وظيفة البيت في التربية وأهميتها
مرحلة الطفولة الإنسانية في بني الإنسان أطول منها في سائر الكائنات الحية الأخرى، وما كان ذلك كذلك إلا من أجل أن تتوافر فترة أطول لتربية هذا الكائن المتميز، مما يؤكد خطورة وظيفة البيت في التربية؛ لأن المدارس الإسلامية في العالم الإسلامي الآن قليلة مع وجود كثير من القيود، وفي بعض البلاد تقوم المدارس التي تصنع المستقبل عن طريق صياغة عقول هذه الأجيال وهؤلاء الأبطال، فهي في الحقيقة لا تقصر فقط في تربيتهم التربية الإسلامية التي تؤهلهم كي يكونوا جنوداً لدين الله تبارك وتعالى، ولكي يحملوا الرسالة التي حملها أجدادهم وآباؤهم، وإنما تقوم بالعكس، تقوم بدور تخريبي لإفساد فطرة الأبناء عن طريق المناهج المسمومة، ومن ذلك ما يحصل من بذر بذور الشك في الدين والإيمان، والطعن في الإسلام، وتحطيم حاجز الولاء والبراء بين المسلمين والكافرين، ونسف أخلاق الإسلام نسفاً، وزرع الأفكار العلمانية والأفكار الشركية، ونفخ روح النعرات الإقليمية -خصوصاً الوطنية منها- كالنعرة الفرعونية، وغير ذلك من النعرات، وكذلك تهوين المعاصي على الأبناء.
فنشاهد أن مناهج التعليم تقوم أساساً بدور تخريبي هدام، وكان حرياً بمن شاركوا في فتح هذا الشر المستطير وأعلنوا المؤامرة على التعليم، كان الأولى -لو أن هذه الأمة بقي فيها حياة وغيرة على دينها- أن يحاكموا محاكمة مجرمي الحرب بتهمة الخيانة العظمى؛ لأنهم يدمرون الدين في نفوس الأجيال، ويقتلون الرابطة بينهم وبين دينهم، ويريدون أن يخرجوا أجيالاً تكره الله وتكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان أولى من أن يصعد أحدهم إلى منصب أعلى أن يحاكم بتهمة الخيانة العظمى لله ولرسوله وللمؤمنين، ولن نستطرد، وأذكر مثلاً واحداً على موضوع المؤامرة على التعليم والمناهج التعليمية التي يدرسها الآن أبناؤنا: فهناك كتاب (قواعد اللغة العربية للصف الثالث الإعدادي) وهو تابع لوزارة التربية والتعليم بمصر، وفي هذا الكتاب فقرة يقرؤها الطلاب والطالبات، ويطلب منهم استخراج بعض الأحكام النحوية واللغوية منها، هذه الفقرة مقتبسة من كتاب (إلى ولدي) لـ أحمد أمين، يقول فيها: قال الأب لأحد أصدقائه متحسراً على الماضي: رحم الله زماناً كان فيه الأب آمر الأسرة وناهيها، فلا راد لقوله، ولا مناهض لرأيه، ينادي فإذا كل من في البيت يتسابقون إلى ندائه، تحدثه الزوجة ويحدثه الابن في إذلال، أما البنت فتحدثه وهي غاضة طرفها من الحياء.
فأجابه ذلك الصديق قائلاً: إن أبناءك خلقوا لزمان غير زمانك، لقد نشأت في جو الخيل والطاعة والتقليد، ونشئوا في جو الحرية والتطور والتجديد، فأنت ابن الماضي، وهم رجال المستقبل! هذا أنموذج عابر؛ لأنه ليس من صلب موضوعنا الآن حتى نكثر ذكر الأمثلة، لكن الشاهد أن أبناءنا يربون على العقوق، على التمرد على الأبوين، على التحرر من سلطان الدين، على إفساد هذه الفطرة التي يودعها الله تبارك وتعالى أمانة في أعناق الآباء وأعناق هذه الأمة.
فهذا مما يجسد أهمية حماية الأجيال والأبناء من هذه اللوثة العقائدية الخطيرة.
وبعض المناهج في بعض البلاد الإسلامية لا توجد فيها أصلاً مقررات دينية، أو بعضها الآخر قد يقدم للطلاب مقررات تعليمية دينية، لكن بعد أن يحصل لها عملية تحريف وتبديل، وتسخير الدين من أجل خدمة قيم هذه النظم وأهدافها.
وحينما نتأمل واقعنا اليوم فنحن نجزم أن كل انحراف موجود فينا إنما منشؤه البعد عن هذه التربية الإسلامية، وأن هذا الانحراف لا يمكن تصحيحه إلا بالتربية الإسلامية، مصداق ذلك في قوله تبارك وتعالى: {ِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
إن لم نتدارك خطورة مناهج التعليم فسيخرج من أصلابنا ملاحدة، هذه المناهج تخرج أناساً لا علاقة لهم بالدين، فإن لم يستدرك المسلمون والدعاة إلى الله سبحانه وتعالى والأمهات بشكل خاص ثم الآباء هذه الأشياء فإننا على خطر عظيم، وهو أن يخرج من أصلابنا ملاحدة وزنادقة يبغضون الله ورسوله، ويصير الإسلام أشد غربة مما هو عليه الآن، فواجب البيت إزاء هذا الخطر هو في شكل من أشكاله وقائي، وفي الشكل الآخر هو علاجي فالوقائي قبل الالتحاق بالمدرسة، يأتي دور البيت في التربية قبل أن يلتحق الطفل بالمدرسة.
والعلاجي حيث يجب أن يطعم في البيت كما نفعل في تطعيم الأطفال ضد الأمراض والأوبئة، كذلك ينبغي أن يقوم البيت بإعطاء مضادات لهذه السموم التي تعطى لأبنائنا، والتي يتجرعها في المدرسة.
إن تربية الأطفال التربية الوقائية والعلاجية بجانب تربيتهم على القيم الإسلامية التي يستقونها من الأسرة تعين على أن يتغلب على كثير من هذه العقبات.
ثم أيضاً يجب التحذير من قرناء السوء، وقبل ذلك على الرجل إذا أراد أن يتزوج أن يسأل عن العائلة، فيقول: ما شأن عائلتها؟ كيف عائلتها؟ هل هم أناس طيبون؟ ولا ينبغي أن يسأل عن المال ولا الحسب، لكن يسأل عن دور العائلة في الأخلاق والآداب والتربية.
فعلى أي الأحوال إذا استمر الأمر على هذا الإهمال الموجود في الخلية الأولى التي هي الأسرة والأطفال فنخشى أن يخرج من أصلاب المؤمنين ملاحدة، كهؤلاء الملاحدة الذين يخرجون الآن ويعملون معاولهم في عقول الأمة، في الإعلام، وفي الصحافة، وفيما يسمى بالأدب وغير ذلك، فهؤلاء يحملون أسماء إسلامية، وآباؤهم كانوا مسلمين، لكنهم حرموا من هذه التربية، وربوا على أعين أعداء الإسلام، فخرجوا أعداء لله ورسوله والمؤمنين.
ولقد وصل أمر إهمال الدين في التعليم إلى حد أن خريج الجامعة في الغالب لا يتقن قراءة القرآن، وقد يلحن في فاتحة الكتاب إن كان يصلي، علاوة على جهله بالوضوء وبالصلاة والفرائض المتعينة عليه، لماذا؟ لأنه حرم من هذا التعليم.
ومعلوم أنه إذا لم يتعلمه في البيت أو المدرسة فإنه يخرج بهذه الصورة الشوهاء.(43/3)
أهمية دور الأم في تربية الأبناء
حينما نتحدث عن موضوع التربية وخطورة موقع الأسرة يجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا، ولا بد من أن نكون أكثر تحديداً في ألفاظنا، وفي ربط المهام وإناطتها بالمسئولين عنها، فإذا كنا نقول: إنه لا مخرج من الوضع الذي نحن فيه إلا بالتربية فإننا نتدرج إلى القول بأن البيت هو أول مؤسسة تربوية، ثم لا بد أن نكون صرحاء، ونجزم أيضاً بأن الأم هي العماد في العملية التربوية، فإن الواقع الذي نعيشه يؤكد خطورة موقع الأم اليوم في عملية التربية أكثر من الرجل، وفي الواقع الذي نعيشه ربما بعض الناس تكون نفوسهم مهيأة لأن يتبوأ الرجل منصبه الطبيعي، وذلك بقوامته وأنه القيم على كل شيء، بما في ذلك تربية الأولاد، هذا هو المطلوب، وربما بعض الناس يحظون بمثل هذا، لكن الواقع الذي تعيشه عامة الأمة الآن هو أن عملية التربية صارت بسبب أن الأب في الغالب في خارج البيت يكابد مشاق الحياة ويكدح بحثاً عن الرزق الحلال من أجل أن يوفر نفقة البيت ونفقة الأولاد، ويغلب على الأسر الآن في العام الأغلب إهمال الآباء لمسئولياتهم التربوية، فمن حيث الواقع صارت الأم هي المتولية لعملية التربية.
إذاً إذا لم تكن الأم من الأمهات الهاربات، والأم الهاربة هي التي يسمونها الأم العالمة العاملة، فالأم هذه في الحقيقة ليست عاملة؛ لأن عملها في بيتها، وهذه الوظيفة هي أخطر وأقدس وظيفة على الإطلاق، فهذه امرأة هاربة من محل وظيفتها الأساسية وليست امرأة عاملة.
ومما يرشح وظيفة الأم ويؤكد خطورتها أن الأم أكثر ملازمة للطفل من الأب، كذلك الأم أقدر من الأب على معايشة الطفل وتلبية احتياجاته بحب وحنان فطري غرسه الله سبحانه وتعالى في قلبها، فهي تضحي بكل شيء حتى بحياتها في سبيل ولدها الذي هو قطعة من بدنها، ولذلك يلاحظ عندما يرجع الأب من العمل منهك القوى مكدوداً من سعيه في طلب الرزق الحلال أن كل همه أن تكف الأم الضوضاء التي يحدثها الأولاد؛ لأنه يريد أن يستريح أو ينام أو يأكل، فتراه يقول: كفي عني شر هؤلاء الأولاد وضوضاءهم.
بخلاف الأم فإنها تكون راضية مطمئنة، فالأم طول عمرها لا تشتكي أبداً، بل تضحي بكل أنواع التضحية، أما الأب فربما إذا كلفته الأم أن يحمل الرضيع -مثلاً- لدقائق معدودات فإنه يضج، وليس عنده صبر في الغالب على مثل هذا، إلا من شاء الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الصبر، ومن أجل ذلك نوه القرآن بمكانة الأم، كما في قوله عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، فالأم عبارة عن موظف متفرغ تماماً لهذه الوظيفة الخطيرة، والوظيفة الأساسية للأم بعد عبادة الله سبحانه وتعالى وطاعته هي رعاية الأطفال وتربيتهم.(43/4)
ضرورة الاهتمام بالمرأة المسلمة وإعدادها
مما يجسد خطورة هذه القضية أيضاً في الحقل الإسلامي أنه إذا لم توجد الأم المسلمة أو الأخت التي ربيت تربية إسلامية أنه إذا أراد شخص ملتزم أو داعية أن يتزوج فتزوج امرأة غير ملتزمة فإنها تؤثر عليه بالسلب إذا تزوجها ولم تكن على نفس المستوى من القوة في الدين، فإنه ربما تجذبه إلى الوراء، وتشده إلى الأرض حتى يتراجع عن دعوته، ويسقط بتأثير هذه الفتنة على الدرب كثير من الأزواج، وهذه إحدى سلبيات عدم الاهتمام بتربية الأخت أو الأم المسلمة.
وعلى أي الأحول كل هذه الاعتبارات تؤكد ضرورة إعداد الأم إعداداً يتناسب مع مهمتها، فإنشاء الأم المسلمة الواعية الفاهمة هو شيء خطير وعظيم؛ لأنه يعطي النموذج العملي لإعادة الفطرة إلى حقيقتها، مما يؤكد خطورة موقع الأم المسلمة في بناء المجتمع المسلم.
لقد اهتم أعداء الإسلام بدارسة الأم المسلمة، فهذا قائد الطيران الإسرائيلي في حرب عام سبعة وستين وستمائة وألف من الميلاد أعد رسالة ماجستير، أو رسالة في دراسة عليا، هذه الدراسة كانت حول المرأة العربية، فلماذا يهتمون بالمرأة العربية؟ لماذا تعقد هذه الدراسات؟! إنه من أجل إفسادها، ومن أجل تعطيلها عن وظيفتها الحقيقية والخطيرة، ولأنها تدير داخل البيت مصنع الأبطال والمجاهدين، مصنع الأمهات الصالحات والزوجات التقيات، فهي التي تهز المهد بيمينها، فربما كان هذا الذي يركض في المهد هو الذي سيهز العالم فيما بعد بقوته وعلمه وبأسه وسطوته، ليس هو قطعة لحم ملهية، بل يمكن أن تكون هناك أمم تنتظر أن ينقذها هذا الولد أو هذا الابن مما هي فيه من الذل والهوان.
لقد أدرك الغرب أهمية دور المرأة في بناء الأسرة، فالآن تجد الإعلانات في العالم الغربي كله، في أمريكا وأوروبا تنادي بعود المرأة إلى البيت بمنتهى الصراحة والقوة، بعد أن ثبت فشل هذا الاتجاه وهذه النظرية التي تدعو إلى هروب المرأة من البيت.
ولقد اعتاد بعض الأطباء الأمريكيين -وهو طبيب أطفال- أنه إذا أتته أم من الأمهات الأمريكيات بطفلها المريض أن يكتب في ورقة العلاج: العلاج هو العودة إلى الأم الحقيقية.
إن فطر القوم قد فسدت بسبب هروب المرأة من وظيفتها الأساسية وخوضها فيما ليس من مجالها.
وعلى أي الأحوال فهروب المرأة من بيتها وتخليها عن وظيفة التربية مع انشغال الأب الذي يدفع ثمنه هم الأولاد، ثم المرأة نفسها، ثم زوجها، ثم الأمة بأسرها.
يقول الشاعر: ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا(43/5)
أهمية التربية في التغيير
إن التربية هي وسيلة التغيير الأساسية؛ لأن الوسائل الأخرى لإحداث التغيير في المجتمعات إنما تتعامل فقط مع أمور نظرية بصفة أساسية، أعني التغيير الاجتماعي أو العسكري أو الثورة الاجتماعية، إنما تتعامل مع أمور ظاهرية، أما النصوص فلا تتغير بهذه الأساليب، النصوص لا تتغير إلا عن طريق التربية، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونحن حينما نخاطب بهذا المستوى من الأعمار أعمار شباب الصحوة الإسلامية فمن الخطأ أن نقول: نحن نحتاج إلى تربية مع التعاون مع مثل هذا السن فمما يؤسف له أننا بحاجة إلى إعادة تربية الشباب الذي ينتقل من مرحلة عدم الالتزام بالدين إلى الالتزام بالدين، فهو بالفعل قد ربي طبقاً لما نشأ عليه منذ الصغر في بيته، ثم في المدرسة، ثم في الجامعة، ثم في اختلاطه بالمجتمع.
فنحن الآن -فيما يتعلق بالكبار- نحتاج إلى إعادة تربيتهم من جديد، نحتاج أولاً إلى هدم ركام الأفكار المضادة المستقرة منذ فترة، ثم إعادة بناء الشخصية وفق المنهج الرباني كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تصفية العقيدة والقيم والمفاهيم، وبالتالي يتغير السلوك، ثم تأتي الابتلاءات والمحن التي هي سنة كونية من الله سبحانه وتعالى، فيصلب عود المرء ويثبت أمره على دينه ويشغل بذلك، لكننا لا نريد أن نغفل هذا الأمر، وصحيح أننا ننشغل الآن كثيراً بطلب العلم، وبأمور الدعوة، ولكن في الحقيقة ينبغي أن يكون نظرنا إلى الأساس أكثر، أن نعطي الأمور أولوياتها التي تستحقها، ولا ينبغي أن ننظر إلى هذا نظرة احتقار أو ازدراء، أو أن هذا الكلام مثل الواجب في التربية الوطنية، أو التربية القومية، أو كلام صحف، إنما نقول: الأطفال هم المستقبل، وهذه الحقيقة.
لقد كنا في يوم من الأيام أطفالاً، وأي إنسان أدى دوراً من الأدوار فقد كان طفلاً، وظهر حسب التربية فيما بعد، كما هو معلوم أن المستقبل الحقيقي للدعوة والأمة الإسلامية إنما يصنعه هؤلاء الأطفال إن أحسنا تربيتهم من الآن.(43/6)
مراحل التغيير في التربية
لابد من المضي في عدة خطوط: تربية مستمرة للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى علماً وعملاً، فينبغي أن يكون لك تربية علمية منهجية ومرحلية ويكون فيها العلم بجانب العمل جنباً إلى جنب، ثم تربية أطفال الدعاة والمنتمين إلى الدعوة، فهم يأتون في المرتبة الثانية بعد الدعاة.
فلابد من الاهتمام الشديد بأطفال الدعاة، وليس هذا نوعاً من التمييز العنصري، كلا؛ لأن الغالب أن أطفال الدعاة والمنتمين إلى الدعوة قد توافرت لهم بيئة صالحة غير معادية للإسلام أو جاهلة بالإسلام، بل المفروض أن تكون البيئة التي ربينا نحن أبناءنا فيها أفضل من الأجيال الماضية؛ لأن الأخ الملتزم والأخت الملتزمة صارا ركنين أساسين في الأسرة، ولن يعانيا ما عانته من قبل أسرتاهما، وكذلك الملتزم إذا التحى والتزم بصلاة الجماعة وغير ذلك فإنه لن يتلوث ببعض الأمور التي نشأنا عليها من الاختلاط والمفاهيم الخاربة في مناهج التعليم أو في الأسر، وإنما هذا المفترض أن يكون حظه أسعد من غيره؛ لأن هناك أباً مسلماً وأماً مسلمة يوفران عليه كثيراً من العناء، ويوفران عليه كثيراً من المراحل التي قطعها الجيل السابق.
إن عملية تربية الطفل -كما قال مالك بن نبي رحمه الله تعالى- لا تبدأ بالولادة، وإنما تبدأ بانتقاء الزوجة، وإيثار ذات الدين على غيرها، تبدأ عند إتيان الأهل، وذلك بذكر الله سبحانه وتعالى حتى لا ينالهما الشيطان بسوء، أو الولد إن قدر بينهما ولد لم يمسه الشيطان، تبدأ إذا كان الولد نطفة في رحم أمه أو مضغة، وذلك بالدعاء ليل نهار أن يخرج الله من صلبهما من يجعل عز الإسلام على يديه، كما حصل من الأئمة الأجلاء من قبل، فقد كانوا يستعدون للذرية الصالحة كما حكى الله عن عباد الرحمن: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، فإذاً العملية بالفعل تبدأ قبل ذلك وقت اختيار الزوجة.
فالشاهد أن أطفال الدعاة المفترض أن العقبات الموجودة في الأسر الأخرى ليست موجودة أمامهم؛ لأنهم متشبعون بروح الدعوة، ومتشبعون بمفاهيمها، فالمفترض أن يكون هؤلاء أجدر من الآخرين، أن يكونوا امتداداً لآبائهم؛ لأن فرصتهم -كما ذكرنا- أحسن من غيرهم.
المرحلة الثالثة: الاهتمام عموماً بتربية أطفال المسلمين، عن طريق المساجد والمدارس ووسائل الإعلام إن أتيح، فإذا نشأ الطفل منذ الصغر على التربية الإسلامية تغلغلت فيه، وأصبحت جزءاً من كيانه، وشكلت سمات ومميزات شخصيته البارزة والثابتة.(43/7)
المرأة والطفل في نظر الأعداء ونظر الشريعة
يقول أحد المنصرين: يجب نؤثر وأن يدور التفكير في جانب العمل بين الصغار، ونجعله عمدة عملنا في البلاد الإسلامية.
إذا أردتم أن تفسدوا أولاد المسلمين فخططوا بأن تبدءوا مبكرين جداً.
يعني: منذ الصغر.
والحقيقة أن كل هذه المقدمة ليست بعيدة عن الموضوع الأساسي الذي قصدنا الحديث فيه، وهو دور المرأة في التربية والدعوة؛ فإننا جميعاً متهمون -ونحن نستحق هذا الاتهام فعلاً- بالتقصير الشديد جداً في حق الأخوات المسلمات، فأغلب خطط الدعوة تهدر حق الأخوات من الاهتمام اللائق بخطورة منصبهن، هذه الأخت هي التي تمارس العملية التربوية واقعياً وحقيقياً، وفي الغالب تجد الإخوة يشتغلون بالأنشطة الخارجية الكثيرة التي تستهلك طاقتهم، ويتركون الجبهة الداخلية خاوية، وإذا تركت خاوية فإنهم سيدفعون الثمن بلا شك.
ونحن حينما نتكلم عن حق الأخوات المسلمات في الاهتمام بهن عند التخطيط في التربية والدعوة فإن هذه ليست منة، وليست لأننا نخاف على الأبناء وليس لهن أهمية في المقام الأول، كلا، بل سنرى كيف كرم الإسلام المرأة وأعطاها من الحقوق ما لم تحظ به المرأة في أي شريعة من الشرائع ولا دين من الأديان.
هؤلاء يقولون: إن المرأة نصف الأمة.
ونحن لا نقول: المرأة نصف الأمة.
بل المرأة هي الأمة بسائرها، من منا ليس له أم أو أخت أو بنت أو زوجة، هذه هي العلاقات بيننا وبين النساء المسلمات.
درج أعداء الدين على أن يسموا كل من لا يسايرهم في أهوائهم وضلالتهم يسمونه (عدو المرأة)، فكل من لا يمشي في ركابهم يعتبر عدواً للمرأة، ويوصم بهذا اللقب المكذوب.
فمن الذي يعادي المرأة؟! كيف للمسلم أن يعادي المرأة والمرأة هي أمه أو أخته أو زوجته أو ابنته؟! فكيف يعاديها؟! وإذا كانوا يقولون: المرأة نصف المجتمع فنحن نقول للمرأة: أنت نصف الأمة، ثم إنك تلدين لنا النصف الآخر، فأنت أمة بأسرها.
ومن ثم تهتم الشريعة هذا الاهتمام بالمرأة، وقد لاحظنا ذلك كثيراً في الشريعة الإسلامية.
فانظر إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة:233]، أي أنه عندما ينفصل الزوجان بالطلاق يحصل تنظيم لعملية الرضاع ويجعل للمرأة دورٌ في موضوع الشورى في مثل هذه العملية؛ لأن عملية الرضيع مسئولية الزوجين معاً.
قال تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} [البقرة:233] أي: من الأب والأم مع وقوع الطلاق.
كذلك هناك مواقف كثيرة تبين احترام الشرع لرأي المرأة وتعظيم قدرها، كما سنبين إن شاء الله تبارك وتعالى فيما بعد، لكن في موضة العصر المرأة تطالب بالحقوق قبل أن تؤدي الواجبات، والمقصود المرأة غير الصالحة وغير الملتزمة التي تعتني غالباً بالمظهر وتهمل الجوهر، أو تعتني بالجسم قبل الروح، أو تعتني بزينتها في الشارع وتهمل ذلك في البيت، ولا يجوز خارج البيت.
خرجت المرأة في الغرب للعمل وزاحمت الرجال وهي مضطرة غير مختارة؛ لأنها إن لم تفعل ذلك في الغرب ستهلك وتموت جوعاً، فلا تجد من يؤويها وينفق عليها، فالبنت في الغرب إذا بلغت سن الثامنة عشرة تطرد من البيت إلى الشارع، ويمكن أن تقيم في البيت، لكن بشرط أن تدفع فاتورة الهاتف، وفاتورة المياه، وتدفع إيجاراً، وتدفع كذا وكذا وكذا، لكن أين هذا من تكريم الإسلام للمرأة؟! وبعبارة أخرى: أين هذا من تفريغ الإسلام المرأة من أجل اشتغالها بالوظيفة التي كلفها الله سبحانه وتعالى بها؟! فالمرأة في الإسلام هي مكفولة الحاجات ليس عليها نفقة، فإما أنها بنت في بيت أبيها، فأبوها يجب عليه أن ينفق عليها، وإما زوجة تحت رعاية زوجها، فالنفقة مسئولية زوجها، ففرغت من كل ما يشغلها عن وظيفتها الأساسية كما سنبين.
ونحن نحتاج قبل أن نستطرد في بحثنا إلى أن نشير إشارات عابرة إلى تكريم الإسلام للمرأة بعد الإهانة التي تعرضت لها في الجاهلية، فمعروف ما كان يحصل من كراهة الجاهليين للبنات، قال عز وجل: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:58 - 59].
ولما أشرقت شمس الإسلام على المرأة ما نظر الإسلام إلى المرأة كما نظر إليها الآخرون، فالنصارى -مثلاً- نظروا إلى المرأة على أنها عبارة عن جرثومة خبيثة.
وفي الديانة اليهودية والنصرانية المرأة عدو لدود للرجل، وهي شيء خبيث ونجس يجب الابتعاد منه، بل بعض الناس كان يتمدح بأنه يهرب من ذل المرأة لأنه لم يتزوج، ويسوغ فعله ذلك بقوله: إن المسيح لم يتزوج، فهذا يدل على أن الزواج دنس ينبغي على الإنسان أن يتطهر منه ويتنزه عنه.
كذلك عقد في العصر الذي كان يقابل فترة شباب النبي صلى الله عليه وسلم مجلس عن المرأة في فرنسا، كان هذا المؤتمر مجتمعاً كي يناقش: هل المرأة إنسان فيه روح أم ليس فيه روح؟ وإذا كانت فيها روح فهل هي جديرة بالخلاص أم ليست جديرة بذلك؟ ونحو ذلك من الكلام.
وفي آخر المؤتمر قرروا أن المرأة إنسان فيه روح، ولكنها أقل من روح الرجل.(43/8)
تكريم الإسلام للمرأة ومساواتها بالرجل في كثير من الأحكام
شرع الله سبحانه وتعالى تكريم المرأة بقوله عز وجل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228].
ويقول عمر: (ما كنا في الجاهلية نعد النساء شيئاً، حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم) فسوى الإسلام بين الرجل والمرأة في الإنسانية، فقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ} [الحجرات:13]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال)، و (شقائق): جمع شقيقة.
كذلك سوى الإسلام بينهما في أغلب تكاليف الإيمان، وفي الأهلية كأهلية الوجوب وأهلية الأداء، فهذه ثابتة في حق الرجل وفي حق المرأة.
ويقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة:10] إلى آخر الآيات.
وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58].
ومما يعلم من دين الإسلام بالضرورة أن المرأة عليها ما على الرجل من أركان الإسلام، إلا الصلاة فإنها تسقط عنها في زمن الحيض والنفاس، وتتركها ولا تعيدها لأنها كثيرة، أما الصيام فيسقط عنها في زمنهما فقط كما هو معلوم ثم تقضي، أما الحج فيصح منها في كل حال، إلا الطواف فلا يصح منها حال الحيض.
وكذلك هناك مساواة بين الرجل والمرأة في المسئولية المدنية والحقوق المدنية، قال عز وجل: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء:32].
ويقول تبارك وتعالى أيضاً: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38] فالمسئولية واحدة.
كذلك هناك مساواة بين الرجل والمرأة في جزاء الآخرة وثواب الآخرة، يقول تبارك وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]، وقال تبارك وتعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195].
وفي مشاهد القيامة يقول تبارك وتعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد:12].
فالإسلام سوى بين الرجل والمرأة في الإنسانية وفي التكاليف، وفي الجزاء والثواب في الآخرة، فالقضية التي نناقشها اليوم ليست هي قضية المساواة بين الرجل والمرأة وتفاصيل ذلك، وإلا فهناك مجالات ليس فيها مساواة، هناك أحكام تخص الرجل وأحكام تخص المرأة ليس هذا أوان الكلام فيها، لكننا نريد الكلام على موضوع المساواة في قضية بعينها، وهي أن للمرأة حقاً بأن تتعلم وأن تعلم، خصوصاً داخل المنظومة الإسلامية، فلها حق التعليم في ضوء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال)، فنخص قضية المساوة في الحقوق التعليمية والتربوية والدعوية دون ما عداها؛ لأنها ألصق بموضوعنا، فيقول الله تبارك وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71] واضح من هذه الآية أن للمرأة دوراً في الدعوة، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغاية ما في الأمر أن هناك ضوابط لعملها، وأولويات في وظائفها تختص بها عن الرجل.
ونحن عندما نبدأ بهذه القضية يجب أن نطرحها موثقة بأدلتها الشرعية، بأن نزيل عنها ما لحق بها من سوء فهم، ونزيل الشبهات التي أثيرت حولها، فبعض الناس يزعمون أن الدعوة هي واجب الرجال دون النساء، والرد عليهم واضح في قوله تبارك وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71] إلى آخر الآية، ويقول عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
فقوله: (ومن اتبعني) تشمل كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، سواء أكان من الرجال أم من النساء؛ لأن (من) تشمل كل العقلاء رجالاً كانوا أو نساءً.
كذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، وقال أيضاً: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من وراءهم) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.(43/9)
دور المرأة في الإسلام وعظمته
المرأة المسلمة مارست دوراً في الدعوة، وكان لها أبلغ الأثر في تدعيم هذه الدعوة كما سنبين إن شاء الله تعالى.
فمن هو أول قلب خفق بالإسلام؟ أول قلب خفق بالإسلام واستجاب لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كان قلب خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
وما أول دم أريق في سبيل الله؟ إنه دم سمية بنت خياط رضي الله عنها.
ومن هي أول فدائية في الإسلام؟ إنها أسماء بنت أبي بكر.
وهكذا فإن للنساء فضائل عظيمة جداً في عامة مسيرة الدعوة.
والتاريخ الإسلامي في هذا الجانب لم يكن مغفلاً أو مهملاً من تاريخ المسلمين الأوائل دور المرأة في الدعوة إلى الله.
يذكر الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في كتابه ((ميزان الاعتدال في نقد أحوال الرجال)) آلافاً من الرجال، ثم ختم كتابه بهذه الشهادة، وهي شهادة تزكية للنساء يفخرن بها على طول الزمن.
يقول: ولم أجد من النساء من اتهمت ولا من تركوها.
فالمرأة كان لها دور رائع في بناء الصرح الإسلامي، وانتفعت الأمة من سلاح المرأة، فكان ما كان من المجد والخير.
حتى إذا ما تخلت المرأة عما خلقت له تحول الأمر عما كان عليه، ومصداق ذلك في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).(43/10)
الحكمة والغاية من وجوب نفقة الزوجة على الزوج ورفع بعض التكاليف عنها
وفّر الإسلام للمرأة كل ما يمكن من الأسباب والظروف التي تؤهلها وتمكنها من القيام بالوظيفة الأساسية بعد عبادة الله سبحانه وتعالى، ألا وهي تربية الأولاد وحسن التبعل للزوج، فرفع عنها مئونة العيش والاكتساب، فلا يجب عليها النفقة والاكتساب والشغل والعمل؛ لأنه فرض على الزوج أن ينفق عليها وعلى أولادها، فلم تعد لها حاجة إلى العمل خارج البيت؛ لأن العمل يقصد به الكسب وتحصيل الرزق، وكفيت هي ذلك لقاء أنها منصرفة ومتفرغة لعمل خطير جليل هو تربية الأولاد في البيت.
كذلك رفع الإسلام عنها إيجاب بعض ما فرضه على الرجال تحقيقاً للغرض ذاته؛ لأن المرأة عبارة عن موظفة متفرغة، وفي الحقيقة هي موظفة كثيراً ما يهدر حقها، وهي ليس لها معاشات ولا مرتبات، وأحياناً كلمة الشكر لا توجد إن لم تكن الأذية والاضطهاد.
فالمرأة تعمل أربعاً وعشرين ساعة في اليوم والليلة يومياً، فهي تحت أمر أي واحد في البيت، الطفل الصغير ليس له مواعيد، الرضيع يوقظها في أي ساعة من ليل أو نهار، إن كانت نائمة فتستيقظ كي تغذيه وكي ترضعه، وتنظفه وترعاه، بينما الأب قد يتأفف من فعل عشر معشار ما تفعله المرأة، لكن انظر إلى الرحمة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في بيتها، فوفر لها الشرع كل ما أمكن، وذلك لقدسية وظيفتها وخطورة وظيفتها، ولا يصرح لها بالخروج من مكان العمل إلا في أحوال استثنائية، فالأصل أن تظل في مكان العمل مرابطة ليل نهار، ومكان العمل هذا لا يستغني أبداً عنها، ولا يطيق غيابها، وتختل الأمور إذا غابت عنه ساعة من النهار، فلذلك الشرع لأجل هذه الوظيفة الخطيرة رفع عنها كثيراً من الواجبات حتى تظل عاملة في مكان عملها، فهو وفر لها الوقت الكافي للانصراف إلى مهمتها.
فمثلاً: الجهاد في سبيل الله ليس واجباً عليها، فوجوبه على الرجل.
والصلاة في المسجد واجبة على الرجال وليست واجبةً على المرأة.
وصلاة الجمعة غير واجبة على المرأة، إلى غير ذلك من الأحكام التي تدل على أن الإسلام يرغب المرأة في بقائها في بيتها، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، وفي الحديث: (أما إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحوائجكن) يعني: عند الحاجة إلى الخروج.
فالمرأة لها أن تخرج من مكان عملها عند الحاجة، كأن تخرج للعلاج، أو لصلة الرحم، أو لدروس العلم، لكن ليس هذا هو الأصل في المرأة تماماً كما يخرج الرجل.
فأعداء الإسلام دائماً يزيفون الحقائق، وذلك بتسمية الأسماء بغير اسمها، عن طريق تسمية الأسماء بأسماء منفرة، أو أسماء ملبسة، فهم يصفون كل ملتزم بدينه بأنه مفرق أو رجعي أو متخلف أو أصولي أو إرهابي، وغير ذلك من الأسماء.
كذلك في هذه القضية نفس الشيء، فيقولون عمن خرجت للعمل: هي المرأة العاملة، ويكتب في البطاقة (تعمل)، أما التي تعمل في بيتها فيكتبون في البطاقة (لا تعمل) وبالتالي يسمونها (ربة بيت) إذاً ربة البيت حسب مفهوم هؤلاء هي التي لا تعمل، وهذا من التدليس الذي أشار إليه بعض العلماء بقوله: تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير مدحًا وذمًا وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فيخرجون المعاني القبيحة في ألفاظ مقبولة، وبالعكس، ويطلقون على الحق الأسماء المنفرة، فهذه امرأة عاملة، وهذه امرأة عاطلة؛ لأنها ربة بيت، ولأنها متفرغة لرعاية زوجها وأولادها، فهذه مغالطة مكشوفة.
والمرأة في القديم في الحقيقة كان لها عدة وظائف، فالمرأة خياطة، وهي تخدم البيت وتنظفه، والمرأة ممرضة تمارس التمريض وتعالج، وتسهر على راحة أي عضو من أعضاء الأسرة، فهي في حالة رباط دائم ليل نهار، تخدم الجميع، تسهر على المريض، تعد الطعام للجائع، تذاكر لأبنائها التلاميذ، ومع ذلك لا تنتظر جزاءً، وربما حرمت من كلمة الشكر ومن العرفان.
وكانت نهضة المؤمنين أو المسلمين في القرون الأولى سببها المرأة، فنحن ننظر إلى النتائج ونغفل الأسباب، فنفخر بـ الشافعي، ونفخر بـ سفيان الثوري، ونفخر بالصحابة ونفخر بالمجاهدين والعلماء والمجددين وننسى من كان وراء هؤلاء.
فهل هؤلاء خرجوا من فراغ؟ لا، بل هؤلاء كان وراءهم من يربيهم، كان وراءهم من يتعاهدهم منذ الصغر وهم أطفال، إنها الأم بصفة أساسية، وكذلك إذا قدر غياب الأب بموت أو غير ذلك كسفر من الأسفار فالأم هي التي تتولى زمام التربية.
وصحيح أننا نتحدث عن عمر بن عبد العزيز وشخصية عمر بن عبد العزيز، لكن لا ينبغي أن نهمل التربية التي ترباها عمر بن عبد العزيز، كذلك حينما نتحدث عن الإمام الشافعي -وما أدراك ما الشافعي رحمه الله تعالى- فليس من الإنصاف أن نهمل من صنع الشافعي، الذي صنع الشافعي ورباه هي أمه التي اجتهدت جداً في تربيته ورعايته ودفعه إلى العلم.
فينبغي حينما نتحدث عن المرأة أن نتذكر الأعمال المهمة الجليلة التي تدور خلف الخدور، أن نتذكر ذلك النشاط المكثف الذي يحصل من المرأة في تربية الأولاد وتغذيتهم بالعقيدة الإسلامية وحمياتهم بها، لا ينبغي أن نغفله ونهمله حتى نعطي المرأة حقها، ونعطيها الآن نفس الدور ونفس الأهمية ونشعر بخطورة موقعها.
فوثب المسلمون الأوائل وثبةً ملئوا بها الأرض قوة وبأساً، وفطنةً وعلماً، فقادوا الأمم، وهابهم الملوك، وركزوا ألويتهم في قلب آسيا، وهامات أفريقيا، وأطراف أوروبا، وتركوا دينهم وشرعهم ولغتهم وعلمهم وأدبهم تدين لها القلوب وتتقلب بها الألسنة، بعد أن كانوا طرائق قدداً، لا نظام، ولا قيام، ولا علم، ولا شريعة.
فمن أين تخرج الجيل الأول؟ في أي المدارس درسوا؟ ومن أي المعاهد خرجوا؟ لقد قطع المسلمون تلك المرحلة التي شهد لها الدهر ووجم لنوعيتها التاريخ ولم يبنوا معهداً ولم يبنوا جامعة، بل كانت دورهم وقصورهم معاهد ومدارس، وتولى أمر هذه المدارس التي تربى فيها الجيل الأول أمهات صدق، أقامهن الله على نشئه، واستخلفهن على صنائعه، وائتمنهن على دعاة حقه ورعاة خلقه، فكن أقوم خلفائه بواجبه، وأثبتهن على عهده، وأمهرهن للفادح الشديد من أمره.
لقد كان الله سبحانه وتعالى أبر بهذه الأجيال من أن يخرجهم مخرجاً سيئاً.(43/11)
نقد الآخرين
على المرء المسلم أن يهتم بإصلاح نفسه وتزكيتها من العيوب والآفات، كما أن عليه أن يكف عن تتبع عورات الآخرين والخوض في أعراضهم؛ فإن هذا مما لا يجوز فعله، والإنسان سوف يحاسب بين يدي الله عز وجل عن ذنوبه لا عن ذنوب غيره، فالأولى اشتغاله بها.(44/1)
أهمية اشتغال الإنسان بعيب نفسه عن عيوب الآخرين
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه!)، وهذا الحديث رواه ابن حبان في صحيحه، وأبو نعيم في الحلية، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (33).
فقوله صلى الله عليه وسلم: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه) القذى: هو ما يقع في العين أو في الماء والشراب من نحو تراب ووسخ أيَّ قاذورات أو أذى أو تراب يقع، سواء في العين أو في الماء أو في الشراب، فيطلق عليه القذى.
إذاً المقصود به الأشياء الهينة الصغيرة التي تكاد لا تدرك، يبصرها الإنسان ويفتح عينيه لها ما دامت في عين أخيه -يعني: أخاه في الإسلام- وفي نفس الوقت ينسى الجذع في عينه، والجذع هو واحد جذوع النخل، وهذه من المبالغة، وكأن جذع شجرة موجود في عينه من العيوب، ثم هو يتجاهله ولا يشتغل بإصلاحه، في حين أنه يدقق ويتحرى مع الآخرين بحيث يدرك عيوبهم مع خفائها.
فيؤخذ من هذا الحديث أن الإنسان لنقصه ولحب نفسه يدقق النظر في عيب أخيه، فيدرك عيب أخيه مع خفائه، فيعمى به عن عيب في نفسه ظاهر لا خفاء به، ولو أنه اشتغل بعيب نفسه عن التفرغ لعيوب الناس وتتبعها لكف عن أعراض الناس، ولسد باب آفات اللسان وأعظمها الغيبة، يقول الشاعر: عجبت لمن يبكي على موت غيره دموعاً ولا يبكي على موته دما وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره عظيماً وفي عينيه عن عيبه عمى وقال الإمام أبو حاتم بن حبان رحمه الله تعالى: الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه؛ فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه، ولم يتعب قلبه، فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من عيب أخيه، وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه، وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه، وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابهم بما فيه، ومن عاب الناس عابوه، ومن ذمهم ذموه.
يقول الشاعر: المرء إن كان عاقلاً ورعاً أشغله عن عيوب غيره ورعه كما العليل السقيم أشغله عن وجع الناس كلهم وجعه كما أن العليل السقيم أو المريض يشغله الألم الذي يجده في مرضه عن ألم غيره، فكذلك ينبغي للإنسان أن يشتغل بعيب نفسه عن عيب غيره على حد قول الشاعر: أي: الجراح التي في غيري لا تداوي الجراح التي فيَّ، وقوله (ما به به وما بي بي) يعني: الأولى أن يشتغل الإنسان بالعيوب التي في نفسه.
وعن مجاهد قال: ذكروا رجلاً -يعني: كأنهم ذكروا عيوب هذا الرجل- فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك).
وهذا علاج لهذا الداء على الإنسان أن لا يسهو ولا يغفل عنه، وهو أنه إذا هم أن يتكلم في عيوب الآخرين فليفكر أولاً وليذكر عيوب نفسه وينشغل بها، فسيجد فيها غنية عن أن يشتغل بعيوب الآخرين، فهذا من أدوية هذا الداء (إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك)، فإذا فتشت سوف تجد كثيراً جداً يشغلك إصلاحه في نفسك عن الاشتغال بذم غيرك.
وقال أحد السلف: إن من تصرف في نفسه فعرفها صحت له الفراسة في غيره وأحكمها.
وعن بكر قال: تساب رجلان، فقال أحدهما: محلمي عنك ما أعرف من نفسي.
يعني: تشاتما وسب أحدهما الآخر، فرد الشخص المسبوب فقال له: محلمي عنك -يعني: الذي يجعلني أتحلم وأصبر عن أن أرد عليك بالمثل- ما أعرف من نفسي.
يعني: أنا أعرف أن في نفسي من العيوب الكثير، فهذا يجعلني عوناً لك عليها، ولست أتخذ موقف الدفاع عنها؛ لأن فيها من العيوب ما تستحق به أن تُذم، ولذلك قال له: محلمي عنك ما أعرف من نفسي.
وقيل للربيع بن خثيم رحمه الله تعالى: ما نراك تغتاب أحداً؟ فقال: لست عن حالي راضياً حتى أتفرغ لذم الناس ثم أنشد: لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل ولقي زاهد زاهداً فقال له: يا أخي! إني لأحبك في الله.
فقال له الآخر: لو علمت مني ما أعلم من نفسي لأبغضتني في الله -يعني: بدل أن تحبني في الله- فقال له الأول: لو علمت منك ما تعلم من نفسك لكان لي فيما أعلم من نفسي شغل عن بغضك.
يقول الشاعر: قبيح من الإنسان أن ينسى عيوبه ويذكر عيباً في أخيه قد اختفى ولو كان ذا عقل لما عاب غيره وفيه عيوب لو رآها قد اكتفى وعن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة قد غفلها عن نفسه.
يعني: هذا يدل على أنه إنسان غافل؛ حيث يشتغل بتراب وقع على ثوب غيره أو نملة تمشي على ثوبه، في حين أن داخل ثيابه هو العقارب والحيات والآفات تنهش فيه، فيشتغل بهذا الذي لا يعنيه -وهو أمر يسير مهما كان- عن هذا الأمر الخطير الذي يحدث به.
وعن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: (كنا نحدث أن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس) أي: لأنه إذا اشتغل الإنسان بخطايا وبعيوب الناس لا شك أن هذا سيشغله عن إصلاح نفسه، وبالتالي تكثر خطاياه، ولا يتوب منها، ولا يعاتب نفسه؛ لأنه غير متفرغ لإصلاح نفسه.(44/2)
بعض أسباب الحسد والبغي وتتبع عيوب الناس
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير.
وهذه إشارة إلى أسباب هذا الداء، وهو حب وتتبع عيوب الناس، وتصيد أخطاء الآخرين، وسبب الحسد والبغي هو حب الرياسة وشهوة الرياسة، وهي الشهوة الخفية، فما من أحد أحب الرياسة إلا حسد -يحسد الآخرين- وبغى، وتتبع عيوب الناس؛ لأنه يكره أن يُذكر الآخرون بخير، وبالتالي يحاول دائماً أن يهزمهم ويحطمهم ويكشف عيوبهم من أجل أن تكون له الرياسة والعلو.(44/3)
تتبع الإنسان لعيوب غيره دليل على عيبه ونقصه
وكان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: كفى بالمرء إثماً أن لا يكون صالحاً، ثم يجلس في المجالس ويقع في عرض الصالحين.
فقوله: (كفى بالمرء إثماً أن لا يكون صالحاً) أي: هو في نفسه ليس من الصالحين، وليس رجلاً صالحاً.
وقوله: (ثم يجلس في المجالس ويقع في عرض الصالحين) أي: يغتابهم ويذكر عيوبهم.
وقال أبو عاصم النبيل: لا يذكر الناس بما يكرهون إلا سفلة لا دين لهم.
وقال الشاعر: لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله ستراً عن مساويك واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحداً منهم بما فيك وسمع أعرابي رجلاً يقع في الناس والأعراب هم البدو الرحل الذين لا يعيشون في المدن، ولا يسمعون القرآن، ولا يحضرون دروس العلم، والأصل فيهم الجهل والجفاء إلا ما استثني، كما ذكر الله تبارك وتعالى في سورة التوبة، لكن هذا الأعرابي مع ذلك نطق بالحكمة، ونطق بما تدل عليه أحدث الاتجاهات في علم النفس الحديث، حيث إنهم يفرحون بهذه الأشياء، ويظنون أنهم هم الذين أوجدوا هذه العلوم، لكن انظر هذا الأعرابي مع بساطته عبر بما يطلقون عليه الآن: (الحيل الدفاعية) التي يسلكها الإنسان ليدفع عن نفسه العوص والعيب، ومنها حيلة الإسقاط، أي: يسقط أخطاءه على الآخرين، فهو يشعر بعيب معين في نفسه، فكي يلفت النظر بعيداً عن أن ينتبه الناس إلى هذا العيب الذي هو في نفسه يرمي الناس بما فيه من العيوب، وكلما كثرت فيه هذه العيوب كلما كثر تتبع هذه العيوب في الناس، فهي حيلة من الحيل الدفاعية بالاصطلاح الحديث في علم النفس، فهذا الأعرابي سمع رجلاً يقع في أعراض الناس، فقال: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها -أي: للعيوب- يطلبها بقدر ما فيه منها.
أي: فكثرة الاشتغال بعيوب الناس تدل على وجود نفس هذه العيوب في نفسه هو، فهي عبارة عن عملية دفاعية بكونه يسقط هذه العيوب على الآخرين.
يقول: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها.
وأجرأ من رأيت بظهر غيب على عيب الرجال أخو العيوب أي: صاحب العيوب.
وقال الشاعر: شر الورى من بعيب الناس مشتغلاً مثل الذباب يراعي موضع العلل فالإنسان لو في جسمه جروح مكشوفة، وفيها الدم وفيها كذا وكذا، فتجد الذباب يحب أن يتتبع مواضع العلل والداء كي يقف عليها، فكذلك هناك أناس لهم هواية التفتيش في القمامة، فترى أحدهم عنده هذه الهواية، ويحب التفتيش في القمامة، فما يقع إلا على العلل، ولا يذكر محاسن الآخرين، لكن دائماً يفتش في القمامة، ويقلب هذه الأشياء، وهذا ما يعبر عنه الشاعر بقوله: شر الورى من بعيب الناس مشتغلاً مثل الذباب يراعي موضع العلل وهذا التفتيش في القمامة ليس فقط على مستوى العلاقات الفردية، لكن يوجد أيضاً فيما يُسمى زوراً بالبحوث التاريخية، يزعمون أنهم يكتبون أو يبحثون بحوثاً علمية وتاريخية، ثم هم ما يقعون إلا على مواضع المؤاخذة في التاريخ الإسلامي، فمثلاً: ما يعرفون عن معاوية رضي الله تعالى عنه إلا كذا وكذا وكذا، وينسون أنه صحابي، وأنه خال المؤمنين، وأنه كاتب الوحي، وأنه المجاهد في سبيل الله، وأنه الحاكم بشريعة الله، كل هذا يُنسى، ويُركز فقط على المآخذ، سواء على معاوية رضي الله تعالى عنه مثلاً، أو على الدولة الأموية، أو على الدولة العباسية، وينسون أن واجب كل مسلم من أهل السنة أن يكون له ولاء لكل هذه الولايات الإسلامية أو الخلافات الإسلامية، سواء أكانت راشدة -بلا شك- أو أموية أو عباسية؛ لأنها في الجملة كانت خلافة إسلامية ترفع راية الشريعة، وتحكم بكتاب الله تبارك وتعالى، فينشغلون بذم تاريخ بعض السابقين وبعض الصور التاريخية السابقة بهدف التنفير من هذا التاريخ، وقطع اعتزاز الخلف بهذا السلف بالتركيز فقط على عيوبهم، ولو سلكوا المنهج المثيل لأمسكوا عما شجر بينهم، ولأمسكوا عن هذه العيوب، ولقالوا ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.(44/4)
وجوب احتراس الإنسان من لسانه
وقال ابن السماك: سبعك بين لحييك.
يعني أن كل إنسان يجب أن ينظر إلى لسانه هذا المحبوس في قفصين: قفص من عظم وقفص من لحم، فالعظم هو الأسنان، واللحم هو الشفتان، فلا يتمكن اللسان من أن ينطق ويخرج الكلام إلا بأن يخرج من بين هذين القفصين وهذين السجنين.
فشبهه بالسبع بأنه يوجد داخل هذا الفم سبع -أي: أسد- لو فتحت له الباب لخرج ولأكل الناس، ونال من أعراضهم، وأهلك صاحبه، ولذلك يقول ابن السماك: سبعك بين لحييك -يعني: بين فكيك- تأكل به كل من مر عليك، قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور.
أي: فرغت من غيبة الأحياء وغيبة الرائح والجائي، وبعد أن انتهيت من الأحياء انتقلت إلى الأموات، فأخذت أيضاً تنبش الموتى، وتذكر عيوب الموتى، فأنت تؤذي الموتى في قبورهم، وتؤذي أقرباءهم من الأحياء، وتؤذي نفسك.
قال: قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البلى عليهم.
(فما ترثي لهم) أي: ألا تشفق عليهم؟ وقد انقطع عملهم وفنيت أجسادهم وتحللت وانتهوا، والآن هم في دار الجزاء؟ فلذلك أدبنا النبي صلى الله عليه وسلم مع الأموات -حتى لو كانوا من الظلمة أو الفسقة أو المقصرين- أننا لا نذكر عيوبهم، قال عليه الصلاة والسلام: (اذكروا محاسن موتاكم -يعني: أمسكوا عن عيوبهم-؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) أي: ما عملوه في فترة الحياة الآن هم يحاسبون عليه، فأنت دعه وربه، ولا داعي أن تنشغل أيضاً بذم الموتى.
قال: قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البلى عليهم، وأنت هاهنا تنبشهم، إنما نرى نبشهم أخذ الخرق عنهم.
فهل تعتقدون أن نبش الموتى فقط هو حفر القبر من جديد وسرقة الأكفان؟ وهل هذا هو النبش؟
الجواب
لا بل النبش له معنىً آخر لا يقتصر على الاستيلاء على الكفن كما يفعل النباشون، ولذا قال ابن السماك: وأنت هاهنا تنبشهم، إنما نرى نبشهم أخذ الخرق عنهم، فإذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم، إنه ينبغي أن يدلك على ترك القول في أخيك ثلاث خلال.
هنا يرشد ابن السماك إلى ثلاثة أشياء وثلاث صفات وخصال إذا التزمها الإنسان منعته من إطلاق لسانه بذكر عيوب الآخرين.
قال: أما واحدة فلعلك أن تذكره بأمر هو فيك، فما ظنك بربك إذا ذكرت أخاك بأمر هو فيك؟! أي: فيك نفس العيب الموجود في هذا الشخص، وأنت تذمه بسببه، فمن أولى بالذم؟ قال: ما ظنك بربك -يعني: أن يفعل بك- وأنت تذكر أخاك بأمر هو فيك؟! الثانية: ولعلك تذكره بأمر فيك أعظم منه، فذلك أشد استحكاماً لمقته إياك.
الثالثة: ولعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه، فهذا جزاؤه إذ عافاك؟! أما سمعت: (ارحم أخاك واحمد الذي عافاك).
يعني: إما أنك مبتلىً بشيء مثل الذي فيه، وإما أن تفعل شيئاً أشر مما يفعله هو فالعيب عندك أشد، وإما أن يكون الله قد عافاك من هذا العيب، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! إذا كان الله قد عافاك من هذا العيب وبرأك منه، فهل جزاء هذه النعمة أن تشتغل بذم الآخرين، أم أنك تحمد الله سبحانه وتعالى، وترحم العصاة؟! روي عن المسيح عليه السلام أنه قال: (لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد، إنما الناس رجلان: مبتلىً ومعافىً، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).
يقول الشاعر: لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن وعينك إن أبدت إليك مساوئاً فصنها وقل يا عين للناس أعين(44/5)
الجزاء من جنس العمل
وقال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت باذان المدايني يقول: رأيت أقواماً من الناس لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس فستر الله عيوبهم، وزالت عنهم تلك العيوب، ورأيت أقواماً لم تكن لهم عيوب اشتغلوا بعيوب الناس فصارت لهم عيوب.
قوله: (فصارت لهم عيوب) يعني: فانكشفت عيوبهم التي كانت مستورة.
ولعل في قاعدة (الجزاء من جنس العمل) -هذه القاعدة العدلية الإسلامية- زاجر للذين يخوضون في عيوب الناس، فيكفون عن الاشتغال بها خشية أن يعاملهم الله سبحانه وتعالى بما تقتضي هذه القاعدة، وهي أن الجزاء من جنس العمل؛ لأن البلاء -كما يقولون- موكل بالقول.
فعن إبراهيم قال: إني لأرى الشيء مما يعاب ما يمنعني من غيبته إلا مخافة أن أبتلى به.
أي أنه يرى شيئاً يُعاب، ويخشى أن يغتاب صاحبه، فإذا اغتابه وذمه بهذا العيب يخشى أن يعاقبه الله سبحانه وتعالى بأن يُبتلى بنفس هذا الشيء.
ويقول الأعمش: سمعت إبراهيم يقول: إني لأرى الشيء أكرهه، فما يمنعني أن أتكلم فيه إلا ما مخافة أن أُبتلى بمثله.
وقال عمرو بن شرحبيل رحمه الله: لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكتُ منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع.
يعني: لخشيت أن يعاقبني الله سبحانه وتعالى بأن يجعلني أفعل نفس هذا الشيء الذي صنعه هذا الرجل الذي رضع العنز.(44/6)
قصة معاوية بن أبي سفيان مع المسور بن مخرمة رضي الله عنهم
وقال الإمام الزهري رحمه الله تعالى: حدثني عروة أن المسور بن مخرمة أخبره أنه وفد على معاوية أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه، فقضى أمير المؤمنين معاوية حاجة المسور، ثم خلا به -انفرد به- فقال: يا مسور! ما فعل طعنك على الأئمة -يعني: على أمير المؤمنين معاوية وبني أمية- ما فعل طعنك على الحكام المسلمين الأئمة؟ قال: دعنا من هذا وأحسن.
أي: دعنا من هذا الموضوع ولا يجوز أن نتكلم فيه دعنا من هذا وأحسن.
قال: لا والله! لتكلمني بذات نفسك بالذي تعيب علي.
يعني: صارحني بما تعيبه علي، وقل لي مباشرة.
فقال المسور: فلم أترك شيئاً أعيبه عليه إلا بينت له.
فقال معاوية رضي الله عنه: لا أبرأ من الذنب، فهل تعد لنا -يا مسور - ما نلي من الإصلاح في أمر العامة؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب وتترك المحاسن؟ أي: كما أحصيت هذه العيوب هل تضع بجانبها في الكفة الأخرى المحاسن التي نليها من إصلاح أمر المسلمين، والجهاد في سبيل الله، وفتح البلاد، وتمصير الأمصار، ونشر الإسلام وغير ذلك من المحاسن التي يفعلها أمير المؤمنين معاوية رضي الله تعالى عنه؟ قال: فهل تعد لنا -يا مسور - ما نلي من الإصلاح في أمر العامة؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب وتترك المحاسن؟ قال: ما تُذكر إلا الذنوب.
قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك -يا مسور - ذنوب في خاصتك تخشى بأن تهلك إن لم تُغفر؟ قال: نعم.
قال: فما يجعلك برجاء المغفرة أحق مني؟ أي: فما الذي يجعلك أولى مني بأن ترجو مغفرة الله وعفو الله في هذه العيوب أو في هذه الذنوب؟ قال معاوية: فوالله! ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي.
أي: الإصلاح الذي يحصل على يدي بصفتي أميراً للمؤمنين أكثر مما تلي أنت باعتبارك واحداً من الرعية.
قال: ولكن -والله- لا أخير بين أمرين بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على ما سواه، وإني على دين يُقبل فيه العمل، ويُجزى فيه بالحسنات، ويُجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها.
قال المسور: فخصمني.
يعني: غلبني.
قال عروة: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه.
يعني: دعا له بعد هذه المناظرة.(44/7)
هدي السلف فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم
وعن أبي راشد قال: جاء رجل من أهل البصرة إلى عبيد الله بن عمر، فقال: إني رسول إخوانك من أهل البصرة إليك، فإنهم يقرئونك السلام ويسألونك عن أمر هذين الرجلين: علي وعثمان، وما قولك فيهما؟ فقال: هل غير؟ قال: لا.
قال: جهزوا الرجل -أي: أعدوا له متاعه كي يسافر فوراً في الحال إلى حيث أتى- فلما فُرغ من جهازه قال: (اقرأ عليهم السلام، وأخبرهم أن قولي فيهم: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]).
وعن شريك قال: سألت إبراهيم بن أدهم عما كان بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما، فبكى، فندمت على سؤالي إياه، فرفع رأسه فقال: إنه من عرف نفسه اشتغل بنفسه، ومن عرف ربه اشتغل بربه عن غيره.
وقال الشافعي: قيل لـ عمر بن عبد العزيز: (ما تقول في أهل صفين؟ قال: تلك دماء طهر الله يدي منها، فلا أحب أن أخضب لساني بها).(44/8)
هدف أعداء الإسلام من إثارة ما وقع من خلاف في زمن الصحابة والسلف
قال الرياشي رحمه الله تعالى: لعمرك إن في ذنبي لشغلاً لنفسي عن ذنوب بني أمية على ربي حسابهم جميعاً إليه تناهى علم ذلك لا إليه وليس بضائري ما قد أتوه إذا ما الله يغفر ما لديه يعني: أنت في القبر لن تُسأل، ويوم القيامة لن تُحاسب على ذنوب بني أمية، فهذا لا يعنيك في شيء، (ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، فكون الناس -حتى الآن- يشتغلون بذم بني أمية هذا الانخراط وقوف في خندق واحد مع أعداء الإسلام؛ لأن لهم غرضاً خبيثاً من وراء إبراز هذه المآخذ والمبالغة فيها، بل وحشو هذه الأخبار بالكذب، كل هذا هو من أجل تنفير الناس من ماضي المسلمين، ومحاولة تصوير التاريخ الإسلامي أنه ما هو إلا عبارة عن صراع على السلطة فحسب، وأنه ليس دعوة ربانية ولا هداية إلهية، وإنما هو أغراض شخصية ومطالب دنيوية، فمن أجل ذلك يحاولون إبراز السلف الصالح رحمهم الله تعالى في هذه الصورة المنفرة للتنفير وللصد عن سبيل الله تبارك وتعالى، فينخدع الأغرار ممن يجارون هذا المنهج الخبيث، ويسمون الخوض في شأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وما وقع منهم بحثاً علمياً، والعلم منه براء، بل هم مزورون كذابون.
ولذلك نجد هذه الظاهرة لا يهتم بها أساساً ولا يسقي شجرتها الخبيثة إلا أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والمستشرقين وتلامذتهم وأذنابهم من أعداء الإسلام كـ طه حسين، وغيرهم ممن وضعوا السموم في الآبار الإسلامية، حتى يسمم شباب المسلمين بهذه المفاهيم، فإذا صوروا الصحابة أنهم كانوا طلاب دنيا فقدت الثقة بهم، وبالتالي لا يرغب الناس في إعادة هذا المجد وهذا التاريخ الإسلامي.
وكون هذا إذا صدر من أعداء الإسلام فهذا وضع طبيعي ومتوقع منهم، لكن الأمر الشنيع أن يصدر هذا ممن ينتسب زوراً إلى الإسلام! في حين أن من أصول أهل السنة والجماعة الإمساك عما شجر بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين؛ لأن هذا مقتضى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، فالعجيب أن هناك بعض المنتسبين لبني البشر بل للإسلام يتعبدون بالغل على الصحابة، كالشيعة الروافض في إيران وغيرهم، فإنهم يتعبدون بذلك، ويعتبرون أن الاشتغال بلعن معاوية وبلعن أبي بكر وعمر عبادة يثاب عليها أكثر من ذكر الله -والعياذ بالله- كما لبس الشيطان عليهم، وهذا من الأمور العجيبة! وأعجب منه أيضاً أنا نرى بعد هذه الحملة التي حصلت ضد التنظيم الشيعي الذي اكتشف يخرج أيضاً أعداء الإسلام من بين البحور في الإعلام يدافعون عن الشيعة، ويقولون: ينبغي أن نذكر محاسن الشيعة وكذا وكذا.
المهم أنهم في كل معركة بين أهل السنة وأهل الإسلام وبين أعدائهم ينضمون إلى الصف المعادي؛ لأجل إضعاف المسيرة الإسلامية، فالله حسيبهم.(44/9)
حكم سب الحجاج بن يوسف الثقفي
عن الهيثم بن عبيد الصيدلاني قال: سمع ابن سيرين رجلاً يسب الحجاج، فقال: مه أيها الرجل -أي: انصت وتعقل وتفكر-! إنك لو وافيت الآخرة كان أصغر ذنب عملت قط أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحجاج.
أي أنه يقول له: كف عن هذا، ولا تضيع وقتك بالاشتغال بسب الحجاج، مع أن الحجاج رجل ظالم فعل ما فعل من الكبائر، لكن انظر إلى هنا إلى طريقة تفكير ابن سيرين، حيث إنه يدل الإنسان على أن يشتغل بعيب نفسه حتى لو كان في غيره من العيوب ما الله به عليم.
فيقول: مه أيها الرجل! إنك لو وافيت الآخرة -أي: إذا قامت القيامة ووقفت بين يدي الله سبحانه وتعالى- فأيهما أخطر عليك: أقل ذنب أنت عملته بنفسك، أم أعظم ذنب عمله الحجاج؟
الجواب
ما عملته أنت بنفسك، فلهذا ينبغي أن تخاف من ذنبك أكثر من ذنوب غيرك؛ لأن هذا سوف يضرك إن لم يتب الله عليك.
قال ابن سيرين: إنك لو وافيت الآخرة كان أصغر ذنب عملته قط أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحجاج، واعلم أن الله عز وجل حكم عدل، إن أخذ من الحجاج لمن ظلمه شيئاً فشيئاً أخذ للحجاج ممن ظلمه، فلا تشغلن نفسك بسب أحد.
أي أن الله سبحانه وتعالى حكم عدل، فإذا أنت جاوزت الحد وبغيت على الحجاج نفسه -مع أن الحجاج كان ظالماً وباغياً- فالله سبحانه وتعالى حكم عدل، وإن أخذ من الحجاج لمن ظلمه - الحجاج - شيئاً فشيئاً للمظلومين الذين ظلمهم الحجاج؛ لأنه سوف ينتقم الله من الحجاج إن شاء ذلك، ويأخذ من الحجاج بقدر ظلمه لهؤلاء الناس، لكن بجانب ذلك أيضاً الله سبحانه وتعالى لأنه حكم عدل سوف يأخذ للحجاج ممن ظلم الحجاج، فإذا أنت اشتغلت بذنبه وسبه وبغيت في ذلك فلا تأمن أن الله سبحانه وتعالى سوف يعاقبك بأن ينتقم منك من أجل الظلم الذي ظلمته الحجاج، فلا تشغلن نفسك بسب أحد.(44/10)
واجب الإنسان تجاه نفسه
تلك بعض الفوائد التي استقيناها من مشكاة قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه)! وجاء في بعض الروايات: (وينسى الجذع معترضاً في عينه) أي: كأن جذع شجرة موجود في عينه من العيوب، ومع ذلك ينسى هذا الذي أمام عينه من عيوب نفسه، ويشتغل بأبسط شيء في عيوب أخيه، ففي تدبر هذا الحديث الشريف والتفكر فيه ما يزجر الإنسان عن التمادي في الاشتغال بعيوب غيره؛ لأن أوجب الواجبات أن يصلح الإنسان نفسه؛ لأنه لن يلي إصلاحها غيره، فهذا متعين عليه، ومن سنة القتال أن يبدأ المقاتل بالعدو الأقرب فالأقرب، ومن أقرب الأعداء بالنسبة للإنسان نفسه التي بين جنبيه، فهي أقرب عدو قريب منه، فينبغي أن يشتغل الإنسان بهذا العدو أولاً، ولا يشتغل بغيره في حين يدع العقارب والحيات والآفات تنهش في جسمه وتؤذيه في دينه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(44/11)
الالتزام بالسنن
فضل الله عز وجل على الإنسان كبير، ومن فضله سبحانه وتعالى عليه أنه شرع له باب التطوع والتنفل؛ حتى يزيد حسناته، ويسد القصور في واجباته، فعلى المرء المسلم أن يجتهد في المحافظة على النوافل والسنن، وألا يفرط فيها.(45/1)
فضل صلاة التطوع
الحمد لله كثيراً كما أنعم علينا كثيراً، وصلى الله على رسوله محمد الذي أرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وعلى جميع المؤمنين الذين أمر الله نبيه أن يبشرهم بأن لهم من الله فضلاً كبيراً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(45/2)
الدرجات وحط الخطايا
وعن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة -أو قال: قلت: أخبرني بأحب الأعمال إلى الله- فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (عليك بكثرة السجود لله؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط بها عنك خطيئة).
قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء فسألته، فقال لي مثل ما قال لي ثوبان.
وهذا الحديث أخرجه مسلم واللفظ له، والنسائي وابن ماجة والترمذي.
هذا الحديث يدل على فضيلة عظيمة لصلاة التطوع، وإنما استدللنا به على فضيلة صلاة التطوع رغم أنه يشمل الفرائض، بسبب قوله صلى الله عليه وسلم هنا (عليك بكثرة السجود لله)، فالفرائض غير قابلة للزيادة على ما شرع الله فيها، أما التطوع فمنه ما هو مقيد، ومنه ما هو مطلق، فهذا ترغيب في كثرة التطوع لله سبحانه وتعالى.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليك بكثرة السجود لله)، المقصود به: عليك بالإكثار من صلاة التطوع، وفي بعض الأحاديث يقول عليه الصلاة والسلام: (الصلاة خير موضوع، فمن شاء فليستقل ومن شاء فليستكثر)، وهنا قال: (عليك بكثرة السجود لله)، فالمراد بالسجود صلوات التطوع؛ لأن السجود لغير صلاة أو السجود بلا سبب غير مرغب فيه على انفراده، ومن العلماء من يجيز التعبد بالسجدة المفردة، لكن عامة العلماء يمنعون ذلك.
والسجود وإن كان يصدق على الفرض لكن الإتيان بالفرائض لابد منه لكل مسلم، وإنما أرشده الرسول صلى الله عليه وسلم هنا في هذا الحديث إلى شيء يختص به، وينال به ما طلبه من دخول الجنة؛ حيث ذكر له أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى.
والسر في التعبير عن الركعة بالسجود: أن السجود أكثر أعمال الصلاة تحققاً في العبودية لله عز وجل، فإنه مظهر لانكسار النفس وذلها لربها تبارك وتعالى.
وفيه يتحقق معنىً من أعظم معاني العبودية، وهو الخضوع لله عز وجل؛ حيث إن حقيقة العبادة تمام الحب مع تمام الخضوع والذل.
وأي نفس انكسرت وذلت لله عز وجل استحقت الرحمة.
وأيضاً ورد في فضيلة السجود قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء)، يعني: أكثروا الدعاء في السجود.(45/3)
كثرة التطوع سبب لمرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة
وورد حديث قريب من معنى هذا الحديث الذي ذكرناه، وهو حديث ربيعة بن كعب بن مالك الأسلمي رضي الله تعالى عنه قال: (كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآتيه بوضوئه وحاجته -وضوئه: يعني الماء الذي يتوضأ به- فقال لي: سل -يعني: أراد أن يجزيه عن هذه الخدمة- فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة.
فقال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك.
قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)، وهذا أخرجه مسلم وأصحاب السنن، والشاهد فيه أنه سمت همته وارتقت إلى أن يطلب هذه المرتبة الخطيرة حيث قال: (أسألك مرافقتك في الجنة)، فلما قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (أو غير ذلك؟) يعني: اطلب شيئاً أخف من ذلك، أصر، ولو قيل لغيره أو فتحت هذه الفرصة لشخص آخر ربما طلب من أعراض الدنيا، أو حتى لو طلب من الآخرة لربما طلب مجرد النجاة من النار، لكن انظر كيف رباهم النبي صلى الله عليه وسلم على الارتقاء بهمتهم لنيل أعلى المراتب، كما علمهم ذلك أيضاً في قوله: (إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، وفوقه عرش الرحمن)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.
فلما قال له: (أو غير ذلك؟ قال: هو ذاك)، يعني: لا أتنازل، وأنت الذي أعطيتني هذه الفرصة وقلت لي: (سل) وأطلقتها، فقال عليه الصلاة والسلام: (فأعني على نفسك بكثرة السجود).
إذاً: هذا يدل على أن الوسيلة لنيل هذه المرتبة العالية كثرة السجود لله سبحانه وتعالى، وهذا الأصل أنه يكون في الصلاة، والذي يقبل الكثرة هو صلوات التطوع بخلاف الفريضة؛ فإنه لابد لكل مسلم من الإتيان بها.
إذاً: هذه من فضائل صلوات التطوع.(45/4)
التطوع يجبر النقص الذي يطرأ على الفريضة
ومنها أيضاً: ما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، يقول ربنا جل وعز للملائكة وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها، فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً قال: انظروا هل لعبدي من تطوع؛ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فرضيته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم)، أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة.
فهذه إحدى الحكم أيضاً من وراء مشروعية صلاة التطوع: أن بالتطوع يجبر النقص أو الخلل الذي يطرأ على صلاة الفريضة، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة)، والمقصود (من أعمالهم) يعني: المتعلقة بحق الله تبارك وتعالى، وهذا لا يتعارض مع الروايات الأخرى التي فيها: (إن أول ما يقضى فيه بين الناس الدماء)؛ باعتبار أن ذلك متعلق بحقوق العباد، أما قوله: (أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة) فيعني: الحقوق المتعلقة بحق الله عز وجل، وهي الصلاة.
وقوله: (يقول ربنا جل وعز لملائكته وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي: أتمها أم نقصها) قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: يحتمل أن يكمل له ما نقص من فروض الصلاة وأعدادها بفضل التطوع.
أي: إما أن النقص يكون من صلاة لم يصلها، أو نقص عددها، أو يحتمل أن يكون هذا النقص هو ما نقص من الخشوع الواجب عليه في الصلاة، فيحتمل أنه يكمل النقص الذي يطرأ في الخشوع.
يقول القاضي أبو بكر بن العربي: والأول عندي أظهر.
يعني: أنه يكمل به نقص عددها أو فرضها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم الزكاة كذلك، وسائر الأعمال)، وليست في الزكاة إلا فرض أو فضل، فكما يكمل فرض الزكاة بفضلها كذلك الصلاة، وفضل الله تعالى أوسع، ووعده أنفذ، وعزمه أهم وأتم.
وقال العراقي: يحتمل أن يراد به ما انتقصه من السنن والهيئات المشروعة فيها من الخشوع والأذكار والأدعية، وأنه يحصل له ثواب ذلك في الفريضة وإن لم يفعله فيه وإنما فعله في التطوع.
أي: أنه يكون قد صلى صلاة تطوع خاشعة، أتى فيها بأذكار كثيرة، وأتى بهذه الآداب كلها، ويكون نقص ذلك من فريضة، فيكمل النقص الذي في الفريضة بما فعله وأتى به في التطوع.
يقول العراقي: ويُحتمل أن يُراد به ما انتقص أيضاً من فروضها وشروطها، ويُحتمل أن يُراد ما ترك من الفرائض رأساً فلم يصله، فيُعوض عنه من التطوع، والله سبحانه وتعالى يقبل من التطوعات الصحيحة عوضاً عن الصلوات المفروضة.
فهذا فيما يتعلق ببعض الأحاديث في فضيلة صلوات التطوع ذكرناها في معرض كلامنا على حديث معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة -أو قال: بأحب الأعمال إلى الله- فسكت، ثم سألته، فسكت، ثم سألته الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (عليك بكثرة السجود لله؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط بها عنك خطيئة) قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه فسألته، فقال لي مثل ما قال لي ثوبان.
فهذا فيما يتعلق بما ورد في صلوات التطوع.(45/5)
أنواع التطوع
والتطوع -كما هو معلوم- نوعان: تطوع مطلق، وتطوع مقيد.
أما التطوع المطلق: فهو الذي لم يأت فيه الشرع بحد، فلم يحدده بعدد أو يربطه بوظيفة أو وقت، فمثلاً: صدقة التطوع لك أن تتبرع في سبيل الله بما شئت، ولو نصف تمرة، ولك أن تتطوع بالصلاة في الليل والنهار مثنى مثنى، لكن التطوع المطلق لا يداوم عليه الإنسان مداومته على السنن الرواتب.
أما التطوع المقيد: فهو التطوع الذي جاء له حد في الشرع، فمثلاً: من أراد أن يأتي بسنة الفجر الراتبة فلا يتحقق منه الإتيان بها إلا بركعتين قبل صلاة الفجر، ولابد من مراعاة عدد الركعات أنها اثنتان، ووقتها بعد دخول وقت الفجر، وأن يصليها بنية راتبة الفجر.
كذلك مثلاً: من أراد أن يصلي صلاة الكسوف لا تتحقق صلاته إلا بالصفة المشروعة، وكذا صلاة العيدين، وهكذا غيرها من السنن التي جاء الشارع بوصف محدد ومعين لها.(45/6)
الحث على التمسك بالسنة
لكن كلامنا على التطوع المطلق بصفة أساسية، ونلخص لكم رسالة مباركة من تأليف الشيخ عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم بعنوان: (ضرورة الاهتمام بالسنن النبوية).
والشيخ ابن برجس كتبه مباركة وعظيمة النفع جداً، ككتابه (التمني) وكتابه الآخر (عوائق الطلب)، يعني: عوائق طلب العلم، وهذا أيضاً من كتبه التي فيها فوائد مهمة، إن شاء الله نلخصها فيما يأتي:(45/7)
الآيات الحاثة على التمسك بالسنة
عقد فصلاً في الحث على التمسك بالسنة، فقال: السنة هي الجنة الحصينة لمن تدرعها، والشرعة المعينة لمن تشرعها، درعها صافٍ، وظلها ضاف، وبيانها وافٍ، وبرهانها شافٍ، وهي الكافلة بالاستقامة، والكافية في السلامة، والسلم إلى درجات المقامة، والوسيلة إلى الموافاة بصروف الكرامة، حافظها محفوظ، وملاحظها ملحوظ، والمقتدي بها على صراط مستقيم، والمهتدي بمعالمها صائر إلى محل النعيم المقيم، ولقد تواصلت النصوص الشرعية وأقوال الصحابة والتابعين المرضية على الترغيب فيها، والحث على التمسك بها، فمن الكتاب قوله تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وقال أيضاً: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
وهذا لا شك أنه في الاتباع المطلق، وذلك بأن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعاً مطلقاً، لا يُقيد بفرض مثلاً، بل اتباع في الفريضة وفي النافلة وفي العادات؛ فالإنسان كلما ازداد اقتداؤه بالنبي عليه الصلاة والسلام في جميع موارده ومصادره وأحواله، كان ذلك علامة على رسوخ المحبة في قلبه.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، وقال أيضاً: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158].(45/8)
الحث على التمسك بالسنة من السنة
ومن السنة: ما رواه مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه؛ كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ويقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة).
ولا شك أن قول النبي عليه الصلاة والسلام: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) ينبغي أن يكون شعاراً لكل مسلم، فكل مسلم لابد أن يرفع هذا الشعار في كل أحواله وفي كل ما يعرض له من مسائل يشك فيها أو يرتاب فيها، فيسأل نفسه: هل هذا يوافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم أم يصادمه؟ بحيث تحسم له كثير من الأمور التي يتشكك فيها أو يرتاب في الإقدام عليها، فهذا هو المخرج مما وصل إليه المسلمون، سواء كانوا أفراداً أو جماعات أو أمماً وشعوباً، فإنهم محتاجون إلى هذا لكي يعودوا إلى ما كانوا عليه من العز والتمكين، فعليهم أن يرفعوا هذا الشعار من جديد: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم)، وكل ما خالفه فهو شر كما قال: (وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)، ومن ثمَّ كان صلى الله عليه وسلم دائماً ما يستفتح خطبه بهذه الخطبة -خطبة الحاجة- التي تتضمن هذا الشعار المقدس: (وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم).
وفي المسند عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله! إن هذه لموعظة مودع، فما تعهد إلينا؟ فقال: قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها -يعني: ليلها أبيض كنهارها- لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين).
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم يخبر مسبقاً بما وقعت فيه هذه الأمة بالفعل من افتراقها إلى الفرق المعروفة، ولهذا قال: (من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، ووصف الداء ثم وصف الدواء، فأخبر بالداء، وهو داء الفرقة، ثم لم يدعنا حتى وصف لنا العلاج الذي نداوي به هذا الداء وهو السنة؛ فإن السنة هي التي تجمع المختلفين، والعلاج ينبغي أن يكون على معتقد سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذلك قال: (ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ).
وقوله: (بالنواجذ)؛ فيه كناية عن شدة التمسك بها؛ ولذلك يُربط في تسمية أهل السنة لفظ (السنة) بلفظ (الجماعة) فيقال: (أهل السنة والجماعة)؛ لأن السنة تجمع وتؤلف القلوب، أما البدع فيقال: أهل البدع والافتراق، فطريق الحق واحد، والباطل هو الذي يتعدد.
و (الجماعة)، يعني: التي تجتمع على السنة في مقابلة البدع فإنها كثيرة الافتراق، فهي التي تشتت الأمة، فهذا أيضاً دواء لكل أدوائنا، وخاصة داء الفرقة والاختلاف الكثير، ولذا قال: (ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين).
وفي سنن ابن ماجة عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: آلفقر تخافون؟! والذي نفسي بيده! لتصبن عليكم الدنيا صباً حتى لا يزيغ قلب أحدكم إزاغة إلا هي، وايم الله! لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء).
وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: (لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً)، وهذا الحديث رواه أحمد والطبراني، وزاد: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُين لكم)، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، وهو ثقة، وفي إسناد أحمد من لم يُسم.
يعني: هذا الحديث فيه كلام.(45/9)
الحث على التمسك بالسنة من أقوال السلف والعلماء
أما أقوال الصحابة والتابعين في الحث على السنة فما أكثرها! منها: ما رواه الدارمي عن الذهلي رحمه الله قال: (كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة).
وعن هشام بن عروة عن أبيه رحمه الله قال: (السنن السنن! فإن السنن قوام الدين).
وعن الأوزاعي رحمه الله قال: (كان يقال: خمس كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله).
وأخرج البيهقي من طريق مالك: (أن رجاء حدثه أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يتبع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره وحاله، ويهتم به؛ حتى كان قد خيف على عقله من اهتمامه بذلك).
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم -لما جلس يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم- يتتبع الدباء من حوالي الصحفة، فما زلت أحب الدباء من ذلك اليوم)، ولذلك بوب الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث فقال: باب جواز أكل المرق واستحباب أكل اليقطين.
واليقطين: هو الدباء.
وعن عبد الله بن الديلمي قال: (بلغني أن أول ذهاب الدين ترك السنن، يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة).
وعن عبد الله بن عون رحمه الله أنه قال: (ثلاث أرضاها لنفسي ولإخواني: أن ينظر الرجل المسلم القرآن فيتعلمه، ويقرأه، ويتدبره، وينظر فيه، والثانية: أن ينظر ذاك الأثر والسنة فيسأل عنه، ويتبعه جهده، والثالثة: أن يدع الناس إلا من خير).
وعن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: (إن لله عباداً يحيي بهم البلاد، وهم أصحاب السنة).
وعن أبي العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء أنه قال: (من ألزم نفسه آداب السنة عمر الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه، والتأدب بآدابه قولاً وفعلاً ونية وعقداً).
وعن الجنيد قال: (الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، ولزم طريقته؛ فإن طريق الخيرات كلها مفتوحة عليه).
فمتى ما حافظ المسلم على السنة محافظته على الطعام والشراب الذي به قوام البدن أو أشد غمرته الفوائد الدينية والدنيوية.
والحقيقة: أن التشبيه الذي ذكره تشبيه مؤلم، فالإنسان منا إذا راجع نفسه وسأل نفسه: هل يحافظ على السنن -بمعناها الواسع- محافظته على الطعام والشراب؟ فللأسف الشديد قد يكون حال كثير من الناس أنه لا يمكن أن يفرط في الطعام والشراب، لكن يهون عليه أن يفرط في السنة، مع أن حاجة الإنسان إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم أهم وأقوى من حاجته إلى الطعام والشراب.
يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله: (وفي اتباع السنة بركة موافقة الشرع، ورضا الرب سبحانه وتعالى، ورفع الدرجات، وراحة القلب، ودعة البدن، وترغيم الشيطان، وسلوك الصراط المستقيم).
وقال ابن حبان رحمه الله تعالى في مقدمة صحيحه: (وإن في لزوم سنته عليه الصلاة والسلام تمام السلامة، وجماع الكرامة، لا تطفأ سرجها، ولا تدحض حجتها، من لزمها عُصم، ومن خالفها ندم؛ إذ هي الحصن الحصين والركن الركين الذي بان فضله، ومتن حبله، ومن تمسك به ساد، ومن رام خلافه باد، فالمتعلقون به أهل السعادة في الآجل، والمغبوطون بين الأنام في العاجل).(45/10)
انتشار الفهم السيئ والتطبيق الخاطئ لمصطلحات الفقهاء في السنة والمستحب
وقال الغزالي رحمه الله في كلام له في هذا الصدد: (اعلم أن مفتاح السعادة في اتباع السنة، والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع مصادره وموارده، وحركاته وسكناته، حتى في هيئة أكله وقيامه ونومه وكلامه، لست أقول ذلك في آدابه في العبادات فقط؛ لأنه لا وجه لإهمال السنن الواردة في غيرها، بل ذلك في جميع أمور العادات، فبه يتحقق الاتباع المطلق).
يعني: حتى يتحقق الاتباع المطلق لابد من الاقتداء بكل ما ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، فجاء الأمر بالاتباع اتباعاً مطلقاً.
فما أكثر ما نُسيء استعمال ألفاظ العلماء والفقهاء! وموضوع التفريق بين السنة والمستحب والنوافل وهذه الاصطلاحات التي أنشئت متأخرة عن زمن الوحي وعن القرون الأولى، هذا من باب التصنيف والتسهيل على طالب العلم، لكننا اعتدنا الآن أن نرى أناساً يسيئون فهم هذا التصنيف، فهذا التصنيف ما قُصد به أن تأتي بما شئت من الفرائض حتماً ولزوماً، لكن أنت مخير في الإتيان بالسنة أو تركها، فمثل هذه المفاهيم مخالفة لهدي السلف الصالح، فعلى الإنسان ألا ينظر للسنة بأنها شيء يسهل ويهون على الإنسان أن يفرط فيه، ولا يشعر بمصيبة إن فاته.
كما يحصل أيضاً في جانب طلب الترك غير اللازم كما في المكروه، فالناس أيضاً تعودوا أن يستعملوا اصطلاح (المكروه)؛ وأن المكروه شيء يمكن فعله، فتكلم أحدهم في السجائر فيقول: بعض العلماء قالوا: مكروه.
يعني: مكروه كأنه لا حرج في أن يأتي بمكروه.
فمثل هذا التقسيم ما أُريد به أن ينصبغ المسلمون بهذه الصبغة التي يشيع فيها التساهل والتفريط وهوان السنة على قلوبهم، وإنما هو لإعطاء الأمور مراتبها فقط، وما قُصد به هذا الفهم السيئ، يقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، فقوله: (ما آتاكم): هذه تفيد العموم، فلا يليق بعاقل بعد ذلك أن يتساهل في امتثال السنة، ولا شك أن غربة الإسلام في زماننا تُعتبر عنصر ضغط على المتبعين لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن الإنسان يصبر، فما هي إلا أيام قلائل ويُطوى هذا العمر، ثم يجني ثمرة صبره على هذه الغربة، ويكفي أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (طوبى للغرباء؛ أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).
يقول الغزالي: (فهل بعد ذلك يليق بعاقل أن يتساهل في امتثال السنة، فيقول: هذا من قبيل العادات فلا معنى للاتباع فيه؟! فإن ذلك يغلق عنه باباً عظيماً من أبواب السعادة)، أي: أن هذا يحرم نفسه من باب عظيم جداً من أبواب السعادة وهو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في جميع موارده ومصادره، وفي كل أحواله، وفي حركاته وسكناته.
يقول القاضي عياض رحمه الله تعالى في (الشفاء): (وهذه سيرة السلف حتى في المباحات وشهوات النفس، وقد قال أنس حين رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة: فما زلت أحب الدباء من يومئذٍ).
فانظر إلى شدة المحبة! واتباع السنة ثمرة طبيعية للمحبة، وكلما قرت المحبة في القلب حرص الإنسان على أن يقتدي بمحبوبه، وهذا نراه في أحوال الناس، حتى الذين يقتدون بلاعبي الكرة أو بالممثلين أو بالفنانين، حيث تجد أحدهم يغير شكله لشدة محبته لهذا الشخص بما يتوافق مع هيئته، ويهتم جداً بماذا يأكل وماذا يلبس، وأي الألوان يحب، وأي الطعام يحب، وما هو المشروب المفضل عنده! وكل هذه التفاهات في أمثال هؤلاء الناس، فأولى ثم أولى أن يتحرى المسلمون الاتباع المطلق للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذا الحسن بن علي وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وهذا ابن جعفر أيضاً رضي الله تعالى عنهما أتوا سلمى، وسألوها أن تصنع لهم طعاماً مما كان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالطعام الذي طلبوه لا يريدونه طعاماً أي طعام، وإنما بشرط أن يكون مما كان يحب ويعجب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان ابن عمر يلبس النعال السبتية، ويصبغ بالصفرة؛ إذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.(45/11)
فوائد وثمار الإكثار من السنن والنوافل
فلو أن كل فرد من أبناء هذه الأمة نشأ وبين عينيه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منها آدابه وأخلاقه وحركته وسكونه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً لنشأ جيل إيمانه كالجبال، يقذف الرعب في قلوب أعدائنا على مسيرة شهر، وينهض بالأمة إلى أعلى ما تصبو إليه من السعادة والسيادة، كما قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].(45/12)
من ثمرات النوافل والسنن محبة الله عز وجل للعبد
ونذكر من ثمرات الالتزام بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنك إذا حافظت على السنة فإنك ترتقي إلى درجة المحبة، يعني: محبة الله عز وجل لعبده المؤمن، فليس أنك تحب الله؛ لأن هذا حتم عليك بالعقل قبل الشرع؛ فإنه يجب أن تحب من أحسن إليك وأوجدك من العدم، وأفاض عليك نعمه ظاهرة وباطنة، فهل هذا شأن عظيم أن يحب العبد سيده الذي أنعم عليه، وأوجده من العدم، وأفاض عليه النعم؟! هذا أقل ما يجب، لكن الشأن: أن يحب الرب العبد، أي: أن الله سبحانه وتعالى يحب العبد، فما هو الباب المؤدي إلى هذا السبيل؟ وكيف يصل الإنسان إلى هذه المرتبة العظيمة؟ فتخيل أن الله سبحانه وتعالى يحبك، وتخيل أنك إذا فعلتك هذا الشيء -وهو المحافظة على السنن- يذكر اسمك في الملأ الأعلى؛ لأنه إذا أحبك الله (ينادي سبحانه وتعالى جبريل عليه السلام: (يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه.
فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في الملأ الأعلى -في الملائكة-: إن الله سبحانه وتعالى يحب فلاناً فأحبوه)، فانظر إلى الموالاة كيف يربط هذه المرتبة بين قلوب المؤمنين في الأرض وبين الملأ الأعلى من الملائكة في أعلى السماوات! قال: (ثم ينادي في الملائكة: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، ثم يُوضع له القبول في الأرض)،كل هذا نشأ عن ماذا؟ وبدأ بماذا؟ فإذا أحب الله عبده وضع له هذا القبول في السماوات قبل الأرض، فما أعظمها من منزلة! ولا يبعد عنها إلا دنيء الهمة سافلها.
إذاً: هذه أول ثمرة من ثمرات الحرص الشديد على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو أعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تُقبل هذه الدعوى إلا ببينة.
وهذا عدل، فمن السهل أن الإنسان يدعي لنفسه أنه يحب الله عز وجل، أو أن الله يحبه، لكن لابد من بينة، كما يقول الشاعر: إن كنت تنوح يا حمام البان للبين فأين شواهد الأحزان أي: أين الدليل على أنك حزين؟ أجفانك للدموع أم أجفاني لا يقبل مدعٍ بلا برهان ويقول الآخر: إذا اشتبكت دموع في جفون تبين من بكى ممن تباكى فليست النائحة الثكلى كالمستأجرة، فقيل: لا تقبل الدعوى إلا ببينة، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية يمتحن بها الصادق من الكاذب: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، فتأخر الخلق كلهم، وعند الامتحان يُكرم المرء أو يُهان.
فحينما طالبهم الله سبحانه وتعالى بإقامة البينة نكص الخلق كلهم على أعقابهم، وارتدوا وفشلوا في أن يقيموا البينة، وثبت فقط أتباع الحبيب صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله وأخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم، وهؤلاء فقط هم الذين صدقت لهم دعوى المحبة، وطُرد الباقون من قاعة المحبة، ووقف فقط الذين أتوا بالدليل وبالوثائق التي تثبت صدق المحبة، وأنهم فعلاً عندهم البينة، وهي: اتباع النبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
فالله لا يحب إلا من اتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(45/13)
الإكثار من النوافل والسنن يجعل المرء من الأولياء
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه)، هذا الحديث لا شك أنه نص واضح وصريح على أن المثابرة والمداومة والملازمة على الإتيان بسنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكون سبباً من أسباب الحصول على محبة الله سبحانه وتعالى للعبد، فالله سبحانه وتعالى يتولى من يواليه، ويعادي من عادى هذا الولي، كما قال سبحانه: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، فهذا إعلان حرب على من يعادي أولياء الله عز وجل.
وقوله: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه)، هذا يبين أهمية الإتيان بالفرائض أولاً.
ثم يقول تبارك وتعالى: (وما يزال) وتأملوا كلمة (ما يزال) التي تفيد الثبات والاستمرار والمداومة، وقد عبر عنها في الحديث الآخر: (من ثابر على اثنتي عشرة ركعة) إلى آخره، فقوله: (من ثابر)، يعني: من واظب، فالعبرة بأن يواظب الإنسان ويستمر ولا ينقطع؛ لأننا أمرنا بالاستقامة.
ولما سأل أبو عمرو سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (حدثني في الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحداً بعدك.
فقال: قل آمنت بالله، ثم استقم)، يعني: سأل النبي عليه الصلاة والسلام بحسن نظره وحصافته وذكائه أن يلخص له في كلمات وجيزة كل ما أجمله خلال ثلاث وعشرين سنة -وهي مدة البعثة الشريفة- فقال: قل لي في الإسلام قولاً يكفيني، بحيث لا يحوجني إلى أن أسأل عنه أحداً بعدك، فقال: (قل: آمنت بالله، ثم استقم).
فقوله: (آمنت بالله) هذا يشمل الإيمان بكل شعبه: القلبية، والعملية، والاعتقادية وكل أمور الإيمان.
وقوله: (ثم استقم) هذا شرط الثبات على التقوى، فكلمة (الاستقامة) مركبة من معنيين: تقوى، وثبات على التقوى.
وأحياناً النصوص الشرعية يعبر عنها في لفظ واحد هو (الاستقامة)، وأحياناً تُفصل كما في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، فلابد من تقوى وثبات على التقوى حتى الممات؛ لأن الأعمال بالخواتيم، والخواتيم مغيبة.
فإذاً: لابد من التقوى والثبات على التقوى، فهذا هو الشأن؛ ولذلك يهتم الشرع الشريف بموضوع الثبات.
وقوله: (وما يزال عبدي يتقرب إلي)، أي: أنه لم يكتف بأداء الفرائض كما أمره الله سبحانه وتعالى، بل من شدة محبته لله هو حريص على أن يتقرب إلى الله، فلما فتح له باب النوافل واجتهد فيها وثابر وثبت عليها أحبه الله.
والأصل في المسلم أنه يعبد الله سبحانه وتعالى حتى لو قدر له أن يعيش في الدنيا حياة خالدة لا تنتهي؛ لأنه لا يعرف متى يموت، فهو يصبر على طاعة الله عز وجل إلى الأبد، وينوي الإيمان والثبات على الطاعة إلى الأبد، فمن ثمَّ جوزي بهذه النية بأن يبقى في الجنة خالداً فيها أبداً، فإذاً: التأبيد في الجنة إنما هو جزاء على نية التأبيد على الطاعة في الدنيا.
وكذلك بالنسبة للكفار، فالكافر ينوي أن يجلس على الكفر ولو عاش إلى الأبد، فيؤخذ بهذه النية، ويعاقب بالخلود في نار جهنم -والعياذ بالله تعالى- خالداً مخلداً لا يموت فيها ولا يحيى.
فإذاً: نية التأبيد والمثابرة أنت تثاب عليها بهذا الخلود في جنة الرضوان.
وقوله: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به)، أي: يوفقه الله سبحانه وتعالى أنه لا يستعمل أذنه إلا فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، وهذا من تيسير الطاعات، وتبغيض الكفر والفسوق والعصيان إلى هذا العبد، فالله سبحانه يحبب إليك الإيمان ويزينه في قلبك، حتى لا تستعمل حواسك إلا فيما يرضيه، فمن أعظم أبواب التوفيق أن يوفقه الله إلى أن يستعمل حاسة السمع فيما يرضيه.
وقوله: (وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه)، يعني: أنه يكون مجاب الدعوة، فلا شك أن النوافل في ضوء هذا الحديث من أعظم الأسباب الجالبة لمحبة الله سبحانه وتعالى للعبد ولثمرات هذه المحبة وبركاتها.
وأيضاً جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبه.
فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)، وهذا لفظ البخاري، ولا شك أن هذه أيضاً ثمرة عظيمة كان منبعها أن الله أحب هذا العبد، فجعل له هذا القبول.(45/14)
من ثمرات المحافظة على السنن والنوافل جبر نقص الفرائض
وأيضاً من ثمرات النوافل والسنن: أنها تجبر كسر الفرائض: كما ذكرنا الحديث، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب الناس عليه يوم القيامة من أعمالهم الصلاة.
قال: يقول ربنا جل وعز لملائكته وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي: أتمها أم نقصها، فإن كانت تامة كُتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً قال: انظروا هل لعبدي من تطوع؛ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تُؤخذ الأعمال على ذاكم)، يعني: سائر الأعمال، فينظر مثلاً الزكاة فيها صدقة فريضة وصدقة تطوع، فإذا كان هناك نقص في الفريضة يجبر من التطوع، وكذلك الحج، وكذلك العمرة على القول بوجوبها، وهكذا الصيام وغيره.
ومما لا ينكره منكر أن الإتيان بالفرائض كما أراد الله سبحانه وتعالى متعذر على أكثر الناس؛ لأنه لا يكاد أن تخلو العبادة من نقص؛ كترك الخشوع، أو ترك الطمأنينة في الصلاة، ولا يكاد يخلو أحد من اللغو، أو الغيبة حال الصيام مثلاً والعياذ بالله، أو الجدال والفسوق في الحج إلى آخر ذلك مما يعتبره العبد من النقائص والتفريط بصفته البشرية، ولا شك أن هذه الأشياء تنقص ثواب فرضه ويؤاخذ بها، لكن الله سبحانه وتعالى فتح لنا باباً يجبر هذا الكسر، ويقوم هذا الخلل، ويتمم هذا النقص في الفرائض بالمحافظة على ما شرعه من السنن والنوافل.
والمندوب إذا اعتبرته اعتباراً أعم من الاعتبار المتقدم وجدته خادماً للواجب؛ لأنه إما مقدمة له بين يديه، أو تكميل له، أو تذكار به إن كان من جنس الواجب.(45/15)
من ثمرات المحافظة على السنن مضاعفة الأجر
ومن ثمرات التمسك بالسنة والمحافظة عليها: ما رواه المروزي في كتاب (السنة) عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن عتبة بن غزوان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذٍ بما أنتم عليه أجر خمسين.
قالوا: يا نبي الله! منا أو منهم؟ قال: بل منكم)، وهذا أخرجه الترمذي وغيره.
وأيضاً عن جاء أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم)، قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة: (قيل: يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم)، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه أيضاً الحاكم، ووافقه الذهبي.
فالشاهد في هذا الحديث الشريف أولاً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام سمى أيام الفتن والإعراض عن الدين بأنها أيام الصبر، ونسبت إلى الصبر للمشقة التي يلقاها الإنسان في الاستقامة على طاعة الله سبحانه وتعالى، فيحتاج إلى قدر أقوى من المجاهدة؛ لأن البيئة من حوله تثبطه وتخذله عن الثبات؛ فلذلك هاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لنا أنه يشاركنا الإحساس بهذه الغربة، ويشاركنا بهذه الآلام، ويبشرنا بأنها لن تضيع سدى؛ لأن الإنسان إذا وُجد في بيئة صالحة تعينه على البر وعلى الطاعة فهذا يسهل عليه الطاعة، فإذا انتقل إلى بيئة معاندة تصده عن طاعة الله سبحانه وتعالى وتحرضه على الانحراف، فإذا ثبت وقاوم فالله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، إنما يحتاج هنا إلى مجاهدة أقوى وأكثر، فبالتالي إذا ثبت على الطريق فإنه يثاب.
قوله عليه الصلاة والسلام: (إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين)، فتأملوا كلمة (بما أنتم عليه)؛ لأنها تتضمن فضيلة لمنهج من يتبع السلف اتباعاً صحيحاً، كما قال تبارك وتعالى في الآية الأخرى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ} [البقرة:137]، تأمل كلمة (مثل)! ففيها أيضاً إشارة إلى عصمة هذا المنهج الذي يقوم على الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فلا هداية إلا بأن نكون على مثل ما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكما جاء في بعض الروايات أيضاً لما سئل عن الفرقة الناجية قال: (هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
فإذاً: هذه المثلية ليست أمراً اختيارياً، بل هي أمر محتم علقت عليه الهداية، وعلقت عليه النجاة من النار.
وقوله: (للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم)، يعني: أن المسلم الذي يعيش في مثل هذه الأزمان -أزمان الغربة- ويعمل نفس الطاعة التي كان يعملها الصحابي يؤجر مثل خمسين صحابياً كانوا يفعلون نفس العبادة، فاستكثروا ذلك وقالوا له: (يا نبي الله! منا أو منهم -أي: هل تقصد منا أو منهم- قال: بل منكم)؛ لأنه روي في بعض الزيادات: (لأنكم تجدون على الخير أعواناً، ولا يجدون على الخير أعواناً)، فهذه وإن لم تصح فهي تفسير صحيح لظاهرة الغربة.
فمن هو الغريب؟ الغريب: هو الذي يعيش في مكان ليس له أهل، أو له أهل قليلون، فهكذا المتمسك بالسنة، وقد قال: سفيان الثوري رحمه الله تعالى: (استوصوا بأهل السنة خيراً؛ فإنهم غرباء)، وشأن الغريب أن يرفق به، فهنا الغرباء متمسكون ومسئولون على التمسك بهدي النبي عليه الصلاة والسلام رغم أنهم غرباء في هذا المحيط الهادر من الفتن.
وقوله في الحديث الآخر: (فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر)، أي: أن الصبر فيهن على الدين مثل القبض على الجمر، ليس فقط مجرد الاقتراب من الجمر أو إمساك الجمر، وإنما عبر عنه بكلمة (القبض)، يعني: التمسك مع الألم الذي يحس به نتيجة القبض على الجمر والتمسك بالسنة، لكن الجزاء: (للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم).(45/16)
العمل بالسنن عصمة من الوقوع في البدع
وأيضاً العمل بالسنة فيه عصمة من الوقوع في البدعة، يقول أبو محمد عبد الله بن منازل رحمه الله: لم يضيع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه الله بتضييع السنن، ولم يُبتل بتضييع السنن أحد إلا يوشك أن يُبتلى بالبدع.
فهذا هو تدرج الشيطان بالإنسان؛ إذا ضيع فريضة لابد أن يُبتلى بتضييع السنة؛ لأنه إذا هانت عليه الفريضة فأولى أن تهون عليه السنة، فلم يضيع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه الله بتضييع السنن، ولم يُبتل بتضييع السن أحد إلا يوشك أن يُبتلى بالبدع؛ ولذلك قال بعض السلف: (الاعتصام بالسنة نجاة)، يعني: النجاة من كل ما يعيقك عن الله سبحانه وتعالى وبالذات البدع.
ولذلك نجد البدع تفشو في المجتمعات التي لا ينتشر فيها نور السنة، فلم تر جاهراً بالسنة ولا داعياً إليها ولا حاثاً على امتثالها، ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة؛ حتى تحيا البدع وتموت السنن).(45/17)
الحرص على إقامة السنن من تعظيم شعائر الله
أيضاً: الحرص على إقامة السنن هو من تعظيم شعائر الله عز وجل: وهذا داخل في قوله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، وهذا مظهر خارجي يعكس وجود التقوى في القلوب، فتقوى القلب تنضح على الظاهر بالتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والشعائر جمع شعيرة، وهي كل ما أشعر الله بتعظيمه والترغيب فيه.
وقوله: (ومن يعظم شعائر الله) يشمل ما هو أعم من المناسك والهدايا والقربان للبيت، فكل ما أشعر الله تعالى بتعظيمه وإجلاله والقيام به وتكميله على أكمل ما يقدر عليه العبد داخل في ذلك، فمثلاً: تعظيم الهدايا التي تهدى إلى البيت ينبغي مراعاة السنة فيها أن تكون ثمينة حسنة، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره.
ومثل هذه الأشياء لا يقوى عليها إلا من كان ذا قلب تسنم ذروة التقوى، فلذلك تجود نفسه بأن يخرج لله عز وجل من ماله طيبة بذلك نفسه أحسن ما يقدر عليه؛ لأن هذا يوجهه إلى الله سبحانه وتعالى.
ومن أعظم شعائر الله عز وجل: السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالمحافظة عليها والوصية بها من إجلال هذه الشعائر وتعظيمها المنبعث من تقوى القلوب.(45/18)
أجر من اُقتدي به في العمل بالسنة
أيضاً من فضائل التمسك بالسنة: أن الإنسان إذا عمل بالسنة ثم اُقتدي به في العمل بهذه السنة فإنه يؤجر مثل أجر كل من اتبعه لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً: والدليل حديث جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر؛ بل كلهم من مضر، فتمعر -تغير- وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة -أي: لما رأى من آثار الفقر الشديد عليهم- فدخل ثم خرج -يبدو أنه دخل يبحث عن شيء في بيوته فما وجد- فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال عليه الصلاة والسلام: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، والآية التي في الحشر: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر:18]، ثم قال عليه الصلاة والسلام: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة -يعني: ليتصدق ولو بشق تمرة- قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت،)، ووضعها أمام النبي عليه الصلاة والسلام، فالصحابة لما رأوا هذا الرجل الأنصاري يفعل ذلك اقتدوا به فيما فعل، فيقول: (ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة -يعني: كأنه فضة- حينئذٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء) إلى آخر الحديث.
قوله: (ولو بشق تمرة) فيه حث على الابتداء بالخيرات، فالإنسان يحرص دائماً على أن يبتدئ بالخيرات، فإما أن يفعل هو خيرات ابتداءً فيقتدي به الناس، أو يحرضهم؛ لأن: (الدال على الخير كفاعله).
وقوله: (من سن) يعني: من أحيا.
وليس المقصود: من اخترع أو ابتدع؛ لأنه يتصادم مع عموم قوله: (كل بدعة ضلالة)، فلا يمكن أبداً أن يقبل ما يقوله أهل البدع حين يخترعون في الدين، ثم يقولون: (من سن)، فهل الصدقة اختراع؟ وهل هذا الصحابي الأنصاري الذي تصدق اخترع الصدقة أم أنه أحيا سنة الصدقة فاقتدى الناس به في ذلك؟ فإذاً قوله: (من سن) لا يمكن أن يكون معناه: من أحدث في الدين ما ليس منه، بل هذا بدعة وضلالة كما نعلم.
وسبب ورود هذا الحديث هو ما جاء في أوله (فجاء رجل أنصاري كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، فتتابع الناس) إلخ.
فإذاً: كان لهذا الرجل فضل فتح هذا الباب من الإحسان، وهذا طبعاً يفيد التحريض على أن المسلم حيث ما كان ينبغي أن يحرض الناس على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(45/19)
اتباع السنة أمان من الفرقة
أيضاً من فضائل اتباع السنة: أن في التزامها أمناً من الافتراق: لأن الاجتماع على عمل بالسنة يسد باب الاختلافات والافتراقات التي تؤدي إلى العداوات والبغضاء، كما في الحديث: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي).
إذاً: لا يصلح أبداً أي علاج للفرقة إلا إذا كان على وفق سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لذلك كلما كان المجتمع أكثر تمسكاً بالسنة انقطعت فيه البدع وأهلها، يقول شيخ الإسلام: والبدعة مقرونة بالفرقة، كما أن السنة مقرونة بالجماعة، فيقال: أهل السنة والجماعة، في مقابلة: أهل البدع والافتراق، وقد قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]، قال قتادة في تفسيرها: يعني أهل البدع.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: سئل مالك بن أنس عن السنة؟ فقال: (هي ما لا اسم له غير السنة، وتلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153])، ولذلك أهل السنة لا ينسبون إلى أحد خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.(45/20)
رفقاً أيها المربي
يعتبر المربي هو حجر الزاوية والمحرك الأساسي في عملية التربية؛ لذا لابد أن يخص بنصائح خاصة مميزة تعطيه ملكة في التعامل مع من يربيهم، ويدرك بها خطورة المهمة الملقاة على عاتقه، والتي سيسأل عنها يوم القيامة.
ومما ينصح به المربي: أن العقاب البدني الشديد يجب أن يتجنبه، وإن استخدم فهو للتربية والتوجيه لا للتشفي وإخراج ما في النفس من حنق على المتربي، فالعقاب البدني الأهوج والكلمات المهينة لها أثر نفسي قد لا يزول مدى العمر.(46/1)
التربية الإسلامية وأهميتها للأمة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن التربية الإسلامية ربانية المصدر، عالمية الشمول، ثابتة الأصول، مرنة التطبيق، تشمل ميادين الحياة الدنيا وكذلك الحياة الآخرة في توازن واعتدال، فهي تُعد الإنسان لعبادة الله تبارك وتعالى حق عبادته، وعمارة الأرض وخلافتها، وفق منهج رضيه الله لعباده، واختاره لهم، تلك التربية التي تؤصل العقيدة في النفوس، وترسخ الإيمان في القلوب، وتحبب شرع الله عز وجل إلى عباد الله.
إلا أن الأمة الإسلامية لما بدأت تتطفل على غير المصادر الإسلامية، أو تطلب الخير من غير ما أنزل الله سبحانه وتعالى، وابتعدت عما أوحاه الله إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ انهمكت في تقليد ومحاكاة الأمم الكافرة، فبقدر ما عبت ونهلت من هذه المنابع الأجنبية بقدر ما حصل من الخلل في التربية الإسلامية، والفكر التربوي الإسلامي.
وهذا الأمر انعكس بلا شك في العمليات التربوية، ونرى آثاره واضحة في بعض المؤسسات التربوية في العلاقة بين المعلمين والمتعلمين، حيث نرى عدم التوافق وعدم الانسجام، نرى عدم الاحترام، نرى أن الصغير لا يحترم الكبير، وأن الكبير لا يرفق ولا يرحم الصغير، فصارت التربية في مجتمعنا -خاصة في هذا الزمان- تسير باتجاه مخالف لذلك الاتجاه الذي كان عليه سلف الأمة الصالحون، فالتربية صارت عديمة الجذور، تنزوي بسرعة، وتجتاحها أخف الرياح وأقل الأمطار، مثل البناء المقام على أرضية رخوة ينهار لأدنى عامل مضاد؛ وذلك لأن المناهج التربوية الغربية في قسم كبير منها غير موصولة بخالق هذا الإنسان الذي قال سبحانه وتعالى عنه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذا الإنسان، وهو الذي يعلم ما يصلحه وما يفسده كي يجتنبه، فإذا طالعنا الصحف كم نرى من الأخبار المؤذية والسيئة التي تعكس انهيار الجانب التربوي في المجتمع حوادث مؤسفة يصل فيها الأمر إلى اعتداء الابن على أبويه، أو قتل الأب لابنه، أو مدرس يضربه التلاميذ إلخ، ونحو ذلك من الحوادث الأليمة المؤسفة، وما ذاك إلا لبعدنا عن هدي منهجه صلى الله عليه وسلم الذي هو خير الهدي، وبسبب بعدنا عن الاستفادة منه في معالجة تجاوزات الطلاب.(46/2)
مبدأ الرفق في التربية وأثره
مبدأ الثواب والعقاب مبدأ أساسي جداً، ومبدأ في غاية الأهمية، ولا يمكن أن تتم أي تربية بغير الثواب والعقاب، أو بغير الترغيب والترهيب، لكن بعض الناس يسيء فهم بعض النصوص، خاصة مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (واضربوهم عليها لعشر سنين)، فيتصرف في تطبيق هذا الحديث، فنجد الضرب منذ الثلاث سنوات والأربع، وعلى أمور في غاية البساطة، إن أهم أمر في الدين بعد التوحيد هو الصلاة، فإذا كان لا يضرب على الصلاة حتى سن العاشرة، فما بالك بما دون الصلاة؟! وما بالك بدون ذلك السن بكثير؟! فنجد الضرب أول وسيلة، ولا يشعر الأب أو المربي بالتقصير لأنه يستند إلى فهمه المنحرف لحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم! الرفق في العملية التربوية مفيد جداً لكثير من الناس، سواء في المساجد أو المنازل أو المدارس؛ ولذلك فإن المربي لا يمكن أن يندم أبداً إذا ترك الرفق بخلاف ما إذا سلك طرقاً أخرى، فكثيراً ما يندم بسبب عواقبها السيئة.
إننا نشبه موضوع الرفق مع المربي بحزام الأمان في السيارة، فسائق السيارة يحزم به نفسه حتى إذا ما اصطدمت السيارة فجأة بشيء أو وقع حادث مفاجئ، فإنه لا يخرج منها بدافع القصور الذاتي، وإذا وقفت السيارة بسبب صدمة شديدة فالمفروض أن الجزء الأعلى من السائق ينصدم في الزجاج، كما يحدث في الحوادث المعروفة، فأخذ هذا الإجراء الوقائي مطلوب، حتى إذا ما حصل حادث مفاجئ فإن الحزام من طبيعته أنه يحجز الإنسان عن الاندفاع للأمام، وتجد أن هذا الحزام إذا سحبته برفق فإنه يسير معك، أما إذا سحبته بشدة فإنه يعاند ويشاكس ولا يتحرك، وهكذا إذا أردت ثمرة جيدة للتربية فلا تعدل عن الرفق أبداً، ولا تستبدل به أي وسيلة أخرى.
الرفق هو البداية وهو الأصل، فلذلك تجد الطفل -في الغالب- تكسبه إذا رفقت به، أما الشدة فإنها تستخرج منه العناد استخراجاً، وتوجد كثيراً من الآثار السلبية فيما بعد.(46/3)
الآثار السلبية للعقاب البدني في التربية
إن القفز من التدرج المعروف في العلمية التربوية أو التوجيهية إلى عملية المعاقبة والضرب أو العنف هو اعتراف بالفشل، ولذلك نجد الكاتب سلمان العمري له مقالة في المجلة العربية عنوانها: العقاب البدني، هل هو أبغض الحلال إلى المربين؟ عنوان يحمل معان جميلة جداً في الحقيقة، فالطلاق حلال، ويباح في كثير من الأحوال، لكن هل معنى ذلك أن أي مشكلة يواجهها الزوج مع زوجته يفزع إلى الطلاق؟! الطلاق حلال، لكن هل يفزع إليه كأول حل؟ لا، آخر العلاج الكي والبتر، لكن لا بد أن يواجه الإنسان المشاكل بطريقة متدرجة، حتى الضرب الذي ورد في القرآن له عملية تدرج وشروط وضوابط إلى آخره.
فما بال بعض الناس يقصدون مباشرة إلى العنف والشدة مع ما لذلك من آثار جسيمة وخطيرة تنعكس على الأسرة والأبناء؟! يقول أحد الباحثين: إن لجوء الوالد أو المدرس إلى العقاب يعتبر اعترافاً بالهزيمة، لماذا يلجأ إليها فوراً من أول خطوة؟ لأنه في الحقيقة ينسى أن العقاب هو عملية تربوية، فيحول العملية التربوية إلى عملية انتقام وتشفي، وإهدار للقاعدة التي دائماً نكررها: (طفلك ليس أنت).
معظم الأخطاء التربوية التي تحصل، وكثرة النقد والعنف والشدة التي تنشأ، هي بسبب أنه يجعل عقله مثل عقل الطفل سواء بسواء، ويوازي خبرته بخبرة الطفل، وفهمه بفهمه، وكأنهما أمام ند، لو أنه تفكر قليلاً سيجد أنه ليس نداً! هذا المسكين هو طفل صغير وليس شخصاً كبيراً، حتى لا يوجد هناك تكافؤ عضلي أو جسدي، فهل من المروءة والقوة أن تضرب طفلاً أو تلميذاً بهذا العنف لأنك أكبر منه؟! ولذلك تجد الطالب المراهق إذا عومل بهذه المعاملة، وعنده عضلات وهو قوي، ربما يضرب المدرس؛ لأنه يجد لديه إحساساً بالكفاءة، وأن له القدرة على ضربه، أما الطفل المسكين فماذا يعمل؟ وكيف يدافع عن نفسه؟ وهكذا رجل يضرب امرأة، فهل هذه مروءة؟! عندما يضرب إنسان امرأة بغاية العنف وغاية القسوة، كأنه يصارع ملاكماً؛ هذه دناءة وخفة عقل وقلة مروءة، لماذا تستعرض عضلاتك على امرأة؟! هل هذا هو الضرب الذي ورد ذكره في القرآن؟! هذه قضية ناقشناها من قبل بالتفصيل، وإذا كانت هناك فرصة ناقشناها أيضاً، وهذه قضية مهمة، وينبغي أن نفهم هذا الموضوع بطريقة صحيحة، لكن لا يمكن أن الشرع يبيح أن تضرب المرأة ضرب غرائب الإبل، أو ضرب العبيد، بهذه الطريقة التي يتصورها بعض الناس.
فالشاهد أن العقاب عند بعضهم يتحول من عملية تربوية إلى عملية تشفي، صدره يغلي من خطأ ارتكبه هذا الطفل، أو هذا الصبي، فيفزع إلى الضرب وهو في غاية العصبية لأجل الضرب وليس التربية، هدفه أن يشفي غليله، ويطفئ نار الثورة في قلبه، فيظل يضرب إلى أن تهدأ ناره، ويهدأ هو؛ فيطلق هذه الشحنة في جسد هذا الصبي بالضرب والتعذيب الذي يحصل! وبالتالي يمكن أن يكسر له عظماً، أو يسبب له العمى كبعض الحوادث، أو يكسر له بعض أطرافه كيداه كما حصل في حوادث كثيرة جداً نتيجة إيذاء الأطفال، وبسبب أن الهدف ليس الهدف التربوي، هو لا يضرب لمصلحة الطفل، ولكنه يضرب لكي يشفي غليله.
الشرع الشريف يمنع المربي أن يعاقب بالضرب وهو غضبان، وهذا أهم شرط: أنه لا بد أن يكون المربي في غاية الاتزان والرزانة والهدوء بحيث يوقن أن الطفل سوف ينتفع بالعقاب، وأن الهدف هو معالجته ومداواته، وتحسين خلقه أو أدائه، ليس الهدف الانتقام، هناك فرق كبير، فلا نحتج بالنصوص الشرعية ونحن منحرفون عن الشرع في تطبيق هذا الأمر؛ لذلك كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إذا أراد أن يعاقب رجلاً حبسه وتوقف ثلاثة أيام، إلى أن تهدأ أعصابه ثم يصدر الحكم عليه وهو خال من الغضب والثورة، وحتى يضمن أن عنصر التشفي وشفاء الغليل غير موجود عند إصداره هذا الحكم.
فلماذا نفزع إلى اختصار الطريق بالضرب؟ لأننا نفشل في الأساليب الحقيقية في مواجهة المشاكل، ولا نسلك المسالك التربوية الصحيحة؛ لذلك يقول بعض الباحثين في بحث بعنوان: (الحب أولى من العقاب): إنك تستطيع أن تعالج اعوجاج الطفل بالمحبة والعطف والحنان، ويأتيك بثمار أعظم بكثير جداً مما تتوقعه من العقاب الذي ربما يأتي بأضرار كثيرة يقول: إن لجوء الوالد أو المدرس إلى العقاب يعتبر اعترافاً بالهزيمة، مؤداه: أنه لم يتمكن من تحقيق أغراضه باستعماله أي وسيلة أخرى، أي: أنه عجز عن توجيهه وجهة حسنة، أو معاونته على تنفيذ ما يتوقع منه بأي طريقة أخرى.
لذلك فإن استخدام العقاب ما هو إلا مبرر للفشل، وعدم وجود ما يقوم مقامه لدى المربي معناه: أن جعبة هذا المربي خاوية، وليس عنده علم، ولا خبرة، ولا حكمة، لا بشرع، ولا بآداب شرعية، ولا حتى بآداب تربوية يتفق عليها العقلاء أجمعون؛ ولذلك لجأ إلى آخر وسيلة وهي العنف والشدة؛ لأنه عاجز عن أن يستخدم الوسائل التربوية الأصلية.(46/4)
الآثار النفسية للعقاب البدني
يوضح بعض المربين أن استخدام العقاب له آثار خطيرة في نفسية الطالب فيقول: ولا يمكن أن يؤدي معه هذا العقاب إلى نتيجة ما.
هذه هي طريقة العقاب التي يسلكها بعض المربين أو المدرسين، وكان فيما مضى -للأسف الشديد- يستعملها محفظو القرآن الكريم، ونسمع عن بعض المشايخ أنه كان يضرب بعنف، وبعض المشايخ الكبار عندما يقصون علينا مثل هذه الذكريات يقول: ربنا لطف، وكانت سليمة! ثم يأتي الأب ويقول: نحن تربينا بالطريقة هذه، وكنا على خير خلق.
هذا خطأ كبير، لطف الله سبحانه وتعالى أن نجى ابنك من عواقب هذا الأمر، أو أنك نجوت منه، وليس معنى أنك تعرضت لنفس الأسلوب من آبائك أنه أسلوب صحيح.
وهذه من أخطر المزالق في الناحية التربوية: أن الإنسان دائماً يقدس ما كان عليه الأبوان، بما أن أبي رباني بهذه الطريقة لا بد أن تكون هذه هي أفضل طريقة على الإطلاق؛ فيكررها مع أبنائه! فالشاهد أن الكثير من المشايخ في تحفيظ القرآن كان يضرب ضرباً شديداً، ويحكي بعضهم كيف ضربه الشيخ حتى سال الدم على وجهه وثيابه؛ لأن الشيخ ضربه بعصا غليظة على رأسه، ويفخر بوسام شرف موجود في رأسه من أثر هذا الضرب! وهناك أناس من ضحايا هذا الأسلوب التربوي الذين اتجهوا بعد ذلك الاتجاه العلماني، وكتبوا عن هذه الذكريات الأليمة، وأنها كانت السبب في انحرافهم، مثل: طه حسين، حتى سيد قطب رحمه الله كان في (كُتّاب) في القرية، وحكى عن نفسه بنفس طريقة طه حسين، وذلك قبل أن يتجه الاتجاه إسلامي، فكان يحكي الذكريات، وما كان يفعله الشيخ، ويتندر من تصرفات بعض المحفظين فيما مضى.
وأنا أركز على هذه الوقفة لأني أسمع أن بعض المحفظين ما زال يستعمل نفس الأساليب مع بعض الأطفال، وأطفال اليوم في حاجة إلى معاملة دقيقة جداً؛ لأنهم يختلفون اختلافاً شديداً عن الأجيال الماضية.
يقول بعض الباحثين: ولا يمكن أن يؤدي معه هذا العقاب إلى نتيجة ما؛ سوى أن يجعله يحقد على المدرسة، ويتمرد على أهله في سبيل الحضور إليها، ويكره الذهاب إلى المدرسة، وهذه نراها بالذات في الأطفال الصغار في سن الحضانة أو بعدها بقليل، لا يريد أن يذهب إلى المدرسة، ويعاند، وفي كل يوم يصنع مشكلة كبيرة من أجل ألا يذهب إليها؛ وعندما تبحث في الأسباب تجد أن مدرساً يسيء معاملته أو يضربه أو يهينه إلى آخره؛ فيكره الذهاب إلى المدرسة، وهذا بلا شك مما يحطم مستقبله، ويؤدي به في النهاية إلى حياة التشرد، فهذا خلل في التربية، ويسبب أن الأم تحرم من أعز ما تملك من طاقتها؛ لأن عزتها مرهونة بتربية أبنائها التربية السليمة.
فركنا العملية التعليمة هما: المربي والمربى، المدرس والتلميذ، الأب والابن، أو الأم والابن، فإذا ساءت العلاقة بين الركنين الأساسيين في العملية التربوية فإن هذا بلا شك سوف يحدث لها الفتور والتوتر والتمزق؛ فبالتالي تنتهي العملية التربوية.
الآن الطلبة في المدارس الثانوية -لما زال الاحترام بين المدرس والطالب- نسمع عنهم أشياء تشيب لها الرءوس، ويشيب لها الشعر مما يفعله الطلبة مع المدرسين، وأحياناً يكون المدرس هو المسئول؛ لأنه لم يجعله يحترمه، نتيجة عدد من التصرفات المعروفة، في الأجيال الماضية التلميذ كان إذا رأى المدرس في الشارع يجري حتى لا يجتمع معه في الشارع، أو يهرب أو يدخل في بيت إلى أن يمر المدرس.
الآن الله المستعان! نسمع أشياء لا تكاد تصدق أنه وصل التدهور في العلاقة بين هذين الركنين الأساسين في العملية التربوية إلى هذا المستوى.
فمن أسوأ آثار العنف: الهروب من المدرسة أو التغيب عنها، ومن الممكن أن تكون هناك صدمات نفسية للأطفال تسبب لهم عقداً في حياتهم، أو بسبب حدوث مصادمات مع المدرسين.
أيضاً: إذلال الطفل وإحساسه بالذل والهوان والحقارة، وتعريض شخصيته لكثير من الانحراف الخطير، والاضطراب الأليم، فالعقوبة البدنية بالصورة التي تحصل لا تجدي شيئاً، وتضر بالطالب، وتكون النتيجة بغض الطالب لمعلمه، ولو بغير إرادته وشعوره.
يمكن ألا يعبر صراحة عن هذا البغض، إلا أنه يظهره في صورة مقاومة التعليم وكراهية المدرسة، وبالتالي تنهدم علاقة الثقة والمحبة التي ينبغي أن تكون بين المعلم وبين طلابه، فالعقاب يؤدي إلى أن الطالب يشعر بفقدان الأمن.
أعرف بعض المدرسين كان مميزاً جداً، كان يأتي إلى الطالب وهو يبتسم، وبمنتهى الهدوء، وفجأة يصفعه صفعة شديدة على وجهه إلى أن يسقط على الأرض من هذه الصفعة! ويصبح حينها كل طالب متوتر يرى أنه سيفاجئ بنفس العمل في المرة القادمة، لأن هذا السلوك فيه من العدوان ما يذهب الشعور بالأمان، فيتكون عند من حضر عدم الأمن وكراهية الآخرين، وينمو فيه شعور بالمقاومة والكذب والمخاوف إلى غير ذلك من العادات الذميمة.
فالجو المشحون دائماً بالانفعال والتوتر له أسوأ الأثر على الشخصية في سنوات الطفولة والمراهقة؛ لأن هذه المرحلة في غاية الحساسية.
المرحلة التي يوضع فيها أساس الشخصية من سن الطفولة الباكرة إلى سن الثامنة عشرة تقريباً، وبعدها يصعب جداً أي تعديل إلا إذا شاء الله، لكن هذه هي فترة التكوين، بعض الناس يقول: إن في الخمس السنوات الأولى تكون النسبة العظمى من تكوين الشخصية ووضع أساسها والباقي يكون إلى هذا السن الذي أشرنا إليه، فإذا حصل خلل في هذه الفترة فسيؤدي إلى الاضطراب النفسي والانفعالي والاجتماعي، وممكن أن يؤدي إلى معاناة وليست معاناة على المستوى الفردي بل ممكن أن يكون هذا الشخص عدواً للمجتمع بعد ذلك، أو مضاداً للمجتمع، ويبدأ يؤذي الآخرين بارتكاب الجرائم مثلاً.(46/5)
علاقة التربية بالعبادة
من أجمل الأشياء في التربية الإسلامية: أن هذه الأمور تدخل في حيز العبادة، أي: أن المنهج التربوي الإسلامي عبادة، وليس مجرد منهج فكري نظري أو منحنى من المناحي، بل هي عبادة، والإنسان مطالب بأدائها على أكمل وجه كما سنبين ذلك من القرآن الكريم، ومن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول ابن خلدون رحمه الله تعالى في مقدمته: فصل في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم، وذلك أن إرهاق الجسد في التعليم مضر بالتعليم، سيما في أصاغر الولد؛ لأنه من سوء الملكة، ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين سطا به القهر، وضيق عن النفس في انبساطها وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له.
هذه الخبرة التربوية الموجودة في كتابات المؤلفين من المسلمين، تعكس تؤثرهم بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية، وخبرتهم ودرايتهم بالأساليب التربوية الملائمة في التعامل مع المتعلمين.
وهذا أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى يقول في وظائف المعلم: أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن، ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ.
وهذا مأخوذ من السنة النبوية الشريفة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يواجه أحداً في وجهه بالنقد المباشر، إنما كان يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟!)، دون أن يحرج الذي فعل هذا الشيء، فهذه من الأساليب التربوية الرائعة، وهي التعريض؛ لأن التوبيخ المباشر يهتك حجاب الهيبة، ولن تبقى هناك هيبة بين المربي وبين الطالب أو الابن، ومتى هتك حجاب الهيبة فسيكون الأثر في المرة الأولى فقط، وبعد ذلك يصبح الولد مثلاً يدخن، وانتهى الموضوع بمرور الصدمة الأولى، ثم يتطور الأمر، ويصبح التدخين أمام أبيه أو نحو ذلك من هذه السلوكيات أمراً عادياً، فدائماً ما أمكن الوصول إليه عن طريق التعريض وعدم التصريح والمواجهة المباشرة كلما كان أفضل وأعون للابن على عدم العناد، وبالذات المراهق؛ لأن المراهق لابد من الحساسية الشديدة في التعامل معه، وأقرب طريق هو الإقناع والحوار، مع الحب والحزم والعطف، فالإقناع والحوار ضروري، ولا تلغي شخصيته، ولا تعامله دائماً على أنه هو الطفل الذي كان بالأمس، لا، هو الآن في مرحلة يريد أن يحقق ذاته، ويعترف له بالرجولة، ولو كانت فتاة فيعترف بأنها صارت ناضجة ولم تعد طفلة، فبالتالي لابد أن تتغير المعاملة، وتواكب المعاملة التغيرات التي تحصل فيه؛ لأنه سينمو غصباً عنك، وسيظل ينمو نفسياً واجتماعياً وعقلياً شئت أم أبيت، فبالتالي لابد أن تتغير المعاملة حتى لا تحصل عواقب غير حميدة.
إذاً: الغزالي يرى أن من وظائف ودقائق صناعة التعليم أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن، ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ؛ لأن التوبيخ المستمر والنقد اللاذع الذي لا يتوقف على كل سلوك وكل تصرف يرشح الصغير بعد ذلك بكثير من الأمراض النفسية الخطيرة، والتي تنشأ غالباً بسبب عائلة نقادة، كل تصرف منه ينتقد ويعلق عليه، ويوبخ، ويحقر، فيكون الحصاد: أن تدفع كل الأسرة الثمن، وتحصل أمراض ليست بالهينة.(46/6)
تربية الأنبياء لأقوامهم
إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك هذه الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا وحذرنا منه صلى الله عليه وآله وسلم، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في كل شيء من الأمور، سيما هذه القضية التي نتناولها، وهي قضية الرفق بمن يربيه الإنسان، وليس هذا فحسب، بل هذا طريق سلكه من قبل النبي صلى الله عليه وسلم إخوانه الأنبياء والمرسلون، فهذا نوح عليه وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [الأعراف:59] انظر بماذا بدأ؟ (يَا قَوْمِ)، أصلها: يا قومي، فهو ينتمي إليهم، ويبين لهم أنه منهم، وأنه حريص عليهم ومشفق بهم، {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59] انظر الشفقة! إني أخاف عليكم، وأنت لا تخاف إلا على من تحبه وترجو له الخير، وهذا من رفق نوح عليه السلام في الدعوة؛ حيث خاف عليهم من العذاب الأليم، والشقاء السرمدي.
وكذلك أيضاً نلاحظ موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام كيف واجها أعتى وأشد جبابرة الأرض، وهو فرعون الذي طغى وتجبر حتى وصل به الأمر إلى ادعاء الألوهية، يقول تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38]، وهذه الآية يستدل بها على مسألة من مسائل العقيدة وهي: أن الله فوق خلقه، عالٍ عليهم؛ لأن موسى عليه السلام لابد أنه أخبر فرعون أن الله في السماء، فرد على ذلك بقوله لوزيره: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا) ابن لي بناء عالياً جداً (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) وأنظر، هل موسى صادق أن هناك إلهاً في السماء (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ).
الشاهد: مع عظم الجرم الذي ارتكبه فرعون، وما واجه به موسى وهارون عليهما السلام، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى أمر موسى وهارون إذا أتيا فرعون أن يخاطباه باللين وأن يترفقا به.
إذاً: الشدة والغلظة سلوك مناف للسلوك الإسلامي القويم، وبعض الناس يظن أن هذا من الحماس للدين، ومن النصرة لله ورسوله، لا، أنت لا تتنازل عن الحق، لكن عامل هذا الإنسان بشفقة وبرحمة كي ينجو من عذاب الله تبارك وتعالى، كالطبيب الذي يعالج الناس بالدواء، والدواء قد يكون في غاية المرارة، لكن يخلط بأشياء حلوة المذاق حتى يستسيغ المريض الدواء وينفعه، ونفس الشيء التلطف في العبارة، مع عدم التنازل عن الحق، يقول الله سبحانه وتعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:43 - 44] هل هناك دليل أعظم من هذا في أهمية الرفق؟! فرعون الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] والذي فعل ما فعل؛ يرسل الله إليه نبيين كريمين ويقول لهما: (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: فإذا كان موسى عليه السلام أمر بأن يقول لفرعون قولاً ليناً فمن دونه أحرى بأن يقتدي بذلك في خطابه وأمره بالمعروف.
يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حصل له الكيد والأذى من أعز الناس وأقربهم إليه، من إخوته، إلى أن وضعوه في البئر، ثم بيع بعد ذلك، وهذا البيع اقترن به نفي إلى مصر، وابتعد عن أبيه، ولحق أباه الحزن الشديد حتى كف بصره عليه السلام، وسجن يوسف عليه السلام بضع سنين، وحصل له الأذى، وكان المتسبب في ذلك إخوته، مع ذلك ضرب أسمى الأمثلة في الإحسان وحسن الخلق، وكمال العفو والصفح، حيث قال لإخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف:92] لا لوم ولا عتاب، ولا توبيخ، {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92] أي: قال لهم يوسف كرماً وجوداً: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ)، أي: لا أثرب عليكم ولا ألومكم؛ يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فسمح لهم سماحاً تاماً من غير تعيير لهم على ذكر الذنب السابق، ودعا لهم بالمغفرة والرحمة، وهذا في نهاية الإحسان الذي لا يتأتى إلا من خواص الخلق وخيار المصطفين.
وجميع الأنبياء إذا استعرضنا سيرهم سوف نجد أن جانب الرفق واللين والرحمة استعملوه بكثرة مع قومهم، وهذا سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم يضرب أروع الأمثلة في تربية أصحابه رضي الله تعالى عنهم، يقول الله سبحانه تعالى في وصف رسوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] (فَبِمَا رَحْمَةٍ) أي: رحمة عظيمة لهم كائنة من الله، (لِنْتَ لَهُمْ) أي: كنت معهم لين الجانب، وعاملتهم بالرفق والتلطف، حيث لنت لهم بعدما حصل من مخالفة أمرك، وإسلامك للعدو، وكان هذا في غزوة أحد (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).
وقال تعالى في بيان صفات النبي صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وقال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم ل عائشة رضي الله تعالى عنها: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أعطي الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم الرفق فقد حرم حظه من الخير)؛ فانظر كيف ربط الحصول على الخير بمبدأ الرفق؛ لأن من أراد الخير فلن يحصل عليه إلا بالرفق، فهذا من مكارم الأخلاق ومن معالي الأمور.
ولذلك بلغ تعظيم أمر الرفق إلى أن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم؛ فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم؛ فارفق به) أي شخص يلي أمر أحد من الأمة سواء كان مدير مدرسة مدرساً أباً مع أبنائه حاكماً مع رعيته وهكذا أي إنسان استرعاه الله سبحانه وتعالى على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يرفق بالمسلمين، حتى يدخل تحت دعوته صلى الله عليه وآله وسلم، وينجو من الدعوة عليه على لسان خير البشر صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم؛ فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم؛ فارفق به).
وعن عمر بن أبي سلمة قال: (كنت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة -يعني: الإناء، فيديه تتحرك في كل أجزاء الإناء ولا يأكل مما يليه- فقال لي: يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)، رواه مسلم، فلم ينهره ولم يعنفه ولم يزجره، بل أمره برفق ولين وعطف مستخدماً أسلوب النداء (يا غلام)، ففيه ألفة وقرب ورحمة مع أنه أخطأ، مع أنه حاد عن آداب المائدة وآداب الطعام، لكن مع ذلك انظر كيف رفق به وعلمه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بوب الإمام مسلم رحمه الله تعالى فقال: باب: جواز قوله لغير ابنه: يا بني.
واستحبابه للملاطفة، يجوز للإنسان أن يقول لمن ليس ابناً له من صلبه.
يا بني.
تلطفاً به وتودداً، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بني) وهذا هو الشاهد، وقال النووي رحمه الله: في هذين الحديثين جواز قول الإنسان لغير ابنه ممن هو أصغر منه سناً منه: يا بُني ويا ولدي.
وهذا معناه: التلطف كأنه عندك بمنزلة ولدك في الشفقة، ويقول لمن هو في مثل سن المتكلم: يا أخي! وهذا نوع من التلطف والتودد لنفس هذا المعنى.(46/7)
مواقف من رفق النبي بأمته
نذكر قصة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الأعرابي الذي بال في المسجد أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وأمام أصحابه ظناً منه أن أرض المسجد مثل أرض الصحراء والفلاة التي عاش فيها، ويعمل فيها ما يشاء، فبال في المسجد، فقام عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم ليزجروه ويمنعوه، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم نهاهم ومنعهم وقال: (لا تزرموه) أي: لا تقطعوا عليه هذا الذي يفعله، وحال بينهم وبين أذية هذا الأعرابي، وتركه حتى فرغ من قضاء حاجته في المسجد، وعالج الموقف الطارئ بأحسن علاج وأكمل منهج كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
كذلك ضاقت عليه صلى الله عليه وسلم مكة بأوديتها وسهولها وجبالها؛ بسبب سفهاء قريش الذين أسرفوا في إيذائه والصد عن دعوته، ولم يجد بداً إلا أن يخرج إلى الطائف لعله يجد من ينصره؛ لكي يبلغ رسالة ربه، ويجد المؤازرة والدفاع، فلم يظفر بشيء من هذا، بل وجد الأذى والتهكم والطرد بالحصى والحجارة، حتى دميت عقباه صلى الله عليه وسلم، وتلطخت نعلاه بالدم، وسال دمه الزكي على أرض الطائف صلى الله عليه وآله وسلم، لقي كل هذا من سفهاء الطائف وعبيدهم وغلمانهم وأطفالهم، ثم غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف وهو مهموم النفس مكلوم الفؤاد؛ فلم يستفق إلا وهو في قرن الثعالب، وهو ميقات أهل نجد تلقاء مكة على يوم وليلة، فرفع رأسه فإذا هو بسحابة قد أظلتهم، يقول عليه الصلاة والسلام: (فنظرت فإذا فيها جبريل، قال: فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال: يا محمد! إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين) الأخشبان جبلا مكة: أبو قبيس والذي يقابله، ولو أطبقا عليهم لهلك أهل مكة أجمعون (قال: يا محمد إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً) رواه البخاري ومسلم.
تأمل هنا: هل توجد القدرة على الانتقام أم لا توجد؟ توجد حتى أنه ضامن أن الله سبحانه وتعالى راض عما يفعل؛ لأن الله أجاز له ذلك لما أرسل جبريل وملك الجبال معه، فبلا شك أنه يباح له الانتقام، بعض الناس ينتقم شفاء لغليله، ويعرف أن الانتقام محرم عليه، لكن هنا هو مطمئن تماماً أنه لا وزر عليه أبداً في الانتقام، وقادر على الانتقام، وأمره لا يرد؛ لأنه من الله سبحانه وتعالى بتسخير الملائكة، كان يقدر أن يرد اعتباره عن هذه الأذية التي تعرض لها من العبيد والغلمان في الطائف والأشراف حتى ضربوه بالحجارة حتى دميت قدماه، وأصابه ما أصابه صلى الله عليه وسلم، فالأسباب والدوافع للانتقام موجودة، ووسيلة الانتقام مضمونة تماماً، وهناك حاجة موجودة إلى رد الاعتبار وإلى شفاء الصدر من الكفار، ولكن الرحمة والشفقة في صدر نبي الله صلى الله عليه وسلم للناس عموماً، ورفقه حتى بالذين يعاندونه موجود حتى أنه غلب جانب الانتقام والبطش صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً: الأذية موجودة، للنبي عليه الصلاة والسلام وهو من هو، والاستحقاق للانتقام يشتد كلما كان الشخص الذي أخطأت في حقه أشرف وأعظم، فمن في البشرية كلها أشرف وأعظم وأجل من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومع وجود كل الدوافع والقدرة على الانتقام إلا أنه آثر جانب الرحمة، وتمنى أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده وحده لا شريك له، فبلا شك أن الصغار هم أولى بهذه الرحمة، وأولى بالرفق، وأولى بأن تتحرر من الدافع للانتقام، تتشفى مِن من؟ من ابنك الذي هو فلذة كبدك، تتشفى فيه وتضره أبلغ الضرر، وتؤذيه أشد الأذية! فلا شك أننا محتاجون إلى إعادة التذكير بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة الأنبياء ومن تبعهم في هذه الناحية التربوية؛ لأن أسلوب التشدد والغلو والعنف والتنطع والقسوة كلها أساليب حذرت منها شريعة الإسلام، يقول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] هذا عموم يدخل فيه أي سلوك نسلكه، ولذلك ورد: (ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس منه صلى الله عليه وآله وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون قالها ثلاثاً) رواه مسلم، وهم المتعمقون الضالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
وقال عليه الصلاة والسلام أيضا كما رواه البخاري: (إن الدين يسر) لم يقل: إن الدين يسير، لكن جعل الدين هو اليسر، (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)، فأمر باليسر، وأمر بالأخذ بالأسهل والأرفق في الأمور كلها؛ لأن (الرفق -كما قال صلى الله عليه وآله وسلم- لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه).
إذاً: المربي المسلم سواء كان مدرساً أو مدرسة أو أباً أو أماً ينبغي أن يكون عطوفاً شفوقاً ودوداً محباً لمن يربيهم، مترفقاً بهم، صبوراً عليهم، متأنياً في تعليمهم، حريصاً على نفعهم، وهو في ذلك يقتدي بأسوته وقدوته الذي كان نموذجاً يحتذى وأسوة يقتدى به في هذا الخلق القويم صلى الله عليه وآله وسلم، حيث كان قمة في الرحمة والشفقة والعطف والرفق واللين لأمته.
كانت هذه مقدمة لاستعراض هذا البحث، وهو بحث تربوي، وهو عبارة عن رسالة ماجستير، أعدها الشيخ صالح بن سليمان المطلق البقعاوي بعنوان: مبدأ الرفق في التعامل مع المتعلمين من منظور التربية الإسلامية، وسوف نأخذ بعض المقدمات من الكتاب ثم نكمله إن شاء الله تعالى فيما بعد.(46/8)
الرفق في اللغة ومعانيه التربوية
الرفق يتضمن عدة معان، وكل ما فيه مادة رفق فهو يدل على موافقة ومقاربة بلا عنف، فالرفق خلاف العنف، وضد العنف، والرفق لين الجانب، أرفق بي، وترفق، ورفق، وفيه رفق، أي: هو لين الجانب، لطيف القول والفعل، واسترفقته فأرفقني بكذا، يعني: نصحني بكذا، وارتفقت به أي: انتفعت، مثل المرافق، سميت بذلك لأننا ننتفع بها، الارتفاق الانتفاع؛ لأن الرفق يؤدي إلى المنفعة، والرفق ما استعين به، واللطف هو الرفق أيضاً، رفق به وعليه رفقاً ومرفقاً، والرفيق ضد الأخرق، ورفق فلان أي: نفعه، يقال: الله رفيق بعباده، من الرفق والرأفة، فهو فعيل بمعنى فاعل، والرفق لين الجانب وهو خلاف العنف.
إذاً: خلاصة الكلام في تعريف اللغة والمعاني اللغوية لمادة الرفق: أن الرفق نفع الآخرين، والرحمة والرأفة بهم، والأخذ بالأيسر والأسهل، وعدم التشديد ولين الجانب، واللطف بالقول والفعل، والرفق ضد العنف وضد الخرق.
وحينما نطبق معنى الرفق على هذا البحث نقول: إن الرفق بالمتعلم وبالذي نربيه هو: إرادة نفع المتعلم ومعاملته بالسهولة وعدم التشديد عليه في مادة الدراسة وأعمالها، بحيث لا يحمله المربي ما يشق عليه، ويكون رحيماً به، لين الجانب، لطيف القول والفعل معه، ولا يوقع العقوبة عليه ابتداءً، ولا يكون عنيفاً في التأديب بل في حالة وسط بين العنف وبين الضعف متحملاً ما يصدر من المتعلم برحابة صدر وصبر، غير مكترث لعتابه.(46/9)
مواضع ذكر الرفق في القرآن
ورد في القرآن الكريم لفظ الرفق ومشتقاته في خمس آيات كريمات: الأولى: قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] فرفيقاً معناه: صاحباً، لماذا سمي الصاحب رفيقاً؟ لانتفاعك في صحبته؛ وسبق أن الارتفاق: هو الانتفاع؛ لأنك إذا صاحبت هؤلاء تنتفع بصحبتهم، فيسمى الصاحب رفيقاً لارتفاقك بصحبته، ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض؛ لأن الصحبة التي تكون رفقة ينفع بعضهم بعضاً.
الثانية: قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6].
الثالثة: قال تبارك وتعالى: {يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16] فمرفقاً يعني: يهيئ لكم ما تنتفعون به، قال المهايمي: يرفق بنفوسكم فيعطيها من لذات عبادته ما ينسيها سائر اللذات، على أن لذاتها لم تخل من أذية، وهذه خالية عن الأذيات كلها.
ولماذا جزموا بهذا الأمر فقالوا: (ينشر لكم)؟ هذا جواب الأمر، يعني: أن العاقبة إن أويتم إلى الكهف وهجرتم الكفرة الوثنيين ستكون هي الرفق؛ فمن أين جاء هذا الجزم؟ جاء من يقينهم وقوة رسوخهم بفضل الله تبارك وتعالى، وأنه لن يضيعهم، ومن قوة وشدة توكلهم على الله سبحانه وتعالى.
إذاً: هذه الآية توضح أحد معاني الرفق: (ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً) المرفق هنا: النفع الذي لا أذية فيه، وهذا من كرم الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الفتية المؤمنين، (ويهيئ لكم من أمركم) الذي أنتم فيه ما ترتفقون به وتنتفعون بحصوله، فهم لجئوا إلى الكهف فراراً من هؤلاء المشركين الذين قد يجبرونهم على الكفر، فنشر الله لهم من رحمته، ووسع عليهم، وسهل لهم الأمر، وجعل لهم الانتفاع والفائدة من هذا اللجوء إلى الكهف حيث أبعدهم عن أعين الكفار، وسلموا من القتل والبطش والفتنة في الدين.
الرابعة: قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29] (ساءت مرتفقاً) أي: ساءت النار منزلاً ومقيلاً ومجتمعاً وموضعاً للارتفاق، وهذا ذم لحالة النار نفسها، أنها ساءت المحل الذي يرتفق به؛ لأنه ليس فيها ارتفاق، وإذا كانت النار بهذه الوصفة، هل فيها ارتفاق أو منفعة؟ لا، (ساءت مرتفقاً) بمعنى: ليس فيها ارتفاق، وإنما فيها العذاب العظيم الشاق الذي لا يفتر عنهم ساعة، فهذا يجمل ما ورد في الآيات الأخرى من التهكم حيث يقول: (بشر) وكأن البشرى ستكون بخبر عظيم، إلا أنه يفاجأ السامع بأنه عذاب أليم، (وساءت مرتفقاً) يعني: ليس فيها ارتفاق وإنما فيها العذاب العظيم الشاق الذي لا يفتر عنهم ساعة ولا نفع فيها على الإطلاق.
الخامسة والأخيرة: قوله تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:31] فهذه الدار الجليلة، هي نعم الثواب للعاملين، (وحسنت مرتفقاً) أي: يرتفقون بها، ويتمتعون بما فيها مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، من الحبرة والسرور والفرح الدائم واللذات المتواترة والنعم المتوافرة، وهذا بلا شك أحد معاني الرفق.
إذاً: من هذه الآيات القرآنية الخمس يتضح لنا بعض معاني الرفق ومرادفاته: الآية الأولى هي قوله تعالى: {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] الرفق بمعنى: لين الجانب والصحبة.
الآية الثانية قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] المرافق جمع مرفق، وهو ما يتكئ عليه ويستفاد منه وينتفع به؛ لأن المرافق يتكئ عليها الإنسان، فينتفع بهذا الاتكاء.
الآية الثالثة: {يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16] فالمرفق هنا بمعنى: الانتفاع وسهولة الأمر وتأثيره.
أما الآيتان الرابعة والخامسة التي فيها: {وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29] {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:31] فالمعنى اختلف بحسب فعل الذم أو المدح، فـ (ساءت مرتفقاً) يعني: ساء المحل والمقام الذي يسكنون فيه، ولا يوجد فيه نفع ولا فائدة، والآخر: (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) المراد حسن التمتع والفائدة وحصول النفع لغيره، وهذا أحد معاني الرفق.
نكتفي بهذا القدر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(46/10)
المنهج العلمي [1]
طلب العلم درجات ورتب لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف، ومن تعدى سبيلهم عمداً ضلّ، ومن تعداه مجتهداً زل، وأول ما ينبغي الاشتغال به في العلم هو كتاب الله عز وجل حفظاً وفهماً، وذلك بحفظ وفهم ما يعين عليه من لسان العرب، ومعرفة الأحاديث الواردة في تفسيره، ومعرفة ناسخه ومنسوخه، ودراسة أخباره وأحكامه.(47/1)
شهر رمضان، ومواسم الخير فيه
الحمد لله الذي جعل العلم النافع حصناً لأوليائه وجنة، وفتح لهم به أبواب الجنة، وعرفهم أن وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الأهواء المستكنة، وأن بقمعها تصبح النفس مطمئنة، ظاهرة الشوكة في قصم خصمها قوية المنة، وصلى الله على عبده ورسوله محمد قائد الغر المحجلين وممهد السنة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن حكمة الله تبارك وتعالى اقتضت أن يجعل هذه الدنيا مزرعة للآخرة، وميداناً للتنافس، وكان من فضله تبارك وتعالى على عباده وكرمه أنه يجزي على القليل كثيراً، ويضاعف الحسنات، ومن فضله ومنته على عباده أن يجعل لهم مواسم تعظم فيها هذه المضاعفة، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما أمكنه من وظائف الطاعات، عسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات.
قال الحسن رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]: من عجز بالليل كان له من أول النهار مستعتب، ومن عجز بالنهار كان له من الليل مستعتب.
ومن أعظم هذه المواسم المباركة وأجلها شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن المجيد، ولذا فإنه حريٌ بالمؤمن الاستعداد لهذا الشهر الكريم حال قدومه، والتفقه في شروط ومستحبات وآداب العبادات المرتبطة بهذا الموسم الحافل؛ لئلا يفوته الخير العظيم، ولا ينشغل بمفضول عن فاضل ولا بفاضل عما هو أفضل منه.
ولو أن كل واحد منا استحضر في قلبه أحب الناس إليه وقد غاب عنه أحد عشر شهراً، ويفترض أنه قد بشر بقدومه وعودته خلال يومين أو ثلاثة أو خلال أيام قلائل وأنه سيعود أحب الناس إليه بعد أن غاب عنه أحد عشر شهراً فكيف ستكون فرحته بقدومه واستبشاره بقربه وبشاشته للقائه؟ إن أول الآداب الشرعية لشهر رمضان أن نتأهب لقدومه قبل الاستهلال، وأن تكون النفس بقدومه مستبشرة، ولإزالة الشك في رؤية الهلال منتظرة، وأن تستشرف لنظره استشرافها لقدوم حبيب غائب من سفره؛ لأن التأهب لشهر رمضان والاستعداد لقدومه من تعظيم شعائر الله تبارك وتعالى الذي يقول في محكم كتابه: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، فيفرح المؤمنون بقدوم شهر رمضان، ويستبشرون به، ويحمدون الله على أن بلغهم إياه، ويعقدون العزم على عمارته بالطاعات وزيادة الحسنات وهجر السيئات، وأولئك يبشرون بقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، وذلك لأن محبة الأعمال الصالحة والاستبشار بها فرع عن محبة الله عز وجل الذي فرضها علينا، والله تبارك وتعالى يقول: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] هكذا يستبشر الصالحون بقدوم رمضان لما يرون فيه من الفرصة كي يتقربوا إلى الله عز وجل.
وفي حديث الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام الذي رواه عنه أبو هريرة رضي الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان إن الله ليكتب أجره ونوافله ويكتب إصره وشقاءه من قبل أن يدخله، وذلك لما يعد فيه المؤمنون من القوة للعبادة، وما يعد المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم، فهو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر).(47/2)
الارتباط الوثيق بين شهر رمضان وقراءة القرآن
مواسم الخيرات وأنواعها في رمضان كثيرة، ولكن الذي ينبغي أن نبدأ به ونهتم به جداً أن نلاحظ أن رمضان يرتبط ذكره ارتباطاً وثيقاً ليس -فقط- بفريضة الصيام، ولكن أيضاً يرتبط رمضان المعظم بالقرآن ارتباطاً وثيقاً، حتى إن الله تبارك وتعالى في آية الصيام قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]، فهناك ربط وثيق بين شهر رمضان والقرآن العظيم.
ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة) فقرن أيضاً بين الصيام وبين القرآن، إذاً هذا هو شهر القرآن، وينبغي أن تكون علاقتنا فيه بالقرآن علاقة متميزة تختلف عن سائر الشهور، فمن كان يحتفي بالقرآن في كل شهر وفي كل أسبوع وفي كل يوم فليتضاعف احتفاؤه به حتى ولو هجر كل ما عدا قراءة القرآن من الطاعات والعبادات الأخرى، فحقيق وحري بهذا الشهر أن يمحضه العبد لتلاوة القرآن الكريم وتعظيمه والتدبر فيه، يقول صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب! منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي رب! منعته النوم بالليل فشفعني فيه.
فيشفعان).
ففي هذا الشهر خصوصاً السبب الوحيد الذي ينبغي أن يمنعنا من النوم بالليل هو الاحتفاء بالقرآن الكريم، حتى تدخر ذلك عدة لك يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، حتى يشفع لك القرآن، ويقف ويتكلم بين يديك قائلاً لله عز وجل: (أي رب! منعته النوم بالليل فشفعني فيه) تشفع لك قراءته.(47/3)
فضائل القرآن الكريم
لقد ثبتت فضائل عظيمة جليلة للقرآن العظيم في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، منها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أبشروا؛ فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبداً).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (أما بعد: ألا أيها الناس! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين) وإنما سمى الكتاب والسنة ثقلين لأن الأخذ والعمل بهما ثقيل فيحتاج إلى مجاهدة، أو لأن كل واحد منهما ثقيل في الميزان، ومن الأول قول الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5].
قال صلى الله عليه وسلم: (وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضل، فخذوا بكتاب الله تعالى واستمسكوا به، وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (القرآن شافع مشفع وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار).
فقوله: (القرآن شافع مشفع) يعني: إذا شفع في شخص تقبل شفاعته (وماحل مصدق) (ماحل) مخاصم مجادل.
إذا جادل وخاصم رجلاً أمام الله عز وجل فإن الله يصدق شهادته في هذا الرجل، ويعاقبه بهجره القرآن.
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض).
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم -أيضاً- في فضيلة القرآن: (لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار) و (الإهاب) في اللغة هو الجلد، والمقصود به في هذا الحديث الجسم الذي يحفظ القرآن والصدر الذي يعي القرآن، والإشارة هنا إلى أن من وعى قلبه القرآن وعمل به فإنه يأمن من أن يحرق صدره بالنار وهو وعاء لكلام الله تبارك وتعالى.
يقول عليه الصلاة والسلام: (لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار) فكيف لو جمع القرآن في صدر عبده المؤمن؟! ويقول صلى الله عليه وسلم في رواية في أخرى: (لو كان القرآن في إهاب ما أكلته النار).
وهناك فضائل كثيرة في فضيلة تعلم القرآن وتلاوته، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإن لم يقم به نسيه) فهذا فيه توثيق الصلة بالقرآن حتى لا ينساه صاحبه.
وقال عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه، أما إني لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر، فتلك ثلاثون) فكل حرف من القرآن يؤجر عليه الإنسان عشر حسنات، ويضاعف الله تبارك وتعالى لمن شاء.
ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) يعني أن موقف كل إنسان من القرآن إما يكون سبباً في رفعته في الدنيا والآخرة، وإما أن يكون سبباً في هبوط منزلته وانحداره.
ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: (إن لله تعالى أهلين من الناس.
فقيل: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنكِ -يعني فاطمة عليها السلام- أول أهل بيتي لحاقاً بي، فاتقي الله واصبري؛ فإنه نعم السلف أنا لك).
فقوله: (إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين) يعني: في العام الذي توفي فيه (ولا أراه إلا حضر أجلي) استأنس وفهم من ذلك أن تكرار العرض في هذه العام مرتين لمزيد من الاحتياط في تثبيت القرآن، فعلم بذلك واستأنس أن أجله قد اقترب عليه الصلاة والسلام، ثم قال لـ فاطمة: (وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي، فاتقي الله واصبري؛ فإنه نعم السلف أنا لك).
ومنها أيضاً قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط).
فقوله: (إن من إجلال الله) يعني: من تعظيم شعائر الله تبارك وتعالى ومن تعظيم الله الاهتمام بهذه الأشياء وتعظيم هذه الأشياء التي ذكرها عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث، وفي التنزيل الكريم: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، فمن تعظيم شعائر الله تعظيم هؤلاء.
(إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم) أي: المسلم الذي شاب رأسه في الإسلام ونور الله تبارك وتعالى وجهه بالشعر الأبيض الذي يدل على أن هذا الشخص قد عبد الله عز وجل مدة طويلة في هذا العمر الذي امتد به حتى هذا الوقت.
وهذا الذي يستحي الله تبارك وتعالى أن يعذبه بعدما شاب رأسه أو شعره في الإسلام وفي طاعة الله تبارك وتعالى والصيام والصلاة وذكر الله عز وجل، فمن تعظيم الله وإكرام الله وإجلال الله أن تكرم ذا الشيبة المسلم.
(وحامل القرآن) وأيضاً من إجلال الله إكرام حامل القرآن، ولم يقيده بسن، فينبغي تعظيم حامل القرآن سواء أكان صغيراً أم كبيراً؛ لأنه في النوع الأول ذكر إكرام ذي الشيبة المسلم لأجل السن فقط، أما هنا فقال: (وحامل القرآن) دون تقييده بسن، لكن اشترط فيه شرطين: الأول: (غير الغالي فيه) وهو الذي لا يتجاوز الحد، والثاني: (ولا الجافي عنه) وهو الذي يهجره ويتركه، فاشترط في حامل القرآن كي يكون مستحقاً لهذا الإكرام وهذا الإجلال أن لا يكون غالياً في القرآن يتجاوز حدود الله فيه ولا جافياً عنه تاركاً له.
(وإكرام ذي السلطان المقسط)، وهو الخليفة أو الوزير أو الحاكم إذا كان عادلاً مقسطاً يرضي الله تبارك وتعالى ويتقي الله في رعيته.
ومما ورد كذلك في بيان فضل القرآن الكريم قوله صلى الله عليه وآله وسلم لبعض الصحابة: (أوصيك بتقوى الله تعالى؛ فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن؛ فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد ثلاث خلفات عظام سمان؟) يعني: يجد في بيته ثلاث خلفات قد رزقه الله إياها.
والخلفة: هي الحامل من النوق.
والناقة الحامل قد يكون فيها أجنة متعددة، فلذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد ثلاث خلفات عظام سمان -ثلاث نوق حوامل عظام سمان-؟ فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان) وتأمل من الذي يقول هذا ومن الذي يخبر ويبشر به! إنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فحينما يقول صلى الله عليه وسلم: إن هذا خير فإنه قطعاً يكون خيراً.
ويقول -أيضاً- عليه الصلاة والسلام: (أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين زهراوين؟) يعني بالكوماء الزهراء عالية السنام ذات البهجة عظيمة الخلقة (في عير إثم ولا قطع رحم، فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل) وجعل محل وموضع تعلم القرآن وقراءته المسجد، فالقرآن هو أفضل ذكر على الإطلاق، وهو كلام الله عز وجل، فإذا انضاف إليه شرف المكان وهو المسجد كان ذلك سبباً للحصول على ثواب أعظم وأكثر.
وفي الحقيقة هذه السنة مهملة إلى حد كبير في مساجدنا، مسألة قراءة القرآن في المساجد خصوصاً في الأوقات التي يتردد فيها المسلمون خمس مرات في اليوم، ونلاحظ أنه في بعض البلاد -كالسعودية مثلاً- عندما تدخل أي مسجد بين الأذان والإقامة تجد للقرآن دوياً كدوي النحل، فالناس يأتون إلى المسجد قبل الأذان أو عند الأذان أو بعد الأذان، وهناك تترك فترة بين الأذان والإقامة، فتجد جميع الناس -تقريباً- منشغلين بالقرآن تماماً إلا من كان يصلي.
فالإنسان لو أنه قرأ قبل كل صلاة حتى ولو صفحة واحدة من القرآن فإنه سوف يختم القرآن في مدة وجيزة كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى.
يقول عليه الصلاة والسلام: (أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين زهراوين في غير إثم ولا قطع رحم، فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (خياركم من تعلم القرآن وعلمه)، وفي رواية: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة -أي: الملائكة-، والذي يقرأه ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران).
وكثير من الناس يهجر قراءة القرآن لأنه يشق عليه قراءة الحروف ولا يتمكن من ذلك فيهجر القرآن، فالإنسان لو قرأ القرآن وهو ماهر به يقيم حدوده فهو مع السفرة الكرام البررة، أما إذا كان القرآن شاقاً عليه ويتتعتع فيه ولا يستطيع قراءته فإنه لا يتركه لكن يقرأ؛ لأن له أجرين كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف)، ومن الذي لا يحب أن يحب الله ورسوله؟! بل لاشك أن كل إنسان يريد أن ينور قلبه بمحبة الله عز وجل ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، والسبيل إلى ذلك هو أن يقرأ في المصحف، كما قال عثمان رضي الله تعالى عنه: (لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله عز وجل).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا حسد إلا في(47/4)
فضل سورتي البقرة وآل عمران
ثبت كثير من النصوص في فضائل سور أو بعض سور من القرآن الكريم، ونذكر منها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه).
وقوله: (اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران؛ فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان -سحابتان- أو كأنهما فرقان من طير صواف -أي: جماعتان من الطيور التي تصف أجنحتها عند الطيران - (يحاجان) عن أصحابهما) (يحاجان) يدافعان ويشفعان لصاحبهما.
وقوله: (اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة) يعني السحرة، فقراءة سورة البقرة تحمي من هذا الشر.
فعمم أولاً ورغبنا في قراءة القرآن عموماً، ثم خص الزهراوين البقرة وآل عمران، ثم خص البقرة آخراً.
ومن هذه الأحاديث أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (يأتي القرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمهم سورة البقرة وآل عمران يأتيان كأنهما غيايتان وبينهما شرف -يعني ضوء-، أو كأنهما غمامتان سوداوان، أو كأنهما ظلتان -أي: تشبهان السحاب- من طير طواف يجادلان عن صاحبهما).
فهذا فيما يتعلق ببعض الفضائل الثابتة في تلاوة القرآن المجيد.(47/5)
علاقة المسلم بالقرآن في شهر رمضان
لابد من أن تكون علاقتنا بالقرآن في رمضان علاقة استثنائية، ومهما كان اهتمامنا بالقرآن خلال العام كله فلابد من أن يكون هناك مزيد من الاهتمام الخاص في رمضان الذي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالقرآن، كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:1 - 5].
فالقرآن جمع له الشرف من كل الوجوه، فهو أشرف كتاب نزل على أشرف أمة بسفارة أشرف الملائكة جبريل عليه السلام، نزل على أشرف نبي وهو محمد عليه الصلاة والسلام في أشرف شهور السنة وهو رمضان في أشرف ليالي هذا الشهر الكريم وهي ليلة القدر في أشرف بقاع الأرض وهي مكة بأشرف لغة وهي اللغة العربية، فهذا القرآن الكريم قد جمع له الشرف من كل الوجوه.
فإذاً ينبغي أن تكون أيام رمضان ولياليه فرصة لعقد صلح مع القرآن، وتكون الخطة هي التهيؤ لرمضان قبل حلوله، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه في كل ليلة من رمضان ينادي مناد: (يا بغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر! أقصر).
فمن أعظم الخير الذي ينبغي أن ينتهزه الإنسان في رمضان هو تلاوة القرآن الكريم؛ لأن رمضان هو شهر القرآن، فينبغي أن يكثر العبد من تلاوته وحفظه وتدبره وعرضه على من هو أقرأ منه.
وقد كان جبريل عليه السلام يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان، وفي العام الذي توفي فيه دارسه فيه مرتين.(47/6)
حال السلف مع القرآن في رمضان
كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يختم القرآن كل يوم مرة، وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشر، فكانوا يقرءون القرآن في الصلاة وفي غيرها.
وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرأها في غير الصلاة، فهذا في الحقيقة ليس له تفسير سوى البركة العظيمة التي وضعها الله تبارك وتعالى في أعمار وأوقات هؤلاء الصالحين.
وكان الأسود يقرأ القرآن كل ليلتين في رمضان.
وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر كل ليلة.
وكان الزهري إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة المصحف.
وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك نوافل العبادات وأقبل على قراءة القرآن.
وقال الزهري: إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام فهذا شغله الشاغل، قراءة القرآن وإطعام الصائمين.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصاً الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً للزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم.
ونحن لن نقول: نختم القرآن في ثلاثة أيام أو في يومين أو في يوم أو في اليوم الواحد ختمتين.
لكن نقول: على الأقل كل مسلم يختم مرة واحدة أو مرتين أو ثلاث مرات، لكن السنة كما روي في الأحاديث: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ختم القرآن في أقل من ثلاث)؛ لأن الإنسان إذا قرأ القرآن في أقل من ثلاث فإنه يهزه هزاً، أي: لا يستطيع أن يتدبر الآيات جيداً، فحده في كل يوم أن يقرأ عشرة أجزاء، فهذا يعني أكثر ما يمكن أن يكون.
لكن الذي ثبت عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في تحزيب القرآن أنهم كانوا يختمونه في كل سبع مرة، فكانوا يختمون السور الثلاث الأولى غير الفاتحة في أول يوم، فيبدأ في اليوم الأول بثلاث سور: البقرة وآل عمران والنساء، وفي اليوم الثاني خمس سور: المائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة، واليوم الثالث سبع، واليوم الرابع تسع، واليوم الخامس إحدى عشرة، واليوم السادس ثلاث عشرة، وهذا ينتهي عند سورة الحجرات، ويبقى اليوم السابع فيبدأ بسورة (ق) -التي هي حزب المفصل- إلى الناس، هذا هو اليوم الأخير، فهذا هو تحزيب الصحابة رضي الله تعالى عنهم للقرآن الكريم.
ولا شك أن مسألة طلب العلم أو هذه الوظائف الشريفة تتفاوت حسب ظروف كل إنسان كما سنبين إن شاء الله تعالى، لكن من وجد فرصة لذلك فلا يضيعها؛ فإنك لا تدري هل يمتد بك العمر ويأتي عليك رمضان الآخر أو لا، فهذه فرصتك كي تعتق من النار، فرصتك أن تغتنم ثواب قراءة القرآن العظيم وتكون فرصة لإصلاح الحال والتوبة إلى الله تبارك وتعالى.(47/7)
فضيلة قيام شهر رمضان كله
في حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة، ثم يقول: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وجاء (من صام رمضان).
فكلما حافظت على قيام رمضان كان ثوابك أتم، فاحرص على أن لا تخلي ليلة من ليالي رمضان من قيام.
والحقيقة أن عامة الناس يفوتهم ثواب عظيم جداً، فكثير منهم يجتهد في قيام رمضان ولكن لا يلتفت إلى أن رمضان يبدأ برؤية الهلال، فالناس تعودوا أنهم يبدءون القيام في الليلة الثانية فيفوتون ليلة من رمضان، فإذا ثبت أن هذه الليلة من رمضان فلا ينبغي تفويت القيام لله في أول ليلة من رمضان، بل المفروض أن تكون الهمة أعلى درجة في أول ليلة، فنحرص عليها.
وحتى يتم للإنسان ثواب القيام عليه أن يحرص على أن لا يفارق الإمام قبل إتمام القيام؛ فإن من صلى خلف الإمام حتى يسلم وينصرف كتب له قيام الليلة كلها.
وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من قضاعة فقال: (يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وصمت الشهر وقمت رمضان وآتيت الزكاة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من مات على هذا كان من الصديقين والشهداء)، فقوله: (من مات على هذا) يعني: ثابتاً على هذا (كان من الصديقين والشهداء)، فانظر كيف جمع وقرن قيام رمضان بفرائض وأركان الإسلام، وليست العبادات الواجبة فحسب، لكنها أركان الإسلام المذكورة في هذا الحديث.
وهذا فيما يتعلق بالتنبيه على أن كل إنسان يخصص لنفسه حزباً معيناً وظيفة معينة في كل يوم بالنسبة للقرآن الكريم، لا يهجره ولا يقصر فيه في هذه الفرصة العظيمة التي يصعب تعويضها إن فاتت.(47/8)
نصائح وتوجيهات لطلبة العلم
هذا الموضوع قد كثر سؤال بعض الإخوة فيه وطلبهم أن نتكلم بالتفصيل فيما يتعلق ببعض التوجيهات في طلب العلم الشرعي، سواء أكان ببعض التنبيهات والنصائح أم كان بتحديد أفضل الكتب في شتى العلوم الشرعية.
والكلام أساساً يتوجه إلى الإخوة طلاب العلم المجدين الذين عندهم همة في طلب العلم، والراغبين في التحصيل بصورة منهجية تجمع بين المنهجية والمرحلية.
وكل طبقة حسب ظروفها واستعدادها يمكن أن يكون لديها الحد الأدنى من الأرضية التي تشكل الثقافة الإسلامية إذا جاز التعبير، والتي لا يليق أن تنقص عن هذا الحد بالنسبة لأي مسلم من العوام أو من طلبة العلم.(47/9)
أهمية تغيير الأفكار وتصحيح المفاهيم الخاطئة
نحن نتذكر دائماً قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ونقول: إن بداية التغيير هي فكرة، فلابد من أن يكون هناك تغيير في الفكر؛ لأن أي سلوك عملي سواء أكان جهاداً دعوياً أم موقفاً عملياً يتخذه الإنسان هو عبارة عن مرآة تعكس ما عنده من فكر، فكل إنسان يكون في ذهنه أو في قلبه مادة معينة يحاول أن يوظف حياته وطاقته لخدمة هذا المادة، فإذا تكلمنا على تغيير أحوال الأمة -سواء في نطاق الأفراد أو الجماعات- فالتغيير يبدأ من أنفسنا، ولا نستطيع أن نغير أنفسنا إلى ما يوافق رضا الله تبارك وتعالى حتى نستوثق أن هذا الفهم الذي سنسعى لأجل التمكين له ونشره في الناس هو موافق لما يرضي الله عز وجل.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان قد أشار إلى هذا المعنى في حديث ذكر فيه مراحل السقوط التي تمر بها الأمة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (تكون نبوتي فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها) ثم ذكر أنه بعد ذلك سيكون ملك عاض، ثم بعده سيكون ملك جبري، ثم قال في آخر هذه المراحل عليه الصلاة والسلام: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) ثم سكت صلى الله عليه وسلم، فتأمل أنه بعد مراحل الضعف أخبر عليه الصلاة والسلام أنه ستكون خلافة على منهاج النبوة.
إذاً لابد من أن نركز على منهاج النبوة، وأن نفهم هذا الحديث في ضوء هذا المعنى، فلا يمكن أن يحصل تمكين للمسلمين من جديد، ولن يعودوا إلى عزتهم إلا بمنهاج النبوة، وأي منهج يخالف منهاج النبوة فليس هو سبب التغيير، ولن يؤدي إلى هذا التمكين.
وبقاء جماعة المسلمين أمر لاشك فيه؛ إذ الجماعة لها معنيان: معنى سياسي ومعنى منهجي، فالجماعة بالمعنى السياسي: الكيان والبناء الذي يمكن أن يتخلف في بعض الأعصار والأزمان.
والشاهد لهذا في حديث حذيفة: (فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام) فإنه يدل على إمكانية أن يبقى المسلمون بدون جماعة بالمعنى السياسي، وهي جماعة الخلافة، لكن الجماعة بالمعنى المنهجي العلمي قد ضمن الله تبارك وتعالى بقاءها إلى أن يأتي أمر الله في آخر الزمان، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى بهذه الأمة أن ضمن لها بقاء هذه الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.
فإذاً موضوع الفهم الذي نسعى لأجل تحقيقه أمر مهم جداً؛ لأن كل معاني ذلك هو وسيلة، فبعض الناس يركز على قضية الجهاد، ولا شك أنه ذروة سنام الإسلام، لكن إذا تأملنا في الجهاد عرفنا أنه عبارة عن وسيلة لتمكين الدين، فالجهاد شرع من أجل إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ونشر كلمة الإسلام والدفاع عن حوزته، فإذاً الجهاد وسيلة للدعوة ووسيلة لنشر الفهم الصحيح للإسلام الذي يوافق منهاج النبوة ويوافق منهج الفرقة الناجية.
فالغاية والهدف تعبيد الناس لربهم تبارك وتعالى، أما وضع أهداف خلاف هذا الهدف فإنه في الحقيقة يترتب عليه كثير من الأضرار، فبعض الناس إما أنه يجعل الهدف هو إقامة دولة الإسلام، ولا يشترط أن تكون دولة الإسلام في زمن من الأزمان أو ظرف من الظروف هي الهدف، إنما ينبغي أن يكون الهدف هو إرضاء الله تبارك وتعالى، وإرضاء الله يكون بأن تنفذ ما يكلفك الله سبحانه وتعالى به حسب طاقتك وحسب الظروف التي تحيط بك، فإن الدعوة -بلا شك- تمر بمراحل شتى مختلفة سواء بالنسبة للزمان أو بالنسبة للمكان، فإذا جعلنا الهدف هو إقامة الدولة الإسلامية ثم لم تحقق الدولة فسيحصل نوع من الإحباط، وكأنه ليس هنالك شيء يعمل الإنسان من أجله، لكن إرضاء الله تعالى هو هدف أعم، فإرضاء الله يكون بأن تفعل ما تستطيعه، فأنت غير مطالب بالنتائج إذا ما قصرت، لكن أنت مطالب بالأخذ بالأسباب حسبما تستطيع.(47/10)
ضرورة الاجتهاد في نشر المنهج الحق
ينبغي أن نوقن أن بداية التغيير هي فكرة، وأساس التغيير يكون في الفكر وفي الفهم وفي العقيدة، وتصحيح وتغيير المفاهيم الفاسدة في عقول كثير من المسلمين فضلاً عن غير المسلمين، فهذا في الحقيقة من أعظم مقاصد هذا التغيير الذي ننشده، فلا ينبغي أن تحتقر أبداً أنك تصحح عقيدة رجل -مثلاً- يعبد القبور وينذر للموتى ويطوف بالأضرحة ويسجد لها، بأن تقنعه وتصحح عقيدته وتطهر قلبه من هذا الشرك، فهذا تغيير حقيقي، بل هو أعظم أنواع التغيير من حيث عمق الأثر والفائدة التي تترتب عليه.
وفي الحقيقة نحتاج إلى مقدمة بين يدي الكلام في هذا الموضوع، ونحن نريد أن نتعلم كي نفهم الإسلام فهماً صحيحاً، هذا الفهم الصحيح سينعكس في سلوكنا وفي عملنا، ثم ينعكس أيضاً في دعوتنا للآخرين كي ندعوهم إلى فهم صحيح للإسلام، وكثير من الجماعات يجتهدون اجتهاداً عظيماً في الدعوة، فالشيعة -مثلاً- إذا اطلعت على جهادهم في سبيل دعوتهم واستماتتهم في سبيل التبشير بهذه الدعوة الخبيثة رأيت ما يستحي أهل الحق من ربهم تبارك وتعالى أنهم لا يفعلون عشر معشار.
وكذلك الصوفية فإنهم مبتدعون وضالون، وتجدهم ينفقون أموالهم وأوقاتهم في سبيل نشر أفكارهم الخبيثة، وهكذا، فتجد أن كثيراً من الذين في فكرهم الانحراف والضلال من حيث العمل والحركة عندهم حركة كثيرة، لكن نشكوا إلى الله عز وجل -كما يقول عمر رضي الله عنه- جلد الفاجر وعجز الثقة، ونجد أن كثيراً من أهل الحق يتقاعسون عن نشر دعوتهم وتصحيح المفاهيم وإحداث هذا التغيير العميق والخطير، فالتغيير ينبغي أن ينصب في إحداث تغيير في الفكر وتصحيح في العقيدة وفي المفاهيم حتى ينعكس على السلوك، وهذا هو الأسلوب الذي يبني، أما مجرد التربية الجماهيرية للناس بكثرة العدد فإنها أشبه ما تكون بمجموعة من الأثاث غير المنظم، والمتراكم بعضها على بعض، لكن إذا هذبت وصقلت فهذه هي التي تصلح أن توضع لبنة في بنيان، فتكون الجماعة كالبنيان المرصوص الذي امتدح الله عز وجل أهله، فإذاً لا بد من التعامل مع الناس بهذا الطريق طريق التصحيح الفردي والاقتراب من كل شخص لتصفية عقيدته وتصفية مفاهيمه ومراقبة سلوكه والتدرج معه حتى يكون هناك إنجاز بعد وقت، أما التربية العامة فإنها في الغالب بعد وقت لا تنجز شيئاً إلا أن يشاء الله تبارك وتعالى، فهذا هو الهدف.
لذلك فالعلم هو السبيل الذي يعطينا هذه البصيرة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، إذاً لا بد من أن تكون الدعوة على بصيرة، وإنما نحصل على البصيرة من العلم، فالعلم هو الشيء الوحيد الذي كلف الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يطلب منه المزيد، فما أمر الله نبيه أن يستزيده من شيء إلا من العلم، فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].
فهذا ما نريد أن نمهد له في هذا الكلام، أن التغيير لابد من أن يكون تغيير فكر وتغييراً في المفاهيم؛ لأن كل ما عدا ذلك فهو وسيلة للتمكين لهذا المفهوم، فإذا اجتمعت كل الاتجاهات -مثلاً- أو كل الجماعات أو كل هذه الألوان وتوحدت على الدعوة وعلى الجهاد، وبقي فيما بينهم اختلاف في الفهم فإنها ستعود الفرق من جديد، حتى إذا حصل تمكين سيحصل ما رأينا له صورة مصغرة في أفغانستان من التناحر الفكري والقبلي، وهذه الأشياء نتيجة عدم توحد المفهوم أو عدم وجود المفهوم الصحيح الكامل للإسلام في هذه الأشياء.(47/11)
آداب طلب العلم
هناك بعض النصائح التي نحتاج -أيضاً- للكلام فيها بين يدي الكلام في موضوع طلب العلم.(47/12)
تصحيح النية
أول هذه النصائح هو تصحيح النية، فالذي لا يصحح نيته يتعب نفسه، ويكون تعبه هباء منثوراً، فلا بد أولاً من تصحيح النية، بأن يريد بالعلم وجه الله عز وجل ونيل فضائله.(47/13)
مراعاة فقه الأولويات
وأمر مهم آخر فيما يتعلق بموضوع طلب العلم، وهو مراعاة الأولويات في المقاصد التي يطلبها الإنسان في العلم، وفقه الأولويات معناه أن هناك من العلوم ما هو علوم خادمة وهي علوم الوسائل، وعلوم مخدومة وهي علوم المقاصد، فلابد للإنسان من أن يبتدئ أولاً بالانشغال بهذه العلوم المخدومة، فيعطي أولوية لنوعين من العلوم، وهي فقه الإيمان وفقه الأحكام، أو بعبارة أخرى: الفقه والتوحيد.
وفقه الإيمان يعني أمور العقيدة ومسائل التوحيد والإيمان، أن يفقهها ويتعلمها على مذهب السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فالأولوية المطلقة هي للتوحيد الذي هو فقه الإيمان والعقيدة.
ثانياً: فقه الأحكام، وهو فقه العبادات الذي به يصحح الإنسان عبادته ويعبد ربه تبارك وتعالى، فالعلوم إذاً علوم غاية وعلوم وسيلة.
فعلوم الغاية هي التوحيد والفقه.
وعلوم الوسيلة هي العلوم الخادمة، كاللغة والنحو والصرف، وغير ذلك من العلوم التي تكون خادمة ووسيلة لخدمة ما عداها من العلوم.
والنجاة في فقه الإيمان أن يكون على مذهب السلف، والنجاة في فقه الأحكام أن لا يتعصب الإنسان لآراء الرجال ويخالف الدليل إذا ثبت لديه، حتى ولو تمذهب لا يكون متعصباً، فلا يقدم آراء الرجال على حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(47/14)
الشمولية والتوازن
ومن النصائح المهمة في هذا الباب الشمولية والتوازن.
والتوازن معناه أن الإنسان يأخذ من العلم حسب وظائفه؛ لأن الناس تتفاوت أشغالهم، فمنهم التاجر، ومنهم طالب العلم، ومنهم طالب في الكلية، وهكذا تتفاوت الظروف، وبالتالي يتفاوت حظ الإنسان من هذه العلوم بقدر تفاوت وظائفه الأخرى، فالمطلوب أن يكون عند الإنسان نوع من التوازن بين هذه الواجبات، حتى لا يضيع حق أي طلب، وفي الحديث: (إن لجسدك عليك حقا، وإن لعينيك عليك حقا، وإن لربك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا وإن لأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه)، فحتى لا ينقطع الإنسان ينبغي أن يوجد من البداية نوع من التبادل بين وظائفه، ويختار الدرجة من العلم التي تناسب ظروفه حتى لا يحدث اضطراب يؤثر على سيره في طلب العلم.(47/15)
التدرج في طلب العلم
ولابد من التدرج في سلم التعلم، فيتلقى المبادئ الأولية من كل علم، خاصة علمي التوحيد والفقه، فلابد من المبادئ الأولية أولاً، ولا يقفز مباشرة إلى المراجع الكبيرة أو إلى العلوم التي يمكن تأجيلها، فلا ينشغل بشيء أهم عما هو أهم منه.(47/16)
تلقي العلم عن الشيوخ
الأصل في العلم أن يتلقاه الإنسان عن الشيوخ مشافهة، فهذه هي الطريقة الصحيحة مطلقاً لطلب العلم.
أما عند العجز عن ذلك فنضطر في مثل هذا الزمان إلى البدائل، فالإنسان يطلب العلم عن الشيوخ، فإذا لم يجد شيوخاً يرحل إلى أقرب بلد فيها شيوخ ويطلب العلم على أيديهم ويلازمهم ويكثر الجلوس إليهم، فإن لم يجد فالبديل أن يترقب الأمثل فالأمثل، وهو الأقرب نسبياً للشخص الذي يمكن أن يكون أعلم منه ويفيده في توجيهه في طلب العلم، فإن لم يجد فالبديل هو التلقي عن طريق الكتب، لكن لابد من الأخذ عن شيخ يعلمه مبادئ العلوم الخادمة كعلوم اللغة العربية ومنها علم النحو، وأغلب من يصل اليوم إلى مرحلة الثانوية العامة في الغالب له شيخ -بل شيوخ- في اللغة العربية؛ لأنه يدرسها في المدرسة بصورة تؤهله لأن يستفيد من هذه الدراسة في العلوم الشرعية.
فالأصل هو تلقي العلم عن الشيوخ، إلا إذا تعذر أو تعثر ذلك فيبحث عن بديل، والبدائل -كما ذكرنا- طالب علم أقوى منه أو أسبق تجربة فيفيده، أو أشرطة الشيوخ، وهناك بعض المتون والكتب قد شرحها كثير من الشيوخ الأفاضل فينبغي الرجوع إليها للإستفادة منها والاقتباس من نورهم، أو قراءة الكتب.(47/17)
احترام العلماء
حتى لا يحرم الإنسان من بركة العلم فإنه محتاج لبعض التوجيهات، وأهمها احترام العلماء، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30].
ويقول تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] فهذه علامة التقوى في القلب، تعظيم شعائر الله، والشعيرة: هي كل ما أذن الله به وأشعر بفضله وتعظيمه.
كل شيء أذن الله به وأشعرنا بفضله وتعظيمه فهذا هو الشعيرة، وتعظيم أهل العلم وأهل الخير من شعائر الإسلام، فإهانتهم إهانة للإسلام، وفي الحديث السالف الذكر: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط).
ويقول الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى: (اعلم -يا أخي، وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته- أن لحوم العلماء مسمومة).
يعني أن لحوم العلماء من أكلها بالغيبة سم ومات وهلك، قال: (أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك ستر منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت في القلب).
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه! لا تغتابوا المسلمين ولا تستبيحوا عوراتهم؛ فإن من يتتبع عورة أخيه يتتبع الله عورته، ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو في عقر داره) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويعرف لعالمنا حقه) (ليس منا) هذا تبرؤ من النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: ليس على طريقنا ولا من أهل هدينا.
وكان السلف يقولون: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار.
وقال بعضهم: أعراض العلماء حفرة من حفر جهنم.
وقال الله عز وجل في الحديث المعروف: (من عادى لي ولياً فقد بارزته بالحرب)، ولذلك جاء عن الأئمة أبي حنيفة والشافعي: (إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي).
إن لم يكن أهل العلم أولى الناس بالله وبنصرة الله ومحبته فلم يبق في هذه الأرض أولياء، فالأولياء ليسوا مجانين وليسوا أطفالاً يسيل لعابهم من أفواههم كما يقول بعض المعتوهين من أمثالهم: هذا ولي.
ويبنون عليهم الأضرحة بعد أن يموتوا، والواحد منهم يكون معتوهاً -أي: يكون مريضاً بالعته ونقص العقل- يمشي متجرداً من ثيابه، أو يسيل لعابه في الطرقات، أو يفعل هذه الأشياء وهو في الحقيقة معذور؛ لأنه ليس عنده عقل، وهو غير مكلف، ثم يقولون: هذا ولي من أولياء الله، ويبالغون في ذلك، خاصة في الأرياف فإنه معروف وكثير، فهذا لا يمكن أبداً أن يصدق، بل أولياء الله ليس فيهم مجنون، ولابد من أن يكون أولياء الله عقلاء، بل هم أعقل الناس على الإطلاق.
فهذا الأمر من ضمانات الفلاح في طلب العلم، أن يراعي الإنسان حرمة أهل العلم ولا يطعن فيهم ولا يتطاول عليهم، وإلا نزعت منه بركة هذا العلم.(47/18)
الحذر من الاشتغال باختلافات العلماء
أيضاً من النصائح التي أهداها العلماء في مثل هذا الموضوع ما قال بعضهم: على طالب العلم أن يحذر في ابتداء أمره الاشتغال بالاختلاف بين العلماء أو بين الناس مطلقاً.
فينبغي لطالب العلم إذا حدد لنفسه هذا الهدف أن يبني على هذا الهدف ويبعد نفسه تماماً عن الاختلافات والصراعات، ومن ذلك الاختلافات في الأمور الفقهية والأمور العلمية، لا يفتح عينه أول ما يفتحها على أمور تتناطح فيها الجبال ويقوم فيها العمالقة من العلماء والمجتهدين، فعليه أن يحذر في ابتداء أمره الاشتغال في الاختلاف بين العلماء أو بين الناس مطلقاً، سواء في العقليات أو السمعيات، فإنه يحير الذهن ويدهش العقل، بل عليه أن يتقن أولاً كتاباً واحداً في فن واحد -أو كتباً في فنون إن كان ذلك أحسن له- على طريقة واحدة يرتضيها له شيخه، فإما أن يبقى على كتاب واحد ويتقنه تماماً حتى يحفظه ويترك الشيخ يمتحنه فيه مثلاً، وإما أن يشتغل بأكثر من فن إذا كان الشيخ يرجح له أنه يناسبه أن يشتغل بأكثر من فن في وقت واحد حسب الأمثل له، فالمهم أن يبقى على شيء ولا يشتت نفسه.(47/19)
الحذر من القراءة العشوائية
ينبغي أن يحذر الإنسان من القراءة العشوائية، وهذه آفة الآفات، فالموضوع عند بعضهم تسلية، فلا يؤديه بصورة مسئولية أو عبادة عظيمة أو فرض كفاية، لكن المسألة عنده عبارة عن قراءة عشوائية يجمع الكتب ويحسنها ثم لا يقرأ من هذه الكتب شيئاً إلا أنه يأخذ ما يروق لمزاجه، فالشيء الذي يأتي على هواه يقرأ فيه، أما الشيء الصعب عليه فلا يصبر عليه، فهو يتبع ما يوافق هواه فقط وما يحبه من العلوم، أما العلوم الصعبة فإنه يذاكرها إن كان في الجامعة فقط، فإذا كان هناك في الجامعة مادة صعبة فإنه يسهر الليالي ويبتدع كل وسيلة ممكنة كي يفهم هذه المسألة، يذهب إلى المدرس، ويذهب إلى زميله يأتي بالكتب والمراجع، ويكد الليل والنهار في سبيل أن يفهم ما صعب عليه فهمه.
أما العلوم الشرعية فهو إما أن يقرأها على السرير إلى أن ينام، أو يقرأ الشيء الذي يروق له ويبتعد تماماً عن الشيء الذي يجده صعباً، فمثل هذا لا يأتي بنتيجة، هذه قراءة جرائد ليست قراءة طالب العلم.
فليحذر -كما قال العلماء- في ابتداء طلبه من المطالعات في تفاريق المصنفات، فإنه يضيع زمانه ويفرق ذهنه، تمر سنوات وسنوات وفي النهاية يجد نفسه ما حصل شيئاً؛ لأنه لم يحقق بل شتت نفسه.
فعليه أن يعطي الكتاب الذي يقرؤه أو الفن الذي يدرسه كُلِّيته حتى يتقنه، فيهتم به ولا يشتت نفسه في قراءة المجلدات وفي قراءة الكتب في العلوم الأخرى.
وطالب العلم ينبغي أن يكون في سلوكه وفي منهجه مختلفاً تماماً عمن عداه، ولماذا نعذر الطالب الذي يكون في كلية أو في معهد أو مدرسة ونقول: لا أحد يزوره؛ فعنده امتحانات ويكون في حالة طوارئ لا أحد يقترب من البيت ولا يزوره؟ وهو عذر كل الناس تقبله، فلماذا طلب العلم الشرعي لا يكون فيه هذا التعظيم؟ وهو أولى بالتعظيم والتركيز وقطع العلائق في سبيل تحصيل هذا الهدف ولو إلى حين.
كذلك يحذر من التنقل من كتاب إلى كتاب من غير موجب، فإنه علامة الضجر وعدم الإفلاح، فالانتقال من كتاب لكتاب من غير ما يوجب ذلك هو علامة الضجر، ومثل هذا لا يفلح ولا يأتي منه خير، هذا إذا كان مبتدئاً، أما إذا تحققت أهليته وتأكدت معرفته فالأولى أن لا يدع فناً من الفنون من العلوم الشرعية إلا نظر فيه، فإن ساعده القدر وطول العمر على التعمق فيه فذاك، وإلا فقد استفاد منه ما يزيل به عداوة الجهل بذلك العلم، ويعتني من كل علم بالأهم فالأهم، ولا يغفلن عن العمل الذي هو المقصود بالعلم.(47/20)
طلب العلم درجات ورتب لا ينبغي تعديها
فطلب العلم درجات ورتب لا ينبغي تعديها، فالإنسان لا يقفز على السلم، فلا ينبغي تعديتها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف، ومن تعدى سبيلهم عامداً ضل، ومن تعداه مجتهداً ذل.
فأول ما ينبغي الاشتغال به في العلم حفظ كتاب الله تبارك وتعالى وتفهمه وكل ما يعين على فهمه، وهذا ما سنفصله إن شاء الله تعالى، لكن قبل ذلك أيضاً نشير إلى أمر مهم جداً بالنسبة لطالب العلم، وقد أشرنا إليه من قبل، وهو أنه لابد من أمرين: لابد من المنهجية ولابد من المرحلية، لابد من أن يتوافق الأمران منهجياً، لابد من أن يكون هناك منهج محدد في كل علم من العلوم تدرسه، وحبذا لو تقرأه على شيخ، فلابد من المنهجية، لابد من منهج يحصر في كتب محددة يتم انتقاؤها بعناية، ولا تتجاوزها ولا تقرأ في غيرها، وتسهر فيها الليل والنهار تلخص وتحفظ وتذاكر وتسمع وتتعاون مع إخوانك في حفظها ومذاكرتها، فلابد أولاً من المنهجية، ثم لابد من المرحلية الزمنية، بأن يكون هناك جدول زمني للقراءة في مادة معينة أو في فن معين أو في كتاب معين، فقد تمر الأيام الطويلة ولا تحاسب نفسك ولا تشعر بأن مراحل العمر تطوى وأنت لا تشعر ولم تحصل بعد شيئاً، فلابد من الأمرين: منهجية ومرحلية زمنية.
وأهمية هذا الموضوع الذي نتكلم فيه تنشأ وتتسرب إلى الذهن بمجرد أن الإنسان يزور معرضاً من معارض الكتب، فنحن عندنا الآن في هذا الزمان ما يصح أن نطلق عليه -إذا لم يكن في العلوم الشرعية- أنه نوع من إسهال تأليفي كما يقول بعضهم، فقد كثرت الكتب كثرة غير عادية، حتى وصل بعض الخبثاء والشياطين في هذه الأيام إلى أن أعادوا طباعة كتب السحر، وتجد جناحاً مستقلاً في كثير من معارض الكتب لكتب تعليم السحر، والعياذ بالله تبارك وتعالى، وهذا -بلا شك- كفر، ويجب على كل مسلم في معرض من هذه المعارض أن يكلم صاحب تلك الكتب، فعلى الأقل إن لم يكن يخاف من الله ويستحيي يخاف على تجارته أن تبور، فقل له: هذا حرام وهذا كفر.
ولو أن كل أخ دخل وأنكر عليه فإنه سيتشكك في مسلكه، وعلى الأقل يبعد هذه الكتب التي يمكن أن تفتن الناس وتعصف بإيمانهم عصفاً وتقتلعه من جذوره.
فينبغي على أي أخ مسلم يوجد في مثل هذه المعارض أن يتوجه إلى من يبيع تلك الكتب وينصحه في الله ويتلو عليه الآيات في سليمان عليه السلام ويقول له: قال تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] وأنت بهذا تساعد على تعليم الناس السحر، والمال الذي تأخذه من هذا حرام، وهذا السحر كفر.
ونحو هذا.(47/21)
طالب العلم وموقفه من العلوم ومعارض الكتب
فمعارض الكتب لو أن إنساناً صاحب اتجاه علمي أو فكري محدد دخل معارض الكتب في هذا الزمان تصيبه حيرة وملالة الله بها عليم، فكيف يكون الشاب الذي ليست عنده خلفية أصلاً؟ أو طالب العلم الذي ليس عنده خلفية؟ أو أي أحد يرغب في طلب العلم ولا يعرف أي اتجاه يسلك، أيسلك اتجاهاً سلفياً أو اتجاهاً خلفياً صوفياً أو أشعرياً أو سنيّاً أو بدعياً؟ وهل يقرأ في كتب الفكر أو الفقه، لا يعرف شيئاً وما عنده خبرة، لاشك أن هذا يكون أشد ملالة وأشد تشتيتاً إذا دخل معارض الكتب، فهذا يعكس تأكيد النصيحة فيما يتعلق بالاهتمام بمنهج محدد في طلب العلم.
وأيضاً يحذر الإنسان -كما أشرنا ضمناً- أن يميل فيقرأ العلوم التي يميل إليها فقط، بل على طالب العلم أن لا يقتصر على العلوم التي يميل إليها، فهذه العلوم التي يميل إليها يمكن أن يكون لها وقت آخر إذا أصابه ضجر أو ملالة، لكن لابد من أن يدرس العلم بصورة منهجية، حتى وإن كانت هناك بعض العلوم التي لا يميل إليها، أو يجد فيها صعوبة كأصول الفقه مثلاً أو غيره من العلوم التي يكون فيها شيء من الجفاف أو الصعوبة، فعليه أن يصبر ويحتال حتى يعرف طريقة حلَّ رموزها أو الاستعانة بمن هو أخبر منه في طلب العلم حتى يفرغ منه مع مرور الوقت ومرور الزمن.(47/22)
قضيتان حول كتب العلم
إن الكتب المؤلفة ليست كتباً معصومة، فنضطر أحياناً في بعض الفروع أو بعض العلوم أن نختار المتيسر من الكتب ونحاول علاجه ونحن ندرسه، فننبه إلى الأخطاء الموجودة في كل كتاب حتى يكون الإنسان منها على بينة، لأنه لا يوجد كتاب معصوم بعد كلام الله عز وجل وبعد القرآن الكريم، بل أحياناً يضطر الإنسان للقراءة في كتب بعض المبتدعة ممن يكون قد فتح عليه في هذا الباب، فنستفيد منه ونحذر من ضلاله أو بدعته التي ابتدعها أو التقصير الذي وجد في كتابه؛ لأنه لم يوجد بديل نقي خالص نعتمد عليه.
وليس بشرط أن يكون الكتاب الذي تأخذه كتاباً معيناً، بل يمكن أن أي كتاب يصلح أن يكون بديلاً مع خلاف في المبدأ، فلا تتكلف شراء كتاب جديد وعندك نفس الكتاب مع خلاف في المبدأ، وإن اختلف معه في الأسلوب، فننبه إلى أنه قد توجد مآخذ في بعض هذه الكتب نحاول التنبيه عليها ما استطعنا، وإن لم ننبه فينبغي أن ينتبه الإنسان إلى أن هذه الكتب ليست معصومة وليست معتمدة كلها، بل لا يكاد يخلو كتاب من مؤاخذة.
وكذلك حينما نجيب على
السؤال
لمن تقرأ؟ فإننا إذا استقصينا كل أنواع أو أسماء المؤلفين والعلماء في القديم وفي الحاضر فهم آلاف وآلاف من العلماء جزاهم الله خيراً، وحينها سنضطر إلى الاقتصار على أسماء بعض المؤلفين وليس كلهم، فلا يعتبر أحد أن عدم ذكر أسماء بعض المؤلفين يتعمد لسبب الأخذ، وإنما المسألة أننا لابد من أن نقتصر على بعض منهم دون بعضهم الآخر؛ لأنهم لا يحصون كثرة.(47/23)
طالب العلم والقرآن الكريم
العلم الأول الذي سنتكلم فيه والذي ذكره العلماء أنه أول العلم هو حفظ كتاب الله عز وجل وفهمه وفهم كل ما يعين على فهمه، وأهم ذلك على الإطلاق بالنسبة لعلوم القرآن الأمور الآتية: أولاً: الحفظ.
ثانياً: ما يعين على فهم القرآن من لسان العرب.
ثالثاً: الأحاديث الواردة في التفسير.
رابعاً: معرفة الناسخ والمنسوخ في القرآن.
خامساً: دراسة آيات الأحكام واختلاف العلماء في ذلك.(47/24)
وظائف طالب العلم مع القرآن الكريم
لابد لكل طالب علم من ثلاث وظائف مع القرآن الكريم، والمفروض أنها لكل مسلم وليست فقط لطالب العلم.
فلابد أولاً من ختم القرآن الكريم، أن تكون له دورة مستمرة يختم فيها القرآن باستمرار لا تنقطع، وهي التي تسمى الأوراد أو الأحزاب، وهذه ليست تسمية صوفية، فكلمة (الورد) وكلمة (الحزب) كلمة شرعية خالصة، فالرسول عليه السلام حينما تأخر عن بعض الناس الذين كانوا يطلبونه خرج إليهم وهو يقول: (إنه قد حضر حزبي من القرآن فكرهت أن آتيكم حتى أقضيه -أو حتى أتمه-) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وفي الأثر: (كان الصحابة يحزبون القرآن على كذا وكذا).
وفي الحديث أيضاً: (من فاته ورده من الليل فليقرأه من النهار) إلخ الحديث المعروف.
وكلمة (الورد) أو (الحزب) في الأصل هي النوبة في ورود الماء، فالعرب كانوا يأتون بالجمال -مثلاً- فيردون بها الآبار يستقون الماء، لكن كل واحد يأخذ نوبة، أي: يأخذ دوراً.
فهذا هو الورد، فالورد: أن يأتي عند البئر ويأخذ دوره ويأخذ الحزب والنوبة من الماء.
فلابد من أن يكون هناك حد لارتباطه بالقرآن، حتى لو قرأ عشر آيات في اليوم، أو ربع حزب في اليوم، لكن لا يترك أبداً يوماً وليلة من قراءة كتاب وكلام الله عز وجل.
إذاً هناك ثلاث وظائف: ختم القرآن، ومراجعة المحفوظ، وحفظ غير المحفوظ.
فالبنسبة لختم القرآن الكريم -كما أشرنا- لابد من أن يعين لنفسه حزباً يومياً من القرآن العظيم طبقاً لظروفه، ويفضل أن أي مسلم لا يمر عليه شهر إلا وقد ختم القرآن، وفي الحقيقة ختم القرآن باستمرار أعظم وسيلة تسهل الحفظ، وتعينك على تسهيل الفهم فيما بعد.
وذكرنا من قبل تحزيب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كانوا يقرءون ثلاثاً فخمساً فسبعاً فتسعاً فإحدى عشرة فثلاث عشرة سورة، ثم الحزب المفصل وحده.
وأيضاً -كما ذكرنا- لا يختم في أقل من ثلاث، للنهي عن ذلك، وللأسف الشديد نحن في هذا الزمان لا نحتاج للتكلم في هذه النقطة كثيراً؛ لأنه يندر من يختمه حتى في ثلاثين! ولا يزيد عن شهر بقدر المستطاع، وهذا ليس أمراً واجباً متحتماً، لكن حسب الظروف؛ لأن لبعض الناس أحياناً ظروف الكسب والعمل قد لا تعينهم على ذلك، لكن على الأقل لا يزيد عن شهر بقدر المستطاع.
أما الكتاب المتعلق بهذا الموضع فإن أول كتاب نرشحه -ولابد لطالب العلم من أن ينشئ علاقة متميزة مع القرآن- فهو الكتاب المبارك لذلك الإمام المبارك الإمام النووي رحمه الله كتاب (التبيان في آداب حملة القرآن) وهو كتاب معروف ومبارك من كتب الإمام النووي رحمه الله العظيمة النفع والبركة.
ثانياً: المراجعة، وهناك أحاديث كثيرة جداً تأمر المسلم بتعاهد القرآن؛ لأنه يمحى من ذاكرة الإنسان إذا لم يتعاهده باستمرار، خاصة الآيات المتشابهة في الألفاظ، فلابد من أن يكون له ورد في المراجعة، وينبغي أن يكون أكثر من ورد الحفظ، ويقدم المراجعة على الاشتغال بحفظ ما لم يحفظه.
أما فيما يتعلق بالحفظ -وهي الوظيفة الذهبية فيما يتعلق بالقرآن فنقول باختصار: يدرس كتيباً مباركاً لفضيلة الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق حفظه الله، وهذا الكتاب المبارك اسمه (القواعد الذهبية لحفظ القرآن الكريم)، وهنا نذكر هذه القواعد على شكل عناوين فقط إذ قد شرحها بالتفصيل: أولاً: الإخلاص.
ثانياً: تصحيح النطق والقراءة.
ثالثاً: تحديد نسبة الحفظ كل يوم وترديده مع التغني.
رابعاً: لا تجاوز مقررك اليومي حتى تجيد حفظه تماماً.
خامساً: حافظ على رسم واحد لمصحف حفظك؛ لأن الحفظ يكون بالبصر والسمع، فحافظ على نسخة معينة من القرآن وواظب عليها، كطبعة الملك فهد مثلاً، حافظ على طبعة واحدة تحفظ فيها، وقد يختلف الحجم، لكن لابد من أن تكون نفس الطبعة؛ لأن الإنسان يحفظ بعينه وبسمعه.
سادساً: الفهم طريق الحفظ ومعرفة وجه ارتباط الآيات ببعض، فهناك ارتباط بين الآيات في المعاني يساعد على الحفظ، ولذلك تجد الإنسان يحفظ الآيات التي فيها قصة بأسرع من غيرها، لأن فيها ارتباطاً في المعاني وتسلسلاً.
سابعاً: لا تجاوز سورة حتى تربط أولها بآخرها.
ثامناً: التسميع الدائم والعرض على حافظ آخر أو متابع في المصحف.
تاسعاً: المتابعة الدائمة حتى لا يتفلت.
فلابد من متابعة دائمة للمراجعة عن طريق الورد اليومي كما ذكرنا، والحد الأدنى يكون جزءاً، والحد الأقصى عشرة أجزاء في اليوم.
عاشراً: العناية بالمتشابهات، والمقصود بهذا التشابه هو التشابه في الألفاظ في الآيات التي يكون فيها تشابه في خواتمها أو في ألفاظها، فإن ثلث آيات القرآن فيها تشابه.
الحادي عشر: اغتنم سني الحفظ الذهبية التي هي من خمس سنوات إلى ثلاث وعشرين سنة، فلا تفتك هذه السنوات الذهبية، وكلما كان الأمر مبكراً جداً كلما كانت درجة الحفظ قوية جداً، خاصة عند الأطفال، وهذا من آيات الله سبحانه وتعالى، أن يطيق قلب الطفل الصغير الذي لم يتعلم شيئاً أن يحمل كلام الله سبحانه وتعالى بين أضلعه وبين جوانحه تصديقاً لقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] فهل هناك تيسير أكثر من هذا؟ كلام الله عز وجل يطيق حمله الصبي الصغير الذي لم يتجاوز سبع سنوات أحياناً أو أقل.(47/25)
معرفة طالب العلم شرف حفظ القرآن الكريم
فالمسألة في الحقيقة تحتاج إلى همة عظيمة جداً، فالإنسان لابد من أن يضع هذا في مقدمة مشاغله، أن يتم حفظ القرآن، وهذا شرف ليس بعده شرف، إذا شرفك الله تبارك وتعالى بأن جعل صدرك مستودعاً لكلامه فهذا أعظم من مليون شهادة دكتوراه، ومن أن تكون ملك ملوك الدنيا وإمبراطور الإمبراطورات وأغنى الأغنياء، فإن هذا هو الغنى الحقيقي، ففي الحديث: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا) وأحد وجوه تفسير أن كلمة (يتغن) تعني: يستغني به عما عداه.
فأعظم شرف هو لحامل القرآن والشريعة، لذلك وضعت أحكام خاصة بحامل القرآن وبيان عظمته، كما نعرف من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يؤمر أميراً على مجموعة من الناس، فاستعرض ما معهم من القرآن فاختار واحداً معه سورة البقرة وأمره عليهم، فقال: (أنت أميرهم)؛ لأنها أفضل سورة في القرآن، كذلك الأحكام تفاوتت بموضوع الحفظ، فالذي يلي الإمام من اليمين أولوا الأحلام والنهى، فيلي الإمام أكثر الناس حفظاً للقرآن، كذلك عند الدفن يقدم أكثرهم قرآناً، إذاً هذا هو الشرف الذي يرفع الله عز وجل به أقواماً ويضع بالإعراض عنه آخرين كما بينا من قبل.
فالنصيحة هي لأبناء المسلمين لاغتنام سني الحفظ الذهبية من سن خمس سنوات، وربما بعض الأطفال يظهر فيهم النبوغ مبكراً قبل حد خمس سنوات، فمتى ما تفتق ذهن الصبي وعرفت منه أنه يطيق الحفظ فأعطه ما استطعت وقربه لذلك، واجتهد في أن تشغله بالقرآن لا بالأناشيد ولا بالإعلانات وبالأغاني والكتب الفارغة، بل اجتهد في أن تحفظه كلام الله تبارك وتعالى.
هذه خلاصة القواعد الذهبية لحفظ كتاب الله تبارك وتعالى.(47/26)
أهمية جعل جدول زمني لحفظ القرآن الكريم
فيما يتعلق بجدول زمني لحفظ القرآن الكريم هناك كتاب وضعه أخ فاضل من اليمن يدعى مزاحم طالب العاني، كتاب اسمه (دليل الحيران لحفظ القرآن)، وهو تجربة لا بأس بها لعلها تفيد كثيراً جداً، حيث إنه وضع جدولاً زمنياً لحفظ القرآن ومراجعته، بحيث يتم في أربع سنوات تقريباً إذا كان لا يحفظ شيئاً على الإطلاق، فيحفظ شيئاً قليلاً جداً من الآيات لكن مع الوقت يكمل حفظه، كما قال عليه السلام: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قَّل)، فإذا داومت والتزمت بهذا الجدول فهو موجود ومطبوع اسمه (دليل الحيران لحفظ القرآن) لـ مزاحم طالب العاني.(47/27)
أهمية أخذ القرآن عن طريق المشافهة عن الشيوخ
ننبه تنبيهاً مهماً جداً، وهو أن المشافهة هي الأصل في تعلم القرآن؛ لأن معنى القرآن القراءة، ولا يسمى قارئاً إلا بالمشافهة، فلابد حتماً من أن تتعلم القرآن على يد شيخ، حتى الأشرطة لا تفيد إذا كنت تريد طلب العلم بدقة، فموضوع الأشرطة أو الكتب كل هذا ليس مما يصح مع القرآن، وقد يصلح مع غيره من العلوم، لكن في القرآن لابد من المشافهة، لابد من أن تتأكد أن كل حرف قد ضبطته وقرأته قراءة صحيحة وأخرجته من مخرجه مع شيخ يعلمك ويشرف على تعليمك هذا الأمر.
وهناك بديل لكن لا يكفي، وهو سماع الأشرطة، لكن إلى حد كبير يصيب في تصحيح السماع وتصحيح النطق بالآيات، خاصة المصحف المعلم للشيخ الحصري رحمه الله تعالى أو غيره من المشايخ، فيمكن الاستفادة من سماع الأشرطة كبديل مؤقت، أو يكون بجانب التعلم من الشيوخ.(47/28)
أهمية معرفة الآيات المتشابهة في القرآن الكريم
بالنسبة لمعرفة الآيات المتشابهة في الحفظ العلماء خصوها ببعض الكتب، فالإمام السنحاوي رحمه الله تعالى له منظومة في الآيات المتشابهة في القرآن من حيث الألفاظ، وعليها شرح يسمى (التوضيحات الجلية شرح المنظومة السنحاوية في متشابهات الألفاظ القرآنية)، وهناك كتاب صغير جداً، وطباعته جميلة جداً ومفيدة؛ لأن الحروف المتشابهة في الكلمة تتميز باللون الأحمر بحيث تتميز تماماً عما يشبهها، وهو يسمى (تنبيه الحفاظ للآيات المتشابهة في الألفاظ) للشيخ محمد بن عبد العزيز المسلم.(47/29)
الكتب والعلوم المتعلقة بالقرآن الكريم
العلم الأول الذي سنتكلم فيه والذي ذكره العلماء أنه أول العلم هو حفظ كتاب الله عز وجل وفهمه وفهم كل ما يعين على فهمه، وأهم ذلك على الإطلاق بالنسبة لعلوم القرآن الأمور الآتية: أولاً: الحفظ.
ثانياً: ما يعين على فهم القرآن من لسان العرب.
ثالثاً: الأحاديث الواردة في التفسير.
رابعاً: معرفة الناسخ والمنسوخ في القرآن.
خامساً: دراسة آيات الأحكام واختلاف العلماء في ذلك.(47/30)
كتب تجويد القرآن الكريم
وفيما يتعلق بالتجويد لابد -كما ذكرنا- من المشافهة والقراءة على الشيخ، لابد في التجويد من أن تتعلمه على شيخ، وننصح بمحاولة الالتصاق بالشيوخ الأزهريين في هذا الفن؛ لأن الأزهريين يتقنون هذا الفن اتقاناً شديداً، ويمكن أن يتفق الإنسان مع شيخ ممن تعلم في الأزهر أو شيخ في المعهد الديني أو مجموعات من الإخوة يتفق معهم ويعلمهم التجويد ويشرف على هذا الأمر، وهذا الأمر حتمي ليس فيه خيار.
وأما مؤلفات التجويد فيحفظ (متن تحفة الأطفال)، وله شروح وأبسط هذه الشروح ولعله أفضلها مع صغر حجمه (بغية الكمال شرح تحفة الأطفال) للشيخ أسامة عبد الوهاب، وتحفة الأطفال ليس هو للأطفال الصغار فحسب، وإنما للكبار أيضاً، أي: بالنسبة لابتدائهم في طلب العلم وليس شرطاً أن تأخذ نفس الاسم ونفس الكتاب، بل من الممكن أن يكون عندك بديل ثانٍ لشرح تحفة الأطفال، فالشروح كثيرة فلا بأس بأي كتاب.
وكذلك حفظ متن الجزرية، كذلك -إن أمكن- حفظ (إغاثة الملهوف) في صفات الحروف، فهذا بالنسبة للمتن في التجويد، ومن الممكن أن يدرس علم التجويد بتوسع أكثر في طبقة أعلى أو في مرحلة فيما بعد، بدراسة عدد من الكتب منها: كتاب (فتح المريد في علم التجويد) للشيخ عبد الحميد يوسف منصور، وهو في جزأين صغيرين، وهذا الكتاب هو أحد الثلاثة الكتب وهو أحسنها، وهناك كتاب جيد كذلك، هو (العميد في علم التجويد)، أو (غاية المريد في علم التجويد) وهذا أيضاً مفيد جداً، فيأخذ واحداً من هذه الثلاثة وليس كلها.(47/31)
أهم الكتب في علوم القرآن
بالنسبة لعلوم القرآن نحتاج إلى كتاب في علوم القرآن يعطينا فكرة أولاً عن علوم القرآن وأنواعها والأرضية أو الخلفية التي لا يليق بطالب العلم أن يكون خالياً عنها، وهناك عدة كتب، والكتاب الأساسي المرشح -لأنه أبسطها وفيه فوائد جمة- (لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير) لأستاذنا الدكتور محمد الصباغ حفظه الله، أو (مباحث في علوم القرآن) للدكتور صبحي الصالح أو (التبيان في علوم القرآن) للشيخ محمد علي الصابوني، والشيخ الصابوني عليه ملاحظات كثيرة على منهجه في (صفوة التفاسير)، وهذه الأشياء لكونه متحمساً جداً لمذهب الأشاعرة في موضوع الصفات، ولكن أنبه على أن بعض المؤلفين قد تكون هناك بعض الملاحظات على كتبه، لكن يكون متخصصاً في هذا المجال فيفيدنا.
أو كتاب (مناهل العرفان في علوم القرآن) للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني وهو وإن كان أشعرياً -للأسف الشديد، والكتاب يحتاج لمن يهذبه وينقيه من هذه الأشياء- إلا أن طريقة الترتيب والجمع مفيدة جداً في بعض المواضع، فلذلك اخترت أولاً كتاب الدكتور الصباغ لأنه أنقاها من حيث هذه الملحوظة، وهو (لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير) يليه (مباحث في علوم القرآن) ثم (التبيان في علوم القرآن) (مناهل العرفان في علوم القرآن).(47/32)
أهم الكتب في علم التفسير
بالنسبة لعلم التفسير هناك الجزء الأول من محاسن التأويل للقاسمي، ويسمى (تمهيد خطير في علم التفسير) للشيخ محمد جمال الدين القاسمي، لكن الكتاب المعتمد أو الذي نوصي به مع هذا كتاب مفيد جداً للشيخ خالد عبد الرحمن العك، وهو (أصول التفسير وقواعده) فهذا من أفضل الكتب وأقواها.
وأيضاً هناك كتاب مفيد وفيه بحث عظيم جداً للدكتور محمد حسين الذهبي اسمه (التفسير والمفسرون)، فهذا فيما يتعلق بعلوم التفسير.(47/33)
أهم الكتب في أسباب النزول
بالنسبة لأسباب النزول، وبالنسبة للأحاديث التي صحت في تفسير بعض الآيات ولابد للإنسان من أن يكون على إلمام بها هناك كتاب جديد اسمه (الصحيح المسند من التفسير النبوي للقرآن الكريم) للشيخ سيد إبراهيم أبو عمة.
وفي أسباب النزول هناك كتاب (الصحيح المسند من أسباب النزول) للشيخ مقبل بن هادي الوادعي.
وفي القراءات كتاب (القراءات أحكامها ومصدرها) للدكتور شعبان محمد إسماعيل.
وفي موضوع إعجاز القرآن هناك دراسة معاصرة اسمها (المعجزة الخالدة) للدكتور حسن ضياء الدين.
وبالنسبة لاستطلاع مواقف المفسرين -على اختلاف تفسيراتهم- من الآيات والصفات هناك بحث مفيد للشيخ محمد عبد الرحمن المغراوي اسمه (المفسرون بين التأويل والإثبات).(47/34)
كتاب (بدع التفاسير) للغماري
هناك علم ابتكره الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري ومعروف عنه أنه من أعداء السلفية، وإذا أمسكت كتاباً له ففتش عن شتيمة ابن تيمية، لكن مع ذلك له بحوث جيدة جداً منها هذا الكتاب؛ لأنه في الحقيقة ابتكر هذا الكتاب وليس فيه محاكاة لغيره ممن سبقه، كتاب (بدع التفاسير)، واحذر جداً من أخطائه والمؤاخذات عليه، خاصة فيما يتعلق بالعقيدة السلفية أو نيله من بعض العلماء الأفاضل، لكن مع ذلك هو كتاب فيه فوائد عظيمة.(47/35)
أهم الكتب المؤلفة في معرفة الإسرائيليات والموضوعات في التفاسير
بالنسبة لمعرفة الإسرائيليات والموضوعات في التفاسير فهناك كتاب للدكتور محمد أبو شهبة (الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير).(47/36)
الناسخ والمنسوخ في القرآن، وأهم الكتب المؤلفة في ذلك
وبعد ذلك يبقى نوع آخر من علوم القرآن وهو الناسخ والمنسوخ، وهو من أهم العلوم، وهذا الموضوع فيه كلام طويل جداً، وموضوع النسخ فيه نقاش واختلافات، خاصة في العصر الحديث، فكثير من الناس تطاولوا في هذه القضية، واتبعوا كلاماً كثيراً، وهناك كتاب يناقش موضوع النسخ اسمه (نظرية النسخ في الشرائع السماوية) للدكتور شعبان محمد إسماعيل، وهو كتاب جيد.
والكتب التي تتناول الناسخ والمنسوخ تستعرض الآيات التي فيها النسخ، وهناك كتب في الناسخ والمنسوخ، ككتاب لـ ابن العربي وجمال الدين البذوري أو ابن الباذري وقتادة بن دعامة وهبة الله بن سلامة وغيرهم، وفي الحقيقة الكلام كثير جداً في موضوع الناسخ والمنسوخ، فهناك آيات كثيرة يزعم أنها فيها ناسخ ومنسوخ وهي ليست كذلك، والإمام السيوطي رحمه الله قد اختصرها جداً، ونظمها في قصيدة في صفحة واحدة، هذه القصيدة ضمنها العلامة القرآني الشنقيطي رحمه الله كتابه (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)، وعمل حاشية على قصيدة السيوطي، فالآن يستطيع الطالب أنه يحفظ قصيدة السيوطي ويتقن شرحها للشنقيطي رحمه الله، فيكون قد جمع علماً في هذا الباب، وهو معرفة الناسخ والمنسوخ، وهو علم أساسي، فيستطيع الطالب أن يحفظ قصيدة السيوطي ويتقن شرحها المكون من صفحتين، فهي عبارة عن ثلاث صفحات: صفحة قصيدة، وصفحتان شرح، والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(47/37)
الكتب المختارة في بعض علوم القرآن
الكتاب المعتمد الذي ننصح به: تفسير المشكل من القرآن العظيم على الإيجاز والاختصار، لـ أبي محمد مكي القيطي، يفضل أن يلحق به كتاب أيضاً عظيم جداً من كتب التراث لا يقل عنه أهمية للإمام بدر الدين بن جماعة وهو: غرر التبيان فيمن لم يسم في القرآن، كلامنا يكمل بعضه بعضاً.
لنفرض أن الكتابين غير متوفرين، فما المخرج؟ هناك كتب بسيطة أي كتاب في غريب القرآن، مثلاً: كتاب كلمات القرآن توضيح وبيان، وهو كتيب صغير جداً لفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف رحمه الله، أو: مختصر معاني مفردات القرآن الكريم للشيخ محمد سند الطوخي.
أما المرجع في مفردات القرآن الكريم فهناك المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، مجلد واحد كبير، وهذا المرجع إن تمكن طالب العلم من حفظه واستظهاره فهذا جيد، وإن كان الراغب الأصفهاني يقال إنه شيعي إمامي، لكن الله أعلم بصحة ذلك، لكن الكتاب جيد من حيث اللغة، لكن يكون الإنسان على حذر؛ لأنه أحياناً تشم هذه الرائحة الشيعية في مواضع قليلة جداً.
وهناك علم آخر يسمى: مشكل القرآن، أي: الآيات التي يتعارض ظاهرها في نظر من لم يحكم دراسة القرآن وفهمه، يقوم بعض العلماء بتوضيحها والجمع بينها وإزالة هذا الإشكال، فأشهر كتاب ألفه السلف في ذلك هو عبارة عن رسالة هي أوراق قليلة جداً للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في الرد على الزنادقة والجهمية.
وهناك كتاب قيم جداً في هذا الباب وهو كتاب: "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" للعلامة الشنقيطي رحمه الله.
وهناك علم من العلوم الخطيرة جداً والمهمة، بل يعتبر أهم علوم القرآن هو: علم أحكام القرآن وآيات الأحكام، هذا علم مهم جداً، وهو باختصار: عبارة عن الآيات التي تضمنت أحكاماً فقهية، وأفضل كتاب نرشحه في هذا هو: روائع البيان تفسير آيات الأحكام، للشيخ محمد علي الصابوني، والكتاب عليه مآخذ من حيث تساهله في أحاديث ضعيفة، وعدم إتقانه لتخريج الأحاديث، فهذه مآخذ معروفة لأنه غير متضلع من علم الحديث، لكن كناحية تنظيمية كتاب "روائع البيان" من أحسن الكتب في التنظيم والترتيب وحسن التسهيل في التدريس، فالكتاب الذي يعتمد: "روائع البيان في تفسير آيات الأحكام في القرآن الكريم" للصابوني.
وهناك مراجع أخرى يحتفظ بها الإنسان مثل: جامع أحكام القرآن للقرطبي أو لـ ابن العربي، وكذلك: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي رحمه الله تعالى.(47/38)
الكتب المختارة في التفسير
أخيراً تفسير شامل للقرآن ككل، ما هو التفسير الذي يرشح بأن يدرس كتفسير شامل؟ في هذه المرحلة نحن نركز على أن نختار مصدراً للحجم الأقل بحيث يستطيع الطالب أن يأخذ خلفية في كل العلوم، وبالنسبة لأفضل كتاب تفسير على الإطلاق هو جامع البيان في تفسير آيات القرآن للإمام الطبري، والإمام الطبري شيخ في السنة على الإطلاق، وأفضل كتاب في الإسلام كله في تفسير القرآن هو كتاب الإمام ابن جرير الطبري وقد حققه العلامة أحمد شاكر لكن لم يتمه للأسف الشديد، لكن دراسته تحتاج وقتاً طويلاً، ويحتاج إلى بداية مبكرة عن البداية التي يبدأ منها أغلب الإخوة.
بالنسبة للمرجع المختار في موضوع التفسير الشامل للقرآن بحيث إذا أنهيته تنتقل إلى مرحلة أعلى منها -فهناك مرحلة أولى من كل علم وبعد ذلك مرحلة أخرى- هو: تفسير الجلالين للجلال السيوطي والجلال المحلي، وهو كتاب جيد وميسر للفهم، ويكفي أنه شرح في مجلدات، وكل كلمة فيه موضوعة بهدف وبدراسة، ليس مسألة عشوائية، فهو تفسير مركز جداً بحيث يصلح أنك تحفظه، تحفظ التفسير وتتقنه.
وهناك بعض المؤاخذات على تفسير الجلالين: أولاً: وجود أحاديث ضعيفة فيه.
ثانياً: تأويل الآيات والصفات بما يخالف منهج السلف رحمهم الله تعالى.
ثالثاً: وجود بعض الإسرائيليات.
فاحذر من هذه الثلاث، وقد حاول كثير من العلماء تهذيبه حتى يخلو من هذه المآخذ، ويكون صافياً نقياً، وأنجح محاولة حتى الآن قام بها القاضي محمد كنعان، وهو موجود في مجلد واحد كبير يسمى: قرة العينين على تفسير الجلالين، وهو موجود متوفر، فهذا التفسير شامل لكل القرآن بإيجاز، فهو يجمع أحياناً بين أشهر القراءات فيعطيك فائدة في معرفة القراءات، ويعطيك أحياناً أسباب النزول، وأحياناً يذكر أحاديث في تفسير الآيات، وكذلك توضيح غريب اللغة، والربط بين الآيات بعضها ببعض، وقرة العينين مع تفسير الجلالين هذا أفضل لصغر حجمه وتركيزه، وهناك أيضاً كتاب مدرسي يفيد جداً لو أن مجموعة تأخذ التفسير كدراسة في معهد في مدرسة أو في مجموعات، وهو كتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير لفضيلة الشيخ أبي بكر جابر الجزائري حفظه الله تعالى، في كتاب مدرسي، خاصة إذا كان الإنسان يحفظ فقرة ثم يدرس تفسيرها بمنتهى البساطة.
أو تفسير القرآن العظيم لـ ابن كثير؛ لأن تفسير ابن كثير يعتبر تلخيصاً لتفسير ابن جرير الطبري وزاد عليه فوائد كثيرة، فإذا كنت تدرس كتاباً أكبر أو فرغت من مرحلة قرة العينين على تفسير الجلالين، فليكن تفسير القرآن العظيم لـ ابن كثير أو أحد مختصراته، وأفضل مختصر لـ ابن كثير على الإطلاق هو: عمدة التفاسير أو عمدة التفسير للعلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى، فهو أروع اختصار على الإطلاق، وقد حافظ فيه على روح ابن كثير، فالاختصار لم يخل بروح المؤلف الأصلي، وصدر منه للأسف فقط خمسة أجزاء، فيمكن للطالب أن يدرس أولاً هذه الخمسة الأجزاء الأولى للشيخ أحمد شاكر ثم يتم ذلك بمختصر آخر، ولعل أيسرها: تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير، للشيخ محمد نسيب الرفاعي رحمه الله، لكن الشيخ رحمه الله اشترط في مقدمة التفسير أنه اقتصر على الصحيح، ولم يوفق في هذا، فكثير من الأحاديث التي يرمز لها بالصحة أو الحسن تكون ضعيفة! فإما أن تدرس تفسير ابن كثير أو أحد مختصراته كما أشرنا، أو تدرس أيضاً تفسيراً نقياً جداً في الحقيقة هو محاسن التأويل للقاسمي، والحقيقة أنك إذا قرأت في محاسن التأويل تشعر أنك تقرأ في حوالي عشرة أو عشرين مرجعاً، فعنده رحمه الله القدرة على الجمع وامتصاص الرحيق من الأزهار في التفاسير الأخرى ويضمها، وأحياناً يتوسع في بعض البحوث فيخرج بحثاً مفيداً جداً.
إذاً يمكن الاقتصار إما على تفسير القرآن العظيم لـ ابن كثير في هذه المرحلة، أو على محاسن التأويل للقاسمي.
هذا فيما يتعلق بأهم الكتب التي نرشحها فيما يتعلق بعلوم القرآن، والكتب كثيرة جداً، فلا يعترض أحد بأن بين الكتب الأخرى كتباً بديلة؛ لأن هذا تنبيه على بعض الأنواع، فقد يكون نفس الكتاب وقد يكون ما يقوم مقامه، إذاً هذه أسماء الكتب المرشحة فيما يتعلق بعلوم القرآن، وفيما بعد سيأتي الكلام على موضوع المنهجية والمرحلية.
أولاً: التبيان في آداب حملة القرآن، القواعد الذهبية لحفظ القرآن الكريم، دليل الحيران لحفظ القرآن، تنبيه الحفاظ بالآيات المتشابهة في الألفاظ، حفظ تحفة الأطفال، دراسة بغية الكمال، شرح تحفة الأطفال، حفظ الجزرية، دراسة فتح المريد في علم التجويد، لمحات في علوم القرآن لهذا التفسير، أصول التفسير وقواعده، قصيدة السيوطي في الناسخ والمنسوخ وشرحها للشنقيطي، تفسير المشكل من القرآن العظيم لـ مكي القيطي، قرة العينين على تفسير الجلالين للشيخ القاضي محمد كنعان، دراسة روائع البيان في تفسير آيات الأحكام للصابوني.
ولا تزال عندنا بعض التنبيهات فيما يتعلق بهذا الموضوع.(47/39)
المنهج العلمي [2]
كثير هم أولئك الذين يقبلون على طلب العلم أو يتفرغون له، ولكن القليل منهم من يحسن سلوك طرائقه ودخول أبوابه، وذلك بحفظ أهم المتون في أغلب العلوم والفنون، والتدرج في أخذ العلم والتريث فيه، والتلقي عن أهل العلم الذين يحلون له ما أعضل ويوضحون له ما أشكل.
فعلى الطالب الصبر والاجتهاد والتدرج، فمن رام العلم جملة ذهب عنه العلم جملة، فإنما يؤخذ العلم على مر الأيام والليالي، كما يحسن بطالب العلم أن يختار الكتب المفيدة في كل فن من الفنون.(48/1)
فضائل الصيام
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخط، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه).
وفي رواية لـ مسلم: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله سبحانه وتعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) يعني: لا حد لمضاعفته، (يدع شهوته وطعامه من أجلي، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك).
قوله عز وجل في هذا الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم) له يعني له أجر محدود ومعين، الحسنة بعشرة أمثالها، أو تضاعف إلى سبعمائة ضعف (إلا الصوم) يعني: أجره غير محدود (فإنه لي وأنا أجزي به) فأجره بدون حساب، والذي يؤيد ذلك الرواية التي في صحيح مسلم: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم) فيدل على أن المستثنى هنا هو هذه المضاعفة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (والصيام جنة) الجنة من الوقاية يقي الإنسان عذاب الله تبارك وتعالى، (والصيام جنة) أي: يقي صاحبه مما يؤذيه من الشهوات، أو يقي صاحبه عذاب النار، (فإن كان أو فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث) الرفث: النطق بالكلام الفاحش، (ولا يسخط، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم) يحتمل أنه يقوله بلسانه حتى يذكر هذا الشخص الذي يؤذيه بحرمة هذا الشهر فيزدجر ويراعي حرمته، وإلا فيحدث بها نفسه حتى يمنعه ذلك من مشاتمته، يعني: يقول بينه وبين نفسه: إني صائم إني صائم، حتى يزجر نفسه عن أن يقابله بالمثل، أو يرفع بها صوته حتى ينزجر الشخص الآخر ويتذكر حرمة الصيام: (والذي نفس محمد بيدي لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) هذه الرائحة المتغيرة التي تخرج من المعدة وتكون في فم الصائم، هذه عند الله تبارك وتعالى أطيب من ريح المسك.
(للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره) وهذا فرح فطري، فرح طبيعي أن الإنسان إذا جاع أو عطش فوجد الطعام والشراب فإنه يفرح بذلك فرحاً فطرياً، (وإذا لقي ربه فرح بصومه) يعني: إذا عاين ثواب هذا الصيام.
وفي حديث الحارث الأشعري مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وآمركم بالصيام، ومثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة مسك كلهم يحبُّ أن يجد ريحها، وإن الصيام أطيب عند الله من ريح المسك).
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)، وفي رواية: (ومن دخله لم يظمأ أبداً).
وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام جنة يستجن بها العبد من النار).
وعن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ألا أدلك على أبواب الخير؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه قال: فيشفعان).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى على سرية في البحر، فبينما هم كذلك قد رفعوا الشراع في ليلة مظلمة إذا هاتف فوقهم يهتف -سمعوا الصوت ولم يروا شخصاً-: يا أهل السفينة! قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه.
فقال أبو موسى رضي الله عنه: أخبرنا إن كنت مخبراً.
قال: إن الله تبارك وتعالى قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه له في يوم صائف يوم حر سقاه الله يوم العطش)، والجزاء من جنس العمل، وهذا حديث حسن.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: أسندت النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدري فقال: (من قال: لا إلا الله ختم له بها دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! مرني بعمل؟ قال: عليك بالصوم فإنه لا عدل له.
قلت: يا رسول الله! مرني بعمل؟ قال: عليك بالصوم فإنه لا عدل له)، وفي رواية: (فإنه لا مثل له).
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً).
هذا فيما يتعلق بفضل الصيام عموماً.(48/2)
فضائل شهر رمضان
أما الترغيب في صيام رمضان خصوصاً إيماناً واحتساباً، وقيام ليله وقيام ليلة القدر، فقد جاء في فضل ذلك أحاديث كثيرة منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة، ثم يقول: من قام رمضان إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) يعني: من قام كل رمضان رغبة في الثواب من عند الله تبارك وتعالى لا مستثقلاً ولا متضجراً.
وقال عليه الصلاة والسلام: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر).
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احضروا المنبر فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين، فلما نزل قلنا: يا رسول الله! لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه، قال عليه الصلاة والسلام: إن جبريل عرض لي فقال: بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له - دعا عليه بالإبعاد - قلت: آمين) (بَعُدَ) يعني: بعداً وشقاءً لمن أدرك رمضان ووافته هذه الفرصة ثم مر رمضان ولم يغفر له، يعني: أنه لم ينتهز هذه الفرصة الثمينة ولم يغتنمها حتى مر رمضان ولم يغفر له، أي: أن هذا الإنسان مفرط غاية التفريط إذ فاته رمضان دون أن يغفر له، ورمضان فرصة ذهبية ليبدأ الإنسان فيها صفحة جديدة من التوبة والاستقامة، فهي فرصة لكل الناس وسوق مفتوح لكل من يريد أن يربح؛ فلذلك دعا النبي عليه الصلاة والسلام بالإبعاد والمهلكة في حق من أدرك رمضان ولم يغفر له، قال: (فلما رقيت الثانية قال -بعد يعني جبريل-: بعد من ذكرتَ عنده فلم يصل عليك -صلى الله عليه وسلم- فقلت: آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بعد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قلت: آمين).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)، ففي كل ليلة هناك طائفة من المسلمين يعتقها الله تبارك وتعالى من النار، ويحكم عليها بالنجاة والبراءة من النار، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم وسائر المسلمين منهم.
فالمنادي ينادي ونحن لم نسمعه، ولكن الصادق المصدوق أخبرنا أنه يقول: (يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر) فكل من نوى شراً في رمضان فعليه أن يقصر وأن يتوقف عن هذا الشر ويحترم ويراعي حرمة هذا الشهر، حتى لا يعكس ما وظف له هذا الشهر، فهذا الشهر شهر الانقطاع عن الشهوات وليس شهر الشهوات والطعام! هذا شهر حبس النفس عن الغضب والانفعال وليس شهر الضجر وسوء الخلق مع الناس، ثم إذا أصبت بذلك تقول: اعذروني فإني صائم! هذا شهر الجهاد والعمل، وليس شهر التكاسل والخمول وهكذا، فالكثير من الناس عكسوا رمضان الذي هو موسم الطاعات والعبادات إلى موسم للهو واللعب والمعاصي.
وكان صلى الله عليه وسلم قد قال للصحابة رضي الله عنهم عشية أول ليلة من رمضان: (أتاكم شهر رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لله عند كل فطر عتقاء).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة - يعني في رمضان - وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة) لكل مسلم في كل يوم وليلة من رمضان دعوة مستجابة، وهذا صحيح.(48/3)
الوعيد في حق من ترك صيام رمضان
أما الوعيد في حق من يضيع صيام رمضان فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلاً وعراً فقالا: اصعد فقلت: إني لا أطيقه، فقالا: إنا سنسهله لك، فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا أنا بأصوات شديدة قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً، قال: قلت: من هؤلاء؟ قالا: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم) أي: يتعجلون الإفطار قبل أذان المغرب قبل أن تغرب الشمس، كأنهم يصومون كل اليوم ثم يتعجلون في الإفطار قبل دخول وقت المغرب، فكيف يكون حال من لا يصوم أبداً، لا قبل تحلة الإفطار ولا غير ذلك، فلا شك أن هذا من أقبح الكبائر التي لا تليق بمن ينتسب إلى هذا الدين؛ ولذلك كما ذكر العلماء: أن من أفطر عامداً كان تفويته لهذا الصيام من كبائر الذنوب، من يفطر في رمضان متعمداً، وعند بعض العلماء أن من ترك صوم رمضان بلا عذر فهو أشر من الزاني ومدمن الخمر، بل يشكون في إسلامه وينسبونه إلى الزندقة والانحلال.
هذه بعض الأحاديث الثابتة في فضيلة الصيام عموماً، وفي فضيلة صيام شهر رمضان خصوصاً.
فهذه فرصة لكل إنسان مهما بلغ من المعاصي أو التفريط في حق الله تبارك وتعالى، يمكن أن تكون هذه بداية جديدة في السير إلى الله عز وجل، مهما كان ما مضى من المعاصي أو من التفريط في جنب الله، فالمحسن فيما مضى عليه أن يزداد إحساناً، والمسيء عليه أن ينزجر ويغتنم هذه الفرصة العظيمة.(48/4)
إثبات دخول شهر رمضان
نضطر في بداية كل رمضان تقريباً منذ عدة سنوات إلى التنبيه على هذا الموضوع المتعلق بالرؤية، والأحاديث في تعليق ثبوت دخول شهر رمضان على الرؤية البصرية معلومة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، والمقصود: الرؤية البصرية، والعلة الشرعية للأحكام لا تعلم إلا من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام، فالعلة الشرعية هي: الرؤية البصرية وليست الرؤية العلمية، أو كما يقول المبتدعة: الحساب الفلكي، فالعبرة -كما أشرنا إلى هذا من قبل بالتفصيل- بالرؤية البصرية.
والعلماء اختلفوا: هل لكل جهة من جهات البلاد الإسلامية المتباعدة مطلع خاص بالنسبة لرؤية الهلال؟ القائلون بتعدد المطالع لهم أدلة، والقائلون بتوحيدها لهم أدلة، والقضية ليست بهذه الخطورة، لكن كلا الفريقين متفقون على أن المعتمد هو الرؤية البصرية، حتى وإن قالوا بتعدد المطالع.(48/5)
لا ينبغي الاختلاف في ثبوت دخول رمضان
وقد نبتت طائفة ممن شذوا عن إجماع السلف الصالح رضي الله عنهم وبدءوا ينشرون هذه الفتنة بين وقت وآخر، وهي: الكلام في موضوع الحساب الفلكي والاعتماد عليه، وتقديمه على الرؤية البصرية إلى آخر هذا الكلام الذي يتكرر بصورة موسمية كلما آن هذا الأوان، لكن الذي ينبغي أن نلفت النظر إليه هو أن جميع علمائنا بلا استثناء متفقون على عدم مخالفة المفتي على الأقل في الظاهر، فكل علمائنا يفتون بهذا؛ لأن المخالفة في الظاهر تؤدي إلى فتنة عظيمة جداً بين الناس وإلى بلبلة، والناس في الحقيقة غير محتملين لمزيد من البلاء، يكفيهم التشنيع والحملات الصحفية والإعلامية على الدعوة الإسلامية، وعلى الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، وعلى الملتزمين بدينهم، فلا نريد مزيداً من التشنيع، فعلماؤنا ينصحون بأن الإنسان في مثل هذا الوقت لا يخالف على الأقل في الظاهر، ينقسمون فرغم أن المفتي يقيم فتواه على الحساب الفلكي بصفة أساسية إلا أن كثيراً من أهل العلم يرون متابعته حتى لو كان الأمر على هذا النحو، وهذا قول كثير من العلماء المعاصرين أن يتابع حتى وإن كان مخطئاً في ذلك، بناءً على أن الشهر هو ما اشتهر وعرف بين الناس أنه هو الشهر، ويعتمدون أيضاً على قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي في الترمذي: (الصوم يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فلابد أن ندرك هذه القاعدة: أن موضوع عدم الجهر بمخالفة المفتي هذا موضع اتفاق بين جميع العلماء، لا يوجد أحد من العلماء أبداً يقول لك: اخرج للناس في الطريق وإذا كانوا صائمين تظهر الإفطار أو العكس، أو تقيم صلاة عيد والأمة بجملتها لا تصلي العيد في هذا اليوم، فينبغي أنه لا يوافق أحد من العلماء على أن يجهر بالمخالفة، غاية ما في الأمر أن من لا يوافق العلماء، أو لا يأخذ بقول العلماء الذين يقولون بموافقة المفتي، أن يكون قلبه غير مطمئن، فهو يرى شرعاً أنه قد هلّ هلال رمضان، وصام هذا اليوم من رمضان وقلبه لا يطيق، إذاً يكون هذا مسلكاً شخصياً في السر لا يجهر بالمخالفة ولا يدعو أحداً إلى ذلك، فله أن يقوم الليل مثلاً لأن هذا في اعتقاده أول ليلة من رمضان، يقوم الليل مع أهله في بيته ولا يجهر بالمخالفة، كذلك في نهاية رمضان، حتى نفوت على أعداء المسلمين وأعداء الأمة هذا الغرض الخبيث، وهو المزيد من التمزيق لنفوسنا، وإحلال الحزن والهم والغم محل الفرحة التي اعتدنا عليها منذ شرف الله بلادنا بالإسلام، فأنت تشعر بطعم العبودية وطعم التعبد وأنت تجلس وتنتظر هل غداً سيحرم علينا الطعام والشراب أم لا؟ ماذا سيحكم الله عز وجل علينا في الطعام والشراب الذي هو حلال لنا في نهار اليوم ثم غداً يكون حراماً بحكم الله عز وجل؟ فكان هناك طعم للعبودية ولترقب رؤية الهلال! فنجزم جزماً على الإخوة ألا يجهر أحد ولا يدعو غيره، لكن يكون الأمر محدوداً جداً، ولا تظهر المخالفة بأي صورة لعموم المسلمين، فهذا فيما يتعلق بهذا الأمر، أنه من سيوافق المفتي في فتواه وفي منهجه لا تنكر عليه، فإذا كنت غير مطمئن لهذه الفتوى، ويعظم في قلبك أن هذا ثبت بصورة شرعية في أحد البلاد الإسلامية، بالذات التي فيها قضاء شرعي وفيها علماء ثقات وتعظيم لهذا الأمر ومراعاة لحدود الشرع فيه، فإن أخذت بذلك فلا تدع إلى المخالفة، وندعو الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا الفتن، ويوفق جميع المسلمين في هذا الأمر.(48/6)
العلوم الشرعية التي ينبغي أن يلم بها طالب العلم
كنا شرعنا في موضوع المنهج العلمي بالنسبة لقراءة الكتب المختارة أو المرشحة في بعض العلوم، ولابد من إتمام الوفاء بالوعد؛ لأن بعض الإخوة لاحظوا أننا معتدلون جداً في هذه المحاضرة من حيث الكلام وعدم التفصيل، وبعض الإخوة اقترح أن يكون ذلك بعد رمضان، لكن مبادرة بالأعمال ووفاء بالوعد فإننا نتم ما بدأناه، ونرجو أن تكون هناك فرصة أخرى لمزيد من التفصيل في هذا الأمر.
ونحن نتكلم على العلوم الشرعية التي ينبغي أن يلم بها الإنسان أو الداعية أو طالب العلم، من مثل التفسير وعلوم القرآن، الحديث والسنة، التوحيد والفرق، أصول الفقه، البدع، السيرة، التاريخ والتراجم، الرقائق والأخلاق والآداب الشرعية، اللغة العربية، الفكر والدعوة، هذه عموماً المجالات أو الفروع التي ينبغي الاطلاع عليها بصورة أو بأخرى، وقد تكلمنا عن التفسير وعلوم القرآن وسوف نتكلم الآن إن شاء الله عن الحديث.(48/7)
المنهجية في دراسة علم الحديث
بالنسبة للحديث هناك قاعدة عامة للطالب عند اختيار الكتب أن يراعي ويتحرى الكتب المحققة والطبعات المحققة، خاصة إذا كان من قام على تحقيقها من أهل العلم المشهود لهم، والذين اشتهروا بالتدقيق في تحقيقهم وبذل أقصى وسعهم.(48/8)
عدم الاشتغال بالحديث قبل حفظ القرآن
أيضاً: مازال العلماء ينصحون الإنسان أن لا يشتغل بالحديث قبل أن يحفظ القرآن ويولي القرآن اهتماماً، فكان العلماء إذا أتاهم طالب يطلب سماع الحديث سألوه: هل حفظت القرآن؟ فإن قال: لا، أبوا أن يقرءوا عليه أو يسمعوه الأحاديث حتى يفرغ من قراءة القرآن وحفظ القرآن، فإذا جاءهم حافظ للقرآن اختبروه فيه، وحينئذ يبدءون في تسميعه، لكن اليوم في الحقيقة هناك آفة منتشرة جداً: أن بعض الناس يهجرون القرآن تماماً ويركزون فقط على علم الحديث، وليس على كل فروع علم الحديث، إنما في أبواب معينة أو علوم معينة من علوم الحديث، فيركزون عليها ويهملون سائر العلوم بما في ذلك التوحيد أو الفقه أو غير ذلك، وللأسف الشديد ظهر هذا كشعار لمن ينتسبون إلى الدعوة السلفية في كثير من بقاع الأرض، ظنوا أن السلفية هي هذا النموذج! أن يشتغل الطالب ليل نهار في علم الرجال وعلم الحديث ويهجر القرآن تماماً، ويهجر العلوم الشرعية الأخرى بما في ذلك الفقه وغيره من العلوم، حتى وصل الأمر ببعض الناس ممن ينتسبون إلى السلفية أن أنكروا علم أصول الفقه تماماً! والبعض يقول: التجويد هذا ليس له أي أصل، وما نعترف بعلم التجويد وهكذا!! وهذا من الخطأ في فهم هذه المسألة، فالسلف رحمهم الله تعالى كانوا يراعون هذا الأمر، وكانوا يرفضون قراءة الأحاديث على من لم يفرغ من حفظ القرآن الكريم.(48/9)
عدم الاشتغال بفروع تخصصية في علم الحديث مع إهمال ما هو أهم منها
وكذلك هناك اشتغال بعض الإخوة أحياناً بفروع تخصصية في علم الحديث، وهذه الفروع قد خدمها من هم أعلم منهم وأقدر على خدمتها، لكن ينبغي الاشتغال بالسنة؛ ولهذا نجد الآن بعض الإخوة قد وصل إلى سن الأربعين أو الثلاثين مثلاً وبدأ الآن يحفظ الكتب بأسانيدها، هذا شيء طيب بلا شك، لكن إذا تقدم بك العمر وأنت ما زلت بعد بادئاً مبتدئاً في طلب العلم فلا تضمن امتداد العمر يكون إلى متى، فإذا أنفقت عمرك في حفظ الأسانيد الآن فمتى تنتهي؟ وما جدواها؟! والآن في الغالب يكون بعضهم مسئولاً عن نشاط دعوي معين يُسأل في العلم الشرعي، وهو في سلوكه وفي حياته يحتاج إلى معرفة حكم الشرع في مسائل كثيرة، فإن لم يكن عنده علم ووسائل لطلب العلم في هذه الفروع فإنه سيتكلم بدون علم، فالشاهد: أن هناك فروعاً في علوم الحديث قد كفينا شأنها، ليس المطلوب أن يكون جميع الإخوة طلاب العلم محققين للأحاديث، فالعلماء المحققون متواترون، ولا بأس من التدرب على تصحيح الأحاديث: أن يأخذ حديثاً من الأحاديث وتدرس أسانيده، وتنظر في كتب الرجال والتراجم، وتحاول أن تطبق ما تقرؤه على سبيل التدريب والتجربة، أما أن تستقل بتصحيح وتضعيف الأحاديث وأنت مازلت تخطو الخطوات الأولى في علم الحديث، فهذا ما لا يكون أبداً، وعلى أي الأحوال فإن هذا حديث المتون، ولكن الشاهد أنا قد كفينا ولله الحمد، سواء من علمائنا السابقين، أو العلماء المعاصرين الذين محضوا حياتهم لخدمة الأحاديث وتحقيقها.(48/10)
التقليد في تصحيح وتضعيف الأحاديث ليس مذموماً
فطالب العلم وخصوصاً من يبدأ متأخراً ربما يكون أقصى ما يحتاجه الآن في الواقع العملي أن يعرف الحديث هل هو حسن أم صحيح أم ضعيف، وهذا يسهل جداً الرجوع إليه من خلال كتب العلماء في ذلك، فالذي يبدأ بهذه الصورة لا يصلح لأن يكون مستقلاً في الحكم على الأحاديث، فعليه أن يقلد، كما قال الحافظ العراقي رحمه الله في شأن علم الحديث: ولا تأخذ بالظن، ولا تقلد غير أهل الفن، أي: فن الحديث، فهذا ليس من التقليد المذموم الذي أشرنا إلى ذمه في مسألة الفقه ومخالفة الدليل، لكن هذا من باب قبول خبر العدل؛ لأن الجهبذ مثل الحافظ ابن حجر أمير المؤمنين في الحديث رحمه الله تعالى، حينما يقول في الحديث مثلاً: إنه حسن أو صحيح، فهذا ليس مجرد كلمة تقال، بل هذه خلاصة بحث طويل، وربما سهروا الليالي والشهور وبذلوا جهداً جهيداً في دراسة الأسانيد، وتتبع طرق الحديث، والنظر في السند والنظر في المتن وغير ذلك، حتى توصل في النهاية إلى كلمة (حسن) فهي تساوي أن يخبرك هذا الحافظ أو هذا الإمام: بأني قد تتبعت طرق هذا الحديث وتتبعت رجال الأسانيد، وبحثت عن شروط الصحة والحسن، وانتهيت إلى أنه حديث حسن، فهي كلمة لا تقال جزافاً، وإنما هي ثمرة بحث طويل من ورائها، فهذا من باب قبول خبر العدل، عدل يخبرك بخبر فأنت تصدقه، وليس من باب التقليد المذموم المعروف.
فهناك -كما ذكرنا- من العلماء من قدم السنة وسهلها وقربها من هذه الأمة، وما من شك أنه لا يستطيع أي إنسان أن ينكر أو يجحد فضل محدث الديار الشامية العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى، فعامة طلاب العلم في هذا العصر، بل ومن الخواص أيضاً من هم على كتبه وخدمته العظيمة والجليلة التي أداها إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا شك أنه جدير بأن يلقب بالفعل بمحدث العصر، بشهادة أئمة العلم وأئمة الهدى في مشارق الأرض ومغاربها، فمصنفات الألباني ما يكاد يستغني عنها أحد، حتى الذين يغيبون الألباني يستدلون من كتبه وإن جحدوا في الظاهر، فقل أن يستغني إنسان عن مؤلفات العلامة الألباني حفظه الله تعالى.(48/11)
الكتب المختارة في الحديث وعلومه
هناك مجموعة من الكتب في علم الحديث مرشحة إن شاء الله: أولاً: رياض الصالحين، وهو كتاب مبارك، وتظهر في مؤلفات الإمام النووي رحمه الله تعالى علامات إخلاص هذا الرجل، فقد وضع لكتبه نوع من القبول ليس له تفسير إلا أن هذا الرجل كان يبتغي بها وجه الله عز وجل، رحمه الله تعالى ورضي عنه، فتتعامل مع كتبه كأنك تتعامل مع كائن حي لا تتعامل مع ورق وحبر، تشعر بروح ونفس لهذا العلامة الجليل في كتبه، وبالذات في هذا الكتاب المبارك الذي وضع له القبول في الأرض وفي كل الأعصار بصورة لا تكاد تتوفر في كتاب آخر مما ألفه العلماء، فرياض الصالحين كتاب أساسي جداً، وينبغي أن يعطى اهتماماً خاصاً، وهناك بعض المساجد في بعض البلاد يومياً بعد العصر لابد أن يقرأ باب في رياض الصالحين، فهذه سنة حسنة ينبغي المحافظة عليها وإحياؤها وتجديدها في الناس، أن يقرأ من رياض الصالحين حتى ولو ثلاثة أحاديث في اليوم تتلى على الناس، ثم شرح مبسط جداً لها يتعلق بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهديه، فرياض الصالحين يتربع في قلة كتب السنة الجامعة التي ينبغي الاهتمام بها.
ومنها أيضاً: كتاب الترغيب والترهيب للحافظ ابن رجب، وقد حقق العلامة الألباني قسماً كبيراً منه في كتابه: صحيح الترغيب والترهيب.
ومنها: جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، وهو عبارة عن الأربعين النووية، ثم أضاف إليها الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى عشرة أحاديث أيضاً، ثم شرحها في هذا الكتاب: جامع العلوم والحِكم، بكسر الحاء لا بضمها؛ لأن بعض الإخوة كانوا معتقلين، وكان أقاربهم يفتشون إذا أحضروا لهم كتباً، فأحد العباقرة قرأها: الحُكم! فمنعوا الكتاب وصادروه، قال: هذا يتكلم عن الحكم!! ومثله أيضاً أن عبقرياً آخر منع الأربعين النووية، قال: هذا يتكلم عن القنابل النووية!! ومنها أيضاً: كتاب مبارك قيم جداً للعلامة الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى هو: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع.
وفي هذه المرحلة لابد من حفظ الأربعين النووية، هذا أقل ما ينبغي، ومن القبيح جداً أن الإنسان لا يكون قد حفظ الأربعين النووية، وإذا أضاف إليها العشر الرجبية فتكون خمسين، وهي أحاديث أمهات الإسلام، وبعد حفظ الأربعين النووية، إن وجدت همة واستطعت أن تحفظ رياض الصالحين بعدما تكون حفظت العشر الرجبية فهذا أمر عظيم جداً.
ومنها أيضاً: مختصر الشمائل للإمام الترمذي رحمه الله تعالى، وهو يتكلم باختصار عن شمائل الرسول عليه الصلاة والسلام وخصائصه صلى الله عليه وآله وسلم وأفعاله وأحواله، وقد حققه العلامة الألباني بهذا الاسم: مختصر الشمائل للترمذي، فهذه كتب عامة في السنة لابد من الإلمام بها: رياض الصالحين، الترغيب والترهيب، جامع العلوم والحكم، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، مختصر الشمائل للترمذي.(48/12)
الكتب المختارة في حجية السنة والدفاع عنها
وهناك موضوع آخر، أو نوع من القضايا الأخرى في السنة: وهي كتب تتكلم عن حجية السنة والدفاع عنها، وهذا مما نحتاجه في هذا العصر الذي انطلقت فيه كثير من الدعاوى المعادية لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سواء كانت صدى لبدعة ظهرت في قرون سابقة، أو لبدع حديثة ناشئة، فهذا الموضوع من الموضوعات المهمة جداً: حجية السنة والرد على أعدائها والدفاع عنها، وفي هذا كتب كثيرة لكن نرشح كتابين أساسيين في هذا الموضوع: الكتاب الأول: زوابع في وجه السنة قديماً وحديثاً، للشيخ صلاح الدين مقبول من علماء باكستان، والكتاب طبع هناك لكن ما أظن أنه متوفر هنا، ولكن إن وجد فيكون فيه خير كثير إن شاء الله، وهذه الكتب التي يصعب توفرها لعلنا نجتهد في تدريسها إن شاء الله فيما بعد، والذي يهمنا كثيراً جداً في هذا البحث هو كلمة (حديثاً)؛ لأنه تطرق بجهد جيد جداً للدعاوى الحديثة ضد السنة، وذكر من هؤلاء الناس الذين كان لهم شيء من التخبط في بعض المواقف من السنة الغزالي، وهذا الكتاب قد كتبه قبل أن يطبع كتاب الغزالي المشئوم الأبتر الذي هو: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، وهو يأخذ على الغزالي مآخذ ويراه في مصاف الذين انحرفوا عن السنة، وهاجموا أحاديث صحيحة قبل أن يطبع، فما بالك لو كان قد طبع.
أيضاً انتقد بعض مواقف المودودي رحمه الله تعالى في بعض القضايا في السنة وغير ذلك، فهو استقرأ وتتبع كثيراً من مواقف بعض المشاهير غير الحميدة فيما يتعلق ببعض القضايا المتعلقة بالسنة والحديث.
الكتاب الثاني: السنة ومكانتها في التشريع، للشيخ مصطفى السباعي رحمه الله تعالى، فهذان هما الكتابان المرشحان في هذا، وهناك كتب أخرى جيدة لا بأس إن توفر منها شيء بديل فهو يغني، مثلاً: حجية السنة، للشيخ عبد الغني عبد الخالق رحمه الله تعالى فهو كتاب قيم جداً، وكتاب دفاع عن السنة، للدكتور محمد أبو شهبة رحمه الله، وهناك كتاب السنة قبل التدوين لـ محمد عجاج الخطيب.
وهناك رسالة مختصرة ولطيفة الحجم ولكنها تحوي علماً غزيراً في هذه القضية بالذات، وهي: الأضواء السنية للدكتور عمر الأشقر، وقد سبق أن نوهنا أن فضيلة الدكتور عمر الأشقر إذا وجدت اسمه على كتاب فلا تنظر في عنوان الكتاب، إنما خذ الكتاب ما زال اسمه عليه، وإلا تكون قد خسرت خيراً عظيماً، فهو من المؤلفين الذين يجيدون في الكتابات، ولعل القبول الذي وضعه الله سبحانه وتعالى لكتبه ناشئ عن الإخلاص إن شاء الله، كما ترون في المجموعة المباركة: مجموعة العقيدة في ضوء الكتاب والسنة، وكتابه المبارك: "مقاصد المكلفين" هو من أروع الكتب في مسألة النيات، وسنتكلم عنه إن شاء الله تعالى.
وهناك رسالة للشيخ ناصر الألباني لطيفة الحجم تدعى: الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام، فيما يتعلق بقضية خبر الواحد، وهناك أيضاً رسالة جيدة للشيخ سليم الهلالي تدعى: الأدلة والشواهد على وجوب الأخذ بخبر الواحد.
وأخيراً فيما يتعلق بمشكلات الأحاديث: الأحاديث التي أشكل معناها على كثير من الناس كيف يتم التأليف بينها ودفع التعارض عنها؟ هناك كتاب جمعه الشيخ زكريا علي يوسف رحمه الله من علماء أنصار السنة يدعى: دفاع عن الحديث النبوي ومشكلات الأحاديث، وهذا الكتاب شطر منه في حجية السنة والدفاع عنها، والشطر الآخر في دفع التعارض عن الأحاديث المشكلة، إذاً حجية السنة والدفاع عنها أيسر من هذه الكتب الأساسية، وبالذات لو أمكن كتاب: زوابع في وجه السنة قديماً وحديثاً، والسنة ومكانتها في التشريع، فنحن نحتاج بعد هذه الزوبعة التي أثارها الغزالي في كتابه: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث إلى التنبيه لبعض الكتب التي ردت عليه؛ لأن لصوته صدىً عالياً، وأحياناً تنتشر الضلالة فنحتاج للرد عليه، وأشهر كتاب معروف في الرد عليه هو كتاب: حوار هادئ مع الشيخ محمد الغزالي للشيخ سلمان العودة، أو كتاب: "جناية الغزالي على السنة وأهلها" للأخ أشرف عبد المقصود وهو جيد ولا بأس به، أو كتاب: المعيار لعلم الغزالي، لفضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، أو كتاب: أزمة الحوار الديني، وهذا من أفضل الردود للشيخ جمال سلطان، وإلا فهناك عشرات الكتب ألفت في الرد على الغزالي، لكن أوجزها من حيث التركيز والقوة مع صغر حجمها هما هذان الكتابان: المعيار لعلم الغزالي، وأزمة الحوار الديني، لـ جمال سلطان.(48/13)
الكتب المختارة في علم مصطلح الحديث
بالنسبة للمصطلح: فإنه يحفظ فيه أي متن في مصطلح الحديث، مثلاً: نزهة النظر في مصطلح أهل الأثر" للحافظ ابن حجر العسقلاني، أو " القصيدة البيقونية" أو قصيدة "غرامي صحيح" هي قصيدة في ظاهرها أنها قصيدة غزلية، ولكنها استوعبت أحكام الحديث، أو يحفظ "متن التقريب" للنووي، وفي الحقيقة فإن عامة الكتب التي تناولت علم المصطلح إنما هي فرع على كتاب ابن الصلاح في مصطلح الحديث، فإما اختصروه وإما هذبوه وإما شرحوه، فعامة الكتب الموجودة في المصطلح سواء هذه الكتب التي ذكرناها أو غيرها يدور حول كتاب الإمام ابن الصلاح رحمه الله تعالى.
وهناك ألفية السيوطي، وألفية العراقي، من وجد همة فالباب مفتوح، ولكن هذه من أخصر المتون، لو حفظت البيقونية ودرست شرحها فهذا جيد، أو نزهة النظر، أو غرامي صحيح، أو التقريب للنووي، وعلى حسب الكتاب الذي ستدرسه، فإن كنت مثلاً ستدرس "تدريب الراوي" للسيوطي فتحفظ معه متن التقريب للنووي، كذلك أيضاً كتاب الباعث الحثيث وهو شرح "مختصر علوم الحديث" للحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى كذلك قواعد التحديث للقاسمي، وتوضيح الأفكار للصنعاني، هذه كلها كتب في المصطلحات، إن كان ولابد من كتاب واحد مختصر على الطريقة المدرسية المبسطة والمجدولة، فليأخذ كتاب تيسير مصطلح الحديث للشيخ الطحان، لكن الكتاب الذي يرشح هنا أن يحفظ متن تقريب النووي ويدرس شرحه تدريب الراوي فهذا يكفي، أو نزهة النظر أو الباعث الحثيث -كما ذكرنا- أو قواعد التحديث للقاسمي أو توضيح الأفكار.
ويمكن أن تقرأ رسالة موفقة جداً في الناسخ والمنسوخ وهي: إخبار أهل الرسوخ بالناسخ والمنسوخ للإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى.(48/14)
الكتب المختارة في علم التخريج ودراسة الأسانيد
وهناك فرع آخر من علوم الحديث هو علم التخريج ودراسة الأسانيد، فأول كتاب ألف هو كتاب للدكتور الطحان أيضاً اسمه: أصول التخريج ودراسة الأسانيد للشيخ محمود الطحان، وهو شقيق الشيخ عبد الرحيم الطحان وهناك كتاب آخر اسمه "طرق تخريج أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الكتاب المختار والمرشح في هذا الفن هو كتاب قيم ومفيد جداً، وهو أوسع كتب التخريج كتاب يدعى: كشف اللثام عن تخريج أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، ويقع في مجلدين.(48/15)
أحاديث الأحكام
فرع آخر من فروع علم الحديث: أحاديث الأحكام، كما أن في القرآن آيات الأحكام فهناك كتب متخصصة ألفت في آيات الأحكام، كذلك في السنة هناك أحاديث الأحكام، وهي التي يمكن أن نعبر عنها بفقه الحديث أو فقه السنة؛ لأن البعض يقرأ ويحصل عندهم خلط، فبعض الإخوة إذا قلت له: ماذا تدرس في الفقه؟ يقول لك مثلاً: أدرس سبل السلام أو غيره من كتب أحاديث الأحكام، وأحسن منها دلالة فقه السنة، لكن الذي يحصل في أحاديث الأحكام هو أن الأئمة العلماء يجمعون أمهات الأدلة في المسائل الفقهية المشهورة في طريقة أبواب، ثم يشرحها عالم آخر أو هو نفسه، فهذا الفقه مقيد بفقه السنة مثل آيات الأحكام، فأنت إذا درست آيات الأحكام لا تكون قد ألممت بالفقه كله، وإنما ألممت فقط بالآيات التي تتعلق بالأحكام، كذلك أحاديث الأحكام هناك فرق بين دراسة الفقه، وبين دراسة فقه الحديث أو فقه السنة أو أحاديث الأحكام، فهذا خاص، أما الفقه ككل فهو لا يحتوي فقط على الأحكام من القرآن والأحكام من السنة، إنما يحتوي أيضاً جملة أخرى من الأدلة، سواء كانت أدلة متفق عليها أو أدلة مختلف فيها، هناك قياس، هناك الإجماع، هناك قول الصحابي، سد الذرائع، المصالح المرسلة، شرع من قبلنا وغير ذلك من الأدلة حسب الاختلاف في المذاهب في بعض هذه الأدلة من القرآن أو المذكورة أخيراً.
إذاً: الفقه أوسع وأعم من فقه الحديث، أو فقه القرآن، أو آيات الأحكام، أو أحاديث الأحكام، ومن القصور: أن يقتصر في دراسة الفقه فقط على القضايا التي وردت فيها أدلة من القرآن أو أدلة من السنة ولا شك أن هذه أمهات المسائل، والأصول هي: القرآن والسنة، لكن علم الفقه يشمل أوسع من ذلك، يشمل اجتهادات الفقهاء، وحكايات الخلاف والتفريق إلخ.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(48/16)
الهوية الإسلامية [1]
لا عز للمسلمين ولا كرامة إلا بالمحافظة على الهوية الإسلامية المبنية على العقيدة الصحيحة؛ فالمؤمن عزه في عقيدته؛ فعقيدته هي كل شيء بالنسبة له، فهي وطنه وهي أهله ونسبه، سلفه في ذلك أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم.(49/1)
حقيقة الهوية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لاسيما عبده المصطفى، وآله المستكملين الشرف.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فعن أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله تعالى عنها قالت: (كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر؛ لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء غدا عليه أبي وعمي مغلسين، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله! ما التفت إلي واحد منهما؛ مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم، والله! قال عمي: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم.
قال: فما في نفسك منه؟ فأجاب: عداوته والله! ما بقي).
كان حيي بن أخطب وأبو ياسر كلاهما من كبار علماء وزعماء اليهود في المدينة، وحينما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ذهبا إليه مغلسين، والغلس هو: الوقت الذي بعد الفجر مباشرة حين يختلط الضوء بظلمة الليل، فذهبا في هذا الوقت المبكر، ومكثا يراقبان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالّين ساقطين يمشيان الهوينى في غاية الإرهاق، قالت صفية رضي الله عنها: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله! ما التفت إلي واحد منهما، مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: أهو هو؟ يعني: أهو النبي المبشر به في التوراة والموصوف في التوراة بالصفات والخصائص المعروفة؟ قال: نعم، والله! يعني: إنه لهو النبي الذي بشرت به التوراة، قال عمي: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم.
قال: فما في نفسك منه؟ أي: ماذا عن موقفك؟ قال: عداوته -والله- ما بقيت! وهكذا هم اليهود.
والشاهد في هذا الحديث هو: كلمة (أهو هو؟) وإن كان علاقته بموضوعنا ليست علاقة مباشرة، لكن نحن نتخذه منطلقاً.
فقوله: أهو هو؟ إشارة إلى هوية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه هو الموصوف في التوراة.
وحديثنا هو عن الهوُية، والهوُية هي: حقيقة الشيء أو حقيقة الشخص التي تميزه عن غيره؛ فهي ماهيته وما يوصف وما يعرف به، كما دل عليه هذا الحديث، فالهوية هي المفهوم الذي يكون عليه الفرد من فكره وسلوكه اللذين يصدران عنه، من حيث مرجعهما الاعتقادي والاجتماعي، وبهذه الهوية يتميز الفرد، ويكون له طابعه الخاص.
وهي -بعبارة أخرى-: تعريف الإنسان نفسه بفكر وثقافة وأسلوب حياة.
والإنسان يحمل ما نسميها ببطاقة الهوية أو البطاقة الشخصية التي فيها: اسم هذا الشخص، وأنه -مثلاً- مسلم، يعمل كذا، وسنه كذا، ومولود في كذا، ويعيش في بلدة كذا، وهكذا، وإن كانت البطاقة الشخصية تحتوي فقط على بعض البيانات المحددة، أما مجال الهوية فمجالها أوسع؛ فهي تعبر عن كل قيم الإنسان، وكل ما فيه من صفات عقلية وجسمية وخلقية ونفسية.
فمثلاً: حينما يقول الإنسان: أنا مسلم.
فهذا انتماء لدائرة كبيرة جداً من دوائر الهوية ديانتها الإسلام، فإذا قال: أنا مسلم تعرف أنه مسلم، وإذا زاد وقال: أنا منهجي الإسلام الذي أحيا به فقد وضح أكثر، فإذا زاد أكثر حدد الدائرة بصورة أدق وأوضح، فإذا قال: أنا مؤمن ملتزم بالإسلام تميز أكثر عمن ينتسب إليه بالاسم، وإذا زاد وأوضح فقال: أنا مسلم سلفي عرفنا بمجرد كلمة (سلفي) أنه ليس خارجياً ولا معتزلياً ولا مبتدعاً، وأنه يعتقد في القضية الفلانية كذا وفي القضية الفلانية كذا، وأن هذه الصفة عبارة عن لافتة تعنون لجملة من الصفات الثابتة التي لا تتغير فيما بين الذين ينتمون إلى هذه الهوية.
فالفرد كما أن له هوية كذلك المجتمع والأمة لها هوية مستقلة تتميز بها عن غيرها، وإلا تشابهت الأمم كما يتشابه السمك في الماء.
وكلما توافقت هوية الفرد مع هوية المجتمع كلما تعمق إحساسه بالانتماء لهذا المجتمع واعتزازه به، أما إذا تصادمتا فهناك تكون أزمة الهوية وأزمة الاغتراب، وإلى معناها أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء) وفي بعض الروايات (قيل: من الغرباء؟ فقال: أناس قليل في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).(49/2)
منبع الهوية وتأثيرها
الانتماء الوجداني والانتساب إلى الهوية ينبع عن إرادة النفس، فالنفس تكون راضية بهذا الانتماء، إلى هذه الهوية، قابلة لهذا الانتماء راضية عنه، معتزة به، فهذا الانتماء هو الزمام الذي يملك النفس ويقودها، ويحدد أهداف صاحب الهوية، وهو الذي يرتب أولوياته في الحياة، فتعتز النفس به، وتندمج فيه، وتنتصر له، وتوالي وتعادي فيه، وفي نفس الوقت تبرأ من الانتساب إلى أي هوية أخرى مضادة أو مزاحمة لهذه الهوية التي يعتز بالانتماء إليها.
إذاً: هذا التفاعل النفسي ينتج عنه بطبيعة الحال اقتناء حواجز نفسية بين الشخص وبين كل من يخالفه في هذه الهوية، وفي نفس الوقت يقع الاندماج والتوحد مع الذين يوافقونه في هذه الهوية.
والهوية لها علاقة أساسية بمعتقدات الفرد ومسلماته الفكرية، والهوية هي التي توجه لاختيار هذا الفرد عند تعدد البدائل، فأنت إذا عرفت أن هذا هويته -مثلاً- مسلم فالأصل أن هذا المسلم يجتنب لحم الخنزير، ويجتنب الخمر، ولا يفعل كذا وكذا، ويعتقد كذا وكذا، وإذا عرضت عليه عدة اختيارات في أي قضية فطبقاً لانتمائه الاعتقادي وطبقاً لهويته فهذه الهوية هي التي سوف توجه اختياره أمام البدائل المتعددة، وبعبارة أخرى: الهوية هي التي تقوم بتهذيب سلوكه، وسلوكه يكون محدداً في إطار هذه الهوية، حيث يصبح سلوكه له غاية، كما أنها تؤثر تأثيراً بليغاً في تحديد سمات شخصيته، وإطفاء صفة الرجولة والاستقرار والوحدة على هذه الشخصية، وبالتالي إذا تحققت له عناصر وأفكار لهذه الهوية ونتج عنها الانتماء الذي تحدثنا عنه، فلا يمكن أبداً أن يكون صاحبها ذا وجهين يقابل هؤلاء بوجه وهؤلاء وجه كما وصف الله تعالى المنافقين بقوله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143].
فالشخص الذي حدد هويته لا يمكن أن يقع في هذا التذبذب، ولا يمكن أن تضطرب شخصيته، بل تكون ثابتة ومستقرة وشخصية واحدة، لا يمكن أن تتعدد وجوهه كما يحصل للمنافقين.
أما بالنسبة للمجتمع ككل فإن الهوية الواحدة أو المتحدة تصبح هي الواحة النفسية التي يلوذ بها أفراد الجماعة، وتكون هي الحصن الذي يتحصنون داخله، والنسيج أو المادة اللاصقة التي تربط بين لبناته، والتي إذا فقدت تشتت المجتمع، وتنازعته التناقضات.(49/3)
العقيدة الصحيحة هي الركن الأعظم للهوية الإسلامية
الهوية لها أركان عدة، لكن أهم أركانها على الإطلاق هو العقيدة، يليها التاريخ واللغة، فإذا تحدثنا عن الهوية الإسلامية نجد أنها مستوفية لكل مقومات الهوية الذاتية المستقلة، بحيث إن الهوية الإسلامية -بضم الهاء- تستغني تماماً عن أي لقاح أجنبي عنها، وتستعلي عن أن تحتاج إلى لقاح أجنبي يخصبها؛ فهي هوية خصبة تنبثق عن عقيدة صحيحة وأصول ثابتة رصينة تجمع وتوحد تحت لوائها جميع المنتمين إليها، وتملك رصيداً تاريخياً عملاقاً لا تملكه أمة من الأمم، وتتكلم لغة عربية واحدة، وتشغل بقعة جغرافية متصلة ومتشابكة وممتدة، وتحيا لهدف واحد هو إعلاء كلمة الله، وتعبيد العباد لربهم، وتحريرهم من عبودية الأنذال إلى عبودية الله عز وجل، وأي واحد من جنود الجيش الإسلامي الذي كان يفتح البلاد ويبشر وينشر ضياء ونور الإسلام إذا سألته سيردد جواب ذلك الصحابي الذي سئل: ما جاء بكم؟ فقال: الله جاء بنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الأديان، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، أو كما قال رضي الله تعالى عنه.
فالمسلم يعرف الهدف الذي يعيش له بمنتهى الوضوح، ويعرف الهدف المحدد الذي يحيا لأجله، وهذا ثمرة من ثمرات هذه الهوية، لكننا سنلقي أكثر الضوء على الركن الأعظم من أركان الهوية الإسلامية وهو ركن العقيدة، فجنسية المسلم هي عقيدته، ووطنه هو دينه الذي هو عصمة أمره، والهوية الإسلامية في المقام الأول تعني الانتماء للعقيدة انتماءًَ يترجم ظاهراً في مظاهر دالة على الولاء لها، والالتزام بمقتضياتها؛ فالعقيدة الإسلامية التوحيدية هي أهم الثوابت على الإطلاق في هوية المسلم وشخصيته، وهي أشرف وأعلى وأسمى هوية يمكن أن يتصف بها إنسان ينتمي إلى بني آدم؛ لأنها انتماء إلى أكمل دين، وأشرف كتاب نزل على أشرف نبي صلى الله عليه وسلم، وإلى أشرف أمة، وقد أرسل هذا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أشرف أمة بأشرف لغة وبسفارة أشرف الملائكة في أشرف بقاع الأرض في أشرف شهور السنة في أشرف لياليه وهي ليلة القدر، وبأشرف شريعة وأقوم هدي، ولذلك مدح الله القرآن العظيم وعظم هذه الهوية، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
وإن كانوا يذكرون هذه الآية في فضائل المؤذن، لكن هي في عمومها تشمل كل من ينتمي إلى الهوية الإسلامية، فالمؤذن تتجاوب معه كل المخلوقات، إذ لا يبلغ مدى صوت المؤذن شجر ولا حجر ولا أي مكان إلا وهو يصدقه فيما يقول، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، يقول الشجر والحجر وكل ما يسمع: صدقت.
ويقره على افتخاره ودعوته إلى هذه الهوية.
ويقول الله سبحانه وتعالى مبيناً أنه لا أحسن ولا أكمل من الهوية الإسلامية: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء:125]، وقال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
وبين تعالى أن صبغة الله هي التوحيد والإسلام والعقيدة، فإذا كان النصارى يصبغون أولادهم لينصروهم بما يسمى بالتعميد فصبغة الله هي فطرة التوحيد وعقيدة التوحيد، قال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138].(49/4)
كذب اليهود في ادعائهم أنهم شعب الله المختار
قال الله عز وجل مبيناً شرف هذه الهوية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] فأمة الإسلام وأمة التوحيد بشروطها هي خير أمة على الإطلاق؛ لأنها تجتمع على العقيدة وعلى التوحيد، لا على عرق ولا جنس ولا وطن ولا أرض ولا كلأ ومرعى كما تجتمع الحيوانات، وإنما تجتمع على هذه العقيدة وهذا التوحيد؛ ولذلك قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: عدولاً خياراً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
وقال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110] الآية؛ ولذلك في ضوء هذه الآية الكريمة كان بعض المجاهدين الفلسطينيين يواجهون كاهانا بقوله: نحن شعب الله المختار، فإنه كان يردد مزاعم اليهود أنهم شعب الله المختار، فكان المجاهدون يردون عليه بقولهم: بل نحن المسلمين شعب الله المختار؛ لأن الله تعالى قال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).
فهم يقولون: نحن شعب الله المختار، بصفة عنصرية، وأن ماعدا ذلك من الأمم فهم عبارة عن بهائم خلقت ليس فيها استعمال البشر، وإنما خلقت ليسخرها اليهود لعنهم الله تعالى، ولذلك لا نجد في العقيدة اليهودية تبشير باليهودية؛ لأنهم -كما قال بعض الظرفاء يعلل ذلك في ضوء أخلاق اليهود- يخافون أن الناس يشاركونهم في الجنة، فإذا دخلوا اليهودية واعتنقوها فسيشاركونهم في الجنة على زعمهم، وهم لشدة بخلهم وشحهم يخشون أن يدخل الناس معهم الجنة، وهذا قاله على سبيل المزاح، لكن هم يزعمون أنهم شعب الله المختار؛ لأنهم فئة مستقلة وعنصر معين، وهو هذا العنصر الإسرائيلي.
أما نحن فنحن بحق شعب الله المختار، لا بصفة قومية ولا عنصرية ولا عرقية، وإنما بصفة التوحيد الذي هو صبغة الله، وبصفة الهوية الإسلامية، وكيف لا تكون الهوية الإسلامية أشرف صبغة وأحسن دين وأعظم انتماء وهي في الحقيقة انتماء إلى الله عز وجل وانتماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتماء إلى عباد الله الصالحين وأوليائه المتقين من كانوا ومتى كانوا وأين كانوا؟! يقول تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56].(49/5)
أهمية الانضمام تحت لواء الهوية الإسلامية
قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].
هذا هو الانتماء لأمة الإيمان وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] يقول بعض المفسرين: إن عباد الله الصالحين هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ودعا الحواريون فقالوا: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:53] وقال الذين آمنوا من النصارى: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:84] يعني: أمل وغاية من أسلم منهم أنه يطمع ويسعى سعياً حثيثاً إلى الانطواء تحت لواء هذه الهوية الإسلامية، ولذا قالوا: (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ).
وكل مسلم يقول في صلاته: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، انتماءً وانتظاماً في هذا النظام وهذا العرق الذي يضم كل من ينتسب إلى حزب الله عز وجل، يقول الشاعر: ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا صلى الله عليه وسلم، فالأمر مهم جداً، وينبغي أن نلتفت إليه؛ لأنه في غاية الأهمية، ونحن نناقش أن موضوع الانطواء تحت الهوية الإسلامية والاندماج في الهوية الإسلامية ليس أمراً اختيارياً، وهذا كلام ليس فقط للمسلمين، ولكن لجميع البشر ولكل الناس، فيجب على جميع بني آدم أن ينتموا إلى الهوية الإسلامية، فالهوية الإسلامية ليس الانتماء إليها أمراً مستحباً، ولا أمراً تكميلياً أو كمالياً، ولكنه فرض متعين على كل بني آدم المكلفين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يقول الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، والآيات كثيرة جداً في بيان أن دعوة الإسلام دعوة شاملة لجميع البشر، حتى يندمجوا في الهوية الإسلامية، ويشهدوا شهادتي التوحيد، وينقادوا لحكم الله سبحانه وتعالى، ويكونوا من المسلمين، قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ} [الأنعام:19] يعني: يا من أنتم حاضرون! وهم قريش (ومن بلغ) يعني: ومن يبلغه القرآن إلى أن تقوم الساعة أيضاً، كلكم أنا أنذره بذلك، ويقول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي وبما أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) رواه مسلم.
إذاً: هذه الأمة محملة برسالة إدخال جميع البشر في الهوية الإسلامية، وهذا هو موقعها الطبيعي والقيادي، وذلك باعتبارها خير أمة أخرجت للناس، وباعتبارها الأمة الوحيدة المؤهلة لإنقاذ البشرية من الضياع في الدنيا ومن عذاب الآخرة.
فالسبيل الوحيد إلى النجاة في الآخرة لجميع الناس هو أن يذوبوا ويندمجوا في الهوية الإسلامية؛ لأن الهوية الإسلامية هوية تستوعب كل مظاهر الشخصية، وتحدد لصاحبها بكل دقة ووضوح هدفه ووظيفته وهوايته في هذه الحياة، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * {لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].(49/6)
الهوية الإسلامية مصدر العزة
الهوية الإسلامية هي مصدر العزة والكرامة، قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، وقال عز وجل: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8] قال عمر رضي الله عنه: (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله).
وهي هوية متميزة عما عداها؛ حيث إنها هوية في غاية الوضوح، ولا يمكن أبداً أن تختلط أو تلتبس بغيرها من الهويات، وهذا هو مبدأ البراءة من الشرك والمشركين، ويدل عليه قوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) والخطاب للكافرين: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ} [الكافرون:1 - 2] حالياً {مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ} [الكافرون:2 - 3] الآن {عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا} [الكافرون:3 - 4] في المستقبل {عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ} [الكافرون:5] في المستقبل {عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون:5 - 6] الباطل الذي أنا بريء منه {وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] الحق.(49/7)
سؤال الله عز وجل الهداية من أركان الهوية
هذا التميز بين الهوية الإسلامية وما خالفها من الهويات ثابت في كل حين، وقد فرض الله سبحانه وتعالى علينا معشر المسلمين في كل يوم وليلة أن ندعوه سبع عشرة مرة أن يهدينا الصراط المستقيم؛ حيث إن كلنا يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ثم يزيد هذا الصراط وضوحاً فيقول: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] الذي نحن ننتمي إليهم {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] وهذا من أركان الهوية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا).
وعرف اليهود ذلك، وشعروا أنه صلى الله عليه وسلم كان يتحرى أن يخالفهم في كل شئونهم الخاصة بهم، حتى ضجر اليهود من ذلك، وقالوا: ما يريد هذا الرجل -أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم- أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، وذلك حرصاً منه على تميز الهوية الإسلامية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم).
وقد صحت كثير من الأحاديث التي تفصل هذه المخالفة وتحض عليها في كثير من أبواب الدين، وهناك أحاديث كثيرة جداً في الصلاة وفي النكاح وفي الصيام وفي العادات وفي الأكل والشرب واللبس وفي سائر الأعمال حض النبي صلى الله عليه وسلم فيها على التميز عن المشركين وعدم موافقتهم.(49/8)
العلاقة بين الهوية الإسلامية والوطنية القومية
إذا قلنا: إن وطن المسلم أو وطن المسلم هي عقيدته، وجنسيته هي دين الإسلام، فما علاقة الهوية الإسلامية بالوطنية القومية؟ وهل هي علاقة تعارف؟ نقول: إن الهوية الإسلامية ابتداءً لا تعارض الشعور الفطري بحب الوطن الذي ينتمي إليه المسلم، ولا تعارض حب الخير لهذا الوطن، بل في الحقيقة إن المسلمين الصادقين هم أصدق الناس وطنيةً، وهم أنفع الناس لوطنهم؛ لأنهم يريدون لوطنهم سعادة الدنيا والآخرة، وذلك بتطبيق الإسلام وتبني عقيدته؛ لإنقاذ مواطنيهم من النار، كما قال مؤمن آل فرعون: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ} [غافر:29] وأدخل نفسه في جملة القوم، قال: {فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29].
أيضاً هؤلاء هم الذين يدأبون ويجتهدون في حماية أمتهم من التبعية لأعدائهم الذين يكيدون لأوطانهم، وقد تجلى هذا المفهوم واضحاً في قصة مؤمن آل فرعون المذكورة في سورة (غافر)، ويتجلى ذلك في كل مواقف وجهاد رموز الدعوة الإسلامية في كافة البلاد الإسلامية.
والوطن الحقيقي في مفهوم الهوية الإسلامية هو الجنة؛ لأن هذا هو الوطن الأصلي للمؤمنين؛ حيث كان فيه أبونا آدم عليه السلام.
ونحن في الدنيا في حالة نفي عن الوطن، وفي معسكر اعتقال عدونا الشيطان، فنحن في حالة نفي عن ذلك الوطن الحقيقي، ونحن في هذا المنفى ساعون في العودة إلى هذا الوطن، والمنهج الإسلامي والهوية الإسلامية هي الخريطة التي ترسم لنا طريق العودة إلى الوطن الأم، وهذا المعنى عبر عنه الإمام المحقق ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى بقوله: فحيَّ على جنات عدنٍ فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم فالجنة هي دار السعادة التي لا يبغي أهلها عنها حولاً، لا كما قال من سفه نفسه: وطني لو سئلت بالخلد عنه نزعتني إليه في الخلد نفسي أما في الدنيا فأيضاً الهوية الإسلامية تتحكم حتى في قلوبنا وفي عواطفنا، فنحن نحب جميع الأنبياء، ثم هناك مكانة خاصة للرسل، وأولهم أولو العزم من الرسل، وأفضلهم أشرف المرسلين وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد الأنبياء الأولياء، وأعظم الأولياء على الإطلاق الصحابة، وأعظم الصحابة على الإطلاق أبو بكر رضي الله عنه، ويليه عمر.
إن السمع والبصر والفؤاد والعواطف والحب كل ذلك ليس متروكاً لاختيارك، بل الهوية الإسلامية تحدد بقعة المحبة لكل شخص في قلبك، وأوليات هذه المحبة، وترتيب ذلك.
وكذلك بالنسبة للأوطان، فأحب الأرض إلى المؤمن في هذه الدنيا هي أولاً مكة المكرمة، ثم المدينة النبوية، ثم بيت المقدس، وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن محبته مكة المكرمة مبنية على أنها أحب بلاد الله إلى الله، وبعض الناس الذين يتبنون المفهوم الوثني للوطنية يحاولون أن يستدلوا بالحديث على ما يدعون إليه، حيث يحاولون أن يغذوا مفهوم الوطنية الوثنية بالحديث، ويقولون هذا دليل على حب الوطن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حنَّ إلى مكة وقال: (لولا أن قومكِ أخرجوني منكِ ما خرجت).
وهذا ليس دليلاً على حب الوطن، وإنما هو دليل على حب مكة؛ لأن مكة أحب بلاد الله إلى الله، فلذلك كل مسلم يحب مكة المكرمة قبل أي مكان آخر على وجه الأرض، وكذلك المدينة النبوية الطيبة، وكذلك بيت المقدس الذي بارك الله حوله؛ فمحبتنا لهذه البقاع التي اختارها الله وباركها وأحبها فوق محبتنا لمسقط رءوسنا، ومحضر الطفولة، ومرتع الشباب.
أما ما عدا هذه البلاد المقدسة فإن الإسلام هو وطننا، وهو أهلنا، وهو عشيرتنا؛ وحيث تكون شريعة الإسلام حاكمة وكلمة الله ظاهرة فثمَّ وطننا الحبيب الذي نفديه بالنفس والنفيس، ونذود عنه بالدم والولد والمال، يقول الشاعر: ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من لب أوطاني(49/9)
الوطنية الوثنية منتج غربي
الوطنية بمعناها المحصور في قطعة أرض إذا سألنا من الذي وضع هذه الحدود الوهمية التي لا نراها إلا على الخرائط، نجد أن الاستعمار هو الذي قسم هذه الحدود، وهو الذي شطرنا بهذه الطريقة؛ في حين أننا إذا رأينا الحدود بين دولهم في أوروبا نجدها بخلاف ذلك، وأنا رأيت الحدود بين هولندا وألمانيا عبارة عن شارع في وسطه رصيف ارتفاعه حوالى نصف متر أو أقل، يعني: ممكن أن تكون أحدى رجليك في هولندا والأخرى في ألمانيا، والناس يتحركون بمنتهى الحرية، هذه هي الحدود بينهم، والآن هم ساعون في إزالة هذه الحدود، بل فعلوا ذلك بالفعل عن طريق الوحدة الأوروبية التي تحققت بالفعل، فهم بقدر ما اجتهدوا في تمزيقنا كما تمزق الجبنة الرومي هم أيضاً يندمجون ويتوحدون ويلغون الحواجز بينهم، فهذه الحدود ليست في القرآن ولا في السنة، بل هذه الحدود إنما رسمها أعداؤنا، فالوطنية بمعناها المحصور في هذه الحدود أو في عرق أو لون أو جنس خاطئة، وهذا المفهوم مفهوم دخيل، لم يعرفه السلف ولا الخلف، وأول من أدخل مفهوم الوطنية الوثنية في بلاد المسلمين أو في مصر على الأقل هو رفاعة الطهطاوي لما أرسله محمد علي إلى فرنسا ورجع ملوثاً ببعض الأفكار من فرنسا منها فكرة الوطنية، وهو أول من بدأ ينشر روح الوطنية بالمعنى الوثني، والارتباط بالتراب وبالأرض ونحو هذا الكلام الذي استورده من الأفكار التي تأثر بها في فرنسا، فطرأ علينا هذا المفهوم المحدود الضيق ضمن ركام المفاهيم المخربة التي زرعها الغربيون وأذنابهم لمزاحمة الانتماء الإسلامي، وتوهين الهوية الإسلامية التي ذوبت قوميات الأمم، والتي فتحتها في قومية واحدة هي القومية الإسلامية، والوطنية الإسلامية، ودمجتها جميعاً في أمة التوحيد.
وهاكم شهادة شاهد من أهلها، وهو المؤرخ اليهودي برنارد لويد، حيث يقول هذا المؤرخ اليهودي: كل باحث في التاريخ الإسلامي يعرف قصة الإسلام الرائعة في محاربته لعبادة الأوثان منذ بدء دعوة النبي، وكيف انتصر النبي وصحبه وأقاموا عبادة الإله الواحد التي حلت محل الديانات الوثنية لعرب الجاهلية، وفي أيامنا هذه تقوم معركة مماثلة أخرى، ولكنها ليست ضد اللات والعزى وبقية آلهة الجاهليين، بل ضد مجموعة جديدة من الأصنام اسمها الدولة والعنصر والقومية، وفي هذه المرة يظهر أن النصر حتى الآن هو حليف الأصنام، فإدخال هرطقة القومية العلمانية أو عبادة الذات الجماعية كان أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط، ولكنها مع كل ذلك كانت أقل المظالم ذكراً وإعلاناً.
وهذا اعتراف صريح من هذا اليهودي بأن الغرب هو الذي زرع ظلماً وعدواناً مفاهيم القومية والعلمانية ليوهن ويضعف الهوية الإسلامية.
ويقرر هذا المؤرخ نفسه حقيقة ناصعة فيقول: فالليبرالية والفاشية والوطنية والقومية والشيوعية والاشتراكية كلها أوروبية الأصل مهما أقلمها وعدلها أتباعها في الشرق الأوسط، والمنظمات الإسلامية هي الوحيدة التي تنبع من تراب المنطقة، وتعبر عن كتل المشاعر الجماهيرية، وبالرغم من أن كل الحركات الإسلامية قد هزمت حتى الآن غير أنها لم تقل بعد كلمتها الأخيرة.
انتهى كلام هذا اليهودي.(49/10)
العقيدة الإسلامية هي منظار القيم والأفكار والمبادئ
إن العقيدة الإسلامية هي المنظار الذي يرى المؤمن من خلاله القيم والأفكار والمبادئ، ومن خلالها يحكم على الأشخاص وينزلهم منازلهم، والعقيدة الإسلامية هي المرشح المهيمن الذي يقوم بترشيح التراث التاريخي، وكل تراث كان لأي أمة قبل دخول الإسلام فهذا التراث يخضع لهيمنة الإسلام، إذ لابد أن يقوم الإسلام بترشيحه في ضوء عقيدة التوحيد، فتراث الأجداد والآباء والتاريخ القديم يخضع لهذا المشرح؛ فما وافق العقيدة يُقبل، وما خالفها يُتخلص منه وينبذ؛ فالعقيدة هي المرشح المهيمن الذي يقوم بترشيح التراث التاريخي؛ ليحدد ما يُقبل منه وما يُنبذ.
مثال: فرعون وملؤه كانوا مصريين، لكنهم كانوا كفاراً وثنيين، وموسى عليه السلام وأتباعه من بني إسرائيل كانوا مؤمنين مسلمين، فواجب المؤمن في ضوء العقيدة الإسلامية ألا يفخر بفرعون ويعادي موسى وأتباعه المؤمنين، رغم عدائنا لليهود؛ فإن أكثر علماء اليهود ليسوا مسلمين، لكن نقول: الذين اتبعوا موسى هم على دين الإسلام، فواجب المؤمن أن يعادي أعداء الله ويبرأ منهم ولو كانوا من جلدته ويتكلمون بلسانه، ويوالي حزب الله وأولياءه من كانوا وأين كانوا ومتى كانوا، يقول تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28].
ويقول تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22].
إلى آخر الآيات الكريمات، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].
مثال آخر: قال تعالى في الملأ المؤمنين من بني إسرائيل: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:250] وجالوت وجنوده كانوا كنعانيين فلسطينيين، ومع ذلك نحن بقلوبنا نوالي بني إسرائيل المؤمنين، ونعادي الكفار ولو كانوا فلسطينيين، قال تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة:250 - 251] إلى آخر الآية.
إذاً: نحن حينما نتلو هذا القرآن الكريم نعد هذا النصر نصراً لعقيدتنا ولديننا ولهويتنا الإسلامية على هؤلاء الكافرين وإن كانوا فلسطينيين.
أوضح من هذا وأصرح أن نقول: إنه لو قُدر أن الله سبحانه وتعالى بعث الآن في هذا الزمان داود وسليمان عليهما السلام إلى الحياة من جديد فنحن نجزم حتماً وقطعاً أنهما سيكونان متبعين لشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، مصداق قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] فما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث محمد وأنت حي لتؤمنن به ولتنصرنه، فداود وسليمان لو عادا الآن لانضما قطعاً إلى المسلمين المجاهدين، ولما وافقا اليهود على ما يسمونه بإعادة بناء هيكل سليمان؛ لأن سليمان يعرف أن شريعته نُسخت، وأنه إذا بعث بعد محمد عليه السلام فلا مكان له إلا أن يكون متبعاً له ولشريعته، فسيبقي المسجد الأقصى، ويصلي فيه، ويحارب اليهود أعداء الله عز وجل.
ومصداق ذلك أيضاً أن النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى الصحائف من التوراة في يد رجل من المسلمين من الصحابة رضي الله عنهم غضب أشد الغضب وقال: (أمتهوكون أنتم؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والذي نفسي بيده! لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).
أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فنحن في ضوء الهوية الإسلامية أولى بموسى عليه السلام من اليهود، ونحن على دين موسى، وهم ليسوا على دين موسى، ولو بعث الله موسى وداود وسليمان لحاربوا اليهود والنصارى والعلمانيين وسائر الملحدين، ولعبدوا الله في المسجد الأقصى على شريعة الإسلام كما كانوا يعبدونه وحده فيه قبل نسخ شريعتهم، ولرفعوا راية الجهاد في سبيل تطهير فلسطين من قتلة الأنبياء أحفاد القردة والخنازير الملعونين على لسان الأنبياء.
ونذكر مثلاً حياً سيقع قطعاً، وهو: أن عيسى عليه السلام حين ينزل في آخر الزمان سوف يحكم بالإسلام، ويحكم بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ويصلي أول نزوله مأموماً وراء المهدي، ويقاتل اليهود، بل هو الذي سيقود المسلمين في حربهم ضد اليهود، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى الناس بعيسى ليس بيني وبينه نبي).
فنحن المسلمين أولياء المسيح وأحباؤه، ونحن أتباعه على دين الإسلام الذي جاء به ودعا إليه، ونحن المقصودون بقوله تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55]، وما أحسن ما قاله صاحب الظلال غفر الله له: عقيدة المؤمن هي وطنه، وهي قومه، وهي أهله، ومن ثمَّ يتجمع البشر عليها وحدها لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج، والمؤمن ذو نسب عريق ضارب في شعاب الزمان، إنه واحد من ذلك الموكب الكريم الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى ومحمد عليهم جميعاً الصلاة والسلام.(49/11)
رابطة الأخوة الإسلامية من أعظم أركان الهوية الإسلامية
قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] تربط هذه العقيدة الإسلامية -التي هي الركن الأعظم في الهوية الإسلامية- المسلم بأخيه، حتى يصير المسلم وأخوه كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فربط الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك، ورجلك بساقك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتواددهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
ومن الأشياء البديعة أن القرآن الكريم يطلق النفس ويريد بها أخاك في الإسلام وفي الهوية الإسلامية؛ تنبيهاً على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه، كما قال تعالى: {وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة:84] والمقصود: لا تخرجون إخوانكم في العقيدة وفي الهوية الإسلامية من دياركم، فأطلق على الإخوان الأنفس، مما يدل على قوة الاندماج والذوبان في الهوية الإسلامية، وقال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12]، والمقصود: ظنوا بإخوانهم خيراً، فعبر عن الإخوان بالأنفس، وقال تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] أي: لا تلمزوا إخوانكم على أصح التفسيرين.
إذاً: العقيدة -كما قلنا- هي المادة اللاصقة التي تربط لبنات المجتمع الإسلامي، وإذا وجدت فإنها تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية، حيث لا يمكن أن تقع، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، إذ لا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر، ومع ذلك فالإيمان هو الفيصل في هذه القضية، يقول تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، ويقول تعالى: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103].
هذه الرابطة التي تجمع المختلف وتألف المختلف هي رابطة لا إله إلا الله، هذه الرابطة تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد واحد كالبنيان يشد بعضه بعضاً.
ولم تربط فقط بين أهل الأرض من المؤمنين، وإنما أيضاً ربطت بين حملة العرش ومن حول العرش من الملائكة وبين بني آدم المؤمنين في الأرض، مع ما بينهم من الاختلاف؛ فإن هؤلاء ملائكة وهؤلاء بشر من بني آدم، وهم مختلفون في الخلق والتكوين، لكن مع ذلك فإن الانتماء للهوية الإسلامية يربطك ليس فقط بالمؤمنين على وجه الأرض، وإنما يربطك بكل هذا الكون المؤمن، وتشعر بالولاء له، لا كما يفترض الغربيون الجهلة بالله وبسننه عز وجل، حيث يجعلون الإنسان دائماً في حالة صراع مع الطبيعة.
فهذه الطبيعة ليست عدوة للإنسان، بل -إن جاز التعبير- مظاهر الطبيعة هي إخوان له في الله، وإخوان له في التوحيد، والأدلة على ذلك كثيرة جداً.
نذكر مثالاً على ذلك بالوزغ الذي حرضنا الرسول صلى الله عليه وسلم على قتله، وعلل ذلك بأنه كان ينفخ النار على إبراهيم لما ألقاه قومه في النار، فانظر إلى العداوة لهذا النوع من الحيوانات لأجل أنه فعل ذلك مع إبراهيم، وانظر إلى جبريل عند إغراق فرعون، فإنه: (لما أدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90])، يقول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: (فلو رأيتني -يا محمد- وأنا أدس في فيه من حال البحر خشية أن تدركه الرحمة).
فجبريل كان يعادي فرعون لأنه عتا وطغى ونازع الله سبحانه وتعالى، وكفر بالله العظيم، فجبريل كان يبغضه من أجل ذلك، فخشي جبريل أن تنقذه هذه الكلمة التي قالها وهو يهلك، فكان يأخذ من طين البحر ويدس في فيه مخافة أن تدركه الرحمة إذا نطق بهذه الكلمة التي قالها عند الهلاك، والتي لا تنفعه قطعاً.
كذلك إذا أحب الله عبداً في السماء، نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في ملائكة كل سماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وهذا مظهر من مظاهر هذا التوحد مع الكائنات من حولنا.
يقول تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:7]، انظر إلى كلمة: (يؤمنون به) هي المادة اللاصقة، {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] وهذا هو الرابط في العقيدة والهوية الإسلامية، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7].
وتأمل قول الله سبحانه وتعالى في أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3]، وقابل ذلك بمكانة سلمان الفارسي، وبلال الحبشي وصهيب الرومي رضي الله عنهم أجمعين، فما خوطبوا أبداً على أساس أن هويتهم أن هذا رومي، وهذا فارسي، وهذا حبشي، كلا! وإنما كلهم متساوون كأسنان المشط أمام هذه العقيدة وهذا التوحيد، يقول الشاعر: لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم انظر ما آل إليه، وقد أجمع العلماء على أن الرجل إذا مات وليس له من الأقرباء إلا ابن واحد كافر فتركته وميراثه يئول إلى إخوانه المسلمين بأخوة الإسلام؛ لأن هذه هي القرابة الحقيقية، ولا يكون الإرث لولده لصلبه الذي هو كافر، مع أن الميراث دليل القرابة، فدل ذلك على أن الأخوة الدينية أقرب من البنوة النسبية.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم) فوصفهم بصفة الإسلام، وما قال: المصريون، وما قال: الشاميون، وما قال: اليمانيون، وإنما قال: المسلمون.
وهكذا كل خطاب في القرآن (يا أيها الذين آمنوا) لم يخاطب قوماً غير أهل الهوية الإسلامية.
واعتبر أيضاً هذا المعنى بقول الله تبارك وتعالى مخاطباً نوحاً عليه السلام في شأن ابنه الكافر حيث قال: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] وفي قراءة: (أنه عَمِلَ غير صالح) وهو ابنه من صلبه، ولكن الميزان عند الله سبحانه وتعالى في ضوء الهوية الإسلامية ومدار الأهلية هو القرابة الدينية، ولذا قال سبحانه: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) لماذا؟ (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) لم يكن معك على عقيدة التوحيد، ولم يكن مندمجاً في الهوية الإسلامية كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه: (ألا وإن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، ألا وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت لحمته).
واعتبر ذلك أيضاً بقصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه الكافرين، وتأمل قوله عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].
وتأمل موقف المسيح عليه السلام مع قومه بني إسرائيل، وكيف انقسموا فوراً إلى أنصار مؤمنين وأعداء كافرين، على أساس موقفهم من دعوتهم إلى الاندماج في العقيدة الإسلامية.
وتأمل أيضاً كيف يأمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نقتدي بهم في هذا، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14] فهم في الحال صاروا أعداء لما خالفوهم في هذه العقيدة.(49/12)
محافظة الكفار على هويتهم
الكفار يستكثرون علينا هذه الرابطة وهذه الهوية، في حين أن تصرفاتهم تبنى على أساس هذه الهوية.
وأذكر على ذلك نموذجاً عابراً يبين كيف أن الهوية العقائدية هي التي تحدد وتوجه سلوك هؤلاء القوم: في كتاب الصربيون خنازير أوروبا للدكتور عبد الحي الفرماوي يقول: في رحلة من رحلات عبد الناصر لحضور أحد مؤتمرات عدم الانحياز في بلغراد، استعد المسلمون في يوغسلافيا وقالوا: عبد الناصر قادم من مصر بلد الأزهر وبلد الإسلام، وهناك صداقة حميمة بينه وبين تيتو، فأعدوا مذكرة لعرضها على الرئيس جمال عبد الناصر بصفته زعيم مصر الإسلامية بلد الأزهر الشريف، وموطن الأئمة الأعلام من العلماء والمحدثين والفقهاء، ومقر مجمع البحوث الإسلامية ومجمع اللغة العربية، والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، هذه المذكرة كان الغرض منها أن يتدخل جمال عبد الناصر لدى صديقه تيتو حتى يخفف من وطأة النظام الشيوعي على المسلمين في يوغسلافيا، لاسيما في البوسنة والهرسك وعاصمتها سراييفو؛ حيث يشكل المسلمون فيها أغلبية ساحقة بالنسبة إلى بقية البلدان الأخرى التي يتشكل منها الاتحاد اليوغسلافي، واشتملت المذكرة على المعاناة التي يلاقيها المسلمون على يد الشيوعيون اليوغسلافيين، وعلى حرمانهم من معظم الحقوق المشروعة التي يتمتع بها المواطن العادي، وعلى القوانين الجائرة التي كان يصدرها تيتو، والتي كانت تستهدف المسلمين وحدهم دون بقية الطوائف الأخرى في مجالات التعليم والثقافة والحقوق السياسية والتمثيل النيابي، وفي التضييق عليهم عند ممارستهم شعائرهم الدينية، وفي إهمال مساجدهم فلا بناء لجديد ولا ترميم لقديم، مما جعل معظم المساجد آيلة للسقوط، وما أن تسلم عبد الناصر المذكرة العاجلة من أحد زعماء المسلمين على رأس وفد من علماء سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك حتى امتعض وجهه، وتقطب جبينه، وقال بالحرف لرئيس الوفد: (إن مصر لن تسمح بأن تقحم نفسها في الشئون الداخلية للدول الصديقة، وأرجو ألا يتكرر ذلك مرة أخرى!) ثم أنهى المقابلة.
وزيادة في مضايقة وفد المسلمين الذي جاء بالمذكرة ومجاملة لـ تيتو ألغى عبد الناصر المنح التعليمية والأزهرية لطلبة المسلمين في البوسنة والهرسك ذلك العام! إن جمال عبد الناصر الذي رفض مذكرة علماء المسلمين في يوغسلافيا هو نفس جمال عبد الناصر الذي استجاب لمطلب نيكيتا خروتشيف رئيس الاتحاد السوفيتي، فحين هبط خروتشيف إلى مطار القاهرة كان جمال عبد الناصر في استقباله، وبعد أن صافح كل منهما الآخر وضع خروتشيف يده في جيبه الأيمن وأخرج كشفاً بأسماء الشيوعيين المصريين في السجون والمعتقلات، وقال في دعابة خبيثة: لن أحضر احتفال غمر الأنفاق بالمياه قبل أن يفرج عن الشيوعيين المصريين في سجون مصر ومعتقلاتها، وقبل أن يغادر الرئيسان مطار القاهرة كانت التعليمات قد صدرت إلى مدير مصلحة السجون وأجهزة الأمن الأخرى بالإفراج عن الرفاق المحظوظين الواردة أسماؤهم في كشف خروتشتيف رغم أن بعضهم كان مداناً بجريمة الخيانة العظمى! ومع ذلك فلم يعتبر عبد الناصر ما حدث من خروشتوف تدخلاً سافراً عرياناً في شئون مصر الداخلية.
ونفس الشيء حصل لما قدمت مذكرة طبق الأصل من مذكرة عبد الناصر لـ أحمد سوكارنو وكان مصيرها نفس المذكرة.
والموقف الآخر أيضاً من يوغسلافيا فيما يتعلق بالمعاملة الوحشية للمسلمين، وهذه المذابح الأخيرة لفتت النظر، أما المذابح القديمة على يد خروتشيف وقبله أيضاً بعد الحرب العالمية فما كاد يسمع عنها أحد شيئاً، وكثير من المسلمين ما كانوا يعرفون أن يوغسلافيا في هذا الكم الهائل من الشعوب الإسلامية دولة في منطقة البلقان؛ لأننا نهمل الاطلاع ومعرفة أجزاء جسدنا، ولا نعرف هويتنا.
كان هناك كاتب إسلامي يدعى علي عزت بيغوفتش كان قد ألف كتاباً في سنة (1970م) اسمه: (البيان الإسلامي)، اعتبر تيتو وحكومته الشيوعية هذا الكتاب خطراً يهدد أوروبا الشيوعية، فقالوا في إدانة هذا الكتاب: إن هذا الكتاب ميثاق عمل إسلامي يضم المسلمين من إندونيسيا حتى المغرب في اتحاد وسيف متكاتف، وفور ظهور الكتاب الإسلامي اعتقلوا صاحبه علي عزت بيغوفتش، وألقوه في غياهب السجون، وخلال إحدى زيارات تيتو المتكررة إلى مصر طلب الشيخ الباكوري وزير الأوقاف حينئذ من الرئيس عبد الناصر أن يفاتح تيتو في الإفراج عن الزعيم المسلم الذي أودع المعتقل، ويجري تعذيبه في بلغراد، وعندما استفسر جمال من صديقه تيتو عن هذا الموضوع أجابه قائلاً: إن هذا الرجل أخطر من تنظيم الإخوان المسلمين عندكم في مصر، وهو يطالب بأن تتولى الحركة الإسلامية السلطة في أي بلد تكون لها فيه الأكثرية العددية، كما أن هذا الرجل يرصد كل ما هو غير إسلامي في مجتمع المسلمين، ثم توقف تيتو قليلاً وسأل عبد الناصر: لماذا تتوسط له وأنت تتخذ نفس الموقف منهم في مصر؟! وسكت عبد الناصر لقوة الحجة والمنطق التي تحدث بها تيتو.
وهذا موقف عقائدي ينبني على انتماء لهوية تتجاوز حدوث الأرض والأوطان؛ لكي تكون العقيدة هي المسيطرة، فلماذا يكون ذلك حلالاً لهم وحراماً علينا؟!(49/13)
الهوية الإسلامية هي الفطرة
إن الهوية الإسلامية المتميزة هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، قال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138]، ولا يعرفها ثم يرغب عنها إلا من سفه نفسه، وإلا من استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
إن الذي يفهم معنى الهوية الإسلامية وثمار الهوية الإسلامية سواء في الدنيا أو في الآخرة، والشرف الذي يطلبه من ينطوي تحت هذه الهوية الإسلامية إذا كان أستاذاً عاقلاً فضلاً عن مسلم مؤمن يدرك هذه المعاني؛ فالإنسان العاقل فضلاً عن المسلم المؤمن لا يأتي ويقول للذين كفروا: {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]، إذ لا يمكن أن يصدر ذلك ممن فهم معنى الهوية الإسلامية.
ولا يعرف مفكر أو داعية مسلم مخلص لهذه الأمة قد تلطخ بالدعوة إلى هوية غير الهوية الإسلامية، بل العكس هو الصحيح، فالدعوة إلى الهويات المزاحمة والمضادة للهوية الإسلامية لم تترعرع إلا في أحضان أعداء ديننا الذين لا يألوننا خبالاً، وإلا في كنف الدعاة على أبواب جهنم الذين هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ممن رباهم الاستعمار في محاضنه، وصنعهم على عينه، وأقامهم وكلاء عنه في إطفاء نور الإسلام، ومحو الهوية الإسلامية من الوجود.(49/14)
موقف المسلم من الهوية الإسلامية
ماذا عن موقفنا الآن من الهوية الإسلامية؟ لا شك أن المسلمين لم يكتشفوا أنفسهم، ومن المؤلم جداً أن أعداءنا يكتشفوننا بطريقة أفضل منا، ويفهموننا أكثر مما نفهم نحن حقيقة موقعنا في هذا الوجود، وبلا شك أن عند معظم شباب العالم الإسلامي الآن أزمة هوية، وأزمة اختراق؛ لأنهم يجهلون هذه الهوية؛ لأنه تم غسيل عقولهم.
فمثلاً: هل يمكن أن ترى من يحمل الهوية الإسلامية ثم يفعل هذه الأشياء كالشاب الذي يعلق علم أمريكا في عنقه، أو في سيارته، ويتزين ويفخر بالعلم الأمريكي؟! فما الذي يمنعه -إذن- أن يعلق علم إسرائيل؟! وهكذا ترى من يتهافت على تقليد الغربيين في مظهرهم وفي مخبرهم، ومن المسلمين من يتخلون عن جنسية بلادهم الإسلامية بغير عذر ملجئ، ثم يفتخرون بأنهم فازوا بجنسية البلاد الكافرة، وللأسف الشديد! فهل هذا من المحافظة على الهوية الإسلامية؟ وكيف يتخلى طواعية عن جنسية إسلامية، ثم ينضوي تحت لواء كافر، ويقسم القسم للدفاع عن الدولة الكافرة في حالة تعرضها لاعتداء وهو منتسب للهوية الإسلامية؟! إن هذا ضلال مبين.
وبعض الإخوة الذين يذهبون إلى الخارج لزيارة أهاليهم ممن تلطخوا بالجنسية الكافرة يشتكون من سوء مقابلة أهلهم الذين يقولون: إن أهالينا عندما نذهب لزيارتهم يقولون: ما الذي جاء بكم إلى هنا؟ فأين الانتماء والهوية التي يحملها المتلطخون؟! مثل المذيع الذي يعمل بوقاً ينفخ فيه العدو الصائل على المسلمين لأجل حفنة دولارات أو جنيهات إسترلينية أو غير ذلك، فيذهب ويقبل أن يعمل مذيعاً بوقاً يستعملونه كآلة لمحاربة الإسلام وتوجيه حملات الحرب الباردة ضد المسلمين.
وأقبح ما يكون هو ضياع الهوية في الشخص الذي يعمل جاسوساً لأعداء أمته وأعداء دينه، وأن يبيع نفسه لأعداء وطنه المسلم من أجل تحصيل متاع زائل، وهذا من أزمة الهوية، بل إنك تجد أستاذاً في الجامعة يسبح بحمد الغرب صباح مساء، ولا يقبل أي نقد للغرب ولا لضياع الغرب، وهذا يعاني من أزمة هوية.
ومثل هذا مدعي الإسلام الذي يقبل الانتظام في جيوش الدولة الكافرة المحاربة للإسلام، فبعض الناس ينظم للجيش الأمريكي، ومثل هذا ليس عنده هوية، بل قد ضاعت هويته.
وهكذا كل ببغاء مقلد يلغي شخصيته، ويرى بعيون الآخرين، ويسمع بآذانهم، وباختصار فإنه يسحق ذاته ليكون جزءاً من هؤلاء الآخرين.
وهذا نموذج موجود الآن بكثرة وهو: أنه حتى في أدق الأشياء يقول لك بعض الناس: لا تعمل كذا، فإن الأجانب سيقولون علينا كذا! إنه شيء غريب جداً! وهكذا الناس الذي يحتفلون بالاحتلال الفرنسي لمصر! فإن فرنسا الآن لأول مرة تطلب رسمياً من مصر أن تحتفل بالحملة الفرنسية بقيادة نابليون على مصر! يا للمصيبة! وبعض الناس تحتفل، ولا يحتفل بالاحتلال إلا الخونة؛ إذ كيف يحتفلون باحتلال مصر؟! وبالحملة الفرنسية التي قتلت المسلمين، والتي دخلت الجامع الأزهر بالخيول، وحولوا الأزهر إلى إسطبل، فضلاً عن غير ذلك من المسالك التي فعلها نابليون!! ومع ذلك يأتي يوم يحتفل بهم! ونحن نعجب فإن مثل هذا اليوم يوضع في ضمن أسباب عداء الغازين المحتلين، أما الآن فصار يحصل احتفال بهذا الاحتلال؛ والله المستعان!(49/15)
حقارة من يتنازل عن الهوية الإسلامية
إن هؤلاء الذين يذوبون في هوية غيرهم، ويبتغون عندهم العزة في الحقيقة أنهم يعودون مذمومين مخذولين من الفريقين، ويعاملهم الله بنقيض قصدهم، فهم يريدون العزة عند الكافرين، فيتحقق فيهم قول القائل: باء بالسخطتين فلا عشيرته رضيت عنه ولا رضيت عنه العباد لأنهم يحتقرون من يتنازل عن هويته، وهذا شيء نعاير به واقع المسلمين في قضية الهوية.
وكم رأينا الحيز الإعلامي الذي لم يسبق له مثيل الذي شغله موت أميرة ويلز في كل أرجاء العالم المنتسب إلى الإسلام وإلى الهوية الإسلامية! ورأينا ما صار إليه هذا الإعلام من السقوط، بينما نجد الإعلام غافلاً عن موت الشيخ محمود شاكر رحمه الله في نفس الفترة! وهذا يكشف لنا أزمة الهوية التي نعاني منها، وقضية الهوية هي قضية محورية أزعجت كل الناس إلا أصحابها والمشكلة تكمن في أن أكثر المسلمين اليوم لما يقتنعوا أن الأعداء من حولهم على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم لا هدف لهم إلا استئصال شأفة الإسلام، وطمس الهوية الإسلامية وصهرها في دائرة العالمية الأممية، وإزالتها من الوجود؛ لأنها هي لا غيرها الخطر الماثل أمام القوى الراغبة في احتواء العالم الإسلامي والسيطرة عليه سيطرة فعلية ودائمة، يقول تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، وقال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وقال سبحانه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
إن أي جماعة تملك الهوية سوف تجد في عالم تحكمه شريعة الغاب من يحاول الهيمنة عليها وتذويب شخصيتها عن طريق تدمير البنية التحتية لهويتها العقائدية والثقافية، ويجعل سياجاً على شخصيتها؛ فيتحول الإنسان إلى كائن تافه فارغ غافل مغسول المخ تابعٍ مقلد.
إن هويتنا الإسلامية هي مصدر عزتنا، كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8] فحين تمسكنا بهذه الهوية سدنا العالم كله، حتى كنائس أوروبا لا تجرئ على دق نواقيسها حينما كانت السفن الإسلامية تعبر البحر المتوسط، يعني: أنهم لهيبتهم من المسلمين كانوا يتوقفون عن دق أجراس الكنائس إذا عبرت الجيوش الإسلامية البحر المتوسط أو مرت في موانيها.
ومن أراد أن يدرك الفرق بين العزة التي تكتسبها الأمة من الهوية الإسلامية وبين الذل حين تخلت عن هذه الهوية الإسلامية فلينظر إلى النموذج التركي الممسوخ؛ إنه أقبح صورة لمسخ الهوية، وأقبح مثال يمكن أن يضرب بالضياع والذل والهوان والخيانة التي يتنفس بها من تخلوا عن الهوية الإسلامية، حتى إن كل إعلام العالم يشتكي من فساد القنوات الفضائية التركية والانحلال الذي فيها، فبعدما كانت عاصمة الخلافة صارت الآن يخشى من الفساد الذي يبث منها، فمن أجل أن يتخلوا عن الإسلام حاربوا الإسلام، وفعلوا كل ما فعلوا من أجل أن يرضى عنهم الغربيون، ويدخلوهم في التجمع الأوروبي، لكن مع كل هذا احتقروهم وساموهم سوء العذاب والهوان والذل، ومع أن الدواء واضح وهو العودة إلى مصدر العز، لكنهم يأبون إلا الذل والهوان، فهذا أقبح نموذج لمسخ الهوية وما يترتب عليه من ضياع وهوان ومذلة.
فحين تخلينا عن هذه الهوية نزع الله من قلوب عدونا المهابة منا، وقذف في قلوبنا الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).
فإضعاف الهوية الإسلامية هي عملية انتحار جماعي، إن أي خلل في الهوية هو عبارة عن انتحار، فينتهي إلى الضياع وإلى التذبيح؛ فإضعاف هذه الهوية هو أخطر وأشد فتكاً بالأمة من نزع سلاحها.(49/16)
حرص أعداء المسلمين على إبعاد المسلمين عن هويتهم
مما يؤسف له أن أعداءنا يدركون جيداً أن الهوية الإسلامية أقوى سلاح، فالهوية الإسلامية في نظر أعدائنا أقوى من القنابل النووية أو القنابل الهيدروجينية والأسلحة الفتاكة كلها.
وهذا الكلام ليس من جيبي ولا من عندي، وإنما هو من بعض تصريحات ساستهم، ففي آخر سنة (1967م) ألقى وزير خارجية الدولة اللقيطة محاضرة في جامعة برنستون الأمريكية فقال في هذه المحاضرة بعد النكسة مباشرة: يحاول بعض الزعماء العرب أن يتعرف على نسبه الإسلامي بعد الهزيمة، وفي ذلك الخطر الحقيقي على إسرائيل! انظر كيف يتكلم وهو منتصر في حرب الأيام الستة، ومع ذلك انظر إلى الخوف من الإسلام! فمع أنه كان في حالة انتصار لكنه يقول: يحاول بعض الزعماء العرب أن يتعرف على نسبه الإسلامي بعد الهزيمة، وفي ذلك الخطر الحقيق على إسرائيل! ولذا كان من أول واجباتنا أن نبقي العرب على يقين راسخ بنسبهم القومي لا الإسلامي! والمجتمع اليهودي في فلسطين يتألف من مهاجرين من أكثر من مائة دولة مختلفة، فهي تجمع من الشتات أنواعاً مختلفة، فهم من كل أفق أتوا من أكثر من مائة دولة من كل أنحاء العالم، ويتكلمون سبعين لغة مختلفة من شتات الأرض، ولكن جمعتهم عقيدتهم الواحدة رغم اختلاف اللغات والألوان والقوميات والعناصر والأوطان.
وهذا أحدهم يعلنها ويقول: جنسيتنا هي دين آبائنا، ونحن لا نعترف بأية قومية أو جنسية أخرى.
والدعوة القومية تفكك، فالشيوعية نفسها كانت تقف حاجزاً دون انتشارها، وتدعو إلى تفضيل المذهب الشيوعي، ومع ذلك فإن المسلمين بالذات كانوا يشجعون القوميات، حيث شجعوا القومية العربية، وشجعوا انفصال باكستان الشرقية عن باكستان الغربية التي أصبحت الآن بنغلادش، ولذلك نرى الأستاذ يوسف العظم يحكي واقعة في أيام حرب حزيران أو يونيو حرب النكسة فيقول: لقد سمعت وزير إعلام عربياً إبان حرب حزيران يقول: دعونا من خالد بن الوليد وصلاح الدين، ولا تثيروها حرباً دينية، قال ذلك وهو يعلق على ما يذيعه بعض الدعاة من الحث للجندي على الثبات وتشجيع المقاتلين على الجهاد والاستشهاد، فقلت لمن كان حولي: منهزمون ورب الكعبة! وقد كان؛ لأن السلاح ليس بذاته أساساً مادام السلاح بمثل هذه العقيدة القتالية التي يعبر عنها هذا المصطلح الذي عبر عنه الوزير المذكور، فأين العقيدة إذا كنت تقول له: شادية معك في المعركة، وأم كلثوم معك في المعركة، وعبد الحليم معك في المعركة؟!! إن اليهود أول ما دخلوا سيناء دخلوا بنسخ كثيرة من التوراة حملوها على أول دبابة دخلت سيناء، وجاءت صحيفة أحرونوت اليهودية سنة (1987م) تقول: إن على وسائل إعلامنا ألا تنسى حقيقة هامة هي جزء من استراتيجية إسرائيل في حربها مع العرب، هذه الحقيقة هي: أننا نجحنا بجهودنا وبجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال ثلاثين عاماً، ويجب أن يبقى الإسلام بعيداً عن المعركة إلى الأبد، ولهذا يجب ألا نغفل لحظة واحدة عن تمكين خطتنا في منع استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل وبأي أسلوب، ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا لاستعمال العنف والبطش لإخماد أية بادرة ليقظة الروح الإسلامية في المنطقة المحيطة بنا!! حينما أراد الشاعر محمد إقبال أن يبين أثر تخلي المرء عن هويته وعن عقيدته ضرب هذا المثل فقال: كانت مجموعة من الكباش تعيش في مرعىً وفير الكلأ عيشاً رغيداً، ولكنها أصيبت بمجموعة من الأسود نزلت بأرض قريبة منها، فكانت تعتدي عليها وتفترس الكثير منها، فخطر ببال كبش كبير منها أن يتخذ وسيلة تريح من هذا الخطر الداهم الذي يهددها، فرأى أن استخدام السياسة والدهاء والحيلة هو الوسيلة الوحيدة، فظل يتوسد إلى هذه الأسود في مكانها حتى ألفته وألفها، فاستغل هذه الألفة، وبدأ يعرض الأسود ويدعوها إلى الكف عن إراقة الدماء والعيش في سلام وأمان ودعة وإلى أن تترك أكل اللحم، وأخذ يغريها بأن تارك أكل اللحم مقبول عند الله، وأخذ يزين لها الحياة في دعة وسكون، ويقبح لها الوثب والاعتداء، حتى بدأت الأسود تميل إلى هذا الكلام، فأخذت الأسود تتباطأ في افتراس الكباش، ومالت إلى حياة الدعة والهدوء، واكتفت بأكل الأعشاب كما تفعل الكباش، فكانت النتيجة أن استرخت عضلاتها، وتثلمت أسنانها، وتقصفت أظفارها، وأصبحت لا تقوى على الجري، ولم تعد قادرة على الافتراس، وبذلك تحولت الأسود إلى أغنام؛ لأنها تخلت عن هويتها وعن خصائصها ففقدت ذاتيتها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا).
فالذي كان يفعله هذا الكبش هو الذي فعله الكثير من المستشرقين حيث كانوا يلقون الشبهة على المسلمين، وهم يعرفون عقدة النقص والانهزامية عند بعض المسلمين والمفكرين، ونتيجة العقدة في النفس والشعور بالدونية عند بعض المنهزمين هي أنهم أصبحوا يردون بأن الإسلام دين لا يعرف الجهاد، ولا يعرف كذا وكذا، وآخر يوم يوضع الإسلام في قفص الاتهام، ويوظف الغرب نفسه محامياً ليبرئه من هذه التهم، وبالتالي بدأ طمس مفاهيم الإسلام شيئاً فشيئاً من خلال هذه الحيل الماكرة، حتى وصلت محاولات طمس الهوية الإسلامية إلى حد أن يضغط علينا قتلة الأنبياء ومحرفوا الكلم عن مواضعه أن نمارس مثلهم هواية التحريف لكلام الله؛ حيث كان من محاور اتفاقية (كامب ديفيد): ضرورة إزالة المفاهيم السلبية تجاه إسرائيل في الإسلام، ونظفوا الإسلام من المفاهيم السلبية تجاه اليهود لعنهم الله، وإسحاق نافون رئيس الكيان اليهودي السابق خطب خطاباً في جامعة بن غوريون أمام السادات في (27/ 5/1979م) وقال: إن تبادل الثقافة والمعرفة لا يقل أهمية عن الترتيبات العسكرية والسياسية، وصرح أيضاً أمام قيادات الحزب الوطني بمصر في (28/ 10/1980م) بأن أي صياغة أدبية أو دينية تخالف التصورات الإسرائيلية تعد مساساً بالسلام الإسرائيلي! ويقصد بالصياغة الأدبية والدينية القرآن الكريم، والآيات التي تفضح اليهود وتكشفهم.
إذاً: يحرص هؤلاء على هويتهم، وفي نفس الوقت يجتهدون في تذويب هويتنا الإسلامية.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(49/17)
الهوية الإسلامية [2]
إن أعداء الإسلام سواء كانوا من الداخل أو الخارج يحاولون جاهدين أن يطمسوا ويستأصلوا الهوية الإسلامية من المسلمين، ولهم في ذلك وسائل شتى، ولذا كان لزاماً على جميع المسلمين التيقظ والحذر من مخططات أعدائهم، كما يجب عليهم الحفاظ على هويتهم، وتجديد ما اندرس منها.(50/1)
أعداء الهوية الإسلامية من الخارج
إن أعداء الإسلام يحرصون على هويتهم، وفي نفس الوقت يجتهدون في تذويب هويتنا الإسلامية؛ فما يحرمونه علينا يحلونه لأنفسهم.
فهذا نيكسون وهو من أخطر رؤساء أمريكا؛ لأنه رجل مفكر، وله أيدلوجية، وهو منظّر، وليس رئيساً عادياً، يقول في كتابه (انتهز الفرصة): إننا لا نخشى الضربة النووية، ولكننا نخشى الإسلام والحرب العقائدية التي قد تقضي على الهوية الذاتية للغرب! فهذا معناه: أنهم ينظرون إلى موضوع الهوية الإسلامية أنها تهدد الهوية الغربية؛ فهي مسألة حياة أو موت بالنسبة إليهم.
ويقول أيضاً نيكسون: إن العالم الإسلامي يشكل واحداً من أكبر التحديات لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية في القرن الحادي والعشرين.
وبلغ إعجاب كلينتون بالهوية الأمريكية وبعبارة أخرى نقول: بلغ من اغتراره بهذه الهوية أن وجد في نفسه الجرأة بأن قال: إن أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وإننا نستشعر أن علينا التزاماً مقدساً بتحويل العالم إلى صورتنا، قالها بالإنجليزية: ( To transfer the world in our image).
ولكم أن تتخيلوا كيف تكون صورة هذا العالم الذي يكون نسخة من الغابات المتحدة الأمريكية! ومساعد وزير الخارجية الأمريكية ومستشار جنسون لشئون الشرق الأوسط حتى سنة (1967م) يقول: إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي فلسفته وعقيدته ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي لفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام، وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية؛ لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها.
إذاً: الصراع في الحقيقة هو صراع هوية وتذويب، ومنذ زمن قال أحد المسئولين في وزارة الخارجية الفرنسية: ليست الشيوعية خطراً على أوروبا فيما يبدو لي؛ فهي حلقة لاحقة لحلقات سابقة، وإذا كان هناك خطر من الشيوعية فهو خطر سياسي عسكري فقط، ولكنه على أي حال ليس خطراً حضارياً تتعرض معه مقومات وجودنا الفكري والإنساني للزوال والفناء، إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديداً مباشراً عنيفاً هو الخطر الإسلامي؛ والمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي، فهم يملكون تراثهم الروحي الخاص، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، وهم جديرون بأن يقيموا بها قواعد عالم جديد دون حاجة إلى الاستغراب، وفرصتهم في تحقيق أحلامهم هي اكتساب التقدم الصناعي الذي أحرزه الغرب، فإذا أصبح لهم علمهم، وإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الفتي، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الروح الغربية، ويقذفون برسالتها إلى متاحف التاريخ.
هذا كلام مسئول في وزارة الخارجية الفرنسية، فانظر كيف فهموا قضية الهوية! هذه حقيقة كل ما يجري الآن وما جرى من قبل وما سيجري -والله أعلم- فيما بعد.
وقد حصل صراع سياسي في كندا بين المتحدثين بالإنجليزية وبين المتحدثين بالفرنسية الذين كانوا يريدون الاستقلال بهذه المقاطعة، وهذا كله صراع من أجل الهوية.
وفرنسا رفضت التوقيع على الجزء الثقافي من اتفاقية الجات، والذي يضمن للمواد الثقافية الأمريكية أن تباع بفرنسا بمعدلات اعتبرها الفرنسيون تهديداً صارخاً لهويتهم القومية، وطالبوا بتخفيض هذه المعدلات انطلاقاً من الحرص على الهوية، مع أنهم في الهوى سوى!(50/2)
تمسك اليهود بهويتهم الدينية
أما تمسك يهود بهويتهم الدينية فحدث ولا حرج، فإن دولتهم اللقيطة لم تقم إلا على أساس خالص من الدين اليهودي؛ فهي تحمل اسم نبي الله يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وإن كان هو بريئاً منهم براءة الذئب من دم ابنه يوسف عليهما السلام.
وإسرائيل ليس لها دستور؛ لأن دستورها هو التوراة، فالدستور في إسرائيل هو التوراة، واليهود يتشبثون بتعاليم التوراة، ويعضون عليها بالنواجذ في مجالات العلم والدين والسياسة والاجتماع، وفي حياة الفرد اليومية، حتى اللغة العبرية التي انقرضت من ألفي سنة بعثوها من مرقدها، حتى صاروا يتعاملون بها، ولم يقل لهم أحد: إن العبرية لها مدة ألفي سنة منقرضة، ولن تتسامى إلى العلم الحديث، كما يزعم المستشرقون في شأن اللغة العربية الآن، واليهود يدرسون بالعبرية الطيران والصواريخ وكل العلوم، مع أنها لغة ميتة، فمنذ ألفي سنة انقرضت العبرية، ولكنهم بعثوها من مرقدها، وألفوا بها أدباً نالوا به ما يسمى " بجائزة نوبل ".
وعندما أراد اليهود إقامة سفارة لهم في القاهرة أصروا على أن يكون موقعها على الجهة الغربية من النيل، ولم يرضوا أن يكون لهم أي مبنى على الجهة الشرقية؛ احتراماً لعقيدتهم في أن حدود إسرائيل الكبرى تنتهي عند الجهة الشرقية من نهر النيل.
وعلم دولتهم فيه خطان أزرقان إشارة إلى النيل والفرات، ومنطقة السيادة بينهما عليها النجمة السداسية المسماة بنجمة داود.
وفي جامعة تل أبيب عقدت ندوة في (19/ 2/1983م) حول دعم علاقة السلام بين مصر وإسرائيل، أثار اليهود فيها موضوع ما ورد في القرآن الكريم من اتهامات ضد اليهود، وتناقل هذا في مطبوعات أخرى بمصر، فقام الدكتور مصطفى خليل معتذراً إلى اليهود فقال: إننا في مصر نفرق بين الدين والقومية، ولا نقبل أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة على معتقداتنا الدينية! فرد عليه ديفيد سيفان قائلاً: إنكم -أيها المصريون- أحرار في أن تفصلوا بين الدين والسياسة، ولكننا في إسرائيل نرفض أن نقول: إن اليهودية مجرد دين فقط! فلو نظرنا إلى مكائد الغرب في هوياتنا المسلمة لعلمنا أن النسبة الأعلى هي طمس الهوية الإسلامية باستبدالها بأي هوية أخرى، سواءً كانت هوية وثنية أو قومية أو هوية قطرية تفتتنا وتشتتنا، أو هوية عالمية تميع انتماءنا بديننا، المهم هو أن تمحى الهوية الإسلامية المتميزة؛ كي يحال بيننا وبين أن يكون الإسلام عماد الحاضر والمستقبل، وكي نصير كمن قيده عدوه بعد أن جرده من سلاحه وانتزع أظفاره وخلع أسنانه، ثم وضع الغل في عنقه والقيد في معصمه، وإذا به يطالبنا أيضاً أن نشكر له هذا الصنيع، ونفخر بهذا الغل، ونتباهى بهذا القيد، ونعتز لأننا عبيد لهذا السيد!(50/3)
أعداء الهوية الإسلامية من الداخل
تقدم يتعلق بأعداء الهوية من الخارج على سبيل اختصار، فماذا عمل أعداؤها من الداخل؟ تشويه الهوية وإضعافها عمل إجرامي تآمري ينحط إلى مستوى الخيانة العظمى لأمة التوحيد.
يقول الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر السابق رحمه الله تعالى: إن البحث عن هوية أخرى للأمة الإسلامية خيانة كبرى وجناية عظمى.
فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لعن من غير منار الأرض فكيف بمن يغير هوية أمة، ويضلها عن طريق النجاة؟! إن التاريخ المعاصر حافل بنماذج بشعة من ممسوخي الهوية الذين كانوا يخربون هويتهم بأيديهم، ونذكر بعضهم على سبيل المثال لا الحصر، وإلا فما زالت الشجرة الخبيثة تخرج نكداً.(50/4)
مصطفى كمال أتاترك وجهوده في مسخ الهوية الإسلامية
أول ما يقفز إلى أذهاننا من ممسوخي الهوية مصطفى كمال أتاترك الذي مسخ هوية تركيا الإسلامية بالقوة والقهر، وكان يقول كثيراً: وددت لو كان في وسعي أن أقذف بجميع الأديان في البحر! وهو الذي ألغى الخلافة الإسلامية، وكان يحسد الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد سمع مرة المؤذن يؤذن فقال: ما أعظم الشهرة التي بلغها هذا الرجل! لقد ألغى الخلافة، وعطل الشريعة، وألغى نص الدستور على أن الإسلام هو الدين الرسمي للبلاد، وألغى المحاكم الشرعية، والمدارس الدينية، والأوقاف، وألغى الأذان باللغة العربية، وجعله بالتركية، وألغى الحروف العربية واستبدلها باللاتينية، وكان يقول: انتصرت على العدو، وفتحت البلاد، فهل أستطيع أن أنتصر على الشعب؟! فانظروا إلى هذا بمثل هذه النفسية ماذا يتوقع منه؟ لقد جاء بالعجب العجاب! نشرت الأهرام بتاريخ (15/ 2/1968م) وثيقة نقلتها عن جريدة: (صانداي تايمز) تحت عنوان: كمال أتاترك رشح سفير بريطانيا ليخلفه في رئاسة الجمهورية التركية! حتى الهوية القومية ما أخلصوا لها، وما رعوها حق رعايتها، قالت الصحيفة: إنه في نوفمبر سنة (1938م) كان أتاترك رئيس تركيا يرقد على فراش الموت، وكان يخشى ألا يجد شخصاً يخلفه قادراً على استمرار العمل الذي بدأه، فاستدعى السفير البريطاني بيرج لودن إلى قصر الرئاسة في اسطنبول، وعرض عليه أن يخلفه في منصب رئيس الجمهورية، وبلباقة رفض السفير، وأبرق إلى وزير خارجيته بما دار بينه وبين أتاترك! فانظروا إلى ممسوخ الهوية كيف يصل به الحال!(50/5)
نماذج من جهود بعض عملاء الغرب في طمس الهوية الإسلامية
هناك نموذج آخر من تركيا أيضاً وهو: آغا أوغلي أحمد أحد غلاة الكماليين الأتراك يقول: إننا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في رئاتهم، والنجاسات التي في أمعائهم! ونحن نقول له: هنيئاً لك!! ومثله لطفي السيد خصم العروبة وخصم الوحدة الإسلامية، وصاحب شعار مصر للمصريين، وصاحب النعرة الفرعونية، لن نتحدث كثيراً عن لطفي السيد، لكن أتحدث فقط عن موقف يكشف عداءه للهوية الإسلامية: كان لطفي السيد يصف نص الدستور على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة المصرية بأنه النص المشئوم!! وذكر الشيخ محمد الخضر الحسين رحمه الله تعالى شيخ الأزهر الأسبق حكاية عن رجل لم يذكر اسمه فقال: وقد وصل ببعضهم الانحطاط في هوى الأجانب، والانغماس في التشبه بهم، أن اقترح في غير خجل قلب هيئة المساجد إلى هيئة الكنائس -أي: أن نغير شكل المساجد إلى شكل كنائس- وتغيير الصلوات ذات القيام والركوع والسجود إلى حال الصلوات التي تؤدى في الكنائس! ثم علق الشيخ الخضر الحسين رحمه الله تعالى على ذلك الاقتراح بقوله: وهذا الاقتراح شاهد على أن في الناس من يحمل تحت ناصيته جبيناً هو في حاجة إلى أن توضع فيه قطرة من الحياء.
ومثلهم طه حسين عميل التغريب وداعية التبعية المطلقة للغرب، فـ طه حسين أقر كلمة قالها أحد الطلبة عنده يوماً حيث قال: لو وقف الدين الإسلامي حاجزاً بيننا وبين فرعونيتنا لنبذناه! إنها هوية فرعونية! وأيضاً طالب عميد التغريب طه حسين أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم؛ لنكون لهم أنداداً، ونقول: بل ستكونون عبيداً؛ إذ لا يمكن أن يسمحوا لكم أن تكونوا أنداداً، فهو طالب أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم؛ لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحب منها وما يُكره، وما يُحمد وما يُعاب! ولذلك قال مستشرق يدعى ماتريون: لو قرأنا كلام طه حسين لقلنا هذه بضاعتنا ردت إلينا! ومثلهم محمود عزمي الذي كان يكره الحجاب ويمقته مقتاً شديداً يقول: سبب مقتي للحجاب مقتاً شديداً هو اعتباره من أصل غير مصري، ودخوله إلى العادات المصرية عن طريق تحكم بعض الفاتحين الأجانب، فكان حنقي على أولئك الأجانب الفاتحين الإسلاميين يزيد! إنها أزمة هوية، والقائمة طويلة، وفيها نماذج مخزية جداً، ومن رءوسهم أيضاً: سلامة موسى، ولويس عوض، وجرجي زيدان، وفرج فودة، وحسين أحمد أمين، وزكريا نجيب محمود وغيرهم، لا كثر الله سوادهم!(50/6)
ذكر بعض المدافعين عن الهوية الإسلامية
وفي الجهة المقابلة في معركة الهوية هناك فرسان دافعوا عن الهوية الإسلامية، وهم كثر ولله الحمد، كما قال عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، وعلى رأسهم رجل كل العصور شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ولـ شيخ الإسلام جهد مشكور في صيانة الهوية الإسلامية، ويتجلى ذلك أعظم ما يتجلى في كتابه الرائع " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ".
ومنهم في هذا العصر الأديب البارع مصطفى صادق الرافعي، ومنهم الدكتور محمد محمد حسين، ومنهم الأديب العملاق الأستاذ محمود شاكر رحمه الله تعالى، ومنهم الشيخ أبو الحسن الندوي حفظه الله، وهكذا سائر العلماء والمفكرين والدعاة في كافة بلاد العالم الإسلامي.(50/7)
مجالات الهوية التي يحاول الأعداء طمسها(50/8)
زعزعة العقيدة وإضعافها أحد أساليب طمس الهوية
المجالات التي كانت مسرحاً لطمس الهوية كثيرة جداً، والأساليب أيضاً كثيرة: وأول هذه المجالات العقيدة؛ لأن العقيدة هي خط الدفاع الأول، فإذا انهار ينهار كل شيء بعد ذلك، فكانت أحد أساليب طمس الهوية إضعاف العقيدة وزعزعة الإيمان بزرع الصراعات الفكرية التي تشوش الأفكار وتشتت الأذهان، وإحياء الفلسفات المضادة للتوحيد، وإحياء التصوف الفلسفي، ونشر تراث الفرق الضالة كالباطنية والمعتزلة والرافضة، وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم والسنة المطهرة والسيرة الشريفة، وهدم الثقة في السلف الصالح، والتركيز على عرض ما يناقض التوحيد بصورة تغري بالإلحاد كنظرية داروين مثلاً، وعرض تاريخ الأمم الوثنية كالفراعنة وغيرهم دون أي نقد؛ لا لتستبين سبيل المجرمين، ولكن لنعتز بسبيل المجرمين، والله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] أي: كي تتجنبوها، أما نحن فنفصل سبيل المجرمين إعجاباً به، حتى إن الطلبة في المدارس كانوا يحفظون اسم إله كل محافظة في مصر القديمة، وكانوا يحفظون الأناشيد التي كانت يُعبد بها هذا الإله دون أي كلمة خدش أو نقد، فأين نحن من سلوك يوسف عليه السلام حينما سُجن في مصر فكان داعياً إلى التوحيد، كما حكى الله عنه أنه قال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:39 - 40]، فيوسف عليه السلام افتخر بانتمائه إلى أمة التوحيد وإلى هوية الإسلام، كما قال عنه سبحانه: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف:37 - 38] إلى آخر الآية.(50/9)
تغيير مناهج التعاليم الإسلامية من أساليب طمس الهوية الإسلامية
من هذه الأساليب: تسميم الآبار المعرفية التي تستقي منها الأجيال من المهد إلى اللحد، وأنا أذكر حادثة حصلت من مدة عبر بها أحد الإخوة عن مظاهر طمس الهوية: كان السادات في مرحلة من المراحل ديمقراطياً، لكن جاءت فترة لم يتحمل وقال: الديمقراطية لها أنياب، وهي شرسة تعض وهكذا.
فالحقيقة أن هناك محاولة لمسخ الهوية الإسلامية تماماً عن طريق تخريب مناهج التعليم بكافة مراحله، هذه أخطر مؤامرة ضد الهوية الإسلامية في هذا الوقت الآن، وهم يسمونها -بكل صراحة- تجفيف منابع الإسلام! هذه المؤامرة لم تبدأ اليوم، بل هي قد بدأت منذ أكثر من قرن، ولم تبدأ من الصفر، لكنها تستمد من معين المنطلقات التي صنعها الاستعمار والاستشراق والتبشير، وقد تمكن في عشرين عاماً مضت من تخريب العقول والنفوس والضمائر والعواطف من خلال سياسته التعليمية بصورة ما كانت تحلم بريطانيا بتحقيق ربعها، ولو جندت في سبيل ذلك مليون جندي بريطاني! وهذا كرومر رائد التغريب في مصر يقول: الحقيقة أن الشباب المصري الذي قد دخل في طاحون التعليم الغربي، ومر بعملية الطحن يفقد إسلاميته، وعلى الأقل أقوى عناصرها وأفضل أجزائها؛ إنه يتجرد عن عقيدة دينه الأساسية.
وهذا المستشرق جب يقول: والتأثير الحقيقي في الحكم على مدى التغريب هو أن نتبين إلى أي حد يجري التعليم على الأسلوب الغربي، وعلى المتابيع الغربية، وعلى التفكير الغربي، هذا هو السبيل الوحيد، ولا سبيل غيره.
وقد رأينا المراحل التي مر بها طبع التعليم بالطابع الغربي في العالم الإسلامي، ومدى تأثيره على تفكير الزعماء المدنيين وقليل من الزعماء الدينيين، وبعبارة أخرى: التعليم الغربي اللاديني هو عبارة عن الحامض الذي يذيب شخصية المسلم، فمناهج التعليم بالنسبة للهوية تفعل مثلما يفعل الحامض في تذويب هذه الهوية، وبعض الكتاب من شعراء باكستان القدامى كان له شعر ينتقد فيه مناهج التعليم الغربية، ويذكر خطرها على الهوية فيقول ما معناه: إن فرعون كان بليداً بالنسبة لما تفعله مناهج التعليم الغربية؛ لأن فرعون استجلب لنفسه الخزي والعار؛ لأنه كان يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، قال: ولو أنه هداه تفكيره إلى هذا الأسلوب من أساليب التعليم لاستغنى عن ذبح الأبناء تماماً، ولما تلطخت سمعته بهذا العار الذي لحق به، فإن هذا كان سيحقق له هدفه، ويقضي على الإسرائيليين بدون أن يناله هذا اللوم.(50/10)
من أساليب طمس الهوية الإسلامية: فك ارتباط الأمة بتاريخها المجيد
من هذه الأساليب: محاولة محو ذاكرة الأمة وارتباطها بتاريخها المجيد؛ لأن التاريخ هو خميرة المستقبل، وتمجيد كل ما هو غربي وتحقير كل ما هو إسلامي يمحو الهوية الإسلامية؛ حتى إن جرجي زيدان له سلسلة التاريخ الإسلامي، وكلها مشوهة، وكلها كذب وتشويه، عملها لأداء هذه الوظيفة، التي هي احتقار التاريخ الإسلامي، حتى نصر المسلمين في الأندلس ألّف فيه قصة كاذبة فقال: إن انتصار المسلمين نشأ عن أن واحداً من الأسبان كان يعشق واحدة من المسلمات، وأنه دخل في جيش المسلمين وانضم إليهم، وكان هو سبب حصول هذا النصر؛ وإذ بمجرد انضمامه فتحوا الأندلس!! يقول هذا حتى يُظهر أن نصر المسلمين في الأندلس ليس نصراً عقائدياً، وإنما هذا الأجنبي هو الذي جعلهم ينتصرون!! وهذا كلام كذب، وقصة فتح الأندلس قصة معروفة.
فعملية محو ذاكرة الأمة تعني فك ارتباطها بتاريخها السابق، وتمجيد كل ما هو غربي، وتحقير كل ما هو إسلامي، ومزاحمة رموز الإسلام برموز ضلالات التنوير والحداثة والعصرانية، وعرض أنماط الحياة الاجتماعية في الغرب بكل مفاسدها وسوءاتها بصورة جذابة ومغرية، وأن النموذج الأمثل في أن نقلد العادات الغربية، ونشرب الخمر، ونتهاون في الفواحش، ونلبس ملابسهم، ونتكلم بطريقتهم، وهذه هي عملية التذويب والقضاء على الهوية الإسلامية.
يقول مستشرق فرنسي يدعى تشاتليه: إذا أردتم أن تغزو الإسلام، وتكسروا شوكته، وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة لها والتي كانت -أي: العقيدة- السبب الأول الرئيسي لاعتزاز المسلمين وشموخهم وسبب سيادتهم وغزوهم للعالم؛ فعليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية؛ بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم وكتابهم القرآن، وتحويلهم عن كل ذلك بواسطة نشر ثقافتكم وتاريخكم، ونشر روح الإباحية، وتوفير عوامل الهدم المعنوي، وحتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج والبسطاء لكفانا ذلك؛ لأن الشجرة يجب أن يتسبب لها في القطع أحد أغصانها!! فانظر إلى هؤلاء الذين يفرحون بالغرب؛ فإن الغرب أنفسهم يعتبرونهم السذج المغفلين البسطاء، هكذا نظرتهم لمن يبيعون هويتهم ويتنازلون عنها!(50/11)
من أساليب طمس الهوية الإسلامية: بث الجهل في العلوم الدنيوية
أيضاً من هذه الأساليب: تجهيل العلم، فالعلم أعظم النعم، وإذا قطعت صلة الروح بالله سبحانه وتعالى يفقد العلم صلته بالخالق، ودلالاته على التوحيد، ولا نتكلم عن ذبح العلم الشرعي الآن، وإنما نتكلم عن العلوم الحديثة، فهذا العلم هو أكبر وأقوى مؤيد لدعوة التوحيد الفطرية، والعلم صراحة مبدأ يكشف لنا عن آيات الله التي أمرنا بأن ننظر فيها، كما قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، وأمرنا بأن ننظر فقال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53]، فكل هذه الدلائل تؤكد حقية دين الإسلام، وبطلان ما عداه من الأديان، وأنه هو الطريق الوحيد للسعادة والنجاة، فالعلم هو في أصله يخدم التوحيد، ويخدم دين الإسلام أعظم خدمة، فماذا يفعلون؟ يعمدون إلى تجاهل تذكيرك الله، وإن شئت فافتح كتاب طبيعة أو كتاب إحياء أو أي شيء من هذا، مع أن كل هذا خلق الله، وكل هذه السنن هي سنن الله، وهذه القوانين وضعها الله العالم، وقبل أن تكتشف هذه القوانين بملايين السنين هي تعمل، فمن الذي وضع هذه القوانين؟ إنه الله سبحانه وتعالى، ولكنهم يتعمدون تجاهل ذكرك بالله، وإذا واحد ذكر اسم الله يقال عنه: إنه لا يحترم المنهج العلمي، وهذا يتكلم عن الغيبيات، ونحن لا نعترف إلا بالأمور الحسية! لقد قطعت صلة الاعتقاد بالله عز وجل، وبالتالي لم يعد العلم كما كان ينبغي أن يكون خادماً لدعم التوحيد وللهوية الإسلامية، فيعمدون إلى نسبة الآيات الكونية إلى الطبيعة، والطبيعة عملت، والطبيعة كذا، ويريدون محاولة عزو أحداث الكون إلى الظواهر الطبيعية دون ربطها بمشيئة الله وقدرته عز وجل.(50/12)
من أساليب طمس الهوية الإسلامية: التآمر على اللغة العربية
ومن ذلك أيضاً: التآمر على اللغة العربية لشدة ارتباطها بالقرآن والإسلام، وأثرها في وحدة الأمة، وذلك عن طريق تشجيع اللهجات العامية، والمطالبة بكتابتها بالحروف اللاتينية، وتشجيع اللغات الأجنبية على حساب لغة القرآن الكريم، وتطعيم القواميس العربية بمفاهيم منحرفة كقاموس (المنجد)، والطعن في كفاءة اللغة العربية وقدرتها على مواكبة التطور العلمي.
وإذا كانت الثقافة هي مجموع القيم التي ارتضتها الجماعة لنفسها لتميزها عن غيرها من الجماعات فإن اللغة هي وعاء الثقافة، ومظهرها الخارجي الذي يميزها، ولغة المسلمين والعرب ليست مجرد لغة قومية كأي لغة أخرى، لكنها لغة دينية، بمعنى: أنها توحد حولها جميع المسلمين عرباً وعجماً؛ إذ هي لغة القرآن الكريم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وقال المرتضى: من بغض اللسان العربي أداه بغضه إلى بغض القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك كفر صراح، وهو الشقاء الباقي نسأل الله العفو.
اللغة لها دور عظيم في توحيد وتماسك الهوية الإسلامية، وتوحيد الأمة الإسلامية، وأنا سأضرب مثالين يوضحان لنا هذه الحقيقة، وللأسف الشديد نضطر لذكر أمثلة من غير المسلمين: المثال الأول: نضربه بإيرلندا التي رزحت تحت الاحتلال الإنجليزي منذ أوائل القرن الثاني عشر الميلادي، وذاقت من الاحتلال الإنجليزي الويلات، خصوصاً على يد كرومويل الذي أعمل السيف في رقاب الإيرلنديين، وشحن عشرين ألفاً من شبابهم، وباعهم عبيداً في أمريكا، ونفى أربعين ألفاً خارج البلاد، وتمكن من طمس هويتهم بمحو اللغة الإيرلندية، وتزويدهم بالمجتمع البريطاني.
لما حاول بعض الوطنيين الإيرلنديين بعث أمتهم من جديد وبعث الهوية الإيرلندية من جديد أدركوا أن هذا لا يتم ما دامت لغتهم هي اللغة الإنجليزية، وما دام شعبهم يجهل لغته التي تميز هويته، وتحقق وحدته، وأسعفهم القدر بمعلم يتقن لغة الآباء والأجداد دفعه شعوره بواجبه إلى وضع الكتب التي تقرب اللغة الإيرلندية إلى مواطنيه، فهبوا يساعدونه في مهمته؛ حتى انبعثت لغتهم الإيرلندية من رقادها، وشاعت وصارت النواة التي تجمع حولها الشعب، فنال استقلاله، واستعاد هويته، وكافأ الشعب ذلك المعلم باتخاذه أول رئيس لجمهورية إيرلندا المستقلة، وهو الرئيس (ليبليرا) ما الذي وحدهم؟ وما الذي أعاد عليهم الهوية؟ إنها اللغة.
المثال الثاني: ألمانيا كانت مقاطعات متفرقة متنابذة إلى أن هب (هاردن) الأديب الألماني الشهير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، هب ينادي بأن اللغة هي الأساس الذي يوحد الشعوب، والنواة التي تؤلف بينها، فانطلق الأدباء يعكفون على تراثهم القديم أيام كانوا أمة واحدة، وقاموا بإنعاش تراثهم الأدبي، ونسجوا حوله قصصاً وبطولات شحذت ألباب الشباب، وتغنوا بجمال بلادهم وأمجاد أسلافهم، فتجمعت عواطفهم على حب الوطن الكبير، وتطلعت نفوسهم إلى الانضواء تحت لواء هوية ألمانية واحدة، وهو الأمر الذي مهد الطريق أمام بسمارك بتعبئة الشعور القومي وتوحيد ألمانيا وإقامة الإمبراطورية الألمانية التي كان بسمارك أول رئيس وزراء أو مستشاراً لها.
فإذا علمت هذا علمت كيف توحد سلوك يهود مع لغتهم العبرية التي انقرضت لمدة ألفي سنة ثم أعادوها من رقادها.
وإذا علمت هذا فاسمع وتعجب من المستشرق الألماني الذي يقول في شماتة: إن تركيا منذ حين لم تعد بلداً إسلامياً؛ فالدين لا يدرس في مدارسها، وليس مسموحاً بتدريس اللغتين العربية والفارسية في المدارس، وإن قراءة القرآن العربي وكتب الشريعة الإسلامية قد أصبحت الآن مستحيلة بعد استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية.(50/13)
إحياء الأساطير الوثنية والتنقيب عن الآثار الشركية من عوامل طمس الهوية الإسلامية
من هذه الأساليب: الاهتمام المبالغ فيه بإحياء الأساطير الوثنية والخرافات الشركية، والتنقيب والحفريات عن الآثار الوثنية التي تبرز الهوية غير الإسلامية أو السابقة، كالفينقية أو الفارسية أو الفرعونية أو الكلدانية، وتسليط الضوء عليها لردها إلى الحياة، وربطها بالحاضر بصورة تزاحم بل تتعارض مع الانتماء الإسلامي، وهذا التراث مهما يكن فإن الإسلام يجب ما قبله، وهذا التراث مهما يكن فإن الإسلام قد نسخ كل دين قبله ولو كان أصله سماوياً، فكيف لا ينسخ الأديان الوثنية؟! إن اعتناق أي أمة للإسلام يشكل فاصلاً عقيدياً وحاجزاً فكرياً بين ماضٍ وثني وبين حاضر ومستقبل مشرق بنور الفطرة والتوحيد.
وهذه الهوية السابقة الجاهلية قضى عليها الإسلام حين صهرها في بوتقة الوحدة الإسلامية.
وما أكثر ما تستغل هذه الآثار في دعم النعرات الإقليمية لكل قطر، واستعلائه بآثاره وأحجاره الخاصة! وفي ذلك أعظم الخطر على الهوية الإسلامية.
ولن ننسى أيضاً أن نذكر شاهداً من أهلها، وهو المستشرق جب في كتابه (وجهة الإسلام) حيث يقول: وقد كان من أهم مظاهر فرنسة العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغلها المسلمون الآن، فمثل هذا الاهتمام موجود في تركيا وفي مصر وفي إندونيسيا وفي العراق وفي إيران، وقد تكون أهميته محصورة الآن في تقوية شعور العداء لأوروبا من القومية، لكن من الممكن أن يلعب في المستقبل دوراً في تقوية الوطنية الشعوبية، وتدعيم مقوماتها، لكن في المستقبل سيضعف الإسلام، وستضعف الهوية الإسلامية! من ذلك أيضاً طمس المعالم التاريخية والحفريات التي تصحح تاريخ العقيدة، والتي تكشف أن التوحيد هو الأصل، وأن الشرك طرأ عليه.
وكذلك طمس الوثائق التي تثبت التحريف في كتب أهل الكتاب، والتي تدعم الإسلام وتؤيده.(50/14)
الدعوة إلى السامية ودورها في طمس الهوية الإسلامية
نذكر رأياً موضوعياً عابراً، وهو: مؤامرة تزييف تاريخ الإبراهيمية الحنيفية؛ لأن جذور الإسلام هي الإبراهيمية الحنيفية؛ وذلك التزييف يأتي عن طريق الدعوة إلى نشر فكرة السامية، والسامية فكرة تركز على أن هناك أصلاً واحداً مشتركاً بين العرب واليهود، ويحاولون أن يأتوا بجذور بعيدة جداً عن الجد لإبراهيم، فهم لا ينسبوننا إلى إبراهيم عليه السلام، وملة إبراهيم.
واليهود الآن شجعوا فكرة السامية، وذلك عن طريق تركز هذه الفكرة على القول بأن هناك أصلاً واحداً مشتركاً بين العرب واليهود وهو سام بن نوح؛ في حين أن القصد الحقيقي من ورائها هو التعمية على انتساب العرب إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وأعدوا تاريخ إسماعيل وذريته إلى مصدر غامض ليس له سند عملي؛ وبالتالي يحصل صرف الأنظار عن هويتنا الحقيقية التي هي ملة أبينا إبراهيم عليه السلام، والتي أولاها القرآن الكريم أعظم اهتمام، ونسبنا إليها، وحثنا على اتباعها، وبرأ إبراهيم من كونه يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً.
وطه حسين قدم خدمة جليلة لليهود في هذا الموضوع؛ لأن طه حسين شكك في صحة وجود شخصية اسمها إبراهيم أو إسماعيل، وقال في حكاية الكعبة ورحلة إسماعيل إلى الكعبة: هذا كله قضية مفبركة! يعني: هذه عبارة عن واحد حاول يألفها لأجل أن يربط بيننا وبين إبراهيم وإسماعيل، هذا كلام طه حسين، وقال: إن للقرآن أن يحدثنا ما شاء عن إبراهيم وإسماعيل، وللإنجيل وللتوراة أن تحدثنا ما شاءت عن إبراهيم وإسماعيل، ولكن ورود هذين الاثنين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات حقيقتهما التاريخية! فالله المستعان! إذاً: موضوع السامية من عناصر هذه المؤامرة.(50/15)
الدعوة إلى القومية من أساليب طمس الهوية الإسلامية
من ذلك أيضاً محاولة تفسير التاريخ الإسلامي تفسيراً قومياً عربياً كما يفعل البعثيون، فالبعثيون يريدون أن يبتلعوا الإسلام في بطن القومية، ويظنون أن الإسلام هو مجرد مرحلة في تاريخ العروبة، ومحمد بطل عربي حقق المجد العربي بالدين والجنة والنار وهذه الأشياء، فهم كانوا يقولون: فحي على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم! ويقول الشاعر الآخر: آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني فبعضهم كان يحاول أن يصور أن الإسلام هو مرحلة من المراحل في تاريخ العروبة فقط.(50/16)
تشويه التاريخ الإسلامي أسلوب من أساليب طمس الهوية الإسلامية
من الأساليب أيضاً: تاريخ الإسلام على أنه تاريخ صراع بين الطبقات (البروليتاريا) وغيرها على الطريقة الماركسية.
وبعضهم يصوره على ضوء تاريخ صراع ومناوآت بين الأمراء والحلفاء؛ وكل هذا كي يحال بين الأمة الإسلامية وبين اتخاذ تاريخها الحقيقي منطلقاً للنهوض من كبوتها.
فإذا كانت كل هذه المناهج مناهج خاطئة في تفسير التاريخ فما هو المنهج الوحيد الصحيح والمثمر ثمرة نافعة وحقيقية في تفسير التاريخ؟
الجواب
هو النظر إلى كل التاريخ البشري على أنه تاريخ دين سماوي واحد هو الإسلام، من لدن آدم إلى محمد عليهما الصلاة والسلام، وهو تاريخ الرسالات السماوية المتعددة الداعية إلى دين واحد هو دين الإسلام بمعناه العدل، فهذا هو الموقف الصحيح من قضية التاريخ.
إن التاريخ عبارة عن مواقف الأمم إزاء الرسل الذين دعوهم إلى التوحيد، وكيف أهلك الله الأمم التي نفرت من التوحيد، وكيف أعز الأمم التي قبلت التوحيد، وكيف أن هذه الآثار تدل على أن الله أهلك الذين حادوا عن التوحيد، وهكذا.
ومحور التفسير الحقيقي للتاريخ هو: أن التاريخ دين الإسلام الذي بعث الله به جميع الأديان والرسالات، كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].
فمنذ بداية آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها والتاريخ هو عبارة عن تاريخ الدعوة الإسلامية والهوية الإسلامية ما بين من قبلوها وانضموا إلى حزب الله وبين من رفضوها وكانوا من أحزاب الشيطان.(50/17)
طمس المعالم التاريخية الإسلامية أسلوب من أساليب طمس الهوية الإسلامية
من هذه الأساليب: طمس المعالم التاريخية التي تؤكد الانتماء الإسلامي، كما فعل النصارى في الفردوس المفقود في الأندلس؛ حيث حولوا المساجد إلى كنائس، وقاموا بالتطهير العرقي بالذبح.
وكما فعل أتاترك حين حول مسجد أيا صوفيا إلى متحف وإلى بيت للأوثان، وطمس منه آيات القرآن والأحاديث، وأظهر ما كان الفاتحون المسلمون قد طمسوه من الصور التي زعم النصارى أنها للملائكة، وكانوا يسمونهم الصديقين والصبان والنقوش النصرانية.
وكما فعلت الوحوش الصربية في البوسنة حيث كانت تختار بعناية المواريث التاريخية الإسلامية، ثم يتم قصفها وتدميرها؛ لتطهير الذاكرة الجماعية لشعب البوسنة من رموز الهوية الإسلامية ومعالم حضارتها.
وكما يفعل اليهود لعنهم الله بالقدس وغيرها من مناطق فلسطين المحتلة.
ومثل هذا ما عاناه المسلمون في بلغاريا، ومن أخف ما عانوه قهرهم على تغيير الأسماء الإسلامية لمحو الهوية الإسلامية، وحصلت محن شديدة بسبب هذا الأمر.
ونحن الآن نرى أنه بدء المسلمون يشيع فيهم بسبب تمييع الأفلام أسماء غير إسلامية، بل قد تصل إلى أسماء علمانية، لقد انتشرت علمنة الأسماء؛ حتى إن بعض من يتسمى بهذه الأسماء لا تدري هل هو مسلم أم نصراني أم غير ذلك! فتجد بعض الأسماء المحايدة التي لا تعلن عن الهوية الإسلامية بصورة واضحة وصريحة، ولن نذكر أمثلة حتى لا نحرج أحداً.(50/18)
النشاط التنصيري ودوره في طمس الهوية الإسلامية
من هذه الأساليب: النشاط التنصيري، وهو أخطر عملية لطمس الهوية؛ لأنه التحويل من الهوية الإسلامية إلى الكفر، وهو أسلوب رخيص؛ إذ يستغلون الفقر والمرض، كما حدث ويحدث بالذات في إندونيسيا، وكما يحدث في التعليم في المدارس الأجنبية؛ حيث كانت هناك دعوة صريحة للتنصر، لكن الآن تم تطوير أساليب هذه المدارس الأجنبية، حيث تكتفي الآن بقطع صلة التلاميذ بالإسلام، وتذويب وتحقير هويتهم الإسلامية، وصبغهم بصبغة غربية، ولذلك قال أحدهم: المبشر الأول هو المدرسة! لكن الآن مثلاً: الجامعة الأمريكية هي جامعة تبشيرية إنجيلية، كان اسمها الجامعة الإنجيلية.
وكل الأنشطة التنصيرية فشلت فشلاً ذريعاً في كل بلاد المسلمين بحمد الله.
وهم دائماً يعودون بالخيبة والخسران، ولا يكسبون غير واحد مهوس أو جاهل.
ولما فشلوا عملوا حيلة دفاعية أخرى، كما يقال: إن الذئب حاول أن يصعد على الشجرة لكي يأكل العنب، وكلما حاول فشل، فلما عجز قال: هذا العنب حامض! فهم لما فشلوا ماذا قال زويمر؟ قال: تنصير المسلمين وإدخالهم في النصرانية شرف هم لا يستحقونه، فلنغير الهدف الآن، ونجعل الهدف هو إبعاد أبنائهم عن الدين الإسلامي، ونحولهم عبارة عن أشياء ممسوخة لا هدف لها ولا عقيدة تجمعها ولا هوية لها!(50/19)
إثارة القوميات والنعرات وأثرها في طمس الهوية الإسلامية
أيضاً من هذه الأساليب: استلاب الهوية الإسلامية وتشتيتها عن طريق ضربها بالهويات الأخرى، فيريدونها قومية وطنية، ثم يريدون أن يقسموا العالم الإسلامي إلى: عالم عربي وعالم غير عربي، ثم العالم العربي يقسمونه إلى عدة بلدان، ثم يثيرون نعرات إقليمية داخلية في البلد الواحد، حتى إنهم أخيراً حاولوا أن يبعثوا الروح القومية النوبية في مصر، حيث يقولون: النوبيون أصلهم يرجع إلى الجذور اليهودية! وفي الجزائر يقومون بتشجيع اللغة البربرية بين وقت وآخر؛ لأن هذا كله تشتيت وإضعاف للهوية الإسلامية.
وفي نفس الوقت هذه الهويات المتعددة يمكن أن تسخر من قبل أعداء الأمة في إثارة القلقلة، وتسخر لضرب وحدة المجتمع، وإثارة البلابل والفتن، كما حصل في جنوب السودان، وبالتالي تفقد الأمة تماسكها.(50/20)
العولمة ودورها في طمس الهوية الإسلامية
من هذه الأساليب أيضاً: الترويج لدعوة العولمة، والعولمة هي: توحيد الثقافة العالمية، وهم لا يهمهم لا قومية ولا علمانية، وإنما أهم حاجة عندهم ألا نكون مسلمين، وأي حاجة تضعف الإسلام يرحبون بها؛ حتى لو تصادمت مع عقائدهم وأفكارهم، لكن أهم شيء أنها تضعف الهوية الإسلامية، فأحياناً يشجعون القوميات والنعرات الإقليمية، وأحياناً يشجعون العولمة والترويج للثقافة العالمية، والحقيقة أن العولمة قناع تختفي تحته فكرة تزويد الثقافة الغربية التي كان يعبر عنها بصراحة مطلقة فيما مضى في عهد الاستعمار: رسالة الرجل الأبيض إلى العالم الملون! أي: أن الرجل الأبيض هو الذي سيهدي هذه البشرية، والرجل الأبيض هو أرقى ما وصل إليه التطور البشري، والآن يغلفونها بكلمة العالمية، فتهدف العالمية إلى تذويب هوية الأمم، وتبخير مثلها العليا، وصهرها في أصولها، ودمج الفكر الإسلامي واحتوائه في قيم تخالف الإسلام، وفي كل شيء يحاولون أن يذوبوا الهوية، حتى في أبسط الأشياء، وأبسط العادات؛ حتى عادات الأكل والشرب أصبحت الآن تقتبس من الغرب.
سئل أحد المسئولين الأمريكيين عن رأيه فقيل له: هل تتوقع أن تحصل حرب بين مصر وإسرائيل؟ فقال: يصعب على المرء أن يتصور منذ الآن أن تقوم حرب بين دولتين في كل منهما فرع للاحتلال.(50/21)
التغريب ودوره في طمس الهوية الإسلامية
أيضاً من هذه الأساليب: التغريب الذي استمر سمة ثقافية بارزة حتى بعد أن اضطر الغرب إلى تقويض خيامه، ثم الرحيل عن بلاد المسلمين، ولكن الذي حدث أنه لم يرحل إلا بعد أن أقام وكلاءه حراساً على مصالحه ومقاصده، فرحل الإنجليز الحمر وحل محلهم الإنجليز السمر، وبعبارة شاهد من أهلها -وهو صاحب كتاب (تغريب العالم) - يقول: لقد انتقل البيض إلى الكواليس، لكنهم لا يزالون مخرجي العرض المسرحي!(50/22)
استغلال قضية تحرير المرأة المزعومة في طمس الهوية الإسلامية
من هذه الأساليب لتذويب الهوية: استقطاب المرأة المسلمة، وخداع المرأة المسلمة، والتغرير بها بدعاوى: تحرير المرأة، ومساواتها بالرجل، والترويج لفكرة القومية النسائية، وفصل قضية المرأة المسلمة عن قضية الوطن المسلم، وترويج خبر امرأة في جنوب أفريقيا اشتغلت كذا، وأخرى في كذا، فعلت كذا وكان مصر يجب أن تقتدى بكل نساء العالم، وجعلوا رابطة قومية تربط النساء؛ تربط المسلمة باليهودية بالنصرانية بعابدة الأبقار والأوثان وبالملحدة، وكأن قضيتهن واحدة، ومعتقداتهن واحدة، ومطالبهن واحدة، ومعركتهن ضد الرجل واحدة!!(50/23)
الاشتغال بالترفيه والشهوات من وسائل طمس الهوية الإسلامية
من ذلك أيضاً: إشغال المسلمين بالترفيه وبالشهوات، ودفع المجتمع إلى السطحية في النظر إلى الحقائق، وذلك بزيادة معدلات تعرضه للإعلام الترفيهي، مع تقليل الزمن المتاح للتأمل والتفكر والتدبر في الأحداث اليومية.
إذاً: وسائل الترفيه والإعلام هذه هي آلات الجراحة النفسية المطلوبة لاستبدال الهوية ومسخها.(50/24)
استغلال الأوضاع الاقتصادية في طمس الهوية الإسلامية
من ذلك أيضاً: استغلال العامل الاقتصادي في تذويب الهوية؛ لأن العطاء لابد له من مقابل، وغالباً هذا المقابل لابد أن يشمل إضعاف العقيدة والتنازل عن الهوية.(50/25)
الحرب النفسية على الدعوة الإسلامية: ورموزها أسلوب من أساليب طمس الهوية الإسلامية
من ذلك أيضاً: الحرب النفسية المدعمة بالأساليب التعسفية؛ لإنهاك الدعوة إلى الهوية الإسلامية، وتنحية رموزها عن مواقع التأثير الإعلامي والتربوي، وتسليط الحملات التي تصفهم بالتطرف والإرهاب والأصولية، مع تركهم مكشوفين في العراء عرضة لانتقاد وسخرية أعداء الهوية الإسلامية؛ لكيلا يشكل الدين أي مرجعية معتبرة للأمة.(50/26)
من أساليب طمس الهوية الإسلامية تقسيم الدين إلى قشور ولباب
من ذلك أيضاً: تقسيم الدين إلى قشر ولباب، وإلى شكليات وجوهر، وهذه دعوة خبيثة من لحن قول العلمانيين، وقد فصلنا الكلام فيها في مناسبة أخرى، لكن باختصار نقول للكافرين: لكم دينكم ولنا دين، أيضاً نقول: لكم قشرتكم ولنا قشرتنا، فينبغي أيضاً أن نتميز في الظاهر كما نتميز عنهم في الجوهر، قال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138].(50/27)
كيفية المحافظة على الهوية الإسلامية واسترداد ما دُرس منها
ما السبيل إلى استرداد هويتنا؟ نحن حينما نتكلم على قضية الهوية لا نخترع ولا نؤسس هوية مفقودة، لكننا نريد استعادة الوعي بالهوية الموجودة، والحقيقة أن الناس لا زال فيهم الخير، والجذور موجودة، والعاطفة موجودة، والاستعداد موجود، لكنهم ضحايا هذه الأساليب التي ذكرنا، ولهذا سمعنا أن الجنود المصريين الذين ذهبوا إلى حفر الباطن أيام حرب العراق ليحاربوا جيش العراق، أول ما سمعوا أن العراق أطلق أول صاروخ على إسرائيل ظلوا يهللون ويكبرون بهذا النصر العظيم، وهذا يكشف عن المعدن الأصيل والراسخ الذي أحدثه الإسلام في جذور هذه الأمة الإسلامية، فالحقيقة أننا لا نحتاج الآن إلى أن نؤسس هوية جديدة، وإنما نحتاج إلى استعادة الوعي بالهوية الموجودة بالفعل التي صارت كصفحة مكتوبة تراكمت عليها طبقات الأتربة حتى صارت غير مقروءة؛ لأن أحداً لم يحاول قراءتها منذ زمن، فالمطلوب إزالة هذه الأتربة، واستحضار الأفكار والقيم التي يطلب الوعي بها من وراء حائط النسيان.(50/28)
الإعلام ودوره في إحياء الهوية والحفاظ عليها
لابد من توظيف الطاقات المتاحة، وأهمها: تدعيم الإعلام الإسلامي والدعوة الإسلامية بكافة أشكالها؛ لتحصل إحياء حركة تجديد الدين بالمنهج وفقاً للمنهج السلفي الواضح، وبمنتهى الوضوح لابد أن يكون التجديد سلفياً، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) فأي انحراف عن منهج النبوة -الذي هو منهج أهل السنة والجماعة منهج السلف الصالح- لا يمكن أن يحدث تجديداً ولا تمكيناً؛ لأن في الرجوع إليه عودة إلى منابع الإسلام الصافية، بعيداً عن مخلفات القرون.(50/29)
الإسلام منهج شامل كامل لكل زمان ومكان
أيضاً: إظهار أهلية الإسلام لمعضلات واقعنا الأليم، وتحرير الهوية الإسلامية من كل مظاهر الخور والتبعية والتقليل، والتصدي لمحاولات تذويب الهوية الإسلامية وقطع الصلة بالأمة بدينها؛ خاصة من خلال تخريب مناهج التعليم، وتشويه التاريخ الإسلامي، وإضعاف اللغة العربية، ومزاحمة القيم الإسلامية بقيم غربية وغير ذلك من أنشطة التبشير، لا نقول: التبشير النصراني، لكن التبشير العلماني، والغزو الفكري وتسميم الآبار الإسلامية، أو ما يطلق عليه الذين لا خلاق لهم تجفيف منابع الدين، نسأل الله أن يجفف الدم في عروقهم، وأن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وأن يريح البلاد والعباد من شرورهم.
هل ستعود الهوية الإسلامية؟ وبعبارة أخرى يمكن أن يصاغ هذا
السؤال
هل سيعود إلى المسلمين مجدهم وعزهم وسيادتهم؛ لأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين العودة إلى الهوية الإسلامية وبين النصر والتمكين؟
الجواب
نعم، كما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، يقول سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة).
وقال تعالى في صفة الذين سيسلطهم على اليهود إن عادوا إلى الإفساد في الأرض: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء:5] انظر إلى الهوية: (عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5].
فالهوية هي العبودية لله، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الهوية الإسلامية ستكون هي هوية الذين يقاتلون اليهود ويهزمونهم ويؤدبونهم؛ حتى إن الحجر والشجر سيتعاطف مع المسلم بهويته الإسلامية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلون اليهود؛ حتى إن الحجر والشجر يختبئ خلفه اليهودي يقول: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود) والغريب أن اليهود الآن يستكثرون من زراعة نبات الغرقد في فلسطين! فالإسلام هو عبادة الله وحده، وهو مفتاح النصر والتمكين، أما شعارات الدجاجلة الذين يتبعون الذين كفروا، والذين هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا؛ فهؤلاء ستدركهم سنة الله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]، وهؤلاء الضالون المضلون هم دعاة التغريب والقومية والعلمانية إلخ.
وما أقوالهم سوى فقاقيع سنحت لها الفرصة لتطفو على السطح، ثم تتلاشى كأن لم تكن، وسينتصر الإسلام رغم أنف الجميع.
إن العالم الإسلامي هو الآن الأجدر بالوصاية على المجتمع البشري بعد انسحاب الأديان الأخرى من معترك الحياة، وبعد انهيار الشيوعية الملحدة وإفلاس الغرب المادي من القيم الروحية السامية.
والعالم الإسلامي له في المجد نسب عريق وطريق عميق، وله حضور تاريخي متميز، ويملك مقومات الانطلاقة المستقبلية الجادة؛ إنه صاحب القوة الكبرى الكاملة التي يحسب الغرب لها ألف حساب رغم ضعفه البادي والظاهر، ومن أجل ذلك كان للعالم الإسلامي الحظ الأوفر من مؤامرات تحطيم الهوية ومسخها، وفوق ذلك كله هو عالم إن عاد إلى هويته فهو عالم مؤهل بالثبات مؤيد بالمدد الرباني الذي لا يضعه الغرب في حساباتهم، قال تعالى مخاطباً إيانا بهذه الهوية: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78].(50/30)
شهادة صادقة من عدو كاذب
أخيراً: دعونا نتأمل هذه العبرة التي نطق بها عدو لدود، لكن لكونها توافق سنن الكون وقوانين الحياة نقول: صدق وهو كذوب، فقد قص الأستاذ يوسف العظم: أن وزير الحرب اليهودي موشي ديان لقي في إحدى جولاته في فلسطين المحتلة شاباً مؤمناً في مجموعة من الشباب في حي من أحياء قرية عربية باسلة، فصافحهم اليهودي الخبيث بخبث يهودي غادر، غير أن الشاب المؤمن أبى أن يصافحه، وقال له: أنتم أعداء أمتنا، تحتلون أرضنا، وتسلبون حريتنا، ولكن يوم الخلاص منكم لابد آتٍ بإذن الله؛ لتتحقق نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم القائل: (لتقاتلن اليهود أنتم شرقي النهر وهم غربيه) فابتسم ديان الماكر وقال: حقاً! سيأتي يوم نخرج فيه من هذه الأرض، وهذه نبوءة نجد لها في كتبنا أصلاً، ولكن متى؟ واستطرد اليهودي الخبيث قائلاً: إذا قام فيكم شعب يعتز بتراثه، ويحترم دينه، ويقدر قيمه الحضارية، وإذا قام فينا شعب يرفض تراثه، ويتنكر لتاريخه، عندها تقوم لكم قائمة، وينتهي حكم إسرائيل! أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(50/31)
أدب التعامل مع الكفار
الإسلام دين اليسر ورفع الحرج والمشقة، وقد اختص الإسلام بخصائص كثيرة عن غيره من الأديان السابقة، ومن تلك الخصائص أحكام معاملة الكفار وأهل الكتاب، فقد وضع الشرع آداباً وأسساً تقوم عليها العلاقة مع الكفار، والتعامل معهم، وهي أسس وضوابط مبنية على العدل وعدم الظلم، وهذا هو اللائق بهذا الدين العظيم، الذي فيه الدعوة إلى كل خير، والتحذير والنهي عن كل شر وضرر ومكروه.(51/1)
الأسس العامة في علاقة المسلمين بغيرهم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فقد كثر سؤال الإخوة في الحلقات السابقة عن كثير من الأحكام التي تتعلق بأدب التعامل مع الكافرين، والسلوك الذي ينبغي أن يسلكه المسلم مع الكفار باختلاف أنواعهم، وكنت أرجئ جميع هذه الأسئلة إلى مثل هذه الفرصة حتى نحاول أن نستوفي الموضوع من شتى جوانبه.
وقد وجدت دراسة من أفضل الدراسات في هذا الموضوع، سبق أن مررنا بشيء يسير منها في أثناء فتنة الخليج، وهي في كتاب الدكتور عبد الله بن إبراهيم بن علي الطريقي المسمى: الاستعانة بغير المسلمين في الفقه الإسلامي.
ونحن نعلم أن دين الإسلام هو الرسالة الخاتمة الكاملة، جاء الإسلام بتشريع دقيق واف شمل كل أمور الحياة البشرية في الدين والدنيا، ومن جملة ما شمله الإسلام: تنظيم العلاقات بين الناس بعضهم ببعض، سواء كان بين الراعي والرعية، أو بين الوالد وأولاده، أو بين الزوج وزوجته، أو بين الأقارب أو الجيران، أو بين المسلم والمسلم، أو بين المسلم وغير المسلم، أو بين الدولة وغيرها من الدول في حالتي السلم والحرب.
لقد وضع الإسلام لكل ذلك حدوداً وشرع شرائع وأحكاماً بينة، ولعل من أهمها هي العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، فإننا إذا تحرينا وجدنا أن هذه المسألة قامت عليها أدلة كثيرة جداً، ولذلك قال بعض العلماء: إنها أعظم مسألة قامت عليها أدلة من القرآن والسنة بعد مسألة توحيد الله تبارك وتعالى، وسوف نجتزئ من الفصل الأول من الرسالة من الباب الأول: الأسس العامة في علاقة المسلمين بغيرهم.
وقد ذكر الدكتور الطريقي حفظه الله بعض الأسس التي تقوم عليها هذه العلاقة بين المسلمين وغيرهم.
الأساس الأول: سماحة الإسلام والمظاهر الإنسانية.
سبق التنبيه على استعمال كلمة الإنسانية في نفس هذا السياق، وأن كلمة الإنسانية أحياناً لا تذكر في سياق المدح، فيكون بذلك إذاً مخالفة للقرآن الكريم، أو مخالفة لأسلوب القرآن وألفاظ القرآن؛ لأن القرآن لم يستعمل لفظ الإنسان إلا في سياق الذم، بحيث يشير القرآن إلى أن هذا المخلوق البشري من حيث هو مخلوق قبل أن ينتفع بهداية الله تبارك وتعالى إياه، فالمخلوق العاري عن التوفيق والهداية يسمى إنساناً، ولذلك نجد صفاته دائماً مذموماً؛ لأنه لم ينتفع بعد ولم يستجب لهداية الله تبارك وتعالى، لم يهتد ولم يوفق لذلك، فانظر إلى أي صفة للإنسان في القرآن: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2]، وقوله: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] وقوله: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6]، {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] وهكذا.
الأساس الثاني: أن الإسلام دين خاتم عالمي.
الأساس الثالث: العدل.
الأساس الرابع: الوفاء بالعهود والمواثيق.
الأساس الخامس: منع الفساد في الأرض.
الأساس السادس: منع موالاة الكفار.
الأساس السابع: القاعدة في معاملة الكافر وتوثيقه وقبول خبره.(51/2)
سماحة الإسلام ومظاهر ذلك
الإسلام دين اليسر ورفع الحرج والمشقة، فلا عسر فيه ولا أغلال ولا آصار، هذه الميزة خاصة بدين الإسلام أنه دين يسر، قال عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] فهذه الميزة اختصت بها الأمة المحمدية، لم يشاركها في هذه الميزة أمة من الأمم أو دين آخر، حتى كانت الأمم السابقة تكلف بتكاليف عسيرة، وتفرض عليها فرائض شديدة، وربما حظر الله عليها بعض المباحات والطيبات، وهذا ليس من طبيعة هذا الدين المنزل من عند الله تبارك وتعالى؛ ولكن لأن بعض تلك الأمم كانت مجبولة على العناد، والشقاق، والشكوك، وكثرة السؤال، والتعنت في معاملة أنبيائهم، فكانوا يشددون على أنفسهم فيشدد الله تبارك وتعالى عليهم، كما حصل مع بني إسرائيل في قصة البقرة التي أمروا بذبحها؛ لهذا جازاهم الله عز وجل بأن عسر عليهم بعض هذه الأمور جزاء تعنتهم وعتوهم، ولا يظلم ربك أحداً.
والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تبارك وتعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء:160] فحصل تحريم لبعض الطيبات لأمرين: الأول: ظلم من الذين هادوا وهم اليهود لعنهم الله.
الثاني: بصدهم عن سبيل الله تبارك وتعالى كثيراً.
أما هذه الأمة المرحومة، الأمة المحمدية، الأمة الوسط، فبما رحمة من الله سمعت وأطاعت واستجابت لكل ما طلب منها، فخفف الله تبارك وتعالى عنها، ووضع عنها الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، ولهذا فالمسلم يدعو دائماً بهذا الدعاء العظيم، الذي ختمت به سورة البقرة: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286]، وجاء في الحديث الصحيح: (أن الله جل وعلا قال: قد فعلت) يعني: استجبت دعاءكم ووهبتكم ذلك الذي سألتموني إياه.
فرفع الآصار والأغلال والتخفيف هذا من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة؛ لكونها الأمة الخاتمة، صاحبة الرسالة الخاتمة إلى أن تقوم الساعة.
فاختصت هذه الأمة بكثير من هذه الخصائص التي يتجلى فيها جانب الرفق والسماحة، فمثلاً: بعض الأحكام في الأمم السابقة كأحكام الطهارة، كان عند تلك الأمم إذا أصابت الثوب نجاسة فإنه يحرق، أما في شريعة الإسلام فمعلوم ما في ديننا من التيسير الكثير في شأن الطهارة والعبادات ومن رفع الحرج، بحيث إنه متى ضاق الأمر اتسع.
كذلك كانوا لا يعذرون بالإكراه، وهذه الأمة عذرت بالإكراه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، فهذا يدل على أن هذا من خصائص هذه الأمة، في حين أن الأمم السابقة كما في قصة أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20]، فنفى عنهم الفلاح إلى الأبد، وهذا يبين أنه لم يكن لهم رخصة في النطق بكلمة الكفر، إما أن يثبتوا فيفلحوا أو يرتدوا فيهلكوا.
أما الترخيص في النطق بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان، فهي من خصائص هذه الأمة المرحومة، كما هو معلوم من قوله تبارك وتعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] وهكذا كثير من الأحكام تولى فيها سبحانه رفع الإصر والأغلال عن هذه الأمة المرحومة، يقول عليه الصلاة والسلام: (دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إني أرسلت بحنيفية سمحة) فالحنيفية: هي الميل عن الأديان الباطلة إلى دين الإسلام.
من هذه القاعدة انطلق الإسلام، وشمل بيسره ورفقه الناس حتى غير المسلمين، فقد كانت بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين، كما وصفه الله عز وجل بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فبعثته شملت كل العالمين، حتى عالم الطيور وحتى عالم الأسماك، وحتى عالم الكفار والمشركين، فلكل أمة نصيب من صفة الرحمة التي اختص بها رسول الرحمة صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
تسامح الإسلام حتى مع هؤلاء الكفار غير المسلمين في كثير من القضايا والأحكام، ومنحهم كثيراً من الحقوق حتى أصبحت هذه الأمور قضايا عامة، وكل هذا بفضل رحمة الله بعباده ولطفه بهم، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر الله تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة) رواه مسلم.(51/3)
مشروعية الرحمة العامة
من أهم جوانب التسامح في هذا الدين مع غير المسلمين: مشروعية الرحمة العامة، هنالك رحمة عامة يرحم بها المسلم الخلق كافة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يضع رحمته إلا على رحيم، قالوا: كلنا يرحم يا رسول الله! قال: ليس رحمة أحدكم صاحبه، ولكن يرحم الناس كافة) فأول مظاهر هذا التسامح الرحمة العامة؛ بل إن من أسماء الله عز وجل الحسنى المقدسة: اسمه عز وجل الرحمن واسمه الرحيم، ومعلوم اختلاف العلماء في تفسير هاتين الصفتين، وكيف أن الرحيم يختص بالمؤمنين، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة يشمل كل المخلوقات، فالرأفة والرحمة من صفات الله عز وجل.
أيضاً أرسل الله تبارك وتعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للخلق، قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، ومن هنا حض الإسلام على هذه الرحمة العامة للخلق كافة ورأف بهم، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس)، الناس بكل أبعادها، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: (من لا يرحم لا يرحم).
قال ابن بطال في هذا الحديث: فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك منها وغير المملوك.
إذاً: الرحمة شاملة لكل الخلق وليست خاصة بالمؤمنين أو بالمسلمين، وسبب هذه الرحمة ظاهر؛ فإن الحياة بمعنى الحيوانية في الشيء، فكلمة الحيوان مذكر الحياة، والدليل قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] أي: هي الحياة الحقيقية الباقية.
وعندما نقسم المملكة الحيوانية يدخل فيها الإنسان، ويدخل فيها غيره من الدواب والطيور وغير ذلك، فوجود معنى الحيوانية في الشيء سواء كان هذا الشيء إنساناً أم حيواناً من أسباب الدعوة إلى الرحمة، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هل في الإحسان إلى البهائم أجر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لك في كل ذات كبد رطبة أجر) ومعلوم حديث الرجل الذي رأى الكلب وهو يلهث أو يلعق التراب من شدة العطش، فنزل البئر وأحضر له الماء في نعله أو في موقه فسقاه، فغفر الله له بذلك.
إذاً: الرحمة العامة لكل المخلوقات، سواء كان مسلماً أو كافراً أو من البهائم: (في كل كبد رطبة أجر).
أيضاً وجود الكفر أو الفسوق أو العصيان في واحد من الناس هو أمر أصلاً يدعو إلى الرحمة والتأسف، أنت إذا تذكرت ما ينتظره من العذاب الأليم تشعر بالرحمة له والشفقة عليه من هذا العذاب، وتتأسف على حاله؛ لأنه إنسان مبتلى، فالمبتلى لا ينبغي إظهار التعالي عليه، بل على المسلم التقي الذي عافاه الله عز وجل أن يحمد ربه على العافية: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] أي: كذلك كنتم قبل أن تدخلوا في الإسلام.
فالإنسان المسلم لا ينظر إلى أن هذه الهداية أو التوفيق جاءت من كده وكدحه، إنما هي برحمة الله إياه وبتوفيقه الذي حرمه ذلك الكافر، فلا تنظر للكافر بتعالٍ، فإنما الأعمال بالخواتيم، لكن انظر له بعين الرحمة العامة، فتحمد ربك على العافية وترحم هذا المبتلى، وما معنى رحمته؟ معنى رحمته أن تنصحه وتدعوه إلى الحق بالأسلوب المناسب.
روى الترمذي عن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من رأى صاحب بلاء فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، إلا عوفي من ذلك البلاء كائناً ما كان ما عاش)، وكما ذكرنا من قبل فضيلة الدعاء (أعجز الناس من عجز عن الدعاء) فالإنسان لو دعا بهذا الدعاء حينما يرى مبتلى بأي مرض من الأمراض، وتذكره ووفقه الله لاستحضاره ساعتها بإخلاص واستوفت شروط الإجابة، فإن الجائزة هي أن يعافى من هذا المرض مدة حياته كلها، فانظر إلى هذه الرحمة والناس في غفلة عنها.
عندما ترى واحداً مشلولاً، أعمى، مريضاً بالسرطان، مريضاً بأي نوع من الأمراض، فإذا رأيته بهذا المرض وقلت هذا الدعاء، فهذا ضمان وتأمين من النبي عليه الصلاة والسلام أنك تعافى من هذا المرض ما عشت.
أيضاً صاحب البلاء، لا ينبغي أن نقصر هذه الرحمة على البلاء الذي يتبادر إلى أذهاننا كفقدان الصحة والعافية وغير ذلك، لكن من أشد البلاء الذي يبتلى به الإنسان ويصاب به المصيبة في دينه، وأخطر ذلك الوقوع في الكفر والعياذ بالله، كذلك البلاء بالمعاصي، كأن ترى حاكماً رئيساً أو ملكاً أو قائداً عسكرياً كبيراً وكل هؤلاء قد سخروا سلطانهم في الصد عن سبيل الله تبارك وتعالى، والتعالي على خلق الله والتكبر عليهم، وتعذيب الناس وأذيتهم في دينهم، وصدهم عن دين ربهم، فلا تنظر إلى ما هم فيه من المناصب المرموقة، أو أن معهم مالاً أو كذا وكذا من الأمور الدنيوية، وإنما تنظر إلى البلاء الحقيقي الذي هم فيه، وتحمد الله أن عافاك من حالهم، وجعلك مسلماً مؤمناً موحداً تقياً.
فالإنسان المسلم يستحضر نعمة العافية من البلاء إذا رأى مكاساً، وإذا رأى أي واحد من الظلمة.
لماذا لا نتذكر الداء فقط إلا عند الأمراض البدنية؟! إذا رأيت من يضيع وقته في الأفلام والتلفاز والمسرحيات والمباريات وكل هذه الضلالات، فإن عليك أن تستحضر نعمة الله عليك أن صرف عنك هذه الأشياء في حين زينها لغيرك: {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8]، فتحمد الله أن عافاك من هذا وجعلك من أهل تعمير المساجد، وتعمير حلق الذكر، وطاعة الله تبارك وتعالى والدعوة إليه، فهذه كلها من النعم وعكسها من البلاء، فينبغي إذا رأينا صاحب البلاء أن نقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به.
وهل يظهر الإنسان هذا الدعاء ويجهر به أمام المبتلى؟ يذكر العلماء في الآداب الشرعية: أن البلاء إذا كان في الدين، كالمعاصي والكفر والعياذ بالله أو غير ذلك، ويرجى من الجهر به أن ينزجر ذلك الشخص المبتلى بالمعصية أو بالكفر أو المخالفة فلا بأس، لكن لا على سبيل الشماتة ولا على سبيل التعالي، وإنما استحضار لنعمة الله، وطلب للعافية، ثم تذكير لهذا المبتلى بالمعصية لعله إذا سمعه ينزجر.
إذاً: إذا كان يرجى من وراء الجهر بهذا الدعاء أن ينزجر هذا المبتلى فلا بأس أن تجهر بهذا الدعاء، أما إذا كان ذلك يدعو إلى إصراره فلا، وكذلك إذا كان الإنسان المبلتى مريضاً فلا تسمعه هذا الدعاء؛ لأن هذا ليس من الأدب الشرعي، لكن تسر به في نفسك حتى لا تؤذيه، فهذا مما ينبغي أن يلتفت إليه، وهذا الحديث رواه الترمذي وابن ماجة ورمز له السيوطي بالحسن: (من رأى صاحب بلاء فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، إلا عوفي من ذلك البلاء كائناً ما كان ما عاش).
إذاً: هذه فرصة عظيمة جداً، وفعلاً كما قال عليه الصلاة والسلام: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء)، وهذا مما يلفت أنظارنا إلى أن كثيراً من أبواب الخير مفتوحة، ولكن الناس في غفلة عنها، ولذلك يحرمون، فمثل هذا هو محض توفيق من الله، قد تجد الناس تتذكر هذا الدعاء، لكن ليس كل الناس يكرمهم الله باستحضاره: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].
فمن توفيق الله عز وجل للعبد أن يلهمه أن يستحضر هذا الدعاء في هذا الموضع، حتى يمتن الله عليه بالمعافاة من هذا الداء.
إذاً: دائماً نكرر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء) بتحريك الشفتين بألفاظ قليلة سهلة ميسورة في وقت قصير تنال أعظم المطالب في الدين والدنيا والآخرة، تنال الجنة والفردوس الأعلى بالدعاء، ومن عجز عن الدعاء مع سهولته وعظم الثمرة المرجوة من ورائه؛ فهذا أعجز الناس لا شك في ذلك.(51/4)
رحمة الداعية بمن يدعوهم إلى الله تعالى
الرسول عليه الصلاة والسلام في دعوته لقومه هو المثل الأعلى في مجال رحمة الخلق، فينبغي أن تكون نظرتنا إلى من ندعوهم إلى الإسلام نظرة الرحمة العامة، نظرة الرحمة والشفقة لا نظرة الاستعلاء أو التكبر أو التشفي أو غير ذلك، بل إذا تأملنا القرآن الكريم فسنجد أنه قد بلغ من شفقته عليه الصلاة والسلام على أمته -أمة الدعوة وتشمل الكفار أيضاً -وصل حزنه وشفقته عليهم ونصيحته لهم إلى أنه كاد أن يهلك نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم، يقول الله تبارك وتعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف:6] أي: مهلك نفسك.
{عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] أنت تهلك نفسك أسفاً عليهم، وفي الآية الأخرى يقول عز وجل: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]، فالداعية إلى الله المقتدي بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يرحم الناس ويهتم بهم، لكن لا ينبغي أن تصل به هذه الرحمة وهذا الاهتمام إلى حد الأسى وتعذيب النفس وإرهاقها، لكن يعزي نفسه بأن الهداية بيد الله عز وجل، وما على الداعي إلا البلاغ المبين، ورسول الله عليه الصلاة والسلام الذي بعث رحمة للعالمين بالرغم مما كان يعانيه في سبيل الله من المشقة والجهد والتحدي، لما طُلِبَ من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو على المشركين أن يهلكهم الله وأن ينزل عليهم بأسه وعقابه، ماذا كان جوابه عليه الصلاة والسلام؟ يقول صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح مسلم: (إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة) صلى الله عليه وآله وسلم.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيه، -فأخذ يردهن بيده وهن يتقحمن في النار، وأنا آخذ بحجزكم من النار وأنتم تفلتون من يدي) رغماً عنه عليه الصلاة والسلام، يعني: كأن هناك ناراً والناس واقفون على شفير هذه النار ويقذفون أنفسهم فيها، وهو رحمة بهم يريد أن ينجيهم، فيمسك ما أمكنه أن يمسك، يمسك هذا من ذيل ثوبه، وهذا من أكمامه فيحاول أن يبعدهم عن النار رحمة بهم ونصيحة لهم، فمن هلك يهلك رغماً عنه، الذي يستطيع أن ينجيه يجتهد في ذلك، لكن ما الحيلة فيمن قضى الله عليهم بالشقاء والعذاب والتعاسة؟! إذاً: المسلم هو رحمة ورأفة وعطف وتواضع، وليس أبداً بحال من الأحوال هذا الوضع للمسلم هو عنوان الاستكانة أو الذل أو الضعف، لكن هذه الرحمة هي الرحمة التي هي طبع الأقوياء الأعزاء بالله وبدين الله تبارك وتعالى، قال الله تبارك وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
فإن قيل: وصف الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه بأنهم أشداء على الكفار غلاظ عليهم، هل يتنافى هذا مع الرحمة؟ ف
الجواب
أن هذه الآية يفسرها قوله تبارك وتعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:7 - 9].
هذه الآيات توضح لنا أن من أبدى عداء للمسلمين وأضمر شراً لهم، فلابد أن يكون المسلمون أشداء عليهم جزاءً وفاقاً، فهذا هو المقصود بقوله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29]، وبقوله عز وجل: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:9]، فالكفار الذين أمرنا أن نكون أشداء عليهم هم من جاءت صفاتهم في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:9]، مقاتلة المسلمين، فتنتهم عن دينهم، الاعتداء على المسلمين في ديارهم وإخراجهم منها، كذلك مظاهرة هؤلاء ومساعدتهم، أي: من لم يفعل بنفسه هذه الأشياء من الكفار لكنه عاون الكفار الآخرين وساعدهم على فعل هذه الجرائم فهو أيضاً له حكمهم.
ثم إن الشدة لا تتنافى مع الرحمة، فالطبيب الذي يأتيه المريض الذي حصلت به مثلاً الغرغرينة، إذا تركه ولم يبتر هذا العضو الميت من بدنه فسوف يزحف هذا المرض على بدنه ويتلفه كله، فتضيع حياته، فمن الرحمة بهذا المريض بتر هذا العضو الميت وفصله عن جسده، حتى ينقذ باقي الجسد، فكذلك أيضاً مشرط الجراح حينما يعمل في جسم الإنسان من أجل إنقاذه من خطر أكبر، فهذا في الحقيقة ظاهره أنه مؤلم، لكن هو في الحقيقة سبب إلى العافية وسبب إلى الرحمة، فالشدة لا تتنافى مع الرحمة، والأب الرحيم المحب لأولاده قد يشتد عليهم، لا يشتد من منطلق أنه يريد أن يقضي عليهم أو يغلظ عليهم، لكن يشتد ويتحكم في أبوته وعاطفته التي تدعوه إلى عدم الشدة، ويعمل عقله ويريد مصلحة هذا الولد حتى يقوّم خلقه، وحتى يستفيد من التجارب، وحتى يحسن تربيته وأخلاقه، فإنه ربما يحتاج إلى الشدة، كما سبق أن ذكرنا ذلك في مشكلة ضرب الأولاد.
فالشاهد أن الشدة لا تتنافى مع الرحمة، كما قال الشاعر: فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم فهذه الشدة من أجل مصلحة الإنسان نفسه، أما من أبدى تعاطفاً وسلماً من الكفار، أو كان له عهد وذمة، فالمشروع في حقه أن يحسن إليه، علاوة على هذه الرحمة، ولعل هذا ما أشار إليه قوله عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8]، وكما قال عز وجل: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61] فهذا فيما يتعلق بالمظهر الأول من مظاهر تسامح الإسلام مع الناس كافة، وهو مشروعية الرحمة العامة، وهي التي يحتاج إليها كثير من الناس، مثلاً: الطبيب إذا وجد مريضاً من الكفار يحتاج إلى مساعدته أو إنقاذه، ما لم يكن هذا الرجل حربياً معادياً للإسلام في وقت من الأوقات التي ذكرناها آنفاً؛ فإنه يرحم بالرحمة العامة، ولا يتحرج الطبيب المسلم من معالجته من باب أنه ذو كبد رطبة، وأنه مخلوق فيه روح، وهذه حرمة تجعل له حقاً أو نصيباً في الرحمة العامة ما لم يكن محارباً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.(51/5)
مشروعية البر والإحسان إلى المسالمين من الكفار
المظهر الثاني من مظاهر سماحة الإسلام: مشروعية البر والإحسان إلى المسالمين من الكفار، فالإسلام حث على البر والإحسان وبذل المعروف والنصح لجميع الناس، إلا من حارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتربص بالمسلمين الدوائر، وهؤلاء هم الذين يسمون بالحربيين، فمن لم يكونوا حربيين يجوز أن يبروا وأن يسالموا؛ لأن الإسلام لا يمانع من برهم والعطف عليهم ما داموا مسالمين موادعين، كحال أهل الذمة الذين لهم عهد مع الخليفة أو الحاكم المسلم، فتراعى ذمتهم ويحسن إليهم، كذلك أيضاً أهل الصلح ونحوهم، يقول تبارك وتعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9].
يقول شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: أولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: عنى بذلك: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8] من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم؛ لأن الله عز وجل عمهم في الحكم، وذلك بقوله: {الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [الممتحنة:8] لأن (الذين) اسم موصول يفيد العموم، فتعم جميع من كانت تلك صفته، فلم يخصص به بعضاً دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ.
ويقول الشوكاني أيضاً حول هذه الآية: ومعنى الآية: أن الله سبحانه لا ينهى عن بر أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال، وعلى ألا يظاهروا الكفار عليهم.
وخلاصة الكلام: أن الإحسان وحسن الخلق وبذل المعروف مرغب فيه لكل أحد ولو كان لغير المسلمين، يقول ابن المرتضى اليمني: المخالفة والمنافعة وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف ونحو ذلك يستحب بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذمة، فلا يبذل للعدو في حال الحرب.
يعني: إظهار المودة للكافر الحربي مما يجعلك في صورة المتذلل له المضطهد له حتى لا يؤذيك، أو يؤدي إلى نوع من الاعتزاز على المسلم، فمثل هذا لا يشرع، لكن فيما عدا ذلك كما أشرنا من قبل أن التسامح الإسلامي هو تسامح القوي، ورحمة الإسلام رحمة العزيز بلا ذل ولا هوان.
إذاً: حسن الخلق مطلوب مع كل الناس، بعض الناس يتكلف إساءة الخلق مع الكافر غير الحربي، يظن أن هذا هو حقيقة الولاء والبراء، لكن إذا تأملنا موقف موسى عليه السلام من فرعون، وفرعون لا يرتاب أحد في أنه من أشد الناس كفراً، وأنه قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ومع ذلك أمر الله عز وجل موسى وهارون أن يقولا له قولاً ليناً قال عز وجل: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فإلانة القول وحسن الأسلوب في الكلام والأدب وحسن الخلق هذا مرغوب مع كل أحد.
أقول: وهذا القيد الذي ذكره ابن المرتضى قيد في محله، ففعل البر كله لابد أن يكون من يد عليا عزيزة، فإذا كان يفضي إلى ذل واستكانة فلا ينبغي فعله لغير المسلم.(51/6)
البر والإحسان إلى الأقارب إذا كانوا غير مسلمين
إن من أهم الذين يتعين برهم والإحسان إليهم من غير المسلمين هم الوالدان، ثم الأقربون على حسب درجات قربهم، يقول الله عز وجل مقرراً حق الوالد المشرك: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] وإن كان هذا الوالد المشرك لم يكتف بكونه مشركاً، ولم يكتف بدعوة ابنه إلى الشرك فقط؛ بل إنه يجاهده حتى يشرك بالله، ومع ذلك حفظ الله لهذين الأبوين الكافرين حقهما: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، وهذا فيه تعظيم شديد جداً لحق الوالدين المسلمين، فإذا كان هذا مع الكافر فكيف بالوالدين المسلمين؟! وقد ثبت عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قدمت أمي علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم، صلي أمك) (قدمت أمي علي راغبة) أي: ترغب صلتي، أو ترغب أن تسألني شيئاً من المال، فأم أسماء غير أم عائشة رضي الله عنها، فأم أسماء هي قتيلة، قدمت من مكة إلى المدينة حتى تصل بنتها.
قولها: (راغبة) إما في الصلة أو في أن تسألها شيئاً، (أفأصلها؟ قال: نعم صلي أمك)، فصلة الرحم هدف متفق عليه، وصلة الرحم مأمور بها لكل الأقارب أيضاً، وإن كانوا غير الأبوين، كما قال الله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1] أي: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، هذا هو المقصود من قوله: (واتقوا الله الذي تساءلون به) حين يقول أحدكم للآخر: أسألك بالله أو أسألك بوجه الله.
قال ابن العربي رحمه الله تعالى: واتفقت الملة أن صلة ذوي الأرحام واجبة، وأن قطيعتها محرمة، ولتأكيد صلة الرحم المؤمنة ذكر الفضل في صلة الرحم الكافرة، وهذا يسمى: قياس الأولى أو القياس الجلي، إذا كان هذا في حق الرحم الكافرة فأولى أن يكون الصلة في حق الرحم المؤمنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحم سأبلها ببلالها) أي: أصلها بصلتها، مع أن هؤلاء من أقاربه، لكن لا يعدهم له أولياء، وإنما يصلهم لأجل صلة الرحم فقط.
فصلة الرحم من أبرز جوانب البر والإحسان المقدمة لغير المسلمين، لكن بشرط أن لا يكون الأب أو الأم أو الرحم محارباً لدين الإسلام، معارضاً محاداً لله ورسوله وللمؤمنين، فمثل هذا لا يلزم بره ولا صلته.(51/7)
حسن الجوار مع غير المسلمين
أما موضوع حقوق الجار فهو موضوع مستقل بذاته، والأدلة فيه كثيرة جداً، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) أي من شدة حق الجار ووجوب حفظ حقه.
فحسن الجوار من علامات الإيمان أو من شعب الإيمان بالله واليوم الآخر، وجاء في الأثر: أن عبد الله بن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما دخل بيته فوجد أهل بيته قد ذبحوا ذبيحة، فسألهم: هل أعطيتم جارنا اليهودي؟ تكلم بلهجة الغضبان عليهم، هل أعطيتم جارنا اليهودي؟ وظل يعنفهم على عدم إعطائهم الجار اليهودي، وهذه صورة من صور الإحسان إلى الجار غير المسلم، إعطاؤه أو إهداؤه شيئاً من الطعام.
إن الإحسان لغير المسلم قد يكون بمعنى المواساة، إذا أصابته مصيبة فيواسيه فيها كأن يموت ابنه أو أبوه، فإنه يعزيه ولا يدعو له بالرحمة؛ لأنه لا يستحق الرحمة، أي: الرحمة في الآخرة.
كذلك أيضاً أقل الإحسان للجار أن تكف أذاك عنه، وكذلك حسن العشرة، كذلك نصرته إن كان صاحب حق وهكذا.
وكما أن الإخوة الملتزمين يتميزون في مظهرهم بإعفاء اللحية وبالقميص غير المسبل، وبالمحافظة على الشعائر الإسلامية كصلاة الجماعة وغيرها، فينبغي أيضاً أن يتميز المسلمون الملتزمون بحفظ الجوار، وذلك بأن يحسنوا إلى جيرانهم ولا يسيئوا إليهم، هذا أيضاً من الشعائر الإسلامية التي ينبغي أن يتميز بها الملتزمون بدينهم، وينبغي أيضاً أن يتذكر الإخوة الملتزمون حكم الجوار وحكم الإحسان إلى جيرانهم.
فالبر والإحسان إلى أهل الذمة ونحوهم والعطف عليهم، سواء كانوا أقارب أم أجانب لابد منه، ما لم يكن المحسن إليه منهم حربياً.(51/8)
البر والإحسان إلى غير المسلمين لا يعني مودتهم ونصرتهم
ولابد أن نستذكر هنا أمراً آخر: وهو أن الإحسان إليهم والبر بهم وأداء المعروف إليهم لا يعني بأي حال من الأحوال حبهم ولا مودتهم ولا موالاتهم، فهناك فرق شاسع بين ذلك وبين الإحسان وبذل المعروف لهم كما في قصة أم أسماء التي ذكرناها، وفيها الأمر بالصلة والإحسان، وهذا لا يؤدي إلى محبتهم أو موالاتهم التي نهى الله تبارك وتعالى عنها.
فالمؤمن الحقيقي لا يمكن أن يحب كافراً، أما من كان يحب كافراً فذاك ضعف في إيمانه وآفة ومرض في قلبه، فالذي يجد في قلبه حباً للكافر ورضىً عنه ومودة قلبية له، فهذا لابد أن يصحح إيمانه ويصحح إسلامه من جديد، فكل ما ذكرنا لا علاقة له بالمودة والمحبة والموالاة.
يقول الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى في تفسير قوله عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8] إلى آخر الآية.
قال: وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين وجواز برهم، وإن كانت الموالاة منقطعة عنهم.
الموالاة والنصرة والود والحب هذا للمؤمن فقط، لكن الكافر حتى وإن كان أباك أو أخاك أو أمك فهو ليس من أهلك، كما قال عز وجل: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] أو (إنه عَمِلَ غيرَ صالح) كما في قراءة أخرى، فقوله: (ليس من أهلك) ليس معناه كما يفهم بعض الناس أنه ولد زنا؛ لأنهم يربطون هذه الآية بقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10] كلا! لا يمكن أبداً لأزواج الأنبياء أن يخنّ بالفسق والفجور، لا يمكن ذلك أبداً؛ لأن الأنبياء منزهون من أن يقع ذلك من زوجاتهم، كما قال عز وجل: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور:26] أي: الطيبات بالصفات الحميدة من العفة والطهر للطيبين.
فالمقصود من خيانة زوجة لوط هو أنها كانت تدل قومها على ضيفانه، ومعونتهم على ما كانوا عليه من الحال الفاسدة أو الشرك والكفر، لكن لا يمكن أبداً أن يحصل الزنا من زوجة نبي؛ لأن هذا طعن في النبي نفسه، والله تعالى حفظ أنبياءه من أن تفجر نساؤهم بهذه الأفعال.
والشاهد من الكلام أن ابن نوح هو ابنه من صلبه، وذلك لمن تأمل قوله عز وجل: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45] أي: من صلبي ومن عشيرتي، وقد وعدتني من قبل أنك ستنجيني وأهلي.
{فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:45 - 46]، فأهلك هم أهل الإيمان وأهل التقوى والإسلام، {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46].(51/9)
مشروعية الرفق بأهل الذمة
أيضاً من مظاهر سماحة الإسلام: الرفق بأهل الذمة، من اليهود والنصارى الذين عاشوا تحت كنف الخلافة الإسلامية، ولهم عقد ذمة حدد ما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات، ونظم العلاقة بينهم وبين المسلمين، أما من عدا ذلك فليسوا بأهل ذمة.
إذاً: يشرع في حق أهل الذمة أن يعاملوا معاملة حسنة، لا أذى فيها ولا ريبة، دون سب وشتم، أو قهر ونهر، أو إذلال وإهانة؛ لأن في كل هذه الأشياء إلحاق الأذى بهم، والدين لا يبيح أذيتهم بحال، فقد روى مسلم: (أن هشام بن حكيم رضي الله عنه مر على أناس من الأنباط -والأنباط: هم فلاحو العجم- قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية -يعني: حبسوا بسبب أنهم عجزوا عن أداء الجزية فلم يؤدوها- فقال هشام رضي الله عنه: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)، فيا ويل الذين يعذبون الناس في الدنيا! فانظر ما قاله الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حق الكفار من العجم، فكيف بمن يعذب المسلمين الموحدين! ليس لغرض دنيوي؛ بل يعذبهم بسبب تمسكهم بدينهم، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (فويل لهم ثم ويل لهم، إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا).
ولا شك أن المعاملة السيئة لمثل هؤلاء الذميين وإلحاق الأذى بهم يزهدهم في الإسلام، ويرغبهم عنه، وتسوء نظرتهم إلى الإسلام، وبذلك قد يحجبهم عن الدخول فيه، مع أن الإسلام قد حقن دماءهم، واكتفى منهم بأخذ الجزية؛ من أجل أن تكون لهم فسحة وقت، يتركون أحياء في وسط المجتمع الإسلامي، ويعايشون المسلمين عن قرب فيرون أخلاق الإسلام، وهذا حكمة عظيمة جداً، وباب من أبواب الرحمة؛ لأن كثيراً من المسلمين الملتزمين بدينهم، والذين حسنت أخلاقهم، تجده يتزوج مثلاً امرأة كتابية يهودية أو نصرانية في بعض الدول في الخارج، وفي النهاية تعجب هذه المرأة بحسن خلقه وحسن معاملته والتزامه بدينه مما يؤدي إلى أن تتبعه على دين الإسلام.
وأنا لا أدعو إلى التزوج منهم مطلقاً، لكن الشاهد: أن حسن الخلق مع المخالفين في الدين بالذات من أهل الذمة له آثار طيبة في ترغيبهم في الإسلام، فالله عز وجل إنما شرع حقن دمائهم والإبقاء عليهم حتى يعطوا فرصة؛ لأن الكتابي هو الأقرب إلى الدخول في الإسلام من المشرك الوثني؛ لأن هذا لا يحتاج لجهد حتى تثبت له التوحيد أو النبوة والرسالة، أو أمور اليوم الآخر والقضاء والقدر، وغير ذلك من الأحكام الشرعية التي قد تقترب من شريعة إلى أخرى، فالقضية أساساً هي في إثبات نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وإثبات أن القرآن كلام الله، فالمهم أنه أقرب من الملحد أو الوثني والمشرك.(51/10)
كيفية مجادلة أهل الكتاب وضوابطها
يقول الله عز وجل: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] يقول القرطبي: قوله: (إلا بالتي هي أحسن) أي: بالجميل من القول، إذا تناقشتم معه فتناقشوا بالجميل من القول، وهو الدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه، وهذا في الحقيقة قول مهم جداً؛ لأن أحسن القول هو كلام الله كما جاء في الحديث: (أحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) فإذا كنا نجادلهم بالتي هي أحسن فنستحضر أحسن الحديث الذي هو القرآن، بعض الناس يقول: كيف نخاطب الكفار والمشركين بالقرآن وهم لم يؤمنوا به؟ نقول: نعم نخاطبهم به كما خاطبهم به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يرتعشون أحياناً خوفاً من العذاب الذي تنذرهم به آيات القرآن، فقد كانت تنزل على قلوبهم كالصاعقة؛ لما للقرآن من سلطان على النفوس.
إذاً: فأول ما ينبغي الاهتمام به إقامة الحجة على الكافر بتلاوة كلام الله عز وجل الحق وقرآنه المجيد، ومن الخطأ الانصراف عن أحسن الكلام إلى ما عداه من كلام البشر، والزهد في الاستدلال بآيات القرآن عند مخاطبة الكفار بحجة أنهم لم يسلموا بعد، علينا أن نخاطبهم بآيات القرآن، إنما أنزلت لإنذارهم وإقامة الحجة عليهم؛ لما للقرآن من سلطان خفي مع الكفار، فنجد الواحد منهم إذا سمع القرآن تملكته الهيبة والرعدة ويقول: هذا الكلام ليس بكلام مخلوق.
ما سر سلطانه وقوته؟ إنه يعطي صورة حية مع المسلمين الأعاجم كالهنود والباكستانيين، فالشعب الباكستاني يعتبر من أكثر الشعوب الإسلامية عاطفة دينية وحمية للإسلام، وكذلك عاطفة الهنود المسلمين، فتجد أحدهم يمسك القرآن وينظر فيه وهو لا يعرف حرفاً واحداً من اللغة العربية، ولا يستطيع القراءة، سوى أنه يمسك القرآن ويبكي ويضمه إليه ويقول: كلام ربي كلام ربي! وحدثني أحد الإخوة عن واحد من هؤلاء الأعاجم -وهو كردي- كان في مجلس فيه بعض الشيوخ، وفي أثناء حديثهم يأتي ذكر أبي هريرة فإذا ذُكِرَ أبو هريرة خاض في البكاء الشديد، مجرد أن يسمع ذكر أبي هريرة يبكي، ما أقسى قلوبنا، هذا الرجل يرق قلبه لذكر اسم الصحابي أبي هريرة راوية الإسلام، وحامل أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فكيف سيكون حاله إذا سمع حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام أو كلام الله عز وجل؟!! حكى لي أحد إخواننا أن مجموعة من الكفار السواح مروا بأحد المحلات بعد العصر، وكان صاحب المحل فاتحاً لإذاعة القرآن الكريم، والشيخ يقرأ بترتيل، فوقف هؤلاء السواح مشدوهين منجذبين بشدة إلى هذا الكلام، وعبروا عنه تعبيراً له دلالة، قالوا بالإنجليزي: هذا موسيقى! فقد لفت نظرهم هذا الوقع الجميل للقرآن الكريم.
الشاهد: أن القرآن له وقع على القلوب نحن لا نستطيع بأن نصفه، لكننا نحس بأثره حتى مع الكافر.
فالقرآن له سلطان على قلبك، ونجد كذلك كثيراً من النصارى إذا تليت عليهم آيات من القرآن لا يقوون على الطعن في القرآن الكريم، خاصة النصارى الذين عاشوا مع المسلمين؛ لأنهم عرفوا حقيقة القرآن، بخلاف إخوانهم من الكفار في البلاد البعيدة، فمن رحمة الله عز وجل أن عاشوا في وسط المسلمين، فصاروا أقرب للدخول في الإسلام، فتجد النصراني الذي يعيش في أوساط المسلمين يقول: أنا أقر أن القرآن كلام الله لكن محمد هو نذير إلى العرب خاصة؛ حتى يسوغ لنفسه عدم الدخول في الإسلام، فهذا أقصى ما يصل إليه كثير من النصارى؛ لأنه لا يملك أن يكذب محمداً عليه الصلاة والسلام أبداً ولا يكذب القرآن؛ لأنه عاش مع القرآن، وقد سمعنا كثيراً من الكفار أسلموا منذ زمن بسبب صوت الشيخ محمد رفعت رحمه الله، بغض النظر عن الطريقة في التلاوة ففيها نظر، لكن هذا له دلالة على أن إسلامهم كان بسبب سماع القرآن من بعض الشيوخ الذين يقرءون بخشوع وبصوت حسن؛ فيؤدي ذلك إلى دخول الكثير في الإسلام.
إذاً: ينبغي أن نقدم كلام الله على ما عداه من الكلام عندما ندعو غير المسلمين إلى الإسلام، ولا نصغي ولا نلتفت إلى هؤلاء الذين يقولون: كيف نقرأ لهم القرآن وهم لم يؤمنوا بأنه كلام الله؟ نقول: وإن لم يؤمنوا فمن باب إقامة الحجة عليهم بكلام الله فإنه أحسن الحديث.
فينبغي أن نتذكر ذلك إذا تلونا قوله عز وجل: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، فأولى الكلام الحسن في ذلك هو كلام الله عز وجل.
وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] أي: الذين امتنعوا عن أداء الجزية، ورفضوا أن يدخلوا الإسلام، وأصروا على نصب الحرب ضد المسلمين، فهؤلاء ليس لهم هذه الحقوق كما ذكرنا.(51/11)
إحسان النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل الذمة
روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم، ففهمتها)، السام: هو الموت، والخبثاء كانوا يجتهدون في إخراج أي نوع من الأذية يستطيعون توصيله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا مثلاً كما جاء ذكره في من القرآن يقولون: يا محمد راعنا، هم يريدون -والعياذ بالله- وصفه بالرعونة، فيلحنون في القول، ويصرفون الكلام عن أصله، فيستخدمون العبارات الموهمة، فلذلك نزل القرآن محذراً المؤمنين من استعمال هذه العبارات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة:104] هنا هذه المجموعة من اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا: (السام عليكم) يدعون على رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن حضره بالموت والعياذ بالله قالت عائشة: (ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة! -أخذتها الغيرة رضي الله عنها- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله).
انظر إلى هذا الأدب النبوي الرفيع في الرفق وحسن الخلق في كل المواضع بقدر المستطاع (مهلاً يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمر كله، قالت: فقلت: يا رسول الله! أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: قد قلت: وعليكم) ردها عليهم بالمثل (وعليكم) أي: إن كان المقصود بها الدعاء فيرد الدعاء لهم جزاء وفاقاً، وإن كان المقصود حملها على السام يعني الموت، فالموت مكتوب عليكم، فهكذا كانت معاملة الرسول عليه الصلاة والسلام مع غير المسلمين، ولنا فيه أسوة حسنة.
ذكر ابن إسحاق في مغازيه (أن وفد نصارى نجران لما وفدوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخلوا عليه في مسجده بعد صلاة العصر، فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الصحابة منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم).
ويؤكد الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى على هذه الحادثة مستنبطاً فقهها فيقول: فيها جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين، وفيها تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفي مساجدهم أيضاً، إذا كان ذلك عارضاً، ولا يمكنون من اعتياد ذلك.
أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم وهو يذكر لأصحابه علامة من علامات نبوته، ودليلاً من دلائل نبوته صلى الله عليه وآله وسلم يقول للصحابة رضي الله عنهم: (إنكم ستفتحون مصر) وقد وقع كما أخبر عليه الصلاة والسلام، ولم يقع أن تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بشيء ولم يقع كما أخبر أبداً، وهذا من أعظم آيات نبوته، غاية ما في الأمر أن هناك أشياء لم تحصل بعد، لكنه تنبأ بفتح القسطنطينية التي هي (إسلام بول) أو (إستانبول) وقد وقع ذلك بعدها بثمانمائة سنة، وتنبأ أيضاً بأن المسلمين سيفتحون رومية ولم يقع هذا حتى اليوم، وهو لابد واقع كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط؛ فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمة ورحماً) هذا الحديث رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ذكر بعض العلماء في شرح الحديث: أن أهلها فيهم شيء من الإمساك في الناحية المالية، حتى إن القيراط وهو الشيء اليسير يسمونه ويهتمون به، والله أعلم.
والمسلمون لما دخلوا مصر وشرف الله مصر بالفتح الإسلامي كان أهلها نصارى كفاراً، ومع ذلك يوصي عليه الصلاة والسلام بهم خيراً، (فإن لهم ذمة ورحماً) أي: أن هاجر زوج إبراهيم عليه السلام وأم إسماعيل من مصر، كذلك أيضاً مارية القبطية التي أهداها إليه المقوقس حاكم مصر أيضاً مصرية، وهي أيضاً أم ولده إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
فهذه هي وصايا الإسلام حول أهل الذمة ونحوهم، وهي وصايا تنبئ بلا شك عن تسامح كبير معهم، كما هو معلوم أن سبب نزول قوله تبارك وتعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8] امتدحهم الله بأنهم يحسنون إلى المسكين واليتيم والأسير مع احتياجهم لهذا الطعام ومحبتهم له.(51/12)
معنى الإحسان إلى أهل الذمة
يقول القرافي في معنى الإحسان إلى أهل الذمة: الرفق بدعوتهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل التلطف لهم والرحمة، لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال أذيتهم في الجوار مع القدرة على إزالته رفقاً بهم؛ بشرط ألا يكون ذلك عن مذلة أو عن ضعف، لكن عن قوة واقتدار على تأديبه.
ثم يقول: واحتمال أذيتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفاً مما بهم لا خوفاً منهم، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم، وحفظ حرمتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وأعيانهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم وإيصالهم لجميع حقوقهم، هذه وصايا الإسلام في أهل الذمة.(51/13)
توجيه النصوص التي تفيد التعارض مع الإحسان إلى أهل الذمة
هذه مجموعة أخرى من النصوص قد نفهم منها خلاف ذلك، نمر عليها حتى ننهي هذه الجزئية، منها: قوله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] يفهم منه معارضة الكلام الذي قدمناه آنفاً، فقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} جاء في تفسيرها أقوال كثيرة: منها: أن الذمي يدفع الجزية وهو قائم والآخذ يكون جالساً، لكن المقصود من هذه المظاهر العامة التي شرعها الإسلام بالنسبة لوضع هؤلاء الذميين -المقصود منها تبغيض الكفر إلى الذمي، وإشعاره أن هذا الكفر أداه إلى هذا الذل والصغار، فهذا نوع من تنفيره من الكفر بحيث يرغب في عزة المسلمين وأخلاق المسلمين وعقيدة المسلمين، فيكون ذلك من وجهين: ينفر من الكفر، ويرغب في الإسلام، هذا هو الشاهد وهذا هو المقصود.
كذلك لا ينبغي أن يكونوا في موضع من التعظيم والتبجيل والتقدير والاحترام كمظهر عام في المجتمع الإسلامي؛ لأن العزة لا تكون إلا لله ولرسوله وللمؤمنين.
تفسير آخر للآية قال بعضهم: أن يأتي بالجزية ماشياً لا راكباً، ويطال وقوفه عند إتيانه بها، ويجر إلى الموضع الذي تؤخذ إليه بالأنف ثم تجر يده ويمتهن.
وبعض أهل العلم أنكر مثل هذه التفسيرات، يقول الدكتور الطريقي: نحن لو تفكرنا ملياً لأدركنا أن ذلك كله مما لا دليل عليه، كما يقول ابن القيم، حكى ابن القيم هذه التفسيرات في معنى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] وقال: إن هذا كله مما لا دليل عليه من الكتاب والسنة، ولا هو مقتضى الآية، ولا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك.
يقول: والصواب في الآية أن معنى قوله: (وهم صاغرون): أن الصغار هو التزامهم بجريان أحكام الذمة عليهم، ورجوعهم إلى حكم الإسلام، هذا هو معنى الصغار؛ لأن الدار إذا حكمت بالإسلام صارت دار إسلام، حتى ولو كان كل أهلها مثلاً نصارى أو يهوداً، ما داموا يؤدون الجزية فهم صاروا في حالة خضوع لحكم الله وصار الحكم لله في هذه البلاد.
فالصواب في الآية: أن الصغار هو التزامهم بجريان أحكام الذمة عليهم بإعطاء الجزية، فإن التزام ذلك هو الصغار.
ونحن نعتبر أنفسنا الآن تحت ظل القوانين الوضعية -ولا حول ولا قوة إلا بالله- في حالة إذعان وذل لهذه القوانين الكافرة.
وقوله: (عن يد) أي: عن قدرة، بحيث لا يكون عاجزاً، بل إن كان عاجزاً فإنه يعطى من بيت المال، كما حكم بذلك عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلا شك أن خضوع الكفار لدولة الإسلام ودفعهم الجزية للمسلمين هو في ذاته صغار لهم.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: إذا أخذ الإمام منهم الجزية أخذها بإدلال -يعني بإحسان- ولا يضرب منهم أحداً، ولا يناله بقول قبيح.
فهذه كلمة الإمام الشافعي في هذه القضية.
يقول الدكتور الطريقي: فلا داعي إذاً لتلك الأمور التي ظن بعضهم أن الصغار لا يتحقق إلا بها، مثل: الأخذ بتلابيبهم، وذمهم، وسبهم، أو كونهم يدفعون الجزية قياماً والآخذ جالساً ونحو ذلك.
ومن الأدلة التي قد يفهم منها التعارض مع ما قدمنا: حديث رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه) في هذا الحديث نهي عن بدء النصارى واليهود بالسلام، وأمر بأن يضطر الواحد منهم إلى أضيق الطريق عند اللقاء.
وهنا مسألتان:(51/14)
أحكام السلام على الكفار
الأولى: عدم البداءة بالسلام، وهذه مسألة مشهورة، والخلاف فيها أيضاً مشهور وفيها نحو أربعة أقوال: أحدها: تحريم بدء النصراني أو اليهودي بالسلام.
ثانيها: كراهة بدء اليهودي أو النصراني بالسلام.
ثالثها: الإباحة.
رابعها: أنه لا يجوز السلام إلا في حالة ضرورة أو حاجة أو سبب.
وقد حكى هذه الأقوال الإمام النووي رحمه الله وغيره، واختار التحريم، وقال: إنه قول أكثر العلماء؛ لأن ظاهر النهي التحريم.
ويرجح الدكتور الطريقي هنا المنع من البداءة بالسلام، إلا إذا كان ثمة حاجة.
يقول: ولتقريرنا رجحان المنع فإن ذلك ليس فيه إخلال بالوصايا السابقة، فعدم البداءة بالسلام لا يعني سباً ولا سخرية ولا نحواً منهما، ولا يعني ذلك أنك تكف عن الإحسان إلى أهل الذمة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من خاصم ذمياً أو ظلمه فأنا حجيجه يوم القيامة) أي: أنا أجادل وأخاصم عنه يوم القيامة؛ لأن هذا اعتداء على من هم في أمان الله وأمان رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالمسلم يحترم عهد الله وعهد رسول الله وعهد إمام المسلمين، وذلك بأن لا يؤذي من صار تحت حمايته، فلا يخفر هذه الذمة ولا ينقض هذا العهد، ما داموا ملتزمين بضوابط هذه العهود.
يقول الدكتور الطريقي: وعدم البداءة بالسلام لا يعني سباً ولا سخرية ولا نحواً منهما، لكن الذي قد يعطي نوعاً من هذا هو عدم رد السلام، والإسلام يأمر برده على كل أحد.
وهناك فرق بين البدء بالسلام وبين رد السلام، فإن الله عز وجل يقول في القرآن الكريم: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، ومعلوم أن البدء بإلقاء السلام حتى للمسلم حكمه سنة، لكن رد السلام واجب، رد السلام فريضة، لكن البداءة بالسلام سنة مستحبة، وهذه من الحالات الاستثنائية التي يكون فيها ثواب النافلة السنة أكبر من ثواب الفرض، وهي حالات محدودة تكون النوافل فيها ثوابها أعظم من ثواب الفرض.
الشاهد من الكلام: أن الإسلام يأمر برد السلام على كل أحد، لكن مع النصراني أو مع الكافر تختلف صورة الرد، فإذا قال لك: السلام عليكم، فترد وتقول له: وعليكم؛ لأنه يحتمل أن يلحن بها ويلوي بها كما كان يفعل اليهود، فقد كانوا يقولون: السام عليك، لكن للأسف الشديد من المبكي والمحزن أن كثيراً من المسلمين الآن إذا ألقى السلام يقول: السام عليكم كما كان يقول اليهود، وهذه الطريقة مع أنها لغة عامية بريئة، لكن للأسف فيها تشبه باليهود وإن لم يقصد ما قصدوا من قولهم: السام عليكم، نسمع كثيراً من الناس لا يرد رداً شرعياً كاملاً، ولعل هذا أخف ممن يبدأ بصباح الخير أو مساء الخير، وغير ذلك من تحايا الجاهلية التي أبدلنا الله خيراً منها، فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، فالصورة بالنسبة للكافر إذا شك المسلم باللحن في السلام من قبل الكافر فليقل: وعليكم فحسب، أما إن علم أنه سلم تسليماً صحيحاً فلا مانع من أن يرد رداً كاملاً، ويقول: وعليكم السلام، ولا يقول: ورحمة الله وبركاته؛ لأنه لا يستحق الرحمة، ولأن رحمة الله في الآخرة.(51/15)
اضطرار الكافر إلى أضيق الطريق
المسألة الثانية: اضطراره إلى أضيق الطريق، اختلف العلماء في معنى اضطرار الكافر إلى أضيق الطريق.
فمن قائل: إن هذا الاضطرار على ظاهره بلا تأويل، فإذا كان هناك طريق ضيق فلا تفعل مع الكافر ما تفعله مع المسلم، المسلم تتواضع له وتؤثره على نفسك، وتقول له: تفضل أنت؛ لأن الطريق ضيق، أما مع الكافر فينبغي ألا تؤثره على نفسك، بل تضطره أن يمشي في جوانب الطريق، وتبقى أنت في الوسط؛ إظهاراً لعزة الإسلام.
وبعض العلماء قالوا: إن هذه كناية عن إظهار عزة الإسلام وذلة الكفر، وأن المسلم لا يظهر أمام الكافر بمظهر المستخذي الذليل، ولكن بالمظهر اللائق به بصفته مسلماً؛ لأنه هو الذي يمثل الحق على هذه الأرض، فإذا التقى مسلم وغيره في طريق فليكن المسلم عزيزاً رافع الرأس، لا يظهر الذل والخنوع والضعف والتماوت ويطأطئ رأسه وينحني، فهذا لا يليق، ومعلوم ما فعله الصحابة لما أتوا في عمرة القضية أو عمرة القضاء بعدما منعوا العمرة في عام الحديبية وأتوا من قابل ليعتمروا، قال المشركون: (أتاكم قوم قد أنهكتهم حمى يثرب) فجلس المشركون في الجهة الشامية من الكعبة، والذي يكون في الجهة الشامية لا يرى الذي يأتي من جهة الركنين اليمانيين: الحجر الأسود والركن اليماني، فلذلك حرص الصحابة على ألا يظهروا الضعف أمام الكفار، فلابد للمسلم أن يغيظ الكافر بإظهار القوة والجلد حتى لا يشمت به، فلذلك أمر الرسول عليه الصلاة والسلام الصحابة أن يرملوا في طواف القدوم؛ ليظهروا الجلد.
والرمل: هو القفز القريب مع تقارب الخطا، القفز الذي فيه قوة وصحة وعافية، مع أنهم بالفعل كانوا مرضى، وكانوا منهكين من الطواف، فكانوا إذا أتوا إلى الجهة اليمانية حيث لا يراهم المشركون هدءوا الخطوات واستعادوا أنفاسهم، فإذا عادوا للظهور من جديد في الثلاث الجهات الأخرى أظهروا الجلد ورملوا، وهذا الحكم ما زال باقياً إلى اليوم؛ تذكيراً للمسلمين بنعمة الله عليهم، فنحن عندما نرمل حول الكعبة تذكرنا ما كان من كيد المشركين، وتذكرنا هذه القصة واستحضرنا نعمة الله علينا دوماً بتمكين الإسلام وإظهاره.
الشاهد من هذا كله: أن المسلم يحرص على أن يكون عزيزاً رافع الرأس، لا يطأطئ ولا يذل للكافرين، ويظهر بالمظهر الذي يليق به بصفته مسلماً، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فإذا التقى المسلم وغيره في طريق فليكن المسلم رافعاً رأسه عزيزاً، يأخذ من الطريق أوسعه، ولا يستذل للكافر فيفسح له الطريق، ويبقى هو لاجئاً إلى أضيقه خاضعاً مستجدياً.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث الذي هو: (إذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه): معناه: لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكراماً لهم واحتراماً.
وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى الذي هو قوله: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه)، يقول القرطبي: وليس المعنى إذا لقيتموهم في طريق واسع فألجئوهم إلى حرفه حتى يضيق عليهم؛ لأن ذلك أذى، وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب، فالتضييق ينبغي ألا يلحقهم بأذى، كما قال الدكتور الطريقي، وفعل المسلم هذا ليس منطلقه الكبر والزهو، وإنما هو عزة الإسلام والحق، فمن أجل هذا لا يتنافى هذا الحديث مع ما ذكرناه من مشروعية التأدب معهم والرفق بهم، كما أن هناك علماء يخالفون الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تأويله لهذا الحديث قال المناوي في فيض القدير: يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام)؛ لأن السلام إعزاز وإكرام، ولا يجوز إعزازهم ولا إكرامهم، بل اللائق بهم الإعراض عنهم وترك الالتفات إليهم؛ تقذيراً لهم وتحقيراً لفعلهم، فيحرم ابتداؤهم به على الأصح عند الشافعية، وأوجبوا الرد عليهم بعليكم فقط، ولا يعارضه آية: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، وآية: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} [الزخرف:89]؛ لأن السلام هنا سلام متاركة ومنابذة لا سلام تحية وأمان، كما قال الله تعالى في ذلك: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] لكن هناك بعض الناس يأتي إلى قوله عز وجل: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] ويطبق هذه الآية بطريقة غير صحيحة غير سوية، فتراه إذا أراد أن يشتم خصمه ويصفه بأنه جاهل يستحضر هذه الآية: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، فهذه أذية وليست متاركة، فهو يستخدم الآية في غير ما أنزلت من أجله، الآية تمدح المسلم العزيز القوي الذي مع قوته وقدرته يعفو ويصفح ويلين ويرفق، حتى مع من يؤذيه فهو يحلم، وليس معناها أنك إذا أردت أن تشتمه تأتي بالآية، فأنت هكذا عملت عكس معنى الآية، فالآية تنصحك بالرفق واللين وبالسلام والمتاركة والمنابذة لا لشتمه، فهو استعمال للآية في غير ما أنزلت من أجله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] يعني: تلطفوا في الجواب.
وعليه فالآية أتت لترسيخ خلق معين في المسلم، فلا ينبغي أن تستعملها في عكس ما أنزلت من أجله.
قوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} [الزخرف:89] أي: قل لهم قولاً طيباً.
قوله: (سلام) فهو سلام متاركة ومنابذة لا سلام تحية وأمان كما يكون مع المسلم.
يقول المناوي: (إذا لقيتم أحدهم في طريق) فيه زحمة (فاضطروه إلى أضيقه)، بحيث لا يقع في وهدة.
أي: بشرط أنك تضطره إلى أضيقه لا أنك تلجئه إلى هاوية سحيقة، وتقول: أنا أضطره إلى أضيق الطريق بحيث يقع بسيارته ويهلك، أو إن كان هناك حفرة مثلاً أو وهدة في طريق إذا اضطريته إليها ستؤذيه، فهذا أيضاً لا داعي له.
يقول: بحيث لا يقع في وهدة، ولا يصدمه نحو جدار.
وللأسف بعض الناس من المسلمين الآن في قيادة السيارات يفعلون ذلك مع المسلمين، بحيث يحاول أن يضطرك إلى الخروج عن الطريق والاصطدام بسيارة أخرى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول: أي: لا تتركوا له صدر الطريق إكراماً واحتراماً، فهذه الجملة مناسبة للأولى في المعنى والعطف، وليس معناه كما قال القرطبي: إنا لو لقيناهم في طريق واحد نلجئهم إلى حرفه حتى يضيق عليهم؛ لأنه إيذاء بلا سبب، وقد نهينا عن إيذائهم، ونبه بهذا على ضيق مسلك الكفر وأنه يلجئ إلى النار.
والحكمة من هذا التضييق إشارة إلى أن الكفر دائماً عاقبته الضيق، فكما أن الكفر تسبب في أن هذا الشخص يضطر إلى أضيق الطريق، كذلك إن مات على الكفر فإنه يضيق عليه فيحشر في جهنم: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان:13].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(51/16)
الخوف والرجاء
لقد اختلف العلماء في أرجى آية في القرآن على أقوال كثيرة، ومعلوم أن القرآن كله رجاء وبشارة للمؤمنين والمسلمين على اختلاف مراتبهم، فعلى العبد المؤمن أن يحسن الظن بربه، فهو أرحم به من أمه وأبيه، والرجاء يستلزم دوام الطاعة والاستقامة على شرع الله سبحانه وتعالى، وذلك بفعل الأوامر وترك النواهي.(52/1)
أرجى حديث للأمة ومعناه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلالة في النار.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، وقال عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] فرفع يديه فقال: (اللهم! أمتي أمتي) وبكى، فقال الله تعالى: يا جبريل! اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فاسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، فقال الله لجبريل: اذهب إلى محمد فقل: إنا سنزضيك في أمتك ولا نسوءك) رواه الشيخان البخاري ومسلم والنسائي.
هذا الحديث يقول فيه الإمام النووي رحمه الله تعالى: هذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة.
يعني: هذا أعظم الأحاديث النبوية في رجاء الله عز وجل وتجاوزه ورحمته لهذه الأمة المرحومة، الحديث يرويه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: (رب إنهن) أي: الأصنام.
(أضللن كثيراً من الناس) أي: صرن سبب ضلال كثير من الناس.
(فمن تبعني) أي: على التوحيد والإخلاص والتوكل.
(فإنه مني) أي: من أتباعي وأشياعي.
وتمامها: (ومن عصاني فإنك غفور رحيم) أي: تغفر ما دون الشرك لمن تشاء، وترحم بالتفضل على من تشاء، أو تغفر للعاصي المشرك بأن توفقه للإنابة، وإلى الإيمان والتوحيد والطاعة في الدنيا، وترحمه بزيادة المثوبة في العقبى.
استشهد صلى الله عليه وسلم أولاً بقول إبراهيم عليه السلام: (رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) وقال عيسى عليه السلام، أي: تلا صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل حاكياً عن عيسى: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) أي: لا يغلبك شيء فإنك القوي القادر، فتحكم بما تشاء، لأنك الحاكم الذي لا معقب لحكمك، أو الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها، ويتقن الأفعال ويحكمها، بعدما تلا صلى الله عليه وسلم هذين القولين عن إبراهيم وعن عيسى عليهما السلام، رفع صلى الله عليه وسلم حينئذ يديه الشريفتين فقال: (اللهم! أمتي أمتي) أي: اللهم اغفر لأمتي، اللهم ارحم أمتي، وجه التكرار في قوله: (أمتي أمتي) أن أمتي الأولى يعني: اللهم اغفر لأمتي، والثانية: اللهم ارحم أمتي، أو أراد بقوله: (اللهم أمتي أمتي) التأكيد، أو أراد بقوله: (أمتي أمتي) أي: الأولون والآخرون من أمته صلى الله عليه وسلم.
(وبكى صلى الله عليه وسلم) لأنه تذكر الشفاعة الصادرة عن الخليل (رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) فهنا شفاعة من إبراهيم عليه السلام فيمن تبعه، وفيمن تاب الله عليه من المشركين أو العصاة، وتذكر أيضاً شفاعة روح الله عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) فرق حينئذ لأمته صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: (يا جبريل! اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فاسأله) قوله: (وربك أعلم) هذه جملة معترضة؛ لأن هناك معنى محذوراً يوهمه قوله: (فاسأله) فالله عز وجل يعلم كل شيء، وقد أحاط بكل شيء علماً، وإنما أراد بذلك بيان الحكمة وشدة رحمته بهذه الأمة، فلذلك قال: (يا جبريل! اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فاسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال) أي: أخبره بشيء قاله صلى الله عليه وسلم من سبب البكاء، وهو الخوف لأجل أمته، وشفقته على أمته، ورجاؤه أن ترحم أمته (فقال الله لجبريل: اذهب إلى محمد فقل: (إنا سنرضيك) يعني: إنا بعظمتنا سنرضيك وسنجعلك راضياً، قوله: (في أمتك) أي: في حق أمتك (ولا نسوءك) أي: ولا نحزنك في حق الجميع، بل ننجيهم ولأجل رضاك نرضيهم.
صدق الله العظيم حيث يوصف نبيه بأنه رحمة مهداه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] صلى الله عليه وآله وسلم.
وقول الإمام النووي: هذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة أي: أن هذا من أرجى الأحاديث الواردة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رواه الإمام البخاري ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
والإنسان يحتاج في بعض الدروس إلى تذكر وحشد آيات الرجاء، كما يحشد عن الابتلاء مثلاً آيات الصبر حتى يستعين بها على مواجهة الابتلاءات، كذلك هناك مواقف معينة لا بد من حشد نصوص الرجاء والتعلق بها، عسى أن يرحم الله عز وجل عباده، فمن المواضع التي ينبغي أن تسرد وتحشد فيها نصوص الرجاء عند الإنسان المحتضر، فإذا حضرت إنساناً يحتضر قد أيس من حياته وأشرف على الموت، فيستحب أن تغلب عليه جانب الرجاء؛ لأنه لم يبق للخوف فائدة في هذا المقام؛ لأن الخوف إنما المقصود به الحث على العمل، أما الرجاء فالمقصود به تهيئته لكي يقبل على ربه ويلقاه وهو يحسن الظن به، فالله عز وجل يقول: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء)، فإذا احتضر العبد وهو يحسن الظن بربه لقي من الله عز وجل خيراً، وإن كانت الأخرى فالأخرى.(52/2)
معنى الرجاء وحقيقته
وقبل أن نتكلم في خلاف العلماء في أرجى آية في القرآن الكريم، ننبه إلى معنى الرجاء.
معنى الرجاء: يقول الله عز وجل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156]، وقال عز وجل: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف) فإن كان هذا الثواب العظيم وهذه المضاعفة للحسنات مع أن السيئة تكون بواحدة، وما يعفو الله عز وجل عنه أعظم، فويل لمن غلبت آحاده عشراته، ولا يهلك على الله إلا هالك، فلذلك يقول العلماء: إن من رحمة الله عز وجل أنه جعل تأخير التوبة ذنب يجب التوبة منه، وبهذا يسد على العبد جميع المنافذ، فهو يحرم عليه القنوط من رحمته، ويجعل اليأس من رحمة الله قريناً للكفر، ويفتح له أبواب التوبة صباح مساء، ويغفر الذنوب، ويخبر بأن التوبة تجب ما قبلها، ويخبر بأن رحمته وسعت كل شيء، ثم بعد ذلك يحتم على العبد التوبة، فيقول العلماء: تأخير التوبة ذنب يجب التوبة منه.(52/3)
المقصود بالرجاء وأسباب تحقيقه
إن المقصود بالرجاء: هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده، ولكن هذا المحبوب لا بد له من سبب حتى يكون رجاء، فالإنسان عنده شيء يحبه ويرجو أن يحققه، فإن لم يأخذ بالأسباب التي توصله إلى تحقيقه، فهذا هو الغرور وهذا هو الحمق، كما قال الله عز وجل: {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14] فهذا هو الاغترار بالله عز وجل، لكن الرجاء لا يصدق عليه لفظ رجاء حتى يكون معه الأخذ بالسبب؛ لأن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه ثلاثة أمور: أولاً: محبته لما يرجوه.
ثانياً: السعي في تحصيله بحسب الإمكان.
ثالثاً: خوفه من فواته.
فالدنيا هي مزرعة الآخرة، والقلب كالأرض، والإيمان كالبذر في هذه الأرض، والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض، فالإنسان إذا أراد أن يزرع فإنه يبحث عن الأرض الطيبة، ويلقي فيها بذراً جيداً غير عفن ولا مسوس، ثم يتعهد هذا البذر بما يحتاج إليه من سوق الماء إليه في أوقاته، وتنقية الأرض من الشوك والحشيش وكل ما يمنع نبات البذر أو يفسده، ثم يظل منتظراً فضل الله تعالى بأن يدفع الصواعق والآفات التي تتسبب في إفساد هذا الزرع، حتى يتم ذلك الزرع ويبلغ غايته، فهذا الانتظار بعد الأخذ بالأسباب يسمى رجاء.
إذاً: بعد الأخذ بالأسباب تنتظر رحمة الله عز وجل ونفحاته، هذا هو الرجاء.
أما الشخص الذي يبث البذر في أرض صلبة سبخة، مرتفعة لا ينصب إليها الماء، ولم يشتغل بتعهد البذر أصلاً، ثم انتظر الحصاد، فإن انتظاره هذا يعد حمقاً وغروراً لا رجاء، فمثلاً: يقول الله عز وجل: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54] تجد الإنسان إذا كلمته في الدنيا وقلت له: هون عليك في طلب الدنيا فإنما يأتيك ما قدر لك، وتخبره بالنصوص التي فيها ضمان الرزق وكذا وكذا، يقول لك: كل شيء بسبب، ربنا خلق الأسباب وأمرنا بالأخذ بأسباب، ويطيل القول في ذلك، لكن إذا أمرته بمعروف أو نهيته عن منكر أو كلفته بشيء من الطاعات والواجبات فسرعان ما يتعلق بنصوص الرجاء، ويقول: ربنا غفور رحيم، ربنا رحمته وسعت كل شيء، ويتعلق بنصوص الرجاء وهو يفرط في أسباب التوبة، مع أن الرزق الذي يسعى خلفه هو مضمون ضمنه الله عز وجل له، فالرزق والأجل مضمونان، لو أن ابن آدم يهرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه أجله، لكن النجاة في الآخرة لا تأتي إلا بالسعي، قال الله عز وجل: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:39 - 41] هذا في الدنيا؛ لأن هذا موافق لهواه وموافق لشهواته يسعى ويكد.
إذاً: الرجاء الذي لا يكون معه الأخذ بأسباب النجاة فهذا هو عين الحمق، وهذا هو عين الغرور.
والإنسان إذا بث البذور في أرض طيبة، لكن هذه الأرض لا ماء لها، وأخذ ينتظر مياه الأمطار في مكان لا يغلب فيه نزول الأمطار ولا يمتنع أيضاً، هذا يسمى تمنياً لشيء لا يقع في العادة.
أما الرجاء فإنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت جميع أسبابه التي تدخل تحت اختيارك، بحيث لم يبق إلا ما ليس بداخل تحت اختيارك، ولهذا قال {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] المضطر بعدما يعجز عن الأسباب التي في يده يدعو الله عز وجل وينتظر فضله؛ لأنه أخذ بما في يده لكن بقيت أسباب ليست تحت اختياره، فهذا محض فضل الله عز وجل لصرف القواطع والمفسدات لعمله.
فالعبد الذي يجتهد في الطاعات ويجتنب المعاصي حقيق بأن ينتظر من فضل الله تمام النعمة، وما تمام النعمة إلا بدخول الجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (حينما سمع أحد الصحابة رضي الله عنه يقول: اللهم إني أسألك تمام النعمة، فقال: أتدري ما تمام النعمة؟ قال: لا، قال: تمام النعمة أن تدخل الجنة) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، أما العاصي فإنه إذا تاب وتدارك جميع ما وقع منه من تقصير فهذا حقيق بأن يرجو قبول توبته إذا كان كارهاً للمعصية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سرتك حسنتك، وساءتك سيئتك، فأنت مؤمن) فمن يذم نفسه ويشتهي التوبة ويشتاق إليها فهذا حقيق بأن يوفقه الله للتوبة؛ لأن هذا الحرص على التوبة هو سبب من الأسباب الشرعية التي أمرنا بها.
فالرجاء لا بد من ارتباطه بأسباب النجاة، وآية ذلك قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218] فما أطلق عليهم وصف الرجاء إلا بعد أن ربطه بالأخذ بهذه الأسباب (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله) أما من ينهمك فيما يكرهه الله سبحانه وتعالى ولا يذم نفسه ولا يعزم على التوبة والرجوع، فرجاء المغفرة في حقه هو الحمق والغرور.
يقول يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى: من أعظم علامات الاغترار عندي التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب إلى الله بغير طاعة، وانتظار زرع الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمني على الله عز وجل مع الإفراط.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس ويقول الحسن البصري في الكلمة المشهورة: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً خرجوا من الدنيا ولا حكمة لهم، قالوا: نحن نحسن الظن بالله وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتناً تواباً نسياً إذا ذُكِّر ذَكَرَ) أي: أن المؤمن ليس بالمعصوم، ولا بد أن يقع منه شيء، لكن شأنه أنه إذا ذُكِّر ذكر وتاب واستغفر.(52/4)
الأقوال في أرجى آية في القرآن
ما هي أرجى آية في القرآن؟ اختلف العلماء في ذلك اختلافاً كثيراً، فالمشهور أن أرجى آية في القرآن هي قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وقال جماعة من العلماء: أرجى آية في القرآن قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، والذين ذهبوا إلى أن هذه الآية هي أرجى آية لعصاة المؤمنين استدلوا بما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن ناساً من المشركين قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) [الفرقان:68] إلى قوله: {غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، ونزل أيضاً: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]) وروى الطبراني بإسناد ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه يدعوه إلى الإسلام، فقال: كيف تدعوني وأنت تزعم أن من قتل أو زنى أو أشرك يلق أثاماً، ويضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً، وأنا صنعت ذلك؟! فهل تجد لي من رخصة؟ فأنزل الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] إلى آخر الآية، فقال وحشي: هذا شرط شديد، (إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً) فلعلي لا أقدر على هذا، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فقال وحشي: هذا أرى بعده مشيئة، فما أدري أيغفر لي أم لا؟ فهل غير هذا؟ فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] قال وحشي: هذا نعم فأسلم) والحديث في إسناده ضعف.
وفي قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا) مما يؤكد الرجاء ويقويه إضافة العباد إلى الله سبحانه وتعالى: (قل يا عبادي) وذلك جبراً لانكسارهم، وتسريعاً لهم للمبادرة بالتوبة.
وروى الحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها، الأولى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40] والآية الثانية: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] الثالثة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48] الرابعة: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64]).
وروى عبد الرزاق عنه أيضاً قال: (خمس آيات من النساء لهن أحب إلي من الدنيا جميعاً وذكر فيهن: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:110] بدل الآية {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء:64])، الخامسة: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء:110].
وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ثمان آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت فقال: أولهن: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26] والثانية: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]، والثالثة: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، ثم ذكر مثل قول ابن مسعود في الآيات الخمس سواء بسواء).
وقال علي رضي الله تعالى عنه: (أرجى آية في كتاب الله قول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] ثم قال: وإذا كان يكفر عني بالمصائب ويعفو عن كثير، فأي شيء يبقى بعد كفارته وعفوه؟!)، وورد عنه أنه قال: (ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله -يعني بالنسبة للعصاة- حدثني بها النبي صلى الله عليه وسلم {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]) قوله: (ما أصابكم) أي: من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا (فبما كسبت أيديكم)، أي: هذه عقوبتكم في الدنيا، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وقد عاقبكم بها في الدنيا، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه، فهذا هو وجه اختيار علي رضي الله عنه لهذه الآية على أنها أرجى آية في القرآن.
وقال بعض العلماء: أرجى آية هي قوله تعالى في آخر سورة الأحقاف: {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35] وقرئ: (بلغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) والمقصود بقوله: (فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) الآية اقتصرت في الإهلاك بالعذاب على الكفار؛ فأطمعت المسلمين في رحمة الله تبارك وتعالى، ومثلها أيضاً قوله تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} [سبأ:17] وفي قراءة أخرى: (وهل يجازى إلا الكفور).
وقيل أيضاً: إن أرجى آية هي قوله تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48].
وقيل: إن أرجى آية هي قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء:84].(52/5)
معنى قوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى
قيل: إن أرجى آية في القرآن هي قوله سبحانه وتعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] فروي: (أن النبي عليه الصلاة والسلام لما نزلت هذه الآية قال: إذاً لا أرضى وواحد من أمتي -يعني: من أمة الإجابة الذين دخلوا في دين الإسلام، واستجابوا لدعوته صلى الله عليه وسلم- في النار) وصح أيضاً في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا أزال أشفع يوم القيامة فأشفع حتى يناديني ربي أقد رضيت يا محمد؟! فأقول: أي ربي رضيت) صلى الله عليه وآله وسلم.
ونظم بعضهم هذا المعنى فقال: قرأنا في الضحى ولسوف يعطي فسر قلوبنا ذاك العطاء وحاشا يا رسول الله ترضى وفينا من يعذب أو يساء وقال الآخر مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: أترضى حبيبي أن تكون منعماً ونحن على جمر اللظى نتقلب ألم يرضك الرحمن في سورة الضحى وحاشاك أن ترضى وفينا معذب وقال بعض العلماء: إن حمل هذه الآية: (ولسوف يعطيك) على الشفاعة متعين، واستدلوا على ذلك بوجوه: الأول: أنه تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا بالاستغفار، فقال عز وجل: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] قوله: (واستغفروا) السين هذه سين الطلب، يعني: سؤال المغفرة عبارة عن طلب المغفرة، ومن طلب شيئاً فلا شك أنه لا يريد الرد ولا يرضى به.
إذاً: الاستغفار كلمة تفيد الطلب مثل الاستسقاء يعني: طلب السقيا، ومثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] على القول بأنها تفيد الطلب، بمعنى: أنهم سألوا الله الاستقامة والثبات عليه، هذا أحد الوجوه في التفسير حتى كان الحسن إذا تلا هذه الآية قال: اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة.
فالمقصود بقوله: (واستغفر لذنبك والمؤمنين) يعني: سلني أن أغفر لأمتك، فكون الرسول عليه الصلاة والسلام يسأل الله شيئاً، فهو يحب هذا الشيء، وبالتالي يكره أن يرد، ولا يرضى أن يرد، إنما يرضى بالإجابة، وإذا ثبت أن الذي يرضاه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته هو الإجابة لا الرد، وقد دلت هذه الآية على أن الله سبحانه وتعالى يعطيه كل ما يرتضيه، علمنا أن هذه الآية دالة على الشفاعة في حق المذنبين.
إذا كان الرجل يقول في حق الذي هو مثله من البشر: لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من جود كفيك ما علمتني الطلبا يقول له: لو لم ترد، أي: لو لم تكن تحب أن تعطيني لما كنت تعلمني أن أطلب منك، فكيف يكون في حق الله عز وجل الذي علمنا أن ندعوه وضمن لنا الإجابة؟! أما الأحاديث الواردة في الشفاعة فكثيرة، وهي دالة على رضا الرسول صلى الله عليه وسلم في العفو عن المذنبين، وهذه الآية دلت على أنه تعالى يفعل كل ما يرضاه الرسول صلى الله عليه وسلم، فتحصل من مجموع الآية والحديث حصول الشفاعة.
وعن جعفر الصادق أنه قال: رضا جدي ألا يدخل النار موحد.
والحديث الذي صدرنا به الكلام يؤكد هذا المعنى، وهو قول الله عز وجل لجبريل: (اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) لكن هناك تنبيه مهم جداً: وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يرضى الرضا الكامل إلا إذا وقعت شفاعته لجميع أمته كاملة، فهذا أمر يكون في المستقبل، فلا ينافي دخول بعض أمته النار ابتداءً، لكن يشفع النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من الموحدين، فالمقصود بالرضا أنهم لا يخلدون في النار.(52/6)
وجه كون قوله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم) أرجى آية في كتاب الله
هناك أقوال أخرى فيما يتعلق بأرجى آية في القرآن: قيل: إن أرجى آية في القرآن هي قول الله سبحانه وتعالى في سورة النور: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] قال العلماء: إن في هذه الآية الكريمة دليلاً على أن كبائر الذنوب لا تحبط العمل الصالح؛ لأن مسطح بن أثاثة من عمله الصالح الهجرة في سبيل الله، ومع ذلك وقع في قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وخاض في الإفك، فأقيم الحد عليه، ومع ذلك ثبت الله سبحانه له وصف الهجرة والمهاجرين في سبيل الله.
فقذفُ عائشة رضي الله عنها من الكبائر، ومع ذلك لم يبطل هجرته؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال بعد هذه الكبيرة: (والمهاجرين في سبيل الله) فدل على أن هجرته في سبيل الله كانت خالصة، ولم يحبطها قذفه لأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها.
قال القرطبي في هذه الآية في سورة النور: معروف أن مسطحاً لما وقع في عائشة رضي الله تعالى عنها، فكان أبو بكر يعطيه نفقة وأموالاً، فغضب منه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فقطع عنه هذه النفقة.
هناك من الأشعار اللطيفة كون الإنسان إذا أساء إلى إنسان فلا يحتج بفعل مسطح.
كان هناك رجل له ولد عاق لا يطيعه، فقطع أبوه عنه النفقة التي كان يؤتيه إياها، فبعث إليه ولده بهذه الأبيات يقول فيها: لا تقطعن عادة بر ولا تجعل عتاب المرء في رزقه فإن أمر الإفك من مسطح يحط قدر النيل من إفكه وقد جرى منه الذي قد جرى وعوتب الصديق في حقه فكتب إليه أبوه يقول: قد يمنع المضطر من ميتة إذا عصى في السير في طرقه لأنه يقدر على توبة توجب إيصالاً إلى رزقه لو لم يتب من ذنبه مسطح ما عوتب الصديق في حقه فهو يحتج بقوله تعالى: ((أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)) [النور:22] في حق مسطح، ولم الصديق في حقه إلا بعدما أظهر مسطح الندم، وتاب من هذه الكبيرة.
وقوله: (قد يمنع المضطر من ميتة) هذه قاعدة معروفة، وهي: أن الرخص لا تناط بالمعاصي، فالإنسان إذا فعل معصية فليس له أن يترخص بالرخص الشرعية حال مباشرته لمعصية، كالشخص الذي يسافر لأجل معصية معينة يرتكبها، فهل له أن يقصر الصلاة؟ لا، ليس له أن يقصر الصلاة، وليس له أن يأكل الميتة إذا اضطر؛ لأنه في سفر معصية، فالرخص لا تناط بالمعاصي؛ فلذلك يقول هذا الأب لولده العاق: قد يمنع المضطر من ميتة إذا عصى في السير في طرقه يعني: إذا مشى في الطرق في سفر معصية فيمنع من هذا الرزق.
لأنه يقدر على توبة توجب إيصالاً إلى رزقه لو لم يتب من ذنبه مسطح ما عوتب الصديق في حقه نعود لما نحن بصدده، يقول الإمام القرطبي: في قوله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل) دليل على أن القذف وإن كان كبيراً لا يحبط الأعمال؛ لأن الله تعالى وصف مسطحاً بعد قوله في عائشة بالهجرة والإيمان، وكذلك سائر الكبائر، ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله، قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65].
وقال القرطبي أيضاً: قال الإمام مسلم: قال حبان بن موسى: قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله.
ثم قال بعد هذا: قال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى من حيث لطف الله بالقذفة العصاة اهـ.
بهذا اللفظ.(52/7)
تتمة أقوال العلماء في بيان أرجى آية في كتاب الله تعالى
وقيل: أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله تعالى: {وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} [الأحزاب:47]، وقد قال تعالى في آية أخرى مبيناً هذا الفضل الكبير: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ} [الشورى:22] فشرح الفضل الكبير في هذه الآية وبشر به المؤمنين في تلك الآية.
وقيل: من آيات الرجاء أيضاً: قوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى:19].(52/8)
وجه كون أرجى آية في القرآن هي آية الدين
وقال بعض أهل العلم: أرجى آية في كتاب الله عز وجل: آية الدين، وربما يستغرب لأول وهلة أن تكون آية الدين هي أرجى آية للعصاة في القرآن الكريم، وقد أوضح الله تبارك وتعالى في آية الدين الطرق الكفيلة لصيانة الدين من الضياع، وكل هذه الآية من أجل مصلحة المسلم في شيء يسير جداً من الدنيا، يقول عز وجل: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [البقرة:282] حتى لو كان الدين دريهمات قليلة، ومع ذلك اهتم الله سبحانه وتعالى بأمر المؤمن هذا الاهتمام، وأنزل في حفظ حقه أطول آية في كتابه المجيد! قالوا: إن المحافظة في آية الدين على صيانة مال المسلم وعدم ضياعه ولو قليلاً، يدل على العناية التامة بمصالح المسلم، ويدل أيضاً على أن اللطيف الخبير لا يضيعه يوم القيامة عند اشتداد الهول وشدة حاجته إلى ربه سبحانه وتعالى.
قال بعض العلماء أيضاً: كان بعض العارفين يرى آية المداينة في البقرة من أقوى أسباب الرجاء، فقيل له: وما فيها من الرجاء؟! فقال: الدنيا كلها قليل، ورزق الإنسان منها قليل، والدين قليل، فانظر كيف أنزل الله تعالى أطول آية ليهدي عبده إلى طريق الاحتياط في حفظه دَينه، فكيف لا يحفظ دِينه الذي لا عوض له منه؟! يقول بعضهم: لئن كنت في الدنيا بصيراً فإنما بلاغك منها مثل زاد المسافر إذا أبقت الدنيا على المرء دينه فما يقتاته منها فليس بضائر وقال الملا علي بن سلطان القاري: فوجهه أنه سبحانه وتعالى أمرنا بالاحتياط لدنيانا الفانية التي نهانا عن الاغترار بها والركون إليها والاعتناء بها، وأمرنا بالإعراض عنها والزهادة فيها، فإذا لطف بما أرشدنا إليه مع حقارتها في أطول آية من كلامه، فكيف بالدار الباقية دار الخلد في النعيم والالتذاذ الذي لا يساوي بل لا يدانى بالنظر إلى وجهه الكريم؟!(52/9)
آيات في الرجاء وأقوال أهل العلم فيها
أخرج الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أرجى آية في القرآن لهذه الأمة قوله تعالى: {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260].
وقيل: أرجى آية هي قوله تعالى في سورة الحجر: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2].(52/10)
معنى قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب) ووجه كونها أرجى آية
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: من أرجى آيات القرآن العظيم قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:32 - 35] كيف تكون هذه الآية هي أرجى آية في القرآن، بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن إيراث هذه الأمة لهذا الكتاب دليل على أن الله اصطفاهم، فقال عز وجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] وبين أن هؤلاء المصطفين ثلاثة أقسام: الأول: الظالم لنفسه، وهو الذي يطيع الله ولكنه يعصيه أيضاً، فهذا هو الذي قال الله فيه: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102] وكل (عسى) في القرآن فهي واجبة.
الثاني: المقتصد، وهو الذي يطيع الله ولا يعصيه، ولكنه لا يتقرب بالنوافل من الطاعات.
الثالث: السابق بالخيرات، وهو الذي يأتي بالواجبات ويجتنب المحرمات ويتقرب إلى الله تعالى بالطاعات والقربات غير الواجبة، وهذا على أصح الأقوال في تفسير الظالم لنفسه والمقتصد والسابق.
ثم إن الله سبحانه وتعالى بين أن إيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير منه سبحانه وتعالى عليهم، ثم بعد ما ذكر هذه الأقسام الثلاثة وعد الجميع -الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات- بجنات عدن، وهو الذي لا يخلف الميعاد، فقال عز وجل: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) إلى قوله: (وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) فهذه الواو في قوله: (يدخلونها) شاملة للظالم والمقتصد والسابق على التحقيق، ولذا قال بعض أهل العلم: حق لهذه الواو في قوله تعالى: (يدخلونها) أن تكتب بماء العينين؛ لما تضمنته من الرجاء والتبشير وتفريج كربات العصاة من المؤمنين، فوعد الله سبحانه وتعالى الصادق بجنات عدن لجميع أقسام هذه الأمة وأولهم الظالم لنفسه، يدل على أن هذه الآية من أرجى آيات القرآن الكريم، ولم يبق من المسلمين أحد خارج عن هذه الأقسام الثلاثة؛ لأن الوعد الصادق بالجنة في الآية شامل لجميع المسلمين، ولذا قال بعدما ذكر الثلاثة الأقسام للمسلمين مباشرة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36] إلى قوله سبحانه: {فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] واختلف أهل العلم في سبب تقديم الظالم في الوعد بالجنة على المقتصد والسابق، ما الحكمة من أنه قدم الظالم لنفسه وأخر السابق بالخيرات؟! قالوا: قدم الظالم؛ لئلا يقنط من رحمة الله، وأخر السابق بالخيرات؛ لئلا يعجب بعمله فيحبط.
وقال بعضهم: قدم الظالم لنفسه؛ لأن أكثر أهل الجنة هم الظالمون لأنفسهم؛ لأن الذين لم تقع منهم معصية أقل من غيرهم كما قال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24].
هذا ما يتعلق بأرجى آية في القرآن المجيد.(52/11)
أقوال العلماء عن أخوف آية في القرآن العظيم
لا شك أننا بحاجة أيضاً إلى أن نتكلم عن أخوف آية في القرآن، لكن لا نفصل فيها، وإنما نذكرها على سبيل الاختصار.
قال بعض العلماء: أخوف آية هي قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28].
وقيل: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن:31].
وقيل: قوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير:26].
وقيل: قوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12].
وقيل: قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] هذه الآية تسمى: نبتات العابدين.
وعن أبي حنيفة: أن أخوف آية قوله تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131].
وعن الشافعي: أنها قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] هذا ما توافر لدي فيما يتعلق بأخوف آية وأرجى آية في القرآن العظيم.(52/12)
عبودية الكائنات [1]
خلق الله عز وجل الخلق وهو في غنىً عنهم، وإنما خلقهم سبحانه وتعالى لعبادته، فكل الخلق عبيد لله، سواء عبودية عامة أو عبودية خاصة، فيجب على الإنسان أن يحقق العبودية الخاصة؛ فإنها الغاية التي لأجلها خلق.(53/1)
أنواع العبودية ومفهوم الكائنات(53/2)
تعريف العبادة
بسم الله الرحمن الرحمم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فسنبدأ أولاً بتوضيح مفهوم العبودية، فالعبودية هي الغاية من وراء هذا الخلق، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، والعبودية لله سبحانه وتعالى مفتاح دعوة الرسل؛ إذ ما بعث الله رسولاً إلا قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65].
والعبودية هي: الخضوع والانقياد والطاعة لله تبارك وتعالى.
واصطلاحاً هي: الأعمال الصالحة التي تُؤدى لله تبارك وتعالى، ويُفرد الله بها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.(53/3)
العبودية عامة وخاصة
أما العبودية فهناك عبودية عامة، وهناك عبودية خاصة.
فالعبودية العامة بمعنى أن كلمة (العبد) يقصد بها المعنى العام للعبادة، فعبد بمعنى: معبد.
وتأتي العبادة الخاصة التي فيها (عبد) بمعنى عابد.
والعبودية العامة هي عبودية القهر والتسخير لنفاذ أمر الله تبارك وتعالى في كل شيء، فلا يقدر كائن أن يمتنع عن شيء جبله الله عليه، وهذه العبودية تشمل جميع الكائنات؛ لأن الله سبحانه وتعالى يتصرف في خلقه بمحض ربوبيته بما يشاء وكيف شاء، حتى أطغى الطغاة وأكبر الجبارين إذا شاء الله سبحانه وتعالى أن يقبض روحه قبض روحه، وإن شاء أن يمرضه أمرضه، فيتصرف في خلقه سبحانه وتعالى بما شاء، ولا راد لمشيئته ولا لقضائه تبارك وتعالى، ولا يستطيع أحد أبداً أن يخرج عما يقدره الله له.
فهذه العبودية تشمل جميع الناس: المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار، يقول تبارك وتعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83]، ويقول تبارك وتعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]، وقال عز وجل في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)، فجميع الكائنات لا تخرج عن مشيئته وقدرته وكلماته التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فهذه عبودية القهر والملك والتصرف كما تقتضيه ربوبيته تبارك وتعالى.
فالعبودية هنا عامة، والعبد هنا بالمعنى العام للعبودية بمعنى: معبد، أي مقهور وذليل خاضع لكل ما يجريه الله سبحانه وتعالى عليه.
أما العبودية الخاصة فهي العبودية الاختيارية، عبودية الطاعة والانقياد والمحبة والاختيار، وهذه العبودية تصدر من المؤمنين الموحدين الذين يقومون بطاعته تعالى وتمجيده وتقديسه، من الجن والإنس والملائكة، فعبد هنا بمعنى: عابد العبودية الاختيارية، ومنه قوله تبارك وتعالى: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68]، وقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18]، وقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هونًا} [الفرقان:63]، وقوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان:6].
إذاً: الخلق كلهم عبيد ربوبيته عز وجل، وأهل طاعته وولايته هم عبيد ألوهيته، فالعبودية العامة هي الملك والقهر والتسخير، أما العبودية الاختيارية فهي توحيد المعبود باختياره، فالخلق كلهم عبيد ربوبيته، وأهل طاعته وولايته هم عبيد ألوهيته.(53/4)
مفهوم الكائنات وأقسامها
ولابد أن نمر أيضاً على مفهوم الكائنات، فما هي الكائنات الموجودة؟ الكائن بمعنى: المخلوق المصنوع الموجود المقهور الخاضع الذليل، ومنه كلمة (استكان) يعني: ذل وخضع لمكوّنه، فالكائنات لفظ يرادف الموجودات والمخلوقات، فهي تشمل كل ما سوى الله عز وجل، حيث إنه تعالى هو الموجد والمكون والخالق لها؛ لأن كل ما في الوجود إما خالق أو مخلوق، فالخالق هو الله وحده، وكل ما عدا الله مخلوق مكون فهو من الكائنات الموجودة.
فإذاً: الكائنات هي كل ما عدا الله، وهي التي وصفها الله بقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44].
والكائنات قسمها العلماء باعتبارين إلى أقسام: التقسيم الأول: تقسيم الكائنات إلى: علويات وإلى سفليات.
أما العلويات فيقصدون السماء والكواكب والنجوم والفلك والجنة والملائكة والعرش والكرسي.
وأما السفليات فالنار والهواء والماء والتراب والرياح والسحاب والأرض والجبال والشجر والبحار والأنهار والأحجار والحيوانات والإنسان والنبات والطيور.
التقسيم الآخر وهو أدق: تقسيم الكائنات إلى: كائنات في عالم الغيب، وكائنات في عالم الشهادة.
أما عالم الغيب فهو كل ما غاب عنك، فهناك أحياء غيبية كالملائكة والجن، فهي أحياء لكنها في عالم الغيب، وهناك جمادات غيبية، كالجنة والنار والقلم والعرش.
أما عالم الشهادة فيشمل كل ما هو مشاهد محسوس في حياة المخلوقات، فهناك الإنس، والإنس يشملون الأنبياء وأتباعهم، وهناك الحيوانات والنباتات والجمادات وغير ذلك.
وكل هذه الأقسام التي ذكرنا تقوم بعبادة الله سبحانه وتعالى وتسبيحه، ليس على المجاز، ولكن على الحقيقة كما سنبين.(53/5)
دواعي عبودية الله عز وجل
أما دواعي هذه العبودية، فأول داعٍ من دواعي العبودية هو الفطرة، فالإنسان إذا كانت فطرته سليمة فإنها تجذبه إلى التوحيد، حتى قال بعض العلماء: لو أن رجلاً منذ أن ولد وضع في الأغلال، وحبس في غرفة ولم يختلط بأحد حتى بلغ وكلف، فسوف ينطق بـ (لا إله إلا الله)؛ كل إنسان سليم الفطرة يشعر باعترافه بالله سبحانه وتعالى؛ إذ إن هذا أمر فطري، فلذلك لا يحتاج إلى مناقشة، كالذي عوفي من بلاء الفلسفة والإلحاد والمذاهب المشككة، وعوفي من تأثير البيئة الفاسدة كالبيئة النصرانية أو اليهودية أو الشركية من حوله.
فإن هذه البيئة التي حبس فيها تدل على أنه ليس عنده مشكلة، ولا يقبل أصلاً مبدأ أن يناقش قضية وجود الله؛ لأن أقوى دليل هو الفطرة، ويجد أن هذا الشعور مغروس في قلبه، ومغروس في فطرته، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]، وقال عز وجل في الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
وأيضاً من دواعي العبودية: الشرائع، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15]، وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].
ومن دواعي العبودية الآيات الكونية التي تكشفها لنا الكشوفات العلمية الحديثة، والإسلام يعتبر التفكر في الآفاق عبادة واجبة على المسلم، فعليه أن يتفكر في هذه الآفاق وفي مخلوقات الله سبحانه وتعالى، فإنه لما نزلت الآيات الخواتيم في سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:190 - 191] بكى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد أنزلت عليّ الليلة آيات، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها!)، فهذا الوعيد يدل على وجوب التفكر في هذه الآيات بالذات، وهي تشمل التفكر في خلق الله سبحانه وتعالى.
ويقول تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75]، فالتفكر في هذا يورث اليقين.
ويقول تبارك وتعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] وهذه من أعظم آيات الله سبحانه وتعالى، ويقول عز وجل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].
ومجال الإعجاز العلمي في نصوص القرآن والسنة مجال رحب جداً، وحتى لا نخرج من موضوعنا نكتفي بهذه الإشارة إلى أن هذا أحد موجبات العبودية.(53/6)
عبودية البشر(53/7)
مراتب البشر في العبودية
أما مراتب البشر في العبودية فأعلى المراتب هي: مرتبة الرسل والأنبياء، وأعلى مراتب الرسل هي مراتب أولي العزم من الرسل، وأعلاهم محمد عليه الصلاة والسلام، ثم عامة الرسل، ثم عامة الأنبياء.
المرتبة الثانية: مرتبة أصحاب الأنبياء والرسل، وهم الحواريون والأنصار والربانيون، وأفضل هؤلاء على الإطلاق هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم خير أمة أخرجت للناس، يعني: أن أفضل الأمم بعد الأنبياء هم الصحابة، وأفضلهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي إلخ الترتيب المعروف؛ رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
تلي مرتبة الحواريين والربانيين وأصحاب الأنبياء مرتبة المجاهدين في سبيل الله تبارك وتعالى، وأعلى مراتب المجاهدين مرتبة الذين استشهدوا بالفعل في الجهاد في سبيل الله.
تليهم مرتبة العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.
تليهم مرتبة المحسنين من أهل الإيثار والصدقة ودفع كربات الناس.
يليها منزلة الصالحين المحافظين على الفرائض والنوافل، أولياء الله عز وجل، وهؤلاء هم الموصوفون بأنهم سابقون في الخيرات.
يلي ذلك أهل النجاة الذين أدوا الفرائض وتركوا المحارم، بلا زيادة ولا نقص، وهؤلاء الذين ينطبق عليهم وصف المقتصد.
يليهم الذين أسرفوا على أنفسهم وغشوا الكبائر مع أدائهم الفرائض، وهم المستحقون لوصف الظالم لنفسه.(53/8)
العبادة هي أشرف أوصاف الأنبياء
أما الكلام في الحقيقة على عبودية الأنبياء فموضوع مهم جداً جداً، وما أكثر ما تكلم الناس فيه! لكن نشير إشارة عابرة؛ لأنه ليس هذا المقصود الأساسي من البحث.
يقول تبارك وتعالى: {قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59]، وهم الرسل عليهم السلام، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:171]، فوصف الأنبياء بالعبودية له عز وجل، وقال أيضاً: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل:2]، وقال أيضاً: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73]، فهذا أشرف وصف يعتز به الأنبياء والمرسلون، وهو أنهم عباد لله تبارك وتعالى.
ويقول عز وجل مبيناً عبودية نوح له: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، ويقول أيضاً: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9]، وقال أيضاًَ في حقه: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:81]، وقال أيضاً: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10].
أما إبراهيم فقال الله عز وجل في وصفه: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:81]، وقال: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ} [ص:45].
أما موسى فقال أيضاً فيه وفي أخيه هارون: {إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:122].
أما عيسى فكان أول ما نطق به في المهد أن قال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]، وقال أيضاً في حقه: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف:59]، وقال أيضاً: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ} [النساء:172].
أما خاتمهم وسيدهم صلى الله عليه وآله وسلم فقد وصفه الله بالعبودية في أشرف مقاماته فقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19]، وقوله: (عبد الله) يقصد به الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا هنا في مقام الدعوة، وقال عنه كذلك في مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لِيلاً} [الإسراء:1]، وقال عنه أيضاً في مقام التحدي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، وقال أيضاً: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه} [الزمر:36].(53/9)
عبودية أتباع الرسل
أما أتباع الرسل فقد وصف القرآن أتباع الرسل بهذه العبودية، كمؤمن آل فرعون، وامرأة فرعون آسية بنت مزاحم، وكذلك سحرة فرعون، وأصحاب الكهف، والغلام، وأصحاب الأخدود، وكذلك مؤمن آل ياسين، أي: حبيب النجار.
أما هذه الأمة فما أكثر العابدين والعباد الذين استحقوا هذا الوصف الشريف، وعلى قمتهم بلا شك أبو بكر وعمر والصحابة كما ذكرنا، ومنهم عباد بن بشر والبراء بن مالك، وهما من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(53/10)
عبودية جميع الكائنات
ونحن الآن سنتكلم على عبودية نوع آخر من الكائنات، لا نعني بها عبودية الأنبياء والمرسلين وأتباعهم وطبقاتهم، وإنما نتكلم عن الكائنات كلها، ونثبت أن الله سبحانه وتعالى يخلق فيها إدراكاً حقيقياً، فهذه الكائنات تسبح، وتحمد الله عز وجل، ويخلق الله فيها إدراكاً، حتى الحجر والجدار، كما قال تبارك وتعالى في الجدار: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف:77]، خلق الله فيه إرادة، ولذا قال: (يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَه).(53/11)
سجود الكائنات
ومن هذه العبودية التي تقوم بها الكائنات: عبادة السجود، يقول تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18].
في هذه الآية قرينة واضحة على أن السجود هنا سجود حقيقي، وليس بالمعنى المؤول بأنه بالدلالة على الله سبحانه وتعالى، هذه القرينة هي قوله تعالى: (وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ)، لو كان المقصود التسبيح بمعنى أن من رآها قال: سبحان الله، لقال: والناس أو وكل الناس؛ لأنك إذا رأيت أي مخلوق خلقه الله، فيمكن أن تقول: سبحان الله؛ لأنه خلق له هذه العين وهذه الأذن وهذا الأنف، وخلقه بهذه الطريقة، فلو كانت الدلالة العامة بالصورة المؤولة لما قال تبارك وتعالى: (وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ)، ولكن بعض الناس قال: لم يقصد هنا التسبيح الحقيقي؛ لأن من الناس من يكفر بالله ويجحده، ولا يسجد له ولا يسبحه، فإذا كان الأمر كما زعموا فلن يكون لتخصيص السجود بكثير من الناس معنىً.
ثم قال تعالى في آية أخرى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:48 - 50].
الشاهد: قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل:48]، حيث إنه هنا بين كيفية سجود هذه الأشياء فقال: (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ)، يعني: أن الكائنات التي لها ظل هذه هي كيفية سجودها لله سبحانه وتعالى، فالله قادر على أن يخلق للظل إدراكاً يسجد لله به سجوداً حقيقياً.
وقوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) هذا يدل على أن المقصود جميع الكائنات؛ لأنه ليس هناك كائنات تخرج عن السماء أو الأرض؛ فلذلك هذا كله يسجد سجوداً حقيقياً لله عز وجل، ولذا قال: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:49 - 50].
هناك خلاف في كيفية هذا السجود، فهناك سجود، وهناك تسبيح، فمثلاً: الطيور تسمعها في وقت الشروق وفي وقت الغروب، وإذا كان هناك غابة فيها أشجار كثيرة أو بستان أو حديقة تسمع أصوات الطيور في هذين الوقتين بالذات كأنها أوامر مكلفة بها، وحينما تسمع هذا ما يدريك لعل هذا هو تسبيح الطيور؟ لكنك لا تفقه منه شيئاً، وكونك لا تفقه لا يسوغ لك أن تنكره.
وهكذا الأمواج تسبح، وكل ما خلق الله سبحانه وتعالى من الكائنات يسبح الله عز وجل.
لكن يختلف الإنسان عمن عداه في كيفية السجود، فنحن -مثلاً- معشر المسلمين سجودنا الخاص بنا هو ذلك السجود الذي يكون على سبعة أعضاء، أما بقية الكائنات فسجود كلٍ بحسبه، إذ كل كائن له طريقة خاصة بالسجود الله أعلم بها، فلو قيل: كيف يسجد الشجر؟ وكيف يسجد القمر؟ وكيف تسجد الشمس؟ وكيف تسجد هذه الكائنات؟ لقلنا: لا ندري، لكن هي تسجد قطعاً بلا شك في ذلك.
فالخلاف هو في كيفية السجود، ونحن نعرف فقط سجودنا نحن؛ إذ نسجد على سبعة أعضاء، أما ما عدانا من الكائنات فهي تسجد، ولكننا لا نعرف هذه الكيفية.(53/12)
تسبيح الكائنات
وهناك عبادة التسبيح: يقول تبارك وتعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44].
فالله يقول: (تُسَبِّحُ)، إذاً: هي تسبح، فلا يليق بمؤمن أن يسمع قول الله تبارك وتعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ) ويقول: إنها لا تسبح، وأما تفسير من يقول: إن من رآها قال: سبحان الله، فهذا كلام فاشل، وهو مضاد لقول الله: (تُسَبِّحُ).
وقوله تعالى: (وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)، نفى هنا معرفة كيفية التسبيح.
وأما لماذا لا نفقه تسبيحهم فلأنها بخلاف لغتنا، والله سبحانه وتعالى امتن على سليمان بنعمة خصه بها على سائر الناس فقال: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ داودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} [النمل:16]، فسليمان عليه السلام فهم كلام النملة، ولم يكن هذا مجازاً بل كان حقيقة قطعاً.
والهدهد حينما أتى وخاطبه وحصل بينهما هذا الحوار، هل كان هذا بالإشارة أو بالرموز أم أنه كان حقيقياً؟
الجواب
كان كلامه حقيقياً.
إذاً: الهدهد يتكلم، والنمل يتكلم، وإمكانيتكم لا تسمح لكم بالتقاط وفهم هذا التسبيح.
وعبر عنها هنا بضمير العاقل، ولم يقل: (ولكن لا تفقهون تسبيحها) أي: الكائنات، وإنما أعاد عليها ضميراً من يعقل؛ لأنه أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح، ولذلك قال: (وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).
وكذلك أطلع الله سبحانه وتعالى داود عليه السلام على تسبيح الجبال والطير، وداود عليه السلام كان يقف موقفاً مهيباً عظيماً عجيباً حينما يسبح الله عز وجل، فكان يجاوبه كل شيء، حتى الطيور في السماء كانت تجيب وتردد خلفه، والجبال تشترك معه في هذا التسبيح، يقول تبارك وتعالى في سرد قصة داود عليه السلام: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10].
ولو كان تسبيحاً عادياً بمعنى أنه إذا رآها قال: سبحان الله لما اختص داود بهذا، وما الفرق بين داود وبين أي شخص آخر إذا رأى الجبال قال: سبحان الله؟ هذا إفساد لمعاني القرآن، ولذلك يقول تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]، فهذا خطاب للجبال، ويقول تعالى: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:19]، ويقول: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:18] ولو كان المقصود بتسبيح الجبال أن من رآها قال: سبحان الله، هل يختص هذا بالعشي والإشراق أم هذا في كل وقت؟
الجواب
في كل وقت، فتخصيص هذين الوقتين يدل على أنه تسبيح حقيقي، وأنها بالفعل تسبح الله سبحانه وتعالى.
ويقول تبارك وتعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]، أي: أن الحجر يهبط من خشية الله، ويقول تبارك وتعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم:88 - 92].
وسنرى في هذا البحث -إن شاء الله- أن هذه الكائنات تعرف الموالاة والمعاداة، وتحب أولياء الله، وتعادي أعداء الله.
وقد أشرنا من قبل إلى أنه لا يبعد أن يكون ما حصل في الجبل المقطم هو من هذا، فإن الجبل اندك؛ لأن من كانوا بجانبه قد انفصلوا عن المسلمين الموحدين، وكان هؤلاء النصارى قد تمركزوا في هذا المكان قريباً من الجبل، والجبل ما تحمل، إذ كل فترة يسمع: المسيح بن الله، والأب والابن وروح القدس، فالجبل ما تحمل، وهذا لا يبعد أن يكون هو تفسير هذا الأمر، فأكل الخنازير، وعبادة غير الله، والنطق بالشرك، كل هذا مما يغضب الله، فلما تزيلوا عن الموحدين أنزل الله بهم هذا الجبل الذي لم يتحمل أن يسمع هذا الشرك، والله تعالى أعلم.
وأيضاً علم الله سبحانه وتعالى كل كائن من هذه الكائنات كيفية التسبيح الخاصة به، يقول عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41] وهذه الصلاة ليست بالضرورة مكونة من ركوع وسجود وتكبيرة إحرام وتشهد وتسليمتين، وإنما هو تسبيح خاص ألهمها الله عز وجل إياه، فقوله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41]، يعني: أن الله علم صلاة كل شيء من هذه الكائنات وتسبيحها، أما دلالته على الرب فيعلمه عموم الناس، وهذا فيه إبطال من أول قوله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41] بقوله: أي: علم الله صلاته وتسبيحه.
ويقول صلى الله عليه وآله وسلم (ما تستقل الشمس -يعني: ما تشرق الشمس وترتفع- فيبقى شيء من خلق الله إلا سبح الله بحمده، إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم)، حديث صحيح، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة والحديث رقم (2224)، يعني: كل من لم يسبح الله في هذا الوقت فهو من أغبياء بني آدم، أو من الشياطين.
ويقول تبارك وتعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75]، يعني: بعد ما قضى الله سبحانه وتعالى بين الخلائق جميعاً بالحق والعدل تبارك وتعالى، في تلك اللحظة نطق الكون بأجمعه، ولذلك كانت الإضافة هنا مجهولة فلم يضف القول إلى قائله، ففي تلك اللحظة بعد ما فصل الله بين الخلائق بالحق والعدل، واستقر حكم الله على أهل الجنة وأهل النار نطق الكون بأجمعه لله رب العالمين بالحمد في حكمه وعدله، ولهذا لم يضف القول إلى قائل، بل أطلقه فقال: (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فجميع الخلائق في هذه اللحظة تحمد الله سبحانه وتعالى لعدله وحكمته.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه ليستغفر للعالم من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر) رواه ابن ماجة انظر إلى الموالاة والحب في الله حتى الحيتان في البحر تستغفر للعالم.
وفي الترمذي زيادة: (حتى النملة في جحرها لتستغفر هي الأخرى لمعلم الناس الخير)، وهل يمكن أن نستبعد هذا أو نستغربه بعدما سمعنا الله تعالى يحكي عن هذه النملة عبارة في قمة الفصاحة، وفي أعلى مراتب البيان على وجازتها، حيث قال عز وجل: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18]؟ وفي هذا اعتذار عن سليمان عليه السلام؛ لأن سليمان عليه السلام لا يمكن أن يتعمد أذية النمل، لكن قد يقتله هو وجنوده دون أن يشعروا، فهذا اعتذار في غاية التأدب مع نبي الله ومع جنوده وأصحابه.(53/13)
إيمان الكائنات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
فكل هذه الكائنات مسلمة بالله عز وجل، كما قال سبحانه: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83].
وليس هذا فحسب، بل جميع الكائنات تؤمن بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في حين عمي كثير من الإنس الذين أوتوا العقول ورأوا الآيات عن هذا الحق، وكذبوا برسالته صلى الله عليه وآله وسلم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليس من شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله، إلا عاصي الجن والإنس)، رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني.
ومناسبة هذا الحديث: أنه كان هناك جمل استعصى على الناس، وكان موجوداً في حائط أو بستان، وكان كل من اقترب منه يشد عليه هذا الجمل، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعاه إليه، فأتى الجمل بين يديه، ووضع أنفه على التراب أمام النبي عليه السلام وسكن؛ لأنه عرف أن هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولذلك لما تعجب الصحابة من ذلك أجاب الرسول عليه الصلاة والسلام وأزال تعجبهم بقوله: (إنه ليس من شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله، إلا عاصي الجن والإنس).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه قال للرجل المؤذن: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)، ثم قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري، فكل شيء يسمع صوت المؤذن يشهد له يوم القيامة.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن)، أي: ما زال الحجر قائماً وموجوداً، وكان إذا رأى النبي عليه الصلاة والسلام قال له: السلام عليك يا محمد! أو يا رسول الله! وعن سفينة -وهو أبو عبد الرحمن مهران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقب سفينة لأنه حمل شيئاً كبيراً في السفر- أنه أخطأ الجيش بأرض الروم، فإذا هو بأسد، فقال: يا أبا الحارث! أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من أمري كيت وكيت، فأقبل الأسد وله بصبصة -يعني: يحرك الذنب، وكأنه يرحب به- حتى قام إلى جنبه وكلما سمع صوتاً أهوى إليه -أي: أهوى إليه الأسد؛ كي يحميه من أي ضرر يقع به في الطريق- ثم أقبل يمشي إلى جنبه حتى بلغ الجيش، ثم رجع الأسد.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)، وهذا جاء في أكثر من حديث عن الصحابة، فأحياناً يخرق الله العادة، كما أسمع داود تسبيح الجبال، فـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: (لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل).
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: وإذا ثبت هذا في جماد واحد جاز في جميع الجمادات، وهو عام فيما فيه روح وفيما لا روح فيه.
ولكن القول بأنه تسبيح دلالة بحيث من رآها يقول: سبحان خالقها، ليس هذا التأويل بالقوي، والصحيح: أن الكل يسبح؛ للأخبار الدالة على ذلك، ونصت السنة على ما دل عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شيء، فالقول به أولى.(53/14)
نماذج في كيفية التفكر في مخلوقات الله عز وجل
ٍأما ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه: (مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة) فذكر كثيراً من النماذج العظيمة جداً في كيفية التفكر في مخلوقات الله عز وجل، على ضآلة الاكتشافات العلمية في عصر ابن القيم، ولكن هذا الكتاب يعكس مدى مواكبة ابن القيم لثقافة عصره، بحيث يمكن أن نقف الآن على أناس لا يعرفون عشراً من أعشار ما كان يعرف ابن القيم قبل تقدم هذه العلوم، مما يدل على اهتمام علمائنا وأسلافنا بهذا الباب جداً.
فيتكلم ابن القيم في موضع من كتابه: (مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة) على عبودية الشجر، ويقول: فتبارك الله رب العالمين الذي يعلم مساقط تلك الأوراق ومنابتها، فلا تخرج منها ورقة إلا بإذنه، ولا تسقط إلا بعلمه، ومع هذا فلو شاهدها العباد على كثرتها وتنوعها وهي تسبح بحمد ربها مع الثمار والأفنان والأشجار لشاهدوا من جمالها أمراً آخر.
ونحن إذا نظرنا إلى متحف الأحياء المائية نجد فيه أشياء عجيبة ليست كما عندنا، فأنت حينما ترى هذه المناظر الجميلة والبديعة تنبهر بجمال خلق الله سبحانه وتعالى في المناظر الطبيعية، وفي الجمال، فما بالك لو انكشف لك صوتها وهي تسبح، حتى ترى نوعاً آخر من الجمال لا يمكن أن تقيسه بجانب الجمال الذي تدركه بعينك فقط؟ وإذا سمعت صوت الطيور في الصباح وهي تغرد بهذه الأصوات الجميلة فإنك ترتاح لذلك، وتأنس به، وتتمتع بهذا الصوت، فما بالك لو فقهت تسبيحها؟ لا شك أنك سترى ما هو أجمل من هذا الأمر الظاهري الذي تراه.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ومع هذا فلو شاهدها العباد على كثرتها وتنوعها وهي تسبح بحمد ربها مع الثمار والأفنان والأشجار لشاهدوا من جمالها أمراً آخر، ولرأوا خلقتها بعين أخرى، ولعلموا أنها لشأن عظيم خلقت، وأنها لم تخلق سدى.
يقول تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6] فالنجم: ما ليس له ساق من النبات، والشجر ما له ساق، وكلها ساجدة لله مسبحة بحمده، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44].
يقول ابن القيم رحمه الله: ولعلك أن تكون ممن غلظ حجابه فذهب إلى أن التسبيح دلالتها على صانعها فقط، فاعلم أن هذا القول يظهر بطلانه من أكثر من ثلاثين وجهاً، وقد ذكرنا أكثرها في موضع آخر، وفي أي لغة تسمى الدلالة على الصانع تسبيحاً وسجوداً وصلاة وتأويباً وهبوطاً من خشيته، كما ذكر تعالى ذلك في كتابه.
أي: هل توجد لغة من اللغات يعبر بها عن هذه الأفعال: السجود والتسبيح والصلاة والتأويب بمعنى الدلالة على الخالق؟ يقول ابن القيم: في أي لغة تسمى الدلالة على الطالع تسبيحاً وسجوداً وصلاة وتأويباً وهبوطاً من خشيته كما ذكر ذلك تعالى في كتابه؟ فتارة يخبر عنها بالتسبيح، وتارة بالسجود، وتارة بالصلاة، كقوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41]، أفترى يقبل عقلك أن يكون معنى الآية: قد علم الله دلالته عليه؟ وسمى تلك الدلالة صلاة وتسبيحاً، وفرق بينهما، وعطف أحدهما على الآخر، والعطف يقتضي هنا المغايرة.
وتارة يخبر عنها بالتأويب كقوله: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ:10]، وتارة يخبر عنها بالتسبيح الخاص بوقت دون وقت، كالعشي والإشراق، أفترى دلالتها على صانعها إنما يكون في هذين الوقتين؟ أي: هل الجبال تدل على الله سبحانه وتعالى بالعشي والإشراق فقط، وأما في الضحى وفي الليل فلا تدل؟ فيدل التخصيص بهذين الوقتين على أنها صلاة حقيقية وتسبيح حقيقي.(53/15)
إدراك وتمييز الكائنات والرد على من جعل تسبيحها مجازاً(53/16)
عموم الإدراك والتمييز في الكائنات
أيضاً هناك أدلة على إثبات الإدراك والتمييز عند الكائنات كل بحسبه، كقوله تبارك وتعالى حاكياً عن سليمان عليه السلام: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا} [النمل:19]، تأمل كلمة: (قولها)، ولو كان قولها رموزاً ومجازاً، هل كان يتعجب سليمان عليه السلام؟ وهل كان في تلك اللحظة سيقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل:19] استحضاراً لهذه النعمة أن خصه الله بأن جعله يفقه لغة الطير، فهذا حقيقة وليس بمجاز، وإنما معنى قوله تعالى: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا) أي: من قول النملة، وماذا قالت النملة؟ بين الله قولها بقوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18].
وقد اشتملت هذه الجملة القصيرة على عشرة أنواع من الخطاب: اشتملت على النداء (يَا)، والتنبيه (أَيُّهَا)، والتسمية (النَّمْلُ)، والأمر (ادْخُلُوا)، والنص (مَسَاكِنَكُمْ)، والتحذير (لا يَحْطِمَنَّكُمْ)، والتخصيص (سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ)، والتعميم والتفهيم والاعتذار (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)، يعني: خصت سليمان وجنوده، ثم عممت وقالت: (وهم لا يشعرون) واعتذرت بأنهم لم يتعمدوا أن يقتلوكم، ولكن سوف يكون هذا بدون أن يشعروا، فهذا منتهى الأدب مع نبي الله سليمان عليه السلام ومع أصحابه.
وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جبل أحد بقوله: (هذا أحد جبل يحبنا ونحبه)، رواه البخاري، فانظر إلى الموالاة والحب في الله.
من ذلك أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام رقى أحداً مرة وكان معه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فرجف الجبل -أي: اهتز الجبل وتزلزل- فقال له النبي عليه السلام: (اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، والصديق هو: أبو بكر، والشهيدان هما: عمر وعثمان، وهذا رواه البخاري، وهذا من أعلام النبوة؛ لأنه أخبر أن عمر وعثمان سيكونان شهيدين، وقد قتلا رضي الله تعالى عنهما شهيدين.
وقال تبارك وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72]، وقوله: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ) هذا عرض تخيير ليس لأنها عصت، لكن خيرها فقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب:72]، فأثبت أنه خلق لها إدراكاً لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وأثبت أنها أبت فقال: (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا)، وأشفقت من حمل الأمانة.
ومما يؤيد وجود هذا الإدراك قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74].
ومما يؤيده أيضاً حنين الجذع، فقد كان للرسول عليه الصلاة والسلام جذع نخلة في المسجد، فكان إذا أراد أن يخطب اتكأ عليه، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بصنع المنبر، وصنع المنبر، وفي أول صلاة جمعة لما دخل المسجد مر على الجذع، ولم يستند إليه كما هي العادة، ورقى المنبر، فإذا بالجذع يبكي بكاء الصبي الذي يحن لأمه، وظل الجذع يتأوه، وكان صوته يسمع في جميع أرجاء المسجد، بكى حنيناً إلى رسول الله، وتألماً لفراقه، وظل صوته كالطفل الذي يبكي حتى نزل الرسول عليه السلام من على المنبر، وضم الجذع إليه، وربت عليه إلى أن سكن، وهذا كله كان أمام الصحابة، وهذا الحديث في البخاري.
إذاً: الجذع كان يحن إلى رسول الله، وكان يتفاعل معه، ويحبه، ويريد أن يقترب منه صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا كله يثبت أن الله سبحانه وتعالى قد يخلق في الجمادات من الإدراك ما تعي به أشياء كالعاقل.(53/17)
إدراك وتمييز الحيوانات والدواب
ثم نخصص بعض الأنواع من الكائنات كالحيوانات والدواب، فهناك دليل عام يشمل الحيوانات والدواب، وهو قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} [النحل:49]، فقوله: (مِنْ دَابَّةٍ) هذه صيغة عموم.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: (قرصت نملة نبياً من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأُحرقت، فأوحى الله إليه: أن قرصتك نملة فأحرقت أمة من الأمم تسبح الله!)، أي: أن الله عز وجل عاتبه.
ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة خشية أن تقوم الساعة)، أي: تستمع بأذنها وتترقب قيام الساعة؛ لأن يوم الجمعة هو أخطر يوم عندها؛ لأنه هو اليوم الذي تقوم فيه الساعة، فهي تدرك هذه الحقيقة، فكل يوم جمعة تكون في أشد حالات الإشفاق والخوف من أن يكون هذا موعد قيام الساعة.
ويقول أيضاًً: (لا تطلع الشمس ولا تغرب على أفضل من يوم الجمعة، وما من دابة إلا وهي تفزع ليوم الجمعة، إلا هذين الثقلين: الجن والإنس).
وقد مر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجنازة فقال: (مستريح ومستراح منه، فسألوه عليه الصلاة والسلام: ما مستريح وما مستراح منه؟ فقال: إن العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب) رواه البخاري.
ومعنى ذلك أن هذه الكائنات كلها تكره الكافر، وتكره الفاسق الذي يعصي الله تبارك وتعالى، وتود موته حتى تستريح من شره ومن أذيته إياها.
ويقول تبارك وتعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82] وهذا حقيقة لا مجاز.(53/18)
إدراك وتمييز البقر
وقال عليه الصلاة والسلام: (بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث)، يعني: أن أغلب ما خلقنا ومعظم ما خلقنا من أجله أن نعاونك في الحرث، (فقال الناس لما حكى لهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: سبحان الله! بقرة تتكلم) ولو كان المقصود: دلالته على خالقها لقال لهم: أنا أقصد أنها تدل على خالقها، وأنكم إذا رأيتموها قلتم: سبحان الله! ولكنه لم يقل ذلك، وإنما قال: (فإني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر)، رضي الله تعالى عنهما، وهذا رواه البخاري.(53/19)
إدراك وتمييز الإبل
وجاء أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه)، أي: أن هذا الجمل بمجرد أن رأى الرسول عليه الصلاة والسلام -وهو لا يعرفه- أدرك وعرف أن هذا هو رسول الله، فمجرد أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه (فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح سراته إلى سنامه وذفراه فسكن، فقال عليه الصلاة والسلام: من رب هذا الجمل؟ فجاء فتىً من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله! فقال: ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه)، يعني: تتعبه بالشغل، رواه أبو داود.
وقوله: (فإنه شكا إلي) يعني: أنه كلم النبي عليه الصلاة والسلام، والرسول فهم كلامه كما فهم سليمان، فهل بعد ذلك يرتاب أحد في أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين؟ وعن جابر رضي الله عنه قال: (أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دفعنا في حائط لبني النجار، فإذا فيه جمل لا يدخل الحائط أحد إلا شد عليه، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه فدعاه، فجاء واضعاً مشفره على الأرض حتى برك بين يديه، فقال: هاتوا خطاماً، فخطمه ودفعه إلى صاحبه، ثم التفت فقال: إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله، إلا عاصي الجن والإنس)، ورواه الإمام أحمد، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
كذلك أيضاً في قصة الهجرة، فإن الناقة التي هاجر عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما اقتربت من المدينة كان الصحابة يمسكون بزمامها، وكل طائفة من الصحابة يريدون أن ينزل الرسول عليه الصلاة والسلام أول ما ينزل عليهم، فكانوا يمسكون الزمام ويطلبون أن ينزل الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم، فيقول لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: (خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة).(53/20)
إدراك وتمييز الفيل
وكذلك إذا صحت الرواية في قصة أصحاب الفيل الذي أتى به أبرهة الحبشي، فإنهم قالوا: إن الفيل -وقيل: اسمه محمود والله أعلم- لما اقترب من حدود الحرم الشريف برك، فكانوا إذا وجهوه ناحية الكعبة يبرك ويثبت في الأرض، ولا يجيبهم، فإذا وجهوه ناحية اليمن ينطلق، وإذا وجهوه ناحية الشام ينطلق، إذا أعادوه إلى جهة الحرم الشريف يمكث في الأرض ويمتنع من المشي، فإذا صحت هذا فتنضم أيضاً لهذه الأدلة.(53/21)
إدراك وتمييز الديك
وأيضاً صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا الديك؛ فإنه يدعو إلى الصلاة)، وفي رواية: (فإنه يوقظ للصلاة).
وأقول: ألا يلفت نظركم فعلاً أن في وقت معين ثابت تستيقظ الديوك فيه أو تنتبه فيه وتصدر هذه الأصوات؟ وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبدأ قيام الليل إذا صاح الديك.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم صياح الديك فاسألوا الله من فضله؛ فإنها رأت ملكاً)، فأليس هذا جندي موظف لأمر معين يأمره الله سبحانه وتعالى به؟ بلى، إن هذا مكلف، ويفهم أن هناك وقتاً معيناً، وليس عنده أجهزة استشعار ولا لاسلكي ولا رادار، وإنما هي قدرة الله سبحانه وتعالى التي يخلق بها عنده هذا الإدراك.
ويذكر أن سعيد بن جبير كان عنده ديك، وكان رجلاً صالحاً مستجاب الدعوة، ففي يوم من الأيام لم يصح الديك، فقال: ما له قطع الله صوته، فلم يصح بعدها أبداً، فقالت أمه: لا تدع على أحد.(53/22)
إدراك وتمييز الذئب
كذلك أيضاً جاء أن الذئب تكلم في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكلام يفيد أن الذئب عنده اعتقادات معينة، فمثلاً: هو يعتقد أن الرزق بيد الله سبحانه وتعالى، بل إن الذئب أمر راعي الغنم بتقوى الله.
ويفيد الحديث أيضاً أن الذئب عالم بنبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه قصة حصلت مع راعٍ من الرعاة، وكانت سبباً في دخوله الإسلام كما سنبين، ولذلك ذكرها العلماء في باب علامات صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
والقصة ذكرها البخاري في صحيحه بلفظ: (بينما رجل في غنمه إذ عدا ذئب فذهب منها بشاة، فطرده حتى استنقذها منه، فقال له الذئب: يا هذا! استنقذتها مني، فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري؟ فقال الناس: سبحان الله! ذئب يتكلم؟! فقال صلى الله عليه وسلم: فإني أؤمن بذلك أنا وأبو بكر وعمر)، ونحن لا نريد المعاني المجازية الآن، لأن بعض إخواننا ألف رسالة مستوحاة من هذا الحديث، سماها: (عندما ترعى الذئاب الغنم)، يقصد بها حكام المسلمين في هذا الزمان.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (عدا الذئب على شاة فأخذها، فطرده الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه، وقال: ألا تتقي الله تنزع مني رزقاً ساقه الله إلي؟! فقال: يا عجبي! ذئب مقعٍ على ذنبه يكلمني كلام الإنس؟! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد عليه الصلاة والسلام بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق، قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره -أي: حكى له قصة الذئب هذه- فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي: الصلاة جامعة، ثم خرج فقال للراعي: أخبرهم بما حدث معك، فأخبرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صدق والذي نفسي بيده!) وهذا قطعاً يسد باب المجاز، إذ لو كان مجازاً فلماذا تعجب الراعي؟ ولماذا آمن بنبوة الرسول عليه السلام؟ هل لأنه إذا رأى الذئب يقول: سبحان الله! ويستدل به على الخالق سبحانه وتعالى؟(53/23)
عبودية الخيل
ومن ذلك أيضاً عبودية الفرس، فعن أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوة؛ يقول: اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم، فاجعلني من أحب أهله وماله إليه)، رواه الإمام أحمد.(53/24)
إدراك وتمييز وعبودية الهدهد
من ذلك أيضاً عبودية الهدهد، كما قال تعالى عن قصته مع سليمان عليه السلام: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:20 - 22] كان يمكن أن الله سبحانه وتعالى يقول: فمكث قريباً، لكن قال: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:22] تعريضاً بمن يخافون غير الله، والمعنى: لم يفعل كما تفعلون أنتم وتفقون بعيداً.
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22]، وهذا يثبت أن سليمان عليه السلام مهما أوتي من العلم فليس علماً مطلقاً، وإنما العلم كله لله، ولذا قال سبحانه حاكياً عن الهدهد: {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22]، يعني: أنه كان عند الهدهد توحيد، فيعلم أن سليمان نبي لا يعلم الغيب، ولذا قال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]، ووصفه بأنه يقين لأن هذا الخبر من شدة عجبه قد لا يصدقه سليمان، فقال له ابتداءً: إنه خبر يقيني، {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل:22 - 23]، أي: امرأة تحكم هذا الشعب، {تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، يعني: من كل شيء يؤتاه الملوك، وليس على إطلاقها، {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:23 - 24]، يعني: أن الهدهد استنكر واستقبح هذا الأمر، وذهب بسرعة يبلغ عنهم سليمان أنهم لا يعبدون الله، {وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:25 - 26] وهذا يدل على أهمية التوحيد، فالهدهد كان يعرف عقيدة التوحيد الخالص، فبين كفرهم وبعدهم عن الهداية، وغواية الشيطان لهم.
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: إن الله تعالى خصه -أي: الهدهد- من المعرفة بتوحيده ووجوب السجود له، ما خص به غيره من الطيور وسائر الحيوان من المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقول الراجحة تهتدي إليها.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(53/25)
عبودية الكائنات [2]
جميع الخلائق حيها وجمادها، علويها وسفليها، شاهدها وغيبيها، عابدة لله عز وجل، وطائعة ومنقادة له سبحانه وتعالى.
والله سبحانه وتعالى هو الذي خلقها؛ وهو الذي جعل لها إدراكاً وتمييزاً؛ لتعبده وتسبحه وتطيعه، فيجب على الإنسان الإيمان بذلك، ويجب عليه أيضاً أن يكون أولى الخلق بعبادة الله عز وجل.(54/1)
عبودية المخلوقات السفلية(54/2)
عبودية النباتات
من أنواع العبودية: عبودية بعض الجمادات، مع عبودية الحيوانات والدواب والطيور، وهناك عبودية بعض النباتات: وقد ذكرنا من قبل الدليل العام وهو قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18]، وكذلك أيضاً ذكرنا شهادة الشجر والحجر وكل من يسمع المؤذن يوم القيامة.
وكذلك أيضاً يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من ملبٍ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا) وذكرنا أيضاً حديث مستريح ومستراح منه.
وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء جبريل عليه السلام ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزين قد خضب بالدماء، قد ضربه أهل مكة فقال: (فعل بي هؤلاء وفعلوا، قال: أتحب أن أريك آية؟ قال: نعم أرني، فنظر إلى شجرة من وراء الوادي، فقال: ادع تلك الشجرة، فدعاها، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، قال: قل لها فلترجع، فقال لها، فرجعت حتى عادت إلى مكانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبي حسبي)، يعني: هذه الآية، رواه ابن ماجة.
وفي صحيح مسلم: (أنه صلى الله عليه وسلم ذهب لقضاء حاجته، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليّ بإذن الله، فانقادت كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، حتى أتى شجرة أخرى فأتى بغصن من أغصانها، فقال: انقادي علي بإذن الله، فانقادت معه كذلك، فجمعهما وقال: التئما علي بإذن الله، فالتأمتا)، أي: كي يستتر بهما.
وفي صحيح البخاري: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب الجمعة مستنداً إلى جذع، فقالت امرأة من الأنصار: يا رسول الله! ألا نجعل لك منبراً؟ قال: إن شئتم، فجعلوا له منبراً، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل صلى الله عليه وسلم فضمها إليه، ووضع يده عليها فسكنت).
وكذلك أيضاً جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بمَ أعرف أنك نبي؟ قال: إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة يشهد أني رسول الله، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ارجع فعاد، فأسلم الأعرابي).
وجاء أيضاً عن معن بن عبد الرحمن قال: (سمعت أبي قال: سألت مسروقاً: من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة سماع القرآن -أي: من الذي أخبره أن الجن حضروا واستمعوا القرآن؟ - فقال: حدثني أبوك -يعني: عبد الله بن مسعود أنه آذنته بهم شجرة)، أي: أن الذي أخبر الرسول أن الجن حضرت تستمع إلى القرآن شجرة، وهذا الحديث في صحيح البخاري.
وأيضاً مما يناسب هذا المقام موقف الشجر في آخر الزمان، ففي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله).(54/3)
عبودية أعضاء جسم الإنسان وشهادتها عليه يوم القيامة
وهكذا أيضاً عبودية أعضاء جسم الإنسان: فهذه الأعضاء نفسها لها هذا النوع من العبودية، ألا ترى إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان -أي: أنها تتهمه بكفر نعمة الله- تقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك، إن استقمت استقمنا، وإن اعوجت اعوججنا).
ويقول تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت:19 - 21]، أي: نطقاً حقيقياً، {الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21].
وكذلك قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
وعن أنس رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: هل تدرون مما أضحك؟! قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه يوم القيامة، فيقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ قال: فيقول: بلى، فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني)، يعني: كأنه يطعن في شهادة الملائكة، ويقول: أنا لا أقبل شاهداً على نفسي إلا من نفسي، وأما هؤلاء الملائكة الكرام الكاتبون فإنهم ظلموني، وكتبوا عليّ أشياء ما فعلتها، فلذلك يقول: (فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول أول ما يتكلم: بعداً لكنَّ وسحقاً، فعنكنَّ كنت أناضل)، أي: أنا كنت أخاف عليكن أنتن من العذاب، وأنتن تنطقن حتى تتعذبن، وهذا رواه مسلم، وفي رواية: (فيقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق)، وفي الحديث أيضاً: (إن أول ما يتكلم من الآدمي فخذه).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه، وشراك نعله، وتخبره فخذه بما أحدث أهله بعده)، رواه الترمذي.
وكذلك قصة المرأة اليهودية التي أهدت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ذراع شاة مسمومة، فالذراع أخبره أنه مسموم، كما هو معروف في الحديث الصحيح.(54/4)
عبودية البحر
ومن ذلك أيضاًً البحر، فالبحر يشفق من يوم الجمعة، كما جاء في الحديث، أن البحر يشفق من يوم الجمعة يخشى أن تقوم القيامة.
وكذلك أيضاً: حديث الرجل الذي أوصى بنيه أن يحرقوه من بعد موته، فأحرقوه، وألقوا جزءاً من رماده في البحر وجزءاً ذروه في الريح، فتوجه الأمر إلى البحر، إذ أمر الله البحر فامتثل الأمر وجمع ما تفرق فيه من فتات هذا الرجل.
وقال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6] إن المسجور هو الممنوع المكفوف عن الأرض حتى لا يغمرها فيغرق أهلها، والحقيقة أن مساحة اليابس بالنسبة لمساحة الأرض تساوي (23%)، وربما نقول: (30%) تقريباً؛ فلو لم يمسك الله هذا البحر الذي هو أكثر من ضعف مساحة اليابسة لأغرقها، فمثلاً: نحن الآن على ساحل الإسكندرية، من الذي يمسك هذا الماء عن أن يغرقنا؟ هل هي شركات التأمين؟! ومن الذي يؤمن علينا من الغرق والهلكة؟ إن هذا أمر الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال الله: (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ)، يعني: أن الله بقدرته وبأمره يكفه عن الخلق، ويأمره الله أن يمسك عن إغراق الناس وإهلاكهم وغمر هذه الأرض.(54/5)
عبودية الجبال والحجر والحصى
ومن ذلك أيضاً: عبودية الجبال والحجر والحصى، يقول تبارك وتعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21].
ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]، يقول القرطبي رحمه الله: (ما تردى حجر من رأس جبل، ولا تفجر نهر من حجر، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله، نزل بذلك القرآن الكريم).
وقال بعض المتكلمين في تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ): إنه البرد الهابط من السحاب يهبط من خشية الله، فقال بعضهم رداً على هذا القول: هذا القول أبرد من الثلج! أي: أنه قول لا يقبل.
ونقل القرطبي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن الجبال تحدث بعضها بعضاً، قال: (إن الجبل ليقول للجبل: يا فلان! هل مر بك اليوم ذاكر لله؟ فإن قال: نعم، سر به، ثم قال ابن مسعود: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} [مريم:88 - 91]، قال: أفتراهن يسمعن الزور، ولا يسمعن الخير؟!) يعني: هل الجبال تسمع الزور فقط ولا تسمع الخير، تسمع قول الكفار: (اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً)، وتتأذى به، وتكاد تندك، ولا تسمع من يذكر الله؟ ويقول تبارك وتعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف:143].
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحجر الأسود: (ليأتين هذا الحجر يوم القيامة وله عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق)، أي: أن الحجر الأسود ينطق يوم القيامة على كل من استلمه بحق.
وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69]، وذلك أن هؤلاء المغضوب عليهم (اليهود) سبوا نبيهم موسى عليه السلام، واتهموه بأنه آدر، يعني: أن فيه عيباً في العورة، فأراد الله سبحانه وتعالى أن ينزه موسى ويثبت لهم براءته من هذا العيب؛ لأن الأنبياء كاملون في صفاتهم الخلقية والنفسية والجسدية، وفي كل شيء، فالنبي لا يكون فيه عاهة أو نقص أو عيب في خلقته.
وكان موسى عليه السلام رجلاً حيياً، وكان بنو إسرائيل يغتسلون عراة أمام بعضهم البعض، فاغتسل عليه السلام في مكان خالٍ لا يراه أحد، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه -أي: هرب الحجر وأخذ ثوب موسى وفر به- فخرج موسى في إثره يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! يعني: هات ثوبي يا حجر! إلى أن مر موسى عليه السلام على ملأ من بني إسرائيل على هذه الهيئة وهو عارٍ، فرأوه وقالوا: ما بموسى من بأس، حينئذ توقف الحجر، فأخذ موسى ثيابه، وأخذ يضرب بالحجر؛ حتى إن الحجر ليزبل من ضرب موسى، أي: أثر ضرب موسى في الحجر من شدة الضرب؛ لأنه تغيظ منه أنه فعل ذلك، فهذا الحجر هل فعل ذلك بإرادته، أم أن الله أمره؟
الجواب
أمره الله سبحانه وتعالى، والدليل قوله تعالى: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69].(54/6)
عبودية الرياح والرعد والسحاب
أما الرعد فهو أيضاً يسبح الله، يقول تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13]، ويقول: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، وكان بعض السلف إذا كان يقرأ في درس العلم وسمع صوت الرعد، يقول: سبحان من سبحتَ له! وكذلك الريح: فالريح من الكائنات التي نص على أنها تشفق من يوم الجمعة خشية أن يكون هذا هو الذي تقوم فيه القيامة، وأيضاً الريح لها عبودية، يقول تعالى في حق سليمان عليه السلام: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36]، أي تجري بأمر سليمان عليه السلام.
وعن جابر رضي الله عنه قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر، فلما كان قرب المدينة هاجت ريح تكاد أن تدفن الراكب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعثت هذه الريح لموت منافق، فقدم المدينة، فإذا عظيم من المنافقين قد مات).
والسحاب كذلك له عبودية لله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: (بينما رجل بفلاة من الأرض، إذ سمع صوتاً في السحاب: اسق حديقة فلان! فمر الرجل مع السحابة، حتى أتت على الحديقة، فلما توسطتها -أي: كانت بحذائها- أفرغت فيها ماءها، فإذا برجل معه مسحاة يسحي الماء بها، فقال: ما اسمك يا عبد الله؟! قال: فلان، بالاسم الذي سمعه في السحابة، فقال له: يا عبد الله! لمَ تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان باسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثه، وأرد فيها ثلثه).(54/7)
عبودية الأجرام العلوية(54/8)
عبودية السماوات والأرض
وأيضاً هناك عبودية السماوات والأرض، يقول تبارك وتعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11].
وقال عز وجل: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [هود:44].
ويقول تعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} [مريم:90 - 91]، يقول ابن عباس: إن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق، إلا الثقلين، وكادت أن تزول منه لعظمة الله.
ويقول تبارك وتعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان:29]، قال بعض العلماء: فيه أنهما لا يبكيان على الكافرين، ومفهومه أنهما يبكيان على المؤمنين، وفراق الصالحين.
كل شيء له بكاء خاص به، فبكاء الإنسان بالدموع، أما بكاء السماوات والأرض فبحسبهما، والله أعلم بكيفيته.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن يوم الجمعة سيد الأيام، وأعظمها عند الله، وفيه تقوم الساعة، وما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا بحر إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة).
أما عبودية الأرض ففي قصة يأجوج ومأجوج، يقول عليه الصلاة والسلام: (ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك)، وهذا متفق عليه.
كذلك أيضاً في قصة الرجل الذي أمر بنيه بإحراقه، يقول عليه الصلاة والسلام: (فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت).
وأيضاً في قصة الرجل الذي قتل مائة، قال عليه الصلاة والسلام: (فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقربي)، وهذا رواه مسلم.
وكذلك في قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:4 - 5] قالوا: تشهد على بنيها بما عملوا على ظهرها من خير وشر.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (إذا كان أجل أحدكم بأرض -أي: إذا كان مكتوباً لك أن تموت في أرض معينة- أوثبته إليها الحاجة، فإذا بلغ أقصى أثره -أي: بلغ الخطوات المكتوبة له- قبضه الله سبحانه، فتقول الأرض يوم القيامة: رب! هذا ما استودعتني).
وأيضاً الأرض هي من المخلوقات التي تعرف الولاء والبراء كما ذكرنا، فهي توالي أولياء الله، وتعادي أعداء الله، كما ورد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب، -يعني: ارتد- فعرفوه، وقالوا: هذا كان يكتب لمحمد -عليه الصلاة والسلام- فأعجبوا به -كما أعجبوا بالكذاب سلمان رشدي - فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم، يعني: بقي وقتاً يسيراً حتى قصم الله عنقه وهو مقيم في وسط إخوانه من الكفار، فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذاً) رواه مسلم.
وعن أوس بن أوس رضي الله عنهما مرفوعاً: (إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، فهي عابدة تطيع أمر الله سبحانه وتعالى فلا تأكل أجساد الأنبياء.(54/9)
عبودية الشمس والقمر
أما عبودية الشمس والقمر، فيقول تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54]، ويقول سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم:33]، ويقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [الحج:18]، فعطفهما على العاقل، وهذا يدل على أنه سجود حقيقي.
ويقول عليه الصلاة والسلام في الشمس: (إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فترجع، فتصبح طالعة من مطلعها)، متفق عليه.
وهذا سجود الله أعلم بكيفيته، لكنه سجود يناسبها، وأما كيف هو؟ فلا ندري.
وكذلك ما جاء في قصة يوشع بن نون لما قاتل الجبابرة، وأوشكت الشمس على المغيب، وأراد أن يقضي على الكفار قبل دخول الليل، ففي الحديث: (فلقي العدو عند غروب الشمس، فقال للشمس: أنت مأمورة، وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئاً، فحبست عليه).
وكذلك أيضاً انشقاق القمر، فإن القمر انشق على عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فرقتين، ثم قال: (اشهدوا) كما هو معلوم.(54/10)
عبودية النجوم
أما النجوم فيمكن أن يستدل بعبوديتها بالأدلة العامة، وبقوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6]، لأن فيه خلافاً في تفسير النجم، هل المقصود به ما لا ساق له من النبات، أم النجوم التي في السماء؟ وعلى أي حال إذا قلنا: إن النجم في آية الرحمن هو ما لا ساق له من النبات، فيدل على عبودية النجوم قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ} [الحج:18]، وقوله تعالى: {وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54].(54/11)
عبودية الملائكة
أخيراً: عبودية عالم الغيب، ما ذكرناه هو عبودية عالم الشهادة، وهناك عبودية عالم الغيب، وقلنا: إن عالم الغيب هو كل ما غاب عن الحس، ولا نعلم عنه إلا ما ورد في نصوص الوحيين، فعالم الغيب فيه جمادات وفيه أحياء.(54/12)
العبودية أشرف صفات الملائكة
أما الأحياء الغيبية فالملائكة، وأشرف صفات الملائكة هو العبودية، كما قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26]، وهم مختلفون في وظائفهم، كحملة العرش، والكرام الكاتبين، وخزنة الجنة، وخزنة النار، والموكلين بقبض الأرواح، والموكلين بالسؤال في القبر إلى آخر هذه الوظائف، لكنهم جميعاً مشتركون في صفات حميدة منها: الطهر الكامل، كما قال تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]، والطاعة الكاملة والخضوع لله، كما قال جل وعلا: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، وقال سبحانه: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27].
أما إيمانهم بالله فدل عليه قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18]، وقال عز وجل: {لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء:166]، وقال: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7].
وهم يصلون أيضاً بأنفسهم، أو يصلون مع المؤمنين، ففي حديث الإسراء يقول عليه الصلاة والسلام: (فرفع لي البيت المعمور، فسألت جبريل، فقال: هذا البيت المعمور، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم)، رواه البخاري، يعني: كل يوم يدخل البيت المعمور سبعون ألف ملك مرة واحدة فقط في كل الزمان، فالذي يدخل مرة لا يدخل مرة ثانية، ومعناه: أن كل يوم يدخل سبعون ألف ملك جديد إلى البيت المعمور.
ويقول تعالى عنهم: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات:165 - 166] (الصافون) يعني: صفوف الصلاة، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول للصحابة: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها، يتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف)، وهذا رواه البخاري.
كذلك يشاركون المؤمنين في الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)، وهذا رواه البخاري، كذلك روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد الملائكة، يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاءوا يستمعون الذكر)، يعني: يحضرون مجالس الذكر.(54/13)
تسبيح الملائكة
أما التسبيح فقال سبحانه: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13]، وقال جل شأنه: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، وقال: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206].
وقال عليه الصلاة والسلام: (إني لأرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موقع أربع أصابع ألا وملك واضع جبهته لله ساجداً).
وسئل عليه الصلاة والسلام: (أي الذكر أفضل؟ فقال: ما اصطفى الله لملائكتة أو عباده: سبحان الله، والحمد لله)، رواه مسلم.
وأما خوفهم فيقول تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50].
ويقول عليه الصلاة والسلام عن يوم الجمعة: (وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء -إلى قوله-: إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة).
ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: (مررت ليلة إسري بي بالملأ الأعلى، وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى)، والحلس: كساء رقيق يوضع على ظهر البعير، والمقصود: أن خوف الله وهيبة الله تلبست بجبريل كأنها هذا الحلس الذي لا يفارقه.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، فأخذت السماوات منه رجفة، أو قال: رعدة شديدة خوفاً من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا، وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام، فيكلمه الله تعالى من وحيه بما أراد).(54/14)
ولاء الملائكة للمؤمنين
أما ولاء الملائكة للمؤمنين فهم أهل طاعة، ويحبون أهل الطاعة، ويستغفرون للمؤمنين، كما قال تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7]، وقال تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5].
ويقول تعالى مبيناً أن الملائكة يخاطبون المؤمنين: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:31]، وهم الذين يستقبلون المؤمنين وهم يدخلون الجنة، كما قال عز وجل: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]، وكذلك يؤمنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب، ويحضرون مجالس الذكر، وفي الحديث: (وحفتهم الملائكة)، وفي الحديث الآخر: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم).
وكذلك من هذه الموالاة: مناصرة المؤمنين في القتال، كما قال تعالى: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]، وقال عز وجل: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [آل عمران:124]، وقال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين، قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة).
وقال عليه الصلاة والسلام لـ حسان بن ثابت رضي الله عنه: (اهجهم -يعني: المشركين- وجبريل معك، أو وروح القدس معك).(54/15)
عداوة الملائكة للكافرين
وفي الجهة الأخرى فإن الملائكة يبغضون الكفار، ويتبرءون منهم، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة:161].
وكلما ازداد كفر الإنسان اشتد بغض الملائكة له، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث: (لما أدرك فرعون الغرق قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين، يقول جبريل: فلو رأيتني يا محمد! وأنا آخذ من حمأ البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة)، وهذا من شدة بغض جبريل عليه السلام لفرعون عدو الله عز وجل.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ -أي هل يأتي أمامكم ويسجد على التراب- قيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته فأتى الخبيث أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، يريد أن يطأ على رقبته، فما فجئهم إلا وهو يركض على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له: مالك؟! فقال: إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً) رواه مسلم.
ويقول عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50]، وهذه براءة من الكفار.
وكذلك أهل المعاصي من المسلمين بقدر ما يتلبسون من المعصية والمخالفة تبغضهم الملائكة، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)، رواه البخاري.
وكذلك تاركو الهجرة بدون عذر، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97].(54/16)
عبودية الجن
أما عبودية صالحي الجن، فمعلوم أن الجن مكلفين بالشرائع كالإنس، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، ويقول تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] أي: الجن والإنس، وقال عز وجل حاكياً عن الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} [الجن:11].
وأيضاً فيهم الموحدون، كما قال عز وجل عنهم: {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً * {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} [الجن:2 - 3].
وأيضاً يقول عليه الصلاة والسلام للمؤذن: (فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة).
ويقول تبارك وتعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29]، قال عليه الصلاة والسلام: (فكانوا أحسن مردوداً منكم؛ كنت كلما أتيت على قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد)، رواه الترمذي.
وكذلك الجن يعرفون أنه لا يعلم الغيب إلا الله، كما قال تعالى حاكياً عنهم: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10]، ويقول أيضاً: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14].(54/17)
عبودية الجنة والنار
وهناك عبودية أيضاً للجنة وللنار، وهما من غيبيات الجمادات، قال صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغبرتهم؟ فقال الله عز وجل للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها) رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (اشتكت النار لربها وقالت: أكل بعضي بعضاً، فجعل لها نفسين: نفساً في الشتاء، ونفساً في الصيف، فأما نفسها في الشتاء فزمهرير، وأما نفسها في الصيف فسموم)، والشاهد: أنها اشتكت.
ويقول تبارك وتعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30]، وهذا يدل على أن فيها إدراكاً، فالنار لها لسان، بل لها أذنان وعينان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، ويقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين).
وأيضاً النار من شدة انفعالها وولائها لله سبحانه وتعالى وعدائها لأعداء الله تتغيظ من الحنق والحقد والبغض للكافرين، كما قال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان:12]، وفي قوله: (مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) إشارة إلى حدة بصرها.
ويقول تعالى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ} [الملك:7 - 8]، أي: تتقطع من الغيظ؛ لأنها تعادي أعداء الله، وتتولى تعذيبهم والانتقام منهم.
كذلك جاء ما يدل على أن الجنة أيضاً يخلق الله فيها إدراكاً، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة: إلى علي وعمار وسلمان)، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وكذلك هذه النار التي نراها في الدنيا أيضاً لها إدراك، وهي مطيعة لأمر الله، والدليل على ذلك قوله تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، فخاطب الله النار فأطاعت أمره.
والدليل على ذلك أيضاً: أن عادة الأنبياء في الأمم السابقة في الغنائم أنهم كانوا إذا جمعوها بعد الجهاد تنزل نار من السماء فتحرق هذه الغنائم، فإذا أكلت النار هذه الغنائم فهذه علامة على أن الله تقبلها، فيكون ذلك علامة على قبولها، ويكون علامة على أنه لم يقع غلول، والغلول هو: السرقة من الغنائم، وذلك بأن يأتي واحد من الجنود فيسرق شيئاً قبل أن تقسم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء إلى أن قال عليه الصلاة والسلام: حتى فتح الله عليه، فجمعوا ما غنموا، فأقبلت النار تأكله، فأبت أن تطعمه، فقال: فيكم غلول، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فبايعوه، فلصقت يد رجل، فقال: فيكم الغلول -أي: في هذه القبيلة التي أنت منها- فلتبايعني قبيلتك، فبايعته قبيلته، قال: فلصقت يد رجلين أو ثلاثة، فقال: فيكم الغلول، فأخرجوا له رأس بقرة من ذهب، فوضعوه في المال، فأقبلت النار فأكلته)، رواه مسلم، والشاهد: أن النار عندها تمييز وإدراك، فإنه لما حصل غلول في الغنيمة رفضت أن تأكلها، ولما أعيد ما غل منها أكلتها وتقبلها الله؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.(54/18)
عبودية القلم والعرش
وبقي أمران فقط من عبودية الجمادات الغيبية وهما: القلم والعرش، أما القلم فجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) أي: تكلم القلم، وهذا يدل على أن عنده إدراكاً، وفي قوله: (رب) إقرار بالربوبية، يعني: يارب! والحديث رواه أبو داود.
أما العرش فيكفي قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اهتز عرش الرحمن عز وجل لموت سعد بن معاذ)، رضي الله تعالى عنه، وهذا الحديث متفق عليه، فإما أن العرش يوالي هذا العبد الصالح، وبسبب موالاته له اهتز سروراً واستبشاراً وفرحاً بقدوم روحه إلى الملأ الأعلى، أو اهتز من حزنه على موته، والله تعالى أعلم.
فهذه الجملة من النصوص تعكس هذا التوافق والانسجام بين عناصر هذا الوجود كله، وهذه الكائنات ليست عدوة لنا، وليس هناك شيء اسمه صراع مع الطبيعة، بل كلها جنود لله مطيعة منقادة، ونحن مطالبون أن ننقاد لله سبحانه وتعالى مع هذه الكائنات طوعاً واختياراً، وألا ندعها تسبقنا إلى هذه القضية، وهي قضية التوحيد، وعبادة الله سبحانه وتعالى، والخضوع له عز وجل، وتسبيحه، وتقديسه، وتنزيهه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وسبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(54/19)
ما هي البدعة؟
إن خير الهدي هو هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الشعار نسمعه دائماً، ويطرق آذاننا كثيراً، ولكن لا يكفي سماعه، بل يجب جعله واقعاً عملياً؛ وذلك بأن نقتفي أثره صلى الله عليه وسلم، ونمتثل أوامره، وننتهي عما نهى عنه.
ومما يجب علينا هنا ألا ننكر على من خالفنا، أو نحكم عليه بالبدعة والفسق إلا ببينة وعلم، فلابد من الترو والمعرفة بمنهج السلف الصالح في ذلك.(55/1)
خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الأخ الكريم! إن العبارة التي نرددها دائماً في خطبة الحاجة: وهي قولنا: (أصدق الحديث -أو أحسن الكلام- كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم؛ هي عبارة مقصودة، وليس عبثاً أن يجعلها النبي صلى الله عليه وسلم في خطب الأمور والحاجات المهمة.
فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ويجب أن يكون هذا شعار كل مسلم، وعليه أن يرفع هذا الشعار: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) وينبغي أن يشاع الاستدلال بهذا الشعار، ويدرأ به في نحر كل من يتجاسر على مخالفة هديه أو استحسان البدع التي تخالف هديه صلى الله عليه وسلم.(55/2)
طريق النجاة
من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى جعل كلمة النجاة مكونة من شقين: (لا إله إلا الله) (محمد رسول الله) ولا ينجو إنسان إلا إذا حقق هاتين الكلمتين، فالأولى تشمل توحيد الله سبحانه وتعالى -توحيد المعبود- والثانية تشمل توحيد الطريق الموصلة إلى الله سبحانه وتعالى.
ومعنى كلمة (لا إله إلا الله) لا يستحق أن يعبد إلا الله سبحانه وتعالى وحده، ولا إله حق إلا الله.
فإذا قال إنسان: أنا أريد أن أعبد الله وحده، لكن كيف أعبده؟ وكيف أعرف الذي يرضيه حتى أعمله والذي يسخطه حتى أتجنبه؟ فهاتِ لي بيان كيفية هذه العبادة فلا ينبغي أن ننظر فقط إلى قوله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] حتى نضيف إليه قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، وغير ذلك من الآيات التي تحتم على المسلم أن لا يعبد الله إلا من خلال ما شرعه، ولا يعبده بالبدع، فهما توحيدان لا نجاة إلا بهما: توحيد المعبود، وتوحيد المتبوع صلى الله عليه وسلم، أي: توحيد الطريق الموصلة إلى الله، فمنذ أن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سدت جميع الطرق المؤدية إلى الجنة إلا طريقاً واحداً على رأسه رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أفتى العلماء بكفر من زعم أن هناك طريقاً إلى الجنة مخالفاً لطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثته الشريفة، فمن ادعى أن هناك طريقاً إلى النجاة وإلى الجنة يخالف طريق النبي عليه الصلاة والسلام فقد أخرجه العلماء من ملة الإسلام، وكما يقدح الشرك في توحيد العبادة كذلك يقدح الابتداع في توحيد الاتباع، فكما ينافي التوحيدَ أعمال الشركُ -وهي عبادة غير الله، أو صرف شيء من العبادة لغير الله- كذلك ينافي ويضاد شهادة أن محمداً رسول الله الأخذ بالبدع وتقديمها على السنن.(55/3)
تعريف البدعة
ونحن في هذا البحث -إن شاء الله تعالى- سوف نناقش موضوعين: الموضوع الأول: بعض المقدمات البسيطة التي تتعلق بالبدع؛ لأنه لا بد منها قبل تمهيداً للموضوع الأساسي.
أما الموضوع الأساسي فهو ضوابط التبديع؛ لأنه يحصل خلط في هذا الباب تماماً، كما يحصل خلط نتيجة عدم إحكام ضوابط التكفير في قضايا التكفير، فهناك ضوابط للتكفير، وكذلك التبديع له ضوابط لابد من أن نلم بها حتى لا يحصل شطط وخروج عن القصد.
فنبدأ أولاً بتعريف البدعة.
البدعة من الناحية اللغوية أصل مادتها: بدع، و (بدع) يعبر بها عن الاختراع على غير مثال سابق، اختراع أي شيء بحيث لم يكن قد سبق له نظير، أي: ليس محاكاة لشيء وجد قبله، لكنه شيء يوجد لأول مرة، فيسمى بدعة، فمادة (بدع) تدل على اختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تبارك وتعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] يعني: خالقهما على غير مثال سابق لهما.
ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] أي: لست أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد، بل تقدمني كثير من الرسل، فلست بدعاً من الرسل.
ويقال: ابتدع فلان بدعة أي: اخترع طريقة لم يسبقه إليها أحد.
وتقول: هذا شيء بديع أو: هذا أمر بديع إذا كنت تستحسنه وتريد أن تقول: إنه لا مثال له في الحسن.
فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله أو ما يشبهه.
أما البدعة بالمعنى الشرعي فهي: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى.(55/4)
الفرق بين تعريف البدعة لغة وتعريفها شرعاً
أحياناً تطلق البدعة بالمعنى اللغوي، فلابد من التفريق بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي، فالبدعة بالمعنى اللغوي لا تذم على الإطلاق؛ لأنها تشمل كل ما يخترع على غير مثال سابق في غير الدين، مثل اختراع أي جهاز، فهذه بدعة، لكن ليست هي البدعة المذمومة شرعاً، بل قد تكون واجبة في بعض الأحيان حسب كونها وسيلة تؤدي إلى مقصود، فإذا كان المقصود مباحاً فهي مباحة، وإن كان واجباً فالبدعة واجبة، وهكذا.
فهذا فيما يتعلق بالبدعة اللغوية، أما البدع الشرعية فكلها مذمومة، والبدعة المذمومة شرعاً هي هذه التي نناقشها، وليس كلامنا في البدعة من حيث المعنى اللغوي، وإنما من حيث المعنى الشرعي، فهي كما عرفها الشاطبي في (الاعتصام): طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى.
والطريقة والطريق والسُنن أو السَنن كلها بمعنى واحد، وهو ما رسم للسلوك عليه.
وطريقة الدين هي ما شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من العقائد والعبادات والمعاملات.(55/5)
أنواع البدعة
الطرائق في الدين نوعان: طريقة لها أصل في الدين، وطريقة ليس لها أصل في الدين.
فالطريقة التي لها أصل هي طريقة في الدين؛ لأن لها أصلاً في الدين، أي: ليست مخترعة.
مثل العلوم الخادمة للعلوم الشرعية كعلم النحو، والصرف، ومفردات اللغة، وأصول الفقه، ومصطلح الحديث، فكل هذه طرق جديدة في الدين، والسلف لم يدرسوا هذه العلوم بهذه الطريقة التي ندرسها الآن، والتي وجدت بعدهم، فهي طريقة في الدين، لكن ليست مخترعة؛ لأن لها أصلاً في الدين، فهذه العلوم تحفظ علم الدين، وتسهله على طالبه، فأصل هذه العلوم موجود في الشرع، وإن لم توجد في الصدر الأول بنفس الكيفية؛ لأن الصحابة كانوا فصحاء بلغاء، ولا يمكن أن يلحن الواحد منهم في نحو أو صرف أو غير ذلك، وإنما وضعت هذه العلوم بعدهم، فهي طريقة في الدين لكنها ليست مخترعة، وإنما هي مسألة تيسير لطلبة العلم.
فأما النوع الثاني من الطرائق في الدين فهو طريقة في الدين لا أصل لها، أي: مخترعة.
وهي البدعة.
وقوله: (طريقة في الدين مخترعة) تمييز بين هذه الطريقة المخترعة والطريقة التي تكون طريقة في الدين لكنها ليست مخترعة، فقولنا: (مخترعة) احتراز من الطريقة التي لها أصل في الدين.
وقوله: (تضاهي الشرعية) يعني: تشبه الطريقة الشرعية.
ومن المعلوم أن الباطل لا ينفق إلا إذا كان فيه شيء من الحق، فلو أن المبتدع أو المضل أبرز الباطل صافياً محضاً لا يخالطه حق فإنه سيسهل كشفه، ولا ينخدع به أحد، لكن لا بد للمبطل من أن يخلط الباطل بشيء من الحق حتى تروج بضاعته على الناس، فلذلك نقول: إن البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية بمعنى أنها تشبه الطريقة الشرعية، لكنها في الحقيقة ليست شرعية، وإنما هي مجرد مشابهة، لكن الحقيقة أنها ليست طريقة شرعية، بل هي في الحقيقة تتضارب وتتصادم مع الطريقة الشرعية من أوجه شتىً.
فالبدعة فيها وضع حدود خاصة للتعبدات، مثل رجل يريد أن يعبد الله فينذر أن يصوم، ويظل مع صومه قائماً ضاحياً للشمس لا يستظل، فوضعُ كل هذه الكيفيات المخترعة للتعبد بدعة في الدين.
ومثل إنسان يتعبد بالاقتصار على نوع معين من الملبس أو من المأكل، فهذا أيضاً طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، من غير أن تكون في الحقيقة كذلك.
ومثل التزام كيفية معينة، أو عدد معين، أو صفة معينة والمحافظة عليها، فهذا أيضاً طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، وهكذا.
فالمبتدع دائماً يخلط البدعة بشيء من الحق حتى يموه على الناس فيعملوا بها.
وهناك طرائق تضاهي الشرعية، كما حصل من كفار قريش حينما كانوا يبتدعون في الدين أشياء يجدونها على ملة إبراهيم عليه السلام ينطبق عليها معنى البدعة، فمثلاً: حينما عبدوا مع الله سبحانه وتعالى الآلهة الباطلة كانوا يسوغون هذه العبادة بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
وأيضاً كانوا يطوفون بالبيت عراة، وهذا الفعل سماه الله تعالى فاحشة بقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28] فكانوا يسوغون هذا الباطل، ويقولون: لا نطوف بثياب عصينا الله بها.
وكذلك الحمس -وهم المتطرفون أو المتشددون من قريش في الجاهلية- كانوا لا يخرجون إلى عرفات، ويسوغون عدم خروجهم إلى عرفات بأنهم يقفون بالحرم تعظيماً للحرم؛ لأن منى من الحرم، فيقولون: نحن لا نخرج من الحرم تعظيماً للحرم.
ويرفضون الخروج إلى عرفات، فهذا أيضاً من بدعهم.
ومن هذه الطرق المبتدعة في الدين ما يدعيه الصوفية من أنهم يعبدون الله لا خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، ولكن حباً فيه، فهذه أيضاً من الطرق المبتدعة في الدين يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى، فهذه هي أيضاً من أركان تعريف البدعة، فيجب على المبتدع أن ينظر إلى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وسيرى أن المقصود هو العبادة.
لكن قد يغفل الإنسان عن حقيقة أخرى لازمة، وهي كحقيقة استحقاق الله وحده العبادة، وهي أنه كما نوحد الله بالعبادة كذلك يجب أن نوحد رسوله بالاتباع والاقتداء، فلا نقتدي بغير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنعبد الله بما شرع، ولا نعبده بالبدع؛ لأننا إذا تقربنا إلى الله بغير ما شرعه على لسان رسول الله عليه الصلاة والسلام فمعنى ذلك أننا نتهم الشرع بالنقص، وأن الرسول ما استوفى وسعه في نصيحتنا، وأنه كانت هناك أشياء تقربنا إلى الجنة وتباعدنا من النار وهو عليه الصلاة والسلام -وحاشاه- قد كتم هذه الأشياء ولم يدلنا عليها، وهذا اتهام للشرع بالنقصان.
وقوله: (يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى) معنى ذلك أن البدع لا تدخل في العادات؛ لأن الفارق بين العادة والعبادة هو النية، فإذا ما انضاف إليها نية التقرب إلى الله صارت بدعة.
أما إذا كان إنسان لا يأكل اللحم -مثلاً- لأنه لا يعجبه أو يؤذيه من الناحية الصحية، أو لا يحبه بطبعه فليس عليه حرج ما دام في نطاق الأمور العادية، أما إذا امتنع رجل من أكل اللحم تعبداً، كأن يقول: أتقرب إلى الله بترك اللحم فهذا يدخل في حد البدعة، والفارق بينهما هو النية، ولذلك قال الشاطبي في الحد: يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى.(55/6)
ذكر بعض الأدلة والآثار على ذم البدع والتحذير منها
وقد أثر عن السلف في ذم البدع والتحذير منها أقوال كثيرة، والأدلة على ذم البدعة والتحذير منها أدلة كثيرة متواترة، سواء في القرآن أو في سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أما القرآن فما أكثر الأدلة الآمرة فيه بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وقرن ذلك بطاعة الله سبحانه وتعالى.
أما في السنة فالأحاديث مشهورة، ويكفي قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وقوله: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، فلا يقبل أبداً من أي أحد أن يأتي ببدعة وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، و (كل) صيغة عموم، وكذلك جاء أيضاً في الحديث الآخر: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، و (من) -أيضاً- صيغة عموم.
فهذا يعم كل البدع أنها باطلة مردودة على صاحبها، فلا يليق أن يأتي من يدعي الإسلام ويسمع قول النبي صلى عليه الصلاة والسلام: (كل محدثة بدعة) ثم يقول: ليست كل محدثة بدعة، ولا كل بدعة ضلالة، بل منها ما هو حسن.
ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: من ابتدع بدعة وزعم أنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة).
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة عبادة).
وقال الأوزاعي: اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسعك ما وسعهم.
وعن أيوب السختياني قال: إني لأخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي.
وعنه أيضاً قال: إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله تعالى لعالم من أهل السنة.
أي: لأن الإنسان يتعصب لأول شيخ علمه ولأول كتاب قرأه، فمن علامة السعادة والتوفيق للحدث -وهو الشاب الصغير- إذا تاب وأناب وتمسك أن يختصر على نفسه الطريق باقتدائه بهذا العالم، ولا يضيع عمره في التجول بين الطرائق المختلفة، وإنما من علامات السعادة أنه منذ اللحظة يضع قدمه على الطريق الصحيح، ولا يضيع بضاعة العمر في التجول في الفرق الضالة، فإن من سعادة الحدث والأعجمي إذا أسلم أن يوفقهما الله تعالى لعالم من أهل السنة.
وقال ابن شوذب: إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يوافي صاحب سنة يحمله عليها.
وقال الجنيد بن محمد رحمه الله تعالى: الطريق إلى الله عز وجل مسدودة على خلق الله تعالى، إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لسنته، كما قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
وعن معمر قال: كان طاوس جالساً وعنده ابنه، فجاء رجل من المعتزلة فتكلم في شيء وبدأ يتكلم في بدعته، فأدخل طاوس أصبعيه في أذنيه وقال: يا بني! أدخل أصبعيك في أذنيك حتى لا تسمع من قوله شيئاً؛ فإن هذا القلب ضعيف.
فلا ينبغي أبداً للإنسان أن يعرض نفسه للبلاء الذي لا يطيقه، فإن كنت غير راسخ في العلم فلا تسمح لمبتدع أن يحدثك أو يعرض عليك بضاعته؛ لأنه يمكن أن يشوش عليك ولا تملك دفعاً لها، وإذا ملكت لسانك فلن تملك قلبك أن يتأثر بهذه البدع وهذه الضلالة، خاصة إذا كان لسناً ذا جدل، فليس من البطولة أن تصغي إلى المبتدع الضال، بل البطولة أن لا تعرض نفسك أصلاً لهذه الفتنة، فهذا طاوس يقول: أي بني! اسدد إن هذا القلب ضعيف، فما زال يقول: أي بني! اسدد، أي بني! اسدد، حتى قام الرجل المعتزلي.
وعن صالح المري قال: دخل رجل على ابن سيرين وأنا شاهد، ففتح باباً من أبواب القدر فتكلم فيه، فقال ابن سيرين: إما أن تقوم وإما أن أقوم.
وعن سلام بن أبي مطيع قال: قال رجل من أهل الأهواء -هكذا كانوا يسمون أهل البدع، وما كانوا يقولون: العقلانيون ولا غير ذلك من الأسماء الموجودة الآن- قال الرجل لـ أيوب السختياني: أكلمك بكلمة؟ قال: لا، ولا نصف كلمة.
وعن أيوب السختياني قال: ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً.
وقال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تحادثوهم؛ فإني لا آمن أن يغمروكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون.
وعن سفيان الثوري قال: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها.
يعني: لا يرجع منها.
وعن مؤمل بن إسماعيل قال: مات عبد العزيز بن أبي راود وكنت في جنازته حتى وضع عند باب الصفا، فصف الناس، وجاء الثوري، فقال الناس: جاء الثوري.
فجاء حتى خرق الصفوف والناس ينظرون إليه، فجاوز الجنازة ولم يصل عليها؛ لأنه كان يرمى بالإرجاء.
أي: عبد العزيز بن أبي راود.
وعن سفيان بن عيينة قال: ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه -أي: من لابد أن المبتدع يشعر بنوع من المذلة- قال: وهي في كتاب الله -يعني: الدليل على هذا في كتاب الله- فقالوا: وأين هي في كتاب الله؟ فقال: أما سمعتم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف:152]؟! قالوا: يا أبا محمد! هذه لأصحاب العجل خاصة! فقال: كلا، اتلوا ما بعدها {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف:152].
أي: الكذابين المبتدعين.
فهي لكل مفترٍ ومبتدع إلى يوم القيامة.
وعن حسان قال: ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة.
وعن سفيان الثوري قال: من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع، ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة.
وعن سعيد قال: مرض سليمان التيمي فبكى في مرضه بكاء شديداً، فقيل له: ما يبكيك؟ أتجزع من الموت؟! قال: لا، ولكني مررت على قدري فسلمت عليه، فأخاف أن يحاسبني ربي عليه.
وعن الفضيل بن عياض قال: من جلس إلى صاحب بدعة فاحذروه.
وعنه قال: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه.
وعنه قال: إذا رأيت مبتدعاً في طريق فخذ في طريق آخر، ولا يرفع لصاحب البدعة إلى الله عز وجل عمل، ومن أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام.
وعن بشر بن الحارث قال: جاء موت هذا الذي يقال له: المريسي -أي: المبتدع الضال بشر المريسي - وأنا في السوق، فلولا أن الموضع ليس موضع سجود لسجدت شكراً، فالحمد لله الذي أماته.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم) يعني: أتاكم من الدين ما يكفيكم.
كما قال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3].
وقال أيضاً: (تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله، ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع، وعليكم بالعتيق) يعني القديم.
وعنه قال: (أيها الناس! إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول).
وعن عمر قال: (يهدم الإسلام زلة عالم، وجدال المنافق بالقرآن، وحكم الأئمة المضلين).
وعنه قال: (سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله تبارك وتعالى).
وعن محمد بن مسلم قال: (من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة).
وقال إبراهيم النخعي: ما أعطاكم الله خيراً أُخِْبئَ عنهم، وهم أصحاب رسوله وخيرته من خلقه.
يعني: لا يمكن أن يصطفيكم الله بخير يكون قد حجبه عن الصحابة، فكل خير هم كانوا أولى به، فلا تحسنوا الظن بأنفسكم أنكم أفضل من الصحابة، فهم أصحاب النبي وخيرة الله من خلقه، وأفضل أولياء الله، فلا يمكن أن يكون هناك خير منعوا منه وحزتموه أنتم بما ابتدعتم في الدين.
وروى أن رجلاً قال لـ مالك بن أنس: من أين أحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه؟ قال: فلا تفعل؛ فإني أخاف عليك الفتنة.
قال: وأي فتنة في ازدياد الخير؟ قال مالك: فإن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63]، وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك خصصت بفضل لم يخص به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وقال الأوزاعي: بلغني أن من ابتدع بدعة خلاّه الشيطان والعبادة، وألقى عليه الخشوع والبكاء لكي يصطاد به.
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قال: قف حيث وقف القوم- السلف- فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل -لو كان فيها- أحرى، فلئن قلتم: حدث بعدهم فما أحدثه إلا من خالف هديهم ورغب عن سنتهم، لقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم محسر وما دونهم مقصر، لقد قصر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم.
وقال محمد بن عبد الرحمن لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها: هل علمها رسول الله؟ أي: هذه التي تدعو إليها هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر و(55/7)
أقسام البدعة
الناحية التطبيقية تحتاج لنوع من الضوابط، وهذا ما نحتاج إليه، فنحن كثيراً ما تكلمنا في حد البدعة وفي التنفير منها، وفي النصوص بذمها، لكننا قل أن نتكلم بالتفصيل في الضوابط التي تحكم مسألة الحكم على أحد بالبدعة، وكيفية معاملته، وغير ذلك.
وأحد ضوابط البدعة أن نعرف -أولاً- أقسام البدعة؛ لأن البدع ليست كلها على مرتبة واحدة، بل البدع تتفاوت، وبالتالي الموقف من فاعلها يتفاوت.
فالبدعة تنقسم باعتبارات إلى أقسام، فالبدعة تنقسم إلى بدعة فعليه وبدعة تركية، وبدعة كلية وبدعة جزئية، وبدعة عادية وبدعة عبادية، وبدعة حقيقية وبدعة إضافية، فباعتبارات مختلفة تنقسم البدع إلى أقسام.(55/8)
البدعة باعتبار الفعل والترك
القسم الأول: الفعلية والتركية، وهذا على أساس الفعل والترك، فالإنسان يمكن أن يترك بعض الأشياء المباحة التي أباحها الله له، فإن كانت علة الترك معتبرة شرعاً فلا حرج في ذلك، فمثلاً: يترك طعاماً معيناً لأنه يضر بصحته، أو إنسان يقلل الطعام حتى لا تطغى عليه الشهوة فيصير إلى العبث، أو: إنسان يترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس، كنوع من التورع عن الوقوع في الشبهات استبراءً لدينه وعرضه، كل هذه الأنواع من الترك الذي لا حرج فيه؛ لأن العلة في الترك معتبرة في الشرع، أما شخص يترك شيئاً مباحاً جائزاً فعله باعتقاد أنه قربة إلى الله سبحانه وتعالى فهذا هو الابتداع في الدين؛ لأن الترك هنا بهذا القصد يصيره معارضة للشرع في التحليل الذي أحله الله سبحانه وتعالى.
مثلاً: الصوفية يقولون: من وصل إلى رتبة اليقين فلا تطلب منه الصلاة والصيام ولا يحرم عليه شيء؛ لأنه وصل، فلا يحتاج لصلاة ولا لزكاة.
وربما استهزءوا بمن يصلي ويصوم ويزكي ويفعل العبادات، فهم يغيرون تفسير قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ويقولون: المقصود الوصول إلى مرتبة اليقين.
وليس كذلك، بل المقصود باليقين هنا الموت، كما في الآية الأخرى: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:47] أي: الموت.
فاليقين هنا المقصود به الموت، فالله سبحانه وتعالى لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت، ولهذا قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] أي: إلى آخر لحظة من حياتك.
وقال عيسى عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:31]، فهذا هو معنى قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، أما هؤلاء فيتركون الواجبات الشرعية تديناً بذلك، وهذه أيضاً من البدع التركية؛ لأن فيها ترك المطلوبات الشرعية.(55/9)
أقسام البدعة باعتبار الاعتقاد والعمل
وهناك تقسيم آخر للبدعة إلى بدعة عملية وبدعة اعتقادية، والبدعة العملية تكون في جنس العمل المتعلق بالجوارح، فمثلاً: الطواف بالأضرحة بدعة عملية؛ لأنها تؤدى بالجوارح، وكذلك رفع الصوت بالذكر أمام الجنازة، وهذه أيضاً بدعة عملية، وغير ذلك من أنواع البدع.
والبدعة العملية قد تكون متعلقة بالنية، كمن يصلي ركعتين بنية طول العمر، أو صلاة يسمونها مونس القبر، أو صلاة بر الوالدين، وغير ذلك من الصلوات المخترعة التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهكذا صلاة الأيام، صلاة يوم السبت، وصلاة يوم الأحد، وهذه كلها موجودة في كتاب (الإحياء)، وهذه أيضاً من البدع العملية.
أما البدعة الاعتقادية فتكون باعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه من المعروف من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا على سبيل المعاندة، ولكن بسبب شبهة، كما يمسح الشيعة على الرجلين، فلو رأيت الشيعي يتوضأ ستجده إذا وصل إلى القدمين فإنه لا يغسلهما بالماء مع أنه لا يلبس جورباً، بل يمسح على القدم ولا يغسلها، فهذه بدعة اعتقادية؛ لأنه يعتقد أن هذا هو هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، وعنده شبهة في ذلك، وهم ينكرون بشدةٍ المسح على الخفين، ولذلك تجد علماء أهل السنة ينصون على هذه المسألة في متون العقيدة؛ لأنها متواترة ومقطوع بصحتها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فلذلك ضبطوها وأصلوها في مسائل العقيدة، كما في متن العقيدة الطحاوية: (ونرى المسح على الخفين في الحضر والسفر).
وكذلك -أيضاً- من البدع الاعتقادية بدعة المشبهة والمجسمة والقدرية، وغيرهم من فرق الضلال، وهناك بدع متنوعة باعتبار الأزمنة والأمكنة والأحوال، كالموالد والأعياد والمواسم، والجنائز والأضرحة، والضيافة والعبادة، والمعاشرة والعادات.(55/10)
البدعة من حيث الحقيقة والإضافة
وهناك قسم آخر من البدع وهو أخطر أنواع البدع، وهو سبب المشاكل عموماً بين الناس في باب البدع، وهو البدعة الحقيقية والبدعة الإضافية، وهذا مهم جداً في قضيتنا، وهو موضوع ضوابط التبديع.
فالبدعة الحقيقة هي ما كان الابتداع فيها من جميع وجوهها، فإذا نظرت إلى العمل من أي زاوية ولم تر له أصلاً في الشرع فهو بدعة حقيقية؛ لأن الابتداع من جميع وجوهها، فهي بدعة محضة، وليس فيها جهة تندرج بها في السنة، وهي التي لم يدل عليها دليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع أو استدلال، ولذلك سميت بدعة حقيقة؛ لأنها مخترعة على غير مثال سابق، وهي بعيدة عن الشرع خارجة عنه من كل وجه.
ومن أمثلة البدعة الحقيقة بدعة التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالرهبانية وترك التزوج مع وجود الداعي إليه وفقد المانع الشرعي تماماً، كرهبانية النصارى، والله عز وجل يقول: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27] وهذا استثناء منقطع، أي: لكن كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله.
ومن هذه البدع تعذيب النفس بألوان العذاب الشنيع والتنكيل الفضيع، كما يحصل من الهنود في الإحراق بالنار وغير ذلك، ومثل ذلك ما يفعله الشيعة الروافض يوم عاشوراء من تعذيب أنفسهم، وإدخال أسياخ الحديد وشق وجوههم وصدورهم حتى تنزف منها الدماء، فهذه أيضاً من البدع الحقيقية، وهل هذه يمكن أن تدخل في الدين؟
الجواب
لا، فالدين لا يمكن أبداً أن يبيح للإنسان أن يعذب نفسه بهذه الطريقة، فهذه بدعة حقيقية، مثل ما يفعله الشيعة يوم عاشوراء من خدش الرءوس والوجوه، ولطم الخدود، والنواح لكون الحسين رضي الله تعالى عنه قتل في ذلك اليوم، فيقيمون هذه المآتم زاعمين أن ذلك يقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، وأنهم يتعبدون بهذا.
ومن البدع الحقيقية تحكيم العقل في أخبار النقل -في أخبار القرآن والسنة- كما هو معروف في التيارات المعتزلية.
ومن البدع الحقيقية: الطواف حول الأضرحة، والوقوف في غير عرفة بدل عرفة، وإقامة الهياكل على القبور، وتعليق الشموع والمصابيح حول الأضرحة، فهذه كلها لا يمكن أبداً من أي زاوية إذا نظرنا إليها أن نجدها تدخل في الشرع، أو تكون لها شبهة أدلة الشرع، بل هي بدعة محضة لا يمكن أن يكون لها أصل في الدين، فهذه هي البدعة الحقيقية.
أما البدعة الإضافية فهي على خلاف ذلك، والبدعة الإضافية لها جهتان: إحداهما: لها من الأدلة متعلق، فلا تكون من هذه الجهة بدعة، والأخرى ليس لها متعلق في الأدلة إلا مثل ما للبدعة الحقيقية، فهذا العمل هو البدعة الإضافية، فهو باعتبار من الاعتبارات سنة وباعتبار آخر بدعة، أي أنه غير خالص لأحد الطرفين، ولذلك نسمي البدعة الإضافية بدعة نسبية أو إضافية حسب ما تضاف إليه، فهي سنة بالنسبة لأحدى الجهتين وبدعة بالنسبة للجهة الأخرى، سنة لأنها من زاوية مستندة إلى دليل، وبدعة لأنها من الزاوية الأخرى ليست مستندة إلى دليل شرعي ولا إلى شبهة، بل غير مستندة إلى دليل أصلاً.
وهذا النوع هو مسار النزاع بين أغلب المتكلمين في السنن والبدع.
وأنواعه كثيرة، منها: صلاة الرغائب، وصلاة ليلة النصف من شعبان، وصلاة حفظ الإيمان، وصلاة بر الوالدين، وصلاة مونس القبر، وصلاة ليلة ويوم عاشوراء، وهذا كله لم يثبت أبداً في السنة بوجه من الوجوه.
فإن قيل: لماذا نقول: هو بدعة إضافية؟ ف
الجواب
هو بدعة إضافية لأنه تشوبه شائبتان: الأولى: لأن الصلاة من حيث التقرب إلى الله سبحانه وتعالى والتنفل بصلوات ثابتة في الشرع، وهناك تحريض عليها، يقول عليه الصلاة والسلام: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر) وهم من هذه الناحية قالوا: نحن نصلي لا نعبث.
الثانية: أن هذا إن لم يكن ثابتاً في السنة من جميع الوجوه ففيه سنة من بعض الجهات.
فمثلاً: بدعة التلحين في الأذان -الذي هو التطريب والتغني في الأذان- بدعة إضافية؛ لأن الأذان في حد ذاته سنة مشروعة معروفة، أما باعتبار ما عرض له من تمطيط الكلمات وتلحينها وتصريفها وإخراجها عن أوضاعها العربية من أجل المحافظة على توقيع الألحان فهو بدعة قبيحة، وهذا لا يحل في الأذان ولا في قراءة القرآن، فالأذان من حيث كونه أذاناً هو ليس بدعة، وأما من حيث ما أضيف إليه من كيفية فهذه بدعة إضافية.
وكذلك قراءة سورة الإخلاص مائة ألف مرة، فيقرءون: (قل هو الله أحد) مائة ألف مرة، ويسمونها (العتاقة الكبرى) أي: من قرأها لنفسه أو لغيره فإنه يعتق من النار.
وهذا من عندهم، فهذه بدعة إضافية؛ لأن قراءة (قل هو الله أحد) ذكر مشروع معروف، كما قال صلى الله عليه وسلم ((قل هو الله أحد) ثلث القرآن)، وقال: (ومن قرأ: (قل هو الله أحد) عشر مرات بنى له الله بيتاً في الجنة) لكن من حيث تسميتها عتاقاً أو ترتيب الثواب عليها والمواظبة عليها وتشريعها للناس هذه بدعة ليس لها أصل في الدين.
ومن البدع الإضافية الأذان لصلاة العيدين أو لصلاة الكسوف؛ فإنه لم يثبت في سنة النبي صلى الله عليه أذان لصلاة العيدين وصلاة الكسوف، فالأذان من حيث هو أذان سنة ومشروع، لكن من حيث الوقت والوظيفة -وهو ربطه بالعيدين أو بصلاة الكسوف- بدعة من هذه الناحية.
وهكذا ختم الصلاة بالطريقة الموجودة الآن، فيؤم بعض الناس المصلين ويختم الصلاة بطريقة معينة، كما هو معروف في بعض المساجد، فهذه الأذكار التي تقال في هذا الموطن في حد ذاتها هي سنة، لكن البدعة طرأت عليها من حيث الكيفية والألفاظ المبتدعة التي يخترعونها، فهذا فيما يتعلق بالبدعة الحقيقية والبدعة الإضافية.(55/11)
البدعة من حيث الكلية والجزئية
هناك قسم آخر، وهو البدعة الكلية والبدعة الجزئية، فالبدعة الكلية هي البدعة التي يكون الخلل الناشئ عنها كلياً في الشريعة، بحيث تتعدى محلها، وتنتظم غيرها حتى تكون أصلاً لها، كأن تكون هذه البدعة عبارة عن قانون أو قاعدة يتحاكم إليها، فيترتب على هذا التحاكم كثير من المخالفات، فمثلاً: بدعة إنكار الأخبار النبوية مطلقاً اقتصاراً على القرآن الكريم كبدعة القرآنيين، فهذه بدعة كلية يتحاكم إليها، بل ويتحكم بها في الشرع، وتلغى بها سنة الرسول عليه الصلاة والسلام.
وكذلك بدعة عدم الأخذ بأخبار الآحاد بدعة كلية، حيث يترتب عليها مئات المخالفات الشرعية، وإنكار الأحاديث النبوية.
وكذلك بدعة إنكار القسم الثالث من السنة، وهو القسم الذي يستقل بتشريع غير موجود في القرآن، فهذه بدعة كلية وليست جزئية، ووجه كون هذه البدعة كلية أنها تشمل ما لا حصر له من فروع الشريعة، ولأن عامة التكاليف مبنية عليها، فالأمر يجب على المكلف إما من الكتاب وإما من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان وارداً في السنة فأكثر السنة آحاد، والمتواتر قليل جداً، وكذلك أحكام السنة التي لم ترد في القرآن، فإن لم تزد على ما في القرآن فلا تنقص عنه بحال، فهذا هو الابتداع بعينه، أن يتخذ الشخص مثل هذه القواعد الكلية، ويبطل بها مئات الأحكام الشرعية.
وكذلك من البدع الكلية بدعة الخوارج في قولهم: (لا حكم إلا لله)، وهذه -أيضاً- كانت حجتهم في رد التحكيم، بناءً على أن اللفظ عام لم يدخله التخصيص، وهم قد أعرضوا عن قوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35]، وقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95]، فلم يأخذوا بالخصوص، ولم يراعوا أن العام هنا مخصوص.
أما البدعة الجزئية فهي البدعة التي يكون ضررها جزئياً، كأن يأتي في بعض الفروع دون بعض ولا تتعدى محلها، ولا تنتظم غيرها حتى تكون أصلاً لها، فمثلاً: بدعة التغني بالقرآن بدعة جزئية، والتلحين في الأذان بدعة جزئية؛ لأن ضررها جزئي فقط في موضوع الأذان، ويأتي في بعض الأشياء دون بعض، ولا تتعدى محلها، فلا تدخل في الصلاة أو غير ذلك، ولا تنتظم غيرها حتى تكون أصلاً لها، فمن هنا كانت جزئية.
وكذلك الامتناع عن تناول ما أحل الله من الطعام أو الشراب بدعة جزئية.
وأيضاً هناك بدع في العادات، فالبدع قد تدخل في الأمور العادية مثل اللبس والأكل والشرب والمشي والنوم، فهذه الأمور عادية، ولا يدخلها الاتباع من جهة كونها عادية، إنما يدخلها الابتداع من الجهة التعبدية، كأن يخالف الوجه المشروع فيها، أو يتقرب إلى الله تبارك وتعالى بذلك، كأن يتقرب إنسان إلى الله بترك نوع معين من الملابس -مثلاً- أو الطعام أو غير ذلك من الأشياء.(55/12)
ضوابط في البدعة والابتداع(55/13)
اختلاف الحكم على المبتدع لاختلاف مراتب البدع
أول الضوابط في موضوع الابتداع أن البدع ليست كلها على مرتبة واحدة، وبالتالي ينعكس هذا على موضوع الحكم على المبتدع نفسه، فلا شك أن المبتدع بدعة عقائدية أخطر من المبتدع بدعة عملية في الغالب، وكذلك المبتدع بدعة كلية أشد انحرافاً من المبتدع بدعة جزئية، وهكذا البدعة الحقيقية أخطر من البدعة الإضافية.
فإذاً ينبغي أن نعرف أن البدع ليست كلها على مرتبة واحدة، وإنما تتفاوت في خطورتها حسب ما تؤدي إليها، فهذا أول ضابط، وهو معرفة أقسام وأنواع البدع.(55/14)
لا تبديع في مسائل الخلاف
ومن الضوابط أنه لا يجوز التبديع في قضية من القضايا التي يختلف فيها العلماء، كالقضايا الفقهية، فإذا كان الخلاف خلافاً سائغاً فلا يجوز الحكم على المخالف فيه بالابتداع، وهنا مثال مشهور لما وقع فيه بعض أفاضل العلماء من أئمة الخير والهدى في هذا الزمان، فقد خالف عالم فاضل من أئمتنا الأجلاء عالماً آخر في موضوع وضع اليدين على الصدر بعد الرفع من الركوع فقال: هذه بدعة، بل وضلالة.
فهذه لا يجوز أن تندرج في ميزان البدعة على الإطلاق، فإن هذا خلاف سائغ، والأمر أهون من ذلك بكثير، فهذه لا تدخل بأي حال في حد البدعة أبداً؛ لأن الخلاف سائغ، والحديث محتمل في تفسيره، فالخلاف الفقهي السائغ لا يمكن أبداً أن تطلق على مخالفك فيه وصف البدعة أبداً؛ لأن الخلاف الفقهي السائغ لا يدخل في حد البدعة أبداً.(55/15)
أنواع الخلاف وضوابط الخلاف السائغ
معروف أن الخلاف على ثلاثة أنوع: خلاف مذموم، وخلاف ممدوح، وخلاف سائغ.
أما الخلاف المذموم فهو خلاف أهل الأهواء لأهل العلم، وشذوذ أهل الأهواء والبدع عن هدي أهل العلم والسنة، فهذا خلاف مذموم، كمخالفتهم في أصول العقيدة، أو فيما علم من الدين بالضرورة، أو بالابتداع بالدين، فهذا خلاف مذموم.
النوع الثاني: خلاف ممدوح، وهو خلاف أهل العلم لأهل الأهواء، فخلاف أهل العلم لأهل الأهواء خلاف ممدوح.
أما الخلاف السائغ فهو خلاف أهل العلم لأهل العلم، بشروطه التي سنذكرها إن شاء الله.
فما هي ضوابط الخلاف السائغ؟ وما هو الضابط الذي نحكم به على الخلاف أنه خلاف سائغ، بحيث لا يمكن أبداً أن نصف الشخص الذي يخالف فيه بأنه مبتدع؟(55/16)
خفاء الدليل الراجح
أول ضابط من ضوابط الخلاف السائغ خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق، أي: أن النية من الإمام أو العالم المجتهد أنه يريد الحق، لكن خفي عليه الدليل الواضح الذي يحكم المسألة، فهذا خلاف سائغ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إنه إذا كان في المسألة نص خفي على بعض المجتهدين وتعذر عليه علمه، ولو علم به لوجب عليه اتباعه، ولكنه لما خفي عليه اتبع النص الآخر، وهو منسوخ أو مخصوص، وهو لم يعلم بالدليل المخصص أو الناسخ، أو لم يصح عنده.
فهذا أول ضابط من ضوابط الخلاف السائغ، وهو خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق، وهذا أغلب خلاف الأئمة رحمهم الله تعالى، كالإمام الشافعي والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وغيرهم، فلا يمكن أن يظن بواحد منهم أنه يتعمد مخالفة الدليل، وهكذا كان الأئمة مع بعضهم.
ولقد كان في بريطانيا أحد الإخوة السلفيين لا يمكن أبداً أن يصلي خلف إمام حنفي، فيضيع صلاة الجماعة ولا يصلي خلف إمام مذهبه حنفي، ولما تناقشت معه في ذلك قال: لأن الحنفي يرد سنة الرسول عليه الصلاة والسلام! وهل يظن بمسلم أن يرد سنة الرسول عليه الصلاة والسلام؟! فلذلك هذا ضابط مهم جداً.
والعلماء تقطع بأنهم يريدون الحق، وقصد الحق موجود عندهم، وقد يخالف أحدهم الحق لكن لا يقصد ذلك ولا يتعمده أبداً.
فالشاهد أن أول الضوابط خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق، فنظن بالعلماء أنهم يقصدون الحق، وقد يخالف أحدهم الحق لا عن عمد، لكن عن عذر لخفاء هذا الدليل أو عدم بلوغه إياه، أو عدم صحته عنده، أو تأوله إياه.(55/17)
المسائل الدقيقة التي يكثر فيها احتمال الخطأ
الضابط الثاني: ما كان من المسائل الدقيقة التي يكثر فيها احتمال الخطأ، وقل من يسلم منه حتى من فضلاء الأمة، فهناك مسائل دقيقة في تفاصيل القضايا والفروع الفقهية الدقيقة، ولا يمكن أبداً أن تتفق الأمة كلها على مثل هذه الدقائق، فيكثر فيها احتمال الخطأ، وقل من يسلم من الخطأ في مثل هذه الفروع حتى من فضلاء الأمة، فهذا -أيضاً- خلاف سائغ في القضايا الهينة الدقيقة.
قال شيخ الإسلام: ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة، وإن كان ذلك في المسائل العلمية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة.
لأنه ما من أحد من فضلاء الأمة إلا واختلف مع أخيه من العلماء والأئمة في بعض القضايا والتفاصيل الفقهية والفروع الدقيقة جداً، وهذه معروف لمن درس الفروع الفقهية والموسوعات الفقهية ورأى شدة خلاف العلماء في هذه المسائل الدقيقة، فالمسائل الدقيقة التي يكثر فيها احتمال الخطأ قل من يسلم منها حتى من فضلاء الأمة، فهذه المسائل تدخل في الخلاف السائغ.(55/18)
عدم مخالفة نص شرعي أو إجماع
الضابط الثالث: عدم مخالفة النص الشرعي أو الإجماع.
فلكي يكون الخلاف سائغاً يجب أن لا يضاد وأن لا يخالف نصاً شرعياً صحيحاً واضحاً، ولا إجماعاً متيقناً معلوماً، فإذا كان في المسألة نص أو إجماع فأي شذوذ عن النص أو الإجماع يعتبر خلافاً غير سائغ، فإذا اجتهد الفقيه في المسألة وبذل فيها وسعه فإن خالف غيره من العلماء -سواء أكانوا سابقين أم معاصرين- فالخلاف يكون سائغاً، مالم يكن فيها نص أو إجماع، وهذا الضابط مهم جداً.
والنص مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، وقوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:5]، وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، فهذا نص جاء بالتحليل أو التحريم في المسألة، وهل يحتمل أن هذه الآية يمكن أن يناقش فيها هل هي حرام أم مكروه؟
الجواب
لا؛ لأن هنا نصاً واضحاً جلياً، بل إن أعلى درجات الوضوح في دلالات الألفاظ: (حرمت)، و (أحل لكم) فلا يقبل أبداً مخالفة ما جاء فيه نص واضح، بخلاف ما عداه مثل الظاهر أو غير ذلك من الدلالات التي هي أقل في وضوحها من النص.
وكذلك الإجماع، فإن الأمة معصومة في إجماعها عن الضلالة، والإجماع أساساً يدخل فيما علم من الدين بالضرورة، أو هو ما علم من الدين بالضرورة، فإذا اجتهد الفقيه في المسألة التي ليس فيها نص ولا إجماع، وبذل فيها وسعاً، وترتب على ذلك مخالفة لإخوانه من العلماء المعاصرين أو السابقين أو اللاحقين فهذا داخل في دائرة الخلاف السائغ.(55/19)
الخلاف بين أهل العلم والاجتهاد والفقه والبصيرة في الدين
الضابط الرابع: لا يكون الخلاف سائغاً إلا من أهل العلم والاجتهاد والفقه والبصيرة في الدين، ولا يمكن أن يكون الخلاف سائغاً إلا من أهل العلم والبصيرة والاجتهاد في الدين، فلا عبرة على الإطلاق بأن يأتي أحد دون هذه المرتبة من عوام الناس أو طالب علم ويقول: أنا اجتهدت في هذه المسألة ورأيت فيها بخلاف كلام هذا الإمام! فلا يعتبر هذا الخلاف سائغاً؛ لأن الخلاف السائغ هو الذي يصدر عن أهل العلم وأئمة الاجتهاد والبصيرة في الدين.
وهناك رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- تكلم فيها عن أنواع المجتهدين، وتكلم على أن الخلاف السائغ هو خلاف أهل العلم.
ولابد من شرط آخر وهو أن الإمام المجتهد يمكن أن يكون إماماً مجتهداً ويقصر في الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد هو أن يبذل الفقيه وسعه في استنباط الحكم الشرعي.
فلو أن إماماً مجتهداً من الأئمة المجتهدين لم يبذل وسعه وأفتى دون أن يبذل وسعه، فهذا غير سائغ؛ لأن الاجتهاد هو أن يبذل أقصى الوسع في تحري الحق وقصده، فإن خالفه الصواب بعد ذلك فهو داخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا أجتهد فأخطأ فله أجر)، لكن إذا لم يجتهد وأفتى بدون بذل الوسع فلا يدخل تحت هذا الحديث، وأما الآن فكل من هب ودب يستدل بالحديث على آرائه واجتهاداته، ويظن أنه مأجور حتى لو أتى الأمر من غير بابه، وقد لا يكون مجتهداً، بل ولا طالب علم، ولا طويلب علم، ومع ذلك يقول: قلت! وأقول! ومذهبنا الذي نرجحه! وغير ذلك من العبارات الرنانة، فهذا لا عبرة على الإطلاق بكلامه.
فالشاهد أنه لا يكون الخلاف سائغاً إلا إذا كان صادراً من أهل العلم والاجتهاد والفقه والبصيرة في الدين.
وبعدما ذكر شيخ الإسلام أنواع المجتهدين قال: بخلاف الذين أفتوا المشجوج في البرد بوجوب الغسل فاغتسل فمات، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذ لم يعلموا؟! إنما شفاء العي السؤال)، فأنكر عليهم اجتهادهم، فهم اجتهدوا لكن عن غير أهلية؛ إذ ليس عندهم مؤهلات في الاجتهاد، ولذلك أنكر عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يقل كما قال في الحديث الآخر: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر)، وإنما قال: (قتلوه قاتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا؟! إنما شفاء العي السؤال)، فإن هؤلاء أخطئوا بغير اجتهاد؛ إذ لم يكونوا من أهل العلم.
فالضابط الخامس من ضوابط الخلاف السائغ: أن يبذل الفقيه أقصى وسعه وغاية جهده في الوصول إلى الحق، فإذا قصر ذم بتقصيره، ومن التقصير: عدم طلبه الدليل من الكتاب والسنة.(55/20)
عدم البغي في الخلاف
الضابط السادس: لا يكون الخلاف سائغاً مع البغي.
أي: إذا صحبه بغي؛ لأن الإنسان إذا كان يبغي على مخالفه فالبغي يعارض قصد الحق؛ لأننا ذكرنا في الضابط الأول من ضوابط الخلاف السائغ خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق، فالشخص الذي يريد أن يبغي على مناظره أو على مخالفه يستعمل الأدلة للانتصار لرأيه أو مذهبه، والبغي يتنافي مع قصد الحق، فمن قصد الحق لابد من أن يكون متجرداً خارجاً عن الهوى، ولابد من أن يقصد الحق فقط، فإذا كان في بحثه أو في أصوله بغي فإن البغي يعارض قصد الحق الذي هو من لوازم الخلاف السائغ، يقول تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19].
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: والبغي إما تضييع للحق وإما تعدٍ للحق، فهو إما ترك واجب وإما فعل محرم، فعلم أن موجب التفرق هو ذلك.
فالذي يحدث التفرق هو البغي، والبغي له صورتان: إما تضييع للحق أي: يضيع الواجب أو تعدٍ للحق بفعل الحرام، فكلاهما بغي يوجب التفرق بين الناس.
فإذاً لا يكون الخلاف سائغاً مع البغي؛ لأن البغي يعارض قصد الحق الذي هو من لوازم الخلاف السائغ.
أما الضابط السابع والأخير فهو أن الخلاف لا يكون خلافاً سائغاً مع ظهور الأدلة، فلابد من أن يكون اجتهادهم واختلافهم إنما هو في المسائل الفرعية التي لم يدل دليل قطعي على حكمها؛ لأن الدليل الظاهر يحسم مادة الخلاف، فإذا كان الخلاف سائغاً قبل ظهور الدليل فإنه لا يكون كذلك بعد ظهوره، وليس هناك تعارض بين هذا والضوابط السابقة؛ لأن العالم معذور في مخالفته للحق، فهو يقصد الحق لكن خالفه، مالم يأته الدليل الصحيح الصريح الذي يحسم الخلاف، فهو معذور قبل ذلك، أما إذا ظهر الحق فلا يعود الخلاف سائغاً في حقه، ولذلك كان الشافعي رحمه الله تعالى يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت حجته بحديث صحيح وافقه طائفة من أهل العلم إلى قول عالم.
وقال: ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف شخص الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه.
فهذه هي ضوابط الخلاف السائغ، وأهمية هذه الضوابط أن الخلاف السائغ لا يتم على أساسه التشنيع على المخالف.
وهذه الضوابط خلاصتها هي: الأول: خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق.
الثاني: ما كان من المسائل الدقيقة التي يكثر فيها احتمال الخطأ، وقل من يسلم منه، حتى من فضلاء الأمة.
الثالث: عدم مخالفة النص الشرعي أو الإجماع.
الرابع: لا يكون الخلاف سائغاً إلا إذا كان من أهل العلم والاجتهاد والفقه والبصيرة في الدين.
الخامس: أن يبذل الفقيه أقصى وسعه في الوصول إلى الحق، فإذا قصر ذم بتقصيره، ومن التقصير عدم طلبه الدليل من الكتاب والسنة.
الضابط السادس: لا يكون الخلاف سائغاً مع البغي.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(55/21)
محنة فلسطين [1]
بيت المقدس ذلك المكان الذي وصفه رب السماوات والأرض بالبركة والطهارة والقدسية، فهو مهبط الوحي من رب العالمين، ومبعث الأنبياء والمرسلين، وأولى القبلتين، ومسرى حبيبنا محمد الصادق الأمين، فما له الآن يئن تحت وطأة الأرجاس الأنجاس! وتتحكم فيه شرذمة فاقت في الشر كل الناس! أما له من يعرف قدره؟! أما له من يحميه ويطهره من ذلك النجس والخبث؟! بلى، سيأتي رجال يعرفون قدره، ويطلبون الموت مظانه.(56/1)
سؤال سليمان عليه السلام ربه عز وجل إصابة الحكم والملك
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما فرغ سليمان بن داود عليهما السلام من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحداً لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة).
الحديث رواه الإمام أحمد في المسند، ورواه ابن ماجة في سننه في كتاب إقامة الصلاة: باب ما جاء في الصلاة في بيت المقدس، وصححه الألباني في التعليق الرغيب، وأيضاً في صحيح ابن ماجة برقم (1156).
قوله عليه السلام: (لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: -الأولى- حكماً يصادف حكمه) أي: حكماً يوافق حكم الله تبارك وتعالى، والمراد: أن يوفقه الله تبارك وتعالى للصواب في الاجتهاد وفي فصل الخصومات بين الناس، كما بان ذلك في القصة المذكورة في سورة الأنبياء في قوله تبارك وتعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79].
وقوله: (وملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي)، أي: أن الأمر الثاني الذي طلبه سليمان عليه السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس هو ما حكاه الله عز وجل في قوله: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35]، أي: لا يكون لأحد من بعدي، والمقصود من هذا: أن يكون ملكاً عظيماً، فهو طلب هذا الملك لا لعظمه وكبر شأنه، وإنما معجزة له؛ حتى يكون سبباً للإيمان والهداية، وأراد أن تكون معجزته مما يناسب حاله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهو أراد أن يهبه الله هذا الملك العظيم، حتى يكون معجزة له، ودلالة على نبوته عليه السلام.
هذا هو التفسير الصحيح لهذا الدعاء الذي دعاه سليمان عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35]، لا كما يذهب أذناب اليهود والجهال من بعض الناس من وصف نبي الله سليمان عليه السلام بما لا يليق من الصفات، بناءاً على تفسير منحرف لهذا الدعاء.(56/2)
فضل المسجد الأقصى
وقوله: (وألا يأتي هذا المسجد)، أي: لا يدخل المسجد الأقصى بيت المقدس (أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما اثنتان فقد أعطيهما) أي: أعطي الأولى والثانية، فوهبه الله الفهم، ووفقه للصواب في اجتهاداته، فوافق حكمه حكم الله تبارك وتعالى، وآتاه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، كما فسر ذلك في عدة مواضع من القرآن، ثم تمنى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة) وفي هذا فضيلة عظيمة للمسجد الأقصى، الذي أنزل الله تبارك وتعالى فيه قوله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1].
فالمسجد الأقصى وبيت المقدس يحتلان مكان القلب من كل مسلم؛ لأنه موضع شرفه الله تبارك وتعالى، وهو أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، وهو مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول بعض الشعراء: مررت بالمسجد المحزون أسأله هل في المصلى وفي المحراب مروان تمثل المسجد المحزون واختلفت على المنابر أحرار وعبدان فلا الأذان أذان في منابره من حيث يتلى ولا الآذان آذان فالمسجد الأقصى الآن دمعه في عين كل مسلم، وطعنة في قلب كل مؤمن، ومصيبة يعيشها الآن كل المسلمين: العرب والهنود والأتراك والأفغان وكل مسلم مخلص لهذا الدين على وجه الأرض.
وقد أم فيه الأنبياء -عليهم السلام خاتمُهم وسيدُهم محمد صلى الله عليه وسلم، وفتحه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحرره صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، هذا المسجد سلب منا، وقطع من فؤادنا يوم ضعفت في قلوبنا (لا إله إلا الله)، يقول الشاعر: أيا عمر الفاروق هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصر وليمون يافا يابس في أصوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمر هذا المسجد الشريف ورد ذكره في الكتاب والسنة، وشرفه الله تبارك وتعالى ووصفه بأعظم الصفات.(56/3)
مكانة المسجد الأقصى عند المسلمين
وقد انتقلت هذه الأرض المقدسة والمسجد الأقصى إلى إرث الأمة الإسلامية، فهذه الأمة المصطفاة هي التي ورثت الاصطفاء والاجتباء بعد بني إسرائيل، فبنو إسرائيل جحدوا نعمة الله عليهم وقد كانوا خير الأمم في زمانهم، فلما كفروا وعتوا وعلوا عن أمر الله تبارك وتعالى أبدل الله عز وجل خيراً منهم، وصارت هذه الأمة المحمدية خير أمة أخرجت للناس مطلقاً، فورثت هذه الأمة الاصطفاء والاجتباء بعد بني إسرائيل.
وقد احتل المسجد الأقصى واحتلت بيت المقدس مكاناً متميزاً ومكانة رفيعة في قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فالقدس والأقصى يسكنان مكان القلب من كل مسلم.(56/4)
رفع الشرع لمكانة المسجد الأقصى وبيت المقدس
أضفى الإسلام على المسجد الأقصى وبيت المقدس مزيداً من القدسية والشرف، حتى إن القرآن الكريم جاء فيه وصف أرض بيت المقدس بصفات البركة والطهر والقدسية، يقول تبارك وتعالى حاكياً عن موسى عليه السلام: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21]، فوصفها بالقداسة والطهارة، وقال عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137]، فوصفها أيضاً بالبركة، وقال أيضاً: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَه} [الإسراء:1]، وقال عز وجل أيضاً في شأنه: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71]، وقال عز وجل: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81]، وقال عز وجل أيضاً: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، وقال تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [سبأ:18]، وهي الشام، {قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18].
وقد أشارت آيات القرآن أيضاً إلى قدسية هذه الأرض حينما أقسم الله عز وجل بها في سورة التين: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1 - 3]، وقال عز وجل في شأن عيسى عليه السلام وأمه: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50].
قال قتادة وكعب والسدي: إن هذه إشارة إلى بيت المقدس.
وقال تبارك وتعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق:41]، ورد في التفسير أن المنادي هو: إسرافيل ينادي من صخرة بيت المقدس.
وفي قوله تبارك وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، قال عكرمة: إنها المساجد الأربعة: المسجد الحرام، ومسجد قباء، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس.
وفي تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114] قال كثير من المفسرين: هو مسجد بيت المقدس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد دل الكتاب والسنة وما روي عن الأنبياء المتقدمين مع ما علم بالحس والعقل: أن الخلق والأمر ابتدأ من مكة أم القرى، فهي أم الخلق، وفيها ابتدأت الرسالة المحمدية التي طبق نورها الأرض، وجعلها الله قياماً للناس، إليها يصلون ويحجون، ويقوم بها ما شاء الله من مصالح دينهم ودنياهم.
فكان الإسلام في الزمان الأول ظهوره بالحجاز أعظم، ودلت الدلائل المذكورة على أن ملك النبوة سيكون في الشام، والحشر إليها، فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر، وهناك يحشر الخلق، قال عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:2]، والمقصود بها: الشام.
فيحشر الخلق إلى الشام، والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس فأول الأمة خير من آخرها، كما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام، كما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في ليلة الإسراء إقراراً مبيناً بأن الإسلام هو الرسالة الخاتمة، والوحي الأخير إلى البشر، وكان تمامها على يد محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن وطأ لها العباد الصالحون من رسل الله الأولين.
وكان في الإسراء أيضاً دلالة على أن آخر صبغة للمسجد الأقصى في شرع الله هي الصبغة الإسلامية، فاستقر نسب المسجد الأقصى إلى الالتصاق بالأمة التي أم رسولها سائر الأنبياء.
ولا شك أن في اقتران الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلى بالمسجد الأقصى دليلاً باهراً على مدى ما لهذا البيت من مكانة عند الله تعالى، ودليل كذلك على صحة القول: بأن المسجد الأقصى في المركز الذي لا يصعد إلى السماء إلا منه، ولهذا فإن الناس يحشرون هناك، وينصرفون من تلك الأرض إما إلى الجنة، وإما إلى النار.
وقد ردت أيضاً أحاديث كثيرة بجانب هذه الجملة من الآيات في فضل وشرف بيت المقدس والمسجد الأقصى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) رواه البخاري ومسلم.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أُتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء، ثم دخلت المسجد -يعني: مكان المسجد- فصليت فيه ركعتين، ثم عرج بي إلى السماء) رواه مسلم.
وعن جنادة بن أبي أمية الأزدي قال: ذهبت أنا ورجل من الأنصار إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر في الدجال، فذكر الحديث وفيه: قال عليه الصلاة السلام: (وعلامته -أي: الدجال-: يمكث في الأرض أربعين صباحاً، يبلغ سلطانه كل منهل، لا يأتي أربعة مساجد: الكعبة، ومسجدي -مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم- والمسجد الأقصى، والطور) رواه الإمام أحمد في مسنده، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وقال ابن حجر: رجاله ثقات.
وفي الحديث الذي ذكرناه عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه -يعني: مخلصاً لله- إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، قال صلى الله عليه وسلم: أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة) رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه أيضاً ابن ماجة في سننه.
وعن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (قلت: يا رسول الله! أفتنا في بيت المقدس؟ قال: أرض المحشر والمنشر- يعني: الأرض التي يكون فيها الحشر والنشور- ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره، قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه، قال: أهدي له زيتاً يسرج فيه، فمن فعل فهو كمن أتاه) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة، وقال في (مصباح الزجاجة): وإسناد طريق ابن ماجة صحيح، ورجاله ثقات، وهو أصح من طريق أبي داود.
وعن ذي الأصابع رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إن ابتلينا بعدك بالبقاء -طول العيش- فأين تأمرنا؟ قال عليه الصلاة والسلام: عليك ببيت المقدس؛ فلعله ينشأ لك ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون) رواه الإمام أحمد والطبراني في الكبير، وفيه ضعف.
وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا ذر! كيف تصنع إن أخرجت من المدينة؟ قال: قلت: إلى السعة والدعة، أنطلق حتى أكون حمامة من حمام مكة، قال: كيف تصنع إن أخرجت من مكة، قال: قلت: إلى السعة والدعة، إلى الشام والأرض المقدسة، قال: وكيف تصنع إن أخرجت من الشام، قال: قلت: إذاً والذي بعثك بالحق! أضع سيفي على عاتقي) رواه الإمام أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح، إلا أن أبا السليل ضريب بن نقير لم يدرك أبا ذر.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة) رواه أبو يعلى، وقال الهيثمي: رجاله ثقات.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم، إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري، فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام) رواه الإمام أحمد والبزار وقال ابن حجر: سنده صحيح.
وعن أبي حوالة الأزدي رضي الله عنه قال: (وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسي أو على هامتي ثم قال: يـ ابن حوالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت بالأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك) رواه الإمام أحمد و(56/5)
بداية الفتوحات في بلاد الشام وفلسطين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
التعظيم والتكريم في القرآن والسنة للمسجد الأقصى ولبيت المقدس جعل لهما هذه المساحة العظيمة في صفحات التاريخ الإسلامي وفي قلوب المسلمين منذ عهد النبوة إلى يومنا هذا.
فالمسجد الأقصى هو المكان الذي عرج منه النبي صلى الله عليه وسلم ليرى من آيات ربه الكبرى، فكان ذلك تشريفاً للنبي صلى الله عليه وسلم أن عرج به إلى ذلك المقام العظيم من هذا المكان العظيم؛ ليرقى إلى ملأ عظيم، في ليلة عظيمة.
ولو لم يحدث في زمن النبوة ما يشرف ذلك المكان إلا ذلك الحدث لكفاه تشريفاً وتعظيماً، لكن الواقع أن بيت المقدس كان له نصيب آخر من أحداث عهد النبوة؛ إذ توجه إليه اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم عملاً بعد أن ندب إلى تكريمه وتعظيمه من ناحية المعنى، فقد تلفتت أنظاره إلى بيت المقدس في الشام ليطهرها من أوضار الشرك الصليبي كما طهر مكة من أوضار الشرك العربي، ولتبدأ بذلك الخطوة الأولى نحو الهدف الكبير، هدف تحرير الأرض المقدسة وتكسير الآثار التي حلت بها.
لذلك ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وتوجه النظر إلى بيت المقدس، كما توجه النظر إلى الشام وإلى آفاق الأرض، وندب الناس إلى الخروج إلى الشام، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم رسالة إلى هرقل عظيم الروم يدعوه إلى الإسلام، كما بعث إلى شرحبيل بن عمرو الغساني عظيم بصرى رسولاً يدعوه إلى الإسلام، فاعتدى على المبعوث وقتله، فأعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف مقاتل للخروج إلى مؤتة، وفي تلك الغزوة قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم، وتلقى سيف الله المسلول الراية بعد مقتل الثلاثة ففتح الله عليه، فانسحب الانسحاب الآمن المعروف.
ثم بدأت الروم تحشد الجيوش للإغارة على دولة الإسلام؛ ولتبقي يدها على بيت المقدس، ولتظل الروم ممسكة بزعامة العالم النصراني من هناك، فأعدوا الجيوش لضربة مركزة، فتنامت إلى أسماع المسلمين أنباء ذلك الإعداد، فاستنفر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين لملاقاة ذلك العدو المستكبر، وكان ذلك في السنة التاسعة للهجرة، فاكتنف إعداد الجيش الذي أنشئ لقتال الروم في الشام ظروف عصيبة، حتى سمي جيش العسرة، والآيات التي نزلت في القرآن الكريم المتعلقة بغزوة العسرة هي أطول ما نزل في القتال بين أهل الإسلام وغيرهم من ملل الكفر، وذلك واضح لمن تأمل سورة التوبة.
خرج عليه الصلاة والسلام في ثلاثين ألفاً من المقاتلين، خرج بهم عليه الصلاة والسلام في تعبئة لم تسبق من قبل لجيش إسلامي، فلما بلغ الجيش الإسلامي تبوك لم يجد للروم أثراً يدل على أنهم مستعدون لخوض الحرب، فقد رعبوا من الالتقاء بالجيش الإسلامي، وجاء ختام الغزوة طمأنينة وعزة للمسلمين، فأقفل بهم النبي صلى الله عليه وسلم عائداً إلى المدينة.
وبعدما رجع عليه الصلاة والسلام من حجة الوداع إلى المدينة أمر المسلمين بالتهيؤ لغزو معاقل الروم في أرض الشام، واختار لإمرة هذا الغزو أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وكان ذلك في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم، وخرج الجيش الإسلامي بقيادة أسامة الذي لم يتجاوز عمره آنذاك ثمانية عشر عاماً، وعسكر في الجرف حينما سمع باشتداد المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصعدت روحه إلى بارئها جل وعلا، فأقام الجيش هناك، ينتظر ما الله قاضٍ في هذا الأمر.(56/6)
الفتوحات في الشام وفلسطين في عهد أبي بكر رضي الله عنه
أنفذ أبو بكر رضي الله عنه بعث أسامة، وكان بعض الناس قد نصحه أن يستفيد من هذا الجيش في قتال المرتدين، لكنه أبى وأنفذ بعث أسامة، وتحقق من إنفاذه توجه نظره إلى توجيه جيش إسلامي كبير إلى الشام، ليس لقتال الروم فقط، بل لفتحها وإدخالها إلى حظيرة الإسلام، وتم إعداد جيش من اثني عشر ألف مقاتل بإمرة خالد بن الوليد بعد أن انتهى دوره من قتال المرتدين، وحضر لقتال الروم جمع مبارك من أفذاذ قادة المسلمين من الصحابة، وتمخضت ملامح النصر عن فتح عدة مدن بفلسطين، وكان فتحها تمهيداً وتذليلاً للطريق إلى مدينة القدس بعد عهد أبي بكر رضي الله عنه.(56/7)
فتح عمر رضي الله عنه لبيت المقدس
في عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه استأنف الإعداد لفتح بيت المقدس، فوجه أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى المدينة المقدسة في خمسة آلاف فارس، ثم أتبعهم بخمسة آلاف تحت قيادة يزيد بن أبي سفيان، ثم بخمسة آلاف تحت قيادة شرحبيل بن حسنة، فاجتمعوا جميعاً، وضربوا الحصار حول المدينة المقدسة حوالى أربعة أشهر، حتى طلب أهلها الصلح على أن يتولى عمر بنفسه تسلم المدينة، فاستجاب عمر رضي الله عنه، وخرج بنفسه إلى إيلياء، فوصل إليها في شهر رجب من السنة السادسة عشرة للهجرة في شهر الإسراء والمعراج؛ ليحرر مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفك عنه الأغلال، ودخل المدينة عن طريق جبل المكبر، الذي سمي بجبل عمر؛ لأن عمر رضي الله عنه دخل منه.
ولما أشرف على المدينة المقدسة من فوقه كبر عمر رضي الله عنه، وكبر المسلمون معه، ومن ثم سمي جبل المكبر، وبعد أن دخلها ووصل إلى أرض المسجد الأقصى أزال عنها ما وضعه النصارى من أقذار، وبنى مسجداً أمام الصخرة، وجعل الصخرة في مؤخرته.
والناس إذا ذكر عندهم المسجد الأقصى يتبادر إلى ذهنهم هذه القبة المبنية فوق الصخرة، والتي يجعلون بناءها من عجائب الدنيا، وهذه القبة هي جزء من أرض المسجد الأقصى، أما المسجد الأقصى فهو كل المساحة التي حول قبة الصخرة، وأرض المسجد الحقيقي هو الموجود في الجهة الغربية من قبة الصخرة، فالمسجد الأقصى كبناء وكمسجد ليس هو قبة الصخرة، وإن كان في الأصل أن قبة الصخرة جزء من هذه الساحة التي هي والأرض المحيطة بها كلها تشكل كلمة المسجد الأقصى.(56/8)
اهتمام خلفاء بني أمية بالمسجد الأقصى وبيت المقدس
عندما استقر الأمر لأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أخذ البيعة من الناس في مدينة القدس، ثم اختار دمشق عاصمة للخلافة.
وفي عهد عبد الملك بن مروان أخذ لنفسه البيعة في بيت المقدس، وتولى أعمار المدينة المقدسة حتى غدت في عهده وعهد ابنه الوليد بن عبد الملك من أعظم المراكز الحضارية في الدولة الإسلامية، وتولى عبد الملك تشييد المسجد الأقصى في بناء جديد، وكذلك هو الذي تولى تشييد مسجد قبة الصخرة، وأوقف خراج مصر لسبع سنين في تشييدهما، فكان الخراج الذي يجمع من مصر لمدة سبع سنين وقفاً على تشييد المسجد الأقصى وقبة الصخرة، حتى صارا على شكلهما القائم اليوم.
أما الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز فإنه لما تولى الحكم طلب من جميع ولاته أن يزوروا المسجد الأقصى، ويقسموا يمين الطاعة والعدل بين الناس فيه.
وفي عهد العباسيين زاد اهتمامهم بالقدس لاسيما في عهد أبي جعفر المنصور، وكذلك في العهود التي تلت ذلك.(56/9)
بداية سقوط القدس في أيدي الصليبيين
استطاع السلجوقيون أن يستولوا على المدينة المقدسة من قبضة الفاطميين الذين كانوا يعتبرون أعداءً تقليديين لهم، فاحتلوا المدينة عام (465هـ) الموافق عام (1071م)، لكن الفاطميين استعادوها منهم، ولم يلبث الصليبييون أن انتزعوا القدس من أيدي أوليائهم الفاطميين الذين كانوا من الأسباب الرئيسية في النكبة الصليبية التي حلت ببيت المقدس.
انتهزت الزعامة الباباوية نداءً وجهه البطريرك كنعان الثاني بطريرك القدس وبطرس الناسك، وتوجه هذا المدعوم من البابا إلى مجمع للنصارى سنة (1095م)، ودعا إلى شن حروب ضد المسلمين لإخراجهم من بيت المقدس؛ فاستجاب ملوك وأمراء الإقطاع في أوروبا الوسطى والغربية؛ لأن في تلبيتهم لهذا النداء فرصة لتحقيق حلمهم القديم في إقامة إمبراطورية جديدة في الشرق على غرار الإمبراطورية الرومانية التي قصم المسلمون ظهرها.
وتقدم النصارى ملبين نداء البابا وهم يدقون نواقيس الحرب، ووقعت القدس في يد النصارى بعد أربعين يوماً من الحصار، وذلك بعد انخذال الشيعة في الدفاع عنها، وهروب قائدهم المدعو افتخار الدولة وحرسه، وسقطت المدينة المقدسة في أيدي عباد الصليب في نهار يوم الجمعة في الثالث والعشرين من شعبان سنة (492هـ) في عهد الخليفة المستعلي بالله الفاطمي لا أعلاه الله، والمستظهر بالله الفاطمي لا أظهره الله؛ ولم يكن لدى الفاطميين إلا أسماء وألقاب فقط، كـ العاضد لدين الله، والمعز لدين الله، والحاكم بأمر الله، وهكذا.
وتهيأت الفرصة لعباد الصليب لأول مرة بعد أن أضاءت الدنيا بنور الإسلام أن يسددوا للمسلمين طعنة في الصميم، ودخل الصليبيون المدينة منطلقين في هوس وجنون يزرعون الرعب والدمار والخراب، منتشين بما أصابوا من نصر رخيص على يد حاكم أرعن، ولم يسلم من بطشهم رجل ولا امرأة ولا شيخ ولا طفل، فقتلوا الجميع دون تمييز، وأراقوا الدماء دون تورع، وشاهوا وجوه الناس وأساءوا إليهم، فلم يسلم من ظلمهم خد أيمن ولا أيسر، واستمرت المذبحة الرهيبة طوال يوم الدخول وليلته، واقتحموا المسجد الأقصى صباح اليوم التالي، وأجهزوا على من احتموا فيه، واصطبغت ساحات المسجد بدماء العباد والزهاد والركع السجود، وتوجه قائد الحملة الصليبية ريموند في الضحى لدخول ساحة المسجد ملتمساً طريقاً بين الجثث والدماء التي بلغت ركبته!!(56/10)
استعادة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله للقدس
ظل الصليبيون في بيت المقدس يشيعون فيه الإفساد مدة إحدى وتسعين سنة، إلى أن أذن الله بالنصر للسلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، فالحقيقة أن هذا الأمر مما يلفت النظر، فالقدس صارت لسنوات كثيرة في يد الصليبيين أطول مما صارت الآن في يد اليهود لعنهم الله.
فالسنوات في عمر الدعوات هي ثوانٍ ولحظات في الحقيقة، فمهما طال الأمد فلابد أن تعلو كلمة الله تبارك وتعالى، وقد جاءنا الخبر من النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام سيظهر في الشام، وأن خلافة داود في بيت المقدس؛ حتى لا يصيب المسلمين اليأس، فمهما طال العهد بهؤلاء اليهود فإن من سبقوهم مكثوا في القدس أكثر مما مكثوا، وعلوا في الأرض أكثر مما علوا.
أذن الله بالنصر للسلطان الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فقد توجه نهار الأحد الخامس عشر من رجب فنزل بجيشه غربي بيت المقدس، ثم انتقل إلى الجانب الشمالي، وخيم هناك، وضيق على الإفرنج المسالك، ونصب المجانيق، وضرب على المدينة حصاراً انتهى بتسليم الصليبيين إياها يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فاتفق الفتح في اليوم الذي كان فيه حادثة الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما يرطب قلوبنا ويحيي الأمل في نفوسنا أن نطالع ما حدث في ذلك اليوم العظيم، كما حكاه الإمام ابن كثير رحمه الله تبارك وتعالى، وقد صحح الحافظ ابن كثير أن صلاة الجمعة أقيمت في الجمعة المقبلة، وليس في أول جمعة؛ لأنهم لم يتمكنوا من إقامتها يومئذ لضيق الوقت، وإنما أقيمت في الجمعة المقبلة، وكان الخطيب محيي الدين بن محمد بن علي القرشي بن الزكي.
يقول ابن كثير: لكن المسلمين نظفوا المسجد الأقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وخربت دور الداوية، وكانوا قد بنوها غربي المحراب الكبير، واتخذوا المحراب مشتاً لعنهم الله، فنظف من ذلك كله، وأعيد إلى ما كان عليه في الأيام الإسلامية، وغسلت الصخرة بالماء الطاهر، وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر، وأبرزت للناظرين، وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين، وأنزل الصليب عن قبتها، وعادت إلى حرمتها.
وقد كان الفرنج قلعوا منها قطعاً فباعوها من أهل البحور الجوانية بزنتها ذهباً، فتعذر استعادة ما قطع منها، ثم قبض -أي: السلطان صلاح الدين - من الفرنج ما كانوا بذلوه عن أنفسهم من الأموال، وأطلق السلطان خلقاً منهم من بنات الملوك بمن معهن من النساء والصبيان والرجال، ووقعت المسامحة في كثير منهم، وشفع في أناس كثير منهم فعفا عنهم، وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر، ولم يأخذ منه شيئاً مما يقتنى ويدخر؛ فقد كان رحمه الله حليماً كريماً مقداماً شجاعاً رحيماً.(56/11)
أول جمعة أقيمت في المسجد الأقصى بعد استعادة القدس وذكر خطيبها
يقول الحافظ ابن كثير حاكياً ما حدث في أول جمعة أقيمت ببيت المقدس بعد فتحه: لما تطهر بيت المقدس مما كان فيهم من الصلبان والنواقيس والرهبان والقساقس، ودخله أهل الإيمان، ونودي بالأذان، وقرئ القرآن، ووحد الرحمن، كان أول جمعة أقيمت في اليوم الرابع من شعبان بعد يوم الفتح بثمانٍ، فنصب المنبر إلى جانب المحراب، وبسطت البسط، وعلقت القناديل، وتلي التنزيل، وجاء الحق، وبطلت الأباطيل، وصفت السجادات، وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، ونزلت البركات، وانجلت الكربات، وأقيمت الصلوات، وأذن المؤذنون، وخرس القسيسون، وزال البوس، وطابت النفوس، وأقبلت السعود، وأدبرت النحوس، وعبد الله الأحد الصمد الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]، وكبره الراكع والساجد، والقائم والقاعد، وامتلأ الجامع، وسالت لرقة القلوب المدامع، ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال، كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال! ولم يكن عين خطيب، فبرز من السلطان المرسوم الصلاحي وهو في قبة الصخرة: أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيباً، فلبس الخلعة السوداء، وخطب للناس خطبة سنية فصيحة بليغة، ذكر فيها شرف بيت المقدس، وما ورد فيه من الفضائل والترغيبات، وما فيه من الدلائل والأمارات.
وقد أورد الشيخ أبو شامة الخطبة في الروضتين بطولهما، وكان الخطيب الإمام ابن الزكي رحمه الله أول ما صعد المنبر بدأ الخطبة بقوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]، ثم أورد تحميدات القرآن كلها -أي: كل الآيات التي فيها حمد لله تبارك وتعالى من القرآن- ثم قال: الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومزيد النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، والذي قدر الأيام دولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على العباد من طله وهطله، الذي أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه، ونصرة أنصاره، ومطهر بيت المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر أجهاره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رافع الشكر، وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السماوات العلى، إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى، صلى الله عليه وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأصنام، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
واستمر رحمه الله في ذكر فضائل بيت المقدس، ثم ذكر تمام الخطبتين، ثم دعا للخليفة الناصر العباسي، ثم دعا للسلطان الناصر صلاح الدين، وبعد الصلاة جلس الشيخ زين الدين أبو الحسن علي بن نجى المصري على كرسي الوعظ بإذن السلطان، فوعظ الناس، واستمر القاضي ابن الزكي يخطب الناس في أيام الجمع أربع جمعات.
ثم قرر السلطان للقدس خطيباً مستقراً، وأرسل إلى حلب فاستحضر المنبر الذي كان الملك العادل نور الدين الشهيد قد أعده لبيت المقدس -وقد أحرق في حادثة إحراق المسجد الأقصى قبل عدة سنوات- وقد كان يؤمل أن يكون فتحه على يديه، وكان قد أعد هذا المنبر حتى يصلي فيه، لكن لم يكتب له ذلك، وقتل شهيداً رحمه الله، أي: أن الملك نور الدين كان يؤمل أن يكون فتحه على يديه، فما كان إلا على يدي بعض أتباعه بعد وفاته، وهو صلاح الدين رحمه الله.(56/12)
قيام دولة اليهود على أساس ديني
نحتاج أيضاً قبل الخوض في هذه القضية إلى المرور العابر على الصدام بين المسلمين واليهود فيما يتعلق بفلسطين، فإن المتأمل في مسيرة الصراع بين المسلمين واليهود لعنهم الله تصدمه حقائق كبيرة يراد تكذيبها، ومعالم خطيرة يراد تحقيرها، من هذه الحقائق المهمة والخطيرة جداً: أن الكيان اليهودي جعل الدين ركيزته التي تنطلق منها سياسته؛ فالدولة اليهودية قائمة على أساس ديني محض، لا تشوبه أية شائبة أخرى، وسياساتهم تقوم على دينهم وعلى عقيدتهم، فظل هذا الكيان ينتقل من خلال الصراع مع المسلمين من إنجاز إلى إنجاز، ومن قوة وانتشار إلى مزيد من القوة والانتشار، في الوقت الذي ظلت فيه الكيانات العلمانية التي تصدرت للمعركة تتخبط في سيرها متنقلة من فشل إلى فشل، ومن تنازل وخسارة إلى مزيد من التنازل والخسارة.
واليهود رفعوا منذ بدأ القتال مع المسلمين راية واحدة هي راية التوراة، فإن اليهود حينما غادرت قوات الجيش المصري المرابطة في جنوب فلسطين دخلوا مكانهم، ووصلت إحدى كتائبهم إلى حدود سيناء سنة (1948م) فنزل الضباط والجنود اليهود من سياراتهم وقبلوا التربة، باعتبار أن سيناء في نظرهم أرضهم المقدسة.
وحينما وقع العدوان الثلاثي على مصر في 29 أكتوبر سنة (1956م)، ووصلت القوات اليهودية إلى حدود سيناء كان في طليعة القوات الزاحفة سيارة جيب تتقدم جميع القوات الزاحفة، وكانت تحمل كتاباً ضخماً هو التوراة، ومن خلفه وقف حاخام يخطب في الجنود ويقول: يا أبناء إسرائيل! إنكم تدخلون الآن الأرض المقدسة؛ حيث تسلم موسى الشريعة، فهيا لتطهيرها من الأعداء.
يعني: من المصريين، فالمنطلق الذي ينطلق منه أعداء الله منطلق ديني، وليس بمنطلق اقتصادي ولا سياسي ولا أي شيء آخر، فكل مواقفهم تنطلق من هذه الركيزة التي لا يتخلون عنها.
ففلسطين في زعمهم هي أرض الميعاد، وقد أسموا دولتهم باسم نبي الله يعقوب عليه السلام: إسرائيل، وجعلوا دستور دولتهم التوراة، فالدستور الذي يحكم إسرائيل هو التوراة، فهي دولة دينية، ورفضوا أن يحددوا لهذه الدولة حدوداً رسمية، إلا بعد أن ينتهوا من ضم الحدود التي ترسمها التوراة!! ومعلوم أنهم ينقشون على جدار الكنيست العبارة المعروفة: (أرضك الكبرى -يا إسرائيل- من النيل إلى الفرات)، وهذا المعنى نفسه يعبر عنه العلم اليهودي الذي يرفرف الآن في بعض العواصم التي من المفروض أن تكون إسلامية.
فالعلم اليهودي عبارة عن أرضية فيها خطان أزرقان، وفي الوسط نجمة داود السداسية، والخطان الأزرقان هما رمزان للنهرين، فأحدهما يشير إلى النيل، والآخر يشير إلى الفرات، وما بينهما نجمة داود تشير إلى أن منطقة السيادة اليهودية بين النيل وبين الفرات.
والآن بدءوا ينادون بضم يثرب، أي: ضم المدينة المنورة، ويزعمون أن لهم حقاً في المدينة المنورة، كما سنبين.
والمقصود: أنهم رفضوا أن يحددوا حدوداً رسمية لدولتهم، إلا بعد أن ينتهوا من ضم الحدود التي ترسمها التوراة، وخاضوا معاركهم التي كان يقودهم فيها الأحبار والحاخامات، وجعلوا لدولتهم بكل توجهاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية شعاراً واحداً يتوسط العلم الإسرائيلي هو نجمة داود التي ترمز إلى قبلة هذا المجتمع العقائدي وهذه الدولة التي يريدون إعادتها بعد غياب ألفي عام.
وهذه القبلة هي هيكل سليمان الثالث، ويسمونه ثالثاً؛ لأنه هدم من قبل مرتين، والآن يخططون لإعادة بنائه بعد هدم المسجد الأقصى.
فهذه القبلة هي هيكل سليمان الثالث، ذلك المعبد الذي يريدون أن يبنوه مكان المسجد الأقصى والصخرة؛ ليبرزوا بذلك معالم الدولة الدينية اليهودية العالمية ذات الاسم الديني والدستور الديني والحدود الدينية والشعار الديني؛ لتكتمل بذلك صورة الدولة اليهودية العالمية، على أنقاض دولة الخلافة الإسلامية.(56/13)
الإسلام لم يواجه اليهود في فلسطين بعد
قد مر على قيام الدولة اليهودية إلى الآن ما يزيد على أربعين عاماً، وقد أثبتت كل الشواهد خلالها الفشل الذريع والهزائم المنكرة والتراجع المذهل للاتجاه العلماني بأثوابه المتعددة، كالقوميين الاشتراكيين والتقدميين البعثيين، إلى آخر قائمة هؤلاء الملحدين.
فالذي هزم وتراجع أمام اليهود ليس هو الإسلام؛ لأن الإسلام لم يدخل في مواجهة حقيقية مع اليهود حتى الآن، ولابد أنه سيأتي اليوم الذي يرى اليهود أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذين قالوا في حقهم يوم 5 يونيو سنة (1967م) يوم أن خرجوا إلى المسجد الأقصى يهتفون ويقولون -لعنهم الله-: محمد مات، خلف بنات! هذا هو ما كان ينطق به اليهود، فهم لم يروا أتباع محمد عليه الصلاة والسلام، وهم يعلمون تماماً أن الإسلام إذا واجه اليهود فلن يذوقوا إلا الأمرين على يد أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم الرجال كل الرجال.
وهؤلاء الأتباع قد جاء وصفهم في القرآن وفي السنة، وهم فقط الذين سيؤدبون اليهود، جاء وصفهم في القرآن في قوله تبارك وتعالى: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5]، فهم يجمعون بين العبودية لله، وبين البأس الشديد، وجاء وصفهم أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يختبئ اليهودي وراء الشجر والحجر، فيقول الشجر والحجر -ينطق الشجر والحجر-: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود) فيقول الشجر والحجر: يا مسلم! يا عبد الله! ولا يقول: يا علماني! يا اشتراكي! يا ديمقراطي! يا بعثي! يا قومي! فالذين سيؤدبون اليهود هم الذين يقولون: لا إله إلا الله، ويعيشون بلا إله إلا الله، ومن أجل لا إله إلا الله، وأما من كان بخلاف هذا فسيفشل، وسيندحر، ولن يبقى له أي شيء، حتى لو كان هؤلاء العلمانيون من الفلسطينيين الخائنين الذين باعوا فلسطين، وركعوا أمام أعداء الله، فساموهم أذل الذل والهوان، ومع ذلك لم يرضوا عنهم أيضاً، بل أسخطهم الله عليهم؛ لأنهم أرادوا إرضاءهم بسخط الله تبارك وتعالى.
فهؤلاء هم الذين هزموا أمام اليهود، وهذا يعرفه اليهود تماماً، ويوجد فيهم أناس لاسيما من بعض الأحزاب الدينية يقولون: نحن نؤمن أنه لن يكون هناك سلام إطلاقاً مع المسلمين، أو مع العرب.
فهم يؤمنون من خلال نصوص كتبهم التي يقدسونها: أنه لابد من قتال واقع في معركة فاصلة بين اليهود وبين المسلمين.
فالذي هزم ليس هو الإسلام، وإنما هي العلمانية، والذي ألقى السلاح وطلب الاستسلام ليس هو الإسلام، بل هي العلمانية، ولا يتصور أن شاباً من شباب المسلمين الصادقين المخلصين لله تبارك وتعالى إلا وهو يترقب اليوم الذي يفتح فيه باب الجهاد في فلسطين.
وما من شك أنه لو فتح باب الجهاد في فلسطين فلن يبقى مسلم مخلص لله تبارك وتعالى إلا وهو يرغب في إحدى الحسنين: إما النصر، وإما الشهادة، وليس هناك شيء وسط بعد ذلك.
فالإسلام لم ينهزم أبداً أمام اليهود في هذا الصدام؛ لأن الإسلام لم يمكن حتى الآن للتصدي لتلك المعركة العقائدية، وإنما هي معركة عقائدية تدار من جانب واحد فقط، فأصحاب العقيدة في هذه الحرب هم اليهود، فاليهود أصحاب عقيدة، لكنها عقيدة فاسدة، وهم الآن يتحركون من خلال عقيدتهم، فهل الذين يواجهون اليهود يتصرفون من خلال العقيدة، ومن خلال: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52]؟!
الجواب
كلا! فلذلك من الظلم أن ينسب للإسلام الانهزام أمام اليهود لعنهم الله تعالى.(56/14)
عداء اليهود للإسلام وأهله قديماً وحديثاً
قال الله تبارك وتعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، ولم يكن أمراً اتفاقياً أن يكثر القرآن الكريم من الكلام عن صفات هذا الصنف من الناس بهذا الشكل الذي يلفت النظر؛ لأن الكلام عن بني إسرائيل شغل حيزاً كبيراً في التنزيل الحكيم مكيه ومدنيه، فهناك حكم عظيمة، من ذلك: إبراز حقيقة العداء اليهودي المتأصل للإسلام وأهله.
واليهود اشتعلت نيران الحقد في صدروهم لما ظهر لهم أن النبي عليه الصلاة والسلام الذي أرسل ليس من بني إسرائيل، وأنه من بني إسماعيل، فتسلسلت بعد ذلك مؤامراتهم ضد الإسلام ونبي الإسلام.
وقد قاد النبي صلى الله عليه وسلم الجهاد بنفسه ضد اليهود، وخاض صراعاً طويلاً معهم إلى أن أجلاهم عن المدينة المنورة، ولم يتوقف الكيد اليهودي عند هذا الحد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فالأفعى اليهودية قاومت الموت، وأصرت على أن تواصل لدغاتها الضاربة؛ عسى أن تصيب الإسلام في مقتل، وكانت روح رسول الله صلى الله عليه وسلم هي المستهدفة هذه المرة، ونجح اليهود فيما أرادوا، إذ دبروا مؤامرة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم قتلة الأنبياء، فقد كانوا سفاحين مجرمين، قتلوا الأنبياء من قبل، قتلوا زكريا عليه السلام، وقتلوا يحيى، وأهدوا رأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل! فأرادوا أيضاً -كعادتهم- أن يقتلوا سيد وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، إذ دبروا مؤامرة لقتله صلى الله عليه وسلم بالسم؛ لتنضاف بذلك جريمة جديدة في سجل قتلة الأنبياء.
فامرأة أحد زعماء اليهود أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مشوية، ودست فيها السم، وكانت تعلم من خلقه عليه الصلاة والسلام أنه يقبل الهدية، فلاك عليه الصلاة والسلام مضغة من الشاة فاستكرهها، فقال: (إن هذه الشاة لتخبرني أنها مسموة)، ثم مات من أكل تلك الشاة أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بشر بن البراء، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم متأثراً بما لاكه منها، حتى إنه قال في مرضه الذي توفي فيه لأخت بشر: (إن هذا لأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك) يعني: أن تأثير هذه الأكلة بقي معه حتى قبض صلى الله عليه وسلم متأثراً به.
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يذكرون في فضائل رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه مات شهيداً بسبب تلك الشاة، قال تبارك وتعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]، فأتى بالتكذيب بصيغة الماضي، فقال عز وجل: (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ)، ثم قال: (وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) ولم يقل: وفريقاً قتلتم؛ لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل أيضاً؛ ولأنهم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم وبالسحر.
فاليهود يقولون: نحن شعب الله المختار، وهم في الحقيقة ورثة إبليس، واليوم يرفع المسلمون في فلسطين في وجوههم شعار: نحن شعب الله المختار، وهذه هي الحقيقة، فإن هذه الأمة إذا تمسكت بكتاب ربها، وسنة نبيها كانت هي الشعب المختار كما قال تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، أما اليهود فهم ورثة إبليس في الإفساد في الأرض: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة:64].
وقد ترك هذا الفساد والإفساد بصمات اليهود في كل صفحات التاريخ، وهذه البصمات شاهدة على حضورهم في كل مجال يمكن فيه الإفساد، فاليهودي كعب بن الأشرف واليهودي ابن أبي الحقيق كانا من أول من حاول قلب الأمور في الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة، فجمعوا بين اليهود من بني قريظة وغيرهم، وبين قريش، وبين القبائل الأخرى في الجزيرة على محاربة المسلمين.
وذلك اليهودي عبد الله بن سبأ هو الذي أسس للشيعة دينهم.
واليهودي مدحت باشا كان وراء إثارة النعرات القومية، واستخدام المخططات الماسونية في دولة الخلافة العثمانية، مما أدى في النهاية إلى سقوطها على يد اليهودي الأصل مصطفى كمال أتاتورك؛ فإنه كان من يهود (الدونمة).
واليهودي كارل ماركس هو الذي كان وراء الموجة الإلحادية التي أصبحت فيما بعد قوة ودولة، بل أصبحت معسكراً دولياً، وقد بنى هذا المعسكر نفسه على أنقاض بلاد المسلمين وشعوبهم.
واليهودي فرويد كان وراء النزعة الحيوانية التي أصبحت فيما بعد منهجاً تتلوث به عقول الناشئة فيما يصنف تعسفاً على أنه علم وتقدم.
واليهودي دوركايم كان وراء أفكار هدم الأسرة وتفكيك الروابط المقدسة في المجتمعات.
واليهودي جان فول سارتر كان وراء نزعة أدب الانحلال في علاقات الأفراد والجماعات، والذي أتى يوماً إلى مصر مع عشيقته واستقبل استقبال أبطال الفاتحين.
واليهودي جورج تسيهر كان وراء حركة الاستشراق التي استشرى فسادها، وعم ظلمها وظلامها.
واليهودي صمويل زويمر هو الذي خطط لحركات التبشير في ديار المسلمين، لا لمجرد إدخال المسلمين في النصرانية، بل لإخراجهم من الإسلام، وضرب الإسلام بالنصرانية، والنصرانية بالإسلام.
واليهودي ثيودور هرتزل هو الذي وضع البذرة الأولى في محنة العطش التي يسمونها أزمة الشرق الأوسط، عندما خطط ورسم معالم الدولة اليهودية في كتابه المسمى بهذا الاسم، تلك الدولة التي ولدت بعد مماته سفاحاً، فكانت بؤرة للإفساد في الأرض.
ولو أردنا أن نفيض في شرح وذكر صفات هؤلاء اليهود لطال الكلام جداً، كما قال الشاعر: قبائحهم لا تنقضي فنعدها وأقبح منها أن يروها فضائلا إذا زين الرحمن أعمالهم لهم فلا القول يهديهم إذا دمت قائلا فقصص خبث اليهود وعدائهم للإسلام وللنبي صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً، ومعلومة لمن يراجع سيرته صلى الله عليه وسلم.(56/15)
مجاراة وموالاة بعض من ينتسبون إلى الإسلام لليهود والنصارى
العجب ليس من تصرفات اليهود وأعمالهم! لكن العجب حينما نجد مؤامرة تطوير التعليم التي حدثت أخيراً خلسة؛ لتسرق عقائد أبناء المسلمين على حين غفلة من أهلها، فقد ألغوا كتاب التاريخ الإسلامي الذي في المدارس الثانوية وقرروا بدلاً منه كتاب (معالم التاريخ الإسلامي والوسيط)، الذي هو تاريخ أوروبا في القرون الوسطى.
وقد تحدث مؤلف هذا الكتاب -الذي أصبح يدرس لأولادنا- عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن غزواته، وبخاصة غزواته ضد يهود خيبر، دون أن يبين السبب الذي من أجله قاتلهم النبي عليه الصلاة والسلام، فأظهر الرسول كأنه ظلم اليهود، ولم يذكر حقيقة الأفعال التي فعلها اليهود وأدت إلى أن يجليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما أشرنا إلى بعض منها.
وأيضاً حُذف اسم فلسطين من جميع الخرائط الجغرافية والتاريخية لكتب المواد الاجتماعية، وكذا خريطة سيناء في كتاب (وطني مصر)، وصفحات أخرى كثيرة.
وأيضاً: ولا حول ولا قوة إلا بالله، قطع الله يد الذي عمل هذا التصوير، وقصم رقبته، وضع عدو الله في كتاب (مصر هو الوطن العربي)، صفحة مائة وستين خريطة كتب عليها: يثرب يهودية! وتخيل حال أولادنا حين ينشئون على أن يثرب مدينة يهودية! فهل يحلم اليهود بشيء أكثر من هذا؟! إن هذه هدية إلى أعداء الله، فهذا أمر خطير في كتاب يصدر من وزارة التعليم، وتربي فيه أبناء الأمة على التسليم لليهود بأن لهم حقاً مزعوماً في المدينة.
ولو أن الكتاب صدر في فلسطين المسروقة لكان قد يكون له مساغ، لكن كيف يُقبل أن يصدر في بلادنا؟! ومن ذلك أيضاً أن أحد كتب التاريخ عرف الوصايا العشر لليهود على أنها نصوص حضارية، وذكر ذلك في صفحتين! فهل اليهود قتلة الأنبياء هم المدافعون حقاً عن الله تعالى كما يذكر ذلك الكتاب؟! وهل الله يحتاج إلى من يدافع عنه؟! وكيف يورد المؤلف نصوصاً من التوراة المحرفة في صفحتين في حين لم يورد من القرآن الكريم نصاً واحداً؟! فهل التوراة المحرفة أعز على المؤلف من القرآن الكريم؟!! ولماذا كتب صفحتين كاملتين؟! ولمصلحة من؟! إنه لإرضاء بني يهود! أليست أمة الإسلام أولى بالإرضاء، وقبل ذلك رب العالمين؟! وأين علماء الأزهر الذين رضوا لأبنائهم أن يدرسوا صفحتين كاملتين من التوراة المزورة التي أغضبت رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجرد أن أمسك عمر بن الخطاب لإحداها ونظر فيها؟! وأيضاً قد سبق الكلام على تفريغ سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام من محتواها! وأيضاً تفريغ سيرة الخلفاء الراشدين من مضمونها التربوي! وكل ذلك إرضاءً لبني صهيون! فحينما تكلم مؤلف كتاب (مصر هو الوطن العربي) على سيرة النبي عليه الصلاة والسلام قال في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: هي مناسبة لإقامة الزينات، وتوزيع الحلوى، وتعطيل المدارس والشركات والمصالح الحكومية! هذه هي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم عند هذا المؤلف وأمثاله! وأما السيرة كمنهج وكطريق حياة فهذا لا يذكرون منه شيئاً، ولا وجود له، والسيرة كعقيدة وعبادة وشريعة ومعاملات وسلوك لا وجود لها في كتب التاريخ.
كما تجاهل أيضاً مؤلف الكتاب اسم النبي صلى الله عليه وسلم في عنوان الدرس، وفي فهارس الدرس أيضاً! وأيضاً من هذه الأشياء أنه كان في الصف الرابع من التعليم العام والأزهري موضوع عن حرب العاشر من رمضان مع اليهود، وعنوان الموضوع: شجاعة مصرية، حذف منه العبارة الآتية من التدريبات: العدو المحتل كان اليهود.
حذفت! احتلال الأراضي المصرية لا أرضى به.
حذفت أيضاً هذه العبارة! وعلى أي الأحوال قد سبق الكلام بالتفصيل في حجم هذه المؤامرة وخطورتها.(56/16)
مثال للتضليل الذي يمارسه بعض الكتاب من أبناء جلدتنا
يذكر الدكتور جمال عبد الهادي في كتابه: (أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ) أمثلة من التضليل الذي يمارسه بعض الكتاب الذين هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وكيف أنهم يخدمون أهداف اليهود في هذا: فالدكتور حسن صبري الخولي الذي كان مستشاراً خاصاً للزعيم المهزوم دائماً جمال عبد الناصر سلم في رسالة الدكتوراه التي له حين كان يناقش فيها حق اليهود في فلسطين، فيقول: يقرر الصهيونيون أن فلسطين هي الأرض التي وعدهم الله بها تأسيساً على ما جاء في التوراة: أن الله سبحانه وتعالى قد وعد إبراهيم عليه السلام وذريته من بعده أن يعطيه فلسطين لإنشاء دولة فيها، واستشهد الكاتب بسفر التكوين: (لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات).
ثم يعلق الدكتور حسن صبري الخولي ويقول: ونحن نسلم بما جاء في التوراة، على أساس أنه كتاب مقدس من عند الله، ولكننا لا نستطيع أن نجاري اليهود في تفسيرهم التعسفي؛ لأن الوعد الإلهي ليس موجهاً إلى اليهود وحدهم، وإنما وعد لإبراهيم وذريته: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، يتساوى في ذلك الحق إسحاق جد اليهود وإسماعيل جد العرب.
وعلى ذلك فالحق في فلسطين ليس مقصوراً على اليهود، وإنما هو لذرية إبراهيم على الإطلاق، ومن هذه الذرية العرب واليهود!! وهذا الكلام الخبيث لا يحتاج إلى تعليق.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(56/17)
محنة فلسطين [2]
لقد ضاعت فلسطين والقدس يوم فرط المسلمون في دين الله عز وجل، وما نراه ونسمعه في تلك البقاع المباركة من تمالؤ بعض الطوائف الضالعة مع اليهود، وتركهم هذه القضية عائمة يلعب بها اليهود كيف شاءوا، وسكوت بقية المسلمين خير شاهد على البعد عن دين الله عز وجل، بل نرى فيها الموالاة لأعداء الله وحبهم والتقرب منهم، ونرى إيذاء المسلمين المجاهدين، ونسمع فيها سب الله عز وجل ورسوله ودينه والعياذ بالله!(57/1)
الجذور التاريخية لقضية فلسطين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يذكر الدكتور عبد الله عزام في كتاب له عن الجذور التاريخية لقضية فلسطين، ويشير إشارة إلى أنه قبل أن يصدر وعد بلفور، الذي هو وعد من بريطانيا بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، يقول: قبل ذلك بأسابيع قليلة صدر وعد مماثل للينين.
ولينين هو زعيم الشيوعية، وهو الذي سبق بلفور بمثل هذا الوعد، فحينما عاد لينين من منفاه كان معه مائتان وأربعة وعشرون ثائراً من الثوار، وكان منهم مائة وسبعون من اليهود، وكان تروتسكي اليهودي الذي قضى فترة في حي بروكلين في نيويورك يخطط للثورة، ثم عاد ينتظر لينين، وقاموا بالثورة، ووجه اليهود بعد الثورة الشيوعية البيان التالي: أيها اليهود! لقد قربت ساعة انتصارنا التام، ونحن الآن عشية يوم قد تسلمنا قيادة العالم، لقد استولينا على الحكم في روسيا، لقد كان الروس سادتنا، فأصبحوا عبيدنا.
وصدر في الأسبوع الأول للثورة الشيوعية في روسيا في أكتوبر سنة (1917م) قبل صدور وعد بلفور بأسابيع قرار ذو شقين بحق اليهود: أولاً: يعتبر عداء اليهود عداء من الجنس الثاني، يعاقب عليه قانونياً.
ثانياً: الاعتراف بحق اليهود في إنشاء وطن قومي في فلسطين.
وأيضاً كان هناك يهودي اسمه موسى هيس له كتاب اسمه (من روما إلى القدس)، كان يمثل أول دعوة منظمة لإقامة دولة يهودية في فلسطين، وماركس يقول: إنما اتخذت هذا العبقري هيس لي مثالاً وقدوة.
وقد سبق هيس نابليون الذي أعلن في (20/ 4/1799م) في الجريدة الرسمية الفرنسية إعلاناً دعا فيه اليهود إلى الالتحاق بجيشه؛ ليدخلوا معه القدس.
وقد ذكر أيضاً الدكتور عبد الله عزام قصة صمود السلطان عبد الحميد أمام الإغراءات اليهودية التي أرادوا بها أن يشتروا منه فلسطين، ورفض من أجل ذلك.
وذكر أيضاً قصة دخول الجيش الإنجليزي القدس بقيادة آلنبي في (9/ 11/1917م)، فأول ما دخل القدس ذهب إلى قبر صلاح الدين الأيوبي وركله برجليه، وقال له: يا صلاح الدين! ها قد عدنا! الآن انتهت الحروب الصليبية! ونفس هذه الكلمة قالها بيجن لما أخذوا قلعة الشقيف أثناء احتلال لبنان منذ سنوات، فأعاد نفس هذه الكلمة، لكن يقولها هذه المرة يهودي هو بيجن السفاح.
وأيضاً يقول لورنس الذي قاد الثورة العربية ضد تركيا: إنني جد فخور أنني في المعارك الثلاثين التي خضتها لم يرق الدم الإنجليزي؛ لأن دم إنجليزي واحد أحب إلي من جميع الشعوب التي نحكمها، ولم تكلفنا الثورة العربية سوى عشرة ملايين دينار!!(57/2)
بيان كيف كانت مواجهة العرب لليهود في الأراضي العربية المحتلة
العرب واجهوا وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين بمظاهرات عظيمة كبيرة العدد، وقالوا: هذا إعلان ممن لا يملك لمن لا يستحق! ويذكرني المسلك العربي دائماً بقصة ذكرها الشيخ الأستاذ مالك بن نبي، ذكر أنه أتاه رجل فقال له: أريد أن ترشدني إلى كيفية تربية ابني؛ إني رزقت ولداً من مدة، وأريد أن أعرف كيف أربيه، وكيف أوجهه، وكيف أنشئه، فقال له: كم عمر ولدك؟ قال: أربعة شهور، قال: فاتك القطار.
فكان الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله بعد ذلك حينما يتذكر هذه الكلمة يقول: ظننت أني أخطأت، وأني كنت مبالغاً في هذه الكلمة، لكنني بعد ذلك تأملتها فوجدت أني مصيب فيها؛ لأن الطفل يربى منذ بداية خروجه لهذه الحياة، فإن هذا الطفل الرضيع حينما يبكي ويصرخ، فتلقمه أمه الثدي حتى يرضع، ففي هذا الوقت يعرف أنه إذا أراد أن يملي إرادة على أمه أنه يصرخ، فتعطيه الرضاعة! قال: فكذلك نفس هذا الصغير الذي يربى بهذه الطريقة حينما يضربه اليهود، يذهب إلى مجلس الأمن ويصرخ ويبكي، وكأن هذا هو الحل، فهذه هي تربية الأمم بهذه الطريقة!!(57/3)
مآسي من الخيانات التي حصلت في حرب فلسطين عام (1948م)
وذكر أيضاً الشيخ عبد الله عزام رحمه الله تعالى مآسي من الخيانات التي حصلت في حرب فلسطين في سنة (1948م).
من الأشياء العجيبة، فيقول: دخلت الجيوش العربية لتسليم الأراضي لليهود، وكان دور الأسلحة الفاسدة التي أرسلها الملك فاروق جداً مدمرة للنفسية العربية والإسلامية.
وكذلك قام الجيش العراقي بالدور الموكل إليه على الوجه الأكمل، وكلماته التي كان يرددها كلما استنجد به الشعب الفلسطيني: (ما كو أوامر) يعني: لا توجد أوامر، هذا ولا زالت ضربات اليهود تسري لهيباً في دماء أبناء فلسطين! أما الجيش الأردني فإن قائده في حرب فلسطين هو جلوب باشا الإنجليزي، فانظر إلى المهزلة، فحدث ولا حرج عن دور قائد الجيش الأردني في فلسطين الجنرال جلوب باشا، فقد جاء ليستلم مواقع المجاهدين من الإخوان القادمين من مصر، وقد كان القائد الأردني الذي يستلم موقع مار لياس اسمه عبد القادر يسير مع موشى ديان قائد الجيش الصهيوني ليسلمه الخنادق والمراكز الواحدة تلو الأخرى!! وذكر أيضاً من المآسي: أنه دخلت الجيوش العربية بعد جلاء الإنجليز في 15 مايو سنة 1948م يقودها الجنرال الإنجليزي جلوب باشا، وقد تسلم جلوب الراية التي تركها له الانتداب؛ ليواصل تسليم فلسطين لليهود، وقد عجز الانتداب في مدة ثلاثين عاماً أن يصنع ما صنعه جلوب، وقد حاول أن يهلك الجيش المصري المحاصر في الفالوجة، فعندما استنصحه قادة الجيش المصري وسألوه: ماذا نعمل في الحصار؟ نصحهم بأن يلقي الجيش المحاصر السلاح، وأن يلبسوا لباس النساء، ويخرجوا من بين اليهود.
فأدرك القادة الخدعة ورفضوا، فاستولى اليهود في عدة أشهر على خمسة أضعاف ما استولوا عليه خلال خمسين عاماً.
وأيضاً يحكي الدكتور عبد الله عزام عن أبناء قريته -لأنه فلسطيني رحمه الله- قرية مرج بن عامر عما رآه من المهازل في ذلك فيقول: رأيت أبناء قريتنا يعز عليهم أن تسلم أراضيهم بعد أن زرعوا بأيديهم الذرة في مرج بن عامر، فجاء اليهود وقطفوا الذرة، وحصدوا القمح، فنزلت مجموعة من الشبان لحصد القمح الذي زرعوه، فأمسكت بهم العصابات اليهودية، وبقرت بطونهم، وملأتها قمحاً وشعيراً، ثم نصبتهم على أعمدة من حديد؛ ليكونوا نكالاً لكل معتبر!! وكل هذا يثبت أن الإسلام ما واجه اليهود في فلسطين حتى الآن.
ويقول أيضاً: رأيت اليهود يصلون بيتنا في ليالٍ كثيرة، ويراهم الناس في دوريات استكشافية، فيراهم توفيق جارنا في حديقة بيته، فيخبر مركز الجيش في مدينة جنين، فيتهم بالخيانة، ويلقى رهن القيود في السجن، يكنس إسطبل خيل الخيالة من الجيش الأردني؛ لأنه بلغ أنه رأى اليهود يأتون إلى البيوت، ويقدم إلى محكمة عسكرية، ولا ينجيه فيها إلا الله، ثم نصيحة أحد ضباط المحكمة بأن يدعي أنه كان يحلم في الليل، فظن الأمر حقيقة!!!(57/4)
مآسي من مواجهات العرب لليهود عام (1967م)
أيضاً يحكي عن مآسي عام (1967م) فيقول: كنت أثناء احتلال 1967م في قريتنا، وسقطت الضفة الغربية، وسقط المسجد الأقصى دون أن يقتل حوله عشرة من الجيش الأردني، وسمعت برقية الرئيس عبد الناصر للملك حسين التي التقطتها الإذاعة الإسرائيلية وكانت تعيدها بين الفينة والأخرى أثناء المعركة يقول فيها: أسقطنا ثلثي طائرات العدو، طائراتنا فوق تل أبيب، شد حيلك يا جلالة الملك! التوقيع سلمي!! -وقوله: (سلمي) هذا هو الاسم الرمزي لـ عبد الناصر في الشفرة- وقارنت بين موقف اليهود الذين يحركهم الدافع الديني كما تقول ابنة ديان في كتابها (جندي من إسرائيل): إن فرائصنا كانت ترتجف، بسبب أنباء تجمع جيش العدو على الجبهة الجنوبية مصر، فجاء إلينا الحاخام فصلى، وقرأ نصوصاً من التوراة، فانقلب الخوف أمناً.
أما الجيش المصري فكانت الإذاعة توجهه يقاتل؛ لأجل الربيع، لأجل الحياة، لأجل عشاق الحياة!! وذلك بدلاً من أن يتلى عليهم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111].
وكانت أجهزة الإعلام تقول لهم: أم كلثوم معك في المعركة، وعبد الحليم معك في المعركة وشادية معك في المعركة! بدلاً من أن تقول: إن الله معك في المعركة! أما جريدة الجيش السوري فقد كتبت قبل شهر من المعركة بقلم إبراهيم خلاص: إن الله والرأسمالية والإمبريالية وكل القيم التي سادت المجتمع السابق أصبحت دمىً محنطة في متاحف التاريخ!!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.(57/5)
واقع المنظمات الفلسطينية العلمانية
يحكي عبد الله عزام عن واقع المنظمات الفلسطينية وموقفها من الإسلام، ويذكر أنه في الرابع من نيسان سنة (1970م) في الذكرى المأوية لميلاد لينين اتفقت جميع المنظمات الفلسطينية دون استثناء على أن تحتفل ولمدة أسبوع بهذه الذكرى المجيدة المشرفة، واشترك وزير الأوقاف الأردني آنذاك لترتيب الاحتفال والإسهام في إنجاحه!! ويقول الدكتور عبد الله عزام رحمه الله: وأذكر أنني طلبت لمحاكمة عسكرية؛ لأنني انتقدت جيفارا، فقلت للمثقف الثوري الذي يمثل الادعاء العام: من هو جيفارا؟ قال: مناضل شريف، فقلت له: ما هو دين منظمة فتح؟ فقال: فتح لا دين لها، فقلت له: أما أنا فديني الإسلام، وجئت لأجاهد في سبيل الله، فأما جيفارا فهو تحت قدمي هاتين.
وقال أيضاً الشيخ رحمه الله في سبب ذلك الخذلان: كانت المنظمات اليسارية تسب الله ورسوله عمداً أمامنا ليغيظونا، أي: أمام المسلمين الذين كانوا يقاتلون في سبيل الله، ومن أجل إعلاء كلمة الله، فكانوا يغيظونهم بسب الله ورسوله علناً أمامهم! وقد كانت بجانبنا جبهة ديمقراطية - نايف حواتمة - فكانت كلمة السر في الليل أثناء الحراسة: شتم الله أو النبي أو الدين!! قال: وكنا أحياناً نلتقي في تجمع فنقف لنؤذن -أي: يقف المتدينون منهم ليصلوا ويؤذنوا- فيصطفون مقابلنا، ويقفون في وجوهنا ويقولون وينشدون ويرددون: إن تسل عني فهذه قيمي أنا ماركسي لينني أممي(57/6)
اضطهاد الدعوات الإسلامية في مصر في عهد جمال عبد الناصر
ذكر عبد الله عزام الاضطهاد للدعوات الإسلامية في مصر، وحكى عن أحمد رائد في كتابه (الغمامة السوداء) وهو يبين انطلاق هؤلاء الذين يواجهون اليهود بالخطب الرنانة، لكن من غير منطلق إسلامي، وأن الإسلام كان غائباً عن هذا القتال، فيقول: فتح علينا السجان ذات يوم باب الزنزانة، فقلنا له: يا فندم! هذا شاب مات هذه الليلة من آثار التعذيب، فرد علينا قائلاً: يا أولاد الكلب! أين سنذهب بوجهنا من الرئيس، لم يمت إلا واحد فقط هذه الليلة!! يقول هكذا وبكل بساطة وتبجح، يقول: إنه يشعر بالخجل من الرئيس عبد الناصر؛ لأنه لم يمت تلك الليلة إلا واحد!!(57/7)
موقف بعض الخونة الفلسطينيين لقضية بلادهم
بعض الفلسطينيين خانوا قضية بلادهم، وانحرفوا عن الإسلام، فيحكي عزام أن اليهود أفرزوا محمود درويش الشاعر الفلسطيني المشهور وسميح القاسم وتوفيق زياد والأخيران أفرزهم اليهود في مجلس الكنيست الإسرائيلي، وكان محمود درويش وسميح القاسم يحملان العلم الإسرائيلي في مؤتمر صوفيا الدولي، وقال فهد سكرتير الحزب العراقي الشيوعي: مرحباً بإنشاء دولتين عربية ويهودية في فلسطين! واشترط أن تكون الدولة العربية اشتراكية، والتحالف لابد أن يكون ضد الرجعية الدينية العربية!! ويقول الشاعر محمود درويش: أنا من قرية عزلاء منسية وكل رجالها في الحقل والمعمل يحبون الشيوعية! وكان نشيد الثورة الذي يردده الأطفال الفلسطينيون لهذا الرجل يقول فيه: أنا يا أخي آمنت بالشعب المضيع والمكبل وحملت رشاشي لتحمل بعدها الأديان منجل والمنجل هو: رمز الشيوعية!(57/8)
انهيار اليهود أمام أطفال فلسطين وخوفهم من الجهاد الأفغاني
إن الشباب الفلسطيني الآن يردد أغاني اليهود: نحن شعب الله المختار.
ومن الأشياء التي تخذل اليهود وتجعلهم ينهارون تماماً أمام الأطفال الذين يحملون هذه الحجارة: أن الأطفال الصغار في فلسطين يقولون لليهودي المدجج بالأسلحة: لو أنت رجل أترك السلاح، وتعال واجهني بلا سلاح، فينهار اليهود من أجل هذه الكلمات!! ولا شك أن اليهود جزعوا جزعاً شديداً من الجهاد الأفغاني، حتى قال شختر مان -وهو يهودي أمريكي- عن الجهاد الأفغاني: ما الذي فعلناه؟! لقد أيقضنا العملاق.
وقد تأثر المسلمون في فلسطين بالجهاد الأفغاني، حتى إن الصبية الصغار كانوا ينادون في شوارع فلسطين: أخي يا سياف الروس منك تخاف أخي يا حكمت يار على العداء مثل النار يقول عزام: إن من المجاهدين الأفغان أنفسهم من كان يدعو الله قائلاً: اللهم افتح على أيدينا كابل، ولا تمتنا إلا في بيت المقدس.
يقول الدكتور رحمه الله: وإن كنت أنسى فلا أنسى موقف الأخ أحمد شاه -من قواد المجاهدين الأفغان- الذي عقد صفقة سلاح مع تاجر أسباني، وبعد أن تمت الصفقة طلب التاجر الأسباني من أحمد شاه أن يوقع على ورقة يتعهد فيها ألا يستعمل السلاح ضد اليهود، فرفض وألغى الصفقة، فقال التاجر: وهل تريدون استعمالها ضد اليهود؟ قال: لا، ولكنك تريدني أن أوقع على ورقة أتعهد فيها إيقاف حرب شنها رب العزة على اليهود منذ بضعة عشر قرناً! وألغى الصفقة، وعاد التاجر فقال: ما رأيت شعباً أعز منكم رغم فقركم! فهؤلاء هم الذين يواجهون اليهود، وبدل ما كان اليهود يصيحون في الشوارع ويقولون: يا لثارات خيبر، ويقولون أيضاً العبارات التي ذكرناها، الآن يجيب الشباب الفلسطيني في فلسطين: الله أكبر! خيبر خيبر يا يهود دين محمد سوف يعود عليه الصلاة والسلام.(57/9)
مواقف منظمة التحرير الفلسطينية من إسرائيل والنصارى والرافضة والشيوعيين
يحكي عزام عن موقف المنظمة الخائبة من هذه القضية فيقول: واعترفت المنظمة بدولة إسرائيل على مرأى من العالم كله، وقال أبو عمار: هل يرضيكم هذا؟ فقالت أمريكا: لا! وأبو عمار قابل راهباً كاثوليكياً فقال له: أسألك أن تعطيني البركات، فرد عليه الراهب: وهكذا الذي فعلته لكم! أي: أنه منحه البركات!! وقابل فيديل كاسترو فقال له: أنت زعيمنا ومرشدنا الأول! وهذه نفس العبارة التي قابل بها الخميني وقال له: أنت زعيمنا ومرشدنا الأول!! فهم يفتخرون بكل شيء إلا الإسلام، ويرفعون كل راية إلا راية الإسلام، ويقولون: سنقيم دولة علمانية، فكيف ينزل النصر على أمثال هؤلاء! بعد أن اعترف أبو عمار بدولة اليهود أمام العالم كله، قال: هل يرضيكم هذا؟ فردت عليه أمريكا وقالت: لا، بل لابد أن تقرأ الكلمات التي نكتبها لك، وكتبت له الكلمات، وأعاد قراءتها على شاشة التلفاز على مرأى ومسمع من الدنيا كلها، ومع هذا كله لا زالت إسرائيل رافضة أن تجتمع بالمنظمة، واعترفت بها حتى الآن أكثر من مائة دولة.(57/10)
بعض الصور المشرفة للمجاهدين المسلمين
من الناحية الأخرى نرى الصور المشرفة للمجاهدين المسلمين؛ فحينما طلب ريجن في عهد ولايته بنفسه أن يقابل حكمت يار رفض، فأرسل له رسالة مع ابنته مورين ريجن، فرفض أن يقابلها، ودعي من الكونجرس، ورفض مقابلة الكونجرس.
وقابل يونس خالد ريجن، فماذا فعل لما قابله؟ لم يركع له، وإنما عرض عليه الإسلام، ورفض خالد مقابلة كوردوفير فيد مندوب الأمم المتحدة أكثر من مرة.
وأعلن مجددي أننا لن نقابل روسيا، وعندما طالب فورنتسوف وكيل الخارجية الروسية مقابلة رباني اشترط عليه شروطاً حتى تتم المقابلة: أولاً: أن تكون المقابلة في أرض إسلامية كالسعودية أو باكستان.
ثانياً: ألا تتضمن المباحثات شكل الحكومة القادمة؛ حتى لا يضغطوا عليهم.
ثالثاً: أن يدخل الوفد الروسي إلى القاعة قبل الوفد الجهادي؛ حتى يقوم الروس للمجاهدين، يعني: يدخل الروس أولاً، وبعد ذلك يدخل المجاهدون، والروس يقفون لهم إذا دخلوا عليهم.
رابعاً: ألا يصافح المجاهدون الروس.
فقبل الشروط كلها، وطلب فورنتسوف من رباني أثناء المباحثات أن يدخلوا ثلاثة وزراء مسلمين من حكومة نجيب في دولتهم؛ ريثما يتم خروج القوات الروسية؛ حتى يحفظوا ماء وجوههم أمام العالم، فقال المجاهدون: إن الإسلام لا يعطي حق الحياة للشيوعي (من بدل دينه فاقتلوه)، فكيف يعطى حق الحكم للشيوعي؟! وهكذا يختم الشيخ كلامه في هذه القضية.(57/11)
مؤامرات اليهود لهدم المسجد الأقصى
لليهود مؤامرات لهدم المسجد الأقصى، وقد نشرت جريدة التايمز الأمريكية في عدد قريب هذه الصورة وقالت: حان الوقت لإعادة بناء الهيكل، وذكرت النموذج الجديد الذي حددوه للصورة التي سوف تتم عليها إعادة بناء الهيكل مكان المسجد الأقصى بعد هدمه! واعتداءات اليهود على المسجد الأقصى كثيرة جداً ومتكررة، وأهمها عملية الحفريات، بزعم أنهم يعملون حفريات من أجل الطرق ومن أجل الكباري، حتى أنهم عملوا نفقاً تحت المسجد الأقصى؛ لكي يجيء واحد منهم ويضع عبوة ناسفة في هذا الكبري، ويقولون: هو مجنون، مثلما قالوا ويقولون على الذين يقتلون الفلسطينيين، وكما قالوا في الذي أحرق المسجد الأقصى، فإنهم قالوا: هو مجنون! فعمليات البحث والحفريات بعد حرب يونيو مستمرة، وقد هدم اليهود حي المغاربة نهائياً؛ حتى تكون الأرض جاهزة لأي عمليات حفر وتنقيب، ووصل عمق الحفريات إلى أربعة عشر متراً.
وبعد ذلك استمرت عمليات الهدم في الأحياء الإسلامية مع إجلاء سكانها العرب، وفي هذه المرحلة حدث حريق المسجد الأقصى سنة (1969م)، وأقيمت في تلك الآونة المعاهد والمدارس الدينية والاستراحات والفنادق وغيرها فوق أنقاض الأبنية العربية، وجرت الحفريات على امتداد ثمانين متراً حول السور مارة حول الأبنية الإسلامية هناك.
ومن عام (1970م) إلى عام (1972م) بدأ شق الأنفاق تحت أسوار المسجد الأقصى، من جانبيها الجنوبي والغربي؛ حتى نفذت إلى الأرضية الداخلية تحت ساحة المسجد، وشملت هذه المرحلة الاستيلاء على أبنية إسلامية كثيرة منها: المحكمة الشرعية التي تم هدمها.
وفي سنة (1973م) اقتربت الحفريات من الجدار الغربي للمسجد الأقصى، وتغلغلت مسافات طويلة تحته، ووصلت أعماق الحفريات وقتها إلى أكثر من ثلاثة عشر متراً.
وفي سنة (1974م) توسعت الحفريات تحت الجدار الغربي، وفي سنة (1975 - 1976م) توسعت الحفريات أيضاً تحت الجدار الغربي، وأزال اليهود أثناءها مقبرة للمسلمين تضم قبري الصحابيين: عبادة بن الصامت وشداد بن أوس رضي الله عنهما.
وفي سنة (1977م) وصلت الحفريات إلى تحت مسجد النساء داخل المسجد الأقصى، وهدم ما عليها بعمق تسعة أمتار.
وفي سنة (1979م) بدأت حفريات جديدة قرب حائط البراق، وتم شق نفق واسع طويل، وتقرر الاستمرار فيه حتى يخترق المسجد الشريف من غربه إلى شرقه، وقد تم تدعيم هذا النفق بالأسمنت المسلح، وأقيم كنيس يهودي صغير، افتتحه رسمياً رئيس الدولة اليهودية، ورئيس وزرائه، واتخذ معبداً مؤقتاً.
وفي سنة (1986م) استشرت الحفريات من كل جانب، وتم إجلاء أعداد كبيرة من السكان من القدس القديمة، وأغلقت السلطات الإسرائيلية مستشفىً فلسطينياً داخل البلدة القديمة، واغتصبت بيوت عربية كثيرة، وسكن شارون في أرض منها، تأكيداً على تهويد القدس.
وازداد التوغل بعد ذلك تحت أرضية الساحة وحولها، وتوغل اليهود في هذه الحفريات؛ لتفريغها من التربة.(57/12)
سبب تركز اعتداءات اليهود على المسجد الأقصى في شهر أغسطس
بعد أن دخل اليهود القدس مباشرة سنة (1967م) في سبعة وعشرين يونيو، عقد في القدس مؤتمر لحاخامات اليهود في العالم ناقشوا فيه موضوع القدس والهيكل، وطالب الحاضرون بالإسراع في عملية إعادة الهيكل الثالث.
وشهر أغسطس تتكررت فيه اعتداءات اليهود؛ لأن شهر أغسطس هو الشهر الذي دمر فيه سيزر الهيكل الثاني، وهذه ذكرى حزينة عندهم، فدائماً في شهر أغسطس يتعمدون أن يفعلوا هذه الأشياء، ففي 15 من أغسطس سنة (1967م) دخل الحاخام الأكبر لإسرائيل ولجيشها شلومو غورين مرتدياً الزي العسكري إلى ساحة المسجد الأقصى يرافقه عشرون من ضباط الجيش، وهرع داخل الساحات ملوحاً برشاش كان معه، ومجرياً القياسات هنا وهناك، ثم اصطف معه ضباط الجيش لتأدية الشعائر اليهودية.
وفي 31 من أغسطس سنة (1967م) استولى جيش اليهود على مفتاح باب المغاربة؛ لتيسير الدخول إلى حائط المبكى كلما أرادوا، وكان ذلك برعاية من الحاخام الأكبر لجيش الدفاع الإسرائيلي.
وفي 21 من أغسطس سنة (1969م) أقدم شخص استرالي نصراني يدعى دينيس سمايكل على إشعال النار في المسجد الأقصى، وأتت النيران المتصاعدة على أساس المسجد وجدرانه ومنبره العظيم الذي كان الأيوبيون قد أعدوه لإلقاء خطبة الجمعة من فوقه بعد تحرير بيت المقدس من الصليبيين.
وأخلي سبيل هذا الدنس المسمى دينيس بعد محاكمة صورية أعلن فيها أنه نفذ ما حدث كمبعوث لله، وبموجب نبوءة في سفر زكريا، ونصت حيثيات الحكم بعدم تحمله للمسئولية الجنائية؛ لأنه مجنون!! وأيضاً حاول بعض اليهود في سنة (1971م) أن يقيموا الشعائر اليهودية في المسجد الأقصى.
وفي 30 من يناير سنة (1967م) أقرت المحاكم الإسرائيلية حق اليهود في الصلاة في ساحات المسجد الأقصى في أي وقت يشاءون من النهار، وكان اليهود يقتحمون المسجد ويرددون فيه الأناشيد اليهودية.
وجرت محاولة في سنة (1980م) لنسف المسجد الأقصى.
وأيضاً في شهر أغسطس سنة (1981م) تجمع ثلاثمائة من جماعة جوش لنيين عند المسجد الأقصى، وكسروا قفل باب الحديد، وأدوا الشعائر اليهودية بشكل استفزازي للمسلمين.
وأيضاً في 25 من أغسطس (1981م) أعلنت الهيئات اليهودية الدينية عن اكتشاف نفق يبدأ بحائط البراق، ويؤدي إلى فناء المسجد الأقصى، وأعلنوا أن ذلك له علاقة بالهيكل الثاني، وبدءوا بعمليات حفر هددت جدران المسجد بالانهيار.
وفي 2 من مارس سنة (1982م) اقتحم خمسة عشر شخصاً من جماعة أمناء جبل الهيكل أحد الأبواب الخارجية للمسجد الأقصى، وكانوا مزودين بالأسلحة النارية، واعتدوا على حراس المسجد في الداخل، واشتبكوا معهم، وأصيب أحد الحراس، وفي اليوم التالي قام المسلمون بإضراب شامل إلى آخره.
ونفس الشيء تكرر في 11 إبريل سنة (1982م)، حيث اقتحم جندي إسرائيلي المسجد الأقصى برشاشه، وأطلق النار على حارس الباب وأصابه، ثم هرع إلى مسجد الصخرة وهو يطلق النار بغزارة بشكل عشوائي، فأصاب عدداً من المصلين وقتل أحد حراس مسجد الصخرة، وشارك بعض الجنود الإسرائيليين المتمركزين على أسطح المنازل المجاورة في إطلاق الرصاص تجاه مسجد الصخرة، فأخذ المؤذنون يناشدون الأهالي المسلمين عبر مكبرات الصوت بالتوجه فوراً إلى ساحات المسجد للدفاع عنهم، فتدافع المسلمون نحو المسجد، فأطلق الجنود اليهود عليهم النار، فأصابوا ما يقرب من مائة شخص! ولما احتج الشيخ سعد العلمي مفتي القدس عن الحادث، كان جواب بيجن أن قال: على المسجد الإسلامي أن يعلم أن عهد المفتي أمين الحسيني قد مضى إلى غير رجعة! وعلى أي الأحوال الأحداث كلها متكررة ومتشابهة، ولو تأملناها لوجدنا أن أغلبها يقع في شهر أغسطس بسبب هذه الذكرى.(57/13)
المسلمون هم الذين سيحررون القدس من اليهود
أخيراً: نختم الكلام بالإشارة إلى أنه لن يعيد فلسطين ولن يحرر القدس من أيدي أعداء الله اليهود إلا المسلمون الذين يتمسكون بدينهم، ويجاهدون في سبيله.
وقد التقى بعض أبناء فلسطين بالشيخ محمد أمين الحسني رحمه الله فقالوا له: متى نعود إلى فلسطين؟ فقال للفلسطينيين: عودوا إلى الله تعودوا إلى فلسطين! فسخر السفهاء منهم من جواب المفتي، وراحوا يتساءلون: ما علاقة العودة إلى الله بالعودة إلى فلسطين؟ وهل أخرجنا من ديارنا وأوطاننا إلا الله؟ والعياذ بالله! ودفعهم كرههم لما يدعو إليه الشيخ الحسيني أن انخرط كثير منهم في الأحزاب القومية واليسارية، وبعدما مرت المحنة بكل هذه السنون ثبت فشل هذه الطرق، وصحت هذه الكلمة التي قالها ذلك المفتي رحمه الله: عودوا إلى الله تعودوا إلى فلسطين.
ونختم الكلام بموقف لوالدة خالد الحسن أحد قادة منظمة التحرير: كانت تؤكد منذ بداية تأسيس فتح أن فلسطين لن يفتحها إلا المجاهدون المسلمون الذين يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا.
وقد ذكر أحد أبنائها القصة التالية: كان زوجها أحد المجاهدين الأشداء في ثورة الشيخ عز الدين القسام، وكانت زوجته تشاركه في آماله وآلامه، وتؤدي دورها المطلوب في معركة المصير.
ففرحت المرأة عندما سمعت أبناءها يتحدثون عن تأسيس فتح، وكانت تذكرهم بجهاد أبيهم، فتطلب منهم أن يرتسموا خطاه.
واجتمع قادة فتح يوماً في بيت خالد، واستمر اجتماعهم طوال الليل، وكانت الأم ترصد حركات المجتمعين وأفعالهم، وكان الأبناء يستغربون من أمهم التصاقها بباب الحجرة التي تضم قادة الفتح، وبعد أن انفض الاجتماع دخلت عليهم وقالت لهم: شتان شتان بين اجتماعكم واجتماعات أبيكم وأصحابه؛ كانوا يقومون الليل صلاة وذكراً، وأنتم ما سمعت منكم إلا العبث والكلام الفارغ، وليست فيكم مواصفات الذين سيحررون فلسطين من العدو المغتصب.
فهذه الكلمة مع بساطتها من هذه المرأة التي قد تكون أمية تدل على أنها أدركت هذه الحقيقة، حقيقية أن النصر لا يكون إلا بعد أن نغير أنفسنا كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
فليس النصر من واشنطن أو بكين أو موسكو، إنما النصر من الله عز وجل، فلابد من الأخذ بأسباب النصر، قال عز وجل: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21].(57/14)
قضية فلسطين قضية عقدية
فاتتني نقطة أود أن أنبه عليها، وهذه النقطة هي في البحث الذي ذكرناه عن رسالة الدكتوراه لـ حسن صبري الخولي، والذي ذكر فيها: أنه اعتماداً على التوراة التي هي كتاب مقدس -كما يزعم؛ لأنها محرفة- فلليهود حق في فلسطين، لكن العرب يشتركون معهم أيضاً في هذا الحق، باعتبار أن الوعد في التوراة لكل ذرية إبراهيم عليه السلام، سواء كانوا من إسحاق أو من إسماعيل عليهما السلام.
وهذا كلام فيه مغالطة خطيرة جداً لابد من الالتفات إليها، فاليهود أنفسهم أحياناً في بعض المحافل الدولية في الأمم المتحدة أو غيرها يأتون بنصوص من القرآن حتى يثبتوا حقهم في فلسطين.
ومن أجل ذلك نقول: إن المنطلق الذي ينبغي أن تعالج منه هذه القضية هو منطلق العقيدة، فإن قيل: ما علاقة هذا بالعقيدة؟ فأقول: علاقة هذا بالعقيدة أن اليهود الآن يريدون أن يستعيدوا القدس في زعمهم ويعيدوا بناء هيكل سليمان.
فإن قيل: متى بدأ التواجد الإسلامي في مدينة القدس؟ هل بدأ التواجد الإسلامي بفتح عمر بن الخطاب لهذه المدينة؟ ف
الجواب
كلا! بل التواجد الإسلامي في فلسطين بدأ منذ أن تواجد فيها أنبيا الله الذين كانوا دعاة للإسلام، وأنبياء للإسلام، فمن أولى بسليمان عليه السلام: هل اليهود الذين يزعمون أنهم يعيدون بناء هيكله للمرة الثالثة أم المسلمون؟ فسليمان عليه السلام كان مسلماً، كما قال الله عز وجل عنه: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44].
فهي قضية أساساً لابد أن تكون من منطلق عقائدي؛ لأننا نؤمن أنه لا حق في الدنيا إلا الإسلام، وأي دين آخر فهو دين باطل أو دين منسوخ.
فجيوش المسلمين وجدت في فلسطين منذ عهد داود، ومنذ عهد سيلمان، ومنذ عهد موسى عليه السلام، وهكذا جميع أنبياء الله نحن أولى بهم، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، فانطلاقاً من هذا الاعتقاد يكون اعتقاد تتطور المسلمين في قضية فلسطين: أن المسلمين هم أحق بهذه الأرض؛ لأنها أرض الأنبياء، وأن المسجد الذي هو مقام الآن في بيت المقدس الذي يعبد فيه الله وحده لا شريك له، هو يقوم مقام المعابد التي كان يعبد فيها الله أيضاً على شريعة الأنبياء السابقين، الذين كانوا جميعاً يقولون: لا إله إلا الله، وكانوا يصدق بعضهم بعضاً، فموسى بشر بمحمد عليه الصلاة والسلام، وعيسى بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلابد أن يكون هذا هو المنطلق: أن جميع الأنبياء أخوة، دينهم واحد، وشرائعهم شتى.
فلا بد من النظر للقضية من هذا المنطلق، وليس على أنها قضية وثائق تاريخية تثبت حقاً لليهود، ومحال على اليهود أن ينتزعوا من القرآن نصوصاً تثبت لهم حقاً في فلسطين.
فالحق في فلسطين للمسلم الذي هو على دين سليمان وعلى دين موسى وعلى دين عيسى وعلى دين محمد عليهم جميعاً صلاة الله وسلامه.
ولكن لا ينظر للأمر ولا يقيسه بهذا المقياس إلا أصحاب العقيدة الصحيحة.(57/15)
خوف اليهود من الجهاد الإسلامي وذكر بعض تصريحاتهم حول ذلك
يخاف اليهود وأعداء الإسلام عموماً من أي صبغة إسلامية للجهاد ضد اليهود، وتكثر تصريحاتهم جداً في هذا الأمر، تقول صحيفة يدعوت أحرنوت في سنة (1948م): إن على وسائل إعلامنا ألا تنسى حقيقة هامة هي جزء من استراتيجية إسرائيل في حربها مع العرب، وهي أننا نجحنا في إبعاد الإسلام بعيداً عن المعركة إلى الأبد، ويجب منع استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل، ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا لاستعمال العنف والبطش لإخماد أي بادرة ليقظة الروح الإسلامية في المنطقة المحيطة بنا.
وهذه المقالة مناسبتها: أن اليهود لما اقتحموا لبنان واحتلوها حصل نوع من الاستبشار الشديد جداً والحفاوة بين نصارى لبنان واليهود الذين خرجوا من فلسطين، فعملت مقابلة تلفزيونية مع سعد حداد؛ لأنهم أبرزوا معالم الفرح التي عمت قرى النصارى بسبب احتلال اليهود للبنان.
وقالوا: إن هذا التصرف الطائش الذي فعله التلفزيون وأظهر على الشاشة فرحة النصارى بقدوم اليهود في لبنان، تسبب في ردة فعل عنيفة بين المسلمين في لبنان وغيرها، وحرك فيهم الروح الإسلامية؛ لأن الروح الإسلامية تنظر من هذا المنظار، وهو أن هذه أرض الله، وهذه أرض أنبياء الله، وهيكل سليمان لماذا يبنى من جديد وقد نسخت شريعة سليمان؟ والدعوة التي كان يدعو بها سليمان وداود وموسى وجميع أنبياء بني إسرائيل هي دعوة محمد عليه الصلاة والسلام، وهي امتداد لها، فهذا هو الحق، ولا ينظر بهذا المنظار إلا صاحب العقيدة، الذي هو واثق أنه إما أن يعيش في سبيل العقيدة وينصرها، وإما أن يموت فتكون له الجنة.
فهم يخافون جداً من استيقاظ الروح الإسلامية، ولذلك تستمر الصحيفة وتقول: لقد وقع تلفزيوننا في خطأ كاد ينسف كل خططنا؛ لأنه تسبب في إيقاظ الروح الإسلامية، ونخشى أن تستغل الجماعات الإسلامية هذه الفرصة لتحريك المشاعر ضدنا، وإذا فشلنا في إقناع أصدقائنا بتوجيه ضربة إليها في الوقت المناسب فإن على إسرائيل أن تواجه عدواً حقيقياً لا وهمياً، حرصنا أن يبقى بعيداً عن المعركة.
إذاً: حتى اليهود يعرفون تماماً أن العدو الحقيقي الذي سوف يتصدى لهم هم هؤلاء المسلمون الذين يعتقدون أن الواحد منهم إذا قتل يهودياً أو قتله يهودي دخل الجنة، وهكذا يصرح اليهود أيضاً.
ويقول أيضاً برجن دروستن، في مقال نشرته (صنداي تيليجراف) في سنة (1978م) يقول: إن أكبر خطر يرتكبه الغربيون هو عدم تفكيرهم بضرورة التدخل العسكري المباشر في المنطقة في حالة عجز الأنظمة الصوتية عن كبح جماح المتطرفين المسلمين؛ لأن خطرهم لا يقارن بأي خطر آخر مهما كان.
وجريدة القبس الكويتية نقلت عن وكالات الأنباء أنها قالت: إن ديان قال في خطاب له أمام يهود أمريكا: إن على أمريكا والغرب أخذ العبرة من أحداث إيران التي يمكن أن تهب بشكل مفاجئ في غيرها كتركيا وأفغانستان، وأكد أن عدوه الأول هو الإخوان المسلمون، وأنه في الوقت الذي تشعر فيه إسرائيل أن العرب في فلسطين بدءوا يتمسكون بالاتجاهات الإسلامية المتعصبة فستقذف بهم بعيداً؛ لينظموا لإخوانهم اللاجئين: أي: أنه يهدد الفلسطينيين في فلسطين، أنهم إذا تعاطفوا مع الحركة الإسلامية فسنقذف بهم بعيداً حتى ينظموا إلى طابور اللاجئين في البلاد العربية.
وأيضاً قالت صحيفة (كمشلر الفيجلر) التي تصدر في ألمانيا الغربية: على الغرب إذا أراد المحافظة على مصالحه في الشرق الأوسط أن يبدي مرونة في تفهم مقاصد الاتجاهات الإسلامية.
وبعدما قتل السادات قال أحد القادة في صحيفة الـ (جروزاليم بوست): إن ظهور حركة اليقظة الإسلامية بهذا الصورة المفاجئة المذهلة قد أظهرت بوضوح أن جميع البعثات الدبلوماسية، وقبل هؤلاء جميعاً وكالات الاستخبارات الأمريكية كانت تغط في سبات عميق.
وأيضاً: في مقابلة مع صحيفة (ها آرتس)، في 12 من فبراير سنة (1979م) قال مسئول يهودي: إن الذي يثير قلقنا هو أن مواقف العرب داخل إسرائيل بدأت تتحول من مواقف مبنية على قاعدة قومية إلى مواقف تستند إلى قواعد دينية.
فلماذا يستكثرون علينا أن نغار على ديننا وأن نحامي عن ديننا، ودولتهم دولة دينية يهودية مبنية على دين باطل ومنسوخ ومحرف؟! فهم يحرصون تماماً على إبعاد الإسلام؛ لأن هذا هو العدو الحقيقي الذين يعرفون أنه سوف يهزمهم، وسوف يبيدهم.
ثم قال المسئول اليهودي: إن خطراً حقيقياً بدأ يهدد الاستقرار في الشرق الأوسط، وقسماً كبيراً من إفريقيا، هذا الخطر هو خطر انتشار ثورة إسلامية شاملة، يقوم بها متدينون متطرفون.
وقال شارون - السفاح المعروف - في ندوة في جامعة تل أبيب سنة (1976م): ما من قوة في العالم تضاهي قوة الإسلام من حيث قدرته على اجتذاب الجماهير، فهو يشكل القاعدة الوحيدة للحركة الوطنية الإسلامية.
وقال يوشواح بوراك: إن المساجد هي دائماً منبع دعوة الجماهير العربية إلى التمرد على الوجود اليهودي.
وأيضاً: يقول مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض بريجنسكي: إن الولايات المتحدة بحاجة إلى دراسة جديدة حول الحركات الإسلامية المتشددة؛ ليسهل على الإدارة الأمريكية وأصدقائها في المنطقة الإسلامية مراقبتها عن كثب؛ حتى لا تفاجئ باندلاع ثورة إسلامية جديدة في أي مكان في العالم الإسلامي؛ لأن أمريكا حريصة على عدم السماح للإسلام بأن يلعب دوراً مؤثراً في السياسة الدولية.
وأيضاً ذكرت صحيفة القبس الكويتية سنة (1979م) أن مجلس الأمن القومي الأمريكي طلب من هيئة المخابرات البريطانية تزويد الإدارة الأمريكية بكل ما يتوافر لديها من معلومات تتعلق بالحركة الإسلامية؛ للاستعانة بها في وضع الخطط الكثيرة للقضاء على خطرهم قبل فوات الأوان.
وأوردت وكالة الأنباء الفرنسية في نبأ لها من بيت المقدس في فبراير سنة (1979م) أن السلطات اليهودية قامت باعتقال اثني عشر عالماً من علماء المسلمين -ومعظمهم من الشباب- في بيت المقدس.
وجاء في جريدة اسمها (فورتشون) ما يلي: إن صحوة الإسلام الجديدة تزعج الإسرائيليين كثيراً؛ فإسرائيل تعرف تماماً أنه إذا فشلت محادثات السلام مع مصر فإنها سوف تكون هدفاً لحرب الجهاد المقدس التي ستشنها الصحوة الإسلامية المتزايدة.
ثم قالت: إنه حتى في الجامعات العبرية في إسرائيل بدأ الطلاب العرب المسلمون يطلقون لحاهم، ويؤدون العبادات الإسلامية، في حين بدأت الفتيات المسلمات في ارتداء الزي الإسلامي الشرعي.
فالعدو الحقيقي لم يواجهوه حتى الآن، وهم لا يخافون إلا هذا العدو، فكان لابد من التنبيه إلى أن المنطلق ينبغي أن يكون من العقيدة، أما أن واحداً يسعى وراء اليهود أو أمريكا حتى تعطيه قطعة أرض في قطاع غزة أو في الضفة، فهذا ليس صاحب قضية، بل هذا طالب ملك، وطالب دنيا، وحتى لو أقام دولة فسيقيم دولة علمانية! فهؤلاء أصحاب المنظمات يقولون: سوف نقيم دولة علمانية لا دين لها، وتراهم كما حكينا عنهم لا يعتزون بعقيدة الإسلام، بل ينتمون إلى كل الألوان ماعدا الإسلام.
فالقضية ليست قضية فلسطينيين، بل هي قضية مسلمين، فينبغي أن يكون المنطلق من خلال العقيدة، فعقيدتنا أن الإسلام هو دين الله، وهو الحق الوحيد في هذا الوجود، وما عداه فهو باطل، والأرض لله يورثها من يشاء.
فأرض فلسطين هي أرض الأنبياء، ونحن أولى بموسى وداود وسليمان وعيسى من اليهود والنصارى الذين يزعمون أنهم يحبونهم.
فهناك ارتباط وثيق جداً لقضية فلسطين بقضية العقيدة، واليهود يقولون: إن هيكل سليمان سوف يعاد، فلماذا يعاد؟ ولماذا يُهدم المسجد؟ هل لأننا مسلمون فقط وهم يهود؟! فنحن الآن نريد ألا يعبد في هذا المكان -المسجد الأقصى- إلا إله سليمان وإله داود وإله موسى وعيسى ومحمد عليهم جميعاً وعلى نبينا الصلاة والسلام.(57/16)
أهمية جهاد المسلم في سبيل الله عز وجل
أي جهد يقدمه الإنسان لتمكين الدعوة الإسلامية في أي بقعة من بقاع الأرض فهو يساهم في تقريب وقت التمثيل لهذا الدين، ففي أي موقع يكون الإنسان موجوداً فيه لابد أن يساهم، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)، فلابد لكل مسلم أن يحدث نفسه: أنه إذا مكن من الجهاد أن يجاهد في سبيل الله تبارك وتعالى، فعلى الأقل يحصل تحديث النفس به، ولكن نحن نثق تماماً أن السلام المزعوم مع اليهود لن يقع، بنص الحديث: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود)، إلى آخر الحديث المعروف.
فعلى الأقل نلم بأحوال إخواننا في فلسطين؛ لأن بعض الناس لا يتأثرون ولا يتحركون لما يقع في فلسطين من المجازر ضد المسلمين المستضعفين هناك من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فلا البلاد العربية تقوم بواجبها نحوهم أو تستقبلهم أو تؤيهم، ولا هم صابرون على الظلم والعسف الذي يلاقونه من أعداء الله اليهود، فعلى الأقل نكون على علم بهؤلاء، وندعو لهم، والإنسان يحدث نفسه أنه متى ما استطاع أن يشارك في جهادهم فسيفعل، وكل منا يعمل للتمكين للإسلام في أي موقع من الأرض حتى تقوم نواة لدولة إسلامية لتحرير فلسطين وأفغانستان وجميع بقاع العالم الإسلامي.
ولذلك يجهد أعداء الإسلام ألا تقوم أي بذرة أو أي نابتة لكيان إسلامي قوي يحمل هم هذه الدعوة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(57/17)
من هو عيسى عبده؟ [1]
إن الله سبحانه وتعالى إذا أراد هداية الإنسان شرح صدره للإسلام، وآتاه من البصيرة ما يجعله يرى نور الحق ساطعاًً، وإن طريق الهداية ميسر لمن أراد الحقيقة وصدق في طلبها، ومن هؤلاء الذين نوّر الله بصيرتهم الدكتور عبده والد الدكتور عيسى عبده، فقد كان نبوغ ولده عيسى ثمرة من ثمار هدايته إلى الصراط المستقيم، والدين القويم.(58/1)
مقدمة عن فضل من أسلم من أهل الكتاب
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: (كنت تحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال قولاً حسناً، فكان فيما قال: من أسلم من أهل الكتاب فله أجره مرتين، وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره، وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا) رواه الروياني وسنده حسن.
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، ويأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح والنسائي والإمام أحمد.
فالحديث الأول فيه فضيلة من أسلم من أهل الكتاب -أي: من اليهود والنصارى-، فمن أسلم منهم فله أجره مرتين؛ لإيمانه بنبيه -سواءٌ موسى أو عيسى عليهما السلام- ثم إيمانه بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلذلك يؤتى أجره مرتين، وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا، أي أنه بعد أن يصير مسلماً يستوي مع المسلمين في الحقوق والواجبات.
ومن أسلم من المشركين فله أجره، وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا، ويفضل الكتابي إذا أسلم على المشرك إذا أسلم، وفي حديث أنس المذكور آنفاً: (فإذا فعلوا ذلك فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين) والسياق فيمن أسلم وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا.
كذلك حدث أبو البختري أن جيشاً من جيوش المسلمين -وكان أميرهم سلمان الفارسي رضي الله عنه- حاصروا قصراً من قصور الفرس، فقالوا: يا أبا عبد الله - وهي كنية سلمان الفارسي! ألا تنهد إليهم؟ فقال: دعوني أدعوهم كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم.
فأتاهم سلمان فقال لهم: إنما أنا رجل منكم فارسي، وترون العرب يطيعونني.
أي: مع أني فارسي فليس لأحد فضل على أحد إلا بالتقوى، وأنتم تروني أميراً على هؤلاء العرب، ومع ذلك يطيعونني! قال سلمان: فإن أسلمتم فلكم مثل الذي لنا وعليكم مثل الذي علينا، وإن أبيتم إلا دينكم تركناكم عليه، واعطونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون إلى آخر الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وحسنه.
ففي هذا كله دليل على بطلان الحديث الشائع اليوم على ألسنة كثير من الناس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في أهل الذمة (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، وليس لهذا أصل في دين الإسلام أن يقال في أهل الذمة من اليهود والنصارى: (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، بل هذان الحديثان -حديث أبي أمامة وحديث أنس رضي الله تعالى عنه- يبطلان هذا الكلام؛ لأنهما صريحان في أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك فيمن أسلم من المشركين ومن أهل الكتاب، ومن أسلم من أهل الكتاب فله أجره مرتين، وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره، وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا.
وحديث أبي أمامة فيه فضيلة من أسلم من أهل الكتاب كما أشرنا آنفاً، والنصوص الشرعية واضحة بتفضيل أهل الكتاب على المشركين، وإنما كان ذلك لأن أهل الكتاب يؤمنون بوجود الله سبحانه وتعالى، ويؤمنون بمبدأ النبوة والرسالة مع ما طرأ على عقائدهم من الزيغ والتحريف والضلال المبين، ولذلك فقد حصل الكثير من المواقف العظيمة التي أسلم فيها كثير من الوجهاء والأكابر والعلماء والمقدمين عند أهل الكتاب، وكان لبعضهم قصص يمكن أن تدخل تحت طائلة القصص التي أشار الله سبحانه وتعالى إليها في قوله عز وجل: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120]، والقصص -كما قال بعض العلماء- جند من جنود الله.
ونحن إذا عودنا أنفسنا وأهلينا وأولادنا على أن نثبت إيمانهم ونزيده بالقصص النافعة، أو القصص الحق كما قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف:3] إذا ربطنا أنفسنا دائماً بأحسن القصص فإنها تعتبر عبرة للمعتبر وتثبيتاً للقلوب.(58/2)
قصة إسلام عبده إبراهيم
سنتعرف ونعتبر جميعاً بهذه القصة الطيبة من قصص الإيمان، قصة إسلام رجل من أهل الكتاب، والحقيقة أن فيها عبراً عظيمة جداً نحتاج إلى معرفتها لاستحضار نعمة الله سبحانه وتعالى علينا.
وهي قصة إسلام الدكتور عبده إبراهيم -والد الدكتور عيسى عبده -.(58/3)
نبذة مختصرة عن الدكتور عبده إبراهيم
نبدأ أولاً بالتعريف بوالد الدكتور عيسى عبده رحمه الله تعالى.
فهو الدكتور: عبده إبراهيم بن إبراهيم أفندي عبد الملك، من حي الظاهر في القاهرة، ولد عام (1883م).
وصل في دراسته إلى المرحلة الثانوية، وكان لهذه المرحلة الثانوية شأن عظيم في حياته، وقد أمضى المرحلة الثانوية من سنة (1896م) إلى سنة (1900م)، أي: أربع سنوات، وليس ثلاث سنوات كما هو المعتاد، ولهذا سبب سنذكره إن شاء الله، ثم درس الطب بالقصر العيني خمسة أعوام -وهذه أيضاً مرحلة مهمة جداً سنذكر تفاصيلها- من سنة (1900م) إلى (1905م)، والتحق بالوظيفة العامة سنة (1905م)، ثم تزوج في صيف (1906م)، ورزق بولده الأول، وهو: فضيلة الدكتور: عيسى عبده رحمه الله تعالى المتوفى في التاسع من يناير سنة (1980م) ودفن بالبقيع في المدينة المنورة، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، ثم رزق بابنه الثاني في يناير سنة (1909م)، وهو الدكتور: محمد عبده إبراهيم، أستاذ الهندسة بجامعات سويسرا، وله أبحاث عالمية في تحلية ماء البحر، ولكل من الابنين قصة عجيبة سنذكرها إن شاء الله.
كان أول عهد عبده بالوظيفة العامة في مصلحة السجون كطبيب سجن بين عامي (1905م) و (1910م)، وهذه المرحلة أيضاً لها قصة, وكان آخر عهده بالوظيفة العامة بوزارة الصحة أنه كان طبيب المركز بالسنبللوين في الدقهلية بين عامي (1910م) و (1914م)، ثم عمل طبيباً لمركز طبي في الشرقية من سنة (1914م) إلى (1918م)، ثم انتقل إلى رحمة الله -إن شاء الله- بالقاهرة في شهر يونيو سنة (1918م).(58/4)
كيف اهتدى الدكتور عبده إبراهيم إلى الإسلام
نبدأ ببداية طريقه والتزامه بالاسلام، وهذه بداية مهمة جداً، وتشير إلى فائدة وبركة معاشرة الكفار للمسلمين، فمن المعلوم والمقطوع به أن الكفار الذين يعاشرون المسلمين يكونون أقل شراً من الكفار الذين لم يعاشروا المسلمين، فبركة مجتمع التوحيد وأهل الإسلام -بلا شك- تتعدى إلى غيرهم بصورة أو بأخرى، خاصةً إذا تحلى المسلمون بحسن الخلق؛ فإنه يُرغِّب كثيراً من الناس في الدخول في الإسلام.
وكانت البداية في أواخر القرن التاسع عشر، حيث كان الخواجة إبراهيم أفندي عبد الملك يعيش في منزله بحي الظاهر في القاهرة، ومن حوله أسرة كبيرة العدد من الأقرباء والأصهار.
فقد كان التقليد المتبع في تلك الأيام هو أن تتجمع الأصول والفروع في مساكن متقاربة من بعضها، وقد تأصلت هذه العادة في القطر المصري وفي غيره من البلدان العربية المجاورة.
وكان مما يميز هذه الأحياء السكنية هو أن كل طائفة أو أسرة أو جماعة معينة لها خصيصة تجمعها، فمثلاً: كانت الحلمية الجديدة مسكن أمراء المماليك، ثم من قبلهم من الأسر العريقة، كالحسين، والسيدة زينب، وكذلك مساكن علماء الدين الإسلامي، وأما حي الظاهر فكان يسكنه أسر القبط القدماء في مصر، وكان الخواجه إبراهيم عبد الملك يسكن منزلاً متوسطاً برقم اثنين وسبعين في شارع الظاهر، وكان لقب الخواجه حينئذٍ يطلق على وجهاء الأقباط ورجال الأعمال.
ومن أولئك إبراهيم أفندي عبد الملك الذي احترف تجارة الجملة والوكالة بالعمولة، وكان قد اتخذ له مقراً تجارياً بحي الجمالية يقضي فيه يومه كله، فهو مشغول دائماً بأعماله الكثيرة لكسب رزقه ورزق أسرته الكبيرة العدد، وهو لا يستقر في داره إلا يوماً واحداً في الأسبوع، وهو يوم الأحد، وفي هذا اليوم من كل أسبوع كان أفراد الأسرة كلهم يجتمعون إلى مائدة الغداء بعد عودتهم من الكنيسة، حتى الذين يقيمون بالقاهرة بعيداً عن حي الظاهر من أفراد الأسرة كانوا حريصين على هذا الاجتماع العائلي الدوري كما يحرصون على أغلى ما يملكون.
وكان الخواجه إبراهيم عبد الملك قد رزق بأربعة أبناء من الذكور، وهم بحسب ترتيب أعمارهم: عبده -وهو أكبرهم -، ونسيم، وسهيم، وسليم، كما رزق عدداً آخر من البنات، اللاتي حرص على حسن تربيتهن كحرصه على تعليم أولاده الذكور وإلحاقهم بالمدارس وتوفير ما يلزم لكل منهم، حتى اشتهر بين أقربائه بأنه رب أسرة كادح ناجح.
وكان عبده -ابنه الأكبر- مجتهداً ذكياً لم يتخلف في دراسته سنة واحدة، حتى وصل إلى السنة الثالثة الثانوية التي صادفته فيها ظروف بالغة الخطر ترتب عليها أن تخلف للإعادة.
فكيف تخلف الطالب الذكي المجتهد عبده إبراهيم عبد الملك في امتحان البكلوريا -وهي الثانوية العامة- وهو الذي كان رمزاً للتفوق ومثالاً يحتذى بين أقرانه؟! ولماذا حدث ما حدث ولم يعهد عليه ضعف أو تراخٍ فضلاً عن الرسوب في الامتحان؟! إن الاجابة على هذين السؤالين تضعنا على أول الطريق إلى صلب الموضوع، ذلك أن بعض نظار المدارس الثانوية في أوخر القرن التاسع عشر الميلادي كانوا يستعملون أسلوب (الخلايا العلمية)، وهو أسلوب تربوي يقوم على أساس التآلف بين الطلاب، وذلك دون تحديد عدد معين، ودون أي محاولة للربط بين خلية وأخرى؛ إذ كان القصد من ذلك هو مجرد تشجيع الطلاب على التجمع في صحبة أو عُصبة أو مجموعة، ليكون نشاطهم العلمي والاجتماعي أجدى وأقوى من الناحية التربوية، وهذا أفضل مما لو ترك الطالب في سن المراهقة وأول النضج فريسة للوحدة في نزهته حبيساً في حجرة استذكاره لدراسته.
وهكذا اجتمع بقدر الله سبحانه وتعالى مجموعة أو خلية واحدة مكونة من ثلاثة أشخاص -وهم: محمد توفيق صدقي، وأحمد نجيب برادة، وعبده إبراهيم عبد الملك - تآلف أفرادها، وانسجموا ثلاثتهم، فانتظموا في عقد صداقتهم من أول الدراسة الثانوية، فما إن وصل ثلاثتهم إلى السنة الثالثة في الثانوية حتى باتت أواصر المودة بينهم قوية تشد بعضهم إلى بعض، حتى اشتهروا بين زملائهم بذلك، وعرفوا بما يحملونه لبعضهم من مشاعر الحب والإخلاص والاحترام.
وكان محمد توفيق صدقي أيسر حالاً من الجميع، وتقع داره في جنينة المتاخمة لجنينة ناميش بحي السيدة زينب، وكان للدار في المدخل من جهة اليسار منظرة التي تسمى المضيفة أو مجرة الضيافة-، وهي ومرافقها شبه منفصلة عن البيت، أما أحمد نجيب برادة فقد كان رقيق الحال، كفله عمه بعد وفاة أبيه، فلم يكن الصحب يغشون دار عمه هذا بالحلمية إلا نادراً، مع أن الدار كانت فسيحة على الطراز القديم، ولها صحن فيه بئر ودلو، لكنها في النهاية لم تكن دار برادة، ولكنها دار عمه الذي رعاه بديلاً عن أبيه، أما عبده فقد كانت داره -كما قلنا- بالظاهر بعيدة عن السيدة زينب وبعيدة عن الحلمية، خاصةً مع صعوبة المواصلات في ذلك العهد، فضلاً عن وقوع حجرة عبده الخاصة في الطابق الثالث مع الأسرة.
هكذا وجد الثلاثة أنفسهم متفقين بغير اتفاق على تفضيل منظرة صدقي للقاء بقصد الاستذكار وما يصحبه من صخب الشباب أحياناً، وقد زاد من تفضيل هذه المنظرة هو قربها من موقع المدارس الثانوية فضلاً عن قربها من المدارس العليا.
لكن الأمر لم يسلم، فبالرغم من ذلك كان الأصحاب الثلاثة يغشون دار العم برادة بالحلمية أحياناً مضطرين لسبب أو لآخر، وكان في صحن الدار -كما سبق- بئر ودلو، فكانوا إذا وجبت الصلاة وهم بدار العم برادة قام صدقي وبرادة فتوضأ كل منهما ثم صليا، وكان عبده من دونهما يرقبهما بعض الوقت وهما يصليان، وهذا هو الخيط الأول الذي أشرنا إليه من قبل.
وكما يقال: كل نسيج قماش له بداية، وكل قصة إسلام لابد من أن يكون في بدايتها خير أو بصيص من النور يظهر، ولذلك فإننا نركّز -دائماً- على الخيط الأول الذي يختلف من إنسان إلى آخر، لكن أعم وأغلب الناس يكون الخيط الأول لهدايتهم -كما ذكرنا- هو حسن الخلق معهم، امتثالاً لقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83].
كان عبده إذا خرج الاثنان إلى الصلاة يرقبهما بعض الوقت وهما يصليان، ويتشاغل عنهما بالنظر في أوراقه ما أتيح له ذلك، وبتكرار هذه المواقف من وقت لآخر خلال السنتين الأولى والثانية من الدراسة الثانوية نشأ في نفس عبده تساؤل عنيف عن سلوك صاحبيه، فقد رآهما كثيراً وهما يسعيان في اهتمام بالغ للتطهر حال سماعهما الأذان -بل ربما قبله استعداداً للصلاة- وهما يقفان في خشوع وخضوع مهيب أمام ربهم، ثم يركعان ويخران إلى الأرض ساجدين في هيئة تدل على تمام عبوديتهما لربهما، ثم إنهما يكرران ذلك بشكل إيماني رائع، حتى إذا جلسا للتشهد وفرغا من الصلاة وسلما عن يمين وشمال أقبل كل واحد منهما على أخيه يدعو له بقبول العبادة في محبة وود ورجاء، فكان عبده في كل مرة يسأل نفسه: ترى هل هما وفريق المسلمين على الحق أم على الباطل، فإذا كانوا على الحق فما حقيقة دينه إذاً؟ وإذا كانوا على الباطل فلماذا لا يصحح لهما عقيدتهما وكيف؟ مرت الأيام سراعاً، وبعضهم يخلص لبعض من غير أن يتعرضوا لمناقشة هذا الأمر، وهل ساور صديقيه نفس الخاطر الذي يساوره فمنعهما الحياء؟! فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يبدأ هو بالحديث معهما؟ وتشجع عبده فأفضى إليهما بقلقه من وجود اختلاف بينهم -كجماعة متحابة ومتماسكة- في أمر جوهري كهذا، خصوصاً وأن هذا الاختلاف لم يكن باختيار أحد منهم، وإنما وجدوه بينهم بحكم التوارث، فهو لا يفعل ما يفعلان لأنه جاء إلى هذه الدنيا من أبوين يدينان بالنصرانية، ولو أن أبويه كانا من أسرة مسلمة لما وجد هذا الخلاف، ثم إنهما لا يذهبان إلى الكنيسة في يوم الأحد، ولا يفكران في شيء من ذلك؛ لأنهما ولدا في أسرتين مسلمتين، ولو كانا قد ولدا في محيط نصراني لما وجد هذا الخلاف! قال عبده فيما يرويه صديقه برادة -وكان قد عاش طويلاً بعد وفاة صاحبيه-: ليس هذا مما ينبغي أن يكون عليه الشأن بين إخوة جمعهم رباط العلم، وملأ قلوبهم كل هذه المشاعر من الحب والصفاء، وإنه لمن الإخلال بواجب المودة الخالصة من الشوائب أن تستمر الحال هكذا علناً بيننا في هذا الأمر الهام، فلابد من أن يكون صديقي مخدوعين، أو أن أكون أنا جاهلاً بما يؤمنان به.
نهض عبده من مجلسه، وتقدم قريباً من البئر، وتبعه صاحباه ينظران في شأنه، فقال: أرياني كيف تفعلان، وأعيناني كما تتعاونان في رفع الماء من البئر وصبه على أطرافكما، وهل لذلك قواعد وأصول عندكم؟ فأجاباه إلى ما طلب وهما يعجبان مما فعل، وأجرى عبده الماء على يديه ووجهه وذراعيه ورأسه وقدميه في تجربة بدائية لم يكن يستهدف منها إلا الوقوف على شيء غامض في داخله، وربما وجد إجابة للسؤال الذي يحيره منذ حين، وهو: ما حكمة صب الماء على أطراف الجسم مع التكرار؟! لاحظ عبده بعد عملية الوضوء أن أول الآثار التي أصابته من جراء صب الماء على أطرافه أنه أحس بنوع لذيذ من الانتعاش واليقظة والانتباه ملأه ابتهاجاً وثقة بالنفس، فعاد يسأل: هل سبب ذلك الانتعاش وتلك الثقة هو ما أراه بعيني الآن من نظافة يدي ومنافذ وجهي، وطهارة رجلاي وطيب رائحتهما؟ إنه يرى في الأمر سراً لا يزال خافياً عليه، لكن ما صنعه ليس مجرد عبث صغير كما كان يراه من قبل، وإنه ليرى من وراء هذا الصنيع بعض المعاني الكبيرة التي لا يحجبه عنها إلا جهله بهذا الدين الإسلامي، فطلب منهما أن يحدثاه عن حكمة الوضوء وأركانه وسننه ونواقضه، وعن حكمة القيام والقعود والسجود وتكرارها، ولم يكن صاحباه في هذا السن على قدر واسع من ال(58/5)
إعلان الدكتور عبده لإسلامه بين أسرته وأقاربه
يقول أحمد نجيب برادة: لم يكن الإسلام بعيداً عن صاحبنا وزميلنا عبده منذ بدأ دراسة الأديان قدر اجتهاده في آخر عهده بالثانوية العامة وأول عهده بدراسة الطب، ولكن دراسته للتشريح نحواً من عشرين شهراً نقلته من حال إلى حال، فقد تملكه خوف من لقاء الله وهو في تردده وجهالته بحقيقة التوحيد والبعث والثواب والعقاب.
وكان عبده يتعامل مع الجثث، ويبقى مع الميت أحياناً، ثم اجتمع إلى صاحبيه وقال بأنه آمن بالذي هما والمسلمون عليه، وبأنه سيبدأ باتخاذ ما هو مستقر من اجراءات التوثيق، وشهر إسلامه.
فزع صاحباه من هذه العجلة، وقالا له: استمع إلينا -أيها الصديق- جيداً: أنت تعلم حبنا ووفاءنا لك، وأننا سنخلص لك النصيحة حتماً، وأنت الآن بينك وبين التخرج ومدة الامتياز عامان ونصف العام، وهذا الأمر إن أنت أقدمت عليه متعجلاً ستكون له آثار خطيرة وشديدة على والديك وإخوتك وأهلك، وأقل ما سيلحقونه بك من ضرر هو ضربك وطردك من الدار ومحاربتك، وأنت بكل ذلك ستعرض مستقبلك للدمار، وهذا الدين القويم الذي رغبت فيه يأمر بالحكمة والتعقل، فالرأي عندنا أن تتمهل، وأن تستخفي بدينك حتى تتخرج وتكون لك وظيفة تكسب من ورائها رزقك.
ثم إنك في حاجة إلى مزيد من الدراسة، والله يعلم منك صدق نيتك فيما تدعيه، فأنت عند الله -إن شاء الله- من المقبولين ما دامت قد صحت نيتك، فلا تتعجل التوثيق وإشهار دينك الجديد حتى تكون العلانية مأمونة لك.
فما كان منه إلا أن رضخ لهذه النصيحة، لكنه وجد تعلقه بالدين الجديد يشتد ويقوى لحظة بعد لحظة، ويوماً بعد يوم، ولم يعد يطيق كتمان مثل هذا النور الذي يشعشع في مسامه وينير عقله وقلبه، فصار يتصرف دون الرجوع إلى صاحبيه حتى لا يشيرا عليه بما يكره من صبر وكتمان، فعكف على القرآن يتلو آياته كلما وجد من وقته فسحة وفراغاً، وحرص على أن يكون في جيبه دائماً، وبدأ يؤدي من الصلوات ما تيسر له أداؤه في خفاء خارج البيت أحياناً، وفي حجرته إذا أمن على نفسه أحياناً أخرى، ومضى عامان إلا قليلاً وهو يتعجل الأيام لتمضي ويتحقق حلمه، وبدأت مدة الامتياز وهي أقل من عام، وحل شهر رمضان بروحانياته وبركاته، فاعتزم طبيب الامتياز أمراً، وما عاد بعد الآن يستشير فيما وضح له من الحق أحداً.
كانت هناك عادة في منزل والده إبراهيم عبد الملك أفندي الذي هو الخواجه كما كانوا يسمونه، وكان الموعد مقدساً عند الأسرة، وهو موعد الغداء يوم الأحد، وهو اليوم الوحيد الذي يتفرغ فيه الأب للاجتماع بجميع أولاده، فتخلف عبده عن حضور الغداء يوم الأحد؛ لأنه قد بدأ شهر رمضان على غير ما جرت به عادته وعادة الأسرة كلها، وسأل عنه أبوه ظهراً وعصراً ومساءً، ولكن عبده لم يحضر إلى داره إلا في ساعة متأخرة من الليل، فقيل له: إن الأسرة كلها قلقة لهذا التخلف، وإن الظنون ذهبت بهم كل مذهب.
وكان رده: إن الأعمال في قسم الاستقبال كانت كثيرة على غير المألوف أو المتوقع لها، وقد اعتذر عن الحضور للعمل زميلان له، فقضى اليوم كله في مواجهة الحالات العاجلة التي كان ينبغي لهما استقبالهما لو حضرا.
وجاء الأحد الذي يليه وتوقف الخواجه إبراهيم عن أن يذوق طعاماً أو شراباً حتى يصل ابنه الطبيب، وطال انتظاره له ساعات وساعات حتى غلبه النوم، فقام إلى فراشه مكتئباً وقد داخله هم لا يعرف من أين أتاه، أو هو يعرف ولكنه يداري نفسه هروباً من مواجهته، حتى فزع بآماله إلى الكذب، وعند منتصف الليل جاء الطبيب إلى الدار وعليه من آثار الاجهاد ما يظنه في نفسه شفيعاً، واتجه إلى حجرته بخطوات متعبة، وتبعته أمه وهي تقول له: أين كنت اليوم بطوله يا بني؟! إن أباك لم يذق طعاماً ولا شراباً اليوم؛ لأنه يكره أن يكون مكانك خالياً من غداء الأحد، وهذه هي المرة الثانية التي يتكرر فيها ذلك على التوالي، فهلا ترفقت بنفسك وبأبيك وبنا جميعاً فيما تقبله من واجبات بسبب تخلف زملائك عن نوبات عملهم، بل هلا رحمت أباك وترفقت به بعد أن تقدمت به السن؟ وترفق عبده بأمه وهو يجيبها إلى ما سألته، لكنها عادت تلح وتسأل وهو مرهق مجهد، فقال لها: يا أماه! وحشد لها من صنوف المعاذير ما يظنها اقتنعت به، وهما لا يزالان في حوار إذا بمساعده في المستشفى يطرق الباب ويطلب من الطبيب الحضور إلى المستشفى على عجل لوقوع حادث كبير تضاعفت بسببه الحالات، لذا تعين استدعاء كل الأطباء، ولكن عبده لم يكن قد مضى على حضوره لداره ساعة وبضع الساعة قضاها في حوار مرير مع أمه، ولم ينل قسطه المقرر من الراحة أو حتى بعضه، ولكنه طلب من أمه أن تعينه على استبدال ملابسه ليمضي فوراً مع مساعده الذي لا يزال واقفاً بالباب.
ثم انطلق الطبيب مع مساعده، ولفهما الليل ولف المكان سكون مبهم من ذلك النوع الذي ينبئ بقرب هبوب عاصفة قوية، وفي الليلة الثانية جاء من المستشفى من يستدعي الطبيب عبده؛ لأن الطبيب المناوب قد اعتذر فجأة، وبعدها تكرر الطلب في جوف الليل من جديد مرة بعد مرة، وتنوعت الأعذار حتى جاء يوم الأحد الثالث وأبوه يتابع ولا يتكلم، فقد غشيه من الهم غاشية لا قبل له بها، وعلى مائدة الغداء جلس ينتظر ولده ساعات، وبه من الهم والكرب والهواجس والشكوك ما يهد كيانه ويزلزل وجدانه، وتحامل الأب على نفسه وهو ينهض بعيداً عن المائدة فاختل -أي: كاد يسقط- لولا أن أعانه بنوه، وأمرهم بأن يجلسوه على مقعد مقابل لمدخل الدار، وبقيت عينه شاخصة لكل قادم، لكن ساعات طويلة مضت وهو على ما هو عليه، حتى قارب الليل أن ينتصف وغرقت الدار في سكون حزين مبهم.
وأقبل الطبيب الذي تخلف عن غداء الأحد ثلاث مرات متواليات فألفى أباه لا يزال جالساً لدى مدخل الدار، فتمالك نفسه وحياه، ولكنه لم يرد التحية، وبادره قائلاً: أين كنت طوال اليوم -وهو يوم الأحد-؟ قال الطبيب متلطفاً: بالمستشفى كعادتي يا أبي، وساد بينهما الصمت فترة حتى تمالك الرجل نفسه، وقال في هدوء مصطنع: إن أمرك يا بني لم يعد خافياً علي، خاصة بعدما تكرر غيابك كل يوم أحد، ولقد اجتمعت عندنا دلالات خطيرة عن سلوكك في العامين الأخيرين، وهي دلالات أيقظت في نفسي ظنوناً تكاد تقتلني حسرة على ما آل إليه أمرك، وما صرت عليه من حال، فهلا حدثتني بحقيقة الخبر وصدقتني القول؛ فإنني لأجد الحقيقة -مهما بلغ سوءها- أرحم بي مما أنا فيه.
قال الطبيب الشاب: إني محدثك بالصدق يا أبي، فما هي هذه الدلالات والظنون التي تشير إليها؟ قال الوالد: كتاب المسلمين، وجده الكواء في جيبك من نحو عامين، وقد كتمت الأمر ظناً مني أنك ستعود إلى صوابك ورشدك فتنتهي عما أنت فيه، وها هو الكتاب فانظر إليه جيداً، أليس هذا الكتاب يخصك؟ أجب أيها الضال؟ سكت الطبيب لحظة، ثم قال: بلى يا أبي، الكتاب يخصني فعلاً.
فثارت ثائرة الأب لجرأته، فعاد يقول: وأخوك سليم رآك من ثقب الباب وأنت تقوم وتقعد على غير هيئة الصلاة عندنا، ولقد حدّث أمه بما رأى فكذبته ونهرته، لكنها راقبتك بنفسها، وقد ثبت عندها صدق مقالة أخيك، فهل تفعل هذا حقاً حين تخلو إلى نفسك في حجرتك بداري؟ سكت الطبيب وقد بدا له أن الأمر جد ما بعده جد، وعاد الوالد يقول: لقد أصابني من ذلك ما لا قبل لبشر باحتماله، ولكني كنت أؤثر الصمت، وأنا أحمل ذلك كله في حبك للبحث والمعرفة -أي أن الأب كان يظن أن ما يفعله ولده هو مجرد حب المعرفة والاطلاع- حتى كان الأحد الذي مضى منذ ثلاثة أسابيع، ثم الذي بعده، ثم هذا اليوم الأسود حين اتصل غيابك عنا اليوم كله، وتكرر خروجك في الليل، لقد ظننت أن هذا التصرف الغريب من جانبك له صلة بهذا الشهر الذي يصومه المسلمون الآن، والمسمى بشهر رمضان، فهل أنت تفعل فعلهم فيه أيضاً أم هي المصادفات؟! وفوجئ طبيب الامتياز الغارق في البحث والتنقيب العلمي والتدريج التطبيقي العملي بهذا الموقف المفاجيء من أبيه، وما جره عليه اتخاذه القرارات بمعرفته منفرداً، وإصراره على ممارسة العبادات قبل أن يستقل بحياته كما نصحه صاحباه بعدم التعجل، لكنه رأى -وقد انكشف الأمر- أنه قد آن له هو الآخر أن يستريح، وأن يفرغ من حالة القلق التي يعيشها منذ عامين أو أكثر، وأن ينفض عن كاهله هذا العبء الذي أرهقه، فأقبل على والده مشفقاً عليه وعلى نفسه وهو يقول له: لقد وعدتك يا أبي أن أكون صادقاً، وأنت تعلم أني ما كنت لأخفي عليك أمراً مصيره إلى العلانية حتماً، وإنما أردت أن أؤخر حديثي إليك في هذا الشأن حتى تخف واجباتي بالمستشفى.
ثم سكت لحظة عاد بعدها يقول: ولكن ما دمت الآن تستعجل معرفة حقيقة الأمر.
فاعلم يا أبي -هداني الله وهداك- أني بالبحث الدقيق الواعي قد وجدت أن الدين الإسلامي هو الحق، وقد اقتنعت بما فيه، وأنه قد بعث نبي كريم بالقرآن كما بعث من قبله من الأنبياء بالكتب.
قاطعه الوالد مستفهماً: ودينك الذي عليه آباؤك وأجدادك كيف وجدته، وفي أي مراتب الضلال صنفته أيها المجنون العاق؟! لابد من أنك قد فقدت عقلك -أيضاً- حين فقدت دينك! قال الطبيب الشاب: أي ضير -يا أبي- يمس الأديان السابقة إذا جاء دين جديد يصحح ويتمم الذي جاءت به الرسل من قبل؟ وعاد أبوه يسأله: هل تعرف ما تتكلم عنه -أيها الشيطان- أم أن في الأمر سراً نجهله؟ أم لعلك على صلة بفتاة مسلمة اشترطت عليك عدم اقترانك بها إلا أن تدخل في دين الإسلام؟! إذا كان الأمر كما أقول يا بني فترفق بي، ولدينا من جميلات أسر النصارى ما يسرك، وكلهن طوع البنان، إن ما أحدثك فيه أمر سهل، وطلبك فيه مجاب، أما أن تدعي على صغر سنك أنك قد تعلمت ووازنت بين الأديان وهديت إلى الحق منها فهذا جهل فاضح بتعاليم دينك.
إن المسلمين -يا بني- لا يعرفون الأقانيم، ولا يؤمنون بأن عيسى هو الرب المخلّص أبانا يسوع الذي في السماء، وهم لا يعترفون -أيضاً- بالمسيح الحي، وهم وهم وهم، واستمر الوالد يعظ ابنه وهو يظن أنه يجهل حقائق دينه، وصابر الطبيب برهة حتى أتم والده حديثه، وتقدم منه خطوة وقد استجمع ما تفرق من نفس(58/6)
موقف النصارى من إسلام الدكتور عبده ومناظراته معهم
لقد حدث ما توقعه الجميع، فالغيورون من أهل عبده -سواءٌ منهم الأقربون والبعيدون- قد بحثوا عنه حتى وجدوه، وحقاً لم يرهقهم البحث؛ لأنهم يعلمون أنه لا ملجأ له إلا صديقيه، وخاصة منزل صدقي.
فتوافدوا عليه جماعات ووحداناً، وتكررت مناقشاتهم معه، وتواكبت ملاحقاتهم له في السكن والعمل، وأراد عبده أن يضع لهذه المناقشات والمضاربات نهاية حاسمة بدلاً مما هو فيه من المتاعب كل يوم وكل لحظة، خاصةً أن مستقبله يوشك أن يبدأ على وجه يرضيه، فقال لهم: ما حاجتكم مني وما هدفكم من مطارداتكم؟ قال أرشدهم-وهو خاله-: يا بني! إنك فرد مرموق في أسرتنا وفي جملة القبط كلهم خُلقاً وحسن سمعة، ثم إنك توشك أن تكون طبيباً، وهذا الذي فعلته خسارة لا نطيقها فضلاً عن أنه فضيحة وعار لأسرتك وللنصارى في مصر وغيرها من البلاد، فهلا استمعت إلينا؟ قال: إني مستمع إليك لعلي بذلك أصل معكم إلى حل يحفظ لي ولكم أوقاتنا ومصالحنا.
قال أرشدهم: إن أباك يدعوك إلى أن تسمع من رجال الدين كلمة الحق، وهم -لابد- أقدر منا على تبيان أوجه الضلال الذي أوقعك فيه خصوم ديننا.
قال الطبيب الشاب: ما أوقعني أحد في ضلال، فافهموا عني هذا، وإنما هداني رب العالمين.
قال قائل منهم: إن كنت مؤمناً بفعلتك هذه عن بينة وحجة فماذا عليك لو أنك واجهت علماءنا؟ قال: لكم ما تريدون.
فسألوه عن المهلة فقال: أي موعد تريدون؟ قالوا: ارجع معنا الآن إلى دارك وهناك نضرب مع أبيك الموعد ليكون برضاه وفي حضوره.
وبعد كثير من الترفق والمحاورة الطويلة انتهى الأمر إلى أنه عزم على الذهاب إلى بيت أبيه، وقبل أن يذهب إلى بيت أبيه توجه إلى الشيخ محمد رشيد رضا -وكان يختلف إلى مجلسه من وقت لآخر- وقص عليه جملة الخبر، فبين له الشيخ ما غاب عنه، وأيده بالأدلة من الكتب القديمة بوجه خاص، كـ (إظهار الحق) و (مقامع الصلبان) وشروح أهل الكتاب، وزوده بالأسئلة المضادة، وكيف يرد على شبهاتهم، وغير ذلك من القضايا التي فاتته في مناقشاته.
وذهب في الموعد إلى دار أبيه، وقد أنفق أبوه بسخاء لإنقاذ ولده الأكبر مما هو فيه، وليمنعه مما هو مقدم عليه، لكنه نفد صبره وهو يرى ابنه يأتي إلى المسكن ليلاً، فلما وصل إلى بيت أبيه بدأت الجلسة هادئة، والكل ينصت لما يدور من قرع الحجة بالحجة، والنصوص حاضرة تتلى من مراجعها على مسمع من الجميع، ولم يعد كبير مجال للتهوين من تصرف الطبيب الشاب على أنه رأي فرد ضال، كما لم يبق مجال للقول بأنه قد وقع تحت عامل الإغراء الذي ربما أحاطه رفاقه به، وأدرك الحاضرون أن الأمر في غاية الجد، فشددوا هجومهم، لكنهم وجدوا لكل سؤالٍ جواباً، ثم وجهت لهم منه أسئلة مضادة استشعروا وهم يجيبون عنها أن ألسنتهم كانت تلوك العبارات في غير وعي ولا تعقل.
وكانت المناقشة من أقوى المناظرات في نقض عقائد النصارى، وهي طويلة إلى حدٍ بعيد، وتعكس مدى تعمقه في تلك الفترة في دراسة العقائد النصرانية وأيضاً في دراسة الإسلام؛ لأنه تكلم -في الحقيقة- كلاماً مفصلاً جداً، وألجمهم، حتى إنهم ما استطاعوا أن يردوا عليه بكلمة واحدة! فدار الحديث عن التجسد، وعن الأقانيم الثلاثة، وموضوع البنوة، وجرأتهم على الأنبياء، ودعوى أبوّة الجسد لـ يوسف النجار، وموضوع الصلب وأصله الوثني، والقيامة، ثم الكلام عن الإسلام، وحقيقة الوحي، وحقيقة القرآن، وحيرة أهل الكتاب من إعجاز القرآن إلى غير ذلك من المسائل، وكان يسرد الكلام بأسانيد علمية في غاية القوة، فأنهوا الجلسة واتفقوا على أن يخرجوا بقرار أن الجلسة القادمة يحشدون له فيها فريقاً من أكبر علمائهم حتى يناظروه في جلسة تالية.
وقد بلغ من تأثير الطبيب عليهم أن باتت عندهم القضايا التي كانت يقيناً معلقة! فقد قالوا: هذه القضايا معلقة.
أي: لا نستطيع أن نرد عليك فيها.
واهتزت النصوص التي طالما حفظوها على شفاههم، وعادت أسئلتهم من عنده بغير معنى، وأيقنوا أن اللجنة قد عجزت، فماذا كان الجواب؟! أعلنوا في هذه الجلسة على الجميع أن عبده ابن الخواجه إبراهيم عبد الملك من أسرة كذا التابعة لكنيسة كذا قد حلّت عليه اللعنة الأبدية لهذه الكنيسة ما لم يرجع إلى رحمة أبينا يسوع المسيح مخلّصنا وراعينا، وأن الكنيسة -رحمةً به وحنواً على أبيه المسكين- قد منحته فرصة العودة إلى دين آبائه وأجداده بالحضور يوم الأحد في ذات المكان أمام عدد من الآباء لنصحه وهدايته.
ثم بدأوا يسألون أباهم وإلاههم يسوع المسيح أن يكتب له العودة إلى حضيرة رحمته، وأن لا يصير من الفرق الضالة مؤمنين على هذا الطلب بعد ذلك.
وكان بعض الحاضرين من النصارى متشوقين إلى استمرار الجلسة لشدة تعطشهم إلى سماع إجاباته، والاستفادة والاستزادة من علمه؛ لأنهم سمعوا لأول مرة فكراً جديداً ونقاشاً فريداً ودفاعاً عنيداً جعلهم في شوق إلى معرفة نتيجة محددة، خاصةً لمّا رأوا أن القساوسة قد عجزوا أمام هذا الفرد الذي تخلف عن السير في موكب آبائه وأجداده، فهاجوا وماجوا وتدافعوا وتصايحوا، لكن كبير الجلسة نصحهم بالهدوء حتى لا يشرد منهم هذا الخروف الضال! ووعدهم بأن يوم الأحد قريب، وأنه جمع للمباهلة فُحُول علماء أهل الكتاب والمفسرين وكبراء التبشيريين، فهدأت ثائرتهم، ولكن إلى حين! وجاء يوم الأحد الموعود، واحتشد الأهل والأقارب وكل من يهمه الأمر ليرى هزيمة هذا الطبيب الذي انخدع وصبأ عن دينه الحق إلى المسلمين، وهم يهددونه ويتوعدونه لئن لم ينته عما هو مقدم عليه ليمزقنه إرباً وليصيرنه عدماً، وأن هذه هي الفرصة الأخيرة له ليرجع إلى دين يسوع المسيح.
انبرى كبير القساوسة في الجلسة وهو يتطاول في كرسيه على الحاضرين بما حفظه ولقنه قديماً في الكنيسة في الكلم، فقال كلاماً شركياً نطهر أقلامنا وألسنتنا عن حكايته.
لكن الطبيب عبده ردّ عليه بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم إله واحد فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد، سلام على المهتدين، والحمد لله رب العالمين، فضّل المسلمين بالإيمان على جميع الأجناس، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، أُوحّد الله بموجبات توحيده، وأمجده سبحانه حق تمجيده، وأؤمن به وبملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، ولا أشرك بعبادته سبحانه أحداً، وأصلي وأسلم على من جاء بالهدى، خالص أصفيائه وخاتم رسله وأنبيائه، سيد ولد آدم، بعثه ربه في الأميين ليخرج البشر من الظلمات إلى النور، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
صلى الله عليه وسلم من نبي كريم على خلق عظيم، بعثه الله على فترة من الرسل موضحاً للسبل، داعياً إلى خير الملل: ملة إبراهيم: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130]، {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
فرد عليه أحد القساوسة بقوله: عجيب أمرك أيها الفتى الضال، وعجيب أمر أصحابك الذين أضلوك عن كتابك ولقنوك من الكلام ما قد سمعناه منك الآن حتى صرت أشد منهم حماساً لدينهم، وأحفظ منهم لآيات كتابهم، فأصبحنا نراك قد نسيت دينك ودين آبائك، وهو الدين الذي عليه نشأت وترعرعت، فربَّ عقلك، وأصلح فساد نفسك! فرد عليه عبده: واللهِ الفرد الصمدِ الواحدِ الأحدِ ما أضلني ولا أغواني منهم أحد، وإنما هداني إليه ربي، وساقني إليه فطرتي، واختاره لي صحيح عقلي، ودلني عليه عافية نفسي، فرأيت فيه ما لم أر في غيره من الشرائع والأديان من النور والهدى والحق والصدق، فتمسكت به ولزمته؛ لأني وجدت فيه تمام عقلي، وصلاح أمري، ومنطلق فكري، وشفاء روحي، وجواباً راجحاً لكل سؤالي، فليس هذا الدين كدينكم الذي يمجد الفقر، ويسوّغ الذل، ويورث العقل الخلل، ويحيل المرشد سفيهاً والمحسن مسيئاً؛ لأن من كان في أصل عقيدته التي نشأ عليها الإساءة إلى الخالق، والنيل منه بوصفه بغير صفاته الحسنى فأولى به أن يستحل الإساءة إلى المخلوق، فكيف أترك ما هداني الله إليه من الكمال والنعمة بعدما بدا لي من جهلكم وتحريفكم لدينكم؟! ولست مجادلكم إلا بالتي هي أحسن، فما في الإسلام حض على مخاصمتكم ومعاداتكم، بل هو أرحم عليكم وأحنى حتى من دينكم لكم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران:64].
فصاح أحدهم: بل نقرعك الحجة بالحجة، فإن كانت لنا الغلبة عدت إلى دين الخلاص، وإلا تركناك تتخبط فيما مسّك من جنون، فتكون من الخاسرين الذين تصيبهم لعنة الرب إلهنا يسوع! قال الطبيب الشاب: قد قبلت التحدي، ووالله إن ضلالاتكم قد سارت مسير الشمس، وبواطلها قد لاحت لعيون الجن والإنس، فوالله لا يخذلني الله أمامكم، وأنتم قوم غيّرتم فغيّر بكم، وأطعتم جهالاً من ملوككم فخلطوا عليكم في الأدعية، فقصدتم البشر بالتعظيم بما هو للخالق وحده، فكنتم في ذلك كمن مدح القلم ولم يمدح الكاتب، على حين أن حركة القلم لا تكون بغير الكاتب، وهأنذا على قصور سني وقلّة مطالعتي أقبل منازلتكم، فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
ودارت بينهم مناظرة لا نستطيع ذكر تفاصيلها؛ لأنها طويلة، وكانت في غاية الإمتاع، وهي من أقوى ما يمكن مدارسته في تحطيم النصرانية حجراً حجراً بحيث لا تقوم لها قائمة أبداً؛ لأنه ما ترك أي قضية إلا تكلم فيها بمنتهى القوة، وبالحجة الناصعة، مع أنهم في كل مرة كانوا يستعينون بقساوسة جدد، وهو يناظرهم بمفرده فيغلبهم! وبعدما أحرجهم جداً قال لهم: فماذا أقول لكم وقد ضللتم واهتديت، وكذبتم وصدقت، ودعوتم علي ودعوت لكم، وأهنتم محمداً صلى الله عليه وسلم وعظمتُ عيسى علي(58/7)
من هو عيسى عبده؟ [2]
لاشك أن من منّ الله عليه بالهداية وعرف الطريق المستقيم، فإنه سيعيش في سعادة عظيمة؛ لأن الإسلام إذا خالطت بشاشته القلوب أصبح الإنسان يسير في هذه الحياة على نور من ربه، فيرى الأشياء بعين البصيرة، ويحفظ الله له ذريته من بعد موته، ويوفقهم للهدى والصلاح، وفي القصة التي بين أيدينا مثال عظيم على ذلك.(59/1)
قصة زواج الدكتور عبده وما صاحبها من أحداث
نظر الطبيب الشاب فيمن حوله باحثاً عن مجتمع يعوضه عن أسرته التي لم تهتد فإذا النصارى يحيطونه بنظرات الحقد والمرارة، وإذا المسلمون يترقبونه في حيطة وحذر، فرغب في البعد عن الناس طلباً للهدوء ولمزيد من الاطلاع، فلم يجد خيراً من أن تكون خدمته الوظيفية في السجون حتى يبتعد عن الناس، فالمسلمون يشكون فيه وينظرون إليه بحذر، والنصارى يؤذونه.
فبدأ حياته الوظيفية سنة (1905م) طبيباً في بعض السجون بمديرية الجيزة، وتهيأ له -بعد ذلك- البعد عن مجتمعه السابق من جهة وقربه من القاهرة من جهة أخرى، فكان يقضي ساعات العمل بمكتبه في مستشفى السجن، وكانت له دار ملحقة بالمبنى ذاته، وحول هذه الدار حديقة صغيرة.
وعاش حياة طيبة بين وعظ السجن وبين السجناء، وكان يتعايش معهم، لكنه كان في وحشة شديدة في دخيلة نفسه، فأشار إلى زميله صدقي أنه يريد أن يستقر في دار وأسرة، فإن رزقه الله بزوجة صالحه فإن حديقة السجن ستكون في تقديره جنة نعيم.
ومن أجل إتمام هذا الأمر وكل أصحابه ليخطبوا له على أساس شروط معينة، فأخلفوا الشروط وظنوا أن الأمر سيمر، فأعلنوا الخطبة، وحدد موعد العقد والزفاف على أن يكون بعد أيام قليلة، فلما دخل الرجل لينظر إلى مخطوبته نفر منها جداً، وغضب وانصرف عنها، فكان هذا الأمر قاسياً على أسرة هذه الخطيبة، وبالتالي بدأت تنتشر الإشاعات الخطيرة جداً حوله كردّة فعل، ومعلوم ما في مجتمعاتنا من سهولة ثوران هذه الشائعات، فأشاعت أسرة الخطيبة أنها قد اكتشفت أن عبده كافر متلاعب! وهذه من العبر التي ينبغي تأملها، حيث يظهر لنا صدق الإيمان من رجل تحمل الأذى من جميع الأطراف، بما فيها المسلمون، حيث إن بعض المسلمين آذوه أذىً شديداً كما سيأتي.
وانتشر ما أشاعته هذه الأسرة من أن عبده كافر متلاعب، وأن له زوجة وأولاداً من دينه الأصلي، وقد اكتشفوا ذلك وغيره مما لا ينبغي ذكره كما يزعمون، ولذلك رفضوه وطردوه، وتناقلت الأسر فيما بينها هذه القصص والشائعات، وكل من يسمعها يحكيها بأسلوب جديد غريب بعد أن يضيف إليها ما ينسبه إلى نفسه من أنه رأى وعاين وتأكد وكان أول من اكتشف ذلك بذكائه! إلى غير ذلك مما يظن الرواة أنه يزيد القصة عجباً وإثارةً.
فاستفحلت المشكلة، وحصل لـ صدقي وعبده إساءة شديدة جداً لسمعتهما في الحي وفي المنطقة من الأهل والجيران، وتناهت الأخبار المشبوهة المزيفة إلى شيوخ الحي وأفاضل سكانهم، وكان من هؤلاء الشيوخ البارزين والرجال المعروفين الشيخ عبد الحميد مصطفى، وكان قد درس العلم في الأزهر الشريف حتى خيف على بصره من شدة طلب العلم، فتوقف عن الدراسة بأمر الأطباء، واشتغل بمقاولات المباني فلقي في عمله توفيقاً، وقد اشتهر في حياته الخاصة بين أهل الحي بكرمه وكرامته والصدق في معاملته، وحسن عشرته للناس، وقد وصلته الأخبار المشوهة والشائعات السيئة، فاعتبرها عبثاً من شباب غير مسئول، وعدّها استهانةً من صدقي وصاحبه بكرامة أسرة محافظة تعرضت سمعة فتاتها للقيل والقال، وقد حصل الضرر بسببهما على الأطراف كلها، وأنه يجب أن يحاسب هذا المتلاعب وصاحبه على ما اقترفاه في حق الفتاة وفي حق أسرتها.
فأراد الشيخ أن يأخذ موعداً معهما لحل هذه المشكلة، فكان كلما حاول مقابلتهما كانا يمعنان في الهرب من الشيخ، إلى أن تمكن الشيخ من مقابلة صدقي، فلم يبق له مفر من المواجهة والحساب، فأمسك الشيخ بيد الطبيب صدقي واقتاده إلى مكان معروف جلس فيه معه لتصفية الحساب.
ثم قال له: كيف سمحت لنفسك ولزوجك أن تفعلا ما فعلتما وأنت الآن طبيب مؤتمن على خصائص الناس، بل إنك ربما عرفت -بحكم تخصصك- من أسرار الناس ما لا يعرفه غيرك؟ فأي جناية هذه يا بني؟ وأي خطأ ارتكبته في حق أهلك وجيرانك من أجل صداقتك لهذا الكافر المارق؟! فما كان من صدقي إلا أن صبر على هذا حيث كان يحترم الشيخ لسنّه ولمكانته وصداقته لأسرته، ثم قال له: عفواً سيدي الشيخ، فهلا سمعت القصة كما وقعت فشهدت لي بالبراءة مما أثاروا حولي وحول زوجتي وحول صاحبي، وحسبي عقاباً لي على وساطتي ما وقع علي من ظلم في شائعاتهم.
قال الشيخ عبد الحميد: أجل أسمع منك، على أن لا تقول غير الحق، ولا تنطق بغير الصدق، وأنا أحذرك يا صدقي من محاولة خداعي، فلست بالخبّ ولا الخبّ يخدعني.
قال: بل أصدقك القول يا عم، وكل ما أرجوه منك أن توسع لي صدرك حتى أتم حديثي، فنحن لم نجرب منك إلا العدل.
وشرح له القصة بالتفصيل الشديد.
ثم قال له الشيخ: ما اسم صديقك؟ قال: اسمه عبده إبراهيم.
قال: وما كان اسمه قبل أن يعلن إسلامه؟ قال: عبده إبراهيم عبد الملك.
قال: أفلا يتخذ له اسماً جديداً يدل على فضل الله عليه أن هداه إلى الإسلام؟ حيث إن العادة أن النصراني إذا أسلم يغير اسمه، ويختار اسماً واضحاً في دين الإسلام، وهذه نظرة من نظرات عبده الخاصة، وهو سر سيتضح فيما بعد حيث إنه أصر على اسم عبده ولم يوافق على تغيير هذا الاسم.
قال صدقي: لقد نصحه بعض المحبين له -وأنا منهم- أن يتخذ له اسماً شاهداً على إسلامه، فاعتذر لنا بأن الإيمان الحق إنما يستقر في القلوب وتصدقه الأعمال، فهو لا يرى الإسلام أسماء ولا لافتات أو دعايات.
فقال له الشيخ: أريدك أن تأتيني بصديقك في الغد.
فلما أتاه به في موعد اللقاء حصل تعارف رائع أعقبته مقابلات كثيرة، وكان يدور الحوار بين الشيخ عبد الحميد وعبده إبراهيم في كل مرة، وتنوعت الأحاديث والمناقشات والأبحاث العلمية، وكان الشيخ عبد الحميد في كل مرة يكتشف فيه صفات جديدة من الصفات الطيبة.
فزاد التلطف من الشيخ والمحبة الوثيقة والمودة بينه وبينهما، إلى أن كان الشيخ يثني عليه ثناء عطراً أمام صديقه صدقي هذا، وقد لفت نظر صدقي أمر معين، وهو ما يحيطه الشيخ بصديقه من المودة والمحبة، فقال له: إني أراك قادراً على كسب ثقة الشيخ ومحبته كواحد من أولاده، ولئن كنت وصلت إلى هذا الحد من المودة والثقة فإني لأرى لمشكلتك الكبيرة أحسن الحلول.
فضاق عبده بهذه الإشارات البعيدة، وقال لصاحبه: ترى كم من الوقت أضعنا في تأملاتك وفي الفروض والاحتمالات التي تلمح إليها، فأرجوك أن تفصح عما تريد أن تقوله.
فقال: إن للشيخ ابنة في سن الزواج، وهي كالتي طلبت في شروطك، ولئن قدر الله لك أن تحافظ على مودته واحترامه لك على نحو ما أرى في لقاءاتنا الأخيرة فإنه لا يرفضك خاطباً فيما أظن.
فقال له: ما أراك إلا قد جننت! أي أمل هذا الذي يراودك؟! وعلى أي أساس يجوز لي أن أفاتح رجلاً فاضلاً كهذا في أمر المصاهرة له؟! فانتهى الأمر إلى أنه تقدم خاطباً، فوافق الشيخ، وبدأت في حياته وحياة الشيخ صعاب ما كان لها حساب عندهما.
حيث أشاع الناس بأن القسيس الذي سحر من أسرة كذا -هي أسرة المخطوبة الأولى- قد أوقع الشيخ عبد الحميد في حبائل سحره هذه المرة، فحصل منه على وعدٍ بالمصاهرة، وكان لرب الأسرة في هذا الوقت هيبة عالية، ولكن زوجة الشيخ ثارت عليه ثورة عارمة، فتركت له البيت وانطلقت إلى أهلها غاضبة، واجتمعت الأسرة بأصولها وفروعها، وألح الجميع على الشيخ أن يراجع نفسه فيما صدر عنه من وعد بالقبول، فبدأت الشائعات تسري من جديد، وتوافد الخاطبون ومعهم الشفعاء لإنقاذ الموقف بتعطيل هذه المصاهرة غير المتكافئة وضاق الشيخ ذرعاً، فعجل بعقد القران والزفاف جميعاً، فتم ذلك في ليلة أحاط بها الغموض والترقب، وساعد على حصول المناسبة أن عبده حضر منفرداً إلا من صاحبيه، ولم يحضر معه إلا صاحباه.
وكانت زوجة الشيخ -أم العروس- قد قاطعت العرس، وجاملها أهلها فلم يحضر منهم أحد، والشيخ حازم فيما قرره، ماضٍ فيما عزم عليه، واتهم الناس الشيخ في عقله، إذ كيف يسقط هذه السقطة وهو من هو في رجحان العقل ونور البصيرة؟! لكن الهدوء المشوب بالقلق ما لبث أن عاد للحي بعدما تبين أن الشيخ قد أنفذ وعده ووفى بعهده وزوج ابنته للطبيب الشاب عبده إبراهيم، بل إن الناس كادوا ينسون ما حدث بعد سفر الزوجين إلى مقر عمل الطبيب حيث مسكنهما، وكاد الناس أن ينسوا موضوع الزواج.(59/2)
مولد عيسى عبده وردود الأفعال حول تسميته بهذا الاسم
بعد سنة من زواج الطبيب عبده آن أوان الحمل -كما هو معروف- وعادت بنت الشيخ إلى بيت أمها لتقوم بخدمتها في وضع الولادة، فولدت المولود الأول، وما كاد اليوم الثاني ينتصف حتى حضر الطبيب الشاب، وأقبل على زوجته يهنئها بسلامتها، وقد جلب لها من الهدايا كل جميل، وأحضر لمولوده من اللعب والملابس كل نفيس رائع، ومضى ليسجل في سجلات الحكومة واقعة ميلاد ولده الأول، ثم ما لبث أن عاد وفي يده شهادة ميلاد ابنه عيسى، وأقبل على زوجته يرشدها -كونه طبيباً- إلى ما ينبغي عليها عمله من الاحتياطات، ثم استأذنها بعد أن اطمأن عليها وعلى ولده، وانطلق إلى عمله بسرعة، وجاء الشيخ ليطمئن على ابنته وولدها، فأخبرته بحضور عبده ثم انصرافه بعدما أثبت اسم الوليد بالسجلات، وسألها أبوها في فرحة: فماذا اختار لابنه من الأسماء؟ فأجابته ابنته دون وعي: عيسى.
لكنها رأت من أبيها أمراً عجباً، إذ ما لبث حين سمع الاسم أن ضرب كفاً بكف، وقد تغير لونه، وتقطب جبينه، وظهر الغضب الشديد عليه، وهو يقول: عيسى عيسى! واعجباً لهذا الرجل! أو لم يجد في كل الأسماء التي خلقها الله اسماً جديراً بهذا المخلوق إلا هذا الاسم؟! أستغفر الله العظيم، أستغفر الله العظيم، أستغفر الله العظيم.
وانصرف من عند ابنته وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وأحسّت ابنته أن امراً عظيماً قد حدث، كأن خطأً لا يمكن إصلاحه قد وقع، فما هكذا رأت أباها على طول ما عاشت معه ورأت منه، وباتت فريسة لأفكارها وهواجسها، أما الشيخ فقد اعتكف في داره أياماً لا يرى فيها أحداً.
وأما زوجته فقد كانت تغالب دموعها، فقد تحقق للجميع أخيراً ظنها بهذا الطبيب وألاعيبه، وكانت إذا همت بالدخول على ابنتها كفكفت دموعها حتى لا تفجع ابنتها بما أسلمها أبوها له من مصير، وما جناه عليها بعناده وغفلته وانخداعه بأساليب هذا الطبيب الذي سحره.
وفي اليوم السابع أضيئت الشموع ذراً للرماد في العيون، وتمويهاً على الأم البائسة التي ارتبطت بزوج قيل: إنه أسلم -بل وحسن إسلامه- فإذا به يعلن -في غير حياء ولا مواربة- أنه ما زال مخلصاً لماضيه ولدينه القديم! وإلا فبم يفسر اختياره اسم عيسى لولده؟! ولم يكد اليوم السابع ينقضي حتى غرقت أسرة الشيخ في موجة من الهم والحزن فوق الذي كان قد تجمع لها من قبل؛ حيث إن أقارب الطبيب عبده لما سمعوا أنه سمى ابنه عيسى أرسلوا وفداً ليهنئوه، وطمعوا بأنه سيعود إلى النصرانية، حيث إن تسميته لولده عيسى علامة على بقائه على دين النصرانية، فجاء أخوه بشير من حي الظاهر ليهنئ زوجة أخيه بمولودها الأول عيسى، ولم يكن بين أسرة الشيخ وأسرة الطبيب من قبل سابق ودّ ولا تعارف، فكانت لهذه التهنئة منهم معانٍ غير خافية عليه، لكن الشيخ تماسك وتصنع الثبات تصنعاً، حتى كان الغد، فخرج من الفجر ليلحق بالطبيب عبده في داره قبل أن يغادرها إلى العمل، فله معه شأن.
وحين فتح الطبيب باب داره للشيخ فوجئ به يغلق الباب في عنف خلفه وهو يمسك بتلابيبه ويقول له: ما هذا الذي فعلت بابنتي أيها الزنديق؟! والله لا أفلتك من يدي حتى أعلم حقيقتك، لقد سكتنا على التزامك اسمك رغم اعتناقك الإسلام، وكان يجب أن تغيره إلى ما يدل على إسلامك، ولقد أحسنا الظن بك وبما سقته من حجج كانت تبدو لنا صادقة يوم نطقت بها، أما وقد انكشف أمرك الآن بتسمية ولدك عيسى فاعلم أن اختيارك لولدك هذا الاسم له من المعاني ما لا يخفى على أحد، ولقد كنت أعالج نفسي بالتصبر حتى ألقاك، إلى أن جاءنا بشير من عند أبيك يحمل التهاني التي تنطوي على سخرية أبيك بعقولنا وشماتته لمصير ابنتي المسكينة التي جنيتُ عليها حين قبلتُ زواجك بها، فتكلم بالحق وإلا قتلتك شر قتلة.
ورأى الطبيب أن الشيخ يهدر غاضباً، والدماء تندفع من صدره إلى جبينه حمراء قانية، والشرر يتطاير من عينيه، ويشير إلى ما بداخله من غليان براكين الثورة.
فبقي بين يدي الشيخ هادئاً ساكناً حتى يسكن غضبه، لكن حالة الشيخ كانت تنذر بأنه قد أضمر أمراً خطيراً، وأنه قد يرتكب جرماً وحشياً تحت وطأة إحساسه بخيبة الرجاء، إذ كان يبدو عليه أنه استنفد من الجهد ما أضناه، وأنه سيتصرف مع الطبيب تصرف اليائس منه.
فناظره الطبيب قائلاً: يا عم! اقسم لك أن الأمر كما علمته من حسن إسلامي، ولقد أكرمتني بإحسانك إلي إذ ارتضيت مصاهرتي لك، فكيف تصورت في نفسك ما نطق به لسانك الآن؟! وهل تظن أن ما جرى لي بسبب إسلامي وملاحقة أهلي لي بالتهديد والويلات والأذى وطردهم لي من دار أبي وهجري لأهلي ولجوئي إلى الحق والهدى كان كله تمثيلاً وعبثاً؟! وهل قدمت لي منذ عرفتك إلا الخير والعون والحب؟! فكيف تظنني أسيء إليك أو أجني على ابنتك؟! وإذا كان ذلك مما كان يجوز لي وأنا على غير الحق فكيف أستجيزه لنفسي وقد عرفت الله ورسوله والقرآن؟! يا عم! إن كنت أردت بعدما قلته لك -والله على ما أقول شهيد- أن تبيدني فهأنذا بين يديك، ما تغيرت عن الإسلام ولا استبدلت، فأنت صهري وعمي وأبي وأهلي، وليس لي الآن من الناس بعد ولدي من هو أقرب إلي منك، ستجدني طوع أمرك فيما تظنه صواباً، وسأقبل حكمك أياً كان.
فهلا منحتني بعض ما قد يكون بقي عندك من صبر لعلي أحدثك بما عندي من حكمة اختيار اسم عيسى لولدي؟ وكانت لهجة الطبيب هادئة رغم ما صبّه عليه صهره من لوم وتقريع، ورغم شناعة الصورة التي رسمها صهره من فزع أحاط الأسرة، وأحداث جسام توشك أن تعصف بالجميع.
قال له: تكلم وقل ما عندك، ولا تخف عني شيئاً، ولتعلم أنك قد ألقيتني في الجحيم جزاء صنيع المعروف معك.
فابتسم الطبيب وهو يقول: كأنك لا تريدني -يا عم- أن أتكلم.
قال: بل هأنذا مصغٍ إليك واعٍ لما ستقول، والله وحده يعينني على ما أنا فيه.
قال الطبيب الناشئ: إن بيني وبين ربي عهداً لا يعلمه إلا هو، وإني أسير على الدرب لا أحيد، وما وجدت من ربي إلا الفضل يتلوه الفضل، وفي ظني -والعلم عند الله جل شأنه- أن هذا الحادث الذي أفزعكم حتى آذيتموني هو أكبر نعمة منّ بها الله علي بعد نعمة الإسلام.
فتمتم الشيخ في صوت حزين: تقول: أكبر نعمة؟! اللهم! إنك أنت السلام، ومنك السلام، اللهم! أفرغ علينا صبراً من عندك، فلا حول ولا قوة إلا بك.
عاد الطبيب يقول: نعم.
قد يكون هذا التتابع في الأحداث بشيراً لي بأن الله قد استجاب دعائي، فله الحمد في الأولى والآخرة.
ثم استطرد يقول: إنني حين تمسكت لنفسي بعد إسلامي باسمي الذي كان قد اختاره لي أبي -فهو كما تعلم- عبده - تعلق رجائي بأن يمتد بي الأجل حتى أكون كفؤاً لزوجة صالحة من بيت طيب، وأن أرزق منها مولوداً يكون أول أبنائي، وأن أدعوه عيسى، وها قد تحقق الرجاء بفضل من الله ونعمة.
فقاطعه الشيخ محتداً: وأي فضل تريدني أن أراه فيما ذكرت؟! فارتفع صوت الطبيب الشاب في نبرة من الغضب وقال: يا سيدي! صبراً، فما أتممت كلامي بعد.
واستطرد يقول: إلى هنا وأنت ترى أن الأمور التي وقعت لا تستوقف نظرك، ولا تثير فيك عجباً، أما أنا فقد رأيت هذه الأمور قبل أن تقع آمالاً ترتفع يداي في كل لحظة بسببها إلى السماء بالدعاء، آمالاً سهرت من أجلها الليالي الحالكة التي أحاطت بي لبضع سنوات مضت، وإن الله الذي أنعم علي بهذا كله لأكرم من أن يرد ما بقي لي من رجاء عنده.
قال الشيخ: وما هذا الرجاء؟ قال الطبيب: إنه -إن شئت- رجاء، وإنه -إن شئت- عهد وميثاق إذا نحن أمعنا النظر، فلقد كنت عاهدت ربي إن هو رزقني بصبي لأحرصن على تنشئته تنشئة صالحة، ولأدعون له بطول العمر، وبالتوفيق لما فيه رضاء الله، بأن يكون له في حياته -ومن بعد مماته- أحسن الذكر على ألسنة العباد.
وهذا ما وقع، فإن فضيلة الدكتور عيسى عبده رحمه الله كان من الناس العظماء في الاقتصاد الإسلامي كما هو معلوم، وكان من الناس الذين غذوا الصحوة ورووا جذورها في بدايتها.
فضاق الشيخ ذرعاً باستطراد هذا الطبيب الحدث في سرد أحلامه، فقاطعه قائلاً: وأي والد لا يرجو لولده مثل ما رجوت لولدك؟! وأية صلة بين هذا الرجاء وذلك الميثاق وبين اختيار اسم المسيح عيسى ابن مريم ليكون علماً على ولدك الذي تريد له الخير فيما تقول؟! قال: يا عم! إني لا أحصي ثناءً على ربي، ولا أقدر على حمده جزاء ما أنعم به علي، ولذلك جعلت من وجود هذا الولد شهادة تنبض بالحياة -ما بقيت له الحياة- بأن عيسى عبده يعني: عيسى ليس هو الله، وإنما عيسى عبده، فكلما ذُكر اسمه يقال: عيسى عبده، أي: ليس عيسى هو الله، لكنه عبد الله، وما هو بولده، ولا هو الإله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-، فكل ما ذكره الناس غائباً أو حاضراً، حياً أو ميتاً كان ذكرهم هذا شهادة مني بين يدي الله عز وجل بأن عيسى عبده! ولقد استجاب ربي لأول الدعاء، وها هو المخلوق الصغير حقيقة ماثلةً بين يدي، وشهادة مني بما آمنت به، وإن الذي أسبغ علي هذه النعمة الكبرى لقادر على أن يمد في أجله، وأن يهديه سواء السبيل حتى يكون أهلاً لحمل هذه الشهادة التي فرقت في حياتي الخاصة بين ضلال كنت فيه وهداية أرجو أن تزيد.
ثم قال: يا عم! لا ندري أيكون هذا الصبي صالحاً أم غير صالح؟ ولا ندري هل كتب له من طول العمر أم لا؟ ولكني أعلم من الله أنه ما خذلني ولا أسلمني لأمر لا أحبه منذ سَرَت في أطرافي قطرات الماء عند الوضوء أول مرة، وأنا بعد صبي لا أميز بين عقيدة وأخرى، وقد دعوت الله سبحانه وتعالى أن يرزقني ولداً ثانياً يكون اسمه محمداً حتى يحمل اسم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فذهب الغضب عن الشيخ، وتبدل القلق إلى رجاء واطمئنان، ثم قال له: يا عم! إذا فرغت من الشهادة التي أرجو أن تكون شفيعة لي عند الواحد الأحد -وهو يقصد بالشهادة عيسى عبده - وفيها توحيد العبادة لربي فهل هناك من اسم يذكر بعد شهادة أن لا إله إلا الله سوى(59/3)
موقف الطبيب عبده من لجوء والده إليه عند الشدة
في يوم من أيام سنة (1909م) والأسرة الصغيرة في حياتها الوادعة على مقربة من السجن، والوقت بعد الظهيرة، والحر قائض، والطبيب قد أنهى عمله وعاد إلى داره إذا بأحد مساعديه يصعد الدرج مسرعاً ويقترب منه، ويهمس في أذنه كلاماً هاماً، وبدا على وجه الطبيب أنه لا يصدق ما سمع، ورفع الطبيب صوته متسائلاً: وأين هو الآن؟ قال: إنه يقف بباب الدار.
ونزل الطبيب الشاب مسرعاً من فوره، وعاد ومعه ضيف من القاهرة، كان هذا الضيف هو الخواجه إبراهيم والد الطبيب، وقد وصل فجأة بعد قطيعة تامة ومتصلة، منذ كان ولده في مرحلة الامتياز بالقصر العيني، فدخلت الزوجة والمربية والطفلان إلى داخل الدار، وبقي الطبيب ووالده لا يجدان عندهما ما يقال بعد أن كانا قد تبادلا التحية والمجاملة في اقتضاب.
قال الطبيب: كيف أنت يا أبي؟ وكيف حال أمي وإخوتي؟ ولما هم الوالد بالجواب احتبست الألفاظ في صدره، واحتمل رأسه بين يديه لحظة، ثم انهارت بقية المقاومة التي كان يعانيها منذ وقت طويل مضى، فانفجر ينتحب كالثكلى، ولم يحاول ابنه أن يمنعه، بل تركه برهة وأخلى له المكان حتى يفرج عن نفسه وهمومه، وأقبل عليه حينما عاوده الهدوء وقال: ماذا بك يا أبي؟ وكيف أمي وإخوتي؟ قال: إنهم بخير نحمد الرب، ولكن أباك هو الذي على حافة الهاوية! قال: هون عليك، وأشركني فيما يئودك حمله لعلي أكون في عونك.
قال: لهذا جئت إليك، ولا أخفي عنك أنني ما سعيت إليك إلا بعد أن انسدت الدنيا كلها في وجهي، وكادت الفضيحة أن تحطم حياتي.
ثم سكت لحظة عاد بعدها يقول -وقد تهدج صوته من جديد-: يا عبده! إن البيت الذي ولدت فيه ونشأت حتى أتممت معظم دراسة الطب هذا البيت الذي يأوينا ويتسع لأسرتنا كلها سيباع في غدٍ بأبخس الأثمان أمام دائرة البيوع بالمحكمة وفاءً لدين استحق للبنك، وكان الدين صغيراً، ولكن الفوائد ومصاريف التقاضي ضاعفته، وأختك -يا عبده - ابنتي الكبرى سيكون زفافها بعد أسبوع واحد، ولا أعلم كيف أواري فضيحتي المالية وطردي من بيتي عن أصهاري الذين يحسنون بي الظن، ومن أجل ذلك جاءوا للمصاهرة! وأي مصير سيواجه شقيقاتك الأخريات إذا ما خاب زواج الأولى بسبب إعلان إفلاسي؟! فأظلمت الدنيا في وجهي.
وخانته قواه فعاد يبكي وينتحب في مرارة شديدة.
وسأله ابنه: كم تبلغ القيمة؟ قال: ثمانمائة جنيه والبيت -كما تعلم- يساوي أضعاف هذه القيمة، ولكن جلسات البيع يسودها جو من المناورات والاحتكار البشع، وإن موظفي البنك أنفسهم يحيطون مثل هذه البيوع بإجراءات جهنمية، تكفل لهم توجيه البيوع على هواهم.
قال الطبيب: إن هذا لعجيب! أوليست المحاكم تقوم من أجل الحق والعدل؟! فبكى الوالد ثم نظر وقال: بني! إنك تعيش في برجك العاجي بعيداً عما يدور في الأسواق من ظلم وفساد، إن الدَّين الصغير -يا بني- يكفي للإطاحة بثروة كبيرة، خاصة إذا وصل الأمر إلى دائرة البيوع، ومن حول الجلسة زبانية يتسمعون الأخبار ويتعارفون على كل وافد للمزاد.
قال الطبيب: لماذا لا ندفع جانباً من الدين ثم نتدبر في أمر الباقي؟ فكأنه شعر أنه لا يريد أن يمد له يد المساعدة فقال: يا بني! يا عبده! قلت لك: إن هذا كله قد فات أوانه، وإني أواجه حكماً بنزع الملكية وفاءً لدين مقداره كذا.
وظل يشكو له ما حدث بالتفصيل، وكيف أنه الآن على الهاوية، ثم قال: عفواً يا بني، لقد أفسدت عليك وقت الراحة، والجو شديد الحرارة، ولكن العذر واضح لك، ولي معك كلمة أخيرة أقوله وأنا واثق من أن جميع إخوتك يؤيدونها راضين بها، وأنت يا عبده أولى من الغريب، فتعال معي في جلسة البيوع لتشتري أنت البيت قبل جلسة المزاد لقاء دفع قيمة الحكم كاملة، فلا يضع الغريب يده على دارنا ويسيء إلى أبيك وسائر أفراد أسرتك.
ثم قال له والده: ما قصدت شيئاً من ذلك أبداً.
وإنما أقول: أنت أولى من الغريب، ثم إنك لن تلقي بأهلك إلى الطريق العام إن قصروا في دفع الإيجار، ثم إن لك أسرة خاصة الآن، ولأولادك حق على مالك، وهذا ما قصدته حين قلت لك: أنت أولى من الغريب، فلا تزدني ألماً، وحسبي ما أنا فيه.
قال الطبيب: لا عليك، اصبر يا والدي، وائذن لي بتركك برهة صغيرة.
ودخل إلى حجرته الخاصة، ثم عاد يحمل كيساً في يده، ودفعه إلى أبيه وقال: هذه ثمانمائة جنيه ذهباً هي لك يا أبي، فتصرف فيها كيف تشاء.
فدهش الوالد من هذا التحول من الجدال إلى الفعل الناجز، وسأل في تكرار: والدار متى تحضر لاتخاذ اجراءات نقل ملكيتها إليك؟ قال: لا حاجة لي بها، بل تبقى داراً لك أنت، فأنت والد الجميع، ومن مركزك في الظاهر وفي الجمالية تستمد الأسرة كلها تقدير الناس، وإني ليسرني أن تبقى محل ثقة الناس واحترامهم.
وضع الوالد كيس المال بجواره على الأريكة، وأطرق وهو يقلب عصاه بين يديه، ثم قال في صوت خافت تتجاوب فيه أصداء من الشعور بالخجل والصغار: ماذا صنعت بك وأنا قادر عليك؟! وماذا صنعت معي وأنت قادر علي؟! وتساقط الدمع من عينيه في صمت ذليل حتى رق له قلب ولده فبكى لبكائه، وانصرف الخواجه إبراهيم، ونجا من ضائقة كادت تعصف به، وعاد الطبيب إلى داره بعد فترة قصيرة قضاها في وداع أبيه إلى أن تحرك القطار.(59/4)
موقف الزوجة من تصرفات عبده مع والده
كان الطبيب منهكاً وهو يعود إلى بيته، وفي الطريق كان يمني نفسه بساعة من النوم العميق، ولكنه أخطأ الحساب وأسرف في الأمل، فما إن دخل داره التي تركها من برهة قصيرة وغادرها وهي هادئة ساكنة حتى صارت مسرحاً لأحداث غريبة تجري سراعاً، فهاهو يرى سيده -المربية- عاكفة على صرة ضخمة من لوازم الدار، وملابس الصغار والكبار، تنسق شيئاً من فوق أشياء، وإلى جوارها صرة أخرى فرغت من شد وثاقها، والصغيران قد وضعا في ثياب الزينة والزيارات، وزوجته تذهب وتجيء في ركن من الدار إلى درج يؤدي للسطح.
وكانت الخادمة تأخذ الصرر وتضع فيها المتاع.
فظل الطبيب يراقب الحركة في صمت كأنما صام عن الكلام، ولا أحد منهم يتكلم، إلى أن وصل الأمر إلى النهاية، ورفعت الزوجة ابنها الصغير على ذراعها الأيسر وأسندته إلى كتفها، وأمسكت بيد الولد الأكبر، وحملت المربية صرة بعد أخرى -ولم تكن حقائب السفر انتشرت في ذلك الوقت- واستعد الركب للرحيل، وتقدمت الزوجة نحو الباب وهي ثابتة على صمتها، وفي عينيها أثر واضح لدمع تغالبه، وجاءت المربية من خلف سيدتها، والطبيب الذي أجهده عمله طول اليوم ومن بعده لقاؤه المثير بأبيه ساكن في ضيق وصبر، فإن الوقت لم يكن مناسباً لإعلان الغضب.
فتقدم إلى مدخل الدار، واعترض سبيل زوجته وهي توشك أن تنصرف، فتوقف وقال: إلى أين؟ ولا جواب! والصغير على كتفها، والمربية تحمل الصرات، والزوج لا يتحول عن مدخل الدار ولا يسمح لزوجته بالخروج، وهذه حال لا يطول الصبر عليها، فسقطت الأحمال التي على رأس سيده المربية إلى أرض الصالة.
وتقدمت الزوجة من زوجها قائلةً: ابتعد ولا تعترض طريقي! قال: حتى أعرف إلى أين؟ قالت: كنت واهمةً كما أنت واهم الآن تماماً.
قال: كيف؟ قالت: إنما بيننا قد انتهى.
قال: وما الأسباب؟! قالت: ما من سبب ولا غضب، يكفي أن تعلم أنك مجنون، وأنا لا أعاشر المجانين.
ولم يكن الطبيب قد سمع من زوجته الوديعة المهذبة كلاماً كهذا في أشد الأيام التي مرت بهما، وبدا له أنها في حالة من الثورة النفسية التي لا يؤمل معها نقاش ولا حوار، ولذلك لجأ إلى الحكمة وخلى بينها وبين مدخل الدار، وقبع في زاوية من الأريكة يراقب التطورات، فانفجرت براكين الغضب الكامن في أعماق الزوجة، وأغراها سكون الطبيب فسألته في حدّة: أعرّفك لماذا أنت مجنون؟ إنك تصبح وتمسي ولا تذكر إلا الموت، ولا حديث لك إلا عنه وأنه قريب من الآدمي، وكلما خلوت بي أوصيتني بولديك خيراً إذا سبقت المنية إليك، فكيف -يا ترى- تحقق وصيتك فيهم إن كنت تتلف المال بهذه الطريقة؟ أما علمت أن هذا المال هو حصاد تدبيري طوال سنوات انقضت من عمرك في الوظيفة والمهنة جميعاً؟! ثم سكتت تغالب دمعها حتى ملكها الغضب من جديد فقالت: وإلى من دفعت المال؟ إلى من يحترم أصهارك ويحب ولديك؟! إلى من يؤتمن على تربيتهما من بعدك إذا وافاك الأجل صغيراً كما تقول؟! والطبيب كان دائماً يتوقع أن يموت وهو صغير السن، وقد كان الأمر كذلك، فقد مات عن خمس وثلاثين سنة رحمه الله.
ثم أقبلت على زوجها وجلست في مواجهته وعلا صوتها وهي تقول: لقد نظرت في خزانتنا فما وجدت إلا حفنة من الدراهم، وكل ما عندنا من مال للزمن ذهب به أبوك، فمن أبوك هذا؟! لماذا لم يتذكرك إلا حين أظلمت في عينيه الدنيا وسدّت في وجهه أبواب الخلاص؟! أوليس أبوك هذا هو الذي طردك من الدار ليلاً كما تقول؟! أوليس هو الذي أغرى بك الأهل والكنيسة ليطاردوك ويلاحقوك بالأذى وسوء السمعة؟! أوليس هو الذي قاطعك خمس سنوات أو تزيد، ولا يعنيه شيء من أمرك إلا أن يكون شامتاً فيك أو ساخراً منك أو من أبي الذي آواك وزوجك من ابنته! واستمرت الزوجة تكيل له شديد التقريع والتأنيب في غضبة جامحة، والطبيب يتذرع بالصبر، ويلوذ بالصمت، وعلى حين كانت الزوجة لا تزال ترميه بحمم الغضب كان هو يتفكر في اللقاء الذي تم بينه وبين أبيه، وقد شعر بأن حق الوالد كان مرعياً في هذا اللقاء، ولكن ترى ما حال الحقوق الأخرى التي لزوجته وأولاده عليه؟! وتأمل الطبيب الموقف من جديد وهو يسائل نفسه: ترى هل أصبت في هذا التصرف أم أنني قد أصبت في شيء واحد على حين غابت عني أشياء؟ ثم أسلمته الزوجة للتفكير، وذهبت إلى بيت أبيها وتركته بمفرده.
وبعد ثلاثة أيام دخل عليه صهره -الشيخ عبد الحميد - ومعه الأسرة الصغيرة، وسيده تحمل في العودة أضعاف ما حملته عند مغادرة الدار من الصرر، وأقبلت الزوجة وهي تحمل ولدها الصغير وتمسك بيد الكبير إلى حجرة النوم في صمت وخجل، وهي تتجنب النظر إليه، وتختصر في رد المقال عليه، وانسحب النساء والصغار بعد ذلك إلى الداخل، وبقي الشيخ والطبيب يتحادثان.
قال الشيخ: ما عرفت على ابنتي أنها كاذبة أبداً، وإني لأحمد الله على ذلك حمداً كثيراً، ولقد قصّت علي كل ما دار بينكما في الأيام الأخيرة، وذكرت لي ما وجهته إليك من أقوال وأفعال ونعوت، وكذا تصرفك معها، ورأت بعد أن سكت عنها الغضب أنها أخطأت من الألف إلى الياء! قال الطبيب: ما أظنها جرأت -يا عم- على أن تنقل إليك ما ألقت به في وجهي من قصائد المديح والثناء.
قال الشيخ: إنني لا أستبعد -رغم صدقها- أن تكون قد أخفت أشياء من هذا الأمر حياءً مني حين حست بخطئها، ولكن على أية حال فلقد كان القدر الذي ذكرته لي كافياً لإدانتها والحكم ببراءتك، وما بك الآن حاجة إلى إحصاء المزيد من الحيثيات.
وأخذ يذكره بالحقوق والواجبات الأسرية وغير ذلك من الواجبات.
ثم قال له الشيخ -بعد هذه المقدمة-: وفي حالتك -يا دكتور عبده - فأنت أدرى الناس بما حدث، ثم إن والدك هذا قاطعك سنوات طويلة ولم يظهر فجأة في حياتك وحياة أولادك إلا ليستدر عطفك عليه وهو في محنة تمس البيت كله، فبأي حق يطلب منك النجدة؟! ولماذا جاء الآن فقط يرجوك أن تنقذ بيته ومستقبل ابنته وهو يعلم أن الدين قد فرق بينه وبينك وأنك لا ترثه هو ولا أمك ولا أحداً من سائر قرابتك، كما أنهم ليس لهم حق الإرث في مالك؟! كان الطبيب مطرقاً برأسه وهو يستمع، ثم رفع رأسه وهو يجيب على هذا التساؤل قائلاً: لقد أحسنتُ إلى أبي -يا عم- بحق الوصية التي فرضها له الملك الديان، وبحق القرآن الذي آمنت به وجعلته سبيلي إلى طاعة خالقي الذي هداني، أوليس قد جاء في القرآن قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:14 - 15]؟! قال الشيخ: بلى، وصدق الله العظيم.
قال الطبيب: أوليس قد جاء في كتاب الله الكريم المحكم قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:8]؟! قال الشيخ: بلى، وصدق الله العظيم.
وساد الصمت بينهما برهة تدبر كل من الرجلين خلالها معاني الآيات الكريمة وأهدافها النبيلة، ثم ما لبث الطبيب أن قال: إن هذه الآيات يتلوها كل مسلم ويؤمن بها كل مهتد، وما في ذلك من ريب، ولكن حدثني بربك -يا عم-، فأنت رجل علم وتجربة، ألست ترى معي أن هذه الآيات تأخذ بناصيتي وبناصية كل عبد هداه الله من بين فئة كبيرة على الضلال.
وتذكر الطبيب العناء الذي لاقاه منذ بداية المرحلة الثانوية، ثم قال: لقد جاهداني، وأشهد الله على ذلك، ولعل أبي كان أشد قسوة، لكن أمي كانت تراقبني وتمهد من يراقبني، وتغري بي أبي وإخواني وأخواتي ظناً منها بأن في هذه الملاحقة الخير لي.
ويتابع قائلاً: ثم ضربت الأيام بيننا حجاباً من مشاغل الحياة ومن ضيق النفوس بالقيل والقال، وما أظنني على صواب فيما كان من قطيعة؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، فأي معروف هذا وأنا لم أصاحبهما؟! بل كانوا يصرون على قطع ما بيني وبينهما، وأي صنيع سيئ أكون قد صنعت لو أنني تركت أبي يعود من زيارتي ولم أنقذه على حين ظل المال راكداً في خزانتي؟! أتظن -يا عم- أن المال هو الذي يصلح من شأن العيال بعد فقد عائلهم؟ أعتقد أنك تعلم أن الأمر على خلاف ذلك، أما الحق فهو ما أنبأنا به القرآن، حيث يقول سبحانه في سورة الكهف: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82].
ثم قال: أولا ترى معي -يا عم- أن مجيء أبي إلى داري -خاصة بعدما سمع بمولد محمد - قد كان من جانبه كركوب أشد الأهوال وأقساها؟ أولا ترى أن مجيئه إلى بيت ولده الذي عرف حقيقة أمره هو نصر لي من عند الله؟! إنني لا أنكر أن التصرف الذي صدر مني قد مس حقوق ولدي وزوجتي، ولكن المبادرة كانت قضاءً لا فكاك منه، ومع ذلك -يا عم- فإننا -إن يكتب الله لنا عمراً- سننظر فيما تأتي به المقادير إن شاء تعالى.
قال الطبيب ذلك وقد اعتزم في نفسه أمراً.
نهض الشيخ يريد الانصراف بعدما سمع دفاع صهره الطبيب الشاب عن والده، وإذا بابنته تعترضه وتتشبث به لتطيل بقاءه، ورفع الشيخ عصاه في وجه ابنته، لكن الزوج كان قد أسرع إليه وقال: ما هكذا -يا عم- علمتنا أن يكون الإقناع! قال الشيخ لابنته: اسمعي يا هذه: إنك هوجاء لا تعقلين، إنك لا تعرفين قدر هذا الرجل الذي معه تعيشين، فاحمدي الله أن رزقك بمثله، ولتحذري بعد اليوم أي إساءة له أو سوء فهم لراشد تصرفاته، وكان هذا الموقف فاصلاً معي بين عهد لا يخلو من قلق وارتياب وعهد جديد ساده اطمئنان إلى حسن إسلام الطبيب وصدق إيمانه.(59/5)
وفاة الطبيب عبده رحمه الله تعالى
زاد الطبيب اقتراباً من الأسرة ومن الناس، واتجه إلى الخروج من عزلته التي كان قد ضربها على نفسه وارتاح لها في خدمة السجون، فالتحق بوزارة الصحة، وأنجب ولدين آخرين هما محمود وإبراهيم، حين كان طبيب مركز السابلوين نحو أربعة أعوام.
ثم حملت زوجته من جديد، فقال هو: علي أو علية.
فكانت علية التي توفي عنها أبوها وهي طفلة عمرها شهران، حين كان طبيباً لمركز من المراكز، وكانت جيوش الحلفاء الكبرى تنتقل في بعض مواقع محافظة الشرقية، وكان قد انتشر بين الجنود وباء التيفود، فانتقلت العدوى إليه أثناء عمله في المخيمات التي يعزل فيها المرضى، وأحس الطبيب الشاب بدنو الأجل، فقد كان -رحمه الله- صالحاً شفاف البصيرة، وكأنما خاف على زوجته وأولاده مما سيلاقونه لو وافته المنية بعيداً عن الأهل.
فحزم حقائبه، وأغلق داره وعيادته، واصطحب زوجته وخادمته وأولاده، وشغل ديواناً مستقلاً بالقطار حتى لا تنتقل العدوى منه إلى غيره من الركاب حتى وصل إلى منزل صهره الفاضل الشيخ عبد الحميد مصطفى رحمه الله، لكن إخلاص صهره وسهر زوجته وصغر سن أولاده ومهارة معالجيه من الأطباء لم تفلح جميعها في تأخير لحظة النهاية، فوافاه أجله المحتوم بعد ستة أيام فقط من مرضه، وكان ذلك بعد مغرب شمس يوم الثامن عشر من يوليو سنة (1918م)، بعد أن ضرب للبشر مثلاً عالياً في إصراره وشجاعته، وحسن إسلامه وصدق إيمانه.
وقد منح رحمه الله للبشرية أبناءً نافعين مؤمنين، عاش منهم حتى خلد اسمه وذكره الدكتور عيسى عبده العالم الاقتصادي الإسلامي المعروف، والدكتور المهندس محمد عبده أستاذ الهندسة بجامعات سويسرا، ومن بعدهما أولادهما، نفع الله بهم أمة المسلمين، ورحم الله صاحب هذه القصة ومن أحبه وآواه ونصره، ومن خلف من نسله ونسل أبنائه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(59/6)
التوحيد أولاً
التوحيد هو أساس الإسلام وأصل أصوله، وهو من الإسلام بمكان الذروة والسنام، ولذلك اتفقت عليه دعوة جميع الرسل عليهم السلام؛ فهو زبدة الرسالات الإلهية وغايتها، وقطب رحاها وعمدتها، وهو يقوم على إفراد الله تعالى بما هو محض حقه من أنواع العبادة وصورها، وإخلاص القصد والإرادة له في أدائها، واعتراف الإنسان على نفسه وعلى غيره من المخلوقات بوجوب العبادة لله في سائر الأقوال والأفعال والنيات.(60/1)
توحيد الله هو أساس الإسلام وأصل أصوله ومفتاح دعوة الرسل
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتفرد بالإلهية على جميع خلقه، والمختص بنعوت الكمال وصفات الجلال والجمال بلا شبيه ولا مثال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، وأمره أن يقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وعلى آله وصحبه أهل العدل والتوحيد، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فمن نافلة القول، ومكرور الكلام أن يقال: إن التوحيد هو أساس الإسلام، وإنه أصل أصوله، وإن التوحيد من الإسلام بمكان الذروة والسنام، فذلك أمرٌ اتفقت عليه دعوة الرسل أجمعين من لدُنْ آدم إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فما من الرسل أحد إلا افتتح دعوته بقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:50].
فالتوحيد هو زبدة الرسالات الإلهية وغايتها، وقطب رحاها وعمدتها، ترتكز كلها عليه، وتستند في وجودها إليه، تبتدئ منه وتنتهي إليه، ولا عجب! فهو يقوم على إفراد الله عز وجل بما هو محض حقه من أنواع العبادة وصورها، وإخلاص القصد والإرادة له في أدائها، واعتراف الإنسان على نفسه وعلى غيره من المخلوقات بوجوب العبودية لله في سائر الحالات.
فالله وحده هو ربهم، ومليكهم، والقاهر فوقهم، والمتصرف فيهم بما يشاء، لا رادّ لحكمه، ولا دافع لقضائه، وهم جميعاً المرذولون المقهورون الفقراء المحدثون الضعفاء، الذين لا غنى لهم عنه طرفة عين، ولا قيام لهم بدونه لحظة من الزمان.
فلم يرسل الله عز وجل نبياً ولا رسولاً إلى قومه إلا وجعل مفتاح دعوته أن يقول لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:50]، فهذا الأصل هو أصل الأصول في دين الإسلام.(60/2)
التوحيد أساس الإسلام ومفتاح دعوة الرسل(60/3)
بطلان قول من قال إن أصل الأصول هو تأليف القلوب
لقد نشأت في هذا الزمان أفكار كثيرة، واختلفت كثير من الاتجاهات، فانحرف بعض الناس في تحديد أصل الأصول، وأهم المهم من قضايا الإسلام، فرأينا من يقول: إن أصل الأصول هو تأليف القلوب.
كما هو معروف عند بعض الجماعات!! فلو قلنا: إن هذا هو أصل الأصول فإنه ينبغي أن يُقدّم على غيره عند التعارض، فمثلاً: إذا رأوا رجلاً يقع في الشرك بالله، أو في الطواف بالقبور، أو غير ذلك من صور الشرك، فيقولون: أصل الأصول هو تأليف القلوب.
فنقدم تأليف القلوب على إنكار هذا المنكر حتى لو كان شركاً؛ لكي تتألف القلوب ولا تتفرق!! فإن إثارة هذه القضايا وإنكارها على من يفعلها مما ينافي أصل الأصول.
فيبتدعون هذا الأصل، ويتحاكمون إليه بدل أن يتحاكموا إلى أصل الأصول الذي هو توحيد الله عز وجل.(60/4)
بطلان قول من قال إن أصل الأصول هو إقامة الحكومة الإسلامية
كذلك وجدنا كثيراً من الدعاة بل والمجاهدين في سبيل هذه الدعوة المباركة قد نشأ لديهم تصور انعكس منهم على قطاع عريض من الشباب المسلم، وقد فهم كثير من الشباب من كلام هؤلاء الدعاة أن أصل الأصول هو: إقامة الحكومة الإسلامية!! فيجعلون إقامة الحكومة الإسلامية هو غاية إرسال الرسل؛ بل إن من الدعاة الكبار وأهل الخير والفضل من جعل في بعض كتبه أن الغاية الأساسية من دعوة الرسل: إقامة الحكم الإسلامي، أو: إقامة الحكومة الإلهية أو الحكومة الإسلامية!! بل ويذهب إلى أن أصل الأصول وغاية الرسل هي إقامة الحكومة الإلهية، فيزعم أن الأنبياء انقسموا: فمنهم من استطاع أن يقيم الحكومة الإسلامية، ونجح في دعوته!! وذكر منهم محمداً صلى الله عليه وسلم، وموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومنهم من لم ينجح في تحقيق أصل الأصول، وهو الحكومة الإسلامية، وربما حاول التمهيد لإحداث انقلاب سياسي في الأمم من بعده!! ويذكر أمثلة كإبراهيم ونوح وغيرهما من الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
مثل هذا الكلام ينبغي أن يراجع وأن يمحص في ضوء الكتاب والسنة، وأن نبين أين موقع قضية الحاكمية أو قضية السياسة بالنسبة لأصل الأصول الذي هو توحيد الله عز وجل.
الله عز وجل يقول: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، هذا وعد من الله سبحانه وتعالى أن كل الأنبياء وأتباعهم منتصرون، فلم ينهزم نبي، ولم يفشل في أن يحقق الهدف الذي بعثه الله به، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} [الصافات:171 - 172]، فالله لا يخلف وعده، فلابد أن الأنبياء انتصروا، ولابد أن جند الله غَلَبوا، ولابد أنهم حققوا الهدف الذي بعثهم الله من أجله، وهو أصل الأصول في هذا الدين، حتى نوح عليه السلام الذي مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ويأتي من يّدعي أن نوحاً لم يحقق هدفه من رسالته! وأنه فشل في تحقيق الهدف الأسمى، وهو الحكومة الإسلامية أو الدولة الإلهية! حتى نوح يقول الله عز وجل حاكياً عنه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10]، وانتصر الله له، ونصره على الكافرين، وانتصر نوح، ولا شك في ذلك.
فهذا التعبير إنما نشأ عن غلبة الاتجاه السياسي والمفاهيم السياسية، ومحاولة حشرها وإعطائها الحجم الأكبر من قضايا الإسلام، بحيث يكون هو في تصور كثير من الشباب أصل الأصول، وقطب الرحى، وعمود هذا الدين.(60/5)
أصل الأصول معلوم في الكتاب والسنة ولا يحتاج إلى اجتهاد لمعرفته
أصل الأصول لن نجيب نحن عنه؛ ولكن الذي يملك الحق في تحديد هذا الأصل هو الله سبحانه وتعالى، فإن الله عز وجل ما خلق هذا الخلق عبثاً؛ بل لحكمة عظيمة بيّنها الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد، يقول عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:38 - 39]، ويقول سبحانه وتعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]، والله عز وجل هو صاحب الحق الوحيد في أن يرينا الإجابة عن هذا
السؤال
لماذا خلقنا الله؟ لماذا بعث الله الرسل؟ لماذا خلق هذا الكون؟ لماذا خلق الجنة والنار؟ وعلى أي أساس قسّم الناس إلى: متقين وفجار، ومؤمنين وكفار؟ فهو جل وعلا يقول: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، ويقول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، هذا أسلوب حصر، حصر الحكمة والهدف من الخلق في أصل الأصول وهو عبادة الله وحده؛ لأن المقصود: (إلا ليعبدون) أي: ليعبدوني وحدي، ولا يعبدوا معي غيري، وهو توحيد الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]، وقال عز وجل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116]، ويقول عز وجل: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36]، ويقول عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:1 - 2].(60/6)
الحكم والسياسة ومحلهما من الدين
نتناول في هذا المبحث أمرين: الأمر الأول: أن الحكم والسياسة من الدين، ومن ذهب إلى أنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين فهذا قد سلك أقصر الطرق إلى الكفر؛ لأنه مثل من قال: الخمر حلال، والزنا حلال، فأحل ما حرم الله، أو حرم ما أحل الله، أو أنكر آية من القرآن، فهذا وذاك في الكفر سواء، وفي الخروج عن حظيرة الدين سواء، وهذا مما لا يُختلف عليه.
فربما كان الناس في أي زمان من الأزمنة الماضية لم يتضح عندهم هذا المفهوم بقدر ما اتضح عندنا، وما ذاقوا من الويلات كما ذقنا بمجرد أن انتهت الخلافة الإسلامية، وفي هذا يقول شوقي مبيناً آثار انهيار الخلافة الإسلامية: فلتسمعن بكل أرض داعياً يدعو إلى الدجال أو لسجاحِ وليشهدن بكل أرض فتنةً فيها يباع الدين بيع صباحِ يعني: ما دامت الخلافة قد ضاعت فتوقعوا أنكم ستسمعون في كل أرض داعياً يدعو إلى الكذاب مثل دعوة مسيلمة أو دعوة سجاح التي ادعت النبوة.
وليشهدن بكل أرض فتنة فيها يباع الدين بيع صباح يباع الدين ويستهان به، ولا غرو؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتنقضن عُرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة)، فجعل الحكم من عُرى الإسلام؛ بل قرنه بأعظم أركان هذا الدين ألا وهو الصلاة، (فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة).
وإن كانت كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فيها نفي وإثبات؛ فينبغي لكل شخص حتى يستحق صفة المسلم أن يجمع بين كفر وإيمان: كفر بكل الآلهة سوى الله، وإثبات العبودية لله وحده، (لا إله إلا الله) أي: لا إله حق إلا الله، لكن لا يصح أن يقال: لا إله موجود إلا الله؛ لأن هناك آلهة موجودة دون الله، وهي آلهة باطلة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، إذاً: الهوى إله يُعبد من دون الله، والمال إله يعبد من دون الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار! تعس عبد الدرهم! تعس عبد الخميصة! تعس عبد القطيفة! تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، والساحر طاغوت وهو إله يُعبد من دون الله، والشيطان إله يعبد من دون الله، يقول الله عز وجل: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61]، فالشيطان إله، لكنه إله باطل، فالله وحده هو الإله الحق الذي يستحق أن يُفرد سبحانه بالعبودية.
الحاكم بغير ما أنزل الله إله باطل يُعبد من دون الله، وهو من رءوس الطواغيت كما بين القرآن وكما بينت السنة، فيجب أيضاً الكفر بهذا الطاغوت، كما قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]، والعروة الوثقى هي: (لا إله إلا الله).
إذاً: حتى نستمسك بهذه العروة الوثقى لابد أن نكفر بكل طاغوت، ونؤمن بالله وحده، لكن لا يصح الإشراك مع الله سبحانه وتعالى في هذه العبادات.
فنقول: إن الحكم بغير ما أنزل الله من الكفر، أو هو من رءوس الكفر، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، فلا يصح الإيمان ولا دعوى الإيمان حتى يجمع الإنسان بين الإيمان بالله والكفر بكل إله يُعبد من دون الله من الطواغيت، ومن رءوس هؤلاء الطواغيت: من يحكم بغير ما أنزل الله عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وليس في عنقه بيعة فميتته جاهلية)، أي: من مات وليس في عنقه بيعة للخليفة المسلم، وللحاكم المسلم فهذه ميتة جاهلية، وتشبه موتة أهل الجاهلية، فإن كان هناك خليفة ولم تبايعه، أو خرجت على طاعته ونقضت بيعته فأنت على خطر عظيم، أما إذا لم يوجد هذا الخليفة ولم تستطع مبايعته فقد أشبهت موتتك موتة أهل الجاهلية؛ لأنهم كانوا في فوضى لا يجمعهم نظام.(60/7)
الحكم من أهم قضايا الدين وليس أهم قضية فيه
وهناك أدلة كثيرة على هذه المسألة لن نطيل بسردها؛ لأن المقام ليس مقام تفصيل.
خلاصة القول: أن الحكم الإسلامي من أركان هذه الأمة، ومن أهم القضايا في هذا الدين.
إذاً: نقول: هو مِنْ أهمّ القضايا، ولسنا نقول: هو أهم القضايا؛ لأن هناك ما هو أهم منه؛ ألا وهو توحيد الله سبحانه وتعالى.
فنبين ونؤكد على أن الحكم من الدين، ولكنه ليس هو المقصود الأسمى والغاية العظمى من بعثة الرسل، فإنما أرسلت الرسل للدعوة إلى توحيد الله عز وجل، ولا يصح أن يقال: إن الأنبياء بُعثوا لإقامة الحكومة الإسلامية، إنما بعثوا للدعوة إلى توحيد الله عز وجل، وآية ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، فلا يصح أن يقال: إن الأنبياء الذين لم يقيموا حكومة فعلية قد فشلوا في دعوتهم، وقد يتأدب البعض في التعبير فيقول: إنهم كانوا يمهدون، فاكتفوا بالتمهيد ولم يقيموا هذه الحكومة، وهذا خطأ، والصحيح أن نقول: إن الأنبياء انتصروا على الكفر، وبلغوا البلاغ المبين، وقاموا بما كلفهم الله به، ألا وهو الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، والدليل من القرآن قوله سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
حتى غلام أصحاب الأخدود، كما في قصة الغلام مع الراهب والساحر والملك، هذا الغلام لما أرشد الملك في النهاية إلى كيفية قتله، وطلب منه أن يجمع الناس في صعيد واحد، ويرميه بالسهم ويقول: باسم الله رب الغلام، قال: فإنك إن فعلت ذلك قتلتني.
ففعل الملك ذلك، فما إن أصابه السهم حتى قتل هذا الغلام، لكن هل هو مغلوب؟ لا؛ بل هو منتصر بلا شك؛ لأنه بلغ التوحيد، وأثر في الناس، ودخلوا في دعوة التوحيد، حتى أغراهم الملك بالكفر، وهدّدهم بإلقائهم في الأخدود، فصبروا على دينهم، وأنزل الله عز وجل في ذلك الآيات الواردة في سورة البروج: بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:1 - 8]، هؤلاء في الظاهر منهزمون، لكنهم في الحقيقة منتصرون، وهذا الغلام مات منتصراً ولم يمت مهزوماً.(60/8)
بيان معنى (الحكم لله) أو (الحاكمية لله)
الأمر الثاني: أن كلمة (الحكم لله) أو (الحاكمية لله) راجت بين الشباب بفعل قيام بعض الناس بالترويج لهذا المفهوم، واتخذت صورة قاصرة في فهم معنى كلمة: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40] أي: ما معنى الحاكمية لله؟ فهل (الحاكمية لله) أصبحت مفهوماً نرى كل شيء في الواقع من خلاله، فلا ننظر إلى الزكاة والصيام والحج والصلاة وغيرها من القضايا الشرعية إلا من خلال كلمة (الحكم لله) أي: بالمفهوم السياسي؟! كلا، لكن كلمة: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) التي نطق بها يوسف عليه السلام وهو بين جدران السجن، وهو يدعو إلى التوحيد، ولم ينفض يديه عن أعباء الدعوة؛ لأنه لم يُقِمْ الحكومة الإسلامية، لكنه كان يمارس دعوته ويؤدي رسالته بقوله: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)، ثم بين المقصود من ذلك فقال: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].
فإذا ذكرنا كلمة - (الحكم لله) - أو (الحاكمية لله)، فلا يصح أن ينصرف الذهن -فقط- إلى الجانب السياسي، فلو راجعنا قسم (الحكم) في كتب أصول الفقه، فسوف نعرف المدى البعيد الذي تصل إليه هذه الكلمة (إن الحكم إلا لله) في كل شيء.
وقول الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:44] هذا قول عام، ليس فقط على الحكام أو القضاة الذين لا يحكمون بكتاب الله، ولكنه يعم كل مسلم له حظ من هذه الآية؛ لأن الآية فيها صيغة عموم: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ)، أي: كل من لم يحكم، وقوله: (بما أنزل الله) تشمل كل ما أنزل الله، فكلٌ له نصيب من هذه الآية، إذ لابد من الحكم بما أنزل الله في كل مكان، بل وأعظم من ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)، وأول راع هو الحاكم، فقال عليه الصلاة والسلام: (الإمام راع، وهو مسئول عن رعيته)، فالحاكم أول هؤلاء الرعاة الذين يسألون عن رعيتهم: (والرجل في بيته راع، وهو مسئول عن رعيته) الحديث، وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله سائل كل راع عن ما استرعاه؛ حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته).
إذاً: الحكم بما أنزل الله درجات، أعلاها: ما يتعلق بالحاكم، بأن يسوس الناس ويحكمهم بالدين، وأن يحرس الدين، فسياسة الدنيا بالدين وحراسته هي وظيفة الحاكم.
أما المحكومون فتتنوع مسئولياتهم بتنوع أقدارهم ومواطنهم، فأنت تحكم بما أنزل الله مثلاً بين أولادك، فمما أنزل الله ألا تفضل بعضهم على بعض في العطية، فمن فضل ولداً على سائر إخوته بالهدية -مثلاً- أو الهبة فإنه لم يحكم بما أنزل الله؛ لأن الله حرم هذا، وأيضاً: أمر الزوجة بالمحافظة على الصلوات: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]، هذا أمر وحكم أنزله الله، وقال عز وجل في بعض أحكام الطلاق: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [الطلاق:5].
فالحكم بما أنزل الله يمتد ليشمل كثيراً من الجوانب، منها: الجانب السياسي، والاجتماعي، وجانب العبادات، وجانب التوحيد، وهو أعظمها بلا شك.
إذاً: هذا مما ينبغي الانتباه إليه، فليست الحاكمية بالمفهوم الضيق الذي طرأ في العصور الأخيرة، لكن الحاكمية أوسع من هذا، ولا يعني هذا أننا نبتر الجانب السياسي من الإسلام، ولكن يكون قدره أقل بالنسبة لأصل الأصول ألا وهو توحيد الله عز وجل.
أيضاً: ما هو الأثر عندما نعتبر أن الحكم هو أصل الأصول في الدعوة الإسلامية؟ هذا يترتب عليه أن يصبح الحكم غاية، والحكم ما هو إلا وسيلة لتطبيق شرع الله سبحانه وتعالى؛ لكن ليس هو الغاية العظمى من بعثة الرسل؛ ولذلك فإن الصحابة رضي الله عنهم كان يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أغاروا على قوم أن يدعوهم قبل القتال، فلم تكن المسألة مسألة غنيمة فقط، كما أنهم لم يقهروا الناس أو يكرهوهم على الدخول في الدين مباشرة، ولم يبدءوهم بالقتال، ولكن كانوا يبلغونهم الدين قبل كل شيء؛ لأن الجهاد والفتح ما هو إلا وسيلة لتطبيق شرع الله، والدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى.(60/9)
الدعوة إلى توحيد الله لا تتوقف على وجود الحكومة الإسلامية
إذا لم يتمكن المسلمون من إقامة الحكومة الإسلامية فهل ينفضون أيديهم من تبعات الدعوة؟ لا؛ لأنه ما زالت المسئولية الأصلية باقية، ألا وهي الدعوة إلى توحيد الله، وإلى تصفية العقيدة، والصبر على ما وراء ذلك من الأذى.
وكما سبق في قصة يوسف عليه السلام أنه أدى هذه الواجبات وهو مسجون: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:39 - 40]، فهو يوضح معنى (إن الحكم إلا لله) {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].(60/10)
مفاسد ترتكب لو جعل الحكم هو الغاية
أيضاً: إذا جعلنا الحكم هو الغاية فمعنى ذلك أننا قد نستبيح في سبيله بعض الوسائل غير المشروعة، كالانضمام إلى الأحزاب المحاربة لدين الإسلام؛ كحزب الوفد وغيره من الأحزاب العلمانية، وكلمة (العلمانية) هذه كلمة مهذبة، دون ما يستحقه القوم من ألقاب، فكلمة (علمانية) تعني: (اللادينية) هذه كلمة في ظاهرها مهذبة، وما هي إلا رفض دين الإسلام، وتسوية الدين الإسلامي بكل الأديان، بحيث تقف كلها على قدم المساواة، فالحق يساوي الباطل من أجل الوحدة الوطنية أو الأخوة الإنسانية وغيرها من المفاهيم الباطلة، لكن العلمانية كفر ورفض لدين الإسلام، ومحاولة لعزله عن واقع الحياة.
فهذه عبارات مهذبة حتى لا توقع العبارات الصحيحة أصحاب هذه الدعاوى فيما يستحقونه من أوصاف شرعية.
فالتنازل من أجل إقامة الحكم الإسلامي معناه: أن نتنازل عن عقيدتنا، ونتعاون مع هؤلاء الناس الذين يرفضون الدين، ويرفضون الإسلام، ولا يجعلون غايته هو توحيد الله، والدعوة إلى عبادة الله سبحانه وتعالى.
الإنسان في هذا الوجود كائن مهم، ولا ينبغي الاغترار بظاهر الكفار وما هم عليه، كما قال الله عز وجل مبيناً ما عندهم من العلم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، فلا يغرنا ما يتمتع به الكفار من زينة الدنيا، ومن الغلبة والقوة والسطوة، فما قوتهم إلا في ضعف المسلمين، لكن القوة الحقيقية هي في الإيمان، والاعتصام بحبل الله المتين، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]، فالتمكين في الأرض لا يأتي إلينا إلا بعد أن نتمسك نحن بالدين في أنفسنا، يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137]، ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]، إذاً: هي هدية ومكافأة وامتنان من الله سبحانه وتعالى على الاستمساك بحبل الله، فتكون العاقبة للمتقين، والعاقبة للتقوى، ويمكن الله سبحانه وتعالى لأوليائه في الأرض.
أما أن نتنازل عن ديننا، أو عن المفاهيم الأساسية في ديننا من أجل تمكين وإقامة الحكومة الإسلامية، فهذا لا يكون؛ لأنه لابد أن تكون الوسائل شرعية، فالحكم أو السياسة ليس الغاية، إنما الغاية هي تحقيق العبودية لله وحده، كما قال تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:2]، وهي سبب التمكين في الأرض.(60/11)
اتفاق الفرق الإسلامية على أن التوحيد أصل الأصول ومخالفة الإمامية في ذلك
أيضاً: ينبغي أن نعرف ما هو أصل الأصول في هذا الدين، هل هو التوحيد؟ هل هو الحكومة الإسلامية؟ هل هو تأليف القلوب؟ إلى غير ذلك من الأهداف التي ينادى بها.
قبل هذا الزمان ما كان أحد أبداً يجرؤ على أن يقول: إن أصل الأصول شيء آخر غير التوحيد، حتى جميع الفرق الإسلامية التي نشأت؛ سواء المعتزلة، أو الجبرية، أو الجهمية، أو الأشاعرة، أو أهل الحديث، أي فرقة من الفرق العقائدية ما كانت تعد أصل الأصول إلا التوحيد، وإن انحرف بعضهم في فهم التوحيد وكيفية تحقيقه، لا سيما في قضايا الأسماء والصفات، لكن لم يكن يوجد سوى فرقة الشيعة الإمامية التي تقول: إن هناك شيئاً آخر يعتبر أصل الدين سوى التوحيد.
فمعلوم أن أصل الدين في كل عصور الإسلام ما كان يذكره العلماء إلا أنه هو توحيد الله سبحانه وتعالى، حتى لو انحرف البعض في فهم عقيدة التوحيد، بل العلماء يذكرون في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) أن أوجب العلوم على العبد، وأول واجب على المكلف: معرفة الله سبحانه وتعالى، ومعرفة معنى لا إله إلا الله، وكيفية تحقيق التوحيد.
هذا هو الهدف الأسمى من بعثة الرسل، وهو أول واجب على كل مكلف: أن يفهم معنى لا إله إلا الله، وما هي لوازم هذه الكلمة، وما الذي ينقض هذه الكلمة، فيتعلم هذه الأشياء قبل أن يتعلم الصلاة وغيرها من الأحكام الفقهية.
ولم يشذ عن جماعة المسلمين في هذا إلا فرقة الروافض -الشيعة الإمامية الإثني عشرية- فإنهم قد عدوا أصل الدين عندهم هو: (الإمامة)، وهو الإيمان بإمام لكل زمان، أي: يوجبون على الله سبحانه وتعالى أن ينصب إماماً لكل زمان، فحتى في هذا الزمان يقولون: إن الإمام موجود وهو المدعو: محمد بن الحسن العسكري، لكنه مختبئ في السرداب كما يزعمون.
فالتوحيد لابد أن يقدم على ما سواه، فيقدم الأهم على المهم، وهذا التوحيد ليس لفظاً مبتدعاً، ولكن جاءت به أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان أول ما يدعو الناس إليه كما في قصة معاذ عندما أرسله إلى اليمن فقال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله)، فأول شيء هو التوحيد.(60/12)
أقسام التوحيد
أما بالنسبة لأقسام التوحيد فهي ثلاثة أقسام: الأول: توحيد الربوبية، الثاني: توحيد الألوهية، الثالث: توحيد الأسماء والصفات، وهذا التقسيم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يستعمل هذه الاصطلاحات: الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، كما لم يرد عنه العلم الذي يسمى: علم أصول الفقه، ولا مصطلح الحديث، وأصول التفسير، والتفسير واللغة العربية والنحو والصرف والبلاغة ونحوها، فهذه طرائق معينة لفهم الدين، فهي من باب الوسائل التي تسهل فهم هذه العلوم وتبسطها وتصونها من التحريف والزيغ.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أتى بمضمون هذه الأقسام الثلاثة، ولا مشاحة في الاصطلاح، فلا نختلف في الاصطلاح، لكن المهم ما وراء هذا الاصطلاح.(60/13)
توحيد الربوبية
توحيد الربوبية: هو توحيد الله بأفعاله، أي: الأفعال التي تأتي من الرب إلى المربوبين الذين يربيهم وينميهم، فيأتيهم بالرزق، وهو الذي يحيي، والذي يميت، فكل ما أتى من الله أو فعله الله فهو من الربوبية، فتوحيد الربوبية: أن يؤمن العبد أنه لا يحيي ولا يميت ولا يرزق ولا يفعل أفعال الربوبية سوى الله سبحانه وتعالى، فلا يخلق إلا الله، ولا يرزق إلا الله، ولا يحيي إلا الله، ولا يميت إلا الله، ولا يضر إلا الله، ولا ينفع إلا الله فتوحيد الربوبية: توحيد الله بأفعاله.
وهذا النوع من التوحيد كان موجوداً لدى أكثر المشركين الكفار الذين حكى الله سبحانه وتعالى قصصهم مع الأنبياء والمرسلين، فكان موجوداً عند قوم نوح، وقوم صالح، وقوم هود، وجميع الأنبياء، حتى المشركين الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بأنه لا يحيي ولا يرزق ولا يخلق إلا الله، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، كانوا على بقية من دين إبراهيم، لكن طرأ عليهم الشرك.(60/14)
توحيد الربوبية لا يكفي لدخول المرء في الإسلام
توحيد الربوبية لا يكفي لدخول صاحبه في الإسلام، فإن فرعون كان يعلم بوجود الله تعالى رغم أنه الذي كان يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وكان يقول: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وكان قومه يعلمون بوجود الله، والدليل على ذلك: أنهم لما أتاهم بأس الله هرعوا إلى موسى وقالوا: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134]، وفرعون نفسه -كما حكى الله عز وجل عنه في سورة الإسراء- قال له موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]، هذا خبر عن موسى عليه الصلاة والسلام، فيخبر عما في قلب فرعون، وهو لا يخبر إلا عن شيء يعلمه، كما جاء في سورة النمل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، لكن كانوا في قلوبهم يعلمون يقيناً أن موسى رسول الله حقاً.
إذاً: كان فرعون يعلم أن هناك إلهاً، وكان يعلم أن موسى رسول الله بنص القرآن كما بينا، موسى يقول لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ} [الإسراء:102] يعني: هؤلاء الآيات: {إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]، إذاً بنص القرآن فإن فرعون كان يعلم بوجود الله، وأبو جهل كان يوحد توحيد الربوبية، وأبو لهب كان يوحد توحيد الربوبية، واليهود بلا شك يوحدون توحيد الربوبية، وكذلك النصارى، لكن العبرة بما يأتي من أقسام التوحيد.(60/15)
لا بد من توحيد الألوهية لدخول الإسلام
توحيد الألوهية: هو توحيد العبادة والقصد.
فتوحيد الألوهية أو توحيد الإلهية: هو توحيد الله بأفعال العباد، فلا يصرف الإنسان عبادته إلا إلى الله، كما أنه لا رازق إلا الله، ولا خالق إلا الله، ولا محيي ولا مميت إلا الله؛ فكذلك لا معبود إلا الله سبحانه وتعالى.
فهذا هو معنى توحيد الإلهية، أي: ألا تعبد إلا الله وتكفر بكل ما سواه من الآلهة الباطلة، سواء ما جاء عن الآباء والأجداد {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، أو كان هذا الإله هو الشيطان، أو الطاغوت وهو الحاكم بغير ما أنزل الله، وكذلك الساحر، والكاهن، والعراف الذي يدعي معرفة الغيب، والمال، والبنون كل هذه آلهة باطلة تعبد من دون الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن تفرد الله بالعبادة.
ما معنى العبادة؟ العبادة كما عرفها العلماء: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الباطنة والظاهرة.
فهذا هو معنى لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله، فلا يستحق العبادة إلا الله سبحانه وتعالى، فقد يكون الإنسان مؤمناً بأنه لا يرزق إلا الله، ولا يحيي إلا الله، ولا يميت إلا الله، ومع ذلك يشرك في العبادة، فيؤدي عبادته لغير الله، فهذا أشرك في الألوهية، فالمقصد الأسمى من دعوة الرسل: ألا يُعبد إلا الله، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] أي: اعبدوني وحدي: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] المقصود: ليعبدوني وحدي، ولا يشركوا معي غيري في هذه العبادة.
توحيد الربوبية لا يدخل صاحبه الجنة، ولا ينجي صاحبه من النار، وصاحب توحيد الربوبية ليس له فضل؛ كالنصراني الذي يؤمن بأن هناك إلهاً، وأن هناك خالقاً، وأن هناك رازقاً، ويقول: إن شاء الله، وبإذن الله.
هذا ليس بمؤمن، ولا يصح أن يطلق عليه لفظ الإسلام أو الإيمان، فهو كافر بالله؛ لأنه لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يوحد الله توحيد الألوهية ولا توحيد الأسماء والصفات، فالذي يؤمن بتوحيد الربوبية هذا ليس له فضل، ولا ينقذه هذا من النار.
وحتى الشيوعيون الملاحدة أيضاً -ولا شك- يوحدون توحيد الربوبية، وإن جحدوا ذلك في الظاهر، فيقولون: لا إله، والحياة مادة، ويجعلون الإلحاد -والعياذ بالله- علماً له أصول، ويدرس عندهم، ويدعون الناس إليه على أسس وقواعد باطلة هي من تضليلهم، فإن حالهم كسائر الكفار ما أخبر الله عنهم أنهم: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65]، حتى لينين الذي هو من كبار الشيوعيين الملاحدة عند مرض موته كان يجلس عنده الزعماء والسياسيون والطواغيت يحضرون ساعة احتضاره، فلما اشتد عليه الاحتضار قال مرة: يا إلهي!! أو يا ألله!! فصرخوا واستنكروا هذه المقولة، فاعتذر عن هذه الكلمة، لكنه كان بفطرته يشعر بحاجته إلى الله سبحانه وتعالى!! كذلك أي واحد منا في أي كرب من الكربات، سواء أشرف على الهلاك في حادث من الحوادث، أو أصابه مرض، أو وقع في أي ضائقة، مهما بلغ من العصيان أو التمرد على الله سبحانه وتعالى، أو المحاربة لأمر لله ونهيه، فإنه عند الضائقة يدعو الله مخلصاً له الدين، وينسى كل شيء كان يغتر به من مال أو سلطان أو غيره، ولا يذكر إلا الله وحده، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:67]، فيخبر الله سبحانه وتعالى أن هذه الفطرة المتأصلة في قلب الإنسان موجودة، وأنها أعظم ما تستيقظ حينما يوقن الإنسان بالهلاك، فإنه حينئذ يخرج هذا الرصيد المتمكن من الفطرة في قلبه ليدعو الله وحده، وينسى ما يشرك من دون الله سبحانه وتعالى، فحتى هؤلاء الملاحدة الشيوعيون الذين ينكرون وجود الله، فإذا وقع بأحدهم الكرب فإنه لا يدعو إلا الله؛ بل يدعو من كل قلبه الله سبحانه وتعالى مخلصاً له الدين.
فهذا هو توحيد الألوهية، أي: توحيد الله بأفعال العباد، وهذا هو التوحيد الذي كلفنا الله به، ألا نعبد إلا الله سبحانه وتعالى حق عبادته.(60/16)
أقسام العبادة
والعلماء يقسمون العبادة إلى أقسام، الأول: عبادات قلبية تؤدى بالقلب، فالآلة التي تستخدم في أداء هذه العبادات هو القلب.
القسم الثاني: عبادات قولية تؤدى باللسان.
القسم الثالث: عبادات بدنية تؤدى بالجوارح، وهناك عبادات مالية تؤدى بالمال.(60/17)
العبادات القلبية
العبادات القلبية هي أعظم وأخطر العبادات، فعمل القلب هو الاعتقاد، مثل أن أقول: أعتقد بقلبي أن الله واحد لا شريك له، وأن الله سبحانه وتعالى على العرش استوى، وكذا الإيمان بأي صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، فهذا كله عمل قلبي.
ولا ينبغي أن نلتفت لقول بعض الجهلاء الذين يقولون: لا عبرة بموضوع التوحيد؛ لأنه يفرق المسلمين، وأن التوحيد عبارة عن كلام نظري لا يترتب عليه عمل!! وقد جهل هؤلاء أن مسائل التوحيد يترتب عليها أعظم العمل، ألا وهو عمل القلب الذي هو أصل أعمال الجوارح كلها، والتوحيد هو تطهير للقلب من الشرك الذي هو نجس، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]، هل معنى ذلك أنك لو سلمت على نصراني أو يهودي فقد تنجست؟ لا؛ لأن المقصود هو (نجس) عقيدتهم وقلوبهم، فقلوبهم قد تنجست بأكبر نجاسة في الوجود وهي نجاسة الشرك.
وبعض المسلمين -هداهم الله- يصفون الكفار بالنظافة والنظام، نعم قد تجد عند هذا الكافر شيئاً من النظافة، لكنه منجس بأخبث نجاسة وهي نجاسة الشرك في قلبه، فقد اسودّ قلبه من نجاسة الشرك والكفر بالله سبحانه وتعالى، وأعظم الزكاة للتطهير هي تزكية القلب: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10]، (أفلح من زكاها) أي: طهر قلبه من درن الشرك والمعاصي، فأخطر نجاسة هي نجاسة القلب بالشرك، وأعظم الطهارة هي التوحيد، وتطهير القلب من الاعتقادات الباطلة.
إذاً: هذا هو عمل القلب: أن يؤمن الإنسان أن لا إله إلا الله، وأن يؤدي حقوق هذه الكلمة، ويطهر قلبه مما ينافيها.
ومن أعظم أعمال القلوب: محبة الله سبحانه وتعالى، فإنها من أعظم عبادات القلب، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، فالقلب الذي امتلأ بمحبة الله سبحانه وتعالى هو أطهر القلوب، أما إذا دخل القلب أي محبوب سوى الله أو مع الله فهذا القلب فيه دخن ونجس.
والقلب لا يقبل الله عز وجل فيه شريكاً، فمن تعلق بمعشوقه أو أي محبوب من الخلق يشغله عن محبة الله، فهذا لم يطهر قلبه ولم يزكه لله سبحانه وتعالى، ولا يدخله الخير والنور ما دام قد جعل لله شريكاً في قلبه، فلابد من تجريد القلب لله سبحانه وتعالى.
قال رجل لأحد العلماء: هل يسجد القلب؟ قال: نعم، يسجد سجدة لا يرفع رأسه بعدها أبداً.
القلب إذا سجد لله هذه السجدة فإنها تظل مع المؤمن حتى يموت، فلا يرفع رأسه أبداً كما يرفع من الركوع والسجود، وهي الخضوع لله سبحانه وتعالى، والتزام أمره واجتناب مناهيه مدى الحياة.
فمن عبودية القلب: المحبة لله، وهي عبادة، والبغض في الله عبادة، فكراهية الكفار عبادة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، والبراءة منهم.
ومن عبادات القلوب وأعمالها: التوكل، فالتوكل على الله عمل قلبي، وعبادة قلبية، كما أن عبادة الخوف من الله عبادة قلبية، وعبادة الرجاء عبادة قلبية، وغيرها من عبادات القلوب، فلا تحب إلا الله، ولا تتوكل إلا على الله، ولا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا الله، ولا تنوي عبادتك إلا لله.
هذا هو معنى تحقيق توحيد الألوهية في القلب {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:2].
وهذه العبادات التي تؤدى بالقلب، هل هي أعمال أم ليست أعمالاً؟ هي أعمال، ومن أعظم الأحاديث التي شملت تقريباً ثلث الدين حديث: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وهذه النية لا تؤدى إلا بالقلب، فالنية مكانها القلب، ولا تؤدى باللسان.
إذاً: فاعتقاد القلب، والأعمال التي يعملها القلب تدخل تحت مسمى العمل، فالاعتقادات الصحيحة عمل مطلوب من الإنسان، ولا ينبغي أن يقال: إن هذه المسائل نظرية، وإن الصواب الاهتمام بأعمال الجوارح! فإن عمل القلب من أعظم الأعمال، وأعمال الجوارح تابعة لعمل القلب؛ ولذلك فإن صغائر القلب أخطر من كبائر الجوارح: فالرياء كبيرة، والعجب والغرور كل هذه المعاصي التي محلها القلب هي من الشرك، وهي مما ينافي توحيد الألوهية أو توحيد العبادة والقصد لله سبحانه وتعالى.
فتحقيق عبودية القلب تعني: كيفية تحقيق القلب لشهادة أن (لا إله إلا الله)، فلا يحب إلا الله، ولا يخاف ولا يرجو ولا يتوكل إلا على الله سبحانه وتعالى، فإذا وقع في الرياء فقد وقع في الشرك، وإذا وقع في أي نوع من أنواع الإلحاد في الاعتقاد القلبي فقد وقع في الشرك، وإذا وقع في أي عمل قلبي ينافي التوحيد، فخاف غير الله، أو توكل على غير الله؛ فهذا لم يحقق توحيد الله بالعبادات القلبية.(60/18)
العبادات البدنية والقولية والمالية
العبادات البدنية مثل: الصيام، والصلاة، والزكاة، والحج كل هذه عبادات تؤدى بالبدن، فلا تصلي إلا لله، ولا تصوم إلا لله، ولا تؤدي الزكاة إلا لوجه الله، وأي نوع من العبادات التي تؤدى بالبدن فلا يقصد بها الإنسان إلا الله، بهذا نحقق معنى (لا إله إلا الله).
والعبادات القولية مثل: النذر، والحلف، والصدق، والذكر، وغيرها من الأعمال، كلها تؤدى باللسان، فالصدق عبادة تؤدى باللسان، والحلف لا يكون إلا بالله، وهي عبادة تؤدى باللسان، ولا يتحقق التوحيد إلا بأن توجّه كل هذه العبادات إلى الله سبحانه وتعالى وحده.
والعبادات المالية مثل: الذبح، فهو عبادة مالية، كأن تشتري الشيء الذي تذبحه بالمال مثلاً، فلا تذبح إلا لله، فمن ذبح لغير الله فقد وقع في الشرك.
وهناك عبادات مالية أخرى كالزكاة، فلا تُزِكّ إلا لله، وكذلك الوفاء بالنذر إذا نذرت بمال، فهذه عبادة مالية لا تكون إلا لله.
فمن فعل من أنواع العبادات شيئاً ووجّهه لغير الله فقد وقع في الشرك، وبإخلاصه لله يحصل تحقيق توحيد الألوهية.(60/19)
تحريم كل ما يفضي إلى الشرك لصون جناب التوحيد
إن التوحيد لشدة خطره وعظم مكانته شرع الله سبحانه وتعالى كثيراً من الاحتياطات لصيانة جنابه، وهذا النوع من التوحيد هو المقصود من بعثة الرسل، فشرع الله عز وجل له احتياطات كثيرة، فلم يحرم -فقط- الذبح لغير الله، والنذر لغير الله، والتوسل بالمقبورين، أو بالأولياء أو الأنبياء، ولكن شرع احتياطات كثيرة لحماية جناب التوحيد، وقد تبدو للإنسان أنها مسائل فرعية، ولكن المقصود بها: حماية جناب التوحيد.(60/20)
تحريم الألفاظ الشركية
حرم الله سبحانه وتعالى على الإنسان أن ينطق بألفاظ توهم الندية والمساواة بين الله عز وجل وبين خلقه، فحرم الله على الإنسان أن يقول: أنا في حمى الله وفلان، أو: أنا توكلت على الله وعلى فلان، أو تقول: ما شاء الله وفلان.
وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام أن المخرج من هذا القول أن يعطف الإنسان بكلمة (ثم)، ولا يعطف بـ (الواو)؛ لأن (الواو) تقتضي المساواة بين المعطوف والمعطوف عليه، لكن (ثم) تقتضي تأخر المعطوف على المعطوف عليه، فتقول مثلاً: باسم الله ثم باسم فلان، أو أنا في حمى الله ثم في حماك، أو تقول: توكلت على الله ثم عليك، أو تقول: ما شاء الله ثم شئت.
فهذا هو ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يقولن أحدكم: ما شاء الله وفلان، وليقل: ما شاء الله ثم فلان).
ونهى -أيضاً- النبي صلى الله عليه وسلم عن الألقاب التي فيها تعظيم لغير الله، أو نسبة تأثير لغير الله، فمثلاً: بعض الناس يقول: وحياتك، أو: وحياتي، أو: وحياة أبيك، أو: لولا فلان لكان كذا، لولا أن الكلب نبح لكان اللص سرقنا، لولا مجيء فلان لقُتل هذا الرجل، لولا صياح الديك لسرقنا اللصوص.
فتقول: لولا رحمة الله، لولا فضل الله، لكن لا تنسب التأثير إلى هذه المخلوقات لولا ذلك الطبيب لكنت قد متّ، أو لحصل لي كذا، لولا الدواء الفلاني لما شفيت، وهذا كله شرك فإن الله هو الشافي.
فينبغي أن يفطن المسلم إلى مثل هذه الأمور التي تقدح في التوحيد.(60/21)
تحريم اتخاذ القبور مساجد
لحماية جناب التوحيد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، فاستفاض عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
كما نهى عن الصلاة في أوقات معينة، حيث جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها)؛ لما في ذلك من التشبه بالذين يعبدون الشمس؛ لأنهم يتحرون السجود للشمس في هذه الأوقات: وقت الشروق، ووقت الغروب.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن شد الرحال إلى مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فيه، سوى المساجد الثلاثة، كما في الحديث: (لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا) يقصد المسجد النبوي.(60/22)
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن القيام للرجال تعظيماً لهم
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم بعض أصحابه له على جهة التعظيم، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين رآهم يقومون له: (لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظّم بعضهم بعضاً)، وهدد النبي صلى الله عليه وسلم من يحب أن يتمثل الناس له قياماً فقال: (من أحب أن يتمثل له الرجال بين يديه قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فهذا أيضاً من الأسباب التي تحمي حمى التوحيد؛ لأنه حين يقوم الناس بعضهم لبعض تعظيماً فإن ذلك قد يخدش في جناب التوحيد، وحينما وقعت آية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزة له، سجد معاذ له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا معاذ؟! لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولكن لا ينبغي السجود إلا لله عز وجل)، وفي الحديث الآخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالصحابة جالساً، وصلوا وراءه قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، ثم قال لهم بعد أن فرغ من الصلاة: كدتم أن تفعلوا آنفاً فعل فارس والروم لعظمائهم، يجلس الرجل ويمثل الناس قياماً بين يديه)؛ لذلك نهى عن هذا الفعل.(60/23)
تحريم التصوير
كما حرم النبي صلى الله عليه وسلم التصوير بكل أنواعه -أي: تصوير ذوات الأرواح- لما فيه من مضاهاة خلق الله، ولما فيه من اعتداء على حق الله سبحانه وتعالى، فالله هو المصور كما قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24]، وفي الحديث: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: أين الذين ذهبوا يخلقون كخلقي؟! فليخلقوا بُرة فليخلقوا شعيرة)، فهل يستطيع هؤلاء المصورون أن يخلقوا حبة شعير؟! وإنما تحداهم الله عز وجل يوم القيامة لِعِظَم الحكمة من تحريم التصوير، وهي: مضاهاة خلق الله، وليس فقط حماية جناب التوحيد من عودة الناس إلى عبادة الأصنام التي كانوا يعبدونها، لكن الحكمة لأن فيها تشبهاً بخلق الله، فإن تشبه المخلوق بفعل الخالق لا ينبغي، كما جاء في تحريم التعذيب بالنار، فإنه لا يحل التعذيب بالنار؛ لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار، وكذلك التصوير من خصائص الخالق سبحانه وتعالى، فلا ينبغي مضاهاة خلق الله، والتشبه بفعل الله في خلق ذوات الأرواح؛ ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم التصوير قوله: (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة)، وقال: (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)، فتحداهم الله عز وجل بأن يحيوا ما خلقوا.
أفلا يتقي الله أناس لم يكتفوا باستباحة هذه التصاوير في بيوتهم، ولكن بدءوا يجترئون على حرمة بيوت الله، ويدخلون هذه التصاوير داخل المساجد، ويوقظون الفتن، ويدسون الشر في بيوت الله!! فإذا كانت الملائكة لا تدخل المساجد فأين تدخل؟! ووجود الصور داخل المساجد من ذرائع الوقوع في هذه المخالفة العظيمة، وإقرار هذا المنكر العظيم، فينبغي أن نراعي حرمة المسجد، فإن المسجد له حرمة عظيمة، ولا ينبغي أن نُدخل إلى المسجد شيئاً من هذه التصاوير التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وتواترت الأحاديث في تحريمها والتحذير منها.(60/24)
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الغلو فيه وفي مدحه، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني-والإطراء: هو المبالغة في المدح- كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي حيثما كنتم)، ولما جاء ذلك الوفد وقالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا، قال: (إنما السيد الله)، ولما جاء رجل وقال للنبي: ما شاء الله وشئت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)، ولما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فأخذته رعدة، أي: ارتعد من هيبة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (هوّن عليك! فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة) صلى الله عليه وسلم.(60/25)
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع القبور والبناء عليها
وكذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن رفع القبور، وتجصيصها، والبناء عليها، وإيقادها بالسرج، والعكوف عليها؛ خشية الافتتان بها والوقوع في تعظيمها، كما هو الآن حال كثير من الناس الذين يعبدون القبور عبادة حقيقية، فيذهبون إلى المقبورين، وقد قسموهم إلى تخصصات: فهذا لمن أراد أن ينتقم من جاره، وهذه لمن أرادت أن تنجب، وهذا لمن أراد أن ينجح ولده في الامتحانات وهكذا أصبح لكل واحد تخصص!! فيطلبون منهم النصر على الأعداء، ويطلبون منهم الشفاء، ويطلبون منهم الإنجاب؛ حتى وقعوا في ألوان من الشرك ما كانت تخطر على بال أحد أن يقع فيها ممن ينتمي إلى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.(60/26)
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الوفاء بالنذر في مكان كان يعبد فيه غير الله
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوفاء بالنذر في مكان كان يعبد فيه صنم، أو كان يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: (يا رسول الله! إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة -وهي هضبة قريبة من ساحل البحر- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أكان فيها صنم من أصنام الجاهلية يعبد؟ فقال: لا.
فقال: هل كان يقام فيها عيد من أعياد الجاهلية؟ قال: لا.
قال: فأوف بنذرك)؛ فلم يكن التحذير من هذه الأماكن إلا مراعاة لجانب التوحيد، واحتياطاً حتى لا يدخل فيه شيء من الشرك.
ونهج الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم نهج النبي صلى الله عليه وسلم في الاحتياط للتوحيد، والمحافظة على حماه؛ فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما رأى بعض الناس يأتي لشجرة الرضوان فيصلي عندها -وهي الشجرة التي بايع الصحابة عندها النبي عليه الصلاة والسلام- فأمر بقطعها؛ حتى لا يفتتن الناس بهذه الشجرة، وحتى لا يتبركوا بها، وقال عمر رضي الله عنه وهو يستلم الحجر الأسود ويقبله: (والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك!!).(60/27)
آداب الاستئذان [1]
دين الإسلام دين كامل شامل لجميع جوانب الحياة، فما ترك خيراً إلا ودلنا عليه، ولا شراً إلا وحذرنا منه، ومن شمولية هذا الدين أنه حرص على حرمة الإنسان في كل شيء، ومن ذلك حرمته في بيته؛ ولأجل ذلك شرع آداباً لمن أراد أن يدخل بيت غيره، وأمره بأوامر، ونهاه عن نواهٍ، وهي ما تعرف بآداب الاستئذان، فينبغي العلم بها وتطبيقها؛ للحاجة الماسة إليها في واقع الناس وحياتهم.(61/1)
اهتمام الشريعة بتعظيم حرمة البيوت
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي دعا إلى كل خير وصلاح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته، ولا ند له في عظمته وكبريائه ومجده وأحديته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من بريته، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، وسائر القائمين بحقوقه ونصرته أما بعد: فهذا موضوع قد ناقشناه من قبل مناقشة عابرة، والآن إن شاء الله تعالى نلخص القول فيه بحيث يتمكن من احتاج إلى الموضوع أن يرجع إليه، وهو: موضوع الأحكام التي تتعلق باحترام خصوصية الإنسان، وبعض الخصوصيات التي احترمتها الشريعة الإسلامية، والتي فاتت على كثير من الناس، وأعظم هذه الأبواب في الشريعة هو: أحكام الاستئذان، ثم يليه أمور أخرى سنذكرها إن شاء الله تعالى فيما بعد.
ففيما يتعلق باحترام خصوصية بيت الإنسان وحرمته، ضمن الإسلام حق الفرد في ملك رقبة منزله، وأن يعيش فيه آمناً مطمئناً، محفوظاً من تطفل المتطفلين، وفضول الفضوليين، وعدوان الصائلين، حيث يلقي أعباء الحذر، ويتحرر من قيود التكلف، وحجر على الآخرين أن يطلعوا على ما في هذه البيوت من الخارج، أو أن يلجوها من غير إذن أربابها، وإن ولجوها بإذن أربابها فهناك قيود وضوابط تُلزمهم بغض البصر، وعدم الاطلاع على عورات البيت من داخله، ثم هناك آداب تلزمهم بأنهم إذا خرجوا وقد اطلعوا على شيء مما يختص به صاحب البيت، فلا يفشون له سراً، ولا يهتكون له ستراً، قال الله سبحانه وتعالى في سياق الامتنان على الإنسان بنعمة المسكن: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} [النحل:80]، وإنما سمي مسكناً؛ لأنه محل الارتياح والسكينة والطمأنينة والاستقرار والأمان؛ فإن الإنسان إذا أفسد عليه هذا الملجأ الأخير فإلى أين يلجأ بعد ذلك؟! فمن ثَم اهتمت الشريعة جداً بتعظيم حرمة البيوت باعتبارها آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وهي سكن وراحة واطمئنان، فالبيت كالحرم الآمن لأهله، فلا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم، وفي الوقت الذي يريدون، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا الناس عليها، ولا يحل لأحد أن يتطفل على الحياة الخاصة للأفراد بالاستنصات، أو التجسس، أو اقتحام الدور ولو بالنظر من قريب، أو من بعيد، بمنظار أو بدونه إلخ.
فالحاجة لتذكير الناس بحرمة البيوت، واحترام خصوصيات أهلها، حاجة ملحة ومتجددة، ويكفي في بيان أهمية هذا الأمر، وثقل وزنه في الشريعة أنّ الله سبحانه وتعالى أنزل فيه قرآناً يتلى في المحاريب إلى ما شاء الله تعالى؛ ليحفظ هذه الحرمة، ويصون هذه الخصوصية.(61/2)
إهمال الناس لآداب الاستئذان
لقد تواترت شكوى أهل العلم عبر العصور من إهمال الناس لآداب الاستئذان، حتى صارت بينهم لشدة غربتها كأنها شرع منسوخ، يقول الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى: وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لم يؤمن بها أكثر الناس؛ يعني: آية الإذن.
وهذا الكلام ليس على ظاهره، وإلا فمن كذب بحرف من القرآن فقد كفر، فما بالكم بمن يكذب بآية؟! فـ ابن عباس يريد الزجر، ويعني: أن الناس يسلكون سلوك من لم تنزل عليه هذه الآية في القرآن، فكأنهم ما سمعوها؛ لشدة هجرهم إياها، وليس الكلام على ظاهره في أن الناس لا يؤمنون بهذه الآية، وإلا لاستلزم ذلك تكفيرهم، فالمراد هنا الزجر وبيان غربة هذا الحكم.
يقول: وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لم يؤمن بها أكثر الناس) يعني: آية الإذن (وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي).
فهذا واضح في أنه يقصد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58]، والدليل على أنه قصد هذه الآية قوله: جاريتي، يعني: أمتي، وهي مما ملكت يمينه.
وعن الشعبي في قوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ} [النور:58] قال: لم تنسخ، قيل له: إن الناس لا يعملون به، قال: الله المستعان.
وعن سعيد بن جبير قال: إن ناساً يقولون: نسخت هذه الآية، لا والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون بها الناس.
وقال الزمخشري: وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته: حييتم صباحاً، أو حييتم مساءً، ثم يدخل.
أي: أنّ هذه كانت طريقة الاستئذان في الجاهلية، فيقول: حييتم صباحاً، إن كان في الصباح، أو حييتم مساءً، ثم يهجم على البيت ويدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد، فصد الله عن ذلك، وعلم الأحسن والأجمل.
يقول الزمخشري: وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة قد تركوا العمل به، وباب الاستئذان من ذلك، بينا أنت في بيتك إذ رعف عليك الباب بواحد.
أي: أنه شبه هذا الهجوم المباغت من الذي لا يستأذن بهجوم الدم الذي يخرج من الأنف فجأة دون سابق إنذار، وهو الرعاف.
يقول الزمخشري: وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة قد تركوا العمل به، وباب الاستئذان من ذلك، بينا أنت في بيتك إذ رعف عليك الباب بواحد من غير استئذان ولا تحية من تحايا إسلام ولا جاهلية، وهو ممن سمع ما أنزل الله فيه، وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أين الأذن الواعية؟! انتهى كلام الزمخشري رحمه الله تعالى.
أما في عصرنا، فمن أراد أن يعرف شدة غربة أحكام الإسلام بين الخاصة فضلاًً عن العامة، فليتأمل موقفهم من أحكام الاستئذان وآدابه، وإذا تأمل الإنسان أحكام الإسلام السامية، وآدابه الراقية في باب احترام خصوصية الناس ومراعاة حرمة بيوتهم؛ لأدرك أننا متخلفون عن الإسلام، لا عن الحضارة المادية الكافرة بالله ورسله التي لا يزال المنبهرون بها يشيدون بفضائلها المزعومة، وقد أعماهم افتتانهم بهدي الكفار عن رؤية مثالب الواقع الاجتماعي الغربي الذي يعاني من التحلل والانهيار، فما عند القوم من الشر والبلاء والانحلال أضعاف ما عندهم من الخير، وما عندهم من الخير فلدينا أضعاف أضعافه، مما يغنينا عن التطفل على موائدهم، وهو أقرب إلينا من أيدينا وهو أصلاً مأخوذ منا كما هو معلوم في مناسبات أخرى، فهذه بضاعتنا المفروض أن ترد إلينا، ولكن المستغربين لا يفقهون، وحالهم كالذي قيل فيه: كالعيس في البيداء يقتلها الضما والماء فوق ظهورها محمول(61/3)
أحكام الاستئذان وآدابه
لنبدأ في هذا البحث كمحاولة للتذكير بجملة من هذه الآداب الاجتماعية المهمة التي درست بين الناس كما يدرس وشي الثوب، فنبدأ أولاً بتعريف الاستئذان.(61/4)
معنى الاستئذان
الاستئذان لغة: هو طلب الإذن؛ لأن السين هي سين الطلب، والإذن: من أذن بالشيء إذناً بمعنى أباحه، وعليه فإن الاستئذان: هو طلب الإباحة.
أما شرعاً فالاستئذان: هو طلب الإذن في الدخول لمحل لا يملكه المستأذن.
قال الله سبحانه وتعالى في آية الاستئذان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، فقوله: (بيوتاً غير بيوتكم): سيأتي إن شاء الله تعالى فيما بعد بيان ما هو بيت الرجل؟ لأن المقصود هنا الاستئذان في غير بيتك، فالبيت الذي تدخله بدون إذن هو البيت الذي تعيش فيه وحدك، ولا يوجد فيه غيرك، أو البيت الذي فيه زوجتك أو ما ملكت يمينك، وما عدا ذلك فليس بيتاً لك، فمثلاً: الغرفة المغلقة في البيت على بنتك أو ابنك البالغ، أو أختك، أو أمك، ليس بيتاً لك، صحيح أنك تملكه، أو أنك المستأجر وعقد الإيجار باسمك، لكن عندما نتكلم هنا في آداب الاستئذان على بيت الإنسان فالمراد المكان المغلق أمامه، إن كان يعلم أنه لا يوجد فيه أحد، أو توجد فيه زوجته أو أمته؛ فهذا هو بيته الذي لا يجب عليه أن يستأذن قبل دخوله، أما الغرفة المغلقة في داخل البيت على بنته البالغة، أو ابنه البالغ، فلا يدخلها أبداً إلا باستئذان، كما سنبين إن شاء الله تعالى.
فالاستئذان شرعاً: طلب الإذن في الدخول لمحل لا يملكه المستأذن، والفقهاء يستعملون الاستئذان بالمعنى اللغوي فيقولون: الاستئذان لدخول البيوت، ويعنون به: طلب إباحة دخولها للمستأذن.(61/5)
تفسير معنى الاستئناس في قوله تعالى: (حتى تستأنسوا)
يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27]، يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الآية الكريمة أشكلت على كثير من أهل العلم، وسبب هذا الإشكال: التعبير عن الاستئذان بالاستئناس، فقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا)، فعبر عن الاستئذان بالاستئناس، مع أن الاستئذان والاستئناس مادتان مختلفتان، من حيث الحروف، ومن حيث المعنى.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: وحكى الطحاوي: أن الاستئناس في لغة اليمن: الاستئذان، وفي تفسير هذه الآية الكريمة بما يناسب لفظها وجهان، ولكل منهما شاهد من كتاب الله تعالى: الوجه الأول في تفسير هذه الآية: أن قوله تعالى: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) من الاستئناس الذي هو ضد الاستيحاش -أي: حتى تذهب الوحشة عنكم- لأن الذي يقرع باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا، فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له استأنس وزال عنه الاستيحاش، وفي حديث عمر الطويل في قصة اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم نساءه يقول: (فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم، قال: فجلست) رواه البخاري في أواخر كتاب النكاح، فقوله: (أستأنس يا رسول الله؟) أي: أستأذن.
ولما كان الاستئناس لازماً للإذن أطلق اللازم وأريد ملزومه الذي هو الإذن، وإطلاق اللازم وإرادة الملزوم أسلوب عربي معروف، والقائلون بالمجاز يقولون: إن ذلك من المجاز المرسل.
وعلى أن هذه الآية أطلق فيها اللازم -الذي هو الاستئناس- وأريد ملزومه -الذي هو الإذن- يصير المعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأذنوا، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب:53]، وقال تعالى في نفس هذه الآية: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور:28]، فكلمة: (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) تدل على أن المراد من قوله: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي: حتى يؤذن لك، أو تستأذن.
وقال الزمخشري في هذا الوجه بعد أن ذكره: وهذا من قبيل الكناية والإرداف؛ لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن، فوضع موضع الإذن؛ لأنه يأتي بعد الإذن.
هذا هو الوجه الأول في تفسير الآية: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي: حتى تأتوا بالإذن الذي يوجب زوال الوحشة، ويحصل به الاستئناس.
الوجه الثاني في تفسير الآية: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي: حتى تستعلموا وتستكشفوا، فتستأنسوا: استفعال من آنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً، أو علمه، والمعنى: حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يؤذن لكم أو لا؟ وتقول العرب: استأنس هل ترى أحداً؟ أي: انظر هل ترى أحداً؟ وتقول: استأنست فلم أر أحداً، أي: تعرفت واستعلمت، ومن هذا المعنى قول الله تبارك وتعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ} [النساء:6] أي: استكشفتم واستعلمتم وعلمتم أنهم قد رشدوا، {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] أي: إن علمتم رشدهم وظهر لكم، وقال تعالى عن موسى عليه السلام: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَس} [طه:10] (آنست) أي: اكتشفت، أو استكشفت، أو استعلمت، وقال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} [القصص:29] (آنس ناراً) أي: رآها مكشوفة.
أيضاً في نسق التلاوة ما يدل على أن المراد بقوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] الاستئذان، وهو قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59] وهم الكبار، فأين الكلام عن الكبار؟ هو في الآية السابقة التي فيها الاستئناس.
ومن هذا المعنى قول نابغة ذبيان: كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد ومنه أيضاً قول الحارث بن حلزة اليشكري يصف نعامة شبه بها ناقته: آنست نبأة وأفزعها القنا ص عصراً وقد دنا الإمساء قوله: آنست نبأة، أي: أحسست بصوت خفي.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: وهذا الوجه الذي هو أن معنى تستأنسوا: تستكشفوا وتستعلموا هل يؤذن لكم؟ وذلك الاستعلام والاستكشاف إنما يكون بالاستئذان أظهر عندي، وإن استظهر بعض أهل العلم الوجه الأول، وهناك وجه ثالث في تفسير الآية تركناه لعدم اتجاهه عندنا.
قلت: لا بأس من إيراده وإن كان في غاية الضعف، وهو: ما حكاه الزمخشري حينما قال: ويجوز أن يكون من الإنس، وهو أن يتعرف هل ثمة إنسان؟ وعلق عليه الناصر فقال: وذكر أيضاً وجهاً بعيداً، وهو أن المراد: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] أي: حتى تعلموا هل فيها إنسان أو لا.
وهذا ضعيف من حيث المعنى؛ لأن الإنسان إذا استأذن هل معنى ذلك أنه يسأل: أيوجد إنسان في الداخل أم لا؟ وهل هذا هو معنى الاستئذان؟ لا، فإنّ موضوع الاستئذان هو طلب الإذن في الدخول ولو كان هناك إنسان في الداخل، كما سنوضحه فيما بعد، هذا أولاً.
ثانياً: أن كلمة: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) لو قلنا: إنّ معناها: حتى تعلموا هل يوجد إنسان في الداخل أم لا، فمعنى هذا أنه اشتق من كلمة الإنس.
وقال الألوسي رحمه الله تعالى: وضُعِّف بأن فيه اشتقاقاً من جامد -أي: أن كلمة (الإنس) كلمة جامدة، فكيف يشتق منها مادة استأنس؟ - كما في المسرج أنه مشتق من السراج، وبأن معرفة من في البيت لا تكفي بدون الإذن، فيوهم جواز الدخول بلا إذن.
أي: إذا عرفنا أن هناك أحداً في الداخل فهل ندخل بدون إذن؟
الجواب
لا، فلذلك ضعف هذا الوجه من الناحيتين: الناحية الأولى: أنّه اشتقاق من جامد وهي كلمة (الإنس)، وهذا لا يصح.
الناحية الثانية: أنّ محور القضية ليس هو: هل يوجد إنسان أم لا؟ وإنما محورها: هل يأذن أم لا؟ ولو كان موجوداً.(61/6)
حكم الاستئذان
لا يجوز للإنسان أن يدخل بيت غيره بدون الاستئذان والسلام؛ لقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، وهذا نهي صريح متجرد عن القرائن، فظاهره التحريم.
قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى: الاستئذان واجب على الناس أجمعين إن احتلموا، فالخطاب هنا للبالغين المكلفين؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59]، فدل على أن الحد الفاصل للوجوب وعدم الوجوب هو بلوغ الحلم.
وحكى النووي إجماع العلماء على مشروعية الاستئذان؛ بل قال المالكية: إن الاستئذان واجب وجوب الفرائض، وإنه لا يجوز لأحد أن يدخل بيتاً لغيره حتى يستأذن أهله، سواء كان المستأذن قريباً للمستأذن عليه، أو أجنبياً عنه، وهو مجمع على وجوبه، فمن ترك الاستئذان فهو عاصٍ لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن جحده فإنه يكفر؛ لأنه ورد الأمر به في الكتاب الكريم.
وقد يفهم بعض الناس من كلمة الآداب عندما نقول: الآداب الشرعية، أو آداب الاستئذان، أنها أمور مستحبة، أو مجاملات يفضل للإنسان أن يلتزم بها وليست بواجبة، وهذا فهم خاطئ، فإن منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، ومنها ما هو مباح، فالاستئذان أدب واجب كما بينا.(61/7)
الحكمة من الاستئذان
قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: اعلموا -وفقكم الله- أن الله سبحانه وتعالى خصص الناس بالمنازل، وسترهم فيها عن الأبصار، وملكهم الاستمتاع بها على الانفراد، وحجر على الخلق أن يطلعوا على ما فيها من خارج، أو يلجوها بغير إذن أربابها؛ لئلا يهتكوا أستارهم، ويبلوا أخبارهم، وتحقيق ذلك ما روي في الصحاح عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (اطلع رجل في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرى يحك بها رأسه -والمدرى: المشط- فقال عليه الصلاة والسلام: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر، فمن دخل بعينه فقد دخل) أي: وإن كان بدنه من الخارج، فهذا يشير إلى هذا المعنى المهم، فهذه هي الحكمة من الاستئذان.
وكما أن الإنسان يتخذ البيت لستر نفسه وعورات أهله، فإنه يتخذه أيضاً لستر أمواله ومتاعه، وكما ذكرنا فإنّ الإسلام يحترم الملكية الفردية، ويحترم الملكية الخاصة، وخصوصيات الإنسان، فكما يكره الإنسان اطلاع الغير على نفسه، أو على عورات أهله وحرمه، فكذلك يكره اطلاع الغير على أمواله ومتاعه، يقول الزمخشري في الكشاف: قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً} [النور:28] يعني: من الآذنين {فَلا تَدْخُلُوهَا} [النور:28] واصبروا حتى تجدوا من يأذن لكم، وانظر إلى هذا التعبير القرآني فإنه في غاية الدقة، فالله سبحانه لم يقل: (فإن لم يكن فيها أحد فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم) وإنما قال: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً)، فإذا طرقت باب أحد من الناس ولم يرد عليك، وتريد أن تكتب ورقة، فهل تتحرج من أن تكتب: حضرت ولم أجد أحداً؟
الجواب
لا حرج في ذلك.
وهناك فرق بين العبارتين السابقتين، أعني: قوله تعالى: (فإن لم تجدوا فيها أحداً)، وبين قولنا: (فإن لم يكن فيها أحد)، وأذكر هنا قاعدة معروفه عند المناطقة، وهي قاعدة صحيحة: أن عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود، بمعنى: لو أنّ طالب علم مثلاً يكتب بحثاً حول الربا، فأتى بكتاب (الأم) للشافعي رحمه الله مثلاً، وبحث عن مسألة معينه في باب الربا فما وجدها، فهل يجوز له أن يقول: فتشت في كتاب الأم للشافعي ولم أجد فيه هذه المسألة في موضوع الربا، أم يقول: لم يتعرض لهذه المسألة في كتابه هذا؟
الجواب
يقول: فتشت في باب الربا فلم أجد فيه هذه المسألة، ولا يقول: لا توجد هذه المسألة في هذا الكتاب، أو لم يتعرض لها، لماذا؟ لأنه لا يجوز القطع بعدم الوجود إلا على أساس استقراء تام، أو دليل قطعي.
ومثله قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [يونس:18] أي: لقد اتخذتم شركاء آخرين مع الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى لا يعلم له شريكاً في السموات ولا في الأرض، فما هو الشيء الذي لا يعلمه الله؟ هو الشيء المعدوم الذي ليس بموجود، فما دام أنّ الله تعالى لا يعلمه فهو غير موجود، لكن الله سبحانه وتعالى يعلم كل ما في السموات وما في الأرض، ولا يغيب عنه شيء سبحانه وتعالى.
إذاً: فهذا الطالب الذي يقول: فتشت عن هذه المسألة في كتاب الربا، أو في باب الربا من كتاب الأم فلم أجدها، قد أصاب، وأما من يطلق ويقول: ليس في كتاب الأم تعرض لهذه المسألة، فلم يصب، إلاّ أن يكون استقرأ الكتاب كاملاً؛ فلعلّ الشافعي تعرض لها في باب آخر، وهذا يحصل كثيراً.
فالشاهد: أنّه في حالة عدم الوجدان يقول: أنا فتشت فلم أجد في حدود علمي، ولذلك تجد دقة المحدثين كالإمام الحافظ العراقي مثلاً في تخريج الحديث يقول: لا أعرفه.
فانظر إلى الدقة والأدب، بينما يأتي بعض أفراخ هذا الزمان من طلبة العلم المتطفلين على علم الحديث فيجزم بالقطع أن هذا ليس موجوداً على الإطلاق، لكن انظر للعالم المتقن يقول: لا أعرفه.
أي: أنا لا أعرفه، لكن يمكن أن غيره من العلماء يعرفه، لأنه لا يوجد أحد يحيط علماً بكل شيء، فيقول: لا أعرفه، وينسب التقصير إلى نفسه، وينفي المعرفة عن علمه، فلا بدّ أن يكون الإنسان دقيقاً، فعدم الوجدان يعني: أني بذلت جهدي ووسعي فلم أجد المراد، فتتحدث عن محصلتك وعن نفسك، لكن عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود، فقد يكون موجوداً وأنت إما قصرت، وإما غاب عنك بأي صورة من الصور.
فالشاهد هنا: أن قول الله سبحانه وتعالى: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً) نفي للوجدان، لكن هل يلزم منه عدم الوجود؟ لا؛ لأنّه يمكن أن يكون هناك أناس في الداخل، ولسبب من الأسباب -والبيوت أسرار، والبيوت عورات- لا يريدون أن يفتحوا، وهذا حق من حقوقهم، فلا بد أن نفهم هذا الأمر؛ لأن القرآن نفسه أشار إلى هذا المعنى بقوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28].
فالشاهد: أن من حكمة الاستئذان ستر عورات الأبدان، وعدم اطلاع الناس الآخرين عليها، وكذلك ستر الأموال، والمتاع، والأمور الخاصة التي لا يحبون اطلاع الناس عليها.
قال الزمخشري: فإن لم تجدوا فيها أحداً من الآذنين فلا تدخلوها، واصبروا حتى تجدوا من يأذن لكم، ويحتمل: فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها، ولكم فيها حاجة، فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها.
يعني: لو أنّ واحداً كان متأكداً أن صاحب البيت -مثلاً- مسافر، ولا يوجد أحد في البيت، فهل يجوز له أن يقتحم البيت ويدخل؟ لا؛ لأنّ حِكَم الاستئذان ليست مقصورة على ستر عورات الأبدان فقط؛ بل يدخل فيها ستر عورات البيوت والممتلكات.
يقول الزمخشري: فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها، ولكم فيها حاجة، فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها؛ وذلك أن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادات عن غيرهم، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها، ولأنه تصرف في ملك غيرك، فلا بد من أن يكون برضاه، وإلا أشبه القهر والتغلب.
وقول الزمخشري هنا: وذلك أن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة فقط، الدامر: مأخوذ من الدمور، والدمور: هو الدخول بغير إذن، فكون الإنسان يهجم ويدخل مكاناً ليس ملكاً له بدون إذن فإنه يسمى: دامر، واشتقاقه من الدمار، وهو الهلاك؛ لأنه هجوم بما يكره، فكأن صاحبه دامر أي: هالك؛ لعظم ما ارتكب من الجريمة، فقد اقتحم حرمة الآخرين بدون إذن، وقيل: المعنى: أن إساءة المطلع مثل إساءة الدامر، وروي: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد دمر)، وروي: (من سبق طرفه -أي: عينه- استئذانه فقد دمر عليهم)، أي: هجم ودخل بغير إذن.
ومن حكم الاستئذان: بقاء البيت سكناً لصاحبه يأوي إليه لراحته، ويستقر فيه لينجز عملاً، أو يخلو بعبادة وذكر وتفكر، أو يطلب علماً، أو يرعى أهلاً وولداً، فهذا معنى (السكن)، وهذه المعاني هي ظلال هذه العبارة العظيمة {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} [النحل:80]، فربما لا يريد الإنسان أن يقطع ما هو فيه من تلاوة قرآن، أو عبادة، أو صلاة، أو نحو ذلك، فهناك أعذار وأحوال كثيرة جداً قد تمنع الإنسان من مجرد الرد على المستأذن، أو الإذن له، فإما أنّه يريد أن يستريح، فإذا دُق الباب في كل وقت فإنه لا يستطيع أن ينام مثلاً، ولا يستطيع أن يأوي لراحته، أو يستقر فيه لينجز عملاً، أو يخلو بعبادة وذكر وتفكر، أو يطلب علماً، أو يرعى أهلاً وولداً، فلو ترك وقته نهباً لكل طارق فاتت عليه مصالحه، واضطربت أحواله، وتشتت أمره، مما قد يؤدي إلى تشويش فكره، فيسيء خلقه، ويضيق صدره.
إن المعنى الحقيقي للاستئذان ليس كما يفهمه البعض: هل أنت موجود في الداخل حتى يلزمك أن تأذن لي؟ وإنما هو: هل أنت موجود أم غير موجود؟ فإن كنت موجوداً فهل ظروفك تناسب أن تأذن لي أم لا؟ فيأتي الرد من صاحب البيت إما بالقبول، وإما بالاعتذار.(61/8)
الاعتذار عن إجابة المستأذن
الاعتذار له طريقتان دل عليهما القرآن الكريم: الطريقة الأولى: أن يكون الاعتذار صريحاً، وذلك بأن تقول: (ارجعوا).
والطريقة الثانية: أن يكون الاعتذار ضمنياً.
ويكون ذلك بعدم الرد، والناس قد تضطر في هذا الزمان إلى هذا النوع من الاعتذار الذي أبيح في القرآن الكريم؛ لقصور إدراك كثير من الناس عن فهم هذه الآداب الشرعية، فلو قيل له: ارجع، فقد يؤدي ذلك إلى بعض المصادمات، فيسكت دفعاً لتلك المفسدة، ومن الناحية التربوية نجد أن سكوت صاحب البيت أهون من أن يرسل الطفل ويقول له: أخبره أن أبي غير موجود، فيقول الطفل: يقول لك أبي: إنه غير موجود! فلا يستطيع أن يضبط الكلام، ولا يعرف الغرض من كلامك وهذا يؤدي إلى تحطيم أهم خلق ينبغي أن يغرس في الأطفال، وهو خلق الصدق، ويغرس أسوأ خلق ينبغي أن ينزه عنه الأطفال، وهو خلق الكذب، ومن الذي يعلمه هذه الخصلة؟ إنّه أبوه القدوة الذي يحطم عنده هذه القدوة، ويلقنه الكذب بدرس عملي، فمهما كلمه بعد ذلك عن الصدق وأهميته فإنه لا يتأثر، فاحتياطاً لتربية الأطفال ينبغي أن يقول لمن أراد أن يستأذن: ارجع، أو يسكت ولا يتكلم، وهذا هو الغالب في هذا الزمان أنه لا يتكلم؛ حماية للأطفال من أن يلقنوا الكذب منذ نعومة أظفارهم.
إنّ عدم فهم حقيقة الاستئذان التي ذكرناها سابقاً كان سبباً في إلحاح بعض الناس في الاستئذان، والانتظار أمام الأبواب، وأعرف بعض الناس يدق الجرس حتى يحترق الجرس أحياناً! وفي بعض الأوقات صاحب البيت ينزع الكهرباء عن الجرس؛ حتى لا يحترق الجرس، فإذا انتهى الجرس فإنه يضرب الباب بيديه ورجليه، ويقول للذي معه: أنا متأكد أنه في الداخل، أنا سمعت صوته، فمثل هذا لم يفقه معنى الاستئذان.(61/9)
صفة الاستئذان
الأصل في الاستئذان أن يكون باللفظ، وهنا أنبه على أمر مهم جداً: وهو احترام خصوصية الإنسان في حدود شرع الله سبحانه وتعالى، فترى بعض الناس يأتي إلى الأطفال الصغار ويريد أن يتلصص إلى معرفة أسرار البيوت من خلالهم، وهذا كثير في النساء؛ لأن النساء يتمتعن -إلا الأخوات الملتزمات- بقدر من الفضول غريب، فيقول في نفسه: إنّ الطفل الصغير لن يستطيع أن يميز، فيتتبعون الأطفال لهذا الغرض، فبدلاً من أن يدخل ويتلصص بنفسه، ويتجسس على عورات البيوت؛ تراه يمسك الأطفال ويقول في نفسه: هذا مصدر آمن للتجسس على أحوال الناس، فيأتي بالطفل ويسأله عن أسرار البيت: ماذا حصل في كذا؟ وماذا قالوا في كذا؟ وماذا عندكم؟ وماذا عملتم في كذا؟ إلى آخر هذه الأشياء، فكيف التصرف في هذه الحالة؟ سنشوه صورة الكبار في عين الطفل، اقترحوا معنا حلاً للمشكلة هذه، قد يوجد في داخل بعض البيوت أسرار، كما يقول المثل العامي الذي يكون أحياناً حكيماً: البيوت أسرار، فلو أراد أحد أن يستغل براءة الطفل في أن يطلع على هذه الأسرار فكيف تحتاط لذلك؟ كلمة (تربية الأولاد) كلمة فضفاضة، ونحن نريد حلاً لمشكلة محددة.
والحل: أن تعلم الطفل أن أي إنسان يسأله عن هذه الأمور أن يقول له: اسأل أبي، أو اسأل أمي، وتحفظه هذا بدون أن تشرح له؛ حتى لا يظهر الناس الكبار أمامه بصورة مشوهة، فإنك إذا قلت له: هذا فلان يتجسس، وهذا يرتكب معصية، ستشوش الكبار أمامه، لكن الأحسن من ذلك أن تعلمه أن من سأله عن أسرار البيت وخصوصياته أن يقول له: اسأل أبي، أو اسأل أمي، وهنا سوف يفهم هذا المتطفل أن هناك أحداً لقنه هذا الموضوع، وأنه منتبه لهذا العدوان.
فالأصل في الاستئذان -كما قلنا سابقاً- أن يكون باللفظ، كما بين الله سبحانه وتعالى، وصيغته المثلى أن يقول المستأذن: السلام عليكم، أأدخل؟ فيجمع بين السلام والاستئذان، وما أروع أن يبدأ بالسلام الذي هو ذكر الله سبحانه وتعالى باسم من أسمائه سبحانه، وله فضيلة عظيمة جداً كما هو معلوم، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27].
قال الإمام أبو بكر الجصاص الحنفي رحمه الله تعالى: وأمر مع الاستئذان بالسلام؛ إذ هو من سنة المسلمين التي أمروا بها، ولأن السلام أمان منه لهم، وهو تحية أهل الجنة، ومجلبة للمودة، وناف للحقد والضغينة.
لقد سبق أن تكلمنا من قبل عن فضائل السلام، والمسلم يتحسر على ما وصل إليه المسلمون! فتجد بعض الناس يتحرى ألاّ يقترب من الأمور التي فيها هذه الآداب الإسلامية، وبعض الناس يتكبر عن أن يرد السلام، ويظن أن هذه تحية من تحايا العرب المتخلفين، أما هم فتراهم يستعملون هذه التحايا الشيطانية الجاهلية: صباح الخير، ومساء الخير، إن لم تكن أيضاً باللغة الأجنبية كما يحصل الآن من بعض المنهزمين، وما درى هؤلاء المساكين أنهم في عدم إلقاء السلام عليهم قد أضروا أنفسهم بعقوبة شرعيه يعاقب بها الفاسق والمبتدع والكافر، وإن كان لا يستحق الرد، فهذا تشريف له أن تبدأه بالسلام.
ومن العقوبة للمبتدع، أو الفاسق، أو العاصي، أنك لا تبدؤه بالسلام؛ لأن ذلك تشريف له، فترى الواحد من هؤلاء يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويفضل الدونية في تحية صباح الخير، ومساء الخير, وغيرها من الألفاظ العجمية، بدلاً من: السلام عليكم، وهذا من السفه، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.
عن ربعي بن خراش قال: حدثنا رجل من بني عامر قال: (إنه أستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال: أألج -يعني: أأدخل-؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، وقل له: قل: السلام عليكم، أأدخل، فسمع الرجل ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له، فدخل)، إن كثيراً من المواقف يحصل فيها خطأ في مراعاة آداب الاستئذان، ثم نجد الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم الناس هذا الأدب، وهذه وظيفة المربي دائماً: أنك ما تفوت فرصة إلا وتعلم الطفل، ونتكلم عن الطفل لأنه لا يزال عوداً غضاً طرياً يقبل التشكيل كالعجينة، أما الكبار فيصعب تشكيلهم إلى حد ما، إلا من كان ملتزماً حقيقياً بدين الله تعالى؛ فإنه إذا سمع حكم الله يقول: سمعنا وأطعنا.(61/10)
تعليم الأطفال آداب الاستئذان
أما الطفل فلا تجعل له حصة خاصة بالتربية والتأديب؛ بل إنّ سلوكياتك أمامه هي دروس وتعليم، ولذلك إذا نشأ الطفل في بيت كل من فيه يحترم آداب الاستئذان؛ فإنه لا يحتاج أن يتعلم هذه الآداب؛ بل تصبح جزءاً من كيانه، فيعرف أن الاستئذان يكون كذا، وإذا وجد كل من يعطس في البيت يقول: الحمد لله، ثم يجاب عليه: يرحمكم الله، ثم يجاب عليه بكذا، فإنه سيفعل نفس السلوك تلقائياً بالتلقين والتقليد والمحاكاة، فأفضل شيء أن تغرس فيه منذ نعومة أظفاره هذه الآداب، فتصبح جزءاً من هويته ومن كيانه، بحيث لا يحصل أي عناء على الإطلاق في التفاعل مع هذه الآداب.
وإذا بدأ الطفل يعي فلك أن تعلمه هذه الآداب في وقتها وحينها، فإذا أوقفته عند الباب فقل له مثلاً: قبل أن تدخل تقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ويحاول أن ينطق الكلمة، فإذا قال ذلك فتعطيه هدية، وتشجعه على التزامه بهذا الأمر، وربما تحكي للآخرين أن هذا الطفل فعل كذا وكذا أمامه، والآخرون يظهرون انبهاراً بذلك، فيشعر أنه أتى بشيء عظيم، وشيء محبوب، ثم إذا قصر مرة أو مرتين أو عاند فلا تلح عليه أو تضغط عليه أو توبخه، وإنما تتركه إلى أن يتعود على ذلك، وتصبح عادة راسخة فيه.
وإذا عطس أحد ولم يحمد الله، وقال له الطفل: يرحمك الله، فتفهمه مسألة جديدة، فتقول له: لا تقل له: يرحمك الله؛ لأنه لم يحمد لله، فأنت تغرس له أن الذي يعطس وما يقول: الحمد لله، لا تقل له: يرحمك الله، ويصعب أن تفهم الطفل نص الحديث بصورة نظرية، لكن عندما يعطس عاطس ولم يحمد الله فإن الطفل سيقول له: يرحمك الله؛ لأنه تعود على ذلك، فأنت تقول له: لا تقل له؛ لأنه لا يستحق أن نقول له: يرحمك الله؛ لأنه لم يقل: الحمد لله، فتضيف له مسألة جديدة، مع الإلحاح والقدوة العملية؛ فإنها تغرس هذه المفاهيم.(61/11)
ما هو الأولى في الاستئذان: تقديم السلام أو تقديم الاستئذان؟
هل يقدم السلام أم الاستئذان؟ هل تقول: أأدخل؟ السلام عليكم، أم: السلام عليكم أأدخل؟ قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: واختلفوا في أنه هل يستحب تقديم السلام ثم الاستئذان، أو تقديم الاستئذان ثم السلام؟ أتدرون ما منشأ الخلاف هنا؟
الجواب
منشأ الخلاف أنّ الآية السابقة فيها: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، فهل العطف بالواو هنا يقتضي الترتيب أم لا يقتضي الترتيب؟ أما هنا فمن المؤكد أنّه لا يقتضي الترتيب؛ لأن في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (قل: السلام عليكم، أأدخل؟)، فالسنة العملية بينت الآية بما يجب المصير إليه، ولا يجوز النظر فيما خالفه؛ لأنه متى ما ثبت تفسير الآية عن الرسول صلى الله عليه وسلم فإنّه يجب المصير إلى هذا التفسير.
يقول النووي رحمه الله تعالى: والصحيح الذي جاءت به السنة، وقاله المحققون أنه يقدم السلام، فيقول: السلام عليكم، أأدخل؟ القول الثاني: يقدم الاستئذان، ويقول: أأدخل؟ السلام عليكم.
والثالث: التفصيل، وهو اختيار الماوردي من أصحابنا: إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدم السلام، وإلا قدم الاستئذان.
قال الشوكاني: وليس عليه دليل.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان في تقديم السلام، يقول العلامة المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: ولا يخفى أن ما صح فيه حديثان عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على غيره، فلا ينبغي العدول عن تقديم السلام على الاستئذان، وتقديم الاستئناس -الذي هو الاستئذان- على السلام في قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا} [النور:27]، لا يدل على تقديم الاستئذان؛ لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب، وإنما يقتضي مطلق التشريك.
فإذا قلنا: جاء محمد وعلي، فالعطف بالواو لا يقتضي الترتيب، وإنما يفيد مطلق التشريك، أي: أنّ الاثنين اشتركا في المجيء، وأما من الأول منهما؟ فلا دليل عليه من هذه الجملة، أما إذا قلنا: جاء محمد ثم علي، فإن (ثم) تقتضي الترتيب والتراخي.
وقال شيخ المفسرين الإمام الطبري رحمه الله تعالى في هذه الآية: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا} [النور:27]: هو من المقدم الذي معناه التأخير، إنما هو: حتى تسلموا وتستأذنوا، فهذا فيه تقديم وتأخير؛ لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب وإنما يقتضي مطلق التشريك، فيجوز عطف الأول على الأخير بالواو، كقوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] والركوع قبل السجود، فالعطف هنا يقتضي مطلق التشريك، وليس يقتضي الترتيب.
وقال تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:7] فهذا ليس فيه ترتيب؛ لأن نوحاً قبل نبينا عليه الصلاة والسلام.
إلاّ أنّ هذا لا ينافي أن يعطف بالواو والمراد منها الترتيب، لكن لابد أن يدل دليل على اقتضائها الترتيب في ذلك الموضع.
ومثال مجيئها للترتيب قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]، فلو تركت هكذا بدون دليل لجاز لك أن تبدأ في الطواف والسعي بأي واحدة منهما، ولكن جاء حديث يدل على أن المراد بالواو هنا الترتيب، وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أبدأ بما بدأ الله به)، وفي بعض الروايات: (ابدءوا بما بدأ الله به) بصيغة الأمر، فهذا يدل على أن (الواو) هنا تقتضي الترتيب وليس مطلق التشريك.
وأيضاً في قول حسان رضي الله تعالى عنه: هجوتَ محمداً وأجبتُ عنه وعند الله في ذاك الجزاء برواية الواو: (وأجبت)، فهذه الواو تقتضي الترتيب؛ لأن هناك من هجا النبي صلى الله عليه وسلم، فدافع عنه حسان رضي الله عنه، فجواب الهجاء لا يكون إلا بعده.
وإيضاح ذلك: أن الواو عند التجرد من القرائن والأدلة الخارجية لا تقتضي إلا مطلق التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا ينافي ذلك أنه إن قام دليل على إرادة الترتيب في العطف كالحديث المذكور في البدء بالصفا، أو دلت على ذلك قرينة كالبيت المذكور، أنها تدل على الترتيب؛ لقيام الدليل أو القرينة على ذلك، والآية التي نحن بصددها لم يقم دليل راجح ولا قرينة على إرادة الترتيب فيها بالواو، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم تكرر منه تعليم الاستئذان لمن لا يعلمه بأن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ وهذا بيان للمراد من القرآن الكريم، فيتعين المصير إليه، كما أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وأقر من أتى به، وأنكر على من خالفه.(61/12)
بيان النبي صلى الله عليه وسلم لكيفية الاستئذان قولاً وفعلاً وتقريراً
قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] أي: حتى تستأذنوا، والاستئذان يكون ثلاثاً، ويبدأ فيه بالسلام، وكل هذا جاء في السنة، وهو يوضح ويفسر الآية الكريمة، ويبين أنه لا يصح أن يكون المراد بقوله: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أن يتنحنح أو نحو ذلك مما ذهب إليه البعض.
أما تعليم النبي عليه الصلاة والسلام فكما رواه ربعي بن خراش قال: (حدثنا رجل من بني عامر أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال: أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم، أأدخل؟) وفي رواية أخرى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأمة له يقال لها روضة: قولي لهذا يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ فسمعها الرجل فقالها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ادخل).
وعن كلدة بن الحنبلي رضي الله عنه: (أن صفوان بن أمية بعثه بلبن ولبأ وضغابيط إلى النبي صلى الله عليه وسلم -والضغابيط: حشيش يؤكل-، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي، قال: فدخلت عليه ولم أسلم ولم أستأذن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فقل: السلام عليكم، أأدخل؟ وذلك بعدما أسلم صفوان).
قلت: فانظر إلى قوله: (ارجع) كيف يعلمه الأدب، ولا يتسامح في مثل هذا، خاصة من المربي، ويكون ذلك برفق ولطف، لكن لا يفوت التعليم في هذه الأشياء، فإن بعض الناس يتحرج من مواجهة من فعل هذا التقصير، سواء كانوا تلامذة له أو نحو ذلك، وربما زين هذا المسلك قول بعض الصوفية: راحة القلب ألاّ ترى لأحد عليك حقاً، وهذا صحيح أن راحة البال في تعاملك مع الناس أن تؤدي ما عليك من الواجبات تجاههم ولا تنتظر حقاً منهم، فهذا ممكن إلا في حالة التربية والتأديب، فلا بأس للشيخ أو الأستاذ أو المربي أو الأب أو الأم أن يرى أن راحة البال ألاّ يكون لأحد عليه حق؛ من أجل أن يتحمل إساءة الناس، ويصفح عنهم، لكن هذا الأسلوب مع من كان مسئولاً عنهم لا ينفع؛ لأنه سيبقى السلوك السيئ بدون تقويم، فتعلم ابنك أن يحترمك، وتعلمه أن يحترم أستاذه، ويمكن للأب أن يعلم ابنه أن يتأدب معه، وأن يحترمه، وهذا فيه مصلحة الابن نفسه، ولا يقول: لا أرى لنفسي حقاً على أحد، ثم يصير الولد سيئ التربية، وهل ينفع أن نقول: عديم التربية؟ هل يصح ذلك؟ لا يصح؛ لأن كل واحد لا بد أن يكون متربياً، إلاّ أن هناك تربية حسنة، وهناك تربية سيئة، فالناس على قسمين: حسن التربية، وسيئ التربية، وليس هناك صنف ثالث بين القسمين.
فالأب يمكن أن يعلم ابنه مثلاً ويخاطبه بطريقة معينة فيها الأدب والأسلوب المهذب والكلام الذي فيه التوقير، ولا حرج على الإطلاق في ذلك؛ بل إن هذا فيه مصلحة الولد حتى يتربى.
أما السنة الفعلية فما ثبت أن أبا سعيد أو أبا مسعود رضي الله تعالى عنهما قال لـ عمر رضي الله عنه: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد سعد بن عبادة حتى أتاه فسلم، فلم يؤذن له - أي: لم يؤذن للرسول عليه الصلاة والسلام-، ثم سلم الثانية فلم يؤذن له، ثم سلم الثالثة فلم يؤذن له، فقال: قضينا ما علينا، ثم رجع صلى الله عليه وسلم فأذن له سعد) إلى آخر الحديث.
وروى الإمام أحمد بسنده عن أنس أو غيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال: السلام عليك ورحمة الله)، فلا يجوز لأحد أن يحتجب عن الرسول عليه الصلاة والسلام بحال من الأحوال، وأيضاً لا يجوز للإنسان بحال أن يحتجب عن أبيه وأمه، فمن الممكن أن يحتجب عن غيرهما لعذر من الأعذار، أما الوالدان فلا يجوز أن تحتجب عنهما أو أحدهما.
ففي الحديث السابق: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال: السلام عليك ورحمة الله، فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله، ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم - أي: أنّه رد في نفسه بحيث لا يسمعه الرسول عليه الصلاة والسلام-، حتى سلم ثلاثاً، ورد عليه سعد ثلاثاً، ولم يسمعه، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، فاتبعه سعد فقال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي -يعني: أفديك بأبي وأمي- ما سلمت تسليمة إلا وهي بأذني، ولقد رددت عليك ولم أسمعك، أردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة، ثم أدخله البيت، فقرب إليه زبيباً، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ قال: أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة، وأفطر عندكم الصائمون).
وهذا الحديث يلحن فيه كثير من الناس، ويأتون فيه بمصائب بسبب التصحيف، فيقول بعضهم: أكل طعامُكم الأبرار، يعني: أن الطعام هو الذي أكل الأبرارَ، فيجعلون الطعام فاعلاً، والأبرار مفعولاً.
(وصلت عليكم الملائكة) بالصاد، وهم يقولون: وسلط من التسليط.
وعن قيس بن سعد بن عبادة قال: (زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد سعد رداً خفياً، فقلت: ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: دعه يكثر علينا من السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، فرد سعد رداً خفياً، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعه سعد، فقال: يا رسول الله! إني كنت أسمع سلامك، وأرد عليك رداً خفياً؛ لتكثر علينا من السلام، فانصرف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: السلام عليكم، السلام عليكم، وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور).
ومن السنة التقريرية ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له فقلت: السلام عليك يا رسول الله! أيدخل عمر؟).(61/13)
آثار الصحابة في بيان كيفية الاستئذان
أما آثار الصحابة رضي الله عنهم: فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه آذته الرمضاء -أي: الحر- فأتى فسطاط امرأة من قريش، فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فقالت المرأة: ادخل بسلام، فأعاد، فأعادت، فقال لها: قولي: ادخل، فقالت ذلك فدخل.
وقد فسر بعض العلماء قولها له: ادخل بسلام، أنها تريد: سلم، فأنت تستأذن فقط، فكأنه فهم من قولها أنها تتهمه بالجهل، وأنه لا يدري كيف يستأذن، فهي تقول له: ادخل بسلام، وهناك تفسير ذكره العلماء أقرب من هذا وأوضح، وهو: أن هذا الدخول دخول مشروط، أي: أنها تقول له: ادخل بشرط أن تدخل بسلام، تعني: لا تؤذنا، ولا تطلع عينك إلى أي شيء مما لا ينبغي أن تطلع عليه، فكأن الدخول هنا مشروط بشرط وهو: أن يدخل بسلام، فهو لا يدري هل سيلتزم بهذا أم لا؟ لأنه بشر، وقد يقع منه التقصير، والإخلال بهذا الشرط، فهي تقول له: ادخل بسلام، فيقول لها: السلام عليكم، أأدخل؟ فتقول له: ادخل بسلام، فعاد، فعادت، فقال لها: قولي: ادخل، يعني: خففي عني ولا تضيقي، فقالت: ادخل، فدخل.
وروى مطرف عن مالك: أن زيد بن أسلم استأذن على ابن عمر فقال: أألج؟ فأذن له ابن عمر، قال زيد: فلما قضيت حاجتي أقبل عليّ ابن عمر فقال: مالك واستئذان العرب؟! إذا استأذنت فقل: السلام عليكم، فإذا رُد عليك السلام فقل: أأدخل؟ فإن أذن لك فادخل.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه فيمن يستأذن قبل أن يسلم، قال: لا يؤذن له حتى يبدأ بالسلام.
وعن عطاء قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: إذا قال: أأدخل؟ ولم يسلم، فقل: لا، حتى يأتي بالمفتاح، قلت: السلام؟ قال: نعم.
وعن ابن بريدة قال: استأذن رجل على رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم على الباب، فقال: أأدخل؟ ثلاث مرات، وهو ينظر إليه، فلم يأذن له، ثم قال: السلام عليكم، أأدخل؟ فقال: ادخل، ثم قال: لو قمت إلى الليل تقول: أأدخل؟ ما أذنت لك، حتى تبدأ بالسلام.(61/14)
مشروعية الاستئذان ثلاث مرات
الاستئذان يكون ثلاث مرات، ويقول المستأذن في كل واحدة منها: السلام عليكم، أأدخل؟ فإن لم يؤذن له عند الثالثة فليرجع، ولا يزد على الثلاث، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه؛ لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا مطعن فيه، فقد روى البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى رضي الله عنه كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي، فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع) فقال عمر: والله لتقيمن عليه بينة، أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم).
أي: أن أبا موسى ذهب يشتكي إلى الصحابة أن عمر هدده، وفي بعض الروايات أنه حدد له ميعاداً، وإذا لم تأت بأحد يشهد معك لأوجعن ظهرك، فأراد أبي بن كعب أن يرد على عمر فقال: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم.
يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: معناه: أن هذا حديث مشهور بيننا، معروف لكبارنا وصغارنا، حتى أن أصغرنا يحفظه وسمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان أصغر القوم أبا سعيد الخدري، قال: فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك.
قلت: وهذا الحديث نص صريح صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الاستئذان ثلاث مرات، فإن لم يؤذن له بعد الثالثة فليرجع.
ورواه مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنت جالساً بالمدينة في مجلس الأنصار، فأتانا أبو موسى فزعاً أو مذعوراً، قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر أرسل إليّ أن آتيه فأتيت بابه، فسلمت ثلاثاً فلم يرد عليّ فرجعت، فقال: ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: إنني أتيتك، فسلمت على بيتك ثلاثاً فلم يردوا عليّ فرجعت).
انظر إلى الدقة يقول: فلم يردوا علي، ولم يقل: فلم أجد أحداً، أو فلم يكن هنالك أحد، لكن قال: فلم يردوا عليّ، فهذه أيضاً طريقة من طرق الاعتذار الضمني.
قال: (وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع)، فقال عمر: أقم عليها البينة وإلا أوجعتك، فقال أبي بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم، قال أبو سعيد: قلت: أنا أصغر القوم، قال: فاذهب معه.
قال: أبو سعيد: فقمت معه، فذهبت إلى عمر فشهدت).
وفي بعض الروايات قال: (فو الله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد على هذا، فقال أبي بن كعب: فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سناً، قم يا أبا سعيد! فقمت حتى أتيت عمر فقلت: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا).
وفي لفظ أنه قال: إن كان هذا شيء حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهات وإلا فلأجعلنك عظة، قال أبو سعيد: فأتانا فقال: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الاستئذان ثلاث؟)، أبو موسى بعدما رجع وهو مفزوع ومرعوب من تهديد عمر، دخل على الصحابة فقال: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الاستئذان ثلاث؟) قال: فجعلوا يضحكون)، انظر إلى السلاسة في تعامل الصحابة، فهم بشر كالبشر، وفيهم الدعابة في موضعها، فهم رأوا أبا موسى جاء مذعوراً بهذه الطريقة، فجعلوا يضحكون، قال: فقلت: (أتاكم أخوكم المسلم قد فزع وأنتم تضحكون! انطلق فأنا شريكك في هذه العقوبه، فأتاه فقال: هذا أبو سعيد).
وفي بعض الروايات: أن عمر قال: (خفي عليّ هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني عنه الصفق في الأسواق)، وفي بعض الروايات أن أبا موسى ذهب، فقال عمر: (إن وجد بينة تجدوه عند المنبر عشية، وإن لم يجد بينة فلن تجدوه، فلما أن جاء العشي ووجدوه قال: أبا موسى! ما تقول؟ أقد وجدت؟ قال: نعم.
أبي بن كعب قال: عدل يا أبا الطفيل! ما يقول هذا؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك يا ابن الخطاب! فلا تكونن عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سبحان الله! إنما سمعت شيئاً فأحببت أن أتثبت).
وفي لفظ: أن عمر قال لـ أبي: (يا أبا المنذر! أأنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، فلا تكن يا ابن الخطاب عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فهذه الروايات الصحيحة عن أبي سعيد وأبي موسى وأبي بن كعب رضي الله عنهم تدل دلالة صحيحة صريحة على أن الاستئذان هو المعبر عنه في الآية بالاستئناس، وأنّ السلام المذكور فيها لا يزاد فيه على ثلاث مرات، وأن الاستئناس المذكور في الآية هو الاستئذان المكرر ثلاثاً؛ لأن خير ما يفسر به كتاب الله بعد كتاب الله سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه.(61/15)
الحكمة من تثليث الاستئذان
ما الحكمة من تثليث الاستئذان؟ عن قتادة في معنى قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] قال: هو الاستئذان ثلاثاً، فمن لم يؤذن له فليرجع، أما الأولى: فليسمع الحي، وأما الثانية: فليأخذوا حذرهم، وأما الثالثة: فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردوا، ولا تقفن على باب قوم ردوك عن بابهم، فإن للناس حاجات، ولهم أشغال، والله أولى بالعذر.
فهذا فيه بيان حكمة الاستئذان ثلاث مرات: الأولى: معرفة أن ثمة شخصاً بالباب ليسمع الحي.
الثانية: ليأخذوا حذرهم من ستر عورات مكشوفة، أو إعداد مكان، أو نحو ذلك.
الثالثة: إن شاءوا أذنوا، وإن شاءوا ردوا.
وقوله: ولا تقفن على باب قوم ردوك عن بابهم.
هذا نهي للإنسان إذا اعتذر له صراحة أو ضمناً أن يعكف عند الباب، فإن فيه أذى.
قال: فإن للناس حاجات، ولهم أشغال، والله أولى بالعذر.
فقد يكون عند صاحب البيت موعد في نفس الوقت، أو يريد أن يخرج لمشوار مهم جداً: كموعد مع طبيب، أو الذهاب إلى العمل والوظيفة، وهناك حرج من مواجهة المستأذن، فهو يريد أن يمشي وربما تمشي معه نساؤه -مثلاً- فلو بقي ذلك الرجل واقفاً له على الباب فكيف يخرج إلى مصالحه؟ فهذا معنى قول السلف: فإن للناس حاجات، ولهم أشغال.
فالوقوف أمام البيت سيعيق أهل البيت عن الحركة الحرة، فانتبهوا لهذا جيداً، فمن استأذن فلم يؤذن له فلابد أن ينصرف، بخلاف من أتى ولم يستأذن، كما سنبين فيما بعد.
وعن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال: الأولى إعلام، والثانية مؤامرة -أي: شورى بين أهل البيت، فيتشاورون: هل نأذن أم لا نأذن؟ لسبب أو لآخر، وليس المراد من المؤامرة المعنى المعروف- والثالثة: عزمة قرار وعزيمة، إما أن يؤذن له، وإما أن يرد.
وقال الإمام ابن عبد البر في التمهيد: وقال بعضهم: المرة الأولى من الاستئذان: استئذان، والمرة الثانية: مشورة، هل يؤذن في الدخول أم لا؟ والثالثة: علامة الرجوع، ولا يزيد على ذلك على ثلاث.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وحكمة التعداد في الاستئذان أن الأولى: استعلام، والثانية: تأكيد، والثالثة: إعذار.
وقد فصل الحنفية دون غيرهم في مدة الانتظار بين كل استئذانين، فقالوا: يمكث بعد كل مرة مقدار ما يفرغ الآكل، والمتوضئ، والمصلي أربع ركعات، وهذا لا دليل عليه، والمسألة نسبية، فإذا كان أحد على عمل من هذه الأعمال فينتظر حتى يفرغ منه، وإن لم يكن على عمل منها كانت عنده فرصة في أن يأخذ فيها حذره، ويصلح شأنه قبل أن يدخل الداخل.
وقال القاضي ابن العربي أيضاً: قال جماعة: الاستئذان فرض، والسلام مستحب، {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا} [النور:27]، وبيانه أن التسليم كيفية في الإذن.
يعني: كلمة السلام جاءت لتشرح لنا (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا).
وروى مطرف عن مالك عن زيد بن أسلم: أنه استأذن على ابن عمر فقال: أألج؟ فأذن له ابن عمر، قال زيد: فلما قضيت حاجتي أقبل عليّ ابن عمر فقال: مالك واستئذان العرب؟! إذا استأذنت فقل: السلام عليكم، فإذا رد عليك السلام فقل: أأدخل؟ فإن أذن لك فادخل، فعلمه سنة السلام.(61/16)
حكم الاستئذان بغير الصيغ المشروعة
ذهب البعض إلى أن كل ما تعارفه الناس من ألفاظ الاستئذان يقوم مقام اللفظ المأثور، فإن الأعراف أحياناً تتغير، كما قال ابن عطية: لكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة، فقد روى أبو بكر بن الخطيب بسنده عن أبي الملك مولى أم مسكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب قال: أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة رضي الله عنه، فجاء معي، فلما قام بالباب قال: أنذر؟ قالت: أنذرون.
(أنذر) كلمة فارسية في الاستئذان معناها: أأدخل؟ وأنذرون يعني: ادخل، وهي كلمة الإذن.
فالشاهد: أنّ بعض العلماء استدل بهذا الأثر على جواز استعمال ما تعارف عليه الناس، وهذا ذكرناه لمجرد الإحاطة بما قيل في هذه المسألة، وإلاّ فإن السنة قد فسرت الآية بطريقة واضحة وصريحة، وقد نص بعض المالكية على كراهة الاستئذان بالذكر؛ لما فيه من جعل اسم الله تعالى آلة.
أي: مثل قول بعض الناس: سبحان الله، أو: لا إله إلا الله، أو: يا ساتر! مع أنّ اسم (ساتر) ليس من الأسماء الحسنى، وإنما الذي في الأحاديث هو (ستّير) قال في الفواكه الدواني: وما يفعله بعض الناس في الاستئذان بنحو سبحان الله، ولا إله إلا الله، فهو بدعة مذمومة؛ لما فيه من إساءة الأدب مع الله تعالى في استعمال اسمه في الاستئذان.
فهذه أشياء ينبغي أن توضح للناس؛ لأن الناس يفعلونها بنية حسنة، فيحتاجون إلى من يعلمهم، فتجد بعض الناس مثلاً يكتبون على مقبض باب البيت: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]، أو: (سبحان الله)، أو: (بسم الله) وهذا امتهان لاسم الله، أو تجد بعضهم يأتي بصينية، ويقدم عليها المشروبات، ويكون قد كُتب عليها ذكر، أو نقشت عليها صورة الكعبة، فلا ينبغي أن تمتهن مثل هذه الأمور، ويجب الحذر من مثل هذا، فاسم الله، وما فيه ذكر الله لا يجوز أن يمتهن.(61/17)
أحكام من استأذن ثلاثاً فلم يؤذن له
وهنا مسألة أيضاً وهي: أن من استأذن ثلاث مرات، وتأكد أنهم سمعوه فله حالتان: الحالة الأولى: أن يتحقق أنهم سمعوه بالفعل، ولم يأذنوا له.
الحالة الثانية: أن يغلب على ظنه ذلك.
أما المسألة الأولى: فإن تحقق وتأكد تماماً أنهم سمعوه، ولم يجب رب المنزل، فينبغي أن يفهم المستأذن أن رب المنزل لا يرغب له في الإذن بالدخول؛ وحينئذ عليه أن ينصرف، حتى ولو تأكد أن صاحب المنزل موجود بداخله، ولا شك أنّ من اللباقة ومن الذوق ألاّ يتخذ هذا الأمر ذنباً لا يغفر، وإذا قابله بعد ذلك يقول له: أتيت وطرقت الباب فلم ترد عليّ! فيوبخه، ويلومه، ويعنفه، وهذا لا ينبغي؛ بل عليه أن يتغاضى ويتغافل عن هذا، ولا يعاتبه، ولا يحوجه إلى الاعتذار، ولا يضطره إلى أن يذكر له السبب الذي من أجله لم يفتح له، فضلاً عن التوبيخ.(61/18)
حكم قول (أنا) في الاستئذان وغيره
بعض الناس يتحرج جداً من كلمة (أنا)، فيحسبون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كره من جابر كلمة (أنا)، وقال له: (أنا، أنا!) أن هذه فيها تشبه بإبليس، وهذا المعنى راسخ عند العوام، حتى إن بعضهم إذا كلمته واضطررت إلى استعمال كلمة (أنا) يقول: أعوذ بالله من أن أقول: (أنا)، فهم يظنون أن هذا تشبه بإبليس، حتى قال بعضهم: كلمة (أنا) لم تزل مشئومة على أصحابها، ولا شك أن هذه الكلمة لا تزال جارية على ألسنة الطغاة والمتجبرين في سياق ذكر مفاخرهم، والزهو بأنفسهم.
فالحكم على كلمة (أنا) ليس على إطلاقه، والسياق يفرق، فأحياناً يجوز استعمالها، وأحياناً لا يجوز استعمالها، فلا يجوز استعمالها في أمر الاستئذان، ولا يجوز أيضاً أن يستعملها الإنسان في الزهو، أو الفخر، نحو: أنا الذي عملت، وأنا الذي صنعت إلى آخر هذه العبارات، كما يفعل الطغاة والمتجبرون، ولذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في المكروه من الألفاظ في (زاد المعاد): وليحذر كل الحذر من طغيان ثلاث كلمات: من طغيان أنا، ولي، وعندي، فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليس وفرعون وقارون، فـ {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12] لإبليس، و {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف:51] ابتلي بها فرعون، و {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] ابتلى بها قارون، وأحسن ما وضعت له (أنا) في قول العبد: أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر المعترف ونحوه، ولي في قوله: لي الذنب، ولي الجرم، ولي المسكنة، ولي الفقر والذل، وعندي في قوله: اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي.
يعني: أنها تستعمل استعمالاً صحيحاً واستعمالاً مذموماً كما بينا.
فليس الأمر كما أطلق من ظن أن كلمة (أنا) مكروهة لمجرد مشابهة إبليس، خاصة أن هناك نصوصاً كثيرة تناقض هذا القول، حيث استعملت فيها كلمة (أنا) في موضعها، فلا حرج من استعمالها في موضعها، فمن ذلك قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110]، وقال عز وجل حكاية عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163]، وقال: {وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، وقال: {إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت:50]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (أنا) في عدة أخبار مثل قوله: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، وقوله أيضاً صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا) فقول أبي بكر (أنا) لا محذور فيه؛ لأنّه كان حاضراً في المجلس ويرونه، بخلاف ما لو كان في الاستئذان.
(قال: من شهد منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من أطعم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا، قال مروان بن معاوية: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما اجتمعت هذه الخصال في رجل في يوم إلا دخل الجنة).
وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله عز وجل بما لا أعلم؟! وقال علي رضي الله عنه: أنا الذي سمتني أمي حيدرة.
وعن بريدة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المسجد وأبو موسى يقرأ، قال: فجئت فقال: من هذا؟ قلت: أنا بريدة).
وفي الصحيح في حديث أم هانئ: (فقلت: أنا أم هانئ).(61/19)
عدم وقوف المستأذن قبالة الباب
ينبغي ألاّ يقف المستأذن قبالة الباب إذا كان الباب مفتوحاً، وكذلك إذا كان مغلقاً؛ خشية أن يفتح له فيرى من أهل المنزل ما لا يحبون أن يراه، وهذا بخلاف ما لو كان الباب عن يمينه، أو عن يساره، فإنه إذا فتح الباب لا يرى ما في داخل البيت.
وبعض الناس يتنطعون، فتراه يطرق الباب ثم يختبئ بعيداً عن الباب تماماً، وهذا خطأ، فقد وجد في هذه الأيام وسائل حديثة كالكاميرات التلفزيونية التي توضع عند أبواب بعض البيوت، أو العدسات التي توضع في الأبواب بحيث يرى الشخص الذي يستأذن فأصبحت هذه وسيلة للتحقق من شخصية المستأذن، فإذا اختبأت بعيداً عن الباب فإنه لا يراك.
فلابد أن نفهم هذه الأشياء، وأن نعرف حدودنا، فيقف المستأذن بجانب الباب؛ بحيث يراعي حرمة البيت، فإذا فتح الباب فإنه لا يرى شيئاً في داخل البيت، وفي نفس الوقت يقف في مكان يستطيع من يستأذن عليهم أن يروه، فعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: السلام عليكم السلام عليكم؛ وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور).
وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه استأذن وهو مستقبل الباب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تستأذن وأنت مستقبل الباب)، وفي رواية قال: (جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقمت مقابل الباب فاستأذنت، فأشار إليّ أن تباعد، ثم جئت فاستأذنت، فقال: وهل الاستئذان إلا من أجل النظر؟!).
وعن هزيل بن شرحبيل قال: (جاء رجل فوقف على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذن، فقام على الباب، وفي رواية: مستقبل الباب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هكذا عنك أو هكذا، فإنما الاستئذان من النظر).
ويروى عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل لامرئ مسلم أن ينظر إلى جوف بيت حتى يستأذن، فإن فعل فقد دخل) يعني: إذا نظر بعينه فكأنه دخل (ولا يؤم قوماً فيخص نفسه بدعوة دونهم حتى ينصرف، ولا يصلي وهو حاقن حتى يتخفف).
وهذا الحديث يضعفه بعض العلماء، ويحسنه بعضهم.
وفي بعض الأحاديث أيضاً: (لا تأتوا البيوت من أبوابها، وائتوها من جوانبها فاستأذنوا وإلا فارجعوا).
فإذا كان الباب مغلقاً فقد أوضحنا حكمه، وأما إن كان الباب مفتوحاً فهو مغلق بالتحريم الشرعي للدخول حتى يفتحه الإذن من ربه، بمعنى: أنه لا يجوز لك أن تنظر إلى داخله، ولذلك يقول القرطبي: لأن الشرع قد أغلقه بالتحريم للدخول حتى يفتحه الإذن من ربه.
وقد توجد في الباب عدسات أو شيء من هذا القبيل، فالمفروض أنه يمكِّن صاحب البيت من التعرف عليه؛ حتى ينظر هل يناسبه أن يأذن له أم لا؟(61/20)
رجوع المستأذن إذا لم يؤذن له
ذكرنا سابقاً: أن اعتذار صاحب البيت عن الإذن بدخول المستأذن إما أن يكون اعتذاراً ضمنياً، وإما أن يكون صريحاً، وقد دلّ قول الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} [النور:28] على حالة الاعتذار الضمني، فربما كان صاحب البيت موجوداً في البيت، لكنه لم يشأ أن يرد على المستأذن، فيصدق على المستأذن أنه لم يجد فيها أحداً؛ لأن الله تعالى نفى الوجدان ولم ينف الوجود، ولو قال: (فإن لم يكن فيها أحد) لما كان هذا المنزع اللطيف، والسر الدقيق، فتأملوا قول الله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا)، ولم يقل: (فإن لم يكن)، فإذا استأذن شخص ثلاثاً وسُكت عنه وجب عليه أن ينصرف بعد الثلاث؛ لحديث عبد الله بن بسر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى باباً يريد أن يستأذن لم يستقبله، وجاء يميناً أو شمالاً، فإن أذن له وإلا انصرف)، وفي حديث أبي سعيد: (فإن أذن لك وإلا فارجع) يعني بعد الثلاث.
أما إذا استأذن شخص ثلاثاً أو أقل وأجيب بقول صاحب الدار: ارجعوا، فالواجب الانصراف فوراً، وهو على يقين أن هذا أفضل له، فلا ينفخ الشيطان في صدره، ولا يحمّي أنفه ويقول: كيف يهينني؟! كيف لا يحترمني؟! فيقال لمثل هذا: أما تعرف أعذار الناس؟! وما هذا إلاّ بسبب الجهل بآداب الإسلام، فيجب على الإنسان إذا قيل له: ارجع، أن يرجع فوراً وهو على يقين أن هذا أزكى له؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]، فما قال الله فيه أنه أزكى لنا فلا شك أن لنا فيه خيراً وأجراً.
وعن قتادة قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها: أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي: ارجع.
فأرجع وأنا مغتبط؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28].
إذاً: فالواجب على من لم يؤذن له أن ينصرف فوراً، ولا يجوز له أن يقف على الباب، ولا أنْ يلح بالاستئذان، ولا أنْ يتكلم بكلام قبيح، أو أن يقعد على الباب لينتظر؛ لأن للناس حاجات وأشغالاً في المنازل، فلو قعد على الباب وانتظر ضاق ذرعهم، وشغل قلوبهم، ولا تلتئم حاجاتهم، فكان الرجوع خيراً له ولهم.
يقول قتادة: فمن لم يؤذن له-يعني: بعد الثلاث- فليرجع، أما الأولى: فليسمع الحي، وأما الثانية: فليأخذوا حذرهم، وأما الثالثة: فإن شاءوا أذنوا، وإن شاءوا ردوا، ولا تقفن على باب قوم ردوك عن بابهم؛ فإن للناس حاجات ولهم أشغالاً، والله أولى بالعذر.
وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: والرجوع أفضل من الإلحاح وتكرار الاستئذان والقعود على الباب؛ لأن في ذلك بعداً عن الريبة والدناءة.(61/21)
إذا لم يؤذن للمرء فهل يجوز له أن يبقى أمام الباب
هناك استنباط دقيق جداً في غاية الروعة للإمام أبي بكر الجصاص الحنفي رحمه الله تعالى، حيث قال: إن قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28] لا يتعرض لتحريم الدخول إلا بإذن؛ لأن الآية السابقة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] قد نصت على أنه يحرم على الإنسان أن يدخل إلا بإذن، فهو يبين أن قوله تعالى بعد ذلك: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] لا علاقة لها بمسألة تحريم الدخول إلا بإذن؛ لأنّ هذا قد سبق الإشارة إليه، وإنما يؤسس حكماً جديداً، ولا يؤكد الحكم السابق.
فما هو هذا الحكم الجديد؟ ما الواجب على من قيل له ارجع؟ يجيب على ذلك قوله تعالى: (فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) أي: أنه يجب عليه أن يرجع في الحال، ولا يفتح حواراً، ولا يلح.
قال الإمام الجصاص رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) بعد قوله: (فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ)، يدل على أن للرجل أن ينهى من لا يجوز له دخول داره عن الوقوف على باب داره أو القعود عليه؛ لقوله تعالى: (وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ)، ويمتنع أن يكون المراد بذلك حضر الدخول إلا بإذن؛ لأن هذا المعنى قد تقدم ذكره مصرحاً به في الآية، فواجب أن يكون لقوله: (وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) فائدة مجددة، وهو أنه متى أمره بالرجوع عن باب داره وجب عليه التنحي عنه؛ لئلا يتأذى به صاحب الدار في دخول حرمه وخروجه، وفيما ينصرف عليه أموره في داره مما لا يحب أن يطلع عليه غيره.
فهذه مسألة مستقلة عن موضوع الاستئذان، فالواجب على من قيل له: ارجع، أن يرجع، وبالتالي يحرم عليه أن يفعل أي شيء من الأشياء التي ذكرناها.
أما ما ذكرناه من أنه لا يجوز له أن يقعد على الباب وينتظر، فلا يرد عليه أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يأتي باب الأنصار لطلب الحديث، فيقعد على الباب حتى يخرج صاحب البيت، ولا يستأذن، فإذا خرج الرجل قال: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! لو أخبرتني؟ فيقول: هكذا أمرنا أن نطلب العلم.
فـ ابن عباس ما كان يستأذن، والكلام هنا فيمن استأذن ولم يؤذن له، أو قيل له: ارجع، أما ابن عباس فكان يأتي ويجلس عند باب من يطلب منه الحديث، وتسف الرياح في وجهه التراب، وإذا خرج صاحب البيت للصلاة مثلاً سأله وطلب منه الحديث، فكلامنا فيمن استأذن فلم يؤذن له صراحة أو ضمناً.(61/22)
إذا استأذن فقيل له ادخل بسلام
آخر هذه المسائل: إذا قيل له: ادخل بسلام فهل يدخل؟ كان طلحة بن مصرف إذا قيل له ذلك قال: إن شاء الله، فيستثني، أي: أدخل بسلام إن شاء الله، فيحتاط.
وكان ابن عمر إذا قيل له ذلك لم يدخل، وعلل ذلك بأنه شرط لا يدري أيفي به أم لا، وقال: إنما أنا بشر.
عن مجاهد قال: جاء ابن عمر من حاجة وقد آذاه حر الرمضاء، فأتى فسطاط امرأة من قريش فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فقالت: ادخل بسلام، فأعاد، فأعادت، وهو يراوح بين قدميه، فقال: قولي: ادخل، قالت: ادخل، فدخل.
وعن عبد الرحمن بن جدعان قال: كنت مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فاستأذن على أهل بيت، فقيل: ادخل بسلام، فأبى أن يدخل عليه.
قال شارح (الأدب المفرد): لعل الإباء كان لمصلحة دينية.
وقال ابن عطية: كأنه توقف لما قالت: بسلام؛ لاحتمال اللفظ أن تريد: ادخل بسلامك لا بشخصك.
وقال الألباني رحمه الله تعالى: وذلك لأن مثل ابن عمر لا يمكن أن تخفى عليه سنة الاستئذان بالسلام، وعليه فلا بد أن يكون قد سلم عند الاستئذان، فلما قيل له: ادخل بسلام، فيكون هذا الأمر -والحالة هذه- لا معنى له، بل لعله إلى الاستهزاء أقرب؛ ولذلك لم يدخل عليهم، ولعله مما يؤيد هذا التأويل ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه بسند آخر صحيح بلفظ: عن أبي مجلز قال: كان ابن عمر إذا استأذن فقيل له: ادخل بسلام، رجع، وقال: لا أدري أدخل بسلام أم بغير سلام.
فهذا هو الذي فهمه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، وأما العلماء الآخرون فقالوا: هي تشترط عليه شرطاً، وهو لا يدري أيفي بهذا الشرط أم لا، وقال: إنما أنا بشر؛ فلذلك كان يمتنع من الدخول ويقول: لا أدري أأدخل بسلام أم بغير سلام، فالتعليل الأخير أقوى، وهو: أنها أذنت له بشرط أن يدخل بسلام؛ ولكونه بشراً غير معصوم خشي ألاّ يفي بهذا الشرط، فامتنع عن الدخول بهذا الشرط احتياطاً وتورعا، ً أو طلب منها أن تأذن له بالدخول بدون الشرط المذكور، والله تبارك وتعالى أعلم.
وعن معاوية بن خديج قال: قد قدمت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاستأذنت عليه، فقالوا لي: مكانك حتى يخرج إليك، فقعدت قريباً من بابه، قال: فخرج إلي، فدعا بماء، فتوضأ ثم مسح على خفيه، فقلت: يا أمير المؤمنين! أمن البول هذا؟ قال: من البول أو من غيره.
فلا بأس أن من استأذن فقيل له: حتى أخرج، أن يقعد قريباً من الباب.
نكتفي الليلة بهذا القدر، ونكمل البحث إن شاء الله الأسبوع القادم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(61/23)
آداب الاستئذان [2]
تميزت الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع بميزات كثيرة، منها: أنها أوجبت الاستئذان لمن أراد أن يدخل بيت غيره، وحرمت عليه أن يطلع على بيوت غيره بدون إذن أهلها، وشرعت كذلك الاستئذان في داخل البيت نفسه، كالاستئذان على الأم والأخت والأبناء البالغين، ومن كمالها وسموها أن شرعت الاستئذان للأطفال الذين لم يبلغوا الحلم في أوقات معينة، وأجازت دخول بعض البيوت بدون إذن في حالات مخصوصة، وكل ذلك لحكَم عظيمة، ومقاصد سامية، قصر عن معرفتها كثير من الناس.(62/1)
اليهود وما يقترفونه من جرائم ضد المسلمين
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: لا شك أننا لا نستطيع أن ننفصل عن الواقع الذي يمسنا في أخص خصائصنا وهو عقيدتنا وديننا، فما حصل في الفترات الأخيرة من عدوان اليهود -لعنهم الله- على إخواننا المسلمين في فلسطين، لاشك أنه يحزن كل مؤمن، ومن لم يعتصر قلبه مرارة وغيظاً على أعداء الله فليراجع إيمانه، وليشك في إسلامه، فإن المسلمين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.(62/2)
إرادة اليهود تخدير المسلمين وإضعافهم معنوياً
وهذه المشكلة ليست في الحقيقة لب المشكلة؛ بل لب المشكلة هو أن موضوع غزة وأريحا والأشياء التي فعلوها قبل ذلك كانت عملية البدء بالأسهل فالأصعب، أو الترقي من الأسهل فما فوقه، على أساس أن تكون هناك فترة يحصل فيها ترويض لمشاعر المسلمين، ومحاولة لإعدام الحساسية عندهم، خاصة الحساسية العقدية، وذلك عن طريق إضعاف المناعة في الأمة كما هو معلوم.
واليهود في كل أحوالهم ينطلقون من عقيدة راسخة، فاسم دولتهم اسم ديني وهو: (إسرائيل)، ودستور الدولة اليهودية هو التوراة، وليس لهم دستور كأي دولة في العالم، وكل منطلقاتهم تنطلق من عقيدة، هذه العقيدة هي: أنه لا حظ للمسلمين في القدس، وقد قال بن غوريون وهو يصيغ هذه العقيدة في كلمة مركزة له، قال: إنه لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل.
فنحن نتكلم وبعض الناس يتعامل مع المشكلة وكأنهم في حالة تخدير، أو مغيبون تماماً عن الوعي، مع أن هذه حقائق صارخة، فاليهود أعدوا الخطط لهدم المسجد الأقصى، نموذج الهيكل الذي ينوون إعادة بنائه موجود، وما حصل من السفاح المجرم شارون في صبرى وشاتيلا وغيرها هو في الحقيقة عملية مقصودة؛ لأنها نوع من اختبار الحساسية، مثلما يفعل مع من يستحق البنسلين مثلاً، فإنه يعمل له أولاً اختبار حساسية ليرى رد فعل الجسم كيف سيكون، ونفس الشيء هنا؛ لأنهم يظنون أن الوقت قد اقترب لإعادة بناء الهيكل، وذلك لن يكون إلا بعد هدم المسجد الأقصى، نسأل الله سبحانه وتعالى ألا يمكنهم من ذلك، فهذا اختبار حساسية ليروا نتائج ما تمخض عنه ترويض المسلمين في خلال تلك السنوات الماضية، فشاء الله سبحانه وتعالى أن يعرف العالم كله أن هذه الأمة ولو هزمت، أو تخاذلت جيوشها، فإنها لا تهزم روحها، ولا يهزم إيمانها على الإطلاق.
وهذه الأحداث وما فيها من مآسٍ ومرارة وإجرام يهودي لا تستغرب من أمثال اليهود، فقد حصل بالأمس أو صباح اليوم أن خطف جنود اليهود واحداً من إحدى المدن الفلسطينية، وأخذوا يعذبونه ويحرقون السجائر في جسده بعد الضرب والركل، وأحرقوا عينيه وأجزاء أخرى من بدنه إلى أن استشهد رحمه الله تعالى، ثم رموه بعد ذلك، وهذه وحشية ليس لها مثال، وهذا شيء لا يستنكر من اليهود أعداء البشرية كلها، وقد قال فيهم هتلر: أنا أبدت نصف اليهود، وتركت النصف الباقي حتى تعرف البشرية لماذا قتلت النصف الأول.
أي: حتى يذوق الناس أخلاق اليهود، وطبائع اليهود، ولؤم اليهود ومكرهم.
ولكن جميع محاولات إضعاف المناعة في الأمة المسلمة باءت بالفشل، وكل المحاولات التي جرت في هذه الفترات الأخيرة تبخرت وتلاشت كالفقاقيع، وهذا أسلوب معروف، فإن الأطباء عندما يريدون أن يزرعوا جسماً أجنبياً في داخل جسم المريض، فلابد قبل الزراعة أن يعطوا المريض أدوية تضعف المناعة، بحيث يكون الجسم مهيأ لقبول ذلك الجسم الغريب إذا زرع فيه ولا يرفضه، وكذلك أيضاً عملية الغزو الفكري للمسلمين، وترويض المسلمين، وتخدير المسلمين، وتزييف التاريخ، والحملات الإعلامية، وتسليط الشهوات والشبهات على الشباب المسلم، وتخويف الناس من التدين، والصد عن سبيل الله، وكل هذه الصور تصب في مجرى واحد وهو: إضعاف المناعة عندهم؛ حتى يسهل لليهود بعد ذلك أن يركبونا كالحمير، كما ينصون على ذلك في تلمودهم: إن البشر لم يخلقوا إلا ليركبهم اليهود كالحمير، وهذا في التلمود أحد كتبهم التي يقدسونها، والتي ينطلقون منها، فذهاب هذا الخبيث السفاح المجرم النجس حتى يدنس المسجد الأقصى، إنما هو محاولة لاختبار ما سيفعله المسلمون، وهنا تنبيه وهو: أن المسجد الأقصى ليس هو قبة الصخرة، ولا الجزء الصغير المبني، بل كل هذه الساحة هي المسجد الأقصى.(62/3)
التعاون النصراني الصليبي مع اليهود
هناك نوع من التوحد النصراني الصليبي في مسألة مساندة اليهود، وبيان ذلك: أن كل الملل الثلاث ينتظرون قادمين سوف يأتي بهم الله تعالى، وهذا من سنن الله الكونية القدرية، فاليهود ينتظرون مجيء المسيح كما يزعمون، وفي الحقيقة هم ينتظرون المسيح، ولكن المسيح الدجال الذي سيؤمن به اليهود ويتبعونه.
وأيضاً النصارى ينتظرون المجيء الثاني للمسيح، وذلك بصفته إلهاً، فالمسيح الذي جاء أولاً ثم رفع إلى السماء هم يعتقدون بمجيئه مرة ثانية، وهم مجتمعون على أنه لا يمكن أن يعود أو يحصل هذا الأمر إلا إذا حكمت إسرائيل واستولت على القدس، فهذه قضية عقدية، وبعض رؤساء أمريكا كانوا يتبنون هذه القضية بمنتهى الحماس، ومنهم ريجن وغيره، فهذه أرضية مشتركة بين اليهود والنصارى، وهذا سر توحدهم في هذا الباب.
والمسلمون أيضاً ينتظرون مجيء المهدي، وينتظرون أيضاً نزول المسيح عليه السلام، وهو يحكم بالقرآن عند نزوله، وينتظرون أيضاً المسيح الدجال، الذي سيقاتلونه، وسينضم إليه اليهود كما هو معلوم، فالعقيدة متداخلة، ولا مناص من أن تكون الحرب في النهاية حرباً دينية كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وكما يخبرنا أيضاً الواقع.(62/4)
فشل الأعداء في محاولة إضعاف معنويات المسلمين
إن كل ما حصل من محاولة ترويض المسلمين، وتقليم أظافرهم قد تلاشى، وظهر أنه ليس له أي أثر، وأظهر أن الأمة ما زالت حية، وما زالت تنبض، وما زالت تحس، رغم كل ما دبر تجاه عقيدتها وإسلامها، فالمسلمون لن ييأسوا، فقد حرر المسلمون القدس بعد مائة سنة تقريباً من احتلال الصليبيين له، والسنوات هي لحظات في عمر الدعوات.
والدرس الذي نستخلصه من الأحداث التي نعيشها هو: أن تكلفة الكرامة أرخص بكثير جداً من تكلفة الذل؛ بل إن الذي يذل مرة لا يحصد شيئاً بعد ذلك، فهي مكاسب وقتية سرعان ما تزول، لكن تكلفة الكرامة والعزة والإباء أرخص بكثير، وما الأفغان عنا ببعيد، وما الشيشان عنا ببعيد، وما هؤلاء المساكين المدنيون العزّل الذين لا سلاح لهم عنا ببعيد، والناس يتكلمون على أن إسرائيل لم تعلن حرباً الآن! فنقول: وما الذي يفعله اليهود أعداء الله الآن؟ أليست حرباً؟! إنها حرب، وفوق ذلك هي حرب ليس فيها أي قدر من التكافؤ، وهذه دناءة وخسة ونذالة، وكما قال بعض الصحفيين: إن طفلاً فلسطينياً خاطب جندياً يهودياً مدججاً بالسلاح قائلاً له: لو كنت رجلاً فاترك السلاح وتعال صارعني، يقول: ففزع اليهودي من هذا الكلام، وهم في حالة معاناة نفسية شديدة جداً من هذا الاستبسال وهذه التضحية، مع عدم وجود أي قدر من التكافؤ على الإطلاق، فهذا جيش مدجج بالسلاح وبأحدث الأسلحة، ويضربونهم بالطيران والقاذفات والصواريخ، وهؤلاء ما يملكون سوى أن يفتحوا صدورهم للموت! إن الأغبياء من أعداء الإسلام لم يفقهوا حتى الآن حقيقة نفسية المؤمن، وحقيقة نفسية المسلم، وقد أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام بدائنا، فأخبرنا بدوائنا، ثم أخبرنا بالداء حينما قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قلنا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير) فنحن الآن زيادة على المليار (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قلنا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، وهذا هو لب القضية: (حب الدنيا وكراهية الموت).
إنَّ المؤمن يشتغل بعمارة الآخرة وإن خرب الدنيا، فحينما يأتيه خبر الصادق المصدوق في القرآن وفي السنة بأنه إذا استشهد في سبيل الله يدخل الجنة، ويغفر له عند أول دفعة من دمه، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج بسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه إلى آخر هذه الميزات العظيمة التي يجنيها الشهيد، وهو موقن أنها انتقال من حياة إلى حياة، فهو يرتفع شهيداً ولا يسقط شهيداً، إنما يرتفع إلى السماء {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران:169]، فهذا هو مفتاح شخصية المجاهد المسلم المؤمن الذي لا يكره الموت، وهذا هو الفرق بيننا وبينهم.
وتفسير كل ما يحصل هو: أن اليهود أعداء الله، وهم الأمة الغضبية التي غضب الله سبحانه وتعالى عليها، وكتب عليها الشقاء، فهم لا يتمنون الموت كما أخبر الله عنهم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة:96]، وهذا التفسير ليس صعباً لمن فقه عقيدة المسلمين، وقال الله تبارك وتعالى أيضاً عنهم: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95]، {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} [الجمعة:7]، فهم لا يمكن أن يتمنوا الموت، وهذه هي عقيدة اليهود، ولا شك أنهم أقوى من المسلمين بكثير وبمراحل في السلاح وفي القوة المادية، أما من حيث العقيدة فهم قوم كتب الله عليهم الشقاء والذل والصغار، فأما المؤمنون فقد شخص لهم الرسول عليه الصلاة والسلام الداء بقوله: (حب الدنيا وكراهية الموت)، وقد شخص الدواء بعض الخلفاء حينما قال لبعض المجاهدين: احرص على الموت توهب لك الحياة.
وكما قال خالد رضي الله عنه وهو يقاتل أعداء الله: (جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة).
فمن أجل هذا الفارق يحصل ما ترونه الآن من أطفال وشباب عُزَّل أمام هذا الجيش المدجج بالسلاح، هذا التحدي يثير استغراب العالم كله: أناس مستضعفون مقابل هذه القوة الغاشمة المجرمة الظالمة، ومع التخاذل المخزي من المسلمين الذين هم في أوضاع أحسن بكثير من أوضاع هؤلاء، ومع ذلك يثبت هؤلاء هذا الثبات.(62/5)
الجهاد هو الحل
إن المشكلة لا يمكن أن تحل سلمياً كما يقولون، ولن يحظى المسلمون أبداً بما يسمونه بالسلام العادل والدائم إلخ، فهذا لا يمكن، وليس هذا رجماً بالغيب، وإنما هو انطلاق من قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8] أي: وإن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى تسليط عباد لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً، فهذا وعد الله سبحانه وتعالى، وهو سنة ماضية، فكلما عاد اليهود للإفساد سلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة كما أخبر الله عز وجل، وهذا هو الواقع مهما كانوا في قوة ومنعة وأسلحة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى إن اليهودي ليختبئ وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)، والغريب أن اليهود يعرفون هذا الحديث، ومن ثم فإنهم يستكثرون من زراعة شجر الغرقد.
فانظر إلى هذه الموالاة، حتى الحجر والشجر يوالي المسلم، ويوالي من يرفع راية التوحيد.
إن اليهود يريدون أن يهدموا المسجد الأقصى؛ ليقيموا هيكل سليمان على أنقاضه، وسليمان عليه السلام لو كان موجوداً الآن لقاتل اليهود الذين ينتسبون إليه مع المسلمين، فإن هذه الشرائع التي كان عليها سليمان وموسى وعيسى وجميع الأنبياء قد نسخت، ولم تعد توصل إلى الجنة، وسُدّت هذه الأبواب ببعثة النبي عليه الصلاة والسلام، ونسخت جميع الشرائع السابقة.
فلب القضية وجوهرها عقيدة، فالمفروض على المسلمين أن ينطلقوا من هذا المنطلق، فهؤلاء كفار يريدون أن يهدموا المسجد الأقصى ويقيموا الهيكل، وهذا دين قد نسخ، وما هم عليه أيضاً دين باطل؛ لأنهم لم يؤمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فمهما طال الليل فلا بد أن يحصل فرج وتنفيس بإذن الله تبارك وتعالى، وما يظن أبداً بهذه الأمة أنها تموت، ولا يمكن ذلك، فقد تهزم ولكن لا تفنى، وإذا كان ديجول الرجل الكافر يقول لأمته بعد الحرب العالمية: لقد خسرت فرنسا معركة ولم تخسر حرباً.
يعني: أن الأمر سجال، فيوم لك ويوم عليك، وأما العاقبة فإنها للتقوى، كما قال الله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]، {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، فالنهاية لا بد أن تكون للتقوى وللمتقين.
وأقل شيء أن نجتهد في الدعاء لإخواننا، وأن ننحاز دائماً، وننصح كل من يختار الحزب الآخر أن يعود من جديد إلى حزب الله عز وجل، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56]، وقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]، فهذه سنة لن تتبدل ولن تتغير، ولكن المنافقين لا يفقهون ولا يعلمون، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصر إخواننا، وأن يذل اليهود وينكس راياتهم، وأن يعلي كلمة التوحيد في ربوع الأرض كلها.(62/6)
حرمة النظر والتطلع في بيوت الغير بدون علمهم
دلت الأحاديث الصحيحة على أنه يحرم على المستأذن أن ينظر في بيوت الغير على حين غفلة منهم، ومن دون أن يتنبهوا لوجوده، فيحتاطوا لذلك، وحينما نقول: يحرم أن ينظر الإنسان في بيوت الغير بدون إذن منهم، نعني بذلك النظر من خلال باب مفتوح أو غيره؛ لأننا قلنا: إن كان الباب مفتوحاً فإن الشرع قد أغلقه بتحريم النظر فيه، حتى يفتحه الإذن من صاحبه، فالنظر سواء كان من باب، أو جدار، أو شق في الباب، أو ثقب في الحائط، أو نافذة، أو كوة، أو فروج في بيت شعر أو خيمة فيها فتحات، فلا يجوز لإنسان أن ينظر في بيوت الغير على حين غفلة منهم دون أن يتنبهوا لوجوده فيحتاطوا لذلك، فمن ذلك حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (اطلع رجل من حجرة في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرى -مشط- يحك به رأسه، فقال عليه الصلاة والسلام: لو علمت أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر).
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه)، وفي رواية: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فلا دية ولا قصاص)؛ لأنها عين خائنة، فهي هدر.
وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن رجلاً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح).
وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرئ أن ينظر إلى جوف بيت حتى يستأذن، فإن فعل فقد دخل).
وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: من ملأ عينه من قاعة بيت قبل أن يؤذن له فقد فسق.
وعن أبي سويد العبدي قال: أتينا ابن عمر رضي الله عنهما فجلسنا ببابه ليؤذن لنا، فأبطأ علينا الإذن، فقمت إلى جحر في الباب فجعلت أطلع فيه، ففطن بي، فلما أذن لنا جلسنا، فقال: أيكم اطلع آنفاً في داري؟ قلت: أبطأت علينا فنظرت، فلم أتعمد ذلك.
أي: أنه اعتذر له عن ذلك.
وعن مسلم بن نذير قال: استأذن رجل على حذيفة رضي الله عنه فاطلع -يعني: أنه وهو يستأذن اطلع على داخل البيت- وقال: أدخل؟ فقال حذيفة رضي الله عنه: أما عينك فقد دخلت، وأما استك فلم تدخل.
وعن القعقاع بن عمرو قال: صعد الأحنف بن قيس فوق بيته فأشرف على جاره فقال: سوءة سوءة، -أي: أنه لم يتعمد النظر- دخلت على جاري بغير إذن، لا صعدت فوق هذا البيت أبداً.
وذلك تكفيراً عن هذا الشيء الذي لم يقصده.
فلا يحل لإنسان أبداً أن يطلع من مكان عال على جيرانه الذين هم دونه، وهذا خلق من صميم أخلاق الإسلام، وقد كان من أخلاق الجاهلية، حتى إنّ عنترة الشاعر الجاهلي المعروف يفتخر قائلاً: وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها ويقول مسكين الدارمي: ما ضر جاري إذ أجاوره ألا يكون لبيته ستر أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الخدر فرعاية حرمة الجار، وغض البصر عن عورات الجيران كان موجوداً في الجاهلية، فزادت حرمة الجار في ظل الإسلام، ونحن الآن في زمان كما قال بعض العلماء صرنا في زمان ليس فيه آداب الإسلام، ولا أخلاق الجاهلية، ولا أحلام ذوي المروءة.
إلا من رحم الله.(62/7)
حكم من جنى على عين من يطلع إلى داره
مسألة: إذا نظر المستأذن إلى داخل البيت قبل أن يؤذن له، فجنى صاحب البيت على عينه فهل يضمن؟ وهل عليه دية؟ وهل هناك قصاص؟ يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: اعلم أن أقوى الأقوال دليلاً وأرجحها فيمن نظر من كوة إلى داخل منزل قوم ففقئوا عينه التي نظر إليهم بها ليطلع على عوراتهم: أنه لا حرج عليهم في ذلك: من إثم، ولا غرم دية العين، ولا قصاص، وهذا لا ينبغي العدول عنه؛ لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا مطعن فيه؛ ولذا لم نذكر هنا أقوال من خالف في ذلك من أهل العلم؛ لسقوطها عندنا؛ لمعارضتها النص الثابت عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن هذه الأحاديث: (لو أن امرأً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح) أي: ليس عليك إثم، وهذه نكرة في سياق النفي، فهي تعم رفع كل حرج أو إثم أو دية أو قصاص، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه)، فما دام حلالاً فهو لا يستلزم أي إثم أو دية أو قصاص؛ لأن كل ما أحله الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لا مؤاخذة على فعله البتة بنوع من أنواع المؤاخذة.
فهذه العين خائنة يجوز أخذها؛ لأنها هدر لا عقل فيها ولا قود ولا إثم، ومما يؤكد ذلك: أن الرسول عليه الصلاة والسلام هم أن يفعل ذلك، فالأحاديث الماضية أحاديث قولية، وأما من ناحية السنة الفعلية فقد هم النبي عليه الصلاة والسلام أن يعاقب هذا الخائن الذي يتلصص ويتجسس على عورات الناس بهذه العقوبة.
فعن أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً اطلع في بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه بمشقص أو مشاقص وجعل يختله ليطعنه).
وعن سهل بن سعد: (أن رجلاً اطلع من جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى يحك به رأسه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينيك، وإنما جعل الإذن من قبل البصر) رواه البخاري.
والمشقص نصل السهم إذا كان طويلاً غير عريض، وقوله: (من جحر) الجحر: هو كل ثقب مستدير في أرض أو حائط، والحجر: جمع حجرة من حجر البيت.
يقول الشنقيطي: وهذه النصوص الصحيحة التي ذكرنا لا ينبغي العدول عنها، ولا تأويلها بغير مستند صحيح من كتاب أو سنة؛ ولذلك اخترنا ما جاء فيها من أن تلك العين الخائنة يحل أخذها وتكون هدراً، ولم نلتفت إلى قول من أقوال من خالف ذلك، ولا لتأويله النصوص بغير مستند يجب الرجوع إليه.
فلو أنَّ أحدنا اليوم رأى رجلاً يتلصص عليه من النافذة، أو من ثقب في الباب فأخذ سيخاً -مثلاً- وفقأ به عينه الخائنة، فماذا سيفعلون به يا ترى؟ لابد أن يكون عندنا فقه بالواقع، ومعرفة بالمواءمة بين أحكام الشرع وبين الواقع، وكونك تفقأ عينه هذا مباح في ظل الشريعة الإسلامية بما أن هذا هو الراجح من حيث الدليل، أما الآن فنحن في ظل القوانين الوضعية، وأنا لا أدري بماذا تحكم المحاكم في مثل هذا، ولكن ما أظنها تصل إلى حد إباحة أخذ هذه العين الخائنة بلا مؤاخذة، فلابد أن تضع في اعتبارك أنك لو فقأت عينه فستعاقب بمقتضى القوانين الوضعية، وإن كنت لا تأثم عند الله، ولا تستحق العقوبة، لكن من حيث الواقع لا بد أن تنظر قبل أن تخطو حتى تدرك عواقب الأمور؛ حتى لا تبقى مظلوماً من الجهتين: من جهة أن هذا الخائن نظر في بيتك بدون إذنك، وهذا ظلم وانتهاك لحرمتك، ومن جهة أنك ربما ستعاقب بصورة أو بأخرى في مقابل شيء أحله الله سبحانه وتعالى، فلا بد من أن نفقه مثل هذه الأشياء، ونضعها في اعتبارنا.(62/8)
هل إرسال الرسول ليحضر شخصاً يعد إذناً لذلك الشخص بالدخول؟
وهنا مسألة يتعرض لها العلماء وهي: هل إرسال الرسول ليحضر شخصاً يعد إذناً لذلك الشخص بالدخول؟ يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: اعلم أن صاحب المنزل إذا أرسل رسولاً إلى شخص ليحضر عنده، فإن أهل العلم قد اختلفوا هل يكون الإرسال إليه إذناً؟ لأنه طلب حضوره بإرساله إليه، وعلى هذا القول إذا جاء منزل من أرسل إليه فله الدخول بلا إذن جديد؛ اكتفاء بالإرسال إليه.
أو على القول الآخر: فلا بد من أن يستأذن إذا أتى المنزل استئذاناًً جديداً.
فهذه مسألة مختلف فيها، وقد جاءت بعض الأحاديث تؤيد المذهب الأول، مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (رسول الرجل إلى الرجل إذنه)، وقوله: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع رسول فإن ذلك له إذن).
أما الفريق الآخر القائلون: إنه يستأذن إذا قدم إلى منزل المرسِل، ولا يكتفى بإرسال الرسول، فاستدلوا بما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: (دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد لبناً في قدح، فقال: أبا هر! الحق أهل الصفة فادعهم إليّ، قال: فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم، فدخلوا)، الشاهد قوله: (فاستأذنوا)، مع أنه قد أرسل إليهم أبا هريرة، ولم يكتفوا بالإرسال عن الاستئذان، ولو كان كافياً لبينه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة.
واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] فالعموم هنا يشمل الجميع، سواء من أُرسل إليه أو من لم يرسل إليه.
وجمع بعض العلماء بين القولين فقال: إذا طال العهد بين الطلب والمجيء احتاج إلى استئناف الإذن، وإلا فلا.
يعني: إذا طال الوقت بين إرسال الرسول ومجيء هذا المرسل إليه فإنه يحتاج إلى إذن جديد، وكذلك أيضاً إذا لم يطل العهد، ولكن كان المستدعي في مكان يحتاج معه إلى الإذن في العادة.
وعلى أي الأحوال: إذا وجد مقتضى الاستئذان فلا بد من الاستئذان في مثل هذه الحالة.(62/9)
أحكام الاستئذان داخل البيوت وآدابه(62/10)
وجوب الاستئذان على الأم والأخت والأبناء البالغين ونحوهم
في ضوء قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) بين المحققون من العلماء: أن الرجل يلزمه أن يستأذن على أمه وأخته وبنيه وبناته البالغين؛ لأنه إن دخل على من ذكر بغير استئذان فقد تقع عينه على عورات من ذكر، وذلك لا يحل له، وهذا إذا بلغ الإنسان سناً صار لعورته فيها حكم، بمعنى: أنه لا يجوز الاطلاع عليها، فهذا هو الضابط في قضية الاستئذان، فمثلاً: الأطفال الصغار ليس لعورتهم حكم، أما الابن البالغ، أو البنت البالغة، أو الأخت البالغة، أو الأم، وكل من لا يحل لك النظر إلى عورته، فهذا لا بد من الاستئذان عليه، فقد ذكرنا من قبل أن الرجل إذا كانت بنته في داخل غرفة في البيت مغلقة عليها، فلابد أن يستأذن عليها، ولا يقول: أنا أبوها وهي بنتي، وكذلك الأخ لا يدخل على أخته، أو العكس، أما هذه الفوضى التي تحصل في بعض البيوت فإنها مخالفة للشرع، فإذا كان هناك شخص يحرم عليك أن تنظر إلى عورته، ففي هذه الحالة لا يحل لك أبداً أن تدخل عليه إلا باستئذان، ولا يصح أن يحتج أحد بقوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:27]، فيقول: هذا بيتي، والله تعالى إنما حرم أن يدخل الإنسان غير بيته! لأننا نقول له: صحيح أنه بيتك باعتبار أنك مستأجره والعقد باسمك، أو أنك تملكه، أما في حكم الشرع: فما دام أنه كان مغلقاً على شخص بهذه المثابة فهو ليس بيتك، لذلك يقول الإمام ابن عطية رحمه الله تعالى: بيت الإنسان: هو البيت الذي لا أحد معه فيه.
فلو كان هناك رجل يعيش في بيت لوحده، ومعه المفتاح يفتح ويدخل، فليس هناك مشكلة، ولا يحتاج إلى استئذان، فبيت الإنسان هو البيت الذي لا أحد معه فيه، أو البيت الذي فيه زوجته وأمته، وما عدا هذا فليس بيتاً له.
نعيد عبارة الإمام ابن عطية رحمه الله تعالى، يقول: بيت الإنسان هو البيت الذي لا أحد معه فيه، أو البيت الذي فيه زوجته وأمته، وما عدا هذا فهو غير بيته.
انتهى كلام ابن عطية، وعليه فإن كان يسكن معه فيه إحدى محارمه كأمه أو أخته أو عمته، فلا يكون بيتاً له، ويجب عليه ما أوجبه الله سبحانه وتعالى عليه عند الدخول في بيت غير بيته من الاستئذان على أهله.
وقال الشيخ أبو الحسن المنوفي رحمه الله تعالى: الاستئذان واجب وجوب الفرائض، وقد انعقد الإجماع على وجوبه، فمن تركه فهو عاصٍ لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان كذلك فلا تدخل بيتاً فيه أحد حتى تستأذن ثلاثاً، سواء كان ذلك المتواجد فيه محرماً أو غيره مما لا يحل لك النظر إلى عورته.
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59] عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان إذا بلغ بعض ولده الحلم عزله فلم يدخل عليه إلا بإذن، وهذا النص محتمل للأمرين: أن ابن عمر نفسه لا يدخل على ابنه إلا بإذن أو أن الولد لا يدخل على أبيه إلا بإذن في كل الأوقات، وقبل أن يبلغ الحلم يستأذن في الأوقات الثلاثة التي سنبينها.
وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: يستأذن الرجل على ولده وأمه وإن كانت عجوزاً، وأخيه وأخته وأبيه.
قوله: يستأذن الرجل على ولده، أي: البالغ، وكلمة (الولد) تشمل الذكر والأنثى، قال الله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فكلمة (الأولاد) تشمل النوعين.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: يستأذن الرجل على أبيه وأمه وأخيه وأخته.
وعن عطاء بن يسار: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أستأذن على أمي؟ فقال: نعم، فقال: إنها معي في البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استأذن عليها، فقال الرجل: إني خادمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا، قال: فاستأذن عليها)، وهذا مرسل جيد.
وعن هزيل بن شرحبيل قال: سمعت ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول: عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم.
وعن علقمة فقال: جاء رجل إلى عبد الله قال: أستأذن على أمي؟ فقال: ما على كل أحيانها تحب أن تراها.
وعن مسلم بن نذير قال: سأل رجل حذيفة رضي الله عنه فقال: أستأذن على أمي؟ فقال: إن لم تستأذن رأيت ما تكره.
وفي رواية: إن لم تستأذن رأيت ما يسوءك.
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: إذا دخل أحدكم على والدته فليستأذن.
وعن موسى بن طلحة قال: دخلت مع أبي على أمي، فدخل واتبعته فدفع في صدري وقال: أتدخل بغير إذن؟ فيفهم منه أن الرجل يدخل على زوجته بلا إذن، أما الابن فلا يدخل على أمه بغيراستئذان.
وعن عطاء قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما فقلت: أستأذن على أختي؟ فقال: نعم، فأعدت فقلت: أختان في حجري -يعني: هو الذي يربيهما- وأنا أمونهما، وأنفق عليهما، أستأذن عليهما؟ قال: نعم، أتحب أن تراهما عريانتين؟! ثم قرأ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور:58] قال: فلم يؤمر هؤلاء بالإذن إلا في هذه العورات الثلاث، قال: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59] أي: الذين مر ذكرهم في الآيات التي ذكرناها من قبل وهم الكبار، قال ابن عباس: فالإذن واجب على الناس كلهم.
وعن ابن جريج قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ثلاث آيات قد جحدهن الناس: قال الله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] قال: ويقولون: إن أكرمهم عند الله أعظمهم شأناً! والإذن كله قد جحده الناس، فقلت له: أستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد؟ قال: نعم، فرددت على من حضرني، فأبى قال: أتحب أن تراها عريانة؟! قلت: لا، قال: فاستأذن، فراجعته أيضاً، قال: أتحب أن تطيع الله؟ قلت: نعم، قال: فاستأذن.
فقال لي سعيد بن جبير: إنك لتردد عليه! - أي ألححت في السؤال وكررت- قال: أردت أن يرخص لي.
وجاء في (الموسوعة الفقهية): يتفق المحرمون للدخول على المحارم ونحوهم إلا باستئذان على أن حرمة الدخول على ذوات المحارم وعلى الرجال بغير استئذان أيسر من ترك الاستئذان على الأجنبيات؛ لجواز نظره إلى الشعر والصدر والساق من ذوات محارمه دون الأجنبيات.
فهؤلاء يقولون: إن حرمة الدخول على ذوات المحارم وعلى الرجال أخف من النساء الأجنبيات.
وقال فريق آخر بعكس ذلك، فقال ابن جريج: وأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال: ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم.
قال: وكان يشدد في ذلك.(62/11)
حكم استئذان الرجل على زوجته
إذا لم يكن مع الرجل في بيته إلا امرأته، فإن الأظهر أنه لا يجب عليه أن يستأذن عليها، وإنما يستحب للرجل إشعار زوجته بدخوله، وذلك بأي طريقة، كأن يتنحنح أو ينادي، والسلام هو الأولى وهو المطلوب، لكن يجوز ما ذكرنا، فإذا لم يكن مع الرجل في بيته إلا امرأته فإن الأظهر أنه لا يجب عليه أن يستأذن عليها؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، وقد قلنا سابقاً: إن بيت الرجل هو البيت الذي هو فيه وحده، أو الذي فيه الزوجة أو الأمة؛ لأنه لا حشمة بين الرجل وامرأته، ويجوز بينهما من الأحوال والملابسات ما لا يجوز لأحد غيرهما، ولو كان أباً أو أماً أو ابناً كما لا يخفى.
ويدل لهذا قول موسى بن طلحة بن عبيد الله: دخلت مع أبي على أمي، فدخل فاتبعته، فدفع في صدري حتى أقعدني على استي، ثم قال: أتدخل بغير إذن؟! فنرى هنا أن طلحة -وهو زوجها- قد دخل بغير إذن.
وعن ابن جريج قال: قلت لـ عطاء: أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال: لا.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا محمول على عدم الوجوب، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به؛ لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها.
وأيضاً: فإنه قد يروعها، فلو كانت المرأة لوحدها ليلاً في البيت فيدخل عليها زوجها بدون استئذان فقد يروعها ويخيفها، وينتج عن ذلك ما لا يحمد عقباه، فالمفروض عليه الاستئذان حتى لا يروعها، فيندب ويستحب للرجل إيذان أهله بدخوله بنحو التنحنح وطرق النعل ونحو ذلك؛ لأنها ربما كانت على حالة لا تريد أن يراها زوجها عليها، قالت زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق؛ كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه.
وقال أبو عبيدة: كان عبد الله -يعني: ابن مسعود - إذا دخل الدار استأنس.
يعني: تكلم ورفع صوته كي يشعروا بدخوله، قال الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى: ويستحب أن يحرك نعله في استئذانه عند دخوله حتى إلى بيته، قال أحمد: إذا دخل على أهله يتنحنح، وقال مهنا: سألت أحمد عن الرجل يدخل إلى منزله ينبغي له أن يستأذن؟ قال: يحرك نعله إذا دخل، وقال الميموني أنه سأل أبا عبد الله: يستأذن الرجل على أهله -يعني: زوجته-؟ قال: ما أكره ذلك، إن استأذن ما يضره؟ قلت: زوجته وهو يراها في جميع حالاتها؟ فسكت عني.
فهذه نصوص أحمد رحمه الله تعالى لم يستحب فيها الاستئذان على زوجته وقوله: أأدخل؟ لأنه بيته ومنزله، واستحب -إذا دخل- النحنحة، أو تحريك النعل؛ لئلا يراها على حالة لا يعجبها ولا تعجبه.
ويقول الداخل إلى بيته ما ورد من الأذكار عند دخوله.(62/12)
هل يستأذن الرجل على مطلقته الرجعية
المطلقة الرجعية: هي المطلقة الطلقة الأولى أو الثانية وما زالت في فترة العدة، وتقيم عنده في البيت.
ففي وجوب استئذان الرجل على مطلقته الرجعية قولان مبنيان على أنه: هل يلزم من الطلاق الرجعي تحريمها على مطلقها أم لا؟ فمن قال: إنها ليست محرمة كالحنفية وبعض الحنابلة قال: لا يجب الاستئذان بل يندب، ويكون دخوله عليها كدخوله على زوجته غير المطلقة.
ومن قال: إنها محرمة كالشافعية والمالكية وبعض الحنابلة قال بوجوب الاستئذان قبل الدخول عليها.(62/13)
سلام الرجل على أهله إذا دخل عليهم
لا يجب الاستئذان عند الدخول على الزوجة، ويستحب الاستئذان، ويستحب أن يسلم الرجل على أهله إذا دخل منزله، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ولج الرجل بيته فليقل: اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج، باسم الله ولجنا، وباسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا، ثم ليسلم على أهله)، وهذا الحديث فيه كلام لكنه يتقوى بشواهده.
ويروى عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بني! إذا دخلت على أهلك فسلم يكن سلامك بركة عليك وعلى أهل بيتك).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للإسلام صوىً ومناراً كمنارات الطريق إلى أن قال: وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم، فمن ترك من ذلك شيئاً فقد ترك سهماً من الإسلام، ومن تركهن كلهن فقد ولى الإسلام ظهره).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة كلهم ضامن على الله: وفيه: ورجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله)، وفي بعض الروايات: (ثلاثة كلهم ضامن على الله: إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة: من دخل بيته فسلم فهو ضامن على الله)، ومعنى ضامن أي: صاحب الضمان، كما تقول: تامر ولابن، أي: صاحب التمر واللبن، فمعنى قوله: (ثلاثة كلهم ضامن على الله): أنه في رعاية الله، فكلمة (على) تتضمن معنى الوجوب والمحافظة، وذلك على سبيل الوعد من الله سبحانه وتعالى بأن يكلأه من الضرر في الدنيا والدين.
وعن المقداد رضي الله عنه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجيء من الليل فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً، ويسمع اليقظان)، وهذا من الآداب التي ينبغي أيضاً أن تراعى، فإن كان هناك أناس نائمون فلا ينبغي إزعاجهم بالأصوات، ولكن يسلم تسليماً لا يوقظ نائماً، ويسمع اليقظان.
وعن أبي الزبير أنه سمع جابراً يقول: إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة، قال: ما رأيته إلا يوجبه -يعني: يوجب رد السلام- قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، وقال قتادة: إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك، فهم أحق من سلمت عليهم.(62/14)
كراهة طروق الرجل أهله ليلاً
يكره طروق الأهل ليلاً لمن جاء من سفر، فإذا كان الرجل مسافراً سفراً بعيداً، فلا يأتي أهله فجأة دون أن يكون قد أخبرهم من قبل، فإن كان ولا بد آتياً فليبت في المسجد، أو في مكان آخر، ولا يفاجئهم في الليل، فعن جابر رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يأتي الرجل أهله طروقاً)، والطروق: هو المجيء بالليل من سفر أو من غيره على غفلة، يقال لكل آت بالليل: طارق، وأصل الطروق: الدق والضرب، وبذلك سميت الطريق؛ لأن المارة تدقها بأرجلها، وسمي الآتي بالليل طارقاً؛ لأنه غالباً يحتاج إلى دق الباب.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرقن أهله ليلاً).
وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يطرق أهله ليلاً، وكان يأتيهم غدوة أو عشياً).
وعن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلاً يتخونهم أو يطلب عثراتهم).
ففي هذا الحديث نص على بعض الحكمة من ذلك، فربما كان مجيء الرجل على أهله بهذه الطريقة المفاجأة، وبدون سابق إعلام يدخل في نفس أهله أنه يشك فيهم، وقد يوقع في قلب زوجته أنه يسيء بها الظن.
وأسوأ ما يفسد العلاقات -سواء بين الزوجين أو بين الآباء والأبناء- المعاملة التي فيها تخوين، أو سوء ظن أو شك، خاصة أن بعض الناس يكون عندهم نوع من الوساوس الخطيرة في هذا المجال، فيعيش في ضنك، ويعيش الناس معه أيضاً في ضنك وفي عذاب، فهذه الأشياء لم يتجاهلها الشرع الشريف، وهذه إحدى الحكم من هذا الأمر، حتى الأبناء ينبغي للإنسان أن يتعامل معهم بثقة، فلا تعامل الابن دائماً على أنه متهم، وتمسكه وتفتش ثيابه، وتنظر ماذا عمل، فإن زرع عدم الثقة في نفسه قد يجعل عنده رغبة في التحدي، وأنه سيعمل ما يشاء ولن تقدر على معرفة ذلك، وهذا نوع من الصراع الداخلي ينشأ من هذا الأسلوب التربوي الذي لا داعي له؛ لأنه إذا لم يكن له سبب مبرر فلا داعي أن تلقي في روع الناس أنك تشك فيهم؛ ولذلك راعت الشريعة هذا المعنى.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنك إن تتبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم)، فتتبع العورات، والتشكك في الناس، والمعاملة على أساس الريبة؛ هذه هي التي تأتي بالفساد، والمطلوب هو العكس، فمن المفروض أن تزرع في أبنائك أنك تثق فيهم، وأنك تحترمهم، وغير ذلك، مما يزرع الثقة فيهم، وبالتالي يسمو لأن يكون على هذا المستوى من الثقة وأنه يستحقها بخلاف العكس.
يقول الحافظ ابن حجر في حديث جابر: قوله: (إذا أطال أحدكم الغيبة) يشير إلى أن علة النهي إنما توجه حينئذ، فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فلما كان الذي يخرج لحاجته مثلاً نهاراً ويرجع ليلاً، لا يتأتى له ما يحذر من الذي يطيل الغيبة؛ كان طول الغيبة مظنة الأمن من الهجوم، فيقع الذي يهجم بعد طول الغيبة غالباً على ما يكره.
أي: أن الشخص الذي يخالف هذا الأمر الشرعي، ويأتي بعد طول الغيبة بدون سابق إنذار أو إعلام غالباً ما يلقى ما يكرهه، يقول: إما أن يجد أهله على غير أهبة من التنظيف والتزين المطلوب من المرأة، فيكون ذلك سبب النفرة بينهما، وقد أشار إلى ذلك بقوله لـ جابر حين قدم معه من سفر: (إذا دخلت ليلاً فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة)، وفي رواية أنه قال: (أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً -يعني: عشاء-؛ حتى تستحد المغيبة) أي: حتى تدخل ليلاً، والمقصود به في أول الليل، والنهي يكون عن الطروق في وسط الليل، أما لو أتى في أول الليل فإنه لا يدخل في النهي، ولذلك جاء في بعض الأحاديث: (إن أحسن ما دخل الرجل على أهله إذا قدم من سفر أول الليل)، فالذي يخالف هذا الهدي النبوي غالباً ما يقع على ما يكره، إما أن يرى زوجته غير متأهبة لذلك، وإما أن يرى منها ما يحدث النفرة بينهما.
يقول الحافظ ابن حجر: ويؤخذ منه كراهة مباشرة المرأة في الحالة التي تكون فيها غير متنظفة؛ لئلا يطلع منها على ما يكون سبباً لنفرته منها، وإما أن يجدها على حالة غير مرضية، والشرع محرض على الستر، وقد أشار إلى ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: (أن يتخونهم ويتطلب عثراتهم)، فعلى هذا من علم أهله بوصوله، وأنه سيقدم في وقت كذا -مثلاً- فلا يتناوله هذا النهي، وإنما النهي فيمن يأتي بغتة في وسط الليل، أو في آخره، ففي حديث ابن عمر قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة فقال: لا تطرقوا النساء، وأرسل من يؤذن الناس أنهم قادمون) أي: يخبر أهل البيوت أن هذا الجيش قادم.
قال ابن أبي جمرة: فيه النهي عن طروق المسافر أهله على غرة من غير تقدم إعلام منه لهم بقدومه، والسبب في ذلك ما وقعت إليه الإشارة في الحديث.(62/15)
استئذان الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم
ذهب الجمهور إلى وجوب أمر الصغير المميز بالاستئذان قبل الدخول في الأوقات الثلاثة، فهو أمر للآباء أن يأمروا الأبناء، لكن هل هو واجب على الأطفال الصغار؟ لا؛ لأن الطفل غير مكلف، فلا يجب عليه هذا الحكم، وإنما الواجب أن الأب يربي الطفل ويعوده على هذه الأمور، وهذا من روعة الشريعة الإسلامية، وكيف أنها لم تترك شيئاً مما يحتاجه الناس إلا وقد عالجته، لكنه يخفى على من يخفى، ويظهر لمن يظهر، فيجب على الولي أن يأمر الصغير المميز بالاستئذان، والمميز: هو الذي يقدر على أن يصف ما يراه بشدة، وكذلك يستطيع أن يميز مثلاً بين العبادة وبين اللعب.
أما غير المميز فلا يدخل في هذا الحكم، والآية الكريمة لم تذكر قيد التمييز، وإنما هو كلام لبعض الفقهاء، وعدم وجود فيد التمييز له حكمة عظيمة جداً من الناحية النفسية؛ لأن الطفل حتى قبل سن التمييز يجب أن تحفظ عينه عن أن يرى أشياء لا يحسن أن يراها؛ لأنها قد يكون لها تأثير سيئ جداً فيما بعد، والآية المشار إليها هي قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58]، فالبالغون من الأولاد أو البنات أو الأقارب في البيت، لا بد أن يستأذنوا في أي حال من الأحوال، وكذلك ملك اليمين من العبيد والإماء، وكذلك الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، فهؤلاء أيضاً يستأذنون، لكن في ثلاثة أوقات، وهذا من تيسير الشريعة، فهم كما قال الله تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} [النور:58]، فتراهم يتحركون في البيت بكثرة، فيخدمون مثلاً في البيت، أو يأتون بأشياء، ويدخل أحدهم ويخرج ويتصرف بحريته في البيت، فالشريعة هنا راعت حاجة الناس، ويسرت عليهم في هذا الأمر، إلا في ثلاثة أوقات فلا بد أن يدرب الأولاد على عملية الاستئذان، وهذه الثلاثة الأوقات سماها الله سبحانه وتعالى ثلاث عورات، وهذه الأحكام لا يمكن أن تجدها في شريعة من الشرائع على الإطلاق سوى هذه الشريعة الإلهية الحقة: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
والتساهل في هذه الأمور له عواقب من أسوأ ما يكون، فلولا أهمية هذه المسألة ما أنزل الله فيها وحياً يتلى في المحاريب إلى أن يأتي أمر الله عز وجل.
فيقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:58]، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان إذا بلغ بعض ولده الحلم عزله فلم يدخل عليه إلا بإذن.
وقال القرطبي رحمه الله: وكان أنس بن مالك دون البلوغ، لكنه كان يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم رضي الله تعالى عنهم.
وقد جرى عرف الناس على التحفظ والتحرز في غير الأوقات الثلاثة، فلا حرج من دخول الصغار بدون إذن حينئذ، وذلك لأنهم من الطوافين الذين يكثر دخولهم وخروجهم، ولا يجد الناس بداً من ذلك؛ لأن في الاستئذان حينئذ حرجاً عند كل دخول وخروج، أما إذا بلغ الأطفال الحلم فإنهم يدخلون في حكم الأجانب، وعليهم كلما أرادوا الدخول أن يستأذنوا كما يستأذن المحارم؛ لقول الله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:59].
فهذا التأديب الإسلامي الرفيع الراقي أمر يغفله الكثيرون في حياتهم المنزلية، مستهينين بما ينشأ عن التفريط فيه من صدمات نفسية، وانحرافات سلوكية، ظانين أن الصغار قبل البلوغ لا يتنبهون لهذه المشاهد، في حين يقرر علماء التربية وعلماء النفس: أن وقوع عين الطفل على شيء من هذه العورات، أو اطلاعه على هاتيك الأحوال، قد يترتب عليه معاناة نفسية، واضطرابات سلوكية لا تحمد عقباها، فتحصل له صدمة إذا وقعت عينه على ما لا ينبغي أن يطلع عليه، فالحرمة بين الأبوين وبين الأبناء لا بد أن يحافظ عليها صيانة لهذا الجانب؛ لأن الأولاد يضعون نوعاً من القداسة للأب والأم، فالتهاون في هذه الأمور قد يخدش هذا الجانب، ويصدم الأطفال.
فهذه الأمور تلفتنا إلى ضرورة حفظ تلك الأعين البريئة من كل ما يلوث فطرتها النقية، ويجني على صحتها النفسية، ويهدد استقامتها الخلقية، سواء في ذلك داخل البيت أو خارجه، وسواء في ذلك أوقات العورات الثلاث أو في غيرها، أي: أن هذه الآية تلفت نظرنا إلى وجوب حفظ حواس الأطفال، وحفظ عيونهم من أن يقعوا على ما لا ينبغي أن يطلعوا عليه، وليس هذا فقط في الثلاث عورات، أو في البيوت، فالمفروض حمايتهم في كل مكان، فقد يوجد التفلت والتسيب في بعض البيوت، حيث يحصل تساهل قبيح، بل إفراط مشين في كشف الأبدان والأحوال التي سماها القرآن الكريم عورات، فما دامت عورة فيجب أن تستر، ويستقبح كشفها أمام الصغار، فبعض الناس يتساهل في هذا بحجة أن الصغار لا يفهمون، ناهيك عما يعرض من مشاهد مماثلة لها في التلفاز أو غيره، فكل ذلك مما يناقض الحكم التشريعية السامية التي ترمي إلى حماية هؤلاء الأطفال من التنبيه المبكر للغرائز، وتعكير صفو الفطرة، وانحراف السلوك، وكم من حادثة مشينة كانت وليدة التقليد والمحاكاة، ونتيجة الانحراف عن هذا الأدب الإسلامي السامي.(62/16)
الحالات التي يجوز فيها دخول البيوت بدون استئذان
ذكرنا فيما سبق وجوب الاستئذان، وهنا نذكر أشياء تستثنى من ذلك، ولا يجب فيها الاستئذان، فهناك بيوت يمكن أن تدخل بدون استئذان، وهي كالتالي: أولاً: البيوت غير المسكونة التي فيها متاع للناس، فهذه يجوز دخولها من غير استئذان؛ بناء على الإذن العام بدخولها في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29]، وذلك إذا تعلق بها منفعتهم؛ كدفع الحر والبرد في الخانات والرباطات، ومثلها في هذا الوقت الفنادق، ومنفعة قضاء الحاجة في المواضع المعدة لذلك، وغير ذلك من المنافع.
وقد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29] فقال قتادة ومجاهد والضحاك ومحمد بن الحنفية: إنها البيوت التي تبنى على الطرقات يأوي إليها المسافرون، ومثلها الخانات، والخانات: جمع خان، وهو حانوت التاجر، وهي مواطن سكن مؤقتة يدخل الناس إليها دون استئذان، أما بالنسبة للفنادق: فالغرف التي فيها أناس لا يجوز دخولها، وأما صالة الفندق فيجوز دخولها؛ لأنها مكان عام، وفي الغالب فإن الغرف لا يمكن دخولها إلا إذا كانت خالية.
وقال مجاهد: لا يسكنها أحد؛ بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل.
وقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي والشعبي: إنها الدكاكين التي في الأسواق (المحلات)، وقد استظل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ظل خيمة فارسي بالسوق من المطر دون إذن منه.
وروى سفيان عن عبد الله بن دينار قال: كان ابن عمر يستأذن في حوانيت السوق، فذكر ذلك لـ عكرمة، فقال: ومن يطيق ما كان ابن عمر يطيق؟! وليس في فعله ذلك دلالة على أنه رأى دخولها بغير إذن محظوراً، ولكنه احتاط لنفسه، وذلك مباح لكل أحد.
وذهب ابن جرير وابن عطية إلى أنه لا يدخل الحوانيت إلا بإذن أربابها، فلا يدخل أي محل مفتوح إلا بإذن صاحبه، لكن قال الأولون: إنه لا ريب أن الحانوتي -أي: صاحب المحل، نسبة إلى الحانوت وهو المحل أو المتجر- إذا فتح متجره فهو يفتحه رغبة في دخول الزبائن، وأنه راغب في البيع، وهذا سبب كافٍ لإباحة دخول المتاجر بدون إذن، وقد تعارف الناس على ذلك.
قال الشعبي: لأنهم جاءوا ببيوعهم فجعلوها فيها، وقالوا للناس: هلم.
وقال عطاء: المراد بها الخرب التي يدخلها الناس للبول والغائط، ففي هذا أيضاً متاع، وقال محمد بن الحنفية أيضاًَ: أراد تعالى بذلك دور مكة.
وبين الإمام مالك رحمه الله تعالى الأصل في قول محمد بن الحنفية هذا، فقال: وتجويز محمد بن الحنفية دخول بيوت مكة بغير استئذان مبني على القول بأن بيوت مكة غير متملكة، وأن الناس فيها شركاء.
يعني: بناء على أن مكة فتحت عنوة، وتعقب بأن الله سبحانه وتعالى قيد هذه البيوت المذكورة في الآية بأنها بيوت غير مسكونة، وبيوت مكة مسكونة، وأدخل جابر بن زيد في ذلك كل مكان فيه انتفاع وله فيه حاجة، وبنى المالكية ذلك على العرف فقالوا: يباح له أن يدخل بغير استئذان كل محل مطروق؛ كالمسجد، والحمام، والفندق، وبيت العالم والقاضي والطبيب، وهو المكان الذي يستقبل فيه الناس؛ لوجود الإذن العام بدخوله.
وقد سمى الشيخ عليش هذه البيوت: بيوت ذي الإذن العام لجميع الناس، فهي بيوت مختصة بأن فيها إذناً عاماً لجميع الناس؛ كبيت الحاكم والعالم والكريم الذي يدخله عامة الناس بلا إذن خاص.
وقال الحنفية: إن البيوت إذا لم يكن لها ساكن، وللمرء فيها منفعة، يجوز له أن يدخلها من غير استئذان؛ كالخانات والرباطات التي تكون للمارة، والخرابات التي تقضى فيها حاجة البول والغائط؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29].
وقال الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى: القول بالعموم في البيوت هو الصحيح، ولا دليل على التخصيص.
وقال أيضاً: من فسر المتاع بأنه جميع الانتفاع فقد طبق المفصل، وجاء بالفيصل.
وهذا الأسلوب رائق رائع من الإمام أبي بكر بن العربي رحمه الله تعالى، وكتب ابن العربي عموماً فيها هذه الأساليب البليغة، والتعبيرات الجميلة، فأنا أوصي من يريد أن يقوي لغته أن يستخرج هذه التعبيرات، ويكتبها، ويحفظها، ويستعملها، فكثيراً ما يأتي ابن العربي بعبارات رائقة ورشيقة وشائقة من الناحية اللغوية، وكما تلاحظون هنا يقول: من فسر المتاع بأنه جميع الانتفاع فقد طبق المفصل، وجاء بالفيصل.
وبين أيضاً أن دخول الداخل في هذه البيوت إنما هو لما له من الانتفاع، فالطالب يدخل المدرسة للعلم، والساكن يدخل في الخان للمبيت فيه، أو لطلب من نزل لحاجته إليه، والزبون يدخل الدكان للابتياع، والحاقن يدخل الخلاء للحاجة، وكل يؤتى على وجهه من بابه.
إذاً: هذا هي حالة الاستثناء الأولى: أن ندخل بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لنا بدون إذن.
الحالة الثانية: ترك الاستئذان لدخول بيت إحياء: لنفس أو مال، فقد يكون الإنسان في ظرف لو أنه انتظر حتى يستأذن فقد تفوت المصلحة، فإذا كان هناك في بيت مثلاً حريق، أو مال سيتلف، ففي هذه الحالة يقتحم البيت بغير إذن؛ إحياء للنفس أو حفظاً للمال.
وقد أورد الحنفية عدداً من الفروع الدالة على ذلك، وقواعد المذاهب الأخرى لا تأبى ما ذهب إليه الحنفية، إلا الحنابلة فإنهم لم يجيزوا دخول البيت إذا خيف ضياع المال إلا باستئذان أما إذا كان لدفع عدو يريد أن يزهق نفساً مسلمة فيجوز دخوله بغير استئذان؛ لما في دفع العدو من إحياء نفوس المسلمين وأموالهم.
الحالة الثالثة: أجاز الحنفية والمالكية دخول البيت الذي يتعاطى فيه المنكر بغير استئذان بقصد تغيير المنكر، أي: لابد أن تكون نيته تغيير المنكر، وليس الدخول والاطلاع على العورات، كما إذا سمع في دار صوت المزامير والمعازف فله أن يدخل عليهم بغير إذن، وعللوا ذلك بعلتين: الأولى: أن الدار لما اتخذت لتعاطي المنكر فقد سقطت حرمتها، وإذا سقطت حرمتها جاز دخولها بغير إذن.
الثانية: أن تغيير المنكر فرض، فلو شرط الإذن لتعذر التغيير.
وهذه الحالة إذا تجاهروا بالمنكر، أما إذا لم يتجاهروا بالمنكر فلا، فمثلاً: لم تسمع مزماراً، ولم تشم رائحة الخمر، وليس هناك أي شيء يدل على وجود المنكر، فهنا لا يجوز التوصل إلى المنكر عن طريق التجسس، فشرط المنكر الذي ينكر أن يكون ظاهراً من غير تجسس، أما لو كان المنكر مختفياً فلا؛ لأنه لم يستوف شروط المنكر الذي يجب تغييره، فأحد شروط تغيير المنكر أن يكون منكراً، وأن يكون ظاهراً بغير تجسس.
وأما الشافعية فقد كانوا أكثر تفصيلاً للأمر من الحنفية، حيث قالوا: إن المنكر إن كان مما يفوت استدراكه جاز له دخوله لمنع ذلك المنكر بغير استئذان، كما إذا أخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا برجل ليقتله، أو خلا بامرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذه الحال أن يتجسس، ويقدم على الكشف والبحث؛ حذراً من فوات ما لا يستدرك من إزهاق روح معصوم، وانتهاك عرض محرم، وارتكاب المحظورات، أما إذا لم يفت استدراكه، كما إذا دخل معها البيت ليساومها على أجرة الزنا ثم يخرجان ليزنيا في بيت آخر، أو إذا كان مما يمكن إنكاره ورفعه بغير دخول؛ لم يحل له الدخول بغير استئذان، كما إذا سمع المحتسب أصواتاً منكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتهم؛ أنكرها خارج الدار، ولم يهجم عليها بالدخول؛ لأن المنكر ظاهر، وليس له أن يكشف عما سواه.(62/17)
المستقبل للإسلام
لقد ضمن الله تعالى البقاء لدينه، وجعل العاقبة للمتقين ولو كره الكافرون، فعوامل البقاء والانتشار في دين الإسلام تمهِّد له اليوم ليحكم العالم وإن كان جهد المسلمين في هذا الجانب قليلاً، وهذا هو ما تكشفه النصوص، وتوضحه وتؤيده أقوال وكتابات كثير من مفكري وقادة الغرب من غير المسلمين.(63/1)
أقوال بعض المفكرين الغربيين في أن المستقبل للإسلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فقد طرح المستشرق الإنكليزي المعاصر استبن سؤالاً يقول فيه: هل يمكن أن نقع يوماً تحت وطأة الخطر الإسلامي؟ ثم أراد أن يأتي ببعض الأجوبة، فقال: أجل، إنهم اليوم دعاة متفرقون، لا نرى عزماً أكيداً لدى كبارهم يحملهم على التضحية، ولا نرى عند ذوي الرأي والوجاهة فيهم أنهم يستطيعون الجلوس معاً جلسة جدية يتحدثون فيها عن مشاكلهم فضلاً عن أن يتكلموا عن حلها، ففي طوال ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن من تاريخ الإسلام يصعب أن نشير إلى حالة واحدة اجتمع فيها ممثلون من جميع أقطار العالم الإسلامي ليتشاورا في مشاكل تعنيهم جميعاً، وليقروا اتباع طريق واحد في العمل.
يقول: إن المسلمين قد يستمرون مدة طويلة من الزمن في هذا التفرق والتشرذم، لكن ينبغي أن لا نبالغ في تقدير طول هذه المدة؛ لأن هناك ظاهرة كثيراً ما يهملها الباحثون في حركات المجتمع الإسلامي مهما كان نوعها، وهي أنها تنضج بسرعة مدهشة، حتى إن وجودها -كما أشار الأستاذ لاسنيون أحد المستشرقين الفرنسيين- يندر أن يخطر على بال أحد قبل أن يندلع لهيبها ويروع العالم، والمسألة الكبرى هي مسألة الزعامة، فحينما يجد الإسلام صلاح الدين الجديد رجلاً يجمع بين الحنكة السياسية العظيمة وبين شعور برسالته الدينية يبلغ أعماق نفسه فإن ما عدا ذلك ينحل من تلقاء نفسه.
اهـ أما الأمريكي جورج تتسون فيقول في كتاب الشرق الأوسط في مؤلفات الأمريكيين: إن المآثر التي قامت بها الشعوب التي تتكلم اللغة العربية بين القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر كانت عظيمة لدرجة تخمل أجسامنا، وإن شعوب الشرق الأوسط سبق لها أن قادت العالم في مرحلتين طول ألفي عام على الأقل قبل أيام اليونان، وفي العصور الوسطى لمدة أربعة قرون، وليس ثمة ما يمنع تلك الشعوب من أن تقود العالم مرة ثالثة في المستقبل القريب أو البعيد.
اهـ ويقول أستاذ فرنسي لطلابه إبان الاحتلال الألماني لفرنسا في الحرب العالمية الثانية -والذي حكى هذه القصة طالب عربي كان يتلقى العلم عليه في ذلك الوقت-، قال لمن يريد أن يربيهم للمستقبل من أبناء بلاده منبهاً إياهم ومعزياً أولاد بلاده الفرنسيين عن الاحتلال الألماني: إن الخطر الذي داهمهم من الألمان ليس هو الذي يخافه عليهم وعلى مستقبلهم، وإنما الخطر الجدير بالخوف هو ما يمكن أن تأتي به هذه الشعوب التي تربض خلف البحر الأبيض المتوسط؛ لأن خطرها هو الذي يهز الكيان ويزلزل الأركان.
اهـ قال هذا والعرب والمسلمون في أشد حالات الضعف.
ويقول لورن استرون: لقد كنا نخوف بشعوب مختلفة، ولكننا بعد الاختبار لم نجد مبرراً لمثل هذا الخوف، لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي والخطر الأطلس باليابان وتزاعمها على الصين، وبالخطر البلشفي، إلا أن هذا التخوف كله ما وجدناه كما تخيلناه؛ لأننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد، ثم رأينا أن البلاشفة حلفاء لنا أثناء الحرب العالمية الثانية، أما الشعوب الصفراء فإن هناك دولاً ديمقراطية كبرى تتكفل بمقاومتها، ولكن الخطر الحقيقي كامن في المسلمين، وفي قدرتهم على التوسع والإخضاع، وفي الحيوية المدهشة العنيفة التي يمتلكونها، ألا إنهم السد الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي.
اهـ وهذا سلا زار يصرح في حديث له فيقول: الخطر الحقيقي هو الذي يمكن أن يحدثه المسلمون من تغيير نظام العالم.
فقيل له: إنهم في شغل عن أن يفكروا في هذا لخلافاتهم ونزاعاتهم، فقال: إني أخشى أن يخرج من بينهم من يوجه خلافهم إلينا.
اهـ **ويقول أحد علماء (السربون) في إحدى مؤلفاته: إن العالم فيه ثلاث قوى: قوة الشرق، وقوة الغرب، وهناك قوة ثالثة لو عرفت نفسها لأمكنها أن ترث القوتين، وهذه القوة هي القوة الكامنة وراء يقظة المسلمين؛ لأن لهم نظرة انفردوا بها عن العالم في تنشأة الرجال.
اهـ وقال أحد المسئولين في وزارة خارجية فرنسا سنة (1951م): ليست الشيوعية خطراً على أوروبا فيما يبدو لي، فهي حلقة لحلقات سابقة، وإذا كان هناك خطر فهو خطر سياسي عسكري فقط، ولكنه على أي حال ليس خطراً حضارياً تتعرض معه مقومات وجودنا الفكري والإنساني للزوال والفناء، إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديداً مباشراً عنيفاً هو الخطر الإسلامي، والمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي، فهم يملكون تراثهم الروحي خاصة، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، وهم جديرون أن يقيموا بها قواعد عالم جديد دون حاجة إلى الاستغراب -أي: دون حاجة إلى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية بصورة خاصة في الشخصية الحضارية الغربية- وفرصتهم في تحقيق أحلامهم هي في اكتساب التقدم الصناعي الذي أحرزه الغرب، فإذا أصبح لهم علمهم، وإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الفتي، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الروح الغربية، ويقذفون رسالتهم إلينا عبر التاريخ، وقد حاولنا خلال حكمنا الطويل في الجزائر أن نتغلب على الشخصية التاريخية لسعة هذا البلد فلم نأل جهداً في فرض شخصية غربية لهم، فكان الإخفاق الكامل من نتائج مجهودنا الضخم الطويل.
إن العالم الإسلامي يقعد اليوم فوق ثروة خيالية من الذهب الأسود والمواد الأولية الضرورية للصناعة الحديثة، وهو في حاجة إلى الاستقلال في استغلال هذه الإمكانات الضخمة الكامنة في بطون سهوله وجباله وصحاريه، فهو -وتأمل هذه العبارة- في عين التاريخ عملاق مقيد، عملاق لم يكتشف نفسه بعد اكتشافاً تاماً، فهو حذر، وهو قلق، وهو كاره لماضيه في عصر الانحطاط، راغب رغبة يخالطها شيء من الكسل -أو بعبارة أخرى من الفوضى- في مستقبل أحسن وحرية أوفر، فلنعط هذا العالم ما يشاء، ولنقو في نفسه الرغبة في الإنتاج، ولنصنع له ما يشاء من منجزات الصناعة الحديثة، شرط أن نبتعد به عن الإنتاج الصناعي والفني -ويقصد الإنتاج التكنولوجي-، فإذا عجزنا عن تحقيق هذه الخطة، وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه من مباراة الغرب في الإنتاج فقد بؤنا بالإخفاق الذريع، وأصبح خطر العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطراً داهماً يتعرض به التراث الحضاري الغربي لكارثة تاريخية ينتهي بها الغرب، وتنتهي معه وظيفته القيادية.
اهـ أما (جوستريونغ) فقد كتب كتاب (أثناء الحساب الأخير) الذي اخترعه ويعني به تصفية الحساب، وهو يعني أن العالم الإسلامي سيفيق، وسوف ينتقم من العالم الغربي واليهود الصهاينة ويتولى هو حسابهم.
يقول: إن العالم الإسلامي قد أفلت من قبضة الموت الذي أعده ونسق أكفانه الاستعمار الأوروبي، وإن العالم الإسلامي يسرع الخطا إلى الشباب، فيصفي حسابه مع الاستعمار الأوربي الصهيوني، وهو حساب عسير رهيب.
اهـ وجاء في مجلة التاريخ الجاري الأمريكية مقال بعنوان: محمد -عليه الصلاة والسلام- يتهيأ للعودة.
وفي عنوان آخر: إن المسلمين رقدوا خمسمائة سنة، وهم يتحركون الآن ويتوثبون إلى استنفار.
وقال الفير نشادور: إن هذا المسلم الذكي الشجاع قد ترك لنا حيث حل آثار علمه وفنه، آثار مجده وفخاره، إن هذا المسلم الذي نام نوماً عميقاً مئات السنين قد استيقظ وأخذ ينادي: هأنذا لم أمت، إني أعود إلى الحياة، لا لأكون أداة طيعة أو كتلاً بشرية تسيرها العواصم الكبرى.
ثم قال: ومن يدري! قد يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الفرنج مهددة بالمسلمين، فيهبطون من السماء لغزو العالم مرة ثانية في الوقت المناسب أو الزمن الموقوت، لست أدعي النبوة، ولكن الأمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة لا تقوى الذرة ولا الصورايخ على وقف تيارها.
اهـ هذا ما يقوله شخص يستقرئ أحداث التاريخ وعبره، فماذا يقول الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى صلى الله عليه وآله وسلم.(63/2)
أحاديث نبوية في أن المستقبل للإسلام
أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثير من النصوص التي تبشر بأن المستقبل حتماً للإسلام، وهذه حقيقة نوقن بها تماماً كما نؤمن أن الشمس غداً ستشرق من المشرق، يقول الله تبارك وتعالى في شأن هؤلاء الكفار: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32]، تخيل أن اليهود والنصارى يحاولون إطفاء نور الله بأفواههم، والله عز وجل يأبى إلا أن يتم نوره.
فهم الآن في كل بقاع العالم الإسلامي يحاولون إطفاء نور الله، يحاولون وأد الصحوة الإسلامية بأفواههم، وبكل ما أوتوا من قوة، انظر إلى هذا التمثيل! تخيل نوراً عظيماً، وهناك أناس يحاولون أن يطفئوه، كل واحد ينفخ ليطفئه بفمه، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33] حتى وإن كرهوا فلابد من أن تحقق كلمة الله عز وجل.
فعن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) فهذه نبوءة بأن الإسلام سوف يسيطر على كل الكرة الأرضية.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، فقلت: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] أن ذلك يكون تاماً؟! قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله).
فقولها: (أن ذلك يكون تاماً) يعني أن وعد الله بظهور هذا الدين على سائر الأديان سوف يتحقق لا محالة، فبشرها عليه الصلاة والسلام وقال: (إنه سيكون من ذلك ما شاء الله).
وعن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً) وهو ما نحن فيه الآن ومنذ زمن بعيد، قال: (ثم تكون ملكاً جبرياً، فيكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة).
إذاً: سوف ينتهي هذا الليل الحالك بإشراق شمس الإسلام من جديد (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) وفي هذا إشارة إلى أنه بقدر ما تقترب الدعوة من منهاج النبوة بقدر ما تكون هي المؤهلة لإعادة التمثيل لهذه الخلافة.
ويقول -أيضاً- صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)، ويقول أيضاً: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها)، ويقول -أيضاً- صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره)، ويقول -أيضاً- عليه الصلاة والسلام: (بشر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين، ومن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب).(63/3)
تحقق وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أم رومية -أي: روما-؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً) يعني القسطنطينية، وتحقق هذا بعد حوالى ثمانمائة سنة على يد السلطان محمد الفاتح العثماني.
ولهذا السلطان ترجمة طيبة، لكن نشير إشارة عابرة إلى شيء مهم جداً يعكس أننا لابد من أن نهتم دائماً بالجيل القادم، ولابد من أن نربي أولادنا لأجل أن يحملوا هذه الرسالة، وإذا كنا قد هدينا إلى الالتزام وإلى الإسلام في سن متأخرة -إذ ربما التزم بعض الإخوة بعد أن دخل الجامعة أو في الثانوية- فنرجو أن يكون الجيل المقبل -إن شاء الله- أسعد حظاً في أن ينشأ من صغره على هدف يعيش من أجله.
أما قصة محمد الفاتح فهي -باختصار شديد- أنه كان ابن السلطان، فكان يؤدبه شيخ وهو طفل صغير، ومؤدبه يدعى آق شمس الدين، وكان هذا العالم المربي هو الذي يربيه ويهذبه ويعلمه، وكان هذا الشيخ يأخذ يد الطفل الصغير محمد الفاتح بين وقت وآخر، ويذهب به إلى الساحل الذي يفصل آسيا عن أوروبا؛ لأن اسطنبول يقع جزء منها في آسيا وجزء منها في أوروبا، وكانت تسمى (الآستانة) في الحقيقة، لكن أتاتورك سماها اسطنبول، واسمها كان (إسلام بول) أي: مدينة الإسلام.
فكان يأخذ محمد الفاتح وهو صبي صغير إلى الساحل بصفة مستمرة، ويقول له: انظر إلى هذه المدينة التي هناك، هذه المدينة هي القسطنطينية، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون القسطنطينية، فنعم الجيش جيشها، ونعم الأمير أميرها)، ثم ينصرف، ثم يأخذه بعد ذلك مرة أخرى ويسحبه بيده وهو طفل صغير، فظل مداوماً على هذا حتى تولد لدى هذا الصبي الصغير الهمة في أن يدخل في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمغفرة لهذا الجيش، وبالمدح والثناء لأميره: (فنعم الأمير أميرها ونعم الجيش جيشها) فعاش لأجل هذا الهدف فقط لا لغاية أخرى، وهذا الشيخ كان يعلم أن هذا الرجل سيكون في يوم من الأيام سلطاناً، فأراد أن يساهم في تحقيق هذا النصر العظيم، فأوجد في هذا الصبي من صغره هذه الهمة، فيعيش ليؤدي هذه الرسالة، ويحمل هذا الشرف، ليس كل همه أن يجمع المال، وأن يخرج بمنصب مرموق، وأن يعيش عيشة طيبة، فهذه همة دون، أما أصحاب الهمم العالية فهم يهتمون بمعالي الأمور.
فعليك أن تربي أولادك إذ لا يبعد أن يكون ابنك الصغير الذي يركض في المهد ويصرخ ويصيح هو الذي سوف يمكن الله للإسلام على يديه، ولا تحتقر ما في هذه الأجيال والأطفال من طاقات، فينبغي الاهتمام الشديد بالأجيال المقبلة، ونرجو أن تكون أسعد حظاً من جيلنا.(63/4)
أدلة عامة على أن المستقبل للإسلام
الأدلة على أن المستقبل للإسلام كثيرة جداً، وقد ذكرنا منها -من غير نصوص الوحي من الكتاب والسنة- أقوال المفكرين والمشاهير من الغربيين الذين يقرون بهذه الحقيقة مع أننا في أشد حالات الضعف والهوان، فالأمة الإسلامية لن تتخلى عن عقيدتها بالرغم من الذل الذي تتجرعه كل وقت، ومع ذلك هم يخافون من الأمة، فلماذا؟ لأنهم يعرفون مكامن القوة في هذه الأمة.
ومن الأدلة -أيضاً- أن الإسلام هو دين الفطرة، وهذا الدين حفظه الله عز وجل من التحريف، فهو منهج حياة شامل، يسهل كل مقومات الحياة، والبشرية الآن في حالة تعطش إلى الإسلام، ومن يرى أحوال الكفار أو يسمعها أو يقرأها سيحكم بأن هذه الأمم كلها انهارت، وليست الشيوعية فقط الذي انهارت، بل العالم الغربي الآن منغمس في حمئة الرذيلة، وأسباب الانهيار تعمل فيه بأقصاها {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196].
وإذا أردنا أن نتكلم عن انهيار النظم البشرية فلن نضع أمريكا في مؤخرة القائمة، بل هي في أول هذه القائمة؛ لأنها مع قوتها المادية الهائلة منهارة انهياراً شديدة جداً، ومن الخيانة أن كثيراً من الكتاب والناس يعودون من تلك البلاد فيمدحونها مدحاً شديداً حتى يصوروا للناس أنها الفردوس المفقود، لكن من خبر الأمر على حقيقته وجد أننا متقدمون عنهم بمراحل عظيمة جداً مع ما نحن فيه من الانحراف عن الإسلام، ولنعلم أن إخواننا الذين يعيشون هناك ممن فيهم خير وفيهم ولاء لله ورسوله عليه الصلاة والسلام يعتبرون عودتهم إلى بلادهم الإسلامية -على ما فيها من فساد- أمنية عظيمة جداً، لكنهم دخلوا في أسر الدنيا، فقل من يضحي حتى يعود إلى بلاد المسلمين، فهم جميعاً في حاله شقاء وضنك وعذاب وحرمان من نعمة الحياة بين المسلمين.
فالمقصود أن الانهيار ليس فقط في الشيوعية، ولكن أمريكا -كذلك- في قمة من ينهار في الحقيقة، والبشرية الآن كلها تبحث عن منقذ، فليس عندهم قيم في أمور البشرية على الإطلاق، ليس عندهم أي شيء يقدموه للبشرية.
ومن الأدلة -أيضاً- أن بشائر الصحوة الإسلامية في كل أرجاء العالم الإسلامي -بل في أعماق أوروبا وأمريكا نفسها- تطل من جديد، مع أن الجهود الدعوية التي تبذل في كل البلاد الإسلامية دون المستوى المطلوب بكثير جداً، ومع ذلك فتجد انتشاراً كبيراً جداً لهذه الصحوة، فهذا مما يبشر باقتراب هذا الوعد والأجل المحتوم، يقول الله تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110]، ويقول الله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى:28]، فبعد القنوط والإياس يأتي النور والحياة، لكن هذا الدين لم يقم إلا على تضحيات وبذل وأشلاء وجماجم، ولم توقد مصابيح الهداية إلا بدماء الشهداء الأبرار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة.(63/5)
عدم اليأس من النصر بسبب حال المسلمين اليوم
عن خباب رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله! ألا تدعوا لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، فتأمل هذا الحديث، وانظر إلى الحال التي نحن فيها الآن من الضعف، فالحال في كثير من بلاد المسلمين ليست كالحالة التي نطق فيها النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث، قال الصحابي: (وقد لقينا من المشركين شدة)، فقد كان المشركون يعذبون الصحابة أشد العذاب، ولما هرعوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدل عن الدعاء لهم بتسليتهم وتعزيتهم بأن هذه سنة من الله ماضية، ولابد من البلاء، وبشرهم بالنصر وهم في هذه الحالة من الضعف، والدعوة كانت في بدايتها، والصحابة كانوا يعذبون أشد العذاب، وهذا كما جاء في الحديث الآخر: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يشكنا) يعني: لم يُزِل شكوانا، ولم يدع لنا.
لأن هذه سنة ماضية من الله عز وجل.
وفي هذه الحالة من الاضطهاد الشديد بشرهم رسول الله صلى الله علي وسلم بالأمل، وأحيا في نفوسهم الأمل بالتمكين للدين، بل حلف على ذلك وهو الصادق المصدوق فقال: (والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر)، ونحن الآن نقسم -أيضاً- على أن الله سيتم هذا الأمر كما وعد الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88].
ونختم الكلام بقصة سراقة بن مالك عندما كان يطارد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه أبا بكر رضي الله عنه كما في حديث الهجرة، فكان يتعثر به فرسه كلما هم أن يلحق الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه بدافع الطمع في الجائزة المغرية التي نصبتها قريش لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أو بخبر عنهما، ثم ساخت قوائم فرسه في الأرض، فطلب منهما أن ينقذاه على أن يرجع، وعاهد النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه على أن يكفيهما من وراءهما، ويضلل قريش حتى لا تصل إلى طريقهما، فخطر في نفسه أن يرجع ويغدر، ويعود من جديد في ملاحقتهما طمعاً في تلك الجائزة، وفي هذه اللحظة التي حدث فيها نفسه بهذه النية وهذا الهم طمعاً في الجائزة إذا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول له: (يا سراقة! كيف بك وسواري كسرى في يديك؟!)، يقول الشيخ سيد قطب رحمه الله تعالى في كتابه (المستقبل لهذا الدين): يعده سواري كسرى ملك الفرس، والله وحده يعلم ما هي الخواطر التي دارت في رأس سراقة حول هذا العرض العجيب من ذلك المطارد الوحيد إلا من صاحبه الذي لا يغني شيئاً عنه، والمهاجر سراً معه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عارفاً بالحق، وعارفاً بالباطل الذي عليه أهل الجاهلية في الأرض كلها يوم ذاك، كان واثقاً من أن هذا الحق لابد أن ينتصر على الباطل، وأنه لا يمكن أن يوجد الحق في صورته هذه وأن يوجد الباطل في صورته هذه ثم لا يكون ما يكون، كانت الشجرة القديمة قد تآكلت جذورها كلها بحيث لا يصلحها ري ولا سماد، كانت قد خرفت بحيث يتحتم أن تجتث، وكانت البذرة الطيبة في يده معدة للغرس والنماء، وكان واثقاً من هذا كله ثقة اليقين، ونحن اليوم في مثل هذا الموقف بكل ملابساته وكل سماته مع الجاهلية كلها من حولنا، فلا يجوز من ثم أن ينقصنا اليقين في العاقبة المحتومة، العاقبة التي يشير إليها كل شيء من حولنا على الرغم من جميع المظاهر الخادعة التي تحيط بنا.
إن حاجة البشرية اليوم إلى هذا المنهج ليست بأقل من حاجتها يوم ذاك، وإن وزن هذا المنهج اليوم بالقياس إلى كل ما لدى البشرية من مناهج لا يقل عنه يوم ذاك، ومن ثم ينبغي أن لا يخالجنا الشك بأن ما وقع مرة في مثل هذه الظروف لابد أن يقع، ولا يجوز أن يتطرق إلى قلوبنا الشك بسبب ما نراه من حولنا من التصرفات الوحشية التي تكال لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان.(63/6)
الأسئلة(63/7)
واجب الشباب تجاه القضية الفلسطينية
السؤال
ما هو واجب الشباب المسلم تجاه القضية الفلسطينية؟
الجواب
تحرير فلسطين لابد أن يبدأ من دولة خلافة إسلامية، ودولة الخلافة لن تقوم إلا على أيدي رجال لهم صفات حددها الله تبارك وتعالى، وهذه الصفات الآن غير موجودة فينا، والتغيير يبدأ من أنفسنا، فيجب أن يبدأ التغيير من أنفسنا وأن يبدأ التحول من أنفسنا، عملاً بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ولا شك في أنه سيكون هناك جهاد في فلسطين، بل إن نفس الأنظمة العربية تعرف أن إسرائيل تعد لحرب قادمة، وهم يحددون تاريخها بعد عدة سنوات، وهذا شيء معروف، وهذا الوضع لن يدوم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(63/8)
حكم السفر إلى بلاد الغرب لطلب المال والراحة
السؤال
توجد الآن صحوة إسلامية كبيرة واسعة لا نظير لها في البلاد الإسلامية، والشباب المسلم يتعرض لمتاعب اقتصادية وأمنية مما يجعل الكثير منهم يفكر في الهجرة إلى بلاد الغرب، فما هو الحكم الشرعي في السفر إلى بلاد الغرب الكافرة؟ وهل هناك صحوة إسلامية حقيقة في الغرب؟
الجواب
مصطلح الصحوة الإسلامية يستعمل هناك أيضاً، والكلام في ذلك يطول، فهناك صحوة نسبية، والوجود الإسلامي في الغرب ما هو إلا قطرة في بحر لجي من الفتن يغشاه موج من فوقه موج من فوقه ظلمات، فالوضع ليس كما نحاول أن نقنع به أنفسنا، فالإخوة هناك غرباء في الدين، وغرباء عن الوطن، وكل أنواع الغربة تحققت فيهم، ونحن نعرف قصة الرجل الذي رأى حماراً وهو يريد أن يأكل الحمار فقال: ما أشبه أذنيه بأذني الأرنب! فهو يريد أن يقنع نفسه حتى يأكله.
وهكذا بعض الإخوة يريد أن يبيح لنفسه أن يذهب إلى تلك البلاد للإقامة؛ فيحاول أن يتخذ لنفسه هذه المعاذير، فيقول: إن هناك إخوة في المركز الإسلامي، لكن جميع الإخوة -بلا استثناء- يعانون أشد العناء، وما من أخ إلا وأمله الأسمى في الحياة أن يعود إلى بلاد المسلمين، لكن المشكلة أنه تعود على نمط الحياة هناك، ويرى أن عليه أن يتكيف على الأوضاع هنا إذا عاد، ويطلع على سوء أخلاق الناس وشدة الحياة، وغير ذلك من عوامل التنفير، لكن العاقل دائماً يعرف كيف يزن الأمور ويحسن تقدير العواقب.
فالذي يظن أنه سيذهب هناك ويحصل بعض المصالح بدون أن تمسه هذه الفتن أشبهه بطائر يريد أن يأخذ الحبة من الفخ، فأين ذلك الطائر الذي يستطيع أن يلتقط الحبة دون أن يقع في الفخ؟! وهذا يذكرنا بقصة القرد الذي رأى سمكة تصارع أمواج الطوفان، وتصعد وتغطس في حالة عناء من أمواج شديدة، ولا تتمكن من الاستقرار داخل الماء، فأشفق عليها هذا القرد، وأراد أن ينجيها، فأخذها من الأمواج ووضعها في منطقة رملية جافة حتى لا تعاني من الأمواج، فهلكت، وهذه هي النتيجة، فنحن بوصفنا مسلمين -ولا أقول: كمسلمين.
لأن هذا تعبير فيه نظر؛ لأننا في الحقيقة مسلمون- نحن لا تناسبنا الحياة في تلك البلاد، ولا تصلح لأمثالنا، فتلك البلاد لا تصلح لمن عنده دين ولا لمن عنده أخلاق.
حتى الناس الذين ليس عندهم دين في أوروبا أو أمريكا إذا وصل ابنه إلى التاسعة من عمره يسافر به إلى بلاد المسلمين ثم يعود؛ لأنه يعرف المصير المدمر المقطوع به إذا بقي بأولاده في تلك البلاد، فهم يعيشون في جحيم في الحقيقة، ولا تتصور الصورة المزيفة التي تعطى للشباب عن تلك البلاد.
إن السفارة الأمريكية والبريطانية وكذا السفارات الغربية تفزع من امتداد الطابور الطويل الذي يقف أمامها طمعاً في الحصول على تأشيرة الدخول إلى الجنة الموعودة.
وأقترح على السفارة الأمريكية وغيرها أن تكتب لافتة أمام السفارة يكتب عليها (إنما نحن فتنة فلا تكفر) حتى يقيموا الحجة على من يريد أن يدخل تلك البلاد قبل أن يدخلها.
أقول: إن من يدخل هناك يكفر، لكن لا تنس أن الشباب الإسلامي الذي يتواجد هناك في المراكز الإسلامية قليل جداً، ولو قارنت بين الذين يترددون على المساجد ويحافظون على دينهم وبين الذين يذوبون في الطوفان المدمر ويضيعون تماماً ويتركون دينهم وأخلاقهم وكل شيء لرأيت النسبة بعيدة، فالأصل أن الناس هناك يفتنون، والذي ينجو نادر.
فالشاهد أن تلك البلاد لا تصلح لمعيشة المسلم الذي يريد أن يحافظ على دينه، والحقيقة أن الحديث ذو شجون، ويطول جداً إذا تعمقنا فيه، لكن يكفينا قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين لا تتراءى نارهما)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (برئت الذمة ممن أقام مع المشركين في بلادهم) وكنت أذكر الأخوة هناك بالحديث، وإياك أعني واسمعي يا جارة.
ونحن نعلم حديث الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، فدل على راهب فسأله: هل لي من توبة؟ فقال له: وأنى لك التوبة؟! فقتله وكمل به المائة، فهو آيسه من رحمة الله، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على العالم، فقال: من يحول بينك وبين التوبة؟! وبعد أن أرشده إلى التوبة ورغبه فيها، أمره بالتحول وتغيير البيئة، فقال: هناك بلدة فيها قوم صالحون يعبدون الله فاعبد الله معهم.
ولما أتت الملائكة لتقبض روحه اختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فملائكة العذاب قالت: لم يعمل أي شيء من أعمال الخير، وملائكة الرحمة تقول: أتى تائباً إلى الله عز وجل.
فاتفقوا على أن أول قادم عليهم يحكم بينهم، فقيض الله ملكاً، فحكم أن يقيسوا المسافة، فهل هو أقرب إلى البلدة الصالحة أم البلدة غير الصالحة، وفي بعض الروايات أنه لما قبض اقترب بشبر، فزحف حتى يكون أقرب إلى البلدة الصالحة، وقد يكون هذا سبباً من أسباب نجاته، وفي رواية أن الله أمر الأرض أن تمتد حتى يكون أقرب إلى البلدة الصالحة، وعندما نتذكر هذا الحديث ونحن نتكلم عن الهجرة إلى بلاد الشياطين والكفار وأصحاب الجحيم والسعير نرى أن الذي يسأل الناس هنا أكرم له وأفضل من أن يذهب هناك فيفسد دينه، ويفسد -أيضاً- دنياه، فتكون دنياه لا بركة فيها.
فأين نحن من هذا الحديث؟ هذا الرجل جاهد حتى يكون أقرب إلى البلدة الصالحة، فما أبعد المسافة بين بلاد الكفار وبلاد المسلمين، فلماذا تذهب هناك؟! نعم هناك نشاط إسلامي، والإخوة هناك ينقسمون إلى معذورين وآثمين، هناك معذورون من بعض المسلمين، هم من بلادهم مطرودون، وما هناك بلاد تؤويهم، فلا حرج عليهم حينئذ لأسباب كثيرة، لكن لا شك في أن هناك قسماً كبيراً جداً من الآثمين الذين لا يحل لهم بأي حال من الأحوال البقاء فيها، وأنا أكرر كلمة قالها الشيخ عباس المدني حفظه الله، قال لبعض إخواننا لما كان هناك في أوروبا: لا أقول لكم: إنكم تغرقون، بل أنتم في الحقيقة غرقى.
وضرب لهم مثلاً فقال: لو أن عندنا مليار مارك -وهي العملة الألمانية- فأخذت منه ماركاً واحداً، فكم خسر المليار؟ إن المليار لم يخسر شيئاً، لكن كم خسر المارك؟ لقد خسر المليار.
يعني أن الإنسان حين يخرج من المجتمع الإسلامي يخسر كل هذا المجتمع، والمجتمع لا يخسر شيئاً، الخاسر في الحقيقة هو، وأنا أقول هذا ونحن نعيش في الفتن، ونعاني جميعاً كل العناء، لكن من أراد إلا التحول فأرض الله واسعة كما أخبر الله، فيهاجر إلى مكان أفضل أمناً، وأفضل من حيث الرزق، وأفضل من حيث الدين، ولا يذهب إلى مكان أسوأ، فالعاقل يختار ما هو أحسن، ويقدم الدين على الدنيا، فأرض الله واسعة، فيجتهد في الهجرة إلى أي بلاد من بلاد المسلمين بعيداً عن هذا الجحيم في الغرب.(63/9)
واجبنا نحو مخططات الكفار
السؤال
نعرف مخططات الغرب وعداءهم للإسلام، فما الواجب علينا شرعاً تجاه هذه المخططات اليوم؟
الجواب
هذا سؤال هام جداً، فيحتاج إلى إجابة مفصلة، ولكني أجمل فأقول: الطريق إلى تحقيق مآرب الأمة الإسلامية التي منها تحرير القدس التي تباع الآن بأخس الأثمان والتي حفتها الخيانة من أول يوم في تاريخ هذه القضية، الطريق إلى تحقيق كل أهداف الأمة الإسلامية -ومنها تحرير فلسطين- لابد من أن يمر بإحدى الدول الإسلامية، فمن هي هذه الدولة؟ هي الدولة التي تتمكن من إقامة الخلافة الإسلامية من جديد على أرضها، إذاً: كيف تقوم هذه الدولة؟ إن أي دولة إسلامية تقوم فيها خلافة إسلامية وكيان إسلامي سوف تقلب موازين العالم كله، ومن أجل هذا ستكون الحرب التي يشنها الغرب على المسلمين، فكيف تقوم هذه الدولة؟ لقد وصف القرآن لنا ذلك فقال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5]، فهذا وعد من الله؛ لأن الله قال: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8] يعني إن عدتم إلى الإساءة عدنا إلى تسليط عبادنا عليكم، فما صفات هؤلاء؟ وصف الله هؤلاء الذين يصلحون لهذه المهمة الإسلامية بقوله: {عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5] جمعوا بين القوة والأمانة، كما قال يوسف عليه السلام {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، وكما قال مخاطب سليمان عليه السلام {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل:39]، فكذلك هنا {عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5] يحققون عبودية الله عز وجل وحده، وفي نفس الوقت يأخذون بأسباب القوة، وليست فقط القوة، ولكنهم أولو بأس شديد.
ونحن نعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام تنبأ أن اليهود لن ينعموا أبداً بما يسمونه السلام الأبدي، بل لابد من قتال بينهم وبين المسلمين يمكن الله فيه للمسلمين، وينصر المسلمين فيه، حتى إن الشجر والحجر يعينان المسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (لن تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يختبئ اليهودي وراء الشجر والحجر فيقول الشجر والحجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعالى فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود).
فالشاهد أن الرسول عليه السلام لم يخبر عن الشجر أنه سيقول: يا عربي! يا قومي! يا بعثي! يا مصري! يا فلسطيني! فلن ينادي بهذه المسميات أبداً، وإنما يقول: (يا مسلم! يا عبد الله!)، فهؤلاء فقط هم الذين يحققون هاتين الصفتين: الإسلام والعبودية لله، وهم القادرون على ذلك.
فالخلافة لن تعود إلا على منهاج النبوة، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)، فالأمة مخاطبة، والجماعات الإسلامية مخاطبة، والآحاد والأفراد كلهم مخاطبون بأمر واحد، كل واحد منا لله عز وجل عهد عليه، وليذكره من الآن، فنحن نقترب جداً من وقت النصر والتمكين لهذا الدين في الأرض، وقد جعل الله تعالى للنصر طريقاً، هذا الطريق هو آية في سورة الرعد: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] فلو أن كل واحد بجد وبهمة عالية عاهد الله عز وجل على أن يغير ما في نفسه مما لا يرضي الله من صفات أو أخلاق أو تفريط في حق الله وفي جنب الله، وعزم على أن يصلح نفسه من الآن ولم يؤجل، ولو أن الأمة قامت بتوبة جماعية كتوبة قوم يونس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ لكافأنا الله عز وجل بأن يغير ما بنا من أحوال ومن تردي ومن هوان.
ثم بعد ذلك الأخذ بكل أسباب القوة في سبيل التمكين لهذا الدين، فبعض الناس يهربون من مواجهة الواقع، ويحسبون أن السنن الكونية تجامل وتحابي، فلأننا موحدون سوف تنزل علينا الملائكة وتنصرنا حتى لو قاتلنا بالسهام والحراب والسيوف! إن السنن لا تحابي أحداً حتى الأنبياء، فالأنبياء جرحوا وقاتلوا وعانوا كثيراً جداً، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران:146]، وكثير من الناس يفزعه البون الشاسع الذي بيننا وبين الكفار في الحضارة والقوة والعلم والمال وغير ذلك فيستسلم ويتخاذل، ولا يجد سبيلاً إلا أن يقول: سوف تنزل معجزات من السماء تنصرنا على أعداء الله، سوف تنزل الملائكة وتحارب معنا! نعم، لكن ألم يقل الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]؟ ألم يصف الله عباده الذين سيقتلون اليهود ويذلونهم فقال: {عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5]؟ ليس بأساً فقط، لكنه بأس شديد، فبعض الناس يهربون من مواجهة الحقيقة إلى الأحلام والأماني، وبعضهم يقول: ننتظر حتى يخرج المهدي، وكل شيء سوف يحل، والسنن سوف تحابينا لأننا موحدون! السنن لا تحابي أحداً، فالكافر إذا زرع الأرض وحرثها ورعى الزرع ينتج، والأرض لا تقل له: أنت كافر لن أزرع لك، وفي نفس الوقت المسلم الموحد إذا قصر في حرثها فلن تقول له: سوف أنبت لك لأنك موحد! يجب أن نكون على يقين بأن الله سبحانه وتعالى له سنن، كما قال عز وجل: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، فيوم لك ويوم عليك، وهكذا دواليك، ودولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، ولابد من أن تكون العاقبة للتقوى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
إذا تأملنا حال بريطانيا فبريطانيا في يوم من الأيام كانت تسمى الأمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، والآن بريطانيا عبارة عن كوكب يدور في فلك أمريكا، فصارت تابعة لأمريكا، والله تبارك وتعالى قادر بقوته على أن يزيل أمريكا ويصغرها ويذلها إذا خرج من يشترون الحياة الدنيا بالآخرة، فالذي ينصر المؤمنين ليس هو الأسلحة ولا المال، وإنما هو الله عز وجل: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]، لكن ينبغي الأخذ بالأسباب، واستفراغ الوسع في الأخذ بهذه الأسباب، فكل ما يمكن أن يكون قوة تضاف إلى رصيد المسلمين فينبغي عدم التفريط فيه إلى أن يأذن الله عز وجل بالتمكين لهذا الدين.
أما مكائد المشركين وحيلهم فالله عز وجل زودنا بما ندفع به هذا، قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17]، فهم ينفقون الأموال، لكن قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، ويقول تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71].
فالمسألة هي الأخذ بالأسباب، واحترام السنن الكونية، واحترام السنن الشرعية أيضاً، وعدم التعجل والتهور، فحينئذ يكافئ الله تبارك وتعالى من يقيمون دينهم بأنفسهم ويجتهدون في بثه ونشره والجهاد في سبيله، يقول عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ} [القصص:5] فهي منة، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]، ويقول تبارك وتعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137]، فهذا الوضع الذي نحن فيه من المذلة والهوان والضعف والقهر وخيانة الحكام كل هذا ليس جديداً، فأمثاله كثيرة جداً في التاريخ الإسلامي.
فقد حصل أن الأمة نهضت من الكبوة وفاقت من السكرة بعد أن بقيت فلسطين في يد الصليبين ما يزيد على تسعين سنة، ومع ذلك حررت، وفلسطين الآن لها في أيدي اليهود مدة تقل عن المدة التي استولى الصليبيون فيها على بيت المقدس، وقيض الله عز وجل نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي فمكن الله لهذا الدين على أيدهما.
وكذلك فتنة التتار، وحصلت كثير من المواقف التي كانت قريبة من حالنا، فالأمل في سنن الله، وقراءة التاريخ تعطينا العبرة، فهذا شيء ممكن، وليس صعباً أن يمكن الله تبارك وتعالى للمسلمين على ما هم فيه من ضعف.
ولكن من أين يبدأ الحل؟ وما هي الحقيقة حتى لا نهرب من مواجهتها؟ الحل أن يبدأ التحول من الآن وبلا تأجيل، فكل واحد منا يراجع نفسه، فينظر في كيفية حاله مع الله؛ وهل يقصر في حقوق الله؟ وهل يبذل كل ما عنده لله؟ وهكذا يراجع ويصلح حاله مع الله ويبدأ يبذل، ففي هذه الحالة ينطبق علينا قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] هذه هي الغاية، فإذا غيرنا أنفسنا حتماً فسيغير الله تعالى حالنا، والله تعالى أعلم.(63/10)
مقتطفات الدعوة وأهدافها
الدعوة إلى الله تعالى من أفضل الأعمال وأجل القربات، وهي مهمة الأنبياء والرسل عليهم السلام التي أرسلهم الله تعالى بها، وما دام أنها كذلك فلابد على من يسلك سبيلها أن ينطلق من منطلقات ثابتة تجعله ينجح في دعوته، وعليه كذلك أن يلتزم بالمنهج الصحيح في الدعوة وهو منهج الأنبياء عليهم السلام، وأن يبذل كل ما في وسعه، ولا يستعجل النتائج، فليس عليه إلا أن يعمل ويدعو، والهداية بيد الله تعالى.(64/1)
شرح حديث: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).
هذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى) المثل المراد به هنا: الصفة العجيبة، وليس المراد به القول السائر.
والهدى: هو الدلالة الموصلة إلى المطلوب، والمراد بالعلم هنا: معرفة الأدلة الشرعية لا الفروع المذهبية.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم) الهدى المذكور فيه هو الطريق الذي يدل على المقصود وهو الجنة، والعلم المقصود به علم الوحيين.
وقوله: (كمثل غيث أصاب أرضاً) أي: كمثل مطر أصاب أرضاً (فكان منها طائفة طيبة) فهذه الأرض أنواع منها طائفة طيبة وهي أفضلها (قبلت الماء) أي: قبلت هذا الماء وشربته وارتوت به (وأنبتت الكلأ والعشب الكثير) الكلأ: هو النبت يابساً كان أو رطباً، فإنه يسمى بالكلأ، أما العشب فيختص بالنبت الرطب، فعطف العشب على الكلأ من باب عطف الخاص على العام.
قوله: (وكان منها أجادب) هذا هو القسم الثاني من هذه الأرض و (أجادب) جمع جدباء، وهي الأرض الصلبة التي تمسك الماء فلا تشربه سريعاً، وقيل: هي الأرض التي لا نبات بها.
مأخوذة من الجدب وهو القحط.
قال: (وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس) لأنها أمسكت الماء، لكنها لم تنبت شيئاً (فشربوا منها وسقوا وزرعوا) أي: بما أخذوه منها من الماء.
قوله: (وأصاب طائفة أخرى منها) هذا هو القسم الثالث من الأرض، وهو أردؤها، قال صلى الله عليه وسلم: (وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ) والقيعان: جمع قاع، وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت.
قال: (فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم)، وهو القسم الأول الذي علم العلم الشرعي فانتفع بعلم الوحي، ثم علم غيره (ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).
يقول القرطبي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: ضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جاء به من الدين مثلاً بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت؛ فكذلك علوم الدين تحيي القلب الميت، ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، شبه من يستمع إلى ما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم بهذه الأرض المختلفة حيث ينزل بها الغيث، فمنهم -أي: من هؤلاء الناس- العالم المعلم، أي أنه يتعلم هذا الوحي ثم يعمل به ثم يعلم غيره، فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها، ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه، غير أنه لم يعمل بنوافله، أو لم ينفعه فيما جمع له، لكنه أداه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي لا تنتفع بالماء لكنها تمسكه بغيره.
وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، أي أنه ذكر أولاً طائفتين ثم قال: (وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان) فجمع بين الطائفتين لاجتماعها في صفة الانتفاع بهما.
وذكر الطائفة الثالثة مذمومة لعدم النفع بها فقال عليه الصلاة والسلام: (وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ).(64/2)
نصوص ترغب في تعليم الناس ودعوتهم إلى الله
لقد جاءت نصوص كثيرة جداً في الترغيب في التعليم، ودعوة الآخرين إلى طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده).
ومنها -أيضاً-: قول صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد متكئ على برد له أحمر، فقلت: يا رسول الله! إني جئت أطلب العلم، فقال صلى الله عليه وسلم: مرحباً بطالب العلم، إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم بعضاً حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب) يعني: من شدة ازدحامهم عليه حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب.
وقال صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً).
وقال صلى الله عليه وسلم: (معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر)، وقال في الحديث الآخر: (إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)، على الذين يعلمون الناس الخير.
وإن من وجوه تفضيل العالم على العابد: أن العالم نفعه يتعدى إلى غيره، أما العابد فنفعه قاصر على نفسه، وأصل الحديث رواه أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه قال (ذكر لرسول صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال عليه الصلاة والسلام: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) كالفرق في الفضل بين الرسول عليه السلام وبين أقل واحد من الصحابة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكأنه يذكر هذه الأفضلية-: (إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير) أي: ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فهذه من الأدلة التي بها يستدل على فضل العلم والتعلم ودعوة الآخرين إليه.
يقول الله تبارك وتعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]، فحكم على كل الناس بالخسران، ثم استثنى هؤلاء: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر:3]، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وفي الغالب إذا دعا الإنسان غيره إلى الحق فربما قوبل بالأذى، فيطلب منه الصبر على هذا الأذى، فقال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3].(64/3)
مفهوم الدعوة إلى الله
الدعوة في اللغة: مأخوذة من الدعاء، وهو النداء لجمع الناس على أمر الله، فإذا كان عندك أناس تجمعهم على أمر الله فقد دعوتهم وحضضتهم على العمل به.
والدعوة مطلقاً يراد بها: الدعوى إلى قضية يراد إثباتها، أي: الدفاع عنها حقاً كانت أو باطلاً، بغض النظر عن هذه القضية، فمن الدعوة إلى الباطل قول الله تبارك وتعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33]، فقد كان النسوة يدعونه إلى ما حرم الله تبارك وتعالى، فهذا من استعمال كلمة الدعوة في اللغة في الدعوة إلى الباطل، ومن الدعوة إلى الباطل ما ورد أنه تخاصم رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فأراد كل منهما أن يستنصر بطائفته، فقال المهاجري: يا للمهاجرين.
وقال الأنصاري: يا للأنصار.
فقال صلى الله عليه وسلم حينما بلغه ذلك: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟!) فسماها دعوى الجاهلية.
أما الدعوة الحق فمثل قوله تبارك وتعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد:14]، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في كتابه إلى هرقل عظيم الروم: (أدعوك بدعاية الإسلام) أي: بدعوة الإسلام.
ومنها قول مؤمن آل فرعون: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41] فهنا وردت كلمة الدعوة بالمعنيين الحق والباطل: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} [غافر:41] فهذه دعوة حق، {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41] هذه دعوة باطل.
ومن معاني كلمة الدعوة: المحاولة القولية أو الفعلية والعملية لإمالة الناس إلى مذهب أو ملة.
ومن معانيها: الابتهال والسؤال، تقول: دعوت الله أدعوه أي: أبتهل إليه بالسؤال وأرغب فيما عنده من الخير.
قال الله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس:25]، قال في لسان العرب: ودعاء الله خلقه إليها كما يدعو الرجل الناس إلى مدعاة، أي: إلى مأدبة يتخذها وطعام يدعو الناس إليه.
فمعنى الدعوة هنا في قوله: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس:25] كالدعوة التي يوصلها من يدعو الناس إلى مأدبة أو وليمة، أو شيء من هذا حتى يشرفهم بتناوله.
فدعوة الله عز وجل عباده إلى دار السلام هي دعوته عباده إلى أسباب دخولها {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس:25] يعني: يأمركم أو يطلب منكم ويدعوكم إلى أن تتخذوا الأسباب التي توصلكم إلى دار السلام، وهي الالتزام بدينه تبارك وتعالى، فمن استجاب صار من حزب الله {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22].
أما المعرضون فهم أتباع الشياطين، يقول الله تعالى حاكياً عن إبليس: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، فبين إبليس المقصود من الشرك الذي وقعوا فيه: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، وقد كان الشرك بمجرد أنه دعاهم فاستجابوا له: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22]، فسمى هذه الدعوة والاستجابة له شركاً، أي أنهم أشركوا مع الله تبارك وتعالى.
وقال تعالى عن إبليس: {إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، فكل طائفة لها دعوة.
وقال عز وجل أيضاً: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]، فعلى كل إنسان أن ينتمي إلى أحد الحزبين: حزب الله أو حزب الشيطان، فكل إنسان يدب على هذه الأرض إما أنه من حزب الله المفلحين، وإما أنه من حزب الشيطان الخاسرين، وكل الأحزاب -سواء أكانت أحزاباً سياسية، أم أحزاباً طائفية، أم أي نوع من الأحزاب- التي تخالف ما عليه الكتاب والسنة، وتخالف منهج الفرقة الناجية ومنهج النبوة هي قطعاً من حزب الشيطان.
والذي لا ينتمي إلى الدعوة إلى الله، ولا ينتمي إلى أي اتجاهات سياسية أو فكرية مخربة أو مدمرة، ويظن أنه بهذا لا له ولا عليه هو منتمٍ في الحقيقة لحزب الشيطان، وإعراضه عن دعوة الله إياه إلى دار السلام يجعله ممن أعرض عن خالقه وبارئه تبارك وتعالى، وإن كان دون غيره في الضلال، لكن النار دركات والجنة درجات.(64/4)
مفهوم لفظ الدعاة
الدعاة واحدهم داع وداعية، فالهاء تدخل عليها للمبالغة، والداعي -أيضاً- إما داعٍ إلى الحق وإما داعٍ إلى الباطل، فمن استعمال كلمة الداعي إلى الحق قوله تبارك وتعالى في حق رسوله صلى الله عليه وسلم {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]، ومنها قوله عن الجن: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:31]، ومن الدعوة إلى الحق قوله صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه).
أما الداعي إلى الباطل فكما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، يعني: يزينون للناس الأفعال التي تقودهم إلى أبواب جهنم، وهذا أيضاً يكون من أولياء الشيطان في كل زمان ومكان، وأبواب جهنم يتنوع الآتون إليها، فمنهم من يأتي من جانب الأمور الكفرية كالردة والطعن في الإسلام، ومنهم من يأتي من جانب البدعة، ومنهم من يأتي من جانب الشهوات، فأبواب جهنم تتنوع بحسب تنوع هذه الدلالات.
ومن ذلك -أيضاً- قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن دعا إلى ضلالة كان عليه آثام من تبعه).(64/5)
منطلقات الدعوة إلى الله تعالى
أما منطلقات الدعوة فالمقصود بها المنطلقات التي ينبغي أن ننطلق منها إذا أردنا أن نسلك هذا الطريق الذي يجازي الله تبارك وتعالى من يسلكه بالأجر والمثوبة.(64/6)
الدعوة إلى الإسلام لكونه ديناً لا لبيان أفضليته على النظم الأرضية
ليست طبيعة دعوة الإسلام كغيرها من المذاهب والأنظمة، فأصحاب هذه المذاهب لا يعتمدون إلا على أنفسهم في تطبيقها وإشاعتها في المجتمع؛ لأنها مذاهب وضعية ابتدعوها، وهم المسئولون عنها وعن تطبيقها والتزام المجتمع بها.
وهذا نلمسه كثيراً في الدعوات الأرضية الوضعية، أهلها هم الذين يكونون مسئولين عنها وعن تطبيقها وعن إشاعتها وعن رعايتها، وإذا ضاعوا ضاعت معهم هذه الدعوة، ونجد أنه في المقابل ينجرف كثير من المسلمين الذين يمارسون الدعوة إلى الإسلام إلى السبيل ذاته، ويسعون في الطرق والأساليب نفسها، فتراهم يتنافسون أو يتصارعون هم وأصحاب المذاهب الأخرى على طريق واحدة من الأسلوب والمعالجة والتصور، وينسون في الحقيقة أنهم ليسوا إلا دعاة إلى الله جل وعلا، للقيام بمهمة معينة تدخل في حدود طاقاتهم مقابل ما يمتن الله به عليهم من تحقيق المجتمع الإسلامي المنشود.
وآية ذلك أنك ترى بعضهم في غمار هذا التقليد والنسيان لهويتهم لا يهتمون من الإسلام إلا بما فيه من الواجهة الاجتماعية الطهورية -على سبيل المثال- ليقارعوا به الأنظمة الأخرى.
فمثلاً: هناك أناس يقولون: النظام الاجتماعي في الفكرة الشمولية أحسن نظاماً من الإسلام، ويذكرون محاسنه، فتجد في المقابل الذين ينتمون لهذه الدعوة يقعون في هذه الفخ، ويسلكون نفس الطريق، فيقولون: النظام الاجتماعي في الإسلام أفضل، ويتكلمون في هذا الجانب من خلال نفس هذه الزوايا الضيقة التي يعرضون منها الإسلام لمقارعة المذاهب الأخرى، وعندئذ يسقط الفرق بينهم وبين أولئك الآخرين في ميزان الله تعالى وحكمه؛ إذ لا قيمة لشيء من الأحكام والأنظمة الإسلامية إلا من حيث كونه ديناً يخضع الإنسان من خلاله لسلطان الله وألوهيته، فينبغي أن يدخلوا هذا الدين من باب العبودية لله تبارك وتعالى، لا لأن الإسلام سيحل لهم مشاكلهم الاقتصادية.
ولا شك أن طاعة الله من بركاتها كثرة الخيرات ورفع المحن والآفات، لكن المدخل الذي ينبغي أن يدخل منه الإنسان إلى الإسلام ليس لأن في الإسلام الرفاهية، وليس لأن في الإسلام العدالة الاجتماعية، وليس لأن في الإسلام كذا وكذا من هذه الميزات الضيقة التي تمتاز بها بعض المذاهب الأرضية، فينبغي أن يدعى الناس إلى الإسلام بوصفه ديناً شاملاً لكل حياتهم، يدخلون من باب العبودية لله تبارك وتعالى، أما مقارنة الإسلام بمذهب مثل الشيوعية أو الرأسمالية أو غيرها من المذاهب الأرضية فهذا هو كما يقول الشاعر: ألم ترى أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا فهل تمدح السيف عندما تقول: إن السيف أمضى من العصا وتقارنه به؟ فلا يقاس دين إلهي ونظام إلهي بهذه النظم الأرضية، ولا يصح أن ندخل من نفس هذه الزاوية الضيقة إلى قلوب الناس، وهذا هو السر في أن كثيراً من الناس لا يفهمون من معنى (الحكم بما أنزل الله) في نطاق الدعوة الإسلامية إلا ما يظهر منه فقط في واجهة المجتمع، ويتكون منه النظام العام، ويتبادر إلى أذهانهم أن الحكم بما أنزل الله في الحدود، وفي إقامة الشريعة، وفي الأحكام الظاهرة في المجتمع، وينسون أن هناك مسئولية واجبة عليهم بجانب الحكم بما أنزل الله في إقامة الحدود وغيرها من المجالات هي الحكم بما أنزل الله في كل ما يخصك من حياتك، وأنَّه ما من حالة تكون أنت فيها إلا ولله سبحانه وتعالى فيها حكم، فالمجلس الذي تجلسه له حكم عند الله، فهو إما واجب أو مستحب حين يكون مجلس علم وذكر، والجلوس أمام الأفلام والتلفزيون حكمه أنه حرام أو مكروه على الأقل، وهكذا كل شيء من الأفعال والتصرفات يدخل تحت حكم من الأحكام، ونومك له حكم من الأحكام، وهو أنه من المباحات، وإن أضفت إليه نية التعبد يصبح عبادة تتقرب بها إلى الله عز وجل.
فالحكم بما أنزل الله يدخل في معاملة الإنسان نفسه وأهل بيته وأسرته وأولاده، ويدخل في علاقاته مع الآخرين، فما أكثر ما يغفل هؤلاء الناس عنه، بل قد يعرضون عنه تماماً، فترى ازدواجية في الشخصية، حيث ترى الشخص الذي يطالب بحكم الله هو الذي يضيع -مثلاً- صلاة الفجر، ولا يكون أميناً في تعاملاته، ولا يحكم بما أنزل الله في نفسه، وهو الشخص الذي لا ينكر على أهله ولا يعاتبهم بالمعروف كما أمر الله تبارك وتعالى.
فالحكم بما أنزل الله أعم من أن يكون في الحدود وفيما يتعلق بالآخرين؛ بل هو عام لكل مسلم في نفسه وفي رعيته.
ومع ذلك نجزئ الإسلام ونخصه بهذه الزاوية الضيقة تقليداً لغيرنا من السياسيين أو الحزبيين أو نحوهم، فالإسلام نظام شامل لكل حياة المسلم، يحكم المسلم في كل أحواله وأموره.
وإذا نظرنا نظرة واحدة إلى مبحث الحكم في أي كتاب من كتب أصول الفقه ندرك عموم كلمة (الحكم) وكيف أنها تشمل كل حياة المسلم الفرد، والمسلمين مجتمعاً ودولة، ولا يخلو المسلم -كما ذكرنا- في شيء من تصرفاته عن حكم من الأحكام الشرعية المعروفة.(64/7)
القيام بأعباء الدعوة إلى الله من جملة التكاليف الشرعية
المنطلق الثالث: اليقين بأن القيام بأعباء الدعوة واجب من جملة التكاليف التي خاطب الله بها المسلمين، بغض النظر عن النتائج والآمال، فأعباء الدعوة من البيان والحكمة والموعظة الحسنة، والتضحية في سبيل هذه الدعوة، كل هذه الأعمال هي واجب من جملة التكاليف التي خاطب الله عز وجل بها المسلمين؛ بغض النظر عن النتائج والآمال، فبعض الناس يحملون أنفسهم ما لم يكلفهم الله تعالى به؛ جلباً للنتائج، وتطلعاً إلى الغايات، وربما قفزوا ووثبوا في ظل تطلعاتهم فوق كثير من الأسباب والوسائل الواجبة عليهم مما يدخل تحت إمكانهم ويخضع لطاقاتهم مما لا نشك أن الله أوجبه علينا.
فبعض الناس يضعون تطلعات وأهدافاً بعيدة هي ليست مستحيلة، لكنها بعيدة بالنسبة لواقع هؤلاء الدعاة، فهم يقفزون فوق هذه الأسباب حتى يصلوا إلى هذه التطلعات، ولأنها بعيدة جداً قد يسقطون في منتصف الطريق، في حين أن هناك واجبات لا يشك ولا يختلف اثنان في وجوبها على كل من ينتظم في سلك هذه الدعوة.
فمن هذه الواجبات: تزكية المرء نفسه، أن يزكي المرء نفسه، وأن يوجه هذه الدعوة قبل كل شيء إلى نفسه قبل أن يخاطب بها الآخرين؛ لأنه لا يستقيم الظل والعود أعوج، وشواهد ذلك كثيرة في الكتاب والسنة، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، وقال تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] وهكذا.
ومن ذلك أيضاً: الالتجاء الشديد إلى الله تبارك وتعالى، وكثرة ذكر الله عز وجل في الخلوات والجلوات، ومراقبة النفس، والسعي إلى تزكيتها بكل الوسائل.
ومن تلك الواجبات التي لن يقوم بها غيرك: مراقبة الدعاة لبيوتهم، والقيام بدقة على إصلاح حال الأهل والأولاد، وإشاعة ذكر الله وعبادته بين أعضاء الأسرة، هذا واجب، فهل تنتظر غيرك ليقوم به؟! كلا! فلا بد من أن يقوم به رب البيت، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).
فإذا صدق أهل كل أسرة الإسلام واستقاموا عليه، ثم فعلوا ذلك مع أهليهم ومن يقومون عليهم يكافئهم الله تبارك وتعالى بالتمكين؛ لأن هذا اجتهاد في تغيير النفس، اجتهاد في تحقيق الشرط الذي شرطه الله تعالى فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
وقال أيضاً: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]، فالتمكين في الأرض مكافأة على الاستقامة على طريق الله تبارك وتعالى، قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ) فهي منة من الله تعالى ومكافأة منه عزّ وجل.(64/8)
صور من رحمة الأنبياء عليهم السلام بأقوامهم
وإذا نظرنا إلى سيرة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام نرى حقيقة هذا المعنى، معنى الخوف على الناس من عذاب الله والشفقة والرحمة بهؤلاء القوم، فمثلاً: فرعون الذي طغى وتجبر وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، فهل هناك ذنب أعظم من أن يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] أن يقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]؟! فشر الناس في زمانه كان فرعون لعنه الله، فإذا بالله تبارك وتعالى يبعث إليه رسولين هما موسى وهارون عليهما السلام، ويقول لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فإن القول اللين يكون أقرب إلى قبوله، فباستطاعتك أن تلين قلبه ويستجيب لك، فهل هذا ضعف في الدين؟ هل هذا تنازل من موسى وهارون لفرعون بلين ورفق وحكمة؟ كلا! إذاً ينبغي أن لا يكون هذا الفكر هو الذي يسيطر على أذهان بعض الناس، وهو أن الأصل في الدعوة الغلظة والشدة والجفاء مع الناس، بل الأصل هو الرفق، كما عليه الصلاة والسلام: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله)، وكأن كلمة (يحرم) معناها: الحرمان من شيء عظيم، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه).
ولا يعني هذا أن الداعية يقر المنكرات أو يحب أعداء الله، لكننا نخاف على خلق الله من عذاب الله، ونترفق بهم، وننوع أساليبنا في رفق ولين وحكمة حتى يستجيبوا لداعي الله تعالى.
إن الذي يريد أن يروج بضاعته إذا أردت أن تشتري منه يترفق بك، ويلين لك القول، ويبتسم في وجهك، ومن هنا فقد تعجبك السلعة كلما كان البائع ناجحاً في عرض بضاعته وترغيب الناس فيها، وهو يدعو إلى سلعة! فكيف بالذي يدعو إلى الله ويدعو إلى الجنة؟ لا شك أنه ينبغي أن يكون تاجراً حاذقاً ماهراً حتى يوفقه الله تبارك وتعالى.
وفي قصة نوح عليه السلام يقول الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59]، فهل كان نوح عليه السلام يفعل نوعاً من التكتيك السياسي أو العسكري أو نحوه؟ كلا.
يقول نوح عليه السلام: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59]، وهو صادق في هذه الكلمة عليه السلام.
ويقول تبارك وتعالى -أيضاً- حاكياً عن نوح عليه السلام: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:61 - 63] قال: (لعلكم ترحمون) فهو حريص على أن يرحموا من عذاب الله عز وجل، ولكنهم شتموا نوحاً عليه السلام -كما في سورة نوح- وفعلوا به العجائب، وأعرضوا عنه أشد الإعراض، ولكن انظر إلى نبي الله نوح عليه السلام في جوابه لهم، فهو لم يغضب لنفسه، إنما أجابهم جواباً مصبوغاً بالرحمة والشفقة واللطف، قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:61 - 63].
وإذا تأملنا في قصة حبيب النجار حينما دعا قومه إلى الله عز وجل سنجد ذلك المعنى، قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:20 - 25]، فقتلوه بعد هذا الخطاب العظيم، فكان مشفقاً عليهم في حياته وبعد قتله، فبعدما انتقل إلى الجنة قال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27].
أي: لو أن قومي علموا حسن عاقبتي وما لقيت عند ربي من الإكرام والفضل العظيم لما فعلوا معي ذلك، ولما أعرضوا عن دعوة الأنبياء، ولما تركوا الاستجابة لربهم عز وجل، فأشفق على قومه في الحياة الدنيا وبعدما قتلوه.
وأكثر ما يسبب انحراف المنحرفين عن الحق وعن اتباع الحق ما قد يشعرون به في الداعية من التعالي والأنانية وحب الانتصار للنفس أو للجماعة، فيكون رد الفعل تعالياً أشد، وأنانية أقوى، واندفاعاً أسرع إلى الانتصار للذات.
هذا ما يتعلق بالمنطلق الثاني، وهو أن أعمال الدعوة ينبغي أن تنبعث من شعور غامر بالشفقة والرحمة على عباد الله أجمعين.(64/9)
أعمال الدعوة إلى الله عبادة
أول هذه المنطلقات أن أعمال الدعوة عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله عز وجل، فالدعوة مثل أي عبادة أخرى، كالصلاة والصيام والزكاة والحج والذكر، فالدعوة عبادة، وليست تقصر عن تعريف العبادة، فلا يعملها المسلم لهوى في نفسه، أو لرغبة في العلو في الأرض، فلا يدع إلى الله لأنه يريد العلو في الأرض، أو لأنه يريد أن يشتهر، أو لأنه يريد أن يجتمع الناس حوله، أو لأي شيء من هذه الأغراض؛ فإن هذا يعد انحرافاً عن المنطلقات الصحيحة التي ينبغي أن تنطلق منها الدعوة، بل عليه أن ينتمي إلى هذه الدعوة وينقاد إليها امتثالاً لأمر الله تبارك وتعالى؛ لأنه كما أمره بالصلاة وكما أمره بالزكاة والصيام؛ أمره -أيضاً- بالدعوة إليه ودلالة الخلق عليه تبارك وتعالى.
والله تعالى يثيب الإنسان في البهائم كما في الحديث: (في كل ذات كبد رطبة أجر)، فإذا كنت مأجوراً إذا أحسنت إلى حيوان أو بهيمة فسقيتها أو أنقذتها من الهلكة فما بالك إذا أنقذت إنساناً أو أنقذت مسلماً من الهلكة إن أوشك على الغرق أو الحرق أو التلف فأنقذت روحه؟! وقد قال تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] والحياة هنا حياة البدن، فما بالك بمن يحيي روح هذا الإنسان وقلبه ويدرجه ضمن أولياء الله وعباد الله الصالحين حتى يسلك الطريق إلى دار السلام؟! لا شك أن ثوابه أعظم.
ومع ذلك نجد أننا في غفلة عن هذا النفع الذي ينتفع به جميع خلق الله تبارك وتعالى لأجل العمل الصالح، فهل أحد منا يشعر أن النملة في حجرها تستغفر لمن يعلم الناس الخير؟! لقد أخبرنا بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، وحتى الحيتان في البحر تستغفر لمعلم الناس الخير، فأي فضل فوق هذا؟! فنحن في غفلة عن هذا، وكل ما خلق الله تبارك وتعالى يدعو للداعي إلى الله تعالى كما في الحديث الذي ذكرناه آنفاً: (إن الله تعالى وملائكته، حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون -أي: يستغفرون ويدعون- على معلم الناس الخير)، فأي فضل فوق هذا؟! ومن يزهد في مثل هذا؟! فالشاهد أن أعمال الدعوة هي عبادة يتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى كأي عبادة أخرى، وليست دعوة إلى العصبية، أو إلى الحزبية، أو إلى العلو في الأرض والارتفاع على الآخرين، أو استجابة لداعية الهوى، إنما يعملها المسلم انقياداً لأمر وتكليف جاء من الله عز وجل في قوله تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، ويقول عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
كما أنه يعملها طمعاً في ثواب الله عز وجل الذي أشرنا إليه آنفاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وفي رواية: (خير لك مما طلعت عليه الشمس)، خير من أن تقتني كل ما على وجه هذه الأرض، بل كل ما طلعت عليه الشمس.
وقال صلى الله عليه وسلم: (الدال على الخير كفاعله).
إذاً: هذا هو المنطلق الصحيح الذي ينبغي أن ينطلق منه كل داعٍ إلى الله عز وجل.
وإذا أردنا أن تتضح الصورة أكثر فبالضد تعرف الأشياء، فما هي العوامل أو الأشياء التي تقدح في الانطلاق من هذا المنطلق؟ ما هي مظاهر الانحراف عن هذا المنطلق؟ هي عدة أمور: أولها: هيجان الرغبات النفسية والشخصية، وقيام حجاب الأنانية، وحب الذات فيمن يسير على هذا الطريق، وهذا علاجه أن يديم الإنسان ذكر الله عز وجل بقلب حاضر، ويكون كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
ومن مظاهر الانحراف عن هذا المنطلق: تحول هذه العبادة بمرور الزمن إلى مجرد فكرة أو مذهب سطحي يقارع به المذاهب الأخرى، دون أن يعيش في الحقيقة الإسلامية الكلية المتمثلة في قوله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:162 - 163].
ومن مظاهر هذا الانحراف: التناقض بين الفكر والعمل، فبعض الناس يتذاكرون أمور الدعوة إلى الإسلام، وينفقون الساعات الطوال في مناقشة أمور الدعوة وأحوال المسلمين، وينسون في غمار حديثهم أهم الواجبات الدينية، كالقيام إلى الصلاة في أول وقتها، ثم لا يقومون إليها إلا آخر الوقت متثاقلين، أو يصلون بسرعة خاطفة شأن من يريد أن يسرع ليتخلص من عبء يلازمه.
أن بعض الناس يسهرون الليل الطويل في مناقشة الدعوة ومشكلات المسلمين وما حدث لهم، ويظن أحدهم أنه بهذا يعمل في الدعوة للإسلام، فهذا لا بأس به، لكنه قرب الفجر بقليل ينام وقد سهر الليل الطويل ويضيع صلاة الفجر، فهذا -أيضاً- من مظاهر الانحراف، فلا ينبغي أن يناقض الفكر الذي يدعو إليه السلوك العملي الذي ينبغي أن تطبقه في نفسك.
فهذا هو المنطلق الأول، وهو أن أعمال الدعوة تنبعث عبادة يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل، لا يعملها لهوى في نفسه أو رغبة في العلو في الأرض.(64/10)
مظاهر الانحراف عن هذا المنطلق(64/11)
الشعور بالشفقة والرحمة على عباد الله تعالى
المنطلق الثاني: أن تنبعث أعمال الدعوة من شعور غامر بالشفقة والرحمة على عباد الله أجمعين، فعليك أن تنطلق من هذا المنطلق وأن تشعر أنك رحمة للناس ولست عذاباً ينصب عليهم، وهذه الرحمة هي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وقال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن المشركين: (لو لعنتهم يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعاناً) رواه مسلم.
بل كان صلى الله عليه وسلم يشفق شفقة كبيرة على قومه إذ لم يستجيبوا له وأعرضوا عنه، فكان يشتد به الحزن ويلم به الوجد عليهم، حتى كاد يهلك نفسه عليه الصلاة والسلام، لقد كاد أن يموت ويهلك من الحزن والحسرة عليهم أنهم لم ينجوا من عذاب الله تبارك وتعالى، حتى نزل الوحي يهون عليه أكثر من مرة انفعاله بإعراضهم عنه صلى الله عليه وسلم، مثل قوله تبارك وتعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] أي: لعلك تهلك نفسك أسفاً على هؤلاء إذ لم يؤمنوا بك.
وقال تبارك وتعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]، وقال عز وجل: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8].
فلهذا ينبغي أن يستقر هذا المعنى في قلوبنا، وهو أن تنبعث أعمال الدعوة من شعور غامر بالرحمة لعباد الله تبارك وتعالى، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيها)، فهو يريد أن ينقذ هذه الفراش من النار وهي رغم ذلك تنجذب إلى ناحية الضوء ولا تدري أن في ذلك هلاكها، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن ينجي الناس من أن يقتحموا النار ويهلكوا أنفسهم في النار والحال أنهم تجذبهم الشهوات التي تورد النيران فينجذبون إلى النار وإلى ما يؤدي إلى دخول النار من الشهوات والضلالات، وهو يردهم شفقة وخوفاً عليهم، فيمسك هذا من يده وهذا من جانبه وهذا من قميصه، يريد أن ينجي من استطاع من عذاب النار، لكنهم يقاومونه رغماً عنه ويلقون بأنفسهم في جهنم، والعياذ بالله! فانظر كيف صور النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث صفة الرحمة، يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فهو رحمة لجميع الأمم، رحمة للمسلمين الذين آمنوا به، ثم رحمة لليهود، ورحمة للنصارى، ورحمة لكل أنواع الكفرة والمشركين، حتى البهائم والحيوانات، فقد شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرحم حتى هذه العجماوات، قال صلى الله عليه وسلم: (وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، حتى الحيوان إذا أردت أن تذبحه فلا تعذبه بذلك.
وقال سبحانه وتعالى في شأنه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
إن بعض الناس يتصور أن القوة في الدين إنما تكون بالغلظة والجفاء والقسوة على خلق الله، بل والتكبر عليهم والاستعلاء ومعاملتهم بالقسوة، ولا يدري المسكين أن قلبه بيد ربه يحوله متى شاء، كما قال عز وجل: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94]، تبينوا فضل الله عليكم، فهو الذي هداكم، فلا تستكبر على خلق الله ولا تتعالَ على عباد الله، فأنت ليس بيدك شيء، وهذا الفضل أعطاك الله إياه وحرم هذا الشخص منه، وهو عز وجل قادر على أن يعكس الأمر فتضل أنت ويهتدي هذا الشخص، فالعبادة فضل من الله ومنة من الله تبارك وتعالى.
وكذلك لا ينظر الإنسان إلى الناس في ذنوبهم كأنه رب يطلع عليهم وسوف يحاسبهم ويعذبهم، فإنما هو مثلهم عبد مذنب خطاء، وخير الخطائين التوابون.(64/12)
مصادر الدعوة إلى الله تعالى(64/13)
القرآن الكريم
ما هي المصادر التي ننتقي منها الأساليب التي نسلكها في الدعوة إلى الله عز وجل؟ أول هذه المصادر هو القرآن الكريم، فإن الله عز وجل فصل أخبار الرسل الكرام وما جرى لهم مع قومهم، وما قص الله علينا ذلك إلا لنستفيد منه ونتزود من معانيه، كما قال عز وجل: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120]، أي أنهم أسوة لك في ذلك، كما قال عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فهم أسوة لك، وأنت أسوة لأمتك.
ثم قال في آية أخرى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111]، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، أمره بالتأسي بهم، فكيف يصبر مثلهم إن لم يعرف شيئاً من سيرتهم وآثارهم؟!(64/14)
السنة النبوية وسير السلف والاستنباطات الفقهية الدعوية
المصدر الثاني: السنة النبوية التي حوت مادة غزيرة من أساليب الدعوة، خاصة إذا ضممنا إليها السيرة الصحيحة، فمن عرف ذلك استفاد كيف يتصرف فيما يلاقيه من مواقف؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً سيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ لأنهم كانوا أعلم من غيرهم بفقه الدعوة إلى الله عز وجل، ولما اختصهم الله به من الفضائل العظيمة.
وكذلك استنباطات الفقهاء من الأدلة الشرعية، كما في أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد والدعوة.
وكذلك التجارب التي يمر بها الإنسان وتمر بها الدعوات ينبغي الاستفادة منها، وذلك يكون في الأمور الاجتهادية، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، سواء كانت تجارب خاصة للشخص نفسه أم تجارب للآخرين.
ولا يصح التمسك بالمذهبية في الدعوة؛ لأن المنهج الصحيح في الدعوة هو الذي يتلقى من المصادر السابقة التي أشرنا إليها، والمسلم مطالب بأن يتمسك بما يقضي به دينه.(64/15)
ضرورة التزام المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله
التزام النهج الصحيح هو الذي يقرب من الغاية، بخلاف غيره من المناهج الخاطئة.
كذلك التزام النهج الصحيح وبذل الوسع فيه يعفي المسلم من المسئولية عن النتائج، يقول الله تبارك وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فإذا سلكت المسلك الصحيح احتراماً للسنن الشرعية والسنن الكونية فأنت في هذه الحالة غير مطالب بالنتائج، فإذا قدر لك البلاء في الطريق فاصبر عليه وسوف تعان عليه من الله تبارك وتعالى، أما إذا استحمق الإنسان وتصرف تصرفات تخل بالسنن الشرعية وتخل بالسنن الكونية ولا تحترمها فحينئذٍ سيقال: على نفسها جنت براقش.
وهو الذي يجني العاقبة السيئة لهذه التصرفات، وبالتالي يكون محاسباً أمام الله عز وجل على تقصيره.
فإذا سلكت المنهج الصحيح، وعرفت أن هذا هو المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله، فليس لك أن تنحرف عنه أبداً بحجة صعوبته وأنه طريق صعب، فهذا ليس عذراً، ثم هل هذا هو منهج الأنبياء أم ليس منهج الأنبياء؟ فإن كان هو منهج الأنبياء فليس لك عذر في التنكب عن هذا الصراط بحجة صعوبته، أو لأنه طريق طويل، أو لأن الناس لا يقبلون عليه ويحاربونه ويؤذون من يسلكه، أو تتعجل الغاية وتقول: أنا عجل، أريد أن أرى الثمار بسرعة، فتتعجل هذه الغاية.
أو تنساق وراء العاطفة النبيلة والرغبة في الشهادة في سبيل الله، فتريد فقط أن تنال درجة الشهادة، فتفعل أشياء ظاناً أنها تزيد في هذه الدرجة بمجرد هذه الأماني فقط دون أن تنضبط بالضوابط الشرعية والضوابط الكونية، فأنت مسئول ومحاسب عن مشروعية العمل الذي تعمله هل يرضاه الله أم لا يرضاه الله؟ إن بعض الناس يريد أن ينال الشهادة في سبيل الله فيقع في قتل بعض المسلمين، ويظن أن هذا هو طريق الشهادة في سبيل الله، ويترتب عليه ما يترتب من تأخير الدعوة وفتنة الناس عن دينهم، وما إلى ذلك.
فهل مجرد هذه الرغبة الصادقة تبيح له أن يقتل مسلماً أياً كان ذلك المسلم حتى لو كان عاصياً أو فاسقاً؟! فينبغي الانضباط بمشروعية العمل، أن يكون الله تبارك وتعالى قد شرعه، فالخطأ لا يصير ثواباً بمجرد العاطفة النبيلة؛ لأن الوصول إلى المقصود لا يكون في السير على طريق لا يؤدي إليه، مهما كان السائر عليه جاداً حريصاً على الوصول إليه، فإنه في النهاية لن يصل إليه وإن كانت نيته صادقة في الوصول إليه.
فالنية والعاطفة النبيلة لا تشفع لك، فلا بد من أن تتأكد أنك على الطريق الذي يؤدي إلى المقصود، وعلى الطريق الذي سلكه الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
من أمثلة ذلك: الجهاد، فإنه لم يشرع في مكة، والرسول عليه الصلاة والسلام كان مؤيداً بالوحي، وقد حصل أنه في منى طلب المسلمون أن يميلوا على المشركين ميلة واحدة فيقتلونهم، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (إني لم أؤمر بقتال)، كان تكليفاً من الله تبارك وتعالى.
وصلح الحديبية لم تتسع له صدور كثير من المسلمين، حتى عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ومع ذلك سماه الله عز وجل فتحاً مبيناً، وفيه نزل قوله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، مع أن كثيراً من المسلمين رأوا أن هذا إعطاء للدنية في دينهم، وأنه من التخاذل.
فينبغي أن توزن الأشياء بموازين الشرع، وتنضبط بالضوابط الشرعية، بغض النظر عن أصحاب العواطف النبيلة والرغبات أو النيات الصادقة، فإذا تبينت الوسيلة الصحيحة للداعية فيجب عليه أن يسلكها، وإذا بان أن هذا هو الطريق فعليه أن لا يتأثر بالعواطف والقصود الطيبة والحماس لخدمة الإسلام؛ لأن الحماس لا بد له من وقود، ووقوده هو العلم والوعي، هذا هو الوقود الذي يمد العمل والدعوة في الحركة الصحيحة.(64/16)
لماذا يتبع منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟
ذكرنا أن الله عز وجل قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بمنهج الأنبياء، فقال عز وجل بعدما ذكر جملة من الأنبياء في سورة الأنعام: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وقال عز وجل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]، وأرشد المؤمنين جميعاً إلى التأسي به صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وقال عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:4].
فالنبي عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة لكل المسلمين مهما اختلفت صفاتهم، أسوة حسنة للشاب المستقيم في شبابه، أسوة حسنة للمؤمن الداعية في دعوته، أسوة حسنة للزوج مع زوجته، أسوة حسنة للوالد مع أولاده في العاطفة وحسن الخلق، أسوة حسنة للمربي في تربية أصحابه، أسوة حسنة للمجاهد الشجاع، أسوة حسنة للقائد المنتصر، أسوة حسنة للسياسي الناجح، أسوة حسنة للجار الأمين، أسوة حسنة للمعاهد الوفي والحاكم المستقيم، والعالم العامل، وهذه صفات لا تجتمع أبداً في أي زعيم أو مصلح، ولهذا أمر الله عز وجل بطاعته صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة بلا قيود، فقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]؛ لأنه أسوة ونموذج كامل مطلقاً من كل الوجوه، وقال عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، وقال تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
أما غيره صلى الله عليه وسلم -كائناً من كان- فطاعته مشروطة بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وإنما خص الأنبياء بالأمر بالاقتداء بمنهجهم وهداهم لأمور: الأول: أن الأنبياء كانوا أسوة لرسولنا، ونحن أمرنا أن نأتسي برسولنا صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن الأنبياء معصومون من الشرك والضلال والزيغ والأهواء والفسوق والعصيان، وهم أشرف الناس نسباً، وأفضلهم أخلاقاً، وأعظمهم أمانة، وأقواهم حجة، يقول الله تبارك وتعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، ويقول في موسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41].
الثالث: لأن جميع الأنبياء كانوا دعاة إلى نفس هذه الدعوة، وهي الإسلام، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
الرابع: جميع الأنبياء كانوا منتمين إلى حزب واحد هو حزب الله تبارك وتعالى، يقول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]، فكان بين الأنبياء ولاء أقوى بكثير من أي ولاء يكون بين حزب من الأحزاب، فبعضهم أشياع لبعضهم، وهم فيما بينهم ونصراء، وكذلك كل المؤمنين الذين يسلكون نفس هذا السبيل، يقول الله تبارك وتعالى بعدما حكى قصة نوح عليه السلام: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات:83]، أي: من أنصاره وأهل حزبه.
الخامس: لأن منهج الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام هو المنهج الوحيد الكفيل بإعادة الخلافة -بإذن الله تبارك وتعالى- على منهاج النبوة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر المراحل التي سوف تمر بها هذه الأمة ختمها بقوله عليه الصلاة والسلام: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)، فبعد الانحدار والضعف والضياع الذي تمر به الأمة تعود خلافة لا على أي منهاج، وإنما المنهج الوحيد الذي يعيد الخلافة هو منهاج النبوة، الذي أوضحه الله في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، وقال تبارك وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، فمنهاج النبوة هو منهاج الفرقة الناجية، كما جاء في الحديث الصحيح في قوله صلى الله عليه وسلم: (وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، وهي الطائفة المنصورة التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)، وهذه الطائفة هم أهل السنة والجماعة، فالذي يمثل منهاج النبوة هو هذه الطائفة المنصورة التي تتمسك بالكتاب والسنة.(64/17)
الأضرار الناتجة عن الخروج عن المنهج الصحيح في الدعوة
إذا تأملنا في الأضرار التي تنتج عن الخروج عن النهج الصحيح في الدعوة فإننا سنرى أن هذه الأضرار تقع ولو مع حسن نية أصحابها، فالخروج عن نهج الأنبياء يؤدي إلى الفشل وعدم بلوغ الغاية، حتى لو وصلها فسرعان ما يدفع عنها ويرمى بعيداً عنها.
وأيضاً يؤدي الانحراف عن هذا المنهج إلى لحوق الأذى بالعاملين في الدعوة، وضياع جهودهم بغير طائل، وترك اللين في موضعه إلى الغلظة وإلى القسوة يؤدي إلى نفور المدعو، حتى لو كان الداعي مخلصاً، فينبغي أن يرفق ويلين مع من يدعوه، قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].(64/18)
أهل السنة والجماعة(64/19)
العلاقة بين السنة والجماعة
السنة تطلق على الاعتقاد الحق، وعلى أهل الاعتقاد الحق، وقد تطلق السنة على جزئي من جزئيات هذا الاعتقاد، وكذلك كلمة الجماعة تطلق على أهل الاعتقاد الحق أو الاعتقاد الحق أيضاً مثل السنة، وقد يعبر بالجماعة عن أصل من أصولها، فالكلمتان تماماً مثل الإيمان والإسلام، أو الفقير والمسكين، فلفظ السنة والجماعة إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فإذا أتت إحدى الكلمتين منفردة في نص شملت المعنيين، شملت الاعتقاد الحق وأهل الاعتقاد الحق، لكن إذا اجتمعتا فقلت: أهل السنة والجماعة فإنهما تفترقان في المعنى، فتصبح السنة عبارة عن الاعتقاد الحق، والجماعة عبارة عن أهل الاعتقاد الحق، فيصير لكل واحد منهما معنى يخصه، فيصير معنى السنة: طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الاعتقاد الحق، أو الاتجاه الحق في مسائل الاعتقاد وغيرها، أما الجماعة فهم أصحاب ذلك الاعتقاد أو المنهج الصحيح.(64/20)
اختصاص اسم أهل السنة بأهل السنة دون غيرهم
لشيوع هذا المصطلح ووضوحه صار لا يطلق على كثير من أصحاب المقالات، ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله: ما هي السنة؟ قال: هي ما لا اسم له سوى السنة.
أي: الطائفة الذين ليس لهم اسم غير السنة، أو المنهج الذي ليس له اسم غير السنة، ثم تلا قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، ولما سئل الإمام مالك رحمه الله تعالى عن أهل السنة قال: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به؛ لا جهمي، ولا قدري، ولا رافضي.
فأهل السنة لا ينتمون إلى أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأهل السنة غير محتاجين إلى اسم، فالذي يحتاج إلى اسم هو الذي يشذ عن الأصل، وهو الذي يعرف باسم رافضي، أو جهمي، أو قدري، أو جبري، وهكذا، فالذي يدعى بلقب معين هو الذي طرأ على الأصل، أما الأصل فلا يميز باسم؛ لأنه لم ينشق عن غيره، وإنما انشق عنه مخالفوه، فأهل السنة هم الأصل الذي انشق عنه كل المخالفين، والمخالف هو الذي سرعان ما يشتهر ببدعة حينما يتنكب السبيل، والأصل لا يحتاج إلى سمة خاصة تميزه، وإنما الذي يحتاج لاسم ومدلول هو الفرع المنشق، وأهل السنة هم أصحاب الطريقة الوسط، السائرون على الصراط المستقيم، المخالفون لأهل البدع.(64/21)
نشأة اسم أهل السنة والجماعة
قد يتبادر إلى الذهن أن هذا أمر ليس له أهمية كبيرة، لكن حينما نتأمل الخبط الذي يحصل من بعض أعداء أهل السنة والجماعة نحس بخطر الكلام عن هذا الأمر، فمسألة ابتداء التسمية بذلك بحث له أهمية كبرى؛ لأن بعض الناس يتحدثون عن مذهب السنة وكأنه فرقة أو طائفة في الإسلام كسائر الفرق.
فنحن الآن نناقش نشأة الاسم، وليس المسمى وهو مذهب أهله، وذلك لأن هذا هو الإسلام، فالسنة والجماعة هو الإسلام الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فلو قيل: متى تأسس المنهج السلفي؟ قلنا: يوم نزل جبريل على رسول الله عليه الصلاة والسلام في غار حراء وقال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] هذه هي بداية التاريخ، وإن شئت فعد به إلى إبراهيم، وإن شئت فعد به إلى نوح وإلى آدم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فالمذهب قائم، وهو الأصل بلا شك، لكن متى اشتهرت هذه التسمية؟ إن الكثير من الناس في هذا الزمان يحلو لهم الكلام على السنة كما يتحدثون عن أي فرقة أخرى، ويقولون: نشأت في كذا وكذا، أو: في القرن كذا.
وكأنها فرقة من الفرق لها بداية زمنية محددة.
فمثلاً: هذا زكي نجيب محفوظ، الفيلسوف الهرم الذي أفنى حياته في الصد عن سبيل الله تبارك وتعالى يدعي أن السنة فرقة أو طائفة طرأت في التاريخ، وليست هي الأصل والجذر لهذا الدين، وهناك الدكتور مصطفى الشكعة في كتابه (إسلام بلا مذاهب)، يتحدث عن السنة ويقول: إن تسمية جمهرة المسلمين بأهل السنة متأخرة، يرجع تاريخها إلى القرن السابع الهجري يعني: بعد الإمام أحمد -وهذا كلامه- بأربعة قرون.
ولعله قال ذلك ليشير إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، كما يحلو لكثير من الناس ادعاء أن هذا المنهج تأسس في القرن السابع، ثم أحياه الوهابيون بعد ذلك في القرن الثاني عشر.
وهذا من التضليل ومن المجازفة.
وبعض الناس ينسبون المذهب إلى الإمام أحمد فيقولون: إن أهل السنة هؤلاء أسس مذهبهم الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى-/ وبعضهم ينسبون بداية المذهب إلى أبي الحسن الأشعري، وهؤلاء قد أخطئوا في الفهم؛ لأن السبب في بروز اسم الإمام أحمد أو الإمام أبي الحسن الأشعري رحمهم الله هو أن هؤلاء كان لهم دور تاريخي بارز جداً في الفترة التي عاشوا فيها، وتصدوا لأهل البدع الذين ضلوا في مسائل الاعتقاد، فلأجل ذلك اشتهرت تسميتهم واقترانهم بمذهب أهل السنة، فهم ليسوا مؤسسي المذهب، فالإمام أحمد تقبل المحنة لأن إخوانه من أهل العلم كانوا قد قبضوا وتوفوا، كالإمام الشافعي والإمام أبي حنيفة والإمام مالك، فهؤلاء لم يدركوا المحنة، وأدركها الإمام أحمد، فانتصر هو ودافع عن السنة ودافع عن العقيدة أمام أهل البدع، وابتلي في ذلك، واشتهر حتى اقترن به اسم المذهب، لكنه ليس هو مؤسس المذهب.
وإذا ألغينا ابن تيمية من التاريخ الإسلامي تماماً فهل سيضيع مذهب أهل السنة والجماعة؟ لن يضيع، فـ ابن تيمية نفض التراب عنه فقط، ذكر الناس به بعدما فرضت عليهم السياسة مذهب الأشاعرة وأنستهم مذهب أهل السنة، وكانوا يضطهدون أهل السنة، فـ ابن تيمية نفض الغبار فقط ليعود المعدن الأصيل نقياً صافياً بلا شوائب ولا معكرات.
وتجد أن الموسوعة الميسرة في المذاهب والأديان المعاصرة نهج أصحابها نفس المنهج، حيث يتكلمون عن منهج أهل السنة والجماعة أو المنهج السلفي على أنه شيء طرأ على التاريخ الإسلامي، وليس هو أصل دين الإسلام الذي ربى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
وقد حاول بعض الناس -أيضاً- أن يدعو إلى التقريب بين السنة والشيعة، فألف كتاباً سماه (لا سنة ولا شيعة) ومعنى ذلك أنه لا دين ولا إسلام؛ لأنه يريد التقريب فيظن أن السنة مذهب، والشيعة مذهب فقال: لا سنة ولا شيعة.
كلا! كيف لا سنة والسنة هي الدين الصحيح؟! يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وطريقتهم -أي: طريقة أهل السنة- هي دين الإسلام، لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة.
إذاً حصل التمييز بالاسم، فالأصل هو اسم الإسلام، لكن حصل التمييز باسم أهل السنة والجماعة لما ظهر أهل البدع والانحراف، لكن المنهج موجود وهو دين الإسلام، فمنهج أهل السنة والجماعة هو دين الإسلام الصحيح الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فحصل التمييز بالاسم لما حدث الافتراق الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه، كخروج الخوارج والشيعة ونحوهم.
يقول الدكتور مصطفى حلمي حفظه الله: إن أهل السنة والجماعة هم الامتداد الطبيعي للمسلمين الأوائل الذين تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.
والإمام عبد الله بن محمد بن حبان توفي سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، والإمام أبو ذر الهروي توفي سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، وكل منهما له كتاب اسمه: (السنة)، فكانوا يصنفون كتباً في العقيدة تحت اسم السنة؛ لشيوع هذا المصطلح في زمانهم.
قال: ومحمد بن سيرين توفي سنة عشر ومائة من الهجرة، يقول: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم.
إذاً هذا ابن سيرين في بداية القرن الثاني وأواخر القرن الأول يقول: فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم.
فكان هناك تمييز بين أهل السنة وبين أهل البدع في أواخر القرن الأول، فهذا كان هو الاصطلاح السائد قبل أن يخلق أبو حنيفة ومالك والأشعري وأحمد والشافعي وابن تيمية، وغيرهم من أئمة الإسلام.
وفي رسالة المأمون العباسي إلى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي -وكان كتب تقريراً في الإمام أحمد بن حنبل - يقول: نسبوا أنفسهم إلى السنة أهل الحق والجماعة.
فهذه كلها تشير إلى أن المنهج لا يسأل عن ابتدائه، لكن شاع استعمال كلمة أهل السنة حينما تفرقت الأمة، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(64/22)
مفهوم الجماعة
كذلك نجد لفظ الجماعة يعني موافقة الحق على وجه العموم، كما قال ابن مسعود: (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك)، ثم نجد أن كلمة الجماعة خصت -أيضاً- بمسائل العقيدة التي انحرف فيها المبتدعة، فمن ذلك -مثلاً- قول أبي حنيفة رحمه الله: الجماعة أن تفضل أبا بكر وعمر وعلياً وعثمان، ولا تنتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تكفر الناس بالذنوب، وتصلي على من يقول: لا إله إلا الله وخلف من يقول: لا إله إلا الله، وتمسح على الخفين إلخ.
فذكر أشياء اختص بها أهل السنة دون أهل البدع، رغم أن السنة ليست فقط هذه الأشياء، والعقيدة ليست فقط هذه الأشياء، لكنه ذكر أهم الأشياء التي تميز أهل السنة عن أهل البدع الذين كان يتكلم في شأنهم، فيقول: الجماعة أن تفضل أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً.
لماذا؟ لأن أهل البدع خالفوا في ذلك، ولا تنتقص أحداً من أصحاب رسول الله، وذلك لأن هؤلاء خالفوا في ذلك، فيراد بكلمة الجماعة أحياناً التميز العقائدي عن أهل البدع في بعض هذه القضايا الخاصة.
وكما عرف الإمام أبو حنيفة الجماعة ببعض أصولها نجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى -أيضاً- يجعل الالتزام بمصادر التلقي عند أهل السنة هو الفيصل بين أهل السنة والجماعة وبين من عداهم، فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة.
فهنا نظر شيخ الإسلام من زاوية أخرى، وهي الالتزام بمصادر التلقي المعتبرة عند أهل السنة والتي يهدرها غيرهم من المبتدعة، ويقول شيخ الإسلام: فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة، وهم يَزنُون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال مما له تعلق بالدين.
ولما كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة، بخلاف أهل الأهواء الذين يرون القتال للأئمة من أصول دينهم وجدنا من يفسر الجماعة بأنها جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على إمام، ومنه ما جاء في الحديث: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، ومنه ما رواه الطبري بسنده أن عمر بن حريث سأل سعيد بن زيد فقال: فمتى بويع أبو بكر؟ قال: (يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة)، فهنا جاء التعبير عن الجماعة بالوحدة السياسية واجتماع المسلمين على الخليفة أو أمير المؤمنين.
ومن أصول أهل السنة الاعتصام بحبل الله جميعاً، وعدم التفرق والتنازع، روى البخاري عن علي رضي الله عنه قال: (اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف حتى يكون الناس جماعة) وقوله: (فإني أكره الاختلاف) أي: الخلاف الذي يؤدي إلى النزاع والفرقة (حتى يكون الناس جماعة) وبهذا المعنى سمي العام الذي تنازل فيه الحسن لـ معاوية رضي الله عنهما عن الخلافة سمي بعام الجماعة، لاجتماع الناس وانقطاع الحرب.(64/23)
سبب تسمية أهل السنة بالجماعة
أما سبب تسمية أهل السنة بالجماعة فيقول الإمام عبد القاهر البغدادي رحمه الله: إن أهل السنة لا يكفر بعضهم بعضاً، وليس بينهم خلاف يوجب التبري والتكفير، فهم -إذاً- أهل الجماعة القائمون بالحق، والله تعالى يحفظ الحق وأهله، فلا يقعون في تنابذ وتناقض، وليس فريق من فرق المخالفين إلا وفيهم تكفير بعضهم لبعض، وتبري بعضهم من بعض، كالخوارج والروافض والقدرية، حتى اجتمع سبعة منهم في مجلس واحد فافترقوا عن تكفير بعضهم بعضاً، وهذه علامة بارزة جداً للفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة، فتجد أن الفرقة الواحدة قد تتشعب منها عشر فرق، وكل فرقة تكفر الأخرى وتلعنها، وتوجب التبرؤ منها، وأن من لم يتبرأ منها فهو كافر، وهذه من أعظم المميزات لأهل البدع عن أهل الحق والسنة، فأهل السنة مهما اختلفوا فإنهم ما داموا محافظين على الضوابط الشرعية -لا يكفر بعضهم بعضاً، ولا يوجب بعضهم التبري من بعض.
وخلاصة القول أن الجماعة تعني الحق من الاعتقاد، أو أصحاب الاعتقاد الحق، وقد يعبر عن معنى الجماعة بأصل من أصولها، كما قال بعضهم: الجماعة أن تفضل أبا بكر وعمر.
وهذا أصل من أصول الجماعة فقط، وإلا فهي تعني كل مسائل العقيدة وإطلاقها على الاعتقاد الحق، كقولهم: الشذوذ عن الإجماع يعتبر مفارقة للجماعة.
كمن شذ عن الجماعة وأباح الغناء مثلاً، فهذا يعتبر شذوذاً وخروجاً عن الجماعة، أي: خروجاً عن الاعتقاد الحق.(64/24)
مفهوم السنة
السنة: هي الطريقة أو السيرة، حميدة كانت أو ذميمة، ومن استعمال السنة لهذا المعنى اللغوي العام قوله عليه الصلاة والسلام: (من سن في الإسلام سنة حسنة ومن سن في الإسلام سنة سيئة)، وتطلق السنة ويراد بها السيرة الحميدة المستقيمة، يقال: فلان من أهل السنة، أي: من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة.
أما في الشرع فتطلق السنة على عدة معان: منها: أنها تطلق على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعند المحدثين: هي ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، وعند الفقهاء: السنة ما ليس بواجب.
أي: طلب فعله طلباً غير جازم، بحيث يثاب فاعله ولا يأثم تاركه، وتسمى: الإحسان، والنافلة، والندب، والمستحب، والسنة، هذا عند الفقهاء.
وتطلق -أيضاً- على ما يقابل البدعة، كما قال الحافظ ابن حزم رحمه الله: وأهل السنة الذين نذكرهم أهل الحق، ومن عداهم فأهل البدعة.
ولا يعنينا الآن تتبع تلك الاصطلاحات، إنما الذي يعنينا أن نعرف بمصطلح السنة أو أهل السنة كدلالة على اتجاه معين في الاعتقاد.
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: السنة طريقة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان عليها هو وأصحابه، السالمة من الشبهات والشهوات.
ثم صار في عرف كثير من العلماء من أهل الحديث وغيرهم أن السنة عبارة عما سلم من الشبهات في الاعتقادات، خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك مسائل القدر وفضائل الصحابة رضي الله عنهم.
وصنفوا في هذا العلم تصانيف سموها كتب السنة، وخص هذا الاصطلاح السنة بأمور العقيدة؛ لأنها أهم فقه من الدين وأهم جزء من الدين، ولذلك صنف كثير من العلماء -خاصة في القرون الأولى- مصنفات تحت اسم السنة، وليس فيها إلا مسائل الاعتقاد، كالسنة لـ ابن أبي عاصم والشريعة للآجري، وهكذا، وإنما قصد هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم، والمخالف فيه على شفا هلكة.
وتطلق السنة على ما كان عليه السلف الصالح في مسائل الإمامة والتفضيل، مسألة من أولى بالإمامة من غيره، والكف عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، وهذا من الإطلاق للسنة على بعض مسمياتها، كما يقال: تسمى الصلاة إيماناً، والطهور إيماناً، فيطلق اسم الإيمان على جزئياته، وكذلك السنة تطلق على بعض مسمياتها؛ لأنهم يريدون بمثل هذا الإطلاق التنبيه على أن المسمى ركن أعظم وركن أكبر، كقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، لكن هل الحج عرفة فقط؟ أي: هل الواجب الوحيد في الحج أو الركن الوحيد هو عرفة؟ كلا، فهناك أشياء كثيرة غير وقفة عرفات، لكن المقصود أن هذا أهم أركان الحج.
أو لأنه الوصف الفارق بينهم وبين غيرهم في الاعتقاد، فهو الذي يميز أهل السنة عن غيرهم من أهل البدع.
وقد كان الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم مقتدين بالنبي صلى الله عليه وسلم مهتدين بهديه، وقد جاء مدحهم في القرآن الكريم، وأثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان خلقه القرآن، فالقرآن هو المتبوع حقيقة، فحينما نقول: أهل السنة، أو: سنة النبي عليه الصلاة والسلام نجملها بقول عائشة: (كان خلقه القرآن)، فالسنة هي المبينة لكتاب الله تبارك وتعالى، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن، فالمتبوع في الحقيقة هو القرآن، لكن السنة تأتي كمذكرة تذكيرية لما في القرآن، وقد تأتي -أيضاً- بأحكام مستقلة، فمن اتبع السنة اتبع القرآن، والصحابة كانوا أولى الناس بذلك، فكل من اقتدى بهم فهو من الفرقة الناجية التي روي في صفتها: (ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، وهم المقصودون في رواية أخرى مفسرة، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (وهم الجماعة) لأن الجماعة في وقت الإخبار كانوا على ذلك الوصف، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك)، وقال أبو شامة: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك بالحق قليلاً والمخالف له كثيراً؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا نظرة إلى كثرة أهل الباطل بعدهم.
فلفظ السنة -كما ذكرنا- ينبئ عن اتباع القرآن في شخص رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي كان خلقه القرآن، وأيضاً لفظ السنة يتناول العبادات والاعتقادات، ثم خصت بالقسم الأهم وهو العقيدة، لاسيما المسائل التي شذ فيها أهل البدع.
فالسنة أساساً هي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم التي تبين معاني القرآن، ثم السنة هي طريقة الصحابة الذين مدحهم القرآن والسنة وطبقوهما تطبيقاً عملياً، ثم السنة تشمل بعد ذلك العبادات والاعتقادات، ثم خصت بالاعتقادات؛ لأنها أشد خطراً من العبادات، ومما يميز أهل السنة الاعتقادات التي شذ فيها أهل البدع عن أهل السنة، فامتاز بها أهل السنة والجماعة، مثل: السنة والشيعة؛ لأن هذا الاصطلاح يراد به التمييز بين موقف كلا الفريقين من الصحابة ومن الأئمة.(64/25)
اللحية لماذا؟
إعفاء اللحية من خصال الفطرة التي يشترك فيها كل البشر، ولم يشذ عن ذلك إلا من مُسخت فطرته، أو قلد من مسخت فطرته، وقد كان جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ذوي لحى، وكذلك أتباعهم كانوا ذوي لحى، ولم ينتشر حلق اللحى إلا في الأزمنة المتأخرة، وقد تكاثرت الأدلة على وجوب إعفاء اللحية وحرمة حلقها أو تقصيرها.(65/1)
حكم إعفاء اللحية وأدلة ذلك
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من أضاع أمره وعصاه، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه الذين كان هواهم تبعاً لهداه.
أما بعد: فإن من عادة الناس أنهم إذا تهيئوا لخطر فإنهم يستعدون له، ويأخذون له عدته ويتأهبون لمواجهته، فمثلاً: من أصابه سم أو لدغته عقرب أو حية فإنه يسارع إلى تناول ما يضاد هذا السم؛ كي يتلافى خطره، والناس في حالة الحروب إذا خشوا القذائف الكيماوية فإنهم يتأهبون بالأقنعة الواقية ضد هذه الغازات السامة وغير ذلك، ونحن في هذه الأيام نعيش في جو أشد تسمماً، فنحن نعيش في المحنة التي يمر بها الإسلام، والحملة الشيطانية الخبيثة التي تستهدف صد الناس عن دين ربهم تبارك وتعالى، والتي تطلق بين الحين والآخر قنابل الدخان كي يتم الزحف تحت هذه الستائر الدخانية، فإن كثيراً من الملاحدة والزنادقة الذين يخرجون من جحورهم في هذه المحن وفي ظل هذه الظروف الصعبة، ومن وراء هذا الشر؛ يتفوهون في وسط هذا الجو الملتهب بعبارات لا يمكن أبداً أن يجرءوا على أن ينطقوا بها في الجو العادي، لكن في وسط هذه الحملة المستعرة يستغلون ما يحصل من الفتن التي تجري في هذه الأيام، فهؤلاء من الملاحدة والزنادقة يسيرون بهذه السموم والشبهات، ويطعنون في الدين حتى صار الإسلام نفسه الآن في عرف القوم مرادفاً للإرهاب، وصار المسلمون هم الأصوليين والمتطرفين والإرهابيين فحسبهم الله ونعم الوكيل! ونحن دائماً محتاجون إلى أن نتسلح بالأدلة؛ حتى نكون على بصيرة من ديننا وعلى يقين مما نحن عليه من الحق بإذن الله تبارك وتعالى.
ومن القضايا التي نحتاج إلى تجديد العهد بها، خاصة وقد مر زمان طويل دون أن نتكلم فيها، هي قضية حكم إعفاء اللحية، وأدلة ذلك.
نحن نتعرض لكثير من الضغوط في هذه الأيام من كل جانب، من الحملات الإعلامية، من الأسر في البيوت، من الآباء خوفاً على أبنائهم، وربما يستجيب كثير من الناس تحت وطأة هذه الضغوط إلى هذا الأمر، فيترخصون بدون عذر في مثل هذا الأمر.
إن قضية اللحية في الحقيقة ليست مجرد شعيرات، لكن اللحية هي شعيرة من شعائر الإسلام، وسوف نرى من خلال الأدلة التي نبسطها اليوم إن شاء الله تعالى باختصار أن هذه القضية ليست بالسهولة التي يتخيلها كثير من الناس بأنها مجرد شعيرات، وقد يتفلسف بعضهم فيقول: المهم مراعاة الشعور وليس تربية الشعور، وما إلى ذلك من العبارات المنمقة، التي يصدون بها الناس عن حكم الله تبارك وتعالى في هذه المسألة، فعلى غرار ما تكلمنا من قبل بشيء في موضوع الحجاب تحت عنوان: الحجاب لماذا؟ كذلك أيضا ًنتناول هذه القضية على نفس هذا الغرار: اللحية لماذا؟ أو لماذا نعفي لحانا؟(65/2)
أدلة إعفاء اللحية وحرمة حلقها أو تقصيرها
إن إعفاء اللحية طاعة لله عز وجل وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} [الأحزاب:36]، وتأمل وصف الإيمان؛ لأن المؤمن هو الذي من شأنه أن يستجيب لحكم الله ورسوله فقوله: (وَمَا كَانَ) يعني: ما ينبغي أبداً {لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
وقال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
في الآية الأولى قال: {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} [الأحزاب:36]، وفي الآية الثانية: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] فمما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إعفاء اللحى.
فقد روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحية) رواه مسلم.
وهذا الأمر ورد بصيغ متعددة كلها تدل على ترك اللحية على حالها مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أعفوا اللحى) (أوفوا اللحى) (أرخوا اللحى) (أرجوا اللحى) (وفروا اللحى)، فهذه كلها أوامر متنوعة تؤدي إلى غرض واحد.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جزوا الشوارب وأرخوا اللحى وخالفوا المجوس) رواه مسلم أيضاً.
(جاء رجل من المجوس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد حلق لحيته وأطال شاربه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟! قال: هذا ديننا -يعني: هذا ديننا معشر المجوس- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكن في ديننا أن نحفي الشوارب وأن نعفي اللحية).
وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن يحيى بن كثير قال: (أتى رجل من العجم المسجد وقد وفر شاربه وجز لحيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟! فقال: إن ربي أمرني بهذا -يعني: كسرى- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرني أن أوفر لحيتي وأحفي شاربي).
.
(ولما كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتابه إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام وبعث به عبد الله بن حذافة رضي الله عنه دفعه عبد الله إلى عظيم البحرين، ودفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق، وبعد أن شق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كسرى إلى باذان -وهو عامل كسرى على اليمن- أن ابعث إلى هذا الرجل الذي في الحجاز رجلين جلدين قويين يأتياني به -يعني: يأسران الرسول عليه الصلاة والسلام ويحضرانه إلى هذا الخبيث كسرى لعنه الله- فبعث باذان قهرمانه وهو بابويه مع رجل آخر من الفرس فجاءا حتى قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخلا عليه صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر إليهما وقال: ويلكما من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا -يريدان كسرى- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي، وقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربي قتل ربكما الليلة -سلط عليه ابنه شيرويه فقتله- فرجعا حتى قدما على باذان) إلى آخر الحديث، وهذا الحديث رواه ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، وحسنه الألباني.
فظهر من هذه القصة كيف كره النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى ذينك الرجلين، ولا شك أن هذا يحمل كل مؤمن صادق في إيمانه واتباعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يفعل فعلاً يتأذى منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ونحن إذا تأملنا أحوال الجماعات الوطنية والأحزاب السياسية والفرق الرياضية والفنية وغير ذلك من هذه التجمعات نرى كل واحد منهم يجتهد في إرضاء قائده وزعيمه، ويتبعه في سيرته ولباسه وهيئته، ولا يأتي بفعل يؤذيه، والعجب كل العجب ممن يحلقون لحاهم كيف ينتسبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنهم يرتكبون فعلاً يتأذى منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، دون أن يجدوا في أنفسهم أدنى حرج من ذلك؟! هناك قصة حكيت عن رجل من الشعراء تأثر رجل فارسي بكلامه في الحكمة والمعرفة، واعتقد أن صاحب هذه الأشعار رجل عظيم في دينه، قد زكى روحه وجسده، فسافر من بلده إليه كي يراه، فلما وصل إلى باب هذا الشاعر المشهور رآه وهو واقف يحلق لحيته، فقال له مستنكراً ومتعجباً: يا سبحان الله! أتحلق لحيتك؟! فقال الشاعر متفلسفاً: نعم، أحلق لحيتي، ولكني لا أجرح قلب أحد.
يعني: أجرح وجهي بالموسى، لكن لا أجرح قلوب الناس، فرد عليه الرجل الفارسي بالبداهة: بل إنك تجرح قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع الشاعر ذلك غشي عليه، فلما أفاق قال بالفارسية شعراً معناه: جزاك الله خيراً لقد فتحت عيني، وأوصلتني إلى روح قلبي.
على أي الأحوال فإن إعفاء اللحية طاعة، والطاعة تكون لأمر، والأمر هو أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتينا بالأحاديث التي فيها: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحية) ثم بالأحاديث التي فيها نفس الأمر: (اعفوا)، (أوفوا)، (أرخوا)، (أرجوا)، (وفروا).
ثم نقول: إن صيغة الأمر تدل على وجوب امتثال هذا الأمر، بحيث يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وعلى الجهة المقابلة فحلق اللحية يعد معصية محرمة، فقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:23].
وتقدم أمره صلى الله عليه وآله وسلم بإعفاء اللحى، ومخالفة هذا الأمر معصية محرمة يقول عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) متفق عليه.
والأمر بإعفاء اللحى وتوفيرها يستلزم النهي عن حلقها، وعن تقصيرها حتى تكون أقرب إلى الحلق، وهذا أمر مهم جداً لابد أن نلحظه، المعصية ليست فقط بحلق اللحية، بل تقصير اللحية في حد ذاته معصية؛ لأن هذا هو الذي كان يفعله المجوس، فقد كانوا يقصون لحاهم، ولذلك أتى الأمر بمخالفتهم، فمن يقصر لحيته ومن يحلقها فكلاهما مخالف لأمر النبي عليه السلام.
والقاعدة تقول: إن الأمر بالشيء نهي عن ضده، إذا أمرت بالسكوت فهو نهي عن الكلام، وإذا أمرت بالقيام فهو نهي عن القعود، فكذلك إذا أمرت بإعفاء اللحية فهو يتضمن أو يستلزم النهي عن ضده وهو حلقها أو تقصيرها.
يقول صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً في الحديث: (لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم)، وهذا حديث حسن.
قوله: (لا تنتفوا الشيب) أي: الشعرات البيضاء، ولا فرق في نتف الشيب، سواء كان في اللحية أم في الرأس، ولذلك جاء عن أنس رضي الله عنه قال: (يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من لحيته ورأسه) رواه مسلم.
فالذي يحلق لحيته قد أزال الشعر الأبيض والأسود، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى أن ينتف الرجل الشعرات البيضاء من لحيته أو من رأسه، فالذي يحلق لحيته قد أزال الشعر الأسود فضلاً عن الأبيض الذي هو نور المسلم، وقد روي أن عمر رضي الله تعالى عنه وابن أبي ليلى ردا شهادة من كان ينتف لحيته.
وقال الغزالي والنووي عليهما الرحمة: ونتفها -يعني: اللحية- في أول نباتها تشبه بالمرد، ومن المنكرات الكبار.
والمرد جمع أمرد، وهو الغلام الذي طر شاربه وبلغ بروز لحيته ولما تبد.(65/3)
إعفاء اللحية سنة وطريقة محمدية
إن إعفاء اللحية سنة محمدية، فقد قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64].
وقال صلى الله عليه وسلم: (وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.
وثبت في صفته الخلقية صلى الله عليه وسلم أنه كان كث اللحية عظيمها، فعن أنس رضي الله عنه قال: (كانت لحيته صلى الله عليه وسلم قد ملأت من هاهنا إلى هاهنا، وأمر يده على عارضيه).
وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يعرفون أنه صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر وفي العصر باضطراب لحيته، ينظرون إليه من الخلف وهو يصلي، وذلك عندما سئلوا (بم كنتم تعرفون قراءته؟ قالوا: باضطراب لحيته) يعني: باهتزازها، وهذا الحديث في صحيح البخاري.
(وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا توضأ أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته)، وهذا يدل على عظم لحيته عليه الصلاة والسلام بحيث أنه يحتاج إلى تخليلها.
والأحاديث في ذلك كثيرة كلها تؤكد أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان عظيم اللحية، فيا عجباً! ممن يدعون حبه صلى الله عليه وسلم ثم هم لا يحبون صورته، بل يفضلون عليه صورة أعدائه! والله تبارك وتعالى يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
تجد الناس يتناقلون كلاماً لا يفقهون معناه، ويقولون: اللحية سنة، نعم هي سنة لكن بالمعنى اللغوي: الطريقة، أي: طريقة النبي عليه الصلاة والسلام، كما تقول: صلاة الجمعة سنة، يعني: طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن ما حكمها من حيث الأحكام الخمسة التكليفية الخمسة؟ هي من حيث الأحكام الخمسة واجبة؛ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللأدلة التي سوف نذكرها.
يقول عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31].
فالمحبة التي لا تضطر صاحبها إلى اتباع المحبوب والتشبه به ادعاء للمحبة، وليست بمحبة حقيقية، وقد قال بعض الصحابة رضي الله تعالى عنه: (بينما أنا أمشي بالمدينة إذا إنسان خلفي يقول: ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى، فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: أتقى لربك وأنقى لثوبك حتى لا يتسخ- فقلت: يا رسول الله! إنما هي بردة ملحاء -يعني: هذه الثياب التي ألبسها ثياب رثة أو رخيصة، لا يخشى منها أن يكون هناك كبر أو خيلاء حتى يراعى فيها الاتقاء والإنقاء- فقال له عليه الصلاة والسلام: أما لك في أسوة؟! قال: فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا الحديث حسن لغيره.
فيا حالق اللحية! ماذا يكون جوابك إذا أخذت تسرد المعاذير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لك: (أما لك في أسوة؟)؟! إذا كان إعفاء اللحية سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطريقته فعلى هذا يكون حلق اللحية تطرفاً وانحرافاً عن هديه عليه الصلاة والسلام، وخير الهدي صلى الله عليه وآله وسلم.
ففي الحقيقة هؤلاء المحاربون لدين الله والصادون عن سبيل الله والمشنعون على أهل طاعة الله هم المتطرفون كما ذكرنا ذلك من قبل مراراً؛ لأن معنى التطرف: هو الأخذ بأطراف الأمور، إما إلى الإفراط أو التفريط، إما إلى الغلو وإما إلى الجفاء، فكلاهما انحراف عن القسط والوسط والاعتدال الذي هو خاصية هذه الأمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143].
فهذا هو الاعتدال، فنحن اختلفنا معهم في حد الوسط، وحد الاعتدال، فنحن نرفع عقيدتنا دائماً بهذا الشعار المقدس: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم)، لا يمكن أن يكون هناك هدي أحسن وخير من هديه عليه الصلاة والسلام؛ لأن هدي محمد صلى الله عليه وسلم هو خير الهدي.
فكل ما شرعه رسول الله عليه الصلاة والسلام أو أمر به أو تكلم فيه من أمور الدين، فنجزم جزماً قاطعاً -ولو خالفنا من على ظهر الأرض قاطبة- أن هذا هو الاعتدال، وأن الانحراف عنه يمنة أو يسرة هو الانحراف وهو التطرف، يقول الشاعر: وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
إذاً: كل من حاد عن فعل أو أمر أو شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو المنحرف، سواء كان ذلك في الغلو أو في الجفاء، بالإفراط أو بالتفريط، فهؤلاء هم المتطرفون بحق، فنحن نقولها بكل يقين وبكل قوة: إن هؤلاء المجرمين هم المتطرفون حقيقة، وإن لم يعلموا في الدنيا من المتطرفون فسوف يعلمون حين يردون على ربهم تبارك وتعالى من هم المتطرفون؟! والله تبارك وتعالى يقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] وهؤلاء يقولون: من يطع الرسول فقد صار متطرفاً، من يطع الرسول فهو إرهابي، من يطع الرسول فهو أصولي، إلى آخر هذه الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان.
فإذا كانت سنته صلى الله عليه وآله وسلم قولاً وفعلاً وصفة هي إعفاء اللحية، كان حلقها إعراضاً عن طريقته المنيفة، ورغبة عن سنته الشريفة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني) كما في الحديث المتفق عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم.
هل أحد من الصحابة أمرنا أن نحلق اللحية أو كان يحلقها؟ لا يعرف الصحابة ولا السلف ولا القرون الأولى حلق اللحية، حتى الخلف لا يعرفون حلق اللحية، وإنما هذه الظاهرة لم تعرف إلا مؤخراً منذ أجيال قريبة جداً؛ لما بدأ الاحتكاك بالإنكليز والفرنسيين الكافرين.
ويقول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الحسن: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا) وذكرنا آنفاً الحديث الذي فيه: (أن كسرى لما أرسل رجلين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودخلا عليه وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، كره رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر إليهما، وقال: من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا -يعنيان كسرى-، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي)، وهذا حديث حسن كما ذكرنا.
كثير من الناس يفتش عن كلمتين: عن كلمة السنة، وكلمة المكروه، كلمة السنة حتى يضيع ويفرط ما يسميه سنة، وكلمة المكروه حتى يرتكب ما هو مكروه! وهذا قلب للأمور في الحقيقة؛ لأن المكروه أحد قسمي الأشياء التي يطلب تركها؛ لأن الأحكام خمسة، وهي ثلاثة أقسام: ما يطلب فعله، وما يطلب تركه، والمخير بين فعله وتركه وهو المباح الذي لا ثواب فيه ولا عقاب.
فالمطلوب فعله هو ما أمر به على وجه الحث واللزوم، بحيث يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وهذا هو الواجب والفريضة.
أو ما أمر فعله لا على وجه الحث واللزوم، بحيث يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وهذا هو السنة أو الإحسان أو النافلة أو المندوب.
والمطلوب تركه إما حرام وإما مكروه، والمكروه داخل في المطلوب تركه، لكن بعض الناس يقولون: إن بعض المشايخ قالوا: إن الدخان (السجاير) مكروه، إذن ندخن! وبعض الناس يقولون: إن إعفاء اللحية سنة، إذن نحلقها! نقول: إن هذا قلب للأمور، ومن علامات الخذلان؛ لأن التأسي به صلى الله عليه وآله وسلم هو المحبوب لله تبارك وتعالى في كل الشئون وإن لم يكن واجباً؛ لأن المحب الصادق في المحبة لا ينظر إلى الفرق بين الواجب وبين السنة، بل هو يتبع المحبوب لأجل حبه له، فما بالك إذا كان واجباً كإعفاء اللحية؟!(65/4)
إعفاء اللحية فطرة إنسانية
إن إعفاء اللحية فطرة إنسانية تقتضيها الفطرة السليمة؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]، قوله: (فأقم وجهك) يعني: سدد وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام، وحافظ على فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، وهي معرفة الله عز وجل وتوحيده، وتوابع ذلك من خصال الفطرة التي يتجه إليها الإنسان حتى لو لم يرد بها الشرع.
لو أن إنساناً ترك بدون أن تؤثر عليه عوامل البيئة المحيطة به، فإنه سيهتدي بالسليقة وبالفطرة إلى الستر واللباس، ولا يتعرى إلا إذا تأثر ببيئة فاسدة، فتراه يستحسن العري، ولا يشعر تجاهه بأي نفور، فهذا دليل على فساد الفطرة، لكن الإنسان السوي حتى لو لم يعرف عن شرع منزل يأمر مثلاً بقص الأظافر، فإنه بفطرته كإنسان سوف يدرك أن الفرق بين الإنسان وبين الوحوش الكاسرة وذوات المخالب أن يهذب أظافره، وهكذا في سائر خصال الفطرة، سواء الاختتان، أو إعفاء اللحية أو غير ذلك من الخصال، فهذه كلها يهتدي إليها الإنسان بفطرته حتى لو لم يرد شرع، فكيف وقد جاء بها الشرع؟! عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، والاستنشاق، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء) قال أحد الرواة: (ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة) رواه مسلم.
فخصال الفطرة هي الهيئة التي ابتدأ الله خلق عباده عليها، وغرس في طباعهم فعلها والميل إليها واستحسانها، وجبلهم على النفور مما يضادها، بحيث لو ترك إنسان هذه الخصال لم تبق صورته على صورة الآدميين، وصاحب الفطرة السوية التي لم يطرأ عليها فساد بتأثير البيئة المحيطة يظل مدفوعاً بفطرته إلى كراهية ما في جسده مما ليس من زينته، ومحبة هذه الخصال الجبلية ولو لم يرد بها شرع منزل، فكيف وقد جاءت بها شرائع النبيين؟! لذلك يقول الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى: وأحسن ما قيل في تفسير الفطرة: إنها السنة القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع، فكأنها أمر جبلي فطروا عليه.
إذاً: إذا كان إعفاء اللحية من خصال الفطرة، فإن حلق اللحية تغيير لفطرة الله وتغيير لخلق الله تبارك وتعالى، يقول الله عز وجل: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] قيل في تفسيرها: هي خبر بمعنى الطلب، يعني: لا تبدلوا خلق الله، ولا تغيروا خلق الله والهيئة التي فطركم الله عز وجل عليها، وهذه الهيئة هي معرفة الله عز وجل بتوحيده، وتوابع ذلك من خصال الفطرة.
ولذلك جاء ذكر بعض خصال الفطرة في تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124]، فقد ذكروا أن من ضمن هذه الكلمات بعض خصال الفطرة، وقال الله عز وجل حاكياً عن إبليس لعنه الله قوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119]، فهذا ما توعد به إبليس بني آدم منذ البداية.
إذاً: هذا نص صريح في أن تغيير خلق الله عز وجل بدون إذن من الشرع إطاعة لأمر الشيطان، قال: (وَلَآمُرَنَّهُمْ) فالذي يأمر بحلق اللحية أو بتغيير خلق الله هو إبليس، فحالق اللحية مطيع لإبليس فيما يأمر به، فالله لم يأمر بذلك إنما أمر بإعفاء اللحية، وهكذا أمر الرسول أيضاً عليه الصلاة والسلام، أما الذي يأمر بتغيير خلق الله فهو إبليس.
وقولنا: بغير إذن من الشرع، هذا قيد نضعه حتى لا يعترض معترض ويقول: إن هناك تغييراً في خلق الله أمرنا به الشرع وأوجبه أو استحبه لنا، كالختان فهو تغيير لخلق الله، وكذلك قص الأظافر تغيير لخلق الله عز وجل، وكذلك حلق الرأس عند التحلل من الإحرام، وكذلك خصال الفطرة الأخرى، فالتغيير الذي تعبدنا الله عز وجل به ليس من التغيير المذموم.
أيضاً يقول الله تبارك وتعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر:64] إشارة إلى الأمر بتحسين الهيئة والتنظيم، كأنه قال: قد فطركم الله في أحسن صورة وأكمل هيئة فلا تضيعوها بما يقبحها ويشوهها، بل حافظوا على هذه الصورة ولا تغيروها عما جبلكم الله عليه، وحافظوا على ما يستمر به حسن هذه الصورة ولا تطيعوا الشيطان في أمره إياكم بتغيير خلق الله، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) متفق عليه، فذكر علة اللعن المستدل به على الحرمة في قوله: (المغيرات خلق الله عز وجل).
فالذي يحلق لحيته هل يحلقها للحسن أم لا يحلقها للحسن؟ بل يحلقها للحسن، فهو يريد أن تكون صورته أجمل، وفي الحقيقة هذا ينافي الفطرة؛ لأن زينة الرجل في اتجاه مخالف لزينة المرأة، المرأة يناسبها التزين بالذهب والأصباغ وغير ذلك من الأشياء، أما الرجل فلا يناسبه ذلك، بل الشيء المناسب لزينة الرجل هو أن يحافظ على رجولته.
ومن زينة المرأة ألا يكون لها لحية في وجهها، أما الرجل فزينته أن يكون ذا لحية، وألا يتزين ويلبس ملابس المرأة، والرجل يستقبح أن يلبس الملابس التي تختص بالنساء، فكما استقبح ذلك فليستقبح أيضاً التزين بحلق اللحية، للأسف الشديد وجد شيء لا يتخيله الإنسان، وهو أن بعض الشباب يتنمصون، وهذا شيء عجيب جداً! إذاً: حالق لحيته للحسن هو أولى بأن يوصف بأنه مغير لخلق الله سبحانه وتعالى، ودخوله في الوعيد من باب أولى؛ لأن المرأة شرع لها من التزين أكثر مما شرع للرجل، وحلق اللحية في معنى النمص الذي هو إزالة شعر الوجه والحاجبين من المرأة للحسن، وهذا في حق الرجل أقبح.(65/5)
إعفاء اللحية من سمت الأنبياء والمرسلين
إن إعفاء اللحية من سمت الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وذكرنا من قبل في تفسير فطرة الله أنها من سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
يقول تبارك وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124] صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم عليه السلام بخصال الفطرة.
ودل القرآن العظيم على أن هارون عليه السلام كان موفراً شعر لحيته، قال تعالى حاكياً عنه قوله لموسى عليه السلام: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94] فلو كان حالقاً لما وقع الأخذ بلحيته.
وقال تبارك وتعالى بعدما ذكر في سورة الأنعام جملة من الأنبياء الكرام، ومنهم إبراهيم وهارون عليهما السلام: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] أي: أمر الله الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بهؤلاء الأنبياء، ونحن مأمورون بالاقتداء بنبينا عليه الصلاة والسلام، فكما أن هارون عليه السلام كان ذا لحية، فقد أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بهارون، وهو داخل في الائتساء به، وأمرنا نحن أن نقتدي بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].(65/6)
إعفاء اللحية سبيل المؤمنين
إن إعفاء اللحية سبيل المؤمنين، يقول الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
وقال عز وجل: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15].
وقال صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) متفق عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) فقوله: (عضوا عليها بالنواجذ) كناية عن شدة التمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده.
ثم قال: (عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة) وهذا الحديث صحيح.
وقد ثبت عن الخلفاء الراشدين المهديين وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنهم كانوا ذوي لحى كبيرة، فكان أبو بكر رضي الله عنه كث اللحية، وكان عمر كثير اللحية، وكان عثمان كبير اللحية، وكان علي رضي الله عنه عريض اللحية قد أخذت ما بين منكبيه، فهؤلاء أعقل الأمة كلها بإجماع علمائها، ثم بعدهم الأتباع المحسنون والمجاهدون الصادقون الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر، ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها، لم يكن فيهم حالق للحيته، وكل هؤلاء الذين فتحوا العالم ومصروا الأمصار ما عرفوا حلق اللحية.
إذاً: هذا هو سبيل المؤمنين.
ومن دعاء المؤمنين عباد الرحمن قولهم: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] أي: اجعلنا مؤتمين بمن قبلنا؛ كي نصلح لأن يأتم بنا من بعدنا.
ولم ينقل عن أحد من السلف الصالح رحمهم الله أنه حلق لحيته؛ لعدم جوازه عندهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، ونحن نقول عكس ما قال المشركون، قالوا في القرآن: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11] قالوا احتقاراً للفقراء والضعفاء: لو كان القرآن والإسلام خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الضعفاء والفقراء والمساكين، أما نحن فنقول في كل أمر يعرض علينا: لو كان خيراً لسبقونا إليه، فلو كان في حلق اللحية خير لسبقنا إليه الصحابة والتابعون والمجاهدون والأئمة في كل زمان ومكان، فالصحابة والسلف لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها.
يقول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في مراتب الإجماع: واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز.
وهذا إجماع يحكيه الإمام ابن حزم.
قوله: مثلة يعني: تشويه، لا تجوز.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: يحرم حلق اللحية ولم يبحه أحد.
فلو فتشت في طول صفحات التاريخ الإسلامي وعرضه لم تجد من أئمة الهدى ومصابيح الدجى من كان يحلق لحيته، وإنما تسربت إلينا هذه الضلالة واستمرأها بعض المسلمين لما اتصلوا بالكفار، حين احتلوا بلادنا أو حين رحل بعضهم إلى بلاد الكفار، فاحتلوا عقولهم، فأعرضوا عن هدي سلفهم الصالح، واتبعوا غير سبيل المؤمنين حذو القذة بالقذة، واشتغلوا بتقليد اليهود والنصارى وعملوا شبراً بشبر وذراعاً بذراع.
والله تبارك وتعالى يقول: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18] ونحن إذا تتبعنا القرآن الكريم سنجد الشريعة والوحي الإلهي دائماً في مقابلة اتباع الهوى، يقول عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، وقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص:26] فقوله عز وجل: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) هم كل من خالف شريعته صلى الله عليه وسلم، وهم الذين اتبعوا ما عليه المشركون من هديهم الظاهر، الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وتوابع ذلك.(65/7)
أمر الشرع بمخالفة الكفار والنهي عن التشبه بهم
ويقول عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، فقوله عز وجل: (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ) هذا نهي مطلق عن مشابهة الكفار.
وقال الحافظ ابن كثير: ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية.
إن ترك التشبه بالكفار في أعمالهم وأقوالهم وأهوائهم من المقاصد والغايات التي أسسها القرآن الكريم، وبينها وفصلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحققها في أمور كثيرة من فروع الشريعة، في الصلاة والجنائز والصيام والأطعمة واللباس والزينة والآداب والعادات وغيرها.
قال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا) حتى عرف اليهود أن من خصائص الملة الحنيفية أنهم يتعمدون مخالفة المشركين والكفار من اليهود والنصارى وغيرهم.
اليهود الذين كانوا في المدينة عرفوا ذلك ولاحظوه من أفعال وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه!) رواه مسلم.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول أيضاً في الحديث الصحيح: (ومن تشبه بقوم فهو منهم).
وعن الحسن قال: قلما تشبه رجل بقوم إلا لحق بهم.
يعني: في الدنيا والآخرة.
وقال بعض مشيخة الأنصار رضي الله عنهم: (يا رسول الله! إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم) عثانينهم: جمع عثنون وهي اللحية.
وتأملوا كلمة (يقصون) جيداً، ما قال: يحلقون وإنما قال: يقصون يعني: يقصرونها.
قال بعض مشيخة الأنصار: (يا رسول الله! إن أهل الكتاب يقصون عنانينهم -يعني: لحاهم- ويوفرون سبالهم -يعني: شواربهم- فقال عليه الصلاة والسلام: قصوا سبالكم، ووفروا عنانينكم، وخالفوا أهل الكتاب)، وهذا حديث حسن.
وقال صلى الله عليه وسلم: (خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى) متفق عليه.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (جزوا الشوارب وأرخوا اللحى وخالفوا المجوس) رواه مسلم.
ويقول الإمام أبو شامة رحمه الله تعالى: وقد حدث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشد مما نقل عن المجوس من أنهم كانوا يقصرونها.
فمما ينبغي أن نتنبه إليه جيداً أن المشركين الذي كانوا يعيشون في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا ذوي لحى، وهذه النقطة تسبب نوعاً من الاشتباه، وتلبس على بعض الناس هذا الأمر، والعرب ما عرفت حلق اللحية، ولعل هذا كان من بقايا دين إبراهيم عليه السلام الذي بقيت عليه العرب.
فالعرب لم تترك زينة اللحى لا في الجاهلية ولا في الإسلام، فقد كان أبو جهل ملتحياً، وكان أبو لهب ملتحياً، وهكذا.
إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام لما قال: (خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى) يأتي بعض الناس ويتفلسفون ويقولون: الآن المشركون يعفون لحاهم! فنقول: هذا غير صحيح؛ لأن عامتهم يحلقونها، وهذه البلية ما جاءت إلا من قبلهم، لكن لو نسلم جدلاً أن المشركين يعفون اليوم لحاهم فهل نخالفهم بحلق لحانا؟! لا، فنقول لهؤلاء المغرر بهم: إنكم أسأتم فهم الحديث، والدليل على أنكم أسأتم فهمه أن المشركين الذين أمر الصحابة بمخالفتهم في هذه الأحاديث على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام كانوا ذوي لحى، إنما كانت المخالفة في التفاصيل وليس في أصل الفعل، والمعنى: أن اللحى تترك وتعفى لا تقص ولا تقصر مخالفةً للمجوس، فضلاً عمن يحلقها، والشوارب تقص ولا تترك مخالفة أيضاً لهؤلاء المشركين، حتى إن الغربيين كانوا يعفون لحاهم إلى أن أشاع الملك بطرس ملك روسيا حلق اللحية.
ومن الغربيين تسربت إلى المسلمين هذه السنة السيئة فيما بعد، فإذا حلقوا لحاهم فنحن نخالفهم في أصل الفعل؛ لأننا نفعل ذلك امتثالاً لأمر نبينا عليه الصلاة والسلام، وإذا أعفوا لحاهم نخالفهم في التفصيل وذلك بقص الشوارب.
نضيف إلى ذلك أن بعض الناس يلبسون في هذا الأمر بقولهم: إن هذا التعليل غير مستمر، أي: هم يقدحون في استمرار هذه العلة وهي مخالفة المشركين؛ لأن بعض المشركين اليوم لا يعفون لحاهم، فنقول: إن سنة أكثر المشركين اليوم هي حلق اللحية، بل ما تسربت هذه البدعة إلا من المشركين، وهم يستحسنون ذلك حتى تصبح وجوههم كوجوه النساء، وهم يعتبرون هذا من الزينة، وقد ذكرنا أن هذه زينة خاصة بالنساء، وآية ذلك أنك إذا تعودت أن ترى رجلاً معفياً لحيته، ثم رأيته فجأة قد حلق لحيته، فماذا يكون شعورك؟ تشمئز جداً، وتشعر كأنه مثل الأرنب الذي سلخ جلده، فأنت تنفر من المنظر؛ لأنك تعودت على رؤية الهيبة والوقار والزينة التي تليق بالرجال.
أما من أعفى لحيته من المشركين، فلماذا أعفاها؟ ربما يكون قد أعفاها اليهودي أو النصراني تديناً بذلك؛ اتباعاً لعيسى أو موسى، ولأن هذه سنة الأنبياء، ونحن نتفق معهم في هذه الفطرة.
وربما أعفى لحيته لأن إعفاء اللحية رجولة وفحولة، فنقول: بفعله هذا قد سلمت فطرته في هذه الجزئية، حيث رأى أن هذا من الرجولة، ففطرته سلمية في هذه الجزئية، وتوافقت شريعتنا فيها مع شريعتهم، ومثال ذلك: أن شريعتنا تأمر ببر الوالدين، وشريعتهم تأمر ببر الوالدين، فهل نترك بر الوالدين لأنهم يطيعون آباءهم؟! ونحن لا نزال نخالفهم في سنة قص الشوارب وهو أخذ ما طال عن الشفة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يأخذ من شاربه فليس منا)، فإذا كان بعض الكفار اليوم كاليهود مثلاً يعفون لحاهم والآخرون يحلقونها، فنحن مأمورون بمخالفة الحالقين والمقصرين لا بمخالفة من أعفاها، فاليهود كفار، وفيهم من يعفي اللحية، وفيهم من يحلقها أو يقصرها، فمن الذي نخالفه من الأصناف الثلاثة؟ نخالف فقط الذي يقصر أو يحلق، أما الذي يعفي فنحن نوافقه فيها، فلو كانت القاعدة أن ما يفعله الكفار يجب اجتنابه مطلقاً لوجب علينا ترك القتال؛ لأن اليهود يقاتلون! فهل نخالف اليهود في ترك القتال، ونتمرد على الفطرة؟! كلا، كذلك لا يقدح في استمرار التعليل بمخالفة المشركين أن أكثر المسلمين اليوم يحلقون لحاهم، ويقولون: أكثر المسلمين يحلقون لحاهم، وهم بذلك يتميزون عن المشركين، فنقول: إذا كان أكثر المسلمين يحلقون لحاهم فإن القرآن والسنة حجة عليهم، وليسوا هم حجة على القرآن والسنة، وقد دل القرآن على تحريم تغيير خلق الله وتحريم التشبه بالنساء، ودلت السنة على أن إعفاء اللحية من خصال الفطرة التي لا تتبدل بتبدل الأزمان، فانحراف البعض عنها لا يجعلنا نرفض ما شرعه الله لنا وفطرنا عليه لمجرد أن يفرط فيه بعض المنتسبين إليه؛ لأنهم مأمورون بامتثال هذا الأمر.(65/8)
إعفاء اللحية رجولة وفحولة ورأي الطب في هذه المسألة
إن إعفاء اللحية رجولة وفحولة؛ فإن الله تبارك وتعالى خلق الذكر والأنثى، وجعل وجود الشعر سمة مشتركة بينهما في موضع من البدن، وليس من هذه المواضع المشتركة اللحية والشارب، بل ميز الله تبارك وتعالى بهما الرجل عن المرأة، ولأن يلبس الرجل ملابس المرأة أخف من أن يحلق لحيته تشبهاً بها؛ لأن لحية الرجل هي الفارق الظاهر والمميز الواضح بين الرجل والمرأة، وقد شرع الله لكل من الزينة ما يناسب فطرته، وأباح الشرع للنساء التزين بالذهب والحرير وحرمهما على الرجال؛ لأنهما لا يناسبان كمال الرجولة.
وكما أن من جمال المرأة أن تعدم اللحية والشارب في وجهها؛ فإن جمال الرجل وهيبته ووقاره في لحيته وشاربه.
أما من وجهة نظر الطب، فالطب محايد لا دين له للأسف الشديد، فلنسمع ما تقوله المصادر الطبية المحترمة في هذا المجال.
معلوم من الناحية الطبية أن نمو اللحية في وجه الرجل هو أثر من أثار هرمون الذكورة الذي يسمى (التستوستيرون)، ونزول هذا الهرمون ينبت شعر اللحية والشارب في وجه الرجل، وهناك أمراض تطرأ على بعض الرجال وينشأ عنها مرض نقص الذكورة، وهذا المرض يكون مصحوباً بسقوط شعر اللحية من الوجه.
ونفس هرمون الذكورة لو حقن في أنثى سيؤدي إلى مرض عند المرأة يسمى اضمحلال الأنوثة أو نقص الأنوثة أو بعبارة أخرى يؤدي إلى الاسترجال عند المرأة، ومن أهم وأوضح الأعراض الناتجة عن ذلك عرض مشهور جداً في الطب يسمى الشعرانية يعني: كثرة نمو الشعر في مناطق لم تكن مشعرة كاللحية والشارب، فتجد المرأة التي يحصل فيها أعراض الرجولة أنه لابد أن يظهر فيها الشعر في مواضع من البدن ومنها اللحية والشارب.
فهذا رأي الطب الذي هو علم محايد لا يتمسك بدين، وهذا الكلام في كل المراجع الطبية، وإن شئتم فراجعوها.(65/9)
وجه كون حلق اللحية تشبهاً بالنساء
إذا كان إعفاء اللحية من جانب هو رجولة وفحولة فلا شك أن الجانب الآخر وهو حلق اللحية يعد تشبهاً بالنساء، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال) رواه البخاري.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه رأى امرأة تمشي متقلدة قوساً وهي تمشي مشية الرجل فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من الرجال) وهذا حديث صحيح.
فلا شك أن مشابهة حالق لحيته للمرأة أوضح من مشابهة من تقلدت القوس ومشت مشية الرجال، كما أنا المرأة إذا اتخذت لحية مصنوعة في وجهها فهي متشبهة بالرجال، أو اتخذت الشارب الصناعي في وجهها فهي أيضاً متشبهة بالرجال، وكذلك الرجل الذي يحلق لحيته التي زينه الله بها يكون قد تشبه بالنساء, وأنت إذا سألت رجلاً أو حتى صبياً من عامة المسلمين الملتزمين بالدين عن وجه الحليق: من يشبه؟ لقال: يشبه وجه المرأة، ووجه الصبي، ووجه اليهودي والنصراني.
ولله الحمد تجد أولاد الملتزمين بإعفاء اللحية إذا رأوا حليق اللحية فإنهم يفزعون ويتغيرون؛ لأنهم محتكون بملتحين! والعلماء أطلقوا على حالق اللحية لفظة بشعة، لكن نحن نعلم أن الإخوة الأفاضل الذين يحلقون لحاهم إنما هو نتيجة أنهم لا يعرفون حكم الله في هذه المسألة، فنعتذر عن وجود بعض الألفاظ الشديدة، لكن هذا يعكس مدى استبشاع السلف لهذا الفعل، ومن هذه الألفاظ الشديدة التي أطلقها العلماء على حالق اللحية لفظة: التخنث.
يقول الإمام حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى: ويحرم حلق اللحية، ولا يفعله إلا المخنثون من الرجال.
فلو أن رجلاً أتى فصبغ أطرافه بالحناء، ومعلوم أن الحناء زينة النساء، فيكون هذا الرجل الذي صبغ أطرافه بالحناء قد تشبه بالنساء، ولو كان ذا لحية وشارب وعمامة، فكذلك من حلق لحيته يكون قد تشبه بالنساء ولو كان ذا شارب وقميص وعمامة.
إذاً: لابد أن نلحظ أمراً مهماً جداً، وهو أن قضية التشبه لا يتوقف الاتصاف بها على القصد والنية كالإتلاف والقتل والضرب، فمن فعل ذلك اتصف به وإن لم يقصده؛ لأن قضية التشبه لا تفتقر إلى السؤال عن النية؟ بل يكفي في وصف الإنسان بأنه متشبه بالكفار أو بالنساء مجرد وقوعه في فعل التشبه، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أعمال لم يقصد فاعلها التشبه، ولا خطر التشبه على باله، كالنهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الزوال ووقت الغروب؛ لكيلا نتشبه بالكفار الذين يسجدون للشمس في هذه الأوقات، مع أن المسلم لا يقصد بالسجود إلا الله تعالى، ومع ذلك يعتبر هذا تشبهاً، فإذا كان حلق اللحية تشبهاً بالنساء فعلى الجانب الآخر يكون إعفاء اللحية زينة وتكريماً.(65/10)
من أوجه تكريم الله لبني آدم وجود اللحى في الرجال
يقول تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] يقول بعض العلماء في تفسير الآية: من تكريمه إياهم: خلقه لهم على أكمل الهيئات وأحسنها.
وذكر بعض العلماء من أمثلة هذا التكريم: تزيين الرجال باللحى والنساء بالذوائب.
وقال عز وجل: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138].
وقال عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8].
وقال سبحانه وتعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88].
وقال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (كل خلق الله عز وجل حسن).
فلابد أن نوقن أن هذه الهيئة التي خلقنا الله عليها هي نعمة من الله سبحانه وتعالى وتكريم لنا، فوجود اللحية في الرجل نعمة، فحلق اللحية والإطاحة بها طعن في هذه الحكمة، وجحود لهذه النعمة، وكأنك تقول: الهيئة التي خلقتني عليها -يا رب- هيئة قبيحة! معاذ الله! إذاً: هذا كفر بهذه النعمة العظيمة، وانتكاس عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وانحطاط إلى مستوى الكفرة الذين زين لهم سوء أعمالهم، فحلق اللحية ليس رقياً، بل يعتبر انحطاطاً عن هدي الرسول عليه الصلاة السلام، وانحطاطاً إلى مستوى الكفار الذين يحسبون أن التمدن والكمال إنما يكون في القضاء على أكثر الفوارق الظاهرة بين الرجل والمرأة، يقول الشاعر: يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن(65/11)
مكانة اللحية عند الفقهاء من السلف وتعظيمهم لها
بلغ من تعظيم الفقهاء للحية أن قال الأئمة أبو حنيفة وأحمد والثوري رحمهم الله: إن اللحية إذا جني عليها فأزيلت بالكلية ولم ينبت شعرها، فعلى الجاني دية كاملة كما لو قتل صاحبها.
وقال فريق آخر من العلماء: فيها حكومة.
وعلق الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى معلقاً على مذهب أبي حنيفة وأحمد والثوري حيث قالوا: إن على الجاني دية كاملة كما لو قتل صاحبها فقال: لأنه أذهب المقصود كله، فأشبه ما لو أذهب ضوء العينين بحيث لم يعد مرة ثانية.
قيس بن سعد لم يكن له لحية، فقال الأنصار: (نعم السيد قيس لبطولته وشهامته، ولكن لا لحية له، فوالله لو كانت اللحية تشترى بالدراهم، لاشترينا له لحية ليكمل رجلاً) وقال بعض بني تميم من رهط الأحنف بن قيس: وددت أنا اشترينا للأحنف لحية بعشرين ألفاً، وكان الأحنف بن قيس فيه دمامة في ملامحه، وفيه نوع من الميل في رجليه، وكان أعور، وفيه نقص في كثير من الصفات الخلقية، لكنهم لم يذكوا حنفه ولا عوره ولا غير ذلك، وإنما ركزوا على عدم وجود لحية له؛ لأن من لا لحية له يرى عند العقلاء ناقصاً.
وذكر عن شريح القاضي أنه قال: وددت لو أن لي لحية بعشرة آلاف درهم.
فإذاً: نحن نتعجب من بعض أهل زماننا! يود أحدهم لو بذل مالاً عظيماً؛ ليعدم لحيته إلى الأبد حتى لا يعاني من حلقها دائماً! يقول الشاعر: ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه فإذا كانت اللحية زينة وتكريماً ففي المقابل فحلق اللحية مهانة للإنسان في الحقيقة؛ لأن أئمة الإسلام وعلماء الإسلام لم يوجد من بينهم من حلق لحيته في حياته ولو مرة واحدة إلا إذا كان لعذر المرض.
إذاً: الأصل أنه لم يعرف أبداً عن أئمة الهدى هذه المعصية، بل إن بعض الأمراء في بعض الأزمان لم يكونوا متفقهين في الدين، ومع ذلك كانوا إذا أرادوا أن يؤدبوا فرداً من أفراد الرعية لخطأ ارتكبه يحلقون لحيته، ويركبونه دابة ويجولون به بين الناس في الأسواق تعزيراً له، لكن الفقهاء قالوا: يجوز للحاكم أو الأمير التعزير بحلق الرأس لا اللحية؛ لأن حلقها حرام.
ألا تتأمل أن الله سبحانه وتعالى ما شرع للرجال أن يحلقوا لحاهم في الحج أو العمرة عند التحلل من الإحرام، إنما شرع لهم حلق الرأس فقط أو التقصير؟! أما اللحية فهل هناك دليل من الكتاب أو السنة يدل على أن اللحية تحلق عند التحلل من الإحرام؟ ابن عمر والذي هو: كان إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه، ويتشبث بعض الناس بفعل ابن عمر ويقولون: ابن عمر فعل كذا، نقول: نعم ابن عمر فعل ذلك، لكن هل أنتم تتركون لحاكم وتأخذون ما زاد عن القبضة؟! قال بعض العلماء: إن ابن عمر أراد أن يجمع بين الحلق والتقصير، فذهب في معنى قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] أي: محلقين رءوسكم ومقصرين لحاكم، فكان يأخذ منها ما فضل على القبضة، والله تعالى أعلم.
بلغ أيضاً من تعظيم السلف لشأن اللحية أن رتبوا على حلقها عقوبة اجتماعية قاسية، وهي رد الشهادة، وقد جاء عن بعض الفقهاء: أن من تعمد حلقها يؤدب وترد شهادته.
وقال العلامة الدسوقي: يحرم على الرجل حلق لحيته أو شاربه، ويؤدب فاعل ذلك.
أيضاً: إذا كان إعفاء اللحية زينة وتكريماً، فحلقها مهانة؛ لأن حلقها مثلة، والمثلة مثل الذي يقطع أذن إنسان أو أنفه أو يفقأ عينه وغير ذلك.
فعن عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النهبى والمثلة) رواه البخاري، والمثلة: هي التشويه.
وعن سمرة وعمران بن حصين رضي الله عنهما قالا: (ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة) إسناده جيد.
وروى ابن عساكر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أنه قال: (إن حلق اللحية مثلة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة).
وقال ابن حزم رحمه الله في مراتب الإجماع: واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز.
فإذا كان بعض العلماء عد قص اللحية مثلة، وعد بعضهم استئصال الشارب بالحلق مثلة، فماذا عن استئصال اللحية كلها؟ إن الوجه عضو مكرم، وهو مجمع المحاسن والحواس، فمن حق الوجه الصيانة لا المثلة والإهانة، وهذا ما علمناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه).
ولذلك يزجر العلماء عن لعبة الملاكمة أو بتعبير أدق عن الضرب في الوجه؛ لأنه لا يجوز أن تضرب المسلم أبداً في وجهه؛ لأن الوجه مكرم، وينبغي أن تحترم الوجه وتصونه عن أي إهانة أو مثلة.
فهنا أمر لضبط النفس حتى في حالة الغضب، إن كان ولابد أن يحصل بينك وبين أخيك نوع من العراك أو الشجار أو القتال فاجتنب الوجه، فلا تضرب الوجه.
يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه)، وفي لفظ: (فلا يلطمن الوجه)، فلا تضرب أبداً أحداً على الوجه، لا تضرب ابنك ولا أخاك ولا أي أحد على الوجه؛ لأنه منهي عنه.
رأى سويد بن مقرن رضي الله تعالى عنه رجلاً لطم غلامه، فقال: (أوما علمت أن الصورة محترمة) رواه مسلم.
والصورة هي الوجه كما جاء في الحديث: (الصورة الرأس، فإذا قطع الرأس فلا صورة).
ونحن نعجب أيضاً من أهل زماننا الذين يهنئون من يشوه خلقته ويمثل بوجهه، ويحلق لحيته؛ بقولهم له: نعيماً، يقول الشيخ عائض القرني: جحيماً وليس نعيماً!(65/12)
فتاوى العلماء في إعفاء اللحية وحلقها
أخيراً نذكر بعض النقول ولا نطيل بذكرها؛ لإقناع هؤلاء الذين يتذرعون بكلام المذاهب، ويدعون أن المذاهب تجيز حلق اللحية، أي: مذاهب هذا الزمان، وبعض الناس في هذا الزمان يقولون: إن إعفاء اللحية من أمور العادات وليست من السنن، فنقول: لا التفات لهذا الكلام بعدما سمعنا الأدلة الصحيحة على هذا الحكم الشرعي.
هنا فتوى عن اللحية وردت من الشيخ جاد الحق علي جاد الحق لما كان مفتياً لجمهورية مصر العربية، وهذه الفتوى موجودة في الفتاوى الإسلامية الرسمية الصادرة باسم الأزهر برقم (1282) مبادئ الفتوى: الأول: إطلاق اللحى من سنن الإسلام التي ينبغي المحافظة عليها.
الثاني: إتلاف شعر اللحية بحيث لا ينبت بعده جناية توجب الدية، على خلاف في مقدارها.
الثالث: إطلاق الأفراد المجندين للحى اتباع لسنة الإسلام، فلا يؤاخذون على ذلك، ولا ينبغي إجبارهم على إزالتها أو عقابهم بسبب إطلاقها.
وسئل فضيلة شيخ الأزهر جاد الحق كما في الكتاب (60/ 81) المؤرخ في 12/ 6/ 1981م منفرد برقم (194) سنة (1985م)
و
السؤال
طلب بيان الرأي عن إطلاق الأفراد المجندين اللحى، حيث إن قسم القضاء العسكري قد طلب الإفتاء بخصوص ذلك الموضوع لوجود حالات لديها؟ أجاب المفتي فضيلة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق قائلاً: إن البخاري روى في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خالفوا المشركين، وفروا اللحى وأحفوا الشوارب).
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى).
وفي صحيح مسلم أيضاً عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء، قال بعض الرواة: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة).
قال الإمام النووي في شرحه لحديث: (أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى): إنه وردت روايات خمس في ترك اللحية، وكلها على اختلاف في ألفاظها تدل على تركها على حالها، وقد ذهب كثير من العلماء إلى منع الحلق والاستئصال لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعفائها من الحلق.
ولا خلاف بين فقهاء المسلمين في أن إطلاق اللحى من سنن الإسلام فيما عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق الذي روته عائشة: (عشر من الفطرة).
ومما يشير إلى أن ترك اللحية وإطلاقها أمر تقره أحكام الإسلام وسننه، ما أشار إليه فقه الإمام الشافعي من أنه يجوز التعزير بحلق الرأس لا اللحية، وظاهر هذا حرمة حلقها على رأي أكثر المتأخرين.
ونقل ابن قدامة الحنبلي في المغني: أن الدية تجب في شعر اللحية عند أحمد وأبي حنيفة والثوري، وقال الشافعي ومالك: فيه حكومة عدل.
وهذا يشير أيضاً إلى أن الفقهاء قد اعتبروا التعدي بإتلاف شعر اللحية حتى لا ينبت جناية من الجنايات التي تستوجب المساءلة، إما بالدية الكاملة كما قال الأئمة أبو حنيفة وأحمد والثوري، أو حكومة يقدرها الخبراء والعدول كما قال الإمامان مالك والشافعي، ولا شك أن هذا الاعتبار من هؤلاء الأئمة يؤكد أن اللحى وإطلاقها أمر مرغوب فيه في الإسلام، وأنه من سننه التي ينبغي المحافظة عليها.
ولما كان إطلاق الأفراد المجندين للحى اتباعاً لسنة الإسلام، فلا يؤاخذون على ذلك، ولا ينبغي إجبارهم على إزالتها أو عقابهم بسبب إطلاقها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
وهم متبعون لسنة عملية جرى بها الإسلام، ولما كانوا في إطلاقهم اللحى مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجب أن يؤثموا أو يعاقبوا، بل إن من الصالح العام ترغيب الأفراد المجندين وغيرهم في الالتزام بأحكام الدين وفرائضه وسننه؛ لما في ذلك من زيادة همتهم، ودفعهم لتحمل المشاق والالتزام عن طيب نفس، حيث يعملون بإيمان وإخلاص.
وتبعاً لهذا لا يعتبر امتناع الأفراد الذين أطلقوا اللحى عن إزالتها رافضين عمداً لأوامر عسكرية؛ لأنه باشتراط وجود هذا الأمر فإنها فيما يبدو لا تتصل من قريب أو بعيد بمهمة الأفراد أو تقل من جهدهم، وإنما قد تكسبهم سمات وخشونة الرجال، وهذا ما تتطلبه المهام المنوطة بهم.
ولا يقال: إن مخالفة المشركين تقتضي الآن حلق اللحى؛ لأن كثيرين من غير المسلمين في الجيوش وفي خارجها يطلقون اللحى؛ لأنه شتان بين من يطلقها عبادة في الدفاع عن سنة الإسلام، وبين من يطلقها لمجرد التجمل وإبقاء سمات الرجولة على نفسه، فالأول: منقاد لعبادة يثاب عليها إن شاء الله تعالى، والآخر: يرضى بها كالثوب الذي يرتديه ثم يزدريه بعد أن تنتهي مهمته.
ولقد عاب الله الناهين عن طاعته وتوعدهم: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:9 - 14] والله سبحانه وتعالى أعلم.
فهذه كلمة حق طيبة جزاه الله خيراً عنها.
نقول: حتى لو اعتبر هذا الأمر -إعفاء اللحية- من الأمور الشخصية ومن الحريات الشخصية، فلماذا يعطى كل إنسان حرية شخصية ما عدا من يفعل هذه الأشياء طاعة ومحبة لرسول الله عليه الصلاة والسلام؟! تجد المسلم يمتحن بسبب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضطهد؛ لأنه أظهر محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به! فأين ذهبت عقول القوم؟! اليهود في أمريكا وضعهم أقوى من وضعهم في إسرائيل نفسها، لكن لا يمكن أن ترى يهودياً حالقاً للحية، ولا ترى يهودياً ليس في وجهه شعر، إلا الصبي الصغير الأمرد الذي ما نبتت لحيته بعد، وترى لحاهم طويلة جداً، لكن تجدهم يطيلون الشوارب.
فإن كانت هذه البلاد الكافرة قد تركت لهم الحرية في إطلاق اللحى فنحن من باب أولى؛ لأن الإسلام أمرنا بذلك.
ونحن مضطرون أن نستدل بهدي أمريكا لمن يعبدون أمريكا، هناك منظمة في أمريكا أعضاؤها الآلاف من المجندين الأمريكان الذين ذهبوا إلى السعودية في حرب الخليج، وقام بعض الإخوة والدعاة الأفاضل جزاهم الله خيراً بدعوتهم، وإعطائهم النسخ من المصاحف المترجمة باللغة الانجليزية، ونشطوا جداً فيما بينهم؛ فانتشر الإسلام فيهم انتشاراً عجيباً، وأسلم الآلاف منهم، ولما كنت في بريطانيا قابلت أحد الإخوة الكنديين، وهو من الإخوة الأفاضل من أهل التوحيد والعلم، وله كتب قيمة جداً كلها بالإنكليزية، وكان يحاضر ويتكلم على قوله تبارك وتعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216] فقال: إن هذا البلاء قد يترتب عليه كثير من الخير، كهذا الذي حصل من إسلام الآلاف من المجندين الأمريكان ودخولهم في حوزة الإسلام، وهؤلاء الجنود لما رجعوا إلى أمريكا كونوا منظمة باسم: منظمة العسكريين الأمريكان المسلمين! ويقول هذا الأخ: أنا ذهبت إلى هذه المنظمة حين دعوني وحاضرتهم عن الإسلام.
وقد نشرت جرائد الأسبوع الماضي هنا في مصر خبراً نختم به الكلام هو: أن الحكومة الأمريكية أصدرت قراراً بالسماح للمجندات الأمريكيات المنضمات إلى هذه المنطمة بارتداء الحجاب بناء على أن الدستور الأمريكي يكفل حرية الديانة واحترام الأديان إلى آخر هذا الكلام! فهذه هي أمريكا يا من تنظرون إليها بمنتهى الخضوع والخشوع، وكأن لسان حالكم يقول لـ بوش: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين (الله) خراب وهذا هو الواقع!! إذا صح منك - أي: يا بوش - الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(65/13)
تحريم الغيبة وأضرارها
حرم الله عز وجل على المسلم أن يغتاب أخاه، وشبه غيبته بأكل لحمه ميتاً، فلها أضرار كثيرة تعود على الفرد والمجتمع؛ ولهذا كان التحذير منها شديداً على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان السلف ينكرون على أصحاب المجالس التي يذكر فيها مساوئ المسلمين وعيوبهم، وكانوا منشغلين بعيوب أنفسهم ومحاسبتها عن عيوب الآخرين.(66/1)
حرمة الغيبة شرعاً
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
ثم أما بعد: ففي سورة الحجرات يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:11 - 12].
الموضوع الذي سنتناول قوله تبارك وتعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].
قد يكون الإنسان حشا ذهنه بكثير من المعلومات حول موضوع معين كالموت مثلاً، فهو يعلم أنه سيموت، لكنه يحتاج بين وقت وآخر إلى أن يجدد العهد بالذكرى، ويذكر نفسه بالموت وما بعده، ومحاسبة الله عز وجل إياه، وقد بين الله تبارك وتعالى أهمية هذه الذكرى في قوله عز وجل: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]، فأمرنا بالتذكير إن نفعت الذكرى، وبين في آية أخرى من هم الذين تنفعهم الذكرى، فقال عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، فالمؤمنون هم الذي ينتفعون بالذكرى، فهم إذا ذكِّروا ذكروا، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المؤمن خلق مفتناً تواباً نسياً، إذا ذُكِّر ذكر) يعني: معرضاً للفتنة والابتلاء والامتحان، (تواباً نسياًَ) يعني: كثير التوبة والنسيان، فتأتي الذكرى لتجدد عهد القلب بنصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة، ليعود إلى الجادة ويجدد العهد مع الله سبحانه وتعالى.
ولا شك أن اللسان من أكبر الجوارح التي تحتاج إلى أن تلجم وأن تكبح عن الاسترسال في هذه الآفات المهلكات.
فقول الله تبارك وتعالى هنا: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]، يعني: إن كرهتم أكل لحم الإنسان الميت طبعاً فاكرهوه شرعاً، فإن عقوبته أشد، يعني: هل منكم ذو فطرة سليمة وطبع مستقيم يقبل أن يأتي إلى جثة أخيه وهو ميت، فيقطعها ويأكل منها؟! هل يحب أحد منكم بطبيعته وفطرته أن يقبل من يفعل هذا؟! لا شك أن
الجواب
لا يوجد إنسان سوي الفطرة يقبل أن يأكل لحم أخيه وهو ميت.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما ضرب الله سبحانه وتعالى هذا المثل للغيبة؛ لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر، وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيحة في النفوس.
وقال قتادة في تفسير الآية: كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً كذلك يجب أن يمتنع من غيبته حياً.
ولم يقل: أيحب أحدكم أن يغتاب أخاه فكرهتموه، وإنما قال: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا)، وهذه عادة العرب الجارية في التعبير عن الغيبة بأكل اللحم، يقول الشاعر: فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً(66/2)
تعريف الغيبة
بين النبي صلى الله عليه وسلم حد الغيبة المحرمة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هل تدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) أخرجه مسلم وغيره.
وهنا وضع النبي صلى الله عليه وسلم حداً فاصلاً للغيبة: (هل تدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم)، وهذه عادة الصحابة في تأدبهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ذكرك أخاك بما يكره)، وذكرك أخاك المسلم بما يكره، إما أن يكون باللسان، أو ما يقوم مقام اللسان، كحركة العين فيغمز بعينه، ويشير بيديه، ويكتب بقلمه، ويخرج لسانه، فأي شيء يقوم مقام اللسان في الغيبة فهو يدخل في قوله: (ذكرك أخاك بما يكره).
قوله: (قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟) يعني: استوضح بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: هل من الغيبة أنني أذكر أخي بشيء يكرهه، ولا أفتري عليه، إنما هو شيء فيه؟ وهذا لا يزال يقال حتى اليوم، رغم أن هذا منذ أكثر من أربعة عشر قرناً وضحه النبي صلى الله عليه وسلم، لكننا لا نزال نجد من الناس من يذكر نفس هذه الشبهة، فيقول: هذا شيء موجود فيه، وأنا لا أفتري عليه، أو يقول: أنا مستعد أن أواجهه بهذا؛ ليدفع عن نفسه صفة المغتاب.
إذا كنت ستواجهه بهذا ستنتقل من وزر الغيبة إلى وزر أذية أخيك المسلم؛ لأنك سوف تواجهه بما يؤذيه، فلم تخرج أيضاً من الأذية، فالفارق أن هذه أذية في غيبته، وهذه أذية في مواجهته، وكلها أذية، فقول بعض الناس الذين يلبس عليهم الشيطان في هذا الأمر: أنا مستعد أن أواجهه بهذا! أنا مستعد أن أقول هذا أمامه! نقول: هذه غيبة في غيبته، أما في حضوره فهذه أذية للمسلم حينما تذكره بما يكره.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ذكرك أخاك بما يكره قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) يعني: إن كنت تذكره من وراء ظهره بشيء ليس فيه فهذا بهتان أشد من الغيبة؛ لأنه كذب وافتراء.
وروي (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل: ما الغيبة؟ قال: أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع)، وفي بعض الألفاظ: (الغيبة: أن يذكر الرجل بما فيه من خلقه)، وفي بعض الروايات: (ما كنا نظن أن الغيبة إلا أن يذكره بما ليس فيه، قال: ذلك من البهتان).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقالوا: لا يأكل حتى يطعم، ولا يرحل حتى يرحل له) يعني: أنه لا يعتمد على نفسه، فوصفوه بالكسل أو بالضعف، حتى إنه لا يتولى أمور نفسه وإنما يتولاها له غيره، وإذا أراد أن يركب الجمل أو الدابة فإنه لا يضع الرحل والأشياء التي يركب عليها، وإنما لابد أن يخدمه الآخرون.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم فوراً لما سمعهم يقولون ذلك: (اغتبتموه، فقالوا: يا رسول الله! حدثنا بما فيه -أي: ذكرناه بشيء هو فيه- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه) يعني: يكفيك من الإثم والوزر أن تذكره بما فيه - مما يكرهه.
قال الراغب: الغيبة أن يذكر الإنسان عيب غيره من غير محوج إلى ذكر ذلك، يعني: بدون سبب يحوجه إلى أن يذكر ذلك؛ لأن هناك حالات يجوز فيها أن يذكر الإنسان بما فيه.
وقال ابن الأثير: الغيبة: أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه.
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى تبعاً للغزالي: الغيبة ذكر المرء بما يكرهه، سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خَلقه أو خُلقه أو ماله أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز.
فكلما يمس المسلم وعرضه فإنه يدخل في حد الغيبة، أن تذكره بما يكرهه، ليس فقط في نفسه، وإنما في أي شيء يختص به في شكله بدنه دينه دنياه خُلقه ملابسه طريقة كلامه طريقة مشيته أولاده زوجته بيته دابته سيارته ثيابه حركته عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق بالشخص، فالتعرض بذكره سواء باللفظ الصريح أو بالإشارة أو بالرمز كله من الغيبة؛ لأن هذا انتهاك لعرض المسلم، والعرض لفظ أوسع بكثير مما يظن بعض الناس؛ لأن بعض الناس يتصور أن العرض هو ما يتعلق بالتعفف عن الفواحش كالزنا ونحو ذلك، لا، العرض هو كل موضع قابل للذم أو المدح في الإنسان، فأي شيء فيك يقبل المدح والذم فهو عرضك، مثل الأمثلة التي ذكرناها.
وتحريم النيل من عرض المسلم أصل شرعي متين معلوم بالضرورة من دين الإسلام، وحفظ العرض أحد الضروريات الخمس التي شرعت من أجلها الشرائع، فمن مقاصد الشريعة العليا حفظ العرض، وقد خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مجمع يزيد على مائة ألف نفس من صحابته الأبرار في حجة الوداع، فقال في هذه الخطبة: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟!) والأعراض: جمع عرض، وهو موضع المدح والذم من الإنسان، سواء كان في نفسه أو في سلفه أو من يلزمه أمره، وقيل: هو جانبه الذي يكون من نفسه وحسبه، ويحامي عنه أن ينتقص ويثلب.(66/3)
الأدلة الواردة في تحريم غيبة المسلم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه).
ونظر عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يوماً إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة منك.
وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: (يا رسول الله! إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها) يعني: هي مشهورة جداً بالاجتهاد بكثرة الصلاة والصيام والصدقة، لكنها تفعل ذنباً واحداً فقط مع كثرة الصلاة والصيام والصدقة، قال: (غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال صلى الله عليه وسلم: هي في النار، قال: يا رسول الله! فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها تتصدق بالأثوار من الأقط -وهي قطع من الأقط وهو اللبن المجفف- ولا تؤذي جيرانها بلسانها، فقال: هي في الجنة).
وعن سفيان بن حسين قال: كنت عند إياس بن معاوية وعنده رجل تخوفت إن قمت من عنده أن يقع في، قال: فجلست حتى قام، فلما ذكرته لـ إياس فجعل ينظر في وجهي فلا يقول لي شيئاً حتى فزعت! يعني: جعل يحدق فيه ويستغرب كيف أنه تجرأ أن يتكلم على أخيه بعدما قام من المجلس، فانزعج من ذلك جداً، فقال لي: أغزوت الديلم؟ قلت: لا، قال: فغزوت السند؟ قلت: لا، قال: فغزوت الهند؟ فقلت: لا، قال: فغزوت الروم؟ قلت: لا، قال: فسلم منك الديلم والسند والهند والروم ولا يسلم منك أخوك هذا! فلم يعد سفيان إلى ذلك، يعني: تاب من أن يتكلم في أحد.
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)، ولا شك أن هذه الضمانة الجسيمة لا تعلق إلا على أمر عظيم عند الله سبحانه وتعالى، فضمان الجنة لا يكون إلا على شيء عظيم جداً ولا شك أن أعظم ما يهلك الناس هما الأجوفان: الفم والفرج، ولذلك قال النبي عليه السلام: (من تزوج فقد أعانه الله على على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني) أو كما قال، فنصف النجاة في الفرج، والنصف الآخر في اللسان، فمن استقام له هذان ضمن له النبي صلى الله عليه وسلم الجنة، فلا يمكن أن تعلق هذه الضمانة الجسيمة إلا على أمر عظيم عند الله سبحانه وتعالى.
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: لا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأن من اغتاب أحداً عليه أن يتوب إلى الله عز وجل.
وقال الفقيه الشافعي ابن حجر الهيتمي رحمه الله: كل منهما -أي: الغيبة والنميمة- حرام بالإجماع، وإنما الخلاف في الغيبة هل هي كبيرة أو صغيرة، ونقل الإجماع على أنها كبيرة، وقال آخرون: محله إن كانت في طلبة العلم وحملة القرآن، وإلا كانت صغيرة، يعني: أن بعض العلماء قالوا: إنها تكون كبيرة إذا كانت الغيبة في حق طلبة العلم أو حملة القرآن العظيم، وإن كانت في غيرهم فهي صغيرة.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: (حبسك من صفية كذا وكذا)، يعني: هي تشير بيدها تريد أن تقصد أنها قصيرة، فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)، هذه كلمة خلطت بماء البحر لتعكر منها ماء البحر، فهذا يدل على أن الغيبة من الذنوب التي يقول الإنسان فيها كلمة لا يلقي لها بالاً قد تهوي به في النار سبعين خريفاً، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أتدرون ما هذه الريح؟! هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين) وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فهبت ريح منتنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين)، فلو كشفت الحجب، وشمت ريح الذين يقعون في الغيبة؛ لظهرت منهم هذه الرائحة التي ظهرت في ذلك الوقت.
وفي رواية أخرى عن جابر رضي الله عنه قال: (هاجت ريح منتنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ناساً من المنافقين اغتابوا ناساً من المسلمين فبعثت هذه الريح لذلك).
وقد يعرض
السؤال
إذا كان في عصر النبي عليه الصلاة والسلام ظهرت هذه الريح وتبينت، فما الحكمة في أن ريح الغيبة ونتنها كانت تتبين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتبين في يومنا هذا؟!
الجواب
لأن الغيبة كثرت الآن، وامتلأت الأنوف منها فلم تتبين للأنوف نتنها، ومثال هذا لو أن رجلاً دخل دار الدباغين الذين يدبغون الجلد، فإنه لا يقدر على القرار فيها من شدة الرائحة، وأهل تلك الدار يأكلون فيها الطعام ويشربون الشراب، ولا تتبين لهم الرائحة؛ لأنه قد امتلأت أنوفهم منها، وكذلك الغيبة في عصرنا شاعت جداً، فالناس يشتركون في تنفس الهواء المسموم، فما يكادون يحسون بنتن الغيبة.
وعن أبي برزة الأسلمي والبراء بن عازب رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولما يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)، يعني: كما أنه يتتبع عورات الآخرين يفضحه الله ولو في جوف بيته؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: (بينما أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي ورجل على يساره، فإذا نحن بقبرين أمامنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، وبلى) أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن هذين الرجلين الميتين المدفونين يعذبان في قبريهما، فقال: وما يعذبان في شيء يكبر عليها أن يحترزا منه، بل هو بسبب معصية كانا يرتكبانها، وكان يسهل عليهما جداً أن يحترزا منها، ولم يكن يشق عليهما تركها؛ لأن الإنسان إذا نهي عن شيء فإنه قد لا يشق عليه تركه، وقد يفرض على الإنسان أن يترك بعض المعاصي كالمستلذات من الشهوات أو المطعومات أو المشروبات ويشق عليه تركها؛ لأنها مستلذة، فمن المنهيات ما يشق تركه كالمستلذات، ومنها ما ينفر الطبع منه كالسموم والنجاسات، فهذه الأشياء الإنسان ينفر منها بطبعه، ومن المنهيات التي لا يشق على الإنسان تركها: الغيبة، قال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) قال بعض العلماء: يعني: في كبير في زعمكم أنتم، تحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم، ففي نظركم تستحقرون هذا الذنب، لكنه عند الله كبير وعظيم.
وقوله: (بلى) يعني: حقاً إنه كبير يعاقب الله عليه، وقد عاقبهما سبحانه في القبر بعد موتهما بسبب هذين الذنبين، ثم قال: (فأيكم يأتيني بجريدة؟! فاستبقنا فسبقته، فأتيته بجريدة فشقها نصفين، فألقى على ذا القبر قطعة، وعلى ذا القبر قطعة، قال: إنه يهون عليهما ما كانتا رطبتين، وما يعذبان إلا في الغيبة والبول) والغيبة معروف معناها، والبول المراد به: أنه كان لا يستنزه من البول، وكان يهمل أمر التطهر من البول.
وعن جابر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً: (أما أحدهما فكان يغتاب الناس، وأما الآخر فكان لا يتأذى من البول).
وصح عن قتادة رضي الله عنه قال: (ذكر لنا أن عذاب القبر ثلاثة أثلاث، ثلث من الغيبة، وثلث من البول، وثلث من النميمة).
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس -يعني: أظفار نحاسية- يخمشون -يعني: يخدشون ويعذبون أنفسهم- يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل -يعني: غاب عن المجلس- فوقع فيه رجل من بعده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تخلل -من التخلل وهو استعمال الخلال لإخراج ما بين الأسنان من بقايا الطعام- فقال: ومم أتخلل وما أكلت لحماً؟ قال: إنك أكلت لحم أخيك).
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه مر على بغل ميت فقال لبعض أصحابه: لأن يأكل الرجل من هذا حتى يمتلئ بطنه، خير من أن يأكل لحم رجل مسلم.(66/4)
تحذير السلف من آفة الغيبة
الغيبة ضيافة الفساق كما قال بعض السلف، الضيافة هي ما يقدم للضيف، فالفساق يقدم بعضهم لبعض في المجالس لحوم الناس ليأكلوها بدل المشروبات والأطعمة.(66/5)
كلام إبراهيم بن أدهم رحمه الله في ذم الغيبة
عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله أنه أضاف ناساً، فلما جلسوا على الطعام جعلوا يتناولون رجلاً؛ فقال إبراهيم: إن الذين كانوا قبلنا كانوا يأكلون الخبز قبل اللحم، فأنتم بدأتم باللحم قبل الخبز، يشير إلى قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات:12]، فبدل أن يبدءوا بالخبز بدءوا أولاً بلحم الناس بغيبتهم.
وعن ابن سيرين: أنه ذكر الغيبة فقال: ألم تر إلى جيفة خضراء منتنة؟ هكذا يكون المغتاب.(66/6)
كلام سفيان الثوري في ذم الغيبة
عن محمد بن عبيد الطنافسي قال: كنا عند سفيان الثوري فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله! أرأيت هذا الحديث الذي فيه: (إن الله ليبغض أهل البيت اللحميين)، وهذا ليس حديثاً مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ولعلها كلمة أو مثل شائع بين الناس، قال: هل هم الذين يكثرون أكل اللحم؟ قال: سفيان: لا، هم الذين يكثرون أكل لحوم الناس، هؤلاء هم اللحميون.
وسمع علي بن الحسين رجلاً يغتاب آخر فقال: إياك والغيبة! فإنها إدام كلاب الناس.
وعن عبد العزيز بن أبان أن سفيان الثوري رحمه الله قال: إياك والغيبة! إياك والوقوع في الناس فيهلك دينك.
وسئل بشر بن الحارث عمن يغتاب الناس، أيكون عدلاً؟ قال: لا، إذا كان مشهوراً بذلك فهو الوضيع.
وقال الفضيل: سمعت سفيان يقول: لأن أرمي رجلاً بسهم أحب إلي من أن أرميه بلساني.(66/7)
كلام الحسن البصري في ذم الغيبة
قال الحسن: والله للغيبة أسرع في دين المؤمن من الأكلة في جسده، يعني: أن الغيبة أسرع في إفساد دينه من الأكلة إذا ضربت جسده، وهي تآكل في الجسد، والغيبة تكون بالقول، وتكون بغيره.(66/8)
كلام الإمام الغزالي في كل ما يدخل في الغيبة
يقول الغزالي رحمه الله تعالى: الذكر باللسان إنما حرم؛ لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكره، يعني: الغيبة هي: ذكرك أخاك بما يكره، ويكون ذلك باللسان أصلاً، لكن قد يقوم غير اللسان مقام اللسان في توصيل هذه الرسالة، وهي انتقاص أخيك أو ذكره بما يكره، فسر تحريمها باللسان أن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك، وفيها تعريفه بما يكره، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول مثل الإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة، فكل ما يفهم منه المقصود داخل في الغيبة وهو حرام.(66/9)
كلام الإمام النووي في ذم الغيبة وضابطها
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: إن الغيبة ذكرك الإنسان بما يكره، سواء ذكرته بلفظك أو في كتابتك، أو رمزت أو أشرت إليه بعينك أو يدك أو رأسك، وضابطه: كل ما أفهمت به غيرك نقصان مسلم فهو غيبة محرمة، ومن ذلك المحاكاة، وهي: أن يقلده في مشية أو حركة أو في طريقة كلامه، فالمحاكاة كأن يمشي متعارجاً أو مطأطئاً أو على غير ذلك من الهيئات، مريداً بذلك حكاية هيئة من يتنقصه، فكل ذلك حرام بلا خلاف، وقد يحمل بعض الشباب الترفيه عن أنفسهم على مثل هذه الأشياء، فتجده يقلد شيخاً معيناً أو يقلد خطيباً في حركته أو طريقة صوته، ويقصد بذلك الاستهزاء، فهذا من الغيبة المحرمة، وهذا في طلبة المدارس والجامعات شائع جداً، كسخرية الطلبة من أساتذتهم، وهو من سوء الخلق ومن نكران المعروف الذي يسديه إليه أستاذه، حتى الذي يعلمك علماً دنيوياً له حق عليك، ولا ينبغي الاشتغال بغيبته.
وبعض الناس عندهم هواية نقد الخطباء، فبمجرد أن يخرج من صلاة الجمعة يبدأ في الغيبة، مع أن الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما، فتكون أول القسيمة غيبة خطيب الجمعة، فيبدأ الأسبوع بالغيبة؛ والمفروض أن صلاة الجمعة تقوي عنده شحنة الإيمان والورع بعد خطبة الجمعة، لأنه سيبدأ يعد نفسه إلى الأسبوع الآتي، فلما يكون العد بادئاً بمصيبة الغيبة، إذاً بعدها بيوم ويومين سيعمل أعظم من ذلك، فالمفروض أن الإنسان بعد صلاة الجمعة يكون في أعلى درجات الاستعداد للاحتراز عن المعاصي؛ لأنه مازال أمامه أسبوع، فينبغي أن يكف الإنسان عن مثل هذا؛ لكن هناك هواية عند بعض الناس وهي النقد وغيبة الخطباء والكلام عليهم بمجرد ما يخرج من الخطبة، فهذا بلا شك مما لا ينبغي.
يقول الإمام النووي رحمه الله: ومن ذلك إذا ذكر مصنف كتاب بعينه غمزة في كتابه قائلاً: قال فلان: كذا، مريداً تنقصه والشناعة عليه، فهذا حرام، يعني: إذا كان يريد التنقص والتشنيع، لكن إن أراد بيان غلطه وبيان الحق، لا التشنيع، حتى لا يقلد، أو ليبين ضعفه في العلم، حتى لا يغتر به ويقبل قوله؛ فهذا ليس بغيبة، بل نصيحة واجبة يثاب عليها إذا أراد ذلك.
وإذا قال المصنف أو غيره: قال قوم أو جماعة كذا، أو هذا غلط أو خطأ أو جهالة وغفلة ونحو ذلك؛ فليس بغيبة؛ لأن الغيبة ذكر الإنسان بعينه، أو ذكر جماعة معينين.
ومن الغيبة المحرمة قولك: فعل بعض الناس كذا أو بعض الفقهاء أو بعض من يدعي العلم أو بعض المفتين أو بعض من ينسب إلى الصلاح أو يدعي الزهد، فإذا كان المخاطب الذي تخاطبه يفهم من الذي تقصده فهذه غيبة، وكأنك عينت اسمه، وهذا من الذي تقصده، فهذا من ذكرك لهذا الشخص بما يكره، وإن لم تذكره باسمه، لكونك ذكرت من صفاته ما يجعله متعيناً عند المستمعين.
ومن ذلك غيبة المتفقهين والمتعبدين، فإنهم يعرضون بالغيبة تعريضاً يفهم به كما يفهم بالصريح، فهو يؤدي إلى نفس الغاية، وهي التنقض وذكر المسلم بما يكرهه، فمثلاً يقال لأحدهم: كيف حال فلان؟! فيقول: الله يصلحنا، الله يغفر لنا وله، ربنا يصلحه، نسأل الله العافية، والظاهر أنه يريد الورع والتحرر من الغيبة من عدم التصريح في تنقصه، والظاهر أنه أيضاً يدعو له، لكن في الحقيقة هذه غيبة؛ لأنه يقصد بقوله: ربنا يعافينا، ربنا يكفينا شر الدنيا، ونحو ذلك؛ التنقص لأخيه المسلم.
فينبغي الاحتراز؛ لأن الشيطان يلبس على العباد الذين ليس عندهم علم بهذه الطريقة، فيغتاب بقوله: الله يصلحنا، الله يغفر لنا، الله يصلحه، نسأل الله العافية، نحمد الله الذي لم يبتلينا بالدخول على الظلمة، الله يعافينا من قلة الحياء.
هو يسأل: كيف فلان؟ ما أخباره؟ فيقول: الله يتوب علينا، وهو ما اغتابه في الظاهر، لكنه يقصد بذلك التنقص، وما أشبه ذلك مما يفهم منه تنقصه، فكل ذلك غيبة محرمة، وكذلك إذا قال: والله كلنا مذنبون وكلنا مقصرون، فهو يريد أن يعمم من أجل أن يخفف الجريمة، لكن بلا شك أنه قد أوصل رسالة في ذم أخيه، وبيان أنه سيئ، ومثله أن يقول: والله نحن كلنا بشر، وكلنا مبتلون كما ابتلي فلان، ويظن أنه عندما يتكلم بهذه الصيغة يخفف من جريمته، أو يقول مثلاً: كلنا نفعل هذا الشيء، وهذه أمثلة، وإلا فضابط الغيبة تفهيمك المخاطب نقص إنسان.(66/10)
كلام شيخ الإسلام في ذم الغيبة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره، يعني: يجلس في مجلس فيساير أهل المجلس، ولا يريد أن يخالفهم فتحصل بينه وبينهم الوحشة، فيساير الناس ويوافقهم كالإمعات، يكون مع الناس حيث كانوا، إن أساءوا يسيء معهم، وإن أحسنوا يحسن معهم، فهو تابع وذيل وموافق ومساير لما عليه أهل المجلس، فلا يريد أن يوحشهم بترك المشاركة في هذه الوليمة التي هي ضيافة الفساق.
يقول شيخ الإسلام: فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون، أو فيه بعض مما يقولون، لكن يرى أنه لو أنكر عليهم قطع المجلس، واستثقله أهل المجلس ونفروا منه، فيرى موافقتهم من حسن المعاشرة وطيب المصاحبة، وقد يغضبون فيغضب لغضبهم ويخوض معهم، ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى، تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير، ولا أحب الغيبة ولا الكذب، لكن أنا أخبركم بأحواله.
وهذه المقدمة لا تغني عنه شيئاً؛ لأنه بالفعل سيتورط في الغيبة، فيقول مثلاً: والله هذا مسكين، والله هذا رجل جيد، ولكن يفعل كذا وكذا، أو فيه كيت وكيت، وربما يقول: دعونا منه، ما نحب ذكر سيرة الناس، الله يغفر لنا وله، وهذه العبارة تفهم أيضاً التنقيص والاستنقاص وهضم جناب أخيه، فيخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة، يخادعون الله بذلك! يقول شيخ الإسلام: وقد رأينا منهم ألواناً كثيرة من هذا وأشباهه، ومنهم من يرفع غيره رياءً، يعني: يتصنع إبداء الشفقة والرحمة على أخيه، ففي الظاهر يبين لك أنه مشفق عليه، لكن هو يريد اغتيابه، ثم يتصنع بالدعاء له عند إخوانه، ومن ذلك قوله: فلان حبيب! فلان طيب! أو طيب القلب! وهو يقصد بكلمة طيب أنه مغفل، والسياق يبين ذلك، وأحياناً يقولون: درويش، ويريد أنه يخدع بسرعة، فكلمة: قلبه طيب قد تكون مدحاً، لكن أحياناً السياق يوحي أنه يراد بها أنه يستغفل.
يقول شيخ الإسلام: ومنهم يرفع غيره رياء، فيرفع نفسه فيقول: لقد دعوت البارحة في صلاتي لفلان، وأنا كنت أدعو له بالأمس في الثلث الأخير، وفي السحر دعوت لفلان لما بلغني عنه كيت وكيت، والذي يفعل كذا وكذا، فهو في الحقيقة يرفع نفسه، وفي الظاهر أنه يتكلم كلاماً طيباً، لكن هو يرفع نفسه ويرائي ويجهر بعمل السر، وعمل السر لا يجهر به.
يقول مثلاً: في ثلث الليل الأخير من صلاتي دعوت لفلان؛ لأنه يفعل كذا وكذا، والظاهر أنه يريد له الخير، لكن هو يريد أن يرفع نفسه، ويضع أخاه ويحقره أو يقول: فلان بليد الذهن قليل الفهم، ومعنى هذا أن المتكلم أكثر ذكاء وأعلم وأفضل منه.
يقول شيخ الإسلام: ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة، فيجمع بين أمرين قبيحين: الغيبة والحسد، وإذا أثني على شخص في حضوره أزال عنه ذلك بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح، أو في قالب حسد وفجور وقدح ليثبت ذلك عنه.
يعني: هو يغتاب لينفس عن الحسد الذي يملأ قلبه على خلق الله سبحانه وتعالى، والحسد خلق لا يمكن أن يجتمع مع الإيمان، فالمؤمن لا يمكن أن يحسد، فالحسد قرين الكفر، فهو من أخلاق الكافر، خاصة إذا كان في أمور الدين، فهذا من أقبح أنواع الحسد.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق) ليس هذا هو الحسد المذموم، وإنما المقصود به الغبطة، وهي أن تتمنى مثل ما لأخيك من الخير، فهذا لا حرج فيه، فهو جائز، أما الحسد: فهو أن تتمنى زوال نعمته، فالحاسد عدو نعم الله سبحانه وتعالى، ولا يرضيه من أخيه إلا أن تزول عنه نعم الله عز وجل.
وإن كان الحسد قبيحاً في حق من يتنافسون على الدنيا فإنه ليس له أي مسوغ أو مبرر فيما بين أهل الدين وطلبة العلم، ونحن نسمع عن بعض طلبة العلم الديني فضلاً عن العلم الدنيوي صدور نوع من الأنانية الغريبة، والتحاسد في طلب العلم، وطلب العلم إنما يراد به النجاة في الآخرة، والجنة واسعة جداً، وفسيحة تسع كل خلق الله سبحانه وتعالى، بل سيبقى فيها أماكن زائدة، فيخلق الله سبحانه وتعالى خلقاً يملئونها، فهي أكبر مما نتخيل قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] هذا عرضها فما بالك بطولها، فالجنة واسعة، فيقبح بالمؤمن أن يحسد أخاه في الدين، فعليك أن تخرج كل الناس من الظلمات إلى النور بما تستطيع، وتزيدهم في الطاعات، فالعجيب جداً أن يوجد بعض أنواع من التحاسد في الدين، وخاصة بين طلبة العلم، فمثلاً: شخص يقف على كتاب مهم يخبئه ولا يظهره لإخوانه! لا يجوز هذا، تأملوا قول الله سبحانه وتعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]، وغيرها من الآيات التي يعاتب الله عز وجل فيها نبيه صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه على إيمان الكفار، وشدة حزنه على عدم استجابتهم، حتى كاد أن يموت من الحسرة والحزن عليهم {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]، وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] ومثال هذا كشخص يريد أن يودع أحب إنسان إليه وقد ركب القطار، ثم بدأ القطار يتحرك ليسافر بهم سفراً بعيداً، فهو يريد أن يتحدث مع هذا الشخص الذي هو أحب إنسان إليه، ابنه أو أخاه أو صديقه، فإذا بالقطار يتحرك وهو يمشي معه، ويتبعه على آثارهم، ولا يريد أن يستسلم، وإلى آخر فرصة يحاول أن يسلم عليه أو يوصيه بوصية أو يعطيه متاعاً، ولا يفارقه بسرعة، فيظل يجري مع القطار من الخارج، فهذه صورة قريبة جداً تبين شفقة النبي عليه السلام وعاطفته تجاه الكفار وصناديد الكفر الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] يعني: هم يمشون وأنت تجري وراءهم، وتتحسر وتحزن، وتحريص على أن تجتذبهم إلى الإيمان، وهم ينفرون منك، وأنت تتبعهم وتغتنم كل فرصة ممكنة، وتجري وراءهم (على آثارهم)، وتكاد تهلك من الحزن والحسرة والأسف؛ لأنهم لم يؤمنوا، فالله سبحانه وتعالى دائماً يواسيه، ويأمره أن يخفف عن نفسه حتى لا يهلك نفسه حسرة على هؤلاء الكفار، لأنه يدعوهم إلى الجنة والنجاة! فيجب أن تفرح لأخيك إذا كان مجتهداً في الطاعات، وإذا ازداد من طلب العلم، وإذا كان عندك بحث أو كتاب أو مرجع أو أي شيء يعينه على طلب العلم، فعليك أن تبذله له ابتداء فضلاً عن أن يطلبه منك فتخبئه أو يأتي شيخ عنده أسانيد وكذا وكذا فيخفي أمره! فبعض الشباب يجدون شيخاً في مكان فيسكتون حتى لا يعلم باقي إخوانهم بدروس الشيخ، فيأتون ويسمعون منه الحديث ويتعلمون منه العلم، فهذه نفسية أناس يريدون الدنيا، فالذي يريد الآخرة لا يحسد في العلم أحداً حسداً مذموماً، والذي يفعل هذا هو يريد الرياء، ويريد السمعة والجاه، وهذه كلها من أعراض الدنيا، فهذا طالب دنيا وليس بطالب علم شريف، فطالب العلم الشرعي يؤثر إخوانه بالعلم، ويبذل لإخوانه النصح، ويحرص على ما ينفعهم.
ونحن نرى كثيراً من هذه الأخلاق في بعض التجمعات الطلابية لاسيما في غير العلوم الشرعية، في طلبة الكليات أو البحوث والدراسات، فيحصل عندهم نوع من التنافس والحسد، فيخبئ أحدهم شيئاً من الملخصات والبحوثات عن إخوانه! فهذه النفسيات الغربية العجيبة لا يمكن أن تكون تأدبت ولا تهذبت بأخلاق وآداب الإسلام، قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، فإن كان هذا قبيحاً في طلاب علوم الدنيا فهو أقبح وأشر في طلاب علوم الآخرة والجنة، فالذي يريد الجنة يحب الجنة لكل الناس.
أما الذي يحسد ويحب زوال النعم على الناس فهذا لا يمكن أن يكون مجداً للآخرة، هذا طالب دنيا، وإنما يتستر وراء الدين، لكن هو في الحقيقة يريد الدنيا، فإن كنت صادقاً في حب الله وحب رسوله فينبغي للصادق أن يحب أن يكون كل الناس طائعين لله، وكل الناس مقيمين للصلاة، وكل الناس يتعلمون العلم الشرعي ويستفيدون منه.
فمريد الآخرة يبذل ويضحي ويؤثر على نفسه، ويحب أن يكون كل الناس مطيعين لله عز وجل، لا أن يحسد أو يخبئ عن إخوانه أمور الآخرة، هذه إشارة عابرة فيما يتعلق بوباء الحسد بين بعض الفئات القليلة من طلاب العلم الشرعي.
يقول شيخ الإسلام: ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة فيجمع بين أمرين قبيحين الغيبة والحسد، وإذا أثني على شخص في مجلس لا يتحمس، ولابد أن يدفع هذا الإحسان وهذا الثناء بأي صورة من صور التنقص، ويأتي بها في قالب دين وصلاح: نسأل الله العافية، هو رجل طيب، لكن كذا وكذا وكذا، أو لا يستطيع أن يخرجه من قالب دين وصلاح فيأتي به في قالب حسد وفجور وقدح ليسقط عنه ثناء الناس.
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر ولعب ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به.
وهذا خلق سيء لا يليق بالمسلم أبداً، لاسيما مع المدرسين، والآن يعتبرون أن هذا الموضوع جائز، وليس فيه أي ذنب، فيسخر منه وكأنه يشرب كوباً من الماء، وكأن المدرس ليس له أي حرمة، وإنما جريمته أنه مدرس يعلمه وينفعه، فما يكاد يشعر أحد بأن هذا إنسان مسلم محترم له حرمة، ويجب أن يصان عرضه، ولا ينبغي أن يقابل الإحسان بالإساءة، حتى لو كان يعلمه علوماً دنيوية مباحة فلا ينبغي أن يقابل هذا الإحسان بالغيبة، فنجد التنقص الشديد للمدرسين، والاستهزاء بهم أو تقليدهم ومحاكاتهم، وهذا تعرفونه جميعاً.
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، فيقول: تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت! ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت! وكيف فعل كيت وكيت! فيخرج الغيبة في معرض التعجب.
ومنهم من يخرج الغيب(66/11)
كلام الحارث المحاسبي في ذم الغيبة
يقول الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى: إن علم إبليس أنك حذر خائف في كثير من أحوالك، لم يبدأ صاحبك بالتزين له بالغيبة والكذب، إن علم أنك من ذلك نافر وله مجانس، ولكن يدعكما أنت وصاحبك، مادام أنكما لا تريدان أن تتكلما في الغيبة، حتى إذا ذكرتما الله عز وجل، واستأنست قلوبكما، زين لكما فضول الكلام والراحة إلى الدنيا، فإذا خضتما في ذلك زين لكما الغيبة، فإن كنتما من الخائفين في كثير من أموركما أجرى الغيبة من قبل الغضب لله عز وجل أو التعجب أو الإنكار أو التوجع لمن تغتابانه.
وهذه فتنة شائعة خاصة في أهل الدين، وهي إظهار الغيبة بحجة أنه يغضب لله عز وجل، فيقول: هذه غيرة على الدين، والغيبة جائزة في ستة أحوال وهي كذا وكذا وكذا، وهو يقصد به التشفي! فمشكلتنا أننا دائماً نبدأ من حيث انتهى الشرع، أقصى منطقة يؤاخذ فيها الشرع تكون بالنسبة لنا نقطة تشريع، وننطلق بعدها إلى بعيد جداً عن حدود الشرع، فالنصيحة للإخوة عموماً ترك الغيبة، وبعض البلاد قد اكتوت بنيران هذه الفتن، فحصدت الدين وحلقته كما تحلق الرءوس، يدخل لهم الشيطان من هذه الثغرة، فيقولون: نحن نغضب للمنهج والدفاع عن السلفية، والرد على أهل البدع إلى غير ذلك من هذه التزيينات الشيطانية، ويصبح من هذه الثغرة ينطلق الشيطان يفعل مفعوله، والذي لا يستطيع أن يضبط لسانه ولا قلمه فننصحه أن يكف وينسى أن هناك رخصاً في الغيبة؛ لأن مشكلتنا أننا أصلاً متمادون في هذا الذنب، ومترخصون فيه جداً، فينبغي الحذر من ذلك، وعدم الإنصات لمن يدعون أنهم يدافعون عن المنهج، وأنهم يدافعون عن كذا وكذا، وهم بسلوكهم إنما يقصدون تنقص خلق الله سبحانه وتعالى.(66/12)
مستمع الغيبة والمغتاب مشتركان في الإثم
مستمع الغيبة والمغتاب شريكان في الإثم، فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو ماعز - فشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات يقول: أتيت امرأة حراماً، وفي كل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فذكر الحديث إلى أن قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني) ومعروف أنه إذا بلغ الحد الإمام فلا رجوع فيه، وهنا
السؤال
من أتى ذنباً يستوجب حداً في مثل هذا الزمان الذي لا تقام فيه الحدود إلا نادراً في بعض البلاد، هل يعمل مثل ماعز.
الجواب
لا، حتى لو كان في مجتمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم -الذين هم خير أمة أخرجت للناس-، فلو كانت الحدود تقام فليس على كل من فعل ذنباً أن يذهب إلى الخليفة ويعترف عنده ليقام عليه الحد، بل الواجب عليه أن يستر نفسه حتى في ظل الدولة الإسلامية التي تقيم الحدود، وهو يكافأ إن ستر على نفسه في الدنيا أن يستر الله في الآخرة، فيقرره الله بذنوبه يوم القيامة فيقول له: أتذكر كذا؟ أتذكر كذا؟ فإذا ظن أنه هالك لا محالة، يقول الله سبحانه وتعالى له: (فأنا أسترها عليك اليوم كما سترتها عليك في الدنيا)، فإن الله سبحانه وتعالى حيي ستير يحب الحياء والستر، ومن أعظم ما يحبه أن يستر العبد على نفسه وعلى إخوانه.
فإذا ابتلي الإنسان بشيء من هذه المعاصي أو القبائح فينبغي أن يستر على نفسه ولا يحدث بذلك أحداً، وقد جاء في الحديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون)، والمجاهرون هم الذين يأتي أحدهم الذنب بالليل فإذا أصبح يهتك ستر الله عليه ويقول: قد فعلت كيت، ويحكي للناس ما فعل، فهذا يعاقب بأن الله لا يغفر له ولا يعافيه؛ لأنه ضاد الله فيما يحبه، فالله ستير يحب الستر، وفي الحديث: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، فينبغي الاهتمام بهذا الأمر، حتى ولو في ظل دولة الخلافة الإسلامية، فالعاصي غير مطالب بأن يذهب للإمام ويهتك ستر نفسه، لكنه مطالب طلباً أكيداً أن يستر على نفسه، ويرجو رحمة الله وعفوه، وإن جهر بذلك وفضح نفسه فإنه يعاقب، فإذا بلغت توبته إلى هذا الحد، وحرص على أن يطهره الله، وبلغ الإمام ذنبه؛ فلا رجوع في الحد، لذلك لما اعترف ماعز بالزنا أراد النبي عليه السلام أن يدفع عنه ذلك فقال له: (لعلك فعلت كذا أو كذا)، بما هو أخف من الفاحشة، فأقر وصرح تصريحاً لا لبس فيه بأنه أتى بالفعل هذا الحرام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجم فرجم، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظروا إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجِمَ رَجْمَ الكلب! قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر بجيفة حمار شائل برجله -والشائل: هو كل ما ارتفع، والارتفاع ينشأ من التعفن والغازات في داخل أمعاء الحمار فتتراكم فترفع الرجلين، فالعضلات تتصلب، والغازات تدفعه من شدة التعفن- فقال: أين فلان وفلان؟ فقالا: ها نحن يا رسول الله! فقال لهما: كلا من جيفة هذا الحمار، فقالا: يا رسول الله! غفر الله لك، من يأكل من هذا؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة) وقوله: (أشد) بصيغة أفعل التفضيل، فما وجه هذه التفضيل؟ معناه أن الذنب الذي ارتكبتماه بغيبة هذا المسلم الذي أقيم عليه الحد وطهر منه أشد عند الله سبحانه وتعالى من أكل جيفة الحمار المتعفن؛ لأن من يأكل جيفة الحمار لا يكون قد آذى مسلماً، لكن من وقع في الغيبة فقد آذى مسلماً، وانتهك عرضه، وانشغلت ذمته بحقوق العباد، فهذا خير ممن يأكلون لحوم البشر! وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (كلا من جيفة هذا الحمار) فخاطب المتكلم وجليسه، وقال: (ما نلتما)، استعمل صيغة المثنى، مع أن الذي اغتاب كان واحداً، لكن الآخر استمع وأقر ولم ينكر عليه، فهذا نذير خطر؛ وما أكثر ما يجلس الإنسان في مجالس آكلي لحوم البشر! وهذه بلية موجودة حتى في أهل الدين والطاعة، كيف تجلس في مجالس الغيبة وتسكت وتقر، إما أن تزيل المنكر وتنكر على هذا المتكلم وإما أن تترك المكان وتفارقه، وإن كنت لا تقوى على هذين الأمرين فاتق مخالطة الناس ما استطعت، فإن من أكثر المخالطة لا يكاد يسلم في هذا الزمان من الوقوع في الغيبة.
والمغتاب لو أنه في كل مجلس يجد من يزجره أو يهجره ويترك المجلس؛ لانتبه وأحس بجريمته، فإن كان لا يستحي من الله فقد يخشى هجرة الناس إياه، فلو أنه في كل مجلس وجد من يزجره لتوقف عن الغيبة وانتهى عنها، لكن نحن نساعده بالسكوت والإقرار إن لم يكن بالمشاركة والمؤازرة.
إذاً: هذا الحديث دليل على أن الذي يسمع المنكر ويسكت ويقر كمرتكب الجريمة، وكلاهما سواء في الوزر؛ ولذلك قال: (كلا) وقال: (ما نلتما من عرض أخيكما) فنسب الوزر إليهما جميعاً.
ومثله قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:14] هل عقر الناقة كل القبيلة أم واحد؟ هو واحد، لكن الباقون كانوا مقرين وموافقين، فنسب الفعل إليهم أجمعين.
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كانت العرب يخدم بعضهم بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما رجل يخدمهما، فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاماً، فقال أحدهما لصاحبه: إن هذا ليوائم نوم بيتكم -يعني: أن نومه يشبه نوم البيت لا نوم السفر، يريد بذلك أن يعيبه بكثرة النوم، يعني: أنه ينبغي له في حالة السفر أن ينام نوماً خفيفاً ويكمل الرحلة- فلما تأخر عن إعداد الطعام لهما، قال أحدهما لصاحبه: إن هذا ليوائم -يعني: يوافق- نوم بيتكم، فأيقظاه، فقالا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما يستأدمانك -يعني: يطلبان منك الإدام، وهو ما يؤكل مع الخبز- فلما ذهب الرجل الخادم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما يستأدمانك، فقال الرسول رداً عليه: إنهما قد ائتدما، فلما رجع وأخبرهما فزع أبو بكر وعمر وجاءا مسرعين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله! بعثنا إليك نستأدمك، فقلت قد ائتدما، فبأي شيء ائتدمنا؟! قال: بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده! إني لأرى لحمه بين أنيابكما)، وفي رواية: (والذي نفسي بيده! إني لأرى لحمه من ثناياكما، قالا: فاستغفر لنا، قال: هو فليستغفر لكما) يعني: صاحب الحق هو الذي يطلب عفوه، ويستغفر لكما.
فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (قد ائتدما)، وقوله أيضاً: (بين أنيابكما)، وقوله: (هو فليستغفر لكما)، كل هذا يدل على أنهما سواء في الوزر، مع أن الذي تكلم واحد، والآخر لم ينكر عليه.
يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: اعلم أن الغيبة كما يحرم على المغتاب ذكرها يحرم على السامع استماعها وإقرارها، فيجب على من سمع إنساناً يبتدئ بغيبة محرمة أن ينهاه إن لم يخش ضرراً ظاهراً، فإن خافه وجب عليه الإنكار بقلبه، ومفارقة ذلك المجلس إن تمكن من مفارقته، فإن قدر على الإنكار بلسانه أو على قطع الغيبة بكلام آخر لزمه ذلك، فإن لم يفعل عصى، فإن قال بلسانه: اسكت وهو يشتهي بقلبه استمرارها -ويحب أن يزود الكلام ليتشفى، خاصة إذا كان بينه وبينه عداوة، ويقول ذلك نفاقاً؛ لا يخرجه عن الإثم، ولابد من كراهته بقلبه، يعني: لو كان يشتهي الزيادة، فمعنى ذلك أن قلبه يحب المعصية، ومعلوم أن إنكار المنكر بالقلب فرض عين على كل مسلم، لا يعذر فيه أحد أبداً، لكن الإنكار باللسان وباليد أحياناً لا يستطيعه الإنسان، لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، ثم سكت بعده؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، لكن قال: (وذلك أضعف الإيمان)، فلابد أن يكره المسلم الإثم بقلبه، ومتى اضطر إلى المقام في ذلك المجلس الذي فيه الغيبة وعجز عن الإنكار أو أنكر فلم يسمع منه ولم يمكنه المفارقة بطريق؛ حرم عليه الاستماع والإصغاء للغيبة، وفي هذه الحالة طريقه: أن يذكر الله تعالى بلسانه أو بقلبه، ويفكر في أمر آخر ليشتغل عن استماعها، ولا يضره بعد ذلك السماع من غير استماع وإصغاء في هذه الحالة المذكورة، فإن تمكن بعد ذلك من المفارقة وهم مستمرون في الغيبة وجب عليه المفارقة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
وعن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان أنه قال لمولى له: نزه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزه لسانك عن القول به، فإن المستمع شريك القائل: وسمعك صن عن سماع القبيح كصون اللسان عن النطق به فإنك عند سماع القبيح شريك لقائله فانتبه(66/13)
أهمية الاشتغال بعيوب النفس
من الأمور المهمة جداً التي تعين الإنسان على أن ينشغل عن الغيبة ويبرأ منها: أن يشتغل بعيوب نفسه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه) القذى: هو ما يقع في العين أو الماء أو الشراب من التراب أو التبن أو القش أو أي شيء من هذا، هذا هو القذى، ودائماً يكون شيئاً صغيراً، أما الجذع فهو واحد جذوع النخل، وهو كبير بالنسبة للقذى، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: إنك تنشغل بعيب الناس مع أن فيك ما هو أخطر وأشد جسامة من عيب أخيك، فإذا أردت أن تنتقد أخاك في الإسلام، وتدقق حتى ترى منه أدق العيوب وتنتقد من أجلها، ففي عينك الجذع ولا تراه، لكنك تدقق في رؤية عيب أخيك! فالإنسان لنقصه وحب نفسه يتوفر على تدقيق النظر في عيب أخيه، فيدرك عيب أخيه مع خفائه، فيعمى به عن عيب في نفسه ظاهر لا خفاء به، ولو أنه اشتغل بعيب نفسه عن التفرغ لعيوب الناس، لكف عن أعراض الناس وسد الباب إلى الغيبة، ومعروف في علم النفس حيلة الإسقاط، والإسقاط: إنسان يشعر بنقص معين أو هو يعمل ذنباً معيناً فيدافع لا شعورياً عنه، حتى يبرئ نفسه من هذا الذنب، فيرمي به الآخرين، والمولع بذم الناس فيه عيوب، لكن هو لا شعورياًَ يحاول أن يدفعها عن نفسه، وينفيها بأن ينتقص الآخرين، فلو علم ذلك لأدرك أنه إذا أكثر ذم الناس فهو يكشف عن العيوب المستكنة في نفسه.
يقول بعض العلماء: عجبت لمن يبكي على موت غيره دموعاً ولا يبكي على موته دما وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره عظيماً وفي عينه عن عيبه عمى هو أعمى عن عيب نفسه، لكن بصره حاد عندما يريد أن يرى عيوب الآخرين!(66/14)
كلام السلف في الاشتغال بعيوب النفس
يقول الإمام أبو حاتم ابن حبان رحمه الله تعالى: الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس، مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه، فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه ولم يتعب قلبه، فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من عيب أخيه، ومن سنة القتال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة:123]، فابدأ بالعدو الأقرب عن العدو الأبعد، فنفسك التي بين جنبيك هي العدو الأول أو الأقرب إليك، فاجتهد بمجاهدتها أولاً.
يقول: وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه، وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه، وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابهم بما فيه، ومن عاب الناس عابوه، يقول الشاعر: المرء إن كان عاقلاً ورعاً أشغله عن عيوب غيره ورعه كما العليل السقيم أشغله عن وجع الناس كلهم وجعه كما يقول الشاعر أيضاً: لا يشفي كلوم غيري كلومي ما به به وما بي بي الجراح التي في غيرك تؤلمك أكثر أم الجرح الذي في جسدك وفي بدنك؟! جراح غيرك لا تشفي جراحك أنت، وكل بجرحه.
وعن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم ذكروا رجلاً فقال: إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك.
قال أبو البحتري العنبري: يمنعني من عيب غيري الذي أعرفه عندي فوق العيب عيبي لهم بالظن مني لهم ولست من عيبي في ريب إن كان عيبي غاب عنهم فقد أخفى عيوبي عالم الغيب يعني: يمنعني من ذكر غيري بعيوبه ما أعرفه في نفسي من العيوب.
قوله: (عيبي لهم بالظن مني لهم) يعني: عيبي لهم بأشياء مظنونة، لكن أنا على يقين من عيبي إن كنت في حالة ظن من عيوبهم.
وعن بكر قال: تساب رجلان فقال أحدهما: حلمي عنك ما أعرف من نفسي، يعني: الذي يجعلني أحلم وأصبر ولا أرد عليك أنني أعرف من نفسي عيوباً أكثر من التي تعيرني بها.
وقيل للربيع بن خثيم: ما نراك تغتاب أحداً، فقال: لست عن حالي راضياً حتى أتفرغ لذنب الناس، ثم أنشد: لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل ولقي زاهد زاهداً، فقال له: يا أخي! إني لأحبك في الله، قال الآخر: لو علمت مني ما أعلم من نفسي لأبغضتني في الله، فقال له الأول: لو علمت منك ما تعلم من نفسك لكان لي في ما أعلم من نفسي شغل عن بغضك.
قبيح من الإنسان أن ينسى عيوبه ويذكر عيباً في أخيه قد اختفى ولو كان ذا عقل لما عاب غيره وفيه عيوب لو رآها قد اكتفى وعن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة قد غفلها عن نفسه.
وعن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: كنا نحدث أن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس.
وقال الفضيل بن عياض: ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يذكر أحد بخير.
وقال مالك بن دينار: كفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة، وكفى المرء شراً ألا يكون صالحاً ويقع في الصالحين.
وقال أبو عاصم النبيل: لا يذكر الناس بما يكرهون إلا سفلة لا دين له، يعني: غوغاء وأسافل.
لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله ستراً عن مساويك واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحداً منهم بما فيك قال بكر بن عبد الله: إذا رأيتم الرجل موكلاً بعيوب الناس ناسياً لعيبه، فاعلموا أنه قد مكر به.
وسمع أعرابي رجلاً يقع في الناس فقال: قد استدللت على عيوبك لكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها: وأجرأ من رأيت بظهر غيب على عيب الرجال أخو العيوب وقال آخر: شر الورى من بعيب الناس مشتغلاً مثل الذباب يراعي موضع العلل وقال ابن السماك ي: سبعك بين لحييك، تأكل به كل من مر عليك، قد آذيت أهل الدور في الدور، حتى تعاطيت أهل القبور، أي: ما سلم منك أحد تأكل أعراض الأحياء وتؤذيهم، ثم تحولت بعد ذلك إلى أهل القبور.
يقول: حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البلى عليهم، وأنت هاهنا تنبشهم، إنما نرى نبشهم أخذ الخرق عنهم، يعني: يوصف الإنسان بأنه نباش إذا كان يأخذ أكفان الموتى، فيقول: لا، النبش ليس هو سرقة أكفان الموتى، إنما هو النبش الحقيقي الخطير، وهو نبش عيوب الموتى.
قال: إذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم، إنه ينبغي لك أن يدلك على ترك القول في أخيك ثلاث خلال: أما واحدة: فلعلك أن تذكره بأمر هو فيك، فما ظنك بربك إذا ذكرت أخاك بأمر هو فيك؟! يعني: نفس العيب الذي تغتاب به أخاك هو موجود فيك أنت، فما جوابك عند الله؟! ولعلك تذكره بأمر فيك أعظم منه، فذلك أشد استحساناً لمقته إياك.
ولعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه، فهل هذا جزاؤه إذ عافاك؟! يعني: إما يكون ذنبك مثل ذنبه، وإما أن يكون أعظم من ذنبه، وإما أنك عوفيت، فهل جزاء الله سبحانه وتعالى أن عافاك أن تغير هذا المسلم؟! أما سمعت: ارحم أخاك واحمد الذي عافاك؟! إن شئت أن تحيا ودينك سالم وحظك موفور وعرضك صين لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن وعينك إن أبدت إليك مساوئاً فصنها وقل يا عين للناس أعين قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت المدائني يقول: رأيت أقواماً من الناس لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس فستر الله عيوبهم، وزالت عنهم تلك العيوب، ورأيت أقواماً لم تكن لهم عيوب، فاشتغلوا بعيوب الناس؛ فصارت لهم عيوب! لأن من اغتاب اغتيب، ومن عاب عيب.
فبحثه عن عيوب الناس يورث البحث عن عيوبه، ولعل في قاعدة: الجزاء من جنس العمل زاجراً للذين يخوضون في عيوب الناس، فيكفوا عنها خشية أن يعاملوا بالعدل، فإن البلاء موكل بالقول: لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن قال تعالى: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94].
وعن إبراهيم قال: إني لأرى الشيء مما يعاب لا يمنعني من غيبته إلا مخافة أن أبتلى به.
وعن الأعمش قال: سمعت إبراهيم يقول: إني لأرى الشيء أكرهه فما يمنعني أن أتكلم فيه إلا مخافة أن أبتلى بمثله.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لو سخرت من كلب لخشيت أن أكون كلباً، وإني أكره أن أرى رجلاً فارغاً ليس في عمل آخرة ولا دنيا.
وقال عمرو بن شرحبيل: لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع.
وقال ابن سيرين: عيرت رجلاً وقلت يا مفلس، فأفلست بعد أربعين سنة.
وعن الحسن قال: كانوا يقولون من رمى أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يبتليه الله به.
وقال الإمام الزهري رحمه الله تعالى: حدثني عروة أن المسور بن مخرمة أخبره أنه وفد على معاوية رضي الله عنه فقضى حاجته ثم خلا به، فقال: يا مسور! ما فعل طعنك على الأئمة؟! يعني: أنت كثير النقد للخليفة فقال: دعنا من هذا وأحسن، يعن: لا داعي أن نفتح هذا الموضوع، قال: لا والله لتكلمني بذات نفسك بالذي تعيب علي، أي: صارحني وواجهني بما تنتقده علي، قال المسور: فلم أترك شيئاً أعيبه عليه إلا بينت له، فقال معاوية رضي الله تعالى عنه: لا أبرأ من الذنب، فهل تعد لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامة، فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب وتترك المحاسن؟! فـ معاوية رضي الله تعالى عنه قال: أنا لا أبرأ من الذنب؛ لأني بشر غير معصوم، لكن هل في المقابل كما أحصيت السيئات وضعت في الكفة الأخرى الحسنات؟ صحيح أن الدولة الأموية ليست كالخلافة الراشدة ولا كالدولة العباسية، لكنها في إطار الخلافة الإسلامية، ونحن الآن نتمنى أن ترجع إلينا حتى الخلافة العثمانية فيا ليت أنها هي التي تحكمنا الآن، فأوضاع العالم الإسلامي الآن معروفة وكيفما تكونوا يولى عليكم، قال بعض السلف: أعمالكم عمالكم، يعني: كيفما تكونوا يولى عليكم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} [الأنعام:129].
فالشاهد أنه قال: لا أبرأ من الذنب، فهل تعد لنا -يا مسور - ما نلي من الإصلاح في أمر العامة، فإن الحسنة بعشر أمثالها أم تعد الذنوب وتترك المحاسن؟ قال: ما نذكر إلا الذنوب، قال: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك -يا مسور - ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلك إن لم تغفر؟ قال: نعم.
قال: فما يجعلك لرجاء المغفرة أحق مني؟ يعني: إذا كان كنت ترتكب ذنوباً بينك وبين الله سبحانه وتعالى ترجو أن الله سبحانه وتعالى ينجيك من الهلاك بسبب هذه الذنوب، فما يجعلك برجاء المغفرة أحق مني؟ يعني: أنت لماذا تغلق باب الرحمة في وجهي؟ ولماذا لا أطمع في رحمة الله وأن يعفو الله عني ذنوبي؟! قال: فما يجعلك برجاء المغفرة أحق مني؟ فوالله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن والله لا أخير بين الله وغيره إلا اخترت الله على ما سواه، وإني على دين يقبل فيه العمل، ويجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها، قال: فخصمني، يعني: غلبني، قال عروة: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه، أي: بعد ذلك تاب من هذا الأمر، فكان إذا ذكر معاوية يدعو له.
وعن أبي راشد قال: جاء رجل من أهل البصرة إلى عبيد الله بن عمر فقال: إني رسول إخوانك من أهل البصرة إليك، فإنهم يقرئونك السلام ويسألونك عن أمر هذين الرجلين علي وعثمان وما قولك فيهما؟ هذا الرجل شد الرحال من ال(66/15)
شرح حديث أبي هريرة في النذر
إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل، ويسوء أمره إذا كان على سبيل المعاوضة، وكأن العبد لا يفعل طاعة يتقرب بها إلى ربه إلا إذا أعطاه ربه ما يريد، وهذا هو البخل بعينه، فأنى للعبد أن يعامل ربه بهذه المعاملة، فلا جرم أن ذهب بعض العلماء إلى حرمة هذا النوع من النذر.
ومع ذلك فإذا وقع النذر فإنه يجب الوفاء به.(67/1)
حكم النذر
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قال الله عز وجل: لا يأتي النذر على ابن آدم بشيء لم أقدره عليه، ولكنه شيء أستخرج به من البخيل، يؤتيني عليه ما لا يؤتيني على البخل).
وفي رواية: (يؤتيني عليه ما لم يكن آتاني من قبل)، رواه الإمام أحمد وهو صحيح على شرط الشيخين كما ذكر الألباني.
هذا الحديث يدل بمجموع ألفاظه على أن النذر لا يشرع عقده، بل هو مكروه، وظاهر النهي في بعض طرقه أنه حرام، وقد قال بذلك أقوام، أي: أن قلة من العلماء قالوا: إنه حرام.
إلا أن قوله تبارك وتعالى: (أستخرج به من البخيل) يشعر أن الكراهة أو الحرمة خاصة بنذر المجازاة أو المعاوضة، دون نذر الابتداء والتبرر، فهو قربة محضة؛ لأن للناذر فيه غرضاً صحيحاً، وهو أن يثاب عليه ثواب الواجب، وهو فوق ثواب التطوع؛ لأن النذر هنا مجرد تعبد وتقرب بقربةً محضة لله تبارك وتعالى بالقيام أو بالصدقة أو بالصلاة أو بالذبح أو بأي شيء من العبادات التي يتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى، وهذا لا يدخل في باب الكراهة؛ لأنَّه عبادة محضة.
وثواب النذر فوق ثواب التطوع؛ لأنه يجب الوفاء به، فهو يثاب عليه.
وفي كلتا الحالتين متى عقد أو متى نذر الإنسان نذراً وجب عليه الإتيان به، حتى لو أنشأ هذا النذر المكروه الذي هو نذر المعاوضة أو نذر المجازاة، فهذا النذر الذي هو قربةٌ محضة هو المراد بقوله تبارك وتعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7]، أي: يوفون بالنذر الذي هو قربة محضة.(67/2)
حكم نذر المعاوضة
أما النوع الذي تكلمنا عنه آنفاً -وهو نذر المعاوضة- فهو كقول الإنسان: لئن شفى الله مريضي لأفعلن كذا.
أو: لئن حصل كذا لأذبحن كذا.
فهذا داخل في الكراهة، وهذا مرفوض كما بينا.
ومن العلماء من قال بتحريمه؛ لأنه لا يخلو من سوء أدب مع الله تبارك وتعالى، فإنه إن لم يشف الله مريضك فماذا ستفعل؟! لن تتصدق، وإذا لم ينجح ابنك في الامتحان فلن تصوم، فهذا فيه سوء أدب مع الله، ومن أجل ذلك حرمه بعضهم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في (فتح الباري): وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة في قوله تبارك وتعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] قال: كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة ومما افترض عليهم، فسماهم الله أبراراً: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:5 - 7] أي: فسماهم الله أبراراً لأنهم كانوا ينذرون طاعة الله تبارك وتعالى من هذه الأنواع التي افترضها عليهم كالصلاة والصيام والزكاة والحج وما إلى ذلك، وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة.
وقال الحافظ رحمه الله قبل ذلك: وجزم القرطبي في (المفهم) بحمل ما ورد في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة، فقال: هذا النهي -يعني: النهي عن النذر- محله أن يقول -مثلاً-: إن شفى الله مريضي فعلي صدقةٌ كذا.
ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكورة على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تبارك وتعالى.
فكونه علق هذا النذر أو العبادة كالصيام أو الصلاة والصدقة أوالنسك أو الذبح أو أي شيء من هذا على حصول غرض من الأغراض دل على أنه لم يخلص فيه، ولم يمحض النية ولم يخلصها صافية لمجرد التعبد لأجل الله تبارك وتعالى فحسب، وإنما يريد المجازاة، يعني: إن رزقه الله كذا فسوف يفعل كذا، وإن شفى الله مريضه فسوف يفعل كذا، فهذا هو الذي يحمل عليه ما ورد في النهي عن النذر.
يقول الحافظ: ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكرة على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تعالى لما صدر منه، بل سلك فيها مسلك المعاوضة، فيوضحه أنه لو لم يشف مريضه لم يتصدق بما علقه على شفائه، وهذه حالة البخيل، فإنه لا يخرج شيئاً إلا بعوض عاجل، يزيد على ما أخرج غالباً، وهذا المعنى هو المشار إليه في الحديث بقوله: (إن النذر لا يؤخر شيئاً من قضاء الله، ولا يدفع شيئاً من قضاء الله، وإنما يستخرج به من البخيل).
أي: أن هذه عادة البخيل لا يبذل إلا إذا حصل على عوض عاجل، وغالباً يكون العوض أكثر وأكبر مما تطيب به نفسه، فلذلك إنما الحديث بهذه الصفة، فيقول هذه حالة البخيل، فإنه لا يخرج من ماله شيئاً إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالباً، وهذا المعنى هو المشار إليه في الحديث بقوله: (وإنما يستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يخرجه)، يعني: لولا النذر لما أخرج شيئاً، وقد ينظم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض.
وهناك محذور آخر في نذر المعاوضة ونذر المجازاة، وهو: أنه ربما توهم الجاهل أنه لن يحصل له شفاء إلا إذا نذر ولن ينجح في الامتحان إلا إذا نذر، فإذا انضم إلى ذلك الاعتقاد أن الله تبارك وتعالى يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، فهذا هو المعنى المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث أيضاً: (فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئاً) فإذا انضاف إلى معنى المشاركة والمجازاة والمعاوضة وعدم تمحض النية للتقرب إلى الله بالنذر اعتقاد وتوهم الشخص الجاهل أن النذر يغير من قدر الله، أو أن الله لا يفعل ذلك إلا إذا نذر، فهذا أبطله أيضاً الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث بقوله: (فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئاً)، فالحالة الأولى تقارب الكفر، والثانية خطأ صريح، ويقصد بالحالة الأولى: أنه يسلك مسلك المعاوضة، يعني: أنه إذا شفى الله مريضه أوفى بنذره، وإذا لم يشف مريضه لا يتصدق بما علقه على شفائه، فهذه الحالة تقرب من الكفر، والحالة الثانية يقول القرطبي: إنها خطأ، ففيها تخاذل خاطئ نتيجة عدم معرفته بهذا الحديث، وعدم ففقه لهذا المعنى؛ لأنه يظن أن هذا الأمر لا يحصل إلا إذا نذر، فيعتبر النذر سبباً من الأسباب المشروعة الموصلة إلى غرضه، وهذا مخالف للشرع، كما في الحديث: (وإن النذر لا يرد من قدر الله تبارك وتعالى شيئاً)، ولذلك قال القرطبي: الحالة الأولى تقارب الكفر، والثانية خطأ صريح.
إلا أن الحافظ تعقب القرطبي رحمه الله تعالى بقوله: بل تقرب من الكفر أيضاً.
أي أن الحالة الثانية أيضاً تقرب من الكفر.
ثم نقل القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة، وقال: الذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد.
أي: إذا خيف على إنسان هذا الاعتقاد الفاسد وهو أن ينذر نذراً معتقداً أن النذر سبب من الأسباب الشرعية في حصول الغرض، وأن النذر يؤثر في قضاء الله فهذا يحرم عليه النذر، فيكون إقدامه على ذلك محرماً، والكراهة هي في حق من لم يعتقد ذلك.
فهذا الكلام الذي قاله القرطبي فيه تفصيل حسن في هذا الباب.
قال القرطبي: ويؤيده قصة ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما راوي الحديث في النهي عن النذر، فإنها في نذر المجازاة.
وهذه القصة التي يشير إليها القرطبي هي ما أخرجه الحاكم عن سعيد بن الحارث أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما سأله رجل من بني كعب يقال له: مسعود بن عمرو فقال: يا أبا عبد الرحمن! إن ابني كان بأرض فارس فيمن كان عند عمر بن عبيد الله، وإنه وقع بالبصرة طاعون شديد، فلما بلغني ذلك نذرت إن الله جاء بابني بأن أمشي إلى الكعبة.
فجاء مريضاً فمات، فما ترى؟ يعني أن ابنه عاد من البصرة، لكنه عاد مريضاً، ثم لبث مريضاً فمات بعد ذلك، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: أولم تُنهوا عن النذر؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (النذر لا يقدم شيئاً ولا يؤخره، وإنما يستخرج به من البخيل أوف بنذرك).
فأمره أن يفي بنذره.
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
ووافقه الذهبي.
ففي هذا الحديث تحذيرٌ للمسلم من أن يقدم على نذر المجازاة، فعلى الناس أن يعرفوا ذلك، حتى لا يقعوا فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
هذا ما تيسر في تفسير ذلك الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: لا يأتي النذر على ابن آدم بشيء لم أقدره عليه، ولكنه شيء استخرج به من البخيل؛ يؤتيني عليه ما لا يؤتيني على البخل) وفي رواية: (يؤتيني عليه ما لم يكن آتاني من قبل).
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(67/3)
فتاوى مسجد ابن تيمية(68/1)
حكم حديث: (إن أولياء الله الذين إذا رآهم الناس ذكروا الله)
السؤال
هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أولياء الله الذين إذا رآهم الناس ذكروا الله).
الجواب
هذا الحديث جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (أولياء الله الذين إذا رؤوا ذكر الله)، قال الألباني في السلسلة الصحيحة: أخرجه المروزي في زوائد الزهد لـ ابن المبارك، والطبراني في الكبير، وأبو نعيم في أخبار أصبهان، والضياء في المختارة.
وقوّاه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى في السلسلة الصحيحة، المجلد الرابع، برقم (1733).
وهذا الحديث يبين علامة من علامات الأولياء الذين قال الله عز وجل عنهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63].
فبين النبي صلى الله عليه وسلم علامة من علاماتهم، هي أنهم إذا رآهم الناس وشاهدوهم تذكروا برؤيتهم الله سبحانه وتعالى.(68/2)
حكم حيض المرأة بعد دخول وقت الصلاة
السؤال
إذا حاضت المرأة بعد أذان الظهر بنحو عشر دقائق، أو خمس دقائق، أو بمقدار صلاة ركعة واحدة، فهل تقضي الظهر عندما تطهر من الحيض أم يسقط عنها؟
الجواب
تقضي الظهر إذا أدركت منه مدة قدر ركعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة).
فالمرأة إذا حاضت بعد دخول وقت الظهر فإنها تقضي صلاة الظهر؛ لأنه بدخول وقت الظهر قد وجب عليها أن تصلي الظهر، وبدخول وقت يساوي الوقت الذي يستغرق لصلاة ركعة واحدة تجب عليها الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)، وإذا طهرت قبل غروب الشمس بمقدار ركعة واحدة وجب عليها أن تصلي الظهر وتصلي العصر، وكذلك إذا طهرت قبل صلاة الفجر -ولو بمقدار ركعة واحدة- فإنها تقضي المغرب والعشاء.(68/3)
حكم إيداع الأموال في البنوك وأخذ الفوائد عليها
السؤال
ما قولكم في رأي الشرع فيمن أودع أمواله في البنوك ولم يعقد مع صاحب البنك القرض الذي يجري فيه الربا -أي: الذي ورد فيه الخبر: (كل قرض جرّ منفعة فهو ربا)، والحكم يدور مع العلة، فإذا كان تحريم مثل هذا القرض بسبب وجود علة الربا -وهي الفائدة- فإنه سيودع أمواله في البنك بدون أن يتفق معهم على أخذ فائدة، والهدف من وضع الأموال في البنك هو حفظها من التعرض للضياع، وليس المقصود منه الاتجار والربح، ثم إن هيئة البنك تستثمر تلك الأموال في عمليات تحقق لها ربحاً، وقد لا تستثمرها، فهل يجوز للمسلم أن يتقاضى جزءاً معيناً حددته هيئة البنك عند سحب الأموال وعدمه مقابل ما أودع؟
الجواب
ننبه أولاً على أن صيغة السؤال في المسائل الشرعية ينبغي أن تكون بلفظ ما (حكم الشرع) وليس من أدب السؤال قول (ما رأي الشرع) إذ الحكم يجب امتثاله، أما قول (ما رأي الشرع) فيدل على أن ذلك وجهة نظر يمكن الأخذ بها ويمكن أن تترك.
أما جواب السؤال فإنه لا يجوز للمسلم أن يودع أمواله في البنوك التي تتعامل بالربا، إلا إذا كان يخشى عليها من الضياع، ولا يجوز له أن يدفعها للبنك بناءً على أنه يأخذ فائدة من البنك، وإذا كان الشخص يخشى على نقوده من السرقة ونحو ذلك فله أن يودعها في البنك بدون فائدة؛ لأنه مضطر إلى ذلك، أما أخذ الفائدة من البنك فهو تعامل بالربا، وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع.
أما القول بإن ترك الفائدة للبنوك الكافرة عون لها على المسلمين، وعدم أخذ هذه الأموال مثل إعطائهم مالاً يعينهم على حرب المسلمين فليس الأمر كذلك، وإنما تركها تعفف من المسلم عما حرم الله عليه، كما يترك لهم قيمة ما حرم الله من الخمر والخنزير، وكما يجوز له الصدقة على فقرائهم إذا كانوا غير حربيين.
وقد أجاب على هذا السؤال فضيلة الشيخ عبد الله بن قعود، والشيخ عبد الله بن غديان، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز.(68/4)
حكم العمل في البنوك الربوية
السؤال
أحد الناس يعمل في أحد البنوك بالمملكة السعودية، فهل العمل في البنوك التي تتعامل بالربا حرام أم مباح؟ وإذا كان حراماً فهل يستقيل من هذا العمل؟
الجواب
العمل في البنوك وهي بوضعها الحالي تتعامل بالربا حرام، فلا يجوز لك أن تستمر في العمل في البنك الذي تعمل فيه، وأكثر العلماء يقولون: أكثر المعاملات في البنوك المصرفية الحالية تشتمل على الربا، فهو حرام بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأن من أعان آكل الربا وموكله بكتابة له أو شهادة أو ما أشبه ذلك كان شريكاً لآكله وموكله في اللعنة والطرد من رحمة الله، ففي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر رضي الله عنه: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هُم سواء)، والذين يعملون في البنوك المصرفية أعوان لأرباب البنوك في إدارة أعمالها، كتابة، أو تقييداً، أو شهادة، أو نقلاً للأوراق، أو تسليماً للنقود، أو تسلماً لها، إلى غير ذلك مما فيه إعانة للمرابين.
وبهذا يعرف أن عمل الإنسان في المصارف الحالية حرام، فعلى المسلم أن يتجنب ذلك، وأن يبتغي الكسب من الطرق التي أحلها الله، وهي كثيرة، وليتق الله ربه، ولا يعرض نفسه للعنة الله ورسوله، وهذا فيه الكفاية إن شاء الله تعالى.
وقد أجاب على هذا السؤال العلماء الذين أجابوا على السؤال السابق.(68/5)
حكم بيع الأدوية والسلع التي عليها صور
السؤال
ما الحكم إذا كان الصيدلي يبيع بعض الأدوية والأشياء الأخرى التي على أغلفتها بعض الصور المحرمة، مع العلم بأنه ليس من السهل طمس هذه الصور، بالإضافة إلى أنه ربما لا يباع الدواء عند طمس الصورة الموجودة على غلافه؟
الجواب
إذا كان الأمر كما ذكر جاز بيع الدواء الذي عليه صورة.(68/6)
حكم بيع أدوات التجميل
السؤال
ما الحكم إذا باع الصيدلي أدوات التجميل الخاصة بالنساء، علماً أن غالبية من يستعملنها من المتبرجات الفاجرات العاصيات لله ورسوله اللاتي يستخدمن هذه الأشياء للتزين لغير أزواجهن والعياذ بالله؟
الجواب
إذا كان الأمر كما ذكر فلا يجوز له البيع لهن؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، وقد نهى الله تعالى عنه بقوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].(68/7)
حكم سجود الشكر وسجود التلاوة بدون حجاب وبدون تكبير
السؤال
هل يجوز سجود الشكر وسجود التلاوة بدون حجاب وبدون تكبير؟
الجواب
يجوز سجود الشكر وسجود التلاوة بدون حجاب، ويكبر عند السجود وعند الرفع منه.(68/8)
حكم الكلام مع من هو مقيم على المعصية بعد النصح له
السؤال
هل الكلام بسبب المرافقة في العمل مع من هو مقيم على المعصية بعد النصح له فيه شيء؟
الجواب
ينبغي أن تستمر على نصحه وتعامله بالحكمة والموعظة الحسنة، وتجادله بالتي هي أحسن، وتدعو الله له لعل الله أن يهديه، وبالله التوفيق.(68/9)
حكم من تأوّل صفات الله سبحانه وتعالى
السؤال
من المعلوم أن بعض العلماء الذين نهجوا منهج الخلف في فهم صفات الله سبحانه وتعالى قد لجئوا لأسلوب تأويل هذه الصفات؛ خشية الوقوع في التشبيه، فما الحكم في هؤلاء؟
الجواب
هم يؤولون قوله تعالى: (استوى على العرش) بمعنى: (استولى!) أو (يد الله) بمعنى: قوة الله، وهكذا، والذي يجب هو أن نسلك مسلك السلف في إجراء هذه الصفات على ظاهرها، بدون تشبيه وبدون تعطيل كما هو معلوم.
يقول الشنقيطي رحمه الله: ونحن نرجو أن يغفر الله تعالى للذين ماتوا على هذا الاعتقاد؛ لأنهم لا يقصدون تشبيه الله بخلقه، وإنما يحاولون تنزيهه عن مشابهة خلقه، فقصدهم حسن، ولكن طريقهم إلى ذلك القصد سيء، وإنما نشأ لهم ذلك السوء بسبب أنهم ظنوا لفظ الصفة التي مدح الله بها نفسه يدل ظاهره على مشابهة صفة الخلق.
أي: لما سمعوا قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] فأول ما سمعوا كلمة (بيدي) تخيلوا ما هو معهود لديهم من صفات المخلوقين فوقعوا في التشبيه، ثم قالوا: ينبغي أن نبطل هذا التشبيه؛ لأنه كفر فقادهم ذلك إلى التعطيل، فنفوا الصفة.
فهم في بداية الأمر وقعوا في التشبيه أصلاً، وظنوا أن ظاهر اللفظ هو التشبيه، فلذلك وقعوا في النفي حتى يتفادوا التشبيه، ولو أنهم منذ البداية قالوا: إن ظاهرها هو ما يليق بالله سبحانه وتعالى لَمَا وقعوا في التشبيه ولا في التعطيل.
يقول: فنفوا الصفة التي ظنوا أنها لا تليق قصداً منهم لتنزيه الله، وأوّلوها بمعنىً آخر يقتضي التنزيه في ظنهم، فقالوا: (استوى على العرش) أي: استولى على العرش.
فهم كما قال الشافعي رحمه الله تعالى: رام نفعاً فضر من غير قصد ومن البر ما يكون عقوقا يقول: ونحن نرجو أن يغفر الله لهم خطأهم، وأن يكونوا داخلين في قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:5].
وخطؤهم المذكور لاشك فيه، ولا يصح أن يأتي إنسان فيقول: هناك علماء وأئمة يؤولون صفات الله فكيف تخالفونهم؟ فأقول: لسنا نحن الذين نخالفهم، لكنهم خالفوا من هُم أجلّ منهم قدراً وأعظم منهم علماً، ألا وهم أئمة السلف في القرون الخيرية الأولى ومن تبعهم بإحسان.
إذاً: ليست المسألة أن إنساناً متأخراً يتعقب علماء الخلف، وإنما بعض رجال الخلف خالفوا قول السلف الذين هم أعلم الأمة بدينهم، فيكون خطؤهم المذكور لا شك فيه، ولو وفقهم الله لتطهير قلوبهم من التشبيه أولاً وجزموا بأن ظاهر صفات الخالق هو التنزيه عن مشابهة صفة المخلوق لسلموا مما وقعوا فيه.
فمثلاً: لو أنهم من البداية سمعوا قوله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] فقالوا: استوى استواءً يليق بجلال الله، ولا ندري كيف هو؛ لأنه لا يعلم كيف هو إلا هو لسلموا.
فأي شيء تتخيله عن الله سبحانه وتعالى بعقلك فاعلم أن الله ليس على تلك الصفة، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فلا شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم عالم كل العلم بأن الظاهر المتبادر مما مدح الله به نفسه في آيات الصفات هو التنزيه التام عن صفات المخلوقين، ولو كان يخطر في ذهن النبي صلى الله عليه وسلم أن ظاهر هذه الصفات لا يليق بالله لأنه تشبيه بصفات الخلق لبادر كل المبادرة إلى بيان ذلك، ولكنه لم يفصّل؛ لأنه يعلم أن الصحابة يفهمون أن ظاهر هذه الصفات هو ما يليق بالله وليس ما يقتضي التشبيه؛ لأنه لا يجوز في حق النبي صلى الله عليه وسلم تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، ولا سيما في العقائد وفيما ظاهره الكفر والتشبيه.
إذاً: لو كان ظاهره يخالف ما يليق بالله سبحانه وتعالى لنفاه النبي صلى الله عليه وسلم، فكونه لم يبين ذلك فمعناه أن الظاهر هو ما يليق بالله، وليس الظاهر هو ما يعرفه المخلوقون، فسكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن بيان هذا يدل على أن ما زعمه المؤولون لا أساس له من الصحة.(68/10)
حكم اتخاذ القبور مساجد
السؤال
بعض الناس -خاصة الصوفية- يستدلون بآية في سورة الكهف على جواز اتخاذ قبور الصالحين مساجد، فيقولون: إذا كان من المقرر شرعاً تحريم بناء المساجد على القبور فهناك أدلة على جواز ذلك، ومن هذه الأدلة قوله تبارك وتعالى في سورة الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]، ووجه دلالة الآية على ذلك أن الذين قالوا: (لنتخذن عليهم مسجداً) كانوا نصارى -حسب ما هو مذكور في كتب التفسير-، فيكون اتخاذ المسجد على القبر من شريعتهم، وشريعة من قبلنا شريعة لنا إذا حكاها الله سبحانه وتعالى ولم يعقبها بما يدل على ردها، كما في هذه الآية الكريمة.
فما صحة هذا الاستدلال؟!
الجواب
يقول فضيلة العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: الجواب على هذه الشبهة من وجهين: أولاً: إن الصحيح المتقرر في علم الأصول أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا، وهم بنوا هذا الاستدلال على أن شرع من قبلنا شرع لنا، فيكون هذا أمراً غير متفق عليه، والقول الراجح في علم الأصول أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا لأدلة كثيرة، من هذه الأدلة قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي) وقال في آخر هذه الخمس: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة) فمعناه: إن شريعتي غير شرائع الأنبياء قبلي.
فإذاً: الأنبياء السابقين كموسى وعيسى ونوح وغيرهم كان كل نبي منهم أو رسول يأتي بشريعة لقومه خاصة، فكونها لقومه خاصة معنا أنها لا تلزم غيرهم، وحينئذٍ لا تلزمنا نحن المسلمين، وإنما الذي يلزمنا هو بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشريعته، فإذا تبين هذا فلسنا ملزمين بالأخذ بما في الآية، أي: لو وافقنا ابتداءً على أن الآية تفيد أن في شريعة النصارى أنهم يبنون المساجد على قبور الصالحين فإذا ثبت أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا فلا يجوز لهؤلاء الناس أن يستدلوا بالآية على أن شرع من قبلنا شرع لنا؛ لأن هذه القاعدة غير صحيحة، بل الصحيح أن لنا شريعة خاصة ولهم شريعة خاصة.
إذاً: لا يلزمنا المخالف بالأخذ بما فهمه من الآية من جواز بناء المساجد على القبور.
أما الوجه الثاني الذي يرد به على استدلالهم بآية سورة الكهف فنقول: هبْ أن الصواب قول من قال: شريعة من قبلنا شريعة لنا.
فإذا فرضنا هذا جدلاً فإن العلماء الذين يقولون: إن شرع من قبلنا شرع لنا يشترطون أن لا يخالف شرعنا، فإن خالفه فالذي يقدم شرعنا؛ لأن شرعنا أتى لينسخ هذه الشرائع.
وما ورد في هذه الآية مشروط بإذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وهذا الشرط معدوم هنا؛ لأن الأحاديث تواترت في النهي عن بناء المساجد على القبور، فذلك دليل على أن ما في الآية ليس شريعة لنا.
وهناك وجه ثالث في الرد، وهو أنه لا يلزم أن تفيد الآية أن بناء المساجد على القبور كان شرعاً عندهم؛ لأن غاية ما فيها أنه: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]، وليس فيها تصريح بأن الذين قالوا ذلك كانوا مؤمنين، وليس هناك ما يدل على أنهم كانوا مؤمنين صالحين متمسكين بشريعة نبي مرسل، بل الظاهر خلاف ذلك.
والحافظ ابن رجب رحمه الله في شرح حديث: (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يقول: وقد دل القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]، فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بأن مستنده القهر والغلبة واتباع الهوى، وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المتبعين لما أنزل الله على رسله من الهدى.
وقال الشيخ علي بن عروة: حكى ابن جرير في قوله تعالى: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ) قولين: الأول: أن القائلين هم المسلمون منهم.
والثاني: أنهم أهل الشرك منهم، فالله أعلم.
يقول: والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذّر ما صنعوا).
إذاً: لم يقتصر على عدم كونه في شريعتهم، بل لعنهم الله من أجل بناء المساجد على القبور.
وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر بأن يخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدها عنده فيها شيء من المواعظ والأخبار وغيرها.
يقول الألوسي: واستدل بالآية على جواز البناء على قبور العلماء، واتخاذ المساجد عليها، وجواز الصلاة عندها، وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي، وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد.
ثم أتى بالأحاديث الثابتة في تحريم بناء المساجد على القبور، وأتبعها بكلام الحافظ الهيتمي في بيان أن ذلك من الكبائر.
ثم قال: وقد أفتى جمع بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية، حتى قبة الإمام الشافعي عليه الرحمة التي بناها بعض الملوك أفتوا أنها تهدم، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة، فيتعين الرفع للإمام أخذاً من كلام ابن الرفعة في الصلح، فإن الله سبحانه وتعالى قص علينا بلا إنكار.
أي: إن قالوا: إن ربنا حكى كلام هذه الفئة: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21] ولم ينكر عليهم نقول: نعم لم ينكر سياق القرآن صراحة عليهم، ولكن إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ولعنهم على هذا الفعل واضح، وإنكار الرسول كإنكار الله، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].
فيقال لهم: هل تنكرون السنة؟ فإن كانوا ينكروا السنة فإنهم فرقة ضالة تنبأ بها النبي عليه الصلاة والسلام، وإن كانوا يؤمنون بالسنة فقد ثبت في السنة إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الفعل، وأنه لعن الذين يتخذون المساجد على القبور، فالآية ليست خارجة مخرج المدح لهؤلاء الناس، وليس فيها -أيضاً- ما يحضنا على التأسي بهم.
ومتى يمكن القول بأن عدم إنكار الله سبحانه وتعالى على هؤلاء القوم يعني إباحة هذا الفعل؟ نقول: ذلك إذا كان في وسطهم شخص معصوم، فمتى لم يثبت أن فيهم معصوماً -أي: نبياً مرسلاً- فلا يدل فعلهم -فضلاً عن عزمهم- على مشروعية ما كانوا بصدده؛ لأنه ما كان فيهم رسول، لكن هؤلاء الناس لم يأت ما يدل على الوثوق بفعلهم.
وتأول بعض العلماء اتخاذهم للمسجد على القبور بأنه ليس المعنى الذي نفهمه الآن من بناء المساجد على القبور في مكان واحد، قال: وإنما هو اتخاذ مسجد قريب من كهفهم، وليس المقصود اتخاذ المساجد على القبور بالصورة التي نعرفها في هذا الزمان.
وأيضاً فإن الإنسان الذي يستدل بهذه الآية على جواز بناء المساجد على القبور مَثَله كمثل الإنسان الذي يستدل بقوله تعالى في شأن سليمان عليه السلام: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:13] على جواز صناعة التماثيل والأصنام، فأما في شرعنا فهذه الأشياء محرمة قطعاً، وكذلك بناء المساجد على القبور.(68/11)
حكم الاستمناء
السؤال
ما حكم الاستمناء في الشريعة الإسلامية؟
الجواب
الاستمناء هو استدعاء المني بغير جماع.
وقد ذهب إلى تحريم الاستمناء جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنفية.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: وعامة العلماء على حرمته، وهو الحق الذي لا ينبغي أن يدان الله إلا به.
انتهى كلام ابن العربي.
وأدلة تحريمه هي: أولاً: قوله تعالى في مدح المؤمنين المفلحين في سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، إلى أن مدحهم بقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7].
فقوله تعالى: (فمن ابتغى) أي: من طلب شيئاً (وراء ذلك) أي: سوى ذلك المذكور في قوله تعالى: (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) (فأولئك هم العادون) أي: الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229]، فالآيات تدل بعمومها على تحريم ما عدا صنفي الأزواج والإماء.
وقد سئل الإمام مالك عن حكم الاستمناء فتلا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7].
ومن ثم قال بعض العلماء في هذه الفعلة: إنه كالفاعل بنفسه! وهي معصية أحدثها الشيطان، وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة، ويا ليتها لم تقل، ولو قام الدليل على جوازها لكان ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها، والاستمناء ضعيف في الدليل، عار بالرجل الدنيء، فكيف بالرجل الكبير؟! وممن استدل بهذه الآية على التحريم الإمام الشافعي رحمه الله، ومن المفسرين البغوي، والقرطبي، وابن العربي، وابن كثير، والنسفي، والخازن، وغيرهم، ولو فرض وجود خلاف فيه فقد قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: وهذا من الخلاف الذي لا يجوز العمل به، وليت شعري لو كان فيه نص صريح بالجواز أكان ذو همة يرضاه لنفسه؟! ثانياً: قال الله عز وجل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]، وهذا أمر يدل بظاهره على وجوب الاستعفاف، فهو أمر ظاهره وجوب الاستعفاف، ووجوب اجتناب ما ينافي العفة كالزنا واللواط والاستمناء ونحوها، فتكون هذه الأشياء واجبة الاجتناب محرمة الفعل؛ لأن الاستعفاف الواجب لا يتحقق إلا باجتنابها جميعاً.
قال الشافعي رحمه الله تعالى في هذه الآية: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]: معناها -والله أعلم-: ليصبروا حتى يغنيهم الله تعالى وهو كقوله: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء:6] ليكف عن أكله بسلف أو غيره.
انتهى كلام الشافعي.
والمقصود بالاستعفاف في آية اليتيم (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) أن القيّم على مال اليتيم لا يأكل من مال اليتيم شيئاً قليلاً ولا كثيراً، وليستعفف ما دام غنياً، وعلى هذا قول الله سبحانه وتعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا) أي: ليتركوا هذا الشيء قليله وكثيره، ما عدا الأزواج والإماء، فلا يُقرب أي شيء يخالف قضاء الوطر عن غير هذا الطريق، فيفهم من ذلك الأسلوب -أي: من كلمة: (وليستعفف) - أنه يجب حفظ الفرج من جميع أنواع الشهوة، وأن من لم يجد السبيل إلى النكاح ففرض عليه أن يصبر حتى يغنيه الله من فضله فيجد السبيل إلى ما أحل الله.
وزيادة في إيضاح معنى هذه الآية نقول: هل الاستمناء من الاستعفاف أم لا؟ فإن قلنا: لا فيلزم اجتنابه؛ لأن الآية تدل على تحريم ما ينافي الاستعفاف، وإن قلنا: إنه من الاستعفاف لزم القول بوجوبه -أي: الاستمناء- لأن الآية تأمر بالاستعفاف، وهذا حدث في الدين وخرق لإجماع المسلمين.
ومما يؤيد هذا الاستدلال أن الله تعالى ذكر الاستعفاف والنكاح ولم يجعل بينهما واسطة، قال: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] أي: حتى ينكحوا.
فذكر الله سبحانه وتعالى الاستعفاف والنكاح، ولم يجعل بينهما واسطة، فاقتضى ذلك تحريم الاستمناء، ولو كان مباحاً لبينّه في هذا الموطن؛ لأنه مقام بيان؛ إذ أحوج ما يكون الرجل إلى جواز الاستمناء إذا لم يجد سبيلاً إلى النكاح، لاسيما عند توقان نفسه إلى الوطء، وقاعدة الأصوليين: (السكوت في مقام البيان يفيد الحصر)، ودليل هذه القاعدة قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، أي أن الله سبحانه إذا سكت عن بيان شيء في مقام البيان فإنه يفيد انحصاره فيما ذكر فقط، ولا يتعداه إلى غيره، ففي قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] حصر المسألة بين أمرين اثنين فقط هما: الاستعفاف أو النكاح، فاستدل بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] على ما نحن بصدده الإمام الكيا الهراسي والإمام القرطبي وغيرهما، قالوا: هذا المقام هو مقام بيان حكم الاستمناء، فلو كان مباحاً لبينه الله سبحانه وتعالى، فدل على أنه ليست هناك سعة في هذا الأمر.
ثالثاً: أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).
ووجه دلالة هذا الحديث على المقصود أن الشارع أرشد عند العجز عن مؤن النكاح إلى الصوم فقال: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)، ولو كان الاستمناء مباحاً لبينه في هذا الموطن، لكنه سكت عنه، فدل على أن ذلك حرام؛ لأن السكوت في مقام البيان يفيد الحصر، كما بيّنا أن سكوت الشارع في معرض البيان لشيء من أفعال المكلفين عن شيء آخر يشبهه أو يجانسه لا يكون نسياناً ولا ذهولاً -تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا-، ولكن يفيد قصر الحكم على ذلك الشيء المبين حكمه، ويكون ما عداه -وهو المسكوت عنه- مخالفاً له في الحكم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64].
وقد استدل بعض العلماء بهذا الحديث على حرمة الاستمناء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أرشد عند العجز عن التزويج إلى الصوم فقال: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم) الذي يقطع الشهوة، فلو كان الاستمناء مباحاً لكان الإرشاد إليه أسهل، وهذا الفعل لو كان مباحاً لكان الرسول عليه الصلاة والسلام أرشد إليه، فهو أسهل من الصيام، وإن كان الصيام فيه ترك والاستمناء فيه فعل، لكن الاستمناء أسهل من الصوم؛ لأن الصوم وإن كان تركاً لكنه أشد من الفعل، وأشق على النفس من كثير من الأعمال؛ لأن الصوم حبس للنفس وكبح لها عن شهواتها، وفي الحديث: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي)، فهذه المزّية لم تكن للصوم إلا لما فيه من المشقة، أما الاستمناء -وإن كان فعلاً لا تركاً- فهو سهل يسير موافق لغرض النفس، ولا يستغرق من الزمان ما يستغرقه الصوم، فلا جرم أن العدول عنه إلى الصوم دليل على حرمته، فيكون في الحديث دلالة على حرمة الاستمناء من وجهين: الوجه الأول: السكوت عنه في معرض البيان، حيث قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) ولم يفتح أي باب آخر لقضاء الشهوة سوى هذا الباب، وهو باب النكاح أو الصيام، ولم يذكر الاستمناء.
الوجه الثاني: أنه عدل عنه إلى الصوم الذي هو أصعب.
وقد وردت جملة أخبار عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص لهم في الاختصاء -وهو حرام في الآدميين؛ لأنه من تغيير خلق الله- ليدفعوا به مشقة العزوبة عن أنفسهم، ويستريحوا من عناء شهواتهم وعناء مقاومتها، فلم يرخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأرشدهم إلى الصوم، فلو كان الاستمناء جائزاً لأرشدهم إليه؛ لأنه أسهل من الاختصاء، والاختصاء إجراء عملية جراحية لإزالة الخصيتين، فهذا الأمر لو كان مباحاً لكان أسهل من الاختصاء وأسهل من الصوم، فلمّا لم يرشد إليه دل على أنه حرام؛ لأن السكوت في مقام البيان يفيد الحصر.
ومن هذه الأحاديث ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إني رجل شاب، وأنا أخاف على نفسي العنَتَ، ولا أجد ما أتزوج به النساء، فائذن لي أن أختصي، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! جف القلم بما أنت لاق، فاختصِ على ذلك أو ذر) وهذا الحديث إسناده صحيح، وعلّقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم.
فالنبي عليه الصلاة والسلام عزّاه بالقدر، أي: إن كنت عاجزاً عن الكسب أو عن ت(68/12)
الأضرار الشرعية والصحية للاستمناء
من الأدلة المهمة في هذه المسألة القاعدة الأصولية المتقررة أن الضرر يزال، وهي مأخوذة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) أي أن الإنسان لا يضر نفسه ولا يضر غيره.
فيؤخذ من هذا الحديث تحريم جميع أنواع الضرر، وأي شيء يحدث ضرراً فينبغي أن يدفع هذا الضرر، وينبغي أن يزال، فالأصل في المضار التحريم، وهذا الحديث هو من حديث عبادة بن الصامت، أخرجه ابن ماجة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) خبر معناه النهي، مثل قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] أي: لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا في الحج.
فالمقصود من قوله: (لا ضرر) أي: لا تضر نفسك، ولا تضر غيرك، والمضار الناتجة عن هذا الفعل الخسيس الدنيء مقررة عند الأطباء، وهي كثيرة جداً، منها: ضعف البصر، وتقليل حدة الوطر إلى حد بعيد، وإضعاف الأعضاء عموماً، وخصوصاً الأعضاء التناسلية، مما يؤثر -فيما بعد- أقوى تأثير على الباءة.
ومن ذلك -أيضاً- إضعاف الأعصاب عامة، واضطراب آلة الهضم، وإيقاف نمو الأعضاء -خاصةً التناسلية- عن نموها الطبيعي، وإحداث التهاب منوي في الخصيتين، وألم في فقرات الظهر، وتقوس الظهر وانحناؤه، كما أنه يحل ماء صاحبه فيصير رقيقاً لا يقوى على التلقيح، وربما يؤثر على الجنين فيكون ضعيفاً.
ومن ذلك أيضاً: أنه يسبب رعشة الأطراف، خصوصاً الرجلين، وضعف القوة الذهنية، وقلة الفهم، وصفرة الوجه، واستعداد فاعل هذا الفعل الدنيء للإصابة بالسل والعياذ بالله، وغيرها مما لا يكاد يحصى من الأضرار الصحية، فضلاً عن الضرر في الدين بالجرأة على ما حرم الله سبحانه وتعالى، وظلمة القلب، واسوداد الوجه من المعصية، ووقوع الوحشة بين فاعل تلك الفعلة وبين الله سبحانه وتعالى، ووقوع الوحشة بينه وبين الناس، خصوصاً أهل الخير منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استح من الله كما تستحي رجلاً من صالحي قومك) أي: لو أن رجلاً من صالحي قومك اطلع عليك لاستحييت منه، فكيف باطلاع الله سبحانه وتعالى؟! ومن مضار هذا الفعل الدنيء التسبب في تقليل الحياء عند الشخص، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الحياء والإيمان قُرناء جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر).
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)، وهذا الفعل القبيح الدنيء لا شك أنه مما لا يحب من يرتكبه أن يطلع عليه الناس.
وهذا الفعل القبيح بغيض إلى الله سبحانه وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها).
والاستمناء من أخطر الأمراض والأدواء، وأشدها ضرراً على الجسم والعقل والدين، فبينما ترى الشاب -من هؤلاء المصابين بهذا الفعل الشنيع- قوي الأعضاء، جمّ النشاط، يشتعل ذكاءً وفتوةً، ويلتهب حماساً وقوة، تجري نضرة الشباب في وجهه، ويغلي دم الحياة في عروقه، ثم سرعان ما تراه -وقد أنهكه ذلك الفعل الدنيء- خائر الأعضاء، فاقد النشاط، قد استحال ذكاؤه إلى غباوة وبلادة، وانقلب حماسه وقوته إلى ضعف ووهن، وصارت نضرته صفرة تنبئ بحلول داء عياء، وهبطت حرارة الدم فيه بنسبة ما أخرج من الماء، والتحق بالشيوخ الهرمى وهو لم يزل بعد في سن الشباب، كل هذه البلايا بسبب ذلك الفعل الخبيث! ولا غرو، فإن ماء الرجل قوة عقله، ونضارة وجهه، ومخ ساقه، وخلاصة عروقه، فاستخراجه على غير الوجه المشروع يؤدي حتماً إلى أسوأ النتائج.
ومما لا شك فيه أن هذا الفعل حرام عند المالكية، والشافعية، والحنفية، وجمهور الأمة.
وممن نص على حرمته الإمام البغوي، والقاضي أبو بكر بن العربي، والحافظان ابن كثير وابن الملقن، والإمام المجتهد التقي ابن دقيق العيد، والعلامة ابن الهمام، والمحقق ابن قاسم العبادي، وشيخ الإسلام الشيخ عبد الله الشرقاوي، ومفتي بغداد السيد الألوسي، وجماعة يطول ذكرهم.
ومن الأدلة التي يستدل بها على تحريم هذه المسألة بعض الأحاديث التي لو صحت لكانت من أصرح الأدلة في تحريم هذا الفعل، ولكنها أحاديث ضعيفة، فلا بأس بأن نذكرها على سبيل الإخبار بضعفها.
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا يجمعهم مع العالمين، ويدخلهم النار في أول الداخلين، إلا أن يتوبوا، ومن تاب تاب الله عليه: الناكح يده، والفاعل، والمفعول به، ومدمن الخمر، والضارب والديه حتى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتى يلعنه الناس، والناكح حليلة جاره) يعني الزاني بها.
فهذا أحد الأحاديث التي يستدل بها على تحريم هذا الفعل، لكنه حديث ضعيف.
وهناك بعض الروايات عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ويقول لهم: ادخلوا النار مع الداخلين: الفاعل، والمفعول -يعني اللواط- والناكح يده، وناكح البهيمة، وناكح المرأة في دبرها، وجامع المرأة وابنتها، والزاني بحليلة جاره، والسابع: المؤذي جيرانه حتى يلعنه الناس، إلا أن يتوب).
فهذان الحديثان صريحان في تحريم هذا الفعل، لكنهما ضعيفان، ويغني عنهما ما سبق أن سردناه من الأدلة.(68/13)
طرق التخلص من هذه المعصية
لا شك أن دواء هذه العادة هو عمارة الأوقات بالطاعات.
والدواء الأنفع الذي لا شك في أنه أقرب الطرق إلى العفة هو امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).
ومن أنفع الأدوية عمارة الأوقات بالطاعات، وإدمان الذكر، والتفكر في الموت والآخرة.
ومنها تجنب الوحدة، ومصاحبة الصالحين، ولزوم جماعة المسلمين في المساجد، وفي الجنائز، وفي صلوات العيد، وفي حلقات العلم وحلق الذكر، فهذه من أنفع الأدوية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، والثلاثة لا يقربهم الشيطان) ويقول صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم الناس ما أعلم من الوحدة ما سار راكب وحده بليل أبداً) وفي بعض الأحاديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوحدة، أن يبيت الرجل وحده، أو أن يسافر وحده).
ومن أقوى الأسباب الفراغ، فعند الفراغ يخلو الشيطان بذلك الشاب، فيغريه بارتكاب ما حرم الله سبحانه وتعالى، فمن أنفع الأدوية -كما ذكرنا- مصاحبة الصالحين الذين يذكرونه إذا نسي ويعينونه إذا ذكر.
ولابد من تجنب أهل الفسق وصحبة أهل السوء الذين هم أصدقاء في الظاهر وأعداء ألّداء في الحقيقة والباطن.
وهكذا شغل الفراغ بما ينفع في الدين أو الدنيا، كلعب بعض الرياضات المفيدة، مع استصحاب نوايا حسنة بهذه الأنواع من الرياضة التي تقوي البدن ويستفيد منها المسلم.
ومن ذلك تجنب أماكن الفساد التي فيها الصور المحرمة، وتجنب الجرائد القبيحة، وتجنب أجهزة الفساد كالتلفزيون وغيره؛ فإن من يقومون على أمرها هم ممن يحبون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.
ومن أنفعها -كما ذكرنا- الدواء الأول، وهو لزوم الصوم، وهو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما سبق.
ومن ذلك -أيضاً- المواظبة على قراءة القرآن، فهو يغني عن كل هذه النصائح الكثيرة بعد الصيام.
ومنها دواء واحد مجمل بعد هذا التفصيل، وهو الذي ورد في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).
وقد يقول قائل: ما علاقة الصدق بقضية مثل هذه القضية الفقهية؟! والجواب أن هذه الكلمة -الصدق- هي أعم وأوسع في معناها مما يتبادر إلى الأذهان، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم من حنكته وفطنته جمع لك كل هذا الكلام وأضعاف أضعافه في هذه الكلمة (الصدق) فإنك إذا سئلت: هل تسرق؟ فإن قلتَ: لا وأنت قد سرقت وقعت في الكذب، فخالفت العهد الذي عاهدت الله عليه، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (عليكم بالصدق)؛ لأن الصدق من شأنه أنه هادٍ إلى البر، والبر يشمل جميع أنواع الخيرات، فلذلك كان بعض الشيوخ إذا أتاه بعض أتباعه أو تلامذته تائباً وسأله عن التوبة، وأراد هذا الشيخ أن لا يشتت ذهنه، وأن لا يشوش فكره بكثرة التكاليف يقول له: عليك بالصدق.
فيأمره بالصدق لأنه إذا أمره بالصدق فأتى فقال له: صليت أم لم تصل؟ فإذا كان التزم الصدق فسيقول: لم أصل.
وإن خالف فسيقع في الكذب، فإن لزم الصدق فإنه سوف يتحرج من أن يقع في الفعل الذي يوجب توبيخه ومعاتبته، فمن ثم كانت الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الصدق؛ لأن الإنسان إذا استطاع أن يتصف بصفة الصدق وتحرى الصدق -أي: التدقيق والاحتياط الشديد في الصدق- فإنه تفتح له جميع أبواب الخيرات، قال صلى الله عليه وسلم (فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).(68/14)
بطلان القصة التي أوردها العيدروس بشأن كتاب إحياء علوم الدين
بعض الناس يمارس أحياناً نوعاً من الإرهاب الفكري، وهذا يحصل من بعض الصوفية وأصحاب المنامات، فيمارسونه ضد من يكشف أخطاءهم ويبين ألاعيبهم، فترى في المنام أنه يخوفك إن أنت خالفته، ويهددك بأنه سيحصل لك كذا وكذا، وهذا النوع من الإرهاب لا يخيف إلا ذوي العقول الخفيفة، لكن الإنسان لا يبالي أبداً ما دام على الحق من الكتاب والسنة الذين هما المقياس الذي يحكم به على أي شيء، حتى لو كان مخالفه صاحب سلطة ونفوذ ما دام معه الكتاب والسنة.
وكتاب (إحياء علوم الدين) من الكتب التي تحتاج إلى دراسة مستفيضة، وقد ارتبطت كثير من الأخطاء التي وجدت في هذا الكتاب بمراحل حياة الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، فقد مرّ الإمام الغزالي بمراحل ومحن نفسية كثيرة.
والإمام الغزالي -كما يشهد له كثير من العلماء- من الأذكياء النوادر في العالم بلا شك، وقد أثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفاته، وكان على فقه عظيم جداً، وهو من أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي، وله مؤلفات في أصول الفقه، ومؤلفات في العقيدة والأخلاق وغيرها، لكن ما اشتهر الإمام الغزالي بشيء من كتبه كما اشتهر بكتابه (إحياء علوم الدين) وليس المجال مجال التفصيل في حسنات هذا الكتاب، ولا مجال تفصيل في أخطائه أو أخطاره التي لو عششت في قلب أو عقل مؤمن ستقوده إلى كثير من الضلالات للأسف الشديد.
وهناك بعض الصوفية اختلقوا وكذبوا كذبةً، وجعلها الشيخ عبد القادر العيدروس بمثابة العصا التي يسميها عصا العيدروس، وهي العصا التي يخوف بها كل من يتكلم في كتاب (إحياء علوم الدين)! فأي شخص ينكر على الغزالي وعلى إحيائه شيئاً فإن العيدروس سيرفع هذه العصا مخوفاً إياه من عاقبة ذلك الفعل، وهذا في كتاب (تعريف الأحياء بفضائل الإحياء) للشيخ عبد القادر العيدروس.
وقد روى في هذا الكتاب قصة عجيبة، لكنها لا تستهوي من يتحرى الصدق، ويتحرى العلم وصحة الدليل وموافقة الكلام للكتاب والسنة، مهما رأى من التشويه والتهويل.
فيقول: ذكر اليافعي أن أبا الحسن بن حربهم الفقيه المشهور المغربي كان قد بالغ في الإنكار على كتاب إحياء علوم الدين، وكان مطاعاً مسموع الكلمة، فأمر بجمع ما ظفر به من نسخ الإحياء وهم بإحراقها في الجامع يوم الجمعة، فرأى ليلة تلك الجمعة كأنه دخل الجامع، فإذا هو بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، والإمام الغزالي -رحمه الله- قائم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أقبل ابن حربهم -الذي أراد إحراق كتاب الإحياء- قال الغزالي: هذا خصمي يا رسول الله، فإن كان الأمر كما زعم تبتُ إلى الله! وهل هذاك توبة تقبل بعد الموت؟! فالإمام الغزالي رحمه الله قد انتقل إلى الدار الآخرة، فكيف يتوب إلى الله وهو في دار الآخرة؟! قال: وإن كان حصل لي شيء من بركتك واتّباع سنتك فخذ لي من خصمي.
ثم إن الغزالي ناول النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الإحياء، فتصفحه النبي صلى الله عليه وسلم ورقة ورقة من أوله إلى آخره، ثم قال: والله إن هذا لشيء حسن! ثم ناوله الصديق رضي الله عنه، فنظر فيه فاستجاده وقال: نعم، والذي بعثك بالحق إنه لشيء حسن.
ثم ناوله الفاروق عمر رضي الله عنه، فنظر فيه وأثنى عليه كما فعل الصديق، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتجريد الفقيه علي بن حربهم عن القميص، وأن يضرب ويحدّ حدّ المفتري، فخلعت ثيابه وضُرب على ظهره، فلما ضُرب خمسة أسواط شفع فيه الصديق رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله! لعله ظن فيه خلاف سنتك، فأخطأ في ظنه! فرضي الإمام الغزالي، وقبل شفاعة الصديق، ثم استيقظ ابن حربهم وأثر السياط في ظهره -أي: جُلد وهو نائم- فقام وأعلَمَ أصحابه، وتاب إلى الله من إنكاره على الإمام الغزالي واستغفر، ولكنه بقي مدة طويلة متألماً من أثر السياط! فهل صحيح ما حصل في قصة عصا العيدروس؟! وهل يعقل أن إماماً مثل الإمام علي بن حربهم الذي اتخذ موقفه بناءً على أدلة وعلى علم ثم يحدث له ما حدث؟! فأين العلم في مثل هذه الرؤيا المختلطة؟! فهل هذه تخوفنا كي لا نتعرض لكتاب الإحياء ولكي نقبل كل ما فيه مما يخالف الكتاب والسنة؟! وإن الإمام الغزالي رحمه الله -كما يقول بعض العلماء- قد حشى كتابه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمختلقة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذا الشيخ الأستاذ عبد الرحمن دمشقية في كتابه: (أبو حامد الغزالي والتصوف) يقول: ألا قاتل الله ملفق هذه الفرية، ما أكذبه! ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أُمّياً لا يقرأ ولا يكتب، أم أن تعصبه الأعمى أغفله عن هذه الحقيقة التي أراد الله أن يجعلها علامة على كذبه؟! ألا فليتبوأنّ مقعده من النار هو وأمثاله ممن يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمدين، فقد جاء في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) رواه مسلم، وهو حديث متواتر.
والأمر الآخر الذي يشهد بكذبه أن الإحياء فيه من الأباطيل التي لا يقرّها ولا يقول بها أجهل الناس بالإسلام، فكيف يرضى النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه بهذه العجائب؟! ولو فرضنا -جدلاً- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ الإحياء وقلّبه صفحة صفحة -حسبما يقول هذا المدّعي- فهل أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم فيه ما نقله الغزالي عن أبي تراب النخشبي إذ يقول: لئن رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة؟! وهذا موجود في الإحياء، الجزء الرابع، صفحة (356).
وهل أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم قول أبي يزيد لأحد أعيان بسطام: قولك سبحان الله شرك؛ لأنك سبحت نفسك فعظمتها وما عظمت ربك؟! ألم يطّلع صلى الله عليه وسلم في الإحياء على ما يقارب ستمائة حديث بين ضعيف وموضوع؟! ألم يقرأ قول الغزالي في آداب الخلوة: ويخلو بنفسه في زاوية، ويقتصر على الفرائض والرواتب، ولا يقرن همه بقراءة قرآن، ولا بالتأمل في تفسير، ولا يكتب حديثاً؟! ألم يقرأ قول الغزالي: القلوب وإن كانت محترقة بحب الله تعالى فإن البيت الشعري الغريب يهيج منها ما لا تهيج تلاوة القرآن؟! فهل البيت الشعري يؤثر في القلوب ويهيجها أكثر مما يفعل القرآن الكريم؟! وقول الغزالي -أيضاً- رحمه الله تعالى: اعلم أن الغناء أشد تهييجاً للوجد من القرآن لوجوه عديدة! ثم ذكر التفاصيل في موضع آخر.
ألم يقرأ قول الغزالي عن أصحاب مرتبة الصديقين بأنهم قوم رأوا الله سبحانه وحده، ثم رأوا الأشياء به، فلم يروا في الدارين غيره، ولا اطّلعوا في الوجود على سواه، وهذا هو النظر بعين التوحيد، وهو يعرّفك أنه الشاكر وأنه المشكور، وأنه المحب وأنه المحبوب، وهذا نظر من عرف أنه ليس في الوجود غيره، فهو الشاكر وهو المشكور! وهذا الكلام يقترب كثيراً من وحدة الوجود.
ألم يطّلع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرؤيا المكذوبة على تقسيم الغزالي الناس إلى صنفين، حيث قال: الصنف الأول: وهم الأذكياء، الذين لا يطلبون الجنة، بل يحتقرونها، وإنما يطلبون مجالسة رب العزة دائماً، والصنف الثاني: وهم البُلْه -أي: السذج - الذين يتمتعون في الجنة بالنسوان والطعام الشراب كالبهائم، مستبدلين الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! ألم يقرأ قوله: وما حكي من تفرق المشايخ وإخبارهم عن اعتقادات الناس وضمائرهم يخرج عن الحق؟! ألم يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الغزالي: واستمع بقلبك لما يوحى، فلعلك تجد على النار هدى، ولعلك من سرادقات العرش تنادى بما نودي به موسى: إني أنا ربك؟! أيكون الغزالي معصوماً من كل زلّة ومنزّهاً عن كل ما اقترف، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ كتابه ورقةً ورقةً فلا يجد فيها خطأً يسيراً أو ملاحظة صغيرة على الأقل؟! أهذا هو الإحياء الذي زعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم تصفحه ورقة ورقة ثم قال: والله إن هذا لشيء حسن؟! وأن أبا بكر رضي الله عنه قال: نعم، والذي بعثك بالحق إنه لشيء حسن؟! إن هذه الرواية المختلقة لم تكن إلا بمثابة تخويف وتهديد لكل من يهم بإنكار هذه الأباطيل الواردة في كتاب الإحياء، فلا يخافن أحد من هذه الأساطير الصوفية، ولا يترددن في إنكار أي شيء باطل يراه، فإن إنكار المنكر هو ركيزة هذا الدين، وما تركه قوم إلا استحقوا غضب الله وعقابه، والصوفية أوهموا الناس عكس ذلك، فإذا أنكر أحد هذه المنكرات الموجودة في مثل هذا الكتاب خوفوه بمثل هذه الأكاذيب، قال الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71]، وقد ترك بنو إسرائيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فاستحقوا اللعن على ألسنة أنبيائهم، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَو(68/15)
بيان بعض ضلالات الصوفية
لقد عهدنا في الصوفية أسلوب الترهيب من الإنكار على مخالفيهم لصريح شرع الله، وذلك أنهم يلفقون قصصاً لا أصل لها ليخوفوا بها من ينكر عليهم، قال النبهاني: قال المناوي: قال لي فقيه عصرنا -أي: فقيه عصره- شيخنا الرملي: إن بعض المنكرين رأى أن القيامة قد قامت، ونصبت أوانٍ في غاية الكبرَ، وأغلي فيها ماء يتطاير منه الشرر، وجيء بجماعة ضبائر ضبائر، فوضعت فيه حتى تهرى اللحم والعظم، فقال: من هؤلاء؟ قال: الذين ينكرون على ابن عربي وابن الفارض!! ومن ابن عربي وابن الفارض حتى يعذّب هذا العذاب كل من ينكر عليهما كما يزعمون؟ إن ابن عربي يقول في كتابه (فصوص الحكم): فيحمدني وأحمده ويعبدني وأعبده ففي حال أقر به وفي الأعيان أجحده ولو أردت زيادة لتعرف من هو ابن عربي -الذي يرهبوننا ويخوفننا من أن ننكر عليه- فاسمع ما يقول: فلولاه ولولانا لما كان الذي كانا وإنا عينه فاعلم إذا ما قلت إنسانا فلا تحدق بإنسان فقد أعطاك برهانا فقل حقاً وكن خلقاً تكن بالله رحمانا وقال أيضاً: العبد ربّ والربّ عبد فليت شعري من المكّلفْ إن قلت عبد فذاك رب أو قلت ربّ أنى يكلّف وبما أن حكاية الكفر ليست بكفر فنذكر مقالته الكفرية -والعياذ بالله- حيث يقول: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسة هذا هو ابن عربي الذي يعظمونه، ويقولون: احمل كلامه على غير ظاهره! أما ابن الفارض فهو الذي ينادي ربه مخاطباً إياه -سبحانه وتعالى- بضمير المؤنث! وهو يقول: لها صلواتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلت كلانا مصلّ واحد ساجد إلى حقيقته بالجمع في كل سجدةِ وما كان بي صلى سواي ولم تكن صلاتي لغيري في أدا كل ركعةِ وما زلت إياها وإياي لم تزل ولا فرق من ذاتي لذاتي أحبّتِ فالصوفية يظنون أن الناس لا ينكرون هذا التحريف لحقائق وأصول دين الإسلام، فيذكرون مثل هذه الروايات المكذوبة حتى على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حيلة لهم بغير هذا الطريق؛ لأنه ليس لهم سلاح غير المنامات والتخويف الكلامي، أما السنّة والعلم والأدلة فلا يستطيعون أن يرفعوا بذلك رأساً؛ لأن مثل هذه الكتب وهذه الأفكار تضمنت من العجائب ما يشهد على رده الأدلة الشرعية، بل الأدلة قائمة ضدها، فإذا عجز أحدهم عن القيام في حلبة العلم ومواجهة الأدلة بالأدلة والحجة بالحجة لجأ إلى الأحلام وإلى الاختلاق الصوفي.
ويأتي العيدروس بشواهد على كتاب الإحياء وتعظيمه، حتى إنه ينسب إلى الإمام النووي رحمه الله تعالى أشياء لا يمكن أن تصح عن الإمام النووي، منها أنه قال: كاد الإحياء أن يكون قرآناً! وقال: أجمع العلماء العارفون بالله على أنه لا شيء أنفع للقلب وأقرب إلى رضا الرب من متابعة حجة الإسلام الغزالي ومحبة كتبه.
ونحن لا نتكلم في الإمام أبي حامد، فإنه إمام، ونسأل الله أن يعفو عنه ويجزيه خيراً؛ لأنه له آراء مشرقة في هذا الكتاب وفي غيره، وإنما نتكلم عن المواضع المخالفة للكتاب والسنة.
وقال العيدروس: قال الشيخ الكازروني: لو محيت جميع العلوم لاستُخرِجَتْ من الإحياء.
ونقل عن علي بن أبي بكر السقاف قوله: لو قلّب أوراق الإحياء كافر لأسلم! يقول الأستاذ دمشقية: لكنني أتساءل: أي كافر من الملل الأخرى اجترأ أن يوافق أبا تراب النخشبي في قوله: لئن رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة؟! هل هناك كافر عندما يسمع هذا الكلام يسلم؟ ومن منّا يوافق أبا يزيد البسطامي في قوله حين قال له رجل: سبحان الله.
فقال له: قولك: سبحان الله شرك؛ لأنك عظّمت نفسك فسبّحتها وما سبحتَ ربك؟! فهل هذه الأقوال تنقل الكافر من الكفر إلى حظيرة الإسلام، ولم نقصد التوسع في هذا الأمر، لكن هذا خلاصة.
ومما ينبّه عليه -أيضاً- أن العيدروس يعتبر كتاب الإحياء أشبه بصكوك الغفران التي كانت تباع بها الجنة أيام الكنيسة الرومانية! لقد كان ضمان الجنة أو الحرمان منها من قبل البابا، وكلمة (البابا) كلمة فيها تعظيم عند النصارى لكافر نجس، فهم يعظمونه بكلمة (البابا)، وهي تعني أباهم هُم، ونحن لا نعترف بها؛ لأن فيها تعظيماً لهذا الشخص المعادي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
فكان بابواتهم في الكنيسة الرومانية يحجزون للناس أماكن في الجنة حسب النقود التي يدفعونها لهم كما يزعمون.
وهذه الخدعة الموجودة عند النصارى أصبحت تتكرر عند الصوفية، وتزداد لمن يحصّل كتاب الإحياء عند العيدروس.
يقول الشيخ عبد الوهاب الشعراني في طبقات الأولياء: إن الشيخ مدْيَن الأشموني جاءته امرأة، وقالت له: هذه ثلاثون ديناراً وتضمن لي على الله الجنة.
فقال الشيخ موافقاً لها: هذه لا تكفي! فقالت: لا أملك غيرها.
فضمن لها على الله دخول الجنة، فماتت فبلغ ورثتها ذلك، فجاءوا يطلبون الثلاثين ديناراً من الشيخ، وقالوا: هذا الضمان لا يصح.
فجاءتهم في المنام وقالت لهم: اشكروا لي فضل الشيخ؛ فإني دخلت الجنة.
فرجعوا عن الشيخ.
وهذا الشيخ أحمد الرفاعي يطلب شراء بستان من صاحبه، فيقول له صاحب البستان: تشتريه مني بقصر في الجنة؟ فقال: من أنا حتى تطلب مني هذا يا ولدي؟! اطلب شيئاً من الدنيا.
فقال: يا سيدي! شيئاً من الدنيا لا أريد، فإن أردت البستان فاشتره بما أطلب.
فنكّس السيد أحمد الرفاعي رأسه ساعة، واصفر لونه وتغير، ثم رفع وقد تبدلت الصفرة احمراراً، وقال: يا إسماعيل! قد اشتريت منك البستان بما طلبت.
فقال: يا سيدي! اكتب لي خط يدك.
فكتب له السيد أحمد الرفاعي ورقة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى إسماعيل بن عبد المنعم من العبد الفقير الحقير أحمد بن أبي الحسن الرفاعي ضامناً على كرم الله تعالى قصراً في الجنة، تجمعه حدود أربعة، الأول إلى جنة عدن، والثاني إلى جنة المأوى، والثالث إلى جنة الخلد، والرابع إلى جنة الفردوس، بجميع حوره وولدانه، وفرشه وستره، وأنهاره وأشجاره، عوض بستان في الدنيا، وله الله شاهد وكفيل! فهذه بعض الأمثلة التي تبين ألاعيب القوم التي شابهت إلى حد كبير الرهبنة، والغلو في الدين وفي الرجال، وأكاذيب الكنيسة وأربابها، وبيع العقارات في الجنة هو من جملة هذا التقارب والتشابه، فلا البابا -كما يسمى- قادر على ضمان الجنة لأحد، بل ولا لنفسه، ولا الشيخ عبد الله العيدروس، ولا عبد القادر العيدروس، ولا أحد قادر على ضمان الجنة لأحد، بل ولا لنفسه، فقد جاء في الحديث الصحيح ما يفيد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تزكية الأخ أخاه، فكيف بمن يضمن للناس الجنة؟! بل ومن يريهم إياها، كما فعل الشيخ العيدروس في عبد الله بن أحمد بن كثير! ولما توفي عثمان بن مظعون رضي الله عنه وكفّن في أثوابه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أم العلاء الأنصارية: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله -تقول ذلك لـ عثمان - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله أكرمه؟).
وهذا كقول بعض الناس لمن يموت: لقد استراح.
! وما يدريك أنه استراح؟! هل الإنسان اطلع على الغيب؟! هل بمجرد أنه كان مريضاً أو عانى في دنياه يقال: فلان استراح، وربنا أكرمه؟! إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقالت: بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟!) أي: إذا ما أكرم الله عثمان بن مظعون فمن سيكرم؟! فقال عليه السلام: (أما هو فقد جاءه اليقين، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري -وأنا رسول الله- ما يُفعل بي) أي: في الدنيا، أما في الآخرة فإنه يعرف.
فقالت أم العلاء: فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً.
فكيف لو يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قوماً يضمنون الجنة للآخرين بمجرد قراءتهم كتاباً؟! قال الموافق لمصنفه والمخالط له: أنه ملئ بمادة الفلسفة وشيء من رسائل إخون الصفا، وفيه متناقضات كثيرة.
وقد ولى كل إلى ربه وحسابه على الله، ونرجو للمسلمين جميعاً الخير، لكن هذا كان مجرد بيان، كي لا نتردد في بيان الحق، ولا نأبه بمثل ما يسمى عصا العيدروس أو أنصار العيدروس ممن يخالفون الكتاب والسنة، ويلوحون بهذه العصا لمن اجترأ على انتقادهم وكشف زيفهم بأدلة الكتاب والسنة.
اللهم! اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، سبحانك -اللهم- وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(68/16)
مسئولية الرجل عن الأسرة
لقد حمّل الله الرجل مسئولية الزوجة والأولاد، وجعل له القوامة عليهم من حيث الإنفاق والرعاية والتربية الإيمانية والحث على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأعداء الله يحرصون على تفكيك الأسرة وتشتيتها فكرياً وعقلياً وعقدياً؛ لكي يفسدوا المسلمين، فيتحقق لهم ما يريدونه من السيطرة على هذه الأمة، وإبعادها عن دينها، وأخذ خيراتها، فعلى المسلم أن ينتبه من غفلته، ويكون مستعداً لمجابهة الأخطار التي تهدد كيان الأسرة، ويعالج الخلل والخطأ والنقص في التعامل مع أسرته.(69/1)
الحرب العالمية ضد المرأة المسلمة وطرق التخلص منها
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فنعود إلى موضوع القضايا التربوية التي سبق أن شرعنا فيها منذ مدة، وقد توقفنا عند مسئولية الرجل عن حماية الأسرة.
فقد قرر الإسلام مكانة عظيمة للأسرة، ويتجلى ذلك في اهتمام الشريعة الإسلامية بشئون الأسرة سواء في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما تضمن من أحكام الزواج والرضاع والطلاق والإرث ونحو ذلك.
واستطاعت الأجيال المتعاقبة أن ترسخ معاني إسلامية عميقة في الأسرة في مجتمعاتنا، وأحس أعداء المسلمين -وهم يحاولون هدم هذه الأمة- صلابة هذه اللبنات وقوة هذا الحصن، ومن أجل ذلك كان هجومهم في الأزمان الأخيرة مركزاً على الأسرة، فاستخدموا كل القوى التي يمكن أن تصل إليها أيديهم وما أكثرها! {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
فمن هذه الأساليب: سن القوانين التي تفكك الأسرة في كثير من بلاد المسلمين.
ومن ذلك أيضاً: شن الحملات على الأسرة عن طريق الفن، بواسطة وسائل النشر والإعلان من قصص ومجلات وصحف وإذاعة وتلفزيون ومسرح وسينما، وما زالوا في طريقهم ماضين.
احتفل هؤلاء بمرور مائة سنة على تحرير المرأة الذي بدأه قاسم أمين منذ قرن كامل، وبعد قرن كامل من هذه الثورة الانقلابية على دين الله سبحانه وتعالى من هذا الرجل نرى الآن حصادها وشؤمها وثمراتها المريرة، وكيف أنها بدأت ناعمة هادئة يدعي صاحبها أنه يريد تطبيق كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن المسلمين هم الذين يسيئون فهم النصوص إلى آخر هذه الأحابيل والحيل، وانتهت بالاحتفال الذي أقيم بمرور مائة سنة على تحرير المرأة -بزعمهم- وتكلم -لا أقول: ناقصات العقل والدين- ولكن عديمات العقل والدين من التلميذات التاريخيات لـ قاسم أمين ودعوته المشئومة.
فامرأة من لبنان تجهر وتقول: أنا ملحدة وأفخر بأني ملحدة! وترفض أن توصف بأنها مسلمة.
وتقول نوال السعداوي في رسالة للمؤتمر: ينبغي أن نتحدى إرادة الله والعياذ بالله! ومثل هذا مما لا يسوغ نقله وحكايته، وإن كانت حكاية الكفر ليست كفراً، فهذا من حصاد هذه الدعوة المشئومة للتمرد على أحكام الشريعة فيما يتعلق بالأسرة والمرأة.
وهذه الحملات مصدرها أعداء الدين، وقد يدعم هذه الحملات سيطرة النزعة المادية على سواد الناس، وانشغال الناس بجلب المال والكسب والرزق يجعلهم لا يلتفتون إلى خطر هذه الأشياء؛ لأنهم في شغل شاغل عن إدراك ما يحاك لهم.
الأسرة المسلمة كانت مستهدفة من قبل أعدائها، وأصبحت الآن مهددة من قبل أصحابها المسئولين عنها، فنحن دائماً نلقي اللوم على الآخرين من أعداء الدين الذين بالفعل يحاربون الإسلام، لكن ننسى أن أصابع الاتهام ترتد إلينا نحن أنفسنا في كثير من الأحيان! فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، وقال في الحديث نفسه: (والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته)، وكلمة (مسئول) أصبح لها معنىً عرفياً عند الناس، تعني: موظف في مكان معين، أو شخصية رسمية مسئولة، وننسى المعنى الحقيقي لكلمة مسئول، فإن معناها: أنه سوف يسأل أمام الله، فكلمة (مسئول) تشير إلى هذا المعنى العظيم والخطير، وهو: أن العبد مسئول بين يدي الله سبحانه وتعالى ومحاسب.
فحينما يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته)، لا يتصورن الأب أن الزوجة والأولاد يملكهم كما يمتلك العبيد أو كما تمتلك الأشياء، فيظن أن له أن يقصر أو لا يقصر، ويتصرف كما يشاء، يضرب يسيء يهين يفعل ما يشاء، لا، بل عليه أن يدرك أنه ممتحن ومبتلى بهذه الولاية وهذه المسئولية، وأنه سوف يحاسب أمام الله سبحانه وتعالى عن كل سلوك مع أهل بيته من زوجة وأولاد.
فأمر مهم جداً أن يفهم معنى: (مسئول عن رعيته) وهذا هو لب القضية التي نتناولها؛ لأننا بصفة أساسية نخاطب الرجل الوارث باعتبار أن: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34].
ومن أبرز مظاهر هذه القوامة: أن يقوم الرجل بواجباته الأدبية والتربوية والمادية وغيرها نحو هذه الرعية التي ولاه الله سبحانه وتعالى عليها.
معنى (مسئول عن رعيته): أنه سيقف أمام الله سبحانه وتعالى، وكما سيحاسب على الصلاة والزكاة والصيام وغيرها فإنه سيحاسب عن تصرفاته وسلوكه تجاه أهله وأولاده.
ولم يهمل الإسلام الجناح الآخر في العملية التربوية، خاصة وأن المرأة في بعض المراحل تكاد تستبد بالعملية التربوية خاصة في المراحل الأولى في فترة الرضاعة وما بعدها من الحضانة؛ لأن الطفل يكون شديد الالتصاق بها، وهذه المرحلة أخطر، وهناك أحكام شرعية تشير إلى تخصيص الأم بالحضانة عند انفصال الزوجين، وغير ذلك من الأحكام التي تركز في المراحل الأولى على الأم، كما قال الشاعر: الأم مدرسة إذا أعددتها أعدت شعباً طيب الأعراق فالنبي عليه الصلاة السلام لم يهمل ولم يغفل هذا الركن الرئيس في التربية، فقال عليه الصلاة والسلام في نفس الحديث: (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها)، فالأم أيضاً مسئولة أمام الله سبحانه وتعالى عن هذه العبادة الخطيرة، وهي: حسن رعاية أولادها وزوجها وبيتها.
فعلى كل أب وأم أن يستشعرا هذه المسئولية نحو الأسرة، وأن ينتقل هذا الموضوع إلى دائرة الاهتمام، فيصبح شيئاً نلفت النظر إليه، وننتبه إلى خطره، وإلى عظيم أثره في مستقبل هؤلاء الأولاد، بل في مستقبلنا نحن حينما نحاسب أمام الله سبحانه وتعالى في الآخرة.
فلفت النظر إلى الاهتمام بهذه القضية وخطرها هو أول خطوة على الطريق الصحيح، ونحن الآن ينطبق علينا قول الشاعر: تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد فالتيار العام في زمن الغربة الثانية يهدم في كل مكان، ونادراً ما تجد شيئاً يبني، فالمدرس يَهدم ويُهدم وكذا الأبوان ووسائل الإعلام شلة الأصدقاء المجلات الجرائد الأجهزة المرئية والمسموعة وهكذا! فمعظم العوامل المؤثرة عوامل هدامة في زمن الغربة الثانية، وقد رجع الإسلام غريباً كما بدأ غريباً.
فلا شك أن هناك خطراً داهماً ماحقاً يهدد كياننا، والأسرة هي القلعة الأخيرة التي يمكن نجاتها من هذه السهام وهذا التهديد، فآخر قلعة يمكن أن يتحصن بها المسلمون ويحافظوا على أولادهم هي الأسرة.
نرجع بذاكرتنا إلى عقود كثيرة من الزمان أكثر من خمسة وسبعين سنة، فالحكم الشيوعي في الجمهوريات الإسلامية انتهبها وسرقها تحت ما يسمى بالاتحاد السوفيتي الهالك المفكك، ونستغرب الآن حينما تحررت نسبياً كثير من هذه الجمهوريات، من هذا الدب الأحمر؛ كيف استطاع هؤلاء أن يحافظوا على هويتهم وعلى عقيدتهم في ظل الحرب الإلحادية المركزة ليل نهار!! نجد أن الأسرة هي الكيان الوحيد الذي صمد خلال هذه الفترة سواء في فترات الحكم الشيوعي في هذه الجمهوريات الإسلامية السابقة أو في أوروبا في البوسنة والهرسك وكوسوفو، فالمعقل الوحيد المتبقي على ضعفه هو الأسرة، حتى كانوا يبنون غرفاً تحت الأرض يخفون فيها دينهم، ويعلمون الأولاد الصلاة والقرآن تحت الأرض، ولو علم الشيوعيون بذلك لكان جزاء الأبوين القتل، وأي إنسان يعلم الناس اللغة العربية أو القرآن أو يتكلم بمعنى الإسلام أو يضاد الدعوة إلى الإلحاد وإنكار وجود الله كان جزاؤه القتل في أبشع مجازر وجرائم شهدتها الإنسانية على أيدي هؤلاء الشيوعيين.
فكانت القلعة الحصينة هي الأسرة، فأكثر شعوب العالم الإسلامي غزيت بما يهدد عقيدتها في عدة مجالات، ولا شك أن أخطر المجالات على الإطلاق هي مناهج التعليم، غزينا في الأسواق في المتاجر في المصانع في وسائل الإعلام في أدوات تكوين الرأي العام.
ليس هذا فحسب، بل حيل في كثير من بلاد المسلمين بين الدعاة العاملين وبين الناس بعد تشويههم بأنهم متطرفون وأنهم رجعيون إلى آخر هذه القائمة من المصطلحات التي ما أريد بها إلا أن يصد الناس عن دين الله سبحانه وتعالى.
فلم يبق لهذه العناصر في كثير من البلاد إلا مجال الأسرة، وبقيت هي المنطلق الوحيد لهؤلاء الدعاة، فلا ينبغي أن نلقي اللوم دائماً على الأعداء ونبرئ أنفسنا، بل كثير منا يتحمل من هذا الأمر أكبر نصيب من المسئولية؛ لأنه باستطاعتنا أن نغير في داخل الأسرة التي لا سلطان لأحد عليها بالإكراه، فإذا تبوأ الأب المسلم والأم المسلمة موقعهما التربوي داخل الأسرة فإنهما ما زالا قادرين على بناء سياج يحمي أولادهم من الأخطار في خارج البيت والأسرة.(69/2)
أهم الأخطار التي تهدد كيان الأسرة(69/3)
من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة الشغل المتواصل
الأمر السادس: الشغل المتواصل، فقد أصبح رب الأسرة في معظم الأحيان عاجزاً عن أن يجد الوقت الذي يجتمع فيه بنفسه أو بأفراد أسرته، ويوجههم ويحدثهم ويستمع إليهم، حتى إن زوجته لا يتاح لها أن تجلس معه وتتفاهم معه على الخطة الرشيدة التي يجب أن يسير بموجبها أفراد الأسرة، وقد قلنا من قبل: لابد من وجود سياسة تربوية موحدة بين الأبوين، ويكون هناك اتفاق على أمور أساسية جداً لمصلحة الأولاد، حتى لو كان بينهما خلاف فلا ينبغي أن يظهر أبداً أمام الأبناء، بل يكون خلاف الأبوين سرياً ومكتوماً ولا يطلع عليه الأولاد، فلا بد من الاتفاق على التكامل في الناحية التربوية.
فالأب إذا كان يأمر بشيء والأم تأمر بعكسه، يحتار الطفل بينهما، أو الأم تعاند الأب أمام الأولاد، وتحاول أن تكسر كلامه، وتخرق توجيهاته، فهذا كله يدفع ثمنه الأولاد، ولا مخرج منه إلا بالاتفاق على أساليب تربوية معينة تدور على التنسيق والتكامل بين الطرفين، والآن الرجل في الصباح يسارع إلى عمله الدنيوي، ولا يعود إلا متأخراً ليأخذ قسطاً من الراحة، وخلال هذه الفترة تمنع الحركات والهمسات، ولا يستطيع أحد أن يتكلم معه، ثم لا يعود في المساء إلا في ساعة متأخرة من الليل ليجد أهل البيت نياماً! بعض الآباء يستعملون البيت مثل الفندق أو (اللوكندة) يأتي ليبيت فيه ثم في الصباح ينصرف، ولا علاقة له بالعملية التربوية، فيعود في المساء ليجد الأولاد نياماً، ويذهب في الصباح أيضاً وهم نائمون، ولا شك أن هذا أمر مستنكر من عموم الناس، وهو من المتدينين أشد استنكاراً؛ لأن هذا الأخ المتدين سيجد نفسه بعد مدة -بمرور الزمن- في واد وزوجته وأولاده في واد آخر، يحلم أن أولاده سيكونون ملتزمين، ومن أين سيأتي الالتزام بهذه الطريقة؟! لا بد أن يكون هناك توجيه وتربية وتخطيط وآداب ومعاونة، أما مجرد الأماني فلا تنفع، قال الله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} [النساء:123].
هذا شيء طبيعي، ويأتي بعد ذلك الأب يشكو أن ابنه منحرف مع الأولاد ويفعل كذا وكذا أو لا يصلي أو إلى آخر هذه الشكاوى، فهل ستأتي له من السماء وتنزل عليه هذه الاستقامة أم لا بد من الأخذ بهذه الأسباب؟! فبمرور الوقت تزداد الهوة والفجوة بين الطرفين، لا شك أنه سيندم ولاة ساعة مندم، وهذا الشغل لم يقتصر على الرجل، بل شمل في بعض الأسر المرأة التي تترك بيتها طوال النهار، وتكل تربية أبنائها وإعداد بيتها للخادمة؛ فيكون من ذلك الضياع التام.
إما الخادمة وأحياناً يكون الشارع، وأحياناً ملاجئ الإيواء التي يسموها الحضانة وغيرها من الأسماء، لكن هي أماكن مجرد إيواء، هل ممكن أن يقدم للطفل من الرعاية في هذه الأماكن عشر معشار ما تقدمه الأم في البيت؟ لا يمكن أبداً.(69/4)
من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة روح اللامبالاة
الأمر الثاني: روح اللامبالاة، وهي روح منتشرة في كثير من الناس، مع أن الشرع الشريف يربي في المسلمين الشعور بالمسئولية، ولا أدل على ذلك من قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته).
فنحن نتكلم كثيراً عن الحكم بما أنزل الله ثم نقتصر فقط على دائرة الحدود، الحكم بما أنزل الله في كل الأمور الشرعية، أنت إذا رجعت إلى أي كتاب فستجد فصلاً كبيراً اسمه: الحكم والحاكم والمحكوم فيه والمحكوم به والمحكوم عليه إلى آخره، فحكم الله في كل شيء، فأنت مطالب أن تحكم بما أنزل الله في بيتك، وأن تدير هذا البيت وفق شريعة الله سبحانه وتعالى، فكثير من الآباء يوجد عندهم روح اللامبالاة بالأولاد، وهذا مضاد للإسلام الذي خاطب الآباء بقوله: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، وقال في نفس الحديث: (الرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته)، وقال صلى الله عليه وآله سلم: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته).
فلا تظن أنك إذا أسأت إلى الأولاد أو إلى الزوجة أن الزوجة ستصبر، وأن الأولاد لجهلهم بحقوقهم ما زالوا صغاراً لا يدركون أنك مقصر، أو يستحيون أن يحاسبوك، لا تظن أنك قد نجوت بهذا، فالسؤال منتظر لك يوم القيامة، فستسأل عن سلوكياتك معهم.
الإسلام نمى في المسلمين الشعور بالمسئولية نحو الأبناء، فليس هناك أمر يحدث في المجتمع ولا يكون له تأثير، وما أروع حديث السفينة الذي يجعل أي عمل من أي فرد له تأثير على المجتمع كله، فهذا الحديث يبين لنا أن روح اللامبالاة تقضي على الأمة كلها.
المسلمون في بلادهم عبارة عن أناس يركبون هذه السفينة، إذ لو أن ذاك الرجل الذي أراد أن يخرق في موضعه من السفينة خرقاً ترك وشأنه، يثقب ثقباً في السفينة ليشرب ولا يؤذي من فوقه، ولم يؤخذ على يده؛ هلك وهلكوا، وآل الأمر من أصغر خرق إلى أوسع خرق، ثم البحر يبتلعهم جميعاً، فإذا استسلمنا جميعاً لروح اللامبالاة فلا شك أن ركاب السفينة جميعاً سيغرقون.
ومظاهر الشعور باللامبالاة كثيرة جداً، وهذا الكلام ينكأ كثيراً من الجراح عند بعض الناس؛ لأن بعض الآباء لم يعرف ابنه في السنة كم ذهب إلى المدرسة، وليس عنده أي خبر على أنه ابنه كثير الغياب، وهو يظن أنه خلق لينفق المال، وهو غير مقصر مع أولاده ما دام أنه يعطيهم مالاً، فيهمل أولاده تماماً حتى أن بعضهم لا يعرف ابنه في أي سنة دراسية بلغ أو في أي مدرسة يدرس، فهناك نوع من اللامبالاة والإهمال يعكس فعلاً تمكن الأمية التربوية في مجتمعنا.(69/5)
من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة لزوم التقاليد الاجتماعية وقلة العلم بالدين
الأمر الثالث: لزوم التقاليد الاجتماعية المتعفنة وقلة العلم بالدين، فنرى كثيراً من هذه التقاليد التي لم يشرعها الله سبحانه وتعالى تحل محل الدين في كثير من بلاد المسلمين، ومما مكن لها السيطرة الجهل وتخلف الوعي الإسلامي، فالعادات والتقاليد متمكنة تمكناً راسخاً، بحيث ينضاف إليها تخلف الوعي الإسلامي والجهل بأحكام الإسلام.
وهذه الأمور تختلف من مكان إلى مكان، لكنها في كل مكان تسيء في عملية بناء الأسرة بناءً متيناً أو تؤثر في محاولة الإبقاء عليها أمام هذه الأعراف، فالتقاليد الاجتماعية المتعفنة راسخة وظاهرة وكثيرة ومعروفة مع الجهل بالدين، فتسيطر على الناس التقاليد والأحوال الاجتماعية بسبب الجهل بالشريعة الإسلامية.(69/6)
من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة تسلط المرأة على إدارة البيت
الأمر الرابع -وهو من الأمور التي أحدثت الاعوجاج في أوضاعنا الاجتماعية وخاصة التربوية-: تسلط المرأة على إدارة البيت، فمن النقص أن ينزل الرجل نفسه في غير منزلتها اللائقة بها، فالله سبحانه وتعالى جعل الرجال قوامين على النساء، وإذا فسد القوام فسد جميع الأقوام، فالرجل له مقام ربان السفينة.
فمن هو قائم على شيء فهو أفضل منه، فما دام الرجل قواماً على المرأة فهو بلا شك أكمل من المرأة، وأقدر على الإدارة من المرأة، فشأنه أن يكون مطاعاً لا مطيعاً، ومتبوعاً لا تابعاً.
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه فإن شاء أعلاها وإن شاء سفلها وقد استشرى داء تسلط المرأة وطغيانها في أوساطنا بسبب التفلت، وهو من أخطر الأمور وأكثرها إيذاء، وينتج عنه كثير من الاضطرابات النفسية، أو يزيد من الاضطرابات النفسية إن كانت موجودة، وهذه المصيبة يدفع ثمنها غالياً.
فقد تقترح المرأة أن تلبس البنات لباساً لا يقره الإسلام بحجة أنهن صغيرات، وأن الناس هكذا يعملون، وأن المصلحة في مسايرة الزمان، وتظل توسوس لزوجها كما يوسوس الشياطين إلى أن ينهزم الرجل ويستسلم.
قد ترى المرأة تقوم بألوان من الاستقلالات التي لا يقرها الإسلام، ويضعف الرجل ويوافق، ويكون في هذا هدم للأسرة، فهذا انتكاس وقلب للأوضاع، حيث تبقى المرأة هي المسيطرة على الرجل، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الكلام على أمارات الساعة: (أن تلد الأمة ربتها) يعني: ينقلب المخدوم خادماً، والخادم مخدوماً.
وليست القوامة أن شخصية المرأة تلغى، لكن جعل الله سبحانه وتعالى القوامة في حدود شرعه، فلا شك أن القوامة هي عملية تنظيمية وليست عملية استبدادية أو استعبادية كما يزعم أعداء الله عز وجل وأعداء المرأة الذين يزعمون أنهم أنصارها، فمهما يكن من أمر فلا شك أن إلغاء شخصية الرجل أكبر خطراً وأعظم أثراً.(69/7)
من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة طغيان الحنان والشفقة
الأمر الخامس: طغيان الأمومة الحانية والأبوة المشفقة، وهذه مبالاة بصورة مرضية، وتسمى الحانية الزائدة، فقد تطغى على الأم الأمومة الحانية أو على الأب مشاعر الأبوة المشفقة، وتتعدى حدودها، وإزاء هذا الفيض من العاطفة، والسيل المتدفق من الحنان، والميل الشديد لاسترضاء الولد وإدخال السرور عليه؛ وقف الإسلام وقفة المذكر المنبه، فلكل شيء حدود، فهذا الحنان وهاتيك العاطفة قد تنسيان الأب مهمته في التوجيه والتربية، فينقلب عندئذ إلى منفذ لأوامر الأطفال الصغار، ويفلت منه الزمام تماماً بحيث تبقى وظيفته هي عبارة عن منفذ لأوامر الأطفال الصغار! فيكون الولد ملكاً في البيت ما يأمر به من أمر إلا يسمع له ويطاع، حتى لو خرب ميزانية المنزل، فمثلاً يريد لعباً من المحل الفلاني رآها وهو يمشي في الطريق، أو يريد يرى قريبه، فينقلب الأب منفذاً، ويتخلى عن التاج الذي وضعه الشرع على رأسه، ويصبح هذا التاج فوق رأس الطفل، وتصبح وظيفة الأب هي تنفيذ أوامر الأطفال الصغار، ويسارع في تحقيق رغباتهم مع أنهم لا يعرفون من الحياة شيئاً، ولا يدرون ما ينفعهم ولا ما يضرهم.
فكثير من أجيال المسلمين اليوم لم يجدوا في والديهم إلا الحنان المحض أو الإهمال اللامبالي، فهذا هو التطرف، وهو الأخذ بأطراف الأمور، إما إغراق في الحنان بصورة فيها تطرف وغلو بحيث إنه يصل إلى أن الولد يمسك زمامه، ويوجهه إلى ما يريد، خاصة في بعض الأسر المترفة التي عندها يسار، فيقول الأب: عندنا أموال فلماذا ننكد عليه؟ فيظل مهما أمر يقول الأبوان: سمعنا وأطعنا يا مولاي! ويحصل هذا القلب للأوضاع، فالمرءوس يصير هو الرئيس.
والإهمال واللامبالاة بالأولاد غالباً يكون من الأب بسبب انشغاله بالرزق أو سفره إلى الخارج كي يجلب لهم المال، وأحياناً قد يسافر الأب والأم معاً إلى الخارج، ويبقى الأطفال ضحية للضياع ولأصدقاء السوء، وفي ذلك من المفاسد ما لا يخفى.
وبسبب هذا التطرف من ناحية الحنان المحض الزائد أو من ناحية الإهمال واللامبالاة المطلقة رأينا أجيالاً فيها الميوعة والضعف والانهزامية واللامبالاة.
يقول الدكتور محمد الصباغ حفظه الله تعالى تعليقاً على هذه النقطة: سمعت من الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله أن رجلاً جاء يسترشده لتربية بنت ولدت حديثاً، فسأله: كم عمرها؟ قال: شهر، قال: فاتك القطار! قال: وكنت أظن في بادئ الأمر أنني مبالغ، ثم عندما نظرت وجدت أنما قلته هو الحق، وذلك أن الولد يبكي فتعطيه أمه الثدي، فينطبع في نفسه أن الصراخ هو الوسيلة إلى الوصول إلى ما يريد، ويكبر على هذا، فإذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن، ويظن أن البكاء والصراخ يوصله إلى حقه! وبعض الناس يسمع هذا الكلام ويخطئ في تنفيذه، فهذا الكلام له ضوابط، فالطفل لغته الوحيدة التي يستطيع بها التفاهم مع المحاطين به هي البكاء، فبعض الناس يقول: ما دام أن الطفل يبكي إذاً نعاقبه وإن كان رضيعاً ابن شهر أو شهرين، مع أن البكاء هو طريقة الحصول على الطعام، فالطفل لا يستطيع أن يقول للناس: أريد أن أرضع، فالبكاء هي اللغة والوسيلة الوحيدة التي يستطيع الطفل أن يعبر بها عما أراده، والبكاء أنواع: بكاء بسبب المرض، بكاء بسبب الجوع، بكاء بسبب الحر، بكاء يريد به أن ينظف وتزال عنه القاذورات مثلاً، فأسباب البكاء كثيرة، فاللغة الوحيدة للطفل هي لغة البكاء، لكن دلالاتها تختلف، والأم التي عندها خبرة تربوية عالية تستطيع أن تميز كل نوع من أنواع البكاء، وتعرف أن هذا بسبب المرض، وهذا بسبب الجوع، وهذا بسبب الحر وهكذا.
عندما كان الرجل في سابق الأيام مسيطراً على البيت كانت جلادته وصلابته تخففان من لين الوالدة، أما بعد أن استنوق الجمل في كثير من الأوصاف، -استنوق: أي: صار الجمل ناقة-، وأصبح الرجل يتصف بهذه الأوصاف، ولا مهمة له إلا القيام بالخدمات وجلب الأغراض والحاجيات، ودفع المال والنفقات؛ لم يعد يملك من أمر بيته إلا اليسير كما هو شأن هذا الجيل المائع المنهار.
وعلى المرأة المسلمة وظيفة أساسية وهي أن تحافظ على وضعية زوجها وأبي أولادها أمام الأولاد؛ لأنها إذا حاولت هدم هذه الوضعية فالجميع سيدفع الثمن، الزوج والزوجة والأولاد، فحينما تريد أن تنتقم من الأب بأن تشوه صورته أمام أولادها تنقص قدره، وتظن أنها سوف تفوز بانحياز الأولاد إليها؛ فإن هذا يفقدها سلاحاً في غاية الأهمية، وضرورياً لصيانة هؤلاء الأولاد، وإذا غاب سلطان الأب وضعف على الأولاد، فلا شك أن هذا ثمنه فادح.(69/8)
من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة عدم النظر إلى العواقب
أول هذه الأمور التي تعرض الأسر للخطر: عدم تقدير المستقبل، فكثيراً ما يتصرف الناس بعض التصرفات، ثم لا يقدرون أثرها في المستقبل، وهذا أمر خطير في التعامل مع الطفل منذ فترة الولادة مباشرة كما سنبين بالتفصيل، وربما تمتد إلى فترة المرحلة الابتدائية، فنظرة بعض الآباء للطفل أنه عبارة عن لعبة يتلهى بها، وينظر إليه بازدراء، وأنه ما يأتي منه شيء، وهو ما زال صغيراً، فيحرم كثير من الخير الذي كان يمكن أن يحصله، وأيضاً تزرع فيه كثير من الأمور الهدامة لنفسية هذا الطفل، مما يجعله لا يثق بنفسه أو ينشأ مشوهاً نفسياً.
فالآباء يفعلون كثيراً من التصرفات دون أن يدركوا أن هذه التصرفات لها أثرها على أولادهم في المستقبل، وعندما نقول: الآباء ندرج ضمن هؤلاء أيضاً المدرسين؛ لأن الطفل يقضي مع المدرس وقتاً ليس بالهين في المدرسة، ويتلقى العلم على الأساتذة، ويتسرب إليه من رفقائه كثير من المفاهيم، ونحن نتصور أنه شيء هين عادي، لكن هو يترك أثراً في نفسية هذا الطفل خاصة إذا تكرر، فمثلاً الطفل الذي يرسم رسماً ليس فيه روح، فيأتي إلى المدرس أو المدرسة وهو منبهر أنه رسم في حصة الرسم الشيء المطلوب منه حديقة أو بحراً أو كذا، فالمدرسة دائماً ترد على كل طالب مهما كان مجيداً للرسم: سيأتي نفس هذا الرسم! فهذه أكبر كلمة تقال! وهي كلمة عابرة، والمدرسة متصورة أنه شيء سهل هين، لكن الطفل يصطدم صدمة شديدة، ويفقد الثقة بنفسه؛ لأنه قيل له الألفاظ المعروفة، فيبوء بالخيبة والفشل، ولا يجد أملاً! تصوروا أن هذه حوادث عابرة تترك تأثيراً عظيماً في الطفل حتى الطفل الرضيع والجنين في بطن أمه يتأثرا بكثير من الأشياء كما سنبين.
ومثلاً يرد الطفل على الهاتف، فيسأل المتصل عن أمه أو أخيه أو أبيه فيقول له: قل له: إنه غير موجود، ويتصور أنه حادث عادي، دون أن يدرك أن هذه السلوكيات في المستقبل لها أثر هدام في سلوكيات الأبناء.
فأكبر خطر وأكبر مشكلة أننا نتعامل مع الطفل دائماً بعقلياتنا نحن، فالشيء الذي نراه مساوياً تماماً لعقلنا نكافئه عليه، ونعاقبه إذا قصر في هذا مع أنه لا يد له في ذلك، وأنت لما كنت طفلاً كنت مثله، وكانت إمكاناتك قليلة، وخبراتك قليلة، وإنما تتعلم عن طريق التجربة والخطأ والتلقين والقدوة وغير ذلك من الوسائل، ومن الخطأ الشديد تعذيب الأولاد بالضرب والإهانة والتحقير، ويريدون بذلك أن يتصرف الطفل تصرفاً سليماً صحيحاً.
فترى الأب يغضب ويعاقب ابنه للتشفي منه في حين أنه ليس عليه ذنب، فالشرع الشريف قد رفع عنه القلم، ولم يؤاخذه حتى على الصلاة إلى سن العاشرة، وقبلها يؤمر فقط بالصلاة إذا بلغ السابعة فما بالك بما دون ذلك؟! فالشاهد أننا مع الأطفال نتهاون في التصرف أمامهم بتصرفات دون أن نقدر خطرها عليهم في المستقبل، ونتصور أن السكوت على أمر ما هين يسير، ولكن السكوت على هذا الشيء قد يهدم الأسرة هدماً تاماً! قد يتصور الأب أن أولاده الصغار لا يستحقون أن يخصهم بجزء من وقته الثمين، فهو يضحك ويسخر منهم، ولا يأمر واحداً منهم بخير، ولا ينهاه أو يحذره من شر، ولا يقدر المستقبل، ولا يدري أن هذا الطفل الصغير سيكون بعد مدة وجيزة رجلاً كبيراً، وقد يكون له شأنه في البيت وفي المجتمع كله.
هذا هو الأمر الأول الذي ينبع من أنفسنا، ونسيء به إلى أبنائنا، وهو عدم تقدير المستقبل، ولا نحس بخطورة الإهمال الذي نتمادى فيه تجاه الأولاد، فهذا له ثمن فيما بعد، فهو يراك -مثلاً- حينما تعق أباك أو تعق أمك، فهذا درس عملي له، وسوف يتسرب إليه نفس هذا الشيء فيما بعد، ويفعل نفس الشيء فيعقك أنت، قال تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26].
فالسلوكيات التي تمر بصورة عفوية ولا ندرك خطرها في المستقبل، هي تنزرع في أعماق هذا الطفل حينما يشب وينشأ عليها، فهذا هو الأمر الأول: عدم تقدير المستقبل والنظر إلى عواقب سلوكياتنا مع الأبناء.(69/9)
مقتطفات من كلام الصباغ حول تربية الأسرة
يقول الأستاذ الدكتور/ الصباغ حفظه الله تعالى: أشغال الناس كثيرة ومتنوعة، وهي التي تلهيهم عن العملية التربوية، وبالتالي تؤدي إلى ارتفاع الفجوة بين الآباء وبين الأبناء.
يقول: غير أن هناك نوعاً غريباً جداً من أنواع هذا الشغل، وهو ما يكون للدعوة وإصلاح الناس، وذلك خطأ في تصور الدعوة والعمل فيها، والمرء مطالب بأن يصلح أهله أشد المطالبة، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
وقال تبارك وتعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]، وإهمال الداعية لأهله سيوقعهم في الانحراف والمخالفة، والاشتغال الكامل بوظائف الدعوة هو باب من أبواب الخير، لكن إذا كان على حساب الفروض العينية والمتعينة على الرجل من تربية أولاده والحفاظ على دينهم؛ فإنه يدخل ضمن المشاغل المدمرة.
فلا تغلب الدعوة على حساب الواجب العائلي الذي إذا قصرت فيه فلن يكون خيراً في حين أن الآخرين الأبعد منك من الناس من يقوم تجاههم بالواجب الكفائي في دعوتهم.
وحينما يحصل الانفصال بين الأولاد من جانب وبين الأب من جانب آخر، فقد لا يستطيع أن يستمر في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ويقال له: إن كنت صادقاً فأصلح بيتك، ويكون هذا الوضع الخاص مضعفاً لتأثيره في الناس؛ لأنه لابد من القدوة، ويكون هذا سبباً في أن يتعكر صفوه، وتتنغص عليه لذاته، وتواجهه مشكلات قد تحول بينه وبين الاستمرار في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.(69/10)