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجاً، حيث تمخضت عبقريتهم عن اكتشاف مذهل هو أن النقاب ليس فرضاً ولا سنة! إذاً: الكلام في الرد على من افترى منصب الإفتاء، وليس على إسماعيل منصور الذي زعم أن هذا الكلام رد عليه، بدليل سياق الكلام، بعد ذلك قلت: فكيف بتلك الفتيا الجريئة التي زادت الطين بلة، والتي لا ندري من أي آبار الضلال استقاها صاحبها وانتشلها.
وهذه الفقرة التي سأذكرها الآن حذفت أيضاً، وهي: لأنه ليس في كتاب ولا سنة صحيحة أو سقيمة، ولا في مذاهب من سبق، ولا في اجتهاد أئمة الاجتهاد صوابه وخطئه ما يمتّ إليه هذا الزعم بصلة، فإذا كان الحال كذلك فأي رجل له مسكة من فقه يتجاسر على أن يسجل على نفسه هذه المقولة المحدثة؟! ثم قلت: (إن هذا البحث يجوز الحكم على بطلانه بمجرد مطالعة عنوانه، وذلك للأمور التالية).
فماذا قال الحمزة؟ قال -حتى يشنع علي-: المعروف عند الناس أنه لا يحكم على الكتاب من عنوانه! وليس الأمر كما قال، بل كم من كتاب يحكم عليه من عنوانه مهما زين العنوان ورصعه بالسجع والتكلف، فهو باطل قطعاً يحكم عليه من عنوانه، كما لو ألف أحد كتاباً سماه (توضيح الأمر بوجوب شرب الخمر في ضوء القواعد الأصولية والحديثية والفقهية) فهذا العنوان لا يحتاج إلى نظر في هذا البحث، فالعنوان يعطيك نتيجة البحث المقطوع ببطلانه، فيجوز الحكم عليه ابتداء، وكما لو ألف مؤلف كتاباً أسماه (الرمي بالبلاط على من حرم الاختلاط) أو ألف كتاباً أسماه (الاجتهاد بفرضية الزواج من ثمان عشرة امرأة) أو (ضوء القمر في تحريم غض البصر) فهذا كلام مسجوع وعنوان جميل، ولكن هل ينظر في مثل هذا البحث حتى يحكم عليه أنه حق أم باطل؟! فإذا حرم الإنسان المباح فذلك جريمة، فكيف بمنً يحرم الواجب؟! وحذف الأسباب الأربعة لأنه لو نشرها من البداية لاهتز موقفه كثيراً، لكنه حذف هذه الأسباب الأربعة التي عللت بها جواز الحكم على هذا البحث من عنوانه، فخبأ هذه الأسباب، وكانت الأمانة تقتضي أن يذكر ما هي هذه الأسباب، لكنه قال: وذكر أسباباً أربعة.
وانتهى الكلام! فهل هذه أمانة؟ فما هي الأسباب؟ قلت: إن هذا البحث يجوز الحكم على بطلانه بمجرد مطالعة عنوانه، وذلك للأمور التالية: أولاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا - يعني ديننا- هذا ما ليس منه فهو رد) وهذه الدعوى محدثة لم يقل بها أحد من السلف، ولم ينص أحد من أئمة الهدى في العصور التي يعتد بالخلاف فيها على أن النقاب حرام وأن المنقبة آثمة {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16].
فقال إسماعيل منصور عنا: إننا نحن الذين يقال في حقنا: (سبحانك هذا بهتان عظيم).
هذا ويؤيد الحكم على البحث بالبطلان من عنوانه أن العلماء يشترطون في المجتهد أن يكون عارفاً بمواضع الإجماع؛ لأن المسألة إذا ثبت فيها إجماع فلا يجوز النظر فيها، فمن نظر فيها فهو مخطئ قطعاً.
واشترطوا أن يكون المجتهد عارفاً بالناسخ والمنسوخ؛ حتى لا ينظر في الحكم المنسوخ، فيأخذ بآية منسوخة -مثلاً- ويستنبط منها الأحكام.
ثانياً: أن خلاف العلماء في هذه المسألة يدور بين القول بالوجوب وبين القول بالاستحباب، فأصل المشروعية موضع اتفاق بين جميع علماء الأمة، وقد نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري) عن الإمام ابن المنذر رحمه الله إجماع العلماء على مشروعية أن تسدل المحرمة الثوب على وجهها لتستتر به عن نظر الأجانب.(77/6)
مخالفة إسماعيل منصور لجميع العلماء في تفسير آية الحجاب
يقول إسماعيل منصور: أجمعت الأمة على أن آية الحجاب خاصة بأمهات المؤمنين.
والعكس هو الصحيح، فإذا رجعنا إلى كلام العلماء فلا نكاد نجد مفسراً واحداً من المفسرين يقول: إن آية الحجاب خاصة بأمهات المؤمنين.
بل إن عامة العلماء ابتداءً من شيخ المفسرين ابن جرير الطبري، ثم القرطبي، ثم ابن كثير، وجميع المفسرين على مرّ العصور ينصّون بقولهم: وهذه الآية وإن كانت نزلت في أمهات المؤمنين فحكمها عام لسائر نساء الأمة.
وليس هذا مجال التفصيل في الكلام، لكن هل يحل له أن يدّعي الإجماع بدون أن يسند كلامه إلى أي مرجع؟! وإلا فمن أين حكى هذا الإجماع؟! ثم يأتي إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:59] فيقول: لو كان في هذه الآية هذا الحكم للزم أن يتحقق فيها الإجماع، لكن الذي حدث هو العكس تماماً، وهو أن جلّ العلماء الثقات والمفسرين على أنها لا تدل على تغطية الوجه على الإطلاق، وغاية ما فيها تغطية الجسم بالجلباب الذي لا يتضمن الوجه كما هو معروف! ثم يعتبر العلماء الذين قالوا بخلاف ذلك قلة نادرة، وهذا مخالف تماماً لأقوال جميع المفسرين في جميع الأعصار في هذه الآية، كما سنبين إن شاء الله تعالى.
ونحن نتحداه أن يأتي باسم عالم واحد فقط خلال أربعة عشر قرناً قال: إن النقاب حرام! والكتاب الذي ألفه يحتوي على مائتين وخمسين صفحة تقريباً ليس فيه دليل واحد على تحريمه، ولا يستقيم له دليل واحد، بل كلها عمومات ومغالطات وتمويه، وليس هناك تأصيل ولا عزو لأي عالم من علماء الأمة على الإطلاق.(77/7)
مخالفته لجميع العلماء في انتقاب الصحابيات
يقول: اذكروا لنا واحدة من الصحابيات -فقط- تنقّبت؟! سبحان الله! كل الصحابيات في الأصل أنهنّ منقبات، وهذا لا يحتاج إلى دليل كما سيأتي إن شاء الله، بل ذلك -في الحقيقة- فضيحة، وإنها لمأساة أن ينسب مثل هذا إلى العلم، وأن يجترئ هذه الجرأة على شرع الله تبارك وتعالى، وسوف نأتي بالمزيد.
ولو كان كلام الرجل صحيحاً -فرضاً- فمعنى ذلك أن الأمة كانت غارقة في الضلال لمدة أربعة عشر قرناً تنتظر ولادته السعيدة حتى يخرجها من الظلمات إلى النور! ولم يوجد عالم قال ببدعته وضلالته، ويا ليته كان أهلاً للاجتهاد وعنده كفاءة في الاجتهاد حتى يكون ما قاله قائماً على قول الظاهرية وبعض الحنفية أنه يجوز إحداث قول آخر زيادة على الخلافات المذكورة من قبل، وإن كان جمهور العلماء يمنعون إحداث أقوال أخرى.
ثالثاً: إذا رجعنا إلى تصريح العلماء الثقات وجدنا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: كانت سنة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحرة تحتجب والأمة تتبرج.
ونقل الإمام ابن رسلان عن إمام الحرمين اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات، وما زال علماء الأمة عبر العصور يتناقلون هذه الكلمة عن إمام الحرمين بالتسليم والقبول.
وقال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: لم يزل الرجال على مر الزمان مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن منتقبات.
وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: إن العمل استمر على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات؛ لئلا يراهن الرجال.
هذه الفقرة بترها تماماً، وأنا أسميه الهروب الكبير؛ لأن الرجل عرف تماماً أن هذه النصوص لو أثبتها لشكّ الناس في كلامه، لكنه قال: ثالثاً: نعم، فإذا رجعنا إلى تصريح العلماء الثقات وجدنا (ويأتي هنا برأي شيخ الإسلام ابن تيمية وإمام الحرمين والغزالي ويكرر رأي ابن حجر السابق) فأخفى كلام العلماء حتى لا يفتضح، فأقول: أولاً: هذا ليس رأياً، بل هذا نقل عن المسلمين في كافة العصور، فليس من الأمانة أنك تقول: رأي ابن تيمية.
فهو ليس رأي ابن تيمية، بل هو نقله، ونقل ابن حجر، ونقل الجويني، ونقل الغزالي، فليس من الأمانة أن تسميه رأياً لهؤلاء الأئمة.(77/8)
تجاهله لأقوال أهل العلم وعدم التأدب معهم
ثم يغالط ويقول: وأقول لسيادته -أي: يقول لي-: إنك -يا أخي- تفعل مثلما يفعل أحد المتخاصمين -لا أقول الخصمين- الذي يختلف مع أخ له في أمر ويريد أن يدلل على صدق موقفه أمام القضاء، فيسرد أسماء أشخاص قالوا بصدقه وأنه على حق، دون أن يدخل في لب القضية فيعرضها ويبينها، ولو أن كل أتباع رأي أتوا بأسماء العلماء المؤيدين لهم لبقي الخلاف في كل الأمور قائماً، لكن الأصح هو أن نأخذ الرأي بدليله دون أن نعجب بالأسماء أو نستكثر منها.
وأقول: هذا لو كان في المسألة خلاف، لكن كل العلماء ضدك، وأنت يتيم خارج عن الجماعة، فكيف تدلس وتوهم أن هناك خلافاً في القضية، وتقول: ولو أن كل واحد جاء بأسماء العلماء إلخ؟! بل كل العلماء لم يقل منهم أحد بقولك، فائت بعالم واحد خلال أربعة عشر قرناً قال ببدعتك وضلالتك! ثم يفتخر ويقول: هل رأيتني -يا أخي- في كلامي عن النقاب أذكر أسماء أو أعرض أدلة، إن الذي قرأ الكتاب يعرف ذلك جيداً، ولهذا فما زلت أقول لك: المشكلة أنك لا تعرف حقيقة المنهج العلمي أصلاً، فلا يعقل أن أزعم أنني وحدي على الحق دون سائر العلماء الأفاضل، معاذ الله! يقول هذا وهو يشتم العلماء الأفاضل كلهم، ويقول: إنهم تأخذهم العزة بالجهل! ويصفهم بالجهل والسفه وأقبح الصفات، وهو هنا يدعي أنه يحترم رأي الآخرين.
يقول: معاذ الله! إنما قدمت رأيي الذي اقتنعت به، ولم أقتنع بآراء علماء أفاضل.
وكان ينبغي أن يقول: لم أقتنع بآراء كل العلماء الأفاضل لأنه خالفهم كلهم، فهو يوهم أن هناك علماء معه يؤيدونه.
يقول: ولم أقتنع بآراء علماء أفاضل على الرغم من ذيوع شهرتهم وعلو منزلتهم؛ لأن كلامهم لم يكن قوياً من الناحية العلمية مع تقديري لمكانتهم العالية! ولا أكتمك هذا؛ فإني لو كنت أرى أن الناس يحتملون نقد كلام هؤلاء الكبار وبيان عدم قوة الدليل العلمي لبينت لهم ذلك، ولكن الناس لا يحتملونه الآن.
إذاًَ: ما زال هناك أشياء ستأتي، ولعلي -بفضل الله- أقدم ذلك فيما بعد إذا استطاع الناس أن يحتملوه بمشيئة الله تعالى وفضله ورحمته.
أقول: وإنما ذكرت اتفاق المسلمين على مشروعية النقاب بهذه النقول المختصرة لبيان فساد هذه المقولة المبتدعة، وأنها مخالفة لسبيل المؤمنين، ولست بصدد الكلام على أدلة وجوب النقاب -وما أكثرها- لأن لكل مقام مقالاً، ومع أنني قلت له: ليس هذا مقام التفصيل.
فأوهم أن هذا كل الرد الذي أرسلته، وخبأ الجزء الثالث الذي فيه الأدلة، ثم بتر الفقرة التالية بكاملها وأخفاها؛ لأنها تفضح جهله أيضاً، ولم يذكر منها إلا هذين السطرين: السبب الرابع: أن هذا الرأي الكاسد والقول الفاسد لا يدخل في الخلاف السائغ.
وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر وبتر الكلام ووقف هنا، ثم أخذ يرد عليه، وقال: ثم يقول صاحب الرسالة بعد ذلك: رابعاً: أن هذا الرأي الكاسد والقول الفاسد لا يدخل في الخلاف السائغ.
وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر وهنا -أيضاً- نردف بتعليقنا على ذلك فنقول: هل وجدتني -يا أخي- استندت في قولي بالتحريم إلى أن القول في النقاب قول فيه خلاف! فالمصيبة أنه لا يعتبر أن المسألة فيها خلاف، وأنا أقول له: إن هذا خلاف لا يجوز؛ لأن الخلاف فيه تناقض في أقصى الطرفين إلى آخر ما أذكره، فيرد بقوله: من قال لك: إن فيها خلافاً؟ فهو -أيضاً- يهمل أقوال جميع العلماء الذين يقولون بالوجوب أو الاستحباب، أو حتى لو قال أحدهم بالإباحة فكلامه مهدر عنده ليس له قيمة، وكأنه يقول: كل عالم يقرر رأيي الذي أميل إليه، ومعاذ الله أن أقول: إن هذا باحث عن الحق.
يقول: هل وجدتني -يا أخي- استندت في قولي بالتحريم إلى أن القول في النقاب قول فيه خلاف، ثم أصدرت بناء على ذلك رأيي بالتحريم؟! لو أني فعلت ذلك لحق لك أن تنظر في قولي من حيث إنه يتعلق بالاختلاف من عدمه، لكنني درست موضوع النقاب دراسة تأصيلية بعيدة عن أقوال العلماء! وهذه أعظم وثيقة إدانة لهذا الجاهل؛ إذ كيف يتعلم بدون العلماء؟! وهذه تكفي في إبطال كل ما يمكن أن يخرف ويهرف به، ومع ذلك فهو يفتخر في موضع آخر ويعيرني بأني أعتمد على كلام العلماء، حيث يقول: لأنك لا تستطيع أن تنظر في الأدلة بنفسك! وهذا قطع لأعظم أسباب التوفيق، ألا تسأل أهل الذكر؟! فقد قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
فيقول: لكني درست الموضوع -موضوع النقاب- دراسة تأصيلية بعيدة عن أقوال العلماء، سواء من أيّد أو من عارض.
وأقول: كلهم عارضوك، ولا أحد منهم أيدك.
ثم يقول: إنني درست النصوص بالحياد العلمي، وحققت ما استطعت من النصوص النبوية الشريفة، وكنت أقرأ الرأي فأدرسه، ولا أقول: قال فلان لتأييد وجهة نظري، كما لم أذكر بعض هذه الأقوال إلا نادراً لإثبات حق العلماء في ذلك.(77/9)
مراوغة إسماعيل منصور والحمزة دعبس في الرد على الرسالة
بعد هذه العبارة التي رد عليها هرب من مواجهة الحقيقة، ولم ينشر -أيضاً- هذه العبارة المهمة جداً في القضية، وهي: وإنما ينظر في الخلاف إذا كان بين أمرين كلاهما مطلوب الترك: إما على وجه الحتم واللزوم فهو الحرام، أو غيره فهو المكروه، أو بين أمرين كلاهما مطلوب فعله: إما على وجه الحتم واللزوم فهذا الواجب، أو غيره فهو المستحب، أما الخلاف غير المعتبر ابتداء فهو ما يصفه فضيلة الشيخ عبد الجليل عيسى في كتابه (ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين) بأنه أخطر أنواع الخلاف، وهذا ما لا يصح نسبته إلى الشريعة المنزهة عن التناقض، قال الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82].
فليت شعري -أي: ياليتني أعلم- ماذا تفعل المسلمة التي تريد أن تحتاط لدينها في عمل إن هي عملته عوقبت في نظر البعض، وإن لم تعمل نفس العمل تكون آثمة معرضة للعقاب في نظر البعض الآخر، لا ريب أن الحق هنا في أحد القولين ولا يتعدد، والحاصل أن الخلاف الذي ينتصر له الأستاذ حمزة لا يُعتدّ به، ولا يجوز النظر فيه أصلاً بهذا الاعتبار.
فقال في رده على كلامي السابق: ثم يقول في نفس الموضع: فليت شعري ماذا تفعل المسلمة إلى قوله: في نظر البعض الآخر.
وأقول تعقيباً على ذلك: إنني سأدلك يا أخي على ما يجب أن تفعله المسلمة في هذه المسألة دون أدنى حيرة: إن عليها أن لا تزيد شيئاً على هدي نبيها صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة الأفاضل رضوان الله عليهم! وهكذا يظل يأتي بالعمومات، ويستدل بنفس الدعوى على أن النقاب حرام.
ثم في موضع آخر يقول: إن النقاب حرام؛ لأن النقاب من الخبائث، والرسول أتى ليحرم علينا الخبائث! ونقول له: اثبت -أولاً- أنه من الخبائث؟ وهو غريب جداً في فهمه للآيات والأحاديث ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونقول له أيضاً: عليك باتباع الصحابة واتباع الكتاب والسنة.
لكنه يأتي بالكلام العام ويهرب من الأدلة العلمية.
ففي آخر الجواب يقول: إن كان عندك علم في ذلك فأخرجه لنا، فإن لم تجد فأحب أن تلتزم بهذا الحديث كما التزمنا به، فلا تخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بأية اختراعات! وأقول: فمن الذي يخترع ويبتدع؟! ما رأيت باطلاً أشبه بحق من كلامك.
بعد ذلك قلت له في
الجواب
وأخيراً: لقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم دواء داء الفرقة بقوله: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، فالسنة تجمع المتفرقين، وتوحد المختلفين، ولقد جعل الله عز وجل إجماع العلماء حجة معصومة من الضلال، فلا يصح أن نجعل ما يضاده -وهو الاختلاف- حجة أيضاً، بل علينا أن نردد مع ابن مسعود رضي الله عنه قوله: الخلاف شر.
وما أحسن قول حافظ المغرب الإمام أبي عمر ابن عبد البر رحمه الله في كتابه (جامع بيان العلم وفضله): الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة، إلا من لا بصر له، ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله.
أذكر هذا مع أن دائرة الخلاف في المسألة التي نحن بصددها قد ضاقت إلى حد كبير في هذا الزمان، حيث يكاد يتفق علماء المذاهب المتبوعة على وجوب الحجاب الكامل لجميع بدن المرأة عن الأجانب، حتى الذين يرون أن الوجه والكفين غير عورة أصلاً، وذلك نظراً لفساد أكثر الناس في هذا الزمان، وعدم تورعهم عن النظر المحرم إلى وجه المرأة الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (زنا العين)، ولولا خشية الإطالة لأفضت في ذكر النقول عنهم، وأكتفي بهذا القدر.
ثم قلت في نهاية الخطاب: وكلّي ثقة إن شاء الله أن تنشر جريدة النور هذا التعقيب، أُسوة بما فعلته مع عزيز أحمد سكرتير سفارة أفغانستان الشيوعية، وممثل الدولة التي فتكت بالمسلمين، دون أن ترى الجريدة في ذلك ازدواجاً في المواقف المبدئية، والله تعالى من وراء القصد، والحمد لله رب العالمين.
وفي الأسبوع الماضي الذي بعده مباشرة كتب الحمزة اعتذاراً عن الاعتذار، ثم في نهاية الكلام نشر سطوراً قليلة جداً من الرسالة، ثم قال: إن هذا البحث لا يجوز الحكم ببطلانه بمجرد مطالعة عنوانه، وذلك للأمور الآتية وقدم أسبابه الأربعة، وانتهى الكلام على هذا بأن هذا الخلاف لا يعتد به، ولا يجوز النظر فيه أصلاً بهذا الاعتبار، وقال: إنه كله ثقة بمشيئة الله تعالى أن تنشر جريدة النور هذا التعقيب، وبتر بقية الكلام.
وأقول له: كيف تقول: الرأي والرأي الآخر، وحرية الرأي! إنها رهبانية ابتدعوها وما رعوها حق رعايتها، فحرية الرأي أصلاً بدعة ضلالة، ثم تُعطى حرية الرأي لإنسان مضل مبطل يناقض كلام الله وكلام رسوله، فهذه ليست حرية رأي، ومع ذلك يا ليتكم احترمتم حرية الرأي، لكنها الخيانة كما ترون.
فأنا أريد أن أبكته بطريقة غير مباشرة؛ لأنه ينشر مقالة لـ عزيز أحمد سكرتير دولة أفغانستان الشيوعية، ويقول: من باب حرية الرأي والرأي الآخر جاءنا هذا الرد من عزيز أحمد سكرتير دولة أفغانستان.
وهي مقالة طويلة بطول الصفحة كلها، يهاجم فيها الإخوة الأفغان المجاهدين، ويطعن فيهم، ويدافع عن الحكومة الشيوعية العميلة، فأنا أقول له: ساو بيني وبين عزيز أحمد هذا، وعاملني مثلما تعامل هذا الشيوعي الملحد، وانشر كلامي بأمانة كما نشرت الرأي الآخر للرجل الشيوعي.
لكنه بتر الكلام وقطعه عند قولي: (وكلي ثقة إن شاء الله أن تنشر جريدة النور هذا التعقيب) وقطع الكلام على هذا، وحذف العبارة التي قلت فيها: أُسوة بما فعلته مع عزيز أحمد سكرتير سفارة أفغانستان، وممثل الدولة التي فتكت بالمسلمين، دون أن ترى الجريدة في ذلك ازدواجية في المواقف المبدئية.
فبتر هذا الكلام وأظهر أني حريص على أن ينشر الرد في الجريدة وينشر اسمي! فقال: وقال: وكلي ثقة في أن تنشر جريدة النور هذا التعقيب.
ولا شك أننا بإذن الله تعالى سوف ننشره وكافة التعقيبات الأخرى بعد نشر مقالات الدكتور إسماعيل منصور في تحريم النقاب؛ لتكون مواجهة الدليل بالدليل والبرهان بالبرهان؛ إذ لا يكفي في هذا الصدد الرد على العنوان! ثم يقول في اعتذاره: عندما كتبت مقدمة من البحث القيم للدكتور إسماعيل منصور لم أكن أحسب أن هذا الموضوع سوف يثير هذه الانفعالات المتباينة، وكنت قد أكدت أنني استشرت من حولي ممن أثق بعلمهم فأشاروا بعدم نشره، ولكنني لم أكن قد استخرت! وأقول: في أي شيء تستخير؟! إن صلاة الاستخارة تكون في شيء مباح أو حق، لكن أن تستخير في أن تعصي الله وتنشر الباطل فلا تجوز الاستخارة أصلاً في هذا الباطل.
يقول: لم أكن قد استخرت عندما اعتذرت عن نشر هذه السلسلة، واتفقت في ذلك مع الدكتور إسماعيل منصور على الاستخارة! إلى آخر الكلام في (الاعتذار عن الاعتذار) ثم أخرج الرسالة إسماعيل منصور أخيراً من الدرج إبان غزو العراق للكويت مباشرة، وفجّر هذه القنبلة، وظل ينتقد ويرد على رسالتي بعد سنة ونصف تقريباً أو أكثر من إخفاء الرسالة، ثم يوهم أن ردي على كتابه هو هذه الرسالة، والصحيح أن الرسالة كُتبت قبل أن ينشر شيئاً من مقالات إسماعيل منصور، بدليل أن تاريخ الرسالة هو (11/ 3/1989م).
ثم يقول: وهذه الرسالة تقوم في موضوعها الأساسي على الاتهام الذي لا يتوافق مع أي منهاج من مناهج العلوم قديماً أو حديثاً، فلم يتطوع بالرد على واحد منها بآية كريمة.
فيقول: لم يتطوع بالرد على واحد منها -أي: من أدلته- بآية كريمة، أو حديث شريف، أو قاعدة فقهية، أو حجة اصطلاحية، وإنما اكتفى باتخاذ مقام الواعظ المعرض عن الموضوع كله ابتداء، مقرراً من أول وهلة أن الصواب الكامل والحق الصراح هو في الحكم على كل هذه المقالات بالبطلان دون انتظار لقراءة ما فيها، بل من مجرد قراءة عنوانها هكذا، ولا ندري كيف رضي صاحب الرسالة بهذا القول الذي لو طبق في مجال البحث العلمي لأغلقت الجامعات أبوابها، ولطفقت ساحات العلم خاوية، فلا تجد من تؤويه، ولطمست أمجاد علماء الإسلام الجهابذة وآثارهم العظيمة، سواء أفذاذ الصحابة الأفاضل رضوان الله عليهم أو أعلام التابعين الأوائل رضي الله عنهم، الذين انتظموا جميعاً في طريق بيضاء نقية، لا تعرف في مناقشة الأمور العلمية سوى تقديم الحجج، وسوق البراهين، واستخراج الأدلة، ولم يلجئوا في إقامة علومهم إلى المصادرة على الأقوال، ولا اتهام نيات أصحابها أو التسرع في الحكم دون دراسة أو تمحيص.
وأقول: كأنه ظن نفسه في معمل الطب الشرعي (معمل السموم) حيث تكون التجربة، ثم المشاهدة، ثم الاستنتاج، ولم يعلم أنه مع مسألة شرعية تحكمه قواعد من الكتاب والسنة، فليس لنا أن نُخضع العلوم الشرعية لأهواء الناس، وكل يقول بحجة البحث العلمي فيخترع ما شاء، لا، فهناك ضوابط وموازين وأصول وقواعد ثابتة، والرجل يريد أن يسبح في الفضاء، ولا يريد أن يتقيد بضوابط أو بقواعد أو بأصول، ثم يلجأ إلى المغالطة، حيث انتقل مباشرة إلى الكلام عن المنهج العلمي، وإغلاق الجامعات و، فهل هذا هو الأسلوب العلمي؟! الله المستعان! ثم يقول: يا أخانا المسلم الفاضل! قدم لنا علماً ودليلاً وبرهاناً.
يَتَمَسْكنُ بهذه العبارة حتى يظهر للناس أنه مسكين ومغلوب على أمره، مع أنني أرسلت له الكتاب في مائتين وخمسين صفحة مملوءة بالأدلة الكافية.
ثم يقول: فلعلنا نتعلم من علمك هذا، وإلا كنا نحن المخطئين، ولصرنا بذلك عن حدود الأدب خارجين، ومن يدري! ربما حكم علينا بأشد من ذلك وأعظم، أليست هذه مأساة؟! أليست هذه كارثة؟! بل إن صاحب الرسالة يحكم علي بسبب هذه المقالات التي فيها الرد على تحريم النقاب بأني ليست لي مسكة من فقه؛ لأني تجاسرت على هذا القول، بينما أستطيع أنا الآن أن أحكم له بأنه أخ فاضل، يبدو أنه محب لدينه القويم، غيور(77/10)
خذلان الله سبحانه وتعالى لإسماعيل منصور في بداية بحثه
إن الله سبحانه وتعالى خذله في بداية البحث وفي خاتمته، وأما ما بين الدفتين فإن شاء الله سنتكلم عنه فيما بعد ذلك.
فأول الأمر هو أنه تعالى قطع عنه أعظم أسباب التوفيق، وهو سؤال العلماء، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83].
فلو أن الحمزة عرض البحث على أهل العلم قبل أن ينشره لكان قد جنب الأمة شراً عظيماً؛ إذ كيف يمكن أن ينشر مثل هذا البحث بهذه الطريقة؟! أين المسئولية أمام الله؟! فأول شيء كان يجب أن يفعله هو أن يعرضه على أهل العلم ليقولوا فيه قولتهم.
ثم ختم الكتاب -أيضاً- بما سنذكره، فأعرض تماماً عن كلام العلماء، ولا يوجد عزو واحد فقط إلى أي مصدر علمي، لا تفسير ولا فقه ولا أصول ولا ذكر لاسم عالم واحد فقط، بل ويفتخر بذلك، ويعتقد أن هذا من أعظم محاسنه! وأقول: إن اتباع نظر من لا نظر له، واجتهاد من لا اجتهاد له هو محض ضلالة، ورمي في عماية، فهذا هو مقتضى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا).
إعراض كامل عن سؤال أهل الذكر مع ادعاء الاجتهاد والتجديد، حيث يدعي أنه يجدد للناس أمر دينهم، وأنه مجتهد بلغ مرتبة الاجتهاد! فماذا تكون النتيجة؟ النتيجة هي هذه الثمرات المريرة، وهذه الجرأة على الله والقول على الله بغير علم، فإن التعالم دائماً هو عتبة الدخول على جريمة القول على الله بلا علم المحرمة لِذَاتها تحريماً أبدياً في جميع الشرائع والملل، وهذا مما عُلم من الإسلام بالضرورة.
فنقول: هل الصحابة عرفوا أن النقاب حرام؟! فإن عرفوا أن النقاب حرام فهل وسعهم أن يعلنوا أن النقاب حرام أم سكتوا عن هذا؟ فإن ادعى أنهم أعلنوا فأين الدليل؟! وإن علموا أنه حرام ولم يظهروا ذلك فنقول له: أفلا وسعك ما وسعهم؟! وإنا لندعو عليه كما دعا عبد الرحمن الأذرمي على بعض أهل البدع في مناظرة حكاها ابن قدامة في لمعة الاعتقاد، فنقول لـ إسماعيل منصور: هل وسع الصحابة والسلف أن يسكتوا عن تحريم النقاب أم لم يسعهم؟ فإن قال: وسعهم أن يسكتوا عن تحريمه فنقول: لا وسّع الله على من لم يسعه ما وسع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالحين والخلف من بعدهم.
ولا يسعني في هذا المقام أن أتكلم بالتفصيل، وإن كنت في شوق شديد إلى أن نفضح هذه الجريمة، ونكشف عدوانه بالأدلة، فإنه يتكلم في العلماء الذين خالفوه فيقول: أم ماذا أصاب عقولهم على وجه التحديد؟! كأن العلماء ناقصو العقل! ثم يختم البحث فيقول: لقد فتح لنا العلم الموضوعي في هذا البحث المحايد آفاقاً عظيمة في الإسلام تقوي العقيدة، ونحن نفاخر بذلك، ونعتقد أنها تكون في ميزان حسناتنا، وأننا سوف ننال بها -إن شاء الله- الفردوس الأعلى من الجنة إلى آخره.
فهو يعتقد عقيدة إيمانية يقينية راسخة -وسبحان الله! - أن بحثه فتح آفاقاً عظيمة في الإسلام تقوي العقيدة، وتثبت الأحكام، وتدفع إلى مزيد من الالتزام! وأقول: إنما هو التزام بهدي هدى شعراوي، ومزيد من الالتزام بهدي قاسم أمين، لكن لا مزيد من الالتزام بهدي عائشة أم المؤمنين، أو حفصة، أو أسماء.(77/11)
طغيان إسماعيل منصور في بدعته
المؤلف لا يبيح في هذا الكتاب للمرأة كشف الوجه فقط، بل أن تظهر الزينة الملحقة بالوجه والكفين، وتلبس ما شاءت من الزينة في كفيها، وتضع ما شاءت من الأصباغ على وجهها، ويبيح ذلك بسوء فهمه للأدلة، أهذا هو مزيد من الالتزام الذي يدفع إليه هذا البحث؟! وقد قيل: (من ثمارهم تعرفونهم) ونقول: دعوى الاجتهاد والتجديد مع الاستغناء عن أهل العلم ينتج ثمرات مثل هذا البحث، فما هي ثمراته؟!
الجواب
يقول: ومن ثمرات ذلك أننا صرنا ننظر إلى أمر المرأة المتبرجة في مقارنة مع المرأة المنقّبة، ونحن نشفق على الثانية -أي: المنقبة- أكثر من إشفاقنا على الأولى -أي: المتبرجة-؛ لأن الأولى -المتبرجة- عاصية تعلم أنها عاصية، بينما الثانية عاصية تعلم أنها فاضلة، كما أن الأولى ليست عرضة للكبر والعجب المانعين من دخول الجنة، بينما الثانية أكثر عرضة لذلك! وأقول: من التي هي أقرب للكبر: التي تتزين بالملابس الباهية والذهب والحلي وتضع المكياج على وجهها وغير ذلك من أدوات الزينة، أم التي تستر نفسها؟! فهو يعتقد أن المنقبة عرضة للكبر أكثر من المتبرجة! ثم يقول: فأيهما أحق بالإشفاق؟! وأيهما أقرب للتوبة؟! وأيهما أولى بالاستغفار لها؟! إن المنقبة تحتاج إلى أن نستغفر لها مرتين، بينما المتبرجة مرة واحدة؛ لأنها أقل ابتلاء وأقرب إلى سواء السبيل! وإن كانتا كلتاهما منحرفتين عن الهدي النبوي، دون أن يكون المنحرف يميناً أفضل من المنحرف إلى ناحية الشمال، الكل في العدول عن الحق سواء.
يقول: وهكذا تمضي المنقبة في الطريق قد رفعت شعار مخالفة الهدي النبوي الأمثل، ومعاداة سنة الخلفاء الراشدين المهديين، ومخالفة فعل الصحابيات الفاضلات جميعاً! يقول: وتشبهت ببعض طوائف أهل الكتاب، وألقت بنفسها في فتنة الكبر والعجب الذي لا يدخل أحد الجنة وفي قلبه مثقال ذرة منه، وصدت من رآها عن سبيل الله! يقول: وصورت للناس الإسلام على أنه ضيق وعنت، وأنه يأخذ أتباعه بهذه الشدة ولا يرحم، فعسّرت ولم تيسّر، ونفّرت ولم تبشر، وعرقلت مصلحتها في السعي في هذه الحياة السريعة الحركة! وهذه النزعة الغزالية إنما هي (شنشنة نعرفها من أخزم) وإلا فمن التي تتشبه بأهل الكتاب: المتبرجة أم المنقبة؟! وهذا الكلام يدل على نفس ممتلئة غيظاً، فهو ينفث هذه السموم لأنه متخصص في السموم! وكأنه بهذا الكلام يرى أنه لا بد من تلطيف الجو للناس، وتخفيف كثافة نور الإسلام حتى لا يعشو أبصار الكافرين، فإن أعين الكفار لا تحتمله.
يقول: وأضرت ببصرها بهذا التضييق غير المشروع! وربما اصطدمت بالناس أو بوسائل المواصلات بسبب الإبصار بعين واحدة، فلا تحدد المسافة على الإطلاق، وحرمت نفسها من أحكام شرعية عظيمة وسنن ثابتة! أقول: إن من النماذج المهولة في بحثه أن عادته في الكتاب أنه يكذب الكذبة ثم يصدّقها، وخياله واسع جداً، حيث يتوهم ويتوهم، ثم يتعارك مع صدى الصوت حينما يرجع إليه وكأنه إنسان آخر يرد عليه! انظر كيف أنه يتخيل ثم يتعارك مع نفسه، لذلك أسمي ما قاله: (العراك مع صدى الصوت) إذ يقول: قد يذهب البعض ممن يحبون الجدل العقيم إلى القول بأن حجب العين اليمنى وإبراز اليسرى هو من قبيل تكريم العين اليمنى، وبذلك يحدث التوافق مع معنى التيامن الوارد في الحديث السابق، ونحن نقول: إن هذا كلام واه سقيم؛ لأنه -ببساطة شديدة- يقلب الحديث الشريف رأساً على عقب، إذ يجعل نظر المرأة من باب التشامل لا التيامن، وهذا يمثل خروجاً على قاعدة التيامن الواردة، ولو كان استثناء منها للزم النص عليه شرعاً، لا أن يلتقط من هنا وهناك، كما ثبت في السنة الحث على تقديم اليد اليسرى دون اليمنى عند الاستنجاء، فهذا مما هو معلوم بطريق الشرع بالنص عليه، وهو ثابت في بابه، وليس هاهنا مجال للتوسع فيه، فتأمل.
أقول: نعم تأمل! ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني ثم يقول: كما أن الزعم بأن الحجب في الجوارح تكريم هكذا وفق الهوى ودون نص ثابت يؤدي إلى إمكان القول بأن من تكريم اليد اليمنى حجبها عند الطعام وتقديم اليسرى بدلاً منها، وهذا مخالف للسنة النبوية الشريفة، فإن قيل: كلا، إن تقديم اليد اليمنى لتناول الطعام والشراب والنهي عن تقديم اليسرى لذلك ثابت نصاً فلا تصح المخالفة.
قلنا: إن ذلك مسلّم به، فهل ثبت لديكم نص بإبراز العين اليسرى للنساء عند الإبصار وتأخير أو حجب اليمنى؟ إن كان لديكم هذا النص فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
وأقول: انظر كيف خرج هكذا عن الموضوع الأصلي الذي نتناوله بالنقاش! فهل نحن نتكلم عن تكريم الأعضاء أو عن قاعدة التيامن في كل شيء؟! سبحان الله! هكذا تكون المراوغة عند الإفلاس عن وجود الدليل.
الرجل يتعارك مع نفسه، فصوته يعود إليه ويتعارك مع صدى الصوت؛ إذ لا يوجد أحد افترض هذا الكلام التافه، وهذه التلبيسات كثيرة في كتابه من أول الكتاب إلى آخره، فانظر إلى العلم والاجتهاد والتجديد! ثم بعد هذا تفتح له الجريدة بهذه الطريقة المريبة!(77/12)
الخاتمة السيئة لكتاب إسماعيل
يقول في خاتمة الكتاب: أضرت المنقّبة ببصرها بهذا التضييق غير المشروع، وربما اصطدمت بالناس أو بوسائل المواصلات بسبب الإبصار بعين واحدة، فلا تحدد المسافة على الإطلاق، وحرمت نفسها -وانظر إلى العبقرية- من أحكام شرعية عظيمة وسنن ثابتة، مثل: 1 - بشاشتها في وجه أختها المسلمة التي هي صدقة.
2 - حرصها على الشهادة لله فيما يجد من أمور مفاجئة أو تبايعات أو حوادث في الطريق؛ ليحق الحق ويبطل الباطل، بأن يعرفها من يريد شهادتها فيما شهدت فيدعوها إلى الشهادة بعد ذلك.
3 - معرفتها لأختها أو جارتها المسلمة حتى تتعاون معها على البر والتقوى.
أقول: لا تستغرب هذا؛ لأنه فهم من آية الحجاب أن النقاب يكون داخل البيت وخارج البيت، وسيأتي النص على ذلك.
ثم تأمل قمة العدوان والبهتان والظلم المبين، وهي خاتمة السوء لكتابه والعياذ بالله.
إذ يقول: وفَتَحَتْ -أي: المنقبة- أبواباً خبيثة تستجلب الضرر للمسلمين؛ إذ يمكن أن يؤوي هذا الغطاء بعض المجرمين والهاربين من القصاص الذين يستترون به حتى يتموا أغراضهم في غفلة من رأي العامة! وأقول: وهل المجرمون محتاجون إلى أن يختفوا الآن؟! وهل الفاسقات يحتجن إلى الاختفاء في هذا الزمان وفي هذا المجتمع الذي نعيشه؟! هذه واحدة.
والله لو كان هناك سلطان شرعي لعّزره ولأدبه على هذا الكذب والبهتان، فالله المستعان! قال: ويئوي كذلك رجالاً يدخلون بيوتاً على أنهم من النساء لمظهرهم، فيؤمن من جانبهم، بينما هم يأتون الفاحشة في هذه البيوت! ويئوي بعض غير المسلمين الذين يدخلون إلى مساجدهم واجتماعاتهم الدينية والعلمية للتجسس عليهم والكيد لهم.
ويئوي بعض اللصوص في المواصلات العامة، فتكثر الجريمة، ويزيد الإفساد في الأرض! ويمكن للنساء المنحرفات أن يسرن مع غير أزواجهن، ويسافرن معهم دون خوف كشف أمرهن، فتزيد إمكانات الراغبات في الانحراف، وغيره كثير، كل ذلك وهي تحسب أنها تحسن صنعاً بما أتت من مخالفتها لأحكام الكتاب والسنة عموماً، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (من دعا إلى هدى كان له من الأجور مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، ولا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) نعوذ بوجه ربنا الكريم من مخالفة الكتاب والسنة، ومعاندة الهدي النبوي الأمثل، ومعارضة الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة الأفاضل أجمعين، والتشبه بأهل الكتاب، والصد عن سبيل الله! انتهى كلامه.
فنقول له ما علمناه ربنا سبحانه وتعالى: (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] وزور جسيم من مثل هذا الأفاك الأثيم، فهو يعلم تماماً أن الحقيقة على النقيض من ذلك، وهذه الشبهة قديمة قدم الكائدين للإسلام والمنافقين الذين في قلوبهم مرض.
ونقول له: فض الله فاك لهذا الافتراء الذي يصل إلى هذا الحد من الاتهام وإثارة الريبة في فتيات هن أعز نساء هذه الأمة.
إن المنافقين في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كانوا أفقه من هذا؛ لأنهم علموا أن المرأة الحرة تبالغ في الستر؛ لأن المرأة التي تبالغ في ستر نفسها تكون قد أعلنت عن عفتها وتصونها، وأنها لا يمكن أن تقارب الفاحشة وقد غطت وجهها أو كفيها، فالمنافقون فقهوا ذلك، فكانوا يتعرضون للإماء بالليل ويعرفونهن لأنهن كاشفات لوجوههن، فإذا رأوا المرأة الحرة كاشفة وجهها يظنونها أَمَة، مع أنه يحرم التعرض للإماء والحرائر، لكن الحرائر كن مشهورات بالعفة، والإماء قد يوجد فيهن شيء غير ذلك، فكانوا يعرفون أن الستر علامة العفة، ويقولون: حسبناها أمة؛ لأنها كشفت وجهها.
أفيكون الآن الستر علامة السوء والعياذ بالله؟! فالمنافقون في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام أفقه من منافقي زماننا.(77/13)
حرص العلماء على حفظ السنة وإتقانها
نختم الكلام بذكر قصة تعيننا على أن نكمل الحوار إن شاء الله فيما بعد، وهي تتعلق بشأن الشخص المتعالم، حين يأتي أحد الناس مثل الحمزة دعبس ويقول: عثرت على كتاب كله أدلة وعلم وكذا وكذا وينخدع بالعبارات الرنانة التي يمتدح بها الكاتب بحثه، وأن كلامه مليء بالأدلة واتباع القرآن والسنة واحترام السلف واحترام العلماء.
وكم من فقيه خابط في ضلالته وحجته فيها الكتاب المنزلُ فالاستدلال بالعمومات يستطيعه كل أحد، وليس هذا هو المحك؛ لأن هذا لا يعجز عنه أحد، فنجد كثيراً من الناس لا علم عندهم يفتنون بمثل هذا الباطل.
يقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله: المتعالم محل إعجاب من العامة، فالعامي يغتر إذا سمع المتعالم يجيش بتعالمه الكذاب المحروم من الصدق، وقوفاً عند حدود الشرع.
وترى العامي يضرب بيمينه على شماله تعجباً من علمه وطرباً، بينما العالمون يضربون بأيمانهم على شمائلهم حزناً وأسفاً من انفتاح باب الفتنة والتغرير بعدة المستقبل بله العوام، فأضحى لزاماً أن نقابل مجاهرتهم هذه بالمجاهرة -لكن بالحق- لكشف باطلهم، وإسقاط تنمرهم، والعمل على هدايتهم واستصلاحهم.
والقصة التي نختم بها الكلام هي قصة الإمام البخاري رحمه الله حين امتحنه أهل بغداد؛ لأن لها مناسبة، حيث إن الكاتب في بداية البحث زعم أنه يتشبه بالإمام البخاري، حيث يقول: أنا حرصت على أن أقتدي بالإمام البخاري، فقبل أن أثبت أي شيء في الكتاب أصلي ركعتي الاستخارة، وحافظت على الوضوء في كل الفترة التي كتبت فيها البحث! فإن كان يدعي التشبه بـ البخاري فنريد أن نعرفه بعلم البخاري، ونذكر هذه القصة بمناسبة الكلام السابق للشيخ بكر حفظه الله فالإمام البخاري حينما أتى إلى بغداد أراد أهل بغداد أن يمتحنوه؛ لأنهم كانوا يسمعون عن الإمام البخاري أنه من الحفاظ، فاجتمع حشد هائل من العوام ومن العلماء في هذا الامتحان المفاجئ للإمام البخاري رحمه الله تعالى، فوقف العلماء في جهة والعوام في جهة، واختار العلماء عشرة منهم، وكل واحد من العشرة أعدّ عشرة أحاديث بالسند والمتن فأصبحت مائة حديث، وأخذوا يركبون سند حديث على متن حديث آخر، ويقدمون ويؤخرون بين رجال السند، وهكذا، بحيث أصبح اختباراً دقيقاً جداً لا يمكن أبداً لأي إنسان عادي أن يكتشفه.
فجلس الإمام البخاري رحمه الله لهذا الامتحان، فوقف العالم الأول، وسرد للبخاري العشرة الأحاديث، فكان كلما قرأ عليه حديثاً يقول له البخاري: لا أعرفه.
ثم الثاني فيقول: لا أعرفه.
ثم الثالث فيقول: لا أعرفه.
وهكذا حتى أتموا المائة حديث.
وكان العوام كلما قال الإمام البخاري: لا أعرفه يقولون: البخاري هذا جاهل وليس بعالم، فإنه لا يعرف شيئاً؛ إذ كلما يقرأ عليه حديث يقول: لا أعرفه! فكان يزداد انتقاصاً في نظر العوام ويزداد ارتفاعاً في عيون العلماء، ولم يتكلم أحد من الفريقين، بل كلاهما متعجب.
العوام يتعجبون -في نظرهم- من جهل البخاري -وحاشاه رحمه الله- والعلماء يتعجبون من علمه وقوة حفظه.
فلما فرغ العلماء العشرة من سرد الأحاديث المائة-حيث سرد كل واحد منهم عشرة أحاديث- رجع البخاري فوراً إلى الأول وقال له: أما أنت فقد قلت كذا وكذا.
وسرد له العشرة الأحاديث بأخطائها ثم قال: وصوابها كذا وأعاد العشرة الأحاديث مرتبة بالتصويبات، ثم الثاني والثالث حتى أتم المائة يذكر فيها البخاري الخطأ ثم الصواب حديثاً حديثاً، فانبهر العلماء من قوة حفظه وإتقانه للحديث.(77/14)
الترهيب من التعالم وادعاء العلم
في هذا الواقع الذي نعيشه الآن نجد أن بعض العوام فرحين جداً بـ إسماعيل منصور -في نظرهم- الذي اكتشف بعبقريته المذهلة أن النقاب حرام، بينما العلماء يبكون أسفاً وحسرة على هذا الدين، وعلى غربة الإسلام بين أهله وفي وطنه، ويصدق ذلك قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: (يظهر الإسلام حتى تختلف التجار في البحر، وحتى تخوض الخيل في سبيل الله، ثم يظهر قوم يقرءون القرآن يقولون: من أقرأ منا؟ من أعلم منا؟ من أفقه منا؟ ثم قال لأصحابه: هل في أولئك من خير؟! قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: أولئك منكم من هذه الأمة، وأولئك هم وقود النار).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه قام ليلة بمكة من الليل فقال: اللهم! هل بلغت؟ اللهم! هل بلغت؟ اللهم! هل بلغت؟ فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وكان نائماً- وسمعه وهو يقول هذا إشفاقاً -عليه الصلاة والسلام- وكان عمر أواهاً- أي: كثير البكاء والتضرع والدعاء -فقال: اللهم نعم، وحرضت وجاهدت ونصحت.
فقال صلى الله عليه وسلم: ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه، ولتخاضن البحار بالإسلام، وليأتين على الناس زمان يتعلمون فيه القرآن ويقرءونه ثم يقولون: قد قرأنا وعلمنا، فمن ذا الذي هو خير منا؟ فهل في أولئك من خير؟! قالوا: يا رسول الله! من أولئك؟ قال: أولئك منكم، وأولئك هم وقود النار).
فهذه هي الفتنة المعاصرة، يخب فيها كل خب، وإن تركنوا إليهم {مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة:47].
فما أحوجنا إلى الصدق، وإنا لنشهد ونقيم الشهادة لله تبارك وتعالى على أن كتاب هذا الإنسان لا يصنف أبداً في قوائم البحوث العلمية، ولا مكان له في درجاتها، ولا حتى في أحط دركاتها، كيف وقد قام على التمويه والكذب مما يأسى عليه الإنسان الكريم؟! وإذا عري الكتاب عن زخرف القول واللعب بالألفاظ فلن يكشف ذلك إلا عن ضحالة فكر وضلالة قلب، فليتق الله المسلم فيما يقول ويكتب، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (وهل يكب الناس في النار على مناخرهم أو على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
فيا طالب الأخرى ويا مبتغي الهدى ليسعد عند الله في يوم يسأل لعمري لهذا الحق يعلو مناره عليك به إن الأباطيل تسفل وأستعير هنا عبارة ختم بها الشيخ أبو بكر جابر الجزائري حفظه الله كتابه (القول الكريم الغالي في الدفاع عن الداعية محمد الغزالي) حيث يقول في آخر كتابه: آه وآه ثم آه، وهل ينفع أهل آه ألف آه، إلى هنا كل القلم من شدة الألم، وضاقت النفس من قوة الرفس، فأرجو أن أكون أزحت الستار، وبينت العوار، ومن لم يستره الليل لا يستره النهار، ومن لم ير بالتوبة الجنة فسيرى بالأبصار النار، والأمر لله الواحد القهار.
نسأل الله أن يرزقنا هدياً قاصداً، وأن يجنبنا منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء.
سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(77/15)
كيف نفهم المراهقين [1]
تحمل البيئة المحيطة بالإنسان عوامل تكوين شخصيته، والجوانب المؤثرة في نموها وتكاملها، ولكن مما يؤسف له أن هذه البيئة تكتنفها عوامل بشرية كثيرة متمثلة في الجهل بالتربية بشكل عام، وبكيفية التعامل مع المراهقين بشكل خاص، وقد وضع الإسلام منهجاً تربوياً يكفل بناء الشخصية بناءً صحيحاً، وهو خير من المناهج الغربية، فعلى الآباء الالتزام بمنهج الإسلام، والتعامل مع المراهقين على أساس توجيهاته.(78/1)
أثر البيئة الأسرية في تكوين الشخصية
الحمد لله كثيراً كما أنعم علينا كثيراً، وصلى الله على نبينا محمد الذي أرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وعلى جميع المؤمنين الذين أمر الله نبيه أن يبشرهم بأن لهم من الله فضلاً كبيراً، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ ثم أما بعد: فعن الأسود بن سريع رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وهذا الحديث رواه الطبراني في المعجم الكبير، والبيهقي في سننه، ورمز له السيوطي بالصحة.
قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود) يعني: كل مولود من بني آدم يبقى على هذه الفطرة، ويولد سليماً نقياً مستعداً لتوحيد الله سبحانه وتعالى؛ ولو افترضنا أن هناك طفلاً ولد في مكان بحيث تهيأت له أسباب الحياة دون أن يخالط أي مخلوق من البشر؛ لنطق هذا الطفل إذا شب وبلغ بالتوحيد، ولاهتدى بفطرته التي غرسها الله فيه إلى توحيد الله سبحانه وتعالى والإيمان به.
فالفطرة السليمة هي الأصل، ثم يطرأ بعد ذلك الانحراف بسبب عوامل منها: عوامل البيئة، والوالدين، وهما من أقواها؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)؛ ففي هذا إشارة إلى خطر تأثير الأبوين في اتجاه ومستقبل أولادهما.
فإذا كانت التربية فاشلة، أو كان الوالدان كافران؛ فهذا الطفل سوف يقلد أبويه، وتفسد فطرته بهذه العوامل، أما إذا بقي على الفطرة السليمة النقية، ثم جاء الأبوان يقويان هذه الفطرة؛ حينئذ ينظر فيما نصب من الدلائل الجلية على التوحيد وفقه الرسول صلى الله عليه وسلم نظراً صحيحاً يوصله إلى الحق والرشد، ويعرف الصواب ويلزم ما طبع عليه في الأصل من هذه الفطرة.
أما إذا كان أبواه يهوديين أو نصرانيين فهما اللذان يهودانه أو ينصرانه ويكونا السبب في الانحراف عن هذه الفطرة.
وقوله: (أو يمجسانه) أي: يدخلانه المجوسية، بأن يصداه عما ولد عليه، ويبينا له الملة المبدلة والنحلة الزائفة، وهذا لا ينافيه قوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]؛ لأن المراد به: لا ينبغي أن تبدل تلك الفطرة، وحق هذه الفطرة أن تبقوا عليها؛ لأنها صبغة الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138]، أو قوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]: خبر يراد به نهي الناس عن أن يتسببوا في تبديل فطرة الله، وفي مسخ عقائد الناس، فهو خبر بمعنى النهي كما قال البيضاوي.
والفطرة تدل على نوع من الفطر، وهو الابتداء والاختراع، فقد تنازع أعرابي مع آخر على بئر فقال أحدهما للآخر: أنا الذي فطرتها، يعني أنا الذي ابتدأت حفرها، والمعني بها هنا: تمكن الناس من الهدى في أصل الجبلة؛ إذ ليس المقصود قطعاً فطرة الإسلام، وليس المقصود أن المولود إذا ولد يكون عالماً بالإسلام والإيمان والإحسان، ومتعلماً قضايا التوحيد بدلائلها وغير ذلك؛ لأن الواقع غير ذلك، لكن المقصود التهيؤ والاستعداد لقبول الحق، وهذه الفطرة لا تلبث أن تنمو رويداً رويداً إلى أن تصل أقصاها في سن البلوغ الذي جعله الله سبحانه وتعالى سن التكليف؛ فحينئذ تفصح عن نفسها، ويعرب هذا الإنسان عما رسخ في فطرته من الاعتقاد في حقائق الوجود؛ لأن أقوى دليل على وجود الله سبحانه وتعالى هو الفطرة نفسها؛ فكل إنسان يشعر بهذه الحقيقة الإيمانية الكبرى؛ فالإنسان إذا ترك على ما فطر عليه، واستمر على لزوم هذه الفطرة، ولم يفارقها ولم يغيرها؛ فلسوف يبقى على هذه الفطرة وسيقبل الإسلام ويستقيم على دين الله سبحانه وتعالى؛ وإنما يعدل عنه بآفة من الآفات البشرية والتقليد، فالفاء في قوله: (فأبواه)، للتعقيب أو للتسبب، أي: إذا تقرر ذلك فمن تغير عن هذه الفطرة فإنما يكون ذلك بسبب أبويه.
والحاصل أن الإنسان مفطور على التهيؤ لأن يدين بالإسلام بالفعل؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78]، فنحن نُخلَق ولا نعلم شيئاً، لكن هذه البذرة موجودة في قلب الإنسان بعوامل متعددة، ويبدأ يستيقظ فيه هذا الشعور ويتنامى ويكثر في وقت من الأوقات، ذلك حينما تكثر أسئلة الطفل عن الوجود والسماء والشمس والقمر، ويبدأ يسأل أسئلة ليستكشف بدافع من هذه الفطرة الكامنة فيه حقائق الوجود، حتى إذا ما وصل سن التكليف فإنه يكون ناضجاً لدرجة تؤهله أن يكون مكلفاً -كما سنبين إن شاء الله تعالى- فهو مهيأ للإسلام بالقوة؛ لكن لابد من التعلم واكتساب العلم بالفعل، فمن قدر الله كونه من أهل السعادة قيض الله له من يعلمه سبيل الهدى؛ فصار مهذباً بالفعل، ومن خذله وأشقاه سبب له من يغير فطرته ويثني عزيمته، والله سبحانه وتعالى هو المتصرف في عبيده كيف يشاء، كما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8].
وهذا الحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: (كل إنسان تلده أمه على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه؛ فإن كانا مسلمين فمسلم)، ورواه البخاري بلفظ: (كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه؛ كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها من جدعاء).
خلاصة الكلام في هذه القضية: أن هذا الحديث يشير إلى عنصر مهم جداً في تكوين الشخصية في مراحل الطفولة أو الشباب أو المراهقة، وهو تأثير البيئة التي تعد أخطر مؤسسة تربوية على الإطلاق، وبالذات بيئة الأسرة التي تحيط بالإنسان.
وهو أيضاً يشير إلى أهمية استقلالية المسلمين في استقاء المناهج التربوية عن الملاحدة والكافرين من أهل الغرب وغيرهم الذين اقتحموا هذا الباب وأفسدوا فيه كثيراً من الأمم في هذا المجال كثيراً وأبعدوها عن صراط الله سبحانه وتعالى المستقيم.
والحقيقة أن المناهج التربوية السوية والمستقيمة ينبغي أن تكون حكراً على المسلمين؛ بناءً على قوله تبارك وتعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وترببية النفس البشرية ليست كغيرها من العلوم التي تخضع للتجارب المعملية والأمور الحسية، إنما هي محاولة لاستكشاف خصائص هذه النفس، وقد يصيبون أحياناً ويخطئون أحياناً أخرى، ويختلط عندهم الخطأ بالصواب، نظراً لاختلاف الثقافة والمفاهيم للحياة وللكون والألوهية، فمن الخطأ الجسيم أن تطبق هذه المناهج الغربية التربوية على أبناء المسلمين مع الاختلاف الشاسع بين قوم يؤمنون بالله وبالقرآن وبالرسول صلى الله عليه وسلم، وبين قوم يكفرون بالله سبحانه وتعالى وكتابه ورسوله؛ لا شك أن العقيدة سوف تنعكس في هذه المناهج كما سنرى ذلك بالتفصيل.
كما أن كثيراً من حقائق هذه العلوم النفسية مبثوثة في ثنايا القرآن والسنة، وقد يأتي الشق السليم من علوم النفس وعلوم التربية ويتوافق تماماً مع ما أخبر الله سبحانه وتعالى به، وهذه العلوم لا تؤكد هذه المفاهيم، وإنما هي تستكشف حقائق قد غرسها الله سبحانه وتعالى في هذه المخلوقات بالفعل، كما في قول الله تبارك وتعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]، هذه الآية تشير إلى حقيقة تعترف بها العلوم الحديثة، وقد تزعم أنها هي التي استنبطتها، وهي: أن هناك فرقاً بين البلوغ وبين الرشد، فقد يبلغ الإنسان ولا يكون راشداً، بالذات في أوائل مرحلة المراهقة، فهو من الناحية الجسمية أو التناسلية صار ناضجاً، لكنه ليس راشداً فيتأخر النضج العقلي عن النمو الجسدي، فهذه الأمور موجودة في هذه الآية الكريمة؛ لأن الله تعالى قال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}، هذه إشارة إلى أن البلوغ هو في جانب التناسل، وحينئذ يبدأ اختبارهم كي تعلموا هل بلغوا الرشد أم لا؟ فإذا بلغوا الرشد {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6].
أيضاً هذا الحديث لا شك أنه يعكس معلومة مهمة جداً، وهي تأثير البيئة التي تعتبر أكبر وأخطر مؤسسة تربوية على الإطلاق.
وعليه سنبدأ إن شاء الله تعالى بفتح ملف المراهقين؛ كيف نفهم المراهقين؟ وما هي مشاكل المراهقين؟ وكيف ينبغي أن تحل؟(78/2)
سبب الحديث عن مشاكل المراهقين
كان الأولى بنا أن نبدأ بالمراحل الأولى من الأمور التربوية وهي مرحلة الطفولة الباكرة التي تبدأ من الميلاد إلى ما بعدها من المراحل، لكن هناك أسباب ستتبين إن شاء الله من خلال البحث تسوغ لنا البداءة بموضوع المراهقين رغم أنه ليس متماشياً مع الترتيب المنطقي لهذا الأمر.(78/3)
الحرص على نفع الإنسان ودفع ما يضره
قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (احرص على ما ينفعك)، هذا هو الدافع الأساسي للتوقف عند هذه القضية الحيوية لدراستها والاهتمام بها؛ فإن قوله عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك) مفهومه: تجنب ما يضرك، أو اجتهد في تجنب ما يضرك؛ فمن هذا المنطلق نحن نعطي هذه القضية قدراً خاصاً من الاهتمام.(78/4)
انتشار الأمية التربوية
الواقع أننا الآن في أزمة تربوية شديدة، يمكن أن نعبر عنها بالأمية التربوية؛ إذ لم تعد الأمية قاصرة على العجز عن القراءة والكتابة، فقد أصبحت الأمية التربوية موجودة في طوائف هم أولى الناس بأن يحيطوا بها علماً، وعلى الأخص الآباء والأمهات الملتزمون بهذه القضية.
وللأسف الشديد أن بعض المدرسين اليوم في داخل مكان يسمى سابقاً وزارة التربية والتعليم نسمع عنهم أشياء سيئة نتيجة عدم الخبرة التربوية، أو فساد بعض من ينتسبون إلى فئة التدريس، الأمر الذي ينعكس بلا شك على هؤلاء الطلبة، ويصبحون هم فيما بعد هم الضحايا للتوجيه الخاطئ الذي يفتقر إلى كثير من المبادئ التربوية السليمة.
وننبه إلى غلطة فادحة يقع فيها أحياناً المدرسون والمدرسات والآباء والأمهات بغض النظر عن خطر البيئة من حول المراهق من أصدقاء ووسائل الإعلام، وغير ذلك من المؤثرات التي سنشير إليها؛ فبقي المسجد هو الحصن الباقي من حصون الإسلام كي ننطلق منه إلى المناهج التربوية، والتوعية التربوية السليمة لحماية أبناء المسلمين قدر المستطاع من هذه المؤثرات، ولا شك أنكم سمعتم بالمأساة الأليمة التي وقعت في إحدى المدارس القريبة من المسجد، حيث خرجت منها هذه الفئة الضالة من الأولاد الملاحدة الذين يزعمون أنهم يعبدون الشيطان، وهذا أمر ما كنا نتخيله.
الأعجب من ذلك ردود أفعال المجتمع، فقد وجدنا فزعاً شديداً من كلمة عبادة الشيطان، ومناسك عبادة الشيطان، وما يفعله هؤلاء الأولاد، في حين وجدنا أموراً في غاية التناقض، دخلت أحد المحلات لأشتري بعض الأشياء، فشاهدت في التلفزيون رجلاً مهندماً حليقاً يتكلم بقال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، ويعيب على الأسرة إهمال التربية، وفساد الشباب، فلفت نظري أن الكاميرات تنقل صوراً من الذين يحاضرهم هذا الشخص وهم جالسون بمنتهى التأثر، وكأن لسان حالهم يقول: كيف أصبح أولادنا يعبدون الشيطان؟ ومن هؤلاء أمهات في غاية التبرج، ولا تدري أنها أيضاً تعبد الشيطان، وقد اجتمعوا من أجل مناقشة عبادة الشيطان في حين أن كثيراً منهم يعبدون الشيطان وهم لا ينتبهون؛ لماذا؟ لأن الشيطان خدعهم بأن سول لهم عبادته، لكن بطريقة لا تحمل اسم عبادة الشيطان، فما أكثر الذين يعبدون الشيطان! هل آزر والد إبراهيم كان يقول: أنا أعبد الشيطان، أم أن الشيطان سوغ له عبادة الأصنام؟ ومع ذلك قال له إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44]، وقال الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61].
فالعبادة نوعان فقط: عبادة لله وعبادة للشيطان، لكن الناس يتفاوتون في مقدار عبوديتهم للشيطان، فمن عبده بأن أطاعه بارتكاب المعاصي فهذا فاسق فاجر، ومن أطاعه في استحلال المعاصي فهو كافر خارج من الملة، فالحقيقة أن كثيراً من الناس في مجتمعنا يعبدون الشيطان، لكنهم فزعوا لأن هذه عبادة صريحة، وإلا فإن كل معصية وكفر يقع في هذا الوجود إنما هو من الشياطين التي تؤزهم أزاً على هذه المعاصي، وهم في الحقيقة يطيعون الشيطان.
لا نريد أن نخرج عن موضوعنا؛ لكن هذه من أقبح ثمرات الفوضى، أو بتعبير آخر فالأمية التربوية التي تشيع الآن في مجتمعاتنا، تؤكد ضرورة التوعية بالنسبة لهذه المراحل الخطيرة من مراحل العمر.(78/5)
الحصن الأخير للتربية هو المساجد
هل هذا الموضوع يناسب دراسته في المسجد؟ لا شك طبعاً؛ لأن المسجد صار الآن هو الحصن الوحيد الذي يؤمن على التوجيه والتربية والتوعية، وقد توجد أماكن أخرى! ويوجد من المدرسين أناس أفاضل يراعون هذه الأشياء، ويتقون الله في توجيه الشباب وغير ذلك، لكن يبقى المسجد هو المنطلق؛ لأن الإسلام هو دين حياة وليس ديناً منعزلاً كالكنيسة، فهو دين يتعامل مع الحقائق كحقيقة، وهو حقيقة تتعامل مع الواقع وليس نظرية مثالية تتعامل مع الفروض والخيال.
وكل واحد منا أحد اثنين: إما أب عند هؤلاء الذين يوشكون أن يقتربوا من المراهقة، وإما أب عنده أولاد بالفعل دخلوا مرحلة المراهقة، وإما إخوة يعمرون المساجد -أغلبهم أيضاً من المراهقين- يحتاجون إلى أن يعرفوا ما لهم وما عليهم.
فالآباء يحتاجون إلى فهم طبيعة هذه المرحلة حتى يتوقوا الأخطار التي يمكن أن تنعكس انعكاساً خطيراً على مستقبل أبنائهم، ولا مانع في نفس الوقت من الاستفادة من الدراسات النفسية الحديثة، فالحكمة ضالة المؤمن يلتمسها أنى وجدها، ومعلوم أن الجزء الصحيح في علوم النفس وعلوم التربية هو ما يتوافق مع الإسلام، ولا حرج من الاستفادة من هذا المجال؛ لأن سنن الفطرة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في المخلوقات واحدة لا تتغير، والعلوم والبحوث الحديثة قد تستكشف بعض الأمور المكنونة في هذه النفس الإنسانية، والله سبحانه وتعالى أشار إلى المراحل التي يمر بها الإنسان في قوله تبارك وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54].(78/6)
الاهتمام بالنمو الجسمي دون الاجتماعي
من الأخطاء التي نقع فيها: أن الذي يلفت أنظارنا في الغالب هو النمو الجسمي للطفل: كان رضيعاً، ثم بدأ يترقى في مراحل الطفولة، ثم يدخل مرحلة المراهقة بمراحلها الثلاث، ثم يدخل بعد ذلك في مرحلة الرشد، ثم مرحلة العمر المتوسط، ثم الشيخوخة، فالذي يلفت أنظارنا أكثر هو النمو الجسمي، ونغفل عن أنواع أخرى من النمو، وبالتالي لا نواكب هذه التطورات.
فهناك نمو آخر غير النمو الجسمي، فكما أن الجسم ينمو فإن النفس تنمو وتمر بمراحل، والعقل ينمو ويمر بمراحل، والعواطف تنمو أيضاً، كذلك السلوك الاجتماعي وبعض الناس قد تتغير تعاملاته مع ابنه نظراً لنموه الجسمي؛ لكنه لا يدرك النمو النفسي، وأن كل مرحلة لها طبيعة لابد أن يتفهمها ليعرف كيف يتعامل مع ابنه لكي يجتاز هذه المرحلة بسلام.(78/7)
مرحلة المراهقة مرحلة بناء الشخصية
مرحلة المراهقة من أخطر مراحل نمو الإنسان، بمعنى أنها تتطلب رعاية خاصة، فإذا تصورنا دائرتين متداخلتين، دائرة الطفولة ودائرة الرشد، فإذا تداخلت هاتان الدائرتان تولدت بينهما المسافة المشتركة، وهي مرحلة المراهقة، ويكاد المراهق إذا وقف على أطراف أصابعه أن يتطلع إلى عالم الرجولة، وفي نفس الوقت يريد أن يتخلص من آثار مرحلة الطفولة كما سنبين إن شاء الله تعالى.
فخطورة هذه المرحلة بجانب مرحلة الطفولة؛ لأنها أساس بناء الشخصية، والشخصية يبدأ تكوينها مبكراً أكثر مما نتخيل؛ فنحن ننظر للطفل الرضيع على أنه مضغة لحم نلهو بها ونفرح بها فقط، لكن الجوانب التربوية نهملها مع الرضع ثم مع الأطفال بعد ذلك في المراحل المختلفة، على حين أننا نجهل أن بذور الخير أو الشر أو الصحة النفسية أو الأمراض النفسية كلها توضع في هذه المرحلة الأولى، ولا تلبث أن تنمو حتى تظهر فيما بعد، ثم إذا بلغ عمره ثمان عشرة سنة أو عشرين سألنا: أين التربية؟ ولم يعد هناك تربية في هذه السن؛ بل هو علاج؛ لأن التأسيس وبناء الشخصية ينتهي في مرحلة المراهقة، وكل ما يأتي بعد مرحلة المراهقة والطفولة يكون نتاجاً وثمرة لما تلقاه الإنسان من تربية في فترة الطفولة ثم المراهقة.
إذاً: لو تمكنت الصفات والخصائص من الشخصية في مرحلة البناء والتأسيس، فما بعد ذلك هو ثمرة لهذه التربية، والتربية لا تبدأ بعد اثنين وعشرين أو ثلاثة وعشرين سنة، ولكنه علاج للتربية الخاطئة، كما لو وجد إنسان فيه عاهات نفسية فإنه يحتاج إلى علاج وليس إلى تربية؛ لأن التربية قد فات وقتها، ونحن لا نيأس ولا نؤيس ولكن ننبه على أهمية الاهتمام المبكر بالتربية المبكرة منذ أول يوم يولد فيه الطفل، بل في الحقيقة منذ كان جنيناً في بطن أمه، بل أخص من ذلك منذ أن اختار أمه التي ستلده.
أيضاً هذه المرحلة هي مرحلة تأسيس وبناء شخصية هذا الإنسان وتحديد ملامحها، كما أنها مرحلة مفترق الطرق بالنسبة للمراهق، ويكون له أحاسيسه المرهفة، وبالتالي يتخذ في هذه المرحلة قرارات مصيرية تؤثر في كل مستقبله فيما بعد.
مثال: الطالب يحدد اتجاهه في الدراسة أو المهنة خلال هذه المرحلة، وتتخذ قرارات مصيرية ومستقبلية؛ إذاً: التوعية المبكرة بهذه الأمور تقي كثيراً من المخاطر، فالاهتمام بهذه القضية هو من باب أن الوقاية خير من العلاج، وكما يقولون: الدفع أسهل من الرفع، قبل أن تنزل المصيبة اتق حصولها من البداية، إذا جاءت سيارة أيهما أسهل: أن تدفع السيارة أم أن ترفعها في الهواء؟ لا شك أن الدفع أسهل من الرفع، وهذا هو نفس معنى: الوقاية خير من العلاج؛ ولذلك كلما زاد الإنسان وعياً كلما احتاط في اتخاذ الإجراءات الوقائية، ونتائجه تكون مضمونة وأقرب من الإجراءات العلاجية؛ لأنه قد يستجيب للعلاج أو لا يستجيب.(78/8)
جهل الآباء بالتربية الصحيحة
واقعنا الذي نعيشه مما يفرض علينا الاهتمام بهذه القضية، حيث يوجد من الآباء من يجهل أن هناك علماً اسمه: علم تربية، فمن الآباء من لا يلتفت أصلاً لشيء اسمه تربية، ولا مناهج تربوية، ولا أسس تربوية، وموضوع التربية عنده ينحصر في كيف أن يطعم ولده طعاماً جيداً، ويلبسه ملابس جيدة وغير ذلك من الاحتياجات الحسية، ولا تخطر على باله خطورة موضوع التربية، بالتالي تحصل ممارسات خاطئة من الآباء نتيجة ما ذكرناه من نسيان الأمية التربوية، حتى ربما كان الشخص أستاذاً في الجامعة، ويرتكب أخطاءً فادحة من الناحية التربوية، وأنا أعرف بعض النماذج من هؤلاء.
فنتيجة الجهل بقواعد التربية أو القواعد الصحية أو النفسية يحصل كثير من الأخطاء، فنلاحظ الشخص الكبير الذي لا يفهم الأسس التربوية يضع عقله بموازاة عقل الطفل الصغير، فإذا أخطأ الطفل فإنه يوجهه طبقاً لقدراته العقلية هو! فإذا أخطأ الطفل وجد الضرب الشديد، وليس الضرب الذي هو نوع من أنواع العلاج بشروطه! بل الضرب للتشفي وللانتقام، فلذلك لا يتوقف الضرب حتى يفرغ كل شحنة الغضب من صدره، وهذا الضرب غير مشروع، ويعتبر إساءة بالغة! لأن الضرب إنما شرع كعلاج، وله شروط حتى يكون علاجاً.
كذلك الأب الذي عنده الخبرة بالحياة، والنضج الكامل حينما يتعامل مع المراهق وتبرز مشاكل نتيجة الخلل سواء من المراهق نفسه أو من الأبوين -كما سنذكر أمثلة على ذلك- لكن الإنسان إذا أدرك كيف يفكر من أمامه، استطاع أن يتعامل معه؛ فالمراهق هذه المرحلة بالنسبة له مرحلة مؤقتة يمر بها، كالنزوع للتمرد، والنزوع للاستقلالية، وإثبات الذات ولو بأي طريقة، والتمرد على الكبار، هذه ظواهر تعتبر طبيعية في هذه المرحلة بالذات، وهذا أمر متوقع.
المهم: كيف يمر خلال هذه المرحلة بسلام وبأقل قدر ممكن من المشاكل والأضرار؟ كما ذكرت من قبل: كثير من الآباء يكون عنده منهج تربوي لكنه منهج تربوي خاطئ، فيتصور أن أحسن تربية هي التي رباه عليها أبوه: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22]، فهذا المنهج الذي وجد عليه أباه هو أحسن تربية، فبالتالي يطبق نفس الأساليب التربوية التي سلكها معه أبوه، بغض النظر عن صحتها أو خطئها أو وضعها على معايير أو موازين التربية العلمية الصحيحة، لذلك نجد من بعض هذه الممارسات ما يترك أثراً سيئاً جداً، فبعض الآباء يطرد الابن من البيت، وهذا فيه إهانة لهذا الولد أو الشاب أمام أصدقائه، وكذا تحقيره كأن يقول له: أنت لست بنافع أنت فاشل أنت ليس فيك أمل؛ كل هذا الكلام في الحقيقة ليس علاجاً؛ لأن الاستبداد المطلق في التعامل مع المراهق بطريقة فيها غلو شديد يقضي على شخصيته، ويخرجه مشوهاً نفسياً.
قد توجد بعض التصرفات دقيقة جداً لا ينتبه الإنسان إليها، وفي نفس الوقت تترك أثراً غير حميد في نفسية المراهق في مرحلة المراهقة المبكرة خاصة، فإذا مرض الولد تجده يريد أن يثبت أنه رجل كبير، وليس طفلاً صغيراً، فقد يحمل في نفسه إذا وجد أن أباه يصطحبه إلى طبيب الأطفال، أو يذهب إلى المحل فيقول: هل عندك أثاث أطفال؟ وأمثال هذه التصرفات التي هي عفوية لكنها تنعكس في نفسية هذا الطفل وهو مهتم جداً بكيف يعامل، ويريد أن يعامل الآن على أنه رجل، وأن يودع مرحلة الطفولة.(78/9)
أخطاء المدرسين التربوية
أشرنا من قبل إلى أن من أسباب الخلل في هذا المجال: ما يصدر ممن كانوا فيما مضى يؤتمنون على التربية والتعليم والمناهج، والوزارة العلمانية الخبيثة لها دورها في تدمير وتجفيف منابع الإسلام في مناهج التربية.
فلم يعد هناك تربية أصلاً، ولم يعد ذاك الاهتمام الذي كنا نلقاه من قبل في طفولتنا مع المدرسين، فكم من كلمة طيبة من مدرس غيرت مجرى حياة إنسان! وكم من سلوك خاطئ من مدرس قد يحرف حياة الشاب أو هذا الطفل طول حياته فيما بعد! فإذاً الأخطاء التي تقع من الذين يؤتمنون على مناهج التربية، كالمدرس الذي يناقش الأولاد مثلاً عن الأفلام مسلسل الليلة الماضية ما رأيك في أغاني فلان وفلان من المطربين؟ أو المدرسة التي تقول للأطفال: سأمتحنكم غداً! ثم في اليوم التالي لا تفعل، لماذا؟ تقول: أنا كنت أضحك عليكم من أجل أن تذاكروا، دون أن تلتفت إلى أن هذا فيه تدمير لشخصية المدرس.
المدرس قد يثبت سلوكاً متناقضاً أمام التلاميذ! فيكذب، أو يغش، أو يحتال، وغير ذلك من هذه السلوكيات ومن ذلك أن مدرس المادة قد يرى طالباً داخل لجنة الامتحان فيقول له: قابلني إذا أفلحت! فهل هذه تربية؟! والنماذج كثيرة جداً، وأغلب المدارس تقع فيها هذه الأخطاء.(78/10)
الحماية أو الشدة الزائدة من الآباء
بعض الآباء يسلك مسلك الحماية الزائدة، حتى إن ابنه يبلغ هذه السن وهو لا يسمح له بأن يعبر الطريق إلا وهو يمسك بيديه حتى لا تصدمه السيارات، وهذه حماية زائدة وتدليل زائد! وهذا فيه تحطيم لشخصية هذا الطفل.
وبعض الآباء عنده إهمال تام، خاصة في حالة انفصال الأبوين، أو إذا سافر الأب عن البيت، فهذا أيضاً ينتج الانحرافات، وأضرارها ظاهرة كما ترون في هؤلاء الذين يعبدون الشيطان.
فالذي يقع إما إطلاق العنان للمراهق بزعم أنه الآن في مرحلة ينبغي أن يعتمد فيها على نفسه، وهذا تأثر بالمناهج الغربية الفاسدة في التربية، وإما الكبت الشديد والاستبداد والقهر والبطش، وهذا أيضاً مما ينتج آثاراً سيئة، بعض الناس من نظرته الخاطئة للتربية يمدح من ينظر إلى ابنه نظرة بعينيه فيرتعد! فهو يرى أن هذه هي التربية السليمة، وهكذا كثير من الخطأ والخلل موجودة في المناهج التربوية.(78/11)
المشاكل في حياة المراهقين وكيفية علاجها
هناك الكثير من المشاكل الملحة التي يعاني منها المراهقون، ونحن حينما نتكلم عن المراهقين لا نقصد الذين يأتون إلى المساجد فقط؛ لأن هؤلاء أراد الله بهم خيراً بأن يأووا إلى بيوت الله، وأن يكونوا ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله شاب نشأ في عبادة الله)؛ لكن نقول: كل من ينتسب إلى الإسلام من شباب المسلمين وأبناء المسلمين هم منا ونحن مسئولون عن إنقاذهم وانتشالهم من الضياع.
انتشار ظاهرة التدخين: معروف أن التدخين يبدأ في مرحلة المراهقة؛ لأن المراهق يريد أن يثبت أنه رجل؛ فيتشبه بالرجال، ويرى البطل في الأفلام يدخن، ويرى إعلانات التدخين، فيعتقد أن التدخين من خصائص الرجولة؛ فيبدأ التقليد والمحاكاة، فيقع فريسة لهذه العادة السيئة.
والتدخين هو حضانة الإدمان؛ لأن نسبة كبيرة جداً من المدمنين لابد أن يكونوا مدخنين، وقليلاً ما تسمع عن شخص أدمن ويكون قد نجاه الله من التدخين مسبقاً، بل المرحلة الإعدادية للإدمان هي التدخين، ثم بعد ذلك يأتي الإدمان كما تعلمون.
الفواحش توجد أيضاً في مثل هذه المرحلة، وواضح تماماً أن الأولاد الذين يعبدون الشيطان ما فزعوا إلى ذلك إلا اتباعاً لشهواتهم، فالموسيقى التي هي من الخمر، لأنها تفسد الروح كما تفسد الخمر العقل والبدن؛ تحتاج إلى توعية بخطرها ومنافاتها للدين، ولا عجب أن كان من أهم مداخل هؤلاء الشباب لعبادة الشيطان الموسيقى، والسلف رحمهم الله تعالى سموها من قبل (مزمار الشيطان)، كما قال أبو بكر: وسماها العلماء: (قرآن الشيطان المضاد لقرآن الرحمن) وأنها رقية الزنا، وغير ذلك من التعبيرات التي سموا بها هذه الموسيقى.
العادات القبيحة التي تنتشر أيضاً بينهم: رفاق السوء، وكيف يتخلصون منهم؟ عقوق الوالدين، ونلاحظ في قضية العقوق بالذات الفارق بين المنهج الإسلامي وبين المنهج الغربي الإلحادي، فالمنهج الإسلامي ينظر للمراهق على أنه مكلف مسئول عن تصرفاته، وهذا لا يأتي عبثاً، بل هو من حكمة الله سبحانه وتعالى.
أما المناهج الغربية فإنها تركز على عملية التبرير لما يقع، وأن الطفل ينبغي أن يطلق له العنان إلى حد ما، بل يعيبون على الإسلام إيجابه بر الوالدين، وأن يعطي الوالدين هذه السلطة وهذا الحق، مع أن بر الوالدين مما يجب بالعقل، ولو أن الله سبحانه وتعالى لم ينزل في القرآن والسنة نصوصاً توجب بر الوالدين لكان العقل موجباً لبر الوالدين، ولو وجد من عنده عقل سليم؛ فإنه سوف يصل بهذا العقل إلى وجوب بر الوالدين، فكيف إذا انضم إلى ذلك الشرع؟ فالمناهج التربوية الحديثة لا تعطي حيزاً كبيراً لقضية العقوق؛ أما المناهج الإسلامية فإنها تجعله مسئولاً، وتوجب عليه أن يكون حذراً في تصرفاته مع والديه حتى لا يقع في العقوق الذي هو أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله سبحانه وتعالى، ولا يسوغ ذلك ولا يبرره بأنه في مرحلة المراهقة التي فيها الاستقلالية والتمرد، لأن العقوق قد ينعكس بعد ذلك في كل حياته إذا غضب عليه والداه.
أيضاً نجد كثيراً من الشباب لا ينظر إلى الدراسة على أنها عبادة، وليست من أجل الاستقلال الاقتصادي فقط، والصحيح أنه ما دامت الدراسة على الأقل مباحة، وأبوك أو أمك يأمرانك بها؛ فينبغي أن تحتسب أجر هذه الطاعة، وتجتهد في هذه الدراسة، خاصة وأنه يفرغك ويعينك بماله للدراسة، فواجبه أن ينفق عليك، وأنت واجبك أن تستذكر في المقابل؛ والكثير من الشباب لا نجده مقتنعاً بذلك؛ مع أن هذه تنتقل إلى مجال العبادة، وهي طاعة للوالد فيما يهواه، وإذا كان هواه لا يصادم الشرع فأنت مطالب بأن توافقه في هواه.
قلنا من قبل: إن الملتزمين أحوج للاهتمام بهذه القضية من غيرهم، باعتبار أن انفتاح المجتمع يجعل الإنسان شخصية لا تشكلها الأسرة فحسب، فهناك المدرسة، والرفقة، ووسائل الإعلام إلى كثير جداً من المؤثرات التي أصبحت تشارك الأسرة وتنازعها، بل قد تستولي منها على زمام التربية تماماً كالتلفاز والفيديو والبث المباشر، وغيرها من الأمور التي زلزلت مركز الأسرة، وصارت كالأب الثالث المزاحم للأبوين في عملية التربية.
أيضاً صعوبة التكيف مع الأحداث التي نعيشها، وبخاصة مسألة اشتداد (غربة الإسلام) يوماً بعد يوم وفي العلوم النفسية أنه لابد أن تتكيف مع المجتمع الذي أنت فيه حتى تكون صحيحاً نفسياً؛ أما نحن فنتكيف مع المجتمع الإسلامي الذي هو في بيتنا في مسجدنا ونقيم ما يمكن أن نسميه المجتمع المصغر، حتى نحمي أنفسنا من فساد المجتمع الأكبر، فبالتالي لا شك أن الإنسان يتعرض لصراع بين البيت والمدرسة، وبين البيت والإعلام، فأقوى وسيلة وقائية بعد الاستعانة بالله سبحانه وتعالى أن يكون هناك توعية وإقناع للأبناء بمنهج الإسلام، لكي يتسلحوا بما يقنعهم؛ لأن الإقناع سلاح مهم جداً في مرحلة المراهقة، ويكون الإقناع عن طريق إقامة الأدلة بكل أنواعها، وذلك حتى يقتنع المراهق ويتحمل نفس الفكر، أما إذا انتظرت منه أن يخرج مثلك، وظننت أنه في مأمن، فقد أخطأت؛ لأنه يغزى من جوانب أخرى كثيرة خارج البيت، فبالتالي يحتاج إلى تكييفه بما يخرجه معتزاً بدينه، متمسكاً به، صابراً على غربة الإسلام.
المراهقة في نظر علم النفس الحديث: هي مرحلة نمو طبيعي، وإن كان المراهق في الحقيقة لا يتعرض لأزمة في هذه الفترة طالما أن النمو يسري ويجري في مجراه الطبيعي وفقاً لاتجاهاته الانفعالية والاجتماعية.
أكبر مشكلة تبرز في حياة المراهقين اليومية، والتي تحول بينه وبين التكيف السليم، هي علاقته بالراشدين، وبالذات الآباء منهم؛ فهو يكافح بالتدريج كي يتحرر من سلطة الآباء؛ لأنه يريد أن يكون كالكبار من حيث المركز والاستقلال، فبالتالي يريد أن يصل بسرعة لمستوى الكبار ويتحرر تماماً من سلطتهم، وبالتالي تنشأ الصراعات.
فالمراهق لا ينصت لأحد ممن يكبره، وهو يعتقد أن طريقة معاملته لا تتناسب مع ما وصل إليه من نضج، وما طرأ عليه من تغيير، وتجده يقول: لا يوجد من يفهمني أو يدرك ما عندي من خبرة وأني أستطيع أن أستقل بالأمور، وقد يجد أن الآباء قد يتدخلون في شئونه الخاصة، فيكثرون أسئلة من نوع: أين كنت؟ ومع من؟ ماذا تقرأ؟ ماذا استمعت؟ ماذا كان يقول لك فلان؟ فيتدخلون بصورة تفصيلية في هذه المظاهر الحياتية، وبالتالي يتمثل الأمر في صورة صراع بينه وبين الكبار، فيصبح الوضع في المنزل أو عمل الأبوين مثل عمل الشرطة التي تضبط الناس وتراقبهم وتتابعهم، فيصير البيت كأنه ثكنة عسكرية أو مركز شرطة بين هذا المراهق وبين الأبوين.
لكن المنزل الصالح الذي يخرج شخصاً سليماً معافىً من الآفات النفسية هو الذي يتفهم حاجة المراهق إلى الاستقلال وصراعاته من أجل أن يحقق ذاته، ثم يساعده ويشجعه بقدر الإمكان، فينبغي أن يتعامل معه كرجل قادر على الاستقلال، كما يشجعه على تحمل المسئوليات، واتخاذ القرارات، والتخطيط للمستقبل؛ هذا الفهم لمركز المراهق لا يأتي دفعة واحدة، ولكنه يكون محصول سنوات من الاستقلال التدريجي المتزايد، وإبراز الذات، والأسرة هي التي ينبغي أن ترسم الخطط لمراهقها حتى يتعلم الاعتماد على نفسه في سن مبكرة، فبذلك تعمل أحسن ما في وسعها لتأكيد نضج الفرد، هذا النوع من التوجيه يجب أن لا يكون أمراً عرضياً، لكنه ينبغي أن يكون نتيجة تفكير عميق وواع من الآباء، فالآباء يجب أن يسألوا أنفسهم على الدوام: متى نستطيع أن نسمح لولدنا المراهق أن يفعل هذا أو ذاك؟ ومن ثم يحدد هو بنظرته ما هو السلوك السليم في كل مرحلة؟ ما هي الفرص التي نسمح له بها كي يمارس استقلاله ويكتسب خبرات جديدة في الحياة وتبرز نضجه وذاته؟ فأحسن سياسة تتبع مع المراهق هي: سياسة احترام رغبته في الاستقلال والتحرر، لكن بشرط عدم إهمال رعايته وتوجيهه؛ فهذه السياسة تؤدي من جهة إلى خلق جو من الثقة بين الآباء وأبنائهم، وبالتالي يستطيع الابن أن يستفيد من خبرات أبيه ويصغي إلى نصحه، وفي نفس الوقت تساعد المراهق نفسه على أن ينمو نمواً ناضجاً ومتزناً.
وتتميز مرحلة المراهقة في خصائصها عن مرحلة الطفولة والصبا؛ مما يؤدي إلى تعقيد وتنوع مطالب هذا النمو الذي يطرأ على المراهق، وبالتالي تتنوع وظائف المراهق وواجباته، هذا التنوع عبارة عن عملية تمهيدية لاكتمال النضج، ولانخراطه في مجتمع الراشدين، ومجتمع الشباب.
أعطى الإسلام هذه المرحلة أهمية تتناسب مع الواقع النمائي للمراهق، كما لفت النظر لهذا الحد الفاصل بين مرحلة الصبا ومرحلة المراهقة، فإن الصبي بمجرد أن يبلغ الحلم وتظهر عليه علاماته؛ فإنه في نظر الشرع لم يعد ذاك الطفل أو الصبي بل غدا فتىً مسئولاً عن كل ما يصدر عنه من سلوك، ويصبح لحينه مكلفاً بكل واجبات العقائد والعبادات والأحكام التشريعية.
كما أن من مظاهر أهمية هذا الموضوع أن أكثر الباحثين في هذا الموضوع يهملون إبراز المنهج الإسلامي في تربية المراهقين إبرازاً يظهر تميزه على المناهج البشرية الوضعية.
على الجانب الآخر نجد انتشار المزاعم الباطلة والمذاهب المنحرفة التي سادت ولا تزال تسيطر على تفكير الغالبية من علماء النفس، والتي تسربت إلينا من ترهات وضلالات أوروبا والغرب، والتي تطبع بصمتها وتترك تأثيرها السلبي على المراهقين المسلمين.
يتعامل الإسلام مع مرحلة المراهقة بحكمة بالغة، ويركز فيها بكثافة على استغلال القوى المتفجرة لدى المراهقين، وتكييفها وتوجيهها الوجهة الصحيحة؛ لتثمر الثمرة المرجوة التي سقيت بذرتها وهذبت شجرتها منذ الطفولة المبكرة، ولا يفصل الإسلام فصلاً تاماً ما قبل مرحلة المراهقة عما بعدها كما يفعل الغربيون، بل يتعامل معها كبناء يستحق أن توضع له الأسس الجسمية والروحية والنفسية والعقلية، حتى يتمكن الإنسان من اجتيازها دون مشاكل تحرف سلوكه، أو تؤثر في بدنه وعقله.
فالتركيز على تربية المراهق في المجال النفسي والعقلي الذي يحظى باهتمام كبير في الإسلام أمر طبيعي يتطلبه النمو الجسمي السريع والنمو العقلي للمراهق، وذلك أنه كالسفينة التي تدخل منطقة أمواج عاتية؛ فإنها تحتاج من ربانها قيادة ماهرة حكيمة ت(78/12)
تعريف المراهقة وأقسامها
أما من حيث اللغة، فيقال: رهقه أي: غشيه ولحق به، أو دنا منه سواء أخذه أم لم يأخذه، والرهق: السفه والنوك والخفة، وركوب الشر والظلم، وغشيان المحارم، وركوب المخاطر، والكذب والعجلة، وحمل الغير على ما يكره.
وهذه المعاني قد تجتمع في المراهق الذي تسوء تربيته أو يهمل إهمال البهائم، ويقال: راهق الغلام، أي: قارب الحلم، ويقال: دخل مكة مراهقاً، يعني: دخل مكة آخر الوقت حتى كاد يفوته التعريف، أي: الوقوف بعرفة، ويقال: أرهقه عسراً: كلفه إياه، ويقال: أرهق الصلاة: أخرها حتى تدنو من آخر الوقت.
أما في الاصطلاح فهو: المرحلة النمائية الثانية التي يمر بها الإنسان في حياته من الطفولة إلى الشيخوخة، وهي تتوسط بين الصبا والشباب، وتتميز بالنمو السريع في جميع اتجاهات النمو البدني والنفسي والعقلي والاجتماعي.
ووردت مادة رهق بمشتقاتها في القرآن الكريم في أربعة مواضع، منها قوله تعالى: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} [يونس:26] أي: لا يغشى وجوههم قتر ولا ذلة، في حين قال في الكافرين: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [يونس:27].
وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]، أي: ضلالاً وحيرة وقلقاً، {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} [الجن:13].
أما تعريف المراهقة عند علماء النفس؛ فهم يعتبرون المراهقة مثل الفاصل بين مرحلة ومرحلة، وفي نفس الوقت هي واصل بينهما؛ والمرحلتان هما الطفولة والرشد، فالمراهقة هي التدرج نحو النضج البدني والتناسلي والعقلي والانفعالي.
أما البلوغ فيقتصر على ناحية واحدة فقط من نواحي النمو، إذاً: البلوغ يعبر به عن نوع واحد فقط من أنواع النمو وهو النمو من حيث القدرة على التناسل عن طريق الغدد التناسلية، واكتساب معالم جديدة تنتقل بالطفل من فترة الطفولة إلى فترة الإنسان الراشد.
إذاً: البلوغ هو بداية المراهقة، ولا يعني النمو في كل مجالات النمو، وعلماء النفس يعتبرون أن المراهقة مرحلة ميلاد جديدة للإنسان، وهو الميلاد النفسي للإنسان عندما يحس بذاته، ويقع بين البلوغ والرشد كما ذكرنا.
وكون البلوغ هو بداية المراهقة وليس كل المراهقة أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6]، هذا هو البلوغ: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6].
ومما تجدر الإشارة إليه أنه فيما مضى كانت مرحلة المراهقة أقل مما هي عليه الآن، وذلك أن فترة المراهقة ليست من الأمور الثابتة، بل من الأمور المتفاوتة باختلاف الثقافات والبيئات والأفراد أنفسهم؛ فهناك فروق فردية سواء بين الذكور والإناث أو بين الذكور أنفسهم، وهناك تفاوت في البداية والنهاية كما سنبين، وفيما مضى كانت مرحلة المراهقة أقل؛ لأن التعليم الإلزامي كان ينتهي عند السنة الثانية عشرة مثلاً، وبعدها يدخل الشخص في دنيا العمل، والزواج قد يكون مبكراً جداً بالذات في البيئات الريفية، فقد يتزوج بعد سن ست عشرة سنة، ويستقل تماماً، أما الآن فامتدت فترة التعليم، وبالتالي امتدت فترة الطفولة من الناحية الاقتصادية، وليس هكذا فحسب، فقد تجد عند بعض الناس أنه لابد أن ينتهي من تعليمه ويدخل مهنته، ثم يتخصص فيها، فبالتالي امتدت هذه الفترة امتداداً كثيراً في المجتمعات المتحضرة، فامتدت فترة التعليم، وطالت فترة العزوبة، وتأخر سن الزواج، وبالتالي لا يستطيع الاستقلال عن أهله اقتصادياً واجتماعياً بسرعة، وبالتالي تمتد فترة المراهقة، فهي تبدأ من البلوغ إلى اكتمال نمو العظام حيث يستقر النمو العضوي عند الفرد، وذلك غالباً بين سن اثنتي عشرة إلى تسع عشرة سنة؛ تزيد أو تقل.
تنقسم المراهقة إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: المراهقة المبكرة: ويربطونها بالمرحلة التي هي من اثنتي عشرة سنة إلى أربع عشرة سنة، وهي فترة التعليم، ثم المرحلة الثانية: من خمس عشرة إلى ثماني عشرة، وهي المراهقة المتوسطة، وهذه تكون غالباً في التعليم الثانوي، ثم المرحلة الثالثة: وهي من ثماني عشرة إلى اثنتين وعشرين، وهي مرحلة التعليم الجامعي.
وكما أشرنا من قبل: إذا دخل الفرد مرحلة الشباب بعد سن العشرين دون أن تتم تربيته خلال مرحلتي الطفولة والمراهقة فقد فات الأوان، ويصبح المطلوب حينئذ العلاج وليس التربية، فلا نقول: تربية الشباب، ولكن: علاج الشباب؛ إنما كانت تربية في المراحل التي هي قبل سن العشرين.
فالتربية وقاية من الآفات، والعلاج يواجه الآفات ويحاول رفعها، ولا شك أن العلاج أشق من التربية؛ لماذا؟ لأن الشباب قد بلغ الأشد وبلوغ الأشد يتطلب الشعور بالذاتية، والشعور بالذاتية هو ما يشقى به الكثير من الآباء والأمهات والمجتمع؛ لأن الذاتية حين تحب أن تستقل قبل استكمال عناصر الاستقلال فذلك هو الفساد، يظل الواحد منا يوجه وليده إلى أن يبلغ سناً معينة، ثم يسمع منه معارضة لرأيه، فهل هذا الصغير مأمون على الذاتية، لو أنه أدب في مرحلة التأديب وربي لكان مأموناً على الذاتية، لكن إذا فات الأوان على المرحلة الأولى التي هي التربية، والمرحلة الثانية التي هي التأديب، وأعطيت له الذاتية، فإنه يحصل الفساد الكبير.
والتربية التي يقصدها الإسلام هي أن يتعهد المربى تعهداً يبلغه الكمال المهيأ له، فالمربى تستقبله بيئاته لكنه يحتاج إلى المربي، فهو الذي ينقل له القضايا التي تشكل خميرة سلوكه في الحياة.(78/13)
تحديات وعقبات على طريق المراهقة
أما عن التحديات التي تواجه الآباء والمربين؛ فإن الطريق ليس مفروشاً بالورود، لكن هناك تحديات جسيمة تواجههم يجب عليهم أن يقهروها.
فالتحدي الأول يتمثل في سمات وخصائص المراهقة بقوة غرائزها، وعنادها واندفاعها والميل إلى مقاومة توجيه الآباء والمربين، والنزعة الاستقلالية، والميل إلى المناقشة والجدل وخاصة في مسائل الدين إلى حد الشك أحياناً؛ مما يتطلب منهم قدراً كبيراً من الحلم والصبر وسعة الصدر.
التحدي الثاني: وهو ما يبذله أعداء الدين وأعداء الإسلام من جهد مكثف للانحراف بأبنائنا بعيداً عن الإسلام وقيمه؛ مستخدمين في ذلك من أساليب التشويق ما يسحر ألباب تلك البراعم البشرية الغضة، ويزين لهم طريق الغواية والانحراف بدعوى الحرية والتحرر والاستقلال في الرأي، تلك المعاني التي تصادف هوىً لدى المراهق على وجه الخصوص؛ ولذلك فعلى من أراد أن يبني أمة أن يستثمر مرحلة المراهقة، ومن أراد أن يحصن أمة فعليه أن يستثمر مرحلة المراهقة.
فهذا التزيين للغواية والانحراف بدعوى التحرر والاستقلالية، وتلك المعاني التي تصادف هوى لدى المراهق على وجه الخصوص، وتتفق تماماً مع حاجاته النفسية، ويجد أن فيها تأكيداً لذاته، فتراه يستجيب لها بسرعة؛ لأن داعي الغرائز قوي جداً عنده، فيجد هذه الاتجاهات تجعله يحقق ذاته في هذا المجال، حيث إن هذا الدافع قوي عنده، لكن دافع العقل والاتزان العاطفي والاتزان الاجتماعي غير موجود عنده، فلذلك يستجيب لأنه لم يكتمل نضجه العقلي والانفعالي والاجتماعي، وإنما نضج في هذا الجانب فقط، فبالتالي يستجيب لهذه المغريات ولهذا التزيين، وينجذب إليه لعدم نضج القوى العقلية عنده؛ كما يقول الشاعر: إنما تنجح المقالة في المرء إذا صادفت هوىً في الفؤاد فيؤثر فيه هذا الكلام ما دام يصادف هوىً في نفسه وفي تكوينه بجانب الفراغ العقائدي أو الفكري، وهذا يكون عند الكثير من الشباب، فعندهم فراغ وخواء، حيث لا عقيدة ولا انتماء ولا فهم ولا فكر، فبالتالي إذا أدخلت هذه السموم في قلبه يتشربها قلبه بسهولة، كما قال الشاعر: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا فمشكلة الفراغ هي سبب الامتلاء والتشبع بهذه القيم وهذه المفاهيم.
التحدي الثالث: ويتمثل في التقدم المذهل في وسائل الاتصال والنشر للكلمة المسموعة والمقروءة والمرئية، الذي جعل من المتعذر إقامة السدود والحواجز أمام ما نريد أن لا يصل إلى عقول أبنائنا ونفوسهم، وأصبح الأمر يعتمد أساساً على الدوافع الذاتية للفرد وقوة إرادته، فجهاز الفيديو مثلاً -وبالتالي البث المباشر- يشكل أكبر الأخطار التي تهدد أبناءنا في الدين في السنوات الأخيرة.
فالأمر وصل لمرحلة أنه يصعب جداً أن تخضع وسائل الاتصال الحديثة أو الكثير منها إلى أي نوع من الرقابة، بل ربما تسرب موضوع عبادة الشيطان إلى المراهقين من خلال شبكة الإنترنت، ومستحيل أن تخضع هذه الشبكة لرقابة؛ فبالتالي يسهل التفاعل مع هذه الأفكار الخبيثة التي يصعب جداً أن نوجد حواجز صناعية بيننا وبينها، وبالتالي يتعين أن يكون أقوى حاجز وأقوى منعة وحصن بين الشباب وبين هذه التيارات الفاسدة هو تقوية العقيدة والإيمان، والوازع الذي ينبع من ذاته هو كي يرفض رفضاً تلقائياً وذاتياً هذه المناهج الوافدة المنافية لعقيدته، فإذاً ينبغي الاعتماد على الرقابة الداخلية، بمعنى: أنك تجعل هذا الفتى هو نفسه يتشبع بالخوف من الله سبحانه وتعالى، وبالاستحياء منه عز وجل، وبالقيم الإسلامية التي تعطيه ميزاناً للأمور التي يتفاعل معها حيثما توجه.(78/14)
تجربة عملية لعلاج سلوك المراهقين
أتلو عليكم الآن تجربة ذكرها بعض الخبراء النفسيين، يقول بعض هؤلاء: يعامل الكثيرون من الآباء أبناءهم معاملة تكاد أن تكون واحدة في مختلف عمرهم، وهم بهذا لا يتبينون أن الطفل بتقدمه في العمر تتغير ظروفه الجسمية والنفسية، وهذا التغيير يستلزم تعديلاً في المعاملة التي يلقاها، وإلا فإن استمرار نفس المعاملة الطفلية الأولى قد يؤدي به في النهاية إلى التعبير عن نفسه بصور شتى قد تكون غير مرغوب فيها.
قال صديقي: لقد بدأت ألاحظ أن سلوك ابني إبراهيم أخذ يتغير عما كان عهدي به من قبل، فبعد أن كان صبياً مطيعاً أخذ يظهر التمرد وعدم الانصياع لأوامري، بل لعله في بعض الأحيان يصبح عدوانياً، فيسيء إلى إخوته بالضرب مثلاً، وإذا نزل ضيوف ببيتنا احتل مقعداً كبيراً بينهم، وأخذ يجاذبهم أطراف الحديث كما لو كان رب الأسرة أو شخصاً بالغاً متقدماً في العمر، وليس طفلاً في الخامسة عشرة -هذه هي الشكوى- ومع أني نهرته مراراً على أن لا يفعل هذا، وأن يبقى مع إخوته الصغار، إلا أنه لا يلبث أن يعود إلى سلوكه هذا، فيجعل من نفسه رفيقاً لضيوفنا من الأصدقاء أو الأقارب، وأقول لك الحق: إني بدأت أضعه تحت ملاحظة دقيقة، وحاولت أن أحصي حركاته وتصرفاته، فتبين لي تبدل كبير في أسلوبه وفي نمط حياته، فقد أخذ يهتم بملبسه وأناقته بشكل لم يعودنا إياه من قبل، وهو يمضي الساعات أمام المرآة يمشط شعره، ويحكم رباط عنقه الذي تنازلت له عنه مجبراً بعد إلحاح طويل من جانبه، بل لقد اكتشفت ما هو أسوأ من هذا وذاك، فقد شاهدته بالقرب من المنزل يدخن سيجارة وضعها بين شفتيه بطريقة عجيبة لا تدل على أنه من مدمني التدخين، وإنما توحي فقط بأنه معجب بنفسه وبالسيجارة بين شفتيه، وقد كظمت غضبي ولم أتصرف معه أي تصرف قبل أن أستشيرك وألتمس منك النصح والمعونة، وحتى أوفر عليك بعض المتاعب: قمت من جانبي بالبحث عما إذا كانت هناك عوامل معينة دفعت به إلى هذا السلوك، كأن يكون قد تعرف على أصدقاء فاسدين أو غير ذلك، لكني لم أتمكن من الانتهاء إلى أي سبب من هذه الأسباب؛ فأصدقاؤه لم يتغيروا، ولم يحدث أي طارئ على ظروفه في المنزل أو المدرسة، فما هو السر إذاً في هذا السلوك؟ وهل لك أن تكشف لي عما استعصى علي فهمه؟ فقلت له: أريد أن أذكر لك أولاً أن اهتمامك بما طرأ على ابنك إبراهيم من تغيرات إنما هو تصرف حميد ينبغي أن يتبعه كل الآباء، وبأن يكونوا حريصين على ملاحظة كل تغيير يطرأ على أبنائهم، ومحاولة فهمه، وتناول الأسباب التي أدت إليه، وفي هذا النوع من العلاج المبكر الذي قد يقي الطفل شر مضاعفات لا نعلم مداها، والتي قد لا تستجيب للعلاج بسهولة مستقبلاً إذا تركت بدون اهتمام واستفحل أمرها.
وفيما يختص بحالة ابنك بالذات؛ فإن ما وضحته لنا من ظروف يوحي بأن السبب فيما بدا لك من سلوك شاذ، والذي قد لا يكون شذوذاً بالمرة، مرجعه إلى أن إبراهيم يمر بمرحلة يسميها علماء النفس: مرحلة المراهقة -طبعاً مع التحفظ من قوله: قد لا يكون شذوذاً بالمرة- فهو كما ذكرت في الخامسة عشرة من عمره، ومعنى هذا: أن هناك تغيرات حيوية هامة تعتري هذا المراهق الصغير تغيرات جسمية ونفسية وبيولوجية، وغير ذلك من تغيرات تجعل منه شخصاً جديداً غير ذلك الطفل الذي عرفته قبل أن يدخل هذه المرحلة، ويترتب عليها تغيرات في علاقته بأسرته وبالمدرسة وبجماعة رفاقه، واتجاهاته نحو المجتمع وغير ذلك، هذه الاتجاهات لا بد من دراستها وفهمها فهماً جيداً حتى لا نسيء إليه بتفسيرنا لسلوكه تفسيراً قد لا يتفق مع الواقع، وحتى نتمكن من التعامل معه وفقاً لهذه الاتجاهات.
ومن أهم مشكلات المراهق: ما يتعلق بعلاقاته ببالغين وبصفة خاصة بوالديه، ورغبته في التحرر من سلطان البالغين للحصول على ما لهم من مكانة واستقلال، وعلاقة المراهق بالبالغين مشكلة تتطلب ليس فقط قبولاً لرغباته ودوافعه، بل تتطلب -من جانبه- أيضاً قدراً من قبوله لإشراف الآخرين وقبول آرائهم.
كل هذه المشاكل تتبلور حول الواقع الذي يحرره كون المراهق فرداً يقترب من الوصول إلى أقصى درجات النضوج، ويمر من الطفولة إلى البلوغ، وهو أحياناً أقرب ما يكون إلى الطفولة منه إلى البلوغ، وأحياناً أخرى يكون أقرب إلى البلوغ منه إلى الطفولة، مع أنه في الواقع لا هو هذا ولا هو ذاك.
ومن المألوف في حضارتنا وفي تقسيماتنا ألا نقول بما هو وسط، فمثلاً قد نقسم الأفراد إلى بالغ وطفل، وقد نقسم الأطفال إلى خير وشر، إلا أنه من الناحية العملية فإن الأمور ليست بمثل هذه البساطة، فمثلاً في حالة المراهقة غالباً ما نواجه أفراداً لا يمكن وصفهم في أي من هاتين الفئتين؛ لأن في ذلك تداخلاً، لأنه يمكن أن ينضج جسمه لكن عقله لم ينضج اجتماعياً أو انفعالياً، والعكس ممكن.
والمراهق باعتباره مزوداً برغبات الفرد البالغ التي تهدف إلى الاستقلال، وإلى درجة من التلقائية، فإنه يواجه بالحقيقة المرة، وهي أن الكبار يفسرون دوره بدور طفل، ويفرضون عليه الاعتماد الطفلي، ونتوقع منه أن يطيع والديه، وعليه أن يذهب إلى المدرسة، وأن يحترم علاقته بالمدرسين، وهي علاقة طفل ببالغ لا شك فيها، وبهذا فإننا ننكر عليه مكانة البالغ ومسئوليته في المجتمع، كما أن دوافعه وحياته الاجتماعية يسودها الكف؛ وفوق كل شيء فهو معتمد باستمرار على البالغين، ويجب عليه أن يتقبل مكانته منخفضاً، وأن ينفذ ما يفرض عليه من أوامر، وهكذا فإنه قد يحاول أحياناً حتى بطريقة سافرة أن يحارب في سبيل الحصول على مكانته والاعتراف به، ومن ثم يمكن اعتبار الرغبة والصراع السافر للاستقلال أموراً طبيعية في حياة المراهق، يعني: أنها مرحلة مؤقتة.
قلنا: إن المراهق يرغب في أن يحرر نفسه من إشراف الكبار، حتى يتخذ ما يعتبره حقه ومكانه الطبيعي في الحياة، وتسمى عملية الاستقلال عن الوالدين، وعن إشراف البالغين الآخرين، وإحلال الاعتماد على الذات والكفاية الذاتية محلها؛ هذه العملية تسمى: الفطام النفسي.
ولا تتوقف آثار عملية التحرر على المراهقة فقط، بل قد تمتد نتائجها خلال باقي حياة الفرد البالغ، فالمراهق قد يجاهد في سبيل الاستقلال بدون أن يحصل على ما يبتغيه، ولا تحدث له عملية الفطام النفسي؛ وعندما ننكر عليه الاستقلال ويتأخر تحقيقه مدة كافية؛ فإن المراهق قد يتقبل عدم الفطام، وبالتالي قد يفضله، وعلى هذا فمن الشائع أن ترى شخصاً ينبذ الاستقلال بشدة، ويجد نفسه غير قادر على التكيف مع العالم بدون حماية والديه، فبعض الآباء يجدون من الصعب أن يسمحوا لأطفالهم بالنمو مستقلين، ويحاولون أن تستمر علاقاتهم بأبنائهم على مستوى علاقة أب بطفل؛ وإذا استطاع الآباء بمرور الزمن السيطرة على مقاومة الأبناء، وأن يغرسوا فيهم عادات إذعان لسلطانهم، فبالتالي يجد المراهق بمرور الزمن أنه من الصعب عليه الانفصال، ثم يصبح من المريح له قبول الرعاية بدون الحاجة إلى الصراع والمنافسة في هذا الوضع، وتصبح رعايته ذات أهمية بالغة بالنسبة له.
لا يعني هذا أن المنزل أو المدرسة ينبغي أن يمتنعا عن فرض أي نوع من الكف أو الضبط، فنحن نريد أن نتفهم سبب هذه الظواهر، لكن هل يعني هذا أن يترك له الحبل على الغارب؟ لا! فلا بد من الكف والضبط، لأن المراهق لا زال محتاجاً بالفعل إلى توجيه ومساعدة، لكن ينبغي أن لا تقتصر وظيفة كل من المنزل والمدرسة على المساعدة فقط، بل لهما وظيفة الحماية والضبط، لكن، فما الوسيلة المستخدمة للتوجيه؟ إن المنزل والمدرسة الصالحان هما اللذان يتعرفان على حاجات المراهق للاستقلال وصراعه في سبيل التحرر، ثم يساعدانه ويشجعانه كلما أمكن ذلك، وهما يهيئان له الفرص والوسائل كي يحاول الوصول إلى مكانة مستقلة، ويشجعانه في تحمل المسئولية، ووضع القرارات، وخطط المستقبل، وبصفة عامة اتخاذ موقف البالغ في وقت مبكر كلما أمكن ذلك.
وهذا يتوقف على النمو في كل الاتجاهات وليس فقط النمو الجسمي، ولذلك نجد أن السلف الصالح والكثير من العلماء كانوا في سن مبكرة من حياتهم يعتادون الخروج للرحلة في طلب العلم، وإذا كان الشخص في بداية المراهقة يخرج مغترباً، ويلاقي العقبات والمشاق في سبيل طلب العلم؛ لا شك أن هذه علامة على النضج الاجتماعي المبكر، فبالتالي استطاع أن يستقل بحياته، أما مع هذه الأساليب المعاصرة فلا يمكن أن يستقل بحياته.
على أن المراهق لا يتصرف تصرف الراشد مائة في المائة، ولا يتم ذلك دفعة واحدة، بل هو نتاج سنوات من الاستقلال التدريجي والاعتماد على الذات؛ فالأسرة التي تتجه هذه الوجهة إنما تهيئ للمراهق فترة سهلة غير حافلة بالمشكلات والصعوبات، وأفضل شيء للأب أن يصل إلى مرحلة يكون فيها صديقاً لابنه، كي يستطيع توجيهه، ويكتسب ثقته، وبالتالي يذعن له عن قناعة، ويسلك معه مسلك الإقناع وليس مسلك الثكنة العسكرية، أو مركز البوليس والشرطة، أو أن الواجب أن تنفذ، فالإقناع والتوجيه السديد هو الأكثر فعالية.
على أن إعطاء المسئوليات لا ينبغي أن يتم عفواً وبمحض الصدفة، بل لابد أن يكون نتيجة تصميم دقيق من ناحية الوالدين، فلا بد لهما أن يسألا: متى نستطيع أن نسمح له بأن يفعل هذا أو ذاك؟ ما هي الفرص التي نستطيع أن نمده بها، والتي سوف تسمح له بأن يتصرف مستقبلاً، وأن يكتسب خبرات تدعم نضوجه واعتماده على نفسه؟ وهناك إشارة في القرآن إلى هذا: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، إلى قوله: {لا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]؛ فقد يبلغ الولد الحلم لكنه سفيه لم ينضج من الناحية العقلية، بحيث إذا مكنته من ميزانية الأسرة مثلاً بددها تماماً كما يبددها الطفل؛ لأنه ما نضج النضج الذي يؤهله لذلك؛ فهذه إشارة قرآنية إلى مراعاة هذا الجانب: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، وهذا يتفاوت من شخص إلى آخر، لكن يمكن ذلك على سبيل الاختبار بأن يقف الأبوان خلف المراهق في هذه المرحلة ليساندانه ويدعمانه ويفيدانه بخبراتهما مت(78/15)
كيف نفهم المراهقين [2]
الشباب مكمن الطاقة في عمر الإنسان، وتحتل فترة المراهقة مقتبل هذه الفترة، وهذه الفترة تمتاز بنمو هذا الطفل على جميع الأصعدة الجسدية والعضوية والعقلية والفكرية والاجتماعية والانفعالية، وهو نمو متسارع ملحوظ، ولسرعته يكاد المراهق لا يحسن التكيف معه، أو السيطرة على نفسه، ومن هنا يأتي دور البيئة التي تحيط به في كيفية توجيهه الوجهة الصحيحة، وتجنيبه مواضع الخطر والخطأ.(79/1)
من فوائد حديث: (اغتنم خمساً قبل خمس)
الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)، رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه الإمام أحمد في الزهد، وأبو نعيم في الحلية عن عمرو بن ميمون مرسلاً، ورمز له السيوطي بالحسن، وقال العراقي: إسناده حسن.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول ذلك لرجل وهو يعظه، أي: افعل خمسة أشياء قبل حصول خمسة أشياء أخرى تضادها.
قوله: (حياتك قبل موتك) أي: اغتنم ما تلقى نفعه بعد موتك؛ فإن من مات انقطع عمله، فمن مات توقف عن أسباب النجاة، وفاته أمله، وحق ندمه، وتولى همه؛ فاقترض من نفسك لأجل نفسك ولمصلحتها فيما بعد الموت وقوله: (وصحتك قبل سقمك)، كما أن الحياة يعقبها الموت، كذلك الصحة يعقبها السقم، فهي عارية، أو ضيف زائل عما قريب، فاغتنم العمل حال صحتك قبل أن يمنع مانع المرض؛ فتقدم المعاد بغير زاد، ويحول المرض دون الاجتهاد في العمل، فما دمت في حالة الصحة والعافية فاغتنم هذه النعمة قبل أن تزول عنك؛ فإنها سرعان ما تزول، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
وقوله: (وفراغك قبل شغلك)، أي: اغتنم فراغك في هذه الدار قبل شغلك بأهوال القيامة التي أول منازلها القبر؛ فاغتنم فرصة الإمكان لعلك تسلم من العذاب والهوان.
وقوله: (وشبابك قبل هرمك)، أي: اغتنم الطاعة حال قدرتك قبل هجوم عجز الكبر عليك؛ فتندم على ما فرطت في جنب الله.
وقوله: (وغناك قبل فقرك)، أي: اغتنم التصدق بفضول مالك قبل عروض جائحة تفقرك، فتصير فقيراً في الدنيا والآخرة.
هذه الأمور الخمسة التي نوه بذكرها النبي صلى الله عليه وسلم من خصائصها: أنه لا يعرف قدرها إلا بعد زوالها، ولذلك عبر عنها بقوله: (اغتنم)؛ لأن الإنسان لا يشعر بقيمة هذه النعمة إلا بعد أن يفقدها، وبعد أن تولي عنه، ويصعب عليه أن يستدعيها من جديد، ولهذا جاء في الحديث: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
ونحن نركز بالذات على قوله عليه الصلاة والسلام: (حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك) لشدة لصوقه بموضوعنا، ففرصة الحياة فرصة ثمينة، وقيمة الوقت قد تكلمنا عنها من قبل مراراً، وسوف يسأل الإنسان عن وقته وحياته، كما جاء في الحديث: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه)، إلى آخر الحديث.
وقد ورد كثير من كلام العلماء والشعراء في تمني عودة الشباب بعد زواله، كما قال الشاعر: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما صنع المشيب فاستعمل (ليت)؛ لأنها تستعمل في تمني المستحيل الذي لا يمكن إدراكه، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمي فسقط، لشدة قصر فترة الشباب كان كشيء سقط دون أن يشعر به.
وقال الشاعر الآخر مبيناً أيضاً سرعة مضي هذا الوقت وهذا العمر، وهو الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى، قال: وغلام قَرَب الساعة من أذنيه يسمع منها الطرقات قال ما بداخلها قلت سوسة تقرض أيام حياتي طفل صغير أخذ الساعة التي تصدر صوتاً معروفاً، فقرب الساعة من أذنيه ليسمع الطرقات المنتظمة التي تصدر من داخل الساعة، فسأل: ما الذي يصدر هذا الصوت من داخل الساعة؟ فقلت: سوسة تقرض أيام حياتي.
فهكذا يمضي العمر ويولي.
ويقول الشاعر الآخر: ما قلت للشباب في كنف الله ولا حفظه غداة استقلا ضيف أقام عندنا قليلاً سود الصحف بالذنوب وولى وتقول حفصة بنت سيرين رحمها الله تعالى: يا معشر الشباب! خذوا من أنفسكم وأنتم شباب؛ فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب.
ففترة الشباب هي فترة القوة بين ضعفين: ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة، فهي فترة العمل والاستقامة التي لها قيمة وأثر؛ لأن الإنسان إذا ولى شبابه ضعفت فيه دوافع الهوى والغرائز؛ وحينها فمن الطبيعي أنه يئوب إلى ربه سبحانه وتعالى ويستعد للقائه بالكف عن المعاصي، لكن ليس كفه ككف الذي يجاهد نفسه ويستقيم لوجه الله تبارك وتعالى.
الشباب لهم وضع خاص في ميزان الإسلام، وفي شريعة الإسلام، وفي تاريخ الإسلام؛ فما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا شباباً؛ وأشار القرآن أيضاً لذلك في قوله تعالى عن أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]؛ وأيضاً قال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام إن قومه قالوا: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60].
ففي تاريخ الإسلام لا يرتبط الشباب كما يرتبط الآن في أذهان كثير من الناس بالتهور بالجهالة بالفواحش بالتفريط في جنب الله؛ وإنما ارتبط بتدعيم رسالة الإسلام؛ فمن الذي نشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وأضاء جنبتي العالم كله بنور الإسلام والتوحيد؟ إنهم الشباب؛ نعم كان يوجد شيوخ وكهول في الجيش الإسلامي، بل حتى أحداث؛ لكن عمدة الجهاد كان على هؤلاء الشباب الذين نصروا دين الله تبارك وتعالى، فالشباب هو فترة العمل والإنجاز.
ومن الخطأ أن نربط في أذهاننا كلمة الشباب أو المراهق بالمشاكل، فليس شرطاً أن ترتبط بالمشاكل، ونحن سنتعرض لمشاكل نعانيها بسبب أوضاعنا في هذا العصر تنشأ نتيجة سوء الفهم أو الجهل، وغير ذلك من الأسباب والظواهر التي تزحف علينا زحفاً وتجوس خلال ديارنا.
الشباب هم الأعمدة التي أقيم عليها بناء الإسلام وبناء الدعوة كما ذكرنا عن أصحاب الكهف حيث كانوا شباباً، وعبر عنهم بالفتوة: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، وقال تعالى في إبراهيم: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60]، وقال تعالى فيمن استجابوا لموسى عليه السلام: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس:83]، وأسامة بن زيد تولى إمارة الجيش وهو شاب في مقتبل شبابه.
وبعض الناس يسوغون للشباب مخالفة الشرع والانحراف عن الدين، ثم يتوب فيما بعد! أخت تتحجب! يقولون: ما زلت شابة، دعيه لما تكبرين! إذاً: ما قيمة الحجاب؟ حينما تصير من القواعد اللاتي قال تعالى فيهن: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور:60]؛ فإذاً: قيمة العمل والاستقامة عند الله سبحانه وتعالى إنما تكون عند قوة الدوافع الداخلية في الإنسان التي تغلب مخالفة الشرع، ومع ذلك يستقيم ويجاهد هواه في ذات الله عز وجل.
هذه بعض الفوائد المنتقاة من قوله عليه الصلاة والسلام: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك).(79/2)
خصائص فترة المراهقة
نعود إلى موضوعنا الذي بدأناه وهو: كيف نفهم المراهقين؟(79/3)
كيفية استخدام مصطلح المراهقة بصورة صحيحة
ونود قبل الاستطراد في هذا الموضوع أن نبين أن هناك منزلقاً تربوياً يقع فيه كثير من الناس عند الكلام على موضوع المراهقين، لسبب فرط الكتابة والكلام حول هذا الموضوع، فالمجتمعات المعاصرة أعطت انطباعاً مغلوطاً عن الدلالة النفسية لكلمة المراهقة، هذا الانطباع جعل هذه المرحلة عند كثير من الناس مرتبطة بحكم أخلاقي عند عموم الناس وعند معظم المراهقين.
كلمة "مراهقة" عبارة عن حكم أخلاقي يحكم به على الشخص حتى صارت عند بعض الناس تعني الشطط في السلوك الخلقي والاجتماعي والديني؛ وكثيراً ما نجد المعلمين إذا أرادوا أن يعبروا عن عدم رضاهم عن سلوك فتىً من الفتيان يقولون: هذا مراهق، ويقصدون بذلك إعطاء هذا الانطباع عن جنوحه سلوكياً أو خلقياً أو دينياً.
واستعمال الكلمة في هذا السياق عبارة عن إصدار حكم أخلاقي عليه، وهذا الاستعمال ليس استعمالاً علمياً؛ لأنه لا يعطي المدلول الحقيقي لكلمة المراهق؛ فإن فترة المراهقة تبدأ من سن الثانية عشرة إلى سن العشرين تزيد أو تنقص سنة أو سنتين، وهي عبارة عن قنطرة للعبور عليها من الطفولة إلى الرشد، وهذه الفترة لها مميزات خاصة، وقد يكون لها مشاكل خاصة.
وإذا كانت الولادة هي تاريخ بداية الطفل فإن المراهقة هي نوع جديد من الميلاد، فهي ميلاد الرجولة عند الفتى، وتظهر خصائص هذا الميلاد في نموه في عدة مجالات، وفي التغييرات الجسمية والنفسية والانفعالية والاجتماعية والفكرية.
إذاً: كلمة المراهقة ليست سبة، وليست تعبيراً عن انحراف أو شذوذ في السلوك أو الخلق، بل هي عبارة عن مصطلح علمي يقصد به التعبير عن هذه المرحلة المتميزة بخصائص معينة كما ذكرنا.
إذاً: هي اصطلاح علمي يختص بفترة من العمر، وليست حكماً أخلاقياً على نوعية معينة من السلوك، فهذا أول ما ينبغي الالتفات إليه ونحن نناقش هذا الموضوع.
كثير من الآباء يتساءلون: من هو المراهق؟ ما هو عالمه؟ ما الذي يحدث للمراهقين ليحصل هذا التغير الملفت في هيئاتهم وتصرفاتهم وطبيعة علاقاتهم؟ ولماذا لا ينقاد المراهقون الانقياد التام المعتاد للكبار؟ لماذا تكثر الخلافات والمشكلات بين المراهقين والكبار؟ ما الأسباب الخفية وراء شيوع الانحراف وارتكاب الشذوذ في كثير من أفراد هذه الفئة في المجتمع؟ هذه الأسئلة وغيرها -كما أشرت من قبل- لا نقصد بها أساساً هذه الفئة من الذين يتواردون على المساجد، فإن هذه الفئة أقل الفئات من ناحية هذه الانحرافات أو المشاكل، وكلامنا موجه لكل من ينتمي إلى الإسلام فيشمل المقصرين والجانحين خلقياً أو سلوكياً من أبناء المسلمين، ما دام المراهق في دائرة الإسلام فهو يخصنا، ويهمنا أن ننقذه مما هو فيه.
ثم لا يمكن أن نجد أجوبة صحيحة على هذه الأسئلة كلها إلا إذا عرفنا من هو المراهق، وما خصائصه الجسدية والعقلية والانفعالية، ونموه الاجتماعي؟(79/4)
الخصائص الجسدية للمراهق
فيما يتعلق بالنمو الجسدي للمراهق هناك مجموعة من الأسئلة تلفت النظر في هذه المرحلة: ما الذي يدعو المراهقين إلى استعراض ما لديهم من قوة، ولفت الأنظار إليهم أحياناً؟ ولماذا يسعى الكثير منهم أحياناً إلى اقتناء المجلات غير المحافظة، أو متابعة المسلسلات الغرامية أو البوليسية مثلاً؟ ولماذا يقومون بالمراسلات والمهاتفات والمعاكسات؟ ولماذا يصاب المراهق بالارتباك وعدم التوازن أمام الكبار؟ وما الذي يجعله يسرح ويحلم كثيراً في حالة اليقظة؟ ولماذا تسيطر عليه أحلام اليقظة؟ ولماذا تحاول الفتاة أو الفتى أحياناً التخفي بجسمه أو ببعض أعضاء جسمه عن الكبار؟ ما أسباب العزلة والانزواء والقلق والشك الذي ينتاب المراهق بشأن جسده؟ وكيف نفهم هذه الأسئلة وهذه الاستفسارات العديدة؟ جوابها: أن المراهق يعيش تحولاً عضوياً وجسدياً، حيث يحصل له نمو مفاجئ في جسده لا يعي الكبار عنه إلا القليل، ومن ثم فإنهم لا يحسنون التعامل مع المراهق والمراهقة، ولا يجيدون بناء العلاقة معه؛ مما يؤدي إلى كثير من الأخطاء التربوية والتوجيهية والعلاجية عند معايشة المراهقين والاحتكاك بهم، فجسد المراهق يواجه عملية تحول كامل في وزنه وحجمه وشكله وفي الأنسجة والأجهزة الداخلية، وفي الهيكل والأعضاء الخارجية، ويعد هذا التحول ميزة لمرحلة المراهقة ومن أبرز معالمها.
النمو في المراحل السابقة بالنسبة للطفل كان مطرداً ومتدرجاً وبطيئاً باستثناء المرحلة المبكرة جداً في حياة الطفل، والفترة التي قبل المراهقة يكون نموه فيها بطيئاً لا يكاد يشعر به.
أما في مرحلة المراهقة فإن الفرد يحس بالتغير العضوي السريع المتتابع على كل صعيد، ويكون مفاجئاً لم يعهد من قبل، ولذلك فإن من المهم جداً الانتباه للتعليقات التي تصدر في هذه المرحلة، فنجد الأقارب تتفاوت ردود أفعالهم حينما يفاجئون بالمراهق إذا لم يأت إليهم منذ مدة كبيرة؛ فيرى هذا الفتى وقد تضخم جسمه، وفتلت عضلاته، واتسع هيكله العظمي فتصدر التعليقات، وهذه التعليقات قد يكون لها أثر سيئ جداً، وقد يكون لها أثر حسن حسب انضباط هذا الشخص الذي يعلق.
فمثل هذه التعليقات والمواقف قد تؤثر عليه سلباً أو إيجاباً.
وهذا أمر يشهده ويتعجب له الراشدون من الكبار عندما يفاجئون بالطفل وقد بدا طويل القامة، مفتول الساعدين، عليه سمات الرجال، وكذلك بالنسبة للفتاة تبدأ تظهر الانفعالات والتعقيبات والتعليقات على هذا الوضع المفاجئ الذي يرونه.
ترى الراشد عندما يرى ذلك المراهق بعد انقطاع يكيله بكلمات التعجب والاستغراب، ربما بعضهم يتعجب ويستغرب، والبعض الآخر ربما تصدر منه عبارات السخرية والاحتقار، يقول لك مثلاً: طفل الأمس أضحى كبيراً! أو ربما تصدر عبارات الفخر والاعتزاز بهذا الوضع الجديد، وهذا أحسن ما يكون من الردود، وهذا يرجع إلى اتجاهات الأسر ووعيها، مما يثير كل هذه الانفعالات أو الردود التي تشير إلى أنه قد كبر وتغير في وقت محدود وسرعة ملفتة.
وترى الآباء والأمهات يهمزون أو يلمزون أبناءهم وبناتهم لما بدا من تغير أجسادهم وأشكالهم، سواء كانت البدانة أو طول الساقين وضخامة القدمين والكفين، فتحدث التنبيهات أو التعليقات أو المداعبات المشوبة بالاستغراب، وأحياناً بالسخرية والاحتقار.
خلاصة الكلام: أن هذه كلها تعكس شعور هؤلاء الكبار بسرعة التغير والتحول عن الطفولة القاصرة المحدودة إلى السمات المؤذنة بالاكتمال والاستواء.
وزن المراهق في هذه المرحلة يزداد زيادة ملحوظة جداً، وبصورة ملفتة مع وجود بعض الفروق بين الفتيان والفتيات، فيتجه الجسم إلى البدانة، ويقترن بزيادة الوزن النمو السريع والملفت في العظام والأنسجة العضلية، حيث تطول الساقان والذراعان، ويكبر حجم الكتفين والقدمين، ويكبر الرأس، أما في داخل الجسم فتبدأ بعض الغدد في إفراز هرمونات خاصة، أما الهيئة العامة فسوف تتحول إلى ملامح الرجولة والخصائص الثانوية، إلى آخره.
إذاً: الشكل العام يتغير بالنسبة للبنات أو بالنسبة للفتيان بصورة ملفتة، ويتجه كل منهما في اتجاه معاكس للآخر تماماً في الغالب، ثم ينفرد كل نوع بتغيرات جسمية تخصه لا يشاركه فيها الآخر.(79/5)
مميزات الخصائص الجسدية للمراهق
تتميز بعض هذه التغيرات العضوية أو الجسمية بأنها ترتبط أحياناً بالمضايقة الشديدة من قبل المراهقين أو المراهقات، وقد تشعرهم بالإحراج وبالخجل، كظهور حب الشباب الذي يوجد في الوجه وغير ذلك من الأشياء، أيضاً عدم التناسب بين الأجزاء المختلفة للجسم؛ لأنه ليس في وقت واحد يتناسخ الجسم كله، فقد ينمو نمواً سريعاً فتظهر الحنجرة بصورة معينة مثلاً، وتختلف أبعاد العظام، والجسم لم يعتد التكيف مع الأبعاد الجديدة، فبالتالي يكثر جداً التعثر مثلاً، وتكثر التعليقات أيضاً ممن يحيطون به، لذلك يسمونها بفترة الارتباك، أو سن الارتباك، حيث يكثر تعثره واصطدامه بالآفات ويكثر سقوط الأشياء من بين يديه، ويزداد شعوره بالحرج نتيجة هذه الأشياء، والسبب هو هذه الطفرة في النمو، ونقص اتفاق الجسم، واختلاف أبعاد الجسم، وأنه محتاج الآن إلى أن يتعلم حسن استخدام أعضاء الجسم بهذه الأبعاد الجديدة، فهذا يكون وراء ظاهرة التعثر في البداية.
ملامح الوجه تظهر بصورة غير متناسقة كذلك الجسم غير متناسب حينما تقارن الأطراف بالجذع، ويحصل الاختلال الحركي، ويفقدون الاتزان في المشي والجري وحمل الأشياء والعمل اليدوي.
هناك تغييرات داخلية سواء تتعلق بانخفاض نبض القلب، وارتفاع ضغط الدم تدريجياً، واستهلاك الجسم للأوكسجين، وبالتالي يشعر بالإرهاق وبالجهد وبالتعب، ويرغب في الراحة، ويكون شديد الحساسية جداً لأي نقد يتعلق بشكله، أو بجسمه، أو لهذه الملامح الجديدة، سواء كان من ذويه أو زملائه ومدرسيه أو غيرهم.
هذه التغيرات أكثرها يتصف بالجدة والسرعة والتزامن، وتكون ملحة ومستغربة لدى المراهق نفسه ولدى أهله ومجتمعه، وتقوم هذه التغيرات بتحويل الطفل إلى عالم جديد ووسط غريب عليه، كما أن التركيبة الاجتماعية والأسرية لا تقبل في الغالب هذه التحولات المفاجئة والسريعة بسهولة وعفوية.
أما الجدة فالمقصود بها في هذه التغيرات: أن هذه التغيرات جديدة في نوعها لم يسبق له أن مر بها من قبل، كظهور اللحية والشارب وتغير الصوت وإفراز بعض الغدد، وهذه التغيرات تشعره بأن عليه أن يستعد لعهد جديد ومهمة مختلفة بقدر اختلاف حالته، وتحولات جسده.
هذه التغيرات تحدث كلها في وقت متقارب وفترة محددة قد لا تتجاوز ثلاث سنوات، يتصاحب فيها نمو العظام والأنسجة وزيادة الطول والوزن، وظهور الشعر، وتغير الصوت، والتغيرات الأخرى، فالمطلوب أن يتكيف مع هذه الأوضاع تكيفاً صحيحاً، أو يعان على ذلك.
كما أن الإطار الاجتماعي القريب والبعيد يلاحظ هذه التحولات المتجمعة والمتتابعة، وفي الغالب لا يحسن فهمها ولا التعامل معها؛ على أي الأحوال هو في هذه المرحلة يستعد لمواقف الرجولة ولوظائفها ومهماتها، وكل ذلك تقتضيه سنة الله سبحانه وتعالى الذي له الخلق والأمر.
هذا ما يتعلق بالتحولات الجسدية في هذه المرحلة.(79/6)
الخصائص العقلية للمراهق
هناك مجال آخر من المجالات التي ينمو فيها هذا الإنسان أو هذا المراهق: وهو النمو العقلي، وهو في هذه المرحلة ملاحظ، وهذا التغير يشهد للإسلام، ولسبق الإسلام، وبأن هذا القرآن لا يمكن أن ينزله إلا خالق هذا الإنسان الذي هو أعلم بمن خلق: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، لذلك نتعجب من آيات الله سبحانه وتعالى حينما نعرف أن الشرع ربط التكليف وعلامة التكليف بمجرد بلوغه كما هو معلوم.
هناك بعض أسئلة نستطيع من خلالها أن نجيب على أسئلة تتعلق بالنمو العقلي في المراهق.
منها مثلاً: ما الذي يدعو المراهق للاختلاف في الرأي مع والديه ومعلميه؟ ما الأسباب التي تجعله يناقش القضايا معهم، ويجادل فيها بعد أن كان مستسلماً في سن الطفولة؟ لماذا يريد المراهق التحدث والنقاش والمداولة؟ ولماذا ينزع إلى الاستقلالية؟ لماذا ينزع إلى محاولة الانفراد في اتخاذ القرار، خصوصاً فيما يتعلق بحياته الشخصية؟ بل لماذا يسفه أحياناً آراء الآخرين، ويتهمهم بالإجبارية وبمصادرة الآراء، أو يسمهم بالفردية والتحيز؟ ولماذا يعاند ويصر ويجابه؟ ولماذا يجنح في كثير من الأحيان إلى المثالية والصور النموذجية للحياة ويطالب بذلك؟ ثم ما أسباب ورود الأسئلة الملحة من المراهق؟ مثلاً: من أنا؟ ما هويتي؟ ما وظيفتي؟ ما هدفي؟ ما موقعي من الأسرة؟ ما موقعي من المجتمع؟ هل أنا طفل أو طفلة؟ هل أنا رجل أو امرأة؟ بل قد ترد أسئلة مثل: لماذا خلقت؟ ما هدف الحياة؟ ما نهايتها؟ وأسئلة أخرى عن الحياة والكون والإنسان أعمق من هذه وأشمل؛ لأنه الآن منتقل لمرحلة جديدة، عقله نما ولم يعد عقل ذلك الطفل الذي كان متعلقاً بالأمور المادية كما مضى.
لماذا تبرز مواقف الإباء ومقت التبعية؟ والاشمئزاز من المن والأذى وتظهر منه ألفاظ العزة والأنفة أحياناً، بل قد يلجأ بعض المراهقين إلى محاولة الانفصال، والبعد عن الهيمنة الأسرية، والاعتماد على النفس، أو على الأقل التظاهر بالقدرة على ذلك بل لماذا المجابهات بين الآباء والمراهقين والمتعلقة بكيفية الإنفاق، ومصادره، ومدى الحرية، أو التبعية فيه؟ ولماذا يفكر المراهق في ذاته، ودواخل نفسه، ويتأملها وينتقدها أحياناً بعد أن لم يكن كذلك؟ وكيف ينتقد هيئته وصفاته ويتفكر فيهما؟ هذه الأسئلة كلها تنم عن تحول مهم وجديد في تكوين المراهق من الناحية العقلية، فالتحولات والتغيرات العقلية والمعرفية تكمن فيها إجابة هذه الأسئلة الآنفة الذكر.
أيضاً يتحول من التفكير الفردي - حيث كان فيما قبل يفكر فقط في ذاته- إلى التفكير شبه الجماعي، ويتحول من التفكير الموجه خارجه فقط، إلى التفكير القادر على تأمل الذات، كذلك يتأمل في المحيط الخارجي مع تأمله في ذاته في الوقت نفسه، كما أن المراهق والمراهقة تحولا عن التفكير السلبي القابل للتبعية إلى التفكير الإيجابي الباحث عن المسئولية، ومن التفكير الآني في اللحظة الحاضرة فقط إلى التفكير الآني والمستقبلي معاً.
القدرة العقلية في مرحلة المراهقة تشهد تحولاً نوعياً، حيث يبدأ الفرد بإدراك المجردات والمعنويات، بعد أن كان أسيراً للمادة لا تتضح له أشياء إلا بالتمثيل المادي، ولا يستوعب القضايا المطروحة استيعاباً صحيحاً إلا بعد اقترانها بالنماذج والأمثلة الموضحة.
فالمراهق يستطيع باستعداده العقلي أن يدرك المعاني والقيم إذا ذكرت أمامه مثل: الصدق والإخلاص، فيفهم معنى الصدق، ومعنى الإخلاص، أما في الطفولة الأولى فلا يستطيع أن يعي هذه الأشياء.
فالصدق والإخلاص والأمانة والوفاء والنبل والعزة والكرامة وصفات الحرية والعدل والمسئولية، كل هذه القيم يستطيع أن يدركها ويفهمها، ويستطيع أيضاً إدراك الأبعاد المتعددة للقضية الواحدة في وقت واحد، والنظر للأمور نظرة شمولية يصفونها بنظرة عين العصفور! لأن العصفور وهو يطير يطلع على أبعاد المنطقة التي يطير فوقها كلها، بخلاف الشخص الذي يمشي ويرى أمامه جزءاً واحداً فقط.
ويكتسب المراهق قدرة على تصور الموقف وتخيله، فمثلاً: يستطيع أن يتصور ويتخيل مكاناً معيناً يريد أن يصل إليه من عدة طرق دون أن يكون قد سلك هذه الطرق من قبل؛ فنمت لديه القدرات العقلية والتخيل حتى وصل لهذا النضج.
ويتمكن أيضاً من التحكم في البدائل المتعددة للوصول إلى حل المشكلة، واختيار أي هذه الحلول أنفع، كما أنه يستطيع عندما يقع في مخالفة لا يرضى عنها والده أن يتصور الموقف المنتظر بأبعاده، ثم يفكر في الأوجه المتعددة للحل، وما يترتب على كل وجه، ويقوم بعملية الاختيار؛ وهذه الملكات كلها لم تكن موجودة في السنين الماضية.
مثلاً: إذا عرضت عليه قضية الفراغ، وأسباب الفراغ، وكيفية استغلاله، بإمكانه أن يفهم ما معنى كلمة الفراغ، ويتصور أسبابها، والكيفيات المحيطة بها؛ بخلاف الأطفال، إذا أتيت طفلاً وقلت له: اكتب موضوعاً أو تحدث عن الفراغ وأسبابه، وكيف يستغل وقت الفراغ؟ فكثير من الأطفال قد لا يدركون جميع أبعاد مثل هذه الكلمة إلا إذا وضحت لهم، وضربت لهم الأمثلة؛ فضلاً عن أسباب الفراغ وكيفية استغلاله.
وتميز المراهق عمن دونه بالقدرة على التفكير المعنوي، والتصور والتخيل، مما يساعده على تفهم القضايا، ووضع الحلول للمشكلات حتى قبل حدوثها، وهذا هو الذي يجعل المراهق يعي المعاني والقيم ويستطيع تفهمها.
هذا هو الأصل في المراهقين؛ لكن المشكلة أن الخجل الذي يشعر به المراهق قد لا يمكنه من أن يظهر كل إمكانياته، ولذلك إذا وجد الوالدان أو البيئة التي تستطيع أن تستخرج كوامن هذه المواهب فيه فسوف ينضج نضوجاً مبكراً، بخلاف ما إذا بقي أبوه يقول له: لا تشتر كذا لأنك غير قادر، فيحطم فيه الثقة بالنفس، ولذلك فإن هدفنا من هذه الدراسة أن نفهم أن المراهقين غير مرتبطين بالمشاكل، ولا نتصور القضية على أن الأب في جانب والابن في جانب وكلاهما يحارب الآخر، فنحن نريد من الأبوين أن يقفا وراءه ليساندانه ويدعمانه ويوجهانه، وليس المقصود أن يقتلا طاقاته، أو يحطما الثقة في نفسه كما يحصل للأسف الشديد عند الكثير من الآباء.
من فطرة الله عز وجل أن المراهق يستطيع أيضاً في هذه المرحلة أن تتجاوز تساؤلاته الإطار المادي القريب إلى الأبعاد المعنوية النفسية الكونية، فهو يفكر في معنى الحياة، وأهداف الحياة، وخلق الكون، والنفس، وأسباب هذا الخلق، ويستطيع إدراك المعاني المرتبطة بذلك، وهو في نفس الوقت يبحث عن هويته وموقعه ممن حوله، ووظيفته الاجتماعية إلى غير ذلك من الجوانب المحتاجة إلى هذا النوع من التفكير التجريدي في المعاني.
ورغم ما تمنحه خاصية التفكير المجرد والتصور التخيلي للمراهق من سعة أفق، كذلك يقدر على التعامل مع البيئة بكل أبعادها، ويقدر على فهم المعاني والمجردات على وجه حقيقي.(79/7)
مشكلات الخصائص العقلية للمراهق
هل هذه الصفات الجميلة في هذه المرحلة من النمو العقلي الرائع الذي يحصل بهذه الصورة لها سلبيات؟ نعم لها بعض السلبيات والمشكلات المعرفية، والاجتماعية، وأهمها مشكلتان: - المثالية في المطالب، والحيرة بين البدائل.
وذلك أن خاصية القدرة على التخيل والتجريد تعطي المراهق فرصة التفكير للوصول إلى حلول مثالية للمشكلات التي تعرض عليه، سواء مشكلات شخصية، أو أسرية، أو اجتماعية، وهذه الحلول المثالية غير ممكنة التطبيق، أي أنها ليست مستحيلة الوقوع لكنها من الناحية الواقعية غير ممكنة التطبيق، فيمكن للمراهق على أساس من هذا التفكير أن يتصور بيتاً مثالياً، ومجتمعاً مثالياً، وأمة مثالية؛ لكنه يصطدم بالواقع الثقيل المعقد.
وهذا الخلل في الاستفادة من خاصية التفكير المجرد والتصور نشأ عن فقد الخبرة، أي أن عنده القدرة على التفكير لكن ليس عنده خبرة، فهو يفقد التجربة، ويفقد الرصيد الواقعي الذي يتولد عند الإنسان من احتكاكه بظروف الحياة المختلفة واختلاطه بأصحاب الخبرة والمراس، وهذا الذي يقربه إلى الواقعية! إذاً: توضع معادلة تلخص هذه المشكلة، وهي: (أن التفكير المجرد + فقد الخبرة =المثالية في الحلول أو الخطط) فتجده دائماً يفكر في آفاق بعيدة جداً، فيقول مثلاً: لابد أن يتحد العالم كله، ويصل بتفكيره إلى أبعاد مثالية جداً في التعامل مع الأمور.
وإذا كانت هذه المطالب نموذجية ومثالية فمن الطبيعي أنها تواجه بالإهمال أو بالرفض من قبل الوالدين أو المجتمع، وبالتالي ينشأ الصراع بينه وبين الأسرة، أو بينه وبين المجتمع، أو ينشأ الاغتراب نتيجة هذا الاصطدام، ويعتزل المجتمع، ويفقد ثقته بالناس، وبالتالي ينتشر عند الشباب سلبية وتشاؤم.
وهذه المشكلة أيضاً يمكن التعبير عنها في معادلة: (آراء ومطالب مثالية + رفض مستمر دون بيان =اغتراب وصراع) الأب أو المجتمع يرفض هذه الآراء دون أن يفهم هذا المراهق ويقنعه، فهو مقتنع بالتفكير المثالي وآراؤه المثالية النموذجية، والمجتمع أو الآباء يرفضون أفكاره دون بيان ودون توضيح ودون إقناع، فينشأ عن ذلك صراع أو اغتراب.
- أما المشكلة الأخرى التي تنشأ عن هذه الخاصية فهي: الحيرة والنقد: ذكرنا أن المراهق يستطيع أن يتصور المواقف المختلفة قبل حدوثها، ويستطيع عند مواجهة المشكلات أن يدرك الوجوه المختلفة لها، والبدائل المتعددة لحلها، وعندما يواجه مشكلة ذات بدائل متعددة في حلها لابد من اتخاذ القرار لتحديد الحل واختياره، وإذا وضع في الاعتبار فقد الخبرة مع طبيعة المراهق الانفعالية وقعت هذه المشكلة بالنسبة له، فهو لابد أن يختار، ولابد أن يعرف التعليل عند اختيار هذا الحل دون غيره، ومن هنا تنشأ مشكلة الحيرة بين البدائل المختلفة، وتنشأ موجة الشك والتردد، وينشأ عنده الاتجاه للنقد والتمحيص لما حوله حتى في بعض المسلمات التقليدية الاجتماعية، باحثاً عن الحكمة من ورائها، ومناقشاً لوالديه أو معلميه في مواقفهم وفي اتخاذهم للقرارات واقتناعهم بالمسلمات.
ورغم ما يواجهه المراهق من حيرة بين البدائل إلا أنه ينزع إلى اتخاذ القرار بنفسه، واختيار الحل الذي يقتنع هو به، لكنه قد يخفق في كثير من الأحيان ويفشل ما لم تتم إحاطته بوسط يساعده على اتخاذ القرار المناسب بطريقة غير مباشرة، أو بطريقة مباشرة غير ملزمة.
يستطيع أيضاً أن يعي أو يستوعب الرموز المركبة، إذا رمزنا له بواحد عن سين مثلاً، واثنين نرمز لها بصاد، فهو يستطيع أن يعرف أن (س + ص =3)، بالتالي يقدر أن يفكر هو بذاته، وبالتالي تنمو عنده القدرة على تأمل ذاته وأحواله وصفاته وسماته، ويبدأ بانتقاد ذاته.
كما أنه يستطيع تكوين فكرة عن ذاته وطاقاته وميوله وحاجاته، ولا يتقبل رأي الآخرين فيه بسهولة؛ لأنه يريد أن ينبع الرأي منه هو، فرأي الآخرين في نفسه لا يتقبله، ويكون شديد الحساسية للنقد.
ولبروز قدرة المراهق على التفكير والتأمل في نفسه وفي ذاته يبدأ عنده الادعاء أن الراشدين لا يفهمونه، وأنهم لا يدركون معاناته ولا مرحلته، ولا شك أن هذا النوع من التفكير لم يكن موجوداً في مرحلة الطفولة، إذاً: هذه من خصائص مرحلة المراهقة التي تتسم بالتغيرات البالغة في مستوى التفكير ونوعيته.(79/8)
خصائص المراهق التفكيرية
المراهق يخرج من التفكير السلبي إلى التفكير الإيجابي الذي يبحث فيه عن المسئولية، ويتفحص ذاته ومقامه وسمعته؛ فيتساءل دائماً: ما هي صورتي عند الناس؟ بماذا يحكم عليّ الآخرون؟ هل أنا كبير بالفعل؟ ولماذا لا أقوم بمهام الرجال؟ هل أنا أحمل صفات الكبار؟ ما الذي يجعلني مقبولاً؟ ما هي عناصر القبول والرد الاجتماعي؟ كيف أقوم بالعمل المناسب؟ إذاً: لدى المراهق مستوى من النضج العقلي يمكنه من أن يحس ويشعر ما إذا كان هناك من يعامله معاملة المهمل أو المنبوذ، فهذا النضج الذي عنده يشعر بأنه يعامل بهامشية.
أيضاً يتمكن من الشعور بالقيمة عندما يكون مسئولاً فيستجيب للوضع الذي يوضع فيه.
وهذا كله مؤشر مهم على أن تفكيره قد أصبح تفكيراً إيجابياً، وبهذا التفكير بدأ يتفتح على الحياة.
من مميزات المراهق: أنه يدرك إدراكاً تاماً مفهوم الزمن، كذلك يقدر على التفكير المستقبلي إضافة للتفكير الآني، حيث يستطيع أن يفكر في الأمور الآنية الحالية، وهذه كانت موجودة في الطفولة، لكن الشيء الجديد أنه بجانب التفكير الآني الحاضر يستطيع أن يفكر في المستقبل، فلا يكون أسير الحال مشدوداً إليه كما هو حال الطفل دون سن العاشرة.
عقلية المراهق تتمكن من فهم الأبعاد الزمنية: الماضي والحاضر والمستقبل، وتستطيع ذاكرته استدعاء الماضي كما تستطيع التفكير في المستقبل ما قرب منه وما بعد بالتحديد وبالتعميم، فيدرك ما معنى الأيام والأشهر والسنين والقرون، ويدرك معنى بداية الحياة ونهايتها، ومفهوم الدنيا والآخرة، والوعد والوعيد، والأمل والطموح، والوسيلة والغاية، والمرحلة والنهاية إلى غير ذلك من المفاهيم التي ترتبط بالزمن وبأبعاد الزمن.
هذا الاستعداد يؤدي عادة إلى الفهم الصحيح لكل هذه المعاني دون لبس أو غموض، وليس كحال الطفل الذي يفهم هذه المعاني فهماً خاصاً به مختلفاً عن مفهوم الكبار؛ لأن استعداده العقلي محدود، كما أن هذا الاستعداد هو من المهيئات؛ وإدراكه لأبعاد الزمن من الفطر التي يودعها الله فيه؛ لأنه في هذه الحالة يتهيأ للتساؤل عن خلق الكون؟ عن الحياة وأهدافها وأسبابها؟ عن الإنسان ووظائفه ونهايته؟ كذلك هذا من المهيئات التي تدعوه للتفكير بالمستقبل، فيتخيل المستقبل يخطط للمستقبل، وينشغل بذلك حتى يصل أحياناً إلى ما يسمى بأحلام اليقظة؛ وقد يفرط في إنفاق الوقت في تخيل المستقبل وهو ما يسمى بـ: أحلام اليقظة.
هذه الاستعدادات أيضاً تمكنه من أن يواجه الآخرين، ويتصدى لهم عندما يريدون التخطيط لمستقبله بمعزل عن رأيه ووجهة نظره.
كذلك يتضمن التفكير في المستقبل الصورة المستقبلية لحياته، وطبيعة عمله، ونوع مهنته، وشريك حياته، وهذا في نظره من أهم الموضوعات، ومكانته في الأسرة والمجتمع، ولديه أيضاً استعداد أوسع من ذلك، فيمكن أن يتضمن تفكيره المستقبلي التفكير في أحوال مجتمعه، ومستقبل أمته ومكانتها، والعمل للنهوض بها، لكنه لا يسلم في هذا كله من المثالية في التفكير؛ نظراً لقلة خبرته، وقصر تجربته؛ مما قد يصيبه بالإحباط، وبخيبة الأمل أحياناً.(79/9)
خصائص المراهق الانفعالية
أشرنا من قبل إلى أن أكثر الناس يلفت نظرهم النمو الجسدي، وبالتالي يعاملون الطفل بنفس المعاملة التي كانت من قبل، وكأنه لا يدرك هذه الفروق، مع أنه ينمو في جسده كما ينمو في عقله، كما أنه ينمو في عواطفه حيث ينمو اجتماعياً.
هنا أيضاً بعض الأسئلة من خلالها ندلف إلى موضوع انفعالات المراهق ونموه الانفعالي: هل تظهر موجات الغضب عند المراهقين أكثر من غيرهم؟ لماذا يتم التعبير عن الغضب بالانفعالات الشديدة أو المباشرة كالمصادمة والمضاربة، والتحدي، والتراشق اللفظي، والاستعراض الجسمي؟ لماذا يتسرع المراهق في اتخاذ القرارات، وفي الحصول على المطلوبات؟ لماذا العجلة والسرعة في ممارسة الأعمال، واقتناء الحاجات وتنفيذ المهمات؟ هل يحزن المراهق ويغتم؟ هل تصيبه الكآبة؟ هل يلجأ إلى العزلة والانطواء؟ هل يحس بالغربة والهامشية والدونية أحياناً؟ ولماذا؟ لماذا يفرح المراهقون بشدة عندما يفرحون؟ ولماذا يتشنجون عندما يشجعون؟ ولماذا يسرفون عندما يمدحون؟ يعني أن خصائص الانفعال لا تعرف الوسطية، فإذا أحب يحب حباً شديداً، إذا كره يكره كرهاً شديداً، فيكون هناك نوع من الأخذ بأطراف الأمور في المواقف الانفعالية ولا تكون متزنة.
لماذا يسرفون عندما يهجون؟ هل صحيح أن العاطفة تغلب على فترة المراهقة؟ لماذا انفعال الحب والتعلق عند المراهق يتمكن منه تمكناً شديداً، ويستولي على نضجه ومشاعره، ويستولي على فكره ومخيلته؟ لماذا أحلام اليقظة؟ لماذا الجنوح إلى الخيال؟ لماذا يسرح كثيراً على مقعده وفي السيارة، وعلى فراشه، وبين الناس أو منفرداً؟ لماذا الإعجاب والتعلق بالنماذج الاجتماعية الشائعة؛ كنجوم الرياضة والمغامرات؟ لماذا الاقتداء بها والدفاع عنها والمعاداة والمؤاخاة من أجلها؟ كل هذه الأسئلة تدور حول انفعالات المراهق، وقد لا تتوفر دائماً الإجابات عليها، لكن أهم ملامح النمو الانفعالي عند المراهق التي يتميز فيها عن غيرها من المراحل هي ما يلي:(79/10)
غلبة الخوف والقلق
غالباً ما يخاف المراهق على ذاته وعلى مستقبله، ويخشى من احتمالات الفشل والنجاح، ويشعر بعدم الاسترخاء نظراً لعدم الثبات على شيء، ولفقد الرؤية الواضحة، وللغموض الذي يكتنف طريقه الجديد، فهو يشعر بمشاعر الرجال ويملك بعض صفاتهم، لكنه لم يسلك طريقهم من قبل؛ فهو في بداية الطريق الطويل يقلق ويتساءل: ما هو العمل؟ ما هي الوظيفة؟ ما هو الدخل؟ من سيشاركه حياته؟ ما موقعه ومهمته؟ هل سيفشل أم سينجح؟ ما هي الضمانات؟ ماذا سيقول عنه الناس إذا عجز أو فشل؟ كيف سيواجه الحياة مع البطالة والهامشية؟ قد يخاف المراهق ولا يعرف مما يخاف، حيث يدركه القلق من المجهول، ويتوقع أن شيئاً مؤذياً سيحدث له، ولا يدري ما هو هذا الشيء، قد لا يكون لهذا الشيء وجود أصلاً، فهو مجرد توهم سببه الإفراط في الحساسية والعاطفة لديه.(79/11)
قوة الانفعال
من هذه السمات قوة الانفعال: فبسبب التكامل العضوي والعقلي يملك ما يملكه الكبار من أنواع الانفعالات، ويدرك ما يدرك الكبار من الاستثارة والشعورية، فهو يحب ويكره، ويهدأ ويغضب، ويتأنى ويعجل، ويجرؤ ويخاف، وهكذا أيضاً صفات الرحمة والشفقة والشجاعة والأنفة والإخلاص والمودة والعطف والبر إلى آخرها، لكن مع وجود كل هذه الانفعالات -التي هي موجودة عند الكبار- تنقصه أيضاً في هذا المجال الخبرة والتجربة، ويستولي عليه التغير السريع المتتابع، فهو من حيث النمو والنضج يعيش في أوضاع وسمات جديدة عليه كل الجدة، ومن حيث البيئة والاكتساب لم تعركه التجارب بعد، ولم تثقله الخبرة، فبضاعته في هذا الشأن قليلة مزجاة، وزاده محدود جداً إن كان له زاد.
ومن هنا فإن من أصعب الأشياء عليه أن يضع الشيء في موضعه، أو أن يعطي كل ذي حق حقه، أو أن يمسك إذا اقتضى الحال الإمساك، أو يطلق إذا اقتضى الحال الإطلاق؛ شأنه كمن يملك الوسيلة والمادة لكنه لا يجيد استعمالها بحسب المقتضى والحال، لذلك لا يستقر في انفعالاته، ولا يكون واقعياً في التعبير عنها، فيغضب كثيراً وسريعاً وربما لأسباب حقيرة قد لا يستطيع التحكم في المظاهر الخارجية لحالاته الانفعالية؛ فقد يلقي أو يحطم ما في يديه قد يتلف بعض المقتنيات قد يشتم أو يسب أو يهدد أو يضرب، وهو عندما يرغب في شيء يسرع إليه ويسعى حثيثاً في طلبه، ويتعجل في اتخاذ القرارات الخطيرة بشأنه، بل إذا أحب أسرف وبالغ، يتعلق بمن يحب، ويهيم به، ويضحي من أجله، ويملك عليه لبه، ويستولي على حاله ومخيلته، وهو حديثه وشغله الشاغل، وهذا سر شيوع الغرام والهيام في هذه السن.
والله سبحانه وتعالى وضع هذه الفطرة في هذه المرحلة؛ لأن أولى الناس بها هم أهل الدين والإسلام والطاعة، فهذه الطاقة تعطى لتصرف في تسخيرها لطاعة الله سبحانه وتعالى، وإقامة العبودية له، لكن تعتري ذلك عوامل كثيرة تخرج بهذه الطاقة إلى مجال آخر، فالمراهق إذا أعجب بشخص أو جماعة أو أنموذج سعى إليه وجمع الناس عليه، وبذل في سبيله، وبالغ في مدحه، ودافع عنه ونافح، ووضعه في أول مهماته التي لا يساوم عليها؛ وهذا من أسرار تعلق المراهقين الشديد بالرياضيين وبالفرق الرياضية، وبأصحاب الفن والتمثيل والمغامرات، وأبطال السيرك، وأبطال التاريخ أحياناً؛ فما سر هذا التعلق وهذا الغلو، أو ما سبب هذا الانفعال الشديد بهذه الصورة؟ -هذا من جهة المشهورين كأبطال، وليست هذه البطولة، لكن نحن نتعامل مع الواقع الموجود الآن في مجتمعنا- هؤلاء الأبطال في نظره توفرت لهم أشياء مهمة: الشهرة الظهور مكانة اجتماعية، ومكانة اعتبارية متميزة، الآن أصبحت هذه النماذج مجربة ومقربة وموثقة يتم الاحتذاء بها، والتوحد معها، ويترتب على ذلك الضعف في المراهقين واللمعان في المشتهرين: الميل والتعلق والإعجاب الشديد، والمبالغة في التأييد والمناصرة والتشنج.
والعكس أيضاً صحيح! فالمراهقون يبالغون في الكراهية عندما يكرهون، ويظهرون من المقت والسخرية ما ينبئ عن هذه المبالغة، وانظر في مواقفهم من الفرق الرياضية التي لا يحبونها، أو الأشخاص الذين يكرهونهم؛ كبعض مدرسيهم مثلاً.(79/12)
الإغراق في الخيالات والأحلام
يغرق المراهقون في خيالاتهم وأحلامهم، ويبالغون في تصور الحياة ومتاعها، ويضعون خططاً مثالية لها، ويجنحون إلى ذلك بسبب استعدادهم للتصور والتخيل، وأيضاً قلة الخبرة في الوقت نفسه، فقد يكتب المراهق الشعر، أو يكتب النثر، ويصور عواطفه وأحاسيسه، ويسطر خياله وسرحانه، فتحس منها العاطفة الجياشة، والحساسية المرهفة، بل وترى الجري وراء عاطفته، والثقة بها، والبناء عليها.
هذه الميزة لدى المراهقين: القابلية للإيحاء، والاستهواء، وسرعة الاستثارة، وهشاشة الانفعال، والفراغ النفسي المستعد للامتلاء، بعبارة أخرى: مثل هذه الغرابة في الانفعال والعاطفة يمكن أن توجه الوجهة السليمة، وأن تضبط عن طريق محيط تربوي شامل متزن؛ لتخرج الشاب القوي الطموح المنضبط المتعلق بالمثل العليا، والنماذج الرائعة في تاريخ أمته وحاضرها؛ فيتعلق بـ خالد بن الوليد بـ عمر بن الخطاب بـ أبي بكر الصديق بالصحابة بالتابعين بعلماء المسلمين بالمجاهدين في القديم والحديث.
هذه الطاقة إنما أودعها الله فيه ليخدم بها أمته ودينه، ويعز بها الإسلام في فترة العمل كما ذكرنا؛ ولذلك فإن من أراد تحطيم شباب المسلمين يبدأ معهم من هذه الفترة، كل عوامل التحطيم والاستهواء بما يصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى كالفن والرياضة، وغير ذلك من الأشياء المعروفة، والعكس بالعكس كما ذكرنا.
إذاً: هذه الغزارة في الانفعال والعاطفة يمكن أن توجه الوجهة الصحيحة السليمة، وتضبط عن طريق محيط تربوي شامل متزن؛ لتخرج الشاب القوي الطموح المنضبط المتعلق بالمثل العليا، والنماذج الرائعة في تاريخ أمته وحاضرها.
ويمكن أيضاً أن تستثمر في تربية انفعالاته ووضعها في الاتجاه الصحيح، ليعرف المراهق كيف يرحم، ومتى يرحم، ولماذا؟ كيف يحب، ومتى يحب، ولماذا؟ كيف يعجب، ومتى يعجب ولماذا؟ وهكذا.
هذه الغزارة يمكن أن تمهد لبناء شاب ذي عواطف فياضة متفاعلة مع الحياة؛ متجهة للخير والإصلاح، مؤثرة في علاقاته بالأمة في شتى مستوياتها.(79/13)
الذاتية
من خصائص النمو الانفعالي: الذاتية: أي: إعجاب المراهق بذاته، فهو يعتد بها، ويعتقد في نفسه أنه محط أنظار الناس، وبؤرة اهتمامهم، ويسيطر على بعضهم الاعتقاد بأن الناس ينظرون إليهم كما ينظرون هم إلى أنفسهم، أو هكذا يجب أن يكون رأي الآخرين فيه، وهذا ناتج عن قلة أو فقد التوازن الانفعالي والعاطفي لديه، وعن التحولات الفجائية والسريعة المؤدية للرجولة؛ مما يشعره بالاكتمال والتمام.
فهذه التطورات الجديدة في عقله في جسمه في انفعالاته في نموه الاجتماعي تلقي في روعه أنه مستحق أن الناس ينظرون إليه كما ينظر هو في نفسه، وأنه يستحق هذه المكانة؛ لأنه الآن اكتمل وتم.
أيضاً نفس الخصائص تنتج نتيجة قلة الخبرة والتجربة اللتين تساعدان على الواقعية، وتحجمان من جموح المراهق وخياله، لذلك كان سبب ظاهرة الذاتية والاعتداد بالذات أن المراهق عنده حساسية مرهفة لنقد الآخرين، فلا يكاد يتحمل النقد بسبب هذه الخاصية من خصائص المراهقة، وهي الذاتية وإعجابه بنفسه؛ فيكون ذا حساسية مرهفة لنقد الآخرين، ويتألم من ذلك ويتوجع، وقد يطوي حسراته وآلامه عن الآخرين.
وهذه الحساسية للنقد والرهافة في مواجهة مشاعر الآخرين إنما نتجت بسبب ما يشعر به من خسارة وخيبة أمل فيما كان يعتقده عن رأي الآخرين فيه، فبدل المدح إذا به يجد الذم؛ وبدلاً من ذكر مزاياه يذكرون مثالبه بدلاً من أن يشيدوا بحاله إذا بهم يستسفهون حاله، أو يشوهون صورته بدلاً من تلميعه والثناء عليه كما يرى هو نفسه.
فأحلام المراهق وخيالاته وغلبة عواطفه وانفعالاته تضفي عليه قوة وكمالاً وفتوة، وتصوره عند نفسه على درجة من الأهمية والقيمة لا حقيقة لها في الواقع، ولا وجود لها عند الناس، بل إن عكس الصورة هو ما يعتقده الناس عنه، فهو ما زال صغيراً غير قادر على تحمل المسئولية، وممارسة المهام الصعبة، لذلك يصير في بعض الأحيان ناقماً على والديه، أو المجتمع، فما من أحد يفهمه، أو يشعر بأنه قد أصبح شخصاً آخر، ولا يعامل بالمعاملة التي يستحقها، ولا يرونه كما ينبغي أن يروه؛ فتبدأ العبارات تترا على لسانه: لا أحد يفهمني، أنا أفهم منكم، أنا أعرف بحالي، أنا لا أريد أن أجلس إلا مع أصحابي؛ لأن أصحابي هم الذين يفهمونني.
وتبدأ موجات الغضب والاشمئزاز من مجتمع الكبار، ويشرع المراهق في الممارسات الدالة على هروبه من قضاء الوقت مع والديه، ومن الجلوس في منتديات الكبار ومناسباتهم، والضيق والتبرم من تلك المجالس، فينزوي وينحاز إلى مجتمع الشلة أو الجماعة التي ينتمي إليها، ويشتد ولاؤه لهذه الجماعة أقوى من ولائه لوالديه، وارتباطه بأصدقائه يكون أقوى من ارتباطه بالوالدين أو بالبيت.
هذه الذاتية تعد من الاعتبارات المهمة التي يجب أن تلحظ عند التعامل مع المراهق وتربيته، أو عند حل مشكلاته، ومعالجة انحرافاته.
فمثلاً الإنسان لابد أن يكون حذراً في النقد أو عند إسداء النصح، وتكون الطريقة غير المباشرة أنجح وأوقع في نفسه، فالمفروض الانتباه لهذه الحساسية، وأنه لا يكاد يتحمل النقد، وقد تكون هذه الذاتية هي منبع الحساسية المرهفة، أو الرفض والمواجهة، أو الخيبة والإحباط، ومن ثم العزلة والانطوائية، أو الارتماء في أحضان رفقة السوء والانقطاع إليهم، وقد تكون هذه الذاتية هي سبب الغرور والعجب والمثالية، أو الطموح الزائد، أو الإغراق في العناية بشكله وهندامه، إلى آخره.(79/14)
خصائص النمو الاجتماعي للمراهقين
يتساءل الكبار عن ميولات أبنائهم الاجتماعية بعد سن الطفولة ومقاربتهم للبلوغ: لماذا يزهد المراهق في التأسي بالكبار، ويرفض سلطتهم ظاهراً أو باطناً؟ ولماذا ينقاد لرفاقه وأصحابه وينصرف إليهم في مشاعره وتوجهاته؟ لماذا يلجأ إلى جماعة الرفاق في تحديد ميوله وهواياته، وفي تحديد شكل ملابسه وهندامه، وفي كيفية قضاء وقت فراغه؟ هل يحتاج المراهق فعلاً إلى الرفقة أو الجماعة بحيث لا يمكن الاستغناء عنهم كضرورة صحية وتربوية؟ وما دور هذه الرفقة في نمو شخصية المراهق؟ ولماذا يغترب مع رفقته وينزوي عن المجتمع، وتظهر عليه أعراض الجنوح أحياناً؟ هل يحتاج المراهق إلى التقدير والاحترام من قبل والديه ورفقته ومجتمعه أم لا؟ هل يطمح المراهق إلى تحقيق ذاته وتطلعاته بثقة الآخرين به، واعتمادهم عليه، وتحميلهم إياه العمل والمسئولية؟ وما دور هذه الأشياء في صحته النفسية وفي نمو شخصيته؟ لماذا يمقت بعض المراهقين مجتمع الكبار، ويثورون عليه، ويخرجون على أعرافه؟ لماذا يوجدون أعرافاً خاصة بهم في التعامل والتخاطب؟ تجد الشلة يسموها بالإنجليزية (ميني سوسياتك) أي: مجتمع مصغر؛ لأنه يكون معهم لساعات، حتى أننا نلحظ لغة خاصة بهم هم؛ واصطلاحات تدور فيما بينهم في هذا المجتمع المغلق الذي يشبه حارة اليهود، لهم رموزهم وقوانينهم وأعرافهم، وقد يهددون الواحد منهم لو ترك الشلة بعقاب جماعي ويقاطعون، خاصة بالذات في المجتمعات التي هي بعيدة عن الملتزمين؛ فلهم أعراف في التعامل والتخاطب وأنماط الملابس التي يلبسونها والاهتمامات والهوايات.
جواب هذه الأسئلة كله يفسر لنا سمات وخصائص النمو الاجتماعي للمراهق.
يعيش المراهق في حالة تبدل عضوي ومعرفي وانفعالي سريع ومتتابع، ولا شك أن هذا النمو يقربه من الرجولة والنضج، أو يقربه من مجتمع الكبار ويبعده عن مجتمع الأطفال، وهذا واضح في التحولات التي تطرأ على القدرات العقلية التي تؤهله للفهم للمحاكمة العقلية تساعده على إدراك الأشياء كما هي في الواقع تساعده في القدرة على البحث والنقاش وإدراك وجهات نظر الآخرين.
أيضاً التغيرات العضوية كالزيادة في الطول والوزن، كل هذه التغيرات تؤذن ببداية الرجولة والاكتمال، لكن كثيراً من الكبار يرفضون ذلك، أو لا يأبهون به، أو يصادمونه، وهذا التصرف من الكبار يسيئ إلى المراهق، ويؤدي به إلى خيبة الأمل والشك، أو يؤدي به إلى المعاندة ونبذ سلطة الكبار، والارتماء في أحضان الرفقة، وإلى ضعف الارتباط بالكبار، وعدم الاعتراف بأعراف الكبار ونظمهم، وإلى الثورة عليها ومحاربتها باطناً أو ظاهراً.
أيضاً من خصائص هذه الفترة: المشاعر الجماعية، فيشعر بأنه يريد كهفاً يأوي إليه، لأنه لا يفهمه أحد في البيت؛ ويعاملونه كطفل، وهذا كله سببه عدم فهم خصائص هذه المرحلة، وعدم وجود سياسة تربوية واضحة المعالم في طريقة التعامل معه، فلديه إحساس وتعطش للانتئماء إلى رفقة أو صحبة أو مجموعة تشاركه مشاعره تعيش مرحلته يبث إليها آلامه وآماله وأفراحه وأتراحه وتبث إليه ذلك، هذه الرفقة أو المجموعة تعنى بأحاسيسه ومطالبه وتعمل لإشباعها، وقد تنجح وقد تخفق، وهذه الرفقة أحياناً تخلص لبعضها حتى لو في سبيل الشر، وتقوم على التعاون والتكامل حتى ولو على الإثم والعدوان؛ لأنهم يظنون أن بعضهم يخدم بعضاً، وأن هذا من الوفاء للأصدقاء وغير ذلك.
لا يستغني معظم المراهقين عن هذه الرفقة لأنها مطلب حيوي، وحاجة نفسية ملحة تقتضيها التغيرات الفجائية والتحولات الجديدة غير المعللة، ولذلك قد يحاصر الأب ابنه محاصرة شديدة، وهو يظن أنه يحميه، وبالتالي يحرمه تماماً من الاحتكاك بأي إنسان، وفي بعض هذه الحالات- يقول له الأب: لا توجد حاجة إلى صديق، فيعزله تماماً عن الرفقة، وبالتالي يحرمه من النمو الاجتماعي الطبيعي؛ لأن مفهوم إيجاد البديل والرفقة الصالحة غائب، والحديث معروف: (إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء) إلى آخر الحديث، فلا بد من إيجاد هذه الرفقة من خلال المساجد؛ لأنها لم تعد ممكنة من خلال الأندية الاجتماعية -كما يقولون- فقد أصبحت بؤر فساد وانحراف؛ فلا بد من وجود البدائل، وليس الحل هو حرمانه من الانخراط في أقرانه أو مجموعة السن الموافقة له، فهذه من الأمور المهمة جداً.
إذاً: تقوم الشلة أو المجموعة على التعاون والتكامل، ولا يستغني معظم المراهقين عن هذه الرفقة؛ لأنها مطلب حيوي وحاجة نفسية ملحة تقتضيها التغيرات الفجائية والتحولات الجديدة غير المعللة، التي لا يجد المراهق الجواب عليها في حال عزلته وانزوائه، ولا يحسن التعامل معها كما يرى بمفرده، فيلجأ إلى رفاقه أو أصحابه في مرحلته ومن أبناء سنه؛ لأنه يحقق ذاته مع أصحابه، فمشاكلهم واحدة ومفاهيمهم واحدة وخصائصهم واحدة، يحقق ذاته معهم، وهم قد يتعاملون مع بعض كأنهم رجال؛ بخلاف ما يلقى من معاملة في البيت، لذلك تجد ولاءه للشلة أقوى بكثير من ولائه للبيت، والوقت الذي يقضيه معهم يكون أكثر مما كان يقضيه من قبل في المنزل.
من الأشياء المهمة أيضاً: خصوصيات المراهق، فهو لا يرى أنه كالكبار تماماً بالذات والديه؛ لأنه يرى فرقاً كبيراً في السن بينه وبين والديه، لكنه يتجه إلى أساليب مختلفة تقل أو تكثر في نمط هندامه في أسلوب حياته في موضوعات اهتمامه في كيفية قضاء وقت الفراغ، ولذلك هو حساس إذا قورن بكبار السن في هذا الجانب، ولا ينتبه له كثير من الكبار.
موضوع تحقيق الذات شيء يسعى إليه كل إنسان حتى الطفل؛ لكن كل مرحلة تقوم بما يناسبها، وتجتمع كلها في مفهوم واحد، هو: أن الإنسان يقوم بالوظائف الملائمة لقدراته واستعدادته، ويمارس الأدوار المناسبة له والمتوقعة منه.
هذا المراهق يعيش مرحلة انتقال من الصبا إلى الرجولة، بالتالي يتغير موقعه ووظيفته في الأسرة أو في المجتمع من حيث طبيعتها ومستواها ومقدارها.
والمراهق يبتغي تحقيق ذاته، واختبار قدراته، وتفريغ طاقاته، وهو يريد أن يبلو نفسه بممارسة الدور الاجتماعي، والقيام بالمسئولية، ومرحلته ومستوى نضجه يقتضيان رفض البطالة، ويرفض الهامشية الاجتماعية، وهذه الهامشية والبطالة أيضاً قد يفرضهما عليه الكبار أحياناً، بل إن كثيراً من المراهقين يمقتون التبعية، ويكرهون أن يكونوا عالة على غيرهم، هذا شعور فطري يولد فيه كره أن يكون عالة على غيره، إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، وهم يسخرون داخل أنفسهم من هذا الأسلوب في التعامل، كما أن مشاعر اللوم ومقت النفس تراودهم وهم يرون أنفسهم تبعاً للكبار وعالة عليهم، بينما قد يموت هذا الإحساس أو يضعف إذا لم يستغل في حينه بتوجيهه الوجهة الصحيحة، واستثماره في تربية المراهق وتهذيبه.
كل خصيصة من الخصائص التي نذكرها قابلة لحسن التوجيه، وقابلة لسوء الاستعمال، فالحاجة إلى تحقيق الذات مطلب نفسي مهم للمراهق، وتحقيق الذات ممكن أن يتم بأمور كثيرة، المهم أن يكون له دور في الحياة، حتى لو كان طالباً يدرس فهذا دوره في الحياة اقتنع به ويبذل في سبيله.
فهذا الشعور بالحرص والحاجة إلى تحقيق الذات مطلب نفسي مهم للمراهق ينبع من داخل نفسه، وينبع من أحاسيسه وهواجسه ومشاعره المدعومة، هذه المشاعر إنما يدعمها التحولات، فهناك تحولات عقلية معرفية عضوية انفعالية يمر بها جسده وعقله وانفعالاته، وهو لا يحس بالتنفيس عنها إلا إذا قام بالدور الاجتماعي المناسب، وتحمل المسئولية حسب مؤهلاته وقدراته وطاقاته، والمجتمع الحديث غالباً ما يواجه هذا الميل إلى الاستقلالية، أو إلى رفض البطالة ونبذ الهامشية الاجتماعية بنكران شديد وإهمال بالغ، وغالباً ما تكون مشاعر ومواقف الكبار غالباً والأمهات والمدرسين والإخوة الكبار مخيبة لآمال المراهقين قولاً وعملاً، فهم لا يأبهون بأن يحقق المراهق ذاته من خلال استغلال طاقاته، ومنحه للمسئولية، وعزو الوظائف المناسبة له، بل إن الكبار أحياناً يسخرون من المراهقين ويحتقرونهم أن يقوموا بمثل ذلك.
ويتجه بعض الكبار إلى عدم الثقة بهم، وعدم الاطمئنان إلى ما يتولونه من الأعمال، ويشعرونهم بذلك بطرق مباشرة وجهاً لوجه، وبطرق غير مباشرة من خلال عزلهم عن ممارسة الأدوار المناسبة، ومنعهم من تحمل المسئولية، وصرفهم إلى أعمال هامشية أو تكميلية أو ترفيهية، ويقوم الأعم والأغلب من الآباء بتوجيه أبنائهم إلى الدراسة وتفريغهم لذلك، والاستغناء بذلك عن توظيفهم، أو تكليفهم بأعمال أو مهمات تحقق ذاتيتهم، وتشعرهم بالمسئولية وبشيء من الاستقلالية، وتبرز شخصياتهم، وتصقل قدراتهم الاجتماعية.
أما النظام الاجتماعي الحديث فتطول فيه فترة الطفولة والاعتماد على الغير، حيث لا ينتهي الفرد من التعليم العام إلا في سن الثامنة عشرة، ثم عليه أن يستمر في الجامعة إلى الثالثة والعشرين مثلاً، وهو في كل ذلك مستقبل فقط؛ فهذه السياسة لا شك أنها تتصادم مع متطلبات تلك المرحلة واحتياجاتها الطبيعية، وقد تؤدي إلى كثير من المشكلات، أو إهدار الطاقات، وتعطيل الحاجات.
فالإسلام عامل المراهق على أنه مسئول عن التكاليف الشرعية بمجرد البلوغ، وحمله المسئولية عن نفسه في العبادات في المعاملات في التصرفات المختلفة؛ وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يأذن بالجهاد في سبيل الله لمن بلغ الحلم من الفتيان وهو من أشق المهام وأصعب الوظائف.(79/15)
تجربة عملية لعلاج سلوك المراهقين
هنا تكملة للقصة السابقة عن إبراهيم الذي تلونا قصة سابقاً، وأن أباه كان يشكو منه، يقول هنا: المراهقة هي فترة النمو الاجتماعي، وفيها يميل المراهق إلى إعطاء اهتمام كبير لأوجه النشاط والميول والاتجاهات الخاصة بأقرانه، ويسعى المراهقون إلى الحصول على القبول من أقرانهم، وهم في سبيل الاحتفاظ بهذا القبول يذهبون إلى مدىً بعيد، فيصبح الانحراف عن عرف الجماعة أمر لا يمكن التفكير فيه، طالما أن هذه الجماعات تحقق لهم إشباعاً لم يستطيعوا الحصول عليه في عالم البالغين، ومن ثم تتضح أهمية الجماعة.
استطرد صديقي يقول: ولكنك لم توضح لي بعد ذلك الجانب الآخر الذي تكشفته في سلوك ابني إبراهيم، فما يكاد يجد لديه قدراً من وقت الفراغ أو عطلة أو ما شابه ذلك حتى يسرع إلى مجموعة من رفاقه في الحي الذي نقطنه يقضي معهم ساعات فراغه إلى آخر الكلام يقول: أنا لا أريده أن يخالط أحداً أو يكون له صداقات مع أحد، مع أن هذه الشلة على مستوى طيب من الخلق، ومن بيئة طيبة، بل إن معظم آبائهم هم من أصدقائي، إلا أنني مع هذا أعارض أشد المعارضة أن يتخذ لنفسه أصحاباً؛ لأني أعتقد أنه من الأفضل أن لا يرتبط بمثل هذه المجموعات، وأن يتفرغ للتفكير في دروسه ومستقبله، وبالرغم من بذلي النصح له مراراً عديدة إلا أنه لم ينصرف عن أصدقائه، وإن كان يحاول ظاهرياً أن يظهر لي أنه قد خضع لتعاليمي؛ فما قولك أيها الصديق العزيز؟ فأجبته قائلاً: إن المراهق يواجه مواقف مشكلة تتطلب إيجاد حلول لها، فهو لا يزال فرداً بدون خبرة كافية بعد، بل لا زال في الواقع طفلاً يجد نفسه بسرعة في عالم البالغين، وهو يجد نفسه أيضاً بدوافع جسمية ونمو جسمي وميول وقيم جديدة وفكرة جديدة عن نفسه، وعليه من ناحية أخرى أن يظهر اتجاهات اجتماعية ناضجة وكافية، ومهارات معينة إذا أراد أن يحصل على درجة من التوافق الاجتماعي كشخص بالغ.
كل هذا يؤدي به في النهاية إلى الإحساس بعدم الأمن في مجالات كثيرة من حياته اليومية، ومن ثم فإنه يبحث عن شيء يمنحه الأمن وحماية الذات، وهو يجد ما ينشده في الجماعة من أقرانه الذين لهم مثل مواقفه، فيستطيع باندماجه مع أقرانه أن يحل مشكلاته، وأن تهيئ له الجماعة الانتماء والمكانة التي كان يبحث عنها، كما تمنحه الجماعة أيضاً الخبرات والتدريب اللذين كان يجاهد في سبيلهما، ولهذا فإن الجماعة تصبح هامة جداً بالنسبة للفرد؛ بحيث إن الاستبعاد منها أو عدم وجود مكانة للمراهق فيها يسبب له خبرات صادمة، وباندماج المراهق شيئاً فشيئاً مع أقرانه ومشاركته في نشاط الجماعة تزداد مشاعره بالانتماء إلى الجماعة يوماً بعد يوم، حتى لقد تصبح الجماعة كل شيء بالنسبة له، وهذا الانتماء للجماعة الذي تزداد أهميته بالنسبة للمراهق لأنه يحل محل الروابط الأسرية إلى حد ما، مما يهيئه لأنواع جديدة من التكيف إزاء حياة الجماعة من البالغين.
يقول: إن فائدة هذا الانتماء توفير الأمن، والحصول على مكانة، والشعور بالانتماء، كذلك الجماعة التي يحتك بها تعطيه فرصة أن يتعلم من طريقها شيئاً عن حقوق الآخرين؛ كما أنها تهيئ له مأوى من عالم البالغين، ثم لها في النهاية وظيفة تعليمية هامة؛ حيث يتعلم العمليات الاجتماعية القائمة، ويتخذ الدور الذي ينبغي أن يقوم به فيما بعد، ويتعلم أيضاً المنافسة والتعاون والقيم والأهداف التي تساعده في المشاركة في الحياة الاجتماعية.
نفس الجماعة قد يكون لها تأثير ضار إذا كانت جماعة منحرفة، مثل التدخين والمخدرات كل هذا الفساد يأتي من هذه الجماعة، إذاً: يتعين بالنسبة لمن يريد السلامة لأبنائه في هذه المرحلة ربطهم بالمتدينين.
وقد كنت أود أن أحضر لكم كتاباً مؤلفاً بالفرنسية ومترجماً باللغة العربية، كان البحث يتناول مشكلة انحراف الأحداث؛ والغريب أن الرجل الفرنسي الذي كتب هذا البحث قال كلاماً في غاية الروعة يقول: إن العاصم الوحيد من الانحراف بالنسبة للأحداث أو للشباب المراهقين هو أن يعيش من أجل عقيدة يقتنع بها، ويدعو إليها، ويضحي في سبيلها.
هذا كلام رجل كافر، وإذا كان أكبر ما يحمي الشباب هو أن يعيش من أجل عقيدة يقتنع بها، ويعمل في سبيل نشرها، والدفاع عنها ويضحي في سبيلها، فلا أعظم ولا أنبل من عقيدة الإسلام ومنهج الله سبحانه وتعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138]، فهذا هو طريق النجاة والسلامة للأبناء، والآباء لو فقهوا لما قلقوا ولا انزعجوا إذا ارتبط أبناؤهم بإخوانهم من الملتزمين في جماعة المسجد أو شلة المسجد؛ لأن هذا هو الذي يعصمهم من كافة المنزلقات في هذه المرحلة.
لكن بعض الآباء يكون عندهم ازدواجية: هذا رجل غربي يقول لك: لن نعطيه الحرية المطلقة والاستقلالية، ونترك له الحبل على الغارب، ويرخي له العنان تماماً بكل أنواع الفساد التي يمكن أن يفعلها! بل حتى في البنات أيضاً يفعلون ذلك، حتى إذا ما التجأ ابن للدين والالتزام ولطاعة الله سبحانه وتعالى ورسوله عليه السلام والحياة من أجل الإسلام وبالإسلام ينزعج وينقلب إلى وحش كاسر، ونرى على الجهة المقابلة تماماً: الكبت المنع من صلاة الجماعة الخوف عليه أن يفرضوا عليك، وهل إذا انحرف عن سبيل الله سيسلم وسينجو؟ لا! إن الله سبحانه وتعالى قد يبتليه، ويكفي أن يبتلى مثلاً بالمخدرات، ومثل هذا ينتهي تماماً إلا إذا شاء الله سبحانه وتعالى، ولذلك نجد أن من أقوى الأسلحة لدى أعداء الإسلام نشر وتهريب المخدرات؛ لأنها تحطم الشخص تماماً من الحياة، وقل من يسلم منها إذا دخل في أسرها، وكذلك التدخين والفساد الأخلاقي والانحرافات، كل هذه تنشأ بسبب البعد عن العقيدة والبعد عن الله.
إذاً: ليس لهذه المحن من كاشفة إلا الالتزام بطاعة الله سبحانه وتعالى، والثبات على طريق الإسلام الذي هو دين الفطرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت.(79/16)
الإحياء
أبو حامد الغزالي رحمه الله إمام بحر، وعالم متمكن له مكانته، يعد من أذكياء العالم، وأعاجيب الزمان، نال شهرة عظيمة حتى لقب بحجة الإسلام، وهو بشر كغيره يصيب ويخطئ، وقد أوغل في التصوف فخرج عن الحقيقة، وخرج في أكثر أحواله عن الطريقة، وجاء بألفاظ لا تطاق، ومعان ليس لها مع الشريعة انتظام ولا اتفاق، ومن ذلك ما جاء في كتابه إحياء علوم الدين، الذي نال شهرة واسعة، واهتماماً كبيراً من العلماء، وهو بحق يعد دستور التصوف، ففيه من الانحرافات والشطحات ما ينبغي أن يوقف عندها، وأن تبين ويحذر منها.(80/1)
ضمان الرزق من الله تعالى لعباده
الحمد لله الذي أنار الحق وأبانه، وهدم الباطل وأزاله، والصلاة والسلام على رسوله محمد خير عابد وقانت، القائل: (لقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فعن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت)، هذا الحديث رواه أبو نعيم في الحلية بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وغيره، وحسنه الألباني.
يقول المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير: قوله صلى الله عليه وسلم: (لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت)؛ لأن الله تعالى ضمنه له، وكما أن الله سبحانه وتعالى لا راد لقضائه إذا حضر الأجل ونفذ العمر، كذلك لا راد لرزقه، فإن رزق الله لا يرده كراهية كاره ولا يجره حرص حريص، ولكن سبق علم الله سبحانه وتعالى وقضاؤه وقدره بما كتب لكل نفس، سواء من الطعام أو من الشراب أو من النفس، ومن كل ما يرزقه الله سبحانه وتعالى.
وقد ضمن الله عز وجل هذا الرزق لعباده فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، ونحن نرى كيف يطمئن الناس إذا ضمنت لهم البنوك الأموال، وإذا حازوا الشيكات، وإذا رصدت لهم الأرصدة والضمانات الكافية، فيثقون بهذه الضمانات من لدن المخلوقين، وقد جاء هذا الضمان من الله سبحانه وتعالى فقال عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، وهذا من صيغ العموم، خاصة إذا دخلت عليها (من) (وما من دابة).
ثم لم يكتف الله سبحانه وتعالى بهذا الضمان الوارد في قوله: (إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) حتى أقسم فقال سبحانه وتعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23].(80/2)
ضرورة الأخذ بالأسباب في طلب الرزق
ثم لم يكتف سبحانه وتعالى بهذا القسم حتى أمر بالتوكل وأبلغ وأنذر فقال عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58]؛ فإن ضمان الرزق لا يعني ترك الأسباب التي ربطها الله سبحانه وتعالى بالنتائج، فإن الرزق مضمون، وقد سبقت كتابة الأرزاق، ولكن مع ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك).
وقد علمتنا سيرة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام الأخذ بالأسباب، وكذلك سير الصالحين، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أخذ بالأسباب وعمل بها؛ حتى يعمي الخبر على كفار قريش، وهذه مريم عليها السلام تؤمر بالأخذ بالأسباب مع ضمان الرزق: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25]، وموسى عليه السلام أخذ بالأسباب حينما فر من فرعون وخرج من المدينة خائفاً يترقب.
يقول صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)، فلابد من الحرص على ما ينفع، سواء في الدين أو في الدنيا، وهذا لا ينافي أن الرزق مضمون؛ لأن الرزق وكل الأعمال قد سبق قضاؤها من عند الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك لابد من الأخذ بالأسباب، فإن لم يطمئن العبد بضمان الله سبحانه وتعالى، ولم يقنع بقسمه عز وجل، ولم يبال بأمره ووعده ووعيده؛ فهو من الهالكين.
قال الحسن رضي الله عنه: لعن الله أقواماً أقسم لهم ربهم فلم يصدقوه.
وقال هرم بن حيان لـ ابن ادهم: أين تأمرني أن أقيم؟ قال: فأومأ بيده إلى الشام، قال: وكيف المعيشة فيها؟ فقال له: أف لهذه القلوب، لقد خالطها الشك فما تنفعها الموعظة.
المقصود: أن يكون الإنسان على ثقة بما في يد الله سبحانه وتعالى، ويكون أوثق بهذا منه بما في يده هو، فإن ما عند الله سبحانه وتعالى لا ينفد، وإنما يعطي العبد بمقدار ما يصلحه: (لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت، لأدركه رزقه كما يدركه الموت)، ولذلك لا يحل للإنسان أن يبحث عن الرزق فيما حرم الله سبحانه وتعالى عليه، فإن ما عند الله لا يطلب بمعاصي الله، وإنما يطلب بطاعة الله وما أحله سبحانه وتعالى.(80/3)
بحث قيم يدرس كتاب إحياء علوم الدين
ما يتعلق بكتاب: إحياء علوم الدين، يعتبر من القضايا المهمة التي سبق أن وعدنا بالكلام المفصل فيها، ثم يسر الله سبحانه وتعالى كتاباً قيماً بعنوان: أبو حامد الغزالي والتصوف، دراسة حول العديد من كتب الغزالي وخاصة كتابه: إحياء علوم الدين للأخ الشيخ عبد الرحمن دمشقية، والكتاب غير متوفر مع أهميته، وهو عبارة عن دراسة نقدية للفكر الصوفي، وقد تكلم عن مرجع يعد بحق دستور التصوف الذي يعتمد عليه الصوفية اعتماداً أساسياً حتى يومنا هذا، والدراسة النقدية أيضاً في إمام من أئمة التصوف، وعلم من أعلامه، فالإمام الغزالي رحمه الله تعالى يعتبر محطة رئيسية في قضية التصوف، لابد أن ينزل عليها ويردها كل من نسب إلى طريق التصوف.(80/4)
قاعدة مهمة قبل الكلام عن الغزالي وكتابه
لكن قبل أن نشرع في دراسة فكر الإمام أبي حامد الغزالي كعلم من أعلام التصوف ومحطة رئيسية من محطاته، هناك قاعدة ينبغي أن تكون محل اتفاق قبل الشروع في المقصود، هذه القاعدة: هي أن تخطئة غير المعصوم أهون من نسبة الباطل إلى المعصوم، بمعنى: تخطئة الشخص غير المعصوم أهون من أن ننسب الباطل والخطأ إلى المعصوم وهو الشريعة المطهرة، فالمعصوم هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللذان هما بحق حجة الإسلام على كل أحد، والكتاب والسنة هما المرشد من الضلال، وهما القسطاس المستقيم، وهما ميزان العمل، وهما منهاج العاملين والعارفين.
إن التساهل في هذه القاعدة تحت أي ضغط أو إرهاب فكري، يعيد فتح باب التحريف والتبديل في دين الله على مصراعيه، والتحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات بالخطأ.
إن الإسلام لا يعطي العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكننا معشر المسلمين في الواقع نعطي هذه العصمة للرجال، ويعز علينا أن نرى الشخصية الكبيرة التي نحبها ونجلها تخطئ، كما أننا عملياً لا نتعامل مع هذه الشخصيات الكبيرة إلا على أساس التسليم لهم بكل شيء أو رفض كل شيء.
لقد تحول هذا الأسلوب إلى منهج مقرر، يتحدى القواعد الإسلامية الراسخة التي يحفظها كل الناس، مثل قول مالك بن أنس: ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا الكلام في الأصل مروي عن الحبر البحر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخذه عن ابن عباس مجاهد والحكم بن عتيبة، وعنهما أخذه الإمام مالك رحمه الله تعالى، ثم اشتهر عن الإمام مالك رحمه الله تعالى، ثم أخذه الإمام أحمد رحمه الله عن الإمام مالك رحمهم الله تعالى أجمعين.
إذاً: التنازل عن القاعدة التي ذكرنا آنفاً يعد تنكراً لهذه الأصول التي أسسها السلف الصالح، مثل قول ابن عباس رضي الله عنهما المذكور.
ومثل قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى: إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي.
وقول الإمام مالك رحمه الله تعالى: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه.
وقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول أو أبطلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي.
وقول الشافعي أيضاً رحمه الله تعالى: كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي.
وقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا.
إن تذوق العلم وحده هو الذي يستطيع أن يعودنا الاحترام الواجب لأهل العلم، بحيث نصل معه إلى درجة نقدر فيها العلم الذي عندهم، ونغفر لهم الخطأ الذي وقعوا فيه دون أن يصير خطؤهم غلاً في أعناقنا، نأخذ ما أصابوا فيه ونتجنب ما أخطئوا فيه، دون أن نجعل خطأهم انتقاصاً لهم، ودون أن نجعل صوابهم عصمة مطلقة لهم، فهذا الأمر هو الذي ينزه الاحترام الواجب لأهل العلم عن أن يتحول إلى نوع من التقديس والغلو والتعصب.
فليس الهدف إذاً تجريح شخصيات أو تقليصها، وإنما الهدف اتخاذ موقف سديد بين الحق وبين الرجل، وأن يبقى الحق حقاً والرجل رجلاً؛ لأن الحق حق فقط، ولكن الرجل غير المعصوم يمكن أن يكون محقاً، ويمكن أن يكون مبطلاً، وبينهما درجات كثيرة، ولهذا يقال: لا تعرف الحق بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله.(80/5)
أبو حامد الغزالي ومكانته العلمية
نحن الآن سندرس فكر أبي حامد الغزالي وكتبه، خاصة كتاب الإحياء، الذي هو بحق -كما ذكرنا- دستور التصوف، وكلاهما -الكتاب والمؤلف- ملآ أسماع الدنيا، وشغل الناس كثيراً، فـ أبو حامد الغزالي إمام بحر وعالم له مكانته، يعد من أذكياء العالم وأعاجيب الزمان، نال شهرة عظيمة، حتى لقب بحجة الإسلام.
هذه المكانة الرفيعة إلى جانب نبوغه وعبقريته وعلو همته، ليست محل منازعة بين الموافقين والمخالفين له على السواء، ولقد اجتمع في أبي حامد رحمه الله تعالى الذكاء الخارق، والعاطفة الجياشة، حتى كأنك إذ تطالع كتاباته تتعامل مع كائن حي، تحس فيه الحرارة المتقدة والوجدان الصادق، وتتنسم من خلال السطور عبير الإخلاص الذي كان همه.
لقد كان الإخلاص هم أبي حامد رحمه الله تعالى، حتى قال فيه الحافظ شمس الدين الذهبي رحمه الله تعالى: لولا أن أبا حامد رحمه الله من الأذكياء وخيار المخلصين لتلف.
وحتى إن رجلاً يقول للإمام أبي حامد رحمه الله وهو في سياق الموت: أوصني، فيقول له: عليك بالإخلاص، عليك بالإخلاص فلم يزل يكررها حتى فارق الحياة رحمه الله تعالى، ومع ذلك فإن أبا حامد كان من البشر، وواحداً من ولد آدم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، يقول تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى، وقد التقى به هنا في الإسكندرية: كان أبو حامد تاجاً في هامة الليالي، وعقداً في لبة المعالي، حتى أوغل في التصوف، وأكثر معهم التصرف، فخرج عن الحقيقة، وخرج في أكثر أحواله عن الطريقة، وجاء بألفاظ لا تطاق، ومعان ليس لها مع الشريعة انتظام ولا اتفاق، فكان علماء بغداد يقولون: لقد أصابت الإسلام فيه عين.(80/6)
المآخذ على أبي حامد الغزالي(80/7)
قلة علمه بالحديث
المأخذ الأول على أبي حامد رحمه الله تعالى: قلة علمه بالحديث.
ونحن ندرس سيرة الإمام أبي حامد حتى نأخذ العبرة والعظة؛ فإن طريق النجاة والفرقة الناجية أخص خصائصها التمسك بالكتاب والسنة، ولا يصح التمسك بالكتاب والسنة إلا بمعرفة سنن النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه، فمن ليس بعالم بالحديث لا يكون عالماً قط، يقول الإمام أبو حامد عن نفسه: بضاعتي في علم الحديث مزجاة.
وقد أثر قلة بضاعة الإمام الغزالي في علم الحديث في مذاهبه الفكرية وتصرفاته الفلسفية والكلامية كما سيأتي بالتفصيل.
وننبه إلى هذا لأن العاصم من الوقوع في هذه المخاطر هو التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقول الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: ولم يكن له علم بالآثار، ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل.
ومن ثم قال الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله تعالى: شحن أبو حامد الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أعلم كتاباً على بسيط الأرض أكثر كذباً منه، يعني: لا يوجد كتاب مشحون بالكذب على رسول الله -يقصد بذلك الأحاديث الموضوعة والضعيفة- أكثر من كتاب الإحياء.
فنقول كما قال بعض العلماء: إنه كتبها كما اقتراها لا أنه افتراها، فليس المقصود أن أبا حامد هو الذي وضع هذه الأحاديث، معاذ الله وحاشاه من ذلك، لكنه أثبتها كما قرأها لا أنه افتراها.
هذا هو المأخذ الأول الذي سوف نلاحظه من سيرة هذا الإمام.(80/8)
شكه وحيرته واضطرابه بين مذاهب الفلاسفة والصوفية
المأخذ الثاني: شكه وحيرته واضطرابه بين مذاهب الفلاسفة والصوفية.
فقد كان أبو حامد رحمه الله يعظم المنطق، رغم بعض النقد الذي وجهه إليه، واستطاع أن يدخله في علوم الإسلام؛ بل جعل تعلمه فرض كفاية على المسلمين.
وفي النبوة اقتفى الغزالي أثر الفلاسفة بعامة وابن سينا بخاصة، وتلمح في أبي حامد شخصية فيها ذكاء ونبوغ لا ريب فيهما، وفيها رغبة في معارضة الغزو الثقافي الدخيل على المسلمين، كما ظهر ذلك جلياً في كتابيه العظيمين: تهافت الفلاسفة، وفضائح الباطنية، وتراه مع ذلك في أكثر كتبه تابعاً للفلسفة اليونانية والتصوف الهندي الشرقي، رغم أنه أراد أن يهدم هذه المذاهب، إلا أنه لم يسلم من دخنها، ووقع في بعض مؤاخذاتها، حتى قال فيه تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع.
وهذا يذكرنا بنصيحة شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الإنسان لا يفني عمره في تتبع الفرق الضالة والانحرافات الفكرية لأن القلب لابد أن يتصرف وأن يتوه ويعلق به كثير من مفاسد هذه الضلالات، يقول: وإلا كان قلبك مثل الإسفنجة، فإن الإسفنجة كلما ألقيت إليها قطرة تتشربها وتتشبع بها حتى تمتلئ بالشبهات، فلذلك يقول الإمام أبو بكر بن العربي في شيخه: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة ثم أراد أن يتقيأهم فما استطاع.
وفي مكان آخر: شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة فأراد أن يخرج فما استطاع.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولما وقع في المضنون به على غير أهله وغيره من كتبه -أي: الشيخ أبو حامد - ما هو من جنس كلام الفلاسفة في الشفاعة وفي النبوة وغير ذلك، اشتد نكير علماء الإسلام على أبي حامد لهذا الكلام، وتكلموا في أبو حامد وأمثاله بكلام معروف.
وممن انتقد أبا حامد وتكلم فيه أصحاب أبي المعالي كـ أبي الحسن المرغياني وغيره، وأهل بيت القشيري وأتباعه، والشيخ أبو البيان، وأبو الحسن بن سكر، وأبو عمرو بن الصلاح، وأبو زكريا النووي، وأبو بكر الطرطوسي، وأبو عبد الله المنذري، وابن حمدين القرطبي، وأبو بكر بن العربي تلميذه، وأبو الوفاء بن عقيل، وكان من أشد الناس على أبي حامد أبو الفرج بن الجوزي، وأبو محمد المقدسي، والخرزي وغيره من أصحاب أبي حنيفة.
إذاً: حينما نتكلم في دراسة نقدية لفكر الغزالي ولكتابه إحياء علوم الدين خاصة، نقول: لسنا أول من قرع هذا الباب من أولي الألباب؛ بل لنا سلف قاموا على شرف المناضلة والذب عن الشريعة الغراء، مع احترامهم وحبهم للإمام الغزالي، وحسن ظنهم به رحمه الله تعالى.(80/9)
حصره لاحتمالات النجاة في مذاهب الفلاسفة والمتكلمين والباطنية والصوفية
المأخذ الثالث: أن الإمام أبا حامد حصر احتمالات وجود طريق النجاة في دوائر الفلاسفة والمتكلمين والباطنية والمتصوفة: أراد أن يبحث عن الحق فقال: إن الحق لا يخرج عن هذه الطوائف الأربع: الفلاسفة والمتكلمين والباطنية والصوفية، وهذا بعد الدراسة المستفيضة التي أنفق فيها كماً كبيراً من عمره رحمه الله، فخلص بعد دراسة هذه الاتجاهات والتنقل بينها إلى أن المنقذ من الضلال هو التصوف، وقد أخطأ الإمام رحمه الله تعالى خطأً فادحاً حين أغفل منهج أهل السنة والجماعة، منهج أصحاب الحديث وأهل العلم والفقه والأثر، الذين هم بحق الفرقة الناجية والطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، وقد ذكر العلماء أنهم أصحاب الحديث أو أهل العلم والفقه والأثر.
فإذا قلنا: نوافق الإمام الغزالي رحمه الله تعالى فيما أخذه على الباطنية والفلاسفة والمتكلمين وإذا كان هو قد أصاب في الأمور التي أخذها عليهم، فلا يلزم من هذا أن يكون الإمام أبو حامد مصيباً في اعتباره التصوف طريق النجاة، بل إن التصوف ذاته في حاجة إلى من يحاكمه، ويزنه بميزان الكتاب والسنة اللذين هما بحق حجة الإسلام، ليكشف مظاهر مخالفته لدين الله سبحانه وتعالى.
فالتصوف بمعناه المعروف الآن يخالف دين الله عز وجل في مصادر التلقي، فهناك فرق بين مصادر التلقي عند أهل السنة والجماعة أهل الاستقامة، والصوفية المبتدعين، ونحن نخالفهم في تقسيم الدين إلى شريعة وحقيقة، ونخالفهم في تبني معظم المفاهيم الكنسية الرهبانية، ومصادمة بعض مقاصد الشريعة كالترغيب في العزوبة، والترهيب من النكاح، بجانب انحراف الصوفية في تصوراتهم؛ ونخالفهم في الإلهيات والنبوة والولاية، واعتقادهم اختصاص الخواص بأسرار دينية لا يطلع عليها غيرهم, وتقديم المكاشفات والإلهامات والمنامات المزعومة على الأدلة المعصومة، وشيوع استدلالهم بالأحاديث والآثار الواهية والموضوعة إلى آخر مظاهر انحرافهم عن الجادة، فضلاً عن بدعهم الشنيعة التي أفاض في ذكرها الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى في تلبيس إبليس، أو: نقد العلم والعلماء -الكتاب له اسمان- وغيره من الأئمة الأعلام.
ومن ثم يمكننا بعد الدراسة المستفيضة لأحوال الصوفية ومخالفتهم للكتاب والسنة أن نخلص إلى القول بأن الصوفية فئة غارقة في البدع بأنواعها: علمية وعملية، حقيقية وإضافية، عبادية وعادية، فعلية وتركية، كلية وجزئية، وأن الصوفية غير مؤهلة لحمل أمانة هذا الدين إلى العالمين؛ لأنها لا تؤتمن عليه وقد انحرفت عن حقائقه هذا الانحراف الخطير.
هذا فيما يتعلق بالمؤلف وهو الإمام أبو حامد الغزالي باختصار.(80/10)
كتاب إحياء علوم الدين
أما الكتاب المؤلف وهو كتاب الإحياء، ونحن في الحقيقة نتحرج من أن نقول: إحياء علوم الدين، لكن نستطيع أن نقول: كتاب الإحياء، فهناك ظاهرة تتعلق بكتاب الإحياء تستلفت النظر.
وهذا الكتاب قد استحوذ من اهتمام العلماء على قدر عظيم، ما بين شارح ومختصر، ومخرج لأحاديثه، وراد عليه وهكذا، فقد شرحه الإمام الزبيدي في كتاب يقع في ثلاثين مجلداً سماه: إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين، وألف الحافظ العراقي كتاباً مستقلاً في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين أسماه: المغني عن حمل الأسفار في الأسفار لتخريج ما في الإحياء من الآثار، والكتاب الملحق بالطبعة المتداولة من إحياء علوم الدين هو مختصر للكتاب الأصلي الذي ألفه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء، أما الكتاب الحقيقي فلا أعلم أنه عثر عليه حتى الآن، لكن يقال إن الزبيدي استعان به في تخريجاته الرائعة للأحاديث في كتابه إتحاف السادة المتقين.
كذلك الإمام الغزالي نفسه ألف على كتاب الإحياء كتاب الإملاء في إشكالات الإحياء، وشقيق الإمام الغزالي أحمد بن الغزالي ألف كتاب: مختصر إحياء علوم الدين، وهو أول من اختصره، كذلك الشيخ عبد القادر العيدروس ألف كتاب: تعريف الأحياء بفضائل الإحياء.(80/11)
مواقف العلماء من كتاب الإحياء
من الناس من غض الطرف تماماً عن المآخذ التي تضمنها هذا الكتاب وغلا فيه، حتى قال بعضهم: كاد الإحياء أن يكون قرآناً! وقال آخر: لو بعث الله الموتى لما أوصوا الأحياء إلا بالإحياء! وقال ثالث: من لا يطالع في الإحياء فما فيه حياة! وقال رابع: الحجة فيما اختاره الحجة! وقال خامس: دع اللحية واقتنِ الإحياء! يعني: دع الاهتمام باللحية والمظهر واقتن كتاب الإحياء.
وفي الجانب الآخر -وانظر إلى تضارب مواقف العلماء من الكتاب- أفتى بتحريق نسخ الإحياء علماء المغرب ممن عرف بالسنة، وتم ذلك بالفعل، فقد جمعوا نسخ كتاب الإحياء وأحرقوها، وسماه كثير من علماء المغرب: إماتة علوم الدين، وقام الإمام ابن عقيل الحنبلي أعظم قيام فيه بالذم والتشنيع، وقال فيه قولاً شديداً حوى أوصافاً شنيعة لا نستجيد حكايتها؛ لأننا كطلبة علم لنا حدود لا ننقل كل ما يكون في الكتب.
وصنف بعض العلماء في الرد على ما تضمنه الإحياء من مجازفات، كما فعل الإمام أبو الفرج بن الجوزي، فقد ألف كتاب: إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء، والإمام أبو الحسن بن سكر ألف كتاب: إحياء مجلس الأحياء في الرد على كتاب الأحياء، والإمام المازري ألف كتاب: الكف والإنباء عن كتاب الإحياء.
ومن العلماء من زجر عن مطالعته إلا بشروط، كما قال الإمام المازري: ومن لم يكن عنده من البسطة في العلم ما يعتصم به من غوائل هذا الكتاب فإن قراءته لا تجوز، وإن كان فيه ما ينتفع به.
يعني: مع أنه يوجد ما ينتفع به في هذا الكتاب، إلا أنه لا تجوز قراءته لكل أحد، إلا رجل قد آتاه الله من العلم ما ينجو به من غوائل وآفات هذا الكتاب.
ومن العلماء من أرشد في رفق إلى التحذير من مطالعته، كما فعل الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى، ومنهم من زجر عن ذلك مطلقاً، كما قال الشيخ عبد اللطيف الحنبلي في رسالة كتبها إلى بعض أصحابه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ في الله عبد الله بن معيذر، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد: فقد بلغني عنك ما يشغل كل من له حمية إسلامية، وغيرة دينية على الملة الحنيفية؛ وذلك أنك اشتغلت بالقراءة في كتاب الإحياء للغزالي، وجمعت عليه من لديك من الضعفاء والعامة الذين لا تمييز لهم بين مسائل الهداية والسعادة، ووسائل الكفر والشقاوة، وأسمعتهم ما في الإحياء من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، والثقافة التي اشتملت على الداء الجسيم والفلسفة في أصل الدين، وقد أمر الله تعالى وأوجب على عباده أن يتبعوا رسله وأن يلتزموا سبيل المؤمنين، وهذا الأصل المحكم لا قيام للإسلام إلا به.
وقد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة والمتكلمين في كثير من مباحث الإلهيات وأصول الدين، وكسا الفلسفة لحاء الشريعة، حتى ظنه الأغمار والجهال بالحقائق من دين الله الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب ودخل به الناس في الإسلام، وهي في الحقيقة نهج فلسفة منتنة يعرفها أولو الأبصار، ويمجها من سلك سبيل أهل العلم كافة في القرى والأمصار، قد حذر أهل العلم والبصيرة عن النظر فيها ومطالعة قاصيها ودانيها إلى أن قال: إذا سمعت بعض عباراته المزخرفة قلت: كيف ينهانا عن هذا فلان، أو يأمر بالإعراض عن هذا الشان؟! كأنك سقطت على الدرة المفقودة، والضالة المنشودة، وقد يكون ما أطربك وهز أعطافك وحركك فلسفة منتنة وزندقة مبهمة أخرجت في قالب الأحاديث النبوية والعبارات السلفية إلخ.
وهناك فريق من العلماء نظر إلى القواعد الجليلة المبسوطة في الإحياء، والمقتبسة من نور القرآن ومشكاة السنة، فرأوه مدرسة تربوية شاملة في جنسها ونفيسة في نفسها، وفي ذاك الوقت أدركوا خطر المجازفات التي تضمنها، والتي تنحرف بمعتقد سالكها عن سبيل أهل السنة والجماعة، فدندنوا حول الإحياء.
إذاً: هناك علماء رفضوا على الإطلاق كتاب الإحياء حتى قاموا بإحراقه، وعلماء غالوا فيه حتى قالوا: كاد الإحياء أن يكون قرآناً، وعلماء حذروا من قراءته إلا لبعض الخواص ممن قد حشاهم الله بالعلم بحيث يأمنون غوائل الكتاب، ثم أتى هذا الجانب المتوسط الذي أراد أن يجمع بين المصلحتين، واتخذ الموقف الوسط، فدندنوا حول الإحياء يحاولون تهذيبه، وإخراجه غضاً سائغاً من بين فرث الفلسفة ودم الكلام المذموم، ومن هؤلاء الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى، الذي ألف كتاباً في تهذيب كتاب الإحياء سماه: منهاج القاصدين ومفيد الصادقين، قال في مقدمته: اعلم أن في كتاب الإحياء آفات لا يعلمها إلا العلماء، وأقلها الأحاديث الباطلة الموضوعة والموقوفة، وقد جعلها مرفوعة، وإنما نقلها كما اقتراها لا أنه افتراها، ولا ينبغي التعبد بحديث موضوع، والاغترار بلفظ مسموع.(80/12)
القول الوسط في كتاب الإحياء
هذه المواقف من العلماء، وهذه الدندنة حول الكتاب -كما سنرى- تفيد أن الكتاب فيه فوائد قطعاً غير موجودة في غيره، وأن الكتاب عبارة عن مدرسة تربوية شاملة في علم الأخلاق والرقائق، وفي نفس الوقت هذه الظاهرة تومئ وتشير إلى أن الكتاب فيه آفات خطيرة أدت إلى هذه المواقف من العلماء، ويجمع هذين الجانبين موقف الفريق الوسط الذي قام بتهذيب الكتاب ودندن حوله، وجعله محور حركته في إيجاد مدرسة تربوية مستخلصة من فوائد كتاب الإحياء.
يقول الإمام ابن الجوزي في مقدمة منهاج القاصدين ومفيد الصادقين: اعلم أن في كتاب الإحياء آفات لا يعلمها إلا العلماء، وأقلها الأحاديث الباطلة الموضوعة والموقوفة، وقد جعلها مرفوعة، وإنما نقلها كما اقتراها -أي: كما وجدها وقرأها في الكتب- لا أنه افتراها، ولا ينبغي التعبد بحديث موضوع، والاغترار بلفظ مسموع، وكيف أرتضي لك أن تصلي صلوات الأيام ولياليها، وليس فيها كلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: الصلاة يوم السبت، والصلاة يوم الأحد، والصلاة يوم كذا، وكل يوم له صلاة مخصوصة به بلا دليل وبلا حديث صحيح مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم- يقول: وكيف أرتضي لك أن تصلي صلوات الأيام ولياليها وليس فيها كلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أوثر أن يطرق سمعك من كلام المتصوفة الذي جمعه وندب إلى العمل به -يعني جمعه أبو حامد، ورغب الناس: إلى العمل به- ما لا حاصر له، من الكلام في الفناء والبقاء، والأمر بشدة الجوع، والخروج إلى السياحة في غير حاجة، والدخول في الفلاة بغير زاد إلى غير ذلك مما قد كتبت عن عواره في كتابي المسمى: بتلبيس إبليس، وسأكتب لك كتاباً يخلو عن مفاسده ولا يخل بفوائده إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
ثم قام الإمام نجم الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي باختصار كتاب ابن الجوزي منهاج القاصدين ومفيد الصادقين، في كتاب سماه: مختصر منهاج القاصدين، وهو معروف ومتداول.
وممن اختصر كتاب الإحياء أيضاً العجلوني ومحمد بن سعيد اليماني، وأحمد بن موسى الموصلي، والسيوطي، والقاسمي في كتابه: موعظة المؤمنين، ثم حققه طائفة وأسموه: تهذيب موعظة المؤمنين، وللشيخ محمود عوض رحمه الله أيضاً مختصر له أسماه: طب القلوب، وللشيخ أبي الحسن الندوي أيضاً مختصر له أسماه: تهذيب الأخلاق، وقد تجاوزت الكتب المؤلفة حول كتاب الإحياء العشرين كتاباً.
ونحن اليوم على أعتاب نهضة قرآنية وصحوة سنية ويقظة سلفية، نتلمس الطريق الذي نرتقي بسلوكه إلى مستوى الجيل الأول، بعيداً عن مخلفات الغزو الفكري، سواء كان الغزو الحديث أو القديم؛ فالحديث يتمثل في العلمانية والتنصير والاستشراق إلخ، والغزو الفكري القديم المتمثل في الباطنية والفلسفة والكلام والصوفية إلخ.
فما أشد حاجتنا إلى الدراسة المسفرة الواعية لفكر أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى، باعتباره رمزاً من رموز المنهج الصوفي، دخل في غمار الفلاسفة والمتكلمين والباطنية، فحمل عليهم وانغمس في صفوفهم، وما زال يجاهدهم حتى فل شوكتهم وكسرهم، وفرق جموعهم شذر مذر، وفلق هام كثير منهم، غير أنه أصابه في أثناء ذلك شيء من دمائهم، فحاول أن يغسل أثر الدم عنه فما استطاع، فالإمام أبو حامد لم يكن يقصد أن يتبني منهج الفلاسفة أو الباطنية، لكنه دخل يقاتلهم ويقضي عليهم، فأصابه شيء من لوثهم، أو من دمائهم.(80/13)
نشأة الإمام الغزالي في أحضان التصوف وعودته إلى مذهب السلف
هذا هو حال أبي حامد رحمه الله تعالى، وواجبنا أن نتأمل في تجربته وأن نستنبط منها العبر، وأعظم عبرة نستقيها من تجربة الإمام أبي حامد رحمه الله تعالى، هي عودته بعد طول غربة إلى منهج السلف الصالح رحمه الله تعالى.
فالإمام أبو حامد في آخر أيامه ندم على تضييع عمره في هذه الطرق المشتتة، وعكف على دراسة علم الحديث، حتى إنه رحمه الله مات وصحيح البخاري على صدره رحمه الله تعالى، فأعظم عبرة نستخلصها من تجربته -كما سنرى- هي عودته بعد طول غربة إلى منهج السلف الصالح، نادماً على بضاعة العمر النفيسة التي أنفقها في التحري والبحث والتنقل.
فحري بنا أن نحرص جميعاً على نقطة البداية ونحن نتلقى المفاهيم والعلوم، وهذه أعظم العبر، وهي أن كل إنسان عليه أن يهتم بنقطة البداية في تربية نفسه وتعليمها، أو في تربية غيره من أولاد أو غيرهم، فنقطة البداية تشكل محوراً خطيراً جداً في حياة أي إنسان، والغالب أن الإنسان دائماً يتعصب لأول شيخ تعلم على يديه، ويتعصب لأول كتاب قرأه، ويتعصب لأول مدرسة ينتمي لها، فمن كان يراد له السعادة من الله سبحانه وتعالى وفقه الله إذا كان حدثاً أن ينشأ على يد رجل من أهل السنة والجماعة، وإن كان كافراً وأسلم أن يسلم على يد رجل من أهل السنة، وإلا فكم رأينا عشرات الكفار يسلمون على أيدي أناس لا علاقة لهم بالإسلام، ويظنون أن هذا هو الإسلام.
وعلى كل حال فالإنسان يتعصب ويتمسك بأول من يرشده إلى الإسلام، فإذا كان حظه سعيداً ووقع عند واحد من أهل السنة، فهذه من علامات إرادة الخير به.
وقد كانت نقطة البداية في تربية الإمام أبي حامد أنه نشأ في أحضان الصوفية، وتربى في كنفها، وترعرع في ظلالها، فإن كان الغزالي بدأ بالصوفية، وتدرج إلى الباطنية والفلاسفة والمتكلمين، وظن في النهاية أن طريق الخلاص والنجاة هو طريق التصوف، ثم ندم بعد ذلك على هذا كله ورجع إلى منهج السلف الصالح، وألف وقال كلاماً عظيما جداً في الانتقال إلى عقيدة السلف في نهاية عمره وفي آخر مؤلفاته، وإن كان -كما ذكرنا- مات والبخاري على صدره، من شدة اهتمامه وتعطشه إلى علم الحديث الذي أيقن أنه فرط في حقه كثيراً؛ فعلينا أن نبدأ من حيث انتهى الغزالي رحمه الله تعالى، وأن ندقق في الطريق الذي سوف نسلكه قبل أن تطأه أقدامنا، وننفق فيه بضاعة العمر، وإلا فإذا مشينا في طريق مسدود فسنقف في النهاية أمام سد منيع يحول بيننا وبين طريق النجاة، فنعض أناملنا، ويغشانا الندم ولات حين مندم! وقد قيل: فساد الانتهاء من فساد الابتداء، فالأصل أن الإنسان إذا كانت بدايته فاسدة فإنها تستمر معه إلى النهاية والعياذ بالله، إلا من رحمه الله، ومن هنا عد السلف الصالح رحمهم الله تعالى من علامات السعادة للإنسان إذا نسك وإذا تعبد وإذا تاب: أن يواخي صاحب سنة يحمله عليها، وأن يقيض الله له رجلاً من أهل السنة والجماعة يضع قدميه منذ البداية على طريق الفرقة الناجية والطائفة الظاهرة المنصورة.(80/14)
ترجمة الإمام الغزالي رحمه الله(80/15)
اسمه ومولده ونشأته
يقول عبد الرحمن دمشقية: هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي المعروف بـ الغزالي، ولد بطوس سنة (450هـ)، وكان والده يغزل الصوف ويبيعه في دكانه بطوس، فلما حضرته الوفاة أوصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له متصوف من أهل الخير، وقال له: إن لي لتأسفاً عظيماً على تعلم الخط، وأشتهي استدراك ما فاتني في ولدي هذين فعلمهما، ولا عليك أن تصرف في ذلك جميع ما أخلفه لهما.
فلما مات أبوهما أقبل صديقه على تعليمهما إلى أن أفنى ذلك المال اليسير الذي خلفه لهما أبوهما، فتعذر عليه القيام بقوتهما لأنه كان رجلاً فقيراً، فقال لهما: اعلما أني قد أنفقت عليكما ما كان لكما، وأنا رجل من الفقر والتجريد بحيث لا مال لي فآويكما به، وأصلح ما أرى لكما أن تلجآ إلى مدرسة، فإنكما من طلبة العلم، فيحصل لكما قوت يعينكما على وقتكما.
يعني: إنكما ما زلتما صغيرين، وأنا ليس عندي ما أنفق عليكما، فأنصحكما أن تلتحقا بإحدى المدارس، فإنكما من طلبة العلم، وستجدون فيها القوت والطعام.
ففعلا ذلك، وكان هو السبب في سعادتهما وعلو درجاتهما، وكان الغزالي رحمه الله تعالى حينما يتذكر هذه الأيام يحكيها، ويقول: طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله، يعني: كانت بداية طلب العلم أنهما يذهبان إلى المدرسة حتى ينالا القوت؛ لأنه نفذ ما كان لهما من مال في تعلم الخط، فقد أرادا العلم لأجل القوت فقط، فأبى العلم إلا أن يأخذ بناصيتهما حتى يكون لوجه الله سبحانه وتعالى.
كانت الحالة المادية الصعبة هي التي دفعت بـ الغزالي إلى دخول إحدى المدارس الدينية ليتعلم الفقه فيها ظاهراً، وليضمن القوت باطناً، حيث إنه لم يكن له اختيار في ذلك، لكن هذا الفقر كان عامل خير في تكوين شخصية الغزالي الفقهية التي تطورت ونمت بشكل أثار حوله إعجاب الآخرين، ولذلك نرى الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى يصفه بأنه كان من أذكياء العالم، ومعلوم أن الغزالي من الأذكياء النوابغ في التاريخ، وأنه من شخصيات التاريخ النادرة التي عرفت بالذكاء الخارق.
يقول: كان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم فيه، وقد ساد الإمام الغزالي في شبيبته، حتى إنه درس بالنظامية في بغداد وكان يحضر درسه هذا أكابر العلماء، وممن كان يحضر عنده أبو الخطاب وابن عقيل، فتعجبوا من فصاحته واطلاعه.
وقد حكى عنه ابن كثير أيضاً بأن النسخ كان من مصادر قوته، كان ينسخ الكتب والمصاحف مثلاً ويبيعها.(80/16)
طلبه للعلم ونبوغه فيه
قال ابن السبكي رحمه الله: وفي عام (465هـ) -وكان عمره حينئذٍ خمسة عشر عاماً- بدأ الغزالي يدرس الفقه على أحمد الراذكاني بطوس، ولما تمكن من العلم سافر إلى جرجان ليطلب المزيد من العلم على يد الشيخ أبي نصر الإسماعيلي، وعلق عنه التعليقة، ثم قدم نيسابور ونزل هناك على إمام الحرمين الجويني، وجد واجتهد حتى برع في العلوم، ووقف على الخلاف والجدل والأصلين -يعني أصول الدين وأصول الفقه- والمنطق، وقرأ الفلسفة وأحكم ذلك كله، وفهم كلام أرباب هذه العلوم، وتصدى للرد عليهم وإبطال دعاويهم.
وقد أظهر إمام الحرمين الجويني عناية خاصة به لما ظهر له فيه من بوادر النبوغ السريع، حتى كان الإمام الجويني يصف الغزالي بأنه البحر المغرق، وقد لازمه الغزالي مدة انتهت بوفاته سنة (478هـ).
لقد كان هذا التلميذ النابغ للإمام الجويني يمضي نحو تألقه وسطوعه بخطوات سريعة، فقد ألف كتاباً في أصول الفقه أسماه: المنخول من علم الأصول، غطى هذا الكتاب على أستاذه حتى قال له شيخه الجويني لما رآه وقرأه: دفنتني وأنا حي هلا صبرت حتى أموت! يقول ابن عساكر نقلاً عن عبد الغافر -وهو أحد تلامذة الغزالي - في ترجمته: ثم قدم نيسابور مختلفاً إلى درس إمام الحرمين في طائفة من الشبان، وجد واجتهد حتى تخرج في مدة قريبة، وبز الأقران -يعني: تفوق على أقرانه- وحمل القرآن، وصار أنظر أهل زمانه في المناظرة، وأوحد أقرانه في أيام إمام الحرمين، وكان الطلبة يستفيدون منه ويدرس لهم ويرشدهم، ويجتهد في نفسه، وبلغ الأمر به إلى أن أخذ في التصنيف.
وكان الإمام مع علو درجته وسمو عبارته وسرعة جريه في النطق والكلام لا يصفي نظره إلى الغزالي سراً لإنافته عليه في سرعة العبارة وقوة الطبع، ولا يطيب له تصديه للتصنيف، فكان الشيخ يجد حرجاً من أن يتصدر تلميذه لتأليف الكتب، وإن كان متخرجاً به منتسباً إليه، كما لا يخفى من طبع البشر، ولكنه يظهر التبجح به والاعتزاز بمكانه ظاهراً خلاف ما يضمره.
ثم بقي كذلك إلى انقضاء أيام الإمام، ثم عهد إليه التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد فقبل ذلك، وكان ذلك سنة (484هـ) ولم يكن تجاوز فيها الرابعة والثلاثين من عمره.(80/17)
تدريسه في بغداد وتصديه لفضح الباطنية
وقد احتل من مجلس نظام الملك هناك محل القبول، وظهر اسمه، وبرزت مناظراته للفحول ومناقرته للكبار، وارتفق بذلك أكمل الارتفاق، حتى أدت به الحال إلى أن صمم على ترك المعسكر والتدريس بنظامية بغداد.
وصل أبو حامد إلى بغداد ولاقى تشجيعاً له على تحقيق دعوته ومواصلة تدريسه في نظامية بغداد، وصارت له مكانة وشهرة واسعة، حيث كان مدرساً لثلاثمائة من الطلاب في الفقه والأصول وغيرهما، لكن ذلك لم يدم طويلاً، فقد أصابه مرض اضطره إلى مفارقة بغداد، فرحل إلى الحجاز حاجاً، ثم أتى الشام وتركها ذاهباً إلى القدس نحو سنتين، وقيل: إن خروجه من بغداد كان لسبب خطر الباطنية الذين تم على أيديهم اغتيال نظام الملك سنة (485هـ)، وبهذا فقد قويت شكيمتهم واستفحل أمرهم، ولقد كان وقع نبأ نظام الملك عميقاً في نفس الغزالي، وتأثر بسبب ذلك تأثراً بليغاً، وبلغ هذا التأثر مبلغه حين توفي المهتدي سنة سبع وثمانين وأربعمائة بطريقة غامضة، ولعلها مؤامرة باطنية أيضاً.
ثم جاء المستظهر بالله فطلب من الغزالي محاربة عقيدة الباطنية وفضح آرائهم ومذهبهم، ففعل الغزالي ذلك، وصنف ضدهم العديد من المصنفات أشهرها كتابه: المستظهري، إذاً: المستظهري نسبة إلى المستظهر بالله الذي أمره بالرد على عقائد الباطنية، وأصبح اسم الكتاب: فضائح الباطنية، ولذلك لما رد الغزالي على عقيدة الباطنية وفضحهم أصبح مهدداً بالخطر، فالباطنية يترصدونه ويتحينون الفرصة المواتية للتخلص منه، فخرج من بغداد سنة (488هـ)، وقد ترك أخاه أحمد للتدريس في نظامية بغداد، وفي بغداد أيضاً انصرف الغزالي إلى دراسة الفلسفة دراسة عميقة، فطالع كتب الفارابي وابن سينا، وألف على إثر ذلك كتابه: تهافت الفلاسفة.
يقول بعض العلماء: الغزالي لم يؤلف هذا الكتاب عن رغبة مجردة في العلم؛ بل لأنه عانى من مرحلة من الاضطراب والتشكك الذهني أو الفكري، والدليل على ذلك أنه ألف كتابه المشهور: تهافت الفلاسفة لإبداء شكوكه في قيمة العلم وبراهينه المنطقية، وبعض الناس يفسرون خروجه من بغداد بأنه كان نتيجة هذه الشكوك التي طرأت على عقيدته فجعلته يترك التدريس، وترك الأهل والولد والمال وخرج من بغداد سنة (488هـ).(80/18)
تركه للتدريس وخروجه من بغداد إلى الشام
يقول الغزالي حاكياً عن خروجه من بغداد: ثم لاحظت أحوالي فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من كل الجوانب، ولاحظت عملي وأحسنها التدريس والتعليم، فإذا أنا مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة، فلم أزل أتردد بين تجاذب الدنيا ودواعي الآخرة قريباً من تسعة أشهر، أولها رجب سنة (488هـ)، ثم لما أحسست بعجزي وسقط بالكلية اختياري، أظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أضمر في نفسي سفر الشام؛ حذراً أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي في المقام بالشام، فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم أن لا أعاودها أبداً، ففارقت بغداد.
فخرج الغزالي يريد الشام في الباطن، وأظهر للناس أنه يريد الحج في الظاهر، ويبدو أنه كان تواقاً إلى العيش في الشام، والدليل على ذلك أنه عزم في نفسه على أن لا يعود إلى بغداد أبداً.
يقول: ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله؛ بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي الرحيل الرحيل، فلم يبق من العمر إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وسمعة.
فخرج الغزالي إلى مكة، فالمدينة، فدمشق، فالقدس، فدمشق، فالإسكندرية، ثم عاد إلى بغداد؛ قال القاضي أبو بكر بن العربي تلميذه: رأيت الغزالي في البرية -وهي صحراء دمشق- وبيده عكازة، وعليه مرقعة وعلى عاتقه ركوة، وقد كنت رأيته في بغداد يحضر درسه أربعمائة عمامة من أكابر الناس وأفاضلهم يأخذون عنه العلم، فدنوت منه فسلمت عليه وقلت له: يا إمام! أليس تدريس العلم ببغداد خيراً من هذا؟ فنظر إلي، ثم قال: لما طلع بدر السعادة في فلك الإرادة، وجنحت شمس الوصول في مغارب الأفول تركت هوى ليلى وسعدى بمنزل وعدت إلى تصحيح أول منزل ونادت بي الأشواق مهلاً فهذه منازل من تهوى رويدك فانزل غزلت لهم غزلاً دقيقاً فلم أجد لغزلي نساجاً فكسرت مغزلي(80/19)
عودته إلى التدريس في بغداد
ثم بعد عشرة أعوام من السفر بين الحجاز ودمشق والقدس والإسكندرية، عاد أخيراً إلى نيسابور، وكان ذلك سنة (498هـ)، بأمر من الوزير فخر الملك علي بن نظام الملك، الذي كان وزيراً في نيسابور للسلطان سنجر حاكم خراسان، فألح عليه فخر الملك إلحاحاً شديداً في ذلك، فلبى الغزالي طلبه، وتولى التدريس بالنظامية في ذي القعدة سنة (499هـ)، لكنها فترة قصيرة لم تدم طويلاً، فسرعان ما طغت أيدي الباطنيين على فخر الملك سنة (503هـ)، وحينئذ خرج الغزالي مسرعاً إلى طوس ثانية، وسكن في الطابران منها.(80/20)
وفاته رحمه الله
توفي الغزالي يوم الإثنين (14) من شهر جمادى الآخرة سنة (505هـ)، ودفن بظاهر قصبة طابران وهي قصبة في طوس، فرحمه الله تعالى، ولم يعقب إلا بنات، وكان له من الأسباب إرث وكسب يقوم بكفايته ونفقة أهله وأولاده، قيل: لقد قسمت كراريس الغزالي بعدد الأيام التي عاشها فبلغت أربعة كراريس لكل يوم، أي أنهم قسموا المؤلفات التي ألفها فوجدوا أن كل يوم كان يؤلف فيه أربعة كراريس، وقد بلغت هذه الكتب والرسائل المئات، منها المطبوع ومنها غير المطبوع.(80/21)
تأثر الإمام الغزالي بأهل الكلام والفلاسفة والباطنية والصوفية
لقد عاش الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى زمناً كثرت فيه الآراء والمذاهب والفرق، وكان أبرز تلك الفرق آنذاك أهل الكلام والفلاسفة والباطنية والصوفية، وقد عكف الغزالي على دراسة كل واحدة من هذه الاتجاهات الأربعة.
تلقى الأصول وعلم الكلام عن إمام الحرمين الجويني وتفرغ لدراسة الفلسفة دراسة وافية، وأكب على كتب ابن سينا: كالشفاء والنجاة والإشارات، حتى يقول بعض العلماء: الغزالي أمرضه الشفاء، يعني: كتاب الشفاء لـ ابن سينا، والعجيب أن بعض الناس يضللون في دراسة كتب التاريخ فيقولون: الفلاسفة أنشئوا حضارة، وبرعوا في شتى الاتجاهات الفكرية، فكان منهم ابن سينا، والكندي، والفارابي!! المقصود أنه درس كتب ابن سينا: كالشفاء والنجاة والإشارات، ورسائل أبي حيان التوحيدي، ورسائل إخوان الصفا، ولذلك فإن أغلب الفلسفة التي في كتاب الإحياء مأخوذة من هذه الرسائل الإلحادية الباطنية (رسائل إخوان الصفا) ومؤلفات الفارابي، وتهذيب الأخلاق لـ ابن مسكويه، وأكثر المصادر التي أخذ منها هي النجاة لـ ابن سينا، وتهذيب الأخلاق لـ ابن مسكويه.(80/22)
ذكر بعض خرافات الصوفية
وها هو الشيخ أحمد الرفاعي يطلب شراء بستان من صاحبه فيقول له صاحب البستان: تشتريه مني بقصر في الجنة؟ فقال: من أنا حتى تطلب مني هذا يا ولدي؟! اطلب من الدنيا.
فقال: يا سيدي! شيئاً من الدنيا لا أريد، فإن أردت البستان فاشتره بما أطلب.
فنكس السيد أحمد الرفاعي رأسه ساعة واصفر لونه وتغير -ما أدري هل كان الوحي ينزل عليه أم ماذا؟! - يقول: نكس رأسه ساعة واصفر لونه وتغير، ثم رفع وقد تبدلت الصفرة احمراراً، وقال: يا إسماعيل! قد اشتريت منك البستان بما طلبت! فقال: يا سيدي! اكتب لي خط يدك، فكتب له السيد أحمد الرفاعي ورقة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى إسماعيل بن عبد المنعم من العبد الفقير الحقير أحمد بن أبي الحسن الرفاعي ضامناً على كرم الله تعالى قصراً في الجنة تجمعه حدود أربعة: الأول إلى جنة عدن، والثاني إلى جنة المأوى، والثالث إلى جنة الخلد، والرابع إلى جنة الفردوس، بجميع حوره وولدانه وفرشه وستره وأنهاره وأشجاره، عوض بستان في الدنيا، وله الله شاهد وكفيل.
فهذه بعض مهازل هؤلاء الصوفية التي شابهوا بها سلوك النصارى، بالإضافة إلى الرهبنة والغلو في الدين وفي الرجال، مما جعل تصرفاتهم شبيهة بمهازل الكنيسة وأربابها، فلا شك أن بيع العقارات في الجنة أسلوب معروف عند النصارى.
فالبابا لا يقدر على أن يضمن لأحد الجنة، بل ولا لنفسه، ولا الشيخ عبد الله العيدروس قادر على ضمان الجنة لأحد بل ولا لنفسه.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يفيد نهيه عن تزكية الأخ أخاه مجرد المدح فقط، فكيف بالذي يضمن له الجنة؟! (لما توفي عثمان بن مظعون رضي الله عنه وكفن في أثوابه، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أم العلاء الأنصارية: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه، فقالت: بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ فقال عليه السلام: أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي، فقالت أم العلاء: فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً).
يقول الله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9]، يعني: في الدنيا، أما في الآخرة فلا شك أن النبي عليه الصلاة والسلام مقطوع له بأنه يكون في الجنة.(80/23)
عجائب وغرائب وخرافات من كلام الغزالي(80/24)
كلامه حول الخلوة والانقطاع من الدنيا
نعرض بعض العجائب من أقوال الغزالي في كتبه، وخاصة كتاب الإحياء.
يقول: وأما حياة الخلوة ففائدتها دفع الشواغل، وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليز القلب، وليس يتم ذلك إلا بالخلوة في بيت مظلم، وإن لم يكن له مكان مظلم فليلف رأسه في جيبه، أو يتدثر بكساء أو إزار، ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق، ويشاهد جلال الحضرة الربوبية.
واستدل على ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، وقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]، فهو ينصح الشخص الذي يدخل في الخلوة بأن يخلو بنفسه في زاوية ويقتصر على الفرائض، ولا يقرن همه بقراءة القرآن، ولا بالتأمل في التفسير، ولا بكتب حديث ولا غيره.
فنقول: ومن أين يأتيه الخير إن كان يعتزل القرآن ويعتزل أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟! ويقول أيضاً: واطو الطريق فإنك بالواد المقدس طوى، واستمع بسر قلبك لما يوحى، فلعلك تجد على النار هدى، ولعلك من سرادقات العرش تنادى بما نودي به موسى: إني أنا ربك! ويقول أيضاً: اعلم أن المريد في ابتداء أمره ينبغي أن لا يشغل نفسه بالتزويج، فإن ذلك شغل شاغل يمنعه من السلوك، ويستجره إلى الأنس بالزوجة، ومن أنس بغير الله شغل عن الله، ولا يغرنه كثرة نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان لا يشغل قلبه جميع ما في الدنيا عن الله تعالى، فلا تقاس الملائكة بالحدادين، قال أبو سليمان الداراني: من تزوج فقد ركن إلى الدنيا.
فنقول: أين هذا من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)؟! فهذه دعوة كنسية، ورهبانية ليست من الإسلام في شيء؛ لأنها مناقضة لأصول مقاصد الشريعة العليا.(80/25)
كلام الغزالي عما يسمى بالأباجاد
وله في بعض كتبه كلام كانوا يسمونه الترياق، ويسمونه: أباجاد، وهذه الأشياء يتعاطاها المنجمون الذين ينظرون في النجوم، ويعتقدون أن لها تأثيراً على الحوادث الأرضية، وأن معرفة هذه الأشياء لها صلة بالأحوال الفلكية، فكانوا يعملون حوالي تسعة مربعات، ويكتبون أحرفاً ضمن هذه المربعات، فتكون هذه الحروف رموزاً لأرقام محددة، يحصل بواسطته كشف المقادير المخبأة في تلك الأفلاك، يعملون مربعين منقسمين إلى ثلاثة أفلاك، ويعملون في كل مربع تسعة مربعات، فواحد فيه: (ب.
ط.
د.
ز.
ع.
و.
واحد.
ح) وهكذا، حروف ورموز لهؤلاء المنجمين، والغريب أن الغزالي رسمها في بعض كتبه! وذكر أنه من الأسباب ذات الخواص العجيبة والمجربة في معاملة الحامل التي عسر عليها الطلق، ثم قال: يكتب على خرقتين ثم يشدهما لم يصبهما ماء، وتنظر إليهما الحامل بعينها وتضعهما تحت قدميها، فيسرع الولد في الحال إلى الخروج.
وهذه الطريقة شائعة الاستعمال عند اليهود؛ لأنهم أهل خبرة بها.
وقد سئل ابن عباس عن قوم يكتبون أباجاد وينظرون في النجوم، فقال: (ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق).(80/26)
إثبات الغزالي للمشاهدات والمكاشفات الصوفية
ويقول الغزالي أيضاً: عند أول سلوك طريق التصوف تتبع المشاهدات والمكاشفات، حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجة يضيق عنها نطاق النطق.
يعني أنه لا يجوز لنا أن نحكيها، إنما هي أسرار وألغاز! مع أنه لا يوجد في الإسلام أسرار ولا ألغاز، يقول الله تعالى لنبيه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، وقال عليه الصلاة والسلام للصحابة أجمعين في أعظم اجتماع لهم وهو حجة الوداع: (ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد ألا إنكم مسئولون عني فبماذا تجيبون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت)، فهل بعد ذلك يشك شاك أن الرسول عليه السلام خص بعض الناس بعلوم وخبأها عن الآخرين؟ هذه أيضاً من مهازل هذا الفكر الصوفي الخبيث.
يقول: ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجة يضيق عنها نطاق النطق، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه.
وعلى الجملة ينتهي الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول، وطائفة الاتحاد، وطائفة الوصول، وكل ذلك خطأ، بل الذي لابسته تلك الحالة لا يزيد على أن يقول: وكان ما كان مما لست أذكره فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر يحيلك على مذهلات، (وكان ما كان مما لست أذكره) أي حصلت أشياء لا أستطيع أن أحكيها، فهي أسرار، كما لو سرحت في مقامات الفناء ونحو ذلك مما يذكرونه، ومثل هذه الكلمات التي لا ينطقون بها، فإذا نطقوا بها كانت قرينة الكفر، والتي يذكر الغزالي بأنه لا أحد يحاول أن يفسر هذه الأشياء أو يعبر عنها، مثل قول بعضهم: سبحاني ما أعظم شأني! وقول الحلاج: ما في الجبة إلا الله! وقول الآخر: أنا الحق وما في الدارين غيري! ونحو ذلك من تعبيراتهم الكفرية.(80/27)
كلام الغزالي حول إسقاط الجاه عند الناس
يلفت الغزالي في مواضع من كتابه إلى وسيلة إسقاط الجاه، فيقول: إن الجاه نوع من الكرب للإنسان، ولذلك يستحسن بعض الناس أن يعملوا تصرفات حتى يسقط جاههم في قلوب الناس.
ويقول: فإسقاط الجاه عن قلوب الخلق بمباشرة أفعال يلام عليها حتى يسقط من أعين الخلق.
وهذا مذهب الملامتية، والملامتية الشخص الذي لا يظهر في ظاهره ما في باطنه، وهذا عند الصوفية من أعظم الناس إخلاصاً لله سبحانه وتعالى؛ لأنه يخفي على الناس صلاحه وتقواه ويظهر خلاف الحقيقة.
يقول: إذ اقتحموا الفواحش في صورتها ليسقطوا أنفسهم من أعين الناس؛ ليسلموا من آفة الجاه.
أي: من أجل أن يتخلص من مسألة الجاه، فإن الناس يحترمونه لأنه رجل صالح وتقي، فيقول: أريد أن أزيل عني هذه الشبهة، وحتى لا أطلب الجاه بقلوب الناس، فيأتي ببعض التصرفات كأن يظهر أنه مجنون مثلاً، ويجعل الصبيان يضربونه بالحجارة، أو يجلس على مزبلة، أو في مكان قذر بحيث يمتلئ بالقمل والقاذورات، يقول الغزالي: فمنهم من شرب شراباً حلالاً في قدح لونه لون الخمر، حتى يظن أنه يشرب الخمر فيسقط في أعين الناس! وأقول: هل هذه مفاهيم إسلامية؟ أن توقع نفسك في مواقع الشبهة ومواقع التهمة؟! ومما يحكى أن بعضهم عرف بالزهد وأقبل الناس عليه ووصفوه بالزهد، والرجل عابد ومجتهد في العبادة، فدخل حماماً عاماً ولبس ثياب غيره -سرق ملابس غيره- وخرج، فوقف في الطريق حتى عرفوه، من أجل أن يكتشفوا أن هناك ملابس سرقت فيبحثون عن الذي سرقها، فيجدون أنه هو الذي سرقها، فأخذوه وضربوه واستردوا منه الثياب، وفي هذه الحالة اطمأن أنه لم يعد متهماً بالصلاح، طالما أنه سيتهم بالفسق.
أيضاً يقول عن بعضهم: إنه كان يعالج قوة الغضب، ويتكلف صفة الحلم، فكان يعطي السفهاء أجرة ليزدروه بالشتم في المحافل فيتعود احتمالهم.
يعني أنه يريد أن يمرن نفسه على أن يشتم أو يهان من أجل أن يعالج صفة الغضب في نفسه! فيعطي بعض السفهاء أموالاً من أجل أن يشتموه في المحافل أمام الناس، ويصبر هو على ذلك الشتم تدريباً لنفسه، فصار بحيث يضرب به المثل في الحلم! وآخر عالج حب المال بأن باع كل ماله، ورمى بثمنه في البحر.
هذا يريد أن يعالج فتنة المال، فباع كل ما يملك من أموال وأخذ ثمنها وألقاه في البحر!! أليست هذه سفاهة؟! سبحان الله! وهذا مثل عباد الهند، يقول الغزالي: وعباد الهند يعالجون الكسل عن العبادة بالقيام طول ليلة على رجل واحدة لا ينتقل عنها.
وحكى عن الشبلي أنه عالج البخل بأن قام ورمى أمواله في دجلة، وقال: ما أعزك أحد إلا أذله الله عز وجل! وعقب الغزالي على فعل الشبلي بقوله: فكذلك الذي يريد علاج البخل ينبغي أن يفارق المال تكلفاً بأن يبذله، بل لو رماه في الماء كان أولى به من إمساكه إياه مع الحب له! كيف سيكون جوابه أمام الله سبحانه وتعالى إذا سأله عن ماله من أين اكتسبه وفي أي شيء أنفقه؟ لماذا لا يحرص على أن يطعم الفقراء والجياع بهذا المال، أو يعد للغزو والجهاد في سبيل الله؟ وسوف يعالج البخل، وفي نفس الوقت ينفع بهذا المال غيره.(80/28)
قول الغزالي إن من أولياء الله من تزوره الكعبة وتطوف به
أيضاً يقول الغزالي في الإحياء: إن من أولياء الله من تزوره الكعبة وتطوف به! أيها الإخوة! هذه الخرافات الصوفية هي فعلاً أفيون الشعوب، تجد الحكام الظلمة والطواغيت أعداء الإسلام لا يجدون مطية أحسن من الصوفية يركبونها للعبور على الإسلام والإجهاز عليه، حتى إن هناك كتاباً ألفه رجل أمريكي اسمه: (القناطر التي نعبر عليها حتى نجهز على الإسلام) وكل الكتاب يتكلم على أن الصوفية هي أعظم مطية نستطيع أن نركبها لنقضي على الإسلام.
فإذا كان الغزالي يقول: إن الكعبة تروح إلى بعض الناس وتطوف بهم، فلا نستبعد ما حكي عن رابعة أنها نذرت هي وآخر أن يحجوا إلى الكعبة، فالرجل نذر أن يذهب زاحفاً على بطنه، وهي نذرت أن تمشي خطوة وتركع ركعتين وهكذا حتى تصل، وكل واحد وفى بنذره، فوصل الرجل إلى الكعبة قبلها، فحينما وصل لم يلق الكعبة في الحرم، فقال: أين الكعبة؟ قالوا: ذهبت تستقبل رابعة! والله المستعان!(80/29)
قول الغزالي بأنه يجوز للصوفي تمزيق ثيابه عند السماع
يقول أيضاً: يجوز للصوفي تمزيق الثياب الجديدة.
وهذا عندما يسمع الإنشاد الصوفي ويحصل الانفعال والوجد، ونحو هذه الأشياء من الفناء، فيجوز له تمزيق الثياب الجديدة إذا قطعها قطعاً مربعة، يعني إذا أراد أن يقطع ثيابه فلا يقطعها قطعاً عشوائية، بل يقطعها على هيئة معينة فيجوز له ذلك.
وكيف تحصل هذه الهيئة؟ يقول: يجوز للصوفي تمزيق الثياب الجديدة إذا قطعها قطعاً مربعة مربعة تصلح لترقيع الثياب والسجادات، فإن الثوب يمزق حتى يخاط منه القميص ولا يكون تضييعاً.
يعلق الإمام ابن الجوزي على ذلك قائلاً: ولقد عجبت من هذا الرجل كيف سلبه حب مذهب التصوف عن أصول الفقه ومذهب الشافعي! وليس العجب من تلبيس إبليس على الجهال فيهم، بل الفقهاء الذين اختاروا بدع الصوفية على حكم أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد رضوان الله عليهم أجمعين.(80/30)
قول الغزالي بأن صلاة المنفرد أفضل من الجماعة إذا كان خشوعه يزيد بانفراده
أيضاً من ذلك: فتوى الغزالي بأن صلاة المنفرد أولى من صلاة الجماعة إن كان خشوعه يزيد بانفراده، وقد أنكر الإمام السبكي هذه الفتوى على الغزالي رغم أنه متعصب للغزالي، وقال: ولا تترك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أفتى البعض بأنها فرض -صلاة الجماعة- وجعلها آخرون شرطاً لصحة الصلاة لمثل هذه الخيالات.
أيضاً من هذه العجائب: أنه استحسن ابتداء قص الأظفار بالسبابة؛ لأن لها الفضل على بقية الأصابع، ولكونها المسبحة.(80/31)
قول الغزالي بأفضلية السماع على القرآن
أيضاً من عجائب ما قاله الغزالي: قوله بأفضلية السماع -سماع الغناء- على القرآن لقلب المبتدئ.
يقول: فإن سأل سائل: إن كان سماع القرآن مفيداً بالوجد فما بالهم يجتمعون على سماع الغناء من القوالين دون القارئين؟ قال الغزالي: فاعلم أن السماع أشد تهييجاً للوجد من القرآن من سبعة أوجه.
ثم ذكر الوجه الأول: أن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع، وأن القرآن محفوظ للأكثرين ومتكرر على الأسماع والقلوب.
وأطال في ذكر الأوجه إلى أن ختم بالوجه السابع فقال فيه: السابع: أن القرآن كلام الله وصفة من صفاته، وهو حق لا تطيقه البشرية؛ لأنه غير مخلوق، فلا تطيقه الصفات المخلوقة، والألحان الطيبة مناسبة للطباع، فنسبتها نسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق، فما دامت البشرية باقية، ونحن بصفاتنا وحظوظنا نتنعم بالنغمات الشجية والأصوات الطيبة، فانبساطنا لمشاهدة بقاء هذه الحظوظ إلى التصاعد أولى من انبساطنا إلى كلام الله تعالى الذي هو صفته وكلامه الذي منه بدأ وإليه يعود.
وهذا كلام عجيب! فهل مجرد وجود التلذذ بهذه الأنغام والتمتع يبيح الفعل؟! إذاً لماذا لا نستحل كثيراً من المحرمات التي فيها مثل هذا التلذذ؟! ثم يحكي الغزالي قصة رجل فيقول: وقد حكي عن أبي الحسن الدراج أنه قال: قصدت يوسف بن الحسين الرازي من بغداد للزيارة والسلام عليه، فلما دخلت الري كنت أسأل عنه، فكل من سألته عنه قال: أيش تعمل بذلك الزنديق؟ قال أبو الحسن: فلم أسأل عنه حتى دخلت عليه في مسجده، وهو قاعد في المحراب، وبين يديه رجل وبيده مصحف يقرأ، فإذا هو شيخ بهي حسن الوجه واللحية، فسلمت عليه، فأقبل علي وقال لي: أتحسن أن تقول شيئاً؟ فقلت: نعم، قال: هات، قال: فأنشأت أقول: رأيتك تبني دائماً في قطيعتي ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني كأني بكم والليت أفضل قولكم ألا ليتنا كنا إذ الليت لا يغني فأطبق المصحف ولم يزل يبكي حتى ابتلت لحيته، وابتل ثوبه، حتى رحمته من كثرة بكائه، ثم قال: يا بني! تلوم أهل الري يقولون: يوسف زنديق! هأنا من صلاة الغداة أقرأ المصحف لم تقطر من عيني قطرة، وقد قامت القيامة علي لهذين البيتين.
أي: أنك استغربت من الناس الذي كنت تسألهم في الطريق وكلما تسأل واحداً: أين فلان؟ فيقول لك: الزنديق ماذا تريد منه؟! يقول: كيف تستغرب من ذلك وأنا جالس أقرأ القرآن من صلاة الفجر إلى هذا الوقت وعيني لم تقطر منها قطرة، وقد قامت علي القيامة بسماع هذين البيتين من الشعر! ويعلق الغزالي على هذه القصة بقوله: فإذاً القلوب وإن كانت محترقة في حب الله تعالى، فإن البيت الغريب يهيج منها ما لا تهيج تلاوة القرآن! ويستدل الغزالي على إباحة السماع الصوفي بقوله تعالى: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1] فيقول: إنه الصوت الحسن.(80/32)
تجويز الغزالي للرقص عند التواجد بالسماع
الصوفية ليس لهم سلاح غير المنامات والخيالات والأوهام، كما يقول بعض السلف: أعوذ بالله من فكر الفلسفي وخيال الصوفي، فالفلسفة فكر منحرف، والصوفية خيال وأوهام وأساطير وخرافات، يروي الغزالي عن الدنوري قوله: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت له: يا رسول الله! هل تنكر من هذا السماع شيئاً؟ فقال: لا أنكر منه شيئاً، ولكن قل لهم يفتتحون قبله بالقرآن ويختتمون بعده بالقرآن.
لا حول ولا قوة إلا بالله! مثل التلفزيون فعلاً.
أيضاً: يقول الغزالي في ذكر آداب السماع: الأدب الخامس في السماع: موافقة القوم.
يعني تتأدب مع الناس الذين تسمع معهم الإنشاد الصوفي، فإذا جاء واحد منهم وأصابته المواجيد وانفعل وقام يرقص، فقم واشترك معه في الرقص؛ لأن هذا من حسن العشرة وحقوق الأخوة.
يقول: موافقة القوم في القيام إذا قام واحد منهم في وجد صادق من غير رياء وتكلف، كذلك إن جرت عادة طائفة بتنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد إذا سقطت عمامته.
يعني إذا سقطت عمامة أحدهم لأجل الوجد فعليك أن توافقه أيضاً وتنحي عمامتك.
يقول: كذلك إن جرت عادة طائفة بتنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد إذا سقطت عمامته، أو خلع الثياب إذا سقط عنه الثوب بالتمزيق، فالموافقة في هذه الأمور من حسن الصحبة والمعاشرة.
وهذا مذكور في الإحياء (2/ 304 - 305).
يقول: ومن الأدب أن لا يقوم للرقص مع القوم إن كان يستثقل رقصه، ولا يشوش عليهم أحوالهم، إذ الرقص من غير إظهار التواجد مباح.
أقول: لقد ذكر ربنا سبحانه وتعالى أن الرقص والطبل والتصفيق هذه من أفعال المشركين: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35] قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق.
فالتصفيق عند الصوفية من جملة الآداب التي يؤدونها في خلواتهم.
فأي دين هذا؟! يقول بعض الشعراء: أقال الله حين عشقتموه كلوا أكل البهائم وارقصوا لي؟! ما قال الله سبحانه وتعالى ذلك وما أحل الله عز وجل ذلك.(80/33)
الجنة ونعيمها وأهلها عند الغزالي
أخيراً: نختم برأي الغزالي رحمه الله وعفا عنه في الجنة وأهلها.
فيرى الغزالي أن للعارفين مقاماً يجاوز مقام الجنة، أي أن العارفين لهم مقام أعلى من مجرد الدخول إلى الجنة، وهو مقام مجالسة الرحمن الدائمة.
هذا المقام لا يناله عموم الناس وهم عوامهم، وإنما هو لخواص الناس من العارفين.
وكل هذا الانحراف سره اعتماده على أثر ضعيف من الآثار السيئة والأحاديث الضعيفة، حديث ضعيف يقول: (أكثر أهل الجنة البله، وعليون لذوي الألباب)، كان الناس إذا رأوا رجلاً معتوهاً فيقولون: هذا ولي من أولياء الله، وبمجرد أن يموت يبنون على قبره قبة، ويقولون للناس: إن هذا من أولياء الله، وأنتم لا تعرفون ذلك، هؤلاء لهم أسرار وكذا وكذا، ويفترون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (أكثر أهل الجنة البله، وعليون لذوي الألباب)، ومن هنا يستطيع الإنسان أن يتصور إلى أي مدى تعتبر الصوفية خطراً على الإسلام ومفاهيم الإسلام.
يقول الغزالي: فمن كان حبه في الدنيا رجاء نعيم الجنة والحور العين، مكن من الجنة يتبوأ منها حيث يشاء، فيلعب مع الولدان ويتمتع بالنساء، فهناك تنتهي لذته في الآخرة، فالأبرار يرتعون في البساتين وينعمون في الجنان مع الحور العين والولدان، والمقربون ملازمون للحضرة عاكفون بطرفهم عليها، يستحقرون نعيم الجنان بالإضافة إلى ذرة منها، فقوم بقضاء شهوة البطن والفرج مشغولون وللمجالسة قوم آخرون، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثر أهل الجنة البله).
والحديث -كما سبق- ضعيف.
أرونا إثبات رؤية الله في الآخرة؟ أين مرتبة إثبات رؤية الله في الآخرة لأهل الجنة؟ التي يدافع عنها الغزالي ويرد على المعتزلة في تفسير قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، فأهل الجنة يرون ربهم؛ لأن الإنسان بدن وروح، فنعيم البدن نعيم حسي، ونعيم الروح هو أعظم هذا النعيم، وهو الذي يأخذ كل لذات الجنة وهو رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة، فليس هناك تعارض أن يتم النعيم لهم من كل الوجوه، وأن يكون أرقى وأعظم هذه المقاصد هو رؤية الرب سبحانه وتعالى في الآخرة؛ فهو يقول: إن تناولهم لشهوات البطون والفروج يلهيهم عن إبصار جمال الله وجلاله الذي هو خاص بالمقربين فهذه الآية لها هذا الكلام، وهو يعلم عقيدة أهل السنة في إثبات رؤية الله في الآخرة، خاصة وأنه أطال في الرد على المعتزلة في إنكارهم الرؤية.
يقول الغزالي: وأما العارف إذا انفتح له ثمانية أبواب من أبواب جنة المعارف، يعني أن هناك جنتين: جنة البله وجنة المعارف، وجنة المعارف لها ثمانية أبواب غير أبواب الجنة الثمانية.
فيقول: وأما العارف إذا انفتح له ثمانية أبواب من أبواب جنة المعارف، واعتكف فيها، لم يلتفت أصلاً إلى جنة البله، وإياك أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير فتكون من جملة البله.
إذاً: البله هم الذين يريدون النجاة الفوز بالجنة والنجاة من النار.
يقول: ولا تظن أن روح العارف من الانشراح في رياض المعرفة وبساتينها، أقل من روح من يدخل الجنة التي يعرفها ويقضي فيها شهوة البطن والفرج، وأنى يتساويان! بل لا ينكر أن يكون في العارفين من رغبته في فتح أبواب المعارف لينظر في ملكوت السماء والأرض أكثر من رغبته في المنكوح والمأكول والملبوس.
وخلاصة الكلام يقول: فإن كنت ترى مشاركة البهائم لذاتها، أحق بالطلب من مساهمة الملائكة في فرحهم وسرورهم بمطالعة جمال حضرة الربوبية، فما أشد غيك وجهلك وغباوتك.
يقول: اعلم أن هذه الشهوة خلقت في العارفين ولم تخلق لك، كما خلقت لك شهوة الجاه ولم تخلق للصبيان، وإنما للصبيان شهوة اللعب.
فأقول: أين هذا الكلام من سلوك الأنبياء؟ لماذا لا ننضبط بضوابط الكتاب والسنة؟ أليس إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن وأبو الأنبياء يدعو الله سبحانه وتعالى ويقول: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء:85]؟ والأنبياء كلهم كانوا يطلبون الجنة، فالصوفية اخترعوا مفاهيم أجنبية عن الإسلام، يحكون عن رابعة العدوية أنها مشت وفي يدها اليمين ماء وفي يدها الشمال نار، فقالوا: أين تذهبين يا رابعة؟ قالت: أنا ذاهبة إلى الجنة والنار، سوف أطفئ النار بهذا الماء، وأحرق الجنة بهذه النيران، حتى أفني الجنة والنار، حتى لا يعبده الناس خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، ولكن حباً فيه! فهذه المفاهيم أجنبية، مفاهيم دخيلة على دين الإسلام، وليست من الإسلام في شيء، فهم يقتبسون تارة من النصارى والرهبان، وتارة من اليهود، وتارة من البراهمة والهنادسة والوثنيين، فهذه الأشياء كلها من الفلاسفة، ومن المتكلمين، ومن الباطنية الملاحدة وهكذا، فدين الصوفية دين أجنبي عن دين الإسلام! الرسول عليه السلام رغبنا في أن ندعو الله عز وجل: (اللهم آت محمداً الوسيلة والفضيلة) إلى آخر الحديث، والوسيلة ذكر عليه الصلاة والسلام أن الوسيلة منزلة في الجنة، ورغب أمته في أن يدعوا الله سبحانه وتعالى أن يكون هو صاحب هذه المنزلة صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً: هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام أفضل البشر، أحوجهم لله وأحبهم لله، ومع ذلك كان يسأل الله الجنة، وقد ورد في الحديث: أن مريم وفاطمة رضي الله عنهما من سيدات نساء العالمين، و: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وورد أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير وسعد بن مالك وعبد الرحمن بن عوف مشهود لهم بالجنة، وبشر الله أهل بدر بالجنة، وكذلك وعد بالجنة الذين بايعوا تحت الشجرة، وأي الوعدين أعظم: وعد الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الأفاضل الكرام بالجنة، أم وعد الغزالي نفسه والصوفية بجنة المعرفة التي يعظمونها بجانب جنة الخلد التي وعد المتقون؟ أي قيمة تحصل لهذا الوعد الإلهي إذا كانت هذه الجنة مخصوصة بالبله الذين ليس لهم هَمٌّ إلا الأكل والتمتع، وأنهم يشابهون الأنعام كما يرمز الغزالي إلى ذلك؟ فمتاع الجنة عند الغزالي بهذه النظرة الصوفية مثل متاع الدنيا ينبغي أن يزهد فيه.
يقول بعض السلف: يا معشر الشباب! أكثروا من ذكر الحور العين حتى تتشوقوا إلى الجنة! فالشريعة تأمر بالحرص على متاع الجنة سواء في ذلك المتاع الحسي والمتاع الروحي، وهؤلاء الصوفية يوافقون الشريعة في الزهد في الدنيا، لكنهم يخالفونها في أنهم يطالبوننا بالزهد في فضل الله سبحانه وتعالى ورحمته في الجنة.
فهذه مناقضة للشريعة، وهذا فهم دخيل وأجنبي عما بعث الله عز وجل به رسله.
يقول الغزالي حاكياً عن ممشاد الدينوري قال: منذ ثلاثين سنة تعرض علي الجنة بملكها فما أعرتها طرفي! يعني: احتقاراً للجنة وزهداً فيها.
ويقول أيضاً: روي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: إلهي إنك تعلم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة في جنب ما أكرمتني من محبتك وآنستني من ذكرك.
وهكذا يأتون بعد تلك العبارة بكلام حسن من أجل أن تتقبلها وتشرب السم في العسل، وهذا كما يحكون عن رابعة العدوية أنهم قالوا لها: يا رابعة! هل تحبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله إني لأحبه غير أن حبي لله لم يبق في قلبي مكاناً لحب مخلوق سواه! وهل تتعارض محبة رسول الله مع محبة الله؟ وهذا الكلام لا يصح عنها رحمها الله، لكن هذا الكلام معتمد عند الصوفية ويبنون عليه دينهم.
وقيل أيضاً لـ رابعة العدوية: ألا تسألين الله الجنة؟ فقالت: الجار ثم الدار.
تقصد مجاورة الله أولاً ثم بعد ذلك تسأله الجنة.
وروي عن بعضهم قوله: من عبد الله لعوض فهو لئيم! سبحان الله! أي معارضة للقرآن والسنة مثل هذه التي تعرض في ثوب الزهد والتصوف؟! وكل هذه الأشياء موجودة في كتب الغزالي.(80/34)
انحراف الصوفية في العبادة والمحبة
أيضاً: انحرف الصوفية بمزيد من الشطحات والانحرافات، حيث صرفهم الشيطان عن طلب أعظم ما وعد الله سبحانه وتعالى به عباده بدعوى المحبة والإخلاص في التعبد، فيقولون: نعبد ربنا حباً فيه فقط، لكن لا نعبده خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته! فاختلت عندهم الموازين، وظنوا أن الرجاء والخوف من الله سبحانه وتعالى يخل بالعبودية الصحيحة.
يقول أبو يزيد البسطامي: ما النار؟ لا أفهمها، لأستندن عليها غداً وأقول: اجعلني فداء لأهلها وإلا بلعتها! أستغفر الله أستغفر الله! ويقول: ما الجنة؟ لعبة صبيان ومراد أهل الدنيا.
ولا يكتفي بتحقير ما عظمه الله سبحانه وتعالى؛ بل لما سأله أحدهم أن يحدثه بشيء من كراماته قال له: أدخلني الله في الفلك الأسفل، فدورني في الملكوت السفلي وأراني الأرضين وما تحتها إلى الثرى، ثم أدخلني في الفلك العلوي فصوت لي في السماوات وأراني ما فيها من الجنان إلى العرش، ثم أوقفني بين يديه فقال: سلني أي شيء رأيته حتى أهبه لك، فقلت: يا سيدي ما رأيت شيئاً فأسألك إياه! كل هذا لم يعجبه شيء منه والله المستعان، وهذه كلها موجودة عند الغزالي تحت فصل: حكايات المحبين، أي: الذين لا يعبدون الله خوفاً من النار ولا طمعاً في الجنة؛ لكن حباً فيه.
وهذا التصرف من الصوفية جعل من بعدهم يبنون على هذه المفاهيم الاستخفاف والاستهانة بالنار وبعذابها، حتى إنهم قالوا: إن عذاب النار مشتق من العذوبة، فيقول ابن عربي في حق أهل النار: وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم على لذة فيها نعيم مباين نعيم جنان الخلد فالأمر واحد وبينهما عند التجلي تباين يسمى عذاباً من عذوبة لفظه وذاك له كالقشر والقشر صاين وهذا الملحد ابن عربي يفسر قوله سبحانه وتعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24]، فيقول: (عذاب) هنا مشتقة من العذوبة والريح من الراحة، {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24] يقول: إن الريح هاهنا إشارة إلى ما فيها من الراحة، فإن بهذه الريح أراحهم الله من هذه الهياكل المظلمة.
وهذه درجة أحط من درجة احتقار الجنة والنار، فالصوفية الأوائل بنوا المذهب على أن تعبد الله حباً فيه -وهذه زندقة- لا خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته؛ فأتى ابن عربي فيما بعد وأسس المذهب الأحط من هذا، وهو أن عذاب النار في ذاته نعيم وراحة وعذوبة.
يقول: وفي هذه الريح عذاب، أي: أمر يستعذبونه إذا ذاقوه، ويسألون الله أن يذيقهم هذه العذوبة، ولما قرأ البعض كلام ابن عربي قال: الله يذيقكم هذه العذوبة، يقصد هؤلاء الصوفية.
وقد قال الحلاج قبل ابن عربي: أريدك لا أريدك للثواب ولكني أريدك للعقاب فاستجاب الله له فمات مصلوباً، {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127].
ولا شك أن هذه التصرفات إنما نشأت بسبب أنهم لا يعبدون الله طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره، لكن يزعمون المحبة، وكما قال بعض السلف الصالح -وهذا محكي عن مكحول الدمشقي -: من عبد الله بالخوف فهو حروري -أي مثل الخوارج- ومن عبده بالرجاء فهو مرجئي أو مرجئ، ومن عبده بالمحبة فهو زنديق، ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو مؤمن موحد.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من هؤلاء الموحدين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.(80/35)
حجية السنة ومنزلتها من القرآن
لقد أنزل الله عز وجل على نبيه القرآن، وجعله معجزاً في البلاغة والفصاحة والحجة والبرهان، وأنزل على نبيه وحياً مرادفاً لوحي القرآن، وهو السنة المطهرة التي خرجت من لسان من لا ينطق عن الهوى، فجاءت السنة مبيِّنة لمجمله، ومفصِّلة لمحكمه، ومقيِّدة لمطلقه، ومخصصِّة لعمومه، وناسخة لبعض أحكامه، وبعضها جاء بإثبات حكم مستقل، وهناك توجد دعوات ضالة تدعو إلى ترك السنة وعدم الاحتجاج بها، وقد رد عليها العلماء، وبينوا ضلالها.(81/1)
وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد انتهينا في تفسير سورة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، وقال الله عز وجل أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
وقوله: (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) فيه إشارة إلى أن طاعة أولي الأمر مقيدة بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وليست طاعة مستقلة، وفي ذلك أيضاً إثبات لحجية السنة النبوية كمصدر مهم من مصادر التشريع.
فهذه الآية تصلح عنواناً لمبحث مهم نحتاجه بين الفينة والفينة، وهو إثبات حجية سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأنزل عليه كتابه الهدى والنور لمن اتبعه، وجعل رسوله الدال على ما أراد من ظاهره وباطنه، وخاصه وعامه، وناسخه ومنسوخه، وما قصد له الكتاب، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعبر عن كتاب الله الدال على معانيه، شاهده في ذلك أصحابه الذين ارتضاهم الله لنبيه، واصطفاهم له، ونقلوا ذلك عنه، فكانوا هم أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما أراد الله من كتابه بمشاهدتهم، وما قصد له الكتاب، فكانوا هم المعبرين عن ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
انتهى كلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
وقال جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما في أثناء حكايته لحجة الوداع: فنظرت إلى مد بصري من بين يديه من راكب وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به.(81/2)
الأدلة القرآنية على حجية السنة النبوية
حجية السنة النبوية ضرورة دينية، ولاشك أن هذا أمر كان ومن في قلبه ذرة من إيمان في غنى عن بيان أدلته؛ لكن لا بأس أن نبين هذه الأدلة، لقطع شبه الملاحدة, ودابر الزنادقة الذين يريدون الكيد بالإسلام، والعبث بعقول الدعاة من المسلمين وراء ستار البحث عن الحقيقة، أو الحرية الفكرية المزعومة التي تجاوزت حدها وطغت في هذا العصر.(81/3)
عصمة النبي صلى الله عليه وسلم
فمن أول أدلة حجية السنة: عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد انعقد الإجماع على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء معصومون عن أي شيء يخل بالتبليغ، ككتمان الرسالة، والكذب في دعواها، والجهل بأي حكم نزل عليهم أو الشك فيه، والتقصير في تبليغه.
وهم كذلك معصومون من أن يتصور الشيطان لهم في صورة الملك، ومعصومون من أن يلبس عليهم في الرسالة، ومعصومون من أن يتسلط على خواطرهم بالوساوس، ومعصومون من تعمد الكذب في أي خبر أخبروا به عن الله تبارك وتعالى، وتعمد بيان أي حكم شرعي على خلاف ما أنزل الله عليهم، سواء كان ذلك البيان بالقول أم بالفعل، والمعجزات التي أظهرها الله سبحانه وتعالى على أيدي الأنبياء عليهم السلام تقوم مقام قوله تعالى: صدق رسلي في كل ما يبلغونه عني؛ لأن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخاطب كل واحد من بني آدم خطاباً مباشراً، ويقول له: إن محمداً عليه الصلاة والسلام رسولي، فاتبعه وآمن بما جاء به.
لكن هذا -مع عدم إمكان وقوعه في الدنيا لأحد- فإنه يقتضي أن يصبح الإيمان عن طريق الإجبار والإكراه، لكن الله سبحانه وتعالى بعث رسله وأيدهم بالمعجزات، وهذه المعجزات تقوم مقام قول الله سبحانه وتعالى للبشر: صدق رسولي فيما يبلغه عني، فآمنوا به واتبعوه.
فالله سبحانه وتعالى أيدهم بالمعجزات التي لا يمكن أن تكون لأحد من البشر ولا تجري إلا على يد من أيده الله سبحانه وتعالى بها وخرق العادة على يده.
فإذا جاز على الأنبياء أي شيء مما يخل بالتبليغ، إذاً لأدى ذلك إلى إبطال دلالة المعجزات على النبوة، وهذا مخالف، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، وقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44 - 47].
ثم بعد هذا شهد الله له عليه الصلاة والسلام بالبلاغ والصدق، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] إلى آخر الآيات.
وقال تبارك وتعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:1 - 3].
فهو معصوم من أن ينطق بالهوى على الإطلاق، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، فلذلك إذا استعملت قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] فهذا أبلغ من أن يقال: (وما ينطق بالهوى)؛ لأن استعمال حرف (عن) فيه تنبيه على مصدر كلامه صلى الله عليه وآله وسلم.
أما في آخر حياته عليه الصلاة والسلام فقد أوحى الله إليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت شيئاً مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولم أترك شيئاً مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه).
وأيضاً: الرسل معصومون من السهو والغلط في هذا التبليغ على الصحيح، والذين جوزوا مثل ذلك أجمعوا على حصول التنبيه فوراً من الله سبحانه وتعالى، وعدم التقرير عليه، هذا كله يستلزم أن أي خبر أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، وأقره الله عليه، صادق قطعاً ومطابق لما عند الله سبحانه وتعالى من الحكم فيجب التمسك به بالإجماع.
فبهذا تثبت حجية قول النبي عليه الصلاة والسلام في القرآن إن هذا كلام الله؛ لأنه معصوم كما ذكرنا، وتثبت أيضاً حجية قول النبي عليه الصلاة والسلام في الأحاديث القدسية، قال الله أو قال رب العزة كذا وكذا لأنه معصوم من السهو والخطأ في التبليغ، ومن أن يوسوس له الشيطان أو أن يلبس عليه، ومن أن يكذب على الله، ومن أن يقصر في التبليغ، فهو معصوم من كل هذه الأشياء لسبب، وهو: أن أقواله وأفعاله حجة صلى الله عليه وآله وسلم.
وبهذه العصمة تثبت حجية قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)، لأنه خبر معصوم فيكون حجة دالة على أن الوحي قسمان: كتاب، وغير كتاب، الكتاب: هو المعجز المتعبد بتلاوته وهو القرآن الكريم، وغير الكتاب ما ليس كذلك، وهو قسمان: الحديث القدسي، والحديث النبوي.
فإذا كان كل ذلك من عند الله كان الكل حجة قائمة على الخلق إلى يوم الدين.
وبعصمته صلى الله عليه وسلم عن الكذب في التبليغ تثبت حجية قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، وقوله مثلاً: (بني الإسلام على خمس)، وقوله: (ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله)، وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني منا سككم)، وقوله: (فعليكم بسنتي)، وبهذا تثبت حجية جميع أنواع السنة من قول أو فعل أو تقرير، قال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنتي).
فهذا الخبر صادر عن معصوم من الكذب، ومن الخطأ في التبليغ، فهذا يدل على أنه لا يمكن أن يكون الضلال في التمسك بالسنة، وإنما الضلال في تركها، والعمل بما يخالفها، فلا يمكن أن يأمن الإنسان من الضلال إلا إذا أخذ بالقرآن والسنة معاً.
أما الضالون المبتدعون ممن يسمون أنفسهم بالقرآنيين، فهؤلاء غير معصومين من الضلال؛ لأن الأمان من الضلال معلق على أمرين، لا على أمر واحد، وهما: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً كتاب الله وسنتي).(81/4)
تقرير الله للصحابة على استمساكهم بالسنة
أما الدليل الثاني فهو: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم تمسكوا بالسنة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو عصر الوحي، وقد أقرهم الله عز وجل على ذلك.
فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يحث أمته على التمسك بسنته، ويحذرهم من مخالفتها، وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يمتثلون أمره في ذلك، ويقتدون به، ويتبعونه في جميع أقواله وأفعاله، وتقريراته، ويعتبرون أن كل ما يصدر منه فهو حجة يلزمهم اتباعها.
وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم أفضل من كل من أتى بعدهم من العلماء والأئمة والمجتهدين، وكانوا أقدر على الاجتهاد واستنباط الأحكام من الكتاب، ومع ذلك فكانوا لا يستقلون بالفهم منه فيما ينزل بهم من الحوادث، بل كانوا يرجعون إليه صلى الله عليه وسلم في كل ما يطرأ من أحوال.
حتى إنهم إذا اجتهدوا في حال غيابه عنهم صلى الله عليه وآله وسلم سألوه عند حضوره، فإن أقرهم وإلا رجعوا عن اجتهادهم.
فحث النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على اتباع السنة، وتحذيرهم من مخالفتها، ثم اتباع الصحابة للسنة، وتمسكهم بها، واحتجاجهم بها دليل على حجيتها، وهذا السلوك في حد ذاته قد أقرهم الله عليه، ولم يبين أنهم أخطئوا فيه، مع أن الزمان كان زمان وحي، ولو كانوا مخطئين في ذلك لما أقرهم الله سبحانه وتعالى عليه؛ لأن تقرير الله عز وجل في زمان الوحي حجة بمثابة الوحي المنزل نفسه، وهذا كله مضاف إلى أنه تبارك وتعالى كان يأمرهم باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته، ويحذرهم من عصيانه ومخالفته.
إذاً: الدليل الأول: العصمة، الدليل الثاني: تقرير الله عز وجل للصحابة رضي الله تعالى عنهم في استمساكهم بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(81/5)
آيات القرآن الدالة على وجوب اتباع النبي والرضا بحكمه
الدليل الثالث: القرآن الكريم نفسه: فقد شحن القرآن العظيم بمئات الآيات والكلمات التي تدل مجتمعة دلالة قاطعة على حجية سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه الآيات يمكن أن نقسمها إلى مجموعات متوائمة ومتوافقة، المجموعة الأولى: آيات تدل على وجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم واتباعه، والرضا بحكمه، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور:62].
يقول ابن القيم: فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهباً إذا كانوا معه إلا باستئذانه، فأولى أن يكون من لوازمه ألا يذهبوا إلى قول ولا إلى مذهب علمي إلا بعد استئذانه، وإذنه يعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه صلى الله عليه وسلم.
وقال تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، فالمؤمن لا خيار له في أمر الله عز وجل وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] لأنه لا يمكن أن ينقاد في الظاهر وقلبه غير مطمئن، فالإيمان لا يثبت إلا باجتماع هذه الأمور كلها.
وعن عروة قال: خاصم الزبير رجلاً من الأنصار في شراج الحرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فقال الأنصاري: يا رسول الله! أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجهه عليه الصلاة والسلام، ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر) واستوعب النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في الماء حين أحفظه الأنصاري، وكان قد أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
وهذا الحديث أخرجه الجماعة.
إذا تأملنا وجه الدلالة في هذا الحديث فالكلام هنا متعلق بهذه الحادثة التي هي سبب النزول، فهذا الحكم الذي حكم به النبي صلى الله عليه وسلم لا يوجد في آية من القرآن؛ ولكن أتت الآية في القرآن الكريم لتقر هذا الحكم، وتنفي الإيمان عمن لم يمتثل ويرضى به ظاهراً وباطناً.
ولهذا قال الشافعي: وهذا القضاء سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا حكم منسوخ في القرآن، وليس حتماً في القرآن، ومع ذلك القرآن أتى يحرض على الانقياد له، ودل على أن السنة حجة.
وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} [النساء:60 - 61]، يعني: إلى سنته، {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61].
إذاً: هذه جملة من الآيات تدل على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والرضا بحكمه.(81/6)
الآيات الدالة على أن السنة تبين القرآن وتشرحه
المجموعة الثانية: آيات تدل على أن السنة تبين الكتاب وتشرحه شرحاً معتبراً عند الله، مطابقاً لما حكم الله به على العباد، كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44].
هنا تنزيلان: ((َأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ)) المبين وهو السنة ((لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)) من القرآن؛ لأن السنة تبين القرآن.
والسنة منزلة كما أن القرآن منزل بنص هذه الآية: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44].
وقال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
والحكمة إذا أتت في سياق الامتنان على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهي سنته بإجماع السلف، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى كما في هذه الآية.
وتدل الآية على أن الأمان من الضلال يكون باتباع القرآن (الكتاب)، واتباع الحكمة التي هي السنة.
وقال تبارك وتعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة:231] فكلاهما منزل.
وقال تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113]، فالواو هنا تقتضي المغايرة، فالكتاب غير الحكمة.
وقال تبارك وتعالى مخاطباً أمهات المؤمنين: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، فعطف الله الحكمة على الكتاب، والعطف بالواو يقتضي المغايرة.
والحكمة لا يصح أن تكون شيئاً آخر غير السنة؛ لأن الله تعالى امتن علينا بتعليمها، والمن لا يكون إلا بما هو صواب، وحق مطابق لما عنده، فتكون الحكمة واجبة الاتباع كالكتاب، خصوصاً وأن الله قد قرنها به، وهو لم يوجب علينا كسائر كتبه إلا اتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا المعنى أفاده الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في الرسالة.(81/7)
الآيات التي توجب طاعة الرسول مطلقاً
هناك جملة ثالثة من الآيات الكريمات تدل على وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة، وتبين أن طاعة رسول الله هي طاعة الله عز وجل.
كما قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:132]، وقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال:20]، وقال عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33].
قال ميمون بن مهران: الرد إلى الله في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59] هو الرجوع إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرجوع إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم.
من الآيات التي تدل بمجموعها على طاعة النبي صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة:92]، إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة، ولم يعده في أولي الأمر إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته.
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64] وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80] وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115].(81/8)
الآيات الدالة على وجوب اتباع النبي مطلقاً والتأسي به
المجموعة الرابعة: آيات تدل على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً، والتأسي به كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
وقد كلفه الله سبحانه وتعالى باتباع ما أوحي إليه، سواء كان وحياً متلواً وهو القرآن أو غيره مكتوباً، وهو السنة، وأمره بتبليغ جميع ما أنزل إليه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب:1 - 2].
وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] إلى آخر الآية ثم مدح هديه فقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، وقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المؤمنون:73] وقال: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79] وقال: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43].
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46].(81/9)
الأحاديث الدالة على حجية السنة
الدليل الرابع على حجية السنة: السنة الشريفة نفسها.
فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئاً إلا ما في القرآن، ألا وإني والله قد أمرت، ووعظت، ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر، وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم) رواه أبو داود.
وهذا رد على المكذبين بالسنة والطاعنين فيها، وقد وصفوا بالاتكاء الذي يدل على الاسترخاء والتواني، وعدم الكد والكدح والسهر في طلب العلم، فيكون أحدهم متكئاً على أريكته ويهاجم السنة وهو شبعان، بخلاف المجاهدين من المحدثين والعلماء الذين جابوا الأقطار، وسافروا إلى الأمصار، وضحوا بكل شيء في سبيل خدمة سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله) متفق عليه.
وعنه أيضاً رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) رواه البخاري.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك) رواه ابن حبان في صحيحه.
والشرة الهمة والنشاط.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض) رواه الحاكم وصححه.
ولما تردد عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في كتابة الأحاديث ليحفظها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق، وأشار بيده إلى فمه)، فلا يخرج من فم النبي عليه السلام كلام إلا وهو حق.
أيضاً حديث العرباض بن سارية: (فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور) إلى آخر الحديث.
من ذلك أيضاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر باتباع حديثه وحفظه وتبليغه إلى من لم يسمعه من الموجودين في عصرنا، بل وعد من يقوم على ذلك بالأجر العظيم، ولا شك أن هذا يستلزم حجية هذا الكلام، لأنه يدل على اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بما يقوله من السنن والأحكام، وحثه على حفظها وتبليغها، فما قيمة ذلك إذا لم تكن السنة حجة؟! وقال عليه الصلاة والسلام: (إن كذباً علي ليس ككذب على أحد؛ فمن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار).
وقال عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه).
هذا الحديث واضح الدلالة على حجية السنة، فهو يدعو بنضارة الوجه لمن يحفظ الحديث، ويحافظ على لفظه، ثم ينقله إلى من بعده، فيبلغه وينشره للناس، ثم علل ذلك بقوله: (فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه)، واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم لفظة: (فقه)؛ لأن الفقه هو الفهم الدقيق الذي يعين على استنباط الأحكام من اللفظ، فلولا أن السنة دليل شرعي، وحجة شرعية لما اشترط فيمن يحمله أن يكون فقيهاً؛ لأن بعض الناس يحمل الفقه وليس بفقيه، فإذا أدى اللفظ بدقة، وبلغه إلى من هو أفقه منه مكن هذا الأفقه من أن يستنبط منه الحكم الشرعي الذي ينسب إلى الله، وإلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع)، وروى البخاري في حديث وفد عبد القيس لما نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن أربع، وأمرهم بأربع، ثم قال لهم: (احفظوه وأخبروا من وراءكم)، لأن هذه مسائل فرعية، كي يعلموها الناس.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه أمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه، وإلا فلا).(81/10)
تعذر العمل بالقرآن وحده
أما الدليل الخامس فهو: تعذر العمل بالقرآن الكريم وحده، وتعذر إقامة الشريعة، وإقامة الفضائل، وسائر أمور الدين بدون الرجوع إلى سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43].
ونحن اليوم نتكلم في هذا الموضوع، وقد صدرت تصريحات ممن يتطاول وهو جاهل ولا يعرف قدر نفسه، حيث تكلم في عمر رضي الله تعالى عنه، وهو لا يعلم أن مما بايع عليه الصحابة: (وألا ننازع الأمر أهله)، وليس هذا خاصاً في الخروج على الخلفاء فقط، بل يدخل فيه احترام التخصصات؛ فهذا الجاهل يجلس أمام مجموعة من الشيوخ، ويطعن في السنة، ولا يقوى واحد منهم فقط على أن يعترض، بل أقروه ليتكلم كما يشاء فيما يتعلق بالدين وهو عدو نفسه وعدو الله؛ فالله المستعان على ما نرى من فتن آخر الزمان، ونطق الرويبضة! وقد كان له أن يتكلم في أي شيء من أمور الدنيا، لكن تكلم في أمر الدين، وأنكر سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو يعتبر نفسه شيخاً من مشايخ الإسلام، وأنه يمثل الإسلام، فيظن أنه إذا كتب مقالاً ينكر فيه السنة فلن يكون هناك شيء اسمه السنة، ولا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بشره الله سبحانه وتعالى بقطع كل من يؤذيه كما في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1 - 3].
والأبتر هو مقطوع الذكر، وهو الذي يقطع من الخير كله بسبب بغضه وشنآنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لسنته.
كل رويبضة تافه، يوغل في الجهل وفي الصد عن سبيل الله، ومع ذلك يظن نفسه حجة، فيتجرأ ويأتي أمام المشايخ الأزهريين ويقول لهم: نحن ليس عندنا شيء اسمه سنة، فلا نعترف بسنة، نحن نعترف بالقرآن وحده! فنقول لمثل هذا: قال الله سبحانه وتعالى مثلاً: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43].
وهذا نفهم منه وجوب الصلاة والزكاة، ولكن ما هي تلك الصلاة الواجبة؟ ما وقتها؟ ما عددها؟ وعلى من تجب؟ وكم مرة تجب في العمر؟ وما هي هذه الزكاة؟ وعلى من تجب؟ وفي أي مال تجب؟ وما مقدارها؟ وما شروط إخراجها؟ وقال الله تبارك وتعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20].
والذي نأخذه من الآية وجوب قراءة ما تيسر من القرآن الكريم، لكن ما المراد من هذه القراءة؟ هل هي في الصلاة؟ أم هي قراءة القرآن عموماً؟ وإذا كانت في الصلاة ففي أي ركعة؟ وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77].
ففهمنا من الآية وجوب الركوع والسجود، لكن كم عدد الركعات في اليوم؟ وجاء في السنة أكثر من ركوع في صلاة الخسوف.
وقال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34].
ففهمنا من ذلك تحريم الكنز وعدم الإنفاق، لكن ما المراد بهذا الإنفاق المقابل للكنز؟ هل هو إنفاق جميع المال كما فهم الصحابة لما نزلت هذه الآية، أم إنه إنفاق بعض المال؟ وهذا البعض من الذي يحدده؟ وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
فما المراد بالظلم: هل هو جميع أنواع الظلم كما فهم الصحابة أم أنه نوع خاص منه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا شك أنه خاص وهو الشرك قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
وقال تعالى أيضاً: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38].
نفهم من الآية وجوب قطع يد كل منهما، لكن هل كل سرقة توجب القطع؟ وما هي شروط قطع اليد؟ وما هو نصاب المال الذي توجب سرقته قطع اليد؟ وكيف يتم القطع؟ وهل تقطع اليد من الكتف أم من العضد أم من الكوع؟ هذا كله محتمل من حيث اللغة.
وإذا تكررت السرقة فهل يتكرر القطع؟ كل هذا لم يبينه إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك لما أرسل علي بن أبي طالب ابن عباس إلى الخوارج قال له: اذهب إليهم فخاصمهم -يعني: ناظرهم- ولا تحاجهم بالقرآن، فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة.
قال الشاعر: ورب فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزل بعض النصوص القرآنية الكريمة عامة، وهي مفتقرة إلى التبليغ الذي بينها به الرسول صلى الله عليه وسلم أو العلماء.(81/11)
أقوال السلف في حجية السنة والإنكار على من يعارضها(81/12)
التحذير من وضع الأحاديث دليل على حجيتها
كذلك غلظ الله سبحانه وتعالى عقوبة من يتعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما ذاك إلا لأن الكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام سوف يستلزم تبديل الأحكام الشرعية، واعتقاد الحرام حلالاً، والحلال حراماً.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من يقل علي ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار)، وهذا الحديث متواتر، وفي بعض الروايات: (إن كذباً علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
وقال عليه الصلاة والسلام: (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين)، وهذا رواه مسلم، وروي أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً: (يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم! لا يضلونكم ولا يفتنونكم).
إن لم يكن الحديث والسنة حجة فلماذا هذا التحذير الأكيد من الأحاديث المكذوبة، ولم يحصل بها الضلال والفتنة؟
و
الجواب
لأنها إضافة إلى الشرع؛ ولأن الأحاديث الصحيحة حجة، فهذه إذا اعتقد أنها صحيحة ففيها تعرض للشرع بالزيادة أو بالنقصان.
وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه (أنهم كانوا يتذاكرون الحديث، فقال رجل: دعونا من هذا، وجيئونا بكتاب الله فقال له عمران: إنك أحمق، أتجد في كتاب الله الصلاة مفسرة؟ أتجد في كتاب الله الصيام مفسراً؟ إن القرآن أحكم ذلك، والسنة تفسره).(81/13)
علي بن أبي طالب يحض على المحاجة بالسنة
ولما أرسل علي بن أبي طالب ابن عباس ليناظر الخوارج وقال له: لا تخاصمهم بالقرآن، فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة.
فقال له: يا أمير المؤمنين! فأنا أعلم بكتاب الله منهم، في بيوتنا نزل، قال له علي: صدقت، ولكن القرآن حمال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً، فخرج إليهم فحاجهم بالسنة، فلم يبق بأيديهم حجة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: يا أيها الناس! عليكم بالعلم قبل أن يرفع، فإن من رفعه قبض أصحابه، وإياكم والبدع والتنطع! وعليكم بالعتيق، فإنه سيكون في آخر هذه الأمة أقوام، يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله، وقد تركوه وراء ظهورهم.
وعن رجاء بن حيوة عن رجل قال: كنا جلوساً عند معاوية رضي الله عنه قال: إن أغرى الضلالة لرجل يقرأ القرآن فلا يفقه فيه، فيعلمه الصبي والعبد، والمرأة والأمة، فيجادلون به أهل العلم.(81/14)
كلام ابن عمر في حجية السنة
وأخرج مالك عن ابن شهاب عن رجل من آل خالد بن أسيد أنه سأل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال: يا أبا عبد الرحمن! إنا نجد صلاة الخوف، وصلاة الحضر في القرآن، ولا نجد صلاة السفر، فقال له ابن عمر رضي الله عنهما: يا ابن أخي! إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً، وإنما نفعل كما رأيناه يفعل.(81/15)
كلام مطرف في حجية السنة
وعن أيوب السختياني أن رجلاً قال لـ مطرف بن عبد الله بن الشخير: لا تحدثونا إلا بما في القرآن، فقال له مطرف: إنا والله ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكنا نريد من هو أعلم بالقرآن منا، وهو النبي صلى الله عليه وسلم.(81/16)
كلام أيوب في حجية السنة والإنكار على من يخالفها
وعن أيوب أيضاً قال: إذا حدثت الرجل بسنة، فقال: دعنا من هذا وأنبئنا عن القرآن، فاعلم أنه ضال.
يعني: إذا حدثت رجلاً بالسنة فقال: لا تكلمني إلا بالقرآن دون السنة والشيطان يمنيه أنه على الصراط المستقيم، فتلك علامة على أنه ضال؛ لأن العصمة من الضلال لا تأتي إلا بالتمسك بالقرآن والسنة.
يقول صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي)، ولم يقل كتاب الله فقط، مع أن كتاب الله نفسه حجة.(81/17)
كلام ابن مسعود في حجية السنة
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن امرأة جاءت إليه فقالت: أنت الذي تقول: لعن الله النامصات، والمتنمصات والواشمات إلخ؟ قال: نعم.
قالت: وتنسب هذا إلى القرآن؟ قال: نعم، قالت: فإني قرأت كتاب الله من أوله إلى آخره فلم أجد ما تقول فقال لها: إن كنت قرأت لقد وجدتيه، أما قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]؟ قالت: بلى، قال: فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله النامصات إلخ) متفق عليه.
وعن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرماً عليه ثياب، فنهاه، فقال هذا الرجل: ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي، فقرأ عليه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].(81/18)
كلام عمران بن حصين في حجية السنة
وجاء من طريق خليل بن أبي فضالة المكي أن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه ذكر الشفاعة فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد! إنكم تحدثونا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن، فغضب عمران وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعاً، ووجدت المغرب ثلاثاً، والغداة ركعتين، والظهر أربعاً، والعصر أربعاً؟ قال: لا، قال: فعن من أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه وأخذناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أوجدتم فيه في كل أربعين شاة شاة، وفي كل كذا بعير كذا؟ وفي كل كذا درهماً كذا؟ قال: لا.
قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه وأخذناه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقال في القرآن: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] أوجدتم فيه الطواف سبعاً؟ واركعوا ركعتين خلف المقام؟ أوجدتم في القرآن: (لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام؟) أما سمعتم الله قال في كتابه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]؟ قال عمران: فقد أخذنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء ليس لكم بها علم.(81/19)
كلام سعيد بن جبير في حجية السنة
وعن سعيد بن جبير أنه حدث يوماً بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رجل: في كتاب الله ما يخالف هذا، فقال: لا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرض فيه بكتاب الله! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله منك.
يعني: أن القدر المشترك بين كل من يعترض على السنة أو يدعي اتباع القرآن فقط، هو الإغراق في الجهالة.
فلو قام كل واحد منا وجرد نفسه وعقله، وحاول أن ينسى كل ما علمه من السنة، ونسي أي شيء متعلق بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأيضاً نسي ما علم من الدين بالضرورة عن طريق السنة، ونسي كل ما استنبطه الفقهاء باجتهاداتهم وبالأقيسة التي استعانوا عليها بالسنة، ثم نظر هل يستطيع أن يجيب عن شيء من هذه الأشياء التي ذكرنا كالصلاة، وشروطها، وأركانها، وكذلك الصيام والحج وغيرها؛ فإنه لن يجد جواباً.
فإذا لم نستطع أن نقيم الصلاة، ولا الزكاة، ولا الصيام، ولا الحج، ولا أي شيء من أمور الدين إلا عن طريق السنة، فهل يمكن أن يكلفنا الله بتكاليف أخفاها عنا، وأعمانا عن مراده منها؟ وهل يمكن أن يكلفنا الله أن نصل إلى رضاه بعقولنا؟ العقول لا تستطيع أن تهتدي إلى ما يرضي الله سبحانه وتعالى في كل هذه الأشياء، بل لابد أن تأتي عن طريق الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.(81/20)
كلام ابن حزم في الرد على من ينكر السنة
هذا كله يدلنا على أن الله سبحانه وتعالى لم يكلفنا بهذه التكاليف التي أجملها في كتابه، وهو يعلم حق العلم سبحانه وتعالى أن عقولنا تقصر عن إدراك مراده، فما كلفنا لذلك إلا وقد نصب لها شارحاً مبيناً، ومفسراً موضحاً، ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنزال وحيه وتأييده له.
في هؤلاء يقول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: في أي قرآن وجد أن الظهر أربع ركعات، وأن المغرب ثلاث ركعات، وأن الركوع على صفة كذا، والسجود على صفة كذا، وصفة القراءة فيها والسلام، وبيان ما يجتنب في الصوم، وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة، والغنم والإبل والبقر، ومقدار الأعداد المأخوذة منها في الزكاة، ومقدار الزكاة المأخوذة، وبيان أعمال الحج من الوقوف بعرفة، وصفة الصلاة بها، وفي مزدلفة، ورمي الجمار، وصفة الإحرام، وما يجتنب فيه، وقطع يد السارق؟ وصفة الرضاع المحرم، وما يحرم من المآكل، وصفة الذبائح والضحايا، وأحكام الحدود، وصفة وقوع الطلاق، وأحكام البيوع، وبيان الربا والأقضية والتداعي والأيمان، والأحباس، والعمرة، والصدقات، وسائر أنواع الفقه.
وإنما في القرآن جمل لو تركنا وإياها لم ندر كيف نعمل بها، وإنما المرجوع إليه في كل ذلك النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الإجماع، إنما هو على مسائل يسيرة، فلابد من الرجوع إلى الحديث ضرورة.
وقال ابن حزم رحمه الله تعالى أيضاً: ولو أن امرأ قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافراً بإجماع الأمة، ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر؛ لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حد للأكثر في ذلك، وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال.
هذا كلام ابن حزم رحمه الله تعالى.(81/21)
كلام عمر بن الخطاب في العمل بالسنة
وقال عمر رضي الله عنه: إياكم وأصحاب الرأي! فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، فاستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم! وقال أيضاً رضي الله عنه: سيأتي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل.(81/22)
من أدلة حجية السنة ما ثبت في القرآن من أن السنة وحي كالقرآن
ومن أدلة حجية السنة ما ورد في آيات قرآنية تثبت أن السنة وحي كالقرآن الكريم.
منها: قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ولم يقل وما ينطق بالهوى؛ لأن نطقه عن الهوى أبلغ.
فإنه يتضمن أن نطقه لا يصدر عن هوى، وإذا لم يصدر عن هوى فكيف ينطق به؟ فتضمن نفي الأمرين: نفي الهوى عن مصدر النطق، ونفيه عن نفسه، فنطقه بالحق، ومصدره الهدى والرشاد لا الغي والضلال، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:151]، وقال تعالى في دعاء إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129].
وقال تعالى -وتأملوا كلمة: (وَأَنزَلَ) يعني: أنزل وحيه-: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113]، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة:231]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2].
وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 18]، يعني: أنت تقرأ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] وكلمة: (بَيَانَهُ) هذه تعم كل أنواع البيان، أن يظهره بلسانه عليه الصلاة والسلام فيقرؤه كما أقرأه جبريل، وكذلك قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] ضمان وتأمين لتبيين الأحكام المجملة في القرآن الكريم، فما في القرآن من أحكام الله سبحانه وتعالى تكفل ببيانها، وما يتعلق بها من الحلال والحرام، والتفصيل والإجمال، والقييد والإطلاق وما إلى ذلك.
فهذا بلا شك يدل على حجية السنة؛ لأن الذي بين هو الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] فالله سبحانه وتعالى أوحى المبَين والمبِين كلاهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال صلى الله عليه وسلم: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50].
وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى أيضاً في تفسير هذه الآية التي ذكرناها في سورة النجم قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] قال في موضع آخر قال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل.
أي: ما نطقه {إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، وهذا أحسن من قول من جعل الضمير عائداً إلى القرآن، فإنه يعم نطقه بالقرآن والسنة، وأن كليهما وحي يوحى، وقد احتج الشافعي لذلك بقوله تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113]، فالعطف يقتضي المغايرة، فالحكمة لما عطفت على الكتاب كان كلاهما منزل من عند الله.
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] وقال تعالى آمراً لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50]، يعني: في كل تصرفاته هو اتباع للوحي، سواءً كان في ذلك لهذا الحكم الذي في القرآن أم في السنة.
فهو في كل سلوكه متبع للوحي، يعني: إذا صلى سنة الظهر كذا وكذا وفعل كذا قال في ركوعه وسجوده ولبس كذا وأكل كذا وقال كذا فهذا كله داخل في الوحي؛ لأن الله أمره أن يعلم الناس قال تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50]، يعني: ما يصدر عني أي شيء إلا بوحي، فهذا بلا شك دليل على أن السنة بأنواعها وحي من الله تبارك وتعالى.
وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] لفظ (الذِّكْرَ) يشمل كل ما أنزله الله الذكر المتلو الذي هو القرآن، والذكر غير المتلو الذي هو السنة النبوية بأنواعها.
السنة وحي، لكنه وحي في المعاني، والألفاظ من عند النبي عليه الصلاة والسلام، أما القرآن فلفظه ومعناه من عند الله تبارك وتعالى، ولذلك لما اشتكى رجل للإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة، فرد عليه الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى فقال: تعيش لها الجهابذة، قال الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
فاستدل بالآية على أن الذكر يشمل سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وممكن بعض الناس القاصرين يقول: كيف أتبع السنة، والسنة فيها أشياء كثيرة غير ثابتة مما ينسب إليها كالأحاديث الضعيفة والموضوعة وغيرها، وتختلط على الناس؟ ف
الجواب
أنها لا تختلط إلا على الجاهل الذي ليس هذا فهمه، وليس هذا تخصصه، لكن هل تختلط على العلماء الراسخين؟ لا تختلط عليهم، إنما تختلط على من هو قاصر في العلم.
وقال تبارك وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فالذكر الذي هو يبين هو السنة، يقول ابن حزم: فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل، لا شك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة، في أن كل وحي نزل من عند الله فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكلما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع منه، وألا يحرف منه شيء أبداً تحريفاً لا يأتي البيان ببطلانه، انتهى كلام ابن حزم.
وقال ابن القيم في تفسير الآيات التي قرن فيها الكتاب بالحكمة قال: والكتاب والقرآن والحكمة هي سنة باتفاق السلف، وما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، فهو في وجوب تطبيقه والإيمان به كما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام، ولا ينكره إلا من ليس منهم.
وإذا كانت حجة الله على عباده لا تقوم إلا بحفظ رسالته وشرعه، فإن هذا الحفظ لا يتم إلا بحفظ القرآن، والسنة التي تبينه وتشرحه للناس، فنجد من ذلك لزوماً حتمياً أن يحفظ الله سبحانه وتعالى السنة؛ لأن هذه الأدلة تدل على أن السنة وحي منزل كالقرآن.
يقول الله تبارك وتعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:142 - 143] إلى آخر الآيات الكريمة أين الشاهد في هذه الآيات على أن السنة وحي؟ قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} [البقرة:143] فإذا تأملنا الآية، يقول تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] القبلة التي كان عليها هي: استقبال بيت المقدس، هل توجد آية في القرآن الكريم تجعل بيت المقدس قبلة للمسلمين كما كان الأمر في السابق؟ جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه بدأ الصلاة في استقبال بيت المقدس، فصلى مدة إلى بيت المقدس قبل نزول هذه الآيات، والله عز وجل هنا يقول في القرآن: {وَمَا جَعَلْنَا} [البقرة:143] يعني: ما كان تشريعنا القبلة إلى بيت المقدس من قبل إلا لحكمة وهي: {لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143].
هل ورد أن بيت المقدس قبلة عن طريق القرآن أم أنه ورد عن طريق السنة؟ عن طريق السنة؛ لأننا لا نجد آية في القرآن تأمرنا باستقبال بيت المقدس، وفي لفظ هذه الآية يدل على أن هذا التشريع كان بفعل الله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ} [البقرة:143] (مَا) هي الفاعل تعود إلى الله سبحانه وتعالى.
فهذه الآيات نزلت عن(81/23)
الأدلة من السنة على حجية السنة(81/24)
حديث: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)
من أدلة السنة الشريفة على أن السنة وحي حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من الحلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من الحرام فحرموه، وإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه، فله أن يعقبهم بمثل قراه).
فهذا واضح الدلالة على أن السنة وحي، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته يظن أن الله لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن، ألا وإني قد أمرت ووعظت، ونهيت عن أشياء إنها مثل القرآن أو أكثر).
وعن طلحة بن نضيلة قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (سعر لنا يا رسول الله! قال: لا يسألني الله عن سنة أحدثها فيكم لم يأمرني بها، ولكن اسألوا الله تعالى من فضله).
فهذا يدل على أن ما سنه لهم لم يكن من قبل نفسه، وإنما هو وحي من الله، وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنناً، وبين أحكاماً ليست في القرآن، فدل هذا الحديث على أنها بوحي الله وأمره.(81/25)
حديث: (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله)
من هذه الأحاديث أيضاً حديث أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا: (إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله).
يعني: بحكم الله (وقال الرجل الآخر وهو أفقه منه: نعم، فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل: قال: إن ابني هذا كان عسيفاً عند هذا)، (عسيفاً)، يعني: أجيرا (فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة)، يعني: بذل له من المال فداء لولده.
قال: (فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام)، هل في القرآن تغريب عام؟ ليس في القرآن تغريب عام، إذاً: هذا دليل على أن حكم رسول الله وحي، ومع ذلك أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بينهم بكتاب الله قال: (فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: الغنم والوليدة رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت)، متفق عليه.
هذا واضح جداً في أن السنة وحي؛ لأنه حلف أن يحكم بينهما بكتاب الله، وقد حكم بأشياء ليست في القرآن الكريم.(81/26)
حديث يعلى بن أمية في الرجل الذي تلطخ بالطيب وهو محرم
عن يعلى بن أمية قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل عليه جبة بها أثر من خلوق فقال: يا رسول الله! إني أحرمت بعمرة فكيف أفعل؟ فسكت عنه فلم يرجع إليه، وكان عمر يستره إذا أنزل عليه الوحي يظله، فقلت لـ عمر رضي الله عنه: إني أحب إذا أنزل عليه الوحي أن أدخل رأسي معه في الثوب، فلما نزل عليه خمره عمر رضي الله عنه بالثوب، فجئته فأدخلت رأسي معه في الثوب فنظرت إليه فلما سري عنه قال: أين السائل آنفاً عن العمرة؟ فقام إليه الرجل فقال: انزع عنك جبتك واغسل أثر الخلوق الذي بك، وافعل في عمرتك ما كنت فاعلاً في حجك) رواه مسلم.
فقوله: (أين السائل آنفاً عن العمرة؟) يدل على أنه وحي، حيث إنه أوحي إليه قبل ذلك.(81/27)
حديث عائشة في موافقة الوحي لعمر في الحجاب
تذكر عائشة أن عمر رضي الله تعالى عنه ظل يحدث النبي عليه الصلاة والسلام في أمر الحجاب، وكان يتمنى أن يأمر نساءه أن يحتجبن احتجاباً كاملاً، يغطي جميع البدن، فوافقه الوحي، ونزلت آية الحجاب، فطمع عمر في أكثر من ذلك، طمع أن تستتر نساء رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى لو كن مغطيات، فظن أن الوحي سيوافقه هذه المرة.
تقول عائشة رضي الله عنها: (خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة -يعني: عظيمة الجسم- تفرع النساء جسماً) يعني: أنها إذا وقفت مع النساء تكون أطول منهن، (فرآها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه خارجة فقال: يا سودة! أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين)، هو لم ير وجهها، لكن من هيئتها يظهر أنها سودة، فربما كان يأمل أن الحجاب يوافقه في حجبها تماماً (قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وإنه ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت فقالت: يا رسول الله! إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا، قالت عائشة: فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن)، قال هشام -يعني: البراز- متفق عليه.
هذا دليل صريح جداً على حجية السنة.(81/28)
حديث عبد الله بن مسعود: (ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به، ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه، لا يستبطئن أحد منكم رزقه، إن جبريل عليه السلام ألقى في روعي: إن أحداً منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه، فاتقوا الله أيها الناس وأجملوا في الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه، فلا يطلبه بمعصية، فإن الله لا ينال فضله بمعصيته).
فهذا الحديث رواه الحاكم وسكت عنه هو والذهبي، وأخرجه من حديث جابر، وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي وقوله هنا: (إن جبريل ألقى في روعي).
هذا نوع آخر من الوحي الذي هو الإلهام.(81/29)
حديث أبي هريرة (غفار غفر الله لها)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غفار الله غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، أما إني لم أقله، ولكن الله قاله).
أين قاله الله وليس في القرآن آية تدل على ذلك؟ وفي حديث آخر: (من الله تعالى لا من رسوله: لعن الله قاطع السدر)، يعني: قاطع شجرة السدر.
وبين أنه ليس من عنده، وإنما هو من عند الله.
وعن حسان بن عطية رحمه الله تعالى قال: كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما كان يعلمه القرآن.(81/30)
حديث: (أمني جبريل عند البيت مرتين)
وفي حديث: (أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس، والعصر حين كان ظله مثله، والمغرب حين أفطر الصائم، والعشاء حين غاب الشفق) إلى آخر الحديث، وفي النهاية قال: (الوقت ما بين هذين الوقتين).
فهذا وحي بالفعل عن طريق جبريل.(81/31)
حديث: (إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض)
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض، قيل: ما بركات الأرض؟ قال: زهرة الدنيا، فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت حتى ظننت أنه سينزل عليه، ثم جعل يمسح عن جبينه)، يعني: العرق الذي يتصبب إذا نزل عليه الوحي.
وفي رواية لـ مسلم: (فأفاق يمسح عنه الرحض قال: أين السائل؟ قال: هأنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الخير لا يأتي إلا بالخير)، متفق عليه.(81/32)
أقسام السنة بالنسبة للقرآن(81/33)
أن تكون السنة موافقة للقرآن
السنة وعلاقتها بالقرآن تكون على ثلاثة أقسام: القسم الأول: سنة موافقة ومؤكدة لما في القرآن الكريم، كقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله).
هذا يوافق قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256].
كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً)، هذا يوافق قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
كذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: (بعثت إلى الناس كافة)، يوافق قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28].
وقوله عليه الصلاة والسلام: (يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة)، يوافق قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما البيع عن تراض) وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه)، يوافق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، إذاً: هذه الأحاديث لا شك أنها تتوارد مع القرآن على نفس الدلالات.(81/34)
أن تكون السنة مفصلة لمجمل أو مخصصة لعامٍ أو مقيدة لمطلق
القسم الثاني: سنة تفصل مجمل القرآن، وسنة تخصص عموم القرآن، وسنة تقيد مطلق القرآن، وسنة توضح مشكل القرآن.
السنة المفصلة لمجمل القرآن مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، بينه في قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] مجمل فصله قوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم).
السنة المخصصة لعموم القرآن، مثل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة:6] إلى آخر الآية فظاهرها أنه كلما قمتم إلى الصلاة فلابد أن تفعلوا هذا، لكن جاء في السنة ما يخصص هذا العموم كالمسح للمريض، والتيمم، ومواقيت المسح للمسافر والمقيم، هذه كلها أتت بها السنة.
كذلك قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] هذا النفي عام، فخصص عموم هذا النفي بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)، والحديث معروف، فدل على أن الإنسان المؤمن لا ينقطع عمله.
كذلك قول الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] هذا عام خصه قوله عليه الصلاة والسلام: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث)، وخصه قوله: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم)، وخصه قوله: (لا ميراث لقاتل).
كذلك مطلق القرآن تقيده السنة كما في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، فإنه مطلق، فقيده قوله صلى الله عليه وسلم: (الطواف بالبيت صلاة) فالطواف يشترط فيه الطهارة.
وقوله تبارك وتعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11]، هذا مطلق، قيده قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث).
إجمال القرآن مثل الظلم في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] بينت السنة أن الظلم يقصد به الشرك للآية: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
كذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] لما سألته عائشة: (أهم الذين يشربون الخمر ويزنون؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون، ويصلون، ويتصدقون، وهم يخافون ألا يتقبل منهم).(81/35)
أن تكون السنة مستقلة بحكم لم يأت به القرآن
القسم الثالث: أن تكون السنة مستقلة بإثبات حكم لم يأت به القرآن.
وهذا هو الغصة في حلوق أعداء السنة؛ لأنهم على درجات، منهم من ينكر السنة مطلقاً، ومنهم من ينكر السنة على استحياء، لكن حتى يسد عليك الباب يقول: نأخذ من السنة العملية المتواترة.
وقد رأيت بنفسي من منكري السنة أنهم غارقون في الجهل بطريقة غير عادية! فمنهم شخص من الإسكندرية، وله كتب مؤلمة وموجعة، منها كتاب: الدين الصواب للمحاورة بين السؤال والجواب، وكتاب آخر أسماه: الأضواء القرآنية لاكتساح الأحاديث الإسرائيلية، وتطهير البخاري منها.
إلى غير ذلك.
وهذا موجود في كلام محمد عبده، فإنه يرى أن السنة العملية المتواترة يعمل بها.
فبعضهم ينكر كل السنة كما ذكرنا، ومنهم من ينكر الأحاديث المتواترة العملية، فمن أين نعرف الصلاة؟ ومن أين نعرف الزكاة؟ ومن أين نعرف كذا؟ ومنهم من يقبل السنة التي تشرح القرآن، لكن لا يقبل السنة التي تستقل بإثبات حكم غير موجود في القرآن، ولذلك كان هذا القسم من أخطر أقسام السنة في علاقتها بالقرآن، وهو أن تأتي السنة بحكم غير موجود في القرآن على الإطلاق.
فعن عائشة رضي الله عنها أن امرأة سألتها قالت: (أتقضي الحائض الصلاة؟ فقالت لها عائشة: أحرورية أنت؟ قد كنا نحيض عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم نطهر، ولم يأمرنا بقضاء الصلاة).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها)، فهذا النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها غير موجود في القرآن.
وعن المغيرة: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على العاقلة)، هذا غير موجود في القرآن.
وحديث: (كل ذي ناب من السباع فأكله حرام)، هذا في مسلم، وهو غير موجود في القرآن.
كذلك جاء القرآن بجلد الزاني غير المحصن، وزاد في السنة تغريبه، وأوجبت السنة الكفارة على من جامع في نهار رمضان.
كذلك جاء في السنة المسح على الخفين، وليس في القرآن.
كذلك القرآن ينص على أن العين بالعين، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، فقد حل لهم أن يفقئوا عينه).
كذلك حديث ابن عمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر إلى قوله: وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) متفق عليه.
يقول ابن القيم: بل أحكام السنة التي ليست في القرآن إن لم تكن أكثر منها لم تنقص عنها، فلو كان لنا رد كل سنة زائدة على نص القرآن لبطلت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها، إلا سنة دل عليها القرآن، وهذا الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع، ولابد من وقوع خبره.
وكما قال الشافعي: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.(81/36)
انحرافات في العمل بالسنة
وهناك بعض العوائق تعيق العمل بالسنة كعدم الاحتجاج بأحاديث الآحاد في العقيدة، أو تقديم القياس على أحاديث الآحاد الصحيحة، أو تقديم عمل أهل المدينة على حديث الآحاد الصحيح، أو التعبد بالتقييد واتخاذه ديناً، أو تحكيم العقل وتقديمه على النقل، أو الاقتصار على الصحيحين، وهناك أيضاً مظهر من مظاهر الانحراف في هذه القضية، وهو ما حصل من بعض الشيوخ الأفاضل، وهو الشيخ عبد العزيز بن راتب النجدي رحمه الله تعالى، وله فضل كبير جداً على علماء أنصار السنة، فهو أستاذهم وشيخهم، وهو من الذين رحلوا إلى مصر خصيصاً من أجل نشر دعوة التوحيد والاتباع، لكن كان في هذه الجزئية بالذات له كتاب: تيسير الوحيين بالاقتصار على القرآن مع الصحيحين، وانتصر لهذه المسألة، والكلام فيه نظر شديد، لأن فيه قصر العمل على ما في الصحيحين من السنة، وهذا الكلام غير صحيح.
كذلك من هذه البدع والضلالات: بدعة التصحيح على الصحيحين، يأتي شخص فقير في طلب العلم فيقول في آخر هذا الزمان العجيب: رواه البخاري وهو صحيح، وكأن هذه الأجيال من الأمة تنتظره حتى يأتي ليصحح على البخاري، ونحن لا نقول: البخاري معصوم، ولكن نقول: الأمة معصومة من أن تجتمع على ضلالة، فالأمة أجمعت على تلقي أحاديث الصحيحين بالقبول، فهذه هي الحجة في هذه المسألة، وتوجد بعض أحاديث انتقدت، والعلماء الذين انتقدوها كـ الدارقطني وغيره ما أرادوا للبخاري ولـ مسلم إلا الكمال، لكن الآن فتح باب النقد في البخاري وفي مسلم لأجل الطعن في السنة كلها، فشتان بين النيات والمقاصد، فيمكن أن يقبل قول بعض المحققين مثلاً، لكن شرطه أن يتقن علم الحديث ثم يحقق، لكن أن يأتي شخص ويقول: رواه البخاري وهو صحيح، فهذا من التطاول الذي لا ينبغي أن يفتح بابه.
فنحن نثق ثقة مطلقة فيما اتفقت عليه كلمة علماء الأمة، وأن ما رواه الشيخان أو رواه أحدهما قد تجاوز القنطرة، فلا يسأل عنه ولا يبحث عن سنده ولا عن رجاله، فإما أن يقول: صحيح متفق عليه أو يقول: رواه الشيخان فحسب.
أما أن يقول: رواه الشيخان وهو صحيح، فهذا من العدوان، فالعدوان ناشئ عن سدور صاحبه وغفلته عن أهل العلم، وإعراضه عن إجماع الأمة، وكأن نفسه تتوق إلى أن تكون فوق البخاري ومسلم وأن يحكم على البخاري ومسلم وأمثالهما.(81/37)
موقف الخوارج من السنة
كذلك ممن يهملون العمل ببعض السنن: الخوارج، فإنهم يكفرون بعض الصحابة، وبالتالي يردون أحاديث جمهور الصحابة بعد الفتنة؛ لرضاهم بالتحكيم، واتباعهم أئمة الجور بزعمهم.
لكن الخوارج لهم خصيصة، وهي أنهم لم ينغمسوا في رذيلة الكذب كما انغمس الشيعة، فإن أكذب خلق الله، وأكذب الفرق الإسلامية الشيعة، بل الكذب عندهم عبادة، لأنهم يتعبدون بالكذب الذي يسمونه التقية، فالشيعة من أخبث الفرق الضالة وأشدهم كذباً.(81/38)
موقف الشيعة من السنة
والشيعة أيضاً يجمعون على عدم الاحتجاج بالسنة إلا إذا صحت لهم عن طريق أهل البيت في أسانيدهم المزعومة.
فيقول أحد أئمتهم بعد ذكر مرويات بعض الصحابة وخاصة روايات أبي هريرة: ما يرويه الصحابة ليس له عند الإمامية من الاعتبار مقدار بعوضة.
وحدثني أحد المشايخ عن والده رحمه الله تعالى أنه ناظر بعض الشيعة، فوصل في المناقشة معه إلى أن أخرج له كتب تراجم معتمدة عند الشيعة، فترجم لبعض الصحابة وقال مثلاً: سعد بن أبي وقاص مجهول، أبو هريرة كذاب.
والعياذ بالله! فنحن نختلف مع الشيعة في الأصول لا في الفروع كما يتوهم بعض الناس، ولهم شيخ يدعى حسين بن عبد الصمد العاملي يقول: فصحاح العامة كلها وجميع ما يروونه غير صحيح.
ويقصد بالعامة أهل السنة.
أما تطاول زعيمهم وإمامهم الهالك الخميني عليه من الله ما يستحقه فقد أوصله إلى تكفير أبي بكر وعمر ورميهما بالزندقة، وهو يكفر عامة الصحابة ويتطاول على مقاماتهم الشريفة، فهذا شيء مشهور ومعروف، ولم يكن يحتج أيضاً في كتبه إلا بمرويات الشيعة.
فالشيعة مع هدمهم للأصل الثاني من الإسلام وهو السنة إلا أنهم أيضاً غرقوا في الرواية عن أئمة الكذب والوضع كما فعل الكليني.
أما موقفنا نحن فلا نقبل على الإطلاق مرويات الشيعة؛ لأنهم أكذب الفرق على الإطلاق.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(81/39)
فضائل يوم عرفة
خص الله عز وجل يوم عرفة بفضائل عديدة، ومزايا حميدة، منها أنه يوم الحج الأكبر الذي يباهي الله فيه ملائكته بعباده، ويعتق الله عز وجل فيه جماً غفيراً من النيران، وقد بين الشيخ فضائل هذا اليوم وما يكون فيه، وتجد في هذه المادة قصيدة العلامة الصنعاني في الحج.(82/1)
قصيدة ابن الأمير في وصف رحلته إلى الحج
الحمد لله الذي أمر خليله أن {أذن في الناس بالحج إلى البيت العتيق يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} [الحج:27]، والصلاة والسلام على من أنزل عليه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، وعلى آله وصحبه وذرية خليله الذين أسكنهم بواد غير ذي زرع فطابوا مقيلاً، ولم تزل أفئدة الناس تهوي إليهم وتطير بأجنحة الشوق بكرة وأصيلاً.
أما بعد: فإن ذكريات رحلة الحج وزيارة المدينة النبوية المباركة من أشرف معالم العمر، وأعز وقائع الدهر؛ لأنها تنذر ذا القلب الساكن، فترحل به إلى أشرف البقاع وأطهر الأماكن، وتحلق به في آفاق السمو الروحي الذي يضع عن نفس المسلم آصار التراب وأثقال الرغام، وأغلال الحطام، فتسمو به بعيداً وراء حدود الزمان، لتسترجع ذكريات شروق شمس الإسلام في تلك الأرض المباركة، وتستعيد فصول جهاد الرعيل الأول وصبرهم الشديد الذي قهر اليأس، وإيمانهم العميق الذي أذل الكفر، وهجرتهم إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالقلوب والأبدان، حين أخرجوا من البلد الحرام إلى حرم المصطفى عليه الصلاة والسلام، حيث أسست الدولة الإسلامية الأولى على تقوى من الله ورضوان.
ومن قلب هذا الحرم الأطهر بدأت كتائب الإسلام زحفها لاستئصال الجاهلية، ومن قلب طيبة الطيبة بدأت الانطلاقة الأولى لمشعل الإسلام إلى خارج حدود الجزيرة تبدد الظلام، وتوقظ النيام، وتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
ما أعظم الدروس التي يتلقاها المؤمنون في رحلتهم إلى مهبط الوحي! فيتعلمون منها كيف يربطون وجودهم بأهداب الرسالة التي ألفت في ربع قرن من الأميين الضائعين في صحراء المجهول خير أمة أخرجت للناس، ثم قذفت بهم إلى الدنيا كما تقذف الشمس بأشعتها حياة للأرض الميتة، وضياء للأعين الزائغة، ودفئاً للأكباد المقروحة، لتعود بجهادهم إلى الحياة بهجتها، وتشرق الأرض بعد ظلمة بنور ربها، وتحلق الذكريات بنفس المؤمن بعيداً وراء حدود المكان، تطوف بها في أرجاء تلك المشاعر المقدسة، والربوع الطاهرة، وكيف لا تنجذب الأفئدة إليها بخطاطيف الأشواق، وترحل نحوها قلوب أهل النواحي والآفاق، وفيها بيت الله الحرام الذي جعله مثابة يثوب إليه أهل الإسلام من أقطار الأرض على تعاقب الأعوام، فلا تشبع من زيارته القلوب، ولا ترتحل الأنفس إلا وهي بذكره طروب: لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقا ومن الناس من بلغهم الله بيته الحرام فذاقوا وارتزقوا، وعرفوا واغترفوا، فمهما يترددون إليه لا يبغون عنه حولا، ولا يرون أنهم قضوا منه وطراً، إذا ذكروا بيت الله حنوا، وإذا تذكروا بعدهم عنه أنوا، ثم لا يزالون يجأرون إلى مولاهم بقلوب محترقة، ودموع مستبقة، أن يعيدهم إليه مرة، بعد مرة وكرة بعد كرة، ومنهم من فاته منه الدنو فهو يضمه بقلبه في كل حين وآن، ويولي إليه وجهه حيثما كان، قد حرم الوصول إلى البيت، وقلبه موصول برب البيت، عاقته المعاذير، ولم تساعده المقادير، فإذا أذن مؤذن الحج حي على الرحيل تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون، فأقاموا مأتماً لها، وأراقوا دموع الأسف، ما أصنع هكذا جرى المقدور الجبر لغيري وأنا المكسور أسير ذنبٍ مقيد مأسور، هل يمكن أن يبدل المذكور؟! ثم أما بعد: فهذه الليلة المباركة هي ليلة عرفات التي يجتمع فيها عيد الجمعة وعيد الحج وموقف الحج الأعظم، نستثمر هذه الفرصة بتلاوة قصيدة عصماء رائعة البيان، خطها بقلمه السيال، وسحره الحلال، الإمام العلامة أبو إبراهيم محمد بن إسماعيل بن صلاح الصنعاني رحمه الله تعالى، حيث سطر فيها ذكريات رحلته إلى حج البيت الحرام، وزيارة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعبر تجربته الشعورية الصادقة أنشأ هذه الأبيات التي تبوح بالشجون، وتكشف الوجد المكنون، وتستنفر الدمع الهتون، وتستمد مدادها من شعلة الأشواق التي اتقدت في أحشائه، واضطرمت في ضلوعه وبين جوانحه، ثم فاضت منها المآقي كالسواقي: عجباً لنار ضرمت في أحشائه فتفيض من أجفانه ينبوعا لهب يكون إذا تلبس بالحشى قيظاً ويظهر في الجفون ربيعا فنشرع بإذن الله تعالى في قراءة هذه القصيدة، والمفترض أن نشرح غريب القصيدة، ولكن في الحقيقة لو توقفنا عند كل كلمة لنشرحها فستذهب حلاوة القصيدة، ومتابعة ما عليها، فنعتذر عن ذكر ألفاظ الغريب، وإن كان المعنى في الجملة واضح تستطيعون إن شاء الله تعالى متابعته، وليتسنى ذكر الحج وبركاته.
يقول رحمه الله تعالى بادئاً بما كان اعتاد عليه أهل الجاهلية من الوقوف على الأطلال في أول الكلام ثم يدخل في الموضوع: أيا عذبات البان من أيمن الحمى رعى الله عيشا في رباك قطعناه سرقناه من شرخ الشباب وروْقه فلما سرقنا الصفو منه سُرقناه وجاءت جيوش البين يقدمها القضا فبدد شملاً بالحجاز نظمناه حرام بذي الدنيا زوال اجتماعنا فكم صرمت للشمل حبلاً وصلناه فيا أين أيام تولت على الحمى وليل مع العشاق فيه سمرناه ونحن لجيران المحصب جيرة نوفي لهم حسن الوداد ونرعاه ونخلو بمن نهوى إذا رقد الورى ويبدوعلينا من نحب محياه أقرب ولا بعد وشمل مجمع وكأس وصال بيننا قد أدرناه فهاتيك أيام الحياة وغيرها ممات فياليت النوى ما شهدناه فيا ما أمر البين ما أقتل الهوى أما يا الهوى إن الهنا قد سلبناه فو الله لم يبق الفراق لذاذة فلو من سبيل للفراق فرقناه فكم من قتيل بيننا بسهامه فلو أننا نعطى الخطاق قتلناه فأحبابنا بالشوق بالحب بالجوى لحرمة عقد عندنا ما حللناه لحق هوانا فيكم وودادنا لميثاق عهد صادق ما نقضناه أعيدوا لنا أعيادنا بربوعكم ووقت سرور في حماكم قضيناه فما العيش إلا ما قضينا على الحمى فذاك الذي من عمرنا قد عددناه فياليت عنا أغمض البين طرفه ويا ليت وقتاً للفراق فقدناه وترجع أيام المحصب للمنى ويبدو ثراه للعيون وحصباه وتسرح فيه العيس بين ثمامة وتستنشق الأرواح نشر خزاماه ونشكو إلى أحبابنا طول شوقنا إليهم وماذا بالفراق لقيناه فلا كانت الدنيا إذا لم يعاينوا هم القصد في أولى المشوق وأخراه عليكم سلام الله يا ساكني الحمى بكم طاب رياه بكم طاب سكناه وربكم لولاكم ما نوده ولا القلب من شوق إليه أذبناه أسكان وادي المنحنى زاد وجدنا بمغنى حماكم ذاك مغنى شغفناه نحنّ إلى تلك الربوع تشوقاً ففيها لنا عهد وعقد عقدناه ورب برانا ما سلونا ربوعكم وما كان من ربع سواه سلوناه فيا هل إلى ربع الأعاريب عودة فذاك وحق الله ربع حببناه قضينا مع الأحباب فيه مآربا إلى الحشر لا تنسى سقى الله مرعاه فشدّوا مطايانا إلى الربع ثانياً فإن الهوى عن ربعهم ما ثنيناه(82/2)
ذكر البيت والطواف
ففي ربعهم لله بيت مبارك إليه قلوب الخلق تهوي وتهواه يطوف به الجاني فيغفر ذنبه ويسقط عنه جرمه وخطاياه فكم لذة كم فرحة لطوافه فلله ما أحلى الطواف وأهناه نطوف كأنا في الجنان نطوفها ولا هم لا غم فذاك نفيناه فياشوقنا نحو الطواف وطيبه فذلك شوق لا يحاط بمعناه فمن لم يذقه لم يذق قط لذة فذقه تذق يا صاح ما قد أذقناه فوالله ما ننسى الحمى فقلوبنا هناك تركناها فيا كيف ننساه ترى رجعة هل عودة لطوافنا وذاك الحمى قبل المنية نغشاه ووالله ما ننسى زمان مسيرنا إليه وكل الركب قد لذ مسراه وقد نسيت أولادنا ونساؤنا وأموالنا فالقلب عنهم شغلناه تراءت لنا أعلام وصل على اللوى فمن أجلها فالقلب عنهم لويناه جعلنا إله العرش نصب عيوننا ومَنْ دونه خلف الظهور نبذناه وسرنا نشق البيد للبلد الذي بجهد وشق للنفوس بلغناه رجالاً وركبانا على كل ضامر ومن كل ذي فج عميق أتيناه نخوض إليه البر والبحر والدجى ولا قاطع إلا وعنه قطعناه ونطوي الفلا من شدة الشوق للقا فتمسي الفلا تحكي سجلاً قطعناه ولا صدنا عن قصدنا بعد أهلنا ولا هجر جار أو حبيب ألفناه وأموالنا مبذولة ونفوسنا ولم نبق شيئاً منهما ما بذلناه عرفنا الذي نبغي ونطلب فضله فهان علينا كل شيء بذلناه فمن عرف المطلوب هانت شدائد عليه ويهوى كل ما فيه يلقاه فيا لو ترانا كنت تنظر عصبة حيارى سكارى نحو مكة وُلاه فلله كم ليل قطعناه بالسرى وبر بسير اليعملات بريناه وكم من طريق مفزع في مسيرنا سلكنا وواد بالمخوفات جزناه ولو قيل إن النار دون مزاركم دفعنا إليها والعذول دفعناه فمولى الموالي للزيارة قد دعا أنقعد عنها والمزور هو الله ترادفت الأشواق واضطرم الحشا فمن ذا له صبر وفي النار أحشاه وأسرى بنا الحادي فأمعن في السرى وولى الكرى نوم الجفون نفينا(82/3)
الإحرام من الميقات
ولما بدا ميقات إحرام حجنا نزلنا به والعيس فيه أنخناه ليغتسل الحجاج فيه ويحرموا فمنه نلبي ربنا لا حرمناه ونادى مناد للحجيج ليحرموا فلم يبق إلا من أجاب ولباه وجردت القمصان والكل أحرموا ولا لبس لا طيب جميعاً هجرناه ولا لهو لا صيد ولا نقرب النسا ولا رفث لا فسق كُلاً رفضناه وصرنا كأموات لففنا جسومنا بأكفاننا كل ذليل لمولاه لعل يرى ذل العباد وكسرهم فيرحمهم رب يرجّون رحماه ينادونه: لبيك لبيك ذا العلا وسعديك كل الشرك عنك نفيناه فلو كنت يا هذا تشاهد حالهم لأبكاك ذاك الحال في حال مرآه وجوههم غبر وشعث رءوسهم فلا رأس إلا للإله كشفناه لبسنا دروعاً من خضوع لربنا وما كان من درع المعاصي خلعناه وذاك قليل في كثير ذنوبنا فيا طالما رب العباد عصيناه إلى زمزم زُمَّت ركاب مطينا ونحو الصفا عيس الوفود صففناه نؤم مقاماً للخليل معظماً إليه استبقنا والركاب حثثناه ونحن نلبي في صعود ومهبط كذا حالنا في كل مرقى رقيناه وكم نشزٍ عالٍ علته وفودنا وتعلو به الأصوات حين علوناه نحج لبيت حجه الرسل قبلنا لنشهد نفعاً في الكتاب وعدناه دعانا إليه الله قبل بنائه فقلنا له لبيك داع أجبناه أتيناك لبيناك جئناك ربنا إليك هربنا والأنام تركناه ووجهك نبغي أنت للقلب قبلة إذا ما حججنا أنت للحج رمناه فما البيت ما الأركان ما الحجر ما الصفا وما زمزم أنت الذي قد قصدناه وأنت منانا أنت غاية سؤلنا وأنت الذي دنيا وأخرى أردناه إليك شددنا الرحل نخترق الفلا فكم سدَّ سَدٌّ في سواد خرقناه كذلك ما زلنا نحاول سيرنا نهارا وليلاً عيسنا ما أرحناه إلى أن بدت إحدى المعالم من منى وهبّ نسيم بالوصول نشقناه ونادى بنا حادي البشارة والهنا فهذا الحمى هذا ثراه غشيناه(82/4)
رؤية البيت
وما زال وفد الله يقصد مكة إلى أن بدا البيت العتيق وركناه فضجت ضيوف الله بالذكر والدعا وكبرت الحجاج حين رأيناه وقد كادت الأرواح تزهق فرحة لما نحن من عظم السرور وجدناه تصافحنا الأملاك من كان راكبا وتعتنق الماشي إذا ثم تلقاه(82/5)
طواف القدوم
فطفنا به سبعاً رملنا ثلاثة وأربعة مشينا كما قد أمرناه كذلك طاف الهاشمي محمد طواف قدوم مثلما طاف طفناه وسالت دموع من غمام جفوننا على ما مضى من إثم ذنب كسبناه ونحن ضيوف الله جئنا لبيته نريد القرى نبغي من الله حسناه فنادى بنا أهلاً ضيوفي تباشروا وقروا عيونا فالحجيج قبلناه غداً تنظروني في جنان خلودكم وذاك قراكم معْ نعيم ذخرناه فأي قرى يعلو قرانا لضيفنا وأي ثواب مثل ما قد أثبناه وكل مسيء قد أقلنا عثاره ولا وزر إلا عنكم قد وضعناه ولا نصب إلا وعندي جزاؤه وكل الذي أنفقتموه حسبناه سأعطيكم أضعاف أضعاف مثله فطيبوا نفوساً فضلنا قد منحناه فيا مرحباً بالقادمين لبيتنا إليّ حججتم لا لبيت بنيناه علي الجزا مني المثوبة والرضا ثوابكم يوم الجزاء ضمناه فطيبوا سروراً وافرحوا وتباشروا وتيهوا وهيموا بابنا قد فتحناه ولا ذنب إلا قد غفرناه عنكم وما كان من عيب عليكم سترناه فهذا الذي نلنا بيوم قدومنا وأول ضيق للصدور شرحناه(82/6)
المبيت بمنى والسير إلى عرفات
وبتنا بأقطار المحصب من منى فيا طيب ليل بالمحصب بتناه وفي يومنا سرنا إلى الجبل الذي من البعد جئناه لما قد وجدناه فلا حج إلا أن نكون بأرضه وقوفاً وهذا في الصحيح رويناه إليه ابتدرنا قاصدين إلهنا فلولاه ما كنا لحج سلكناه وسرنا إليه قاصدين وقوفنا عليه ومن كل الجهات أتيناه على علميه للوقوف جلالة فلا زالتا تحمى وتحرس أرجاه وبينهما جزنا إليه بزحمة فيا طيبها ليت الزحام رجعناه ولما رأيناه تعالى عجيجنا نلبي وبالتهليل منا ملأناه وفيه نزلنا بكرة بذنوبنا وما كان من ثقل المعاصي حملناه(82/7)
الوقوف بعرفة
وبعد زوال الشمس كان وقوفنا إلى الليل نبكي والدعاء أطلناه فكم حامد كم ذاكر ومسبح وكم مذنب يشكو لمولاه بلواه فكم خاضع كم خاشع متذلل وكم سائل مدت إلى الله كفاه وساوى عزيز في الوقوف ذليلنا وكم ثوب عز في الوقوف لبسناه ورب دعانا ناظر لخضوعنا خبير عليم بالذي قد أردناه ولما رأى تلك الدموع التي جرت وطول خشوع معْ خضوع خضعناه تجلى علينا بالمتاب وبالرضا وباهى بنا الأملاك حين وقفناه وقال انظروا شعثاً وغبراً جسومهم أجرنا أغثنا يا إلهاً دعوناه وقد هجروا أموالهم وديارهم وأولادهم والكل يرفع شكواه إلي فإني ربهم ومليكهم لمن يشتكي المملوك إلا لمولاه ألا فاشهدوا أني غفرت ذنوبهم ألا فانسخوا ما كان عنهم نسخناه فقد بدلت تلك المساوي محاسنا وذلك وعد من لدنا وعدناه فيا صاحبي من مثلنا في مقامنا ومن ذا الذي قد نال ما نحن نلناه على عرفات قد وقفنا بموقف به الذنب مغفور وفيه محوناه وقد أقبل الباري علينا بفضله وقال ابشروا فالعفو فيكم نشرناه وعنكم ضمنا كل تابعة جرت عليكم وأما حقنا فوهبناه أقلناكم من كل ما قد جنيتم وما كان من عذر لدينا عذرناه فيا من أسا يا من عصى لو رأيتنا وأوزارنا ترمى ويرحمنا الله وددت بأن لو كنت بين رحالنا وترجو رحيماً كلنا يترجاه وقفنا لديه سائلين من الخطا وغفراننا من ربنا قد طلبناه أمرنا بحسن الظن والله حثنا عليه وهذا في الحديث رويناه عليه اتكلنا واطمأنت قلوبنا لما عنده من وسع عفوعرفناه فطوبى لمن ذاك المقام مقامه وبشراه في يوم التغابن بشراه ترى موقفاً فيه الخزائن فتحت ووالى علينا الله منها عطاياه فصالح مهجوراً وقرب مبعداً وذاك مقام الصلح للصلح قمناه ودار علينا الكأس بالفضل والرضا سقينا شراباً مثله ما سقيناه فإن شئت تسقى ما سقينا على الحمى فقلل وما واقصد مقاماً قصدناه وفيه نصبنا للرحيل صفوفنا فقال كفيتم عفونا قد بسطناه وأعتقنا كلاً وأهدر ما مضى وقال لنا كل العتاب طويناه(82/8)
ذكر خزي إبليس اللعين
فإبليس مغموم لكثرة ما يرى من العتق محقوراً ذليلاً دحرناه على رأسه يحثو التراب مناديا بأعوانه: ويلاه ذا اليوم ويلاه وأظهر منا حسرة وندامة وكل بناء قد بناه هدمناه تركناه يبكي بعدما كان ضاحكاً فكم مذنب من كفه قد سللناه وكم أمل نلناه يوم وقوفنا وكم من أسير للمعاصي فككناه وكم قد رفعنا للإله مطالبا ولا أحداً ممن نحب نسيناه وخصّصت الآباء والأهل بالدعا وكم صاحب دانٍ وناء ذكرناه كذا فعل الحجاج هاتيك عادة وما فعل الحجاج فيه فعلناه وظل إلى وقت الغروب وقوفنا وقيل ادفعوا فالكل منكم قبلناه(82/9)
الإفاضة والمبيت بمزدلفة وذكر الله عند المشعر الحرام
أفيضوا وأنتم حامدون إلهكم إلى مشعر جاء الكتاب بذكراه وسيروا إليه واذكروا الله عنده فسرنا وفي وقت العشاء نزلناه وفيه جمعنا مغرباً وعشاءها ترى عائداً جمعاً لجمع جمعناه وبتنا به حتى لقطنا جمارنا ورباً شكرناه على ما هداناه ومنه أفضنا حيثما الناس قبلنا أفاضوا وغفران الإله طلبناه ونحو منى ملنا بها كان عيدنا ونلنا بها ما القلب كان تمناه فمن منكم بالله عيّد عيدنا فعيد منى رب البرية أعلاه وفيه رمينا للعقاب جمارنا ولا جرم إلا مع جمار رميناه وبالجمرة القصوى بدأنا وعندها حلقنا وقصرنا لشعر حضرناه ولما حلقنا حل لبس مخيطنا فيا خلقة منها المخيط لبسناه وفيها نحرنا الهدي طوعاً لربنا وإبليس لما أن نحرنا نحرناه ومن بعدها يومان للرمي عاجلاً ففيها رمينا والإله دعوناه وإياه أرضينا برمي جمارنا وشيطاننا المرجوم ثَم رجمناه وبالخيف أعطانا الإله أماننا وأذهب عنا كل ما نحن نخشاه(82/10)
النفر من منى وطواف الإفاضة
وردت إلى البيت الحرام وفودنا نحنُّ له كالطير حنّ لمأواه وطفنا طوافا للإفاضة حوله وفزنا به بعد الجمار وزرناه ومن بعد ما زرنا دخلناه دخلة كأنا دخلنا الخلد حين دخلناه ونلنا أمان الله عند دخوله كذا أخبر القرآن فيما قرأناه فيا منزلاً قد كان أبرك منزل نزلناه في الدنيا وبيتاً حججناه ترى حجةً أخرى إليه ودخلةً وهذا على رب الورى نتمناه فإخواننا ما كان أحلى دخولنا إليه ولبثا في ذراه لبثناه نطوف به والله يحصي طوافنا ليسقط عنا ما نسينا وأخطاه(82/11)
ذكر استلام الحجر الأسود والركن اليماني
وبالحجر الميمون عدنا فإنه برب السما والأرض للخلق يمناه نقبله من حبنا لإلهنا وكم لثمه طي الطواف لثمناه وذاك لنا يوم القيامة شاهد وفيه لنا لله عهد عهدناه ونستلم الركن اليماني طاعة ونستغفر المولى إذا ما لمسناه وملتزم فيه التزمنا لربنا عهوداً وعهد الله فيه لزمناه وكم موقف فيه يجاب لنا الدعا دعونا به والقصد فيه نويناه وصلى بأركان المقام حجيجنا وفي زمزم ماءً طهوراً وردناه وفيه الشفا فيه بلوغ مرادنا لما نحن ننويه إذا ما شربناه(82/12)
ذكر السعي بين الصفا والمروة والتحلل من الإحرام
وبين الصفا والمروة الوفد قد سعى فإن تمام الحج تكميل مسعاه فسبعاً سعاها سيد الرسل قبلنا ونحن تبعناه فسبعاً سعيناه نهرول في أثنائها كل مرة فهذاك من فعل الرسول فعلناه وبعد تمام الحج والنسك كلها حللنا وباقي عيسنا قد أنخناه فمن شاء وافى الصيد والطيب والنسا فقد تم حج للإله حججناه ولما اعتمرنا كان أبركَ عمرنا زمان نراه باعتمار عمرناه ولما قضينا للإله مناسكاً ذكرناه والمطلوب منه سألناه فمن طالب حظاً بدنيا فما له خلاق بأخراه إذا الله لاقاه ومن طالب حسنا بدنيا لدينه وحسنا بأخراه وذاك يوفاه وآخر لا يبغي من الله حاجة سوى نظرة في وجهه يوم عقباه(82/13)
طواف الوداع
وبات حجيج الله بالبيت محدقاً ورحمة رب العرش إذ ذاك تغشاه تداعى رفاق للرحيل فما ترى سوى دمع عين بالدعاء مددناه لفرقة بيت الله والحجر الذي لأجلهما صعب الأمور سلكناه وودعت الحجاج بيت إلهها وكلهم تجري من الحزن عيناه فللَّه كم باك وصاحب حسرة يود بأن الله كان توفاه فلو تشهد التوديع يوماً لبيته فإن فراق البيت مراً وجدناه فما فرقة الأولاد والله إنه أمرّ وأدهى ذاك شيء خبرناه فمن لم يجرب ليس يعرف قدره فجرب تجد تصديق ما قد ذكرناه لقد صدعت أكبادنا وقلوبنا لما نحن من مُرّ الفراق شربناه ووالله لولا أن نؤمل عودة إليه لذقنا الموت حين فجعناه(82/14)
ذكر الرحيل إلى طيبة وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم
ومن بعد ما طفنا طواف وداعنا رحلنا لمغنى المصطفى ومصلاه ووالله لو أن الأسنة أشرعت وقامت حروب دونه ما تركناه ولو أننا نسعى على الروس دونه ومن دونه جفن العيون فرشناه وتملك منا بالوصول رقبانا ويسلب منا كل شيء ملكناه لكان يسيراً في محبة أحمد وبالروح لو يشرى الوصال شريناه ورب الورى لولا محمد لم نكن لطيبة نسعى والركاب شددناه ولولاه ما اشتقنا العقيق ولا قبا ولولاه لم نهوى المدينة لولاه هو القصد إن غنت بنجد حداتنا وإلا فما نجد وسلع أردناه وما مكة والخيف قل لي ولا منى وما عرفات قبل شرع أراناه به شرفت تلك الأماكن كلها وربك قد خص الحبيب وأعطاه لمسجده سرنا وشدت رحالنا وبين يديه شوقنا قد كتبناه قطعنا إليه كل بر ومهمه ولا شاغل إلا وعنا قطعناه كذا عزمات السائرين لطيبة رعى الله عزماً للحبيب عزمناه وكم جبل جزنا ورمل وحاجز ولله كم واد وشعب عبرناه تروحنا الأشواق نحو محمد فنسري ولا ندري بما قد سريناه ولما بدا جذع العقيق رأيتنا نشاوى سكارى فارحين برؤياه شممنا نسيماً جاء من نحو طيبة فأهلاً وسهلاً يا نسيما شممناه فقد ملئت منّا القلوب مسرة وأي سرور مثل ما قد سررناه فوا عجباه كيف قرّت عيوننا وقد أيقنت أن الحبيب أتيناه ولقياه منا بَعدَ بُعدٍ تقاربت فو الله لا لقيا تعادل لقياه وصلنا إليه واتصلنا بقربه فلله ما أحلى وصولاً وصلناه وقفنا وسلمنا عليه وإنه ليسمعنا من غير شك فديناه ورد علينا بالسلام سلامنا وقد زادنا فوق الذي قد بدأناه كذا كان خلق المصطفى وصفاته بذلك في الكتب الصحاح عرفناه وثَم دعونا للأحبة كلهم فكم من حبيب بالدعا قد خصصناه وملنا لتسليم الإمامين عنده فإنهما حقاً هناك ضجيعاه وكم قد مشينا في مكان به مشى وكم مدخل للهاشمي دخلناه وآثاره فيها العيون تمتعت وقمنا وصلينا بحيث مصلاه وكم قد نشرنا شوقتنا لحبيبنا وكم من غليل في القلوب شفيناه ومسجده فيه سجدنا لربنا فلله ما أعلى سجوداً سجدناه بروضة قمنا فهاتيك جنة فيا فوز من فيها يصلي وبشراه ومنبره الميمون منه بقية وقفنا عليها والفؤاد كررناه كذلك مثل الجذع حنت قلوبنا إليه كما ود الحبيب وددناه وزرنا قبا حبا لأحمد إذ مشى عسى قدماً يخطو مقاما تخطاه ليبعث يوم البعث تحت لوائه إذا الله من تلك الأماكن ناداه وزرنا مزارات البقيع فليتنا هناك دفنا والممات رزقناه وحمزة زرناه ومن كان حوله شهيداً وأحداً بالعيون شهدناه ولما بلغنا من زيارة أحمد منانا حمدنا ربنا وشكرناه ومن بعد هذا صاح بالبين صائح وقال ارحلوا يا ليتنا ما أطعناه سمعنا له صوتاً بتشتيت شملنا فيا ما أمر الصوت حين سمعناه وقمنا نؤم المصطفى لوداعه ولا دمع إلا للوداع صببناه ولا صبر كيف الصبر عند فراقه؟ وهيهات إن الصبر عنه صرفناه أيصبر ذو عقل لفرقة أحمد فلا والذي من قاب قوسين أدناه فواحسرتاه من وداع محمد وأواه من يوم التفرق أواه سأبكي عليه قدر جهدي بناظر من الشوق لا ترقى من الدمع غرباه فيا وقت توديعي له ما أمره ووقت اللقا والله ما كان أحلاه عسى الله يدنيني لأحمد ثانياً فيا حبذا قرب الحبيب ومدناه فيا رب فارزقني لمغناه عودة تضاعف لنا فيها الثواب وترضاه رحلنا وخلفنا لديه قلوبنا فكم جسد من غير قلب قلبناه ولما تركنا ربعه من ورائنا فلا ناظر إلا إليه رددناه لنغنم منه نظرة بعد نظرة فلما أغبناه السرور أغبناه فلا عيش يهنى مع فراق محمد أأفقد محبوبي وعيشي أهناه دعوني أمت شوقاً إليه وحرقة وخطوا على قبري بأني أهو(82/15)
الحث على الحج بالمال الحلال
فيا صاحبي هذي التي بي قد جرت وهذا الذي في حجنا قد عملناه فإن كنت مشتاقاً فبادر إلى الحمى لتنظر آثار الحبيب وممشاه وتحظى بيت الله من قبل منعه كأنا به عما قليل منعناه أليس ترى الأشراط كيف تتابعت فبادره واغنمه كما قد غنمناه إلى عرفات عاجل العمر واستبق فثم إله الخلق يسبغ نعماه وعيّد مع الحجاج يا صاح في منى فعيد منى أعلاه عيداً وأسناه وضح بها واحلق وسر متوجهاً إلى البيت واصنع مثل ما قد صنعناه وكن صابراً إنا لقينا مشقة فإن تلقها فاصبر كصبر صبرناه لقد بعدت تلك المعالم والربا فكم من رواح مع غدو غدوناه فبادر إليها لا تكن متوانيا لعلك تحظى بالذي قد حظيناه وحج بمال من حلال عرفته وإياك والمال الحرام وإياه فمن كان بالمال المحرم حجه فمن حجه والله ما كان أغناه إذا هو لبى الله كان جوابه من الله لا لبيك حج رددناه كذلك جانا في الحديث مسطرا ففي الحج أجر وافر قد سمعناه(82/16)
الحث على زيارة المسجد النبوي
ومن بعد حج سر لمسجد أحمد ولا تخطه تندم إذا ما تخطاه فوا أسف الساري إذا ذكر الحمى إذا ربع خير المرسلين تخطاه ووالهف الآتي بحج وعمرة إذا لم يكمل بالزيارة ممشاه يعزى على ما فاته من مزاره فقد فاته أجر كثير بأخراه نظرناه حقاً حين بانت ركابنا على طيبة حقاً وصدقاً نظرناه وزادت بنا الأشواق عند دنونا إليها فما أحلى دنواً دنيناه ولما بدت أعلامها وطلولها تحدرت الركبان عما ركبناه وسرنا مشاة رفعة لمحمد حثنا الخطا حتى المصلى دخلناه لنغنم تضعيف الثواب بمسجد صلاة الفتى فيه بألف يوفاه كذلك فاغنم في زيارة طيبة كما قد فعلنا واغتنم ما غنمناه فإذ ما رأيت القبر قبر محمد فلا تدن منه ذاك أولى لعلياه وقف بوقار عنده وسكينة ومثِّل رسول الله حيا بمثواه وسلم عليه والوزيرين عند وزره كم زرنا لنحصد عقباه وبلغه عنا لا عُدمت سلامنا فأنت رسول للرسول بعثناه ومن كان منا مبلغا لسلامنا فإنا بإدلاء السلام سبقناه فيا نعمة لله لسنا بشكرها نقوم ولو ماء البحور مددناه فنحمد رب العرش إذا كان حجنا بزورة من كان الختام ختمناه عليك سلام الله ما دامت السما سلام كما يبغى الإله ويرضاه(82/17)
فضائل يوم عرفة
أما الشق الثاني فيتعلق بيوم عرفة والوقوف بعرفة: لا شك أن يوم عرفة يوم عظم الله سبحانه وتعالى أمره، ورفع على الأيام قدره، فقد أقسم الله سبحانه وتعالى به، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم، فقال عز وجل: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:3] قال ابن عباس: (الوتر يوم عرفة، والشفع يوم الذبح) وقيل: إنه هو اليوم المشهود الذي أتى ذكره في سورة البروج، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة قال: ولا طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له، ولا يستعيذ من شيء إلا أعاذه الله منه).
ومن فضائله: أنه هو اليوم الذي أنزل الله فيه سبحانه وتعالى فيه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وعن طارق بن شهاب قال: (قالت اليهود لـ عمر رضي الله عنه: إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذناه عيداً فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت، يوم عرفة، وإنا والله بعرفة يوم جمعة) وهذا حديث متفق عليه.
إذاً: يوم عرفة هو يوم عيد لأهل الموقف، وإنما يكمل الحج بالوقوف بعرفة؛ لأن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) قال ابن حجر رحمه الله تعالى: استدل بهذا الحديث -أي: حديث عمر - على مزية الوقوف بعرفة يوم الجمعة على غيره من الأيام؛ لأن الله تعالى إنما يختار لرسوله صلى الله عليه وسلم الأفضل، فاختار له أن يكون عرفة يوم الجمعة، فاجتمع عيد عرفة وعيد الجمعة.
فالأعمال تشرف بشرف الأزمنة كالأمكنة، ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع؛ ولأن في يوم الجمعة الساعة المستجاب فيها الدعاء، ولاسيما على قول من قال: إنها بعد العصر، وهو الأرجح والله تعالى أعلم.
أما ما روي من حديث: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم عرفة وافق يوم الجمعة، وهو من أفضل من سبعين حجة من غيرها) فهو حديث لا أعرف حاله هذا كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.
أيضاً يوم عرفة فيه أخذ الميثاق قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، فأخذ الله فيه الميثاق على ذرية آدم بتوحيده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أخذ من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة، وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلاً قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى)، وهذا الحديث صحيح.
ومن فضائل هذا اليوم أن الله سبحانه وتعالى يباهي بأهله الملائكة، كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، يقول لهم: انظروا إلى عبادي هؤلاء! جاءوني شعثاً غبراً)، فهذا يقتضي الغفران وعموم التكفير؛ لأنه لا يباهي بالملائكة وهم مطهرون إلا بمطهر، فلا يكون الحجاج مطهرين إلا إذا غفر الله سبحانه وتعالى لهم ذنوبهم مغفرة عامة وشاملة، وينتج من ذلك أن الحج يكفر حق المولى وحق الخلق حتى الكبائر والتبعات، وهذا أشار إليه في قوله: (وعنكم ضمنا كل تابعة جرت)، وهو حق الخلق، فيغفره الله سبحانه وتعالى ويتحمله ويضمنه عن الحجاج.
وفيه أفضلية عرفة على يوم النحر، وهو ما عليه الأكثر، وإنما سمي الموقف عرفة لأنه عرف لإبراهيم عليه السلام فلما أبصره عرفه، أو لأن جبريل كان يدور في المشاعر، فلما رآه إبراهيم قال: قد عرفت، أو لأن الناس يتعارفون فيه.
عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً أو أمة من الناس من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ماذا أراد هؤلاء؟).
وعن بلال بن رباح (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له غداة جمع: يا بلال أسكت أو أنصت الناس، ثم قال: إن الله تطول عليكم في جمعكم هذا فوهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ادفعوا باسم الله).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له).
الذي يخصنا نحن أكثر في هذا المقام هو بيان أن الله سبحانه وتعالى من رحمته بعباده جعل المتخلف لعذر شريكاً للسائل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك: (إن في المدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، خلفهم العذر)، وقال الشاعر في ذلك: يا سائرين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عذر وقد رحلوا ومن أقام على عذر كمن راحا وربما سبق بعض من سار بقلبه وعزمه بعض السائرين بأبدانهم فليس الشأن فيمن سار ببدنه، إنما الشأن فيمن قعد بدنه لعذر وسار بقلبه حتى سبق الركب.(82/18)
أعمال صالحة تقوم مقام الحج والعمرة(82/19)
ذكر الله سبحانه وتعالى
وهناك أعمال قد تقوم مقام الحج والعمرة لمن عجز عنهما، فمنها ذكر الله سبحانه وتعالى دبر كل صلاة، فقد روى البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموال يحجون بها، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أحدثكم بما لو أخذتم به لحقتم من سبقكم، ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (قلنا: يا رسول الله! ذهب الأغنياء بالأجر يحجون ولا نحج، ويجاهدون ولا نجاهد وبكذا وبكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على شيء إن أخذتم به جئتم بأفضل ما يجيء به أحد منهم: تكبروا الله أربعاً وثلاثين، وتسبحوه ثلاثاً وثلاثين، وتحمدوه ثلاثاً وثلاثين في دبر كل صلاة) وهذا رواه الإمام أحمد والنسائي.
إذاً: هذا مما يعوض من عجز عن الذهاب إلى البيت بعذر، فيستطيع أن يصل إلى رب البيت بالتقرب بهذا العمل، وهو ذكر الله سبحانه وتعالى دبر الصلوات المكتوبة.(82/20)
صلاة العشاء والغداة في جماعة
من ذلك أيضاً صلاة العشاء والغداة في جماعة، والغداة هي صلاة الفجر، عن أبي ذر رضي الله عنه: (أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور -يعني: الأغنياء- يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوليس قد جعل الله لكم صلاة العشاء في جماعة تعدل حجة، وصلاة الغداة في جماعة تعدل عمرة؟!) وهذا رواه مسلم.
قال أبو هريرة رضي الله عنه تعالى عنه لرجل: (بكورك إلى المسجد أحب إلي من غزوتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ولا شك أن أداء الواجبات كلها أفضل من التنفل بالحج والعمرة وغيرهما، فما تقرب العباد إلى ربهم بمثل أداء ما افترضه الله عليهم، وكثير من النفوس يعسر عليها التنزه عن كسب الحرام والشبهات، ويسهل عليها إنفاق ذلك في الحج والصدقات، قال بعض السلف: ترك فعل الشيء مما يكرهه الله أحب إلي من خمسمائة حجة، يعني: هناك ما هو أولى من مجرد فعل الفرائض، وهو التعفف عن كسب الحرام، والتنزه عن المال الحرام، فهذا من أعظم ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى.
قال الفضيل بن عياض مبيناً باباً آخر من أبواب العبادة التي قد تفضل على حج التطوع: ما حج ولا رباط ولا جهاد أشد من حفظ اللسان، ولو أصبحت يهمك لسانك أصبحت في همٍّ شديد، وليس الاعتبار بأعمال البر بالجوارح، وإنما الاعتبار بلين القلوب وتقواها وتطهيرها عن الآثام.(82/21)
صلاة الفجر في جماعة ثم المكوث حتى تطلع الشمس لصلاة ركعتين
مما يعوض الحج والعمرة صلاة الفجر في جماعة، والذكر حتى طلوع الشمس، وصلاة الركعتين بعدها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة)، وهذا رواه الترمذي وصححه الألباني.(82/22)
حضور الجماعات والمشي إلى صلاة التطوع
من ذلك أيضاً حضور الجماعات والمشي إلى صلاة التطوع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مشى إلى صلاة مكتوبة في الجماعة فهي كحجة، ومن مشى إلى صلاة تطوع فهي كعمرة نافلة)، وهذا حديث حسن.
المقصود بالمشي إلى صلاة التطوع: أن يمشي إلى المسجد يصلي صلاة الضحى مثلاً كما في رواية أبي داود، قال المناوي: من مشى إلى أداء صلاة مكتوبة فليسرع.
والخصلة كحجة يعني: كثواب حجة، ومن مشى إلى صلاة التطوع فهي كثواب عمرة، لكن لا يلزم التساوي في المقدار.(82/23)
الصلاة في مسجد قباء
كذلك الصلاة في مسجد قباء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه، كان له عدل عمرة)، وهذا صحيح رواه أحمد في مسنده والنسائي والحاكم وصححه الألباني.
وقال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة في مسجد قباء كعمرة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أتى مسجد بني عمرو بن عوف -وهو مسجد قباء- لا ينزعه إلا الصلاة كان له أجر عمرة).
وعن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: سمعت أبي رضي الله عنه يقول: (لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلي من آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل)، وهذا بدون سفر أو شد الرحال، فالإنسان يأتي المدينة لزيارة المسجد النبوي ثم من السنة أن يزور مسجد قباء.
وهذا المسجد هو الذي نزل فيه وفي دياره قول الله سبحانه وتعالى: {فيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد رضي طهوركم يا أهل قباء).(82/24)
شهود صلاة العيدين
كذلك مما يعوض فوات الحج والعمرة شهود العيدين: الفطر والأضحى، قال ابن رجب: قال مخنس بن سليم وهو معدود من الصحابة: (الخروج يوم الفطر يعدل عمرة، والخروج يوم الأضحى يعدل حجة).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: رأى بعض الصالحين الحاج في وقت خروجه، فوقف يبكي ويقول: واضعفاه! وينشد: فقلت دعوني واتباعي ركابكم أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد ثم تنفس وقال: هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت، فكيف تكون حسرة من انقطع عن الوصول إلى رب البيت؟! يقول الحافظ ابن رجب: إخواني! إن حبستم العام عن الحج، فارجعوا إلى جهاد النفوس، أو أحصرتم عن أداء النسك، فأريقوا على تخلفكم من الدموع ما تيسر، فإن إراقة الدماء لازمة للمحصر، ولا تحلقوا رءوس أديانكم بالذنوب، فإن الذنوب حالقة للدين وليست حالقة للشعر، وقوموا لله باستشعار الرجاء والخوف مقام القيام بأرجاء الخيف والمشعر، ومن كان قد بعد عن حرم الله فلا يبعد نفسه بالذنوب عن رحمة الله، فإن رحمة الله قريب ممن تاب إليه واستغفر، ومن عجز عن حج البيت أو البيت منه بعيد فليقصد رب البيت، فإنه ممن دعاه ورجاه أقرب من حبل الوريد.
من فاته في هذا العام القيام بعرفة فليقم لله بحقه الذي عرفه، ومن عجز عن المبيت بمزدلفة فليبيت عزمه على طاعة الله وقد قربه وأزلفه، ومن لم يمكنه القيام بأرجاء الخيف فليقم لله بحق الرجاء والخوف، ومن لم يقدر على نحر هديه بمنى فليذبح هواه هنا وقد بلغ المنى، ومن لم يصل إلى البيت لأنه منه بعيد فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلى من دعاه ورجاه من حبل الوريد، إن لم نصل إلى ديارهم فلنصل انكسارنا بانكسارهم، إن لم نقدر على عرفات فلنستدرك ما قد فات، إن لم نصل إلى الحجر فلين كل قلب حجر، إن لم نقدر على ليلة جمع ومنى فلنقم بمأتم الأسف ههنا.
أين المريد المجد السابق؟! هذا يوم يرحم فيه الصادق، من لم يُنِب في هذا اليوم فمتى ينيب؟! ومن لم يجب في هذا الوقت فمتى يجيب؟! ومن لم يتعرف بالتوبة فهو غريب، أسفاً لعبد لم يغفر له اليوم ما جنى، كلما هم بخير نفض الثوب وما بنى، حضر مواسم الأفراح فما حصل خيراً ولا اقتنى، ودخل بساتين الفلاح فما مد كفاً ولا جنى، ليت شعري من منا خاف ومن منا نال المنى! فيا إخواني! إن فاتنا نزول منى فلننزل دموع الحسرات هاهنا، وكيف لا نبكي ولا ندري ماذا يراد بنا؟! وكيف بالسكون وما نعلم ما عنده لنا؟! فلذا الموقف أعددنا البكاء ولذا اليوم الدموع تقتنى، أخي! لئن سار القوم وقعدنا، وقربوا وبعدنا، فما يؤمننا أن نكون ممن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين.
لله در ركائب سارت بهم تطوي القطار الشافعات على الدجى رحلوا إلى البيت الحرام وقد شدا قلب المتيم منهم ما قد شدا نزلوا بباب لا يخيب نذيره وقلوبهم بين المخافة والرجا يحق لمن رأى الواصلين وهو منقطع أن يقلق، ولمن شاهد السائرين إلى ديار الأحبة وهو قاعد أن يحزن: عرض بذكري عندهم لعلهم إن سمعوك سألوك عني قل ذلك المحبوس عن قصدكم معذب القلب لكل فنى إخواني! نفحت في أيام الحج نفحة من نفحات الأنس من رياض القدس على كل قلب أجاب إلى ما دعا.
يا همم العارفين لغير الله لا تقنعي، يا عزائم الناسكين لدمع أنساك السالكين اجمعي، لحب مولاك اخرجي وبين خوفه ورجائه اقرني، وبذكره تمتعي، يا أسرار المحبين بكعبة الحب طوفي واركعي، وبين صفاء الصفا ومروى المروة اسعي وأسرعي، وفي عرفات الغرفات قفي وتضرعي، ثم إلى مزدلفة الزلفى فادفعي، ثم إلى منى نيل المنى فارجعي، فإذا قربت القرابين فقربي الأرواح ولا تمنعي، فإنه قد وضح الطريق، ولكن قل السالك على التحقيق وكثر المدعي!(82/25)
فضل تلقي الحجاج ومصافحتهم
أخيراً: ننوه إلى أن تلقي الحجاج مسنون، أي: يستحب أن يتلقى الإنسان الحاج ويسلم عليه، ويطلب الاستغفار منه والدعاء له، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقي بصبيان أهل المدينة)، كانوا يقابلونه بالصبيان وصغار أهل المدينة.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أقبلنا من مكة في حج أو عمرة فتلقانا غلمان من الأنصار كانوا يتلقون أهليهم إذا قدموا)، وقد كان السلف يدعون لمن رجع من حجه، فهذا خالد الحذاء لما رجع، قال له أبو قلابة: بر العمل.
يعني: جعله الله مبروراً.
وعن ابن أبي ثابت قال: (خرجت مع أبي نتلقى الحجاج ونسلم عليهم قبل أن يتدنسوا) يعني: قبل أن يعودوا فيخالطوا الحياة من جديد، وقد رجعوا أنقياء أطهاراً من الذنوب، فهذا هو السبب، ولعلك تحرص على دعائه لك؛ لأنه لم يخض في الفتن والدنيا.
وعن الحسن قال: إذا خرج الحجاج فشيعوهم وزودوهم الدعاء، وإذا قفلوا فالقوهم وصافحوهم قبل أن يخالطوا الذنوب، فإن البركة في أيديهم.
وفي مسند البزار وصحيح الحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (اللهم اغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاج)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لو يعلم المقيمون ما للحاج عليهم من الحق لأتوهم حين يقدمون حتى يقبلوا رواحلهم؛ لأنهم وفد الله في جميع الناس).
ما للمنقطع حيلة سوى التعلق بأذيال الواصلين: هل الدهر يوماً بوصل يجود وأيامنا باللوا هل تعود زمان تقضى وعيش مضى بنفسي والله تلك العهود ألا كل زوار دار الحبيب هنيئاً لكم في الجنان الخلود أفيضوا علينا من الماء فيضاً فنحن عطاش وأنتم ورود أحب شيء إلى المحب سؤال من قدم من ديار الحبيب، فيقول: عرضاني ركب الحجاز أسائله متى عهده بأيام سلع واستمليا حديث من سكن الخيـ ـف ولا تكتباه إلا بدمع فاتني أن أرى الديار بطرفي فلعلي أرى الديار بسمعي من يعد أيام جمع على ما كان منها وأين أيام جمعي فهذا الشاعر يعبر عن مشاعره فيقول: عرضاني ركب الحجاز أسائله لأنه حرم من الحج والسؤال في الموسم فيريد أن يُجْعَلَ في عرض الطريق حين يعود الحجاج من طريق الحجاز.
عرضاني ركب الحجاز أسائله متى عهده بأيام سلع أي: أريد أن أسمع منهم الذكريات التي عاشوها هناك في أيام سلع وفي منى وفي هذه المواقع.
(واستمليا حديث من سكن الخيف) يعني: من سكن مسجد الخيف في منى، وأقام هناك فيها، (ولا تكتباه إلا بدمعى) أي: عليهم أن يملوا علي حديث من سكن الخيف ولا يكتبوه إلا بأدمعي.
فاتني أن أرى الديار بطرفي فلعلي أن أرى الديار بسمعي من يعد لي أيام جمع على ما كان منها وأين أيام جمعي لقاء الأحباب لقاح الألباب، وأخبار تلك الديار أحلى عند المحبين من الأسمار: إذا قدم الركب يممته أحيي الوجوه صدوراً وورداً وأسألهم عن عقيق الحمى وعن أرض نجدٍ ومن حل نجداً حدثوني عن العقيق حديثاً أنتم بالعقيق أقرب عهداً ألا هل سمعتم ضجيج الحجيج على ساحة الخيف والعيس تحدى فذكر المشاعر والمروتين وذكر الصفا يطرد الهم طرداً والعقيق: هو الوادي المعروف الذي وصفه النبي عليه السلام بأنه واد مبارك.
أرواح القبول تفوح من المقبولين، وأنوار الوصول تلوح على الواصلين: تفوح أرواح نجد من ثيابهم عند القدوم لقرب العهد بالدار أهفو إلى الركب تعلو لي ركائبهم من الحمى في أفيحات وأطمار يا راكبان قفا لي واقضيا وطري وحدثاني عن نجد بأخبار ولا يؤهل بالإكثار من التردد إلى تلك الآثار إلا محب مختار، يقول علي بن الموفق: حججت ستين حجة، فلما كان بعد ذلك جلست في الحجر أفكر في حالي وكثرة ترددي إلى ذلك المكان، ولا أدري هل قبل مني حجي أم رد، ثم نمت فرأيت في منامي قائلاً يقول لي: هل تدعو إلى بيتك إلا من تحب؟ قال: فاستيقظت وقد سري عني، أي: أنت لا تستضيف في بيتك إلا شخصاً تحبه.
كان بعض السلف يقول في دعائه: اللهم إن لم تقبلني فهبني لمن شئت من خلقك.
وقال آخر: اللهم ارحمني فإن رحمتك قريب من المحسنين، فإن لم أكن محسناً فقد قلت: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]؛ فإن لم أكن كذلك فأنا شيء، وقد قلت: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، فإن لم أكن شيئاً فأنا مصاب برد عملي وتعبي ونصبي فلا تحرمني ما وعدت المصاب من الرحمة.
قال هلال بن يسار: بلغني أن المسلم إذا دعا الله فلم يستجب له كتب له حسنة.
من كان في سخطه محسناً فكيف يكون إذا ما رضي وقدوم الحاج يذكر بالقدوم على الله سبحانه وتعالى، قدم مسافر فيما مضى على أهله فسروا به، وهناك امرأة من الصالحات فبكت وقالت: ذكرني هذا بقدومه القدوم على الله عز وجل.
قال بعض الملوك لـ أبي حازم: كيف القدوم على الله تعالى؟ قال: أما قدوم الطائع على الله فكقدوم الغائب على أهله المشتاقين إليه، وأما قدوم العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده الغضبان: لعلك غضبان وقلبي غافل سلام على الدارين إن كنت راضياً فاللهم اجعلنا ممن تتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73].
ونكتفي بهذا القدر، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك!(82/26)
الإسلام عدو الأصنام [1]
لقد أخذت قضية هدم حكومة طالبان تمثالي بوذا أكبر موقعها في العالم، حيث قامت منظمات وحكومات تطالب بإيقاف هذه العملية الهمجية بزعمها، وليس غريباً على أهل الكفر والشقاق أن يصدر منهم مثل هذا، لكن الغرابة في بعض الشخصيات المتقمصة لباس الإسلام حين رأت أن مثل هذا يعد تدميراً للتراث، وأنه ليس من الإسلام في شيء، فقامت بالدور نيابة عن الكفار متناسية النصوص المستفيضة في وجوب طمس التماثيل والصور وإزالتها، واتفاق علماء المسلمين على ذلك، فتباً لأقلامها المأجورة.(83/1)
وقفات مع تدمير تمثالي بوذا(83/2)
الموقف العالمي تجاه تدمير تمثالي بوذا
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لاسيما عبده المصطفى، وآله المستكملين الشَّرفا، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فهناك حدث فرض نفسه ينطبق عليه قول القائل مع بعض التعديل: الجنازة حارة والميت صنم.
فكثير من الضوضاء حصل في قضية تحطيم الصنمين لبوذا في أفغانستان كما هو معلوم، ولقد انتزعت حركة طالبان الأضواء في الأيام الأخيرة فصوبت عيون العالم كله على أفغانستان حالياً وخراسان سابقاً في التاريخ الإسلامي، واستُنفر علماء الآثار والمؤرخون ومدراء المتاحف العالمية، وجميع الصحف.
وهذه اليابان -وهي أكبر مانح للمعونات في تلك المنطقة- طالبت بتدخل دول الخليج، وضغطت على قطر حتى أرسلت وفداً.
وطلب مدير عام اليونسكو وهو شيرو متورا، -وهو ياباني بوذي- وساطة سياسية من بعض الدول، ومكث مبعوثه -وفي نفس الوقت- أيضاً -مكث بيير لافرانك مبعوث رئيس فرنسا شيراك أكثر من عشرة أيام يحاول أن يثني عزم طالبان عن قرار هدم أكبر تمثالين لبوذا في العالم، وهما واقعان في وسط أفغانستان، وقد استغرق بناؤهما مائتي سنة، أي قرنين كاملين.
وتقدمت دول عديدة مثل الهند واليونان بعروض سخية لإنقاذ التمثالين، ومتحف الميترو كوليتن في نيويورك تقدم -أيضاً- بعروض سخية يتبرع بها لأجل أخذهما، وجمعت اليونسكو خمسةً وأربعين وزير ثقافة ليتحدثوا عن هذين الصنمين، ومحاولة المطالبة والضغط لاستنقاذهما.(83/3)
الألسن المنتسبة إلى الإسلام ودفاعها عن الأصنام
والمؤلم -حقيقة- في القضية أن أناساً من بني جلدتنا وصل بهم الحال إلى أنهم طالبوا الدول الغربية بتدخل عسكري سريع وحاسم لإنقاذ هذه الحجارة، وهو تدخل عسكري سيترتب عليه إراقة دماء مسلمة، فالتراث البوذي عندهم لا يمكن التهاون به، لكن دماء المسلمين شيء أرخص ما يكون! وهذه القضية لا ينبغي أن تمر مروراً عابراً، بل هي كمثيلاتها من القضايا تحتاج إلى وقفة وتأمل وتدبر ومدارسة، وعلى الأقل يكون كلامنا وجهة من وجهات النظر، ويسمع الناس صوتاً آخر غير تلك الأبواق التي تأتينا عبر الفضائيات -كما يسمونها- وتشوش على الناس وعلى أحكام الإسلام.
فبعض الناس أقاموا أنفسهم وكلاء عن الغرب في الدفاع عن هذا الأمر، وزين بعضهم العبارات، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ولم يكونوا منصفين على الإطلاق.
وعامة من سلطت عليه الأضواء في تناول هذه القضية من المنحازين تماماً للثقافة الغربية، وإن كانوا يظهرون بلغة عربية وفي ثوب إسلامي للأسف الشديد! وأقوى دليل على أنهم لم يكونوا منصفين ولم يكونوا ممثلين صادقين لحكم الإسلام في هذه القضية: أنهم تجاهلوا تماماً أدلة الآخرين، وما أوردوا حديث علي بن أبي طالب إلا في معرض الرد عليه أو تأويله، أو إذا كانت الأصنام تعبد فقط، أما أن يكون كأي بحث علمي في العالم لابد له من أن تأتي بأدلة كل طرف، ثم تتكلم عن وجه الدلالة بعد توثيق الأدلة، ثم تحصل المناظرة أو المناقشة ثم يكون الترجيح بين هذه الأدلة والموازنة بينها فذلك أمر ليس مكانه هنا.
فهؤلاء المدسوسون على الفقه فرضوا نوعاً من الوصاية على الفتوى الشرعية، وأوهموا الناس أن كلامهم الحق الذي لا يقبل الجدال، وأن من يخالف فهو رجعي متخلف، وأحياناً يستخدمون كلمة (سلفي) للتعبير عن المخالفين في سياق الذم والتحقير للمسلمين.(83/4)
دلالات الحادثة على حال البشرية أو وضع المسلمين
والحادث حدث جلل في الحقيقة يحتاج إلى أن نتأمل فيه الحالة التي وصلت إليها البشرية، فهذه الحادثة في حد ذاتها من الوقائع التاريخية التي تكشف لنا المدى الذي تردت إليه البشرية في انحطاطها، وليس في تحضرها كما يزعمون، فهذا أقوى شاهد على مدى الانحطاط الذي وصلت إليه البشرية، وكيف أنها وقعت في هاوية سحيقة من الجهل والكفران.
كان ينبغي للجميع أن يعلموا أن لدينا منظومة قيميَّة خاصة بنا نستمدها من إسلامنا ومن عقيدتنا، ومن ديننا الحنيف الذي نؤمن أنه الدين الوحيد الحق، وكل الأديان باطلة، وإن كان أرباب القانون الدولي والمنظمات العالمية والعولمة لا يقروننا على هذا الكلام.
ونحن نقول: من شك لحظة واحدة في أن الإسلام هو الدين الحق، وأن كل ما عداه باطل، وأن الإسلام مهيمن على ما عداه من الأديان فلا يبقى من المسلمين، ولا يبقى عنده ذرة من الإيمان.
وأصدق ما يعبر عن الوضع الذي رأيناه والذي حصل أن نقول في جملة واحدة: كيف وقع المسلمون في جحر الضب؟! إلى هذا الحد دخل المسلمون جحر الضب، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم.
قيل: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا يبين لنا الداء التي وصل إليه المسلمون، والوضع الذي غصوا به بعد أن دخلوا بالفعل جحر الضب، والرسول عليه الصلاة والسلام شبه بجحر الضب لأنه ملتوٍ، ولأنه لا يستوعب الضب ولا يستره، ولا يفي بحاجته، ومع ذلك يصر المسلمون على أن يتبعوهم وأن يحصروا أنفسهم في جحر الضب! وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يأتي على الناس زمان يصدق فيه الكاذب، ويكذب فيه الصادق، ويخون فيه الأمين، ويؤتمن فيه الخائن، وينطق فيه الرويبضة.
قيل: ومن الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذه الحادثة كشفت أحد أعراض مرض التبعية والانهزامية التي تغلغلت في قلوب كثير من المسلمين، وهي تذكرنا بقول ابن خلدون رحمه الله تعالى حينما تكلم عن أن المغلوب مولع دائماً بتقليد الغالب، وتكلم عن أمارات تشبه المسلمين في الأندلس في ذلك الوقت بالأسبان أو بالكفار، إلى أن قال: وذلك من أمارات -أو علامات- الاستيلاء.
فقد تنبأ بسقوط الأندلس، وكان عمدته في ذلك أنه رأى المسلمين بدءوا يقلدون الكفار، فعد ذلك من أمارات الاستيلاء، وأن هذا سينتهي بهم في النهاية إلى أن يذوبوا في هذه الأمة التي يقلدونها.(83/5)
الحادثة وما يستفاد منها
وموضوع التماثيل في الحقيقة لا نريد أن نقول عنه: رب ضارة نافعة؛ لأنها -إن شاء الله- ليست ضارة، لكن مثل هذه الأحداث قد تكون نعمة من الله سبحانه وتعالى تلفت نظر الناس إلى أمور مهمة جداً؛ لأن حكم الشرع في التماثيل مما ينبغي أن يشاع العلم به بين المسلمين؛ لأننا نرى من المسلمين من يزين بيته بالتماثيل، سواء في مدخل البيت أو الفيلا أو في داخل الحجرات، وهذه شائعة في مجتمعاتنا، فهذا الأمر -أيضاً- يؤكد ضرورة الوقوف على هذا الأمر.
وإن الكلام عن موضوع علاقة المسلمين بالغرب أو بالكفار عموماً مهم، فإنه لما استنفر كل العالم الغربي علينا وحصل ما حصل جاء الدور ليستنفر العالم الشرقي الوثني عابد الأوثان على المسلمين أيضاً، وعليه فإننا ما زلنا نؤكد الحقيقة التي ينبغي أن يفقهها كل مسلم، وهي أن التفسير الوحيد الصحيح للتاريخ هو أنه صراع بين الإسلام والكفر، كل التاريخ من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة يدور حول هذا المحور، وصحيح أنه يؤخذ صوراً أخرى، لكن هذا هو جوهر الصراع، فهو صراع بين الإسلام والكفر، بين الإسلام الذي أتى به جميع الأنبياء من لدن آدم عليه السلام إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وبين الكفر بكل ألوانه واتجاهاته.(83/6)
أثر العولمة في زعزعة العقائد
إننا الآن نعيش في عصر ما يسمى بالعولمة، أو النظام العالمي الجديد الذي رسمت ملامحه أمريكا بكل صلف واستبداد، والذي يهدف إلى توطيد دعائم الود والتفاهم والسلام والأخوة الإنسانية أو الأخوة الحمارية.
أريد أن أقول: إن المقصود من هذه الأمور أن توطد دعائم الود والتفاهم بين الحمار وراكبه، فهذه نظرة أمريكا للعالم عموماً وللعالم الإسلامي -للأسف- على وجه الخصوص! فالناس كلهم صاروا يتنفسون هذا الهواء المسمم، ولذلك نحن لا نحس بهذا التسمم إلا إذا فتحنا نافذة للهواء النقي الذي يهب علينا من عصور الإسلام الأولى ومن الكتاب ومن السنة.
وقد تواضعوا الآن على جملة من المفاهيم قدسوها تقديساً، وشنوا الحملات الشرسة على كل من يخالف هذه المفاهيم، وهذا بمنتهى البساطة لا يلزم المسلمين؛ لأنه لا يمثل لنا أي مرجعية.
وهنا يأتي موضوع المقايضة، ومعناه: أن تتنازل لي عن شيء من عقيدتك وأتنازل لك عن شيء من عقيدتي.
وهذا المنطق موجود، لكن وجوده لا بأس به بين الأديان الباطلة بعضها مع بعض، كل واحد يتنازل حتى يلتقي الجميع في منتصف الطريق، أما المسلمون فلا يمكن أبداً أن يقبلوا مبدأ التنازل عن موقف الإسلام من الأصنام، فهذا غير قابل على الإطلاق للتحوير أو المغالطة، وهذا هو ما كشفته بجلاء سورة الكافرون، وقد جاء الرد فيها حاسماً لأطماع هؤلاء الكافرين.
فمبدأ (تنازل لي وأتنازل لك) بحجة الأعراف الدولية والقانون الدولي والتراث الإنساني إلى آخر ذلك الكلام؛ هذا موضوع يسري بينهم، وعندهم قابلية للتنازل إلى أبعد مدى، حتى لو خلعوا دينهم بالكلية كما حصل من الغرب مع النصرانية، وإن لم يخلعوا ثوب التعصب والحقد الأعمى على المسلمين.
والحاصل أن الدين الحق غير قابل على الإطلاق لأن يدخل في هذه المقايضة.
وكما قلت فهذه الحادثة كشفت عن المدى الذي وصلت إليه البشرية من الانحطاط والتدهور، وأثبتت أن المسلمين هم أرقى الأمم على الإطلاق، وأقصد المسلمين الذين هم موحدون؛ لأن كل المسلمين -والحمد لله- موحدون، فنحن المسلمين أرقى الأمم وأعقل الأمم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا توجد أمة على الإطلاق في عقل المسلمين.
وصحيح أن هناك تخلفاً في النواحي المادية وغير ذلك، وهذه قضية أخرى، لكن لا يوجد في جوهر الحياة والغاية من الحياة -وهي عبودية الله سبحانه وتعالى- أمة ترتقي إلى مستوى هذه الأمة الإسلامية.(83/7)
مصطلحات القانون الدولي ومناقضتها لمبادئ الإسلام
أما موضوع القانون الدولي ونحوه من العبارات التي يطلقونها فنحن لا ننخدع بالقانون الدولي والأعراف الدولية والتقاليد والذم، وقول: هذه وحشية وبربرية، والتماثيل إبداع وفن وتراث إنساني إلى آخر هذا الكلام.
ونقول لهؤلاء الناس: ألم يدافعوا عن سلمان رشدي من قبل بحجة الإبداع، وأن سلمان رشدي له حرية الكاتب في أن يعبر عما شاء، في حين أنّه لما رفع المسلمون قضية في القضاء البريطاني تطالب بمحاكمته طبقاً للقانون الإنجليزي قالت بريطانيا والغرب معها: لا؛ فالقانون الإنجليزي يحمي النظام الملكي فقط، فلا أحد يسب الملكة وإلا فإنه يعاقب ويُجرّم، أما ما عدا ذلك فالقانون لا يحميه.
فالشاهد أن هذا من تسمية الأشياء بغير مسمياتها، واللعب بالاصطلاحات، وإظهار الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل، عن طريق إضفاء أسماء منفرة أو أسماء جذابة، كتسمية هذه الأشياء إبداعاً، أو فناً جميلاً، أو رقياً، أو تحضراً إلى آخر هذه الأسماء.
وفي عقيدتنا -باختصار شديد- أن تعظيم التماثيل وعبادتها من دون الله هو قمة انحطاط البشرية، وهل هناك نقاش عند أي عاقل في أن إنساناً يصنع التماثيل بيده ثم يعبدها وهو أكمل منها وأعقل منها، لهو أحمق؟ يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
فموضوع منظومة القيم والمبادئ التي عندنا -نحن المسلمين- تختلف تماماً عما هي عند الغرب وعند الشرق بكل وضوح، فلا نستطيع إطلاق القول بأن الإسلام يعمل نوعاً من الفلترة أو الترشيح للتراث، ليس كل تراث الإسلام يقبله، فالإسلام لما دخل وأشرق نوره في ربوع الأرض كلها في الزمن القديم حصل نوع من الترشيح والفرز لهذا التراث في كل بلاد دخلها، وصبغها بصبغة دين الحق، وألغى ما يتعارض مع عقيدته وشريعته، فما يلهج به بعض الناس كل حين فيتكلمون ويجعلون هذه الجملة قاسماً مشتركاً بين كل المقالات التي نشرت، وهي أن هذه التماثيل موجودة قبل أن يدخل الإسلام هذه البلاد، ولها أقدمية فينبغي أن تحترم؛ كل هذا غير صحيح؛ فدين الإسلام ناسخ لكل ما عداه من الأديان السماوية، فما بالك بالأديان الوثنية الأرضية؟! أتدري ما الإسلام؟ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9] وتأمل قوله تعالى: (ولو كره المشركون)، فالموقف الطبيعي أنهم يكرهون ذلك.
فموضوع التراث البشري واحترام عقائد الآخرين ليس بصحيح على إطلاقه، فلو عثر على صليب عمره ألف وثلاثمائة سنة -مثلاً- فهل نقول: هذا تراث بشري ينبغي أن نحافظ عليه، أم أن هذا رمز من رموز الكفر والتكذيب بالله ولرسل الله؟ فإن قيل: هذا تراث بشري يحافظ عليه قلنا: إذا كنتم تحترمون عقائد الآخرين فلا تذبحوا البقر؛ لأن الهندوس سيغضبون وسيغارون على آلهتهم ويمنعون ذبح البقر؛ لأنها آلهتهم، وهي عندهم أفضل من أمهاتهم، كما كان غاندي يدافع عن البقر، وينشد في ذلك كثيراً من الكلام، فالمفروض أن لا تذبح البقر من أجل التراث البشري، بل إن هذا أهم عندهم من التراث، وهو الإله نفسه! ولا حول ولا قوة إلا بالله! وسنقول كذلك: لا تقتلوا الفئران؛ فهناك في شرق آسيا من يعبدون الفئران، وروى أحد الإخوة أنهم وهم جالسون في مكان عام يأكلون الأرز كان الفأر يصعد على الطبق ويصعد على رأس أحدهم ولا يمس بسوء؛ لأن هذا إله عنده! ويقيمون معابد من الرخام الأبيض حتى تعبد فيها الفئران، فلا داعي لقتل الفئران، من باب احترام تراث الآخرين.(83/8)
موقف الإسلام من الأديان وأهلها
وهناك موضوع مهم جداً في هذه المسألة، وهو كلمة: (الإسلام يحترم الأديان الأخرى).
فالإسلام لا يمكن أن يحترم الأديان الأخرى أبداً، الإسلام يحفظ لأهل الأديان حقوقهم التي شرعها الله سبحانه وتعالى، أما الاحترام فلو احترم الإسلام الأديان الأخرى لكان المعنى أن الإسلام يهدم نفسه حين يحترم الأديان التي تصفه بأنه باطل، والتي تدعو إلى الشرك، وهذا من التجاوز في التعبير، فالإسلام يحترم حقوق أهل الأديان الأخرى التي شرعها لهم الله سبحانه وتعالى.
يقول بعض الكاتبين -وهي مقالة في مجلة العصر-: أخبرني أحد العلماء قال: قرأت في سيرة صلاح الدين الأيوبي لـ ابن شداد أن ملك الإنجليز كتب رسالة لـ صلاح الدين فيها طلب الصليب، الذي يزعمون أن المسيح -والعياذ بالله- صلب عليه، وكان قد غنمه صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فبعث ملك الإنجليز يخاطب صلاح الدين يقول له: وأما الصليب فهو خشبة عندكم.
أي: هو عندكم -معشر المسلمين- قطعة خشب ليس له قيمة.
يقول الملك: وأما الصليب فهو خشبة عندكم لا مقدار له، وهو عندنا عظيم، فليمن به السلطان علينا.
فأجابه صلاح الدين رحمه الله: وأما الصليب فهلاكه عندنا قربة عظيمة، لا يجوز لنا أن نفرط فيها إلا لمصلحة راجعة إلى الإسلام هي أوفى منها.
فما كان ذا قيمة تاريخية أو روحية أو عقدية عند أهل الشرك ليس بالضرورة أن يكون ذا قيمة لدى أهل التوحيد والإسلام، والعكس بالعكس، فالمسلم الفلسطيني الغارق في دمائه على يد علج يهودي هو في نظر قاتله لا يساوي الرصاصة التي رمي بها، رغم أن هدم بيت الله حجراً حجراً أهون على الله من سفك دم امرئ مسلم كما جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
فصنم بوذا لدى المشركين البوذيين أو غيرهم هو أثر تاريخي وقيمة تراثية، لكن عند المسلمين لا يعدو أن يكون صنماً حجرياً عبده من دون الله من لا خلاق لهم في الآخرة، وحقه أن يفعل به ما فعل بإخوانه من قبل، فيضحى به على اسم الله، ويقال ما قاله أكرم البشر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو يهدم الأصنام بيده: ({جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81])، فإن اعترض معترض قلنا له ما قاله الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63] فلماذا لم يدفع عن نفسه البارود والمدافع ونحو هذه الأشياء؟!(83/9)
مواقف دعاة التنوير الخبثاء
ويخرج من يسمون أنفسهم بالمستنيرين -وهم في ضلالهم يعمهون- والعلمانيين -وهم في جهلهم سادرون- يقول أحدهم -للأسف الشديد-: أتى ذات مرة رجل من قوات طالبان فزارني إلى منزلي وصلى فيه، فشك في الصلاة وأعاد الصلاة بعد ذلك لأن منزلي به أصنام! فيحكي أن هذا إنسان متخلف شك في الصلاة، يقول: لما صلى في البيت عندي وعرف أن هناك تماثيل في الحجرة شك وأعاد الصلاة بعد ذلك خارج البيت! فكأنه يتكلم عن مخلوق جاء من كوكب آخر! فما هذا الإنسان الغريب؟! فهو يحكي الكلام لأناس بنبرة استنكار، فلماذا يغضب الطالباني هكذا على الصنم؟!(83/10)
موقف الإسلام من الشرك وذرائعه
وإذا تأملنا في حال الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، وهي شجرة ذات بعد تاريخي حقيقي، نجد أن عمر رضي الله تعالى عنه عندما خاف من أن تكون ذريعة إلى الشرك، اقتلعها من جذورها، فكيف بـ بوذا المعبود من دون الله؟! فبعد أن: كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا صرنا نرى الأصنام من حجر فنرفعها لنرضي بعدها الكفارا فليعلم بالضرورة أن الإسلام هو دين التوحيد، وأنه عدو الأصنام، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
وحينما نقول: (الإسلام) فلا نقصد رسالة النبي محمد عليه الصلاة والسلام فحسب، وإنما الإسلام الدين الوحيد الذي نزل من السماء على جميع الأنبياء والمرسلين عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
جاء خاتم الرسل والنبيين صلى الله عليه وسلم فنشر الله به التوحيد، وأعلى مناره، ودك به حصون الشرك ومحى أثره.
ثم إن الإسلام ازداد غربة يوماً بعد يوم إلى أن صارت قطعيات الدين وقطعيات التوحيد محل نقاش وسؤال عند كثير من الجهلة، مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ).
ونقول ما قاله بعض العلماء الأفاضل: لا يشك صبيان أهل التوحيد وأطفالهم في أن مثل هذا العمل من أعظم القربات وأجل الطاعات، وهو ما بعثت له الأنبياء وأرسلت الرسل، وما كنا نظن أن يأتي زمان نحتاج فيه إلى أن نثبت بالأدلة أن هدم الأوثان والأصنام وأوكار الشرك من أعظم واجبات الدين، ولكننا في زمن أتى بالعجائب.(83/11)
الأدلة الشرعية على حرمة صنع تماثيل ذوت الأرواح
يقول الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، لقد احتاط الإسلام أشد الاحتياط في قضية التوحيد، وتواترت النصوص الصحيحة الصريحة على تحريم عمل التماثيل ذوات الأرواح مطلقاً، وقد حكى الإجماع على تحريم ذلك غير واحد من العلماء.
فمن تلك الأدلة: ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الذين يصنعون الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم) وكلمة (الصور) تشمل فيما تشمل التماثيل، بل أولى شيء أن يدخل في الصور هو التمثال.
وفي الصحيحين -أيضاً- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون).
وفيهما -أيضاً- عن سعيد بن أبي الحسن قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: إني رجل أصور هذه الصور، فأفتني فيها.
فقال له: ادنُ مني.
فدنا منه، ثم قال: ادن مني.
فدنا منه، حتى وضع يده على رأسه، قال: أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفساً فتعذبه في جهنم) وقال: إن كنت -ولا بد- فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له -يعني: ما لا روح فيه.
وفي الصحيحين أيضاً عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله).
وفي صحيح البخاري عن أبي جحيفة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المصور).
وفيهما -أيضاً- عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صور صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ).
وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة).
وعن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصورة في البيت، ونهى أن يصنع ذلك) رواه الترمذي وصححه.
وروى -أيضاً- الترمذي -وصححه- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين).
وروى الإمام أحمد من حديث عاصم عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبياً، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين) و (ممثل) معناه: صانع التماثيل.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه تماثيل أو تصاوير).
وفي حديث أبي طلحة: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة).
وعن معاوية رضي الله تعالى عنه أنه خطب الناس فذكر في خطبته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم سبعة أشياء، وذكر منها التصاوير.
وهذه الأحاديث دلالتها ظاهرة جداً على تحريم الصور ذوات الأرواح بكافة أشكالها، وعلى أن ذلك من الكبائر، فلعن المصور، وبيان أنه أشد الناس عذاباً يوم القيامة، وأنه من أظلم الناس، وبيان أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تمثال أو صورة يندر أن نجد مثله يتحقق في محرم من المحرمات.
يقول الإمام النووي رحمه الله: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم - أي ما فيه روح- وهو من الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث.
ونلاحظ -أيضاً- من هذه النصوص أن التحريم أتى عاماً لم يستثن فيه شيء، ولم يفرق فيه بين تمثال وآخر، فلم يفرق بين كونه تمثالاً يعبد أو لا يعبد، أو تمثالاً مأخوذاً للزينة، أو تمثالاً لحفظ التراث والسجل البشري الذي يقاس عليه تاريخ الأمم إلخ، أو كان التمثال صغيراً أم كبيراً، حديثاً أم قديماً، فيلاحظ في الأحاديث أن صيغها صيغ عموم؛ ففي قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (من صور صورة) (من) هذه من صيغ العموم، وقوله: (كل مصور في النار) (كل) صيغة عموم، وقوله: (لا تدع صورة إلا طمستها) لفظ (صورة) نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون) (أل) هنا في قوله (المصورون) للاستغراق، فتفيد العموم.
فإذاً الشريعة تحرم التماثيل أياً كان نوعهاً، سواء اتخذت للعبادة أو كانت لا تعبد، والأحاديث تتناول كافة أشكال التماثيل والتصاوير بمعناها ومعقولها فتشملها علة التحريم.(83/12)
علة تحريم صنع التماثيل أو اقتنائها(83/13)
سد ذريعة الشرك بالله جل جلاله
أما علة التحريم فلأنّ اتخاذ الأصنام والتماثيل ذريعة لعبادتها من دون الله تبارك وتعالى، وطريق للغلو فيها وتعظيمها، وهذا الذي وقع بالفعل، فقد كانت أول ذريعة لوقوع الشرك في بني آدم ما ذكر في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قول الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23].
قال ابن عباس: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كان يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم.
ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت هذه التماثيل.
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول: ألا فليتبع كل أناس ما كانوا يعبدونه، فيمثل لصاحب الصليب صليبه، ولصاحب التصاوير تصاويره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما كانوا يعبدون).
قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98].
يقول الإمام ابن القيم: وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
فهؤلاء القوم -كما يقول بعض العلماء- اجتمع فيهم الفتنتان: فتنة التماثيل وفتنة القبور.
والفتنتان جمعهما النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال عليه الصلاة والسلام: (أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح -أو الرجل الصالح- بنوا على قبره منزلاً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله تعالى).
وعن مجاهد في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم:19] قال: كان اللات رجلاً صالحاً يلت لهم السويق، فمات فعكفوا على قبره.
وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج.
فتعظيم القبور واتخاذ التماثيل كان -بلا شك- هو الذريعة إلى عبادتها من دون الله.
يقول الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله تعالى: والذي أوجب النهي عنه في شرعنا -والله أعلم- ما كانت العرب عليه من عبادة الأوثان والأصنام، فكانوا يصورون ويعبدون، فقطع الله الذريعة وحمى الباب، فإن قيل: فقد قال حين ذم الصور وعملها من الصحيح قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من صور صورة عذبه الله حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ)، وفي رواية: (الذين يشبهون بخلق الله) فعلل بغير ما زعمتم -يعني: أن العلة علة أخرى، وهي مضاهاة خلق الله-! قلنا: نهى عن الصورة، وذكر علة التشبيه بخلق الله، وفيها زيادة علة عبادتها من دون الله، فنبه على أن نفس عملها معصية، فما ظنك بعبادتها؟! وقد ورد في كتب التفسير شأن يغوث ويعوق ونسر، وأنهم كانوا أناساً، ثم صوروا بعد موتهم وعبدوا، يقول الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى: وقد شاهدت بثغر الإسكندرية إذا مات منهم ميت صوروه من خشب في أحسن صورة، وأجلسوه في موضعه من بيته، وكسوه بزته إن كان رجلاً، وحليتها إن كانت امرأة، وأغلقوا عليه الباب، فإذا أصاب أحداً منهم كرب، أو تجدد لهم مكروه فتح الباب عليه، وجلس عنده يبكي ويناديه بكان وكان.
حتى يكسر سورة حزنه بإهراق دموعه، ثم يغلق الباب عليه وينصرف عنه.
وإن تمادى بهم الزمان عبدوها من جملة الأصنام والأوثان.
إذاً العلة الأولى هي سد الذريعة إلى عبادتها من دون الله.(83/14)
مضاهاة خلق الله تعالى بها
العلة الثانية: أن فيها مضاهاة لخلق الله تعالى، فالذين يتكلمون في الفضائيات والمجلات والجرائد إما أنهم جهلة وإما أنهم مدلسون؛ لأنهم يخفون الحقيقة، فهم يدلسون في الكلام، وإنه ليشك في نزاهة هؤلاء الناس أو كثير منهم، فهم يحرصون على دعوى أن الناس قد ترقوا، والعقيدة راسخة لا يضرها وجود التماثيل إلى آخر هذا الكلام.
فنقول: هل العلة -فقط- هي سد الذريعة دون عبادتها؟
و
الجواب
لا، فهناك علة أخرى ما زالت قائمة، وهي علة مضاهاة خلق الله؛ لأنه كما يحرم على المخلوق أن يشبه الله بالمخلوق، فكذلك يحرم عليه أن يتشبه بفعل من أفعال الخالق سبحانه وتعالى، فلا نشبه الله بخلقه ولا نتشبه المخلوق بفعل هو من خصائص الخالق وهو التصوير والخلق، فهناك مضاهاة لخلق الله تبارك وتعالى كما جاء في الحديث: (الذين يضاهون بخلق الله) وقال: (الذين يشبهون بخلق الله)، ويقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي)، وأيضاً في الحديث: (كلف أن ينفخ فيها الروح)، أي: كلف على سبيل التعجيز له أن ينفخ فيها الروح.
إذاً هذه العلة ظاهرة ثابتة ولا تنسخ، ولا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا بتغير حجم التماثيل والتصاوير واختلافها، يقول الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: وقد تظاهرت دلائل الشريعة على المنع من التصوير والصور، ولقد أبعد غاية البعد من قال: إن ذلك محمول على الكراهة، وإن هذا التشديد كان في ذلك الزمان لقرب العهد من الأوثان، وهذا الزمان حيث انتشر الإسلام وتمهدت قواعده لا يساويه في هذا المعنى، فلا يساويه في هذا التشديد.
يقول ابن دقيق العيد رحمه الله: وهذا عندنا باطل قطعاً؛ لأنه قد ورد في الأحاديث الإخبار عن أمر الآخرة بعذاب المصورين، فإنهم يقال لهم: (أحيوا ما خلقتم) وهذه علة مخالفة لما قاله هذا القائل، وقد صرح بذلك في قوله: (المشبهون بخلق الله)، وهذه علة عامة مستقلة مناسبة لا تخص زماناً دون زمان، وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة المتظافرة بمعنى خيالي يمكن أن لا يكون هو المراد مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره، وهو التشبيه بخلق الله تبارك وتعالى.
اهـ(83/15)
التشبه بالمشركين
وهناك علة أخرى، وهي: أن في اتخاذ التماثيل تشبهاً بالمشركين وعباد الأوثان، وقد ثبت في السنن عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من تشبه بقوم فهو منهم).(83/16)
منعها دخول الملائكة البيوت وأماكن وجودها
وهناك علة أخرى، وهي أنها مانعة من دخول الملائكة، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تصاوير)، وهذا عام، فهذه العلة تدل على أن كافة التماثيل تدخل في هذا الحكم، وإن كانت متخذة للعبادة فإن ذلك يكون من باب أولى مع وجود العلل الأخرى.
إذاً هي محرمة على كل حال.
وأيضاً: إذا تأملنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن هذا التحريم عام وشامل لجميع أشكال التماثيل، أما ما اتخذ من أجل العبادة من دون الله فلا شك أنه قد تواترت الأحاديث في هدمه ومحوه وإزالته.
أما ما لا يتخذ للعبادة فقد روى الترمذي -وصححه وأبو داود - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيت البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان في باب البيت تمثال الرجال -وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب- فمر برأس التمثال الذي بالباب فليقطع فليصر كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع ويجعل منه وسادتان منتبذتان توطآن، ومر بالكلب فيخرج.
ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) أو كما جاء في الحديث.
فهل كان التمثال الذي في البيت يتخذ للعبادة؟! معاذ الله! ومع ذلك أمره جبريل بأن يزيله.
وكذلك أنكر النبي عليه الصلاة والسلام على عائشة القرام الذي فيه التصاوير، فهل كان يتخذ للعبادة؟ لا.
ومن المعروف أن الإسلام عدو الأوثان وعدو الأصنام، يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] فأدخل الأنصاب، وقال: (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه).
ومن تأمل يجد كل الأدلة من القرآن أو من السنة بأنواعها القولية أو الفعلية أو التقريرية تنهى عن ذلك، ثم يأتي أيضاً الدليل الآخر وهو واقع المسلمين والتاريخ الذي يحاول أن يزوره هؤلاء المخادعون المدلسون.
ومن الغريب أنهم عندما يتكلمون لا يتطرقون إلى أي شيء من هذه الأدلة، فلا يوجد أحد منهم أتى بأحاديث أو آيات إلا لماماً، يأتي بها في سياق التأويل من أجل إخضاعها لأهوائهم وأغراضهم.(83/17)
موقف الأنبياء عليهم السلام من الأصنام والأوثان(83/18)
موقف إبراهيم الخليل عليه السلام
ولنتأمل قول الله تبارك وتعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57]، {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات:91 - 92] فإبراهيم عليه السلام ما كان له أتباع كثيرون، وكان غريباً في قومه، ومع ذلك قام بتحديهم بتكسير هذه الآلهة وهذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله، والله سبحانه وتعالى قال لنا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4].
أي: لكم أسوة حسنة في إبراهيم في هذه الأشياء التي ذكرت من مباينة الكفار ومعاداتهم وترك موالاتهم، إلا في قوله لأبيه: (لأستغفرن لك) فإنه لا أسوة لكم في هذا.
فاستثناء هذا الأمر وحده دليل على أنه أسوة فيما عدا ذلك، فيؤخذ منه مشروعية تكسير هذه الأصنام.
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:74].
ويقول الله تبارك وتعالى -أيضاً-: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، وفي صحيح البخاري وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً -وفي رواية: نصباً- فجعل يطعنها بعود في يده، وجعل يقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]).
يقول القرطبي: في هذه الآية دليل على كسر نصب الأوثان إذا غَلب عليهم.
فهنا أمر مهم جداً، ونحن نقر به، وهو أن تكسير هذه الأوثان مرتبط بفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مشروط بالقدرة، وستلاحظ كلام العلماء فانتبه واستصحب هذا، فالعلماء عندما يتكلمون يشترطون ويقولون: موضوع التمكين والغلبة.
بدليل أن الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه في المرحلة المكية كانت الأصنام حول الكعبة فما أزالها، لكن حينما دخلها فاتحاً كسر هذه الأصنام، فعنصر التمكين هنا لابد من أن يؤخذ في الاعتبار.(83/19)
موقف موسى الكليم عليه السلام
إن هدم الأصنام أمر جرى عليه فعل الأنبياء، فقد قال الله تبارك وتعالى في قصة موسى عليه السلام في شأن العجل الذي اتخذه قومه إلهاً من دون الله: {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه:97].
فهكذا فعل موسى -أيضاً- مع عجل السامري، مع أن الله سبحانه وتعالى قال عن أنبياء ومنهم موسى عليهم السلام: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] فمن هنا نستدل بفعل موسى عليه السلام؛ لأنّ قدوتنا أمر بالاقتداء بهم، وأمر القدوة أمر لأتباعه.(83/20)
هدم النبي صلى الله عليه وسلم أصنام الكعبة وأمره بهدم غيرها
وقد تواتر هدم النبي عليه الصلاة والسلام لأصنام الجاهلية بيده الشريفة، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يشير إلى الأصنام ويطعنها ويكسرها حينما دخل مكة فاتحاً، جاء في صحيح البخاري ومسلم: (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعنها بالقوس ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49])، فجعلت تخر وتتساقط على وجوهها.
وفي الصحيحين أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث جرير بن عبد الله البجلي مع سرية لكسر صنم ذي الخلصة في اليمن.
وروى ابن سعد وغيره: أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث خالد بن الوليد إلى نخلة لهدم العزى، والقصة في ذلك معروفة.
وبعث النبي عليه الصلاة والسلام المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب إلى الطائف لهدم اللات.
وروى ابن سعد: أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث علي بن أبي طالب إلى الفلس -وهو صنم طيّئ- لهدمه.
وروى ابن سعد: أنه أيضاً بعث عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع لكسره، وهو عمرو بن العاص الذي يفتري عليه المفترون، ولا يستحون من الله حيث يدعون أن عمرو بن العاص رأى الأصنام وأقرها! وربما يكون رآها وما استطاع هدمها، لكن أن يرى ما يقدر على كسره من الأصنام والأوثان ولا يفعل، كيف يظن هذا بـ عمرو بن العاص رضي الله عنه الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (ابنا العاص مؤمنان: عمرو، وهشام) رضي الله تعالى عنهما، بل ذهب بعضهم إلى الافتراء على عمرو، حيث يقولون: إن عمرو بن العاص صك عملة على أحد وجهيها الصليب! فالله المستعان! وهل كان في أيامه عولمة؟! كذلك روى ابن سعد أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين -وهو صنم دوس -لتحريقه.
وروى ابن سعد أنه عليه الصلاة والسلام بعث سعد بن زيد الأشهلي إلى المشلل لهدم مناة.
فهل كان الرسول وأصحابه يدمرون الآثار، ويهدمون الحضارة والتراث الإنساني، أم كانوا ينظفون العقول ويغسلون القلوب من أوضار الشرك ورجس الوثنية؟!(83/21)
محاربة النبي صلى الله عليه وسلم للأصنام
في صحيح مسلم عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! بأي شيء أرسلك الله؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيئاً).
سأله: بم أرسلك؟ فذكر من جملة ما ذكر كسر الأوثان.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يوصي أصحابه بذلك، فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته).
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: إن كانت ملونة - أي: إن كانت لوحة ملونة- فَطَمْسُها بوضع لون آخر يزيل معالمها، وإن كانت تمثالاً فإنه يقطع رأسه.
ثم قال: وظاهر الحديث عام، سواء أكانت تعبد أم لا.
وهناك رواية أخرى لحديث أبي الهياج قال: قال لي علي رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) وعند أحمد بلفظ: (وأن أطمس كل صنم) وفي رواية أخرى -أيضاً- عند أحمد: (وأن تلطخ كل صنم).
وجاء الوعيد الشديد لمن نصب الأصنام والأوثان، كما حدث للطاغية عمرو بن لحي الخزاعي إمام الشرك والوثنية في قريش، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في المناقب في باب قصة خزاعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار -يعني: يجر أمعاءه في النار- وكان أول من سيب السوائب) قال ابن كثير: عمرو بن لحي أحد رءوس خزاعة، وكان أول من غير دين إبراهيم عليه السلام فأدخل الأصنام إلى الحجاز.
فالأدلة كثيرة -كما قلنا- من السنة القولية والسنة العملية، وسرايا النبي صلى الله عليه وسلم التي أرسلها لكسر هذه الأصنام تؤكد ذلك، ومعروف أن العزى واللات ومناة الثالثة هي أعظم أصنام العرب، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]، ومع أنها كانت معظمة جداً عند العرب إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكترث ولم يخش من أن تجتمع عليه العرب بأجمعها، فجعلها كلها جذاذاً ولم يدع منها شيئاً.
وروى البخاري في مغازيه قال: قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تريحني من ذي الخلصة -أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان حزيناً من وجود هذا الصنم الذي يعبد من دون الله-؟ قال: فنفرت في مائة وخمسين راكباً فكسرناه) إلى آخر الحديث.
وثقيف سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم صنمهم اللات لا يهدمها ثلاث سنين، وألحوا على الرسول عليه الصلاة والسلام في أن يؤجل هدم الصنم ثلاث سنين، فأبى، فما برحوا يسألونه ويأبى عليهم، فألحوا على أن يؤجل تحطيمها سنة ويأبى عليهم، حتى سألوه شهراً واحداً فأبى أن يدعها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما يهدمانها، فهدماها في مشهد عظيم.
يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- في فقه هذه القصة في زاد المعاد: ومنها هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيوتاً للطواغيت، وهدمها أحب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنفع للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير.
وهذا حال المشاهد المبنية على القبور التي تعبد من دون الله، ويشرك بأربابها مع الله، فإنه لا يحل إبقاؤها في الإسلام، ويجب هدمها.
فإذاً رسولنا صلى الله عليه وسلم -أيضاً- هو محطم الأوثان والتماثيل.(83/22)
موقفه صلى الله عليه وسلم من الصور والصلبان
وفي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متسترة بقرام فيه صورة، فتلون وجهه فهتكته، ثم قال: إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله).
وروى ابن أبي شيبة عن أسامة رضي الله عنه قال: (دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، فرأيت في البيت صورة، فأمرني فأتيته بدلو من الماء، فجعل يضرب تلك الصورة ويقول: قاتل الله قوماً يصورون ما لا يخلقون)، ولم يصل النبي عليه الصلاة والسلام داخل الكعبة إلا بعد أن أزيلت منها هذه الصور.
فأين موقف ذلك الشخص المستنير المثقف الذي يشتكي أن أحد قوات طالبان صلى في بيته، ثم أعاد الصلاة وشك في صحتها؛ لأنه كان هناك تماثيل في الحجرة بعد أن اكتشف الأمر، في صيغة التهكم والتحقير؛ أين هو من فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟! ودائماً يتكلمون معنا باستعلاء، وإذا قالوا كلمة: (سلفية) فبالاحتقار والازدراء، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) فكيف إذا كان هذا هو المحق وأنت المبطل المدافع عن الأوثان؟! فهذا يتكلم بنوع من الأنفة والغرور والاستعلاء بأن هؤلاء أناس متخلفون وجهلة! وعن أبي محمد الهذلي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فقال: أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثناً إلا كسره، ولا قبراً إلا سواه، ولا صورة إلا لطخها؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله.
فانطلق فهاب أهل المدينة فرجع، فقال علي رضي الله عنه: أنا أنطلق يا رسول الله.
قال: فانطلق.
فانطلق ثم رجع، فقال: يا رسول الله! لم أدع بها وثناً إلا كسرته، ولا قبراً إلا سويته، ولا صورة إلا لطختها).
وروى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه) وبوب عليه البخاري رحمه الله تعالى: (باب نقض الصور).
وروى الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: ما هذا يا عدي؟! اطرح عنك هذا الوثن) أو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ليوشكن ابن مريم أن ينزل حكماً مقسطاً فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد).(83/23)
بين العقيدة والفتوى في التماثيل والصور
تكسير الأصنام والأوثان حث عليه الشرع أولاً بدلالة السنة، حيث كسر الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه الأصنام كما في فتح مكة، وكذلك بعثه للسرايا لكسر الأصنام الأخرى، والأمر المطلق للصحابة بكسر الأصنام، وبيان أنه بعث لكسر الأصنام، وهتكه للصور التي رآها.
أما ما يذكره هؤلاء الناس فنحن نقول لهم باختصار شديد: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وهناك أمر يعبر عنه الأجانب باصطلاحين مهمين جداً في هذه المسألة، وهو الشيء التكتيكي والاستراتيجي، فالتكتيكي هو مثل الفتوى عندنا، الفتوى من حيث مطابقتها وملاءمتها مع الواقع، والاستراتيجي يعني أنه عقيدة وفكر لا يتغير أبداً، ولا يتنازل الإنسان عنه.
ففي هذه القضية جانب فقهي نظري -الذي هو الاستراتيجي من ناحية العقيدة والأدلة- فهو الحكم الشرعي، وهناك جانب واقعي تطبيقي -وهو التكتيكي- وهو ربط ذلك الأمر بالواقع، وهذا ما سنوضحه إن شاء الله تعالى فيما بعد.
فنحن نقول لهؤلاء: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يليق أن يأتي بعد ذلك من يفرض علينا انهزاميته أمام الغرب بحجة مجاراة العصر والحضارات الكافرة، وينسى أنه قد وافق الكفار ووقف معهم في خندق واحد للأسف الشديد.
وهذه الشبه التي يلقونها على المسلمين هي لتخذيل أمة الإسلام عن أن تتم رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} [القصص:86]، ويقول تعالى على لسان موسى عليه السلام: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17]، وقال تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:105]، وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء:107]، وقال تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].(83/24)
أقوال السلف ومواقفهم تجاه الصور والتماثيل
وهنا نذكر بعض أقوال السلف الصالح رحمهم الله في هذه المسألة: فقد روى ابن أبي شيبة عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يصلي إلى تابوت فيه تماثيل، فأمر به فحك.
أي أزيلت هذه التماثيل.
وروى البيهقي في سننه عن أبي مسعود رضي الله عنه أن رجلاً صنع له طعاماً فدعاه، فقال: أفي البيت صورة؟ قال: نعم.
فأبى أن يدخل حتى كسر الصورة ثم دخل.
وروى الإمام أحمد عن المسور بن مخرمة أنه دخل على عبد الله بن عباس يعوده، فرأى عليه ثوب إستبرق، فقال: يا ابن عباس! ما هذا الثوب؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما: وما هو؟ قال: الإستبرق.
قال: إنما كره ذلك لمن يتكبر فيه.
قال: ما هذه التصاوير في الكانون؟ فقال: لا جرم، ألم تر كيف أحرقتها بالنار؟ فلما خرج قال: انزعوا هذا الثوب عني، واقطعوا رءوس هذه التصاوير التي في الكانون.
وروى ابن أبي شيبة عن محمد بن سيرين أنه كان لا يُترك لأهل فارس صنماً إلا كسر، ولا ناراً إلا أطفئت.
وروى أبو الشيخ عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عدي بن أرطأة أن يمحو التماثيل المصورة.(83/25)
المذاهب الفقهية وموقفها من التماثيل والصور(83/26)
المذهب الحنفي
ولا بأس -أيضاً- أن نذكر أقوال بعض الفقهاء، وهي كثيرة جداً في المذاهب الأربعة المتبعة: جاء في (مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر) قوله في الشريعة: (قتل الكفار ونحوه إلى قوله: وكسره أصنامهم).
والمراد الاجتهاد في تقوية الدين.
أما السرخسي فقد قال في شرح السير الكبير: ولو وجدوا في الغنائم صليباً من ذهب أو فضة أو تماثيل أو دراهم أو دنانير فيها التماثيل، فإنه ينبغي للإمام أن يكسر ذلك كله.
وقال الملا علي القاري في (مرقاة المفاتيح): قال العلماء: التصوير حرام، والمحو واجب حيث لا يجوز الجلوس في مشاهدته.
وفي الفتاوى الهندية: إن وجدوا في الغنيمة قلائد ذهب أو فضة فيها الصليب والتماثيل، فإنها يستحب كسرها قبل القسمة.
ونقل الملا علي القاري الحنفي في المرقاة قول العلماء بوجوب محو الصور.(83/27)
المذهب المالكي
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81] في هذه الآيات الدليل على كسر نصب الأوثان إذا غلب عليهم.
أي: إذا تمكن المسلمون.
وقال أيضاً: ما ذكرنا من تفسير الآية ينظر قوله عليه الصلاة والسلام: (والله لينزلن عيسى بن مريم حكماً عادلاً، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها) والحديث في الصحيحين.
يقول القرطبي: ومن هذا الباب هتك النبي صلى الله عليه وسلم الستر الذي فيه الصور، وذلك أيضاً دليل على إفساد الصور وآلات الملاهي كما ذكرنا، وهذا كله يحظر المنع من اتخاذها، ويجب التغيير على صاحبها إلخ.
وقال الخرشي في (شرح مختصر خليل) في تكسير الأوثان: ومثله الصليب إذا أظهروه في أعيادهم واستسقائهم.(83/28)
المذهب الشافعي
والعز بن عبد السلام يقول: محو الكفر وإزالته من قلوب الكافرين ومن ألسنتهم إلى أن قال: وكسر صلبانهم وأوثانهم.
وقال أبو يحيى الأنصاري الشافعي في (أسنى المطالب) في كتاب الغصب، باب الضمان: ويلزم المكلف القادر كسر الأصنام.
ثم نقل عن صاحب الإحياء أنه قال: ليس لأحد أن يمنع أحداً من كسرها، وإن الصبي غير المكلف مأجور على كسرها.
وقال الهيتمي: والأصنام والصلبان وآلات الملاهي والأواني المحرمة لا يجب في إبطالها شيء لوجوبه على القادر عليه.
وقال الأنصاري: يلزم المكلف القادر كسر الأصنام.(83/29)
المذهب الحنبلي
أما الحنابلة فيقول ابن القيم في الطرق الحكمية: المنكرات من الأغاني والصور يجوز إتلاف محلها تبعاً لها، مثل الأصنام المعبودة من دون الله لما كانت صورها منكرة جاز إتلاف مادتها، فإذا كانت حجراً أو خشباً أو نحو ذلك جاز تكسيرها وتحريقها.
وذكر حديث أبي الهياج الأسدي، ثم قال: وهذا يدل على طمس الصور في أي شيء كانت، وهدم القبور المشرفة وإن كانت من حجارة أو آجر أو لبن، قال المروذي: قلت لـ أحمد: الرجل يكتري البيت فيرى فيه تصاوير، ترى أن يحكها؟ قال: نعم.
وحجته هذا الحديث الصحيح.
وذكر حديث الرسول عليه الصلاة والسلام أنه لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، وحديث: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة)، كذلك حديث نقض التصاليب، وحديث نزول المسيح عليه السلام.
ثم يقول: فهؤلاء رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -إبراهيم، وموسى، وعيسى، وخاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم- كلهم على محق المحرم وإتلافه بالكلية، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم، فلا التفات إلى من خالف ذلك.
وقال في روضة المحبين: وإنما بعث الله رسله بكسر الأصنام وعبادته وحده لا شريك له.
وقال الإمام ابن القيم -أيضاً- في زاد المعاد: لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً؛ فإنها شعار الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها ألبتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركاً عندهم، والله المستعان.(83/30)
المذهب الظاهري
يقول ابن حزم في (المحلى): ومن كسر إناء فضة أو إناء ذهب فلا شيء عليه، وقد أحسن؛ لنهي النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، وكذلك من كسر صليباً.
وقال: وإنما الواجب في الآنية المذكورة والصلبان والأوثان الكسر.(83/31)
الإسلام عدو الأصنام [2]
جرت أقلام بعض المنتسبين إلى الإسلام تبيح وتحلل وتفتري وتكذب زوراً باسم الإسلام في قضية هدم تمثالي بوذا.
ولقد اتكأ أصحابها في أقاويلهم الباطلة على جملة من الشبه، وظنوا أن باطلهم سينفق، فافتروا على الصحابة الفاتحين، بل وافتروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يأت لهدم التماثيل قصداً كما فعلت حركة طالبان حين هدمت التمثالين.
ولكن أنى لهم الوصول إلى أغراضهم وألسن العلماء لهم بالمرصاد؟! فلا يصح القول بأن الهدم كان للأصنام المعبودة في مكة أو المدينة أو الجزيرة العربية، وأبقيت التماثيل التي لم تعبد من دون الله.(84/1)
شبهات المخالفين في هدم الأصنام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فننتقل إلى الكلام عن شبه القوم في هذه المسألة.
وفي الحقيقة أنّ هؤلاء أشبه بالحرباء، فالأسلوب المتبع عندهم ليس أسلوب العالم أو الباحث النزيه، بل هو الكلام الحاوي نوعاً من الحيل في طمس الحقيقة، وكنا نود أن يكون هناك محامون غير هؤلاء الناس عن التماثيل.(84/2)
دعوى ترك الصحابة الفاتحين مصر هدم الأصنام
يقول أحدهم: وهو يتكلم بمنتهى الجزم والقطع والحث: المسلمون عندما دخلوا مصر مع عمرو بن العاص لم يطمسوا التماثيل -وانظر إلى الكلام المحرف-، كان منهم عشرات من الصحابة، كان فيهم البدريون والأنصار وحفاظ القرآن، ومنهم الرجل الذي بثلاثة آلاف ولم يطمسوا تمثالاً قط.
وسنجيب بالدليل عليه، ونقول له: بل العكس، فمتى رأوا تمثالاً أو وثناً استطاعوا هدمه هدموه، فأثبت أنت العكس! فعندنا نحن الأسانيد وقد ذكرناها، أما هو فلم يأت بدليل.
وهذا الدكتور قال كلاماً، فمن ضمن الكلام أنه بعدما قال إن الصحابة دخلوا مصر ولم يطمسوا تمثالاً قط قال: لم يطمسوا تمثالاً قط، إنما كان الذي طمس التماثيل هم النصارى الذين دخلوا مصر، فوجدوا الفراعنة قد صنعوا تماثيل، ومن زار منطقة الصعيد والأقصر -خاصة- فهناك معابد مصرية قديمة فيها التمثال بصورته الأصلية، وفيها التمثال مطموساً وجهه ومرسوماً عليه الصليب؛ لأن النصارى لما دخلوا رأوا أن هذه التماثيل تناقض عقيدتهم فطمسوها.
وهذا شيء يخجل، فهو الذي قال هذا الكلام بالحرف، ويقول: لأن النصارى لما دخلوا رأوا أن هذه التماثيل تناقض عقيدتهم فطمسوها.
مع أنه واضح أن هؤلاء النصارى لم يكونوا على الدين الحق؛ لأن النصارى عباد صلبان، ومع ذلك كيف يقال: رأوا التماثيل تناقض عقيدتهم فطمسوها؟! يقول: وبعض التماثيل مطموس منها الوجه الفرعوني ومركب عليه وجه الإسكندر الأكبر؛ لأن هؤلاء من أتباع الإسكندر فصنعوا هذا، ففكرة تدمير ما كان سابقاً فكرة غير إسلامية، أي: فكرة صنعها غير المسلمين.
ونقول: بل أمر بها الله، وصنعها رسوله عليه الصلاة والسلام، وصنعها إبراهيم ونوح وأنبياء الله أجمعين.
وإذا أردتم التدليس فهاتوا القضية مجتمعة لنناقش، فالقضية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.(84/3)
دعوى هدم المسلمين الأصنام المعبودة وتركهم تماثيل الآثار
ومن مغالطات هؤلاء الكلمة التي يكررونها دائماً وكل حين، حيث يتكلمون عما عليه الناس باعتباره حجة، فيقولون: المسلمون دخلوا وما فعلوا، وكان المسلمون وما زالت هناك تماثيل إلخ.
وكان هناك مسجد بين تمثالين كبيرين في الأقصر، وأن ذلك المسجد هدم كان فيها فتن.
ونحن نقول: الذي هدم المسجد إنما هدمه لأنه قال: لا يجوز أن يقام مسجد أمام التمثالين.
ثم أعيد بعد ذلك تحديثه.
فهم يدندنون على أن المسلمين لم يمسوا الأصنام بسوء، وقد علم بالاستقراء أنّ هذا الكلام مزيف، وهذه دعوى زائفة وكذب وتضليل وخداع، فإذا كان العلماء لم يوافقوا الإمام مالكاً رحمه الله تعالى -وهو إمام دار الهجرة- في اعتبار أن عمل أهل المدينة حجة كحجة الإجماع، فكيف بغير أهل المدينة؟! فالمغالطة هنا أنهم يضحكون على الناس، والناس معظمهم عوام لا يفهمون، لكن المتخصصين لا ينطلي عليهم هذا الدجل؛ لأن الأدلة الشرعية لها ترتيب في القرآن، فهناك أدلة متفق عليها، وهناك أدلة مختلف في حجيتها، فالأدلة المتفق عليها أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ثم الأدلة المختلف عليها معروفة، وهي أدلة كثيرة.
وعمل الناس في الواقع ليس من ضمن الأدلة المختلف عليها، فلا أحد يستطيع أن يدعي أن الناس معصومون، والبدع كانت قد حصلت في أواخر عهد الصحابة، ونشأت بعد ذلك حركات كثيرة في الإسلام، فالناس غير معصومين.
ولقد عرضت أمام بعض الفقهاء الكبار في المدينة -أعني علماء التابعين- قضية معينة، فقال أحد الحاضرين: ليس على هذا عمل الناس.
فرد عليه أحد الأئمة فقال: أرأيت إن كثر الجهال حتى كانوا هم الحكام، أهم الحجة على السنة؟ فالحجة إنما هي في الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فإذا أردت أن تقيم دليلاً فاحصر نفسك في داخل الأدلة الشرعية، أو على الأقل هات الأدلة المختلف في حجيتها، ولكن لا تأت بدليل ليس هو من الأدلة الشرعية، فينبغي أن ننتبه إلى هذا، فالقول بأن الناس عملوا، وإن المسلمين أقروا هذه الأشياء وهي موجودة في بلادهم ولم يمسوها بسوء، لا يصح هنا؛ لأن المسلمين ليسوا معصومين كأفراد من الناس؟! فالحجة في إجماع المجتهدين.
وبعض أولئك وصل به الدجل إلى أن قال: حتى الإمام محمد عبده عندما زار صقلية ورأى هذه التماثيل النصرانية أشاد بها وقال: إنها ليست للعبادة.
فأنت تأتي برجل متأخر تقدمه على كلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام وكلام السلف الصالح والصحابة! فهذا نوع من الدجل فيه قصد تلبيس بالدليل الشرعي، والدليل الشرعي ليس كلام أي أحد كما يريدون أن يفعلوا، بل الدليل الشرعي إما الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس، أما أن تتشبث بكلام الناس وأفعال الناس فهذا من الدجل في الحقيقة.(84/4)
موقف الإسلام من التراث
وهنا أمر مهم جداً ينبغي أن ننتبه له، وهو كلمة قالها وزير خارجية طالبان -وهو وكيل أحمد المتوكلي - بمنتهى الدقة، قال: نحن نقر أن التماثيل جزء من تراث أفغانستان، ولكننا سنتخلص من ذلك الجزء من تراثنا الذي يتعارض مع عقيدتنا.
كلمة حكيمة في الحقيقة، فصحيح أن ذلك تراث، لكن ذلك التراث سنعمل له تصفية بحيث نبقي ما لا يتعارض مع العقيدة، بل يتوافق معها.
فوجود هذه الآثار فيه عظة لمن يعتبر، ولذلك أمر الله بالنظر في آثار السابقين لأنها عبرة؛ لأنهم كانوا أشد منا قوة، فلما عتوا عن أمر ربهم نزل بهم العذاب واستأصلهم، فتلك ديارهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً.
فالتعميم كذلك فيه نوع من الظلم، والموقف واضح للغاية، فالتراث عندنا يفرز، فما يتعارض مع العقيدة يزال، وما لم يتعارض مع العقيدة فلا بأس به، لذلك ترك الصحابة أشياء غير التماثيل، وإلا فلن يعجزوا عن تحطيمها كما سنبين إن شاء الله تعالى.
ولذلك أعلنت طالبان نفسها أنها لن تدمر الآثار القديمة التي ليست على شكل تماثيل، وأعيد عبارة وزير خارجية طالبان، يقول: نحن نقر أن التماثيل جزء من تراث أفغانستان، ولكننا سنتخلص من ذلك الجزء من تراثنا الذي يتعارض مع عقيدتنا.
ومن الأشياء التي لا يعلمها كثير من الناس أن الجزيرة العربية مليئة بالآثار، فنحن نتكلم عن أماكن الآثار كالأقصر وأماكن الفراعنة الكبيرة، بينما في الجزيرة العربية في منطقة ديار ثمود عجائب وعجائب، فديار ثمود -قوم صالح- نفسها موجودة، والذي يذهب من مصر أو الشام إلى الحجاز عن طريق البر يمر وهو على طريق المدينة فيجد السهم يؤدي إلى هذه الأشياء.
ولقد رأيت بنفسي صوراً لديار ثمود، فالجبال نفسها منحوتة من الداخل -البيوت والسلالم والنوافذ- نحتاً عجيباً يدل على مدى قوة هؤلاء القوم الذين أهلكهم الله سبحانه وتعالى.
فهذه آية من آيات الله، ولن نتكلم الآن في التفصيل في حكم زيارة هذه الأماكن؛ لأن هناك تفصيلاً فيها، لكننا ننبه على أن هذه الأشياء ما دمرها الصحابة، وهي موجودة، والرسول عليه الصلاة والسلام مر بها، وأمر الصحابة أن لا يمروا بهؤلاء المعذبين إلا أن يكونوا باكين.
فهي موجودة وهي آثار، والرسول عليه الصلاة والسلام رآها، ولكن مر عليها بسرعة؛ لأنها ديار أولئك المعذبين، فهي لا تزال شاخصة موجودة في الجزيرة العربية.
وكذلك بيوت اليهود في خيبر، ولقد دخلتها، فبيوت اليهود في خيبر على أطم عالٍ، وكان هناك ثقب في الأسلاك الشائكة فدفعني الفضول إلى أن أصعد إلى أن وصلت، وهي موجودة حتى الآن في خيبر، ولكن علماء السعودية -جزاهم الله خيراً- يقومون بواجبهم في الاحتياط الشديد من هذه الأشياء، ولذلك هي مهجورة.
ومما يدل على حرصهم وانتباههم للوسائل التي قد تؤدي إلى محذور أنه حصل في يوم من الأيام أن بعض الناس من أصحاب النوايا الحسنة أتوا إلى بيت الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وأعادوا بناءه من جديد بنفس اللبن الطيني الذي كان بني به، وأرادوا بذلك الاهتمام بتراث شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ونشر هذا الخبر في إحدى الصحف، فالعلماء بمجرد أن سمعوا ذلك أصدروا أمراً بهدم هذا البيت؛ لكي لا يفتح باب الغلو في شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وأمروا بأن يتخذ مكانه توسعة للشارع حتى ينسى تماماً موضوع بيت شيخ الإسلام، وممن أفتى بذلك الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ ابن باز رحمهما الله، وهناك أيضاً فتوى في موضوع دار الأرقم بن أبي الأرقم.
ومما احتاطوا فيه كذلك موضوع المكان الذي ولد فيه النبي عليه السلام، وهو الآن المكتبة التي هي قريبة من الحرم، فهناك احتياط شديد لعقيدة الناس، والعلماء رأيهم أنه مهما أخذت من احتياطات فالجهال لا يقتنعون، ولعلك ترى بعينيك ما يفعلون أمام المقصورة النبوية، فالسياج من النحاس يتمسحون به، ويغافلون الحارس لكي يأخذوا قبلة، ويتمسحون بثيابهم.
إلى آخر هذه الأشياء! فالغلو أصلاً موجود، والجهل شائع بين الناس، فلابد من الاحتياط في أمر العقيدة ما أمكن.
وقد كتب فهمي هويدي للأسف الشديد، وأنا لا أعرف دراية فهمي هويدي بالفقه! ودعك من السياسة والتحليلات والكلام كله، فما له وللفقه يتكلم فيه! فهو يضع نفسه في مواضع نسأل الله أن يسامحه فيها، ومن ذلك كلامه على الشيعة، والكلام كله غير صحيح، وكذلك كلامه في موضوع الأصنام حيث يقول كلاماً غريباً، يقول: وبعض الصحابة الذين دخلوا إلى مصر ذهبوا إلى الأهرامات وكتبوا أسماءهم عليها، وكأنه يرى أنهم أصحاب ذكريات، ولم يبق لهم إلا أن يرسموا عليها قلوباً تخترقها أسهم كما يصنع الشباب اليوم!(84/5)
دعوى العلمانية بطروء الإسلام بعد وجود الأصنام ودحضها
من الملاحظ في سياق كثير من الكاتبين -وخاصة العلمانيين- أنهم دائماً يكررون عبارة موهمة، كما قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]، يقولون: هذه كانت موجودة قبل دخول الإسلام.
أي أنها قبل أن يأتي الإسلام كانت موجودة، فهذا الأصل وأنتم أناس طارئون ودينكم كذلك.
ونقول: إن الإسلام الذي نزل إلى الأرض ليس هو دين محمد عليه الصلاة والسلام فقط، بل الإسلام هو دين البشرية كلها منذ أن أنزل الله آدم إلى الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالإسلام دين شامل، وليس رسالة خاصة بدئت برسول الله محمد عليه الصلاة والسلام.
ثم أين روح الغيرة وروح الانتماء للإسلام؟! فالقائل: هذه موجودة قبل أن يأتي إسلامكم إلى بلادنا أو إلى هذه البلاد له روح ليس فيها انتماء للإسلام ولا غيرة ولا حمية، والله المستعان! ولو انقلب الأمر وصار المسلمون أهل التمكين وأهل الغلبة على وجه الأرض، فماذا سيفعل هؤلاء الناس؟! إنهم سيقلدون الأغلب والأقوى.
مضطر أيضاً للإطالة هنا في هذه الجزئية قليلاً، وأبتدئها بترديد قول الشاعر: اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ظل قوم ليس يدرون الخبر فقضية التوحيد كانت لها أولوية مطلقة عند سلف الأمة، فلذلك عندما فتحوا البلاد كان أول أمر عملوه هو تطهير تلك البلاد المفتوحة من درن الوثنية، فهذا هدف واضح في القرآن، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] والفتنة هنا هي الشرك.
والذين يدعون قائلين: لماذا لا تأتون بأدلة من التاريخ على ما صنع الفاتحون؟ نقول لهم: الكلام الحقيقي كلام العلماء الذين هم بحق وحقيقة علماء وليسوا كذبة غاشين.
إن الصحابة والسلف لما فتحوا بلاد الدنيا كانوا يهتمون بتطهير البلاد من هذه الأوثان، فالإتيان بشواهد تؤيد هذا المعنى -أيضاً- مما يرد ويبطل كلام بعض الناس بأن تحريم الصور - التماثيل- كان في أول الإسلام لقرب العهد بالوثنية، فلما اشتهر الإسلام وتمكنت العقيدة نسخت هذه العلة.(84/6)
الهوية الوطنية لدى الصحابة وموقفهم بعد الإسلام منها
وهنا أمر مهم جداً -أيضاً- نحب أن ننبه إليه، وهو متعلق بموضوع الهوية، فالمسلمون الفاتحون الأوائل، سواء أوائل المسلمين الذين دخلوا في الإسلام مثل الصحابة رضي الله تعالى عنهم من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعد ذلك في الدخول إلى الإسلام، أو التابعين، كيف كانوا قبل الدخول في الإسلام؟ كانوا وثنيين يعبدون الأصنام، وكانوا كفاراً مشركين إلا القليل، فهؤلاء كانت لهم هوية وطنية، وهوية قومية، وتراث حضاري، وكانوا معتزين جداً باللات والعزى، وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها لما كان القرآن ينزل بشتم وتسفيه آلهتهم، فكان لهم وطنية وقومية ووثنية وأصنام خاصة بهم، وكانوا يقدسون الأوثان ويعبدونها من دون الله، فهم لهم هوية أيضاً، وهو نفس القاسم المشترك الموجود الآن، لكن لما أتى الإسلام عرفوا أن الإسلام أتى لينسخ ويقضي على ما خالفه.
ونحن ندخل مع جميع العلمانيين، ونعيش معهم نفس دورهم، وننسى أن الذي يسمونه حضارة إنما ينفخون فيه قائلين: (هذه هي الحضارة).
وهذه الدنيا كلها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فهي كلها إلى زوال، فأي حضارة يقصدون؟! إنهم يقولون: الحضارة والإنسانية مجرد نفخ في أشياء؛ لأن هؤلاء أناس غربيون أفئدتهم خواء وعقولهم فارغة، فهم أحياناً يعظمون أشياء بطريقة تدل على تخلفهم عقلياً، كموضوع الكلاب مثلاً، أي: تعظيم الكلاب.
وقد كنت مرة في أمريكا في الطريق العام في الليل تقريباً، ففوجئت بقوات الإطفاء والشرطة والزحام، وكان المرور متوقفاً، وكان الأمر كبيراً جداً، ثم ظهر في آخر الأمر أن ذلك بسبب قط أو كلب صدمته سيارة، ليظل المرور قرابة ساعتين متوقفاً.
والناس الذين عاشوا في تلك البلاد يعرفون هذا الأمر، يعرفون اهتمامهم الشديد بموضوع الحيوانات والرفق بالحيوان، ويراد منهم أن يعملوا شيئاً اسمه الرفق بالإنسان، أي: الإنسان المسلم الذي يعذبونه في شتى بقاع الأرض.
فعندهم أشياء سخيفة يبالغون فيها، ومن ذلك أنهم يورثون الملايين للكلاب، فالكلب يرث، ويحرم المورث أولاده، فهؤلاء أناس انتكسوا في العقول والقلوب، ولا يصلحون أن يكونوا قدوة على الإطلاق، فالوجه الحقيقي للغرب -الوجه القبيح- ينبغي أن يكشف لهؤلاء المخدوعين بالغرب بالصورة التي هم عليها.
وإذا كان الإسلام قد أبطل الشرائع السماوية السابقة فكيف لا يبطل الأديان الباطلة والوثنية، فالإسلام يأتي بكل خط فاصل في حياة كل من ينتمي إليه، بحيث يفترق المستقبل عن الماضي تماماً، بخط فاصل، ومحطة فاصلة بين الماضي وبين الحاضر، فهكذا كل المسلمين الصادقين كانوا يفصلون بين الماضي والحاضر إذا دخلوا في الإسلام.(84/7)
مواقف الفاتحين المسلمين من الأصنام
جاء في (معجم البلدان) أنه لما غلب عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب على ناحية سجستان في أيام عثمان رضي الله عنه سار إلى الدوار، فحاصرهم في جبل الزون، وكان على الزون صنم من ذهب، فقطع يديه، وقطعه المسلمون وكسروه.
والقائد الفاتح محمد بن القاسم رحمه الله تعالى لما فتح بلاد السند حصل أنه في أثناء فتح إحدى مدن تلك البلاد علم أن في المدينة معبداً يقدسه الهندوس، وأن أهل المدينة يعتقدون أن مدينتهم ستفتح على يد جنود يسقطون العلم المثبت فوق المعبد، فقرر ابن القاسم الاستفادة من هذا الاعتقاد، فوجه المنجنيق الضخم إلى ذلك المعبد، وأمر قائد المنجنيق جعوبة السلمي بضرب ذلك العلم، ووعده بعشرة آلاف درهم جائزة له إذا أصاب الهدف، ونجح القائد، وتم ضرب العلم ودك المعبد، فهاج الكفار وخرجوا، فناهضهم المسلمون حتى هزموهم وردوهم.
فهذا -أيضاً- بلغة العولمة عدوان على التراث الإنساني.
والقائد محمود الغزنوي الذي عاش في نهاية القرن الرابع، وقال عنه ابن كثير رحمه الله: الملك الكبير المجاهد الغازي.
وكان يحب العلماء والمحدثين، ويحب أهل الخير والدين- حينما غزا الهند كسر صنمهم الأكبر سنة أربعمائة وست عشرة من الهجرة، رغم أن عابدي هذا الصنم دفعوا له وبذلوا له وزنه ذهباً من أجل أن لا يهدم هذا الوثن، ومع ذلك هدمه رحمه الله تعالى.
وذكر ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس: أن أهل بلخ كان لهم صنم بناه بنو شهر، فلما ظهر الإسلام خربه أهل بلخ.
وكذلك ما فعله الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من تحطيم الأصنام والأوثان في عصره، وهو أمر معروف مشهور.
ويروي ابن كثير قصة فتح سمرقند بقيادة قتيبة بن مسلم فيقول: واقترب من المدينة العظمى التي بالصغد -وهي سمرقند- فنصب عليها المجانيق فرماها بها، وهو مع ذلك يقاتلهم لا يقلع عنهم، وناصحه من معه عليها من بخارى وخوارزم فقاتلوا أهل الصغد قتالاً شديداً، فأرسل إليه غورك ملك الصغد: إنما تقاتلني بإخواني وأهل بيتي -يعني المسلمين الذين انضموا إليه- فاخرج إلي في العرب.
فغضب عند ذلك قتيبة، وميز العرب من العجم، وأمر العجم باعتزالهم، وقدم الشجعان من العرب، وأعطاهم جيد السلاح، وانتزعه من أيدي الجبناء، وزحف بالأبطال على المدينة، ورماها بالمجانيق، فثلم فيها ثلمة -أي: فتحة- فسدها الترك بغرار الدخن، وقام رجل منهم فوقها.
فجعل يشتم قتيبة، فرماه رجل من المسلمين فقلع عينه حتى خرجت من قفاه، فلم يلبث أن مات قبحه الله، فأعطى قتيبة للذي رماه عشرة آلاف، ثم دخل الليل، فلما أصبحوا رماهم بالمجانيق فثلم -أيضاً- ثلمة، وصعد المسلمون فوقها، وتراموا هم وأهل البلد بالنشاب، فقالت الترك لـ قتيبة: ارجع عنا يومك هذا، ونحن نصالحك غداً.
فرجع عنهم، فصالحوه من الغد على ألفي ألف ومائة ألف يحملونها إليه كل عام، وعلى أن يعطوه في هذه السنة ثلاثين ألف رأس من الرقيق ليس فيهم صغير ولا شيخ ولا عيب -وفي رواية: مائة ألف من الرقيق، وعلى أن يأخذ حلية الأصنام وما في بيوت النيران، وعلى أن يخلوا المدينة من المقاتلة حتى يبني فيها قتيبة مسجداً ويوضع له فيه منبر يخطب عليه ويتغدى ويخرج، فأجابوه إلى ذلك.
فلما دخلها قتيبة دخلها ومعه أربعة آلاف من الأبطال، وذلك بعد أن بنى المسجد، ووضع فيه المنبر، فصلى في المسجد وخطب وتغدى، وأُتي بالأصنام التي لهم فسلبت بين يديه، وألقيت بعضها فوق بعض حتى صارت كالقصر العظيم، ثم أمر بتحريقها، فتصارخوا وتباكوا، وقال المجوس: إن فيها أصناماً قديمة من أحرقها هلك.
أي أن هذه الآلهة قادرة على ضر من يؤذيها، فلو حرقتها ستموت وستمسك آلهتنا بسوء.
قال: فتصارخوا وتباكوا، وقال المجوس: إن فيها أصناماً قديمة من أحرقها هلك.
وجاء الملك غورك فنهى عن ذلك، وقال لـ قتيبة: إني لك ناصح -يعني: إني خائف عليك-.
فقام قتيبة، وأخذ في يده شعلة نار وقال: أنا أحرقها بيدي، فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون.
ثم قام إليها وهو يكبر الله عز وجل وألقى فيها النار فاحترقت، فوجد من بقايا ما كان بها من الذهب خمسين ألف مثقال من ذهب.
فالشاهد أن قتيبة بن مسلم القائد الفاتح أحرق أصنامهم، فأين هذا من الذين يقولون: هذا كان في أول الإسلام ثم نسخ بعد ذلك؟! ونحن نرى كيف كانت عزة المسلم في ذلك الزمان، وننظر اليوم إلى التمسح والتزلف على أعتاب الغرب والشرق! قال ابن خلدون رحمه الله تعالى في مقدمته: ولما فتحت أرض فارس وجدوا فيها كتباً كثيرة، فكتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه في شأنها ونقلها للمسلمين، فكتب إليه عمر أن: اطرحوها في الماء؛ فإن يكن ما فيها هدىً فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن يكن ضلالاً فقد كفاناه الله.
فطرحوها في الماء أو في النار، وذهبت علوم الفرس فيه دون أن تصل إلينا.
فإذا كان هذا في شأن الكتب فكيف بالأصنام والمعبودات؟!(84/8)
ردود على شبهات المخالفين في هدم الأصنام(84/9)
الرد على دعوى عدم عبادة التماثيل في عصرنا
وقولهم: إنها ليست ذريعة للشرك ولا أحد يعبدها، غير صحيح؛ إذ إنه معروف جداً أن بوذا يعبد، والصنم يعبد، ولقد سمعت من أحد الإخوة من حلوان أن حديقة حلوان -التي أقامتها اليابان- فيها تماثيل بوذا، وإنه تأتي مجموعات من اليابانيين لتعبد هذه التماثيل، فهم يعبدون الأصنام والتماثيل حقيقة، فهي معبودة بالفعل، فهي مثل اللات والعزى ومناة بالنسبة للعرب.(84/10)
الرد على دعوى ما ترك المسلمون هدمه من التماثيل
أما الأشياء التي تركها المسلمون ولم يهدموها فهي -كما يقول بعض العلماء- على أقسام: الأول: ما كان من هذه التماثيل داخلاً في كنائسهم ومعابدهم التي صولحوا عليها، أي: حصل صلح واتفاق بين المسلمين وبين أهل هذه البلاد من الكفار فتركوا لهم تماثيلهم وأوثانهم وصلبانهم بشرط عدم إظهارها.
فالإسلام يصبغ المجتمع بصبغة الله {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138]، والإسلام يحرص على الظاهر العام، فالظاهر لا يكون فيه ما يناقض شريعة الإسلام.
فأقروا على ما كان داخل معابدهم بشرط أن يكون عن صلح وعهد، فالمسلمون يحترمون عهودهم ولا يحترمون الأوثان، فهم يحترمون شرع الله الذي يلزمهم باحترام العهود والمواثيق، فما كان في الداخل وغير ظاهر لا ينكر عليهم، ولا يمس بسوء.
ففي الشروط العمرية -المعروفة- على أهل الذمة: وأن لا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفياً في كنائسنا، ولا نظهر عليها صليباً، وأن لا نخرج صليباً ولا كتاباً في أسواق المسلمين إلى آخره.
القسم الثاني: أن تكون هذه التماثيل من القوة والإحكام بحيث يعجز المسلمون عن هدمها وإزالتها، فهناك تماثيل هائلة منحوتة في الصخور وفي الجبال لا يستطاع إزالتها أو تغييرها، ولذلك يقول ابن خلدون في مقدمته: إن الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة، بل تتم في أزمنة متعاقبة حتى تكتمل وتكون ماثلة للعيان.
يعني التي تستغرق قروناً أحياناً لكي تبنى، مثل الصنمين في باميان في أفغانستان، فقد بنيا في قرنين، يتعاقبون على نحتها مائتي سنة.
وفي مدينة ميلانو في إيطاليا توجد كنيسة هناك مشهورة بنيت في خمسمائة سنة! وكان على قمتها صنم من الذهب وضعوه فطمس، لكن ليس المسلمون الذين طمسوه، وإنما جاءت عصابة المافيا بالطيارة فسرقته.
وهذه الأشياء المنحوتة العظيمة تجعل بعض الناس يفترض أن الجن هي التي صنعت لهم هذه التماثيل من صعوبة نحت الجرانيت، فالجرانيت ينحتونه كتلة واحدة كما هو معروف، فـ ابن خلدون يشير إلى هذا، يقول: إن الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة، بل تتم في أزمنة متعاقبة حتى تكتمل وتكون ماثلة للعيان.
قال: لذلك نجد آثاراً كثيرة من المباني العظيمة تعجز الدول عن هدمها وتخريبها، مع أن الهدم أيسر من البناء؛ هذا كلام ابن خلدون في مقدمته.
وذكر مثالاً أن الرشيد عزم على هدم إيوان كسرى، فشرع في ذلك، وجمع الأيدي، واتخذ الفئوس، وأصلاه بالنار، وصب عليه الخل حتى أدركه العجز.
وذكر أيضاً أن المأمون أراد أن يهدم الأهرام في مصر فجمع الفعلة ولم يقدر.
وما يقال من أن عمرو بن العاص رضي الله عنه ترك أصنام مصر كأبي الهول وغيره فذلك غير صحيح، إذ لم يثبت أنها لم تكن مطمورة بالأتربة، وهذا شيء معروف جداً، يدل عليه موضوع النشاط المحموم في استخراج التماثيل منذ قرن أو قرن ونصف في مصر لما نشأت عملية البحث عن هذه الآثار.
ففي مصر قامت الحملة الفرنسية في الأهرامات، وحين ترى صورة أبي الهول ترى أن أبا الهول ليس كاملاً، والصور الموجودة مرسومة بخط اليد منذ زمن، فأبو الهول كان لا تزال أجزاء منه مخفية تحت الرمل، فإما أن الصحابة لم يروا هذه التماثيل، وإما أنهم رأوا هذه الأصنام ولم يقدروا على تحطيمها، وهذا عذر يعذرون به؛ لأن طالبان لما حاولت تحطيم هذه الأصنام كيف حطمتها؟ أعدت الديناميت والمتفجرات والمدافع وأشياء حديثة جداً، فكيف بعصر كان السلاح هو القوس والسيف والرمح ونحو هذه الأشياء؟ فهل سيقدرون على أن يحطموا هذه الأشياء؟ وهل كل بلاد يفتحونها يظلون فيها لكي يشتغلوا بهذا ويتركوا امتداد النور لآفاق الأرض؟! إن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر عمرو بن العاص رضي الله عنه على سرية لكسر بعض أصنام العرب، فكيف يدعي هؤلاء الناس أن عمراً أقر الأصنام اعتقاداً منه بجواز تركها؟!
و
الجواب
لا؛ إذ يمكن أن يكون تركها عجزاً عن ذلك، لكن اعتقاد هذا افتراء شديد على عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، ولو قيل: إن هذا رأي لـ عمرو بن العاص فأسوتنا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومعروف التفصيل في قول الصحابي، فقول الصحابي الذي يحتج به هو ما لم يخالف قول النبي عليه الصلاة والسلام.
وكذلك يحتمل أنها كانت مطمورة تحت الأرض، أو مغمورة بالرمال ولم تظهر إلا بعد انتهاء زمن الفتوحات، فمعمل أبي سنبل ألم يكن مطموراً بالرمال مع التماثيل والأصنام إلى ما قبل قرن أو نصف قرن تقريباً؟! وهذا المقريزي المتوفى سنة (745هـ) يقول في الخطب في الجزء الأول: إن أبا الهول مغمور تحت الرمال -أي: في وقت المقريزي - لم يظهر منه إلا الرأس والعنق فقط دون الباقي.
وهذا بخلاف الحال اليوم.
والزركلي سئل عن الأهرام وأبي الهول ونحوهما: هل رآها الصحابة الذين دخلوا مصر؟ فقال: كان أكثرها مغموراً بالرمال، ولاسيما أبا الهول.
وهذا في كتاب عن شبه جزيرة العرب.
فمن التطاول على خير القرون أن يفترى عليهم ويزعم ذلك الزعم على هذا النطاق.(84/11)
الرد على دعوى هدم ما يعبد من التماثيل دون ما سواه
وشبهة أن التماثيل التي تحطم هي ما عبد من دون الله يرد عليها بأن سد الذرائع من أصول الشريعة أو من أدلة الشريعة، خاصة في باب التوحيد، فتحريمها من باب سد الذرائع.
كذلك حديث جبريل عليه السلام لما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بقطع التمثال الذي في بيته، وما كان للعبادة بلا شك.
ثم إن هذه التماثيل -كما قلنا- معبودة بالفعل، فهي تعبد بالفعل وتقدس، وكذلك تعظيم التمثال بطريقة عجيبة عندما يكون ارتفاعه يساوي سبعة عشر طابقاً، فتخيل تمثالاً بهذه الضخامة! أليس هذا نوعاً من التعظيم لما ينبغي أن يحقر؟! فاتخاذ صنم بهذا الحجم الضخم أليس فيه نوع من التعظيم له؟ بل هو تعظيم بلا شك، فلا شك أن هذا جاء استفزازاً لأي موحد.
والدليل على تقديسهم وعبادتهم لها غضب هؤلاء البوذيين، حتى إنهم أحرقوا المصاحف -لعنهم الله- ثأراً لإلههم ولمعبودهم.
أما قول البعض: إن هذه الأشياء لا تشكل خطراً على المسلمين فإننا نقول: فلماذا أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتحطيم الأصنام وكل ما يعبد؟! ونقول: هذا خطر على التوحيد، والمسلمون لا يخاطبون بالتوحيد أهل ملتهم فقط، وإنما كل البشرية.
وبعضهم يقول: إن التمثال الحرام هو الذي صنعه المسلمون.
ونقول: وهل هناك مسلم يصنع أصناماً؟! والأصنام التي حطمها الرسول عليه الصلاة والسلام هل كان واحد منها من صنع المسلمين؟! فهي من وضع الجاهليين.(84/12)
الرد على دعوى تحطيم الأصنام لحداثة عهد الناس بالشرك
أما القول بأن التحطيم كان أولاً لحدوث عهد الناس بالشرك فقائلوه لا يعرفون أن يتصرفوا في الأحاديث، فيقولون: هذا كان في الأول سداً للذريعة؛ لأن الناس كانوا لا يزالون حديثي عهد بالتوحيد، فلما استقر التوحيد وقويت عقيدة الناس أبيح حدوث هذه الأشياء.
ونقول: أين الناسخ؟ هاتوا دليلاً واحداً فقط على النسخ، ولا يوجد.(84/13)
كلام العلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى في التماثيل
وهنا أسوق كلام فخر الديار المصرية العلامة أبي الأشبال أحمد شاكر رحمه الله تعالى، فله كلام كأنه يعيش معنا في هذه الأيام، وله كلام في تعليقه على مسند الإمام أحمد.
وانظر إلى روح الكلام والحمية والغيرة من عالم جليل، هو من أعظم علماء مصر، وهو من أعظم علماء الأزهر، وعالم جليل في مستوى الشيخ أحمد شاكر رحمه الله نفاخر به الدنيا.
يقول: وفي عصرنا هذا كنا نسمع عن أناس كبار ينسبون إلى العلم ممن لم ندرك أن نسمع منهم أنهم يذهبون إلى جواز التصوير كله -بما فيه التماثيل الملعونة- تقرباً إلى السادة الذين يريدون أن يقيموا التماثيل تذكاراً لآبائهم المفسدين، وأنصارهم العتاة أو المنافقين، ثم تقرباً إلى العقائد الوثنية الأوروبية التي ضُربت على مصر وعلى بلاد الإسلام من أعداء الإسلام الغاصبين، وتبعهم في ذلك المقلدون والدهماء أتباع كل ناعق، حتى امتلأت بلاد المسلمين بمظاهر الوثنية السافرة من بناء الأوثان والأنصاب وتعظيمها وتبجيلها بوضع الأزاهير والرياحين عليها والتقدم بين يديها بمظاهر الوثنية الكاملة، حتى بوضع النيران أحياناً عندها، وكان من حجة أولئك الذين شرعوا لهم هذا المنكر أول الأمر أن تأولوا النصوص بربطها بعلة لم يذكرها الشارع، ولم يجعلها مناط التحريم، هي -فيما بلغنا- أن التحريم إنما كان أول الأمر لقرب عهد الناس بالوثنية، أما الآن وقد مضى على ذلك دهر طويل فقد ذهبت علة التحريم، ولا يخشى على الناس أن يعودوا لعبادة الأوثان.
ونسي هؤلاء ما هو بين أيديهم من مظاهر الوثنية الحقة بالتقرب إلى القبور وأصحابها، واللجوء إليها عند الكروب والشدائد، وأن الوثنية عادت إلى التغلغل في القلوب دون أن يشعر أصحابها، بل نسوا نصوص الأحاديث الصريحة في التحريم وعلة التحريم، وكنا نعجب لهذا التفكير العقيم والاجتهاد الملتوي، وكنا نظنهم اخترعوا معنى لم يسبقوا إليه وإن كان باطلاً ظاهراً بطلانه، حتى كشفنا بعد ذلك أنهم كانوا في باطلهم مقلدين، وفي اجتهادهم واستنباطهم سابقين، فرأينا الإمام الحافظ الحجة ابن دقيق العيد رحمه الله المتوفى سنة (702هـ) يحكي مثل قولهم، ويرده أبلغ رد وبأقوى حجة في كتابه (إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام) الجزء الأول، (ص:959 - 960) بتحقيق الأخ الشيخ حامد الفقي ومراجعتنا.
وفي شرح حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله).
فقال ابن دقيق العيد: وقد تظاهرت دلائل الشريعة على المنع من التصوير والصور، ولقد أبعد غاية البعد من قال: إن ذلك محمول على الكراهة، وإن هذا التشديد كان في ذلك الزمان لقرب العهد من الأوثان، وهذا الزمان حيث انتشر الإسلام وتمهدت قواعده لا يساويه في هذا المعنى، وهذا عندنا باطل قطعاً؛ لأنه قد ورد في الأحاديث الإخبار عن أمر الآخرة بعذاب المصورين، فإنهم يقال لهم: أحيوا ما خلقتم.
وهذه علة مخالفة لما قاله هذا القائل، وقد صرح بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (المشبهون بخلق الله) وهذه علة عامة مستقلة مناسبة لا تخص زماناً دون زمان، وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة المتضافرة بمعنى خيالي يمكن أن لا يكون هو المراد مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره وهو التشبه بخلق الله.
ثم قال الشيخ أحمد شاكر معقباً على كلام ابن دقيق العيد: هذا ما قال ابن دقيق العيد منذ أكثر من سبعين وستمائة سنة يرد على قوم تلاعبوا بهذه النصوص في عصره أو قبل عصره، ثم يأتي هؤلاء المفتون المضللون وأتباعهم المقلدون أو الملحدون الهدامون يعيدونها جذعة ويلعبون بنصوص الأحاديث كما لعب أولئكم من قبل، ثم كان من أثر هذه الفتاوى الجاهلية أن ملئت بلادنا بمظاهر الوثنية كاملة، فنصبت التماثيل وملئت بها البلاد تكريماً لذكرى من نسبت إليه وتعظيما، ثم يقولون لنا: إنها لم يقصد بها التعظيم، ثم ازدادوا كفراً ووثنية فصنعوا الأنصاب ورفعوها تكريماً لمن صنعت لذكراهم، وليست الأنصاب مما يدخل في التصوير حتى يصلح لهم تأويلهم، إنما هي وثنية كاملة صرف نهى الله عنها في كتابه بالنص الصريح الذي لا يحتمل التأويل.
وكان من أثر هذه الفتاوى الجاهلية أن صنعت الدولة -وهي تزعم أنها دولة إسلامية في أمة إسلامية- ما سمته مدرسة الفنون الجميلة.
وهي في العهد الملكي كان اسمها مدرسة الفنون الجميلة أو كلية الفنون الجميلة، صنعت معهداً للفجور الكامل الواضح.
ثم بعدما ذكر بعض الأشياء السيئة مما يحدث في التصاوير في هذه الكلية قال: يقولون: إن هذا فن.
لعنهم الله ولعن من رضي هذا منهم أو سكت عليه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.(84/14)
تشبث المخالفين بالمصالح والمفاسد وموقفنا منه
ومن الشبهات كلامهم على قضية المصالح والمفاسد، وهذه المسألة هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يقبل الكلام فيه، أما القول بأن الإسلام لا يحرم التماثيل وأن المسلمين أقروا ذلك فكل هذا دجل في دجل، لكن كون الدعوة تقتضي أن نتمهل وأن ننتظر، ويستدلون بقوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] فهذه عملية اجتهاد في المصالح والمفاسد، هذه وهي المنطقة المباحة فقط.
أما أنهم يحاولون أن يغيروا عقيدة المسلمين تجاه الأصنام فهذا عدوان سافر على الشريعة، ونحن لا نريد الموضوع أن يتحول من تحطيم الأصنام إلى تحطيم الشيوخ والعلماء؛ لأن أعداء الإسلام حين يستدرجون العلماء أو يخدعونهم في مثل هذه المواقف إنما هم في كل حالة يكسبون الموقف، فهم يعرفون أن هذه المسائل يمكن أن تهبط هبوطاً حاداً بشعبية الداعية أو العالم المؤثر، فهم في الحالتين كاسبون، فلو حطموا العالم كسبوا، ولو أن العالم ساعد على الحفاظ على الأصنام لكسبوا أيضاً.
فنحن لابد لنا من حسن الظن بالشيوخ، وحسن الظن يقتضي اعتبار الإعلان وسيلة غير آمنة في نقل وجهات نظر الشيوخ، وكم دلس الإعلام على الشيوخ، فالأصل هو حرمة الشيوخ والدعاة واحترامهم، إلا الذي نسمعه بأنفسنا يتكلم دون أن يكون هناك أحد يهدده أو يضغط عليه ويتبرع بتلوين الكلام، وهؤلاء غالباً ليسوا شخصيات رسمية، وإنما هم متطفلون على العلم.
فالشاهد أن العلماء يجب حسن الظن بهم، والتأكد من صحة نسبة الكلام إلى أحدهم.
وهنا أمثل بمثال: فـ القرضاوي تكلم ووضح موقفه وقال: لماذا تفترون علي؟ وقال: لقد ذهبت وكان وكان.
أعلن أن تسعين في المائة حطمت فعلاً من حجم التمثالين، فقال: أنا سأذهب لكي أتناصح مع الإخوة لحل مشاكل إخواننا الأفغان ومعاناة الفقر وكذا وكذا.
إلى آخر هذه الأشياء.
فهذا ما قاله، وهو أنه يعرف أنه غير معقول أن يذهب ليدافع عن أصنام.
فلسنا مع بعض الشباب الذين أطلقوا ألسنتهم بكلام بشع جداً ما كان ينبغي أن يقال.
وعلى أي الأحوال فنحن نفرق بين الحكم والفتوى، فالحكم حكم الشرع الذي يؤخذ من نصوص الكتاب والسنة، والفتوى تطبيق الحكم على الواقع.
مثلاً: عندما نسأل عن أكل الميتة نقول: ما حكم أكل الميتة؟
و
الجواب
حرام.
لكن عندما نسأل عن حالات معينة، كما لو أن الجائع لم يأكل من الميتة فسوف يموت فإنا نقول له: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، فهذه حالة ضرورة، فهنا لا نقول له: مباح أن تأكل بل نقول له: واجب عليك أن تأكل من الميتة.
فانتقل الأمر من حرام إلى واجب لحفظ حياته.
فالشاهد أن هذا من مرونة الشريعة، وأن قاعدة الشريعة أن التكليف منوط بالاستطاعة، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، والمسلمون تطرأ عليهم حالات معينة يصعب وضعهم فيها، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يمر بالصحابة وهم يعذبون في مكة فيقول لهم: (صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة)، وهو رسول الله المؤيد بالوحي، فما استطاع أن ينقذ هؤلاء المستضعفين، بل هو نفسه صلى الله عليه وسلم بقي في مكة والأصنام حول الكعبة، وبقيت إلى تأريخ مكة.
فإذاً هناك فرق بين الحكم الشرعي الذي تكلمنا عنه، والفتوى هي التطبيق لهذا الحكم على الواقع، فالكلام على المصلحة الدينية هو القنطرة الوحيدة التي يمكن أن نلتقي فيها مع هؤلاء القوم.
وبعض المتكلمين -وهو غير باحث- قال: إننا بهذا العمل فتحنا باباً لمفسدة عظيمة، فهو نظر إلى المفاسد في زعمه، ونحن نقول: مادام أنه يتكلم على مصالح ومفاسد فلا بد من أن نتأكد من المصالح ونعطي كل شيء حجمه حين نتكلم على المفاسد والمصالح، فهذه المنطقة هي الوحيدة المباح لنا فيها أن نتكلم، ما دام الكلام فيها عن المصلحة الشرعية ودرء المفاسد وسد الذريعة لئلا ينال المسلمين نفس الضرر؛ فليس من مصلحة المسلمين الدخول في أمر يعود بمنكر أكبر، ففي بعض الأماكن أو بعض البلاد لو هدم أحد صنماً فإنه سيبنى أحسن منه وأكبر منه، فالنظر في عواقب الأمور، ووزن الأمور بميزان الشرع، راجع لأهل العلم الذين يحسنون ضبط الأمور.(84/15)
بيان المصالح والمفاسد الواقعة في الحادثة
والمفاسد التي ذكروها هي أن هذا يثير الاحتكاكات الطائفية بين الهندوس والمسلمين، سواء في سيرلانكا أو الهند أو الصين أو تايلاند أو غيرها، وبعدما تم تأليب الغربيين علينا يبدأ تأليب الشرق كله على المسلمين، وأن ذلك يؤدي لإهانة المصحف الشريف، كما حصل في بعض التظاهرات أن هؤلاء البوذيين أحرقوا المصحف الشريف لعنهم الله.
ومن أضراره تحويل الأنظار عن الانتفاضة في الأقصى، أو تشويه سمعة الإسلام عالمياً، أو ترسيخ الحصار الظالم ضد الطالبان من جديد وعزلها عن المحيط الإسلامي والدولي، فهذا الكلام في المفاسد.
أما الكلام الآخر الذي هو التراث البشري والإنساني فقد وضحنا الموقف منه.
أما المصالح فأعظم مصلحة على الإطلاق هي الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، والذين يقولون: إن هذه الأفعال يمكن أن يكون فيها تشويه لسمعة الإسلام فذلك في حق المغفلين أو الجهلة، أما إنسان عنده بصيص من النور أو الفطرة فشأنه هو العكس، إذ هذه الأمور يمكن أن تكون بوابة يدخل منها إلى الإسلام ليسمع، فمن الممكن أن يكون هناك نوع من المصلحة، خاصة في حق الذين يعبدون هذه الأصنام؛ إذ يرد السؤال حينها: لماذا لم يدافع بوذا عن نفسه؟ فيمكن أن يثوب بعض هؤلاء البوذيين إلى رشدهم عندما يرون معبودهم تحول إلى أنقاض، فيعلمون أنه حجارة لا تضر ولا تنفع، بدليل أنه بقي صامتاً جامداً لا يدافع عن نفسه، فيبحثون عن الإله الحق النافع الضار الحي الذي لا يموت.
يمكن أن يكون ذلك فعلاً؛ لأن البشرية الآن مسوقة كالقطيع، فكل الذي تريده أمريكا هو الذي يؤمل فيه، فكأن البشرية كانت بحاجة إلى منبه يوقظها من غفلتها، وذلك أشبه ما يكون بالعلاج بالصدمات الكهربائية، لكي يفيق الناس قليلاً، فالناس الغارقون في هذه الوثنية الماشون وراء الغرب ينظرون إلى كل شيء بعين أمريكا وبميزان أمريكا وبميزان الغرب، فيعلمون بذلك أن الغرب ليس قدوة ولا يصلح أن يكون قدوة، والغرب ما عرف الإنصاف أو العدل.
وأعتقد أن الطالبان قد رأوا أنهم ممكنون، والله سبحانه وتعالى يقول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، فما داموا ممكنين في بلادهم -إذ عندهم تسعون في المائة من مساحة أفغانستان- فما الذي يمنعهم من أن يهدموا الصنم، خاصة أنهم في كل الحالات ليسوا مرضياً عنهم، فأمريكا لو كانت تقدر على أذيتهم بأكثر مما فعلت آذتهم، ولكن قد بلغت الغاية التي تستطيعها.
فهذه البلد حطمت أولاً -أو أريد تدميرها- خلال الحكم الشيوعي، ثم بعد ذلك العالم الغربي الذي كان يعدهم أيام الحرب مع الاتحاد السوفياتي الشيوعي قلب الكفة عليهم، فليست هناك خسارة أكثر مما حصل، فيمكن أن تكون وجهة نظرهم أنهم ممكنون وفي بلدهم، وهذه أمور داخلية، وليس لأحد حق في أن يتدخل في الشئون الداخلية، فربما كانت هذه بعض الأشياء التي استندوا إليها، والله تعالى أعلم.
فالمسلمون إذا كانوا في حالة ضعف لا يستطيعون إزالة هذه الأصنام، أو كان يترتب على إزالتها سب لله وسب للرسول عليه الصلاة والسلام ونحو ذلك من الشركيات، فإنه يدخل هذا في باب المصلحة.
فقاعدة المصالح والمفاسد معروفة في الشريعة فلا نطيل في تفصيلها.(84/16)
دعوى أولوية الانتفاع بثمن الأصنام
أما القول بأنهم ما داموا قد غلبوا عليها فكان الأولى أن يبيعوها ويأخذوا قيمتها فذلك باطل، فالرسول صلى الله عليه وسلم (نهى عن ثمن الأصنام)، وحرم ثمن الأصنام.
أما الخسائر وفقدان ما يترتب على ذلك من مصالح فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:28] يقول ابن إسحاق: وذلك أن الناس قالوا: لتنقطعن عنا الأسواق ولتهلكن التجارة وليذهبن ما كنا نصيب فيها.
إلخ، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة:28].
فالتوكل على الله سبحانه وتعالى والاجتهاد في فتح أبواب الرزق سبب في إغناء الله تعالى للمسلمين، وقد يقوم جماعة من الخبراء والمختصين فيبتكرون أشياء تعود بأموال كثيرة في مثل هذا الأمر، ولا نقول: اعملوا مثل اليهود.
فاليهود لأنهم يهود قامت دولتهم اللقيطة ببيع زجاجات فارغة على اليهود في أمريكا، باعتبار أن هذه الزجاجات مليئة بهواء القدس، يفكر أحدهم كيف يقدر على أن يصل لأعمال بديلة.(84/17)
دعوى تذكير بقاء الأصنام بنعمة الهداية
ومن التأويلات الغريبة لبعض هؤلاء الفضائيين قول أحدهم: المفترض أن نترك هذه التماثيل؛ لأنها تذكر المسلمين بنعمة الإسلام، لنرى كيف كنا سنعبد هذه الأصنام! تأويل عجيب جداً، وإذا كان كذلك فقد كان أولى بالرسول عليه الصلاة والسلام أن لا يكسر اللات والعزى ومن غيرهما الأصنام لكي تبقى عبرة يتذكر بها الناس نعمة الإسلام، ونرى كيف كنا سنعبد هذه الأصنام.
ونقول لهم: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].(84/18)
دعوى قياس التماثيل على الدمى
وهناك أقاويل أخرى، كقياس بعضهم التماثيل على دمى البنات، ولعب الأطفال، وهذا كلام لا أعتقد أنه يستحق أن نتوقف معه لنبطله.
ومثله أن يقال: كما يجوز الكفر في حالة الإكراه يجوز الكفر في حالة الاختيار، وهذا نوع من الدجل أيضاً، فهم قاسوا نفس التماثيل التي ورد النهي الشديد عنها بالدمى التي خصها الشارع من المنهي عنه كما خص حالة الإكراه بجواز الكفر.(84/19)
وقفات مع التداعي العالمي تجاه الحادثة وقضايا المسلمين
ومن الشبهات كلامهم على قضية المصالح والمفاسد، وهذه المسألة هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يقبل الكلام فيه، أما القول بأن الإسلام لا يحرم التماثيل وأن المسلمين أقروا ذلك فكل هذا دجل في دجل، لكن كون الدعوة تقتضي أن نتمهل وأن ننتظر، ويستدلون بقوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] فهذه عملية اجتهاد في المصالح والمفاسد، هذه وهي المنطقة المباحة فقط.
أما أنهم يحاولون أن يغيروا عقيدة المسلمين تجاه الأصنام فهذا عدوان سافر على الشريعة، ونحن لا نريد الموضوع أن يتحول من تحطيم الأصنام إلى تحطيم الشيوخ والعلماء؛ لأن أعداء الإسلام حين يستدرجون العلماء أو يخدعونهم في مثل هذه المواقف إنما هم في كل حالة يكسبون الموقف، فهم يعرفون أن هذه المسائل يمكن أن تهبط هبوطاً حاداً بشعبية الداعية أو العالم المؤثر، فهم في الحالتين كاسبون، فلو حطموا العالم كسبوا، ولو أن العالم ساعد على الحفاظ على الأصنام لكسبوا أيضاً.
فنحن لابد لنا من حسن الظن بالشيوخ، وحسن الظن يقتضي اعتبار الإعلان وسيلة غير آمنة في نقل وجهات نظر الشيوخ، وكم دلس الإعلام على الشيوخ، فالأصل هو حرمة الشيوخ والدعاة واحترامهم، إلا الذي نسمعه بأنفسنا يتكلم دون أن يكون هناك أحد يهدده أو يضغط عليه ويتبرع بتلوين الكلام، وهؤلاء غالباً ليسوا شخصيات رسمية، وإنما هم متطفلون على العلم.
فالشاهد أن العلماء يجب حسن الظن بهم، والتأكد من صحة نسبة الكلام إلى أحدهم.
وهنا أمثل بمثال: فـ القرضاوي تكلم ووضح موقفه وقال: لماذا تفترون علي؟ وقال: لقد ذهبت وكان وكان.
أعلن أن تسعين في المائة حطمت فعلاً من حجم التمثالين، فقال: أنا سأذهب لكي أتناصح مع الإخوة لحل مشاكل إخواننا الأفغان ومعاناة الفقر وكذا وكذا.
إلى آخر هذه الأشياء.
فهذا ما قاله، وهو أنه يعرف أنه غير معقول أن يذهب ليدافع عن أصنام.
فلسنا مع بعض الشباب الذين أطلقوا ألسنتهم بكلام بشع جداً ما كان ينبغي أن يقال.
وعلى أي الأحوال فنحن نفرق بين الحكم والفتوى، فالحكم حكم الشرع الذي يؤخذ من نصوص الكتاب والسنة، والفتوى تطبيق الحكم على الواقع.
مثلاً: عندما نسأل عن أكل الميتة نقول: ما حكم أكل الميتة؟
و
الجواب
حرام.
لكن عندما نسأل عن حالات معينة، كما لو أن الجائع لم يأكل من الميتة فسوف يموت فإنا نقول له: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، فهذه حالة ضرورة، فهنا لا نقول له: مباح أن تأكل بل نقول له: واجب عليك أن تأكل من الميتة.
فانتقل الأمر من حرام إلى واجب لحفظ حياته.
فالشاهد أن هذا من مرونة الشريعة، وأن قاعدة الشريعة أن التكليف منوط بالاستطاعة، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، والمسلمون تطرأ عليهم حالات معينة يصعب وضعهم فيها، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يمر بالصحابة وهم يعذبون في مكة فيقول لهم: (صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة)، وهو رسول الله المؤيد بالوحي، فما استطاع أن ينقذ هؤلاء المستضعفين، بل هو نفسه صلى الله عليه وسلم بقي في مكة والأصنام حول الكعبة، وبقيت إلى تأريخ مكة.
فإذاً هناك فرق بين الحكم الشرعي الذي تكلمنا عنه، والفتوى هي التطبيق لهذا الحكم على الواقع، فالكلام على المصلحة الدينية هو القنطرة الوحيدة التي يمكن أن نلتقي فيها مع هؤلاء القوم.
وبعض المتكلمين -وهو غير باحث- قال: إننا بهذا العمل فتحنا باباً لمفسدة عظيمة، فهو نظر إلى المفاسد في زعمه، ونحن نقول: مادام أنه يتكلم على مصالح ومفاسد فلا بد من أن نتأكد من المصالح ونعطي كل شيء حجمه حين نتكلم على المفاسد والمصالح، فهذه المنطقة هي الوحيدة المباح لنا فيها أن نتكلم، ما دام الكلام فيها عن المصلحة الشرعية ودرء المفاسد وسد الذريعة لئلا ينال المسلمين نفس الضرر؛ فليس من مصلحة المسلمين الدخول في أمر يعود بمنكر أكبر، ففي بعض الأماكن أو بعض البلاد لو هدم أحد صنماً فإنه سيبنى أحسن منه وأكبر منه، فالنظر في عواقب الأمور، ووزن الأمور بميزان الشرع، راجع لأهل العلم الذين يحسنون ضبط الأمور.(84/20)
الصمت العالمي وتدمير مسجد البابري
أخيراً نقف قليلاً مع طالبان، وإن كان عندنا مشكلة، وهي أن الاستيثاق صعب جداً؛ لأن المصادر الموثقة التي يمكن أن نتلقى منها معلومات موثقة أمرها صعب جداً، خاصة أن طالبان معزولة، ويبدو أنهم عزلوا أنفسهم عن العالم أكثر، فوسائل التعرف على حقيقة موقفهم في الحقيقة أمر صعب جداً، ولذلك فالإنسان دائماً يشك في الكلام الكثير والدندنة على موضوع تعليم النساء وأنه حرام عند طالبان، ومن الصعب أن يصدق؛ لأن المتكلمين يدعون أن الإسلام يحرم تعليم المرأة، وهذا غير صحيح، ومن المؤكد أنهم وضعوا للأمر ضوابط، وفيها كلام كثير، والقرضاوي قد ناقش هذه المسألة بالتفصيل، وليس هنا مكانها، ونحن ليست قضيتنا أن ندافع عن طالبان؛ لأن معلوماتنا غير ميسرة، وعلى أقل تقدير فمن الأمور الواضحة أنهم في ذلك ينطلقون من منطلق شرعي.
وفي نفس الوقت نقول: إن موضوع العدوان على التراث البشري وغير ذلك من الكلام الذي لا يساوي شيئاً ليس المعني فيه الطالبان وحدها، وليس هناك داع للكيل بمائة مكيال بالنسبة للمسلمين، لكن أين كانت الأمم المتحدة وأين كانت الوفود، وأين كان هذا الاستنصار الذي حصل من أجل صنمين، ذلك الاستنصار الذي استفز قسيساً حتى قال: لماذا تقدسون الحجر ولا تقدسون البشر؟ كان يقول لهم: أنتم تقدسون الحجر وتقدسون البقر ولا تقدسون البشر! فهذا كلام قسيس، يعني: والبشر لا يقدس.
وأقول: كل هذه الحمية والغيرة والوفود والبركان الجاهلي الثائر أين كانت عندما هدم الهندوس المسجد البابري في الهند بحجة أنه بني على أنقاض مسقط رأس إلهي مرام؟ وقالوا: هذا إلهنا ولد في المكان الذي بني فيه المسجد؟! فانظر إلى الوثنية والعقول التافهة؟! علماً أن زعيم الهندوس الذي تزعم حركة تدمير المسجد أسلم، وأعلن أنه راغب في أن يكفر عن كل ما مضى منه في حق الإسلام أو في حق بيت الله سبحانه وتعالى، فهذه آية من آيات الله عز وجل، والإسلام دائماً يأتي بالبشائر.(84/21)
الموقف العالمي من صنيع اليهود
والمسجد الأقصى لما أحرقه اليهود في سنة تسعة وستين كان مما أحرق تماماً منبر صلاح الدين الأيوبي، الذي أنشأه حين فتح القدس رحمه الله.
واليهود في فلسطين هدموا عشرات المساجد، وحولوا بعض المساجد إلى حانات وإلى متاحف وإلى أماكن فساد وإلى مجامع للقمامة، فأين كانت هذه الوفود وهذه الثورة؟! وفي فلسطين محيت أربعمائة قرية من الخريطة تماماً وتناساها الجميع، وغيرت الدولة اللقيطة -ولا تزال- الطابع التأريخي والديمغرافي لمدينة القدس عن طريق الحفريات والأنفاق وكأن ذلك شيء لا قيمة له! ثم بعد ذلك يأتي أحد من المسلمين ليحث العالم الغربي على التدخل العسكري ضد طالبان لكي ينقذ هذين الصنمين، فانظر إلى المأساة التي وصلنا إليها!(84/22)
ذكر مواقف أخرى من تهديم التراث
وفي أثناء الثورة الثقافية في الصين دمر الشيوعيون (90%) من التراث الكونفشيوسي؛ لأن الشيوعيين كانوا ملاحدة ضد الدين، ومن المعلوم أن الدين الكونفشيوسي شركي، فدمر الشيوعيون -انطلاقاً من أن هذا يتعارض مع عقيدتهم الشيوعية- (90%) من التراث الكونفشيوسي.
وفي كمبوديا حصل نفس الشيء، وعمل هتلر أشياء قريبة من ذلك، ونابليون هو الذي كسر أنف أبي الهول، وقصف الجامع الأزهر وحوله إلى اصطبل للخيول، أليس نابليون اتبع الحرية والإخاء والمساواة والرقي والحضارة؟!(84/23)
الموقف العالمي من تهديم مساجد أفغانستان والبوسنة
والبريطانيون أنفسهم في أفغانستان هدموا مسجد (مصلى حسن) سنة (1886م)، وهو مسجد يعود إلى القرن الخامس عشر، ولم يعد هذا عدواناً على التراث! وقد هدم الصرب في البوسنة كثيراً من المساجد، فقد تم قصف ثمانمائة أثر إسلامي في البوسنة لطمس الهوية الإسلامية في البوسنة على يد الصرب.
والروس عندما تمردوا أخيراً على الشيوعية حطموا تمثال لينين وتماثيل ضخمة ل لينين، فقد كان الروس الشيوعيون في كثير من بلاد العالم يعبرون عن تحررهم وانعتاقهم من الشيوعية عن طريق تحطيم تماثيل لينين؛ لأنها رمز لشيء معين.
الإيرانيون لماذا حطموا تماثيل الشاه؟ لأنه هدم لرموز الماضي.(84/24)
الموقف العالمي من سفك دماء مسلمي العراق
وهذا كولن باول الذي حطم العراق وقتل الأطفال والنساء يدعي أن تحطيم التمثالين وحشية وهمجية وجريمة في حق البشرية، فكيف بالذي عمله في العراق؟ أليس ذلك وحشية وهمجية وبربرية؟! وكذلك تدمير مساجد السنة في إيران، فأين أصحاب الحمية وأين هذه المنظمات؟! واليهود تحت أعين الأمم المتحدة قصفوا الآثار الرومانية والإسلامية في بعلبك والقرى الجنوبية في لبنان، وأين القتل البطيء المستمر لمسلمي العراق والغارات المتتابعة على العراق إلى الآن لإزالتها من الخارطة؟ والصنم حين يضرب بالبارود هل يحس؟! إن الصنم ثابت في حاله لا يشعر بالبرد ولا يجوع ولا يمرض ولا يموت؛ لأنه جماد.
لكن المسلمين في العراق وفي البلاد المحاصرة يحسون ويشعرون، فلماذا القتل البطيء لهم ومحاصرتهم في كل مكان؟! إنه جزاء من يأبى الركوع لأمريكا وللغرب.(84/25)
القانون الدولي شريعة الغاب
والقانون الدولي حينما يتعارض مع الشرع الإلهي فهو المقدم، وكل هذا أكاذيب يتستر الغرب وراءها لإهلاك الشعوب، والمنطق الذي يمشي عليه الغرب هو: (الحق هو القوة)، فما دمت قادراً على أن تعمل أي شيء فهذا هو الحق! في حين أن الإسلام يعتمد على منطق قوة الحق، ولذلك فإن المسلمين يثبتون على الحق، ويعلنون الحق ويتمسكون بالحق، حتى ولو كانوا ضعفاء مادياً، أما الغرب فعندهم حق القوة، فما دمت قوياً فلك أن تقهر الضعيف، فهي شريعة الغاب كما هو معلوم.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
ولا ننتظر من الغرب غير هذا العداء، والذي يتوقع أنهم سيرضون عنا يوماً من الأيام فهو واهم؛ لأن القرآن قد قطع فقال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
فالكلام الذي يتردد الآن تسميم خطير جداً لعقائد الناس بمعاني العولمة والتراث البشري ومهادنة الشركيات واحترام الأديان.
وإننا نحترم حقوق أهل الأديان التي شرعها الإسلام، لكن كيف نحترم من يعبد الأصنام أو يعبد المسيح عليه الصلاة والسلام؟! كيف نحترمه وهو مطالب أصلاً برسالة محمد والإيمان به عليه الصلاة والسلام.
فإذا كان الالتزام بالقانون الدولي والأعراف الدولية يقودك إلى الخروج من ملة الإسلام فأيهما تختار؟! إن من المناقضات أن كل شعوب العالم -تقريباً- تأكل اللحوم، فلما جاء عيد الأضحى قامت قيامة ممثلة أوروبية فاجرة، فقادت حملة ضد الوحشية والقسوة ضد الحيوان -كما تزعم- فأصبحت الوحشية والقسوة من سمات المسلمين لأنهم يذبحون الأضاحي! لكن أين هي من المذابح التي تقام للمسلمين في كل مكان؟! لقد أصبحت أفغانستان دولة منسية إلا في العقوبات الدولية، بهذا السجع: (أفغانستان الدولة المنسية إلا في العقوبات الدولية) فنصف شعب الأفغان يتضور جوعاً، وإحصائيات الأمم المتحدة تقول: كل يوم يموت أربعمائة طفل من البرد.
وهم يعانون أيضاً من الجفاف، فمنذ ثلاث أو أربع سنوات لم تنزل قطرة ماء واحدة على أفغانستان، والحصار مشدد عليها، فنقول لهؤلاء: الإنسان الحي الذي يحس ويجوع ويمرض ويعاني أليس هو نفسه داخلاً في التراث؟! أليس له قيمة بحيث تخفف عنه هذه الضغوط.
فاليونسكو كانت مستعدة أن تنفق أموالاً كثيرة لكي تحفر الجبل وتنقل التمثالين إلى مكان آخر لحفظهما.
أليس الواجب هو أن تنفق هذه الأموال على الجياع والمساكين في أفغانستان؟!(84/26)
مرد الأحكام في القضايا الدولية
إن من الكلمات التي قالها أحد الدعاة الأفاضل قوله: يجب أن تحاكم كل دولة من خلال مرجعيتها التي تؤمن بها.
يعني: أنا مسلم فحاكمني إلى الإسلام؛ لأن هذه الوسيلة الوحيدة لإقناعي، وليس بقهري، إذ يمكن تحت القهر أن أقول كلاماً غير هذا، لكن أنا مسلم ملتزم بمقتضى الكتاب والسنة، وبفهم السلف.
فيجب أن تحاكم كل دولة من خلال مرجعيتها التي تؤمن بها لا حسب مرجعيات أخرى مخالفة، أما الاستناد إلى آراء قلة من العلماء المعاصرين الذين سلط الإعلام المنحاز ضد الإسلام الأضواء عليهم، فهذا غير ملزم، فالعلمانيون يقولون: لقد قال فلان وفلان.
والرد عندنا في الإسلام واضح جداً، فليس عندنا فاتيكان، ولا كهنوت، ولا صكوك غفران، ولا أناس معهم مفاتيح الجنة، ولا بابا يحل ويحرم ما يشاء، بل عندنا الكتاب والسنة حكم على الجميع، وعندنا كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام مالك.(84/27)
الأدب مع العلماء والدعاة إلى الله تعالى
وهنا أذكر إخواني بأنه لا يحق لأحد أن يطيل لسانه على العلماء أو الدعاة؛ لأننا لم نسمع منهم مباشرة، بل العكس، فنحن أحسنا الظن، وقلنا: إنه ليس معقولاً أن عالماً يشد الرحال لكي يدافع ويشفع لتنجو الأصنام، ولا أظن هذا، وحسن الظن واجب، إلا إذا أتى شيء يقيني، ونحن جربنا على الإعلام التدليس على الشيوخ والعلماء كثيراً.
فالكلام بأن العلماء يذهبون لكي يقولوا كذا وكذا صعب جداً أن نصدقه، خاصة مفتي الجمهورية، فصعب جداً أن نصدق أنه ذهب لكي يقول ذلك، ومن المؤكد أنه ذهب لكي يقول: إن الوقت غير مناسب لمصلحة المسلمين، وإن هذا من باب سد الذرائع حتى لا تحصل أذية للمسلمين واضطهاد لهم مثلاً.
أو: أنتم ما زلتم في مرحلة ضعف.
وهذا مقتضى حسن الظن.
وقد اطلعت على كلام يقول: إن المفتي قال إنه ذهب إلى أفغانستان لإقناع حركة طالبان بأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
إلى آخره.
وحين نحسن الظن لن نخسر شيئا، بل نحافظ على علمائنا، فمن الضروري أن لا نساهم في تحطيم العلماء، فالعلماء يحطمون بذلك كقدوة، فصعب جداً أن نصدق أن عالماً أو فقيهاً يخالف كل هذه الأدلة التي ذكرناها.(84/28)
اتهامات بحق حكومة طالبان وردها
في القضايا الإسلامية كل واحد يعطي نفسه الحق في الكلام.
فبعضهم قال: إن الذي عملته طالبان صح شرعاً، لكن هم لهم هدف سياسي، فلأنهم معزولون الآن عالمياً، أرادوا أن يلفتوا الأنظار لأجل أن يعترف بهم العالم.
إلى آخر هذا الكلام.
وبعضهم أساء الظن وقال: إن هذا صرف للأنظار عن قضايا المسلمين، أو إعطاء اليهود مبرراً لأجل أن يهدموا المسجد الأقصى في المقابل.
إلى آخر هذا الكلام، فكل هذا سوء ظن في الحقيقة.
وبعضهم قال: هذا حق يراد به باطل.
فتدخلوا في النيات.
وقائل: هذه عبارة عن رسالة سياسية من أفغانستان.
ونقول: ليكن الافتراض الأول، فليكن أن لها هدفاً سياسياً أو تكتيكاً سياسياً، فمن المعروف أن من حق كل دولة أن تمارس ممارسة ذات مصلحة خاصة بها من أجل قضاياها، فإذا أرادوا بالفعل شد أنظار العالم لتسليط الأضواء على بلادهم المنسية التي قتلها سابقاً الروس والشيوعيون ويخلفهم الآن الحصار؛ فماذا يعيبهم؟! ومع ذلك نقول: هذه هي الطريقة الغربية في التفكير؛ لأنهم لا يؤمنون بالله ولا بالرسل، فالغرب ومن تبعهم -فضلاً عن وثنيي الشرق- في أي ظاهرة دينية يأخذون منها البعد الإيماني أو البعد الديني، فلا يقرون بالبعد الديني في أي عمل يقوم به المسلم، بل يفسرونها تفسيراً مادياً، فيفسرون حركة دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة بأنها كانت لأجل الأوضاع الاقتصادية والطبقية في مكة، فهو تفسير مادي.
وكل العالم يقاطع طالبان، ولا يزال يعترف بالحكومة التي لا تكاد تسيطر على أي شيء في أفغانستان، حتى منظمة المؤتمر الإسلامي لا تعترف بطالبان، وإنما تعترف بها - كما أظن- باكستان والإمارات فحسب.
وكان هذا لأن رئاسة منظمة المؤتمر الإسلامي كانت بيد إيران، ومعروف العداء الشديد بين طالبان وبين إيران، فلم يفكر أحد في أن يتعامل معهم إلا من خلال هذا الضغط.
والمسألة كتكتيك سياسي ما المانع منها؟ أهي حلال لغيرهم وحرام عليهم؟! فلو كان هناك بعد سياسي لهذه القضية، فما الذي ينكر عليهم في هذا الأمر؟! وهناك موضوع آخر في قضية أفغانستان هو موضوع المخدرات، إذ يقول بعض الناس: إن أولئك أهل مخدرات، فأولى بطالبان أن يحرموا المخدرات قبل الإقدام على هدم التماثيل! ونقول: أي دولة في العالم ليس فيها مخدرات؟ فأمريكا نفسها أم المخدرات، والعالم مليء بالمخدرات في كل مكان، ولا يوجد بلد -تقربياً- يخلو من هذا الأمر؛ لكن هنا إشارة عابرة، فالأمم المتحدة نفسها أعلنت مؤخراً أن مسئوليها في مجال مكافحة المخدرات في أفغانستان فوجئوا بنتائج دراسة حول وضع المخدرات في أفغانستان، حيث حصل انخفاض هائل في زراعة المخدرات بعد المرسوم الذي أصدره الملا محمد عمر زعيم طالبان بتحريم زراعة المخدرات والاتجار بها ومعاقبة من تثبت مخالفته.
فبعد أن كان هناك سبعون ألف هكتار مزروعة بالمخدرات بقي منها سبعة وعشرون هكتاراً مزروعة بالمخدرات في إحدى وخمسين مديرية، فهذه الإحصائية والمسح الذي عملته الأمم المتحدة نفسها بخبراء يتبعونها.
فهذه الإحصائيات أعتقد أنها تكشف الكلام عن هذا الموضوع.(84/29)
وجوب توحيد الله تعالى والكفر بالطاغوت لسلامة الإسلام
وأخيراً نقول: إن أصل الأصول هو توحيد الله سبحانه وتعالى، فإنه لا يسلم إلا من سلم توحيده لله عز وجل، فكل مسلم كي يسلم له إسلامه وتوحيده لابد له من أمرين: أن يؤمن بالله وحده لا شريك له، ثانياً: أن يكفر بالطاغوت، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] التي هي (لا إله إلا الله).
ومن الكفر بالطاغوت تكفير المشركين كالبوذيين والهندوس واليهود والنصارى وغيرهم وخلع معبوداتهم، وإزالتها عند القدرة عليها، والبراءة منهم ومما يعبدون من دون الله، كما قال الله سبحانه وتعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] فجمعت البراءة بين أمرين: (إنا برآء منكم) براءة من نفس الكفار (ومما تعبدون من دون الله) أي: البراءة من أصنامهم ومعبوداتهم.
فهذا ما تيسر من الكلام في هذه القضية.(84/30)
الرد على الكاتب فهمي هويدي
ومن المؤسف أن هناك مقالة لـ فهمي هويدي -هداه الله- في الثالث عشر من مارس عام (2001م) في (قضايا وآراء) في صحيفة الأهرام تقريباً، ففي الفقرة الثالثة يقول: يكاد المرء يجد تشابهاً بين مشهد جموع الوهابيين وهم يوارون الأضرحة والقبور والأشجار التي كان يتبرك بها المسلمون في نجد وبين محاولة تحطيم التماثيل البوذية في أفغانستان الآن، فالأولون اعتبروا الأضرحة والأشجار من أمور الشرك باعتبار أن المسلمين كانوا يتوسلون بها إلى الله، والآخرون اعتبروا التماثيل أصناماً من رموز الشرك أيضاً.
فهو يتكلم بغضب بأن ما يجري في أفغانستان هو حلقة في مسلسل بدأ في الجزيرة العربية قبل أكثر من قرن ونصف قرن من الزمان، وليس هذا فحسب، بل يقول: إن هناك تشابهاً بين الفكر الطالباني وبين الفكر السلفي الشائع.
وللأسف هذا كلام غير صحيح.
وأقول: السلفية ليست فكراً، بل هي منهج ملزم لكل مسلم، فالسلفية ليست جماعة ولا تنظيماً ولا حزباً، السلفية هي منهج لفهم الإسلام -القرآن والسنة- بفهم السلف، فما يزعمه هذا الصحفي من أن هناك تشابهاً بين السلفيين والطالبان غير صحيح، بل أوجه الاختلاف كبيرة جداً، ولأول مرة يتفق -تقريباً- السلفيون مع الطالبان في هذه القضية، وقد رحب بها السلفيون وعلماؤهم في كل مكان، ففي هذه الجزئية فكر مركب، لكن ما عدا ذلك فالمؤاخذات كثيرة جداً، وليس الموضوع مناسباً لأن نتكلم بالتفصيل.
والذي ذهبوا إلى أفغانستان أيام الحرب والجهاد يعرفون الفرق الشاسع بين الأفغان جملة والاتجاه السلفي، فالفروق شديدة جداً في موضوع المذهبية والتعصب للمذهب الحنفي، وموضوع الأضرحة ونحو ذلك، فهم هدوا التمثالين لكن هناك أضرحة تعبد من دون الله، وهناك شركيات معروفة؛ فهذا نوع من الدجل الصحفي أن هناك نوعاً من التوافق بين الاتجاهين، فهذا من مجازفاته، ولن ننشغل بالرد عليه، ولكن نسأل الله سبحانه وتعالى الهداية لنا ولسائر المسلمين، ونكتفي بهذا القدر.(84/31)
السيرة البازية
إن الله سبحانه قد جعل لهذه الأمة في كل فترة من الزمن من يجدد لها إيمانها، ويقوِّم اعوجاجها، وينافح عن عقيدتها ومبادئها، ألا إنهم العلماء الأبرار، ورثة الأنبياء، وحجج الله على خلقه، ومن أبرز هؤلاء الأئمة في هذا العصر الشيخ الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله، فقد كان أعبد الناس، وأزهدهم في الدنيا، وأشجعهم في قول الحق، وأخوفهم من الله تعالى، وألطفهم عبارة، وأرأفهم قلباً، فكان حرياً أن يُمدح ويثنى عليه من كل علماء الإسلام من مختلف الأمصار، فرحمه الله رحمة واسعة.(85/1)
حياة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى(85/2)
موت العالم مصيبة على الأمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.
كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد.
كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (أيما عبد من أمتي أصيب بمصيبة من بعدي فليتعز بمصيبته التي يصاب بها من بعدي) فلما كان فقد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعظم قاصمة حلت بأهل الإسلام بحيث لا ترقى إلى مستواها قاصمة أخرى، فندبنا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم -إن كنا له حقاً صلى الله عليه وسلم محبين الحب اللائق به- أن نتذكر هذه المصيبة، فكل مصيبة بعده تكون أهون وأخف، وقد نظم الشاعر معنى هذا الحديث بقوله: اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد فإذا ذكرت مصيبة تسلو بها فاذكر مصابك بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا شك أن التاريخ مليء بتراجم عظماء الرجال، وسوف نتوقف كثيراً هذا اليوم؛ لينضم شيخ الإسلام وإمام المسلمين العلامة الشيخ: عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى إلى هذه القائمة المباركة التي ضمت أعلام الإسلام من السلف الصالح رحمه الله تعالى، وليذكر إلى جنب الأئمة الأربعة، وإلى جنب الإمام البخاري ومسلم وابن تيمية وابن القيم وسائر أئمة الإسلام، فاليوم حكم القضاء الإلهي -ونحن بحكم الله سبحانه وتعالى راضون- باليتم على السلفيين، فقد قضى إمامهم وشيخهم الأكبر في هذا العصر رحمه الله تعالى.
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: (موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار).
وقال أيوب السختياني رحمه الله تعالى: إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة، فكأني أفقد بعض أعضائي.
وكان أيوب السختياني رحمه الله تعالى يبلغه موت الفتى من أصحاب الحديث، فيرى ذلك فيه، فيبلغه موت الرجل يذكر بعبادته، فما يرى ذلك فيه.
وقال أيضاً رحمه الله تعالى: إن الذين يتمنون موت أهل السنة يريدون أن يطفئوا نور الله، وقد قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] فلا شك أن موت أمثال هؤلاء الأئمة من أعظم المصائب التي تحل بالمسلمين، حتى كان بعض الأئمة يتمنى أن يؤخذ من عمره ليضيف في عمر هؤلاء الأعلام.
يقول يحيى بن جعفر: لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل البخاري من عمري لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموته ذهاب العلم.
ويقول الشاعر: لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير ولكن الرزية فقد حر يموت بموته بشر كثير ويقول آخر: فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدم فالمصيبة في أمثال هؤلاء الناس تعم جميع المسلمين، ولو فقه المسلمون لأدركوا قيمة الخسارة التي حلت بهم، والمصيبة التي نزلت بهم، ولرأيناهم على الأقل صنعوا كما صنعوا حينما ماتت الأميرة ويلز، فقالوا: هي التي كانت وكانت، فعم الحزن والبلاء، ودخلت الشعائر الكنيسية كل بيت، فلا شك أن هذه من أمارات غفلة المسلمين وضعف إحساسهم بمطالبهم.
عمت طلائعه فعم هلاكه فالناس فيه كلهم مأجور والناس مأتمهم عليه واحد في كل دار رنة وزفير يثني عليك لسان من لم توله خيراً لأنك بالثناء جدير ردت صنائعه عليه حياته فكأنه من نثرها منشور(85/3)
ولادة الشيخ ابن باز وطلبه للعلم
لا شك أن هذا المصاب الجلل الذي ابتلي به المسلمون حدث عظيم وخطير، ومن أقل حقوق الشيخ رحمه الله تعالى على المسلمين وعلى أهل الإسلام أن يذكر بخير، فإن المؤمنين شهداء الله في الأرض، فلعل في ذكر مآثره ومناقبه رحمه الله تعالى ما يستوجب الدعاء الصالح له، والترضي عنه رحمه الله تعالى.
هو الشيخ الجليل أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن باز أحد أئمة السنة المطهرة في علوم الشريعة الإسلامية، ومرجع المستفتين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وهذه الترجمة مذكورة في كتاب: علماء ومفكرون عرفتهم، شرع الأستاذ محمد المزوكي تسطيرها منذ أكثر من (25) سنة.
يقول: ولد في الرياض عاصمة نجد يوم (12/ ذي الحجة/ 1330هـ)، فيكون الشيخ توفي عن تسعين سنة تقريباً رحمه الله تعالى.
يقول: في أسرة يغلب على بعضها العناية بالزراعة، وعلى بعضها عمل التجارة، وعلى كثير من كبرائها طلب العلم، ومن أعيان هذه الأسرة الشيخ عبد المحسن بن أحمد آل باز، تولى القضاء في الحوطة، والإرشاد في الهجرة، ومنهم كذلك الشيخ المبارك بن عبد المحسن تولى القضاء في بلدان كثيرة كالطائف وبيشة والحلوة.
فالطابع الغالب على أسرته كان طابع الجد في ممارسة الخير؛ سعياً في كسب الحلال، ومذاكرة مسائل الدين، والتزاماً بفضائله، فهي بيئة إسلامية تذكر الناسي، وتعلم الجاهل، وتنبه الغافل.
شاء سبحانه وتعالى أن يحجب عن العلامة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى البصر وهو في مطالع الصبا، وكان الشيخ رحمه الله تعالى يقرأ عليه كتاب: الأدب العربي في السنة الثانية من الجامعة، ففسر بعض الناس قول امرئ القيس: (له ساقا نعامة) فقال: (ساقا نعامة) يعني: أنه قصير الساقين طويل الفخذين، وهو ما ذهب إليه الأصمعي، فاعترض الشيخ ما في الكتاب بأن العكس هو الصواب، والشيخ رحمه الله تعالى قال يومئذ: إنه قد رأى في حداثته النعامة بالرياض، وفي ظنه أن ساقها أطول من فخذها، فهذا يشير إلى أنه بعد أن أصيب بفقدان البصر كان يتثبت من أشكال الأشياء، وبعض الناس يذكرون أن الشيخ لم يفقد البصر إلا في التاسعة عشرة من عمره رحمه الله تعالى.
ولا شك أن هذا الابتلاء بفقد البصر ضاعف من أثر هذه البيئة المنزلية في نشأته العلمية إذ طالت ملابسته إياها فكثرت صفاته من فضائلها، وانطباعه من سلوكها، ثم تم الله عليه نعمته، فوصله بطائفة من صفوة أهل الصلاح، عنهم أخذ العلم، وبهم تخرج، فجمع بين الحسنيين، مما جعله أنموذجاً حياً بما تصنعه التربية الكريمة إذا التقت بالتثقيف السليم.
كان القرآن العظيم ولا زال إلى آخر حياة الشيخ رحمه الله تعالى هو النور الذي يضيء له حياته، فبدأ دراسته وطلب العلم بالقرآن الكريم، فحفظه عن ظهر قلب قبل أن يبدأ مرحلة البلوغ، ومع اجتهاده أيضاً في تحصيل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واتباعه في كل ما يصدر عنه وما يأتيه وما يذر، وبعد أن حفظ كتاب الله باشر انطلاقه في طلب العلم وجهاده فيه، فما ينفك عالماً ومتعلماً وواعظاً ومذكراً لا يجد في غير هذه السبيل متعة ولا فائدة، ولم يحبس الشيخ وقته على أستاذ واحد، بل اتصل بالعديد من المشايخ يتلقى عنهم العلم كلاً في حدود تخصصه، وكان أكثرهم من الأسرة التي لا تزال قائمة على رعاية الأمانة، هذه الأسرة المباركة التي تداولت راية العلم منذ حاملها الأول مجدد القرن الثالث عشر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، فقد تتلمذ الشيخ على الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن وهو من أحفاد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ثم تتلمذ على الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسن، ثم الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وهو حفيد شيخ الإسلام، وكان المفتي الأكبر في السعودية إلى عهد الملك فيصل.
فأثر هؤلاء المشايخ في عقله وتوجهه، وكانوا يشجعونه على المثابرة في تحقيق الخير والعلم والتبحر في عقيدة السلف.
أما مشايخه من غير آل الشيخ فمنهم الشيخ سعد بن حمد بن آل عتيق وكان قاضي الرياض في ذلك الوقت، ثم الشيخ حمد بن فارس وكان وصي بيت المال فيها، ثم الشيخ سعد البخاري بمكة المباركة والمكرمة، حيث أخذ عنه علم التجويد، إلا أن أطول فترة دراسية قضاها في التتلمذ هي على العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى، حيث لازمه في دروسه ما بين سنة: (1347 إلى 1357هـ)، حيث رشحه الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى لتولي القضاء.(85/4)
تولية ابن باز للقضاء
ولي الشيخ القضاء في منطقة الخرج ما بين عامي: (1357 إلى 1371هـ) حيث قضى في عمله أربع عشرة سنة ونيفاً، كان خلالها كشأنه في كل مكان مصدر خير وبركة وإصلاح لكل ما حوله ومن حوله، وقد ساعده على ذلك طيب قلوب الناس، وتقديرهم لأهل الفضل، وميلهم الفطري إلى العدل.
فكان ينظر في القضايا المعروضة عليه في المحكمة، بقسطاس العدالة بين المتقاضين، ويولي اهتمامه مصالح الناس في كل ما يهمهم، ويكتب إلى المسئولين في كل ما يراه ضرورياً لإصلاح حال الناس.
ولأن الشيخ لا يحب الانقطاع عن طلب العلم فلم يستطع أن يصبر على الانقطاع عن إشاعة العلم ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وكان محفوفاً بطلبة العلم حتى أثناء قيامه بتجربة القضاء، ويبين الشيخ حاله في تلك الفترة بقوله: إن من الصعوبة بمكان محاولة الجمع بين القضاء والتدريس، يعني: كان يهتم اهتماماً كبيراً بالتحري في قضائه بين الناس، لكن كان في نفس الوقت يؤدي مادة التدريس لطلبة العلم، فمن أراد أن يتقن التدريس فإنه لا يسمح لنفسه بإطلاق الآراء دون أن يتثبت، ولا يتقاعس عن الاستزادة من ضياء العلم، وأيضاً كان يعاني من موضوع القضاء؛ لأن القضاء قد يعزل صحبته عن الناس وخاصة عامتهم؛ لأن القضاء حاجز بين القاضي وبين عموم الناس؛ حتى لا يطمع أصحاب المصالح بالتلصص والاحتكاك بالقاضي لتحصيل بعض فوائده من ذلك، فلذلك وجد الشيخ صعوبة في الجمع بين القضاء والتعليم والتدريس؛ لأن كلاً منهما يتطلب من صاحبه التفرغ التام، فكل تساهل في أحدهما إنما يتم من حيث الاهتمام في حق الأخرى.(85/5)
ابن باز وتوليه رئاسة الجامعة الإسلامية
تخلى الشيخ رحمه الله تعالى عن عمله في القضاء عام: (1371هـ) ليتفرغ للتدريس في المعاهد والكليات حينما بدأ عهد افتتاح هذه الكليات والمدارس في الرياض، وبقي هناك إلى سنة: (1380هـ)، ثم انتقل بعد ذلك إلى المدينة النبوية نائباً عن أستاذه سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى في رئاسة الجامعة الإسلامية سنة افتتاحها، ثم تولى رئاسة الجامعة إلى عام: (1395 هـ) حيث عهد إليه برئاسة إدارتها فاستقر في الرياض، فكان لا يغادرها إلا لحضور المؤتمرات التي يكلف بها أو لأداء العمرة أو الحج الذي يكاد الشيخ لم ينقطع عنه على الإطلاق، فكل من صحب الشيخ رحمه الله تعالى في عمره المبارك الطويل يقولون: ما انقطع الشيخ عن الحج حتى هذا العام رحمه الله تعالى.
وكان يكره أن يسمي مرضه الشديد بالسرطان رحمه الله تعالى.
ولما زار الملك فيصل رحمه الله الجامعة الإسلامية للمرة الأولى عام: (1384هـ) كان الشيخ رحمه الله تعالى موجوداً في هذه المناسبة، وعرض فيها المقدم -وهو الشيخ محمد المجذوب - انطباعاته عن الجامعة الإسلامية ورسالتها في العالم، وهو يعني بذلك المدح والثناء على جهود الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى في إدارته، فيقول: هذه الحديقة من أغراس بيتكم وقد بدا ينعها واخلولق الثمر ردت إلى طيبة العظمى قيادتها فكل صدع به من نفحها أثر فانظر إلى أمم الدنيا بساحتها في وحدة لم يكن في لهفها شجر جاءت طلاب الهدى من كل ناحية ظمأى إلى النور تحدوها المنى الكبر فيومها دأب في الدرس متصل ومعظم الليل في تحصيصه السفر لا ترتضي الرأي إلا أن تغيبه طريقة المصطفى والآي والسور جيل الهداة الذي كفوا لمطلعه روح الكفاح ويرنو نحوه القدر فصدق هذا التوقع والأمل حتى استعاد مهبط الوحي مركزه المشع على عالم الإسلام، وانتشر خريجو هذه الجامعة المباركة في مختلف القارات لاسيما الأفريقية، وكان من ذلك خير كثير.
ولا شك أن للشيخ رحمه الله تعالى أثره العميق في كل قدر أحرزته الجامعة تحت إشرافه أولاً نائباً لرئيسها، ثم رئيساً مستقلاً لها بعد وفاة رئيسها الأول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ تغمده الله بعفوه، فقد كان الشيخ رحمه الله تعالى يتفقد الفصول بين الحين والآخر، فيستمع إلى دروس المشايخ، ويلقي توجيهاته الحكيمة هنا وهناك، وأحياناً كان يعرض في بعض الدروس ما يختلف مع طريقته في اتباع الدليل وتحريه، فيعقب على ما سمع بما يؤدي الغرض في منتهى الكياسة والتقدير، وكان يتردد على قاعات المدرسين فيسألهم عن صحتهم وراحتهم، ويحاورهم في شئون التعليم، ويشجعهم على المزيد من الجهد في خدمة الطلبة ابتغاء ما عند الله، ويدعو المدرسين في مطلع كل عام دراسي لاجتماع عام، يضم أساتذة المعاهد مرة، وأساتذة الكليات الأخرى مرة؛ ليتابع أمور الجامعة، مؤكداً على وجوب الاهتمام بأصول العقيدة التي كان الشيخ يعتبرها المنطلق العملي لتكوين شخصية الطالب.
وكان اهتمامه كثيراً بلغة القرآن الكريم التي يتوقف عليها مذاق هذا الطالب في الفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، خاصة أن في الجامعة طلاباً من غير الناطقين بالعربية، فلذلك كان يهتم بأن يعطي المدرسون الاهتمام الكبير بعدم اللحن، وأن يكونوا قدوة في نطقهم وسلوكهم، وكان يحرضهم على التزام اللغة الفصحى في كل حوار مع الطلاب.
وفي نهاية العام الدراسي يعقد مع المدرسين اجتماعاً عاماً آخر، فيتدارس شئون المقررات وملاحظاتهم، ويرى آراءهم وما يتعلق بسلوك الطلاب، والانطباعات التي حصلت من خلال هذا العام المنصرم، ويعرض على مجلس الجامعة فوائد ونتائج ذلك.
وكان الشيخ يشرف على أنشطة دار الحديث طوال السنة، ويلقي محاضراته فيها.(85/6)
اهتمام الشيخ بأحوال المسلمين والأقطار الإسلامية
يقول أحد الأساتذة في مقدمة محاضرة ألقاها الشيخ عن سيرة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: وفي العقائد كان الشيخ ابن باز مثالنا في ذلك، لا هو من أولئك المتطرفين الذين يطلقون عبارات الشرك على كل صغيرة وكبيرة، ولا هو من المتساهلين الذين يغضون النظر عن صغار الأمور، بل إنه لينبه عن الصغيرة والكبيرة، ويضع كل شيء في موضعه، والذين يعرفون الشيخ مثلنا عن كثب يدركون هذه الخاصة في أسلوبه، ومرد ذلك فيما نرى إلى سجيته السمحة التي تعامل حتى المخالفين بروح الطبيب الذي يعلم أن ثقة المريض به أول أسباب الشفاء.
وكان نشاط الشيخ يمتد إلى الأقاصي البعيدة من وطن الإسلام ومهاجر المسلمين، فمن خصائص شخصيته موضوع الاهتمام بأحوال المسلمين اهتماماً غير عادي، حتى إنه ما يسلم عليه أحد إلا ويسأله عن أهله وأولاده، وعن بيته وجيرانه، ويحمل معه إليهم السلام، ولذلك بعض له العاجزين كان يفرح جداً إذا أتاه الأخ من الحج وقد لقي الشيخ ابن باز، فيقول له: الشيخ ابن باز يسلم عليك، فهو يسأل، فيقول للناس: من الذي يقوم بالدعوة والسنة عندكم؟! أتبعث إليه السلام؟! فيظن الرجل أن الشيخ شخصياً يسأل عنه ويبعث له بالسلام، لكن هذه عادته مع كل الناس، حتى عندما يجلس الشيخ ابن باز للأكل لا يأكل وحده أبداً، فدائماً بيته مفتوح، سواء إذا كان في الرياض، أو في مكة، أو في غيرهما، فمعروف عن الشيخ أنه لا يمكن أن يطعم وحده أبداً، وإنما موائده دائماً منصوبة للأغنياء والفقراء، والوزراء والأمراء، والمساكين، كل يأتي يجلس، ويجلس الشيخ على الأرض فيأكل معه الناس، ويعود الشخص المسكين أو الفقير من أمثالنا إلى بلده فيقول: أنا كنت آكل عند ابن باز، وقال لي: كذا وقلت له: كذا بحيث يظهر أنه كان مع ابن باز في دعوة شخصية، لكن هذا لأن الشيخ كان يعامل كل شخص على أنه أكرم إنسان عليه من الجالسين.
كان الشيخ يهتم بالمدرسين الذين تم تدريبهم في الجامعة الإسلامية للتدريس في شتى بقاع الأرض، في الهند والباكستان، فكان يهتم بالمتفوقين من متخرجي الجامعة لينتدبهم إلى الدعوة في بلادهم وغير بلادهم، وهؤلاء هم المنبثون في كافة أقطار الأرض، يعلمون الناس دينهم ليل نهار، ويحصنونهم من التيارات الهدامة مثل الطرق الصوفية الضالة أو القاديانية المرتدة أو التكفيرية الضالة.
كذلك كان للشيخ جهد عظيم جداً في إمداد المسلمين في كافة أقطار الأرض بالكتب التي هم بحاجة إليها في مصيرهم بقصد التدريس والمطالعة.
فبفضل جهود الشيخ -بعد فضل الله سبحانه تعالى- صارت الجامعة مركز إشعاع على مستوى العالم الإسلامي كله.
وقد ذكر الشيخ المجذوب كثيراً من الإنجازات فيما يتعلق بأمور الجامعة كأنواع الكليات التي أسسها الشيخ من أجل أن تؤدي رسالتها كما ينبغي، كإنشاء كلية القرآن والدراسات الإسلامية وغيرها من الكليات.(85/7)
أخلاق الشيخ ابن باز رحمه الله
الحديث عن المترجم لا يكون مستوفى إذا لم يوف الجانب الخلقي عنه حقه يقول المترجم للشيخ: لقد أشرت قبل قليل إلى سجيته السمحة التي يعامل بها حتى المخالفين، وكانت إشارة عابرة لابد من الوقوف عندها ولو لحظات؛ وذلك أن الرجل بسماحته وحلمه وكرمه وأناته يكاد يكون صورة أنموذجية للتوجيه النبوي القائل: (تعلموا العلم، وتعلموا له السكينة والوقار، وتواضعوا لمن تتعلمون منه، ولا تكونوا جبابرة العلماء) فالسكينة والوقار أبرز صفات الشيخ، وهما أول ما يواجه به الناس القرباء منه والبعداء من جلسائه أو زواره العابرين.
يقول أحد الشعراء في ممدوح له: يا من له ألف خل من عاشق وصديق أراك خليت للناس منزلاً في طريق يقول: ما أعلم أحداً أحق بهذا الوصف من الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى، إن الناس ليتكوكبون حوله أينما وجد في المسجد في المنزل في الجامعة وإنه ليصغي لكل منهم في إقبال يخيل إليه أنه مختص برعايته، فلا ينصرفوا عنه حتى ينصرف هو، ومراجعوه من مختلف الطبقات، ومن مختلف الأرجاء، ولكل حاجته، هذا يقصده من أطراف المملكة يسأله الفتيا في أمر ضاق به العلماء، وذلك يفضي إليه بحاجة لا يجد فيها سوى الحلماء الكرماء، وربما كان بين هذا وذاك من لا يستحق اهتماماً ولا إصغاء، ولكنه لا يعدم منه الرعاية التي تجبر قلبه، وقد يكون بين المراجعين من يغلب عليه الحق فيسخط ويغلو لغير ضرورة، فلا يغير ذلك من حلم الشيخ، ولا يزد على الدعاء له بالهداية، ودعوته إلى الأمان.
حصل موقف من أحد تلامذة الشيخ المعروفين له، فكان يحكي أنه خالف الشيخ في المسألة الفلانية، قال: ورددت عليه وقلت له: كذا وكذا فقال: كذا فرددت عليه بكلام فيه شيء من الشدة، فقال له أحد إخواننا الجالسين معه: أما تخشى أن تكلم ابن باز بهذا الأسلوب؟ فالأخ قال له: لا، فهذا الشيء لا نبالي به على الإطلاق؛ لأن الشيخ رجل يريد وجه الله، فلا تبال إذا اختلفت معه ما دام قصدك الحق، فهو لا يتغير قلبه.
فكان إذا حصل مثل هذا كمراجعة في الكلام لا يغير ذلك من حلمه، ولا يزيده إلا الدعاء له بالهداية، ودعوته إلى الأمان، وليس بالنادر أن يزدحم عليه هؤلاء حتى لا يدعون له متسعاً لراحة، ومع ذلك لا يحاول التخلص من مقامه الصعب، بل تراه يصغي لحاجة كل منهم بهدوئه المعهود، ويجيب كلاً بما يرى أنه الحق.
يقول الشيخ المجذوب: لقد دخلت سرادقه في منى ذات يوم، فإذا هو محاصر بهجمة من الناس قد أحاطت به من كل صوب، بعضهم مكب عليه، وبعضهم قائم ينتظر دوره، وهو راض يسمع ويجيب دون أن يبدو عليه أي تذمر؛ لأن الشيخ من صفاته الغريبة والفذة التواضع الشديد.
رأيته مرة في منى وقت رمي الجمرات، فكان يمشي في نعل رطب جداًً، ويلبس ثوباً قصيراً في غاية التواضع، ولولا نور العلم الذي كان يضفيه الله سبحانه وتعالى عليه لقلت: هذا رجل من الفقراء والمساكين ماشٍ بالعصا، والجندي يدله على مكان رمي الجمرات، فيرمي الجمرات وحده، فهل ينكر أحد أن هذا هو الملك الحقيقي، وأن هذا هو الزعيم من زعماء الحق، ومع هذا لا يحتاج إلى الشرطة ولا كذا وكذا، فهذا هو الملك الذي ليس بعده ملك في الدنيا.
يقول: ومع أن الشيخ يعطي كل زائر ومراجع حقه المناسب عند مجلسه وإسناده، فالملاحظ أن له عناية خاصة بالفقراء والضعفاء، حتى لقد رأيت منهم من تأخذه نشوة الاعتزاز مما يجده من انبساطه إليه، واهتمامه بشئونه الخاصة، كأنه واحد من أقرب الناس إليه.
فالشيخ كان منحازاً جداً للفقراء والضعفاء والمساكين، وكان كل الناس في السعودية وإلى اليوم لا يعبرون عن الشيخ إلا بالوالد، فهو كالأب لهم جميعاً كباراً وصغاراً، ما من أحد إلا ويحس أنه والده وأبوه، حتى الفقراء والضعفاء يفخرون بالاعتزاز أن الشيخ يعطيهم هذا القدر من الاهتمام، وهذا يذكر بمجلس سفيان الثوري رحمه الله تعالى، فقد قيل في وصف مجلسه: ما رأيت الفقراء والضعفاء والمساكين في مجلس أعز منهم من مجلس سفيان، فقد كان يكرمهم جداً، ويعلي شأنهم، وهكذا الشيخ رحمه الله تعالى كان ينحاز جداً للفقراء والمساكين والضعفاء، ويعطف عليهم، ويحسن إليهم.
وفي الحقيقة أن سيرة الشيخ ابن باز هي ظاهرة غيرت مجرى التاريخ الإسلامي، خاصة في هذا العصر الذي أجدب بأمثال هذه النماذج الفذة، فلذلك نتوقع إن شاء الله تعالى أن تصدر تراجم كثيرة توفي الشيخ بعض حقه.
وقد وصف الشيخ ابن باز بأنه حاتم الطائي في هذا العصر من كرمه وجوده وإحسانه إلى الفقراء.
يقول الشيخ المجذوب حفظه الله تعالى: ولا أذيع سراً إذا قلت: إن نصيب هؤلاء من الشيخ لا يقتصر على حنانه وتلطفه، بل كثيراً ما يتجاوز ذلك إلى العون الذي يسد الحاجة، ولو كلفه ذلك الحيف على ميزانيته والذين يعرفون الشيخ عن قرب يقولون: إن الشيخ ما تمر أيام قليلة من الشهر بعدما يتقاضى مرتبه إلا ويكون قد استدان إلى أن يأتي الشهر الجديد، ويسدد الدين من مرتبه؛ لأن الشيخ كان لا يرد سائلاً أبداً.
يقول الشيخ: وإذا سمحت لنفسي برواية ما يتناقله عارفوه قلت: إن ذلك كثيراً ما يرهق الشيخ بتحميله ما لا يطيق.
بعض الناس يتصور الشيخ ابن باز شخصية سياسية، والحقيقة أن الموقع المتميز الذي كان فيه، هو أعظم من ذلك بكثير، وهذا نتيجة سر أودعه الله سبحانه وتعالى في قلوب خلقه، ويشير إليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: يا جبريل! إن الله يحب فلاناً فأحبه، ثم ينادي جبريل في الملائكة بذلك، ثم يوضع له القبول في الأرض) إلى آخر الحديث المعروف، فهذا هو السر في الحقيقة، والشيخ ابن باز ليس شخصية سياسية، وإلا فالشيخ ما أعطي حقه الذي يستحق، الشيخ ابن باز كانت سيارته تقف أمام الحرم ليدخل يصلي في الحرم المكي، فقد كانت له هذه المكانة المتميزة التي يتربع بها في قلوب جميع أئمة أهل السنة وأنصار السنة في كل بقاع الأرض؛ وذلك لأن هذه المحبة التي أوجدها الله في قلوب العباد للشيخ رحمه الله ما كانت تستمد من موقعه ولا من وظيفته ولا غيرها؛ لأن أي وظيفة ستكون أقل مما ينبغي لإمام الدنيا، ولرجل الأمة، ولشيخ الإسلام في هذا الزمان.
يقول: ومما يندرج في هذا النطاق من أخلاق الشيخ طبيعة الكرم التي لا يملك لها تغييراً ولا تعديلاً، فعلى مائدته يلتقي بالصغير والكبير، والغريب والقريب، وما أحسب طعاماً له خلا من عديد الضيفان، حتى لكأنه هو القائل: إذا ما اصطنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي أخا سفر أو جار بيت فإنني أخاف مذمات الحوادث من بعدي بهذه الأخلاق الرضية كان الشيخ رحمه الله يستجيب لدعوات الآخرين، فلا يستمسك عن حضورها إلا لرجل قام، وقد يكون الداعي له تلميذاً له أو واحداً من عامة الناس، يقول: وأذكر أني حللت في ضيافته أياماً بمدينة الرياض فلم يتناول غداءه إلا على مائدة غيره من الداعين له.
يعني: طوال الفترة التي مكث فيها الشيخ المجذوب معه كان الشيخ دائماً مدعواً عند أحد، فكانت الدعوات تتوالى عليه من كل صوب، فيأمر بتحديد ما يمكن إجابته منها في جدول خاص، فلا ينفك يعتذر به كلما زادت الدعوات عن عدد الأيام، وهذه من المسائل الكثيرة التي أرتني مدى حب الناس لهذا الرجل.
وقد كان وما يزال رحمه الله تعالى وقته مباحاً للمراجعين، يأخذون منه ما يشاءون كما يشاءون، ولكل منهم حاجته الخاصة، مما قد يحيط على أعماله الرسمية، فكان لابد من تنظيم أفضل لهذه الجوانب، فقسم الشيخ وقته حسب الإمكان، جزء للعمل الرسمي، وآخر للمستفتين والمراجعين، وثالث للمراسلات والاتصالات، يتناوب على الكتابة للشيخ عدد من المساعدين يقرءون له ما يريد من نصوص المراجع، وما يرد إليه من الرسائل، ثم يتلقون منه الفوائد التي لا يكاد يخلو منها يوم، وإذا كان كتّابه هؤلاء يستحقون الإشفاق لكثرة ما يتحملون من هذه المتاعب، فهو أحق منهم بإشفاق المحبين؛ لأن الجهد الذي كان يعانيه رحمه الله تعالى تنوء به العصبة أولو القوة.
والحق أن أحدنا ليتساءل في دهشة كيف يستطيع هذا الرجل النهوض بكل هذه الأعباء؟ ثم يتذكر أنها البركة التي يختص بها الله من يشاء من عباده، فتحقق لأحدهم من أعمال اليوم الواحد ما تضيق به الأسابيع، بل الأشهر من أعمال الآخرين، وعلى ضوء هذا الواقع الملموس من حماس حياة الشيخ لزم التفسير المعقول لذلك الإنتاج الضخم الذي خلفه للأجيال أولئك السابقون من أمثال ابن تيمية وابن الجوزي والنووي والكثيرين من صالحي المؤمنين.(85/8)
جدول الشيخ ابن باز وأعماله اليومية
يقول: ولكي تتوفر للقارئ الصورة المقربة لأعباء الشيخ أضع بين يديه هذه القائمة التي تكاد تستوعب عمل اليوم والليلة من واقعه الذي يوشك ألا يتغير.
يبدأ دوام الشيخ الرسمي قرابة الساعة التاسعة من ضحى كل يوم، فإذا ما وافى مقر الرئاسة وجد المراجعين يملئون الأمكنة المعدة لهم بانتظاره، فيحييهم، ويستقبل مصافحيه ومعانقيه منهم، ثم يأخذ مكانه، وإلى جانبيه كاتبان مع كل منهما كدس من الأوراق المقدمة من هؤلاء، وكثير من يجتزئ عن الكتابة بالعرض الشفهي، فيبدأ بالاستماع إلى مضمون كل معروض على حدة، حتى إذا ما فرغ الكاتب من التلاوة المهموسة أملى عليه التعليق الذي يراه الشيخ، فإذا ما استوفى الكاتب بعض أوراقه تركه يستريح، والتفت إلى الآخر الذي يشرع في عرض ما لديه، وتلقي ما يملي عليه، وهكذا حتى تنفذ العرائض أو يحين وقت صلاة الظهر.
وقد تكون هناك اجتماعات لبعض اللجان تستدعي حضوره فينهض إليها، ثم يعود ليستقبل بقية المراجعين المشافهين، وكثيراً ما يمتد دوامه هذا إلى ما بعد انصراف الموظفين، فيظل هو ومن لابد من بقائه من مساعديه حتى ينطلق إلى البيت مع ضيوفه الذين لا يخلو غداء له ولا عشاء من بعضهم، وبعد الطعام يدعو بالقهوة والطيب، ويتحدث إلى جلسائه المرافقين والمنتظرين في مصالحهم، حتى إذا وافى موعد صلاة العصر أخذ سبيله إلى المسجد فصلى وراء الإمام في المدينة أو صلى بالناس في مسجد الرياض الكبير، وكثيراً ما رأيته يعقب الصلاة بموعظة قصيرة، ثم يعود إلى المنزل لمواصلة ما انقطع من حديث أو استقبال مراجعين جدد، وقل ما يخلو ذلك الوقت للقراءة في بعض الكتب القديمة، يتلوها عليه بعض المشايخ من خاصة طلبته، إلى ميعاد المغرب فيمضي معهم إلى المسجد، ثم يعود معهم إلى المنزل من قراءة والنظر في شئون الناس حتى وقت العشاء، وبعد أداء الصلاة يتناول مع الحضور طعام الليل، ثم يقبل عليه أحد مساعديه في المعاملات الخاصة بالمساجد ونحوها فيستمع ويملي، ولا يزال بين قراءة وإملاء وحديث في المكان حتى وقت متأخر، وقلما يتاح له الإخلاد إلى النوم قبل منتصف الليل! ويحين موعد صلاة الفجر في اليوم التالي فيتهيأ لها، ثم يأخذ كنفه إلى المسجد مع مرافقه، فإذا ما عاد إلى المسكن جلس يجيب في الاستفتاءات الواردة إلى مكتب البيت من مختلف الأرجاء والأقطار، فإذا فرغ منها نظر في طلبات المستشفعين من أصحاب الحاجات، فأوردها مواردها اللازمة، وهنا يوافيه موعد الدوام الرسمي فينهض إليه على عادته التي وصفناها.
هذه هي الصورة المقاربة ليوميات الشيخ، نقلنا بعضها من مشاهدتنا، ومعظمها عن أخ كريم طويل الصحبة له، ومن حق القائل أن يستشعر العجب بإزاء هذه الوقائع التي تكاد لا تصدق، ولكنها مع ذلك حقيقة يعرفها عن الشيخ كل من خالطه عن كثب.(85/9)
مفهوم الشورى عند الشيخ ابن باز رحمه الله
ثم يقول: وصف الله المؤمنين بقوله الحق: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] وألزم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهو المؤيد بوحيه ألا يفارق الشورى في كل شأن هام فقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] وقد استمرت مسيرة المجتمع المسلم في صعود حتى أسقطوا هذا المبدأ من حياتهم، فباتوا عرضة لتقلبات الأهواء، يتخذهم المستفزون مطايا لشهواتهم، حتى انتهوا إلى التخبط في الظلمات، والشيخ الذي أخذ نفسه بأدب الإسلام عزائمه ورخصه ما كان أبداً يتخلى عن مبدأ الشورى في أي شأن يقتضيه، وقد شاء الله أن أصحبه في مجلس الجامعة عدداً من الاجتماعات، فقيض لي أن أشهد من فضائله -وبخاصة في هذا الجانب من خلقه- ما لا يصح إغفاله من أي ترجمة تكتب عنه، أول ما نواجهه من فعل الشيخ في هذه المجالس ذلك الأنس الذي يشيعه في نفوس الأعضاء، لسؤاله كلاً منهم عن حاله وصحته، ووقوفه على ما سمع من الأنباء العالمية وأحوال المسلمين، فإذا ما بدأ النظر في جدول الأعمال أخذ بكل منها على حدة، فعرضت المناقشة وأعطى كل عضو رأيه فيها، فإذا انعقد على وجه منها بالإجماع أثبت ذلك في المحضر، وإلا طرح كلاً من الوجوه المختلفة للتصويت، وتقرر في شأنها الوجه الأجمع للأصوات، وكثيراً ما يكون هذا الترجيح مخالفاً لرأي الشيخ، ولكن ثقته بأعضاء المجلس، والتزامه بمبدأ الشورى، ينتهيان به إلى الرضا التام بكل ما تم.
وذات ليلة احتدم النقاش حول إحدى القضايا المطروحة، وتباينت الآراء فيها، وكأني بالشيخ خشي أن يكون في إبدائه وجهة نظره إحراجاً للآخرين فقال بلهجة ملؤها الود: أرى -يا إخوان- أن يأتي رأيي ورأي نائبي آخر الآراء؛ لئلا يكون في ذلك حرج لكم! وهذا مسلكه أيضاً في كل شأن يتسع للتساؤل، حتى القضية التي يسأل بها في الفقه -وهي من صميم اختصاصه- فيناقشونه الرأي فيها على ضوء النصوص الواردة في شأنها، حتى يطمئن قلبه إلى الوجه الأمثل، وقد يعترضه الأمر فيه الإبهام فيطرق ملياً يتأمله في صمت، ثم يدلي برأيه أو يقول لمن حوله ممن يثق به: أشيروا علي.
وهذا الرجل السهل السمح الحليم، محب الفقراء، سرعان ما ينقلب أسداً لا يرده عن إقدامه شيء إذا علم بظلم يقع على المسلمين، أو عدوان على شريعة الله عز وجل، إن مسلك الشيخ في هذه الناحية هو مسلك العالم الإسلامي الذي يوقن أنه مسئول عن حماية محارم الله، والدفاع عن حقوق أهل الإسلام بكل ما يملك من طاقة، وبدافع من الشعور الكامل بهذه المسئولية يتتبع أحوال العالم الإسلامي، فلا ينال المسلمين خير إلا فرح به، ولا يمسهم سوء إلا اضطرب له، ويرتفع غضبه إلى القمة حين يتعلق الأمر بدين الله، لذلك تراه أسرع العلماء إلى إنكار البدع؛ لأنها بنظره عدوان على حقائق الوحي، وتغيير لدين الله، وفي النهاية هي إبعاد للمسلمين عن جادة الإسلام.(85/10)
مراسلات الشيخ ابن باز للحكام والطغاة
عندما أصدرت محكمة البغي قرارها بإعدام سيد قطب وإخوانه رحمهم الله اعترى الشيخ ما يعتري كل مؤمن من الغم من مثل هذه النازلة التي لا تستهدف حياة البرآء المحكومين بقدر ما تستهدف منزلة الإسلام نفسه والمعتصمين.
يقول الشيخ المجذوب حفظه الله: وكلفني الشيخ يومئذ بصياغة البرقية المناسبة لهذا الموقف، فكتبتها بقلم يقطر ناراً وكرهاً وغيرة وأدخلتها عليه وكلي يقين بأنه سيدخل عليها من التعبير ما يجعلها أقرب إلى لغة المسئولين الدبلوماسيين منها إلى لغة المنذرين، ولكنه حطم كل التوقعات حين أقرها جميعاً، ولم يكتف حتى أضاف إليها قول الله تعالى في سورة النساء: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، ووصلت يومئذ البرقية التي كانت -فيما أظن- الوحيدة من أنحاء العالم الإسلامي بهذه المناسبة لما تحمله من عبارات أشد على الطغاة من نزع السياط.
وينفخ الشيطان في نفس أحد الحكام فيعلن شبهاته بالطعن على كتاب الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا الطاغية طعن في القرآن والسنة بتوجيهاته التي تقيأها في مؤتمر للمعلمين عام (1994م) وكان المجلس الاستشاري يضم ثلة من كبار علماء العالم الإسلامي يواصل اجتماعاته بالجامعة الإسلامية لدراسة المناهج وتطويرها، وإصدار توصياته بشأن الإحداثات التي تتطلبها المرحلة الجديدة، فوجه المجلس عدداً من برقيات الاحتجاج والاستنكار بمزاعم الطاغية حملت توقيعات الأعضاء جميعاً ما عدا واحداً اكتفى بالدعاء عليه، على أن الشيخ لم يستطع الاكتفاء بذلك فقال إلى كاتبه يملي عليه مقالاً في تفنيد تلك الأباطيل، وفضح مزاعم الطاغية التي تلم عن منتهى الجهل بالإسلام ولغة العرب، وقد نقلت الصحف والمجلات ذلك البيان الذي كان قطعة بارعة من فقه الشيخ وأدبه وغيرته اللاهبة على دين الله، يتلو تلك الهجمة الطائشة عدوان طواغيت الصومال من الشيوعيين على شريعة الإسلام.
فمعروف أن عدو الله سياد بري، ألغى أحكام الإسلام في الميراث، وأعلن التسوية بين الرجل والمرأة في الميراث، فثار ضده علماء المسلمين، فجمعهم في الميادين العامة وأحرقهم أحياء -عليه من الله ما يستحق- اعتداء منه على الإسلام، ثم تلته هذه الهجمة من طواغيت الصومال الشيوعيين على شريعة الإسلام، إذ ألغوا أحكامها العادلة في موضوع الإرث والحياة الأسرية، ليحلوا مكانها أحكام جاهلية ماركسية، ولما أعلن علماء مقديشو حكم الله في عدوانهم هذا أخذت الظالمين العزة بالإثم، فأحرقوا عشرة منهم وهم أحياء، وزجوا بالعشرات الآخرين في السجون، فكان لهذا الطغيان الرهيب أثره العميق في قلب الشيخ، لم يلمس إزاءه سوى القلم الذي حمل إلى البغاة ما يجب أن يتلقوه من مثله رحمه الله، وقبل ذلك كان للشيخ صولة في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، خرج منها بالقرار التاريخي الذي يدين ثلة الشيوعيين الذين يفرضون وجودهم بقوة الحديد والنار، وطواغيت موسكو على مسلمي الجنوب العربي الذي لم تقف فيه حمامات الدم منذ استيلاء هذه العصابة الحاقدة على زمام السلطة في عدن وحضرموت، وعلى هذا الغرار يمضي الشيخ في مواجهة الأحداث التي تهم بالإسلام وأهله على مستوى العالم الإسلامي كله.(85/11)
تمكن الشيخ من الخطابة وتميزه فيها
يحكي الشيخ حفظه الله كيف استقبلت الجامعة الإسلامية (عام 1393هـ) الملك فيصل، ثم وقف الشيخ يلقي كلمة يوجز فيها تاريخ الجامعة وأطوارها، ويذكر زيادة طلابها، وعدد خريجيها، ومطالبهم بعد التخرج، حيث انطلقوا يحققون رسالتها في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ثم إن الشيخ رحمه الله تعالى وقف يذكّر -في حضور الملك فيصل رحمه الله- بأهمية الإعلام في تبليغ الدعوة، وإبراز محاسن الإسلام للسامعين والناظرين والقارئين، ويذكر الملوك والأمراء بمسئوليتهم في هذا الصدد، ويهيب بالإعلام بعدم الانجراف في المزالق التي سبقه إليها الآخرون، وكان يتكلم بحرارة توحي للسامعين أنه يؤدي أمانته، ويبرئ ذمة، كأنما يستحضر مشهد الحشر حيث يسأل كل إنسان عما علم، وتكون مسئولية العلماء أضخم المسئوليات، ثم علق الشيخ المجذوب في هذه اللحظات بقوله: لم أتمالك نفسي أن قلت: الحمد الله الذي حفظ للإسلام من يقول مثل هذا الكلام.
ثم تكلم عن الشيخ ابن باز خطيباً رحمه الله تعالى فيقول: من الأمور الهامة أن يلمس القارئ ثقافة الشيخ في اللغة والأدب؛ لأنهما من الأسس الرئيسية لنظام التعليم الإسلامي، فإن كل جهد يبذل لفهم الآية أو الحديث أو استنباط الحكم الفقهي ذاهب سدى إذا لم يدعم بتعمق في قواعد العربية وآدابها وغريبها، وما يتبع ذلك من علوم البلاغة والنثر والشعر، وقد كان للشيخ أدواته الكافية الوافرة لإجابة الأشياء البديعة، فأهل العلم أكثر ما تنمو قدرتهم الأدبية في نطاق الخطابة؛ لأن معظم اعتمادهم عليها في الدرس والوعظ والدعوة، وهذا ما يتجلى واضحاً في مواهب الشيخ ابن باز، إنه لخطيب مبدع سواء في محاضراته الكثيرة أو تعقيباته على محاضرات غيره أو في توجيهاته الحكيمة التي تشرئب إليها الأسماع.
ومن خصائصه الخطابية قدرته على ترتيب أفكاره حتى لا تتشتت، وضبطه لعواطفه حتى لا تغلب عقله، ثم سلامة أسلوبه الذي لا يكاد يعتريه اللحن في صغير من القول أو كبير.
وأخيراً: تحرره من كل تكلف.
إن هذا الرجل من أشد الناس غيرة على حقائق الوحي واستمرارها سليمة من كل شائبة، وفي طبعه النفور عمن شذ عن هذا، فإذا ما سمع أي شيء من ذلك لم يلبث أن ينهض للتعقيب عليه بما يبين وجه الحق، فرحمة الله عليه رحمة واسعة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(85/12)
فوائد من السنة النبوية
جُبلت النفس البشرية على التطلع إلى مافي أيدي الآخرين، وهذا قد يفظي بها إلى العدوان عليهم، فيعتدي المرء على غيره قاصداً أخْذ ماله، أو إزهاق روحه، أو هتك عرضه، ومن ثَم فقد شُرع في الإسلام دفع هذا المجرم المعتدي بما يسميه الفقهاء (أحكام دفع الصائل)، وفيما يلي بيان لهذا الحكم الشرعي.(86/1)
شرح حديث: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي)
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد روى جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى).
هذا الحديث رواه محمد بن نصر في كتابه (تعظيم قدر الصلاة)، والبيهقي في الدلائل من حديث أنس، وفيه الحارث بن سعد الإيادي ضعفه الجمهور، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
ورواه -أيضاً- الطبراني في الأوسط، وابن أبي عاصم في السنة، ورمز السيوطي له بالصحة، وحسنه الألباني.
فالحديث هو عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى).
أما الحلس فهو كساء يبسط ويفرش في أرض البيت، وهو قماش رقيق يوضع على ظهر البعير تحت قتبه، فشبه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جبريل عليه السلام بالحلس برؤيته لاصقاً بما تلبس به من هيبة الله تعالى، وشدة فرقه منه، فالسر في هذا التشبيه هو أن الحلس يلصق بالأرض، أو يلصق بظهر البعير، وكذلك هذا الخوف وهذه الخشية من الله سبحانه وتعالى لصيقة بجبريل عليه السلام تماماً كلصوق الحلس بالأرض، أو بظهر البعير.
وتلك الخشية التي تلبس بها جبريل عليه السلام هي التي ترقيه في مدارج التبجيل والتعظيم، حتى دعي في التنزيل بأنه الرسول الكريم، وعلى قدر خوف العبد من ربه سبحانه وتعالى يكون قربه، فلأن جبريل عليه السلام شديد الخوف والخشية والهيبة لله سبحانه وتعالى فلذلك كان قريباً معظماً عند الله سبحانه وتعالى.
وفي الحديث أن الملائكة بين الخوف والرجاء كسائر المكلفين، مع أن الملائكة لم يخلقوا من نفس طبيعة البشر من حيث وجود الشر أو العصيان، وإنما هم لا وظيفة لهم سوى عبادة الله سبحانه وتعالى وتسبيحه وتحميده والسجود له، ومع ذلك فهم دائماً بين الخوف والرجاء يخافون الله سبحانه وتعالى، فأولى لهم أن يكونوا كالملائكة الذين لا يفعلون المعاصي وهم معصومون منها، فما بالك بمن ليله ونهاره في معصية الله سبحانه وتعالى، فلاشك في أنه لو فقه وعلم حق العلم لكان أشد خشية لله سبحانه وتعالى، فهذا حال جبريل -وهو أفضل الملائكة- يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى).
فيفهم من ذلك أن الملائكة يكونون بين الخوف من الله سبحانه وتعالى ورجائه كسائر المكلفين.
قال الحكيم الترمذي: (وأوفر الخلق حظاً من معرفة الله سبحانه وتعالى أعلمهم به) فكلما زاد علم الإنسان بالله سبحانه وتعالى وعرف الله أكثر كلما ازداد خوفه من الله عز وجل، وأعظمهم عنده منزلة هو -أيضاً- أخوفهم من الله، وأرفعهم عنده درجة وأقربهم منه وسيلة.
فالأنبياء إنما فضلوا على الخلق بالمعرفة لا بالأعمال، وما ثبت من تفضيل الأنبياء عليهم السلام على سائر البشر ليس بكثرة العمل، بل بكثرة العلم والمعرفة بالله سبحانه وتعالى؛ لأنهم يعرفون الله عز وجل أكثر، فلو كان تفاضلهم بالأعمال لكان المعمرون من الأنبياء وقومهم أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته، أي لكانت تلك الأمم التي عاشت أكثر منا أفضل عند الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يقع، ولكان أنبياؤهم كذلك الذين عمروا وطالت أعمارهم أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن الأمر ليس بذلك، وإنما العبرة بمعرفة الله سبحانه وتعالى وليس بالأعمال، فنوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، والرسول صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثاً وستين سنة صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك هو أفضل من نوح، بل أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، فدل على أن العبرة في المفاضلة خشية الله، وعظم المعرفة به، وليس بمجرد الأعمال.
فهذا نموذج من الغيب الذي أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة المباركة رحلة الإسراء.
وهذا الملك العظيم جبريل عليه السلام لو تخيلنا عظم خلقه لرأينا أمراً يفوق الوصف، فجبريل رآه النبي عليه السلام على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح قد سدَّ الأفق، هذا هو جبريل وعظيم خلقه، ومع ذلك فانظر إلى خوفه وخشيته لله سبحانه وتعالى، وهذا شأن الملائكة، فالملائكة قد وصفهم الله تبارك وتعالى بقوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:26 - 29]؛ فالملائكة يتصفون بكل صفات العبودية لله سبحانه وتعالى، وهم قائمون بالخدمة بين يديه، ومنقادون لأوامره، وعلم الله سبحانه وتعالى بهم محيط، فلا يستطيعون أن يتجاوزوا هذه الأوامر، بل هم خائفون وجلون منه سبحانه، ومن تمام عبوديتهم له سبحانه وتعالى أنهم لا يقترحون شيئاً على الله عز وجل، كما قال تعالى: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27].
وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: (ألا تزورنا أكثر مما تزورنا) وذلك لأن النبي عليه السلام كان شديد المحبة لجبريل عليه السلام، فكان يشتاق إلى نزوله عليه بالوحي وإلى ملاقاته، فلما قال له ذلك نزلت هذه الآية الكريمة في سورة مريم: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64].
وفي القرآن الكريم نماذج من اجتهاد الملائكة في عبادة الله سبحانه وتعالى، فأعظم ذكر يلزمه الملائكة هو التسبيح وتنزيه الله سبحانه وتعالى عما لا يليق، فهؤلاء حملة العرش قال الله عز وجل عنهم: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر:7] وقال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى:5] وهذا التسبيح دائم لا ينقطع أبداً في ليل ولا نهار، يقول عز وجل: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] لا يصيبهم السأم ولا الملل، ولذلك حق لهم أن يفتخروا بأنهم هم المسبحون لله سبحانه وتعالى على الحقيقة؛ لأنهم ملازمون للتسبيح لا ينقطعون عنه أبداً، فحق لهم أن يفتخروا بذلك، كما حكى الله عز وجل عنهم في قوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات:165 - 166]؛ أي: نحن المسبحون لله على الحقيقة.
لأنهم لا يغفلون أبداً عن تسبيح الله سبحانه وتعالى، ولا شك في أننا حين نتصور هذا الأمر لابد لنا من أن نحتقر الأعمال التي نعملها، فليست شيئاً يذكر في جانب عبادة الملائكة، فنحن لن ننجو إلا برحمة الله لا بالأعمال، ولكن مهما كانت فهل ستصل إلى عبادة الملائكة؟! وما كثرة تسبيحهم إلا لأن التسبيح أفضل الذكر، كما جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذكر أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده.
سبحان الله وبحمده).
أما صلاتهم: فالملائكة يصطفون عند الله سبحانه وتعالى، كما في الحديث: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها، فقيل: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟! فقال عليه الصلاة والسلام: يتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف) رواه البخاري.
وقال سبحانه وتعالى في القرآن: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:165] فهم يقومون ويركعون ويسجدون، كما في حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ قال لهم: أتسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء.
قال: إني لأسمع أطيط السماء) والأطيط هو صوت الأحمال على ظهر البعير، فعندما يكون مثقلاً بالأحمال على ظهره فإنه يئط من شدة الثقل، فهذا إشارة إلى شدة ازدحام الملائكة عليهم السلام في السماوات، قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأسمع أطيط السماء، وحق لها أن تئط، وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم).
والملائكة لهم كعبة في السماء يحجون إليها، وهذه الكعبة هي التي أسماها الله سبحانه وتعالى: البيت المعمور، وأقسم به في سورة الطور لما تأتيه الملائكة، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء بعدما جاوز السماء السابعة.
(ثم رفع بي إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخر ما عليهم)، يعني: أن الذين يدخلون كل يوم(86/2)
أحكام دفع الصائل
روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه عن سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: من قتل في سبيل الله.
قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل! قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)، وهذا الحديث رمز له السيوطي بالحسن، وقال -أيضاً- في حقه: هو حديث متواتر.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله) فمعناه: عند ماله.
وكلمة (دون) في الأصل هي ظرف مكان، تقول: جلست دونه.
أي: في مكان أقل منه.
فـ (دون) أصلها ظرف مكان بمعنى (أسفل) أو (تحت)، واستعملت هنا بمعنى: (لأجل)، (من قتل دون ماله) يعني: لأجل ماله، فهي للسببية؛ لأن الذي يقاتل دون ماله كأنه يجعله خلفه أو تحته ثم يقاتل عنه، وهذا ذكره جمع من العلماء.
والمقصود من قوله عليه الصلاة والسلام: (فهو شهيد) أي: في حكم الآخرة لا في أحكام الدنيا، فلا تطبق عليه في الدنيا أحكام الشهيد الدنيوية من أنه لا يغسل، ولا يصلى عليه ويدفن بدمائه، وغير ذلك من الأحكام الخاصة بالشهيد.
أما هذا فله حكم الشهادة في الآخرة لا في الدنيا، والمقصود من الحديث أن له ثواباً كثواب شهيد مع ما بين الثوابين من التفاوت، فهناك تفاوت -بلا شك- عظيم بين من يجاهد في سبيل الله ويقتل في ساحة القتال، وبين هذا الذي يقتل دون ماله أو عرضه أو دينه، فهو له ثواب كثواب الشهيد مع ثبوت التفاوت بين الدرجتين، والحكم له بالشهادة لأنه محق في القتال والدفاع عن هذه الأمور، كما أنه مظلوم بطلب هذه الأشياء منه، سواء أكان المطلوب غصب ماله، أم انتهاك عرضه، أم إراقة دمه، أم غير ذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل دون دمه) يعني: في حالة الدفع عن نفسه.
كشخص يريد أن يقتله ويصول عليه بالقتل، فهو يدافع عن نفسه، فمن قتل دون دمه في الدفع عن نفسه فهو شهيد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل دون دينه)، المقصود به: من قتل في نصرة دين الله تبارك وتعالى والذب عنه وقتال المرتدين؛ لأن المرتدين خارجين على الدين، فهو شهيد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل دون أهله) أي: في الدفع عن بضع حليلته أو قريبته.
يعني العرض أو الشرف، فقوله: (ومن قتل دون أهله) أي: مدافعاً عن أعراضهن (فهو شهيد) بحكم الآخرة لا بحكم الدنيا؛ لأن المؤمن بإسلامه له حرمة ذاتاً ودماً ومالاً وأهلاً.
إن كل ما سبق من الأمور ينبغي أن تحترم ولا تنتهك، فإذا ورد شيء من ذلك جاز له الذب عنه أو وجب على الاختلاف المعروف، وهذه مسألة أخرى، وهي: هل الدفاع الشرعي في هذه الحالة واجب أم أنه جائز فقط؟ ويحسن بنا في أثناء تناول هذه المسألة أن تتناول كل مسألة منها على حدة؛ فإن للعلماء خلافاً في ذلك وتفصيلاً.
وضابط أمر الدفع أنه يدفعه دفع الصائل، فلا يصعد إلى رتبة وهو يرى ما دونها كافياً، فإذا أدى هذا الدفاع المتدرج الذي يحتمل الشروط الموجودة في فقه دفع الصائل إلى قتله فهو هدر، أي: لا قصاص على القاتل.
لأنه كان في حالة الدفاع عن النفس.
وهذا الحديث هو العمدة والأساس في باب معروف من أبواب الفقه هو باب الدفاع الشرعي، أو ما يعبر عنه في الفقه بـ (دفع الصائل).(86/3)
ضوابط دفع الصائل
ما هي الضوابط التي تحكم الإنسان إذا صال أو اعتدى معتد على شيء من هذه الأشياء المحترمة؟ لقد خصص لهذا الدكتور وهبة الزحيلي فصلاً مستقلاً في رسالته: (نظرية الضرورة الشرعية مقارنة مع القوانين الوضعية) وهو أستاذ الشريعة الإسلامية في كلية الشريعة والحقوق، ورئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه في جامعة دمشق سابقاً.
يقول -حفظه الله تعالى- في هذا الفصل الذي وضح فيه شروط وضوابط قضية دفع الصائل: إذا اعتدى إنسان على غيره في نفس أو مال أو عرض، أو صالت عليه بهيمة -لأن العدوان لا يشترط فيه أن يكون من إنسان، فقد يكون من بهيمة- فللمعتدى عليه أو لغيره أن يرد العدوان بالقدر اللازم لدفع الاعتداء حسب تقديره في غالب ظنه، مبتدئاً بالأخف فالأخف إن أمكن، فإن أمكن دفع المعتدي بكلام، واستغاثة بالناس، حرم عليه الضرب.
يعني: إذا كنت تستطيع أن تدفعه برفع الصوت وطلب المعونة من الناس والاستغاثة بهم فيما يقدرون عليه من معاونتك على ذلك فيحرم عليك أن تتدرج إلى مرحلة أشد وهي الضرب والقتل، ويجب عليك أن تفعل ذلك فقط، فإذا كان يندفع بضرب اليد فيحرم عليك استعمال السوط، وإن أمكن الدفع بالسوط حرم استعمال العصا، وإن أمكن الدفع بقطع عضو حرم القتل؛ لأن ذلك جوز للضرورة استثناءً من قاعدة: (الضرر لا يزال بالضرر)، وأصل هذه القاعدة حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار) أي: نهى عن أن يضر الإنسان الآخرين ابتداءً، ونهى عن أن يقابل إضرارهم بإضرار، فأخذ من هذا الحديث قاعدة أن الضرر يزال، ثم صرح العلماء بأن الضرر يزال لكن بدون أن توقع ضرراً، ولنفرض أنه لابد من وقوع ضرر واضح، ففي حالة وقوع ضرر ومنفعة فالضرر يقدم على جلب المنفعة، وإذا كان هناك احتمال أن يحصل ضرران لكن أحدهما أشد من الآخر، فيرتكب الضرر الأخف دفعاً للأشد.
إذاً: الضرر يزال لكن لا بضرر، فإن كان لابد من ضرر فيختار أخف الضررين.
وليس هناك ضرورة تلجئك إلى أن تستعمل الأخطر والأشد مثل قطع العضو وأنت تستطيع أن تدفعه بالضرب، ولا ضرورة في اللجوء إلى الأثقل مع إمكان تحصيل المقصود بالأسهل، فمادام أنه يمكنك أن تدفع عن نفسك أو مالك أو عرضك بالشيء الأسهل فلا تنتقل إلى ما هو أشد منه وأثقل، فالدمع بالأشد إنما يصبح في حال الضرورة، وليس ضرورة كونك تستطيع دفعه بما هو أخف.
يقول: ومن المعلوم أن الضرورة تقدر بقدرها، حتى إنه إن تمكن المعتدى عليه أو المصول عليه من الهرب أو الالتجاء بحصن أو جماعة فيجب عليه ذلك عند الشافعي، وفي وجه عند الحنابلة، ويحرم قتال المعتدي أو الصائل بحيث إذا كان يحرز نفسه أو أهله أو ماله في مكان فلا يناله هذا الصائل، والشافعية يوجبون عليه أن يلتجئ إلى هذا المكان، ولا يدفعه بالقتل أو غيره، وهو وجه عند الحنابلة؛ لأن المعتدى عليه مأمور بتخليص نفسه بالأهون فالأهون، وبما أن الهرب ونحوه أسهل من غيره فلا يلجأ إلى الأشد.
قال العز بن عبدالسلام رحمه الله تعالى: (إذا انكف الصُوال عن الصيال حرم قتالهم وقتلهم) والصيال: مأخوذ من قولهم صال الفحل صولاً وصيالاً: إذا وثب البعير عل الإبل يقاتلها، فمن يعدو على الناس ويقتلهم يقال له صائل، يقول العز رحمه الله: (إذا انكف الصوال عن الصيال حرم قتالهم وقتلهم) فمادام أنهم توقفوا عن العدوان على الدم أو النفس أو المال أو الأرض فإنه يحرم قتلهم وقتالهم.(86/4)
أدلة دفع الصائل
الدليل على مشروعية هذا المبدأ قوله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194] فالأمر بالتقوى دليل على ضرورة التزام مبدأ المماثلة أو التدرج في الأخذ بالأخف فالأخف، فهذا دليل من القرآن على وجوب احترام هذه القاعدة، وهي قضية التدرج وعدم الأخذ بالأثقل مع إمكان الدفع بالأسهل، يقول تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:194] يعني: ولا تزيدوا عن المثلية، {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194].
فالأمر بالتقوى دليل على ضرورة أخذ مبدأ المماثلة، أو التدرج في الأخذ بالأخف فالأخف، أما السنة فقد ذكرنا حديث سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه في هذه المسألة الذي صدرنا به الكلام، وهناك جملة أخرى من الأحاديث، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه).
فلما كانت هذه العين خائنة أصبحت هدراً، وإنما شرع هذا أساساً لأجل البصر، وحتى لا تقع عيون الناس على عورات البيوت، فإذا كان هذا يدخل بعينه عن طريق النظر من خلال الثقوب أو غير ذلك فكأنه دخل؛ لأن العبرة بوضع الأبواب والستائر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)، فإذا كان قد انتهك حرمة البيت وامتدت عينه الخائنة إلى عورات الناس في بيتهم فإنهم إذا فقئوا عينه بأي آلة وهو ينظر من هذا الثقب فإن عينه هدر ولا قصاص هنا في هذه الحالة؛ لأنه معتد بانتهاكه حرمة بيوت الآخرين، وهذا نوع من الصيال والعدوان على الناس.
ومن هذه الأحاديث -أيضاً- أن رجلاً عض يد رجل، فنزع يده من فيه بشدة فوقعت ثنيتاه، أي أن الثاني عض يد صاحبه بشدة لدرجة أن الثنيتان انكسرتا ووقعتا، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (يعض أحدكم يد أخيه عض الفحل! لا دية لك) أي: أنت الذي تسببت في ذلك وعضضته وهو يدفع عن نفسه ويحاول أن يخلص يده.
فلذلك أهدر هاتين الثنيتين ولم يوجب عليه الدية.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل فقال: (يا رسول الله! أرأيت إن عدى على مالي؟! قال: انشد الله) يعني: انشده بالله، واستحلفه بالله أن يتركك ومالك ولا يعتدي عليك، قال: (فإن أبو علي) أي: فعلت ثم أصروا على أن يعتدوا على مالي، قال: (قاتل، فإن قُتلت ففي الجنة، وإن قَتلت ففي النار) أي: الذي قتلته يكون في النار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فيه من الفقه: أنه يدفع بالأسهل فالأسهل.
وروى يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: (كان لي أجير، فقاتل إنساناً فعض أحدهما صاحبه، فانتزع أصبعه فأنزل ثنيته -يعني: أزال ثنيته التي هي أسنان مقدم الفم- فسقطت، فانطلقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر ثنيته، وقال: أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل؟!) أي: أتريد أن يتركك تقضم يده وتقطعها كما يفعل الفحل؟! فهو يدافع عن نفسه وينتزع يده حتى ينجيها وينقذها.
فهذا فيما يتعلق بمبدأ الدفاع عن النفس الدفاع الشرعي أو دفع الصائل.
ويدخل في دفع الصائل وفي الدفاع الشرعي -أيضاً- الدفاع عن الأخرين، والدليل على جوازه وأساس هذا المبدأ هو الحفاظ على الحرمات مطلقاً من نفس أو مال، والحرمة في المجتمع الإسلامي تشمل اثنين: المسلم والذمي؛ لأن عهد الذمة الذي يعهده الإمام لأهل الذمة ينبغي أن يحترم ولا ينتهكه أحد، فيعتبر محترماً أو معصوماً، بمعنى أنه لا يجوز الصيال ولا الاعتداء على ماله أو عرضه ونحو ذلك.
فأساس هذا المبدأ أو جواز الدفاع عن الآخرين هو: الحفاظ على الحرمات مطلقاً من نفس أو مال، ولولا التعاون لذهبت أموال الناس وأنفسهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً.
قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم، فإن ذلك نصره).
وقال عليه الصلاة والسلام: (من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذله الله على رءوس الأشهاد يوم القيامة).
فهذا شيء مما يتعلق بالأدلة على مشروعية مبدأ الدفاع سواء عن النفس أو عن الآخرين، فتعتبر أفعال الدفاع مباحة باتفاق الفقهاء، فلا مسئولية على المدافع من الناحيتين المدنية والجنائية إلا إذا تجاوز حدود الدفاع المشروع، فيصبح عمله جريمة يسأل عنها مدنياً، ويحاكم من أجلها، ويعاقب ويتحمل المسئولية.(86/5)
شروط دفع الصائل
أما شروط جواز دفع الصائل والأخذ بهذا المبدأ فهي أربعة شروط.
أولاً: أن يكون هناك اعتداء في رأي أكثر العلماء، فلابد من أن يكون هناك اعتداء وصيال، وعند الحنفية: أن يكون الاعتداء جريمة معاقباً عليها.
فالأحناف يقولون: يكون هذا الاعتداء عبارة عن جريمة يعاقب عليها.
وجمهور العلماء يقولون: يشترط أن يكون اعتداءً يدخل تحت مسمى الاعتداء، وعلى هذا فممارسة حق التأديب من الأب أو الزوج أو المعلم وفعل الجلاد لا يوصف بكونه اعتداءً، وهذه الأشياء لا تدخل في مصطلح الاعتداء، فالأب له حق التأديب، والذي يؤدب ابنه عن طريق الضرب هل معناه أن لهذا الولد أن يقول: أبي يصول علي؟ لا.
وكذلك المدرس إذا كان يؤدب تلميذه، ففعله لا يسمى اعتداءً، فهو يمارس حق التأديب، وكذلك المرأة الناشز جواز ضربها معروف بشروطه، فهذا -أيضاً- لا يعني صيالاً ولا عدواناً، وكذلك فعل الجلاد الذي هو موظف في الدولة الإسلامية يقوم بإقامة الحدود، فالحاكم أو الخليفة يأتيه بالشخص الذي يستحق الجلد حداً أو تعزيراً فيقيم عليه أمر الخليفة أو القاضي، فمثل هذا لا يطلق عليه أنه اعتداء، وكذلك فعل الصبي والمجنون وصيال الحيوان لا يوصف بكونه جريمة عند الحنفية؛ لأن الاعتداء لابد من أن يكون جريمة معاقباً عليها، قالوا: والصبي والمجنون والحيوان إذا صالوا على الإنسان فهذه ليست جريمة يعاقب عليها ولا يوصف الفعل فيها بكونه جريمة.
الشرط الثاني: أن يكون الاعتداء في الحال واقعاً بالفعل لا مؤجلاً ومهدداً به فقط.
أي: أن يكون الاعتداء في الحال، ويريد الصائل أن يعتدي بالفعل ليقتلك أو ليسرق مالك أو ينتهك عرضك، أو غير ذلك من الفعل الواقع في الحال، وليس مجرد تهديد غير مهم، كمن يقول لك سآخذ مالك، سأقتلك.
فهذا مجرد تهديد لا يدخل في هذا الباب، فلابد من أن يكون الاعتداء واقعاً بالفعل لا مؤجلاً ولا مهدداً به فقط.
الشرط الثالث: أن لا يمكن دفع الاعتداء بطريق آخر، فإذا وجدت وسيلة أخرى ممكنة لدفع الصائل وجب استعمالها، فإذا أمكن دفعه -مثلاً- بالصراخ والاستغاثة فليس للمصول عليه أن يضربه أو يقتله، فإن فعل كان فعله جريمة، وإذا أمكن الاحتماء برجال السلطة أو استطاع المصول عليه أن يمنع نفسه أو يمتنع بغيره دون استعمال العنف فليس له أن يستعمله.
الشرط الرابع: أن يدفع الاعتداء بالقوة اللازمة لرده، فإن زاد على ذلك فهو اعتداء لا دفاع، فليس للمصول عليه أن يدفع الصائل بالكثير إذا كان يندفع بالقليل، وليس له أن يضربه إذا كان يندفع بالتهديد، وليس له أن يضربه بآلة قتل كالحديد إذا كان يندفع بضربه بالعصا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.(86/6)
حكم المرابحة [1]
بيع المرابحة له صورتان: صورة قديمة جائزة، وصورة حديثة محرمة، وقد أجاز بعض الناس الصورة الحديثة بسبب عدم تمييزه بين الصورتين، ومعرفة صور بيع المرابحة وحكمها مع أدلتها من المهمات لاسيما في الآونة الأخيرة؛ حيث إن البنوك الإسلامية نشطت في هذه المعاملة، مع أنها في الحقيقة تقوم مقام الإقراض الربوي والعياذ بالله من لعنة الله.(87/1)
أنواع البيوع التجارية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فسنتكلم عن موضوع متعلق بمسألة فقهية ظاهرة، شاعت بين الناس في المعاملات العامة، والمعارض والنقابات، وشاع القول بإباحتها مطلقاً، وهي مسألة حكم بيع المرابحة وهناك حاجة ماسة إلى تحقيق القول في حكم بيع المرابحة للآمر بالشراء.
العلماء المعاصرون الذين صنفوا في هذا الموضوع يضطرون إلى ذكر هذا العنوان الطويل: (حكم بيع المرابحة للآمر بالشراء) كما تجريه البنوك الإسلامية في هذا العصر، ولماذا احتاجوا إلى هذا؟ لأن هناك اشتراكاً في لفظ المرابحة بين المرابحة التي عرفها الفقهاء الأقدمون، وتداولوا هذا المصطلح في كتبهم، وبين المرابحة في الوضع الحالي، فلأجل هذا التمييز ولإزالة هذا الاشتراك اللفظي اضطر كل من كتب في هذا الموضوع إلى ذكر هذا العنوان الطويل حتى تتميز المرابحة التي ذكرها العلماء فيما مضى واصطلحوا عليها عما يجري الآن، فيقولون: (بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه البنوك الإسلامية المعاصرة).
نبدأ أولاً بتحقيق الاسم نفسه؛ لأن الأسماء هي قوالب المعاني، فالتساهل في الأسماء قد يترتب عليه تطبيق أحكام على غير حقيقتها، فاسم المرابحة قد يختلط على بعض الناس مع بيع المرابحة المحرر عند متقدمي الفقهاء في باب بيوع الأمان، فمن أجل هذا الاشتراك اللفظي لابد أن نبين معناه عند الأقدمين، وقبل ذلك نمهد للموضوع، بأن نجري عملية استقرائية لأنواع البيوع، وهي على ثلاثة أنواع: بيع المساومة، وبيع الأمانة أو الأمان، وبيع المزايدة.(87/2)
النوع الأول: بيع المساومة
هو بيع عن طريق مساومة تحدث بين الطرفين، فيحصل نوع من المساومة في هذا النوع من البيع، ثم يتفق المتبايعان على ثمن البيع، بغض النظر عن الثمن الأول الذي كلف البائع لشراء السلعة أو إنتاجها.
بغض النظر عن كثرة الربح أو قلته أو خسارة البائع.(87/3)
النوع الثاني: بيع المزايدة
وهو بيع من يزيد، وهذا جائز في المزاد، لكن شرطه: ألا يكون هناك نجش، فللبائع أن يقول: من يزيد؟ فهذا يقول: أشتريها بعشرة، وآخر يقول: باثني عشر، وآخر يقول: بخمسة عشر، فيعطيها لمن يعرض أكثر ثمن، فهذا لا حرج فيه من الناحية الشرعية إلا إذا اتفق صاحب المزاد أن يأتي بمن يمارس النجش -بتسكين الجيم- فيحضر المجلس أو المزاد، ثم يرفع الأسعار بالتشاور المسبق والتواصل مع البائع حتى يرفع السعر على الناس وهو لا يريد الشراء.(87/4)
النوع الثالث: بيع الأمانة
بيع الأمانة أو بيع الأمان: وسمي بيع الأمان لوجود الائتمان بين الطرفين على صحة خبر رفع السلعة بمقدار ما عن رأس المال، فهذا النوع من البيع مبني على الائتمان والثقة؛ فإن البائع إذا قال لك: هذه السلعة اشتريتها بمائة وأربحني فيها خمسين مثلاً أو عشرين مثلاً، فهذا النوع من البيع مبني على أنه صادق فيما يخبر به من أنه فعلاً اشترى السلعة بمائة.
وبيوع الأمانة كلها جائزة ما دامت بين متبايعين، وما دامت السلعة في ملك البائع، ويصرح البائع تصريحاً ويقول: اشتريتها بكذا، وقد يأتي بفواتير تبين أنه بالفعل اشترى هذه السلعة بمقدار الثمن الأول على وجه الأمانة، فيقول: أنا اشتريتها بكذا، ويحدد له مكسباً يربحه إياه؛ فيقول مثلاً: أنا اشتريتها بأربعمائة، وأبيعها لك بزيادة خمسين، والثاني قبل، فلا توجد حينها مشكلة؛ لأنه حدد له المبلغ الذي سيربحه إياه، فمجموع الربح خمسون، ولا يوجد غرر ولا جهالة، لأن الزيادة على رأس المال كانت مبلغاً مقطوعاً أو نسبة مئوية من الثمن الأول، فالمشتري يأتمن البائع على كلفة سلعته، ويصدقه فيما يخبره من الكلفة ومقدار ربحه؛ لأنه قد يخشى الغبن في المساومة لجهله بالسلع وأثمانها.
فالمشتري الذي ليس لديه خبرة يخدع بسهولة ويغبن، فلذلك جعل الشرع له هذا الباب؛ لأنه لو اشترى ببيع المساومة فالتاجر قد يخدعه، ويبيع له بسعر فيه غبن فاحش ويظلمه، فهذا له سعة في بيع المرابحة؛ حتى نحمي مثل هذا الرجل من أن يظلم بسبب جهله بمقدار الربح، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
وهذا البيع مبني على أن البائع صادق فيما يخبر به من ثمن الأصل، فمثال المرابحة أن يقول البائع: أنا اشتريت هذه الدار بألف، وبعتكها بما اشتريتها به وزيادة مائتين، فيقول المشتري: قبلتها بذلك.
فهذا من بيوع الأمانة؛ لأن ما اشترى به البائع لم يعلم إلا من جهته، فإن تبين أنه كذب في الإخبار بالثمن، وأنه إنما اشتراها بتسعمائة فقط؛ وجب حط المائة عن المشتري، ولابد أنه إذا ظلمه أن يعطى حقه، ويخفض من ثمن السلعة.(87/5)
أنواع بيوع الأمانة
بيع الأمان أو الأمانة على أنواع ثلاثة: الأول: بيع المرابحة، وهذا هو الذي يحصل اشتباه بينه وبين موضوعنا.
الثاني: بيع الوضيعة.
الثالث: بيع التولية.(87/6)
البيع الأول: بيع المرابحة
هو البيع بأزيد من رأس المال، يقول: أنا اشتريت الدار بألف، وأبيعها لك على أن أكسب فيها مائتين.
إذاً: بيع المرابحة هو: البيع بأزيد من رأس المال بمثل الثمن الأول مع ربح مبلغ معلوم ومحدد.(87/7)
البيع الثاني: بيع الوضيعة أو المحاطة
هو البيع بأنقص من رأس المال، يقول: أنا اشتريت هذه الدار بألف وأبيعها لك بتسعمائة، وهذا داخل في بيوع الأمان؛ لأنه مبني على تصديقه، وأنه أمين فيما يخبر به من الثمن الأصلي، فهو يحط عن رأس المال الأصلي.(87/8)
البيع الثالث: بيع التولية
هو البيع برأس المال سواء بسواء، يعني يبيع بمثل الثمن الأول بلا ربح ولا خسارة.
إذاً: بيع المرابحة عند المتقدمين من العلماء هو بيع السلعة بربح معلوم بين المتعاقدين، وهو الذي يسمونه السلم الحال.
فيقول صاحب السلعة: رأس مالي مائة، وأبيعك إياها بمائة وعشرة، فهذا هو معنى قولهم: اشتريت السلعة مرابحة أو بعتها مرابحةً.
وما هو ركن هذا العقد؟ ركن عقد المرابحة الأساسي: العلم بين المتعاقدين، فيكون كلاهما سواء في العلم بمقدار الثمن، وبمقدار الربح، فحيث توافر العلم بالثمن وبالربح فالبيع صحيح وإلا فباطل.(87/9)
حكم بيع المرابحة المعاصر والقديم
بيع المرابحة بصورته القديمة جائز بلا خلاف عند أهل العلم، كما ذكر ذلك الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى في المغني، وحكى الوزير ابن هبيرة رحمه الله تعالى الإجماع على إباحتها، وكذا الكاساني، وما زال الناس يتوارثون العمل بهذه المرابحة بأسواقهم من غير نكير، والقاعدة في المعاملات الشرعية هي: أن الأصل في المعاملات الجواز والحل حتى يقوم على المنع دليل، عكس القاعدة في العبادات.
وقد قال بعض العلماء: بيع المرابحة مكروه كراهة تنزيه؛ لأن فيه جهالة، ما سر هذه الجهالة؟ قالوا: إذا قال له مثلاً: بعته لك برأس المال مائة جنيه وربح جنيه زيادة في كل عشرة، فهذه جهالة تؤثر في العقد، والصواب أن هذه ليست جهالة، والمشتري يحتاج إلى الحساب ليعلم مقدار الربح، والجهالة هنا مرتفعة؛ لأنه يمكنه معرفة الحساب بسهولة، ومثل هذا لا يوصف بأنه جهالة، وهذا ليس فيه تغرير ولا مخاطرة.
إذاً: هناك اشتراك لفظي بين بيع المرابحة عند السابقين وبين بيع المرابحة للآمر بالشراء في صورته الحادثة التي تتعامل بها المصارف المسماة بالإسلامية، فإذا اشتركا باسم المرابحة فهل يشتركان في حكم الجواز؟ بيع المرابحة القديم هو بيع من أنواع بيوع الأمان أو الأمانة، وهو البيع بأزيد من رأس المال، وركن هذا العقد هو علم المتعاقدين بالثمن وبرأس المال، هذا هو بيع المرابحة عند السلف، ومن الغش والخيانة أن بعض الناس تكلم عن بيع المرابحة المعاصر ونقل نصوص العلماء السابقين عن بيع المرابحة على أنه المصطلح المتعامل به في البنوك الآن، ونقل الأدلة على إباحته بنصوص العلماء السابقين في بيع المرابحة الذي هو أحد بيوع الأمان أو الأمانة! فإن كان عامداً فهي خيانة، وإن كان جاهلاً فيغفر الله سبحانه وتعالى لمن قال بذلك.
إذاً: الاشتراك في اللفظ لا يلزم منه الاشتراك في الحكم.(87/10)
المحاذير الشرعية في التعامل ببيع المرابحة المعاصر
صورة بيع المرابحة التي تجريها المصارف الإسلامية تدخل تحت اسم السلم الحال، وهذا السلم الحال منهي عنه في حديث حكيم بن حزام رضي الله تبارك وتعالى عنه، وعمدة الكلام فيه هو حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه.
وحتى ينتهي باب الخلط بين بيع المرابحة القديم وبيع المرابحة المعاصر اختار له بعض العلماء اسماً متميزاً حتى يتميز به عن بيع المرابحة عند الأقدمين، فسماه: بيع المواعدة، وليس بيع الوعد؛ لأن الوعد إنما يكون من طرف واحد، لكن بيع المواعدة فيه تفاعل بين الطرفين: هذا يعد بكذا، وهذا بالمقابل يعد بكذا، فسمي بيع المواعدة؛ لأن هذه المعاملة في جميع صورها مبنية على الوعد سواء كان ملتزماً به أو غير ملتزم.
ومما يزيد خطورة الكلام في هذا الموضوع: ما ذكره بعض العلماء الخبراء في هذا الباب أنه قد قامت طريقة بيع المرابحة في بعض البنوك الإسلامية في السنوات القليلة الماضية مقام الإقراض الربوي في البنوك الربوية، يعني: نشط هذا النوع من التعامل في البنوك الإسلامية بصورة غير عادية في الفترات الأخيرة؛ بحيث إنه بالفعل حل محل الإقراض الربوي، قال: ووصل التعامل على أساسها في البنوك الإسلامية إلى (90%) من عمليات الاستثمار! يقول: وهذا يبين ضرورة التأني والبحث العميق والمحايد عن حكمها شرعاً قبل الانطلاق في العمل بها أكثر، مما يجعل الرجوع عنها عندما يتبين عدم شرعيتها عسيراً.
فقد فتح هذا الباب، وهجم عليه الناس بهذه الصورة بدون بصيرة، وبدون جزم بحكم الشرع فيها، أو تأكد وأناة وتمهل في الحكم عليه، فإن قيل لهم: اتضح لنا أنه حرام، فهذا فيه نوع من هز الثقة والتردد والشك والبلبلة، وهذا مما يؤكد أن هذا الموضوع كان من المفروض أن يأخذ حقه من البداية من البحث العلمي والتمحيص الدقيق المحايد.
فلو فتحنا هذا الباب وأجزناه ثم قلنا: إنها معاملة غير مشروعة، فهذا سيجعل الأمة والعلماء والقراء الاقتصاديين يتوقفون عن الاجتهاد في إيجاد بدائل شرعية لمثل هذه النظم؛ لأن المرابحة عملية فيها نوع من اليسر والسهولة بالنسبة للطرفين: البنك والمشتري سواء.
فالبنك يفرح جداً بنظام المرابحة؛ لأنه يعتبر كبديل لمن لا يتقي الله سبحانه وتعالى ولا يتعامل إلا بالقرض الربوي، وكذلك البنك يضمن الربح، وليس فيه مخاطرة، بل يقطع البنك بعدم الخسارة، خاصة إذا بني هذا التعامل على أساس أن المواعدة ملزمة، كما سنبين إن شاء الله تبارك وتعالى.(87/11)
الوفاء بالوعد
وحتى نفقه الموضوع فقهاً دقيقاً نحتاج إلى ذكر بعض المقدمات أيضاً، وإلا فالموضوع نفسه أسهل من ذلك، وهذا تمهيد يبين حكم الوفاء بالوعد.(87/12)
حكم الوفاء بالوعد
ما من شك أن الوفاء بالعهد محمود ومرغب فيه في الشريعة، فقد أجمع المسلمون على أن الوفاء بالعهد وبالوعد محمود، وأن إخلاف الوعد أو العهد وعدم الوفاء به مذموم، فإن الله سبحانه وتعالى امتدح نبيه إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بقوله عز وجل: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54]، فيفهم من هذه الآية: أن إخلاف الوعد مذموم، وهذا استدلال بالمفهوم على ذم إخلاف الوعد؛ لأن الآية وردت في سياق المدح والثناء عليه، وقد صرح الله سبحانه وتعالى بذم إخلاف الوعد في آيات أخرى، مثل قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، وقال: تبارك وتعالى {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:77]، وقال صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف) إلى آخر الحديث.
والوفاء بالوعد محمود بالإجماع، وإخلاف الوعد مذموم بالإجماع، ويدخل في ذلك الوعد المالي بعقد تحدثه في المستقبل، وهذا متعلق بالمعاملات المالية.(87/13)
الوفاء بالوعد يجب ديانة لا قضاء
هناك اختلاف بين العلماء في حكم الوفاء بالوعد المالي.
فلو وعدت شخصاً لك عليه دين، فقلت له: أعدك إن شاء الله أني سأحط عنك -أي: سأضع- النصف، فهذا وعد مالي، أو تقول: اهدم بيتك وابنيه من جديد وأنا سأعطيك المبلغ الفلاني، أو تقول: سأقرضك في الشهر القادم كذا، والوعد دائماً يكون في المستقبل.
ونحتاج لبيان الاصطلاح المستعمل هنا وفي مواضع أخرى من القضايا الفقهية، وهو: الواجب ديانةً والواجب قضاءً؛ فلو أن واحداً تخاصم مع واحد على مال مثلاً، وتحاكموا إلى القاضي، فالقاضي بعد اطلاعه على الوثائق والشهود وغير ذلك من الأمور يحكم بما يظهر له، لكن إن كان أحدهما ألحن بقوله، وأدلى بحجج قوية، والآخر كانت عنده حجة لكن ما عنده خبرة، فحكم القاضي وقال: إن هذا المال من حق فلان، وهو ظالم في الحقيقة، لكن القاضي حكم بما يظهر له، فنقول: إن تنفيذ حكم القاضي الشرعي واجب قضاءً في أحكام الدنيا، لكنه لا يعني أنه مقبول ديانةً، وأما صاحب هذا الدين فالأمر بينه وبين الله فمن يعلم أن هذا المال لا يحق له فهو حرام عليه حتى لو حكم له القاضي به، فينبغي أن يتدين في إعطائه هذا المال لصاحبه، حتى لو حكم له القاضي بالظاهر، وهل القاضي هنا يوصف بالظلم؟ لا؛ لأنه يتعامل مع ما يظهر له، فهذا يحلف وهذا يحلف، وهذا معه شهود وهذا معه شهود، لكن انتهت القضية بأنه حكم بما يظهر.
فالواجب عليك ديانةً بينك وبين الله، خشية الحساب في اليوم الآخر؛ أن تفي بوعدك.
أما الواجب قضاءً فيكون من حق القاضي أن يتدخل فيه ويلزم به، وينفذه ويلزم الناس به؛ فهذا الواجب قضاءً.
مثلاً: شخص شهدت له البينة وكان كاذباً، أو شهد له ظاهر الحال وكان الواقع خلافه، مثل بعض قضايا الطلاق، فأحياناً تختلف النية المكنونة عن الظاهر المشهود، وهذه نقطة خطيرة جداً، فقد يطلق الرجل زوجته وهو ينوي الطلاق فعلاً، ثم يذهب إلى المفتي ويخدعه، فيسأله المفتي عن نيته، فيقول له: ما كنت أنوي الطلاق، وهو يعلم أن هذه المعلومة إذا تغيرت سيتغير الحكم؛ فيبيحها المفتي له، وهذا ليس في الطلاق الصريح إنما في طلاق الكناية، والناس يقعون في تخليط عجيب، يقول مثلاً لزوجته: هي طالق، ثم يقول: ما كنت ناوياً الطلاق! لماذا؟ لأن هناك من يلقنه هذا الكلام، وتعود الذين لا يحققون هذه المسائل أن يسألوه: ماذا كانت نيتك؟ حتى لو كان طلاقاً صريحاً، وهو لا يسأل عن النية، ولو رفعت القضية للقاضي وقد قال: هي طالق، فلن يسأل عن النية، لأن النية إنما تكون في طلاق الكناية، كأن تقول لها مثلاً: اذهبي عند أهلك، أو غير ذلك من العبارات غير الصريحة، لكن يحتمل أنه أراد الطلاق، فإذا كان الطلاق بطريق الكناية فنسأله: هل كنت تنوي الطلاق أم لا؟ فإذا كان ينويه فبالفعل يقع طلاقاً، أما إذا كان لم ينو فهذا لا يقع طلاقاً، ففي هذه الحالة لو أن الرجل كذب وقال: ما كنت أنوي الطلاق، وهو بالفعل كان ينويه، فالقاضي سيلزم هذه الزوجة قضاءً أنها ترجع إليه، حتى لو كان طلقها مرتين من قبل، وكانت هذه هي الثالثة، لكنه لا يجوز للزوج ديانة أن يعود إلى هذه الزوجة إذا كانت هذه هي الثالثة، وهو إنما كذب من أجل ألا يوقعها.
هذه مجرد أمثلة لتقريب المعنى، وكلها تدل على أن هناك فرقاً بين الواجب ديانة والواجب قضاءً.(87/14)
حكم الوفاء بالوعد المالي
اختلف العلماء في حكم الوفاء بالوعد المالي، وهم يجرون الخلاف في حكم الوفاء به قضاءً على أساس حقيقته الاصطلاحية التي تُواضِع عليها.
فمن الناحية الاصطلاحية هناك كتاب معروف بالحدود لـ ابن عرفة المالكي، وهو إمام من أئمة المالكية، وهو تعريفات اصطلاحية دقيقة للألفاظ الفقهية؛ فمن ضمن هذه المصطلحات عرف ابن عرفة كلمة العِدَة بأنها: (إخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل)؛ فالشخص يخبر عن نيته في المستقبل أنه سيعمل معروفاً، وباختصار هو: الوعد بالمعروف، وكلمة وعد معناها أنها تكون في المستقبل.(87/15)
الفرق بين الوعد بالمعروف وبين بيع المرابحة المعاصر
هناك فرق بين الوعد بالمعروف وبين بيع المواعدة -بيع المرابحة- الذي تجريه المصارف الإسلامية، فالوعد بالمعروف مثاله: من يعد شخصاً بقرض، فيقول له: بعد شهرين أقرضك المبلغ الفلاني، أو وعده بالعتق فيقول له: بعد شهرين أعدك بأني أعتقك أو يقول: بعد شهر أتصدق عليك أو أعيرك وهكذا.
هذا هو الوعد بالمعروف، فهو عقود المعاوضات التي يقصد بها تحصيل المنافع، وإدرار الربح لا تدخل في المواعدة، فالوعد بالمعروف عقد من عقود الارتفاق والإحسان إلى الناس، وليس من باب الكسب التجاري المتعلق بالمعاوضات، وسنزيد هذا إيضاحاً إن شاء الله تعالى فيما بعد.
ومن أمثلة الوعد بالمعروف أن تعد شخصاً أن تخصم له ثلث الدين الذي عليه، أو تقول: أعدك أني سأقرضك أعدك أني أهبك أعدك أن أعيرك عارية، فهذا وعد بإنشاء معروف في المستقبل، وهو يختلف تماماً عن بيع المواعدة الذي نتكلم فيه؛ لأن كل هذه الصور التي ذكرناها ليس فيها كسب تجاري، وليست معاوضة تجارية، وليس لها مقابل، فلو كان لك عنده من الدين مائة، فقلت: سأخصم منها خمسين فقط، فهل هذه تعود عليك بربح مادي؟ لا، بل هذا نوع من الارتفاق بين الناس والرحمة والتراحم والإحسان إليهم، فالأمثلة التي ذكرناها التي فيها الوعد بالمعروف لا علاقة لها بقضيتنا التي هي الكسب التجاري.
لماذا نذكر هذا التفريق؟ لأن بعض من يبيح بيع المرابحة المعاصر يقول: هذا من باب الوعد بالمعروف، ويجب على الإنسان أن يلتزم بالمعروف إذا وعد به، فلابد أن نميز الوعد بالمعروف من باب الارتفاق عن بيع المواعدة أو المرابحة التي تجريه المصارف المعاصرة، فهذا وعد تجاري مع المصرف، وليس وعداً بالمعروف.
فالوعد التجاري هو تداول سلعة بالثمن والربح، ولما تحصل ملكيتها بعد، وصورتها: معرض ثلاجات وأجهزة منزلية، يذهب صاحبه إلى نقابة أو نادي أو نحو هذا، ويعرض عليهم السلع، فرجل من هذه النقابة أو النادي يرى ثلاجة ويريد أن يشتريها، ولكن سعرها مرتفع ولا يستطيع أن يدفعه مباشرة، وهو محتاج إلى مال حتى يشتريها، فيذهب إلى البنك ويقول له: أنا رأيت ثلاجة بالصفة الفلانية، وأنا أريد أن أقتنيها، وليس معي مال، فاشترها لي أنت، وأنا أشتريها منك فيما بعد، فالبنك يشتري الثلاجة حسب المواصفات المتفق عليها سلفاً، ويدفع ثمنها نقداً لصاحب المعرض، ويبيعها هو بعد ذلك إلى العميل بأقساط على أمد بعيد، والمبلغ أعلى حتى يربح، فما هو الإشكال هنا؟ الإشكال أنك عندما تذهب إلى البنك من أجل أن تشتري هذه السلعة، فهذه السلعة غير موجودة أصلاً في حوزته، ولم يمتلكها، فماذا يعمل البنك؟ يأخذ منك الضمانات على ألا ترجع في كلامك، وأنك لابد أن تلتزم بأخذها منه، وهذه هي صورة بيع المرابحة للآمر بالشراء الجارية في البنوك المعاصرة.
فهي وعد تجاري مع المصرف، بمعنى: تداول سلعة بالثمن والربح ولما تحصل ملكيتها بعد، يبيعها لك قبل الحصول عليها، فهذا يتنزل على حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه: (لا تبع ما ليس عندك).
وباختصار شديد: هذا بيع من بيوع المعاوضات المحرمة، مثل بيع العينة، وبيع الغرر، وتعليق العقود بالشروط ونحوها من الحيل المحرمة.
إذاً: هناك فرق بين الوعد بالمعروف وبين بيع المواعدة التي هي المرابحة المعاصرة؛ فالوعد بالمعروف عملية ارتفاق وليس فيها شبهة الكسب التجاري، أما بيع المواعدة أو المرابحة التي تجريه المصارف المعاصرة فهو من بيوع المعاوضات المحرمة؛ لأنه يبيع ما ليس عنده، فالخلاف القديم في حكم الوفاء بالوعد لا ينسحب على هذا؛ ولذا سنذكر الآن خلاف العلماء في الوعد المالي، هل يجب الوفاء به أم لا؟(87/16)
حكم إخلاف الوعد المالي
ذكر الشنقيطي رحمه الله تعالى قضية الوعد بالمعروف: هل يلزم الوفاء بالوعد المالي؟ وهل يجب عليك فعلاً أن تفي به؟ يقول: الذي يظهر لي في هذه المسألة -والله تعالى أعلم- أن إخلاف الوعد لا يجوز؛ لكونه من علامات المنافقين، ولأن الله سبحانه وتعالى يقول: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3]، وظاهر عمومه يشمل إخلاف الوعد، ولكن الواعد إذا امتنع عن إنجاز الوعد لا يحكم عليه به، ولا يلزم به قهراً يعني: يجب عليه أن يفي بالوعد ديانة لا قضاءً، أي: يؤمر به لكن لا يلزم به، ولا يجبر عليه.
قال: بل يؤمر به ولا يجبر عليه؛ لأن أكثر علماء الأمة على أنه لا يجبر على الوفاء به، لأنه وعد بمعروف محض، والعلم عند الله تعالى.
يعني: لو قال لك: أنا سأهبك مالاً بعد شهرين، ثم مر الشهران ولم يف لك بهذا، فإذا ذهبت به إلى القاضي الشرعي وتحاكمت إليه، فماذا يملك القاضي؟ مذهب جمهور العلماء وعامة العلماء أن للقاضي أن يحرضه على الوفاء، ويقول له: قال الله كذا، وقال الرسول كذا، والمسلم عليه أن يفي بالوعد، لكن لا يلزمه قهراً؛ لأن هذا الوعد معروف محض، أراد أن يفعله ثم رجع عنه، فيؤمر به ولا يجبر عليه، ولا يلزم به من حيث القضاء الشرعي؛ لأنه وعد بمعروف محض، وقد اختلف العلماء في حكم الوعد بالمعروف، وهل يلزم به الشخص قضاءً وحكماً أم لا؟ ونحن قلنا: إنه يلزم به ديانة، وسنناقش هل يلزم به قضاءً؟ بمعنى: هل يلزم به من حيث الحكم، ويجبر عليه أم لا؟(87/17)
ذكر اختلاف العلماء في الوفاء بالوعد المالي
اختلف العلماء في حكم الوفاء بالوعد على المال على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يلزم ولا يؤمر وجوباً أن يفي بالمعروف مطلقاً، وهذا مذهب جمهور العلماء.
وأدلة هذا القول: أنه وعد بمعروف محض، ولا دليل على الإلزام بالمعروف، وأيضاً هو في معنى الهبة، والهبة لا تتم عند الجمهور إلا بالقبض خلافاً للمالكية، فإذا وهبت شخصاً لا يتم عقد الهبة إلا إذا قبضها، وذلك يقتضي عدم الحكم بها قضاءً فيما لو رجع الواهب عنها قبل قبض الموهوب إياها، فإذا كانت الهبة لا تلزم ولا تجب إلا بالقبض فكيف تلزم الهبة لو وعده بها مجرد وعد؟! يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: واستدل من لم يوجبه بأنه في معنى الهبة، والهبة لا تلزم إلا بالقبض عند الجمهور، وعند المالكية تلزم قبل القبض.
وذكر نحوه ابن قدامة حيث استدل بهذا الفرع على عدم وجوب الوفاء بالوعد قضاءً وحكماً.
القول الثاني: الإلزام بالوفاء بالوعد مطلقاً: وهذا محكي عن عمر بن عبد العزيز وابن الأشوع وابن شبرمة.
وأدلتهم هي النصوص الواردة في وجوب الوفاء بالوعد، وذكرنا بعضاً منها، مثل قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:77]، وقوله تعالى: {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16]، وغير ذلك من الأدلة، وكذلك استدلوا بحديث ابن مسعود: (العدة دين)، وهذا الحديث ضعيف.
وهذا المذهب ضعيف؛ أولاً: لعدم ثبوته صراحة عن هؤلاء الذين حكي عنهم.
ثانياً: من حيث الأدلة.
القول الثالث: وهو رواية عن الإمام مالك، وهو التفصيل في المسألة: فيقولون: إن أدخل الواعد في وعده الشخص الآخر الذي وعده في ورطة لزمه الوفاء به، وإلا فلا يلزم الوفاء به.
مثال: رجل قال لرجل: تزوج، فقال له: ليس عندي ما أصدق به الزوجة، وما أملك مهراً، فقال له: تزوج والتزم لها الصداق في ذمتك، وأنا أدفع عنك، فتزوج على هذا الأساس، فقد احتمل هذا الوعد ورطة، فيلزم الواعد الوفاء به.
واستدل من قال بذلك بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار).
ونقول في الرد على هذا الاستدلال: نعم (لا ضرر ولا ضرار)، ولا يجوز لإنسان أن يبدأ بالإضرار بالغير، ولا أن يقابل الإضرار بالإضرار بالمثل، وهذا غاية ما يدل عليه الحديث، ولا يدل الحديث على إلزامه بأن يغرم له مالاً حتى لو أضر به، ولا يلزم أن يغرم هذا المال الذي التزمه.
مثال آخر: لو قال له: اهدم دارك، وأنا أسلفك ما تبني به، فهدم الدار، هل يلزمه أن يسلفه لأنه يترتب على إخلاف الوعد إيقاعه في ورطة؟ ففي رواية عن الإمام مالك أن إخلاف الوعد إذا كان يترتب عليه ورطة فيلزم به، والقول الآخر لا يلزم.
وقول قال له: اشتر كذا وأنا أعطيك ألفاً أعينك به، فلا يقضى على الواعد في المال إلا إذا دخل الموعود في الأمر، فتزوج في المثال الأول، أو هدم داره في المثال الثاني، أو اشترى سلعة في المثال الثالث.
هذا هو الخلاف في هذا الموضوع، والوعد الذي يتحدث عنه المالكية في هذا القسم ليس هو الوعد التجاري، فالوعد هنا ليس وعداً تجارياً فيه شبهة مرابحة، فلما يقول لك: تزوج وسأدفع لك المهر، أو اهدم البيت وأنا أسلفك لتبنيه من جديد، فهل هذا فيه وعد تجاري فيه ربح؟ لا، حتى الخلاف في قضية الوفاء بالوعد ليس له علاقة بالموضوع، بل هو موضوع بيع المواعدة، فالوعد الذي يتحدث عنه المالكية ليس هو الوعد التجاري، وإنما هو الوعد بإنشاء المعروف كما عرفه ابن عرفة في قوله: (الوعد إخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل)، وعلى هذا الصنف من الوعد يدور جميع كلام المالكية من قرض أو كفالة أو عارية أو إبراء أو نحو ذلك.
أما الوعد التجاري أو الوعد في المعاوضات مقابل السلع التي سيأخذ عليها ربحاً أحد الطرفين من الطرف الآخر فهو شيء آخر لم يدر بخلد المالكية، فبعض المعاصرين الذين يبيحون بيع المواعدة المتبع في المصارف، يجعلون الخلاف المذكور بين العلماء هنا على مسألة الوفاء بالوعود المالية المعاصرة، ولم يدر بخاطر العلماء أبداً أن يستدل بكلامهم على مثل هذا الفعل المعاصر الآن، بدليل أن علماء المالكية ذكروا في كتبهم هذه الصورة الموجودة الآن، وقطعوا بتحريمها كما سنبين ذلك إن شاء الله تبارك وتعالى.
والقول بأن عملية المرابحة التي تديرها المصارف الإسلامية الآن عملية مستحدثة وتحتاج إلى اجتهاد، كلام غير صحيح؛ لأن كثيراً من الفقهاء نصوا على هذه المسألة بعينها من المالكية والشافعية والحنيفية والحنابلة، وكل من نص عليها حرمها، وبعض الفقهاء المعاصرين الذين أباحوها ليس لهم سوى أنهم قاموا بعملية تلفيق وترقيع، فما صار بيع المواعدة المعاصر حلالاً عند هذا الفريق من العلماء إلا بالتلفيق بين مناهج ليست المسألة حلالاً في منهج من هذه المناهج، لكن أجروا عملية التلفيق كما أشرنا، فنحتاج إلى أن نتتبع صور بيع المواعدة الذي هو بيع المرابحة للآمر بالشراء الذي تجريه المصارف الإسلامية.(87/18)
صور بيع المواعدة(87/19)
صورة التواعد غير الملزم مع جهالة مقدار الربح
أول صورة من صور بيع المواعدة تنبني على التواعد غير الملزم بين الطرفين، مع عدم ذكر مسبق بمقدار الربح؛ فهي مبنية على تواعد وتفاعل، هذا يقول له: اشتر لي الثلاجة، وأعدك أني سأشتريها منك عندما تتملكها، والبنك يقول له: أنا أعدك أني أسلمها لك بعد أن أشتريها، فهنا يجوز هذا البيع، وهو غير بيع التواعد الذي فيه تفاعل بين الاثنين؛ فهذا وعد أنه يشتريها منه، والثاني وعد أنه يبيعه إياها.
هذه الصورة الأولى تنبني على التواعد غير الملزم بين الطرفين، بمعنى: أن البنك يشتري الجهاز أو الماكينة أو أي سلعة بناءً على الوعد ثم يأتي رجل آخر فيقول له: بكم تبيع هذه الثلاجة، فإذا كان سيبيعها للأول بخمسمائة مثلاً فيقول له: أبيعها لك بسبعمائة، فيقول: موافق، فإذا ظهر للبنك مصلحة جديدة فله أن يرجع في كلامه.
إذاً الوعد هنا غير ملزم للبنك، ويمكن أن يبيع السلعة للمشتري نفسه الذي جاءه في البداية، أو شخص آخر فيبيع له، وكذا المشتري له ألا يشتريها، ويقول له: أنا جاءني عرض أقل من هذا العرض، وأنا قبلته ولن أشتري منك.
هذه الصورة الأولى وفيها الوعد غير ملزم، ولا أحد يعاتب الثاني إذا رجع في كلامه؛ لأن العقد لم يتم، وهذه الصورة من بيع المرابحة هي الصورة الصحيحة إن شاء الله كما سنبين.
وهذه الصورة تنبني على التواعد غير الملزم بين الطرفين، مع عدم ذكر مسبق لمقدار الربح، وهذا هو سر حلها، وهو أنه لا يعرف مقدار الربح؛ فيرغب العميل في شراء سلعة بعينها فيذهب إلى المصرف، ويقول: اشتروا هذه البضاعة لأنفسكم، ولي رغبة في شرائها بثمن مؤجل أو بربح، أو: وأنا سأربحكم فيها، فما حكم هذا النوع؟ الظاهر جواز هذه المعاملة عند الحنفية والمالكية والشافعية كما ذكر ابن رشد في المقدمات، فهذا البيع جائز، وليس فيه أي مشكلة؛ لأنه ليس في هذه الصورة التزام بإتمام الوعد بالعقد، أو بالتعويض عن ضرر لو هلكت السلعة.
وفي هذه الحالة لو هلكت السلعة عند البنك، فمن الذي سيتحمل هلاكها؟ البنك هو الذي سيضمنها، إذاً: الشبهة تزول، أما إذا شرط البنك عليك أنها لو هلكت عنده فأنت المسئول عنها، فهذا منكر آخر.
فليس في هذه الصورة التزام بإتمام الوعد بالعقد أو بالتعويض عن الضرر لو هلكت السلعة، وليس الضمان على العميل وإنما على البنك، وليس فيها التزام ولا تحديد قاطع بالربح مسبقاً، فالبنك في هذه الحالة يخاطر بشراء السلعة لنفسه، وهو على غير يقين من شراء العميل لها بربح، فلو عدل أحدهما عن رغبته فلا إلزام، ولا يترتب عليه أي أثر، فهذه الدرجة من المخاطرة هي التي جعلتها في حيز الجواز، ووجود هذه المخاطرة هي التي جعلت هذا التعامل جائزاً والله تعالى أعلم.(87/20)
صورة التواعد غير الملزم مع معرفة مقدار الربح
هذه الصورة تنبني على التواعد غير الملزم بين الطرفين، مع ذكر مقدار ما سيبذله من ربح.
الصورة: أن يرغب العميل في شراء سلعة معينة بذاتها أو جنسها، يعني لا يقول له: الثلاجة هذه بالذات، لكن ثلاجة من هذا الجنس.
فيقول الرجل للبنك: اشتروا هذه السلعة لأنفسكم -وهذا قيد مهم-، ولي رغبة بشرائها بثمن مؤجل أو معجل، وسأربحكم زيادة عن رأس المال ألفاً.
وهذه المسألة نص ابن رشد في المقدمات أنها محظورة، وهي من بيع العينة المحظور؛ لأنه ازداد الرجل في سلفه، يعني: وهذا النوع من التحايل على الربا؛ لأنه إذا كان هذا المشتري ليس معه مال يشتري به هذا الجهاز فهناك صورتان: الأولى: أن يذهب للبنك مباشرة ويقول له: أقرضني خمسة آلاف مقابل فائدة ربوية مقدارها خمسمائة، أي: أنه يقول له: أقرضني -مباشرة- خمسة آلاف لأشتري بها الجهاز وأسددها لك بعد أجل بخمسة آلاف وخمسمائة، وهذه الصورة ربا صريح.
الثانية: أنه لا يستلف من البنك، ولكن يقول له: اشتر لي هذا الجهاز أنت بثمن عاجل وأنا سأسددها لك بهذا الثمن مقابل الزيادة المقررة بخمسمائة، فالعلماء قالوا: إنها عبارة عن حيلة من حيل الربا، فبدل التعامل مباشرة مع البنك بالطريقة الربوية، يحول الموضوع ويتحايل بما صورته حلال، وهو في الحقيقة حرام.
قالوا: هذه من صور العينة، فالرجل يريد أن يتعامل بالربا، فيقول للآخر: أبيعك الساعة التي معي بمائة في الحال، فيعطيه الساعة في الحال بمائة، ثم يقول صاحب الساعة الأول: أنا أشتريها منك بمائة وخمسين ديناً لمدة ستة أشهر، فيقول له: نعم ويرجعها له مرة ثانية ويلبسها من جديد، والحقيقة أنه يريد أن يقترض بربا.
وهذه الحيلة الظاهر منها أنها حلال، ولكن المقصود بها التوصل للحرام، فبعض العلماء من المالكية اعتبروا هذه الصورة -بالذات- من صور العينة.
يقول ابن رشد: (والمحظورة - أي: العينة المحظورة- أن يراوضه على الربح، فيقول له: اشتر سلعة كذا وكذا بعشرة دراهم نقداً، وأنا أبتاعها منك باثني عشر نقداً -يعني: بعدما يتملكها-، والثانية: أن يقول له: اشترها لي بعشرة نقداً وأنا اشتريها منك باثني عشر إلى أجل).
يقول الدردير في الشرح الصغير: (العينة وهي بيع من طلبت منه سلعة للشراء وليست عنده لطالبها) يعني: بيعها لطالبها بعد شرائها جائز، (إلا أن يقول الطالب: اشترها بعشرة نقداً، وأنا آخذها منك باثني عشر إلى أجل، فيمنع لما فيه من تهمة سلف جر نفعاً)؛ لأنه كأنه سلفه ثمن السلعة على أن يأخذ عنها بعد الأجل اثني عشر.
وهذه الصورة الثانية تنبني على المواعدة الغير الملزمة للطرفين مع ذكر مقدار ما يبذله من ربح، وهي أن يرغب العميل في شراء سلعة معينة بذاتها أو جنسها، فيذهب إلى المصرف فيقول: اشتروا هذه السلعة لأنفسكم ولي رغبة بشرائها بثمن مؤجل أو معجل، وسأربحكم زيادة عن رأس المال ألفاً، قال ابن قدامة: إنها من العينة المحظورة؛ لأنه رجل ازداد في سلفه.(87/21)
المواعدة الملزمة بالاتفاق بين الطرفين
هذه هي غالباً الصورة التي فيها الإشكال، وهي التي تتعامل بها المصارف الإسلامية -كما تسمى- وتنبني على المواعدة الملزمة بالاتفاق بين الطرفين مع ذكر مقدار الربح، فما معنى ملزمة؟ أي: أن البنك يأخذ ضمانات كافية جداً على أن هذا الرجل لا يرجع عن كلامه أبداً، فيبيع له السلعة قبل أن يمتلكها.
فليس العقد عبارة عن اتفاق إرادتين على إنشاء حق، بل اتفاق إرادتين على إنشاء حق بحيث يصير ملزماً، فهذه المواعدة ملزمة بالاتفاق بين الطرفين مع ذكر مقدار الربح، وهي: أن يرغب العميل بشراء سلعة معينة ذاتها أو جنسها المنضبطة عينها بالوصف، فيذهب إلى المصرف، ويتفقان على أن يقوم المصرف ملتزماً بشراء البضاعة من عقار أو آلات أو نحو ذلك، ويلتزم العميل بشرائها من المصرف بعد ذلك، ويلتزم المصرف ببيعها للعميل بثمن اتفقا عليه من قبل.
إذاً: هذه المعاملة تتركب من الآتي: أولاً: المواعدة بين الطرفين: هذا وعد بأن يشتري وهذا وعد بأن يبيع، على ألا يرجع أحدهما في كلامه.
ثانياً: الالتزام بالمواعدة: أي: أن هناك مواعدة والتزاماً بالاتفاق بين الطرفين قبل حيازة المصرف للسلعة، وقبل أن تستقر في ملكية المصرف، مع ذكر مقدار الربح مسبقاً، واشتراط أنها إن هلكت فهي من ضمان أحدهما بالتعيين، بينما في المعاملة الشرعية لا يحتاج الأمر أصلاً لذكر من الذي يضمن؛ لأن البنك هو الذي يضمن إذا تلفت السلعة أو احترقت أو أصابها أي شيء، فالذي يشتري السلعة هو المسئول عن ضمانها، لكن في المواعدة يوجد بند في الاتفاق: إذا أصاب السلعة أي تلف فالذي يضمن هو المشتري نفسه، أما من الناحية الشرعية فهذا الشرط لا ينبغي أن يكون له وجود أصلاً؛ لأنه لا محل له في هذا التعاقد حتى لو اتفق الطرفان على أن البنك هو الذي يضمن؛ لأن الآمر بالشراء ما دخلت السلعة في ذمته.
إذاً: الصورة تتركب من المواعدة والالتزام بها بالاتفاق بين الطرفين قبل حوزة المصرف للسلعة، وقبل استقرارها في ملكه مع ذكر مقدار الربح مسبقاً، واشتراط أنها إن هلكت فهي من ضمان أحدهما بالتعيين، وهذا الاشتراط لا يجوز شرعاً، والمفروض أن البنك هو الذي يضمن، لكن هذه مسألة مبدأ، لا ينبغي أن يقال فيها: هذا البنك ضامن، وطبيعي أن البنك هو الذي يضمن، وهذا مما لا يحتاج إلى ذكر.
وهذه الصورة حكمها كما يقول الفقهاء المحققون: البطلان والتحريم؛ لأن حقيقتها القرض بفائدة، وسنذكر الأدلة على هذا.
فالمرابحة المصرفية إذا أطلقت الآن في عصرنا فهي: أن يتقدم الراغب في شراء سلعة من المصرف؛ لأنه لا يملك المال الكافي لسداد ثمنها نقداً، ولأن البائع لا يبيعه إلى أجل، ولو أن البائع قال: أنا أبيعها لك إلى أجل انتهى الأمر، فيختار الأجل، لكنه يريد حالاً، والمشتري ليس معه نقود، فيذهب إلى المصرف فيشتريها المصرف بثمن نقدي ليبيعها على طالبها بثمن مؤجل أغلى، فإذا اشترى المصرف السلعة ولم يلتزم ببيعها على العميل أو لم يلتزم العميل بشرائها، وكان كل واحد منهما بالخيار، فالبيع جائز، لكن الواقع الذي يحصل في بعض البنوك أن البنك يأخذ ضمانات مثل الشيكات من أجل ألا يرجع المشتري في كلامه، ويشترط أن يؤمن المشتري على هذه السلعة، فإذا هلكت ولم يؤمن فهي من ضمان المشتري، وإذا هلكت وهو مؤمن فتتحمل الخسارة شركة التأمين، والتأمين من الظلم الذي شاع في هذا الزمان، ولعلنا نتكلم في فرصة أخرى عن التأمين بالتفصيل إن شاء الله.(87/22)
حكم المرابحة [2]
بيع المرابحة انتشاراً كبيراً في البنوك الإسلامية، مع أنه لا يخلو من محاذير شرعية، بل لقد انتشر إن فيه أحياناً حيلة على الربا المحرم في جميع الشرائع السماوية، فكيف يستحله كثير ممن ينتمون إلى الملة الإسلامية؟! وهناك ضوابط شرعية إذا عملت بها البنوك الإسلامية كان هذا البيع جائزاً.(88/1)
أدلة تحريم بيع المواعدة الملزمة بالاتفاق بين الطرفين(88/2)
فقدان شرط الملكية والقدرة على التسليم
الدليل الأول: أن حقيقة بيع المواعدة هو: عقد بيع على سلعة مقدرة التملك للمصرف بثمن مربح قبل أن يملك المصرف السلعة ملكاً حقيقياً وتستقر في ملكه، هذا أول سبب في التحريم، ويظهر ذلك جلياً بمعرفة شروط المبيع وهي: أن يكون مباحاً، مقدوراً على تسليمه، مملوكاً لبائعه، منتفعاً به.
فأحد شروط المبيع: أن يكون مملوكاً لبائعه، ولا يصح بيع شيء غير مملوك لبائعه، كمن يبيع بيت جاره وهو لا يملكه! فالبنك يبيع لك الثلاجة أو الجهاز قبل أن يمتلكه، فهنا فقد شرط من شروط المبيع؛ لأن الملكية مقدرة وليست حقيقية.
فهو باع بيعاً معلقاً، وليس بيعاً حقيقياً؛ فهو يقول للبنك: إن اشتريتموها اشتريتها منكم.
وقد صرح بإبطال هذا العقد بسبب هذه العلة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وكذلك ابن رشد؛ لأنه كان على مواطئة بيعها قبل أن يمتلكها البائع.(88/3)
النصوص الكثيرة الناهية عن بيع ما لا يملك
الدليل الثاني: عموم الأحاديث النبوية التي نصت على النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده، والبنك باع للعميل ما لا يملك، فعن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه قال: (قلت: يا رسول الله! يأتيني الرجل فيسألني عن البيع لما ليس عندي فأبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تبع ما ليس عندك)، رواه أصحاب السنن وحسنه الترمذي.
وبعض الناس يفعلون هذا بدون أن يشعروا، قد تذهب إلى الصيدلية لتشتري دواء، ولأنه حريص على الزبون يأخذ منك الثمن، ثم يرسل من يشتريه من صيدلية ثانية، وهو بهذا سيبيع لك ما ليس عنده، ولابد أن يملك السلعة أولاً ثم يبيعها، والصحيح أنه يقعده عنده، ويبعث من يجلب له الدواء من صيدلية أخرى، حتى يمتلكه، ثم يبيعه للزبون.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: وعلته الغرر في القدرة على التسليم وقت العقد.
والحديث ينص على النهى عن الغرر، مثل أن يبيع السمك في الماء، أو الطيور في الهواء، أو الأجنة في بطون أمهاتها، وهذا كله يسري فيه الغرر والجهالة فيبطل.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)، رواه أصحاب السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: فاتفق لفظ الحديثين على نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده، فهذا هو المحفوظ من لفظه صلى الله عليه وسلم، وهو يتضمن نوعاً من الغرر؛ فإنه إذا باعه شيئاً معيناً وليس في ملكه ثم مضى ليشتريه ويسلمه له كان متردداً بين الحصول وعدمه، فكان غرراً يشبه القمار المنهي عنه، وقد ظن بعض الناس أنه إنما نهي عنه لكونه معدوماً، فقال: لا يصح بيع المعدوم، وروى في ذلك حديثاً: (أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المعدوم)، وهذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب الحديث، ولا له أصل.
اهـ من زاد المعاد.
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: (قوله: (لا تبع ما ليس عندك) يريد بيع العين دون بيع الصفة، ألا ترى أنه أجاز السلم إلى الآجال، وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال، وإنما نهى عن بيع ما ليس عند البائع من قبل الغرر، وذلك مثل أن يبيعه عبده الآبق، أو جمله الشارد، ويدخل في ذلك كل شيء ليس بمضمون عليه، مثل أن يشتري سلعة قبل أن يقبضها.
وهذا يوافق كلام ابن القيم في بيان العلة، وهذا الحكم ثابت: لا يبع ما ليس عنده، والاختلاف في العلة، فبعضهم قال: لإن هذا بيع لشيء معدوم، فيحتمل أنه لا يجد السلعة التي باعها له، فلا يقدر على تسليمها، لكن لو قبضها وحازها فإنه يقدر على تسليمها، فنهي عن بيع مالا يملك من أجل الغرر، كمن يبيع الجمل الشارد، وهو لا يقدر على تسليمه، والصحيح أن هذا النهي ليس من باب بيع المعدوم، ولكن لوجود الغرر، وهو عدم القدرة على التسليم، وأياً كان الأمر فالحديث ثابت.(88/4)
النهي عن بيع ما لم يقبض
الدليل الثالث: عموم الأحاديث النبوية التي نصت على نهي الإنسان أن يبيع ما اشتراه ما لم يقبضه، فإذا اشتريت شيئاً ولم تقبضه فلا يجوز لك أن تبيعه حتى تحوزه إلى رحلك.
ففي الحديث: (نهى أن تباع السلعة حيث تبتاع حتى يأويها التجار إلى رحالهم) وقد صحت الأحاديث في هذا، ومنها حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه) أي: حتى يكتاله، رواه الترمذي.
والذي عليه المحققون: أنه لا يجوز بيع شيء من المبيعات قبل قبضها، سواء الطعام أو غيره، وذكر الطعام هنا خرج مخرج الغالب، أي: أن الغالب بيع الطعام.
وقد حرر ابن القيم رحمه الله تعالى الخلاف في علة المنع من بيع ما لم يقبض فقال: فالمأخذ الصحيح في المسألة: أن ما هو معلل بعدم تمام الاستيلاء يجب عنده قدرته على التسليم، وعدم انقطاع علاقة بيعه عنه؛ فإنه يطمع في الفسخ والامتناع عن الإقراض إذا رأى المشتري قد ربح فيه.
الشاهد من هذا: أن النصوص إذا كانت صريحة وصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع ما لم يقبض، وأنه على عمومه، وأن العلة هي عدم تمام الاستيلاء، وعدم الاستقرار في ملكية المشتري؛ فكيف يجوز للمصرف أن يبيع ما لم يملك أصلاً؟ وهذا من باب قياس الأولى وهو قياس جلي، فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع ما لم يقبض، وأنت ذهبت لتشتري السلعة من الرجل، واتفقتما على البيع، ولكن لم يسلمك السلعة، فلا يجوز لك في هذه الحالة بيعها مع أنك اشتريتها ودفعت الثمن، لكنك لم تقبضها، ففي هذه الحالة لو جاء من يشتريها منك قبل أن تستلمها يحرم عليك هذا، فإذا كان البيع في هذه الصورة لا يحل، فكيف يحل والبنك أصلاً لا يملك السلعة، ويأخذ كل الضمانات قبل أن يشتريها؟! فملك البنك تقديري لا حقيقي، وقبضه له تقديري لا حقيقي، فالمنع من هذا أولى.(88/5)
وجود التحايل على الربا
الدليل الرابع: أن حقيقة عقد بيع المواعدة بيع نقد بنقد أكثر منه إلى أجل.
وهذه المسألة خلاصتها: أن هذا الرجل محتاج إلى خمسمائة حتى يشتري السلعة نقداً، لكنه عاجز أن يشتريها مباشرة، فماذا يفعل؟ يذهب للمصرف ويقول له: أعطني الخمسمائة لأشتري بها السلعة نقداً؛ لأن البائع مصر على بيعها نقداً، وسأسددها لك فيما بعد بخمسمائة وخمسين أو ستمائة مثلاً، فالصورة آلت إلى الربا أو تكاد! فخلاصة هذا العقد وحقيقته أنه بيع نقد بنقد أكثر منه إلى أجل؛ لأنه أعطاك الخمسمائة مقابل أن تردها إلى أجل بزيادة، وبينهما سلعة محللة، وهذه حيلة من أجل أن تحلل فقط، مثل المحلل في الطلاق تماماً، فهو يعتبر حيلة على الإقراض بفائدة.
يقول ابن عبد البر رحمه الله تعالى: معناه أنه تحيل في بيع دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، وبينهما سلعة محللة، مثال ذلك: أن يطلب رجل من رجل آخر سلعة يبيعها منه بنسيئة لأجل، وهو يعلم أنها ليست عنده، فيقول له: اشترها من مالكها بعشرة، وهو علي باثني عشر إلى أجل كذا، فهذا لا يجوز لما ذكرنا.
هذا كلام الإمام ابن عبد البر المالكي.
ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في بيع ما لم يقبض: إنه يكون قد باع دراهم بدراهم والطعام مرجى، وهذا الأثر متفق عليه.
وقال الخطابي: وهو غير جائز؛ لأنه بتقدير بيع ذهب بذهب، والطعام مؤجل، غائب غير حاضر.(88/6)
اشتمال البيع على الغرر
الدليل الخامس: أن البيوعات المنهي عنها ترجع إلى قواعد ثلاث، وأي تعامل شرعي يحرم وينهى عنه يرجع سبب ذلك النهي إلى ثلاثة قواعد هي: الربا، الغرر، أكل أموال الناس بالباطل.
روى الجماعة إلا البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر)، وهذا ليس من باب إضافة الموصوف إلى صفته، أي: ليس المعنى: نهى عن البيع الذي هو غرر، وإنما معناه نهى عن بيع المبيع الغرر كالثمار قبل بدو صلاحها، وبيع ما لا يملكه، والعلماء قسموا بيع المعدوم إلى أنواع: النوع الأول: السلم، وهو: بيع موصوف في الذمة، فهو يتعجل أخذ المبلغ كله، وهذا استثناء من بيع ما ليس عنده، وله أسماء أخرى هي: السلم والسلف وبيع المحاويج؛ لأن الرجل الذي سيزرع التمر أو يأتي بالسلعة المسلم فيها محتاج إلى المال حتى يصرفه على الزراعة مثلاً، والمشتري محتاج إلى السلعة في الوقت الآجل فيما بعد، فلابد في السلم أن يعجل الثمن ويؤجل استلام السلعة، لكن لابد أن تكون السلعة موصوفة بصفات منضبطة تماماً، ويسمونه بيع المحاويج؛ لأن هذا محتاج وهذا محتاج، ففيه تيسير على الأمة، وقد رخص النبي عليه الصلاة والسلام فيه.
النوع الثاني: بيع الموجود: مثل بيع الثمار بعد بدو صلاحها، وهو يجوز أيضاً.
النوع الثالث: بيع المعدوم الذي لا يدرى أيحصل أم لا يحصل، ولا ثقة لبائعه بحصوله، بل يكون المشتري منه على خطر، فهذا منع الشارع من بيعه؛ لا لكونه معدوماً بل لكونه غرراً، فإن البائع إذا باع ما ليس في ملكه ولا له قدرة على تسليمه، بل يذهب يحصله ثم يسلمه إلى المشتري، يعتبر شبيهاً بالقمار والمخاطرة من غير حاجة بهما إلى هذا العقد، ولا تتوقف مصلحتهما عليه.(88/7)
النهي عن بيعتين في بيعة
الدليل السادس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة)، فالمواعدة إذا لم تكن ملزمة للطرفين لم يكن ثمة بيعتين في بيعة، لكنها إذا صارت ملزمة كانت عقداً بعد أن كانت وعداً، وكأن هناك بيعتين في بيعة واحدة، فالأولى: بين المصرف وعميله المشتري، والثانية: بين المصرف والبائع، فصارت بيعتين في بيعة.(88/8)
وجود صورة بيع دين بدين المنهي عنها
الدليل السابع: بيع المرابحة مع الإلزام يفضي إلى بيع مؤجل البدلين، الذي يسمى: بيع الدين بالدين، أو الكالئ بالكالئ، لماذا؟ لأنه لا المصرف سوف يسلم السلعة في الحال، ولا العميل سيسلم الثمن، يعني: هذا العقد الذي يحصل مع المرابحة فيه بيع معاوضة لكن البدلين مؤجلان، السلعة دين والثمن دين؛ فهل تقول للمصرف بعد العقد: أنا أريد الجهاز الفلاني، فيحضره لك في الحال، لا، فعند التعاقد مع البنك هو لن يسلمك السلعة في الحال، ولا أنت تسلم الثمن؛ لأن السلعة ستكون ديناً في ذمة المصرف، والثمن سيكون ديناً في ذمتك، وهذا هو بيع الدين بالدين أو الكالئ بالكالئ الذي أجمع الفقهاء على النهي عنه رغم ضعف الحديث الوارد فيه، لكن الحكم ثابت بالإجماع.
وإذا حاولنا أن نتحاشى هذه الصورة حتى لا يكون هناك بيع دين بدين، فنجمع المشتري والمصرف والبائع أو وكيلاً عن كل منهم في مجلس واحد، فيدفع المصرف الثمن النقدي إلى البائع، ويسجل المصرف في الحال اسم المشتري، ويكون الثمن مؤجلاً بذمة المشتري الخمسة آلاف -مثلاً- بزيادة خمسمائة؛ فهذا رباً واضح بتواطؤ الثلاثة، ونكون قد تجنبنا الرمضاء فوقعنا في النار! وما الفرق بين هذه الصورة وبين ما إذا قال الرجل للمصرف: أقرضني خمسة آلاف وأسددها لك خمسة آلاف وخمسمائة؟!(88/9)
شبهات المبيحين لبيع المرابحة الجاري في المصارف
شبهات المخالفين في هذه المسألة ركيكة وضعيفة، كقولهم: إن الوعد المالي ملزم، وما الجواب عن هذا؟ نقول: أولاً: هذا فيه خلاف، هل الوعد ملزم أو غير ملزم؟ ففي وجوب الإلزام به ثلاثة مذاهب: وجوب الوفاء به مطلقاً.
عدم وجوب الوفاء به مطلقاً.
إذا كان يترتب عليه ورطة فيكون ملزماً.
ثانياً: أن الخلاف إنما هو في الوعد بالمعروف -العدة-، وليس له علاقة بموضوع بيع المرابحة؛ لأن بيع المرابحة هو تبادل تجاري، ومعاوضة تجارية فيها كسب وربح، وهذا أول فرق.
ويقولون: الأصل في المعاملات الإباحة إلا ما جاء به نص صحيح الثبوت صريح الدلالة يمنعه ويحرمه فيوقف عنده.
فنقول: نعم الأصل في المعاملات الإباحة، لكن إذا أتى دليل شرعي يتعرض لهذه الإباحة ويزيلها فلا شك أنه لا يصح الاستدلال بهذه القاعدة، فقد أتى ما يمنع هذا، مثل حديث حكيم بن حزام وغيره من الأدلة التي نقلت هذه الإباحة إلى الحرمة.
قالوا: إذا كان تحريم الحلال خطيراً فأخطر منه أن تحل حراماً، والله سبحانه تعالى يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، والبيع يشمل المقايضة التي هي عين بعين، أو الصرف الذي هو ثمن بثمن مثل ذهب بذهب، وفضة بفضة، أو السلم الذي هو عين بثمن، والبيع المطلق سواء حالاً أو مؤجلاً، قالوا: إن هذا يشمل المرابحة، فالمرابحة تدخل في أنواع البيوع، مثل: بيع المساومة، وبيع المزايدة، وبيع الأمان، فبيع الأمان يدخل فيه المرابحة، فدخلت كلمة أحل الله في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275].
الجواب
أقسام البيوع هي: بيع المساومة، وبيع المزايدة، وبيع الأمانة، وبيع الأمان ثلاثة أنواع: بيع المرابحة، وبيع التولية، وبيع الوضيعة أو المحاطة، فبيع المرابحة الداخل في البيوع التي أحلها الله هو على اصطلاح الفقهاء الأقدمين في المرابحة، وليس هو الذي نتكلم عنه الآن، وهي صورة مختلفة تماماً عن المرابحة، ولا يجوز أن نستغل تشابه الأسماء بل لابد من تحقيق المعنى المراد بهذا الاسم.
يقولون أيضاً: إن الحاجة ماسة وداعية إليه في التعامل، كما دعت الحاجة إلى السلم والاستصناع.
و
الجواب
أن السلم يختلف عما يدعون أنه مشروع، والأحاديث معروفة في ذلك، ويغتفر ما فيه من غرر، لكن السلم أذن به الشرع، أما الغرر في هذه المعاملة؛ فأين الدليل على أن الشرع أذن فيه والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تبع ما ليس عندك)؟! يقولون: واغتفر ما يعتريها من الغرر تقديراً للحاجة الداعية، ولاتساع رقعة التعامل، وتضخم رءوس الأموال، فإذا لم تتم هذه المعاملة وقع المسلم في حرج، وشق عليه فوات مصالح كان يريد تحقيقها، وإذا فتحنا هذا الباب فسيضطر الناس إلى القرض بفائدة، وهذا هو الربا، لكن دينه يعصمه من الربا المحرم، فيلجأ إلى هذا التعامل تحت وطأة الحاجة أو الضرورة، فحتى لا يلجأ الناس إلى الربا لزمنا أن نفتح لهم هذا الباب، ونسهل عليهم؛ حتى ننتشلهم من المحرم، ونحقق مصالح المسلمين.
فالجواب: نحن نوافقهم على أن القول بإباحة بيع المواعدة بهذه الصورة أيسر على الناس، ولكن هل كل ما اختلف فيه العلماء يجوز الأخذ فيه بالأيسر؟ وهل اليسر مسلك من مسالك الترجيح عند التعارض؟ الترجيح عند التعارض يكون باعتبارات أخرى لا محض اليسر، وفي الحديث: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً).
إذاً: الترجيح يكون بالنظر إلى الأيسر للناس في مجالات التطوع الاختيارية، أما في أشياء مقطوع بحرمتها فلا يوجد شيء اسمه تيسير، وما كان إثماً فقد كان صلى الله عليه وسلم أبعد الناس منه.
إذاً: ليس كل ما اختلف العلماء فيه يجوز الأخذ فيه بالأيسر؛ إذ الواجب عند اختلافهم هو الأخذ بما هو أرجح دليلاً؛ لأن ذلك أقرب إلى امتثال أمر الله تبارك وتعالى، وليس اختلافهم دليلاً على جواز كل الوجوه التي اختلفوا عليها؛ لأن التعبد ليس بالخلاف، وهذه هي الضلالة التي تحاول بعض الجماعات أن تغرسها الآن في الناس في زمن الغربة، يقولون: ضعها في رقبة عالم واطلع سالم! وهناك دعاة يقلدون الجهلة هذا الكلام ويقولون: من قلد عالماً لقي الله سالماً! وهم لا يستدلون بالحديث، ولكن يقول: ما دام أن عالماً قال به فأنا آخذ بكلام العالم، فيستترون وراء المسألة، ثم ننتهي إلى اتباع الهوى لا اتباع الشرع، والانقياد لداعية الهوى، بحجة أن عالماً قال بها، ولو تتبعت زلات العلماء اجتمع فيك الشر كله.
إذاً: لا ينبغي إعمال نظرية التعبد بالخلاف، وهذه من البدع المعاصرة؛ لأن معنى ذلك أنه يجوز للمكلف أن يفعل الواجب أو يتركه، وأن يفعل الحرام وأن يتركه، ولا يلتزم إلا بالحكم المجمع عليه، والمسائل المجمع عليها قليله جداً بالنسبة لآلاف المسائل المختلف فيها، فهل مجرد وقوع الخلاف في مسألة يبيح لك أن تأخذ بأي قول؟! إذاً: ستأخذ من مذهب إباحة النبيذ، ومن مذهب إباحة نكاح المتعة، ومن مذهب ربا النسيئة، فلا يبقى واجب ولا محرم، ولا يفقه شيء إلا المجمع عليه، وهذا فساد عريض، فهذا نقد وتحطيم لقاعدة التكليف كما بينه الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في الموافقات، فكيف يجوز الأخذ في مثل هذه المسألة الخطيرة بقول شاذ، بل بقول غير محدد ولا مثقف، وكل كلامه منسوب إلى ابن شبرمة، وقد سبق أن بينا أنه غير راجح، وليس له علاقة بموضوعنا، علاوة على أنه قول شاذ من بين أقوال الفقهاء.(88/10)
الضوابط الشرعية لبيع المرابحة الآمر بالشراء
نذكر هنا الضوابط الكلية التي تجعل بيع المواعدة أو بيع المرابحة للآمر بالشراء الذي تجريه المصارف الإسلامية في دائرة الجواز.
أولاً: خلوها من الالتزام بإتمام البيع كتابة أو مشافهة قبل الحصول على العين بالتملك والقبض، فليس من حق البنك بعد الإتيان بالسلعة إلزام العميل، وله الحق في أن يرجع في كلامه، وكذلك من حق المشتري عدم الالتزام بإتمام البيع كتابة أو مشافهة قبل الحصول على العين بالتملك أو القبض.
ثانياً: خلوها من الالتزام بضمان هلاك السلعة أو تضررها من أحد الطرفين العميل أو المصرف، بل هي على الأصل، والأصل أنها في ضمان المصرف، بل لا ينبغي أن يذكر هذا الشرط أصلاً، فلا يذكر البنك أنه ملتزم بها إذا هلكت، بل الأصل أن يبقى الشيء على ما كان عليه، فلا ينبغي النص في العقد على أن الالتزام بالضمان سواء على هذا أو ذاك، حتى لو قال: البنك أنا الذي أضمنها، فيكون موافقاً للكلام الذي نقوله، لكن هذا هو الأصل، ولا يحتاج إلى التنصيص عليه.
ثالثاً: ألا يقع العقد على المبيع بينهما إلا بعد قبض المصرف للسلعة واستقرارها في ملكه، يعني: لا يحصل عقد التبايع إلا بعد أن يمتلكها البنك بالفعل ويحوزها، وحينئذ يعقد العقد بين البنك والمشترى منه.
ونلخص الكلام في هذا الموضوع من رسالة للدكتور محمد سليمان أشقر حفظه الله اسمها: بيع المرابحة كما تجريه البنوك الإسلامية، يقول في نهاية هذا البحث القيم: الذي يظهر لي -والله أعلم- أن التواعد على بيع المرابحة، وذكر السعر الذي سيشتري به الواعد في المرابحة، لا يجعلها إذا أتمت بعد ذلك حراماً خلافاً للمالكية، ولما فهمناه عن مذهب الحنابلة، ووفاقاً للمذهب الشافعي، ولما فهمناه عن مذهب الحنفية، ولما أفتى به فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز؛ لأن البنك يشتري لنفسه وهو يعلم أن العميل ربما لا يرجع إليه، وربما رجع فاشترى أو لم يشتر، فله مطلق الحرية في ذلك، ولأن البنك يستطيع أن يبيع لغير العميل؛ فلكل منهما أن يعدل عن وعده إذا وجد فرصة أنسب، ولأن السلعة إن هلكت تهلك على ملك البنك، وهذه الدرجة من المخاطرة، وهي: أن يكون البنك يشتري البضاعة وهو على غير يقين من شراء العميل لها بربح، وهذه الدرجة هي التي تبيح هذه المعاملة وتخرجها عن حيز التحريم إلى حيز الحل، وتفصل بين كون هذه المعاملة بيعاً وتجارة وبين كونها قرضاً، أما العمل على أساس الإلزام بالوعد السابق؛ فإنه يربط الواعد ويوثقه ويعدمه الرضا حال عقد الشراء اللاحق من البنك.
وهذه نقطة مهمة جداً؛ لأنه عند كتابة العقد هل عنصر الرضا والاختيار من المشتري موجود؟ لا؛ لأنه قد أخذ عليه ضمانات قبل العقد، ثم يعقد بعد أن يحوز السلعة ويبيعها له ويكتب العقد، فما فائدة هذا العقد؟ هل هو مسلوب الإرادة أم غير مسلوب؟ مسلوب الإرادة؛ لأخذه ضمانات كافية من قبل.
قال الأشقر: (فيكون المشتري مسلوب الرضا عند إجراء عقد شراء اللاحق من البنك، فيكون العقد صورياً، ويخرج عن كونه {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، إلى كونه قرضاً بفائدة؛ لأن الوعد الملزم يكون قد ربط ربطاً محكماً بين دفع البنك الثمن عند شرائه البضاعة، وبين أخذ العميل لها بثمن زائد، فتحققت صورة القرض، ولا ينفعهم أن يسموه: وعداً ببيع المرابحة؛ لأنه قد علم أن شرط العقود الرضا التام حين التعاقد، وبذلك التراضي يحل لكل من الطرفين ما يأخذه من مال الآخر، ومع ذلك، فلما في هذا التعامل من شبهة الإقراض بالفائدة فهو مكروه).
وربما قال البعض: إن وعد المرابحة مع مراعاة هذه الضوابط يعرض أموال البنك الإسلامي إلى المخاطر؛ فإن كثيراً من العملاء سيتراجعون عن الوفاء بوعودهم في كثير من الأحوال لعدم التزامهم، ولعدم لزوم شيء من الغرامة لهم في حال النكول؛ فيضطر لبيع البضائع في كثير من الأحيان بثمن بخس، فنقول: الرجل ممكن أن يرجع، والبنك ممكن أن يرجع، ولو جاء للبنك عميل سيربحه أكثر باع له، فعنصر احتمال الرجوع متوافر للطرفين، وهذا العقد الشرعي للصورة الشرعية سيجعل للطرفين مطلق الحرية، وإذا أتى عرض من البنك أفضل سيكسب أكثر قبل إتمام العقد، وكذلك العميل، لكن بلا شك أن البنك فعلاً هو المعرض للخسارة أكثر؛ لأن بعض السلع النادرة لا يشتريها كل الناس، يقول الدكتور الأشقر: وجوابي عن ذلك: أن هذا لا يعرض البنك للخطر بل يضيق دائرة تحركه نسبياً في مجال العمل بالمرابحة، فلا يتعامل إلا بالعمليات التي يطمئن فيها إلى العميل، والعمليات التي للبضائع المطلوبة فيها سوق رائجة، والعمليات التي تتم في برهة قريبة بعد الوعد، كشراء العقار في الداخل، وتبقى سائر العمليات التي فيها خطورة، فتحال على أنواع أخرى للتعامل.
يعني: أن البنك سيترك السلع التي فيها نوع من المخاطرة فلا يتعامل فيها بالمواعدة، ويتعامل فيها بالمضاربة أو المشاركة.
إذاً: يجب أن يصاغ الوعد بهذه الطريقة ليكون ظاهراً في عدم الإلزام والالتزام، ولئلا يؤخذ المؤمن بالحياء، بل يكون عقد البيع اللاحق عن تراض، لقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، وأرجو أن يكون الأمر قد فهم على وجهه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(88/11)
الحذر من الشيعة
لقد حذر العلماء من خطر الشيعة الإثني عشرية وبينوا أنهم أكذب خلق الله على الإطلاق، فينبغي على المسلم أن يحذر من عقائدهم الباطلة، وطعنهم في القرآن والسنة والصحابة، وأن يحذر من عقيدة التقية التي بها يخفون ما هم عليه من الباطل.(89/1)
الحذر من خطر الشيعة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين.
أما بعد: فهنا أخ أتى بهذه القصاصة بعنوان: حديث في الطائرة، وهي عبارة عن مقالة منشورة في إحدى الجرائد، يقول كاتب هذه المقالة: في أثناء رحلتي إلى أسوان بالطائرة جلست في المقعد المجاور لي سيدة غير مصرية تقرأ في كتاب ديني، استنتجت من أسلوبه واسم مؤلفه أنه من كتب الشيعة الإمامية الإثني عشرية، وقد كانت لي قراءات عدة في المذهب الشيعي، بمذاهبه المتعددة، ولكنها كانت المرة الأولى التي ألتقي فيها بأحد الشيعة على الطبيعة، وهي فرصة بالنسبة لما سبق؛ لذلك استجمعت شجاعتي وبدأت أتبادل معها الحديث، وتأكدت من صحة استنتاجي من أنها على المذهب الشيعي، فقررت أن أغتنم هذه الفرصة الذهبية؛ لأستوضح بعض النقاط الخاصة بمذهبهم، وقررت في داخلي أن أنصت فقط لما تقوله ولا أناقش أو أنتقد شيئاً مما يدور حوله الحديث؛ لأن هدفي هو المعرفة المجردة وليس المناظرة في اختلاف المذهب، وكان حصيلة ما عرفته كذا وكذا وكذا وأقول: هنا كلمة قالها السادات في خطبة له قال فيها: يا جماعة! الشيعي أول حاجة تخاف منه بدل ما تتكلم معه.
فالشيعة أخطر شيء؛ لأنهم أكذب خلق الله، كما قال بعض العلماء: خلق الله الكذب عشرة أجزاء جعل تسعة منها في الشيعة، فالكذب عندهم عبادة.
ومن عقيدتهم التقية، وهي: إبطان خلاف ما يظهر، فأحدهم قد يوافقك، لكن ذلك تقية، وليس مثل ما نلقب نحن واحداً تقي الدين، فهذه من التقوى، وأما هم فعندهم تقي الدين من كان ماهراً جداً في التقية، ويزعمون أن التقية تسعة أعشار الدين أو نحوه، فمعروف عند علماء الحديث والجرح والتعديل أن الشيعة أكذب خلق الله، وأن أكذب الفرق الإسلامية على الإطلاق هم الشيعة.
كذلك لا تثق على الإطلاق بكلام يظهره لك الشيعي، فأنت ستقول له: أنتم تكفرون الصحابة، فيقول لك: من يكفر الصحابة؟! رضي الله عن المهاجرين والأنصار! فتقول له: أنتم تقولون كذا في عمر؟ فيقول: نحن لا نقول كذا في عمر!! بل عمر رضي الله عنه، وكذا، إلى آخره.
فهم يتقنون التقية جداً، ولهذا فإن النقاش مع الشيعة في الحقيقة لا جدوى من ورائه، ولا أمل في هدايتهم؛ ولذلك كثير من العلماء يشبهونهم باليهود؛ لأن الأمل في هدايتهم صعب جداً، لكن قد يشاء الله هداية بعض الضالين منهم، وهذا وارد، لكن كما يشاء في هداية بعض اليهود في دخول الإسلام؛ فإن المهتدين من اليهود قلة جداً؛ فهم لا يريدون أن يدخلوا في الإسلام.
فهؤلاء الشيعة يحذر من التحاور معهم، وهذه المرأة التي جلست بجوار ذلك الشخص أكيد أنها كانت تفتح الكتاب أمامه لكي تصطاده؛ لأن الشيعة خبراء في دعوة الناس وتصدير منهجهم الفاسد المتعفن.
وأما قوله: أنا قرأت عن الشيعة فواضح أنه لم يقرأ كلاماً كافياً كما سيتضح فيما يأتي.(89/2)
حقيقة الاتفاق بين السنة والشيعة
يقول الكاتب: إن هدفي كان المعرفة المجردة، وليس المناظرة في اختلاف المذاهب، وكان حصيلة ما عرفته هو أن الشيعة متفقون مع السنة في أغلب الأحكام الفقهية خاصة الفرائض.
أقول: هذا كلام غير صحيح؛ فهناك خلافات كثيرة جداً بيننا وبينهم في الفرائض وفي الفروع، ولكن ما دام أنهم متفقون معنا في الفرائض فلماذا أهملت القسم الأعظم من الدين، وهو العقيدة وأمور الإيمان وأصول الدين؟ ولكن بالعكس هناك اختلاف كبير جداً بيننا وبين هؤلاء الطوائف في الفرائض وفي الأصول.(89/3)
سبب تعلق الشيعة بمصر
يقول الكاتب: إن مصر لها مكانة خاصة في قلوب الشيعة، وكذلك للمصريين مكانة كبيرة؛ لحبهم الشديد لآل البيت.
أقول: صحيح أن مصر لها معزة عندهم، وهم يموتون حسرة على مصر؛ لأن مصر احتلت من قبل الدولة الفاطمية العبيدية التي جاءت من المغرب؛ ولذلك مصر أعظم البلاد الإسلامية حظاً في البدع والخرافات والموالد والقبور والأضرحة والمآتم، وكل هذه الأشياء من آثار العبيديين، فهذه البلايا والمصائب والبدع أوجدها الفاطميون العبيديون هنا في مصر، هذا هو السبب الذي جعل الشيعة يحبون مصر، حتى إن واحداً منهم صرح في بعض المؤتمرات مخاطباً أحد العلماء المصريين بقوله: نحن هنا نعدكم في مصر نصف شيعة؛ لأن النساء والعوام -بالذات في الأرياف- مازالوا يتعلقون جداً بآل البيت.
نقول: هل نحن أهل السنة لا نحب أهل البيت؟!! فكما نقول للنصارى: نحن أولى بالمسيح منكم، وكما نقول لليهود نحن أولى بموسى عليه السلام منكم، فكذلك نقول للشيعة: نحن أولى بآل البيت منكم سواء بـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه أو بـ فاطمة رضي الله عنها، أو بآل البيت بالمعنى الواسع، فنحن أشد الناس حباً لهم ونحن أنصارهم ونحن شيعتهم في الحقيقة، لكننا لا نعبدهم من دون الله، هذا هو الفرق بيننا وبين الشيعة، فهم يعبدون الأئمة من دون الله أو مع الله، ويخلعون عليهم صفات الألوهية والعياذ بالله، وعندهم أن الإمام معصوم من الخطأ والسهو والنسيان، وأنه إذا أراد شيئاً يقع في يديه بدون الأخذ بالأسباب، وأنه يعلم كذا وكذا، حتى إن الخميني أشعل الله قبره عليه ناراً كان يقول: إن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً معلوماً ومنزلة سامية لا يدانيها أو لا يبلغها ملك مقرب ولا نبي مرسل.
فعندهم أن درجة الإمام فوق الأنبياء، ولكن للأسف الشديد أن الأخ المتكلم هنا يقول: إن مصر لها مكانة خاصة في قلوبهم.
أقول: إنهم يهدفون إلى إعادة احتلال مصر من جديد؛ فهم يعتبرونها احتلت على يد صلاح الدين الأيوبي وصلاح الدين الأيوبي هو الذي أعاد مصر إلى ما هو أقرب إلى مذهب أهل السنة وهو المذهب الأشعري، لكن هو أخف من مذهب الشيعة.
وأحد الشيعة عرض على رجل أمريكي أن يدخل في دين الشيعة، والشيعة مشهورون جداً في الغرب، والرجل كان نصرانياً، وكان هذا الشيعي يدعوه إلى الإسلام، فظل يشرح له صفات الأئمة، وأنه لابد أن تعتقد في الأئمة أنهم كذا وكذا وكذا، فالرجل الأمريكي الكافر النصراني رد عليه رداً منطقياً، فقال له: أنا فررت من عبادة ثلاثة آلهة، وأنت تريدني أن أعبد اثني عشر إلهاً مع الله!!(89/4)
وجه سجود الشيعة على حجر أو تربة من كربلاء
إن الشيعة يقومون بالسجود على حجر أو تربة من كربلاء؛ لأنهم يرددون حديثاً منسوباً إلى الرسول عليه السلام، وفيه: (صلوا على ما لا يؤكل ولا يشرب ولا يلبس)، وبالتالي لا يجوز عندهم السجود على السجاد؛ لأنه مصنوع من الخيط الذي يستخدم في صناعة الملابس؛ ولذلك هم يسجدون على التربة التي يأتون بها من كربلاء، وتربة كربلاء في زعمهم تربة مطهرة، وكون الواحد منهم يحمل تربة من كربلاء معه ليضعها ويسجد عليها هذا شيء معروف عنهم.
والخميني يقول: السجود للحوائج وطلب قضاء الحاجات للحجر أو الشجر ليس شركاً، وإن كان عملاً باطلاً!(89/5)
موقف الشيعة الحقيقي من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
يقول الكاتب: ويؤمنون تماماً برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤمنون بإمامة الإمام علي.
أقول: هل يكفي الإيمان برسالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، أم لابد من سنة وشرع؟! فما موقفكم أيها الشيعة من القرآن؟ أليس في كتبكم المقدسة كالكافي وغيره من الكتب التي هي طافحة بالنصوص التي تزعم تحريف القرآن الكريم، وأن القرآن الحقيقي ثلاثة أضعاف القرآن الموجود بين أيدينا؟! وإذا ناقشت أحدهم في هذا يقول لك: من جحد القرآن فهو كافر، ويظهر لك الكلام الذي توافقه عليه تماماً، الذين يناظرونهم في عصور شتى يقولون لهم: أعلنوا التبرؤ من هذه الكتب، ففي ساعة الجد لا يعلنون البراءة من هذه الكتب التي تصرح بهذه العقائد.
والخميني نفسه كان يترحم على النوري الطبرسي، ويزعم أنه قدم خدمات جليلة للإسلام!! والنوري الطبرسي هو مؤلف كتاب "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب"، هذا هو النوري الطبرسي الذي يمدحه الخميني على ما قدمه من خدمات جليلة للإسلام.
فالشيعة يؤمنون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن من غير قرآن؛ لأن القرآن محرف عندهم، وأيضاً لا يحتجون بالسنة لا بصحيح البخاري ولا صحيح مسلم ولا سنن الترمذي ولا غيرها، فهذه الكتب كلها مرفوضة؛ لأن الحديث لابد أن عندهم يأتي عن طريق سند من أهل البيت فقط، فلهم مصطلح مستقل في هذا الجانب.(89/6)
موقف الشيعة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن هذا الأخ الكاتب الله يهديه أتى بكل الكلام الذي أتى به ونسي موضوع الصحابة، وقال: نتعاون فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
أقول: فهل نعذرهم في سب الصحابة وفي تكفير الصحابة؟! وقوله: ويؤمنون بإمامة الإمام علي أقول: نحن أيضاً نؤمن، لكننا أيضاً لا نعبد علياً رضي الله تعالى عنه، ولا نغالي في حبه، ونؤمن بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان، فلماذا سكت الأخ هنا؟ ولماذا أتى بالقاسم المشترك في إمامة علي؟ وأين إمامة أبي بكر وعمر وعثمان التي أجمع عليها المسلمون والصحابة؟! هل هذا شيء هين؟ وهم يقولون بالمسح على الأرجل في الوضوء، وليس الغسل إلى آخره.(89/7)
حقيقة دعوة التقريب بين السنة والشيعة
يقول الكاتب: وفي نهاية الرحلة قررتُ أن أقرأ أكثر في مذهب الشيعة، وجعلتها تقرأ في فقه السنة هي أيضاً، فهذه قراءات تمهد لمحو الفوارق الطفيفة، وتؤدي إلى توحيد الكلمة والصف.
أقول: كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة، فلابد أولاً من الدخول في الدين الصحيح الذي أنزله الله، وتحقيق كلمة التوحيد، وبعد ذلك نسعى لتوحيد الكلمة، أما توحيد الكلمة على أساس عاطفي، وعلى كلام لا يسمن ولا يغني من جوع، فهذا لا ينفع، ودائماً التقريب عند الشيعة له معنى واحد فقط هو أن يقترب أهل السنة من الشيعة، لكنهم لا يقتربون منا، ولا يمكن أن يتنازلوا على الإطلاق عن أي شيء من عقيدتهم.
والأخ جزاه الله خيراً على أنه سلط الضوء على هذه القصاصة، وأرجو أن تأتي فرصة فيما بعد لنتكلم في الموضوع بالتفصيل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك الله ربنا وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والحمد لله رب العالمين.(89/8)
فضل الذكر
ذكر الله تعالى هو زاد الروح وغذاؤها، وهو سلوة النفس وجلاؤها، به تسمو الروح إلى العلياء، وبه تتصل برب الأرض والسماء، وهو لذة لها لا تعادلها لذة، وسلوة لها لا تعادلها سلوة، وأنيس لها في السر والخلوة، يفيض على النفس من الروحانية ما لا تدركه إشارة، ولا تحيط به عبارة.(90/1)
النهي عن الدعاء بالبلاء واستجلابه
الحمد لله الذي جعل ذكره لذة للمتقين، يتوصلون به إلى خيرَي الدنيا والدين، وجُنة واقية للمؤمنين من سهام الشياطين، وشر إخوانهم المتمردين، من طوائف الخلق أجمعين.
وصلى الله على خير البشر الذي أُنزل عليه: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، فبيّن للعباد من فضائل الأذكار، وما فيها من المنافع الكبار، والفوائد ذوات الأخطار، ما ملأ الأسفار، وتناقلته ألسن الرواة في جميع الأعصار، وعلى من صاحبه ووالاه، وسلّم تسليماً كثيراً لا يدرك منتهاه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
عن أنس رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خَفَت فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! لا تطيقه أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قال: فدعا الله له، فشفاه) رواه الإمام مسلم في صحيحه.
قوله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين) هذا فيه استحباب عيادة المريض.
(قد خفت) أي: سكن وسكت، والمقصود أنه ضَعُف وسكن وسكت فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل كنت تدعو بشيء) أي: هل كنت تدعو الله بشيء (أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم! ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا) أي: أنه تمنى أن تعجل له العقوبة، فنفس هذا اللسان ونفس هذا الفم الذي خرجت منه هذه الدعوة فاستجيبت كان يمكن أن يخرج منه سؤال الله العافية فتستجاب أيضاً؛ لأنا نهينا عن تمني البلاء، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاثبتوا)، لكن ليس للإنسان أن يسعى إلى استجلاب البلاء، ولا أن يتمناه، فربما صدر منه الضجر أو الشكوى أو التسخط على قدر الله عز وجل، فإن للبلاء أهلاً في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موعوك -أي: مريض-، وعليه قطيفة، يقول: فوضعت يدي على جبهته فقلت: ما أشد حماك يا رسول الله! قال: نعم، إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.
فللبلاء أهل ذكروا في هذا الحديث وفي غيره من الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)، فمن لم يكن من أهل البلاء لم يطقه فربما صدر منه السخط، لكن إذا ازداد يقين العبد وابتلي فإن الله يعينه على الصبر على ذلك.
لذلك كان السلف والصالحون -كما جاء في الحديث- يفرحون بالبلاء أشد من فرح أحدكم بالعطاء؛ لقوة يقينهم فيما عند الله عز وجل من الثواب، أو لأنهم أمثل الناس وأشدهم تمسكاً بطريق الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
(يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فالعبد إذا ابتلي رغماً عنه بعد أخذه بالأسباب وسعيه حسب الإمكان، فإن الله تعالى يعينه حينئذ، وأما إذا استجلب لنفسه البلاء بتقصير أو تراخ في الأخذ بالأسباب فإنه يوكل إلى نفسه ولا يعان إلا أن يشاء الله عز وجل.
ففي هذا الحديث كان هذا الصحابي يدعو الله عز وجل يقول: (اللهم! ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا) أي: حتى يأتي يوم القيامة وليس عليه شيء يستحق العقوبة من أجله، ويصفو له الثواب بدون كدر، فنفس هذا اللسان الذي دعا هذه الدعوة في وقت الإجابة فاستجيبت له كان بإمكانه أن يدعو بالعافية كما جاء في الحديث الضعيف: (إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي) فهذا حديث ضعيف معروف، لكن المقصود أن العافية أوسع، والذي يستجيب لك في الدعاء بالبلاء يستجيب في الدعاء بالعفو والعافية في الدنيا والآخرة.(90/2)
أهمية فقه الدعاء وأحكامه
وهذا الحديث من الأحاديث التي تبين خطورة عدم فقه الدعاء، فلابد أن يكون الإنسان محيطاً ومتعلماً فقه الدعاء وغيره من العبادات، فهناك بعض الأمور التي تعين الإنسان على اغتنام أوقات الإجابة، وتحري الأمور التي تجعله مجاب الدعوة، وهناك بعض الأمور التي لابد أن يزيلها قبل أن يدعو، وهناك شروط في نفس الدعاء حتى يستجاب، فهذا الرجل لما لم يكن عنده فقه دقيق بآداب الدعاء وأحكامه وقع في هذا الخطأ، فدعا الله عز وجل وتمنى البلاء، فاستجاب الله له وآتاه هذا البلاء، وهذا كما قال عز وجل: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11].
(فقال: نعم، كنت أقول: اللهم! ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله!) أي: أنه تعجب، وهذا دليل على جواز أن يقول الإنسان إذا تعجب من شيء: سبحان الله.
(سبحان الله! لا تطيقه، أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم! آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)، وأشهر الأقوال في تفسير حسنة الدنيا أنها العبادة والعافية، وحسنة الآخرة هي الجنة والمغفرة، (قال: فدعا له صلى الله عليه وسلم فشفاه الله عز وجل).(90/3)
النهي عن تمني تعجيل العقوبة والبلاء، واستحباب زيارة المريض
وفي هذا الحديث النهي عن تمني تعجيل العقوبة، {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، فكان المفروض أن يقولوا: اللهم! إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، أو فارزقنا اتباعه، أما أن يتمنى الإنسان البلاء، ويطلب العقوبة فهذا من عدم الفقه في عبادة الدعاء.
وهذا الحديث فيه فضل هذا الدعاء: (اللهم! آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار) وهذا الدعاء يقال أيضاً عند الكرب.
وفيه استحباب عيادة المريض والدعاء له.
وفيه كراهية تمني البلاء؛ لئلا يتضجر منه ويسخطه وربما شكى.
وعدم الاهتمام بفقه الدعاء قد يحول دون استجابة هذا الدعاء، وإذا استجيب له فقد يقع الإنسان في بلاء وكرب، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر بعض أدعيته الطويلة: (وأعوذ بك من دعوة لا يستجاب لها)، فالدعوة التي لا يستجاب لها دعوة شريرة، وقد بلغ شرها وشؤمها أن النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها.
وقال في حديث آخر: (وأعوذ بك من دعاء لا يسمع) أي: لا يستجاب، فقول المصلي: سمع الله لمن حمده، أي: أجاب الله من حمده.(90/4)
الحث على الذكر
ثبت في كثير من الآيات والأحاديث فضل الذكر ودعاء الله عز وجل، فمن هذه الآيات قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كثيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42].
ومنها أيضاً: قوله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]، فالشكر يتعدى باللام تقول: قد شكر الله لك، أو شكرت له، وهذا أبلغ من أن تقول: شكرته {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14].
وقال عز وجل: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205].
وقال جل ذكره: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].
وقال عز وجل مخاطباً نبيه زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما سأل الله أن يجعل له آية قال: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كثيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:41]، فقد عطل لسانه عليه السلام عن كل كلام إلا ما كان فيه ذكر، ((آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ))، فكان إذا أراد أن يتكلم عطل لسانه، وامتنع عن النطق إلا إذا كان هذا الكلام بذكر الله عز وجل.
وسأل موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ربه أن يجعل له وزيراً: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:29 - 32] لماذا كل هذا؟ {كَيْ نُسَبِّحَكَ كثيراً * وَنَذْكُرَكَ كثيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:33 - 35].
وقال أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً بعد ما أخبره أنه يحبه، فقال له: (لا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، فدل هذا على أن الذكر ليس بالسهل، بل يحتاج إلى معونة من الله عز وجل؛ حتى يصرف عن الإنسان الصوارف الشاغلة التي تحوَّل همته من هذه الكنوز العظيمة التي يفوز بها إذا اشتغل بذكر الله عز وجل.
وقال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كثيراً} [الأحزاب:21]، وقال عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كثيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]، وقال عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:28 - 29].(90/5)
الإكثار من ذكر الله
الآن نقف عند إحدى هذه الآيات، وهي آية سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كثيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42].
إذا تأملنا القرآن الكريم والسنة الشريفة فإنا نجد أن كل عبادة من العبادات لها وصف محدد أو عدد محدد لا يجوز عنه، فالحج مثلاً يكون مرة واحدة في السنة، والصيام الواجب هو صيام شهر رمضان، والزكاة يشترط فيها مثلاً حولان الحول، وهناك شروط أخرى، فكل عبادة لها وقت، ولها عدد، ولها هيئة مخصوصة وأوقات مخصوصة، فهناك أوقات ينهى عن الصلاة فيها، والعبادة الوحيدة التي أمرنا بالإكثار منها بلا حدود هي ذكر الله عز وجل، فكل أمر أتى فيه الترغيب في الذكر فغالباً ما يقترن بالإكثار والاجتهاد في مضاعفة هذا الذكر كما في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كثيراً} [الأحزاب:41]، وقوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كثيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كثيراً} [الأحزاب:41]: إن الله لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال عذر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله، فقال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء:103]، بالليل والنهار، في البر والبحر، في السفر والحضر، والغنى والفقر، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال، وقال: ((وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)) فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته.
وقال سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كثيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، وقال عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب:35] إلى قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كثيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سبق المفردون.
قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)، فالمفردون: هم الذين عاشوا في قرن معين من الزمان، ثم ذهب هذا الزمان وبقوا وحدهم متفردين يذكرون الله عز وجل.
قال ابن الأعرابي: فَرُد الرجل إذا تفقه، واعتزل الناس، وخلا بمراعاة الأمر والنهي.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين الله كثيراً والذاكرت)، فهذه أيضاً من الأعمال التي يستحق صاحبها أن يوصف بأنه من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
وهناك رواية أخرى لهذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعاً كتبا ليلتئذ من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات).(90/6)
من يوصف بأنه من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات
واختلف العلماء فيمن يستحق وصف الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فقال الإمام أبو الحسن الواحدي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد بالذاكرين الله كثيراً والذاكرات: أنهم يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدواً وعشياً -وهي أذكار الصباح والمساء-، وفي المضاجع إذا أرادوا النوم، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منزله ذكر الله تعالى.
وقال مجاهد: لا يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً.
وقال عطاء: من صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كثيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35].
وسئل الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله عن القدر الذي يصير به العبد من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فقال -وهو من أجمع الأجوبة في هذا الباب-: إذا واظب على الأذكار المأثورة المثبتة صباحاً ومساء، في الأوقات والأحوال المختلفة، ليلاً ونهاراً، وهي مبينة في عمل اليوم والليلة؛ كان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، والله أعلم.
وبنحوه قال الإمام محمد الجزري رحمه الله تعالى في العدة، وقال شارح (العدة): لا شك أن صدق هذا الوصف أعني كونه من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات -على من واظب على ذكر الله تعالى وإن كان قليلاً أكمل من صدقه على من ذكر الله كثيراً من غير مواظبة.
وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه).
وورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (إن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل).
وقال الشيخ صديق حسن خان رحمه الله تعالى: وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أذكار وأدعية عند الأحوال المختلفة، وفي الأوقات المتنوعة كالنوم واليقظة، والأكل والشرب واللباس ونحوها، ووردت بكل حال من هذه الأحوال، وفي كل وقت من هذه الأوقات أذكار متعددة، وكذلك أدعية فوق الواحد والاثنين، فمن أخذ بذكر أو دعاء من الأذكار والأدعية المذكورة وأتى به في ذلك الحال والوقت فقد صدق عليه وصف الإكثار من ذكر الله عز وجل إذا داوم عليه في اليوم والليلة، ولم يُخلّ به في ساعاته من النوم واليقظة.
وأما من واظب على جميعها، وأتى بها ليلاً ونهاراً، وجعلها وظيفة دائمة فلا تسأل عنه؛ فإنه قد فاز بالقدح المعلى، وسلك الطريقة المثلى، ولم يأت أحد بأفضل مما أتى هو به إلا من صنع مثل صنيعه زاد عليه، فعليك أن تكون من أحد هذه الأصناف؛ لتصدق عليك هذه الأوصاف، وإلّا فلا تكن يعني: إما أن تكون مقلاً وإما مكثراً ومداوماً، وإلا فلا تكن، أي: لا تعيش أصلاً، فالإنسان بدون ذكر هو في الحقيقة من الأموات.
وعن عطاء بن يسار قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يرد دعاؤهم: الذاكر الله كثيراً، ودعوة المظلوم، والإمام المقسط -أي: العادل-)، فجعل أولهم الذاكر الله كثيراً، فمن أكثر من ذكر الله فلا يرد الله عز وجل دعاءه؛ بل يستجيب له.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً: (ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأرفعها في درجاتكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إعطاء الورق والذهب، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله).
وصح عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثَل البيت الذي يُذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثَل الحي والميت)، وفي رواية: (مَثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مَثل الحي والميت) أي: أن الفرق بينهما كالفرق بين الحي والميت.
وعن الحارث بن الحارث الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله أمر يحيى بن زكريا أن يأمر بني إسرائيل بخمس كلمات، ومنها: ذكر الله عز وجل).
وقد جاء في هذا الحديث أن يحيى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل ممتثلاً ما أمره الله به فقال: (وآمركم بذكر الله كثيراً، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى على حصن حصين فأحرز نفسه فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى).
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه أمر بعض الصحابة رضي الله عنه فقال له: (اعبد الله ولا تشرك به شيئاً، واعمل لله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، واذكر الله تعالى عند كل حجر وكل شجر، وإذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة، السر بالسر، والعلانية بالعلانية).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه)، وهذه هي المعية الخاصة، وهي غير معية الله عز وجل العامة لكل الخلق بالسمع والبصر والاطلاع على كل أحوالهم، فالمعية الخاصة هي التي جاءت في مثل قوله عز وجل: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وقوله: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19]، فهذه المعية الخاصة تكون بالنصرة والتأييد والحفظ والكلاءة.
يقول الإمام ابن بطّال: معنى الحديث: أنا مع عبدي زمان ذكره لي، أي: أنا معه بالحفظ والكلاءة، لا أنه سبحانه معه بذاته حيث حل العبد.
وعن عبد الله بن بسر المازني رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس خير؟ فقال: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله، -وطوبى شجرة في الجنة-، قال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله)، فذكر الله تعالى أفضل الأعمال.(90/7)
خطأ الاشتغال بالمفضول وترك الفاضل
عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه (أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن أبواب الخير كثيرة ولا أستطيع القيام بكلها، فأخبرني بشيء أتشبث به، ولا تكثر علي فأنسى)، وفي رواية: (إن شرائع الإسلام قد كثرت وأنا قد كبرت فأخبرني بشيء أتشبث به، ولا تكثر علي فأنسى، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)، فهذا من فقه التجارة مع الله سبحانه وتعالى، فالإنسان قد يشتغل بالعمل المفضول ويترك الفاضل، مع أن المفضول قد يكون أيسر وأسهل، ويعود عليه بربح كثير، وقد يشتغل بهذا الموجود فيضيع فيه عمره، وهذا من مكائد الشيطان أن يشغل الإنسان عن التجارة التي تعطي ربحاً أكثر بما يحصل ثواباً أقل، فينبغي أن يتفطن الإنسان لهذه المسائل الدقيقة، ولا يشتغل بالمفضول عن الفاضل، فضلاً عن ألّا يشتغل بهذا ولا ذاك، فهذا حظ الشيطان وسلطانه عليه أقوى وأكثر، فكثير من الناس وخصوصاً من ينتسبون إلى السنة نجدهم يكثرون الذم والتنفير عن أحوال الصوفية وبدعهم التي يبتدعون في أمور الذكر والدعاء وغيرها حتى ينطبع في نفس بعض الناس -بدون قصد- بغض الذكر، وبعض الناس يفتنون بمظاهر الدنيا وزخرفها، فيصل بهم الأمر إلى أن يقولوا: العمل عبادة، والفعل هذا أفضل من الصلاة، وأفضل من التسبيح، حتى ينشأ في قلوب الناس احتقار الذكر، حتى أن بعض الناس يقول: أنا لا أعترف بشيء اسمه تسبيح أو تهليل، فهذه الأشياء من كلام الصوفية، فينسد هذا الباب العظيم من أبواب الخير، وقد عدّه النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأعمال؛ بسبب عدم الفقه في هذا الأمر.(90/8)
معرفة ثواب الذكر من جهة الشرع
نحن لا نملك الميزان الذي نوزن به الأعمال، بل يخبرنا به الوحي على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في حديث البطاقة الذي رواه ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب! فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب! فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال: فإنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء).
فمعرفة مقادير هذه الأعمال العظيمة ليس إلينا، وإنما نعرفه عن طريق الوحي، فالوحي يخبر أن هذه الأذكار ثوابها عظيم جداً، والناس في غفلة عن هذا، فهذه تجارة رابحة، فمن استطاع أن يستثمر أرباحه فيها فليستثمر، فهذا إبراهيم عليه السلام لما قابل الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج قال له: (يا محمد! أقرأ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأخبرهم أن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) فهذه نصيحة من أبينا إبراهيم عليه السلام ينصحنا نحن المسلمين بها، ويخبرنا بها نبي سبق المؤمنين إلى الجنة، ويخبرنا عن شيء يقع في الجنة، فلا يحتقر هذا الأمر العظيم أو يزدريه أو يزهد فيه إلا أحمق ناقص العقل.
وجاء في الحديث الصحيح: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن) فهي لا تكلفك شيئاً، ويخبرنا الوحي أنها ثقيلة جداً في الميزان، (ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).
وجاء في الحديث الآخر: (من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له بها قصراً في الجنة)، فهذا شيء يسير على ألسنتنا لكنه عند الله عظيم، فالذكر من أشرف العبادات، وإذا تأملنا في المعاني التي تندرج تحت هذه التسبيحات والأذكار لوجدنا معاني عظيمة جداً من تنزيه الله سبحانه وتعالى عن النقائص، وإثبات الكمالات له عز وجل، واعتراف العبد بالنقص والخطأ والزلل، وهذه المعاني العظيمة الجليلة تستوجب هذا الأجر العظيم وإن رغمت أنوف الذين تقصر عقولهم وهممهم عن فهم هذه الأشياء.(90/9)
الترهيب من الغفلة عن ذكر الله
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة) والترة هي النقص، قال الله عز وجل في القرآن: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35] أي: لن ينقصكم، ومعنى التره في هذا الحديث: التبعة، وترت الرجل ترة أي: أنقصته نقصاً، ففي هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، وما مشى أحد ممشى لا يذكر الله فيه إلا كانت عليه من الله ترة) أي: تَبِعة ونقص وحسرة يوم القيامة.
وقد أوجب بعض العلماء على الإنسان ألّا يجلس مجلساً إلا ويذكر الله تعالى، ويصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وبعض الذين غرتهم الحياة الدنيا من الذين يقومون بالتدريس أو يجلسون في بعض المجالس التي يعقدونها في الجامعات، أو المحاضرات، أو غيرها يستكبرون عن هذا، أو يزدرون مثل هذه الأعمال العظيمة، فهذا عميد أدب الغرب دخل مرة من المرات محاضرته وهو يريد أن يستهزئ بهذه السنة الشريفة فقال لطلابه: أكثركم قد يضحك مني إذا بدأت محاضرتي كما يبدأ الشيوخ: بالحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: أنا لا أفعل هذا، وما ذلك إلّا لأنه متمجن ومتحجر، وهو أيضاً محروم من هذا الأجر العظيم، ومستحق لهذه الحسرة التي توعده بها رسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
فمن السنة أن الإنسان إذا كان في مجلس ضيافة، أو يوجد ضيوف عنده في البيت، أو كان في مجلس مذاكرة، أو في محاضرة، أو في أي مجلس يجلسه؛ ألّا يخلو هذا المجلس من ذكر الله عز وجل، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد جاء في بعض الأحاديث الوعيد على ترك ذلك منها قوله صلى الله عليه وسلم: (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، وما مشى أحد ممشى لا يذكر الله فيه إلا كانت عليه من الله ترة) ومعنى ذلك أنه يستحب أن تذكر الله في الطريق وأنت تمشي.
وفي رواية: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم ترة -أي: تبعة-، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم)، وخاتمة هذا الحديث تدل على وجوب ذلك؛ لأن الوعيد لا يقع إلا على ترك الواجب أو ارتكاب المحرم، فهنا ينذر النبي صلى الله عليه وسلم من جلس مجلساً ولم يذكر الله فيه، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، بأنه يكون يوم القيامة تحت المشيئة: إن شاء الله أن يعذبه عذبه، وإن شاء أن يغفر له غفر له، فهذا يدل على وجوب تعطير المجلس بذكر الله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة)، أي: كأنهم كانوا مجتمعين على جيفة حمار منتنة، ويكون عليهم ذلك المجلس حسرة يوم القيامة.
وصح عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها)، فهذا هو الشيء الوحيد الذي يَتحسر عليه أهل الجنة؛ أنهم بعد أن يدخلوا الجنة يتحسرون على أي ساعة أو لحظة مرت بهم في الدنيا ولم يعمروها بذكر الله عز وجل.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حسر عليها يوم القيامة).(90/10)
من فضائل الذاكرين الله كثيراً
عن عبد الله بن شداد رضي الله عنه أن نفراً من بني عذرة ثلاثة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يكفنيهم؟ -أي: من يقوم بضيافتهم؟ - فقال طلحة: أنا، فكانوا عند طلحة -أي: باتوا عند طلحة واستضافهم في بيته رضي الله عنه-، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً فخرج فيه أحدهم فاستشهد، ثم بعث بعثاً فخرج فيه آخر فاستشهد، قال: ثم مات الثالث على فراشه، قال طلحة: فرأيت هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندي في الجنة -أي: رآهم في منامه في الجنة-، فرأيت الميت على فراشه أمامهم، -أي: أنه تقدمهم في المنزلة في الجنة مع أنه لم يستشهد، وإنما مات على فراشه- ورأيت الذي استشهد أخيراً يليه -أي: أن الثاني كان يلي ذلك الذي مات على فراشه في المنزلة- ورأيت الذي استشهد أولهم آخرهم -أي: في المرتبة- قال: فدخلني من ذلك! فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أنكرت من ذلك؟! ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله).
فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من فعل طلحة كيف يتعجب لهذا مع أنه أمر طبيعي، فالمؤمن إذا مد له في أجله بعد أخيه فعمر أوقاته بالتسبيح والذكر والتكبير والتهليل، فهذه ترفع درجاته حتى ربما ارتفع فوق مقام من سبقه بالشهادة.
ومما ثبت أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل ذكر الله عز وجل في الخلوة ما جاء في (صحيح مسلم) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، فهذا يدل على فضل ذكر الله عز وجل في الخلوة حيث لا يراه الناس، فإذا اجتمع له ذكر الله في الخلوة مع البكاء من خشية الله عز وجل حتى تفيض عيناه فإنه يكون يوم القيامة في ظل الله عز وجل يوم لا ظل إلا ظله.(90/11)
فضائل مجالس الذكر
جاءت أحاديث كثيرة في فضيلة مجالس الذكر، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا غيره، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثاً مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة) أي: لأنهم جلسوا يذكرون الله عز وجل.
وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمع قوم على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم: قوموا مغفوراً لكم).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل).
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه قال: (ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله له من حين يخرج من بيته كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم) يعني: أن الله عز وجل يفرح به، يتبشبش له.(90/12)
الحث على حضور مجالس الذكر
لقد حث الشارع على حضور مجالس الذكر، وحينما نذكر كلمة الذكر فلا يتبادر إلى الذهن التسبيح والتكبير والتهليل فقط، بل إن كل عامل لله بطاعة فهو ذاكر له، وأشرف مجالس الذكر هي مجالس العلم، وقد كان بعض أئمة السلف في مجلس علم يعلم الحلال والحرام، فلما أطالوا المجلس قال أحد الطلاب: نجلس الآن نذكر الله تعالى، فغضب هذا العالم وقال: فيم كنا إذاً؟! يعني: أن مجالس الحلال والحرام هي من أعظم مجالس الذكر، وهي أغيظ للشيطان من غيرها؛ لأنها تبصر الناس بمعالم دينهم وطاعة ربهم سبحانه وتعالى، فمجالس الذكر أعم من أن تكون مجالس التسبيح والتهليل والتكبير، بل إن أشرف مجالس الذكر هي مجالس العلم كما ذكرنا، بل إن مجلس العلم أفضل من صلاة النافلة، فالإنسان الذي يترك مجلس العلم ويشتغل بالنافلة قليل الفقه، ولو علم لما أعرض عن مجلس العلم؛ لأن مجلس العلم أفضل عند الله عز وجل من الاشتغال بصلاة النافلة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة يتبعون مجالس الذكر)، ونحن نعلم أن الملائكة لهم وظائف شتى، فهناك ملائكة للريح، وملائكة لكذا، ملائكة لكذا، فهذه الملائكة ليست لها وظيفة سوى أنهم يدورون في الأرض يبحثون عن مجالس الذكر، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجت هذه الملائكة إلى الله عز وجل وصعدوا إلى السماء، فيسألهم الله عز وجل -وهو أعلم بهم- من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك، قال: وماذا يسألونني؟ قالوا: يسألونك الجنة، قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا أي رب! قال: فكيف لو رأوا جنتي؟! قالوا: ويستجيرونك، قال: ومم يستجيرونني؟ قالوا: من نارك يارب! قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري؟! قالوا: ويستغفرونك، فيقول: قد غفرت لهم، أعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا، فيقولون: رب! فيهم فلان عبد خطاء -أي: كثير الخطايا والذنوب- إنما مر فجلس معهم -أي: كأن له حاجة عند أحدهم، أو هو عابر سبيل، ولم يقصد التواجد في مجلس الذكر لأجل الذكر- فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
وهذا الحديث دليل قوي على أن بركة الصالحين تعم من يجلس في مجالسهم حتى ولو لم يكن منهم، ومن كثّر سواد قوم حشر معهم.(90/13)
التحذير من حضور مجالس الشر
كما حث الشارع على حضور مجالس الذكر فقد نفّر عن مجالسة الكذابين، وحذر من مجالسة الخطائين، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72] أي: كأن الإنسان إذا جلس في مجالس اللغو فإن هذه إهانة له تنافي الكرامة التي كرمه الله عز وجل بها، سواء كانت تلك مجالس اللعب واللهو، أو مجالس للأغاني، أو مجالس للأفلام، فكل هذا اللهو الفارغ ملعون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها)، فكل هذه الأشياء ملعونة ومطرودة ومبعدة من رحمة الله عز وجل، ومبعدة لمن اشتغل بها عن ذكر الله تبارك وتعالى، فلا ينبغي حضور مجالس الزور كما قال تعالى: ((وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ))، وسواء كان الزور أعياد المشركين، أو كان مجالس اللهو والكذب والمسرحيات والأفلام والفيديو وغير ذلك من مجالس الشياطين.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]، والإعراض: هو تجافي القلب وكراهيته لهذه المجالس، ومجانبته لأهلها، فلا ينبغي حضور هذه المجالس ولا قربها؛ تنزهاً عن مخالطة الشر وأهله، {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، وصيانة لدينه عما يشينه؛ لأن مشاهدة الباطل فيه شركة، ولهذا قال عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، وقال عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19]، وقال عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126]، وقال عز وجل: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16]، وقال عز وجل في المنافقين: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قليلا} [النساء:142]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9].
فينبغي الاشتغال بمجالس الذكر، ومن لازم ذلك الإعراض عن مجالس اللهو، وهذا على نقيض ما يذهب إليه أتباع الشياطين ممن يقولون: ساعة لقلبك وساعة لربك، وفي الحقيقة هي ساعة لربك، ولا تكون خالصة لله، وساعة لشيطانك، وهذه شركة في تقسيم الوقت، بل إنّ المسلم يمتثل ما قاله النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، وهذه التقسيمات ما أنزل الله بها من سلطان، وبعض الناس يأتون بأشياء تخالف ما قد أحكمه الله عز وجل، فبدلاً من أن يتحاكموا إلى شرع الله عز وجل فإنهم يقسمون أعمارهم إلى قسمين: حظ للشيطان، ويزعمون أن الحظ الآخر لله عز وجل، وما أمرهم إلا كما قال الله عز وجل: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام:136].
فتقسيم مُلك السموات والأرض إنما هو لله تعالى، وليس كما يقول الملاحدة الكفار: الدين لله والوطن للجميع، فيقسمون وكأنهم يملكون هذا الكون، وتلك القسمة تنافي قول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:189]، وهؤلاء عباد الله عز وجل يملكهم ويملك نواصيهم.
فالمقصود أن هذا التقسيم: ساعة لربك، وساعة لقلبك، مما ينافي مقاصد الشريعة، ويمكن أن يضاف إليها: لقلبك المريض، فلا يقول مثل هذا الكلام إلّا مريض القلب، وأما المسلم فإنه يطيع الله عز وجل في كل أحواله، {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
فهذه المجالس نحن مأمورون بالإعراض عنها كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]، وهذه صفة: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:11] أي: أنهم إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وقال عز وجل: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41].
وقد عدد العلماء أسماء مجالس اللهو والفساد؛ ليدلونا على كثرة مفاسدها، فمن ذلك أنهم سموا مجالس المسرحيات والغناء والأفلام ومجالس الفجور المعروفة باسم اللهو، والغناء والموسيقى سموها أحياناً لهو الحديث، وسموها بالزور، واللغو، والباطل، والمكاء، والتصدية، ورقية الزنا، ومنبت النفاق، وقرآن الشيطان، والصوت الأحمق، والصوت الفاجر، وصوت الشيطان، ومزمور الشيطان، والسمود كما جاء في بعض الآيات.(90/14)
من فوائد الذكر أنه يكسب الأعضاء قوة
نذكر بعض الفوائد المهمة التي تنشط القلب على المواظبة على الذكر، يقول العلماء: إن العبادة -وخصوصاً ذكر الله عز وجل- تنشط البدن وتقويه، وتذهب النوم والفتور اللذين يكسلان البدن، ويقسيان القلب، فيقول هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فيما أخبر الله عنه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52] فثمرة الاستغفار والتوبة أن يرسل الله الرزق الوفير، والمطر الكثير، ((وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ))، وهذه القوة -كما يقول المفسرون- تشمل جميع القوى، فيزيد الله عابديه قوة في إيمانهم ويقينهم ودينهم وتوكلهم وغير ذلك مما هو من جنس ذلك، ويزيدهم قوة في أسماعهم وأبصارهم وأجسادهم وأموالهم وأولادهم وغير ذلك، ولقد (علّم النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة وعلياً رضي الله عنهما أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثاً وثلاثين، ويحمدا ثلاثاً وثلاثين، ويكبرا أربعاً وثلاثين، وذلك لما سألته الخادم، وشكت إليه ما تقاسيه من العمل والسعي والخدمة، فعلمهما ذلك وقال: إنه خير لكما من خادم)، فدل هذا على أن الذكر يعطي العبد قوة تعينه على أداء هذه الوظائف، ويكون ذلك أفضل للعبد من الخادم الذي يتحمل عنه أداء هذه الوظائف.
وهذا الذكر بالذات وهو: التكبير أربعاً وثلاثين، ثم التسبيح ثلاثاً وثلاثين، ثم الحمد ثلاثاً مما يكيد الشيطان فيه للإنسان، فإذا أراد الإنسان النوم صرفه الشيطان عن هذا الربح الوفير، وقد نبّه على هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فالشيطان يأتي إلى العبد إذا أراد النوم فيكسله، ويذهب بهمته، في أن يصبر عليه ويأتي به؛ فانتبهوا لذلك.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضي الله عنهم: (أسمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب في البحر؟)، يقصد مدينة القسطنطينية التي تسمى اليوم استانبول، (لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاءوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، وقالوا: لا إله إلا الله والله أكبر)، وكما هو معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم تنبأ أن مدينة القسطنطينية ستفتح مرتين، وقد حصل الفتح الأول على يد السلطان محمد الفاتح العثماني، وسيكون الفتح الثاني قبيل خروج الدجال، فهي الآن لم تعد دار إسلام، فقد ارتدت على يدي أتاتورك، فيخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه في آخر الزمان إذا أتاها المسلمون المؤمنون ليفتحوها فإنهم لا يفتحونها بسلاح ولا بسهام ولا بقتال، وإنما يكون ذلك بالتسبيح وبالذكر، فالذكر أحياناً قد يبلغ من القوة بحيث إنه يأتي بهذه الأشياء، (فإذا أتوا هذه المدينة قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها الذي في البحر، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله، والله أكبر فيفتح لهم، فيدخلونها فيغنمون، فبينما هم يقتسمون المغانم إذ جاءهم صريخ فقال: إن الدجال قد خرج، فيتركون كل شيء ويرجعو)، فالقسطنطينية في المرة الثانية ستفتح بالتهليل والتكبير، فهذا من الأدلة على أن الذكر يجعل قوة في الذاكر حسب إيمانه ويقينه.
وقد كان حبيب بن سلمة يستحب إذا لقي عدواً، أو ناهض حصناً أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإنه ناهض يوماً حصناً للروم فانهزم، فقالها المسلمون وكبروا فانهدم الحصن.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: إن الذكر يعطي للذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابته أمراً عجيباً، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر! وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمراً عظيماً.
وقد اقتدى الإمام ابن القيم نفسه رحمه الله تعالى بشيخه، فكان إذا صلى الصبح جلس مكانه يذكر الله تعالى حتى يتعالى النهار، ويقول: هذه غدوتي، لو لم أفعلها سقطت قواي.
وقال وهب بن منبه: من يتعبد يزدد قوة، ومن يتكسل يزدد فترة.
كان مع صلة بن أشيم رجل، فنام هذا الرجل تلك الليلة، وأما صلة فبقي كل الليل قائماً يصلي، يقول الرجل: فأصبح كأنه بات على الحشايا -أي: أصبح صلة وفيه من القوة والنشاط مع أنه كان ساهراً في قيام الليل- وأصبحت ولي من الكسل والفتور ما لا يعلمه إلا الله عز وجل! وقال عطاء الخراساني: قيام الليل حياة للبدن، ونور في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البصر والأعضاء كلها، إن الرجل إذا قام بالليل أصبح فرحاً مسروراً، وإذا نام عن حزبه أصبح حزيناً مكسور القلب كأنه فقد شيئاً، وقد فقد أعظم الأمور له نفعاً.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن للحسنة ضياء في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق.
ويكفي في هذا الباب كله ما رواه أصحاب المسانيد والصحاح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد) فكل إنسان إذا أراد أن ينام فإن الشيطان يأتيه ويعقد على قافيته ثلاث عقد- (ويضرب مكان كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإذا استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(90/15)
الذكر من أعظم التجارات مع الله تعالى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
ثم أما بعد: عباد الله! دنا رحيلكم، وقد بان سبيلكم، وقد نصحكم دليلكم، ودلكم على تجارة هي من أعظم التجارات مع الله عز وجل، فإن الله عز وجل قد أخبر بتجارة فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:10 - 11]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها).
ويقول القائل: أخي! إنما الدنيا كسوق تزينت وكل امرئ لابد يدخل سوقها سواء بهذا كارهاً أم راضيا ولابد من بيع ولابد من شرا ولابد يمشي رائحاً أو غاديا وسلعته الكبرى التي سيبيعها هي النفس لكن من يكون الشاريا فإن باعها لله أعتقها إذاً وكان له من جمرة النار واقيا وجنة ربي كانت الثمن الذي سيقبضه الإنسان فرحان راضيا وقد ربح البيع الذي تم عقده وجل الإله المشتري جل ربيا فنحن في هذه الدنيا في تجارة، وهذه التجارة إما أن تكون مع الله عز وجل وإما أن تكون مع الشيطان، والتاجر الناصح هو الذي ينظر في السلع، فيأخذ أخف هذه السلع مئونة وأعظمها ربحاً، ولاشك أن ذكر الله عز وجل من أعظم التجارات، وهو الباب المفتوح بين العبد وبين ربه، إلا أن يغلقه العبد بغفلته.
قال الحسن البصري: التمس الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وفي تلاوة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق، فخبروني بالله عليكم: أي عمل أيسر من ذكر الله عز وجل يترتب عليه من الأجر ما يترتب على ذكر الله عز وجل؟!(90/16)
ذكر الله تعالى من أعظم نعيم أهل الجنة
ذكر الله عز وجل من نعيم الدنيا لو يعلم الناس، وهو أيضاً من نعيم أهل الجنة، فقد ورد في (صحيح مسلم) (أن أهل الجنة يأكلون، ويشربون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، طعامهم ذلك جشاء يخرج على جلودهم أطيب من ريح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس).
وقال مالك بن دينار: ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل، فالعبد لو جلس مثلاً نصف ساعة أو ساعة يذكر الله عز وجل فلاشك أنه يجد حلاوة في قلبه، ويجد أن قلبه يتمتع بذكر الله عز وجل، فهو من أعظم نعيم الدنيا، والجنة ليست دار تكليف ولكنها دار نعيم، ومع ذلك فقد جعل الله عز وجل من نعيم الجنة ذكره عز وجل.
وقد جاء في بعض الآثار: (أنّ لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا)، فأهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما تُلهم النفس، فنحن لا نبذل جهداً في النفس، بل حتى إنك تجد المغمى عليه يتنفس فلا يبذل جهداً في أخذ النفس، فأهل الجنة كذلك يسبحون، ويحمدون الله عز وجل على هذا النعيم، والجنة دار النعيم.
وهذه المجالس -كما جاء في بعض الآثار- هي رياض الجنة، ولاشك أن العبد المؤمن يجد فيها متعته، وهي نزهة لقلوب المؤمنين، فتتمتع فيها القلوب بسماع الحكمة وذكر الله عز وجل، فالعبد العاقل هو الذي يريد أن يربح أعظم الأرباح مع الله عز وجل، فنحن مثلاً لو جمعنا أوقات الصلوات سنجدها مثلاً ساعة في اليوم، وإذا كان أحد يقوم الليل فتصير ساعتين مثلاً، فتستطيع أن تضم إلى هذه الساعات القليلة ساعات كثيرة من العبادة وتكون مع الله عز وجل، وإذا كنت مع الله عز وجل كان الله عز وجل معك بالتأييد والنصرة، وتستطيع وأنت واقف تنتظر السيارة مثلاً أن تحرك لسانك بذكر الله عز وجل، وتستطيع وأنت راكب السيارة أن تحرك لسانك بذكر الله عز وجل، ولاشك أن العبد يجد فرصاً كثيرة جداً لكثرة الذكر، بحيث إنه يكثر ساعات عبادته، فبدلاً من أن تكون ساعتين يجعلها أربع أو خمس أو ست ساعات، والله عز وجل هو المعين على ذلك، ونسأل الله عز وجل الإعانة على الذكر كما في الحديث المسلسل بقول كل شيخ لتلميذه: (والله إني لأحبك، فلا تنس أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم! أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك) فهذه علامة على المحبة، وهي وصية غالية من حبيب لحبيبه، وصى بها النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً، ووصى بها معاذ من خلفه؛ حتى دوَّن الحديثَ أئمةُ السنة في كتبهم، فهذه الوصية وصية غالية، ونسأل الله عز وجل أن يعيننا عليها، وأن تكون ألسنتنا رطبة بذكر الله عز وجل.
وكذلك وصى الله عز وجل هارون وموسى لما أرسلهما إلى فرعون فقال: {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42]، فيستعان بالذكر على الشدائد، وكثرة الذكر في الشدة علامة على المحبة كما في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كثيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، فأمر الله عز وجل بكثرة الذكر عند لقاء العدو، فهو قوة للقلب، وقوة للبدن، والذكر في الشدة علامة على المحبة كما قال عنترة: ولقد ذكرتك والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم فذكر العبد ربّه عز وجل عند الشدة علامة على محبته لله عز وجل، وهو من أعظم الأسباب الموصلة إلى محبة الله عز وجل، فنسأل الله عز وجل أن يعيننا وإياكم على العمل بهذه الوصية الغالية، وأن يدرب ألسنتنا على ذلك، فإذا تدّرب اللسان على ذلك تحرك بذكر الله عز وجل دون مشقة أو تكلف من العبد.
اللهم! اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأبصارنا، وأسماعنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(90/17)
الحسد الوقاية والعلاج [1]
الحسد هو أول معصية وقعت في الأرض، وهو مرض خطير، وشر مستطير، فكم من نعم أودى بها! وكم من نقم أبداها، ولكن المعتصم بالله المتوكل عليه يجد علاج ذلك في القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد استنبط العلماء من الكتاب والسنة علاج الحسد قبل وقوعه وبعد وقوعه، مما يدل على أن الله قد جعل علاج هذه الأمراض في الالتزام بشرعه، والاستهداء بهداه، وطلب الشفاء منه سبحانه وتعالى.(91/1)
وسائل الوقاية من الحسد قبل وقوعه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
يقول الله تعالى سورة الفلق: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5].
وتكلمنا على تفاصيل ما يتعلق بأمر الحسد، وذمه وأنواعه، وبقي ما يحترز به من الحسد، وهذا يكون قبل وقوعه، أو بعد وقوعه، فقبل وقوعه يحترز عنه بما يمكن أن نسميه الوقاية أو الحرز أما ما بعد ذلك فيكون العلاج، فالعلاج يتعلق بالحاسد نفسه، أي: كيف يعالج نفسه من هذا الداء الخبيث؟ ثم بالمحسود الذي وقع به هذا الشر، أي: كيف يعالج من هذا الشر؟!(91/2)
من وسائل الوقاية من الحسد قبل وقوعه كتمان الأمور عن الحاسد
مما يتوقى به شر الحاسد: كتمان الأمور عنه قبل إنجازها، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عنه معاذ بن جبل رضي الله عنه: (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود).
وفي لفظ الطبراني: (استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان إلخ).
وهذه الفاء هي السببية وفاء العلة، والمقصود بإنجاح الحوائج: جلب نفع، أو دفع ضرر.
وقد سبق الكلام في معنى هذا الحديث، والجمع بينه وبين ما ثبت في القرآن من قوله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11].
وقد ذكرنا أن التحدث بالنعمة واجب على النبي صلى الله عليه وسلم، ومستحب في حق من خشي على نفسه العزة والتكبر على عباد الله، فمن أمن من ذلك جاز له هذا الأمر.
والتحدث بنعمة الله سبحانه وتعالى لا يتعارض مع هذا الحديث؛ لأن هذا فيه إرشاد إلى إنجاح الحوائج والكتمان قبل إتمامها، فأي مجموعة من الناس أو فئة من الناس تتعاون على مصلحة من المصالح ينبغي أن تتكتم في أمرها حتى يتم لها أمرها، وبعد ذلك يتحدث الإنسان بهذه النعمة.
أو يكون المقصود الكتمان إذا خشي الحسد، فإذا أمن فلا بأس بإظهار نعمة الله عليه، وأما إذا خشيه أو خافه فليكتم؛ أخذاً بهذا الحديث.
فموضع القدر الوارد في التحدث بالنعمة ما بعد وقوعها، أو إذا أمن الحسد.
وقيل: (إذا سرك أن تسلم من الحاسد فغم عليه أمرك) أي: إذا عرفت أن هذا الإنسان متصف بهذا الشر الخبيث فغم عليه أمرك واكتمه عنه اتقاء شره.(91/3)
من وسائل الوقاية من الحسد قبل وقوعه اجتناب الحاسد والبعد عنه
كذلك من وسائل الوقاية من هذا الشر والاحتراز منه: اجتناب الحاسد، والبعد عنه؛ لأنه لا يوجد أمان من الحسود أحرز من البعد عنه؛ لأنه مادام مشرفاً على ما خصصت به دونه لم يزده ذلك إلا وحشة، وسوء ظن بالله، ونماءً للحسد فيه.
فالعاقل يقوم على إماتة الحسد بما قدر عليه، فإماتته تكون باجتناب الحسود، والبعد عنه، أما ملازمته فإن فيها تربية لحسده ونماء لسوء ظنه بالله، واعتراضه على قضائه، ولا يوجد لإماتة الحسد دواء أحسن من البعاد، فإن الحاسد ليس يحسدك على عيب فيك، ولا على خيانة ظهرت منك، ولكن يحسدك بما رزقت من نعمة، وبما ركب فيه هو من رد الرضا بالقضاء، كما قال العتبي: أفكر ما ذنبي إليك فلا أرى لنفسي جرماً غير أنك حاسد أي: أنه لم يرتكب جرماً في حقه سوى أنه خبيث الطبع.
وقال غيره: ليس للحاسد إلا ما حسد وله البغضاء من كل أحد وأرى الوحدة خيراً للفتى من جليس السوء فانهض إن قعد(91/4)
من وسائل الوقاية من الحسد قبل وقوعه حبس العائن ومنعه من مخالطة الناس
ومن وسائل الوقاية والاحتراز من شر الحاسد الخبيث: أن على الإمام المسلم أن يمنع العائن من مخالطة الناس، فإذا عرف الإنسان بتمكن هذه الخاصية القبيحة فيه، وهذه الصفة الرديئة، فللإمام أن يمنعه من مخالطة الناس، فقد نقل الإمام ابن بطال عن بعضهم أنه أفتى بمنع العائن من مداخلة الناس، وأمره بلزوم بيته؛ لأنه كالمجذوم، بل هو أولى، فإذا كان للحاكم أن يمنع الشخص الذي يصاب بداء الجذام من الاختلاط بالناس، فالحاسد أولى أن يمنعه الإمام من مخالطة الناس.
فإن كان هذا الحاسد أو المجذوم فقيراً فإن الإمام يجري عليه النفقة من بيت المال مقابل حبسه في بيته.
قال الإمام النووي معلقاً على هذا: وهو صحيح متعين لا يعرف عن غيره التصريح بخلافه.
وقال الحافظ ابن حجر معلقاً أيضاً: فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي أمر عمر بمنعه من مخالطة الناس، وأشد من ضرر الثوم الذي منع الشارع آكله من حضور صلاة الجماعة.
فإذا كان يمنع الشخص الذي يتعاطى الثوم -وربما يدخل في هذا الزمان ذلك الدخان الخبيث، كالسجائر التي يتعاطاها بعض الناس، ويأتون المساجد فيؤذون المصلين ويؤذون الملائكة بتلك الريح المنتنة- فالحاسد منعه أولى وأولى.(91/5)
وسائل علاج الحاسد لنفسه(91/6)
من وسائل علاج الحاسد لنفسه قمع الحاسد أسباب الحسد من داخله
وعلاج الحسد كما ذكرنا ينقسم إلى قسمين: علاج الحاسد نفسه، وعلاج المحسود، أما علاج الحاسد فقل أن ينفع الحاسد دواء، ولا نقول: إنه ميئوس من شفائه؛ لأنه لا يأس من رحمة الله، ولكن من الصعب جداً أن هذا الشخص الذي يدمن على هذه الخاصية الخبيثة أن يوجد له دواء؛ لأنه مترسخ فيه داء الجهل والظلم، وليس يشكو علة سوى زوال النعمة من العباد، إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى، فإن كان الحاسد ذا فهم وذا عقل فدواؤه أن يقمع أسباب الحسد من داخله، سواء الكبر، أو عزة النفس، أو غيرها من الأسباب التي ذكرناها.
يقول الإمام ابن المبارك رحمه الله تعالى: كل العداوة قد ترجى إماتتها إلا عداوة من عاداك من حسدِ فإن في القلب منها عقدة عقدت وليس يفتحها راقٍ إلى الأبدِ إلا الإله فإن يرحم فحل به وإن أباه فلا ترجوه من أحد فلا يرفع هذا الداء إلا برحمة الله سبحانه وتعالى.
سئل بعضهم: أي أعدائك لا تحب أن يعود إليك صديقاً؟ أي: أن يتحول بعد ذلك صديقاً؟ فقال: الحاسد الذي لا يرده إلى مودتي إلا زوال نعمتي.(91/7)
من وسائل علاج الحاسد لنفسه المداواة لنفسه بأدوية نافعة
كذلك الحاسد يداوي نفسه بأدوية نافعة، وإن كانت مرة، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم) رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا) المقصود هنا: أمور الدنيا، في الأرزاق والحظوظ وهذه الأشياء، ولذا قال: (انظروا إلى من هو أسفل منكم) لكن في الدين تنظر إلى من هو أعلى منك، كما قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
فأما في الدنيا فقال: (فانظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا -أي: ألا تحتقروا- نعمة الله عليكم).(91/8)
من وسائل علاج الحاسد لنفسه أن يعلم أن الإمساك عن الشر صدقة
كذلك على الحاسد أن يعلم أن الإمساك عن الشر صدقة، فمجرد أن يكف شره عن أخيه المسلم هذا في حد ذاته صدقة وفعل حسن، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على كل مسلم صدقة، قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال: يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق.
قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير، قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر فإنها صدقة) متفق عليه.
فمجرد إمساكه عن الشر ومنعه الحسد يكون صدقة على نفسه.
وفي حديث آخر: (قال: فإن لم أفعل؟ قال: فدع الناس من الشر، فإنها صدقة تصدق بها على نفسك)، وفي رواية: (تتصدق بها عن نفسك)، وهذا أيضاً متفق عليه.(91/9)
من وسائل علاج الحاسد لنفسه أن يعلم أن الحسد يضره في الدين والدنيا
كذلك من علاج الحاسد لنفسه: أن يعلم أن الحاسد الحسد يضره في الدين والدنيا، فيعلم أنه يضر نفسه هو في الدين، وفي الدنيا، ولا يتضرر بذلك المحسود؛ لأن هذه المعصية القبيحة -كما ذكرنا- من أقبح المعاصي، كما قال بعض العلماء: أي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك منه مضرة؟! أي: أن الإنسان يكره راحة أخيه المؤمن، دون أن يعود عليه هذا الأمر بمضره.
كذلك المحسود ينتفع في الدين ولا ينضر؛ لأنه مظلوم من جهة هذا الحاسد، لاسيما إذا انضاف إلى حسده الغيبة، وهتك الستر، فهذه كلها تكون هدايا يهديها الحاسد إلى المحسود؛ حيث يأتي يوم القيامة مفلساً محروماً، فيؤخذ من حسناته، وتعطى لهذا المظلوم، فإن فنيت حسناته ولم يبق منها شيء أخذت من سيئات المظلوم، وطرحت عليه، ثم طرح في النار.
أيضاً المحسود نفسه لا ينضر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ ابن عباس رضي الله عنهما: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، وقال عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22].
وقال عز وجل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51]، فالحاسد لا يغير من قضاء الله سبحانه وتعالى شيئاً، ولا ينفع، ولا يضر.
أما ضرر الحسد على الحاسد نفسه فإنه سخط قضاء الله وقدره، فكره نعمته على عباده، وهذا عمى في بصر الإيمان، ويكفيه أنه شارك إبليس في الحسد، فالحاسد عدو نفسه، وصديق عدوه؛ لأن إبليس يحب زوال النعم عن العباد، ويحب وقوع البلايا فيهم، يقول بعض العلماء: دع الحسود وما يلقاه من كمدٍ يكفيك منه لهيب النار في جسده إن لمت ذا حسد نفست كربته وإن سكت فقد عذبته بيده(91/10)
من وسائل علاج الحاسد لنفسه الزهد في الدنيا
كذلك مما يعالج به الحاسد نفسه: الزهد في الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
فالدنيا هموم متراكمة، وغموم متلاطمة، حلالها حساب، وحرامها عذاب، وهي خرق وتراب، وصور وخراب، فلا وجه للمنافسة فيها عند العقلاء، بل الذي ينافس ينافس في المقاصد العلية، فإن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها، فهذا الشخص يحسد على حطام الدنيا وزينتها، أما قوام الليل وصوام النهار فلا يلتفت إليه، ولا يعيره انتباهاً، ولا يحسده على هذه النعمة، لكن يحسد على ما يزول ويفنى.(91/11)
من وسائل علاج الحاسد لنفسه الرضا بالقضاء
كذلك مما يداوي به الحاسد نفسه: الرضا بالقضاء، فمن لم يرض بقضاء الله لم يحصل إلا على الندم؛ وسواء رضي أم لم يرض فإن قضاء الله نافذ، فإذا لم يرض لم يحصل إلا على الندم، وفوات الثواب، وغضب رب الأرباب، فهي مصيبتان أو أكثر، وليس للعبد حيلة على دفع القضاء، فعليه بالرضا، قال عز وجل: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32].
وقال عز وجل: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32].
أيضاً: عليه أن يعلم أن الحسد قدح في التوحيد؛ لأن الحسد والإيمان كما ذكرنا لا يجتمعان، يقول بعض العلماء: ما لي على مر القضا من حيلة غير الرضا أنا في الهوى عبد وما للعبد أن يعترضا(91/12)
من وسائل علاج الحاسد لنفسه أن يصنف نفسه نقيض ما يقتضيه الحسد
كذلك من أشق الأدوية التي يعالج بها الحاسد نفسه: أن يصنف نفسه نقيض ما يقتضيه الحسد، فإن كان الحسد يقتضي تمنيه زوال النعمة، وسعيه في ذلك لهتك الأستار، والغيبة والاحتيال بشتى الحيل حتى يزيل النعمة عن عباد الله، فأنفع الأدوية في ذلك أن يتطلب أو أن يكلف نفسه نقيض ما يقتضيه الحسد، وذلك بأن يتكلف مدح المحسود، ويتكلف أن يتواضع له، وأيضاً يحاول بأن يهدي إليه هدية، ويظهر السرور ما استطاع بنعمة الله على هذا العبد؛ وذلك لقوله سبحانه وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35] وحكى الله عن بلقيس أنها قالت: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل:35].
وليس المقصود أن هذا هو علاج المحسود لنفسه، وإنما المقصود الإشارة إلى أن الهدية مما يظهر التواءم؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (تهادوا تحابوا) فالهدية من الأساليب التي تذهب عنه هذا الداء.(91/13)
من وسائل علاج الحاسد لنفسه أن يبرك إذا رأى في أخيه ما يعجبه
كذلك من أهم ما ينبغي أن يراعيه من يرى من أخيه شيئاً أو من نفسه، أو من ماله أو من ولده شيئاً فيعجبه: أن يبرك إذا رآه، فيقول مثلاً: (اللهم بارك فيه ولا تضره) كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا الذكر ليس فقط خاصاً بالحاسد الذي يتيقن من نفسه أنه حاسد، بل من العائن الذي لا يقصد أن يحسد، وقد ذكرنا أن العائن قد يحسد من لا يتمنى له الضرر، فبمجرد إعجابه بشيء قد يصيبه بضرر، سواء في نفسه، أو ماله، أو ولده، أو إخوانه، أو أحبائه، فإذا رأى الإنسان ما يعجبه فعليه أن يقول: اللهم بارك فيه ولا تضره.(91/14)
وسائل علاج المحسود
أما علاج المحسود فهناك أسباب كثيرة يستعان بها على هذا العلاج.(91/15)
من وسائل علاج المحسود طلب الاستغسال من العائن والرقية على المصاب
مما يذكره العلماء في هذا الباب: مسألة الاستغسال، وقد ذكرنا فيما مضى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن شيئاً يسبق القدر، لسبقته العين)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن العين حق).
وبوب البخاري في صحيحه: باب رقية العين، وذكر حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسترقى من العين).
وعقد الإمام مالك في الموطأ باباً بعنوان: الوضوء من العين، وباباً آخر بعده بعنوان: الرقية من العين، وساق حديث سهل بن حنيف بتمامه فقال: عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول: (اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار فنزع جبة كانت عليه) يعني: أراد أن يغتسل في شعب من الشعاب، فنزع جبة كانت عليه (وعامر بن ربيعة ينظر، قال: وكان سهل رجلاً أبيض حسن الجلد؛ فقال له عامر بن ربيعة: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء، وفي لفظ آخر: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة -يعني: التي تخبأ في الخدر- قال: فوعك سهل مكانه واشتد وعكه) وفي بعض الروايات: (فلبط) أي: صرع وزناً ومعنى، أي: لبط سهل مكانه في الحال، واشتد وعكه، (فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أن سهلاً وعك، وأنه غير رائح معك يا رسول الله! فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره سهل بالذي كان من أمر عامر بن ربيعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علامَ يقتل أحدكم أخاه؟! ألا بركت؟! إن العين حق، توضأ له، فتوضأ له عامر فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس).
الحديث مرة ثانية: عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول: (اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، قال: وكان سهل رجلاً أبيض حسن الجلد، قال: فقال له عامر بن ربيعة: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء)، وفي بعض الروايات: (ولا جلدة مخبأة قال: فوعك)، وفي رواية: (فلبط سهل مكانه واشتد وعكه، فأتي رسول الله فأخبر أن سهلاً وعك وأنه غير رائح معك يا رسول الله! فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره سهل بالذي كان من أمر عامر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علامَ يقتل أحدكم أخاه؟!)، وهذا فيه دليل على أن العين قد تقتل، فمصداقاً للحديث الآخر: (إن العين تدخل الرجل القبر، والجمل القدر).
قال: (علامَ يقتل أحدكم أخاه؟ ألا بركت؟!) أي: هلا قلت: بارك الله فيك، أو: اللهم بارك فيه ولا تضره، (إن العين حق، توضأ له، فتوضأ له عامر، فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس).
وفي رواية: لما بلغه أنه وعك سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تتهمون له أحداً؟ قالوا: نتهم عامر بن ربيعة، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامراً فتغيض عليه، وقال: علامَ يقتل أحدكم أخاه؟! هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت؟!) وفي رواية: (علامَ يقتل أحدكم أخاه؟! ألا بركت؟! اغتسل له، فغسل عامر وجهه ويديه، ومرفقيه، وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح، ثم صب عليه، فراح سهل مع الناس ليس به بأس)، وهذا هو ما يسمى بالاستغسال، وفي الحديث: (وإن استغسلتم فاغسلوا) فهذه توصية بهذا الاستغسال، فيطلب ممن عرف بأنه عائن، واشتهر عنه ذلك، وإذا اعتقد أنه تعين هذا علاجاً له فعليه أن يفعل ذلك، فيغسل الوجه والكفين، ثم يغسل المرفقين فقط، يعني: نفس المرفق، ولا يدخل فيه الساعد، ويغسل أطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح، ثم يصب على من أصابته العين، فيفرغ هذا الماء على المصاب من الخلف.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: فيه: أن العائن إذا عرف يقضى عليه بالاغتسال.
أي: إذا عرف الشخص الذي وقع منه هذا يقضى ويحكم عليه بالاغتسال، لكن ليس الأمر متروك لكل إنسان عقله فيه خفة أن يقابل الناس ويطلب منهم هذا، لكن إذا عرف العائن الذي صدر منه هذا الشر فهو الذي يُطلب منه الاستغسال.
وفيه أيضاً: أن الاستغسال من النشرة النافعة، وأن العين تكون مع الإعجاب ولو بغير حسد؛ لأن هذا لما مدح أخاه بهذا لم يتمن زوال النعمة عنه، ولكنه أعجب، ولم يبرك حين رآه.
يقول الحافظ: وأن العين تكون مع الإعجاب ولو بغير حسد، ولو من الرجل المحب ومن الرجل الصالح، وأن الذي يعجبه الشيء ينبغي أن يبادر إلى الدعاء للذي يعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقية منه.
أيضاً قوله: (وإذا استغسلتم فاغسلوا) فيه إشارة إلى أن الاغتسال لهذا الأمر كان معلوماً وشائعاً بينهم، فأمرهم ألا يمتنعوا منه إذا أريد منهم، فمتى خشي الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به، فإنه يتعين، وقاسوه على أنه يجبر الإنسان على بذل الطعام للمضطر، قالوا: وهذا أولى من بذل الطعام للمضطر، يعني: إذا تعين هلاكه.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذه الكيفية لا ينتفع بها من أنكرها، ولا من سخر منها، ولا من شك فيها، ولا من فعلها مجرباً غير معتقد فيها.
وهذا كما يؤخذ ترياق سم الحية من لحمها، فهناك بعض الأدوية تؤخذ من الداء نفسه، وكأن هذا الاغتسال بهذا الماء فيه إطفاء لشعلة نار الحسد في نفس هذا الحاسد الخبيث.
قال المازري رحمه الله: هذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل، فلا يرد لكونه لا يعقل معناه، ربما لا يستطيع أن يدرك ما هو المعنى.
يعني: ما هو سر العلاج بمثل هذا الاستغسال، فهذا لا يستطيع العقل أن يدركه، ولا ينبغي أن يرد لمجرد أن العقل لا يدرك أو لا يعقل معناه.
قال الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى: إن توقف فيه متسرع -إن توقف في هذا النوع من العلاج وهو الاستغسال- قلنا له: الله ورسوله أعلم، فقد عبرته التجربة، وصدقته المعاينة، وإن توقف فيه المتفلسف فالرد عليه أظهر؛ أن عنده أن الأدوية تفعل بقواها، وقد تفعل بمعنى لا يدرك، ويسمون هذا بخواص الأدوية.
فهذا أولى أن يثبت من علم الوحي الشريف.(91/16)
من وسائل علاج المحسود ذكر الله سبحانه وتعالى
كذلك من الأدوية التي يعالج بها المحسود: ذكر الله سبحانه وتعالى، فعن الحارث بن الحارث الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمر يحيى بن زكريا أن يأمر بني إسرائيل بخمس كلمات، ومنها قال: وآمركم بذكر الله كثيراً، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى على حصن حصين فأحرز نفسه فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى)، فذكر الله هو الحصن الحصين، وهو من أعظم الأدعية.
وكذلك هناك بعض الأذكار التي إذا حافظ الإنسان عليها -خاصة أذكار الصباح والمساء- كان في حصن حصين من هذه الشرور، فمنها -مثلاً- الحديث الذي رواه أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (إنه كان معه جرين تمر فكان يجده ينقص، فحرسه ليلة، فإذا مثل الغلام المحتلم، فسلم فرد عليه السلام، فقال: أجني أم إنسي؟ قال: بل جني، فقال: أرني يدك، قال: فأراه فإذا يد كلب، وشعر كلب، فقال: هكذا خلق الجن؟ فقال: لقد علمت الجن أنه ليس فيهم رجل أشد مني، قال: ما جاء بك؟ قال أنبئنا أنك تحب الصدقة فجئنا نصيب من طعامك، قال: ما يجيرنا منكم؟ قال: تقرأ آية الكرسي من سورة البقرة: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] إلى آخر الآية]).
وتقرأ هنا المقصود بها: تحفظ ثم قال: (هل أنت تحفظها؟ قال: نعم.
قال: إذا قرأتها غدوة أجرت منا حتى تمسي، وإذا قرأتها حين تمسي أجرت منا حتى تصبح، قال: أبي فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بذلك، فقال: صدق الخبيث) هذا الحديث أخرجه الحاكم في فضائل القرآن، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي: أخرجه الطبراني ورجاله ثقات.
وقال المنذري: رواه النسائي والطبراني بإسناد جيد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، ويشهد له حديث أبي هريرة المعروف في قراءة آية الكرسي قبل النوم في قصة مماثلة لهذه القصة في زكاة الفطر.
والمقصود: أن آية الكرسي ينبغي أن تضاف إلى أذكار الصباح والمساء لهذا الحديث.
كذلك من هذه الأحاديث النافعة، والأحراز التي تنجع في دفع هذه الشرور: حديث أبي عياش الزرقي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال إذا أصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كان له عدل عتق رقبة من ولد إسماعيل عليه السلام، وكتب له عشر حسنات، وحط عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان في حرز من الشيطان حتى يمسي، وإن قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يصبح).
قال حماد: (فرأى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: يا رسول الله! إن ابن عياش يحدثنا عنك بكذا وكذا، قال: صدق أبو عياش) رواه أبو داود، وصححه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.
وذكر موضوع الرؤيا هنا هذا نوع من الاستظهار، وليس استدلالاً بها، فإن الإجماع قائم على أن رؤيا المنام لا يعمل بها، لكن المقصود الاستظهار والاستئناس بها، وإلا فالحديث صحيح.
فعليك أن تقول في الصباح والمساء: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، زاد ابن السني: (يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير) فإن من قالها كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل عليه السلام، وكتب له بها عشر حسنات، وحط عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان في حرز من الشيطان حتى يمسي، فإن قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يصبح.
كذلك من هذه الأذكار: حديث أبان بن عثمان قال: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات لا يضره شيء).
في لفظ في السنن: (من قال: حين يصبح هذا الدعاء لم تصبه في يومه فجاءة بلاء، ومن قالها حين يمسي لم تصبه فجاءة بلاء في ليلته، ثم ابتلي أبان بالفالج -الشلل النصفي- فرأى رجلاً حدثه بهذا الحديث ينظر إليه، فقال له: ما لك تنظر إلي؟ فوالله! ما كذبت على عثمان، ولا كذب عثمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن نسيت في اليوم الذي أصابني هذا، فلم أقله؛ ليمضي الله قدره) فهذا حديث عثمان في فضيلة قول: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات، فإنها تقال أيضاً في الصباح وفي المساء.
من هذه الأحاديث أيضاً: حديث عبد الله بن خبيب رضي الله عنه قال (خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة نطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي لنا، فأدركناه، فقال: أصليتم؟ فلم أقل شيئاً، فقال: قل، فلم أقل شيئاً، ثم قال: قل، فلم أقل شيئاً، ثم قال: قل، فقلت: يا رسول الله ما أقول؟ قال: قل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء).
إذاً: هذا أيضاً من أذكار الصباح والمساء، وهذه كلها أحاديث صحيحة، فتقرأ المعوذات الثلاث، فكما روينا في فضيلة قراءة المعوذات ثلاث مرات حين تصبح وحين تمسي أنها تكفيك من كل شيء.
كذلك من هذه الأذكار: حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال وهو في أرض الروم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال غدوة: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، عشر مرات؛ كتب الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، وكن له قدر عشر رقاب، وأجاره الله من الشيطان، ومن قالها عشية فمثل ذلك) يعني: من الأجر.
إذاً: من أذكار الصباح والمساء قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وعن خولة بنت حكيم رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن أحدكم إذا نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق، لم يضره في ذلك المنزل شيء حتى يرتحل منه) رواه مسلم.(91/17)
من وسائل علاج المحسود الصبر على الحاسد
كذلك من الأدوية التي يعالج بها المحسود: الصبر على عدوه، فلا يقاتله، ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلاً.
يقول الله عز وجل: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] فإذا كان هذا في حق من انتصر، فكيف بحق من لم ينتصر؟! وأسرع الذنوب عقوبة البغي وقطيعة الرحم، وهذا الحسد من البغي ومن الظلم الذي يعجل الله عز وجل عقوبة من خالفه.(91/18)
من وسائل علاج المحسود التوكل على الله
كذلك من هذه الأدوية: التوكل على الله سبحانه وتعالى، فإن لكل عمل جزاءً من جنسه، وجزاء التوكل على الله أن يكون الله عز وجل حسيب الإنسان وكافيه، قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق:3].(91/19)
من وسائل علاج المحسود فراغ القلب من الاشتغال بالحاسد
كذلك من الأدوية: فراغ القلب من الاشتغال بالحاسد وإعمال الفكر فيه، فلا يلتفت إليه، ولا يخافه، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه.(91/20)
من وسائل علاج المحسود الإقبال على الله سبحانه
كذلك من العلاج أيضاً: الإقبال على الله سبحانه وتعالى، والإخلاص له، ولزوم ذكره، قال تعالى حاكياً عن إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39 - 40]، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42].
وقال سبحانه وتعالى في حق يوسف عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]، فصرف عنه السوء بإخلاصه لله عز وجل.(91/21)
من وسائل علاج المحسود التوبة من الذنوب
كذلك من هذه الأسباب أيضاً: التوبة من الذنوب، فقد قال الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، وقال سبحانه وتعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، وفي الحديث: (وأستغفرك لما لا أعلم).
ولقي بعض السلف رجل فأغلظ له ونال منه، فقال له: قف حتى أدخل البيت ثم أخرج إليك، فدخل، فسجد لله وتضرع إليه وتاب، وأناب إلى ربه، ثم خرج إليه، فقال له: ما صنعت؟ قال: تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به علي!(91/22)
من وسائل علاج المحسود الصدقة والإحسان
كذلك من هذه الأسباب أيضاً: الصدقة والإحسان، فإن الشكر حارس للنعمة من كل ما فيه سبب لزوالها، سواءً كان سبب زوال النعمة كفرانها، أو الحسد والعين.
ومنها أيضاً: الإحسان إلى الحاكم والنصح له، والشفقة عليه، حكى النبي صلى الله عليه وسلم نبياً من الأنبياء ضربه قومه حتى أدموه، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، وقال عز وجل: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96]، وقال عز وجل في مدح المؤمنين: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد:22].
وقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35] وحينما أتى رجل يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم قرابة له يصلهم ويقطعونه، ويحسن إليهم، ويسيئون إليه، فواساه صلى الله عليه وسلم بقوله: (كأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك)، فالله سبحانه وتعالى مع من يحسن إلى من أساء إليه.(91/23)
بعض الأذكار والأحراز الواردة في حفظ الإنسان
وأخيراً: فهذا قول جامع في بعض الأذكار والأحراز التي يقولها الإنسان إذا رأى من نفسه أو ولده، أو ماله، أو غير ذلك شيئاً فأعجبه، وخاف أن يصيبه بالعين، أو يتضرر بذلك، فعليه أن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
وفي الحديث: (من رأى شيئاً فأعجبه، فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره)، وقال سبحانه وتعالى حاكياً عن العبد الصالح: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39].
الذكر الثاني: أن يقول: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ففي الحديث: (وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئاً فأعجبه قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى شيئاً يكرهه قال: الحمد لله على كل حال).
كذلك أن يقرأالمعوذتين: سورتي الفلق والناس.
كذلك أن يقول -وهو من أهم هذه الأدعية-: (اللهم بارك فيه ولا تضره).
ومنها أن يقول: (أعيذك بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة).
وإذا رأى الإنسان من أخيه ما يعجبه قال: (اللهم بارك فيه).
وأخيراً: إذا رأى الشخص رجلاً آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، أو آتاه الله عز وجل المال الذي ينفق منه في سبيل الله، ويسلطه على هلكته في الحق، فيجوز له حينئذٍ أن يحسده حسداً شرعياً، وهو حسد بمعنى المنافسة المحمودة التي تقدم بيانها، ويشرع له حينئذٍ أن يقول: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما عمل.(91/24)
أقسام الحسد في الشرع(91/25)
بيان الحسد المذموم
والحسد نوعان: مذموم ومكروه.
أما الحسد المذموم فهو حرام بكل حال، فحرام أن يحسد الإنسان غيره بمعنى: أن يتمني زوال نعمة الله عن الغير، إلا إذا كانت هذه النعمة قد وقعت في يد فاجر أو فاسد يستعين بها على محرم، ويستعين بها على تهييج الفتن، أو الصد عن سبيل الله عز وجل، فلا يضر المؤمن محبته زوالها عنه؛ لأنه لا يبغضها من حيث هي نعمة الله سبحانه وتعالى، ولكنه يبغضها من حيث هي آلة للفساد والشر لا غير، ولو أمن المؤمن فساد هذه العطية لم يتمن زوالها عنه، فهذه هي الحالة المستثناه من تمني زوال النعمة.
والحسد المذموم نوعان: النوع الأول: حسد على شيء محقق، أو نعمة موجودة، وذلك كما قال عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109]، فحسدوا المسلمين على نعمة الإسلام كما قال عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54]، ولذلك حسد المشركون محمداً صلى الله عليه وسلم على نعمة الوحي.
فالحسد المذموم: أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم، وسواء تمنيت مع ذلك أن تزول عنه وتعود إليه أم تمنيت أن تزول عنه ولا تعود إليه.
وقد ذم الله سبحانه وتعالى هذا النوع في كتابه بقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54].
وإنما كان مذموماً لأن فيه ظن أن الله سبحانه وتعالى أنعم على من لا يستحق، وفيه اعتراض على فضل الله سبحانه وتعالى الذي قال: ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] وقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75].
فقوله: (ما كان لهم الخيرة) أي: الاختيار والتقدير، والإنعام على هذا، حرمان هذا، بل هذا من فعل الله سبحانه وتعالى، فهذا فيه اعتراض ونسبة العبث إلى الله سبحانه وتعالى، وعدم الحكمة في أفعاله، وفيه ظن أن الله أنعم حيث لا يستحق صاحبها الخيرة، وكأنه أنعم على من لا يستحق، كما قال المشركون: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:31 - 32] وقال عز وجل: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32].
فهذا بالنسبة للحسد على نعمة محققة بالفعل.
أما النوع الثاني من الحسد المذموم: فهو حسد على شيء مقدر، يعني: حسد على نعمة متوقعة، فيحسد الشخص من أن يلبسه الله نعمة، بل يحب أن يبقى على حاله من الجهد أو الفقر أو الضعف، أو فساد قلبه عن الله، أو قلة دينه.
فهو يتمنى عدم زوال ما هو فيه من نقص وعيب.
فهذا فيما يتعلق بالحسد على نعمة مقدرة، أو نعمة متوقعة، وكلا الأمرين -الحسد على نعمة محققة، أو على نعمة متوقعة- مذموم، والحاسد عدو نعمة الله، وعدو عباده، ممقوت عند الله وعند الناس، ولا يسود أبداً، ولذلك اشتهر بين الناس أن (الحقود لا يسود) فالناس لا يسودون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم، فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يسودونه أبداً إلا قهراً، فلا يمكن أن يمكنوه من رقابهم، ولا أن يسودوه عليهم إلا قهراً، فإذا غلب عليهم قهراً وغصباً فإنهم يعدونه من البلايا والمصائب التي ابتلاهم الله بها، فهم يبغضونه وهو يبغضهم.(91/26)
بيان الحسد الممدوح
القسم الثاني من أنواع الحسد: الحسد الشرعي المحمود، وكما قلنا: إن الحسد مذموم ومحمود، فالمذموم: حسد على نعمة حاصلة، أو على نعمة متوقعة، والحسد الشرعي المحمود هو ما يسمى أحياناً بالمنافسة في الخيرات أو ما يسمى بالغبطة، وهي: أن تتمنى أن يكون لك مثل حال هذا الشخص الذي تحسده من غير أن تزول النعمة عنه.
فمن رأى الخير في أخيه، وتمنى التوفيق لمثله، أو الظفر بحاله، وهو غير مريد لزوال ما فيه أخوه من النعمة، فليس هذا بالحسد الذي ذُم ونهي عنه، وإنما هذا يسمى حسد الغبطة، وهذا قريب من المنافسة، وقد قال الله عز وجل: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا حسد إلا في اثنتين) يعني: لا حسد مشروع أو لا حسد مباح إلا في اثنتين (رجل أعطاه الله المال فسلطه على هلكته في الحق) أي: أنه ينفق ويتصدق بماله في أبواب الخير.
ثم قال: (ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس).
وترجم عليه الإمام البخاري رحمه الله تعالى بقوله: باب الاغتباط في العلم والحكمة.
فهذا حسد غبطة، والحامل لصاحبه عليه أن له نفساً كبيرة، وهمة عالية، وعنده حب اكتساب الخير، وحرصاً على التشبه بأهلها، والدخول في جملتهم، وأن يكون من سباقهم وعليتهم، فتحدث له من هذه الهمة العالية المنافسة والمصادقة، والمسارعة، مع محبته لمن يغبطه، فيحب هذا الرجل الغني المتصدق، ويحب ذلك الرجل العالم الذي يعلِّم الخير، فيتمنى له أيضاً دوام نعمة الله عليه، فهذا لا يدخل بوجه من الوجوه في قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] لأن فعله هذا لا تعلق له بالشر بوجه من الوجوه، فقد تسمى المنافسة حسداً، والحسد منافسة، فيدعى أحد اللفظين نيابة عن الآخر، ولا حجر في الأسامي بعد فهم المعاني.
عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل هذه الأمة مثل أربعة: رجل آتاه الله مالاً وعلماً، فهو يعمل بعلمه في ماله، ورجل آتاه الله علماً، ولم يؤته مالاً، فيقول: لو أن لي مالاً مثل مال فلان لكنت أعمل فيه بمثل عمله، فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً، ولم يؤته علماً، فهو ينفقه في معاصي الله، ورجل لم يؤته علماً، ولم يؤته مالاً، فيقول: لو أن لي مثل مال فلان، لكنت أنفقه في مثل ما أنفقه فيه من المعاصي، فهما في الوزر سواء).
رواه ابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
فهذه المنافسة التي هي الغبطة أو الحسد الممدوح أو المشروع هي كما ذكرنا: إرادة مساواة المنعم عليه، واللحوق به في هذه النعمة بدون تمني زوالها عنه، فهي على ثلاثة أنحاء: واجبة، ومستحبة، ومباحة، أما المنافسة الواجبة فهي فيما إذا كانت النعمة ذات نية واجبة، كالإيمان، والصلاة، والزكاة، أو كان هناك رجل فقير رأى رجلاً قد أنعم الله عليه وأعانه مثلاً على فريضة الحج، فهو يغبطه على هذه الفريضة، أو أن يحرص الشخص على أن يحصل مالاً يستطيع به أداء هذه الفريضة، فهذه غبطة ومنافسة في فعل واجب، فيزيد هذا الشعور محبة المؤمن أن يبلغ هذا العمل؛ وما أعان على واجب فهو واجب، فعلى كل مسلم أن ينوي بقلبه أنه إن توفرت له هذه الاستطاعة أن يعمل بها، فهذه النعمة إذا كانت دينية واجبة -كالإيمان والصلاة والزكاة وغير ذلك- فالمنافسة فيها واجبة.
وقد تكون الغبطة مستحبة إذا كانت النعمة من القربات، كإنفاق الأموال في المكارم والصدقات.
وقد تكون الغبطة مباحة إذا كانت النعمة يتنعم بها على وجه مباح، فأي نعمة من المباحات تتمنى مثلها بدون أن تتمنى زوالها هذه أيضاً منافسة مباحة.
وإذا أنعم الله سبحانه وتعالى على عبد بنعمة فإن تحت هذه النعمة أمران: الأمر الأول: راحة المنعم عليه، أي: أن المنعم عليه يستريح بهذه النعمة.
الأمر الثاني: ظهور نقصان غيره وتخلفه عنه، فالمنافس هنا في هذه الحالة يكره أحد هذين الوجهين، وهو تخلف نفسه، ويحب مساواته له، لكن إذا أيس من أن ينال مثل تلك النعمة، وهو يكره أن يتخلف عنها ويكره نقصانه فلا محالة أنه يحب زوال هذا النقصان.
فالنعمة إذا حضرت فإنه يستريح بها المنعم عليه، ويظهر نقصان أو حرمان الذي لم ينعم عليه، فالمنافس هنا يكره راحة أخيه المؤمن، لكن يكره أن يكون متخلفاً منافساً في هذه النعمة، لكن إذا أيس من حصول مثل تلك النعمة مادام يكره نقصانه وتخلفه فلا محالة أنه يحب زوال هذا النقصان، فإذا رأى هذا النقصان وتمنى زوال نعمة المحسود، حتى يحصل التساوي بينهما، وحتى ينزل أخوه إلى مساواته، إلى أن يقدر هو أن يرتقي إلى مساواته بإدراك النعمة فهذا الشعور أو هذا التصرف أو هذا التمني لا رخصة فيه أصلاً، فهذه هي المنافسة المحرمة، بل هذا حرام في مقاصد الدين، أو في مقاصد الدنيا.
لكن صاحبه إذا لم يعمل بذلك تكون كرامته كونه يكره حصول هذه الصفة منه، ومجاهدته نفسه في دفع ذلك الشعور يكون هذا كفارة له، وأفضل الجهاد مجاهدة العبد نفسه وهواه.(91/27)
أقسام الحاسدين(91/28)
حساد يحبون زوال النعم عن المحسود وتحولها إليهم
لا زلنا نتكلم في أنواع الحسد وأقسام الحاسدين، وأقسام الحاسدين ثلاثة أقسام: قسم من الحساد يحب زوال النعم عن المحسود وتحولها إليه، أي: يتمنى أن تتحول النعمة عن الشخص المحسود إليه هو، وهذا قبيح، وهو نوع من الأنانية في ظل الاعتراض على فعل الله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32]، وقال عز وجل: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف:32].
وقال: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26]، فهذا فعل الله سبحانه وتعالى، وهذا تصرف فيه الإيثار لنفس الحاسد على أخيه، وفيه اعتراض على حكم الله سبحانه وتعالى.(91/29)
حساد يحبون زوال النعمة عن المحسود وتحولها إلى غيرهم
القسم الثاني: أن يطلب الحاسد زوال النعمة عن المحسود وأن تتحول إلى غيره، هذا أقبح من الأول، وأقبح من الاثنين أن يطلب زوال النعم عن المحسود مطلقاً، فيكره النعمة ذاتها، ليس لأنها في يد فلان، ولكن يكرهها ولا يريد أن تكون في يد فلان، ولا في يد نفسه، ولا في يد غيره، فهو يكره نعم الله مطلقاً، فهذا عدو نعم الله سبحانه وتعالى.(91/30)
أسباب الحسد المذموم
الحسد المذموم له مداخل كثيرة، وأسباب عديدة:(91/31)
من أسباب الحسد المذموم العداوة والبغضاء
أول هذه الأسباب وأخطرها: العداوة والبغضاء، فإن آذاه شخص بسبب من الأسباب أو خالفه بوجه من الوجوه أبغضه قلبه، وغضب عليه, ورسخ في نفسه الحسد، والحسد يقتضي التشفي والانتقام، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان، وذلك بأن تقع مصائب لأخيه، وذلك إذا اشتد الحقد، فإذا حصلت بأخيه مصيبة كأنه يموت له ولد أو قريب فإنه يستدل على أن ذلك لكرامته هو على الله، وأن الله أصاب عدوه ببلية، فيفرح بهذه البلية، ويظنها مكافأة له من جهة الله على أخيه، وأنها لأجله.
وإذا أصابت أخاه نعمة ساءه ذلك، وظن أن الله سبحانه وتعالى إذا أنعم على أخيه، أو إذا أنعم على عدوه بتعبير آخر، فهذا لأن ذلك الحاسد لا منزلة له عند الله، حيث لم ينتقم له من عدوه الذي آذاه، بل أنعم عليه.
فالحسد يلزم منه البغض والعداوة، وإنما غاية التقي ألا يبغي، وأن يكره ذلك من نفسه، فالصالح المؤمن التقي إذا بادره قلبه إلى ذلك فإنه يمسك بلجام نفسه ولا يتعدى إلى الأذى، قال عز وجل: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [آل عمران:119 - 120] وقال عز وجل: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118].
إذاً: الحسد يؤثر البغض، والبغض يسبب التنازع والتخاصم، والتنازع والتخاصم يؤدي إلى استغراق العمر في إزالة النعمة بالحيل والدعاية وهتك الستر.(91/32)
من أسباب الحسد المذموم التعزز
من أسباب الحسد أيضاً: التعزز، والتعزز: هو أن يثقل عليه أن يرتفع عليه غيره بنعمة تحدث له، وذلك بأن يكون الحاسد شخصاً متكبراً -مثلاً- فلا يضره غيره في شيء، لكن هذا الشخص يكون أقل منه، فيخشى أنه إذا حصلت له نعمة لا يستطيع أن يتكبرعليه كما كان من ذي قبل، فهذا أيضاً من أسباب الحسد التي ذكرها العلماء.(91/33)
من أسباب الحسد المذموم حب الرئاسة والجاه
كذلك من أسباب الحسد: حب الرئاسة والجاه، فيتمنى أن يكون منفرداً عديم النظير في هذا الشأن، غير مشارك في المنزلة، يضره وجود مضاه له في المنزلة، فهذا أيضاً من الأسباب.(91/34)
من أسباب الحسد المذموم خبث النفس
كذلك من أسباب الحسد: خبث النفس، فتكون نفس الحاسد خبيثة يشق عليها وجود الخير لعباد الله، فالحاسد يشق عليه ولا يتحمل قلبه أن يكون عنده حب حال عبد أنعم الله عليه، ويفرح بذكر فوات مقاصده، واضطراب وجوده، وتنغص عيشه، فهو أبداً يحب الكدر لغيره، ويبخل بنعمة الله على عباده، وكأنهم يأخذون ذلك من ملكه! وهذا ليس له سبب ظاهر إلا خبث في النفس، ورذالة في الطباع، وهذا معالجته شديدة وصعبة؛ لأنه خبث في الجبلة لا عن عارض حتى يتصور زواله، يعني: ليس حسده بسبب حصول النعمة لغيره، وإنما هو يكره وقوع النعمة بذاتها، ولا يريدها لنفسه، ولا لغيره، لكن يكرهها من حيث هي نعمة، فهذا معالجته شديدة؛ لأن هذا ليس رد فعل، لكنه أصل متأصل في نفسيته.
فهذه الأسباب قد يجتمع بعضها مع بعض، فيقوى الحسد إذا اجتمعت الأسباب وتكاثرت، ويضعف إذا تفرقت، وبالطبع تقوى قوة الحسد بحيث لا يقدر هذا الحاسد على المجاملة، بل ينتهك حجاب المجاملة، ويظهر المعاداة بالمكاشفة، أعاذنا الله من ذلك.(91/35)
بيان متى يكثر الحسد ومتى ينعدم
هنا تنبيه يتعلق بأسباب الحسد، وهو أن الحسد يكثر بين قوم تكثر بينهم هذه الأسباب من العداوة، أو التعزز أو خبث النفس، أو حب الرئاسة وطلب الجاه.
وإذا كان شخص واحد يحسد شخصاً واحداً أو أكثر فهذا قد يكون يسيراً، لكن قوم تكثر بينهم الروابط ويجتمعون في المجالس ويتواردون على أغراضهم فهذا أقوى ما يكون، ولابد من مهنة رابطة بين الناس الذين يحسد بعضهم بعضاً، فإذا تجاور الناس في مكتب، أو في سوق، أو في عمل، فإنهم تتناقض أغراضهم، ويحصل تعارض بين الأغراض، فيقع التنافر الذي يورث الحسد؛ لأن الغرض الواحد لا يجمع متباعدين، بل يجمع متناسبين، فلذلك يكثر الحسد بينهما.
كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري فقال: (مر ذوي القرابات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا).
أي: لأنهم لو تجاوروا ربما وقع من ذوي القرابات حسد أشد من الشخص البعيد؛ لأنهم في الغالب يتواردون على غرض واحد فتقع المنافسة والمنازعة.
كما يقع أيضاً من أصحاب الحرفة الواحدة، فتجد صاحب حرفة معينة يكره الذي ينافسه على الزبائن -مثلاً- في نفس الحرفة، لكن لو كانت حرفة أخرى لا ينازعه فيها أحد ففي الغالب أنه لا يقع الحسد من هذا الجانب.
فالتاجر يحسد التاجر، والمرأة تحسد ضرتها أكثر مما تحسد أم الزوج وابنته؛ لأن الضرتين يتنازعان على غرض واحد وهو الزوج، فتحسد المرأة ضرتها أكثر مما تحسد ابنة زوجها، والشجاع يحسد الشجاع، لكن الشجاع لا يحسد العالم؛ لأنه ليس هناك تنافس بينهما في صفة واحدة؛ لأن هذا الشجاع مقصده أن يذكر بالشجاعة، ويمتلك هذه الصفة، ويشتهر بها، والعالم لا يزاحمه على هذا الغرض.
ومنشأ الحسد والسبب الحقيقي للحسد هو حب الدنيا؛ لأن الدنيا تضيق على المتزاحمين، أما الآخرة فلا ضيق فيها، إنما مثال الآخرة نعمة العلم ومعرفة الله سبحانه وتعالى، فلا جرم أن من يحب معرفة الله ومعرفة صفاته وملائكته وأنبيائه وملكوت سماواته وأرضه لن يحسد غيره إذا عرف ذلك أيضاً؛ لأن هذا كله يتسع للجميع، فلو ذهب شخص إلى البحر أو أي مكان في الأرض ليتمتع بالنظر إلى السماء وما فيها من سحاب أو نجوم أو أي شيء من هذه المناظر، فهل يحسده الناس على ذلك؟ وهل سمعتم من يحسد آخر بأنه يتمتع بالنظر إلى النجوم في السماء؟ لكن يقع الحسد إذا كان الشخص له بستان جميل يتمتع وينتفع به، فيقع الحسد هنا؛ لأن الدنيا ضيقة، أما الآخرة فواسعة وفسيحة، فالمعرفة لا تضيق عن العارفين، لذلك المعلومة الواحدة يعلمها مليون شخص ويهتمون بها، ويفرحون بمشاركة غيرهم فيها، بل ربما يحصل بكثرة العارفين لهذه المعلومة زيادة الأنس وثمرة الاستفادة والإفادة، فالإنسان إذا كان يدعو إلى الله سبحانه وتعالى ويدعو العباد إلى التوبة، أليس يحب كثرة السائلين وكثرة المستغفرين؟! فمن أجل ذلك لا يتصور أن يقع بين علماء الدين محاسدة؛ لأنهم يعملون لوجه الله سبحانه وتعالى، ومقصدهم معرفة الله، وهذا بحر واسع لا ضيق فيه، وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق فيها أيضاً؛ لأن هذه المنزلة عند الله واسعة فسيحة جنة عرضها السماوات والأرض، لكن إذا قصد العالم بعلمه أو بدعوته الجاه أو المال أو أي شيء من أغراض الدنيا فقد خرج من كونه عالماً بالدين إلى صائد يصطاد الدنيا بالدين.
فمن أجل ذلك طهر الله سبحانه وتعالى قلوب أهل الجنة من المحاسدة فلا يقع بين أهل الجنة محاسدة، كما قال عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] لأن نعمة الجنة نعمة واسعة لا زحمة فيها، ولذة لا كدر فيها، أما الحسد فهو من صفات المبعدين عن سعة عليين إلى ضيق سجين ولذلك وسم به الشيطان اللعين.(91/36)
الفرق بين الحاسد والعائن
في الحديث الذي ذكرناه من قبل (العين حق) فما هو الفرق بين الحاسد وبين العائن؟
الجواب
يشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من يريد أذيته، لكن يوجد فرق في بعض الأمور، فالحاسد قد يحسد ما لم ير، فقد يحسد شيئاً يوصف له ولم يره، فيحسد الحاسد المحسود عند غيبته وعند حضوره أيضاً، ويحسد في الأمر المتوقع قبل وقوعه.
أما العائن فلا يعين إلا ما يراه، ولا يحسد إلا ما يراه بعينه؛ لذلك سمي العائن، إذ تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته، وإذا كان الحاسد يحسد في الأمر المتوقع قبل وقوعه فإن العائن يحسد في الأمر الموجود بالفعل، هذا أول فرق.
الحاسد مصدر حسده تحرك قلبه، واستكثار النعمة على المحسود، أما العائن فمصدر فعله انقداح نظرة العين، وقد يعين ما يكره أن يصاب بأذى منه، فالعائن قد يعين شخصاً لا يحب أذيته كابنه مثلاً أو ماله أو نفسه أحياناً، فالعائن يصيب بعينه نعمة موجودة، وقد يعين من يكره أن يصاب بأذى منه كولده وماله، وقد يصيب من لا يقصده من جماد أو حيوان أو زرع أو مال، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه، يعني: أنه يحسد صاحب المال، لكن أيضاً يمكن أن يحسد نفس هذا المال، وربما أصابت عينه نفسه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين، وسوف نأتي بالحديث الذي يدل على ذلك إن شاء الله تعالى.
وكما ذكرنا بالنسبة للحاسد مصدر حسده تحرك القلب واستكثار النعمة على المحسود، فهو يتمنى زوالها عنه، أو عدم حصولها له، وهذا غاية في حطة النفس.
والمقصود: أن العائن حاسد خاص، فالحاسد أعم من العائن، فكل عائن حاسد ولابد، وليس كل حاسد عائناً، فإذا استعاذ الإنسان من شر الحاسد دخل فيه العائن؛ لأن هذه الكلمة أعم؛ فهذا من شمول القرآن وإعجازه وبلاغته.
قال غير واحد من المفسرين في قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم:51]: المقصود بهذه الآية الإصابة بالعين، فأرادوا أن يصيبوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إليه قوم من العائنين وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حجته، وكان طائفة منهم تمر به الناقة والبكرة السمينة، فيعينها بمجرد أن ينظر إليها، يقول لخادمه: خذ المكتل والدرهم وائتنا بشيء من لحمها، فما تبرح حتى تقع فتنحر.
والدليل على ذلك من السنة حديث: (العين تدخل الرجل القبر، والجمل القدر).
قال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل، ثم يرفع جانب خبائه -أي: جانب الخيمة أو الخباء- فتمر به الإبل فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه! فما تذهب إلا قليلاً حتى يسقط منها طائفة.
وحكى المفسرون: أنه طلب الكفار من هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ويفعل به كفعله في غيره؛ فعصم الله رسوله وحفظه وأنزل عليه: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم:51] وفي الآية كلام آخر كثير.(91/37)
الأدلة الواردة في ذم الحسد والتحذير منه(91/38)
ذم الحسد في القرآن الكريم
ذكرنا أن الحسد ذكر في القرآن في قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] وفي قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109]، وقال عز وجل حاكياً عن المنافقين: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} [الفتح:15]، وقال عز وجل: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5].
وورد ذكر الحسد بالمعنى وليس باللفظ، وذلك مثل قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وقال عز وجل: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2]، وقال سبحانه وتعالى: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:8 - 9]، وقال: {وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف:67] ومما قيل في الآية: إنه خشي عليهم العين وقال عز وجل: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم:51]، وقال عز وجل: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران:120]؛ وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة:213] قيل: حسداً بينهم.
{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعنَةُ اللَّهِ عَلَى الكَافِرينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [البقرة:89 - 90] (بغياً) يعني: حسداً.
وقال عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] قيل في تفسير (اللذين أضلانا): يعني: إبليس من الجن وقابيل من الإنس، حيث هذا حسد آدم وذاك حسد أخاه هابيل.
وأثنى الله على المؤمنين بعدم الحسد في قوله تعالى: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر:9].(91/39)
ذم الحسد في السنة النبوية
وأما الأدلة من السنة فمنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سيصيب أمتي داء الأمم فقالوا: يا رسول الله! وما داء الأمم؟ قال: الأشر والبطر والتكاثر والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي) وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة، أما إني لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على ما تتحابون به أفشوا السلام بينكم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (العين حق) أي: الضرر الحاصل عنها لا ينكره إلا معاند مكابر.
وقال صلى الله عليه وسلم: (العين حق تستنزل الحالق) والحالق هو: الجبل العالي.
وقال صلى الله عليه وسلم: (العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا) وقال صلى الله عليه وسلم: (العين تدخل الرجل القبر، والجمل القدر) (تدخل الرجل القبر) يعني: تقتله فيدفن في القبر.
(والجمل القدر) يعني: إذا أصابته مات أو أشرف على الموت؛ فيذبحه مالكه ويطبخه في القدر.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتولع الرجل بإذن الله حتى يصعد حالقاً ثم يتردى منه).
وعن أسماء بنت عميس قالت: (يا رسول الله! إن ولد جعفر تسرع إليهم العين، أفأسترقي لهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، فإنه لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استعيذوا بالله من العين؛ فإن العين حق).
وعن أم سلمة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة -يعني: أثر سواد وتغير- فقال: استرقوا لها، فإن بها النظرة) أي: إصابة العين.
(ودخل النبي صلى الله عليه وسلم -كما تحكي عائشة - فسمع صوت صبي يبكي فقال: ما لصبيكم هذا يبكي؟ فهلا استرقيتم له من العين؟).
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمة محسود).
والجمع بين هذا الحديث وبين قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]: أن النهي عن التحديث بالنعمة في الحديث قبل إتمام النعمة وقبل إنجازها، لكن إذا تمت يحدث إذا أمن العين، أو يكتم عند خوف الحسد، فإن أمن ذلك فلا يكتم.
فقوله: (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان) هذا قبل الحوائج وقبل قضائها، أما بعد قضائها فلا بأس بالإخبار.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين).
وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة، فإن العين حق) فهذا دليل على أن الإنسان العائن قد يعين الشيء بدون قصد سواء في نفسه أو ماله أو ولده أو غيره.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم دواء ذلك والاحتماء منه بأن تبرك وتقول: بارك الله فيك، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة، فإن العين حق) (ورقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك).(91/40)
ذم الحسد في كلام السلف
ثم إن الحسد من أخلاق اللئام، وتركه من أفعال الكرام، ولكل حريق مطفئ لكن نار الحسد لا تطفأ.
وآفات الحسد قذائف في القلب تأكل حسنات القلب كما تأكل النار الحطب.
والحسد أول معصية وقعت من الخلق، فقد حسد إبليس آدم، وحسد قابيل هابيل، ويكفي الحاسد أنه شارك إبليس في الحسد، وفارق الأنبياء في حبهم الخير لكل أحد.
والحاسد أيضاً قد سخط قضاء الله وقدره، فكره نعمته على عباده، لذلك الحسد سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى، وهذا قذى في بصر الإيمان، ولا يحصل صاحبه إلا الندم، وفوات الثواب، وغضب رب الأرباب.
والحاسد ساخط على قضاء الله في تفضيل بعض عباده على بعض، وذلك لا عذر فيه ولا رخصة، وأي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك منه مضرة؟! فالحاسد يكره نعمة الله على أخيه، وهذه النعمة لا تؤذيه هو، فيقول بعض العلماء: أي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك منه مضرة؟! ولذلك قال منصور الفقيه: ألا قل لمن ظل لي حاسداً أتدري على من أسأت الأدب أسأت على الله في حكمه لأنك أنت لم ترض لي ما وهب فجازاك ربي بأن زادني وسد عليك وجوه الطلب والحسد تنافس في الدنيا، وهي لا تعدل عند الله جناح بعوضة.
قال صلى الله عليه وسلم: (لو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) لكن لأنها أحقر عند الله من جناح بعوضة لم يأخذوا فقط شربة الماء، وإنما أعطاهم من الدنيا ما تعلمون، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [البقرة:212] فلا وجه فيها للمنافسة عند العقلاء، والحاسد إنما يحسد الناس على الدنيا وحطامها.
وأما قوَّام الليل وصوَّام النهار فلا يحسد، وهذه الدنيا ما هي إلا هموم وغموم متلاطمة، وحساب وعذاب، وهي ترة وتراب، وبوار وخراب.
قال ابن سيرين رحمه الله تعالى: ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا؛ لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة؟ وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟ يعني: أن الإنسان أحد رجلين: إما مؤمن صائر إلى الجنة، وإما كافر صائر إلى النار، فإن كانت النعمة مع مؤمن وهذا المؤمن صائر إلى الجنة فكيف أحسده؟! وكيف أتمنى زوال هذه النعمة عنه؟! وهو سوف يحصل أعظم نعمة، وهي الجنة ورضوان الله سبحانه وتعالى، فكيف يحسده وهو صائر إلى الجنة أعظم نعيم ولا يقدر أن يزيله عنه؟! وإن كان كافراً أعطي هذه النعمة فكيف يحسده على نعمة وهو صائر في النهاية إلى النار؟! فلا يستحق أصلاً أن يحسد.
أيضاً: الحسد قد يحمل صاحبه على إطلاق لسانه في المحسود بالشتم والتحيل على أذاه.
قال الحسن رحمه الله: يا ابن آدم! لمَ تحسد أخاك؟! فإن كان الله أعطاه لكرامته عليه فلمَ تحسد من أكرمه الله؟! وإن كان غير ذلك فلمَ تحسد من مصيره النار؟! قال بعض العلماء: منافسة الفتى فيما يزول على نقصان همته دليل ومختار القليل أقل منه وكل فوائد الدنيا قليل أيضاً: الحاسد لا يزال في غم وألم ونكد؛ لأن الحسد داعية النكد.
قال بعض العلماء: الحسد جرح لا يبرأ، وحسب الحسود ما يلقى.
أي: حسبه من العذاب ما يعذب هو به نفسه.
قال بعض العلماء: دع الحسود وما يلقاه من كمده كفاك منه لهيب النار في جسده إن لمت ذا حسد نفست كربته وإن سكت فقد عذبته بيده وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يكفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك).
وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد، حزن لازم، وتعس دائم، وعقل هائم، وحسرة لا تنقضي.
وقال بعضهم: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد؛ فإنه يرى النعمة عليك نقمة عليه.
قل للحسود إذا تنفّس طعنة يا ظالماً وكأنه مظلوم أيضاً: الحاسد يسميه العلماء عدو نعمة الله عز وجل، فهو جهول ظلوم، ليس يشفي غلة صدره ويزيل حرارة الحسد من قلبه إلا زوال النعمة، فحينئذٍ يتعذر الدواء أو يعز.
وكل أداويه على قدر دائه سوى حاسدي فهي التي لا أنالها وكيف يداوي المرء حاسد نعمة إذا كان لا يرضيه إلا زوالها وقال معاوية رضي الله عنه: (كل الناس أقدر على رضاهم إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها).
كل العداوات قد ترجى إماتتها إلا عداوة من عاداك من حسد وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (لا تعادوا نعم الله.
قيل له: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله).
وفي بعض الكتب: الحقود عدو نعمتي، متسخط لقضائي، غير راضٍ بقسمتي.
كذلك يقولون: الحسد عدو عادل منصف، وهذا كما قال بعض الشعراء: لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله وهذا مثال يقول: (من حفر حفرة لأخيه وقع فيها).
قيل لبعضهم: ما بال الحسود أشد غماً؟ قال: لأنه أخذ بنصيبه من هموم الدنيا يضاف إلى ذلك غمه لسرور الناس.
وهنا قصة نشير إليها تجسد مبدأ من حفر حفرة لأخيه وقع فيها، وهي محكية في بعض الكتب: قال بكر بن عبد الله: كان رجل يغشى بعض الملوك فيقوم بحذاء الملك فيقول: أحسن إلى المحسن بإحسانه، فإن المسيء سيكفيكه إساءته، فحسده رجل على ذلك المقام والكلام، فسعى به إلى الملك، فقال: إن هذا الذي يقوم بحذائك ويقول ما يقول زعم أن الملك أبخر، يعني: أنه تصدر من فمه رائحة كريهة، فقال له الملك: وكيف يصح ذلك عندي؟ قال: تدعوه إليك فإن دنا منك وضع يده على أنفه لئلا يشم ريح البخر، فقال له: انصرف حتى أنظر، فخرج من عند الملك، فدعا الرجل إلى منزله فأطعمه طعاماً فيه ثوم، فقام الرجل من عنده، وقام بحذاء الملك على عادته، فقال: أحسن إلى المحسن بإحسانه، فإن المسيء سيكفيكه إساءته، فقال له الملك: ادن مني، فدنا منه، فوضع يده على فيه مخافة أن يشم الملك منه رائحة الثوم.
فقال الملك في نفسه: ما أرى فلاناً إلا قد صدق.
قال: وكان الملك لا يكتب بخطه إلا بجائزة أو صلة، فكتب له كتاباً إلى عامل من عماله: إذا أتاك حامل كتابي هذا فاذبحه واسلخه واحش جلده تبناً، وابعث به إلي، فأخذ الكتاب وخرج، فلقيه الرجل الذي سعى به فقال: ما هذا الكتاب؟ قال: خط الملك لي بصلة، فقال: هبه لي، فقال: هو لك، فأخذه ومضى به إلى العامل، فقال العامل: في كتابك أن أذبحك وأسلخك، فقال: إن الكتاب ليس هو لي فالله الله في أمري حتى تراجع الملك.
فقال: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه وسلخه، وحشا جلده تبناً وبعث به، ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته، وقال مثل قوله، فعجب الملك وقال: ما فعل الكتاب؟ فقال: لقيني فلان فاستوهبه مني فوهبته له، فقال له الملك: إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر، قال: ما قلت ذلك.
قال: فلمَ وضعت يدك على فيك؟ قال: لأنه أطعمني طعاماً فيه ثوم فكرهت أن تشمه، قال: صدقت ارجع إلى مكانك فقد كفى المسيء إساءته.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(91/41)
الحسد الوقاية والعلاج [2]
وجود تأثير الحسد في بني آدم ثابت بالأدلة الواردة من القرآن والسنة والواقع، وقد أنكره أناس ممن لا يفقهون نصوص الكتاب والسنة، ولم ينظروا إلى وقوعه وتأثيره في المحسود عقلاً وشرعاً وتجربة، وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى كيفية التحصن من شر الحسدة ومكرهم بالتعوذ بآيات الله منهم، وملازمة الذكر، والتوكل والاعتماد على الله سبحانه وتعالى.(92/1)
ذم الحسد والتحذير منه
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمعان في النار: مسلم قتل كافراً ثم سدد وقارب، ولا يجتمعان في جوف مؤمن: غبار في سبيل الله وفيح جهنم، ولا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد) رواه الإمام أحمد في مسنده والنسائي في سننه، والحاكم في المستدرك، وصححه الألباني.
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمعان في النار) هذا خبر لمحذوف، والمقصود: شيئان لا يجتمعان، أو يكون على لغة من يقول: أكلوني البراغيث، فتقدم الضمير أولاً، ولم يسبقه الاسم الظاهر، فتقول: أكلوني البراغيث، فتقدم الفعل متصلاً بالضمير وبعده الاسم الظاهر، وكذلك هنا: (لا يجتمعان) قدم ضمير المثنى قبل ذكر هذين الأمرين: (لا يجتمعان في النار: مسلم قتل كافراً ثم سدد وقارب) فهنا لم يذكر سوى شيء واحد، ولم يذكر شيئين.
فيكون المقصود: شيئان لا يجتمعان معاً في النار: مسلم قتل كافراً مع الكافر الذي قتله، فهذان لا يجتمعان في مكان واحد من العذاب وهو النار.
وقوله: (ثم سدد وقارب) يعني أن المسلم الذي قتل كافراً لا يجتمع مع الكافر الذي قتله في النار، لكن هذا بشرط أن يثبت المسلم إلى الممات على الإسلام والاستقامة.
وقوله: (ولا يجتمعان في جوف مؤمن: غبار في سبيل الله وفيح جهنم) أي: لا يجتمع غبار الخيل إذا خرج المجاهد في سبيل الله وفيح جهنم، في أنف المؤمن.
ومعنى: (فيح جهنم) انتشارها، فالمقصود هنا في الحديث: (غبار في سبيل الله وفيح جهنم) أي: الأثر الذي يحدثه فيح جهنم من الحرارة، فهذان لا يجتمعان في جوف مؤمن.
وقوله: (ولا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد) والإيمان والحسد نقيضان لا يتواجدان معاً في مكان واحد، فإذا وجد الإيمان لا يقارنه الحسد، وإذا وجد الحسد لا يقارنه الإيمان.
وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالحسد، وبيَّن أنهما لا يجتمعان في قلب المؤمن، وهذا فيه تقبيح للحسد، وبيان أنه لا ينبغي للمؤمن أن يحسد، فإنه ليس من خلق المؤمن ولا من خصاله أن يحسد غيره، ويتمنى زوال نعمته، فالمقصود: أنه يحرم على المؤمن أن يحسد غيره.
ويحتمل أن يقصد بالإيمان هنا: الإيمان الكامل، فإن الحسد ينقص الإيمان.(92/2)
الحسد من أخلاق الكفار واليهود
وقد بين الله سبحانه وتعالى التناقض بين خلق الحسد وبين صفة الإيمان في كثير من آيات القرآن، وذكر أن الحسد من أخلاق الكفار، فقال سبحانه وتعالى في شأن المشركين من أهل الكتاب: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109]، إذاً: الحسد خلق من أخلاق الكفار من أهل الكتاب، حيث حسدوا المؤمنين على أعظم نعمة، وهي نعمة الإيمان.
أيضاً: الحسد من أخلاق المشركين، قال الله عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] قال المفسرون: هذا عام أريد به خصوص النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173] فالمقصود بالناس في قوله: (الذين قال لهم الناس) نعيم بن مسعود فهنا كذلك قوله: ((أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ)) أي: بل أيحسدون محمداً صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله؟ أي: من نعمة الوحي والرسالة، وفي الحديث: (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين) رواه الإمام أحمد وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها.
إذاً: الحسد من أخلاق اليهود، والحسد كذلك من أخلاق المنافقين، فقد قال الله عز وجل في شأنهم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وقال عز وجل: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [التوبة:50].
فهذا كله يؤيد هذا المعنى الذي ورد في آخر الحديث: (ولا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد)، فيوجد الحسد لكن مع الكفر، سواء كفر المشركين أو كفر أهل الكتاب أو كفر المنافقين والعياذ بالله! أما المؤمن فليس من خلقه أن يحسد عباد الله سبحانه وتعالى، وبتعبير آخر نستطيع أن نقول: إن المؤمن الكامل الإيمان لا يحسد، فمن وقع منه الحسد فقد وقع في محرم حرمه الله سبحانه وتعالى عليه.
قيل للحسن البصري: يا أبا سعيد! هل يحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك بني يعقوب لا أبا لك! حيث حسدوا يوسف، ولكن غم الحسد في صدرك، فإنه لا يضرك ما لم يعدو لسانك، وتعمل به يدك.
يعني: إذا وجد الإنسان شيئاً من هذا فليجاهد نفسه، فإنه ليس محرماً عليه في هذه الحالة، وهذا من جهاد النفس، فإذا راودته نفسه على الحسد، وتمني زوال النعمة عن أخيه المؤمن، فعليه ألا يستسلم لذلك، ولا يسترسل معه، بل يجاهد نفسه، حتى يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وتأمل تقييده سبحانه شر الحاسد بقوله: {إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5].
قال عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:1 - 5] هذا الأخير هو المستعاذ منه في هذه السورة.
فقيد الله سبحانه وتعالى شر الحاسد بقوله: ((إِذَا حَسَدَ))؛ لأن الحاسد قبل توجهه إلى المحسود بالحسد لا يتأتى منه شر، فلا محل للاستعاذة منه، لكن يستعاذ منه ((إِذَا حَسَدَ))؛ لأنه ربما يكون هناك إنسان متصفاً بهذه الصفة، لكنها كامنة فيه فلا تخرج، ولا يصدر منه هذا الحسد إلا إذا توجه نحو المحسود، فيقع حينئذٍ الحسد، ومن ثمَّ قال الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] يعني: حال حسده لغيره.
ولهذا أيضاً: نفس العقد لم يقل الله سبحانه وتعالى: (ومن شر ساحر إذا سحر)، لكن قال: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4]؛ لأن النفث في العقد هو عين السحر، ونفس ممارسة السحر يكون بالنفث في العقد، فتكون الاستعاذة من الساحر واقعة موقعها عند سحره الواقع منه بنفثه في العقد.
فالرجل قد يكون عنده حسد، ولكنه يخفيه، ولا يرتب عليه أذى بوجه ما لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده، بل يجد في قلبه شيئاً من ذلك، فقد يجد في قلبه تمني زوال نعمة الغير، لكنه لا يسترسل مع هذا التمني، ولا يعامل أخاه المسلم بما لا يحبه الله، فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمه الله سبحانه وتعالى، فالقوة الكامنة في قلبه قد تنبعث إذا نشطها واسترسل معها.
لكن إذا وجدت هذه القوة بأي نوع من الشرور في قلب الإنسان فإنها تمنيه لأي شيء من الحرام، لكنه لا يسترسل معها، وإنما يجاهد نفسه ويحبسها، ولا يطيعها ولا يأتمر لها، بل يعصي هواه طاعة لله، وخوفاً وحياءً من الله، وإجلالاً له سبحانه وتعالى أن يكره نعمه على عباده، فيرى ذلك مخالفة لله، أي: يرى أنه إذا وقع في حسد أخيه فهذه معصية ومخالفة لله، وبغض لما يحبه الله، ومحبة لما يبغضه الله، فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك، ويلزمها بالدعاء للمحسود، وتمني زيادة الخير له، بخلاف ما إذا حقق ذلك وحسد، فرتب على حسده مقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح، فهذا هو الحسد المذموم، وهذا كله هو تمني زوال النعمة عن الغير.
قال الألوسي: الحسد الغريزي الجبلي إذا لم يعمل بمقتضاه من الأذى مطلقاً، بل عامل المتصف به أخاه بما يحب الله تعالى مجاهداً نفسه، لا إثم فيه، بل يثاب صاحبه على جهاد نفسه، وحب معاملته أخاه ثواباً عظيماً؛ لما في ذلك من مشقة مخالفة الطبع كما لا يخفى.
فإذا وجد الإنسان شيئاً من ذلك فلا يطيع هواه، ولكن يجاهد نفسه.
هذا هو الحد الذي يمكن أن يقع من المؤمن، لكن عليه أن يطرده من قلبه، ويحب لأخيه الخير، ولا يقع في تمني زوال نعمة الله سبحانه وتعالى عليه.
إذاً: الحسد حرام على المؤمن، وستأتي الأدلة أيضاً مفصلة في ذلك، بل من العلماء من عده من كبائر القلب، وكبائر القلب أشد وأخطر وأعظم من كبائر الجوارح، فيحرم الحسد على المؤمن، والنبي صلى الله عليه وسلم نفى الإيمان الكامل عن الذي يحسد، فقال: (ولا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد).
فهذا مما يدل على وجوب تنقية المؤمن قلبه من أن يجامع إيمانه الحسد.(92/3)
ذكر الأدلة الواردة في ذم الحسد
وعن أنس رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة، قال: فطلع رجل من الأنصار ينفض لحيته من وضوئه، قد علق نعليه في يده الشمال فسلم، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل، وقاله في اليوم الثالث، فطلع ذلك الرجل، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقال له: إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت).
فأوهمه ربما بنوع من التعريض أنه وقع شيء بينه وبين أبيه عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأنه لأجل ذلك لا يريد أن يبيت في البيت ثلاث ليالٍ، ويريد أن يستأذنه أن يبيت عند هذا الرجل الأنصاري الذي أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه من أهل الجنة، فقال: (إني لا حيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت، فقال: نعم، فبات عنده ثلاث ليالٍ، فلم يره يقوم من الليل شيئاً).
انظر حرص الصحابة رضي الله عنهم على التأسي والتسابق في الخيرات، فأراد أن يعرف بما استحق هذا الرجل أن يكون من أهل الجنة، وأراد أن يراقبه ربما يجتهد في العبادة اجتهاداً منقطع النظير.
(فبات عنده ثلاث ليالٍ، فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه كان إذا انقلب على فراشه ذكر الله تعالى، ولم يقم حتى يقوم لصلاة الفجر، قال: غير أني ما سمعته يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله! لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، فأردت أن أعرف عملك، فلم أرك تعمل عملاً كثيراً، فما الذي بلغ بك ذلك؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت -يعني: ليس لي عمل إلا ما رأيت- فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله: فقلت له: هي التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق).
إذاً: هنا لم يحتقر عمله في هذه اللحظة، لأنه طهر قلبه من الغل والغش والحسد لإخوانه المؤمنين، ولذا قال: (فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: فقلت له: هي التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق) رواه الإمام أحمد بسند صحيح على شرط الشيخين ورواه البزار.(92/4)
حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)
كذلك من النصوص التي تبين تنافي خلق الإيمان مع خلق الحسد: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
فإذاً: نفى الإيمان عن الشخص الذي لا يحب لأخيه مثلما يحب لنفسه من الخير، فما بالك بمن يحب أن يزول الخير عن أخيه المؤمن؟ هل هذا يكون فيه إيمان؟ إذاً: هذا ينافي صفة الإيمان المذكور في هذه الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
وبعض الناس ربما يفهم أنه لا يحب لأخيه إلا ما يحب لنفسه، أي شيء يحبه، يعني: أنه يحب لنفسه أن يكون عنده مثلاً جهاز خبيث مثل الفيديو، فيحمل الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) على هذا، وهذا غير صحيح، ولذلك جاءت رواية أخرى تبين المقصود وهي: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير).(92/5)
حديث: (لا تباغضوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا)
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تحاسدوا) يعني: ولا تتحاسدوا، وهذا نهي عن التحاسد (وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام).
رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود.(92/6)
حديث: (أهل الجنة ثلاثة)
وعن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه مرفوعاً: (وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال) رواه مسلم.
والشاهد منه: قوله صلى الله عليه وسلم: (ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم)، فالحسد لا يمكن أن يجتمع مع الرحمة، ورقة القلب على ذوي القربى والمسلمين، وهذا أيضاً يؤكد أن الإيمان لا يجامع الحسد.(92/7)
حديث: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه) متفق عليه.(92/8)
حديث: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم)
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) متفق عليه.
فهل يمكن أن يتصور أن هؤلاء المؤمنين الذين هم مثلهم كمثل البنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضاً أن من أخلاقهم أن يتحاسدوا أو يتمنى أحدهم زوال نعمة الله عن أخيه؟ هذا لا يتصور أبداً بالمؤمن.(92/9)
حديث: (من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا)
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل) يعني: من مشى في داخل المساجد، أو في الأسواق التي فيها زحام المؤمنين، والنبل: هي السهام، والسهم يطلق على السهم كله، والنبل يطلق على الحديدة المدببة التي تكون في رأس السهم، قال: (من مر في شيء من مساجدنا، أو أسواقنا، ومعه نبل - أي: سهام - فليمسك أو يقبض على نصالها بكفه أن يصيب أحداً من المسلمين منها بشيء) متفق عليه.
فانظر إلى كلام الله العظيم حين قال في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
فيأمرنا بالحرص على مصلحة المسلم، وحمايته من كل سوء، لا بتمني زوال النعمة عنه؛ لأن هذا ينافي الإيمان، وانظر إلى شدة احتياط النبي صلى الله عليه وسلم في حماية المسلمين من الأذى، وقد جاء أيضاً في الحديث الآخر: (نح الأذى عن طريق المسلمين) فهذا النصح لمجرد السهم إذا مشى الإنسان به مكشوفاً، فربما أصاب أحداً من المسلمين في الزحام في المسجد أو في السوق، ولذلك أمره أن يضع يده على نصالها حتى لا يصيب أحداً من المسلمين، فمن أراد أذية المسلمين فليس من أخلاق الإسلام في شيء، ولا من الولاء للمؤمنين في شيء، وآية ذلك ما فعله هؤلاء الروافض عليهم من الله ما يستحقون من أذية المؤمنين والمسلمين في الحرم، وتحطيم وحدة المسلمين بدعوى مظاهرة من أجل الوحدة، وهم أبغض الناس لأهل السنة، يبغضون صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وطاماتهم وضلالاتهم معروفة.
وطالما حذرنا من خطر هؤلاء الذين يحملون أحقاداً متراكمة عبر قرون على أهل الإسلام، ولا يصبرون عن إظهار هذا الحقد بأي صورة من الصور.
والمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتاط لحرمة المسلمين احتياطات عظيمة منها هذا الأدب الذي علمنا إياه في هذا الحديث: (من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل فليمسك أو ليقبض على نصالها بكفه؛ أن يصيب أحداً من المسلمين منها بشيء).(92/10)
حديث: (من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله)
عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم) رواه مسلم.
فهو يبين حرمة المسلم، ووجوب حماية المسلم من أي أذى، خاصة المسلم الذي يستقيم، ويذكر الله غدواً وعشياً كما جاء في هذا الحديث: (من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله) أي: في أمان الله وعهده، وصلاة الصبح تستلزم المحافظة على سائر الصلوات.
فالمقصود: أن الذي يحافظ على الصلوات الخمس يكون في حماية الله، وفي أمان الله، وفي عهد الله، فحذارِ من أذية من هو في جوار الله، واحذروا أن تؤذوا الشخص الذي يصلي صلاة الصبح وما عداها من الصلوات؛ فإنه في ضمان الله، وفي رعاية الله وحمايته.
وقوله: (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء) يعني: لا يؤذي أحد منكم أحداً من هؤلاء الذين هم في جوار الله وحمايته.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) إلى آخر الحديث المتفق عليه.(92/11)
سورة الفلق وما اشتملت عليه من الاستعاذة من كل شر موجود في العالم
وقول الله عز وجل: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] حاسد هنا يعم الجن والإنس، فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، كما حسد إبليس أبانا آدم عليه السلام، وهو عدو لذريته كما قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6]، فكلمة (الحاسد) تعم الجن والإنس كما ذكرنا، يعني: الحاسد من الجن أو الحاسد من الإنس؛ لأن إبليس يحسد بني آدم أو المسلمين على نعمة الإيمان، ولذلك يحرص على أن يضلهم، وعندما يسجد المؤمن سجدة التلاوة يعتزل الشيطان يبكي، ويقول: أمر ابن آدم بالسجود فسجد، وأمرت بالسجود فلم أسجد، فيحقد الشيطان ويحسد ابن آدم، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:27].
إذاً: الشيطان حقود على آدم وذريته، حسود لهم يتمنى زوال نعمة الإيمان عنهم، ليكونوا شركاءه في النار، لكن الحاسد يعم الجن والإنس، فالحاسد قد يكون من الجن أو من الإنس كما بينا، أما الوسواس فهو أخص بالجن، فالذي يقدر على الوسوسة هم شياطين الجن، والحسد أخص بشياطين الإنس، أما الوسواس فيعمهما، كما قال الله عز وجل في آخر السورة: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] إلى {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:6].
يعني: أن الوسواس يكون من الجن ومن الناس، لكن الجن أخص بصفة الوسوسة، وكذلك الحسد يكون من الجن والإنس، لكن الإنس أخص بالحسد، فكلا الشيطانين حاسد موسوس، والاستعاذة من شر الحاسد تتناولهما جميعاً، وهذه السورة اشتملت على الاستعاذة من كل شر موجود في العالم، فتضمنت شروراً أربعة يستعاذ منها: شراً عاماً، وهو قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2]، أي: من شر خلق الله سبحانه وتعالى.
ثم شراً خاصاً، وهو قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] فهذان نوعان.(92/12)
أنواع الحاسد في سورة الفلق
ثم ذكر شر الساحر والحاسد، وهما نوعان؛ لأنهما يصدران من النفس الشريرة: النوع الأول: الساحر، وهو يستعين بالشيطان ويعبده، وقلما يتأتى السحر بدون نوع عبادة للشيطان، وتقرب إليه، فالساحر لابد أن يقع في شرك يتقرب به إلى الشيطان، إما بأن يذبح للشيطان أو يذبح ويذكر اسم الشيطان فيكون ذبحه لغير الله، وغير ذلك من أنواع الشرك والفسوق، والساحر لا يسمي هذا الفعل عبادة للشيطان، لكنه في الحقيقة عبادة للشيطان، وإن سماه بما سماه به، فإن الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه، لا لاسمه ولفظه.
فلو أن هناك شخصاً سجد لمخلوق، وقال: هذا ليس بسجود للمخلوق، ولكنه خضوع وتقبيل للأرض بالجبهة، فنقول: سمه ما شئت، سمه إكراماً، سمه محبة للصالحين، فهو عبادة لغير الله سبحانه وتعالى، فمهما سمى واستعمل من الألفاظ، فإنه لم يخرج بهذه الألفاظ عن كونه عابداً لغير الله سبحانه وتعالى، فمن سجد لغير الله، فليسم سجوده هذا ما شاء، فهو عبادة لغير الله سبحانه وتعالى، وكذلك من ذبح للشيطان أو دعا الشيطان، أو استعاذ به، أو تقرب إليه بما يحب فقد عبد الشيطان مع الله سبحانه وتعالى، حتى ولو لم يسم ذلك عبادة.
وقد يسميه استخداماً للجن أو غيره، لكن الشيطان في الحقيقة هو الذي يستخدمه ويوقعه في الكفر المبين.
وكما بينا أن هذا الشيطان في الحقيقة هو الذي يستخدمه، وليس هو الذي يستخدم الشيطان؛ لأن الشيطان لا يفعل به كما يفعل هو بالشيطان، فالشيطان لا يسجد له، ولا يعبده كما يفعل الساحر للشيطان، فالمقصود أن هذا الفعل عبادة للشيطان، وإن سماه استخداماً، قال الله عز وجل: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60].
وقال عز وجل: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41]، فهؤلاء وأشباههم عباد الجن والشياطين، وهم أولياؤهم في الدنيا والآخرة، ولبئس المولى ولبئس العشير.
النوع الثاني: من يعينه الشيطان، وإن لم يستعن به، وهو الحاسد؛ لأنه نائبه وخليفته، فالحاسد نائب وخليفة الشيطان، والمتخلق بخلق الشيطان؛ وكل منهما عدو نعم الله، ومنغصها على عباده.
وقد اقترن السحر بالحسد، كما في هذه السورة: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:4 - 5].
فهذا يشير إلى وجود علاقة بين كل من السحر والحسد، وأقل ما يكون من هذه العلاقة هو أن لكليهما تأثيراً خفياً، فتأثير الساحر بالسحر يكون تأثيراً خفياً، وكذلك الحسد، مع الاشتراك في عموم الضرر، فهذا ضار، وهذا ضار، وهذا خفي، وهذا خفي، فكلاهما إيقاع ضرر في خفاء، وكلاهما منهي عنه.(92/13)
حكمة اقتران السحر بالحسد
قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله في معرض بيان حكمة اقتران السحر بالحسد: الوسواس أخص بشياطين الجن، والحسد أخص بشياطين الإنس، والوسواس يعمهما كما يأتي في سورة الناس، والحسد يعمهما أيضاً، فكلا الشيطانين من الجن والإنس حاسد موسوس، فالاستعاذة من شر الحاسد تتناولهما جميعاً.
ويقول: أصل الحسد هو بغض نعمة الله على المحسود، وتمني زوالها، فالحاسد عدو نعم الله، هذا الشر هو من نفسه وطبعها، ليس شيئاً اكتسبه من غيرها، يعني: أن الحاسد لا يزاول أعمالاً معينة خارجة كالساحر مثلاً، وإنما يكون خبيث النفس، ولو نلاحظ عنوان الكلام الآن لرأينا بعض الفروق بين الحسد وبين السحر، وبعض أوجه الاتفاق أيضاً بينهما.
يقول: شر الحاسد يكون أصلاً خلقاً راسخاً في نفسه، ومن طبعه، لم يكتسبه من غيره، بل هو من خبثها وشرها، بخلاف السحر فإنه يكون باصطفاء أمور أخرى، واستعانة بالأرواح الشيطانية، فلهذا -والله أعلم- قرنت السورة بين شر الحاسد وشر الساحر، فالحسد والسحر يأتيان من شياطين الإنس والجن، وبقي قسم ينفرد به شياطين الجن، وهو الوسوسة في القلب، ولذلك ذكرها في السورة الأخيرة وهي سورة: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ).
فالحاسد والساحر يؤذيان المسحور والمحسود بلا عمل منه، بل هو أذى من أمر خارج عنه، بخلاف الوسوسة، فالإنسان مكلف بمجاهدة الوسوسة، ولذلك أفردها بصورة مستقلة، لكن السحر والحسد يكون الإنسان فيهما مظلوماً.
يقول: والوسواس إنما يؤذي العبد من داخل، بواسطة مساكنته له، وقبوله منه؛ لهذا يعاقب العبد على الشر الذي يؤذيه به الشيطان من الوساوس التي تقترن بها الأفعال والعزم الجازم؛ لأن ذلك بسعيه، وإرادته، بخلاف شر الحاسد والساحر فإنه لا يعاقب عليه.
يقول: كثيراً ما يجتمع في القرآن السحر والحسد -هو يريد المناسبة بين الأمرين- فاليهود أسحر الناس وأحسدهم، فإنهم لشدة خبثهم فيهم من السحر والحسد ما ليس في غيرهم، قال الله عز وجل في وصف اليهود: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، وهذه كلها من الشرور التي خلقها الله.
ولابد -ونحن نتكلم على هذه الشرور- أن نستصحب هذا المعنى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] بل نستصحب أيضاً وصية الرسول صلى الله عليه وسلم ل ابن عباس رضي الله عنهما، وإلا وقعنا في الشرك، فإذا ظننا أن الإنسان يقدر على الضرر الحقيقي بنفسه، فهذا شرك، فإن الضرر لا يكون إلا بإذن الله مثل ضرر المرض، وهكذا أي نوع من الشرور التي تؤذي الإنسان، فهذا من البلاء الذي يبتلى العبد به ما لم يكن تفريطاً منه، قال عليه الصلاة والسلام: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
إذاً: لابد أن نكون على حذر -حتى لا نقع في شرك- أن نظن أن الغير أو العباد يملكون ضراً أو نفعاً بأنفسهم، وإنما يكون بإذن الله الكوني القدري، فالله لا يحب هذه الشرور، لكنها تكون بمشيئته، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30].
فهذا وصف اليهود بأنهم كانوا سحرة، أما وصفهم بالحسد فمثل قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] وقوله عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109].
لهذا كلما كان الساحر أكثر وأخبث وأشد معاداة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم كان سحره أقوى وأنفذ؛ ومن ذلك سحر عباد الأصنام، وطبعاً أول ما نتذكر عباد الأصنام نتذكر خيلاء المصريين، فمعروف أنهم كانوا بارعين في هذا النوع من الكفر؛ لأنهم كانوا مغرقين في عبادة الأصنام، والشرك بالله سبحانه وتعالى، ومعاداة رسله، فلهذا كان لهم من السحر ما ليس لغيرهم أيضاً.
فكلما قويت عبادة الشيطان والوثنية في قوم قوي فيهم تأثير سحرهم.
فالمقصود: أن الساحر والحاسد كل منهما قصده الشر، لكن الحاسد بطبعه ونفسه، وبغضه للمحسود، والشيطان يقترن به ويعينه ويزين له حسده، ويأمره بموجبه، أما الساحر فبعلمه وكسبه، وشركه واستعانته بالشيطان.(92/14)
الفروق بين الحسد والسحر
نستطيع أن نجمل خلاصة الفروق بين الحسد والسحر في الآتي: الفرق الأول: الحسد شر كامن في نفس الحاسد وطبعه، فهو ليس شيئاً اتخذه من غيره، بل هو من خبث نفسه وشرها.
أما السحر فيكون باكتساب أمور أخرى، كالنفث في العقد وهذه الأشياء، والاستعانة بأرواح الشياطين.
الفرق الثاني: الحاسد تعينه الشياطين بلا استدعاء منه لهم؛ لأن الحاسد شبيه بإبليس، فهو حسد آدم عليه السلام لشرفه وفضله، والحاسد في الحقيقة من أتباع الشيطان؛ لأنه يخدم ما يحبه الشيطان، والشيطان يحب فساد الناس، ويحب زوال النعم عنهم، والحاسد نائب الشيطان وخليفته.
الفرق الثالث: الساحر يطلب من الشيطان أن يعينه، والحاسد يعينه الشيطان بدون طلب واستدعاء، أما الساحر فيطلب من الشيطان أن يعينه، فيستعين به وربما يعبده من دون الله وربما يسجد له! ليقضي له حاجته.(92/15)
تعريف الحسد وبيان حقيقته
ما هو تعريف الحسد؟ الحسد كالسحر يتعذر تعريفه منطقياً لخفائه؛ لأنه شيء خفي، بل الحسد أشد خفاءً من السحر؛ لأن الحسد عمل نفسي، وأثر قلبي، وقد قيل في محاولة تعريف حقيقته: إنه إشعاع غير مرئي، ينتقل من قلب الحاسد إلى المحسود عند تحركه بقلبه على المحسود، وقد شبه حسد الحاسد بالنار.
ومعروف أن الحسد هو: تمني زوال نعمة الغير، هذا تعريفه من ناحية الواقع.
أما من حيث حقيقة تأثير الحسد كيف تتم؟ فيقول بعض العلماء: إنه إشعاع كأي نوع من الإشعاعات التي لا تراها، لكن في الحقيقة هي موجودة لا ينكر وجودها، فمثلاً: أشعة إكس -التي تفعل للعظام- تنفذ من الأجسام، فيستعينون بها في تشخيص بعض الأمراض، فهذه الأشعة نحن لا نراها، لكن نؤمن بوجودها، والذي ينكر الحسد لأنه لا يرى بالحواس الخمس، نقول له: لماذا يؤمن بأمور الغيب كأمور الآخرة وهذه الأشياء؟ فأين الإيمان بالغيب في هذه أيضاً؟ لكن من حيث الحقيقة نحن ندرك شيئاً اسمه حسد واقع في الحقيقة، ويثبته الشرع، وهو موجود واقعاً وتجربة، وهذا أمر مستفيض في الناس، أعني وقوع أثر هذه النفوس الخبيثة كما سيأتي إن شاء الله.
فقالوا: إنه إشعاع غير مرئي، لكن لا نجزم ما هي كيفيته بالضبط، وقد حاول بعض العلماء تعريف الحسد فقالوا: إنه إشعاع غير مرئي ينتقل من عين الحاسد، أو يأتي من روح الحاسد، ونفسه الخبيثة التي تحسد إلى المحسود، وننسب الحسد إلى العين لأن العين هي الوسيلة التي يرى بها نعم الله على العباد، فينتقل هذا الشعور من قلب الحاسد إلى المحسود في حالة معينة عند تحرق قلبه على المحسود، وعند اشتعال نار الحقد والغضب على نعمة الله سبحانه وتعالى على هذا المحسود، فيؤثر بإذن الله في هذا المحسود، ولذلك شبهوه بالنار، كما قال بعضهم: اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله وقال بعض الحاسدين بعدما تاب من الحسد: كنت إذا حسدت رجلاً أجد حرارة في عيني.
يعني: كأن عينه تشتعل فيها حرارة من شدة تغيظه على نعمة الله على خلقه.
وقالوا: الحسد هو: اسم يقع على إرادة زوال النعم عن الغير، وحلولها فيه، أو إرادة عدم حصول النعمة للغير شحاً عليه بها.(92/16)
أنواع الحسد
والحسد نوعان: إما حسد على نعمة موجودة، أو على نعمة مفقودة، فيحسد الحاسد على نعمة موجودة، وذلك بأنه إذا رأى نعمة الله على بعض عباده يتمنى أن تزول، ثم يشترط الحاسد: إما أن يتمنى أن تزول عنه لتتحول إليه هو، أو يتمنى أن تزول عنه وتتحول إلى غيره، أو يتمنى زوالها فقط غير أن يتمناها لنفسه ولا لغيره، فهذه بعض أقسام الحسد.
كذلك الحسد يطلق على إرادة عدم حصول النعمة، كاستصحاب البلاء، والمرض، والفقر لغيره، فيشفق أن تصيبه نعمة، وكأنه يملك خزائن الله سبحانه وتعالى! كما قال عز وجل: {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء:100].
لهذا يقولون: البخيل هو: الذي يبخل بمال نفسه، والشحيح هو: الذي يبخل بمال غيره، قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37].
فيشفق على خزائن الناس، وكأنه تؤخذ هذه النعم من خزائنه هو، فيشح بها على الناس، وهذه النفس من أخبث النفوس، كما سنبين إن شاء الله تعالى.
فالغضب يثمر الحقد، والحقد يثمر الحسد، والحسد يثمر غضب الله سبحانه وتعالى على الحاسد.
يقول بعض العلماء: الغضب شعلة نار مستكنة في طي الفؤاد، استكانت استكانة الجمر تحت الرماد، فالنار عندما تكون ساكنه تحت الرماد يكون الظاهر رماداً لكن في داخله نار، فكذلك الغضب هو شعلة نار لديها استعداد أن تتوهج إذا زاد الغضب عند الإنسان، وهذه الشعلة يستخرجها الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد، كاستخراج الحجر النار من الحديد.
فمن استفزته نار الغضب فقد قويت فيه قرابة الشيطان، أي: من اشتعلت فيه نار الغضب، وخرجت من تحت الرماد أصبح عنده نسق قوي بينه وبين الشيطان، وصلة قرابة؛ لأنه خلق من نار، كما قال عز وجل حاكياً عن الشيطان: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12].
ومن نتائج الغضب: الحقد والحسد، وبهما هلك من هلك، وفسد من فسد، والذي يعلن فيضان الغضب أو الحقد أو الحسد هو القلب، فالقلب مضغة إذا صلحت صلح معها سائر الجسد.
إذاً: ينبع الحقد والحسد من القلب، قال تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح:26] وحمية الجاهلية تصدر عن الغضب للباطل، وقال صلى الله عليه وسلم لمن استنصحه وكرر عليه النصيحة، قال له كل مرة: (لا تغضب! لا تغضب! لا تغضب!) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة -أي: الذي يصرع الناس ويغلبهم- ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) رواه مسلم.
فالغضب يثمر الحقد، والحقد يثمر الحسد؛ لأن الإنسان إذا امتلأ قلبه حقداً على غيره، فهذا الامتلاء يدعو إلى التشفي والانتقام، والتشفي والانتقام يكون عن طريق الحسد، وبعض الناس لا يكفيه الحسد، فإذا عجز عن أن يتشفى بنفسه ولم يؤثر حسده في المحسود أحب أن يتشفى منه الزمان، وأن تأتيه المصائب، وهذه هي عين الشماتة.
فالغضب يلزمه عادة قصد من الإنسان، فإن عجز فإنه يرجع إلى نفسه ويشتد في الاحتقان، فيصير حقداً، والحقد فيه أن يستلزم قلبه استثقاله، والبغض له، والنفار منه، وأن يدوم ذلك، ومن ثمرات الحقد أنه يحمل صاحبه على تمني زوال النعمة عن الشخص، فيغتم بنعمة إن أصابها، ويسر بمصيبة إن نزلت به، فهذا هو الحسد.(92/17)
الحسد كالروح لا تعرف ماهيته
وأما بالنسبة لحقيقة الحسد فهو كالروح نفسها لا تعرف ماهيتها، وكذلك الحسد لا تعرف ماهيته.
يعني: أن الإنسان الذي ينكر الغيبيات التي لا يراها بحواسه نقول له: ما سر حياته؟ وما الفرق بين جثة الإنسان وهو حي، وبين نفس الجثة فيها نفس الحواس وصاحبها ميت بعد لحظات؟ ليس إلا الروح.
وهناك فرق بين الإنسان العاقل وبين الحيوان غير العاقل، فأين العقل؟ وهل نرى العقل؟ ونحن نؤمن بوجوده، فهناك فرق بين الإنسان والحيوان، وهو العقل، وفرق بين الميت والحي وهو الروح، فهذه لا ننكر وجودها، لكن ما هي؟ لا ندري، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، وقد ذكرنا الأمثلة بهذه الأشعة، فهي غير مرئية، لكن نؤمن بها لأننا نرى آثارها، فلا معنى لإنكار شيء بحجة عدم رؤيته.(92/18)
كيفية انتقال الضرر من الحاسد إلى المحسود
من أقوى الأدلة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] كلمة: ((إِذَا حَسَدَ)) إثبات أن هناك حقيقة لهذا الشر.
فبعض الكتاب يذهب إلى أن الحسد: أن تتمنى زوال النعمة، ويجب أن يترتب عليها أذية باليد، وباللسان، وبالجوارح، لكن مذهب أهل السنة في هذه المسألة: أن يؤمن الإنسان بوجود الحسد حتى ولو لم يتعد إلى الأذية باليد أو البدن أو الجوارح، وإنما يؤمن بوجوده في القلب وفي النفس الخبيثة، كما بين ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عند كلامه على قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:4 - 5] وذكر أن تحقق الشر منه يكون عند صدور الحسد، والقرآن ليس فيه لفظة مهملة، واللفظة المهملة هي: التي لا معنى وراءها، ومعلوم أن الحاسد لا يسمى حاسداً إلا إذا قام به الحسد، كما تقول: هذا رجل ضارب، لمن قام به الضرب، وشاتم، لمن قام به الشتم، وكذلك حاسد تقال لمن قام به فعل الحسد، ولكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد، وهو غافل عن المحسود لاهٍ عنه، فإذا خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه، فوجهت إليه سهام الحسد من قلبه، فتأذى المحسود بمجرد ذلك، وهذا شيء لا يقع تحت الحواس، لكن الواقع يشهد له.
فإن لم يستعذ الإنسان بالله ويتحصن به، وتكون له أوراد من الأذكار والدعوات، والتوجه إلى الله، والإقبال عليه بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله وإلا ناله شر الحاسد ولابد.
إذاً: الحسد سبب في وقوع الشر، وربما لا يقع تأثيره إذا وجدت موانع في الشخص، والمناعة تكون بالذكر بالتحصن بالأدعية والأذكار، وقوة الإيمان، فمن فعل ذلك فلا يناله هذا الشر، وإلا وقع فريسة له ولابد.
وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5]، هذا بيان لمعنى شر الحاسد؛ لأن شره إنما يتحقق إذا حصل منه الحسد بالفعل.
وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (أن جبريل كان يرقي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك)، فهذه استعاذة من شر عين الحاسد، ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها، يعني: عينه كجارحة لا تؤثر، بل الذي يؤثر هو نفسه وروحه الخبيثة، إذ لو نظر الحاسد إلى المحسود نظر لاهٍ ساهٍ غافل عنه، ولم يقصده، ولم يوجه نفسه الخبيثة إليه كما ينظر إلى الأرض أو إلى الجبل وغيره، فإنه لن يؤثر فيه شيئاً.
وإنما إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة، كأن يحصل نوع من التفاعل في نفسه الخبيثة، واتسمت واحتدت واشتعلت فيها نار الحسد، فصارت نفساً غضبية خبيثة حاسدة أثرت بها تلك النظرة، فأثرت في المحسود تأثيراً بحسب صفة ضعفه، وقوة نفس الحاسد، والغلبة تكون حسب قوة هذا وضعف ذاك، فربما أعطبه وأهلكه كما سنرى في الأحاديث، وهذا بمنزلة من صوب سهماً -يعني: وجه سهماً- نحو رجل عريان فأصاب منه مقتلاً، لكن لو أن هذا الرجل كان قد ارتدى درعاً سابغاً فلن يخترقه السهم، فهذا الدرع يحميه من هذا السهم، وهذا الدرع في قضيتنا هو الذكر والقرب من الله سبحانه وتعالى.
وربما صرعه وأمرضه، والتجارب عند الخاصة والعامة بهذا أكثر من أن تذكر، فهذه العين إنما يكون تأثيرها بواسطة النفس والروح الخبيثة، وليس العين نفسها، وهي في ذلك بمنزلة الحية التي إنما يؤثر سمها إذا عضت واحتدت، فإنها تتكيف بكيفية الغضب والخبث، فتحدث فيها تلك الكيفية من السم، فتؤثر في الملسوع إلى آخره.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نوعين من الحيات فقال: (اقتلوهما، فإنهما يطمسان البصر، ويسقطان الحبل).
يعني: تأثير هاتين الحيتين بمجرد رؤية الإنسان إليهما فقط، فقد يطمسان بصره، ويسقطان الحبل، فالحمل يسقط بالرؤية فقط، وليس بممارسة مادية.
إذاً: هذا تأثير النفس الخبيثة لهذه الحية، فإذا كان هذا في الحيات، فما الظن في النفوس الشريرة الغضبية الحاسدة إذا تكيفت بكيفيتها الغضبية، واتسمت وتوجهت إلى المحسود بكيفيتها؟! يقول ابن القيم: فلله كم من قتيل! وكم من سليب! وكم من معافى عاد مضنىً على فراشه يقول طبيبه: لا أعلم داءه ما هو! فصدق.
يعني: أن هذا الطبيب صادق؛ لأن هذا داء ليس من علم الطبائع، ولا يدخل في يد الطب هنا؛ لأنه شيء حسي واضح، وهذا من علم الأرواح وصفاتها وكيفياتها، ومعرفة تأثيراتها في الأجسام والطبائع، وانفعال الأجسام عنها، وهذا علم لا يعرفه إلا الخواص من الناس، والمحجوبون ينكرونه.
يقول: وهل الأجسام إلا كالخشب الملقى.
يعني: أن الجسد نفسه عبارة عن إنسان بروح وجسد، في قوانين تحكم الجسد، وهذه متروكة للأطباء، وأهل العلوم المادية، وهناك أشياء تحكمها المعرفة بالأرواح وبهذه الأمور الغيبية.
يقول: هل الانفعال والتأثير -حدوث ما يحدث عنها -من الأفعال العجيبة والآثار الغريبة إلا من الأرواح؟ يعني: هل الجسد نفسه يؤثر بشيء؟ فتخيل نفس الجسد وهو ميت ماذا يكون تأثيره؟ والأجسام عبارة عن آلة بمنزلة آلة الصانع، لكن المؤثر يكون الروح.
فالصنعة في الحقيقة له، والآلات وسائط لوصول أثره إلى الصنع.
يقول: ومن له أدنى فطنة وتأمل أحوال العالم، ولطفت روحه، وشاهد أحوال الأرواح وتأثيرها، وتحريكها الأجسام، وانفعالها عنها يرى من ذلك آيات عظيمة على ربوبية الله، ووحدانيته سبحانه وتعالى، ويوقن أن ثمَّ عالماً آخر تجري عليه أحكام أخر، تشهد آثارها وأسبابها غيب عن الأبصار، فتبارك الله رب العالمين، وأحسن الخالقين الذي أتقن ما صنع، وأحسن كل شيء خلقه.
ولا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح، بل هو أعظم وأوسع، وعجائبه أبهر، وآياته أعجب.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: تأمل هذا الهيكل الإنساني إذا فارقته الروح، كيف يصير بمنزلة الخشبة، أو القطعة من اللحم، فأين ذهبت تلك العلوم والمعارف والعقل، وتلك الصنائع الغريبة، وتلك الأفعال العجيبة، وتلك الأفكار والتدبيرات؟ ذهبت كلها مع الروح، وبقي الهيكل سواء هو والتراب، هذه حقيقة ندركها جميعاً.
فهل يخاطبك الإنسان أو يراك، أو يحبك أو يواليك، أو يعاديك، ويخف عليك ويثقل إلا بالروح؟ فإنك تجد بعض الناس فتشعر أنه خفيف، وتجد بعض الناس كأنه جبل فوق رأسك وهذا بتأثير الروح، فهذا شيء لا يخضع للقوانين المادية الحسية، لكن هذا عالم آخر له قوانين أخر، فالإنسان يؤنسك ويوحشك، وذلك بالأمر الذي وراء الهيكل المشاهد بالبصر، فرب رجل عظيم الهيولى، كبير الجثة، خفيف على قلبك، حلو عندك، وآخر لطيف الخلقة، صغير الجثة أثقل على قلبك من جبل؛ وما ذاك إلا للطافة روح ذاك وخفتها وحلاوتها، وكثافة هذا وغلظ روحه، ومرارتها.
وبالجملة فالعلق -العلائق- والوصل التي بين الأشخاص والمنافرات والبعد إنما هي للأرواح أصلاً، وللأشباح -للأجسام- تبعاً.
هذا كلام ابن القيم في إثبات تأثير الأرواح الخبيثة بالخير أو بالشر.
وقال أيضاً في موضع آخر: لا يمكن لعاقل أن ينكر تأثير الأرواح في الأجسام فإنه أمر مشاهد محسوس، لو تثائب رجل بحضرتك ربما تثاءبت أنت، وربما تثاءب جميع الجالسين.
يعني: هل هناك وصلة مادية معينة بين هذه الأجسام جعلتها تنقل إليها التثاؤب بهذه الطريقة؟ ليس إلا من تأثير نفس الكسلان، فحين تجالس الكسول ينتقل إليك هذا الكسل، فإذا تثاءب تجد نفسك ترغب أيضاً في أن تتثاءب، فهل هناك سلك نراه يوصل، أو أي وصلة مادية حسية أثرت هذا التأثير؟ هذا هو تأثير الأرواح على بعضها البعض.
ويقول أيضاً: أنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحي منه، ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه إليه.
يعني: فهل توجد وصلات مادية هي التي أثرت ذلك، أم أنه تأثير الروح؟ والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية، بل التأثير قد يكون بالاتصال بفعل مباشر، فمثلاً: شخص خنق شخصاً هذا يؤثر باتصال مباشر بمباشرة الأذية، وتارة بالمقابلة، فيتأثر بمجرد أن يقابله وجهاً لوجه، وتارة بالرؤية، وتارة بتوجه الروح بنحو تؤثر فيه، وتارة يأتي التأثير بالرقى، والتعويذ، والأدعية.
فالعائن الحاسد لا يتوقف تأثير عينه على أن يرى الشيء الذي يحسده، فرب أعمى يوصف له الشيء فيحسده ويؤثر فيه، وإن لم يره، وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤيا.
انتهى كلام الإمام ابن القيم في إثبات حقيقة الحسد بمعناه.
يقول القرطبي: لا شبهة في تأثيره -أي: الحسد- في النفوس والأموال، وهذا قول عامة الأمة، ومذهب أهل السنة، وأنكره قوم مبتدعة، وهم محجوجون بما يشاهد منه في الوجود.
فكم من رجل أدخلته العين القبر، وكم من جمل أدخلته القدر، لكن ذلك بمشيئة الله سبحانه وتعالى.(92/19)
الآيات التي ورد فيها ذكر الحسد لفظاً أو معنى
والحسد ورد في القرآن وفي السنة، أما القرآن فوردت مادة حسد خمس مرات، فالموضع الأول: قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54]، والمقصود من قوله: ((أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ)) يعني: بل أيحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله، أي: من نعمة الوحي، كما ذكرنا أن قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران:173] عام أريد به خاص، وهو نعيم بن مسعود الأشجعي.
الموضع الثاني: قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109].
الموضع الثالث: قوله تعالى حاكياً عن المنافقين: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} [الفتح:15].
الموضع الرابع: قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ} [الفلق:5].
الموضوع الخامس: قوله تعالى: {إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5].
فهذا من حيث اللفظ، أما من حيث المعنى فورد في آيات اختلف في تفسيرها، لكنها على بعض الأوجه تفيد إثبات الحسد، ومن ذلك قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، فهذا حسد أيضاً على نعمة الإسلام.
وقوله تعالى: ((وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ))، هذا أيضاً تمني زوال النعمة عن المؤمنين.
وفي قصة يوسف قال عز وجل: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف:8 - 9] إلى آخر الآية.
ومنها قوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم:51]، أي: يحسدونك، ويعينوك بأبصارهم {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم:51].
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران:120]، فهذه شماتة، والحسد والشماتة يتلازمان.
وكذلك من الآيات التي لها تعلق بالحسد: الآيات التي تنهى عن الحسد، مثل قوله تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32].
وقال عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة:213]، قالوا في تفسير قوله: ((بَغْيًا بَيْنَهُمْ)) يعني: حسداً.
وقال عز وجل: ((وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)) إلى قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا} [البقرة:90] أي: حسداً {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:90] ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:31 - 32].
ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] قال بعض أهل التفسير: أراد من الجن إبليس، والإنس قابيل؛ لأن إبليس هو أول من سن الكفر، وقابيل أول من سن القتل، وإنما كان أصل ذلك كله الحسد، فإبليس حسد آدم، وقابيل حسد أخاه هابيل، ولهذا يقال: الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، يعني: معصية إبليس، وأول ذنب عصي الله به في الأرض، وهو حسد قابيل لـ هابيل.
وأثنى الله على المؤمنين بترك الحسد فقال عز وجل: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر:9] أي: لا تغيض صدورهم من نعمة الله على إخوانهم، ولا يغتمون، فأثنى عليهم لعدم اتصافهم بالحسد.(92/20)
الأحاديث الواردة في إثبات الحسد
ونختم بالأحاديث التي تثبت الحسد وكلها أحاديث صحيحة، ومنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سيصيب أمتي داء الأمم، فقالوا: يا رسول الله! وما داء الأمم؟ قال: الأشر والبطر، والتكاثر والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد؛ حتى يكون البغي).
وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة، أما إني لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (العين حق) رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم، يعني: أن الضرر الحاصل عن العين وجودي أكثري لا ينكره إلا معاند، فأمر العين مجرب محسوس، وهذا هو المقصود بقوله: (العين حق).
وقال صلى الله عليه وسلم: (العين حق تستنزل الحالق) حديث حسن.
والمقصود: أن الإصابة بالعين من جملة ما تحقق كونه ووجوده، وقوله: (تستنزل الحالق) أي: الجبل العالي.
وقال صلى الله عليه وسلم: (العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا) فهذا ضرب المثل بما لا يقع؛ لأنه لا يسبق القدر شيء، فقوله: (ولو كان شيء سابق القدر) هذا مبالغة في التمثيل في تحقيق إصابة العين، يعني: كان شيء سابق القدر في إفناء شيء وزواله قبل أجله وأوانه المقدر، لسبقته العين، لكن العين لا تسبق القدر، وهذا مجرد مثل؛ حتى يبين حقيقة هذه الإصابة، وهذا الشر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا) هذا الخطاب لمن يتهم بالعين، وسيأتي ذلك -إن شاء الله- في علاج الحسد والكلام فيه.
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (العين تدخل الرجل القبر، والجمل القدر).
أي: يبلغ من تأثيرها أحياناً أنها قد تقتل الرجل فيدفن في القبر، بسبب هذا الحسد، يعني: إذا أصابت العين الجمل مات، أو أشرف على الموت فيذبحه مالكه، ليدركه قبل أن يموت، فيطبخ في القدر، فالمقصود: أنه يكون مصيره القدر في الحالة التي يطبخ فيها بسبب العين.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتولع الرجل بإذن الله)، وكما قلنا: هذا شر كسائر الشرور في الدنيا، مثل المرض، والسحر، ومثل أي نوع من أنواع الشرور التي تقع بإذن الله بأسباب تؤدي إليها وموانع تمنعها.
يقول صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتولع الرجل بإذن الله حتى يصعد حالقاً ثم يتردى منه) والحالق هو: الجبل العالي، ويتردى منه بفعل العين.
وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله! إن ولد جعفر تسرع إليهم العين، أفأسترقي لهم؟ -يعني: أرقيهم؟ - فقال: نعم، فإنه لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استعيذوا بالله من العين، فإن العين حق).
وعن أم سلمة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة-يعني: تغير وسواد- فقال: استرقوا لها فإن بها النظرة) يعني: أصابتها عين.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت صبي يبكي فقال: ما لصبيكم هذا يبكي؟! فهلا استرقيتم له من العين؟).
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استعينوا على إنجاح الحوائج -يعني: الفوائد من جلب نفع أو دفع ضرر- بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود).
فإن قيل: ما هي العلاقة بين هذا وبين قول الله عز وجل: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]؟ ف
الجواب
العلاقة أن الأمر بالكتمان هذا قبل حدوث النعمة، أو يتحدث بها إذا أمن الحسد.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين) حسنه الحافظ.
وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة، فإن العين حق).
وهذا الحديث فيه فائدة وهي: أن الإنسان ربما يحسد نفسه، وربما يحسد من لا يقصد أذيته من ماله أو ولده أو أخيه، فإذا رأى الإنسان ما يعجبه من نفسه أو ماله أو ولده أو إخوانه فليدع بالبركة (فإن العين حق) كما قال صلى الله عليه وسلم، فتقول إذا أعجبك شيء سواءً النفس أو المال أو الأولاد أو الإخوان: اللهم بارك فيه ولا تضره، فهذه رقية تمنع تأثير هذه العين، وكان في رقية جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك).
فهذه بعض الأحاديث التي وردت في إثبات الحسد من القرآن والسنة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(92/21)
أمتي لا تنحرف [1]
جاء الشرع الحنيف بالحث على الاستكثار من الذرية، والحث على تربيتها التربية الصالحة، فرغب في الزواج بالودود الولود؛ لما في ذلك من تحقيق هذا المطلب العظيم، وقد أدرك أعداء الإسلام أن كثرة المسلمين فيها عز للإسلام وأهله، فسعوا بكل الوسائل إلى تقليل نسل المسلمين؛ لإضعافهم والسيطرة عليهم بسهولة، في الوقت الذي يدعون فيه أبناء جنسهم إلى الإكثار من الإنجاب.
ومن المؤسف اغترار كثير من المسلمين بهذه الدعاوى المضللة، فيجب الحذر من هذه الدعاوى والتحذير منها.(93/1)
دعوى تحديد النسل والترويج لها في بلاد المسلمين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عند افتتاح الكلام -كما علّمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- بعبارة: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه الكلمة نقولها أحياناً ونحن نفقد معناها! فينبغي عند دراسة أي قضية أو أي موضوع أن نستحضر هذه العبارة العظيمة: (خير الهُدى) أو (خير الهَدي) هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حتى نحسن الرجوع إلى حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وينبغي أن نتخلص ابتداءً من كل ما وصل إلى قلوبنا وأسماعنا وأبصارنا من آثار دعاية الذين لا يبالون بحكم الشرع، ولا يرفعون به رأساً، اللهم إلا إذا وافق أهوائهم! وكذلك -حتى يكون البحث منصفاً وعلمياً- يجب أن نتحرر من الضغوط الواقعة التي نعيشها، والتي تلحّ على عقولنا كي تنحصر في مجرىً معين أُريدَ لها أن تنحصر فيه، فينبغي أن نفكر بحرية مطلقة عن قيود هذه الأزمات الطاحنة التي نعيشها جميعاً، ونبحث أولاً عن حكم الشرع، ثم ننظر بعد ذلك في الاستثناءات، أو ما يتغير حسب الأحوال، مثل: تنظيم الأسرة، أو تنظيم النسل، أو ضبط النسل، أو تحديد النسل، وكلها ألفاظ شبه مترادفة، ومؤداها كلها: (تقليل النسل) كما يقصد الذين يكتبون فيها، والذين يقومون بالعمل في تنفيذها والدعاية لها وترويجها؛ حيث يرددون أن النسل يتزايد ويتكاثر، وقد ضاقت الموارد الطبيعية، وأصبح ما تنتجه تلك الموارد لا يتكافأ مع الزيادة المستمرة في السكان بنسبة عالية! فالحل هو وقف ذلك النمو المتزايد في نظر القوم، وذلك بجعل النسل على قدر ما يجيء من الموارد الطبيعية، ذلك قولهم بأفواههم، وتلك مقالاتهم بأقلامهم، وتشارك في هذه الحملة للترويج لهذه الدعوى الكنسية جمعيات أُنشئت أصلاً لأغراض خيرية وبعض الرعايات الاجتماعية، وأصبحت توزع حبوب منع الحمل.
ووسائل تقليل النسل تلاقي اهتماماً ودعاية صحفية على كل الأصعدة، سواء على منبر الإذاعة، أو التلفاز، أو الصحف؛ بدعوى قلة الموارد وتزايد السكان، وباسم جواز ذلك شرعاً، ولو أنهم تكلموا في هذه القضية بغير اسم الشرع لكان الأمر أهون، أما أن يتحكموا في الشرع بدل أن يتحاكموا إليه فهذا ما لا ينبغي.
ففي إطار الكتاب والسنة نبحث هذه القضية، ونبحث عن حكم الشرع فيها، ونتأمل سوياً هذه الحقيقة وهذا المعنى القرآني الذي جعله الله عز وجل أحد مقاصد البعثة المحمدية بقوله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
فهذه هي سبيل المجرمين الذين يريدون بنا الشرّ، ويريدون أن يحطموا مقومات القوة في الأمة الإسلامية، فهل لهذا الموضوع صلة بقضية كشف سبيل المجرمين؟ نحن لا نستطيع أن ننكر أن هذا العصر هو عصر الدعاية وعصر الإعلام، حيث إن حفنة قليلة من الإعلاميين تتلون عقائدهم وأفكارهم بألوان شتى، لكنهم من خلال هذه المواقع الحساسة يستطيعون أن يصبغوا الأمور بالصبغة التي يريدون، وأن يلبسوا الحق بالباطل، ولهم في ذلك أساليب كثيرة لا نستطيع أن نتوسع الآن في ذكرها، لكن نشير إشارة عابرة إلى أنهم يدندنون دائماً حول أن الحل الوحيد لقلة الموارد هو (تحديد النسل).
وهذا ليس هو الحل الوحيد، بل هناك حلول كثيرة واقعية، وهناك ثروات كامنة وعظيمة جداً سواء في بلادنا أو غيرها من بلاد المسلمين، ثم هم يتحكمون بطريقة التأثير على الناس عن طريق الأفلام أو التمثيليات أو القصص، وهذا يرجع إلى الخلفية الفكرية للشخص الذي يكتب هذه القصة، ويقوم على أمرها؛ لأنه يريد أن يخدم هدفاً معيناً، فهو يؤلف ويخترع، ويكذب ويختلق قصة معينة، مؤداها أن يصل إلى نتيجة معينة، وهي أن يبغّض الناس في الأولاد، وأن يفسد فيهم هذه الفطرة التي فطرهم الله عليها من حب الذرية، وحب الأبناء، وحب الكثرة العددية للذرية.
وسنفصل في كثير من القضايا، سواء قضية تعدد الزوجات، أو قضية تحديد النسل، أو التشنيع على أحكام الإسلام في الطلاق، فهو يؤلف قصة معينة، ويستطيع أن يكذب كيفما يشاء؛ لأنه ليس عنده خوف من الله، فمثلاً: يؤلف قصة رجل كأنه صاحب لحية، ويصلي في المساجد -بحيث يربطه بالدين بصورة أو بأخرى- ثم يبين أن هذا الرجل فظ غليظ، وربما يظهر أن هذا الرجل في الحقيقة رجل فاجر! ليس كما يظهر، وهو يعامل نساءه وبناته بغلظة، وجفاء وجهل، إلى آخر هذه الأشياء المكذوبة! فهو الذي يرسم هذه الصورة من مخيلته، لكن المشاهد أو المستمع أو القارئ يكون -غالباً- مستسلماً للجهاز أو لهذه المشاهد فلا يفكر في المقاومة، ويأخذ الأمر بدون مبالاة، وكأنه نوع من التسلية، وما أُخذ بدون مبالاة يكون تأثيره أشد مما يؤخذ بمبالاة! ومع التراكم تستقر العقيدة الجديدة في قلوب الناس.
وفي بعض الحالات تجد امرأة -مثلاً- تسأل عن نتيجة التحليل الذي قامت بإجرائه من أجل أن تعرف هل هي حامل أم لا؟ فتجد أن هذه المرأة إذا علمت أنها حملت فكأن مصيبة كبرى وقعت بها؛ نتيجة لما حصل من الفساد في الفطرة والانحراف فيها تجاه هذه المسلَّمة الفطرية.
ومما يعتمدون عليه أيضاً: التهويل، فيذكرون أن سنة كذا سيحصل كذا، وبعد ثلاثين سنة لن يبقى كذا، وهذا كله تهويل.
وجاءتهم هذه الساعة التي أهدتها إليهم الجهات الاستعمارية حتى ترن فوق رءوسهم، وتنبههم أن كل دقيقة أو كل ساعة ولد كذا مولود في مصر! حتى تخفف هذه الرهبة من قوة المسلمين العددية؛ لذا جاءوا بمسألة التهويل بالإحصائيات والتوقعات الكاذبة، وماذا يقوله الباحثون المغرضون منهم، كل هذه من الأساليب الخبيثة التي كثيراً ما خيبتها وقائع التاريخ في أمثلة كثيرة.(93/2)
المنظم الحقيقي للنسل البشري
وقبل أن نستمر في الموضوع نسأل: من هو المنظم الحقيقي للنسل البشري؟!
الجواب
أمر النسل البشري متعلق بفعل من أفعال الربوبية، فالله تبارك وتعالى هو المنظم الحقيقي لأمور هذا الكون، وهو المدبر ولا مدبر غيره تبارك وتعالى، فكما أنه هو الذي خلق فهو الذي يرزق، سواء الأكل والطعام والشراب، أو رزق الذرية وما إلى ذلك.
والله سبحانه وتعالى أوحى إلى عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وأوحى إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم قوله: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر:19] وقوله تبارك وتعالى في سورة الشورى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى:5049 - ].
ولو فرضنا أن هذا الأمر وُكِل إلى الناس لصار الفساد العريض في هذه الأرض.
إذاً: فالأمر لا يأتي بطريقة عشوائية، بل وراءه إرادة مدبرة، وقوة قاهرة، هي قوة الله تبارك وتعالى، فمن ذا الذي يستطيع أن ينظم هذا النسل في كل بقاع الأرض بتلك الطريقة المحكمة التي يقضي بها الله تبارك وتعالى؟! وقد زين لبعض الناس سوء عمله، فاقترح في يوم من الأيام أنه يجب معاقبة من يزيد على ثلاثة أولاد بحرمان الرابع ومن بعده من الرعاية الصحية والاجتماعية! وحرمانه من التعليم! إلى غير ذلك من هذا التهويل.
فنقول لهم: هوّنوا على أنفسكم، فلستم أنتم الذين تقومون بأمر هذا العالم، فإن الذي خلق هو الذي رزق، وكما نؤمن أنه لا خالق إلا الله، فنؤمن أيضاً أنه لا رازق إلا الله تبارك وتعالى.(93/3)
حقائق يغفلها من يدعو إلى تحديد النسل
وهؤلاء الذين يتحمسون لقضية تحديد النسل يغفلون أو يخبئون على الناس حقائق كثيرة، مثل: أنه بجانب معدل المواليد هناك معدل وفيات، فالناس لا يؤبدون على هذه الأرض، وإنما هناك في المقابل نقص من الجهة الأخرى يتم بطريقة لا ينظمها إلا الله تبارك وتعالى، وهي وجود معدل وفيات مقابل معدل المواليد، فالأرحام تدفع من جهة، والأرض تبلع من جهة أخرى، ففي الأمر صادر ووارد، وليس كما يصورون للناس.
أيضاً من الحقائق العلمية: أن أمر النسل والإنجاب مهما ترك طليقاً على وجه الأرض، ومهما تهيأت له الحوافز والمرغبات في تكثيره، فإنه يظل واقفاً دون مرحلة الخطر الذي يهولون به، فالذين ينجبون من مجموع أي جيل، وتنمو ذريتهم، لا يزيدون في أحسن الأحوال الطبيعية على نصف هذا الجيل، فلو اعتبرنا الجيل خمسة وعشرين سنة، فلو افترضنا أن في خلال خمسة وعشرين سنة تكون جيل من الأجيال، فسنجد أن هذا الجيل ليس كله يتناسل أو يتوالد؛ لأن هناك عوامل مختلفة ترجع في جملتها إلى تقدير العزيز الحكيم الذي ينسق أمر هذه الخليقة، ويخضع لسننه دفعات الواصلين والواردين فوق هذا الكوكب الأرضي، لحساب متناسق دقيق لا يعلم سره العظيم إلا هو.
ولو أن الإنسان أمعن النظر في سير الأجيال المتعاقبة، فسيجد أن كل جيل إنما يتكون من ذرية جزء ضئيل من الجيل الذي قبله؛ لأن جزءاً من الجيل الحالي يقدر -حسب ما قاله العلماء- بين الُخمسين والثلثين يهلك قبل الزواج، والباقون -وهم الذين قدّر لهم البقاء- ومقدارهم بين ثلاثة أخماس وثُلث يتزوجون، ثم من هؤلاء الذين يتزوجون سُبع أو ثُلث يهلك دون أن ينجب أولاداً، فالذين ينجبون لا يزيد مقدارهم في أحسن الأحوال على النصف من هذا الجيل، ثم هذه الذرية تخرج إلى الدنيا بقدرات متفاوتة، وملكات مختلفة، وأعمار محجوبة في علم الله عز وجل.
وإذا نظرنا إلى هذا الأمر نظرة سطحية فسنجد أنه ربما يخضع لعوامل عشوائية لا تستهدف غاية، ولا تستند إلى حساب، لكن الأمر في حقيقته يدل على أن هذا مظهر دقيق من مظاهر التنسيق الظلي الذي أقامه الله تبارك وتعالى بين دفعات الوافدين والراحلين عن هذه الأرض، بل ومظهر دقيق لتوزيع الخبرات والملكات في المجتمعات الإنسانية.
ووقائع التاريخ والأمم تبين أن هناك نتيجة معاكسة لما يهول به دائماً دعاة تحريف النهج.
فمن ذلك مثلاً: اليابان التي لا تصل مساحتها ربع مساحة باكستان، ومع ذلك فإن 83% من مجموع مساحة اليابان لا يمكن استغلالها؛ لأن فيها سلاسل جبال النار، والمساحة الصالحة للاستغلال 8% فقط من مجموع مساحة اليابان!! ومع ذلك فقد حافظت اليابان على عدد سكانها الذين يزيدون على عدد سكان باكستان زيادة كبيرة! وارتفعت بنهضتها الاقتصادية إلى حيث تمكنت من منافسة الأسواق الأمريكية والأوروبية حتى في عقر دارها! ولم يعقها عن ذلك تكاثف سكانها، وضيق رقعتها، بل عكس ذلك هو الصحيح، فمن المعلوم أن طوكيو من أشد مدن العالم ازدحاماً.
ونفس الشيء حصل بالنسبة لألمانيا وإنجلترا أيضاً، حتى إنه في يوم من الأيام لما ازداد عدد سكان إنجلترا في أواخر القرن الثامن عشر إلى أواخر القرن التاسع عشر انشغل المفكرون، وخافوا خوفاً شديداً، فقالوا: أيّ أرض يمكن أن تتسع لهذا العدد الضخم من السكان؟! فلم تلبث الدنيا إلا يسيراً حتى رأت بأم عينها أن السرعة التي ازدادت بها وسائل إنجلترا للرزق والعيش والإزدهار أكبر بعدّة أمثال من السرعة التي زاد بها عدد السكان! وتفسحت سبل العيش بصورة كبيرة جداً أمام الشعب البريطاني.
وهذا رجل يدعى: (استير وليم كركس) رئيس الجمعية البريطانية، أنذر الناس بالويل والثبور سنة (1898م) حيث قال متحدياً: إن إنجلترا وسائر البلاد المتحضرة في الدنيا تواجه خطر الجدب وقلة القمح، وإن وسائل البقاء لن تسير مع حاجاتها أكثر من ثلاثين سنة! غير أن الذين رزقوا البقاء إلى مدة ثلاثين سنة بعد ذلك رأوا أن الدنيا ما نزلت بها نازلة كالتي كان قد أنذر بها رئيس الجمعية البريطانية، رغم التزايد الشديد للسكان، بل زادت محاصيل القمح خلال هذه السنين زيادة هددت السوق بالكساد حتى إن الأرجنتين وأمريكا أحرقتا لأجل ذلك كميات وافرة من قمحهما.
وتعتبر سويسرا بلدة فقيرة من حيث الموارد الطبيعية، فالمفروض أنها بمقاييس هؤلاء لا تستوعب عدداً كبيراً من السكان، فليس فيها فحم ولا مناجم حديد، ولا أي معادن، وليست على البحر، وقسم كبير جداً من أراضيها جبلي، ولا جدوى منه في الإنتاج، ومع ذلك بلغت كثافة سكانها (136) نسمة في الكيلو المتر المربع.
وبالنسبة لمصر، فإن معدل التوزيع السكاني على مساحة مصر: لكل كيلو متر مربع شخص واحد من الشعب المصري، أي: كل فرد له كيلو متر مربع!! ولو أجرينا هذا التوزيع السكاني على جميع أنحاء البلاد الإسلامية، فستتغير المقاييس بصورة أقوى؛ بسبب وجود المصادر الوفيرة لهذا الرزق.(93/4)
تحديد النسل بين مقاصد الشريعة وآراء العقلانيين
هناك أمر مهم جداً نحتاج إليه ونحن ندرس هذه المسألة، وهو أننا كثيراً ما نردد عبارة: المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، فإذا تأملنا جميع ما احتوته الشريعة الإسلامية من أحكام، وافترضنا أن هذه الشريعة عبارة عن نهر عظيم، يصب في هذا النهر عدة ينابيع، وهذه الينابيع تتصرف إلى ستة ينابيع، وهذه الينابيع الستة بعد ذلك تتفرع فروعاً أصغر كما يحصل بالنسبة لشجرة الجزر، فهذه هي الفروع أو المصالح الخمسة الضرورية لبقاء أي أمة، والأمة الإسلامية مأمورة بحفظ ستة أشياء أساسية ضرورية: حفظ الدين، والنسل، والنفس، والعرض، والمال، والعقل.
فإذا تأملت أي حكم من أحكام الشريعة الإسلامية فستجد أنه لن يخرج عن حفظ أحد هذه المقاصد الستة، ولو تأملنا كل أحكام الشريعة لوجدنا أنها تصب في حفظ الدين، فمثلاً: قتل المرتد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والتحريض على الدعوة إلى الله عز وجل، كل هذه الأحكام تصب في المحافظة على دين المسلمين، وكذلك النسل، فإن كثيراً من الأحكام إنما شرعت لأجل حفظ النسل والعرض.
وأحياناً نجد بعض الأحكام قد تبدو لأول وهلة في نظر الناس أنها أشياء يسيرة، لكنا نجدها باجتماعها إلى أسباب أخرى تؤدي في النهاية إلى حفظ عرض المسلمين، فمثلاً: مسألة تحريم كل ما يؤدي إلى الفاحشة، كتحريم الخلوة، وتحريم الاختلاط، وتحريم سفر المرأة بدون محرم، وغير ذلك تجد أن هذه الأحكام كلها تصب في قضية مهمة، وهي المحافظة على العرض.
وكذلك المحافظة على العقل، فتحريم المسكرات، وتحريم كل ما يذهب عقل الإنسان، هذه كلها تصب في هذا الجانب.
وكذلك الحفاظ على المال.
ومما يلحق بذلك ما نحن بصدده الآن من هذه المقاصد الستة: المحافظة على النسل، فإنه من المقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية.
وفي بعض الدول إذا حاولت بعض الحركات أو الأحزاب عمل انقلابات على الحكومة، أو الطعن في نظمها، فإن فاعل ذلك يحاكم؛ لأنه يتآمر من أجل تغيير النواة الأساسية للمجتمع، أو الأهداف الأساسية للأمة، وهي عندهم جريمة كبرى، وهذا كذلك بالنسبة للمسلمين الذين دينهم هو جنسيتهم وعقيدتهم ووطنيتهم، فإن الحفاظ على هذه الأشياء الستة عندهم أمر مقدس، ولا يسمح أبداً أن تسير أي دعوة في اتجاه مضاد لها؛ لضرورة المحافظة على هذه الأصول أو هذه المصالح الست، فلا يمكن أن يسمح أبداً بأي دعوة أو نظام داخل الدولة الإسلامية من شأنه أن يزين ما قبحه الشرع، أو يقبح وينفر مما حرض عليه الشرع، ففي قضية الحفاظ على النسل نجد أن كل أحكام الشريعة الإسلامية وكل نصوص الشرع تحرض على زيادة النسل، وترغب فيه بشتى الوسائل، وتتنوع أساليبها في ذلك تنوعاً كبيراً.
وحينما نتكلم عن النسل فلن نقتصر فقط على الكثرة العددية والتوالد، لكن كلمة (النسل) أو (المحافظة على النسل) في الإسلام لها معان أبعد من ذلك، فإنها لا تقتصر فقط على الزيادة العددية، وإنما تشمل أيضاً الحفاظ على علاقات الترابط، وصلات القربى والأرحام، كالأبوّة، والبنوّة، والأخوّة، والأمومة، والخئولة، والعمومة، فهذه الروابط توجد نوعاً من المصالح والتعاطف والتراحم بين هذه المجموعات التي تنتهي بعائلة صغيرة، ثم العائلة الكبيرة، ثم القبيلة، ثم الشعب، ثم الأمة.
أيضاً: مما شرع من أجل خدمة هذه الأهداف: الترغيب في الزواج، والترغيب في الإكثار من النسل، وقد شرع الله عز وجل عقوبة الزاني وعقوبة القاذف أيضاً من أجل المحافظة على النسل، وتنوعت أساليب القرآن الكريم من أجل الترغيب في زيادة النسل، وكما ذكرنا أن (المحافظة على النسل) أحد المقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية، والتي لا تقبل بأي حال من الأحوال أن يقدح فيها أحد، أو يعارضها، أو ينفر منها، أو يسير في اتجاه يضادها، فإذا أردنا أن نحتكم مع المخالفين فسنقول: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن هذه مسألة يختلف فيها كثير من الناس، والله عز وجل يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59].(93/5)
أساليب القرآن في الترغيب في كثرة النسل
نقول لكل مسلم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، ونحن نعلم بأن المنافقين سوف يصدون عن هذه الدعوة صدوداً، فمن أساليب القرآن الذي أنزله الله عز وجل في الترغيب في كثرة النسل:(93/6)
بيان القرآن أن الأولاد نعمة من الله على عباده
من أساليب القرآن في ذلك أيضاً: بيان أن الأولاد هم هبة الله عز وجل وإحسانه إلى عباده، وهبة الله لاشك أنها تكون خيراً ونعمة، يقول تبارك وتعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا} [الأنعام:84]، ويقول عز وجل حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم:39]؛ لأنه كان يدعو من قبل: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]، وقال الله عز وجل: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19].
وقال عز وجل: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} [الأنبياء:90]، أي: لزكريا، وقال في صفة عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، وقال تبارك وتعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ} [ص:30]، وقال عز وجل: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى:49] فالذرية هبة وإحسان، وليست نقمة، كما أشيع الآن عند كثير من الناس، {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ}، أي: ينوّعهم {ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى:50].
قال البيضاوي في علّة تقديم النساء هنا: لعل تقديم الإناث لأنها أكثر لتكثير الناس.
أي: من الممكن أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة، وليس العكس، وبالتالي يكثر النسل.(93/7)
بيان القرآن أن كثرة النسل سبب البقاء وقلة النسل سبب الفناء
بيّن الله عز وجل في القرآن أن كثرة النسل سبيل للبقاء، وأن تقليل النسل سبب للفناء، وأن الأول نعمة، والثاني نقمة ومحنة، يقول تبارك وتعالى في سياق الامتنان على بني إسرائيل: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة:49].
ثم فصّل وبيّن ما هو سوء العذاب: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49].
يقول رشيد رضا رحمه الله: اصطف المصريون -يعني: الفراعنة- على استغلال الإسرائيليين، فعملوا على انقراضهم بقتل ذكرانهم واستحياء نسائهم، فأمر فرعون القوابل بأن يقتلن كل ذكر لبني إسرائيل عند ولادته؛ لأن من سنة الله في الخلق أن قوام الشعوب والقبائل وحفظ الأجناس إنما يكون بالذكور، فلم تأت هذه بنتيجة، فحينئذٍ أمر بأن يذبح الأبناء الذكور؛ حتى ينقرضوا ويفنوا، ويستحيا النساء؛ حتى يتخذ منهن إماءً يذلهن بالاسترقاق، ويتخذ منهن خادمات.
ثم قال تبارك وتعالى: ((وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)).
وهذه الآية لها تفسيران: التفسير الأول: قد تكون الإشارة إلى (البلاء) بمعنى: الإنجاء، أي: من البلاء الحسن الذي أعطاه الله إياك، فأبلى الله لكم هذا البلاء الحسن، ونجاكم من آل فرعون ومن هذا العذاب، فالمقصود بكلمة: (بلاء) على هذا التفسير: أي: أنه اختبار بالنعمة التي تستوجب الشكر.
التفسير الثاني: أي: في ذلكم التذبيح للذكور والإبقاء على النساء بلاء، أي: محنة واختبار لكم من ربكم عظيم.
ويقول تبارك وتعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127].
هذا كلام قاله فرعون لأنه يعتقد أن موسى إنما يمكنه من الإفساد هم الرهط والشيعة وتكاثر بني إسرائيل، فنحن نسعى في تقليل رهطه وشيعته، وذلك بأن نقتل أبناء بني إسرائيل، ونستحيي نسائهم، قال: (سنقّتل أبنائهم)، و (نقّتل) بصيغة التشديد فيها مبالغة؛ حيث تشير إلى الاستمرار، فكلما تناسلوا كلّما سارع بقتلهم؛ حتى يؤدي ذلك إلى نقصهم وضعفهم وهلاكهم وفنائهم.
وقوله: (ونستحيي نسائهم) أي: لخدمتنا، ونذلهن بالاسترقاق، وقال عز وجل: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص:4].
أي: علا في مصر، (وجعل أهلها شيعاً) حيث قسم أهل مصر إلى طبقتين: سادة، وعبيد، فكان الأقباط هم السادة، وبنو إسرائيل كانوا هم العبيد، {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} [القصص:4] وهم بني إسرائيل، {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، هذا هو الأسلوب الأول الذي سلكه القرآن في بيان نعمة النسل، ونقمة تقليل النسل.(93/8)
بيان القرآن أن الإنجاب أعظم مقصد من مقاصد النكاح
من الأساليب التي ذكرها القرآن: بيان أن الإنجاب وحفظ النوع هو مقصد أعظم من مقاصد النكاح، كما قال تبارك وتعالى: ((فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ))، أي: بعدما منع الرجال أن يقربوا نسائهم في الصيام، ثم نسخ ذلك بالليل فقال تبارك وتعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187]، وهذه كناية عن الوقت، واقصدوا مع ذلك تحصيل الذرية لا محض الشهوة التي تشارككم فيها البهائم، فلا بد أن يستحضر الرجل نية أن يحصل بالنكاح ذرية طيبة وصالحة، فهذا هو المقصود بقوله: (وابتغوا ما كتب الله لكم) أي: من الذرية، فاسلكوا الأسباب حتى تحصلوا بها الذرية.
ويقول تبارك وتعالى في شأن النساء: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ} [البقرة:222 - 223].
فقوله تعالى: (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله)، في الآية دلالة على اجتناب النساء في المحيض؛ لأن هذا ليس وقت الحرث والحمل، إضافة إلى ما يكون في ذلك من الأذى، فهذه الآية تتضمن إشارة إلى أن المحيض لا يكون وقتاً لطلب الولد وطلب الحرث، ولا يتأتى الحمل في أثنائه، وهناك مَثَل في الطب يقول: إن دم الحيض هو الدموع التي يبكيها الرحم بسبب عدم الحمل! وهذا التعبير قريب جداً إلى الفطرة، فهو تشبيه للحيض بأنه دموع الرحم وهو يبكي؛ لعدم حصول الحمل، فكأن هذه هي الفطرة.
يقول الله تبارك وتعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، ثم قال عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة:223] إرشاد إلى ازدراع الذرية فيهن.
والحقيقة أن هذا تعبير دقيق جداً؛ لأن الذي يحصل في نمو الجنين داخل الرحم هو بالضبط مثل الذي يحصل من الزرع في الأرض، فكما أن البذرة تتجه بجذورها إلى داخل التربة، وتتشعب فيها، وتضرب أعماقها! كذلك يحصل لهذا الزرع في جدار الرحم، فهو حرث وزرع كما وصفه الله بمنتهى الدقة بقوله: (نساؤكم حرث لكم) فشبه النطف بالبذور، وشبه الأرحام بالأرض، والثمرة في هذه الحالة تكون هي الولد.
وقوله: (فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم)، يقول مفتي مصر الدكتور سيّد طنطاوي في التفسير الوسيط: وفي هذه الجملة الكريمة إشعار بأن المقصد الأول من الزواج إنما هو النسل، ويشير إلى ذلك قوله: (نساؤكم حرث لكم) إذ من شأن الحرث الصلاح للإنتاج، وقوله تعالى: (وقدموا لأنفسكم) أي: أقصدوا بالزواج ما تقدمونه لمستقبلكم مما ينفعكم في الدنيا والآخرة، وأنفع شيء هو الولد الصالح.(93/9)
أساليب السنة النبوية في الترغيب في كثرة النسل
كذلك سلكت السنة المطهرة نفس المسلك القرآني في الترغيب في زيادة النسل والمحافظة عليه، والتنفير عما يضاده.(93/10)
التنبيه إلى أن طلب الولد من أعظم مقاصد النكاح
ذكرنا آنفاً في القضاء والقدر أن الله يعلم كل شيء، فهو يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما قال عليه السلام: (والذي نفس محمد بيده! لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون) وقال صلى الله عليه وآله وسلم لـ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لمّا تزوج: (إذا قدمت فالكيس الكيس) أي: يرشده إلى طلب الولد، وقد حثّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تزوج الولود، كما جاء عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بالباءة، وينهى عن التبتل نهياً شديداً ويقول: تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة).
فيا ليت أصحاب مكاتب أسرة المستقبل المظلم إذا استمروا على هذا الحال يعلقون هذا الحديث بدل أن يكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (جاهدوا البلاء)، فكيف تعتبرون مثل هذه الأحاديث المكذوبة التي لا أصل لها وتخفون مثل هذه النصوص المشرقة التي تنطق بكذبكم في دعواكم؟! يقول عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) فهذا الحديث لا يحتمل التأويل، ويُعرف متى تكون المرأة ولوداً إذا كانت بكراً بالنظر في أقاربها، مثل أمها وقرابتها، وإذا كانت ثيباً فتعرف إذا كانت أنجبت من قبل أم لا.
أيضاً: بيّن صلى الله عليه وآله وسلم أن الولد قرة عين والديه، وأنه نعمة كبرى يجب شكرها، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم للنساء: (إياكن وكفران المنعمين! قالت إحداهن: أعوذ بالله يا نبي الله من كفران الله.
قال: بلى، إن إحداكن تطول أيمتها).
أي: تطول فترة مكثها عند أبيها؛ لتأخرها في الزواج، قال: (إن إحداكن تطول أيمتها، ويطول تعنيسها، ثم يزوجها الله البعل ويفيدها الولد وقرة العين، ثم تغضب الغضبة -أي: من زوجها- فتقسم بالله ما رأت منه ساعة خير قط! فذلك كفران نعم الله عز وجل، وذلك من كفران المنعمين).
الشاهد هنا قوله: (ويفيدها الولد وقرة العين) في سياق الامتنان عليها بهذه النعمة.
وقد رغّب السلف في كثرة الولد والإنجاب بنيّة أخرى قد يعجب لها الذين لا يفقهون التجارة مع الله عز وجل والعمل الصالح، قال عليه الصلاة والسلام: (صغارهم دعاميص الجنة، يتلقى أحدهم أباه على باب الجنة، فيأخذ بصنفة إزاره كما آخذُ بصنفة إزارك هذا فلا ينتهي حتى يدخل الجنة).
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21]، فصغار المسلمين دعاميص الجنة، والدعموص: الحيوان الصغير أبو ذنيبة يكون في الماء، وهي الزوارب الصغيرة التي تتحرك كثيراً في الماء، وتملأ أحواض الماء أحياناً.
فيأتي أحدهم يوم القيامة، ويقف على باب الجنة، حتى إذا جاء أبوه يأخذ بصنفة إزاره، أي: طرف ثوبه، ويمسك به فيجرّه، فلا ينتهي حتى يدخله الجنة، فكان بعض السلف يستدلون بهذا على استحباب الزواج لتحصيل الأولاد عسى أن ينال أحدهم هذا الثواب؛ ففي ذلك خير عظيم.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعلّم النساء، فقال: (ما من امرأة قدمت من ولدها ثلاثة إلا كانوا لها حجاباً من النار) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فقالت امرأة: (واثنين؟ قال: واثنين).
فالشاهد: أن المرأة إذا مات في حياتها ثلاثة من ولدها وصبرت على ذلك فهؤلاء الثلاثة يكونون حجاباً لها من النار، ويكونون حجاباً للوالد أيضاً، فهذا كله مما يتفطن إليه الذين يفقهون كيف يتاجرون مع الله عز وجل بالعمل الصالح، ومن ينوي أن يأتي بأولاد لعل بعضهم يموت في حياته، فإنه سينال هذا الأجر العظيم في الآخرة إن شاء الله.(93/11)
الحث على التزوج والإنجاب
قال صلى الله عليه وآله وسلم: (وأهل النار خمسة)، فذكر منهم: (الضعيف الذي لا زبر له -أي: لا عقل له- الذين هم فيكم تبع لا يبغون أهلاً ولا مالاً) فهو ضعيف ليس له همة، ولا يريد أن يتحمل المسئولية، فكونهم لا يبغون أهلاً ولا مالا هذا ضعف منهم، كما جاء عن بعض السلف -ولعلّه عمر رضي الله عنه- أنه قال لبعض من لم يتزوج: (ما يمنعك من الزواج إلا عجز أو فجور).
فهو من أجل أن يحض الرجل على التزوج خاطبه بهذا الكلام.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (لو لم يبق للأجل إلا عشرة أيام أعلم أني أموت بعدها ولي طَول النكاح فيهن لتزوجت مخافة الفتنة).
وجاء عن أنس رضي الله عنه في حديث الرهط الثلاثة الذين أتوا بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا بها كأنهم تقالّوها، وقالوا: (وأينّا مثل رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فإنه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: وأما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فغضب لهذه المقالات، وقال كلمته المشهورة: (إني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
فانظر إلى الشدة مع غير أهل المعاصي، فإنه كان يعامل أهل المعاصي بلطف ورحمة وترفق، أما أهل البدع الذين يسنون طرقاً محدثة فكان ينكر عليهم عليه الصلاة والسلام أشد الإنكار.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء).
وعن سعيد بن جبير رحمه الله قال: قالي لي ابن عباس رضي الله عنهما قبل أن يخرج وجهي -أي: قبل أن تنبت لحيته-: (هل تزوجت؟ فقلت: لا.
قال: تزوج؛ فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء).
رواه البخاري.
فهذه المحاورة كانت في مقتبل عمره، وفي قول ابن عباس: (خير هذه الأمة) يحتمل أمرين: الأول: أنه يقصد خير إنسان في هذه الأمة، وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام تزوج وأكثر من النساء، وكأنما قيّد بكلمة: (هذه الأمة) إشارة إلى أن هذا الظل يشمل سائر الأمة، حيث أبيح له عليه الصلاة والسلام أن يزيد على أربع، وقيد بهذا القيد: (خير هذه الأمة) لأن من الأمم السابقة من الأنبياء من تزوج أكثر من ذلك، كداود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، كما جاء عن سليمان عليه السلام أنه قال: (لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله) فانظر إلى النية؛ وهذه الأمة أمة مجاهدة، خلقت لتطلب الموت كما يطلب أعداؤها الحياة، فهي أمة ينبغي أن تكون دائماً في حالة استنفار وفي حالة خروج إلى الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، فقال: (لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو على تسع وتسعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله.
فقال له صاحبه: قل إن شاء الله.
فلم يقل: إن شاء الله، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده! لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون) رواه البخاري.(93/12)
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل والاختصاء
نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التبتل والاختصاء، فعن سعد رضي الله عنه قال: (أراد عثمان بن مظعون رضي الله عنه أن يتبتّل -أي: يمتنع من الزواج ويتفرغ للعبادة- فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو أجاز له ذلك لاختصينا).
رواه مسلم.
قال ابن مظعون أيضاً في رواية أخرى: (يا رسول الله! ائذن لي في الاختصاء.
فقال: إن الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحاء).
وعن عبد الله رضي الله عنه قال: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لنا شيء) أي: ليس لنا ما نتزوج به (فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك) رواه البخاري.
فبين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن العلاج بأن يبادر كل إنسان إلى النكاح، فإن عجز عن الباءة فليبادر إلى الصيام والأخذ بأسباب تقليل الشهوة، أما الجنوح في مثل هذا العناء الذي نلقاه إلى الاختصاء وتغيير خلق الله، فهذا مجرد انفعال بظروف مؤقتة سرعان ما تزول، فلنلتزم بقول الله عز وجل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33].
والاختصاء فيه تعذيب للنفس، وفيه إبطال لمعنى الرجولية، وفيه تغيير لخلق الله، وفيه الكفر بنعمة الرجولة، وفيه اختيار النقص على الكمال، وفيه أيضاً قطع النسل، ولهذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ودخل سعد بن هشام على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقال: إني أريد أن أسألك عن التبتل، فما ترين فيه؟ قالت: فلا تفعل، أما سمعت الله عز وجل يقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38]؟ وفي رواية أنها قالت له: لا تفعل، أما تقرأ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]؟ فقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ولد له.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا صرورة في الإسلام).
قيل: الصرورة: هو الشخص الذي وجد سعة وقدرة على الحج ولم يحج.
فلا يحتمل أن يكون في المسلمين رجل يقدر على الحج ثم يقصّر في ذلك، فهذا الفعل لا ينبغي أن يكون من المسلمين.
الاحتمال الثاني: أن المقصود بالصرورة: الرجل القادر على مؤن النكاح ولم يتزوج، لا لعذر ولكن كرهبانية النصارى، فيكون معناه: لا تبتّل في الإسلام.(93/13)
حال الصحابة في الاستكثار من الأولاد
الدعوة الصريحة إلى كثرة النسل معروفة في السنة المطهرة، وكذلك في سير الصحابة رضي الله عنهم، فعن أنس رضي الله عنه قال: (قالت أمي: يا رسول الله! خادمك أنس، ادع الله له؟ فقال: اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته)، رواه البخاري.
فبورك لـ أنس رضي الله عنه في ولده حتى رأى مائة ولد من صلبه قبل أن يموت.
وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أيضاً رأى مائة من صلبه قبل أن يموت، وكما دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـ أبي طلحة لما مات ابنه، فقال له: (لعل الله يبارك لكما في ليلتكما، فقال رجل من الأنصار: فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن)، رواه البخاري ومسلم.
وعن أسماء رضي الله عنها: (أنها حملت بـ عبد الله بن الزبير بمكة، قالت: فخرجت وأنا متمّ -أي: على وشك الولادة- فأتيت المدينة، فنزلت قباء، فولدت بقباء، ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعته، ثم دعا بتمرة، فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حنكه بالتمرة، ثم دعا له فبرّك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام -أي: بعد الهجرة- ففرحوا به فرحاً شديداً) أي: فرح جميع المسلمين في المدينة به فرحاً شديداً؛ لأن عدد الموحدين زاد واحداً، وعدد جنود الله زاد جندياً، ولو أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أرادت التحديد في النسل، ولم تنجب عبد الله بن الزبير، فكم كان سيفقد التاريخ الإسلامي تلك الأمجاد التي أسسها عبد الله بن الزبير؟ وكم كنا سنحرم معشر المسلمين من هذه البركات التي قدّمها ابن الزبير؟ وانظر إلى صلاح الدين الأيوبي أو ابن سامية أو محمد بن عبد الوهاب أو الأئمة الأربعة أو غيرهم من هؤلاء الأعلام والعباقرة الذين تصدروا مجالات الجهاد والعلم والعمل والعبادة وغير ذلك، ولو اتخذت أمهاتهم هذه السبيل الشيطانية الكنسية فكم كانت ستحرم الأمة؟! ونحن نحرم الآن -بسبب هذه السياسة الشيطانية الكنسية- من كثير من العباقرة، لعله يكون في أحدهم مخرج للأمة مما هي فيه من الضياع.
فانظر كيف فرح المسلمون بمولد ابن الزبير وهم لا يعلمون الغيب؟ وإنما كان فرحهم لمولد مسلم موحد، وهو أول مولود ولد بعد الهجرة، فلماذا فرحوا به فرحاً شديداً؟ وما سرّ هذا الفرح؟ لأنه قيل لهم: إن اليهود قد سحرتكم، فلا يولد لكم! رواه البخاري ولأنهم كانوا يعلمون حرص اليهود على تقليل نسل المسلمين، كما يحصل الآن، فالدول الأوروبية والغربية -وبالذات الشيطان أمريكا- تضغط بكل ثقلها حتى تضعف وتنقص عدد المسلمين، وتقلل عدد الموحدين، في نفس الوقت تجد التكثير الهائل لعدد اليهود لعنهم الله، ففي فلسطين المسروقة تجد أنهم يجتمعون من كل أنحاء الأرض: من روسيا من الهند من شتى بقاع الأرض، يجتمعون إلى ما يسمونه (أرض الميعاد) ويسلكون كل وسيلة من أجل تكثير نسلهم، أما عند المسلمين فيكون الأمر بالعكس، كما ترون.
وفي رواية ابن سعد قال: (فلما ولد عبد الله بن الزبير كبر المسلمون تكبيرة واحدة حتى ارتجت المدينة تكبيراً) يعني: لميلاد ابن الزبير رضي الله عنهما.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه: (اللهم زدنا ولا تنقصنا).
وطلب الزيادة يشمل أي زيادة عددية أو نوعية؛ لأن الكثرة التي هي كغثاء السيل لا شأن لها، ولا قيمة لها، وإنما المقصود: أن يكثر النسل ويحصل اهتمام بتربيته وتوعيته وإعداده ليكون جندياً في سبيل الله تبارك وتعالى، فقوله: (اللهم زدنا) أي: زدنا من كل خير، ومن أعظم الخير: الذرية.
وقد بين القرآن أن نقصان الأنفس مصيبة وبلاء، يقول تبارك وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155].
وفسّر بعض العلماء الأنفس: بأنها هي أنفس المقاتلين والمجاهدين، والثمرات فسّروها بأنها: الذرية والأولاد.
والصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم تفاعلوا مع هذه التوجيهات الإلهية والنبوية أعظم التفاعل، وعملوا بها، فكان منهم أولاد كثيرون رضي الله عنهم، فمثلاً: خالد بن الوليد رضي الله عنه كان له عدة زوجات، وأنجب أكثر من أربعين ولداً، منهم: سليمان، وعبد الرحمن، والمهاجر، وهؤلاء هم الذين بقوا من أولاده بعد أن مات من أولاده نحو أربعين في سنة الطاعون بمدينة حمص بالشام.
وكان للأقرع بن حابس عشرة من الولد، بلغوا مبلغ الرجال في حياته، واشتركوا معه في جهاد الروم تحت راية خالد بن الوليد، واستشهدوا جميعاً معه في موقعة اليرموك.
وكان للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عشرة من الولد أيضاً، أصغرهم: تمام، وكان العباس رضي الله عنه يقول: تموا بـ تمام فصاروا عشرة وكان لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه عدة أولاد، منهم: عبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وحفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، وعاصم، وزيد، ورقية من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، فإن علياً رضي الله عنه زوّج ابنته أم كلثوم من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، فتباً للشيعة الذين يُكفّرون أمير المؤمنين عمر، ويزعمون أن العداوة قائمة بين هؤلاء الأصحاب! وكذلك عبد الله بن عمر كان له عدة أولاد بلغوا مبلغ العلم والرواية، منهم: عبد الله، وعبيد الله، وسالم، وبلال، وزيد، وحمزة سوى ما له من الإناث.(93/14)
العزل وحكمه في الشريعة الإسلامية
ونقترب أكثر من الموضوع، ونناقش حكم وسيلة من وسائل منع الحمل كانت معروفة عند الرعيل الأول، والأدلة التي وردت في هذه الوسيلة، ومن المعروف أن الجاهليين في الأصل كانوا يسلكون هذا المسلك في التخلص من الأولاد خوف الفقر بعدّة أساليب، منها: قتل الأولاد بوأدهم، سواء الذكور أو الإناث، فكانوا أحياناً يقتلون الذكور والإناث خوف الفقر.
وأيضاً من الوسائل الأولى التي كانت عندهم ما وصل إليه العصر الحديث من أساليب تحديد النسل، وأغلب من يتكلم في قضية حكم تحديد النسل يتكلم في حكم العزل، على اعتبار أنه كان الوسيلة المتاحة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمنع الحمل.
وعند الكلام عن حكم العزل لا بد أن ننتبه إلى أننا نناقش حكمه بالنسبة للأفراد، ولا نناقش حكمه بالنسبة للأمة في مجموعها، وإلا فالأمة في مجموعها لا يجوز لها الترغيب في تقليل النسل بصورة كلّية، كما تبث لها الأجهزة الإعلامية الآن، حتى تضاد المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، والتي منها: تكثير النسل.
إذاً: فكلامنا عن حكم العزل بالنسبة لآحاد الناس عند حصول ظروف خاصة، فنبين حكم هذه الرخصة على التفصيل الذي نذكره إن شاء الله تعالى، وما عدا ذلك من الوسائل فيقاس على وسيلة العزل، وإن كان العزل في الحقيقة فيه كثير من الأضرار، فإذا وجدت وسيلة ليست فيها هذه الأضرار فتكون أفضل من العزل من باب أولى، ولكن في الواقع أن كل الوسائل تقريباً لها أضرارها ومخاطرها، ولا توجد -بإقرار الأطباء- وسيلة مثالية لتحديد أو منع الحمل مطلقاً؛ لأنه ضد الفطرة.
أما أهم الأحاديث التي وردت في العزل فحديث جابر رضي الله عنه قال: (كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل).
متفق عليه.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أصبنا سبياً فكنا نعزل، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أوَإنكم لتفعلون؟ قالها ثلاثاً، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة).
رواه البخاري ومسلم.
وروى مسلم عن أبي سعيد أيضاً قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بني المصطلق، فسبينا كرائم العرب، فأطالت علينا العزبة، ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل، وقلنا: نفعل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرنا لا نسأله؟! فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا عليكم ألا تفعلوا، ما كتب الله خلق نَسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون).
وروى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل، فقال: (لا عليكم ألا تفعلوا ذاكم، فإنما هو القدر).
وفي الحديث أيضاً: (لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لكان منه الولد، وليخلقن الله نفساً هو خالقها).
وروى مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ولِمَ يفعل ذلك أحدكم؟! -ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم- فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها).
وروى مسلم أيضاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن لي جارية هي خادمنا وسانيتنا -أي: التي تسقي لنا- وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل)، لأنهم كانوا يكرهون حمل الإماء؛ لأنها إذا صارت أم ولد فلا بد أن تبقى معه بقاءً دائماً، وأحياناً ربما فعل الصحابة ذلك خشية أن يقع ضرر بالرضيع إذا حدث الحمل أثناء الرضاعة.
يقول هذا الرجل: (إن لي جارية هي خادمنا وسانيتنا، وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل، فقال: أعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها، فلبث الرجل، ثم أتاه، فقال: إن الجارية قد حملت، فقال: قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها).
وروى مسلم وغيره عن جذامة بنت وهب -أخت عكاشة - حديثاً طويلاً، جاء فيه: أنهم سألوه صلى الله عليه وآله وسلم عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ذلك الوأد الخفي، ذلك الوأد الخفي).
وعن جابر رضي الله عنه قال: كانت لنا جوارٍ وكنا نعزل، فقالت اليهود: إن تلك الموءودة الصغرى، فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: (كذبت اليهود، لو أراد الله خلقه لم تستطع رده).
فعموم هذه الأحاديث ما عدا حديث جذامة بنت وهب يفيد جواز العزل عن المرأة؛ اتقاء الحمل، وإن كانت لا تخلو من الدلالة على كراهة هذا الفعل، فقول جابر في الحديث الأول: (كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنهم يعزلون، وأنه كان يقرهم على ذلك، وإلا فما معنى قوله: (ونحن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)؟ فلو كان حراماً لم يسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا التعبير يعتبره العلماء في حكم الحديث المرفوع حتى ولو لم يضف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع أنه هنا قد أضيف.
وأما الحديث الثاني الذي فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أو إنكم لتفعلون؟)، فهذا يحتمل أنه استنكار على وجه كراهة العزل، ويحتمل أن الاستنكار على وجه التحريم.
كذلك قوله في الحديث الثالث والرابع: (لا عليكم ألا تفعلوا) يحتمل أنه إذن، ويحتمل أنه نهي، فيحتمل أن يكون معنى الجملة: ليس عليكم أن تتركوا ذلك، ويحتمل أن يكون: لا تعزلوا، وعليكم ألا تفعلوا ذلك، إلا أن الحديث الثالث وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (اعزل عنها إن شئت) قد رفع أحد الاحتمالات، فبقيت الجملة الأولى دالة على الكراهة، وأما الجملة الثانية فدلت على الإذن وعدم الحرج.
فهذه سبعة أحاديث من المجموع الذي سردناه تدل على جواز العزل من حيث المبدأ، بقطع النظر عن الإباحة أو الكراهة، والحديث الذي يدل بظاهره على المنع هو حديث جذامة بنت وهب فقط، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سألوه عن العزل: (ذلك الوأد الخفي)، فكيف نوفق بين حديث جذامة هذا وبين الأحاديث الأخرى؟ لقد سلك العلماء في ذلك عدة مسالك، أرجحها ما ذكره الإمام النووي في شرح مسلم حيث قال: ويفهم من كلام الطحاوي في شرح معاني الآثار أن حديث جذامة هذا يحمل النهي فيه على كراهة التنزيه، ويحمل الإذن الوارد في الأحاديث الأخرى على عدم الحرمة، فيكون القدر المشترك في دلالة الأحاديث المختلفة كلها هو كراهة التنزيه.
فهذا هو الترجيح الذي اعتمده النووي والطحاوي كما حكى ذلك عنه وابن حجر، وجماهير الفقهاء والمحدثين.
وقد ضعف بعض العلماء حديث جذامة؛ بسبب كثرة الأحاديث الصحيحة المعارضة له، وبعض العلماء قالوا: إن حديث جذامة مضمونه المنع، وهذا المنع كان معمولاً به، ثم نسخ فيما بعد بالأحاديث الدالة على الجواز.
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله: إن حديث جذامة هو الذي يجب العمل به؛ لثبوته في الصحيح، ولاضطراب طرق الأحاديث الواردة في مقابلته، ولأن حديث جذامة دال على المنع، والأحاديث الأخرى دالة على الإباحة، وعند التعارض يقدم الحاظر على المبيح، وسواء جاء كلام الإمام ابن حزم أو من قبله بدعوى النسخ أولم يجئ؛ فإن ادعاء حصول النسخ بدون توفر شروط النسخ غير مقبول، والله أعلم.
فخلاصة الكلام: أن في هذا الأمر كراهة تنزيه، وأن الأولى عدم فعل العزل، وقد ذهب الأئمة الأربعة بناءً على هذه الأحاديث إلى جواز عزل الرجل ماءه عن زوجته، مع الكراهة التنزيهية، واتفق الإمام مالك وأحمد وأبو حنيفة على أن ذلك مشروط برضا الزوجة، واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من وافق الجمهور في هذا الشرط، ومنهم من خالفه فأجازه بدون ذلك.
وخلاصة الكلام في هذا: أن الأئمة الأربعة متفقون على جواز العزل مع الكراهة التنزيهية عن الزوجة إذا كان ذلك برضاها، فإن لم يكن برضا منها فالأئمة الثلاثة متفقون على التحريم، وللشافعية في ذلك وجهان، رجح الإمام النووي منهما عدم التحريم، وفي الحديث: (نهى أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها) وهذا يقوّي ما ذهب إليه الجمهور من اشتراط رضا الزوجة، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) فللزوجة حق في الولد كما للزوج حق في ذلك، فلا ينبغي له تفويت حقها بدون إذنها، بجانب أن العزل إذا لم يكن بإذنها فإن فيه مضار طبية وصحية، فلا ينبغي أن يكرهها على ذلك.
وأيضاً حتى يباح العزل يشترط ألا يكون فيه ضرر للزوج أو الزوجة، فإذا نشأ عن العزل ضرر بهما أو بأحدهما وعلم ذلك بشهادة طبيب موثوق حرم العزل، سواء توفر رضا الزوجة أم لا؛ إذ الشرع لا يملّك الإنسان اختياراً بصدد الإقدام على ما قد يضره.
أيضاً يدخل في حكم العزل هذا ويقاس عليه كل ما قد يشبهه من الوسائل التي يتخذها الزوجان أو أحدهما لمنع الحمل، كالحبوب التي تستعملها النساء -وغير ذلك مما سنذكره- فإذا اتفق الزوجان على شيء من ذلك ولم يسبب ضرراً بالجسم والنفس بناءً على مشورة طبيب موثوق جاز استعماله مع كراهة التنزيه.(93/15)
الأضرار المترتبة على تناول حبوب منع الحمل
اتضح طبياً أن أضرار حبوب منع الحمل على مختلف أجهزة الجسم كبيرة، ولذلك فهي ليست كالعزل في حصول الضرر، ويمكن التأكد من ذلك بالرجوع لأي مرجع في علم الصيدلة؛ فهناك مراجع حافلة في هذا المجال بكل لغات العالم، وفيها بيان أضرار هذه الوسيلة الخطيرة من وسائل منع الحمل، وأكثر أصابع الاتهام في حالات السرطان عند النساء تشير إلى أن سببها استعمال هذه الأقراص، ومن أراد أن يتاكد فليسأل أي متخصص في أمراض النساء أو الأدوية عن الخطر الكامن وراء هذه الحبوب.
فأول هذه الأشياء: وجود سرطان للمرأة، أو حدوث التهابات أو أمراض الكبد، أو أمراض القلب والكلى والسكر، وأمراض تصلب الشرايين، وحدوث حالات الغثيان والصداع وزيادة الوزن، وذلك بسبب احتجاز نسبة كبيرة من الماء داخل الجسم، حيث تحبس في الجسم نسبة كبيرة من الماء، ولأجل هذا فإن بعض الناس ممن لا يوجد عندهم إيمان ولا خوف من الله ممن يتاجرون بالدواجن يضعون حبوب منع الحمل في طعام وعلف الدواجن؛ لأنها تسبب زيادة الوزن نتيجة انحباس الماء فيها في الخلايا، يفعلون ذلك حتى يزداد وزنها فترد عليهم دريهمات قليلة وهم قد آذوا المسلمين وخانوهم بهذه الخيانة العظمى، فبالتالي هذه الفراخ أو الدواجن يأكلها الرجال، وهذا فيه خطر شديد جداً بالنسبة للرجال، حيث إن أحد الأستاذة المتخصصين في الأمراض التناسلية أعد بحثاً، فقد كانت عنده مزرعة، فلاحظ أن العلف يضيفون إليه حبوب منع الحمل لهذا الغرض المادي، وقد اقترن في بداية انتشار هذه الظاهرة ونزول هذه الفراخ التي تعلف بهذا العلف أنه بدأ يستقبل الحالات كثيرة من الرجال الذين آذتهم أذىً شديداً، فعمل إحصائيات وبحثاً وقدمه إلى منظمة الصحة العالمية، وبين أن هذا شيء خطر على الناس، فرد عليه الموظف بقوله: إنها سياسة دولتكم ولا شأن لنا بها!! الشاهد: أن من أخطار هذه الحبوب أن الرجال أيضاً يتعاطونها، فينبغي أن يتنبه المسلمون من خطر وضع هذه الحبوب في علف الدواجن.
ومن أخطار ومضاعفات هذه الحبوب: تزايد نسبة تجلط الدم في المخ أو في القلب، كما أنها تؤثر أيضاً على وظائف الكبد، وتزيد احتمال حدوث سرطان الرحم، وتؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم، وظهور مرض السكر في الحالات التي عندها استعداد لهذا المرض، وتؤثر على الرضاعة بتقليل كمية اللبن، ويمكن أن تحدث تساقطاً في الشعر وتغييراً في لون الجلد عند بعض النساء، أو حساسية أيضاً عند بعضهن.
ونحتاج أيضاً أن نذكر نصوصاً لبعض أهل الاختصاص في هذه الحبوب، فإننا نلاحظ أنهم يُجمعون على أن لهذه الحبوب آثاراً ضارة مع تفاوت بين بعضها البعض، لكن أخطرها بصفة خاصة: الهرمونات؛ لأن لها أكبر الأثر على صحة المرأة؛ فهي تؤدي إلى اضطراب عام في صحة الجسم، بل تؤثر على نفسية المرأة، حيث تصبح عصبية أو تصيبها بعض الأعراض النفسية.
فهذا الدكتور محمد المنية الأستاذ المساعد بجامعة القاهرة تحدث عن أقراص منع الحمل بين المنفعة والضرر، ثم نصح المريضة التي تتعاطى تلك الأقراص لمدة أكثر من ثلاثة أشهر، وقد حذر من استعمالها كمانع للحمل؛ لما لها من مضاعفات وأضرار على صحة المرأة، وقد أورد بعض الحالات المرضية المعقدة لبعض النساء التي أشرف على علاجهن؛ نتيجة تعاطيهن أقراص منع الحمل.
يقول: وبالرغم من الفوائد الاستثنائية لأقراص منع الحمل، فإنني لا أسمح لواحدة من أسرتي باستعمال هذه الأقراص.
ومن التغرير ما يكتب على الورقة التي تصاحب أقراص منع الحمل، فإنها تكتب بخط صغير جداً؛ حتى لا ينتبه أكثر الناس إلى الأضرار المترتبة على تناول أقراص منع الحمل.
يقول ميك كارمك: رغم الجهود التي تبذل للإشادة بذكر هذه الحبوب والدفاع عن سمعتها فلا يخفى على أهل البصيرة ما فيها من عوامل مضرة بصحة المرأة، وتعطيل الكثير من قواها العقلية والتناسلية، فمن الخيانة الشنيعة القول بأنها غير ضارة بصحة المرأة.
وأثبتت البحوث والدراسات التي أجريت: أن أمراض سرطان الرحم، وتسممات الحمل ونحوها تنتشر بصورة أكبر وأسرع في البيئات التي تأخذ بتنظيم الأسرة، أما البيئات التي لا تأخذ بتنظيم الأسرة، ولا تستعمل الوسائل الصناعية لمنع الحمل، فإن نسبة هذه الأمراض تقلّ فيها، وهذه الحقيقة تعكسها المؤتمرات الطبية لتسممات الحمل وسرطان الرحم والثدي التي عُقدت وما زالت، وقد أثبتت الدراسة والبحث أن تلك الحبوب تزيد من تسممات الحمل، وتؤثر على المرأة، وتعرضها لاضطرابات عصبية ونفسية.(93/16)
اختلاف الحكم الشرعي على تحديد النسل في الحالات الفردية عنه في الحالات العامة
كل الكلام الذي مضى فيما يتعلق بتحديد النسل أو العزل أو غيره من الوسائل، إذا قلنا بجوازه مع الكراهة، وبشرط عدم وجود الضرر، كل ذلك إنما هو رخصة يتمتع بها آحاد الناس، أما تحديد النسل بمعنى تبني نظام عام، يلزم الأمة كلها أن تقف بالنسل عند حد معين، بلا فرق بين من تحتاج إلى ذلك بسبب مرض أو رضاعة، ولا بين ضعيف ولا قوي، بل حتى ولا بين غني وفقير! فلا؛ فهم يشوشون على الناس ويقولون: الفقير لا بد له من تحديد النسل، فنقول: فما بالكم بدعوتكم أيضاً الموجهة إلى الأغنياء والقادرين على النفقة! فكون الأمة كلها برمتها تتجه إلى هذا الاتجاه، فإن هذا سيكون له شأن آخر.
فكل ما سبق ليس له علاقة بالمجتمع كله، من حيث هو هيئة تركيبية يمثلها الحاكم، أو الدولة، فالدولة لا تستطيع أن تفيد شيئاً من أحكام الجواز في هذه المسألة، ولا يحق لها أن تعتمد على هذه الأحكام في أي إجراء تتخذه؛ فإن هذه أحكام خاصة بآحاد الناس، فالدولة ليست هي صاحب العلاقة المباشرة في الموضوع، وليست لها أي سلطة أو ولاية على شيء من أركانه؛ لأن هذه العلاقة خاصة.
فمثلاً: موضوع العزل أو تحديد النسل، هذا شيء خاص بالزوج والزوجة فقط، بالشروط التي أشرنا إليها، لكن الدولة ليس لها أن تتدخل في هذه العلاقة الخاصة، بحيث تحمل أحداً على شيء معين.
ومثال ذلك: الطلاق، فإنه حق أعطاه الشارع للرجل أو لصاحب العلاقة الذي يملك عقد الزواج بشروط وقيود معروفة، وليس للدولة أن تفرض لنفسها صلاحية -مثل حق تطليق المرأة من زوجها- على من تشاء من الناس، أو تجبر أحداً على الطلاق، أو توقع هي الطلاق عندما تجد مصلحة تقتضي ذلك، وحال هذه القضية كقضية تحديد النسل، فهي تعود إلى الشخصين اللذين يمثلان أركان القضية، فليس للحاكم أن يحتج بحالة يريد الشارع فيها للزوجين العمل على تحديد النسل، فيبني عليها دعوة عامة إلى ذلك، ويثير الدوافع والمرغبات، بل يشرع الالزامات الأدبية بالوسائل المختلفة.
ونحتاج إلى تمهيد يسير قبل أن نتم هذه النقطة، وهو: أن المباح في الشريعة نوعان: نوع يتفق مع حكم الأصل، مما ينطوي على فائدة ومصلحة عامة.
مثل: التمتع بالطيبات وتناول المباحات التي لا ضرر فيها، فالإباحة هنا ليست خاصة، وليس خاصاً بالفرد أن يقضي شيء بنفسه، بل يقضي به الحاكم لمجتمعه إذا شاء دون إلزام، إلا في حدود المصلحة العامة.
ونوع آخر من المباحات لا يتفق مع حكم الأصل، بل يشذ عن حكم الأصل والقاعدة والإباحة الأصلية العامة، لكن يدخله حكم الأصل أو الترخيص أو الإباحة، من أجل عارض يتعلق بأشخاص بأعيانهم، فالعزل والإباحة يبقى خطاً في نطاق هؤلاء الأشخاص الذين تعلقت بهم أحوال اقتضت التخفيف في أمر كان في أصله غير مباح، دون أن يتجاوز إلى غيرهم.
فالنكاح -كما سبق- شُرع أصلاً من أجل النسل، فالحكمة: بقاء النوع الإنساني، قال عليه الصلاة والسلام: (تناكحوا، تناسلوا، تكاثروا؛ فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة).
فالسعي إلى إيقاف النسل أو تقليصه مُنافٍ لأصل ما شرع النكاح من أجله، ولكن الشارع الحكيم رخص للزوجين في محاولة جزئية وفردية الحد من النسل؛ نظراً لظهور المصالح الشخصية التي قد تكتنفهما أو تكتنف أحدهما.
أما الحكم العام فقد بقي على أصله، وهو المنع، والحاكم العام هو الأمين على ذلك.
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: اعلم أن المباح ضربان: أحدهما: أن يكون خادماً لأصل ضروري أحادي أو تكميلي.
والثاني: ألا يكون كذلك.
فالأول: قد يراعى من جهة ما هو قابل له، فيكون مطلوباً ومحبوباً فعله، وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب ونحوها مباح في نفسه، وإباحته بالجزء، وهو خادم لأصل ضروري، وهو إقامة الحياة، فهو مأمور به من هذه الجهة، ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب، فالأمر به راجع إلى حلقات الكلية، لا إلى اعتبار جزئي.
والثاني: إما أن يكون خادماً لما ينقض أصلاً من الأصول الثلاثة المعتبرة، أو لا يكون خادماً لشيء كالطلاق، فإنه ترك للحلال الذي هو خادم لكل إقامة النسل في الوجود.
يعني: أن الطلاق ترك للزواج، والزواج هو وسيلة من أجل تكثير النسل، فالطلاق في حد ذاته بالنسبة للمجموع هو مضاف في مصلحة المجموع، لكن هو بالنسبة للشخص الذي أبيح له الطلاق قد يكون ضرورياً؛ فقد لا يستطيع الإنسان أن يعيش مع زوجته، فلمصلحة فردية يباح له الطلاق، لكن لا يباح للمجتمع كله، فلا يصح أن نعمل دعوة قومية إلى الطلاق، ونعمل إعلانات ودعايات في كل مكان، وأن نبشر الناس بهذا وندعوهم ونحرضهم عليه.
وقد يعبر عن هذا المعنى الذي ذكرناه بقول العلماء في بعض القواعد الفقهية: (ليس كل ما هو مشروع للفرد مشروع للجماعة) وهذه القاعدة تتفرع عن قاعدة أهم، وهي: (تصرف الحاكم منوط بالمصلحة) أي: أن الحاكم وكيل عن الأمة في رعاية مصالحها، فعليه ألا يغامر بمصالحها، بل يحتاط في الأمر بالنسبة لها، فالناس كآحاد ممكن أن يغامر الواحد منهم لمصلحته، لكن الحاكم من حيث هو حاكم لابد أن يراعي مصلحة المجموع؛ فما يشرع للفرد قد لا يشرع للجماعة.
مثال ذلك: أن لأي فردٍ من الناس أن يقتدي في صلاته بفاسق إذا شاء ذلك، غير أن الحاكم لا يجوز له أن يعتمد على هذا الحكم بحجة أن الفقهاء قالوا بأنه يجوز أن يُصلى خلف الفاسق.
فيقوم الحاكم بتعيين إمام فاسق للناس، ليس له ذلك لأن الحاكم يقدر على أن يغير، فهو لا يباح له ما يباح لآحاد الناس.
أيضاً: ولي المقتول يملك أن يعدل عن القصاص إلى الدية، لكن الحاكم لا يملك مثل هذا الحق، ولا يستطيع أن يلزم ولي المقتول بمثل هذا.
وحينما يعطي الشرع الزوجين الحق بإيقاف النسل أو يمنعهما منه فإنما ذلك لمصلحة تتعلق بهما، ولأمر عائد إليهما، وقد يكون المجتمع شريكاً لهما في المصلحة بعض الأحيان، فتعميم الدولة حكم الإباحة أو الحظر هجر لمصلحة الأفراد، وتجاوز لواجب الحيطة في رعاية أمر العامة، ولو أن هؤلاء الذين يفتون الحكام بالدعوة إلى تحديد النسل تنبهوا إلى هذه القاعدة لعلموا أنهم مبطلون فيما يفعلون، وأنهم أخذوا حقاً أعطاه الله للأفراد أصحاب العلاقة فملكوه من لا حق له في امتلاكه أو التصرف به.(93/17)
الأسئلة(93/18)
إدراك الركوع إدراك للركعة
السؤال
إذا أدرك المأموم الركوع فهل تحسب له ركعة؟
الجواب
نعم، إذا أدرك المأموم الركوع تحسب له ركعة، فقد صحّ الحديث بذلك في سنن أبي داود من فعل بعض الصحابة رضي الله عنهم حينما دخل مسبوقاً مع آخر فأدركا الناس ركوعاً، فلما سلم الإمام قام الذي مع الصحابي ليتم، فأجلسه وقال: (اجلس فإنك قد أدركت).
وهذا مذهب جمهور العلماء، خلافاً لبعض أهل الحديث الذين تمسكوا بعموم الأحاديث التي فيها اشتراط قراءة فاتحة الكتاب وإيجاب ذلك، ولا تعارض؛ فهذه حالة خاصة فيها نص خاص من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الأحاديث حديث أبي بكرة رضي الله عنه حينما دخل المسجد، وركع دون الصف، ودب مسرعاً حتى دخل في الصف، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة، وسأل: (من الذي فعل هذا آنفاً؟) فقال أبو بكرة: أنا.
فقال: (زادك الله حرصاً ولا تعد)، (لا تعد) قيل في معناها: لا تعد إلى العدو؛ لأنه كان يجري وهو يدب إلى الصف، وهذا أقرب التفسيرات، والشاهد: أنه لم يأمره بإعادة هذه الركعة وقد أدرك الناس الركوع، فدل ذلك على احتسابها والله تعالى أعلم.(93/19)
منهج أهل السنة في الأحاديث التي تخبر عن أحداث آخر الزمان
السؤال
هناك بعض الأحاديث التي فيها خروج المهدي وفتح المسلمين للقسطنطينية ورومية، وهكذا بعض أحاديث فيها أنه يكون في آخر الزمان استعمال السيوف والخيل ونحو هذه الأشياء، فهل يعني ذلك أن هناك مصيراً آخر للحضارة المادية الموجودة الآن؟
الجواب
على أي الأحوال منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع الأحاديث التي تخبر عن أحداث سوف تقع في آخر الزمان هو التصديق بها، والإمساك عن تأويلها وتفسيرها، ولنترك الواقع نفسه هو الذي يفسرها، فنحن لن نسأل عن مثل هذا، والخوض فيه خوض فيما لا يعني؛ لأن هذا غيب، والمطلوب منا أن نصدق به فقط، وأما كيف يقع؟ فنحن غير مسئولين عن تكلف إيجاده وإيقاعه، ولن نسأل عن أكثر من التصديق به، والتسليم له، ثم العمل بما أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم إذا وقع شيء من هذه الأحاديث، فإذا كان هناك نص على أن هناك سلوكاً معيناً نلتزمه في هذه الأحداث فلنلتزم، كما أمرنا، مثل: أن نعتصم بالعشر الآيات الأول من سورة الكهف إذا أدركنا الدجال.
كذلك المهدي إذا توفرت الشروط أو العلامات التي تنبأ بها النبي صلى الله عليه وسلم في حق المهدي، ووقعت هذه الأحداث التي تنبأ بها، حينئذٍ نقطع أنه هو المهدي عليه السلام، ثم إن من المناسب في هذا المقام التحذير من مفهوم نلاحظه أحياناً عند كثير من الناس، وهو أنهم حينما يدهشون بمستوى القوة المادية التي بلغها الكفار في هذا الزمان، يصل بهم الأمر إلى حالة من اليأس، فيترجم هذا اليأس مثل هذا التفكير الذي نسمعه، فحينما تتلى على الناس آيات التبشير بالنصر والإعزاز للإسلام فأمام هذا الانهزام أمام هذه الحضارة المادية فإنهم ييأسون ويعبرون عن هذه الأشياء بطريقة غير مباشرة، فيذهبون إلى أن انتصار الإسلام لن يكون إلا بطريق معين، وهو إمّا نزول خوارق من السماء تخرق السنن، وتؤيد المؤمنين بمجرد أنهم مؤمنون، أو أنه لا بد أن تحصل حرب عالمية تدمر كل هذه القوى الموجودة على الأرض، ليسلم من ذلك فقط المسلمون، وتعود البشرية سيرتها الأولى بالأخشاب والسيوف، والحجارة والخيول، والوسائل القديمة، فهذا في الحقيقة هروب من مواجهة الواقع، فينبغي أن نفكر في الواقع الذي نعيشه، وهؤلاء الكفار ليسوا معجزين في الأرض، فإنهم لم يسلكوا مسلك الخوارق، بل سخروا السنن التي خلقها الله عز وجل، واحترموا السنن الكونية، فالأرض إذا زرعها وحرثها ورعاها الكافر -يهودي أو نصراني أو حتى ملحد- لا تقول له الأرض: أنت كافر ولن أزرع لك.
وإذا كان صاحبها مسلماً فلن تزرع بدون تنقيتها من الحشائش وتغذيتها وري الزرع وتعاهده، فلن تميل إلى المسلم لأنه مسلم فتجامله، أو تقول للكافر: أنت كافر، لن أخرج لك ما فيّ من خيرات، كلا! فسنة الله أن من احترم السنن طاوعته هذه السنن، وهذه السنن الكونية لابد من احترامها، وأيضاً هناك سنن شرعية لابد من احترامها، فليس من احترام هذه السنن التعلق بأن تنزل معجزات تخرق العالم، فسنة الله جاءت في نصرة هذا الدين بالأسباب، مع أن الله قادر على أن يكون هو الذي يقول للشيء: كن فيكون، لكن لم يحصل هذا حتى مع الأنبياء، فالأنبياء عليهم السلام شُرّدوا طردوا أخرجوا عذبوا منهم من قتل جاهدوا في سبيل الله بذلوا هم وأتباعهم النفس والنفيس، وأخذوا بكل أسباب القوة، ولم يعوّلوا فقط على نزول الملائكة من السماء كمدد، ولم يعولوا على أن تنزل صاعقة على جيوش الروم والفرس فينتصر المسلمون!! فهذا التفكير ينبغي أن نزيله من عقولنا، وأن نواجه الحقيقة والواقع، ونحترم هذه السنن.
هذا خباب بن الأرت رضي الله عنه يقول: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدع لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! فقال عليه الصلاة والسلام: لقد كان من قبلكم يؤتى بالرجل) الحديث.
إذاً: هذه سنة ماضية، ولابد من البلاء، كما قال الإمام الشافعي لما سُئل: يا أبا عبد الله أيهما أفضل للرجل أن يُمكّن أو يُبتلى؟ قال: لا تمكن حتى تبتلى.
فهذه سنة وقانون من قوانين الدعوة: أنه لابد من البلاء.
هذا أمر.
الأمر الثاني: لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم ويستنصر لهم عدل عن الدعاء لهم بتسليتهم بسنة الله في الذين خلو من قبل، فقال: (لقد كان من قبلكم يؤتى بالرجل فيحفر له حفرة في الأرض، ثم يوضع فيها، ثم يوضع المنشار على رأسه، ثم يشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يرده ذلك عن دينه، والذي نفسي بيده! ليتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) أي: تستعجلون السنن الكونية التي لابد من احترامها.
فحرص النية وحده لا يكفي، مثلاً: أن يختم الإنسان القرآن كله هذا من أعظم الأعمال الصالحة، لكن جرت السنة أن الإنسان لا يستطيع أن يختم القرآن إلا في عدد معين من الساعات، فإذا أردت أن تختم القرآن كله فلا يمكن أن تختمه في ساعة واحدة -ستين دقيقة- مهما أسرعت في القراءة؛ فقد جرت السنة أنه بمعدل وقت معين من الساعات يختم فيه القرآن الكريم.
ومثلاً: جرت سنة الله عز وجل أن الجنين لا يصلح لأن يواجه الحياة إذا لم يمكث -على الأقل- سبعة أشهر أو تسعة أشهر في بطن أمه؛ فالأصل أنه إذا خرج مبكراً إلى الحياة فإنه لا يصمد أمام الحياة الخارجية؛ لأنه لم يكن قد تم اكتماله بعد، فبالتالي لا يعيش ولا يبقى.
فهذه سنن الله عز وجل، ولابد للإنسان أن يحترم هذه السنن.(93/20)
استخدام الشعر في خدمة الإسلام
السؤال
هل ثبت حديث فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرض حسان بن ثابت رضي الله عنه أن يقول الشعر في هجاء المشركين.
الجواب
نعم، هذا الحديث صحيح، وقد كان حسان رضي الله عنه يسخّر هذه الموهبة التي وهبه الله إياها للانتصار للإسلام والذب والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففي مرة من هذه المرات، وفي محفل من هذه المحافل، قال صلى الله عليه وسلم له: (أهجهم وروح القدس معك)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وروح القدس هو جبريل، يعني: أن جبريل عليه السلام يؤيدك الله تبارك وتعالى به، ويفتح عليك فيما تقوله انتصاراً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: (اهجهم بالشعر، فو الذي نفسي بيده! لهو أشد عليهم من وقع النبال أو السهام).
فينبغي للإنسان ألا يترك أي فرصة أو قدرة من قدراته أو موهبة من مواهبه إلا ويسخرها لخدمة الإسلام والدفاع عنه وعن حرماته.
والله أعلم.(93/21)
أمتي لا تنحرف [2]
إن من أصول عقيدة الإسلام: الإيمان بأن الله الذي خلق الخلق هو الذي تكفل بالأرزاق، وأن الأرزاق مقدرة كما أن الآجال مقدرة، فلا خوف من الفقر بعد هذا؛ لأن الله جل وعلا لن يترك خلقه هملاً.
أما يدعو إليه الغرب وأذياله من دعوى تحديد النسل فما هي إلا حيلة لتقليل عدد المسلمين، فيزخرفون القول، ويزينون الباطل بحجة ضيق الأرزاق، فلا صحة لما يدّعونه، ولا قبول لما يقولونه، فالله هو الرزاق ذو القوة المتين.(94/1)
استمراء كثير من المسلمين لدعوى تحديد النسل ورضاهم بها بعد إنكارهم لها
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تناكحوا تناسلوا، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة)، فمن أعظم مقاصد النكاح تكثير النسل المسلم، وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسن وجمال، وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ فقال: لا، ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال: تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم)، رواه أبو داود والنسائي وغيرهما.
وفي لفظ: (فإني مكاثر بكم الأنبياء).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلاً على بعض السعاية، فتزوج امرأة وكان عقيماً -أي: كان الرجل عقيماً- فقال له عمر: أعلمتها أنك عقيم؟ قال: لا، قال: فانطلق فأعلِمْها، ثم خيِّرها.
يقول الدكتور محمد الصباغ حفظه الله: إن غريزة الامتداد في الذرية والأحفاد لا يستطيع المرء السوي أن ينعم بها إلا عن طريق الزواج، فكما أحسن إليك والدك فكان سبب وجودك في هذه الدنيا، فكذلك ينبغي لك أن تقابل هذا الإحسان بالبر إليه، والوفاء له، فتنجب للدنيا نبتةًَ كريمة تتعاهدها بالتربية والتهذيب، فتحيي اسم والدك، ويكون عملها الطيب في سجلِّك.
يقول الدكتور الصباغ حفظة الله: ويكفي للممتنع عن الإنجاب عقوقاً أن يكون هو الشخص الأول الذي يقطع هذه السلسلة التي تبدأ بآدم وتنتهي به! قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن من البيان لسحراً)، وبعض العلماء يجعل هذا الحديث في سياق المدح، لكن على القول بأن المقصود بالسحر هنا الذم فهو مأخوذ من البيان والبلاغة في تزيين الباطل، وتضييع الحق، فلا شك أن هذا من أخطر أنواع السحر، وقد يسلط في هذا الزمان على المسلمين، وبعض الناس إذا حاورته في هذا الموضوع فأول ما يتبادر إلى ذهنه أنك إنسان مخبول؛ إذ كيف تتكلم في قضية مقررة ومسلمة، فكل الناس ينادون بتحديد النسل، وكل الناس يعانون من الفقر والضيق و، ويوجد بيننا الآن من يقول بخلاف ما عليه الناس!! وهذا كله من تأثير هذا السحر المحرم الذي هو: تزييف الحق وإظهاره في صورة الباطل، فسحر البيان هو الذي تسلطه أجهزة الإعلام على عقولنا وقلوبنا؛ لتصوغ منه مفاهيم جديدة، وأموراً تتضاد مع ديننا وشريعتنا وعقولنا، بل ومع فطرتنا، ومما يدل على ذلك أن تأثير هذه الدعاية بلغ إلى حدٍّ جعل الناس يظنون أن من يتكلم في مثل هذه الأمور مخبول أو جاهل! ولو رجعنا إلى المجلات الإسلامية التي كانت تصدر في بدايات ظهور هذه الدعوة، حيث كان في الأمة بقية من الوعي وعدم التخدير بالإعلام، تجد هجوماً عنيفاً جداً بمنتهى القوة والصراحة من كافة علماء المسلمين، ابتداءً من شيخ الأزهر إلى الدعاة والعلماء والباحثين، فلو رجعنا إلى أعداد قديمة من مجلة الإسلام سوف نجد مثل هذه المقالات، حيث كان العلماء يواجهون هذه الدعوة بمنتهى العنف، ويكشفون أنها دعوة خبيثة يرعاها أعداء الإسلام لأمر يريدونه بهذه الأمة، ثم مر الوقت رويداً رويداً حتى استقرت في الأمة هذه السموم، وهضمتها وامتصّتها، وصارت تجري في جسدها مجرى الدم في العروق.
وصار كثير من المسلمين ينظرون إلى الأمور بمنظار الغرب، وبمنظار الكفار الخبيثين، ولم نكتفِ في (عقدة الأجنبي) بأن استوردنا إنتاج الزراعة والصناعة منهم، وإنما أخذنا أيضاً نتاج أفكارهم ومقاصدهم الخبيثة بنا، وكثير من الناس مولعون بتقديس كل ما يأتي من جهة الغرب، فصاروا يحبون الغرب وكل ما يأتي به الغرب، كما قيل في الخمر: مضى بها ما مضى من عَقْل شاربها وفي الزجاجة باقٍ يطلب الباقي فإرضاء الغرب لم يقف عند حد، لكنه يضل خطوة وراء خطوة، ويستدرج الناس شيئاً فشيئاً، حتى ينخلعوا عن دينهم مصداق قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، فقوله عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].
وقد بلغ تأثير الإعلام في نفوس الناس وفي فطرتهم إلى حد تنكس المشاعر الفطرية لدى الآباء والأمهات -كما أشرنا من قبل- حتى إن الأم إذا بان حملها جزعت جزعاً قد يوازي جزع الأم الحنونة التي ثكلت ولدها ليس لها ولد غيره، وربما سعت للتخلص من هذا القادم الجديد الذي يريد أن يحتل له مقعداً على مائدة الحياة.
لقد تمكن الإعلام الذي يسمونه: الموجه -وهو موجه في الحقيقة- من تأصيل الشعور بالرعب والهلع ومن تأصيل الخوف من الانفجار السكاني وأنه شبح مخيف يهدد الحياة على وجه الأرض، ويوشك أن يقوض الأمة ويبقيها خراباً يباباً، سخرت كل أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة لاستنفار الناس كافة إلى الاقتناع والتسليم بحسمية تحديد النسل على أعلى المستويات، حتى أن كثيراً من الناس لا يكادون يتكلمون في موضوع ما إلا وقفزوا منه إلى الحديث عن موضوع تحديد النسل وأنه الوحش والغول الذي يهدد الأمة، وكأن هذه القضية درس لا بد أن يلقن للأمة، ولا بد لها أن تنفذ هذه التوجيهات.
لقد سخرت جميع الجمعيات والهيئات الخيرية والمراقص من أجل خدمة هذا المبدأ! فلا يستغرب هذا المسلك العلماني من إعلام لا دين له، لكن الغريب أن يحاول توظيف الدين وتسخير علمائه من أجل أداء هذه المهمة، والأغرب أنه نجح في توظيف كثير من هؤلاء في خدمة هذه السياسات التي تنافي سياسات الإسلام والمقاصد العليا للشريعة الإسلامية، بينما فشل فشلاً ذريعاً في ذات الوقت في أن يستدرج واحداً من عُبّاد الصليب كي يؤلف مقالة أو يكتب كتاباً، أو يقوم بأي نوع من الدعاية لهذا المبدأ الكنسي الخطير، بل على العكس نجد الأنشطة في داخل الكنائس تحظر وتحرم وتجرم وتهدد من يقوم بتحديد النسل من هؤلاء النصارى، وتعليمات الأطباء النصارى ألا يشرعوا في تعقيم أي امرأة نصرانية.
فهو نجح في استدراج بعض هؤلاء الشيوخ الذين ساروا في ركابه، وصاروا يباركون جهوده باسم الشريعة الإسلامية، ومكمن الخطر أن كل هذا يتم باسم الإسلام! فلو تكلموا بغير اسم الشريعة لكان الخطب أهون، ولو أنهم سكتوا وما نطقوا لكان أسهل وأحسن، بل لو أنهم سطعوا بالحق إيماناً واحتساباً لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً!(94/2)
المنظم الحقيقي للنسل البشري
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تناكحوا تناسلوا، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة)، فمن أعظم مقاصد النكاح تكثير النسل المسلم، وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسن وجمال، وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ فقال: لا، ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال: تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم)، رواه أبو داود والنسائي وغيرهما.
وفي لفظ: (فإني مكاثر بكم الأنبياء).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلاً على بعض السعاية، فتزوج امرأة وكان عقيماً -أي: كان الرجل عقيماً- فقال له عمر: أعلمتها أنك عقيم؟ قال: لا، قال: فانطلق فأعلِمْها، ثم خيِّرها.
يقول الدكتور محمد الصباغ حفظه الله: إن غريزة الامتداد في الذرية والأحفاد لا يستطيع المرء السوي أن ينعم بها إلا عن طريق الزواج، فكما أحسن إليك والدك فكان سبب وجودك في هذه الدنيا، فكذلك ينبغي لك أن تقابل هذا الإحسان بالبر إليه، والوفاء له، فتنجب للدنيا نبتةًَ كريمة تتعاهدها بالتربية والتهذيب، فتحيي اسم والدك، ويكون عملها الطيب في سجلِّك.
يقول الدكتور الصباغ حفظة الله: ويكفي للممتنع عن الإنجاب عقوقاً أن يكون هو الشخص الأول الذي يقطع هذه السلسلة التي تبدأ بآدم وتنتهي به! قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن من البيان لسحراً)، وبعض العلماء يجعل هذا الحديث في سياق المدح، لكن على القول بأن المقصود بالسحر هنا الذم فهو مأخوذ من البيان والبلاغة في تزيين الباطل، وتضييع الحق، فلا شك أن هذا من أخطر أنواع السحر، وقد يسلط في هذا الزمان على المسلمين، وبعض الناس إذا حاورته في هذا الموضوع فأول ما يتبادر إلى ذهنه أنك إنسان مخبول؛ إذ كيف تتكلم في قضية مقررة ومسلمة، فكل الناس ينادون بتحديد النسل، وكل الناس يعانون من الفقر والضيق و، ويوجد بيننا الآن من يقول بخلاف ما عليه الناس!! وهذا كله من تأثير هذا السحر المحرم الذي هو: تزييف الحق وإظهاره في صورة الباطل، فسحر البيان هو الذي تسلطه أجهزة الإعلام على عقولنا وقلوبنا؛ لتصوغ منه مفاهيم جديدة، وأموراً تتضاد مع ديننا وشريعتنا وعقولنا، بل ومع فطرتنا، ومما يدل على ذلك أن تأثير هذه الدعاية بلغ إلى حدٍّ جعل الناس يظنون أن من يتكلم في مثل هذه الأمور مخبول أو جاهل! ولو رجعنا إلى المجلات الإسلامية التي كانت تصدر في بدايات ظهور هذه الدعوة، حيث كان في الأمة بقية من الوعي وعدم التخدير بالإعلام، تجد هجوماً عنيفاً جداً بمنتهى القوة والصراحة من كافة علماء المسلمين، ابتداءً من شيخ الأزهر إلى الدعاة والعلماء والباحثين، فلو رجعنا إلى أعداد قديمة من مجلة الإسلام سوف نجد مثل هذه المقالات، حيث كان العلماء يواجهون هذه الدعوة بمنتهى العنف، ويكشفون أنها دعوة خبيثة يرعاها أعداء الإسلام لأمر يريدونه بهذه الأمة، ثم مر الوقت رويداً رويداً حتى استقرت في الأمة هذه السموم، وهضمتها وامتصّتها، وصارت تجري في جسدها مجرى الدم في العروق.
وصار كثير من المسلمين ينظرون إلى الأمور بمنظار الغرب، وبمنظار الكفار الخبيثين، ولم نكتفِ في (عقدة الأجنبي) بأن استوردنا إنتاج الزراعة والصناعة منهم، وإنما أخذنا أيضاً نتاج أفكارهم ومقاصدهم الخبيثة بنا، وكثير من الناس مولعون بتقديس كل ما يأتي من جهة الغرب، فصاروا يحبون الغرب وكل ما يأتي به الغرب، كما قيل في الخمر: مضى بها ما مضى من عَقْل شاربها وفي الزجاجة باقٍ يطلب الباقي فإرضاء الغرب لم يقف عند حد، لكنه يضل خطوة وراء خطوة، ويستدرج الناس شيئاً فشيئاً، حتى ينخلعوا عن دينهم مصداق قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، فقوله عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].
وقد بلغ تأثير الإعلام في نفوس الناس وفي فطرتهم إلى حد تنكس المشاعر الفطرية لدى الآباء والأمهات -كما أشرنا من قبل- حتى إن الأم إذا بان حملها جزعت جزعاً قد يوازي جزع الأم الحنونة التي ثكلت ولدها ليس لها ولد غيره، وربما سعت للتخلص من هذا القادم الجديد الذي يريد أن يحتل له مقعداً على مائدة الحياة.
لقد تمكن الإعلام الذي يسمونه: الموجه -وهو موجه في الحقيقة- من تأصيل الشعور بالرعب والهلع ومن تأصيل الخوف من الانفجار السكاني وأنه شبح مخيف يهدد الحياة على وجه الأرض، ويوشك أن يقوض الأمة ويبقيها خراباً يباباً، سخرت كل أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة لاستنفار الناس كافة إلى الاقتناع والتسليم بحسمية تحديد النسل على أعلى المستويات، حتى أن كثيراً من الناس لا يكادون يتكلمون في موضوع ما إلا وقفزوا منه إلى الحديث عن موضوع تحديد النسل وأنه الوحش والغول الذي يهدد الأمة، وكأن هذه القضية درس لا بد أن يلقن للأمة، ولا بد لها أن تنفذ هذه التوجيهات.
لقد سخرت جميع الجمعيات والهيئات الخيرية والمراقص من أجل خدمة هذا المبدأ! فلا يستغرب هذا المسلك العلماني من إعلام لا دين له، لكن الغريب أن يحاول توظيف الدين وتسخير علمائه من أجل أداء هذه المهمة، والأغرب أنه نجح في توظيف كثير من هؤلاء في خدمة هذه السياسات التي تنافي سياسات الإسلام والمقاصد العليا للشريعة الإسلامية، بينما فشل فشلاً ذريعاً في ذات الوقت في أن يستدرج واحداً من عُبّاد الصليب كي يؤلف مقالة أو يكتب كتاباً، أو يقوم بأي نوع من الدعاية لهذا المبدأ الكنسي الخطير، بل على العكس نجد الأنشطة في داخل الكنائس تحظر وتحرم وتجرم وتهدد من يقوم بتحديد النسل من هؤلاء النصارى، وتعليمات الأطباء النصارى ألا يشرعوا في تعقيم أي امرأة نصرانية.
فهو نجح في استدراج بعض هؤلاء الشيوخ الذين ساروا في ركابه، وصاروا يباركون جهوده باسم الشريعة الإسلامية، ومكمن الخطر أن كل هذا يتم باسم الإسلام! فلو تكلموا بغير اسم الشريعة لكان الخطب أهون، ولو أنهم سكتوا وما نطقوا لكان أسهل وأحسن، بل لو أنهم سطعوا بالحق إيماناً واحتساباً لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً!(94/3)
الاحتجاج بالخوف من قلة الأرزاق لتسويغ الدعوة إلى تحديد النسل
إن أول ما يتبادر إلى أذهان الناس إذا أثيرت قضية تحديد النسل هو موضوع الواقع الذي نعيشه الآن، وكيفية توفير الغذاء للناس مع ضيق الموارد وكثرة الزحام، والعجز عن الزواج، ومشكلات المواصلات، وقلة المال، إلى آخر هذه الأشياء التي يخوّف الناس بها، ومن ثم نقول: إن هذه القضية لها ارتباط وثيق بالعقيدة، سواء في الألوهية أو في الربوبية على حدٍ سواء.
وهم يحاولون أن يبرزوا الناس الذين يفتون لهم بما يريدون، والحق أن هؤلاء أناس سفهاء، ليس عندهم عقل، ولا يحسنون الأمور، وهذا نوع من الهوس حيث ينتقدون كلام من يعارضهم، ويأتون به في صور مضحكة تثير سخرية الناس، بحيث لا يبالون بمثل هذا الكلام، لكن ينبغي ألا نتأثر أبداً بمثل هذه الأساليب التي يصدّ بها الجهال عن دين الله عز وجل.
إذا تدبرنا القرآن الكريم نجد أن كثيراً من السور تهتم بقضية الرزق، وتربط بينه وبين السلوك البشري، حيث يزيد عدد الآيات التي تتناول قضية الرزق في القرآن المجيد على مائتي آية، وكلّها تؤكد حقائق ثابتة مؤدّاها: أن الرزق من عند الله تعالى وحده، وهو مالك أسبابه لا شريك له في ذلك، وأن هذا الرزق مضمون عند الله عز وجل، لا يحتاج إلى شركات تأمين كاذبة مرابية ظالمة! ولا يحتاج لأي شيءٍ سوى أن يستجلب هذا الرزق من عند الله بطاعة الله تبارك وتعالى، والإنسان عليه فقط أن يكتسب، أما الرزق فأمره إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن الله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.
وقضية الرزق هي قضية الصراع الطويل بين الأحياء، غير أن الله عز وجل لم يترك الإنسان ليهلك في هذا الصراع المرير، بل أنزل تبارك وتعالى تعاليم تقوّم سلوك الإنسان في مسألة الرزق، فمن مظاهر ذلك أن الله عز وجل أوجب على المسلمين الإنفاق، وفرض عليهم الزكاة، وأمرهم بالتعاون والتراحم والتكافل، مبيناً لهم أن المال مال الله، وأنهم مستخلفون فيه، وكذلك حرم الله تبارك وتعالى على الناس السلوك المالي المنحرف، كالربا، والكسب الحرام، والغّش، والاستغلال إلخ.
وبين الله عز وجل -مع هذا- أن الأولاد مصدر إضافي منفصل للرزق، فيجب على الإنسان أن يكون عنده يقين، فربما أن الرزق الذي يأتيك لا يأتيك لأجلك أنت؛ لأن ذنوبك ربما تحول دون وصول الرزق إليك، لكن الرزق يأتي لأولادك الضعفاء كما قال عليه الصلاة والسلام: (أبغوني الضعفاء؛ فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)، فالرزق يأتي لهؤلاء، وربما تكون ذنوبك قد حالت دون إتيان رزقك إليك، كما جاء في الأثر: (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه).
يقول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31]، ((خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)) هذا في الفقر المتوقع، ((وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)) وهذا ما كان يفعله أهل الجاهلية، حيث كانوا يقتلون الأولاد خوف الفقر في المستقبل، ولما كان الفقر متوقعاً في المستقبل قال تعالى: ((نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ)) فبدء برزق الغائبين قبل رزق الحاضرين؛ لأن رزقهم مضمون، وأما في الفقر الحاضر فقال تبارك وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:151] فهذا الفقر واقع وليس متوقعاً، ((نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)) فالسياق واضح تماماً في أن الإنسان لا يقتل ولده أبداً خشية أن ينفق ما معه، وإن من كبائر الذنوب: منع الحمل أو تقليل النسل بسبب الخوف من الفقر، أو الخوف من نقصان الرزق، فقد بطلت هذه المزاعم بهذه الآية: ((نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ)) وبطلت دعوى أصحاب فكرة تقليل النسل الذين يزعمون أنّ إنجاب الأولاد يضيف عبئاً اقتصادياً على العائلة، وقد تصح دعواهم إذا كان الأبوان هما اللذان يخلقان الرزق! أو كان الأب هو الذي يخلق الرزق بحكم أنه هو عائل الأسرة! فإنه إذا كثر عليه الأولاد الذين يخلق لهم الرزق سوف يكون ذلك عبئاً شديداً عليه؛ لأنه بشر وطاقته محدودة!! لكن إذا كان الأب والأم والأولاد وكل من في الأرض فقراء إلى الله عز وجل، والله هو الذي يرزقهم، وهو الذي يضمن لهم ذلك بقوله: ((نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ)) فكما انفرد بالخلق انفرد بالرزق، وكما أنه لا يخلق إلا الله فإنه لا يرزق إلا الله تبارك وتعالى، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر:3] فهذا وجه ارتباط قضية الرزق بالعقيدة، أي: كما تعتقد أنه لا يخلق إلا الله فتعتقد أن الرزق بيد الله وحده لا شريك له في ذلك أبداً.
وضمن الله تبارك وتعالى الرزق لكل المخلوقات، يقول تبارك وتعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] من الذي يعطينا المطر؟ من الذي ينبت لنا من الأرض؟ من الذي يرزقنا الماء؟ يقولون: مصر هبة النيل! هذا شرك، وهل النيل يهب؟ بل النيل نفسه هبة من الله تبارك وتعالى، وهو في نفسه نعمة، فكيف نعبد النعمة ونترك وهّابها وهو الله عز وجل؟! فأمر الرزق مضمون بلا ريب، وأي شك في هذا فهو خلل في العقيدة، يقول عز وجل: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60] ولو ذهبنا نستقصي ما استطعنا عليه من أنواع الأحياء وتفاصيل ضمان الرزق لها فسوف نعجب عجباً شديداً جداً، أنت نفسك أيها الإنسان! من ضمن لك رزقك وأنت في بطن أمك؟! وكذلك من الذي يرزق النملة في جحرها؟! ومن الذي جعل طريقة التعايش أو التطفل أو التكافل بين الحيوانات والكائنات الحية؟! هناك قصص كثيرة جداً إذا أردنا أن نذكرها بالتفصيل فإننا سنخرج عن الموضوع، لكن نكتفي بقول الله تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60] فإذا كان يرزق الدابة فكيف بمن كرّمه؟! {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، ويقول عز وجل {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:52] أي: أنت غير مسئول عن رزقهم ولا عن عملهم، {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52].
ويقول عز وجل: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:27]، ويقول تبارك وتعالى: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84]، فكل إنسان له رزق ونصيب مقدر من الله تبارك وتعالى، لكن الغربيين ونظراءهم من الكفار لا يوقنون بهذه المعاني ولن يستمعوا لها، ولن يحسّوا بمعناها، فلذلك تنحصر أفكارهم في الجوانب المادية المحسوسة، ومثل هذه العقائد لا ينعم بها إلا من نوّر الله قلبه بنور الوحي والتوكل عليه عز وجل، فحتى الأنفاس التي تتنفسها قد كتب الله لك عددها، فلا تنزل إلى الدنيا إلا ولك عدد محدد من الأنفاس سواء كان شهيقاً أم زفيراً، وسواء كان جزءاً أو جزيئاً من الأوكسجين أو الذرات التي سوف تدخل جسمك وتخرج منه: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84]، فالحقيقة أن الإنسان أول ما ينزل الأرض يبدأ العد التنازلي في هذا العدد الذي سطّره القلم منذ الأزل.
وفي الحديث: (ثم يأتيه الملك، ويؤمر بكتب أربع كلمات)، ومن هذه الكلمات التي تُكتب قبل أن تُخلق أنت: الرزق.
وقال عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن روح القُدُس نفث في رَوْعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها) يعني: هونوا على أنفسكم، ولا تشتطوا في طلب الرزق، وقوله: (فإن روح القدس نفث في روعي): وهذه طريقة من طُرق الوحي، (أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها) أي: لا يمكن أن يموت الإنسان قبل أن يأخذ رزقه الذي كتب الله له تبارك وتعالى، بل يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن ابن آدم يهرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه أجله) فتخيل هذين الأمرين: كما أن عندك يقين أن ملك الموت إذا جاء لا يؤخر ولا يُطرد ولا يؤجل، فكذلك إذا حضر رزقك فلا يمكن أبداً أن يحول أحد بينك وبين هذا الرزق، وفي الحديث: (المعونة تأتي على قدر المئونة)، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، ألا هلك المرتابون الذين يُشكّكون في رزق الله تبارك وتعالى، (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً) أي: تخرج في الصباح فارغة المعدة، (وتروح بطاناً) أي: حينما تعود قد امتلأت بالطعام والرزق، فمن الذي رزق هذه الطيور الضعيفة الهزيلة التي ليس لها عقل ولا إمكانية؟! من ذا الذي يرزقها إلا الله تبارك وتعالى.(94/4)
تحديد النسل وقتل الأولاد في الجاهلية يشتركان في الباعث عليهما
نعى الله عز وجل وشدد النكير على من يقتلون أولادهم خشية الإملاق، يقول عز وجل: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ} [الأنعام:137] أي: من التردّي والهلاك، {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:137] وقال تبارك وتعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام:140]، قال بعض العلماء في تفسير قوله عز وجل: {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [الأنعام:140]: إن الرزق يشمل الطعام والشراب، كما يشمل الذرية، فيقول في هذه الآية: الذين حرّموا على أنفسهم نعمة التناسل وإنجاب الذرية، ويقول عز وجل: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]، وقال عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] وقال أيضاً: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151].
قد يقول بعض الناس: إن تحديد النسل ليس قتلاً للنسل.
فنقول: لكنه يتفق مع القتل في الباعث عليه، والذي أنكره الله على هؤلاء المشركين في الجاهلية هو أنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية الإملاق، وهذا واضح، فاتّحد الباعث عند هؤلاء وعند أولئك، قال عليه الصلاة والسلام حينما ذكر بعض الكبائر: (وأن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) فالعلة هنا: خشية أن يجلس معه ابنه على المائدة ويشاركه في الطعام!(94/5)
تحديد النسل لا يعتبر هو الحل لمشكلة الفقر بل يزيدها تفاقماً
إننا إذا رجعنا إلى أولي العلم وأولي الخبرة في المجالات الدنيوية أو الاقتصادية أو الشرعية في هذا الأمر فسوف ندرك أننا في الحقيقة كنا ضحية لكثير من التضليل السحري الذي تأثرنا به، وهو السحر الإعلامي، والمشكلة هي عدم التوازن بين الموارد والطاقات، وبين عدد السكان والاحتياجات، نعم هي مشكلة، لكنهم أفهمونا وأوقعوا في شعورنا أنه لا حل إلا هذا الحل، في حين أن الحلول كثيرة جداً، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، كما سنبين إن شاء الله تعالى.
بل إن المعروف في علم الاقتصاد أن عوامل الإنتاج ثلاثة: الأرض، والإنسان، ورأس المال.
وأعظم هذه العوامل هو الإنسان، فالنسل هو في حد ذاته ثروة من أعظم الثروات، ويكفي أن كثرة النسل هو أحد العوامل التي تحسب بها الأمة في عداد الأمم الكبرى أو القوى الكبرى.
فيصبح حالنا ونحن نهرب من مواجهة هذه المشاكل كمثل من بيده كنز من ذهب، وهو لا يستطيع أن يصنع من هذا الكنز نقداً ولا حُلياً ولا شيئاً مما ينفع الناس فيلقي هذا الكنز في البحر ليتخلص من أعباء تصنيعه أو الانتفاع به! إن المقدار المستغل من الأراضي في مصر يبلغ 7%، مع أن مصر عبارة عن واحة في وسط صحراء كبرى، ولو تم توزيع أرض مصر على سكانها لبلغ نصيب كل فرد كيلو متراً مربعاً، وهذا معدل غير موجود في أغلب بلاد العالم.
ونحن الآن نتكلم عن النسل، في حين أنك تجد التصريحات الرسمية تعلن عن اهتزاز اقتصاد البلد عند حصول خلل في تحويلات المصريين العاملين في الخارج، أليس هذا نسلاً؟! أم أن هؤلاء خشب وجمادات؟! فهؤلاء هم بشر، وهذه ثروة من أعظم الثروات التي تخدم الاقتصاد، وهي تحويلات المصريين الذين هاجروا وعملوا في الخارج، فلو تأملنا الحقيقة فإننا سنجد أن أرض الله ليست ضيقة، بل ما زالت واسعة كما قال الله: {أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} [النساء:97]، ولكن العقول هي الضيقة، كما قال الشاعر: لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيقُ فلو أن إنساناً عنده ثوب قصير لا يستر كل أعضاء بدنه، فهل من العقل أن يهذب هذا الجسد ويقطعه كما تُقطَّع أغصان الشجر؟! أم أن من العقل أن يفكر في زيادة حجم الثوب إلى أن يتناسب مع هذا البدن؟! هذا هو الحل المنطقي.
فدعاة تحديد النسل لم يدفعهم إلى ذلك الخوف على الأمهات، ولا فعلوا ذلك من أجل الحرص على سلامة الأم، بل هم يحاولون أن يأتوا إلى الناس من الباب الذي يقنعهم، فيقولون: صحتك وسلامتك وكذا وكذا، ويبالغون في وصف هذه الأشياء، فهم لا يريدون الحفاظ على حياة الأم أو صحتها، ولا دفع الضرر عنها، بل كل الجهود والأموال مبذولة من أجل الناحية الاقتصادية، زاعمين أن كثرة الإنجاب تورثهم الفقر، وجعلوا من أنفسهم قوامين على الفقر والغنى والكسب والارتزاق، ولا هَمّ لهم إلا عمل الإحصاءات وتقسيم الأرزاق، وليس هذا في الحاضر فقط، بل على مدى المستقبل البعيد، فيحسبون بطريقة تلك الساعة التي أهدتها لهم أمريكا: كم يكون عدد سكان مصر في عام (2000م) مثلاً؟ ثم يقسمون ما يكون من الرزق على كل فرد فيكون نصيب الفرد كذا وكذا!! أفلا يتذكرون قوله عز وجل: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32] فهذا فعل من أفعال الربوبية، ويقول الله عز وجل: {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء:100]، فخزائن الله ليست بأيدينا ولا بيد أحد من البشر، إنما هي بيد العزيز الوهاب ذي الطَّول والإنعام، فجهدهم هذا جهد موزور لا أجر فيه؛ لأنه جهد ينافي مقاصد الشريعة، ويزيّن للناس ما منعه الشرع، وهذا من الإثم ومن الوزر.(94/6)
آثار من الكتاب والسنة وسير الصالحين في الإيمان بالرزق
يقول تبارك وتعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6]، فقوله: ((إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)) يعني: رزقها قد تكفل الله به وضمنه لها.
يقول الرازي في تفسير هذه الآية: ولا شك أن أقسام الحيوانات وأنواعها كثيرة، وهي الأجناس التي تكون في البر والبحر والجبال، والله يحصيها دون غيره، وهو تعالى عالم بكيفية طبائعها وأعضائها وأحوالها وأغذيتها وسمومها ومساكنها، وما يوافقها وما يخالفها، فالإله المدبر لأطباق السماوات والأرضين، وطبائع الحيوان والنبات، كيف لا يكون عالماً بأحوالها؟! روي أن موسى عليه السلام -عند نزول الوحي عليه- تعلّق قلبه بأحوال أهله، فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه على صخرة، فانشقت وخرجت صخرة ثانية، ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت وخرجت صخرة ثالثة، ثم ضربها بعصاه فانشقت، فخرجت منها دودة كالذرة، وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها! فهذه القصة من الإسرائيليات التي قد تصح أو لا تصح، لكن ما كان منها لا يصادم شريعتنا فلا بأس من حكايته، فتأمل كيف وجد هذه الدودة التي هي كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها، فسمع الدودة تقول: سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني، ويذكرني ولا ينساني.
وقد يكون هذا من كلام القصاصين وهو مذكور في التفسير الكبير للرازي، لكن معناه طيب وجميل، حتى لو لم يحصل، فإن الله عز وجل يرى النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء ويسمع كلامها ويرزقها تبارك وتعالى، وهي تقول: سبحان من يراني، ويسمع كلامي، ويعرف مكاني، ويذكرني ولا ينساني، سبحانه وتعالى.
وقال القرطبي رحمه الله: قيل لبعضهم: من أين تأكل؟ فقال: الذي خلق الرحى يأتي بالطحين، والذي شدق الأشداق -يعني جوانب الفم- هو خالق الأرزاق.
وقيل لـ أبي أسيد: من أين تأكل؟ فقال: سبحان الله والله أكبر، إن الله يرزق الكلب، أفلا يرزق أبا أسيد؟ وقيل لـ حاتم الأصم: من أين تأكل؟ فقال: من عند الله، فقيل له: الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء؟ فقال: كأنما له إلا السماء؟ يا هذا الأرض له، والسماء له، فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض، وأنشد: وكيف أخاف الفقر والله رازقي ورازق هذا الخلق في العسر واليسرِ تكفّلَ بالأرزاق للخلق كلهمْ وللضّبّ في البيداء والحوت في البحرِ يقول: ولا يمنع من التوكل مباشرة الأسباب، مع العلم أنه سبحانه المسبب لها، ففي الخبر: (أعقلها وتوكل)، ولا ينبغي أن يعتقد أنه لا يحصل الرزق بدون مباشرة السبب، فإنه سبحانه يرزق الكثير من دون مباشرة لسبب أصلاً، يقول ابن أذينة: لقد علمت وما الإسراف من خُلُقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى إليه فيعييني تطّلبه ولو أقمت أتاني لا يعنّيني وأنشد أيضاً: مَثَل الرزق الذي تطلبه مَثَل الظلّ الذي يمشي معكْ أنت لا تدركه متّبعاً وإذا ولّيتَ عنه تبعكْ مثل الظل أي: خيال الإنسان على الأرض.
يقول الله تبارك وتعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] يخاطب الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأهله هم أهل بيته، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام بعد نزول هذه الآية يذهب عند الفجر إلى علي وفاطمة رضي الله عنهما وينادي: (الصلاة).
فهنا يأمره تعالى وأمته أن يوجهوا هممهم إلى خدمة آخرتهم بالالتزام بطاعة الله تعالى، فلا تشغلهم دنياهم عن آخرتهم، فإذا شُغلوا بطاعة الله أتتهم الدنيا راغمة: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه:132] يعني: لنفسك ولمن تلزمك نفقتهم، فالكل قد تكفل الله برزقه، فلا تشغل نفسك لأمر الرزق، وأقبل على طاعة الله تعالى.
وقال أبو السعود: أُمر صلى الله عليه وسلم أن يأمر أهل بيته أو التابعين له من أُمّته بالصلاة بعد ما أُمر هو به، ليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم، ولا يهتموا بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة.
((وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)) يعني: وثابر عليها غير مشتغل بأمر المعاش، ((لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا)) يعني: لا نكلفك أن ترزق نفسك ولا أن ترزق أهلك ((نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)).
وقال ابن كثير: ((لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا)) يعني: إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه كما في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يقول الله تعالى: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأتُ صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك)، وفي الحديث الآخر: (من أصبح والآخرة همّه جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا همه فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له) ويقول عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] ويقول عز وجل: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ} [الشورى:19] فقوله: ((لَطِيفٌ)) أي: حفيّ بهم، أو بارّ بهم، أو لطيف بالبر والفاجر، حيث لم يقتلهم جوعاً بمعاصيهم، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6] وقال عز وجل: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23].
قوله: ((وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ)): قد يقصد بالسماء هنا: المطر؛ لأنه ينزل من جهة العلو، ويكون المعنى: وفي المطر رزقكم؛ لأنه سبب للإنبات في الأرض، يرتزق منه الإنسان والحيوان في الغالب، أو يكون المقصود بالسماء: حقيقة السماء، ويكون المعنى عند ذلك: وعند الله تعالى في السماء تقدير أرزاقكم حسب ما كتبه الله عز وجل في اللوح المحفوظ.
قوله: ((وَمَا تُوعَدُونَ)) معطوف على: رزقكم، فيكون المعنى: في اللوح المحفوظ -الذي هو في السماء- تقدير أرزاقكم وكل ما توعدون به من خير أو شر في دنياكم وأخراكم.
وقوله تعالى: ((فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)): هذا قَسَم يؤكد أن الرزق وما وعد الله به عباده مضمون عند الله في كتاب، وهو في أم الكتاب لا يتغير ولا يتبدل، ولا يزيد ولا ينقص، بل لا بد أن يصيب كل مخلوق ما كتب له من الرزق.
وإذا تأملت التوكيد في هذه الآية: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23] فالقَسَم في حد ذاته توكيد، ((فَوَرَبِّ السَّمَاءِ)) حلف وقسم، ثم أتى بالمقسم عليه، وهو جملة أسمية مُصدّره بحرف التوكيد: ((إِنَّهُ لَحَقٌّ)) يعني: هو حق، واللام أيضاً هنا للتوكيد.
وقوله: ((مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ))، واختار النطق على توكيد الرزق وضمانه لدى الخالق جل وعلا لأنه سالم مما يشبهه، يقول بعض الحكماء: كما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره.
يقول بعض العلماء: إن وجود هذه التوكيدات الكثيرة في موضوعٍ تكفّل الله تعالى به لا بد وأن يكون لسرٍّ من الأسرار، وذلك السر هو ما في النفس البشرية من جحود ونكران وتخوف وتشكك في هذه المسألة بالذات، والله تعالى عليم بخبايا النفوس، فلما علم ما في نفوس البشر من التخوف والتشكك أكد لهم ذلك بكل هذه التأكيدات ليذهب من نفوسهم ذلك الخوف والشك، فسبحان الذي يعلم مَن خَلَق وهو اللطيف الخبير.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: قال الحسن: بلغني أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (قاتل الله أقواماً أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدقوه، قال الله تعالى: ((فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ)) [الذاريات:23]).
وقال الأصمعي: أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة، إذ طلع أعرابي جلف جافٍ على قعود له، متقلداً سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلّم، وقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم، قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن -فانظر ذكاء الأصمعي كيف فتح له باب العلم حتى يستوضح ويستزيد ويستفيض- فقال الأعرابي: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم، قال: فاتلُ علي منه شيئاً، فقرأت: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:1 - 4] إلى قوله تبارك وتعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات:22] فقال: يا أصمعي(94/7)
المنظم الحقيقي للنسل البشري هو الذي خلقه
نعود فنسأل أنفسنا سؤالاً آخر يحسم هذه القضية: من هو المنظم الحقيقي للنسل البشري؟ ومن هو المنظم الحقيقي لهذه الكُتَل الهائلة من البشر؟
الجواب
ابتداءً نقول: لا أحد يأتي أبداً إلى هذه الدنيا باختياره وإرادته، بل ولا حتى باختيار أبيه وأمه، فمن الذي ينظم كل هذا؟ بل وأضعاف أضعافه؟! إنه الله الواحد الأحد، ليس الأب، ولا الأم، ولا الطبيب ولا الحكومة، وليس لأحد أبداً أن يتدخل في هذا النظام الذي لا يدبره إلا الله عز وجل: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1]، فالقدرة الإلهية وحدها هي التي تقوم بالتنظيم الحقيقي للنسل الإنساني.
وأما الدلائل والبراهين التي يقدمها أنصار دعوة تحديد النسل على أساس علم الاقتصاد، فهي في الحقيقة لا تتطلب تنظيم أفراد الأسرة، بل تتطلب تنظيم سكان الدولة، بمعنى: أن هذه البراهين قد تقتضي أن تقدر بكل دقة ما في الدولة من وسائل المعيشة ومن موارد الرزق، ومن جانب آخر: أن نرى ماذا يمكن أن يبلغه عدد السكان ونسبته بالنسبة للوفاة؟ فهذا التوازن لا يمكن أن يتم إلا بأحد طريقين: الأول القضاء على دائرة الزوج والأسرة، وتحويل الرجال والنساء رسميين للدولة، ينتجون وفق تخطيط مرسوم لهذا الغرض، ثم يفصل بينهما إذا تحقق هذا الهدف المنشود.
الثاني: أن يتم التناسل كما يتم في تربية الجواميس والبقر، بوجود مصارف معينه مثل مصارف الدم التي يتم فيها هذا التعاون مع بني البشر.
وكلا الطريقتين مرفوضة عند ذوي الفطرة السليمة، ولذلك فهم مضطرون في الحقيقة إلى أن يلوّنوا الكلام وينوعوا الأساليب التي يسلكونها، فيظهرون الفرار من خطة تنظيم سكان الدولة إلى خطة مقنعة هي: تنظيم أفراد الأسرة.
فبدل أن ينشئوا هذه المعامل التي يريدون جعل الناس فيها كالجواميس والأبقار لتحديد العدد الذي يريدونه، يأتون فيقنعون الناس أن يحولوا كل بيت إلى معمل لتحديد النسل، وتبقى البيوت هي المعامل التي يولّد فيها الأطفال، لكنهم يبذلون كل الجهد من أجل استرضاء هذه المعامل الصغيرة؛ كي تحد من إنتاجها من تلقاء نفسها، وهذا الاسترضاء يتم بإحدى وسيلتين: الوسيلة الأولى: مناشدة الأفراد باسم مصلحتهم الشخصية، بأن يحافظوا على مستوى معيشتهم بخفض عدد الأطفال لكي يتحسن مستقبلهم، ويوهمون الناس أن شبح الفقر سوف ينتشر لكثرة إنجاب الأطفال.
نقول لهم: إن الله سبحانه وتعالى خلق الأولاد بأفواه ليأكلوا بها، ولكنه خلقهم أيضاً بأيدٍ وعقول وإمكانات يمكن أن تكون طاقات عظيمة في هذا الوجود، لكن التركيز عندهم يكون على الاستهلاك في فترة الحضانة بالنسبة للصغار، ولكن هذه حضانة اقتصادية، ولا ننسى أبداً أن العامل الأساسي في عوامل الإنتاج هو الإنسان، وهو ثروة عظيمة جداً كما يقول العقلاء من كل الأمم، حتى أن أيزنهاور وقد كان رئيساً لأمريكا سنة (59) تقريباً، كان يقول: لن أسمح بدخول خطة تحديد النسل ما دمت على قيد الحياة، أو ما دمت في البيت الأبيض!! لماذا يقول هذا الكلام؟! لأنهم يعرفون أن كثرة النسل من أسباب القوة بالنسبة لأي أمة تنظر للمستقبل، فهم يدخلون للناس من مدخل المصلحة الشخصية؛ لأنهم لو خاطبوا الناس بالقومية والوطنية والدعاوى العامة فلن يستجيب الناس لها، فأغلب الناس قلّما يفرضون الحظر على أنفسهم بأنفسهم باسم المصلحة الاجتماعية، لكنهم يناشدونهم باسم مصلحتهم الشخصية كي يحافظوا على مستوى المعيشة بخفض عدد الأطفال حتى يتحسن مستقبلهم، ويحافظوا على الرفاهية الذاتية، وتكون النتيجة: أن الناس يستجيبون لهذا، ويسترسلون في الحد من الإنجاب لهذا الغرض الشخصي، دون اعتبار المعدل المطلوب للإنجاب.(94/8)
التناسب الطردي بين زيادة السكان وزيادة مصادر الرزق
إن رواد دعوة تحديد النسل يزعمون أن سياستهم هذه تهدف إلى إيجاد التوازن بين الموارد وبين عدد السكان، فهم يحاولون إقناع الناس عن طريق المصلحة الشخصية، مع أن المصلحة الشخصية قد تستمر ثم يحصل التصادم مع المصلحة الكلية، وتظهر مع الوقت مشكلة عكسية، وهي قلّة النسل، فيختل التوازن بصورة عكسية، وهذا بالضبط ما حصل في فرنسا، وهي أول دولة شجعت وتبنّت حركة تحديد النسل، فهبط عدد المواليد بالنسبة للوفيات، فذاقت وبال هذه الخطة الخرقاء في الحربين العالميتين الأولى والثانية في صورة هزائم متوالية ومنكرة قصمت ظهرها، وقضت على عظمتها السياسية قضاء ملموساً، فصارت فرنسا عبرة لمن أعتبر.
والآن في الغرب يحرضون الشعوب بكل الوسائل على أن ينجبوا أولاداً، حتى في ألمانيا يعطون مكافآت وإغراءات بالمال تفوق الوصف للمواطنين لكي ينجبوا، فيقول الشعب الألماني: الحكومة تغرينا حتى ننجب! فيعاندون الحكومة، ويكرهون أن ينجبوا أطفالاً.
أما فيما يتعلق بالمسلمين فعلى خلاف ذلك، فتأمل! الوسيلة الأخرى التي يتم بها استرضاء الناس هي: نشر المعلومات عن وسائل منع الحمل على أوسع نطاق، بحيث تكون في متناول الجمهور رجالاً ونساء.
الأهداف التي على أساسها انتشرت دعوة تحديد النسل في أوربا هي المشاكل الاجتماعية والمدنية؛ لأن الحضارة الغربية قامت على أساس المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، وعلى أساس الاختلاط المطلق بينهما، والرغبة في التخلص والتملص من تبعية هذه الإباحية التي يعيشونه، فهذا من مقتضيات نظامهم! أنهم يريدون التمتع بالدنيا والراحة وعدم تحمل تبعة الزواج من الأولاد وغير ذلك.
أما في بلاد المسلمين فالأهداف التي يرمي إليها الغرب من وراء نشر هذه الحركة هي أهداف سياسية بحتة، لا علاقة لها بالاقتصاد، وإن كانت مستترة تحت هذا الثوب، فقد كان الناس في القديم حينما يساورهم القلق من مشكلة زيادة الأولاد يعالجون هذه الأمر بطريقة الوأد كما كان يحدث في الجاهلية، أو بقتل الأولاد أو الإجهاض ونحو ذلك، لكن الإنسان في هذا الزمان فلسف الأمر، واستطاع أن يعبر عنه تعبيراً يتواءم مع القواعد الحسابية والهندسية.
فزعم الإنسان المعاصر وهو مالتوس صاحب النظرية التي على أساسها قامت الدعوة إلى تحديد النسل، قال: إن زيادة السكان تتم على صورة متوالية هندسية، يعني: 2، 4، 8، 16، 32، 64، 128، 256، إلخ.
هذا بالنسبة لزيادة عدد السكان، لكن لا تزيد وسائل الرزق مهما اخترعوا لزيادة هذه الوسائل إلا على صورة متوالية حسابية، يعني: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9.
فإذا ظل عدد السكان يتضاعف دونما حاجز، فسيصل إلى ضعفيه بعد كل خمسة وعشرين سنة، أو يصل من واحد إلى مائتين وستة وخمسين بعد قرنين، بينما لا تزيد وسائل الرزق خلال هذه المدة إلا إلى تسعة، وخلال ثلاثة قرون يكون عدد السكان بالنسبة لموارد الرزق (4096: 13)، وكأن الله وكّل إليهم رزق من في السماوات ومن في الأرض! سبحان الله عمّا يصفون.
فيحاول الإنسان في هذا العصر قتل الأولاد أحياناً والإجهاض أحياناً، لكن الوسيلة المتوفرة في ظل التقدم العلمي هي: منع الحمل، وأحياناً: التعقيم الدائم! تحت مُسمّيات: التحديد، أو التنظيم، أو غير ذلك، فهل هذا الخوف في محله؟! وهل زيادة السكان تقتصر على عدد موارد الرزق؟! في الحقيقة والواقع أنه لم يحصل زيادة في النسل السكاني في أي مرحلة من مراحل التاريخ بتلك النسبة التي هي متوالية هندسية، ولا أتى على الإنسانية حين من الدهر كانت النسبة فيه بين عدد السكان وموارد الرزق كما يدّعون، ولو حصل ذلك لكان النسل الإنساني قد انقرض والله أعلم، ولَما كنا وجدنا أنفسنا اليوم على وجه الأرض.(94/9)
زيادة مصادر الرزق بتقدم الإنسان وتطوره
كانت الكرة الأرضية موجودة قبل هذا الإنسان، وكان عليها كل الأسباب التي تحفظ حياته، والإنسان ما خلق فيها شيئاً بنفسه، بل كل ما فعل أنه اكتشف ما كان مخبوءاً في بطنها، أو مبثوثاً على وجهها بجهده وذكائه بعد هداية الله وتوفيقه، يقول الله عز وجل: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:9 - 10] فالله قد قدّر فيها أقواتها، وهيأها الله لنا قبل أن نخلق، فالرزق مخبوء في الأرض، وما هذه القفرة التي قَفَزتها دول الخليج البترولية عنا ببعيد.
فالأرض ما زالت ثرواتها كامنة، فيها من الطاقات والأرزاق ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وكل من يطالع تاريخ الخليج قبل اكتشاف البترول يعلم أنهم كانوا على حالة من الضنك والفقر الشديد جداً، فهذا الرزق المخبوء الذي خبأه الله لهم في الأرض، ثم أخرجه لهم هو نعمة من فضله تبارك وتعالى، وهذا الرزق ما كان يخطر ببال مالتوس ولا غيره عندما أخبر عن المتوالية الهندسية! والمتوالية الحسابية! لكن الله يعلمه، فهو الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض سبحانه وتعالى.
فالإنسان ليس له أي دور في خلق هذه الأسباب، ولا تعيين مواضعها، ومعرفة مقدارها، وساعات ظهورها، كما يقول عز وجل: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27] ينزل الله الرزق بحكمة، وكل ما يصلح الناس ينزله الله عز وجل، فالذي خلق الإنسان وأخرجه من العدم إلى عالم الوجود هو الذي قدر تقديراً محكماً ما سيحتاج إليه لحفظ حياته فوق هذه الأرض، وأودعها وسائل الرزق قبل أن يدب عليها الإنسان نفسه، يعني: الكون خُلق قبل أن نأتي نحن، وعلى قدر ما زاد من أفراد النسل البشري وما زاد من جهوده لحفظ حياته كانت تتكشف له خزائن لا تعد ولا تحصى من موارد الرزق، فالحقيقة على عكس كلام مالتوس وغيره، حيث كان التناسب بين عدد السكان ومصادر الرزق تناسباً طردياً، يعني: كلما زاد عدد السكان كلما زادت مصادر الرزق، وهذه هي الحقيقة، حتى أننا نلاحظها على نطاق بعض الأفراد، حيث تجد بعض الناس عنده من الأولاد عدد كبير، فتجد رزقه -سبحان الله! - يأتيه على قدر هذا العدد، فالبركة تكفي هذا العدد، فإذا تزوج أولاده أو سافر بعضهم أو نقص العدد بصورة أو بأخرى أو ماتوا مثلاً فربما تلاحظ أن الرزق يمكن أن يقل على قدر العدد الموجود، فهذا يحسه الإنسان ويراه، فكلما توهم الإنسان أنه وضع يده على كل أسباب الرزق إذا بالله عز وجل يكشف له من الأسباب ما لم يخطر له على بال.
فالإنسان منذ آلاف السنين كان يرى البخار يرتفع من القدر التي تغلي، لكنه لم يخطر بباله أن هذا البخار سيفتح أمامه في النصف الأخير من القرن الثامن عشر ميداناً واسعاً جداً للرزق في الطاقة البخارية، وكان يرى النفط ويرى فيه خاصية الاحتراق لكنه لم يتوقع يوماً أن عيوناً لا حصر لها من آبار البترول يوشك أن تتفجر على هذه الأرض وتبرز إلى الوجود، حتى خرجت بعد ذلك صناعة السيارات والطائرات، وحصل الانقلاب الهائل في عالم الاقتصاد وموارد الرزق، وكذلك الطاقة الكهربائية قلبت الموازين وزادت في مصادر الرزق، والذرّة التي كانوا منذ قرون يناقشون إمكانية تفتتها من عدمه، وإذا بنا في هذا القرن نجد الذرة تتفتت لتخرج من خزانتها طاقة هائلة جداً لم يكن يتخيلها الإنسان.
أيضاً مما ينبغي أن نتذكره دائماً: أن زيادة عدد السكان لا يعني فقط -كما يشوّش هؤلاء المرجفون- زيادة الأفواه الآكلة، بل هو في نفس الوقت يعني زيادة عدد الأيدي العاملة والمنتجة، وكما أشرنا بموجب علم الاقتصاد فإن عوامل الإنتاج ثلاثة: الأرض، ورأس المال، والإنسان، والإنسان أهم وأكبر هذه العوامل، لكن المتعصبين لدعوة تحديد النسل والمتطرفين يصرّون على أنهم لا يرون في الإنسان إلا عاملاً استهلاكياً فقط!! نقول لهم: حتى الإنسان الضعيف الذي يكون عنده أولاد كُثُر فإنه بمرور فترة الحضانة الاقتصادية هذه سوف يصبح هؤلاء الأولاد منتجين، وهم الذين يرعون آباءهم في الكبر، وينفقون عليهم، ويرعون أشقاءهم الصغار.
فهي في الحقيقة ليست أنفساً استهلاكية فقط كما يصور القوم، لكن الواقع يشهد بخلاف ذلك، وكما يقولون: الحاجة أم الاختراع، فإذا زاد السكان حصل البحث والسعي وراء مصادر الرزق، فيحصل تعمير أكثر لهذه الأرض، وسوف يبحث الإنسان عن رزق في الأراضي البكر، ويستصلح الأراضي البور، ويبحث عنه في أعماق البحار وفي المناجم، وإلا لو قنع الإنسان بالموجود لتبلد وكسل.
يقول الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] فلا بد أن نكون على يقين من هذه الحقائق، فالارتباط بين النسل والرزق هي قضية عقائدية أولاً قبل أن تكون مخططاً لإبادة المسلمين، وذلك لتعلقه بالربوبية والألوهية.
فالله عز وجل يضمن لعباده -برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم- مقومات الحياة دون تفريق، وأما أنت فلست تعرف روحك الذي في بدنك، ولا تفهم سرها، وكذلك قلبك الذي يدق وينبض بطريقة لا إرادية وأنت مستيقظ أو نائم، أين المولد الذي يولّد فيه الحركة؟! من الذي يحفظ لك هذا القلب وكل وظائف الجسم التي تعمل فتبقى مقومات الحياة إلى أجل يعلم الله مداه؟! أما من ناحية أعمال الربوبية: فمعنى الربوبية التربية وتوفير مقومات الحياة، فمن الذي يؤمن لنا الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والشمس التي هي عامل مهم جداً في استقامة حياتنا؟! ومن الذي يحفظ استقرار الأرض التي إذا خرج منها الإنسان إلى الفضاء فإنه يراها معلّقة مثل الكرة في الفضاء؟! من الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا؟! {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41]، ليس إلا الله عز وجل، فلا تقلقوا على أرزاق الناس، وليس بأيديكم مفاتيح الرزق، بل هي بيد الله تبارك وتعالى، يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر:19] فظاهرة التوازن -كما سنبين إن شاء الله- من الضوابط التي ضبط الله بها هذا الخلق، فهناك توازن بين المخلوقات به تستقيم الأمور، تأمل مثلاً: ظاهرة العلامة بين الأنهار والبحار، فمنذ أن خلق الله عز وجل الأنهار ووصلها بالبحار والظاهرة مستمرة، وهي: أن الأنهار تصب في البحار، لا الأنهار جفّت ولا البحار امتلأت!! من الذي يزن ذلك؟! هو الله تبارك وتعالى.
من الذي ينظم نسل الأسماك في الماء، والطيور في الهواء، والحيوانات على الأرض؟! لو أن الوحوش تكاثرت بحيث صارت أضعافاً مضاعفة أكثر من بني الآدميين لأهلكتهم، فمن نظم نسلها؟! هل هناك هيئة تنظيم أسرة المستقبل عند الأسود والوحوش والنمور؟! لا، إنما يدبّرها الله، هذا ليس إلينا نحن، ولا إلى أسرة المستقبل المظلم، والله أعلم.
فالذي يحتاج إليه الإنسان هو الخبز وليس أقراص منع الحمل، هذا تصرف سلبي في مواجهة المشاكل، والمفروض أن الإنسان يخرج ما عنده من الطاقة، ويستفرغ وسعه في البحث عن مصادر الرزق، لكنهم يقلقون أنفسهم، ويفكرون فيما سيحدث بعد خمسين سنة بعد ألف سنة كيف سيكون شكل مصر ومستقبلها ومستواها!! لكن الذي نعلمه جيداً أننا بعد مائة سنة سنموت جميعاً، وأما قضية الأرزاق هذه فليست إلينا.(94/10)
أوجه الخلاف بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد المادي
يذكر علماء الاقتصاد الإسلاميون أن هناك خلافاً جوهرياً بين الاقتصاد الإسلامي وطريقة التعامل مع هذا الوجود، باعتبار أنه ينبثق وينطلق من منطلق إيماني بالغيب والرزق، وبين الاقتصاد المادي أو الاقتصاد السياسي، فعلماء الاقتصاد الغربي يقررون أن الندرة أصل من أصول الخلق، أما الإسلاميون فيقولون: الندرة ليست أصلاً من أصول الخلق، لكن الندرة -وهي قلة موارد الرزق- مجرد ظاهرة يكون لها أسباب وعوامل، كأن يعزف الإنسان عن أن يستفيد مما في الأرض من خير، أو أنه قاصر عن الإحاطة والتنظيم إلى مستويات كافية بحيث لا يستطيع أن يستوعب ما خلقه الله للجنس البشري من رزق، فالأشجار كثيرة في الأرض، لكن الإنسان عاجز عن أن يقطع هذه الأشجار ويهذبها كي يستفيد منها، كذلك عند الإنسان ميل إلى التقليل من التضحية والشقاء في سبيل كسب العيش، فإذا استطاع الإنسان أن يقعد عن طلب الرزق نهائياً، وفي نفس الوقت يتنعم بكل ما يرى، فهو لا يتردد في ذلك، فهذا أيضاً من عوامل الندرة.
يتلف الناس أيضاً كثيراً مما ينتجونه بأسلحة الدمار، وأدوات التخريب المعروفة، والحروب الباغية الظالمة، هذه كلها من أسباب وعوامل حصول هذه الندرة، فهي تتلف جانباً كبيراً من المنتج، ويأتي إلى جانب ذلك التظالم الذي يكون بين الناس في قسمة الأرزاق وعدم العدل في ذلك، حتى يصل الأمر إلى حد الإتلاف.
وبعض عوامل الندرة تحصل مثلاً في بلاد متقدمة مثل أمريكا، فعندما يزيد محصول القمح ويكون الناتج والمحصول كبيراً جداً، يعمد الرأسماليون إلى أخذ الكمية الزائدة ويلقونها في البحر ليقل المعروض فيزداد الطلب عليه ولا يحصل كساد في السوق، يلقونه في المحيط لأجل هذا!!.
فالاقتصاد الإسلامي يقرر أن الأصل في الخلق هو الوفرة وليس الندرة؛ إيماناً ويقيناً بأن تقدير العزيز الحكيم القاهر فوق عباده يقتضي ذلك، فتقدير الله عز وجل لما يحتاج إليه الناس لا يمكن أن يجيء مقصراً عما يلزم، بل هو كافٍ ويزيد.
يقول عز وجل: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:9 - 10]، هناك في هذا الخلق ضوابط ومقاييس دقيقة، والموضوع لا يمشي سبهللاً، بل هناك ضوابط وقوانين وسنن تحكم هذا الوجود، ونحن نعرف تصور الغربيين لقضية الألوهية، فإنهم إذا تكرموا وأقرّوا أن هناك إلهاً، فهم يزعمون أن هذا الإله خلق العالم فحركه ثم تركه وانتهى كل شيء!! أما نحن فإيماننا بالله عز وجل ومعرفتنا بصفات الله هي على النقيض تماماً من كلامهم، فالله عز وجل لا يترك خلقه هملاً: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]، فكل شيء في هذه الدنيا وفي هذا الوجود يجري ويسري حسب قوانين تحكم كل شيء فيه، فالكوكب الذي نعيش فيه لم يخلق دون هذه القوانين المحكمة، وقد ثبت بالمشاهدة وبالبحوث العلمية جيلاً بعد جيل أن هذه الضوابط شاملة وثابتة، ومن أهم هذه الضوابط: التوازن، والوفرة، وغير ذلك.(94/11)
مبدأ التوازن والوفرة
التوازن: هو حالة من النسبية يتحقق به الوضع الأمثل.
وقد يكون في التوازن تكافؤ تام مثل كّفتي الميزان، والتوازن في كفتي الميزان يعني: أن ما في هذه الكفة يساوي ما في الكفة الأخرى، فهذا تكافؤ تام، وفي غير التكافؤ التام يكون هناك تناسب، وبوجود هذه النسب والمحافظة عليها يصلح شأن الخلق.
فمثلاً: عدد الرجال والنساء ينشأ بينهما نسبة فيها نوع من التوازن، بحيث يكاد يكون عدد الرجال موازياً ومساوياً لعدد النساء، وقد تُكسر هذه القاعدة نادراً.
وأيضاً: نسبة السكر في الدم، مثلاً: النسبة بين كريات الدم البيضاء والحمراء، فقد تكون البيضاء مثلاً: 6000 في المللي جرام، والحمراء مثلاً تكون 8000000، فهذه النسبة بينهما ليس فيها تكافؤ تام، وبمثل هذا التوازن يكون السائل الحيوي في حالته المثلى، فكل شيء في العالم مقدّر بقدر وبميزان مضبوط ومحكم بما في ذلك النسل، سواء الذكور أو الإناث.
أيضاً في حالة الاقتصاد هناك توازن بين الموارد والطاقات، وهناك توازن بين المواد الغذائية وكمية الماء وبين البشر، أما مصدر هذا التوازن فهو أن الله لا يغفل -تعالى الله عن ذلك- عن تدبير أمر عباده وضمان الرزق لهم، وفي القرآن الكريم آية صريحة وواضحة في سورة الحجر، قال تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر:19] فهذا هو معنى التوازن الموجود، ثم إن المشاهدة العلمية المستمرة أيضاً تؤكد ذلك.
ومن ضوابط هذا الخلق: الوفرة، ومعناها: أن ما في الأرض من الأمور الطيبة والموارد الجافة أو السائلة أو الطاقات يتواجد بكثرة تزيد على حاجة الإنسان.
فقانون الوفرة عندنا يعارض قانون الندرة عند الغربيين، فيجب التفريق بين الاتجاهين، فالندرة قد تقع، لكن يكون لها أسباب وتكون عبارة عن ظاهرة طارئة وليست هي الأصل، فمثلاً: الأحياء المائية في البحار والمحيطات هل يشك أحد أنها تفوق حاجة الإنسان في أي وقت؟! لا، فهي تفوق حاجة الإنسان في أي وقت، ومع ذلك تقل الأسماك في بعض الأوقات وتختفي، فتتذبذب الأسعار وترتفع حتى ترهق الناس، فالندرة تقع، لكن بأسباب، وإلا فالأصل أن الأرزاق موجودة بحيث تكفي احتياجات الخلق.
هذا ما تيسر من تناول بعض ما يتعلق بالرزق، وارتباط موضوع تحديد النسل بقضية الرزق، والإنسان لا بد أن يكون عنده يقين أن الذي خلق هو الذي يرزق، وأنه لا أحد يرزق سوى الله تبارك وتعالى، وأن الله كما يخلق فلا يمكن أبداً أن يترك خلقه هملاً، إذ إن الذي خلق الأفواه هو الذي يخلق لها الطعام، وليس على الإنسان إلا أن يسعى ويأخذ بالأسباب، فييسر الله له الرزق، ومع ذلك نؤمن إيماناً جازماً أن رزق الله لا يجلبه حرص حريص ولا يردّه كراهية كاره، فكل ما كُتب للإنسان فإنه سوف يناله، وإنما التوكل يكون مع الأخذ بالأسباب، لكن الرازق الحقيقي هو الله كما قال عليه الصلاة والسلام: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(94/12)
الأسئلة(94/13)
مفهوم الفرقة الناجية
السؤال
هل أنت من الفرقة الناجية؟
الجواب
بالنسبة لكلام الإنسان عن نفسه، فالأعمال بالخواتيم، ولا يستطيع أحد أن يضمن لنفسه النجاة، والفرقة الناجية لا يقتصر مفهومها فقط على الجانب العلمي أو الاعتقادي، وإنما يدخل فيه أيضاً الجانب العملي والسلوكي، فمن ناحية العمل والسلوك أخشى ألّا أكون منها، وأسأل الله أن يتوب علي، وأجتهد في السير في أهل الفرقة الناجية.
أما من جهة العقيدة والعلم: فنحن نتطفل على علم السلف المشهود لهم بالخيرية، والذين اجتمعوا على هذه العقيدة السلفية، وهي عقيدة الفرقة الناجية التي تبرأ من أهل البدع بكافة أصنافهم، كالخوارج والشيعة والقدرية وغير هؤلاء، فالحمد لله أن عافنا من هذه البدع، ونسأله أن يتم علينا العافية، ويحسن خواتيمنا أجمعين.(94/14)
الموقف الحق مما حدث في الجزائر
السؤال
ما هو موقفنا مما يحدث الآن في الجزائر، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أما ما يحدث في الجزائر فهو في الحقيقة ليس جديداً، بل هو شيء متوقع، ولعل هذا من الخطأ الذي يكون قد وقع فيه إخواننا والله أعلم، فإن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، والله أعلم بأعذارهم، لكن الظاهر عموماً يُفهم منه أن إخواننا كانوا يحتاجون إلى الإلمام أكثر بتأريخ الدعوات الإسلامية، وأسلوب الحكام الطغاة في التعامل مع الدعوة الإسلامية، وأيضاً مدارسة التاريخ، وبالذات التاريخ المعاصر، والذي سبقت فيه كثير من التجارب التي تحاول الإصلاح والتغيير عن طريق ما يسمى بالحل البرلماني، عن طريق القنوات الشرعية! فهذه القنوات الشرعية لا يسمح للمسلمين الشرب منها، ولا العبور فيها ولا الاستحمام فيها! فالمسلمون يُمنعون من أي شيء، ودائماً هم يُستثنون من هذه القنوات، مع أنها مسماة باسم الشرعية، وهذه طبيعة الكفر وأتباعه، والشاذلي بن جديد -الله أعلم- سواء فعل ذلك آجلاً أم عاجلاً أو لم يفعل، فالمتوقع أن يستغيث حتى تتدخل هذه الدول الكافرة لمواجهة الإسلاميين، وبالذات فرنسا، وقد وقع بالفعل أنهم أمدّوا هذا الطاغية بكل المدد المادي والمعنوي في الفترة الأخيرة من أجل مساندته؛ حتى لا تنجح الدعوة الإسلامية في الجزائر وتحقق مأربها.
والذي نستطيع أن نعمله هو أن نكون معهم بقلوبنا، وأن ندعو الله عز وجل لهم أن يمكّن لهم، وينجيهم من هذا الظالم الطاغية، وأن يأخذه وإخوانه من الظالمين أخذ عزيز مقتدر، فهذا أقل ما ينبغي فعله، وهو أن نجتهد في الدعاء لإخواننا.(94/15)
حكم اقتناء أو مشاهدة التلفاز بحجة الاقتصار على ما فيه خير ومنفعة
السؤال
ما حكم سماع برنامج ثقافي أو ديني في التلفزيون إن تحكمت في تشغيله؟
الجواب
بعض الناس يتخذون هذا ذريعة لإحضار هذا الجهاز واستعماله، ويظنون أنه يمكن أن يهذبوا هذا الذئب، ومن قبل قلنا: من التعذيب تهذيب الذيب، وحسن الظن بمثل هذا الجهاز هو نوع من الوهم، والواضح والمقطوع به في مثل ظروفنا هذه أنه جهاز حافل بالمفاسد بكل أنواعها، وأنه لا مسوغ على الإطلاق أن يجلس إليه من يخاف الله تبارك وتعالى والدار الآخرة، لغلبة الفساد جداً على أنشطته وبرامجه، والله تعالى أعلم.(94/16)
حكم تشغيل التلفاز بحجة طاعة للوالدين
السؤال
هل يجوز أن أشغل التلفزيون لوالدي أو لوالدتي إن أمرني بهذا؟
الجواب
إن كان أمرك بأن تشغله من أجل سماع القرآن الكريم أو ما ليس فيه شيء من المحرمات -وهذا نادر جداً- فلا بأس في ذلك، أما الغالب فهو أنه لا يخلو من معاص أقلّها رؤية الفاسقات المتبرجات، وسماع الموسيقى، وربما رؤية مشاهد سيئة أو خليعة أو غير ذلك، فإن كان هذا الأمر يؤدي إلى محرم فلا ينبغي أن تتسبب في ذلك، وينبغي عليك أن تبين لوالديك أنك مستعد لطاعتهما والامتثال لأمرهما في كل ما يرضي الله عز وجل، فإن كان في ذلك معصية فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، فلا تطعهما فيما فيه معصية لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.(94/17)
حكم افتتاح المحافل والمناسبات بقراءة القرآن
السؤال
ما حكم بدء المحافل والمناسبات بقراءة القرآن؟
الجواب
أما قراءة القرآن بحدّ ذاته فلا شك أنه أفضل الذكر على الإطلاق، فإننا لن نتقرب إلى الله عز وجل بشيء أفضل مما جاء من عنده تبارك وتعالى وهو الكلام المجيد، وكان الصحابة ربما اجتمعوا فأمر النبي صلى الله عليه وسلم واحداً منهم أن يقرأ، والباقون يستمعون، فلا بأس في قراءة القرآن في المحافل بل هذا مستحب، لكن لا يتخذ عادة ثابتة وسنة راتبة حتى يتوهم الناس أن ذلك من الدين، فتقطع بعض الوقت ولا يداوم عليها، والله تعالى أعلم.(94/18)
عدم صحة حديث: (من صلى علي مائة مرة في ليلة الجمعة)
السؤال
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي مائة مرة في ليلة الجمعة -أو يوم الجمعة- غُفر له ذنوب ثلاث وثمانين سنة)، فهل هذا الحديث صحيح أم لا؟
الجواب
لا أعتقد أنه صحيح، والله أعلم.(94/19)
حكم من سب النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما حكم من سب الرسول صلى الله عليه وسلم.
الجواب
من سبّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإنه يقتل وإن تاب؛ لأنه إن تاب فإنه تنفعه التوبة في الآخرة، ولا تنفعه في رفع العقوبة عنه في الدنيا؛ لأن الأمة نائبة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الانتصار لعرضه عليه الصلاة والسلام، وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم ربما وقع السبّ له فعفا هو؛ لأنه صاحب الحق، أما الأمة فلا تملك أن تتنازل عن هذا الحق؛ لأنها نائبة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن لم يتب الذي سبه فسحقاً سحقاً، وإن تاب فهي قد تنفعه في الآخرة، والله أعلم.(94/20)
حكم من سبّ الإسلام
السؤال
السابّ لدين الله ماذا عليه إذا أراد التوبة إلى الله عز وجل؟
الجواب
إذا سب دين الإسلام فإنه يصبح مرتداً عن دين الله عز وجل، ولا يُعذر بالجهل، فإنه لا يجهل أحد وجوب تعظيم الله عز وجل، حتى اليهودي والنصراني! فلا أحد يجهل أن الله عز وجل يجب أن يُعظّم، فالسب والاستهزاء -والعياذ بالله- ردّة وخروج عن دين الإسلام، ويترتب على ذلك مباشرة أن ينفسخ عقد النكاح، ويجب التفريق بينه وبين زوجته، ثم يطبق عليه كثير من الأحكام مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) يعني: أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل رِدّةً.
وكما أنه ينفسخ عقد نكاحه ويجب مفارقة زوجته له، فإنه أيضاً يفقد ولايته على أولاده، فلا يصلح أن يكون ولياً لابنته مثلاً في الزواج، ولا يرث أقاربه المسلمين، ولا يرثه أقاربه المسلمون، ولا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، وتحبط أعماله في الدنيا والآخرة، ويكون من أهل جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، والعياذ بالله.
فإذا استتيب قبل موته وتاب توبة نصوحاً فإن الله يتوب عليه، وإلا فيُقتل؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من بدّل دينه فاقتلوه)، وهذا الكلام على وجه العموم.
أما في الحالة الخاصة فينبغي التثبت؛ لأن بعض الناس قد يسبّ الدين لبذاءة عنده في اللسان، ولا يقصد به سب دين الإسلام، بل حسب الصياغة وحسب استعمال الكلمة في العرف، فإن الدين أحياناً يطلق على الطريقة أو المنهج أو الأسلوب لدى الإنسان، لكن ينبغي حينما يحذر الناس من هذا الأمر أن يكون الكلام عاماً؛ لترهيبهم من هذه المعصية الخطيرة، فعلى الأقل حتى لو كان الإنسان لا يقصد دين الإسلام، أو هو بذيء اللسان أو لم يقصد ذلك فيجب أن يعزره الإمام إذا لم يحكم بردته، وأمر هذا التمييز يكون إلى القاضي الشرعي، والله تعالى أعلم.
وحد الجلد لا يقيمه إلا الخليفة أو الحاكم المسلم، أو القاضي الشرعي، وليس لأحد من الرعية أن يقيم الحد؛ لأنه لو نُقلت إقامة الحدود إلى آحاد الرعية فسيحصل كثير من الهرج والفتن، وكل إنسان سينصّب من نفسه حاكماً، لكن إن وقع أن أحداً أقام حداً من الحدود في الدولة الإسلامية بدون إذن من الخليفة، فإنه إذا أصاب الحد موقعه ومن يستحقه بالفعل، وتم استيفاء الشروط فإنه يعزر لأنه افتأت على الإمام، يعني: لتجاوزه حده، وقيامه بسلطة غيره بدون إذنه، أما في حال غياب الدولة الإسلامية فإنه لا يوجد إمام حتى يفتئت عليه، كما يقوله بعض العلماء المعاصرين.
وعموماً فهذه أمور تخضع لقاعدة المصالح والمفاسد، فينبغي أن يرجع فيها إلى أهل الحل والعقد، أو أهل العلم والدعوة ووجهاء الناس ممن عندهم فقه وبصيرة بالأمور؛ لأن هذه الأشياء إذا حصل التهاون فيها فقد تحصل كثير من العواقب غير الحميدة، والله تعالى أعلم.(94/21)
أمتي لا تنحرف [3]
إن الدعوة التي تزعّمها الكفار، وتبعهم عليها أذنابهم من أبناء المسلمين، فأخذوا يؤيدون ويؤكدون عليها من أهمية تنظيم وتحديد النسل، دعوة سخيفة، وما دفع الكفار إلى ذلك إلا خشيتهم من زيادة عدد المسلمين وتكاثرهم، فهم يحاولون إقناعهم بهذه الفكرة بينما يشجعون كثرة النسل في بلادهم، ويكافئون من ينجب الأولاد، ثم يزعمون أنهم يخافون على المسلمين من المجاعة الناتجة عن كثرة السكان!(95/1)
العلاقة بين تقليص الجهاد والدعوة إلى تحديد النسل(95/2)
خوف الكفار من عقيدة الجهاد عند المسلمين وتنفيرهم عنها
فانظر كيف صنع الشاذلي بن جديد كما يصنع الفأر الذي احتار كيف يخرج من المصيدة، فقام يستعمل قوانين الطوارئ، ثم يخرج الجيوش، ويطلق النيران، ويلجأ للبطش والتعسف مع بني جلدته، ثم تسارع الدول الغربية كإيطاليا بإعانة الجزائر، وتعطي الحكومة الجزائرية وتفيض عليها بالأموال، وتزعم أن نظام الحكومة الجزائرية هو أصلح نظام يمكن أن يتعامل مع هؤلاء الذين يسمونهم: بالإسلاميين، أو الأصوليين.
وقامت فرنسا بالضغط من جانبها، وتقول أمريكا: لا يمكن أن نسمح بقيام حكومة إسلامية في الجزائر! فأين الديمقراطية؟! وأين الحرية؟! وأين هذه المبادئ الكاذبة؟! وهم من الممكن أن يتسامحوا مع أي نظام في العالم إلا النظام الإسلامي والدولة الإسلامية، فإذا أقيمت نواة دولة إسلامية في أي بقعة من بقاع الأرض فهم يعرفون جيداً ما يعنيه ذلك من تهديد لمصالحهم، وتهديد لوجودهم.
ولا شك أنهم قد تلقوا درساً لن ينسوه في أفغانستان، وما زالوا يتلقون شيئاً منه أيضاً في فلسطين، وهم يعرفون طبيعة هذه الأمة، وطبيعة هذه العقيدة، ومن أجل أنهم يعرفون ذلك، فهم يخافون من الإسلام ويحاربونه بكل هذه الوسائل، ويخافون من عقيدة الجهاد في هذا الدين.
أثناء الاحتلال الفرنسي -وبالذات في الجزائر حسب ما قرأنا- كان الفقهاء يُمنعون من تدريس كتاب الجهاد في دروس أئمة المساجد، فحينما تقرأ في صحيح البخاري أو غيره وتصل إلى كتاب الجهاد يمنعك الحكام الفرنسيين أن تقرأ أحاديث الجهاد أو نصوص الجهاد؛ لأنهم يعرفون أن من اعتقد هذه العقيدة وآمن بهذا القرآن، فسوف يكون أعظم أمل له في الحياة أن يعقد صفقة بينه وبين الله تبارك وتعالى مؤداها: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].
شيء طبعي أن يخاف اليهود والنصارى من دين أنزل الله تبارك وتعالى في كتابه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
وقد كانوا ولا يزالون أعظم حرصاً على الدنيا، ويحبون البقاء في الدنيا، {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]، إن كانوا هم كذلك، فأين هم من المسلمين الذين يقول الله تبارك وتعالى لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38].
فالخوف من الموت والخوف من قلة الزرق -كل هذا- لا مكان له في هذه الأمة، إذا رُبّيت على عقيدة الإسلام فلن تخاف الموت؛ لأنها تعلم أن: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38]، ولن تخاف على الرزق؛ لأنها تعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يبسط الرزق، وأن الرزق في السماء: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22].
أيضاً: كيف لا يخافون ديناً يعلم أتباعه أن التولي يوم الزحف من أكبر الكبائر ومن الموبقات؟! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:15 - 16].
كيف لا يخافون هذا الدين الذي ينفخ في أتباعه روح الاعتزاز والانتصار بالله عز وجل؟! قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، ويقول تبارك وتعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104].
أيضاً: كيف لا يخافون من دين يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه؛ مات على شعبة من النفاق)؟! إذاً: روح الجهاد تسري في دم هذه الأمة إذا عادت إلى دينها، وإذا فهمت دينها، فلذلك تجد الغزو يعمل بكل الأساليب لكي تموت هذه الروح في الناس، إما بتثبيط الشهوات، أو بتثبيط الشبهات، وإما بتثبيط أجهزة الإعلام، وإما بالبطش، وهكذا تتلون الأساليب، وكلها تهدف إلى هذا الهدف وهو عزل الولاء لهذا الدين، وعزل هذه الأمة عن التربية الإسلامية الحقيقية.
إذا تأملت طريقة تدريس التاريخ في المدارس، وتصفحت كل مراحل التاريخ الإسلامي التي درسناها في المدارس في الإعدادية والثانوية -مثلاً- تجد أن التاريخ الإسلامي يوضع بطريقة أن هذه أمة منهزمة! من خلال التركيز على مراحل وفصول انهيار أمة؛ لغرس مفهوم أن الأمة الإسلامية تنهار، ثم في تدريس تاريخ أوروبا والغرب يأتيك بانطباع أمة تبنى وتنمو وتقوى حتى تصير مثل العملاق العظيم! فهذه الروح الإنهزامية الخبيثة مبثوثة في التاريخ، فلا يذكرون سوءات الحضارة الأوروبية، ويزعمون -بل يفترون الكذب- على الحضارة الإسلامية وعلى التاريخ الإسلامي.
مثلاً: قصة سليمان الحلبي لا تجد أبداً أي كتاب من كتب التاريخ ذكر كيفية قتل الفرنسيين سليمان الحلبي؛ عندما قتل كليبر، وليس من الممكن أن تجدها في كتاب تاريخ، حتى يدفنوا سوءات السادة الفرنسيين الذين يزعمون حرية الإنسان، واحترام حقوق الإنسان، فإنهم عذبوا سليمان الحلبي حتى أقر، ثم إنهم قطعوا يده أمامه وشووها، وفعلوا به الأفاعيل من التعذيب الوحشي قبل أن يقتلوه ويريقوا دمه، فهذه سوءة تستر مع أنه كناحية وطنية وقومية المفروض أن يقولوا: هذا بطل، لكنهم يفرضون التاريخ في المدارس بدون ما يشرب الجيل كراهية هؤلاء الكفار، ووصفهم بالوصف الذي يستحقونه بصفتهم أعداء لله، وأعداء لهذا الدين.
ولو أردنا استقصاء النماذج على ذلك لطال الوقت بنا جداً، ولخرجنا عن الموضوع الذي لم ندخل فيه حتى الآن، لكن نذكر الأسباب التي من أجلها يخافون من هذا الدين.(95/3)
نموذج للتربية الإسلامية على حب الجهاد
روى البخاري والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن أم الربيع بنت البراء -وهي أم حارثة بن سراقة - أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا نبي الله! ألا تحدثني عن حارثة؟ -وكان قتل يوم بدر، أصابه سهم غرب- فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال: يا أم حارثة! إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى).
قوله: سهم غرب، يمكن أن تقول: سهمُ غربٍ، أو سهمٌ غربٌ، وقد تحرك الراء، وهذا إذا لم يدر من أين أتاه هذا السهم، ومن الذي ضربه به، فيطلق عليه هذا الوصف.
وفي رواية: قال أنس: (أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول! لقد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع)، وفي بعض الروايات: (وإن تكن الأخرى اجتهدت عليه في البكاء، فقال: ويحك أوَهَبِلْتِ؟! أجنة واحدة هي؟! إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس الأعلى)، وزاد رزين: (إنه في الفردوس الأعلى، وسقفه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة، وإن غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، لَقَاب قوس أحدكم أو موضع قدّه -القاب: هو القَدْر، والقدّ: هو السوط- من الجنة خير من الدنيا وما فيها)، فمجرد الموضع الذي يوضع فيه السوط أو القوس خير من الدنيا وما فيها.
ويقول عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث: (ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت الدنيا وما فيها، ولنصيفها -يعني: خمارها- خير من الدنيا وما فيها).
فالشاهد من هذا الحديث السابق: قولها رضي الله عنها: (ألا تحدثني عن حارثة، فإن كان في الجنة صبرت)، وفي رواية: (فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب)، فهذه الأم مع تعلقها الشديد بابنها فإنها تصبر وتحتسب وترجو الأجر من الله تبارك وتعالى.
تقول: (وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء) وفي الروايات الأخرى: (وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع) أي: من البكاء والحزن الشديد عليه وذلك إذا علمت أن ابنها لم يفز بالجنة، فإن كان قد فاز بالشهادة وانتقل إلى ما هو خير من الدنيا فإنها تصبر وتحتسب، ولا تجزع ولا تحزن.
فهذه هي التربية النبوية، وهذه هي تربية الإسلام للنساء فضلاً عن الرجال، فإن هذه الأمة -كما ذكرنا- أمة ولود، تلد لأن لها رسالة في الحياة لا تنفك عنها أبداً، ألا وهي ذروة سنام هذا الدين، وهو الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.
فهذا الفعل من هذه الأم -ونظائرها كثيرات جداً في التاريخ الإسلامي- لعله هو السبب الذي جعل أعداء الإسلام يخافون من هذا الدين، وهم يفقهون جيداً طبيعة هذه الرسالة وطبيعة هذا الدين، وأنه إذا عادت روح الإسلام من جديد في هؤلاء المسلمين فلن تقف أمامهم قوة في الأرض، فهم يعلمون جيداً ما الذي يمكن أن تثمره التربية الإسلامية، والفهم الإسلامي الصحيح لرسالة هذه الأمة في الوجود من مصاعب تزلزل وتهدد كيانهم.
وإذا قلبنا صفحات التاريخ الإسلامي فإنا نجد نماذج كثيرة جداً، سواء من النساء أو حتى من أطفال المسلمين، فهناك علاقة وثيقة بين ما شرعنا في دراسته من قضية تحديد النسل، والترغيب في أن تكون الأمة كلها ولوداً لا امرأة واحدة، وبين رسالة هذه الأمة وهي الجهاد والبذل في سبيل الله تبارك وتعالى، وما صوّر لنا من الترغيب فيما يضاد المقاصد العليا للشريعة الإسلامية إنما هو مظهر من مظاهر المؤامرة المحكمة على عقائدنا، وعلى ديننا، وعلى أمتنا.(95/4)
نموذج عصري للطفل المسلم المجاهد
نذكر أنموذجاً يحضرنا من العصر الحديث، وقد حدث حينما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر، وتصدى لها المسلمون من منطلق الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، فقد قام فتىً صغير من الصعيد بالتسلل والرحيل إلى الشمال؛ للجهاد في القاهرة، ثم كان هذا الفتى يتسلّل بمفرده كل ليلة إلى معسكر الفرنسيين، فيدخل مخزن الأسلحة ويستولي على بنادق الفرنسيين، ثم يعود سابحاً في الترعة إلى أهله، فيتسلح بهذه الأسلحة في مقاومة الفرنسيين، وعندما اكتشف الفرنسيون النقص في الأسلحة صدرت الأوامر من القادة الفرنسيين إلى الحراس بالترصّد للمتسللين، فلقد ظن الفرنسيون أن الذي يقوم بعملية السطو على الأسلحة من مخازنهم عصابة هائلة، فإذا بهم يفاجئون بهذا الصبي وحده يصنع هذه العملية، فانقضّوا يحاولون القبض عليه، فما كان من هذا البطل الصغير إلا أنه ظل يقاومهم حتى انكسرت ذراعه ولم يستطع الحركة، فقبضوا عليه وحملوه إلى قائد الحملة وكان يُدعى: ديزي، فلما رآه القائد دُهش بشجاعته وبطولته، فعرض عليه أن يتبنّاه -أي: يتخذه ابناً له- فرفض وقال له: إنك كافر! فانظر إلى وضوح القضية في حس هذا الصبي الصغير! فمع أنه فتىً صغير لكنه يعرف طبيعة العلاقة بيننا وبين هؤلاء الكفار، فرفض التبني؛ لأن ذلك القائد كافر، وقد أُدهش وأُذهل القائد الفرنسي بشجاعته وبسالته، فعرض عليه أن يطلقه على أن يعده بألا يعود إلى سرقة السلاح، فرفض أن يعده بذلك ما دام الكفار باقين في بلاد المسلمين، وكان يمكن أن يكذب عليه ويعده، ثم يعاود أخذ الأسلحة، لكن مبدأ الصدق قد ترسّخ في نفسه منذ الصغر، وترسخت فيه الشجاعة في مواجهة الباطل، فما كان من القائد الفرنسي إلا أن أطلق سراحه، وأمر بتشديد الحراسة على السلاح!!(95/5)
خوف الكفار من انتشار الإسلام جعلهم يدعون المسلمين إلى تحديد النسل
إنّ أعداء الإسلام لا زالوا يخططون، ومن مخططاتهم الترويج لهذه الفكرة الخبيثة وهي: فكرة تقليل النسل المسلم، فهذا مظهر من مظاهر هذه المؤامرة؛ لأنهم يدركون كثيراً من الحقائق، لكن -وللأسف- أن كثيراً من المسلمين لا يعونها ولا يعرفونها، فهم يعرفون جيداً أن الإسلام هو الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي مهما ظهر الأمر بخلاف ذلك، فهذه حقيقة العلاقة بيننا وبين الغرب، وهذه الحقيقة لا يتفطن لها كثير من المغفلين والسُذّج والبسطاء، لكن هي الحقيقة شاءوا أم أبوا.
وفي أثناء الحرب الأخيرة التي حصلت في الخليج كانت تصدر بعض التصريحات أحياناً، وربما كانوا يمارسون هذه الأمور بحرية في الخارج أكثر من هنا، وقامت بعض أجهزة الإعلام الغربية في بريطانيا مثلاً بتصوير أجزاء من الصواريخ التي كانت تقع على العراق، وبعض هذه الصواريخ كان الجنود النصارى الذين أتوا لينقذوا المسلمين من أيدي المسلمين في الظاهر! قد كتبوا عليها بعض العبارات، مثل: إلى صدام: ادع الله، فإن لم يستجب لك الله فالجأ إلى يسوع!! وكتبوا على صاروخ آخر: من أبناء موسى، وإلى أبناء محمد! فهذه الروح الصليبية الحاقدة لا زالت، ولا ننسى قول بابا روما -بابا الكاثوليك- حينما خرج عن وداعته التي يتكلفها، ولم يستطع أن يكتم هذه العبارة فقال: هذه حرب مقدسة، وهذه حرب عادلة، فانحاز إلى هذا الأمر، وتبشبش لما حصل في هذه المحنة.
فالشاهد: أن هذه حقيقة نواياهم، فمثلاً هذا: نورنت برون المعروف بنشاطه الجاسوسي لبريطانيا في وسط العرب هنا يقول: إن الإسلام هو الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي.
والحاكم الفرنسي في الجزائر يقول في ذكرى مرور مائة سنة على استعمار الجزائر: إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرءون القرآن، ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن من وجودهم، ونقتلع اللغة العربية من ألسنتهم.
وهذا جلادستون -رئيس وزراء بريطانيا الأسبق- كان يقول بصراحة شديدة: ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، أو أن تكون هي في أمان!! وحتى قوى الشرق العالمية كالدول الشيوعية فإنها تصرح بذلك، ففي أوزباكستان يقول بعضهم بالحرف الواحد: من المستحيل تثبيت الشيوعية قبل سحق الإسلام نهائياً.
والحمد لله، فقد سحقهم الله، وأذاق بعضهم بأس بعض.
ويقول أحد المنصرين أيضاً: إن القوة الكامنة في الإسلام هي التي وقفت سدّاً منيعاً في وجه انتشار المسيحية، وهي التي أخضعت البلاد التي كانت خاضعة للنصرانية.
وقال آخر من هؤلاء المبشرين بالنار: لم يتفق قط أن شعباً مسيحياً دخل في الإسلام ثم عاد نصرانياً! وهذا مصداق لما قاله هرقل حين كان يستعلم عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عن أتباعه: هل يزيدون أم ينقصون؟ فقال أبو سفيان: بل يزيدون، قال: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
فهذا اعتراف من هرقل بالإسلام.
وهذا: بن جوريون -رئيس وزراء إسرائيل السابق- يقول: إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم الإسلامي محمد جديد! فالقوم في حالة رعب وفزع شديد من الإسلام، حتى الأمهات إلى اليوم في أوروبا -وبالذات في إيطاليا- حين تريد الأم أن تخيف ابنها فإنها لا تقول: الغول! ولا تقول ما يقوله الناس، بل تقول: سآتيك بـ صلاح الدين، وهذا من شدة الرعب والفزع من صلاح الدين رحمه الله.
وهم أيضاً -كما ذكرنا- يعلمون أن مصدر الخطر الحقيقي عليهم هو الإسلام، فتؤخذ كل الوسائل، فصحيح أن الاستعمار قد تلوّن، لكنه لم يظهر في الحقيقة، بل ما زال بنفس العقلية ونفس الموقف الخبيث نحو المسلمين، كما قال عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، فلا زال هذا الموقف هو الحقيقة الكامنة في قلوبهم رغم أنهم يزعمون ويظهرون خلاف ذلك.
يقول رائد الجاسوسة نورنت برون أيضاً: كان قادتنا يخوفوننا بشعوب مختلفة، ولكننا بعد الاختبار لم نجد مبرِّراً لمثل تلك المخاوف، فكانوا يخوفوننا بالخطر اليهودي، والخطر الياباني، والخطر البلشفي، لكنه تبين لنا أن اليهود هم أصدقاؤنا، والبلاشفة الشيوعيين حلفاؤنا، وأما اليابانيون فإن هناك دولاً ديمقراطية كبيرة ستتكفل بمقاومتهم، لكننا وجدنا الخطر الحقيقي علينا موجود في الإسلام، وفي قدرته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته المدهشة! ويقول دازنوت -وهو أيضاً مستشرق من المستشرقين-: إن القوة التي تكمن في الإسلام هي التي تخيف أوروبا! ويقول هاموتوا -وزير خارجية فرنسا سابقاً-: لا يوجد مكان على سطح الأرض إلا واجتاز الإسلام سوره، وانتشر فيه، فهو الدين الوحيد الذي يميل الناس إلى اعتناقه بشدة تفوق كل دين آخر.
والعجيب أن هذه التصريحات تأتي على ألسنة أعداء الإسلام أنفسهم، مع أنهم حريصون على كتمان هذه الحقائق، لكنهم لم يستطيعوا كتمانها، ويعرفون أنهم لو كتموها فسيكونون كمنكري الشمس في رابعة النهار.
ذكرت الإحصائيات الرسمية أنه في أقل من ثلاثين سنة سيزداد عدد المسلمين في أمريكا زيادة كبيرة، بحيث سيشكلون الدين الثاني فيها مع أديان الكاثوليك، وإن شئتَ قلت: الدين الأول؛ لأن الكاثوليك في الحقيقة ليس لديهم دين على الإطلاق! ولذلك بعد ثلاثين سنة -كما يقدرون- فإن الدين الإسلامي هناك سيكون أمراً ملفتاً للنظر؛ بسبب زيادة معدل التناسل للمسلمين، فيكونون هم الفئة الثانية في أمريكا، والله أعلم.
وكذلك ينتشر الإسلام في فرنسا بصورة كبيرة، حتى أن زعماءهم في الانتخابات يحاولون مداعبة عواطف الفرنسيين عن طريق التلميح إلى فكرة طرد أو تقليل وجود المسلمين غير الفرنسيين في داخل فرنسا، وبعض الناس يذكرون من مناقب ديغول رئيس فرنسا: أنه حرر الجزائر وأعطاها استقلالها، وكثير من الناس لا يفطنون إلى أسباب هذا التصرف من ديغول، فقد قال لهم في الجمعية الوطنية الفرنسية حين كان هناك أناس يعارضون فكرة استقلال الجزائر؛ لأن فرنسا كانت تنادي بأن لها حقاً تاريخياً في الجزائر، وأنها جزء لا يتجزأ من فرنسا، فشجع ديغول استقلال الجزائر، واضطر إلى أن يصارح أعضاء الجمعية الوطنية بالسبب في ذلك، فقال: تعرفون أن الجزائر فيها كذا مليون مسلم، وإبقاء هؤلاء كمواطنين فرنسيين فيه خطر على فرنسا، أتقبلون في يوم من الأيام أن يصبح مثلاً ثلث هذا الجمعية الوطنية من المسلمين؟! فاجتمعت كلمتهم على الموافقة على استقلال الجزائر.
إن من آيات الله، ومن علامات أن هذا دين الله الحق: أنه لا توجد دولة واحدة على وجه الأرض تتبنى قضية الإسلام، ولا توجد دولة واحدة على وجه الأرض تطبق الإسلام كما أنزله الله، أو تتحمس له، أو تقيم نشاطاً جدياً لنشر هذه الدعوة، والدفاع عنها، وبثها في الآفاق، بل كله نشاط رمزي خاضع لفئات قليلة، فالأصل أن كل هذه الأنشطة هي أنشطة آحاد من الدعاة المسلمين، أو الشباب الإسلامي في شتى بقاع الأرض؛ في داخل بلاد المسلمين وخارجها، ثم إن أصحاب هذا الدين يجاربون في بلادهم، ويُنكَّل بهم أشد التنكيل، حتى جاء اليوم الذي يقسَّم الناس فيه إلى إسلاميين وغير إسلاميين، وهذا اصطلاح غريب جداً نسمعه من كثير من الناس، فيقولون: فعل الإسلاميون في الجزائر كذا، وهم ينادون بكذا، فلماذا لا تقولون: فعل مسلم من المسلمين؟! ولماذا تقولون: إسلاميون؟! فمعنى هذا أن المسلمين ينقسمون إلى فئتين: فئة لا تريد إعزاز الدين، ولا شأن لها بالدين، وهؤلاء هم عموم المسلمين، وفئة أخرى اسمهم: الإسلاميون، وهم الذين اتجهوا إلى نصرة الدين، والجهاد في سبيله، والدعوة إليه، والبذل في سبيله، وهكذا.
فهذه فكرة خبيثة، فقُل: مسلمون، وقُل: كفار، ولا تقل: إسلاميون وغير إسلاميين، ثم يقرن بهم التشدد والتطرف، ويحصل الطعن الصريح في دين الله تبارك وتعالى ليل نهار، وصباح ومساء، في وسائل الإعلام وغيرها.
الحقيقة أننا الآن أصبحنا غرقى في بحر من المؤامرات على هذا الدين من داخل بلاد المسلمين قبل أن يكون من خارجها، وهذا مصداق لقول بعض الناس: خرج الإنجليز الحمر، وبقي الإنجليز السمر! فهي في الحقيقة لغات الاستعمار بين العساكر والحضارة، فهم الذين يحكمون ويقهرون بلاد المسلمين اليوم؛ ليكونوا خدّاماً ومخلصين لأغراض هذا العدو الكافر.
يقول البنشاذور وهو يتكلم بموقف خاص عن الإسلام: من يدري! ربما يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الغرب مهددة بالمسلمين، يهبطون إلينا من السماء مرة أخرى، وفي الوقت المناسب! ويقول أيضاً: لست متنبئاً، لكن الأمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة، ولن تقوى الذرة والصواريخ على وقف تيارهم، إن المسلم قد استيقظ، وأخذ يصرخ: هأنذا، إنني لم أمت، ولن أقبل بعد اليوم أن أكون أداة تسيرها العواصم الكبرى ومخابراتها.
وهناك تصريح على لسان أحد قوى الشر، حيث يقول: إن الخطر الحقيقي على حضارتنا هو الذي يمكن أن يحدثه المسلمون حين يغيّرون نظام العالم، فلما سأل أحد الصحفيين هذا الرجل: لكن المسلمين مشغولون بخلافهم ونزاعاتهم؟! فأجابه: أخشى أن يخرج منهم من يوجّه خلافاتهم إلينا.
ويقول مسئول في وزارة الخارجية الفرنسية سنة (1952م): ليست الشيوعية خطراً على أوربا فيما يبدو لي، إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديداً مباشراً وعنيفاً هو الخطر الإسلامي؛ فالمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي، فهم يملكون تراثهم الروحي الخاص بهم، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، فهم جديرون أن يقيموا قواعد عالم من جديد دون حاجة إلى إذابة شخصياتهم الحضارية والروحية في الحضارة الغربية، فإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الثمين، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الحضارة الغربية، ويقذفون برسالتها إلى مزابل التاريخ، وقد حاولن(95/6)