استشكال وجوابه
قد يقول قائل: ما هو الفرق بين طلب بني إسرائيل رؤية الله وبين طلب سيدنا موسى لذلك؟
و
الجواب
أن الفرق بينهما كالفرق بين الثرى والثريا، فهؤلاء أناس قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] أي: أنهم ليسوا بمؤمنين والعياذ بالله، بل يستحقون نزول الصاعقة عليهم، ومع ذلك يشترطون لإيمانهم بالله رؤيته.
أما طلب سيدنا موسى فكان من شدة الشوق والحب لله عز وجل، وطلبه ليس مشروطاً لإيمانه بل هو مؤمن، ولكنه يريد الدرجة الأعلى، وإلا فكمال الحب كيف يوجد مع الشك أو عدم الإيمان؟! فالذين قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) [البقرة:55] فد كفروا بعبادة العجل وليسوا كلهم عبدوا العجل، فقوله: ((فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ)) أي: بعض قومك، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ} [الأعراف:152].
إذاً: هناك أناس اتخذوا العجل، وهنا أناس ليسوا كذلك، وقوله تعالى: (اقتلوا أنفسكم) أي: اقتلوا الذين عبدوا العجل، وإن كان هذا الخطاب عاماً في ذم بني إسرائيل؛ فهو يتناول الأغلب الأعم، ويعد في التاريخ من فعل بني إسرائيل، وذلك يعم الموجودين أيام النبي عليه الصلاة والسلام، ويعم الموجودين في أيامنا ممن يعملون هذه الكفريات، فيقال لهم: أنتم الذين عملتم؛ لأنكم أنتم راضين بهذا أو بمثيله، أو عملتم مثيله.
ولما أمر الله موسى عليه السلام للخروج مع رجال معه إلى ميقات الله تعالى اختار رجالاً وكان ذلك بانتقاء، لأنه لا ينفع العدد الكبير، فاختار موسى سبعين رجلاً هم قادة الأمة، واختار الأمثل فالأمثل.
إن من أهم الأشياء عمل القلب، والسحرة قالوا لفرعون: إنا آمنا.
والإيمان هو: قول وعمل في القلب، فهم تركوا الباطل وصروا على إيذائهم كما قالوا: ((رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا)) وهذا عمل، ((وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)) ونطقوا بالشهادة وهذا عمل، وهذا إيمان وعمل عظيم جداً ليس له نظير من كثير من الناس.
وسبب كثرة تكرار هذه القصة في القرآن: أن هذه قصة بناء أمة ليس لها نظير في الأمم السابقة، وأشبه سيرة بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الناس، فكانت هذه السيرة بمثابة الوقود والنور الذي يبين للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الكرام ما يلزم فعله في مواجهة الباطل، وسوف تبقى عبر العصور كذلك؛ لأن هذه السيرة أكثر قصة تكررت في القرآن من قصص الصراع بين الحق والباطل بوضوح وجلاء بين، فيحتاج المسلمون أن يعرفوا تفاصيل هذا الصراع لكي يستفيدوا منه.
ثم إن الصفات القبيحة التي وقعت من بني إسرائيل أراد الله بذكرها في القرآن تحذيراً للأمة، أن لا تعمل مثلهم، وهذه الصفات القبيحة ذكرها الله أيضاً لكي نعرف عدونا الذي سوف يستمر معنا بمعرفتنا صفاته عبر التاريخ.(66/10)
إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين
يبين الله عز وجل في آيات محكمات من سورة آل عمران أن الهزيمة التي وقعت للمسلمين في غزوة أحد إنما كانت بسبب ذنوبهم، ومخالفتهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه تلطف بهم، وصد المشركين عنهم، وقذف في قلوبهم الرعب، وأزال من رءوسهم فكرة استئصال المسلمين.(67/1)
أمراض الشعوب المهزومة التي حذرنا الشرع منها(67/2)
مرض الضعف والوهن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فيقول الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139 - 152].
قال ابن القيم رحمه الله في فوائد هذه الآيات والدروس المستفادة من قصة غزوة أحد: لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم، وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزمهم بها، وأنها نوعان: تقصير في حق، أو تجاوز لحد، وأن النصرة منوطة بالطاعة ((قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا))، ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يقدروا هم على تثبيت أقدام أنفسهم، ولم ينتصروا، فوفوا المقامين حقهما، مقام المقتضي وهو التوحيد والالتجاء إلى الله عز وجل، ومقام إزالة المانع من النصرة وهي: الذنوب والإسراف.
ثم حذرهم سبحانه من طاعة عدوهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}! فحذرهم سبحانه من طاعة عدوهم، وأخبر أنهم إن أطاعوهم خسروا الدنيا والآخرة، وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا يوم أحد.
وهنا قضية عظيمة الأهمية في هذه المواقف وفي أمثالها عبر العصور؛ وذلك أن الأمراض التي تصيب الأمم المهزومة في معاركها العسكرية، هي أمراض خطيرة مدمرة، بها تزول حضارات الأمم، وبها تضمحل مناهلهم.
ومن هذه الأمراض: مرض الضعف، وهو أن يضعفوا في القيام بالحق الذي معهم نتيجة الهزيمة، ويتركوا القيام بما أوجبه الله عز وجل عليهم.
وكذلك مرض الوهن، وهو التعلق بالأرض وحب الدنيا وكراهية الموت، وهذا يسلط العدو أكثر حين ينشغل الناس بدنياهم، وحين تكون قضيتهم في الحياة هي الرواتب التي لم تصرف، والأطعمة التي توزع، والملابس التي يكتسون بها ويكسون أولادهم، حين تصبح قضيتهم هي قضية الصراع على الدنيا يزداد العدو تسلطاً، ويأكل الثروات ويلقي بالفتات ولا حول ولا قوة إلا بالله، والشعوب المغلوبة المقهورة حين تضيع قضيتها تصبح كذلك فيصيبها الضعف والوهن.(67/3)
مرض الاستكانة لغير الله تعالى
والمرض الثالث: مرض الاستكانة، وهو: الخشوع والخضوع والذل للعدو، ومظهر ذلك: طاعته التي أتت الآيات تحذر منها تصريحاً ونصاً، فالله عز وجل ابتلانا بالهزائم والانكسار لننكسر له عز وجل، ولنلتجئ إليه، ولنتضرع إليه، قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]، والله عز وجل ذم من لم يستكن له، ومن لم يتضرع له، قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76].
فتبين أن في هذا المقام نوعان من الاستكانة: استكانة محمودة، وهي استكانة لله عز وجل، وشعور بالانكسار لله سبحانه وتعالى، والضعف والعجز وطلب القوة منه سبحانه وتعالى، والشعور بالضعف والعجز وأنه لا قوة له إلا بالله، وأنه لا يثبت إلا أن يثبته الله، وهذا مقام أهل الإيمان الذين امتدحهم الله عز وجل حين قال: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147] وهذه الاستكانة المحمودة.
أما الاستكانة المذمومة، فهي التي قال الله عز وجل نافياً إياها عن المؤمنين من أتباع الأنبياء: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146] وهذا المقام، وهذه الأحوال نصيبها وحظها من العبودية عبودية الصبر، وعدم الاستكانة للعدو، والاستكانة للعدو قد تقع للإنسان وهو في الظاهر ممكن ومتسلط على غيره، وكبير يفعل في قومه ما يشاء، وهذه هي التي تحصل من المنافقين الذين يبتغون العزة بموالاة الكافرين، ويتابعونهم على باطلهم، ويطيعونهم في أوامرهم التي هي حرب للدين، والتي هي بغض لما أنزل الله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد:26] فيكون هذا الأمر موجباً لارتدادهم عن الدين على أدبارهم، نعوذ بالله من ذلك، وموجباً لحبوط أعمالهم؛ فإن موالاة الكافرين وطاعتهم تجلب الخسران وتجلب الضياع والعياذ بالله، وتجلب ضياع الدنيا والآخرة، وكما ذكرنا يلقي العدو الفتات ويأخذ حتى دنيا هؤلاء القوم، ولا يترك لهم شيئاً، فلا يظفرون لا بدين ولا دنيا، وإنما يبوءون بالذل والهوان والخسران المبين نعوذ بالله من ذلك.
هذه الاستكانة للعدو قد تقع لإنسان يكون في الظاهر على أنه حر طليق، وكبير وزعيم، وملك على قومه، ولكنه في الحقيقة في منتهى المهانة، وذلك أنه يستمر على الباطل، فيطيع بالمنكر ويطيع في الكفر والنفاق، وينشر ما يريده الأعداء والعياذ بالله، فيترك منهجه ودينه والتزامه، ويطيع في الكفر والفسوق والعصيان، نعوذ بالله من ذلك.
والاستكانة مرض من أمراض الشعوب المهزومة، والتي غالباً ما تقع عقب الهزائم العسكرية، وربما تقع بعد مدة، بعد عدة أجيال أو عدة سنوات، أو ربما بعد العشرات من السنين، فيخرج من يتكلمون باسم الناس وهم في الحقيقة يتكلمون بلسان العدو والعياذ بالله.
وقد وقع هذا في تاريخ المسلمين مرات عديدة عندما تقع هزيمة، ثم يقع بعد ذلك من يخرج ويروج لفكر ومناهج وحضارة الأعداء، وفي نفس الوقت ربما يزعم معاداة الأعداء، حتى يكون له منزلة لدى قومه، وحتى يتصدر ويرأس عليهم، ثم بعد ذلك يسوم قومه سوء العذاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فهذه الاستكانة المذمومة، وهذه الطاعة المحرمة التي حذر الله عز وجل منها.(67/4)
صور لأصحاب العزة
وقد يكون الإنسان أسيراً في الظاهر ذليل مهان، ولكنه لا يرضى أن يتكلم بالباطل، ولا أن يقر بالمنكر، ولا يرضى بما يريده الأعداء، فهو في الحقيقة عزيز كريم.
ومن أمثال هؤلاء: خبيب رضي الله تعالى عنه وهو مصلوب عند قريش، وهم يريدون أن يحصلوا منه على كلمة يقدح فيها بمحمد صلى الله عليه وسلم، حتى ولو تمنى أن يكون مكانه، قال أبو سفيان: أتتمنى أن تكون في بيتك وأن يكون محمداً صلى الله عليه وسلم مكانك؟ فيقول: لا أتمنى أن أكون في أهلي وفي بيتي ومحمد صلى الله عليه وسلم تصيبه شوكة فما فوقها، فكان موقفاً عزيزاً، يدل على عزة وعدم استكانة، رغم أنه مصلوب، فيتركه المشركون يصلي ركعتين، فيصلي ويطيل، ويقول: لولا أن يظنوا أنه جزع من الموت لأطال، ثم يقول وهو مقبل على الموت: اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً.
يقول: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع عزة عجيبة الشأن.
وهذا النبي صلى الله عليه وسلم عندما يفر أصحابه عنه في غزوة حنين فينزل من على بغلته ويقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)، فهو يعرف الناس بنفسه، فمن أراد أن يناله بسوء فليأت إليه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وكل الأنبياء والرسل في فترات الاستضعاف أعزة، رغم أنهم غير ممكنين، ورغم أنهم كان ينالهم من الضرب والجراح، والأذى والشتم والسب، وأحياناً الحبس والسجن، وأنواع البلاء المختلفة: كالإلقاء في النار والقتل، ولكنهم ثابتون لا يركنون إلى الذين ظلموا، ولا يقبلون باطلهم، ولا يرضون بمنكراتهم، وهذه قضية عظيمة الأهمية في حياة المؤمن.
فليس العز والذل مرتبط ببدن الإنسان، ولكنه بروحه وثباته على دينه ومنهجه وعقيدته، فكم من أحرار الأبدان أسرى الأرواح، وكم من أسرى الأبدان أحرار الأرواح، أرواحهم طليقة حرة، حررها التزامها بشرع الله عز وجل من عبودية البشر، ووجدت سعاة عظيمة هائلة في القرب من الله عز وجل، فتجاوزت حدود هذه الأرض بما فيها من قوة ظاهرة للكفرة والظلمة، تجاوزتها وارتفعت، ورأتها ذرة صغيرة في كون واسع فسيح لا ملك فيه إلا لله عز وجل، حقيقة يقينية قطعية، ما أن ترتفع الأنظار عن الأرض إلا وتراها بينة جلية.
لكن أكثر الناس أبدانهم وأرواحهم حبيسة الأرض، فأخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم، وتسلط الشيطان عليهم حتى جعلهم لا يرون إلا موازين الكرة الأرضية، رغم أن الموازين في داخل هذه الكرة الأرضية -عند حقيقة التأمل- ليست ملك البشر، ولكن أكثرهم لا يرون إلا ما يحسون من شهوات، من أموال ومن أمور ظاهرة.
ولكن أرواح المؤمنين انطلقت فوجدت كوناً فسيحاً واسعاً، وترسخت في قلوبهم أن الله سبحانه وتعالى هو الملك، فقالوا: ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، فهو سبحانه الملك الحق، ولذا لم يخضعوا لغيره، ولم يذلوا ولم يستكينوا إلا له سبحانه وتعالى، وأبوا أن يستكينوا للعدو، وأبوا أن يقولوا باطلاً، وأن يعاونوا العدو على منكره وكفره وشركه، وأن ينافقوا كما نافق المنافقون، فاللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، واللهم يا مصرف القلوب! صرف قلوبنا على طاعتك.
قال عز وجل: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ)) أي: وكم من نبي وهم كثير، ((قَاتَلَ مَعَهُ)) وفي قراءة أخرى (وقُتِلَ) والقراءتان متواتران، وكلاهما لهما معنى صحيح واجب التدبر، فقد قاتل الأنبياء طوائف وجماعات كثيرة، وقتل منهم جماعات، وقُتل بعض الأنبياء، وقتلت جماعات من المؤمنين الذين معه، ((قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ)) وفي قراءة أخرى (وقُتِلَ معه ربيون كثير) قُتِل هو أي النبي، وكان معه ربيون قتلوا وبقيت جماعة: ((فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا))، ما وهن المقتولون عند ملاقاة القتل، بل تلقوه بالاستبشار والترحيب به، ولسان حالهم يقول: فزنا ورب الكعبة، وقالوا: اليوم نلقى الأحبة محمداً وصحبه.
فكانوا يقبلون عليه، وما وهنوا عند الموت وما ضعفوا وما استكانوا، وما وهن الباقون، وما تعلقوا بالدنيا، وما ضعفوا في القيام بالواجب عليهم من الالتزام بشرع الله عز وجل، وما استكانوا لعدوهم، ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ))، والمؤمنون دائماً ما يسألون ويبحثون عما يحبه الله، فإذا علموا ذلك طاروا إليه.
فأعظم ما يأخذ بقلوبهم إلى الله عز وجل أن يعلموا أن الله يحب من يفعل أفعالاً معينة، فهو عز وجل يحب المتقين، ويحب الصابرين، ويحب المحسنين، وانظر وتأمل جمع الله بين الصبر والإحسان في قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:146 - 148].
فالصبر والثبات هو الذي يحرك قلوبهم، والصبر في هذا المقام صبر يجمع كل أنواع الصبر: صبر على الطاعة، وصبر على المعصية، والتي هي: موالاة أهل الكفر وطاعتهم، وهو مقام يقع فيه الكثيرون من الذين يبيعون دينهم، ويصيرون من جنود الكفار، فبالأمس كانوا جنوداً -فيما يبدو- للحق، ثم لما انتصر الباطل صاروا جنوداً له، وكم من الناس مستعد أن يكون كذلك، وأن يطيع الكفرة إلى درجة الحرب في صفهم ولا حول ولا قوة إلا بالله، ودائماً يظهرون وخصوصاً بعد الهزيمة ونعوذ بالله.
فلذلك المؤمنون صبروا على المعصية، وعن هذا الضلال والكفر والنفاق.
وصبروا على الأقدار المؤلمة، وعلى ما يصيبهم من آلام في مقام نصرة الدين وفي سبيل الله، وخصوصاً عند حصول الهزيمة، فإنها تصيب الناس بأنواع من الآلام الكثيرة، ومجرد رؤية البلاد والعباد يسقطون في أيادي الأعداء هو أمر في غاية الألم وغيظ للمؤمنين.(67/5)
الدعاء من أقوى الأسلحة
قال تعالى: ((وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا)) فالدعاء من أمضى وأقوى الأسلحة، وكذلك التضرع إلى الله بأسمائه وصفاته وخاصة الربوبية منها، والاعتراف بالذنوب؛ فإنها عمل صالح؛ لأنهم يحاسبون أنفسهم، ولأنهم ليسوا كالذين يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون، فكم من المحن تنزل، ولكن الكثير من الناس لا يعي ولا يتوب ولا يتذكر إلا من رحم الله.
وليسوا كالذين دائماً ينظرون إلى جانب الكمال في أنفسهم وما هو بكمال، بل هي نقائص وأمراض، ومع ذلك يرون أنفسهم أكمل الناس وأفضل الناس، وأعلمهم بالدين والدنيا ونعوذ بالله من ذلك، فهذا أمر في غاية الخطورة.
أفلا نعي الدروس؟! ألا نستفيد من المحن؟! ألا نستفيد من البلايا؟! ألا نراقب الله ونراجع أنفسنا؟! {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126]، وهذا هو حال المنافقين نعوذ بالله من النفاق، أما أهل الإيمان فإنهم راجعوا أنفسهم، والله لم يقدر تخطيط الأعداء ومكرهم إلا لنرجع إليه، ولذلك بادروا وأقروا على أنفسهم بالإسراف، وإياك أن تظن بنفسك أداء الحق وأنت لم تؤد حتى عشره، وهذا موطن خطير جداً، عندما يتأمل كل واحد منا في نفسه ولا يراها مقصرة، ويجلس وحيداً بعيداً عن الناس، ثم يسأل نفسه: هل تؤدي ما عليك فيما بينك وبين الله؟ وفيما بينك وبين الناس؟ وفي أداء الواجبات؟ وفي ترك الذنوب؟ وفيما أوجب الله عليك من نصرة الدين؟ فإذا حدثتك نفسك وقالت لك: أنا أديت ما علي، والتقصير إنما هو من غيري، والناس هم السبب، والبلايا والمحن جاءت من غيري، فتأكد أننا لن نتغير، وأن الواقع يحتاج منا إلى عمل طويل الأمد، في داخل النفوس قبل أن يكون في خارجها، ولابد أن تكون صادقاً في قولك: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا))، ولابد أن تعترف فعلاً بينك وبين الله عز وجل، ليس على سبيل التواضع وهضم النفس وأنك تراها مستحقة لغير ذلك، ولكنك تعترف من باب الاقتداء بالمؤمنين الذين قالوا ذلك، أو الترديد باللسان لهذه الأدعية، ولابد أن تكون صادقاً حين تقول: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا))، ولا بد أن تستشعر أن الأمة أُتيت من قِبلك، ومن ناحيتك، ومن الثغرة التي أنت عليها، وأنت على ثغرة بلا شك، فكل واحد منا على ثغرة من ثغرات العمل من أجل الإسلام، وإذا وجدت أن نفسك تقول لك: أنا أفضل وغيري هو المقصر، فاعلم أننا ذاهبون إلى مزيد من البلايا والمحن ونسأل الله العافية، وإنما كان قول المؤمنين كما قال الله: ((وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)) توسل إلى الله بالربوبية، وتوسل إلى الله بالاعتراف بالذنب، وقد ورد في الحديث: (أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
فالذنوب هي التي هزمتنا، وهذا أمر حقيقي واقع، وكل منا له ذنوب وتقصير وإسراف على نفسه، وأكثر الناس يجود بعمره ووقته ويسرف على نفسه، ويسرف على شهواته ورغباته، فيجود بالزمان وبالوقت ليضيعه في معصية الله، ولو كان في المباحات لكان بخساً على الإنسان، فكيف بمن ينفق عمره وساعاته في معصية الله عز وجل؟ فهذا هو حقيقة الإسراف، وهذا هو التقصير الحقيقي.
قوله تعالى: ((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)) المقصود بتثبيت الأقدام: حسي، ومعنوي.
فالحسي في معركة القتال، والمعنوي على الصراط المستقيم، حتى لا تزل القدم في أهواء مضلة، وحتى لا ينحرف الإنسان إلى الهاوية، إما إلى شبهات مضلة وإما إلى شهوات مغوية، والمسلم محتاج إلى التثبيتين، فكم من إنسان عنده معرفة نظرية وعندما تأتي لحظات المواجهة والشدة لا يثبت، بل ينهار تماماً رغم أنه كان على علم، فليس العلم هو العلم الذي على اللسان، إنما العلم النافع هو العلم الذي في القلب، وهذا يظهر في فترات الشدائد والمحن، وفي مثل هذه اللحظات من الهزيمة.
((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)) يعلمون أن الله هو الذي يثبت القلوب والأقدام، وأنه سبحانه وتعالى إن لم يثبت أقدامهم لم يثبتوا، والإنسان يلحظ في قوله تعالى: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا)) التزام بالشرع وإيمان به وانقياد له، وفي قوله: ((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)) إيمان بالقدر، وتحقيق لقوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وأما قوله: ((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)) دليل على معرفة العبد المؤمن بأن الله هو الذي يثبت قلبه ويثبت قدمه على الصراط المستقيم، حتى لا ينحرف ولا يزل ولا يضل ولا يكون غاوياً نعوذ بالله من ذلك.
ففيه إيمان بالقدر ولجوء إلى الله، وهذا مقام التوحيد كما ذكر ابن القيم رحمه الله، مقام الصبر، ومقام اللجوء إلى الله والتضرع إليه، والتوسل إليه بأسمائه وصفاته، والتوسل إليه بأعمالنا الصالحة، من الاعتراف بالذنوب وطلب قضاء أعظم الحاجات، وهي الثبات على الصراط المستقيم.
قوله تعالى: ((وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)) وهذه هي التي يرجوها أهل الإيمان، وليس هذا لتحقيق نفع دنيوي، وإنما لإبطال الكفر، ولذا وصفوا قومهم بالكافرين في هذا المقام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة -في غزوة أحد- يحاربون قريشاً، وقريش هي التي تحاربهم وهم من نفس القبيلة، ومن نفس الوطن، ومن نفس القومية، وعلى الرغم من ذلك وصفوهم بالقوم الكافرين؛ لأنهم إنما يريدون نصرة الدين، فهم لا يقاتلون لأجل منصب، ولا يقاتلون لأجل قومية أو قبلية أو وطنية أو غير ذلك، وإنما يقاتلون لأجل الدين، فكيف بمن صار لا يقاتل لا حمية ولا شجاعة ولا نصرة للدين ولا لقومية ولا لوطنية؟ أصبحت أمور عجيبة في زمننا هذا نسأل الله العافية، وصار الناس يقاتلون لأجل ألا تباع أوطانهم، وألا تهدم قومياتهم، وصار من ينادي الآن بالقومية أقرب حالاً نسأل الله العافية، فأي بلاء هذا الذي نزل بنا؟ مهانة عجيبة، لكن أهل الإيمان إنما يقاتلون لكي يبطل الكفر.
فهم وصفوا قومهم في هذا المقام بالقوم الكافرين، لكي يؤكدوا البراءة منهم وأنهم يريدون إبطال كفرهم، وإبطال شركهم، وألا يظهر كفرهم على وجه الأرض، والنصر من عند الله عز وجل اعتقاد يقيني لأهل الإيمان.(67/6)
الخسران المطلق لمن أطاع أعداء الله
قال سبحانه وتعالى: ((فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)) جمع الله لهم الدنيا والآخرة، فأتتهم الدنيا وهي راغمة؛ لأن الله أمرها أن تأتي إليهم، آتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، وتأمل هذا الجمال أن الله عز وجل لم يقل في (ثواب الدنيا) حسن ثواب الدنيا؛ وذلك أن الدنيا وإن كان فيها نعيم فإنها لا تكمل لأحد، وليست خالصة بل لابد أن تشاب، وأما ثواب الآخرة فهو الثواب الحسن، وهو الذي يستحق أن يوصف بالحسن؛ ((وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)) فهو عاملهم الله بأحسن ما عملوا، وآتاهم أحسن الثواب بفضله عز وجل: ((فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)).
وأما من أطاع الكفار فإن الآيات تبين أنه خسر ((فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ))، الخسران المطلق، وهذا يشمل خسران الدنيا وخسران الآخرة، ونعوذ بالله من ذلك، والله ما ينالون دنيا ولا ينالون آخرة هؤلاء الذين أطاعوا الكفرة.
قال عز وجل عن المؤمنين: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وهذا الإحسان في هذا المقام هو إحسان فيه عبادة الله عز وجل، وهو كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) والإحسان الذي يحبه الله عز وجل هو الإخلاص، والتوكل على الله، واللجوء إلى الله عز وجل، والتضرع لله سبحانه وتعالى، والصبر، وعدم الوهن، وعدم حب الدنيا، وعدم الضعف في طاعته، وعدم الاستكانة للعدو، والتحمل في سبيل الله عز وجل، فإذا حققت عبادات القلب صرت محسناً، والإحسان في عبادة الله عز وجل -فيما بينك وبين الله- يثمر، وينعكس الإحسان إلى الخلق من الإحسان في عبادة الله عز وجل، فإذا أحسنت في عبادة الله وفقك الله عز وجل للإحسان إلى الناس، فأحبك الله عز وجل وأحبك الناس، ومن أحبه الله سبحانه وتعالى قذف محبته في قلوب الخلق، ونادى جبريل في أهل السماء: (إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض)؛ وذلك أن الله عز وجل أحبه، فأحبه جبريل وأحبه أهل السماء وأحبه أهل الأرض، والمؤمنون الصادقون هم علامة أو خلاصة أو حقيقة أهل الأرض.
أما الذين يعيشون على وجه الأرض كالأنعام بل هم أضل، فإنه لا قيمة لحبهم ولا بغضهم ولا أثر له، وإنما علامة حب المؤمنين بأن يوضع له القبول في الأرض، فترى قلوب المؤمنين تفد إليه بأنواع البر والإحسان والحب والقبول، فهم شهداء الله في أرضه.
وأما إذا وجدت الكفار يحبون -مثلاً- زعيماً لهم؛ لأنه سلطهم على من خالفهم، أو لأنه خدعهم بأنواع الخداع مثلاً، فأحبوه أكثر، فليس هذا بالأمر المعتبر، فهم لا قيمة لهم ولا عبرة بهم وليسوا بشهداء الله في أرضه.
إذاً: فالحشيش مثلاً والزروع هي أحب شيء؛ لأن الأبقار والأغنام تأكل ذلك، فهؤلاء كالأنعام بل هم أضل، فلا عبرة بحبهم وبغضهم، وإنما يعرف ذلك بمحبة أهل الإيمان وبغض أهل الإيمان، والمفتاح العظيم لجذب قلوب المؤمنين هو تحقيق الإحسان، وتحقيق الصبر، وترك الوهن وترك الضعف، وترك الاستكانة للكفار، وترك موالاتهم وطاعتهم، قال عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)) فكشف لنا حقيقة ما يريدون، حتى لا يقول قائل: هم لا يحاربون الإسلام! وهم لا يريدون أن نترك الدين! فالله قد بين لنا ما يريد الكفرة من المشركين وأهل الكتاب، ولفظة (المشركين) عند إطلاقها يقصد بها: عباد الأوثان وغيرهم ممن ليسوا بأهل كتاب، ويدخل فيهم أهل الكتاب الكفرة في الحقيقة، لكن يخصوا بذلك، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:100 - 101].
فالكفار بأنواعهم المختلفة يريدون إبعادنا عن الدين، ويريدون ردة المسلمين، ويريدون أن يردونا على أعقابنا، فماذا بعد أن بين الله نيتهم؟ وماذا بعد أن كشف الله خبايا ضمائرهم؟ فهل نقول بعد ذلك هم لا يريدون ذلك؟ وهم لا يحاربون الإسلام؟ فمن قال: إن الكفرة لا يريدون منا عدم الالتزام بالدين، وإنما يريدون تعليمنا الحضارة والديمقراطية، وتعليمنا ما ينبغي أن نتعلمه من التقدم، فهو يخدعنا من يقول ذلك، وهم والله لا يريدون إلا حرب الإسلام، وهذه قضية مكشوفة في القرآن، وبينها تمام البيان، فهم لا يريدون بنا خيراً قطعاً، ومن ظن غير ذلك فهو واهم أو مخدوع، أو هو في الحقيقة مخادع وهو لا يظن غير ذلك، بل يعلم، ولكن يشارك في الجريمة ونعوذ بالله.
فالقضية قضية واضحة، كما بينها الله جل وعلا في قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ))، النتيجة: ((فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)) أي: من انقلب على عقبيه، أو من ارتد عن الدين ولو كان بالنفاق، فليس لازم أن يقول: إنه شخصياً ترك الإسلام، ولا أنه لا يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهم الآن ليس من مصلحتهم أن يتنكر الناس لهاتين الكلمتين؛ لأنه سوف يفقد رصيده في عامة المسلمين، وهم لا يريدون ذلك، والأمور ستهيج، إلا أن يكون المتسلط من جلدتنا ويتكلم بلساننا، فهذا هو الذي يحقق المكاسب الكبيرة لأعداء الله، ولذا نجد ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية -كما سنذكره- يقول: ينهى الله عز وجل المؤمنين عن طاعة الكفار والمنافقين.
ويقول أيضاً: يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من طاعة الكافرين والمنافقين، ولفظة (المنافقين) ليست موجودة في الآية، لكنها دخلت تحت قوله: ((إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا)) فلذلك ذكر ابن كثير رحمه الله ذلك ليس سبق قلم منه، والله تعالى أعلى وأعلم.
يقول: يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من طاعة الكافرين والمنافقين؛ فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران:149 - 150].
مشكلة صعبة تواجه أهل الإيمان ييسرها الله عز وجل، ويبين علاجها؛ ذلك أنه إن لم نطع الكفار ماذا نصنع والأمور بأيديهم؟ والموازين موازين القوة المادية، وهي في صالحهم، فأكثر الناس يقول: لابد أن نسير في ركبهم، لابد أن نقبل هذا الواقع، ونردد ما يقولون وننفذ ما يريدون -ونعوذ بالله من ذلك- وحتى لو كانت حرباً على الإسلام، وصرف الناس عن دين الله عز وجل، وصدهم عن سبيل الله سبحانه وتعالى، ونسأل الله العافية.
وهذا ليس في زماننا فقط، بل عبر التاريخ تجد عقب الهزائم دائماً يقع ذلك والعياذ بالله، طوائف تنقلب خاسرة، فتردد هذه الكلمات الخبيثة: أننا لابد أن نطيع الكافرين، فعلى المؤمنين في هذه الحالة -وليس بأيديهم شيء- أن يتوكلوا على الله، ((بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ)) أي: أن الله ناصركم، فالله هو الذي يتولى أمركم بالإصلاح، فتوكلوا على الله في دفع أذاهم، وفي دفع مكرهم.
قال تعالى: ((وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ)) أي: خير من ينصر عباده المؤمنين، وليس لكم نصير من الأرض، لكن لكم خير الناصرين وهو الله عز وجل.(67/7)
الرعب للكافرين بما أشركوا مقابل الأمن للمؤمنين
قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران:151].
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم أخبر سبحانه أنه مولى المؤمنين، وهو خير الناصرين، فمن والاهم فهو المنصور، ثم أخبرهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم الرعب، الذي يمنعهم من الهجوم عليهم والإقدام على حربهم، وأنه يؤيد حزبه بجند من الرعب ينتصرون به على أعدائهم؛ وذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله، وعلى قدر الشرك يكون الرعب، فالمشرك بالله أشد خوفاً ورعباً، والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بالشرك لهم الأمن والهدى والفلاح ((لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ))، والمشرك له الخوف والضلال والشقاء.
قسمة عدل من الله عز وجل، فتجد الكافر عنده من أنواع القوة المادية كثرة هائلة، ومع ذلك هو في رعب عجيب، تلحظه في عيونه، وفي فلتات لسانه، واعترافاته، والأمراض النفسية التي تظهر فيه، والمسلمون لا يبلغون معشار معشار قوة الكفرة، ومع ذلك -ولو كانوا في أنواع المخاطر، وسط النيران، ووسط أنواع الفتن والمحن- تجد عندهم سكينة وأمن، يقول تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، والظلم الأصغر يحقق قدراً من الرعب والخوف بقدر ما ظلموا، والظلم الأكبر -الذي هو الشرك- يزيل الأمن بالكلية في الدنيا والآخرة كما قالها إبراهيم عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:81 - 82].
فالشعور بالخوف شعور مشقي للإنسان، وهو من أعظم ما يتعب الإنسان، ولا يجعله يستمتع بأكل ولا بشرب ولا بنوم، ولكن الله ابتلاهم الله بشيء من الخوف، وانظر إلى التقليل في قوله تعالى: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ))، فتأمل وقارن بين حالي القلبين: حال قلب المؤمن، وحال قلب الكافر، قال تعالى في الكافر: ((سَنُلْقِي)) فيحس المستمع بقوة شديدة، ولذلك تجد ردود الأفعال عنيفة جداً بدار الإسلام وأهله، ولكن الحقيقة أنهم هم الذين يشقون، وأهل الإيمان رغم أسباب الخوف المجتمعة إلا أن عندهم من الإيمان مما يؤمنهم، فالله يؤمنهم بإيمانهم قال تعالى: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9].
قال تعالى في المؤمنين: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ)) فيحس المؤمن كأن هناك شيئاً يلمسه من بعيد، وأما الكفار فيحس بشيء يلامس قلبه ويجعله يغرق والعياذ بالله.
قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة:155] ومعه الدواء: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155] دواء الصبر: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157].
فهذا عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، والحجاج يرمي الكعبة بالمنجنيق، فأُلقي حجر من أحجار المنجنيق بجواره مباشرة وهو ساجد يصلي، وأحرق جزءاً من ثيابه، وما شعر به، ولم يحس بما حدث، ولذلك ما قتل إلا لأنه كان يطلع لوحده، والناس تفر من حوله من أجل المال، ومن أجل الجاه المنتظر! فالمؤمن في أمان بإذن الله تبارك وتعالى كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم -في غزوة الأحزاب- في أمان عجيب، وكما كان إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وكما كان موسى عليه الصلاة والسلام في مواجهة فرعون، وفي كل المواقف مثبت من عند الله، قال تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67] أوجس شيئاً خفيفاً جداً من أجل أن نعلم أنهم بشر، ومن أجل أن نقتدي بهم إذا أصابنا ذلك.
فطمأنه الله تعالى بقوله: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68]، ولذلك تغير موسى صلى الله عليه وسلم في التو واللحظة، وواجه القوم قبل أن يلقي عصاه، قال: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:81 - 82] ومعنى (سيبطله) أي: لم يحصل بعد، ولما رمى عصاه أبطل الله عز وجل سحرهم وكيدهم: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء:45]، {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:118 - 119].
فكل مؤمن هو الأعلى؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].
إذاً: نحتاج إلى معالجة لأحوال القلب، فلو امتلأ إيماناً امتلأ أماناً، ولو امتلأ ذنوباً امتلأ خوفاً، فكلما تبعد عن الإيمان ينقص الإيمان، فيحصل الخوف، ويحصل القلق، ويحصل الاضطراب، والكافر والظالم أشد الناس اضطراباً وقلقاً ورعباً وخوفاً، فهناك كثير جداً من الظلمة -رغم كل الحراسات والأسلحة وغير ذلك- لا ينامون إلا بالمنومات، ولا يجدون للنوم مهنأً، وهذا من آيات الله سبحانه وتعالى، وكلما أشرك كلما ظلم، وكلما أفسد في الأرض كلما كان الأمر أشد، نسأل الله العافية.
((سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ)) والرعب هو: أشد الخوف، فهم يخافون من المرض، ويرتعبون من الموت رعباً عجيباً جداً، ويخافون من الفقر وإن كان بعيداً عنهم، ولذلك يطلب مالاً أكثر، ويكسب من الحرام ولا يشبع أبداً، فيصيبهم من الكآبة والحزن بما ظلموا، كلما ازدادوا ظلماً كلما ازدادوا خوفاً ورعباً، ولذا قال: ((وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)) فالشرك والظلم قرينان، والظلم الأصغر يقود صاحبه إلى الظلم الأكبر، والظالم أقرب الناس وقوعاً في الشرك والعياذ بالله، فالذي يظلم ظلماً ولا يتوب منه على خطر عظيم، إذ أنه بتأسيس ظلمه وترسيخ مكانته يسهل عليه أن يبيع دينه بعرض من الدنيا.(67/8)
النصر لزيم الطاعة
قال ابن القيم رحمه الله: ثم أخبرهم أنه صدقهم وعده في نصرتهم على عدوهم، وهو صادق الوعد، وأنهم لو استمروا على الطاعة ولزوم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لاستمرت نصرتهم، ولكن انخلعوا عن الطاعة، وفارقوا مركزهم، ففارقتهم النصرة، فصرفهم على عدوهم عقوبة وابتلاء، وتعريفاً لهم بسوء عواقب المعصية وحسن عاقبة الطاعة: ((وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ)) وتنازعتم في الأمر بين الرماة، وعصيتم حين تركتم أماكنكم أيها الرماة، ((مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ))، أي: نصرتكم على عدوكم، وقتل أصحاب لواء المشركين، وجري نساء المشركين هاربات.(67/9)
عفو الله عن المؤمنين يتمثل في صرف عدوهم عنهم
قال تعالى: ((وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ)) يقول ابن القيم: ثم أخبر أنه عفا عنهم بعد ذلك كله، وأنه ذو فضل على عباده المؤمنين، قيل للحسن: كيف يعفو عنهم وقد سلط عليهم أعداءهم حتى قتلوا منهم من قتلوا، ومثلوا بهم، ونالوا منهم ما نالوه؟ فقال: لولا عفوه عنهم لاستأصلوهم، ولكن بعفوه عنهم دفع عنهم عدوهم بعد أن كانوا مجمعين على استئصالهم.
فهو سبحانه وتعالى جعل في قلوب المشركين الانصراف، مع أن لحظات الهزيمة كانت لا تمنع من شيء، وكان من الممكن أن يدخلوا المدينة فعلاً؛ لأنه ليس هناك من يدفع أو يقاتل، فقد كان حول النبي صلى الله عليه وسلم عدداً قليلاً جداً يدافع عنه، ويقاتل قتالاً مستميتاً كما يقولون، وقد قتل بين يديه سبعة للدفاع عنه عليه الصلاة والسلام، وغير ذلك ممن قاتل حتى أوجب في يوم واحد، كـ طلحة استوجب الجنة في قتال يوم أحد رضي الله عنه، فكان الأمر أمراً عظيماً، ومع ذلك صرف الله عز وجل المشركين عفواً عن المؤمنين.
قال ابن كثير رحمه الله: لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، وقتل من قتل منهم نادى الشيطان: ألا إن محمداً قد قتل، ورجع ابن قمئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمداً، وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس، واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، وجوزوا عليه ذلك كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام أي القتل، فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال، ففي ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) فإنه له أسوة بهم في الرسالة، وفي جواز القتل عليه، وأن القتل ليس مما يعصم منه الأنبياء.
قال ابن أبي نجيح عن أبيه: أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان! أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، جزاء ما وهنوا عند القتل، فقد قتل ولكنه ليس عنده وهن، وإنما يأمر غيره بالثبات فنزل: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة.
ثم قال تعالى منكر على من حصل له ضعف: ((أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)) أي: رجعتم القهقرى كما ذكرنا أن الانقلاب هو ترك الواجب، إما بترك الدين بالكلية كالمنافقين، وإما بترك بعض الواجب كالقتال.
قال تعالى: ((وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) أي: الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه واتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً، وكذلك ثبت في الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طرق متعددة تفيد القطع، وقد ذكر ذلك في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن الصديق رضي الله عنه تلا هذه الآية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري عن عائشة: أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسبح، فكان في أطراف المدينة ضاحية من ضواحي المدينة، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة، أي: مغطى صلى الله عليه وسلم بثوب، فكشف عن وجهه ثم انكب عليه وقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها.
وقال الزهري: حدثني أبو سلمة عن ابن عباس: أن أبا بكر خرج وعمر يحدث الناس فقال: اجلس يا عمر! فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) إلى قوله: ((وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم فما سمعها بشر من الناس إلا تلاها.
قال: وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت -وقع في الأرض- حتى ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض.
وقال أبو القاسم الطبراني بسنده عن ابن عباس أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)) والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، ووالله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه فمن أحق به مني؟ يقصد -إن صح الأثر وإلا ففيه ضعف- وارثه أي: وارثه في العلم، فالعلماء ورثة الأنبياء، وأخوه في الله في الإسلام صلى الله عليه وسلم، ورضي عن علي، ووليه قريبه، وابن عمه رضي الله عنه.(67/10)
الموت لا يأتي إلا بعد استيفاء الأجل
وقوله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا)) فلا يموت أحد إلا بقدر الله، وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله له، ولهذا قال: ((كِتَابًا مُؤَجَّلًا)) كقوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:11].
وكقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام:2]، وهذه الآية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال؛ فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه، كما روى ابن أبي حاتم عن حبيب بن صهبان قال: قال رجل من المسلمين وهو حجر بن عدي: ما يمنعكم أن تعبروا هذه النطفة إلى العدو -يعني دجلة- يسمى النهر نطفة تصغير لدجلة: ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا))، ثم أقحم فرسه في دجلة، فلما أقحم أقحم الناس بعده، فلما رآهم العدو قالوا: مجانين فهربوا، إنهم يركبون النهر كالجن، ولا يساعدهم أي شيء فهربوا، سبحان الله! وعبروا دجلة فعلاً -في حروب الفرس- على خيولهم بفضل الله عز وجل، واليقين بالقدر يغير الله به الأسباب المادية.(67/11)
الأعمال بالنيات
وقوله: ((وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا)) أي: من كان عمله للدنيا فقط نال منها ما قدره الله له، ولم يكن له في الآخرة نصيب، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20].
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:18 - 19].
وهكذا قال: ((وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)) أي: سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم.(67/12)
معنى قوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير)
ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين عما وقع في نفوسهم يوم أحد: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)) قيل: معناه: كم من نبي قُتِل معه ربيون من أصحابه كثير، وهذا القول هو اختيار ابن جرير؛ فإنه قال: وأما الذين قرءوا: (قُتِلَ معه ربيون كثير) فإنهم قالوا: إنما عني بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين.
قال: ومن قرأ (قاتل) فإنه اختار ذلك؛ لأن الباقين هم المقاتلين الذين ليس في قلوبهم وهن؛ لأنه قال: لو قتلوا لم يكن لقول الله: ((فَمَا وَهَنُوا)) وجه معروف؛ لأنه يستحيل أن يوصفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعدما قتلوا، وفي نظر الكلام هذا له وجه معروف، وأنهم استقبلوا الموت بقوة وجرأة، وساعة الموت يعني حين قتلوا بشجاعة.
يقول: ثم اختار قراءة من قرأ: (قُتِلَ معه ربيون كثير)؛ لأن الله عاتب في هذه الآيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد، وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل، فعذلهم الله على فرارهم، أي: عاتبهم على تركهم القتال، وقال لهم: أفائن مات أو قتل أيها المؤمنون! ارتدتم عن دينكم؟ انقلبتم على أعقابكم؟ وقيل: وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير، وليس النبي الذي قتل، إذاً: قتل ربيون، إذاً: قتل معه جماعات كثيرة قتلوا بين يديه.
وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولاً آخر، قال: أي: وكأين من نبي أصابه القتل ومعه ربيون، أي: جماعات، فما وهنوا بعد نبيهم، -وهذا القول في الحقيقة شبيه جداً بقول ابن جرير - فما وهنوا بعد نبيهم وما ضعفوا لعدوهم، وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينه؛ فجعل قوله: ((مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)) حالاً، وقد نصر هذا السهيلي وبالغ فيه وله اتجاه في قوله: ((فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) الآية.
وهكذا حكاه الأموي في مغازيه عن كتاب محمد بن إبراهيم، ولم يحك أحد غيره.
وقرأ بعضهم: ((قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)) قال سفيان الثوري، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود: ربيون كثير أي: ألوف.
قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والسدي، والربيع، وعطاء الخراساني: الربيون الجموع الكثيرة.
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن الحسن: ربيون كثير أي: علماء كثير.
فسرها بمعنى رباني، ولكن هذا تفسير مرجوح.
يقول: وعنه أن معنى ربيون: علماء صُبُر أبرار أتقياء.
وحكى ابن جرير عن بعض نحاة البصرة: أن الربيين هم الذين يعبدون الرب عز وجل، قال: ورد بعضهم عليه فقال: لو كان كذلك لقيل: الرَبيون بفتح الراء.
وقال ابن زيد: الربيون الأتباع والرعية، والربانيون: الولاة الأولياء، والله أعلم.
وقول جمهور العلماء: الربيون أي الجماعات.(67/13)
شجاعة رغم الإشاعة
((فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا)).
قال قتادة والربيع بن أنس: وما ضعفوا بقتل نبيهم وما استكانوا، فما ارتدوا عن نصرة دينهم أن قاتلوا حتى لحقوا بالله، وما ارتدوا عن نصرتهم للدين ولا عن دينهم، ألم نقل: إن الاستكانة قد تكون بالردة الكاملة، وقد تكون بترك الواجب.
وقال ابن عباس: ((وَمَا اسْتَكَانُوا)): تخشعوا.
وقال السدي وابن زيد: وما ذلوا لعدوهم.
وقال محمد بن إسحاق والسدي وقتادة: أي: ما أصابهم ذلك حين قتل نبيهم.
{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147] أي: لم يكن لهم هجيراً إلا ذلك، أي: ليس لهم كلام يرددونه على الدوام ويكررونه إلا ذلك.
((فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا)) أي: النصر والظفر والعاقبة.
((وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)) أي: جمع لهم الثوابين، ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)).(67/14)
الأسئلة(67/15)
ذكر أن هدف أعداء الله اجتثاث الإسلام
السؤال
قلتم في أثناء الكلام ما معناه: إن نظرية المؤامرة على الإسلام وأهله هي تدمير الإسلام واستئصال شوكته فهل يفهم من ذلك أنه وجد ذلك في بروتوكولاتهم منذ أن وضع إلى اليوم والنصارى تجعل المسلمين حسب تلك الخطة؟
الجواب
هذه ليست نظرية، بل هذا هو كلام ربنا، فهو يخبرنا أن الكفرة يريدون اجتثاث الإسلام وأهله، وليس صحيحاً أن هذا على حسب بروتوكولاتهم، فهذه البروتوكولات قد تكون مخترعة، وقد تكون صحيحة، وليس لازماً أن هذا محقق الوقوع.(67/16)
جواز الدعاء في السجود بآيات من القرآن
السؤال
هل يجوز الدعاء بآيات القرآن في السجود، مثل قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]؟
الجواب
نعم، يجوز ذلك.(67/17)
وجوب الإعلام بالزواج
السؤال
إذا تزوج رجل بامرأة بولي وشهود وتوثيق، لكنه لم يعلن هذا الزواج أمام الناس، فهل زواجه صحيح؟
الجواب
هذا خلاف السنة، ويمكنه أن يعلن في محيط آخر غير محيط الأهل وزملاء العمل، وذلك إذا خشى الضرر منهم.
كأن يعلن وسط مجموعة أخرى من المسلمين، لكن لابد أن يحدث لهم من الإعلام، وأكثر العلماء لا يرون هذا واجباً، لكن الصحيح أن الإعلان واجب وليس بشرط في صحة النكاح، وإنما الشرط أنه لا بد من حضور الولي وشهود العقد، وأن يكون عن طريق ولي، وأن يحضره شاهدا عدل، ولكن الإعلام وسط الناس يمكن يكون في مكان بعيد عن أهله أو بناته أو عمله أو غير ذلك.
وينبغي أن يكون الإعلان في المسكن الذي سوف يأتي إليه لزوجته الثانية، لئلا تتهمن، فلابد أن يعرف الناس أن هذا الذي يدخل عليها زوجها.(67/18)
المفرط في المال ضامن
السؤال
رجل سُرِق منه مبلغ من المال كان موكلاً بتوزيعه في الصدقات والزكوات في شهر رمضان، حيث أنه وضع الكيس جوار مكتبه وذهب للرد على تلفون في مبنى آخر فرجع فلم يجده، فما حكمه؟
الجواب
الظاهر أنه كان بتفريط منه، حيث كونه يضعه بجانب المكتب ويترك الباب مفتوحاً ويذهب إلى مكتب ثانٍ، فلا بد أن يكون ضامناً، ويلزمه أن يضمن هذا المال ويكون دين عليه، وحتى لو كان مستحق لهذه الصدقات والزكوات فلازم أن يخرجه.(67/19)
إقامة الحجة شرط قبل تكفير أحداً من الناس
السؤال
هل يصح تكفير من يقاتل مع الكفار ضد المسلمين، أم أنه لابد من إقامة الحجة؟
الجواب
لا بد من إقامة الحجة، فهي شرط عموم في التكفير.(67/20)
معنى كلمة (العابدين) في قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)
السؤال
ما معنى (العابدين) في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]؟
الجواب
أكثر المفسرين على أن العابدين بمعنى: الآنفين أي: يأنفوا من ذلك، وقيل: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول من يعبده على أنه له ولد على مشهور كلمة العبادة، يعني: على معناها المعروف الذي هو الذل، فبمعنى أنه سوف يعبده على أن له ولد، وهذا مستحيل في حق الله عز وجل.(67/21)
حكم شراء البضاعة المستعملة المشكوك في أنها مسروقة
السؤال
ما الحكم في شراء بضاعة من سوق معروف أنه يباع فيه السلع المستعلمة، سواء كانت مستعملة أو جديدة؟
الجواب
هو يخشى فقط من البضائع أن تكون من المسروقة في هذا المكان، فحسب غلبة الظن إذا كانت مستعملة وبسعر المستعمل المعروف أنها غالباً مباعة، ويغلب الظن على أنها غير مسروقة فلا بأس من الشراء، وأما ما كان مما يغلب على الظن أنها مسروقة، ككونها مثلاً جديدة جداً وبسعر بخس ومما يظن بها أنها مسروقة فلا يشتري.(67/22)
نفي تعارض الشرع مع قول علماء الفلك: بأن القمر جسم معتم يستمد ضوءه من الشمس
السؤال
هل ما يقوله علماء الفلك من أن القمر جسم معتم يستمد ضوءه من الشمس يتعارض مع الشرع؟
الجواب
لا يتعارض.(67/23)
تحريم العمل في تصنيع أمواس الحلاقة
السؤال
هل يجوز العمل في المصانع التي تصنع أمواس الحلاقة؟
الجواب
لا يجوز العمل فيها؛ لأن الأغلب استعمالها في حلق اللحية.(67/24)
حكم الهدية التي قُدمت للمخطوبة من خاطبها قبل الفسخ
السؤال
خطب شاب فتاة وقدم إليها شبكة، وبعد فسخ الخطوبة لم يتقدم للمطالبة بالشبكة أو إرسال أحد من طرفه ليطالب بها، وقد مر حوالي سنة ونصف على فسخ الخطبة وما زالت الشبكة بأيدي أهل الفتاة، هل من الواجب شرعاً على أهل الفتاة إرجاع الشبكة إلى الخاطب حتى ولو لم يطلبها، أم يجوز لهم الانتفاع بها؟
الجواب
إذا كان الفسخ من قبل الفتاة وأهلها ردوا هذه الهدية، وأما إذا كان من قبل الخاطب وهو الذي فسخ فهي لهم ويجوز لهم أن ينتفعوا بها.(67/25)
علاج الوسوسة في الوضوء والصلاة وغيرها
السؤال
ما العلاج من أمراض الوسوسة في الوضوء وفي الصلاة وغير ذلك؟
الجواب
يبدأ العلاج بمقاومتها وعدم الاستجابة لها، وعدم البناء على هذه الوسوسة، سواء في عدد المرات أو في المبالغة في غسل الأعضاء أو نحو ذلك، وصرف التفكير في شيء آخر إذا لم يستطع، وأعتقد أن العلاج الطبي قوي في هذا الباب، فيمكن أن يعالج هذا المرض النفسي.(67/26)
الصدفة لا تنافي أنها من القدر
السؤال
هل هناك حرج شرعي بأن أقول: فعلت كذا صدفة، وقابلت فلان صدفة أم أن الأفضل أن أقول: قدراً، وما التعارض بين القدر والصدفة؟ أليست الصدفة من القدر؟
الجواب
الصدفة من القدر، معناها: على غير ميعاد، فقد ورد حديث تميم الداري يقول: (فصادفنا البحر حين اغتلم) يعني: ركبوا البحر وهم لا يعلمون أنه سيكون هائج.
فالصحيح أن كلمة صدفة لا تنافي أنها من القدر، ولا بأس أن يقولها الشخص.(67/27)
إثبات صفة الغيرة لله تعالى
السؤال
هل يغار الله عز وجل؟
الجواب
نعم، فقد جاء في الحديث: (إن الله عز وجل يغار من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، وغيرة الله عز وجل صفة لائقة بجلاله لا تشبه صفات المخلوقين.(67/28)
وجوب القضاء على من أفطر في رمضان عامداً
السؤال
هل يجب قضاء رمضان على من أفطر بالطعام والشراب في النهار متعمداً؟
الجواب
نعم، ولا يقاس على عدم قضاء الصلوات؛ لأن عندنا نص في المسألة، وهو حديث قضاء الكفارة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل المجامع في نهار رمضان بقوله: (واقض يوماً مكانه) والقضاء يجب بأمر جديد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة)، مفهوم المخالفة: أن من أفطر عامداً فعليه القضاء والكفارة.(67/29)
كفارة الغش في الامتحان
السؤال
ما كفارة الغش في الامتحان؟
الجواب
كفارة الغش في الامتحان يتوب إلى الله عز وجل ولا يغش مرة ثانية.(67/30)
بيان متى يكون الإنسان متألياً على الله
السؤال
كيف يكون الإنسان متألياً على الله؟
الجواب
الذي قال: والله لا يغفر الله لفلان، ووالله ربنا سيدخل فلاناً النار، فهذا هو المتألي على الله.(67/31)
من أدرك من الصلاة الركوع فلا ركعة له
السؤال
هل إذا حضرت صلاة الجماعة في الركوع هل أحتسب ركعة أو لا؟
الجواب
قولان لأهل العلم أصحهما إن شاء الله: أنه لا يحتسب بها ركعة حتى يقرأ الفاتحة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة إلا بأم الكتاب).(67/32)
جواز صلاة ركعتي المسجد والإمام يخطب
السؤال
إذا حضرت صلاة الجمعة والإمام يخطب هل يصح أن أصلي ركعتين؟
الجواب
صل ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب فلا يجلس حتى يصلي ركعتين).(67/33)
العلاج من مرض العجب والرياء
السؤال
كيف يعالج الإنسان نفسه من داء العجب وكذا الرياء؟
الجواب
يدعو الله عز وجل أن ينجيه من هذه الأمراض، وينظر في عيوب نفسه الكثيرة، ويطالع هذه العيوب بصدق ويفتش فيها جيداً، وينظر في عيوب نفسه حتى يرى النقص فيها، ويقارن بينه وبين الصالحين، ويقرأ سير الصالحين ليعرف أنه لا يساوي شيئاً.
وأما الرياء: فجاهد نفسك في كثرة التفكر في القيامة، والموقف بين يدي الله جل وعلا، والجنة والنار، واقرأ كثيراً في ذم الرياء وخطره، وادع الله وقل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه.
وعليك بكتاب: (تهذيب وموعظة المؤمنين) فهو كتاب جيد في هذا المقام.(67/34)
حكم صيام من دخل البلغم فمه
السؤال
هل البلغم إذا دخل الفم يبطل الصيام؟
الجواب
إذا وصل إلى تجويف الفم وكان على طرف اللسان ثم ابتلعه فهذا فيه قولان: الراجح أنه يفطر؛ لأنه يمكن الاحتراز منه، لكن الشخص الذي يحصل عنده باستمرار من غير ما يخرجه إلى فمه ليس عليه حرج، وما لا يمكن الاحتراز منه لا يفطر به.(67/35)
جواز قضاء الرواتب للمداوم عليها
السؤال
هل يجوز قضاء السنن المؤكدة في الصلاة كلها بعد العشاء إذا كان معتاد المواظبة عليها، ولكنها فاتته؟
الجواب
نعم، إذا فاتته وهو معتاد المواظبة عليها، فالأفضل أن يقضيها.(67/36)
حكم استعمال السبحة
السؤال
ما حكم استعمال السبحة في الذكر؟
الجواب
بعض العلماء يقول: هي بدعة، والراجح عندي أنها خلاف الأولى، ولكن ليست بدعة طالما لم يعتقد أنها سنة.(67/37)
وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة السرية والجهرية
السؤال
هل لابد من قراءة الفاتحة في الصلاة السرية بنفسي؟
الجواب
في السرية والجهرية لا بد من قراءة فاتحة الكتاب؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب).(67/38)
حكم عملية إصلاح غشاء البكارة
السؤال
ما حكم عملية إصلاح غشاء البكارة لمن وقعت في خطيئة؟
الجواب
لا تجوز، لأنها عملية خداع ومكر.(67/39)
واجعلوا بيوتكم قبلة
قسم الله سبحانه وتعالى العطايا والأرزاق بكل أنواعها بين عباده؛ لكي يعبد بكل أنواع العبادة، وأعطى أعداءه سلطاناً يتسلطون به على المؤمنين؛ ليعبدوه على صدق، ولنا في قصة موسى مع فرعون وقومه آيات وعبر، فإن المحبة والتآلف، وإعمار البيوت بعبادة الله والصلاة من أسباب النصر على الأعداء وتفريج الهموم واستجابة الدعاء، وقد أمر الله بتبشير المؤمنين حتى لا يدخل اليأس في قلوبهم.(68/1)
تكليف الله عباده بجميع أنواع العبادة بتقسيمه بينهم الأرزاق والعطايا بأنواعها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله وعليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد خلق الله سبحانه وتعالى الخلق لعبادته، وقسم سبحانه وتعالى الأرزاق والعطايا، والسعة والضيق، والسرور، والحزن بينهم، وأنواع الأرزاق كلها؛ لتتنوع عبودية أهل الإيمان، فالله سبحانه وتعالى يحب أن يعبد بأنواع العبادة كلها، وجعل سبحانه وتعالى في الأرض من يفسد فيها، ويسفك الدماء، ومن يخالف شرعه، ويكفر ويصد عن سبيله؛ ليحقق أهل الإيمان أنواع العبودية لله سبحانه وتعالى على كل حال، وفي كل حين.
وقدر سبحانه وتعالى أن يعطي أعداءه سلطاناً ظاهراً مدة من الزمن، يتسلطون خلاله وبه على عباده المؤمنين؛ ليصبر أهل الإيمان، ويتعبدوا لله سبحانه وتعالى باليقين في وعده، وإن بدت الأمور كلها على خلاف ما يظهر، وإن بدت الأمور كلها على خلاف هذا الوعد، ولكنهم يوقنون بوعده سبحانه وتعالى فيصيرون أئمة بذلك.(68/2)
آيات وعبر من قصة موسى مع فرعون وقومه واستضعاف فرعون لبني إسرائيل
لقد جعل الله عز وجل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام آيات وعبر يتعظ بها أهل الإيمان على الدوام، قال الله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:87 - 92].
يخبر الله سبحانه وتعالى عن أمره لموسى وهارون بعدة أوامر تحتاجها الطائفة المؤمنة حين يتسلط عليها عدوها، وحين تكون مستضعفة في الأرض، وما جعل الله ذلك إلا خيراً لهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
ولم يقدر الله عز وجل أن يتسلط فرعون على بني إسرائيل، ولا أن يتسلط كل ظالم وكافر على أهل الصلاح والإيمان إلا لأجل أن يزدادوا إيماناً وتسليماً؛ لأنه يحب ذلك، والكفرة أهون على الله من الجعلان، والدنيا بأسرها أهون على الله عز وجل من جناح بعوضة، ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها كأساً، وكيف لا، وقد مد الله عز وجل عمر أعتى أعدائه إبليس مدة الدنيا بأسرها، لا يموت فيها إلى يوم يبعثون؟ فإذا وجدت من يمد في عمره وسلطانه سنين، فلن يكون شيئاً بالنسبة إلى عمر إبليس، وإبليس أشد عداوة، وهو مصدر الكفر والشرك، والظلم، والفساد في الأرض بوسوسته لبني آدم، فإذا رأيت ذلك علمت أن الله سبحانه وتعالى لهوان الدنيا عليه، وهوان الكفرة والمجرمين من أعدائه عليه، أعطاهم ما أعطاهم، وهو سبحانه وتعالى قدر ذلك لتنفذ أوامره عن طريق أهل الإيمان، ليقتربوا من الله عز وجل أكثر.
قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} [يونس:87] أي: اتخذا بيوتاً لقومكما، واعلما مواقع هذه البيوت، وذلك حتى تبقى هذه الرابطة بين النبي وبين أتباعه وبين أهل الإيمان بعضهم بعضاً، وذلك أن هذه الرابطة القوية والأخوة في الله سبحانه وتعالى، رابطة الحب في الله، هي من أعظم ما يهون على المؤمنين البلاء الذي يصيبهم في مرحلة استضعافهم.(68/3)
معنى قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة)
قال كثير من المفسرين في قوله عز وجل: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87] أي: اجعلوا بعضها يقابل بعضاً، وذلك حتى يقترب بعضهم من بعض، وتتوثق العلاقة فيما بينهم، وتباعد القلوب هو من أعظم أسباب تسلط الأعداء، وإذا اقتربت القلوب كان ذلك من أسباب النصر بإذن الله تبارك وتعالى، ونهى الله عز وجل عن التنازع والفشل، إذ هو سبب الخسران والهزيمة بلا شك.
ونحن نرى أثر ذلك في أمة الإسلام في زماننا هذا وقد بلغت أكثر من ألف مليون إنسان، ومع ذلك يتسلط عليها عدوها لما افترقت كلمتهم، وتباعدت قلوبهم، ولا شك أن التقاء الأبدان على طاعة الله سبحانه وتعالى سبب لاجتماع القلوب بإذن الله، ولو عجزوا عن أن تجتمع أبدانهم، إلا أن الرابطة الإيمانية التي بينهم، إذا قويت وتمكنت، كانت بإذن الله تبارك وتعالى سبباً لنصرتهم على عدوهم.
قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62 - 63].
فجعل النصرة قرينة الألفة، حيث جعل نصرته لنبيه صلى الله وعليه وسلم قرينة تأليف القلوب بين المؤمنين، بعد أن كانوا أعداء، كما ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103].
فالأخوة التي يحبها الله عز وجل هي الأخوة فيه ولأجله، والتحاب فيه سبحانه وتعالى موجب لمحبته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: حقت محبتي للمتحابين في، حقت محبتي للمتجالسين في، حقت محبتي للمتباذلين في، حقت محبتي للمتناصحين في)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل.
وهذه الأخوة التي يحبها الله سبحانه وتعالى من أعظم أسباب تهوين ما يحصل لأهل الإيمان في فترة بلائهم، وامتحانهم بتسلط عدوهم.
والتفسير الثاني في قوله سبحانه وتعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87] أي: صلوا في بيوتكم، وذلك إذا عجزوا بسبب تسلط آل فرعون عليهم من أن يصلوا في أماكن عبادتهم في مساجدهم، وذلك أمر عظيم الأهمية، وهو أن تكون البيوت محل العبادة، فإذا عمرت بعبادة الله عز وجل وذكره، كان ذلك من أعظم أسباب سكينة القلوب، ومن أعظم أسباب نزول النصر من عند الله عز وجل.
ولا بد أن تكون الأحوال الإيمانية لأهل الإيمان مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتصورهم عما يقع لهم في ميزان القوة والضعف مع عدوهم.
فكلما اقتربوا من الله عز وجل بصلاتهم وصيامهم وذكرهم وتلاوتهم قواهم الله عز وجل، واقترب ما وعد الله سبحانه وتعالى من الوعد الحق بنصرة الحق وأهله بإذن الله.
وإذا نقص الإيمان والإسلام في قلب العبد، أو في قلوب الطائفة المؤمنة كان ذلك إيذاناً بطول فترة المحنة والبلاء.
نسأل الله العافية.(68/4)
النهي عن جعل البيوت قبوراً لا يُصلَّى فيها وفضل صلاة الرجل للنافلة في بيته
لا شك أن الصلاة في المساجد أفضل من الصلاة في البيوت في الفريضة، وهذا الذي يؤمر به في الفرائض كلها إذا أمكن ذلك، ولكن قال النبي صلى الله وعليه وسلم: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً).
فالبيت الذي ليس فيه صلاة كالقبر لا يصلى فيه؛ لأن القبور لا يصلى فيها، فينبغي لأهل الإيمان أن يكثروا من الصلاة في بيوتهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة).
وإذا كنت أيها المسلم تتشوق إلى الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشد الرحال للصلاة هناك، فهي عبادة وقربة لله عز وجل إذ (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، -قال النبي صلى الله عليه وسلم- ومسجدي هذا).
فإذا كان الإنسان يشد الرحال والمسافات البعيدة، ليصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يمكنه أن يحصل على أفضل من صلاته في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في أمر النافلة، وهو أن يصلي في بيته، حيث ذلك أقرب إلى الإخلاص، وإلى الخشوع، وإلى أن ينزل الله عز وجل السكينة على أهل البيت، ويدفع عنهم السوء، وتتربى الأمة تربية عبادية تختلف عن تلك التربية التي يكون الناس فيها أمام بعضهم بعضاً، فكلنا يحتاج إلى ذلك بلا شك، قال تعالى: ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً))، وكلا التفسيرين معناه صحيح، والأمر الذي دل عليه وهو: اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضاً لتتوثق العلاقة بينهم، وتزداد الأخوة فيما بينهم، وأن يصلوا في بيوتهم، ويكثروا من العبادة، كلا الأمرين من أعظم أسباب إزالة سلطان الكفرة والمجرمين وأعداء الدين.
فهذه واجبات مرحلة الاستضعاف التي قدر الله عز وجل أن يمر بها أهل الإيمان، وأن تمر بها الطائفة المؤمنة وذلك لحكمته البالغة؛ لكي يتعبد أهل الإيمان بأنواع العبادات، ولكي يتضرعوا إلى الله سبحانه وتعالى، ولكي يخلصوا له وحده، ولكي تتعلق قلوبهم به سبحانه وتعالى دون من سواه، ولكي تنقطع الأسباب أمامهم فلا يجدون مفراً ومهرباً إلا إلى الله عز وجل، قال تعالى: {لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118].(68/5)
الخشوع في الصلاة سبب للفلاح ومفتاح لنصرة الأمة على أعدائها
لإقامة الصلاة أمر عظيم الأهمية في حياة المسلم، إذ الصلاة صلة بينه وبين الله عز وجل، وذلك بأن يقيم ركوعها وسجودها وخشوعها، حتى يحصل على الفلاح وتطمئن نفسه وتقر عينه، فإن الطمأنينة وقرة العين في الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة).
(وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة).
(وكان يقول: أرحنا بها يا بلال)، وذلك إذا حصل الخشوع، ولم تكن ثقيلة على الإنسان، قال عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45 - 46].
وإنما تكون الصلاة ثقيلة إذا لم يجد الإنسان لها طعماً لعدم خشوعه فيها، فتصير تحريك عضلات، وقياماً على الأقدام، وكلفة بلا طعم، فلا تكون مؤثرة أثراً إيجابياً في حياته، فينصرف منها كما دخل فيها، فإنه لا يكتب للمرء من صلاته إلا ما عقل منها.
ونسأل الله العافية.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينصرف المرء من صلاته وليس له إلا نصفها، ثلثها، ربعها، خمسها) وعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذكر عشرها.
فانظر يا عبد الله، ماذا يكتب لك من صلاتك؟ فإن صلاتنا مفتاح نصرنا، وإنما ننصر بالصلاة والدعاء، والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل أمر بإقامة الصلاة في كل المواضع ولم يقل: صلوا وإنما قال: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)) وهذا أمرٌ إضافيّ زائد على مجرد الصلاة، وهو قوله تعالى: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)) وليس في موضع من القرآن: (وصلوا) وإنما أمر بإقامة الصلاة، والله أعلى وأعلم.
وذلك لأن حضور القلب فيها سبب أساسي لتأثيرها المطلوب، وحضور ذكر الله عز وجل في القلب هو أعظم غايتها، كما قال عز وجل لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14].
وكما قال عز وجل: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:42 - 43].(68/6)
ذكر الله في الصلاة أكبر من النهي عن الفحشاء والمنكر
قال سبحانه وتعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].
فالصلاة تتضمن نهياً للإنسان عن الفحشاء والمنكر، وما فيها من ذكر الله أكبر من النهي عن الفحشاء والمنكر، وذلك أن النهي عن الفحشاء والمنكر هو من باب العلاج، وذكر الله هو من باب غذاء القلوب التي لا تحيا إلا به، فإنّ فعل المأمور وهو ذكر الله عز وجل به حياة القلوب، والذي به تستنير، وترى حقائق الوجود، والذي به تحيا من بعد موتها، وتطمئن إلى الله عز وجل، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فالذكر أعظم مقصود؛ ولذا كان ذكر الله أكبر.(68/7)
من منافع ذكر الله في الصلاة تفريج الهموم واستجابة الدعاء
ذكر الله في الصلاة أكبر مما تضمنته من أنواع المنافع الأخرى، وذلك أن ذكر الله عز وجل هو سبب السبق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون، قيل: ومن المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)، وليس الذكر مجرد تحريك اللسان بهذا الذكر المأمور به، بل الذكر حضور المذكور في قلب الذاكر، ثم التعبير عن ذلك باللسان، وإذا صحت صلاتنا وأقمناها كان ذلك من أعظم أسباب تفريج الكربات، وزوال الهموم، بل لا نبعد إذا قلنا: إنّ الأمور العظمى التي غيرت وجه الحياة على وجه الأرض، إنما أعطيها أهل الإيمان من الأنبياء والأولياء في الصلاة، ففي ليلة غزوة بدر عبد الله عز وجل بها في الأرض النبي صلى الله عليه وسلم طول الليل وهو قائم يصلي ويبكي ويستغيث بالله عز وجل وفي ذلك أنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9]، فكانت هذه نقطة التحول التي انقلب فيها الأمر على المشركين، والتي تغيرت بها موازين القوى على ظهر الأرض إلى يوم القيامة، وخسر إبليس أعظم خسارة، لم يُر في صورة أدحر، ولا أصغر، ولا أذل منه يوم بدر، وإنه يرى يوم عرفة في أدحر صورة وأذلها، لكنه في يوم بدر رئي في صورة أذل، فقد أعطي النبي صلى الله عليه وسلم النصر في تلك الليلة بدعائه وتضرعه بالدعاء إلى الله عز وجل.
وكما أعطى الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين ما أعطاهم وهم في محاريبهم وعبادتهم، فدعوة صادقة في ركعة خاشعة، وفي سجدة يقترب الإنسان بها من الله، تنقلب بها موازين الأرض والسموات بإذنه سبحانه.
أما علمنا دعوة نوح عليه السلام كيف تغيرت لها الأرض والسموات، حين سمع الله دعاءه ففتح السماء قال تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:12 - 13].
فقد استجاب الله عز وجل دعوته، وكذلك الأنبياء، بل لا نبعد إذا قلنا: إن سبحانه يبتلي عباده المؤمن بما يكرهه عز وجل، فإنه يكره مساءة المؤمنين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض عبد مؤمن يكره الموت وأكره مساءته).
فالله يكره مساءة المؤمن، ولا بد له من الموت، ولذا قدره عز وجل، فإذا كانت هذه المساءة يكرهها الله عز وجل سبحانه وتعالى لأنه يحب عبده المؤمن، فكيف بما يحصل من أمور عظيمة من الفساد وانتهاك الحرمات، وسفك الدماء في الأرض ظلماً وعدواناً وطغياناً من الكفرة؟ فإن الله عز وجل يكره ذلك، ومع ذلك قدره، وما تردد فيه تردده في قبض عبده المؤمن، وذلك لأن الله عز وجل يحب أن يسمع تضرع المؤمنين، فهل نستفيد مما قدر الله عز وجل علينا من الآلام والمحن؟ فلنعلم أنه ما قدرت هذه الأمور إلا ليسمع الله تضرع المحبين ودعائهم، ويرى تقلبهم في الساجدين، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو ربه عز وجل ويقوم، كما أخبر الله سبحانه وتعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:219] فالله عز وجل يراه وهو يتقلب في الساجدين من أمته صلى الله وعليه وسلم، وهو أولهم وأعظمهم قدراً، فالله سبحانه وتعالى قدر ذلك لنقيم الصلاة ونسعد ونتضرع، قال عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:42 - 43].
فنسأل الله أن يعافي المسلمين في كل مكان.(68/8)
أمر الله بتبشير المؤمنين
أمر الله موسى وأخاه هارون بتبشير المؤمنين فقال: ((وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ))، وذلك بقرب النصر والفرج، وعظيم الأجر والثواب عند الله سبحانه وتعالى.
فالأمور لا تقف عند طريقة واحدة، بل كلها تتقلب في أمور الدنيا، كلها تتقلب موتاً وحياةً، وقوةً وضعفاً، ورفعاً وخفضاً، وعزاً وذلاً، فالله عز وجل هو الذي يملك ذلك، وهو الذي يدبر، وهو الذي وعد المؤمنين بخير الدنيا والآخرة، فلا بد ألا يستطيل أحد فترة البلاء والمحنة، وهذا الأمر تبشير المؤمنين حتى لا تيئس النفوس، فإن اليأس من طول فترة البلاء ربما يدخل إلى القلوب، كما قال الله عز وجل عن الرسل وأتباعهم: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
قال ابن عباس: كانوا بشراً، قال عز وجل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
حتى الرسل أتتهم مثل هذه الخواطر من شدة البأس الذي أصابهم، فكان لا بد من البشارات التي يبشر الله بها أهل الإيمان، وهذا التبشير إنما يكون بوعد الله، وذلك الذي يوقظ معاني الإيمان في قلب المؤمن، فيؤمن بأن الله حق، وقوله حق، ووعده حق سبحانه وتعالى.
فلذلك إذا سُمِعت آيات الله عز وجل يُسْتَبشَر بها، وتذهب هذه الخواطر التي تقع في نفس الإنسان بوسوسة الشيطان، أو بوسوسة نفسه كذلك، فإن الرسل وقع في قلوبهم شيء من ذلك، ولكنه في حقهم كالبرق الخاطف، وسرعان ما يزول، ويعود إليهم الطيب النافع من الخير، وتعود الحياة، ويعود إليهم ما كانوا عليه من اليقين بوعد الله سبحانه وتعالى، وقدر الله ذلك ليكونوا أسوة للبشر فيما إذا أصابهم شيء من ذلك أن يفزعوا إلى حقائق الإيمان، وإلى تلاوة آيات الله عز وجل التي فيها الحكم القاطع، والنصر الجازم، لأن النصر آت من عند الله قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
وقال عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
وهذا متكرر في كل الكتب السماوية، قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106].
والزبور: اسم جنس للكتب التي تزبر، أي: تكتب من عند الله عز وجل من بعد الذكر الأول الذي هو اللوح المحفوظ، فلقد كتب الله في اللوح المحفوظ أن الأرض يرثها عباده الصالحون، وكتب ذلك في الكتب المنزلة من عنده إخباراً عما كتبه عز وجل في اللوح المحفوظ، وفي الكتاب الأول وفي الذكر الذي فيه كل شيء آت، وكل ما علم الله عز وجل وقوعه وهو واقع قطعاً.
فهذه البشارة تحيي في قلب المؤمن معاني الإيمان، وتجددها وتصقلها، وتؤكدها وتذهب عنه وساوس الشيطان والنفس الأمارة بالسوء التي تقول له: لست على شيء، وإن كان الأمر قد يزداد مع بعض الناس على حسب درجة الإيمان، وكلما اقتبس الإنسان من نور الأنبياء زال عنه سريعاً ما يلقيه الشيطان في نفسه، أو تلقيه نفسه الأمارة من يأس، أو استبطاء لوعد الله عز وجل، وتعجل لإجابة دعوته، فالله عز وجل نهانا عن الاستعجال، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35].
وقال: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84].
وذلك بأنه كيده متين سبحانه وتعالى، فلا نستبطئ وعد الله عز وجل، وذلك لأن القلوب تنمو وتكبر من خلال وقاية لها في فترات البلاء، والبلاء للمؤمن كقشرة البيضة للفرخ الذي يحيا به بعد مدة يسيرة بإذن الله، ولو أن الفرخ كسر قشر بيضته قبل اكتمال نموه لهلك، ولكن حين أحياه الله سبحانه باكتمال سمعه وبصره وقلبه وحياته في داخل القشرة، نقرها نقرتين، فانفضت كأن لم تكن، وخرج شيئاً جديداً بعد أن كان في صفرة وبياض، وصار حياً ناطقاً سميعاً بصيراً فسبحان الله! فكذلك قلب المؤمن يحتاج إلى أن ينمو ويكبر، والبلاء كالقشرة له، والبعض يظنه هلاكاً له، وليس كذلك، بل هو لحمايته، ولحفظه واكتمال نموه، فإذا جاء الحين الذي قدره الله، وليس ذلك إلى الفرخ، وليس إلى الناس، ليس إلا إلى الله، فالله هو الذي يقدر متى ينكسر ذلك القشر لمصلحة ذلك الفرخ، فكذلك البلاء قدره الله للمؤمن لمصلحته ولمنفعته وتكميل عبادته وكمال حياة قلبه وسمعه وبصره، ووعيه وعقله وإدراكه لحقائق هذا الوجود، فعلى ذلك يقدر الله ذلك البلاء ثم ينكسر في لحظة، ويتحول الأمر إلى شيء آخر بقدرته عز وجل.
لهذا كان لزاماً على المؤمنين أن يستبشروا بوعد الله، قال تعالى: ((وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ))، وأن يبشر بعضهم بعضاً، وأن يستبشروا باليقين بوعد الله، وهذا الذي تنال به الإمامة في الدين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الصابرين الموقنين.(68/9)
من أسباب إجابة الله تعالى للدعاء اختيار الألفاظ الحسنة في الدعاء
ذكر الله عز وجل أمراً آخر قام به موسى وهارون عليهما السلام، وذكر موسى تشريفاً وهارون كان مؤمناً على دعائه، قال عز وجل: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:88 - 89].
الدعاء سلاح المؤمن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، وتأمل في هذه التوسلات التي توسل بها موسى صلى الله وعليه وسلم في دعائه، قال: ربنا، فالتوسل إلى الله عز وجل بالربوبية فيها شهود تدبير الخلق كله خلقاً وإيجاداً، ورزقاً وإعطاءً وقسماً وتنويعاً للعطايا والأرزاق بين البشر والرب المالك لكل ذرات هذا الوجود، والمالك لكل ما سواه، وهو السيد الآمر الناهي المطاع قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].
عندما تقول: يا رب، أو تقول: ربنا، أو تقول: ربي، فإذا استحضرت هذه المعاني كان ذلك من أعظم أسباب إجابة الدعاء، ثم التوسل إلى الله بشئون تدبيره وعطائه ومنعه، فإن موسى عليه السلام ورحمة الله وبركاته قال: ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ))، ولم يقل: يا رب فرعون عنده كذا، ولم يقل: فرعون له من السلطان والأموال كذا، وإنما قال: إنك آتيت، فالله هو الذي يؤتي، وإنها لحقيقة جلية ظاهرة، مع أنها تشبه الموت في كون أكثر الناس يشكون في أن الله هو الذي آتى من آتى ملكاً ومالاً وزينة وسلطاناً، مع أنها حقيقة قاطعة لا يشك فيها عاقل إذا تدبر بداية الإنسان ونهايته، وإذا تدبر أن كل من أعطي مالاً ولد من عدم، وولد بعد أن كان في بطن أمه لا يملك شيئاً، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].
أين كانت أموال الأغنياء منذ مائة سنة؟ كانت في أيدي غيرهم، أين السلطان الذي بيد أهل السلطان اليوم؟ أين كان قبل مائة سنة، أو قبل مائة وخمسين سنة؟ هل كان لأحد منهم ذرة سلطان على وجه الأرض؟ وهل كان يملك أحد منهم أن يوجد نفسه فضلاً عن أن يعطيها شيئاً من العطايا؟ لا، هو الذي ولد وأعطي السمع والبصر والفؤاد، وكان في قدرة الله ولم يزل أن يحرم العبد ذلك وهو يكفر بالله، ويشرك به ويظلم، ويفسد في الأرض، ولا يحرمه من يده ورجله، ولا يحرمه من سمعه وبصره، ولا يحرمه من عقله وفكره، أليس في كل يوم يولد على وجه الأرض أعمى أو أصم أو متخلف عقلياً؟ أليس يولد من الناس من لا تبطش يده، ولا تتحرك رجله؟ أليس في قدرة الله عز وجل أن يحرم الظلمة والكفرة والمجرمين والمنافقين من هذه العطايا كلها حتى لا يكفرون؟ فالله هو الذي يؤتيه ذلك ويحرمه.
وهذه قضية يقينية لا يشك فيها عاقل، أنهم ما أعطوا وما أتوا به من قبل أنفسهم، والذين في قلوبهم مرض يشكون في هذا، بل ربما جزموا بضعف عكسها، جزموا بأن السلطان بأيدي البشر، وجزموا بأن المال هو من كدهم وصنعهم دون أن يكون عطية من الله، ولذا تجدهم يرجون ويخافون غير الله، ويعملون حساب الزينة والأموال في الحياة الدنيا.
وأما موسى فيتوسل إلى الله بشهوده فعل الله عز وجل، قال تعالى: ((وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، ويشهد أمراً آخر فقال: ((رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)).
تأمل هذا الأمر العظيم الأهمية والعجيب، أنَّ الله هو الذي أعطاهم ليضلوا عن سبيل الله، فالله عز وجل لو شاء لهدى الناس جميعاً، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس:99].(68/10)
إضلال الله سبحانه وتعالى للكفرة ليضلوا عن سبيله سببٌ في كمال أهل الإيمان وزيادة إيمانهم
قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود:118]، وهو الذي قدر سبحانه أن يضلوا عن سبيله ابتلاءً وامتحاناً، وكما ذكرنا أنَّ اكتمال عبودية أهل الإيمان بأن خلق الله الكفرة لكي يتمموهم عبوديتهم لله، فأوجد الله عز وجل من يضل عن سبيله سبحانه وتعالى، ليعلم المؤمنون أنه كفى بالله هادياً ونصيراً، وليعلم أهل الإيمان أن الله بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وله غيب السموات والأرض، قال تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123].
فالله سبحانه وتعالى هو الذي قدر أن يوجد من يضل عن سبيله، ولو شاء لجعلهم جنوداً له عز وجل، ولكنهم هانوا عليه وصاروا في أحقر صورة، فجعل الله حياتهم لغيرهم، قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، وجعل الله عز وجل إضلالهم عن سبيل الله سبباً لكمال أهل الإيمان، وزيادة إيمانهم وتسليمهم بقدرته وعلمه وحكمته وعدله عز وجل، فهو ما وضع هذه الأشياء إلا في مواضعها، وهو سبحانه وتعالى ما قدر إضلالهم عن سبيل الله، وجعلهم يضلون عن سبيل الله إلا أن ذلك يناسبهم، وهم قد فعلوه بأنفسهم، وهذا فيه شهود القدر، فموسى عليه السلام يشهد القدر في العطايا والأموال والزينة، ويشهد القدر في أفعال العباد، يشهد عطية الله عز وجل في الأموال والزينة، ويشهد أنه هو الذي قدر أن يوجد من يضل عن سبيله سبحانه قال تعالى: ((رَبَّنَا لِيُضِلُّوا)) أي: أعطيتهم ليضلوا، وهي حكمة بالغة له سبحانه وتعالى.
وكان فرعون قد بلغ في الإجرام والعتو ما جعل موسى يدعو عليه ألا ينتفع بالآيات، وذلك لخبثه، ولربما يكون قد أوحي إليه أن فرعون لن يؤمن؛ ولذلك دعا عليه، وإن كان الله قد اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم مثل ما اختار لإبراهيم عليه السلام في أن يتأنى ويرجو أن يخرج الله من أصلاب الكفرة من يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ولكن موسى دعا دعوة مشروعة على فرعون وملئه في أن يطمس على الأموال، فلا ينتفع بها، قال تعالى: ((رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ))، حتى تقسوا والعياذ بالله، والقسوة من شدة الظلم والعدوان، تحصل للإنسان بالتدريج ثم تصل إلى درجات أقسى من الحجارة وأشد والعياذ بالله، وعند ذلك لا تنتفع بالموعظة، ولا تشهد آية، ولا تؤثر فيها معجزة، ويرون الآيات وهم عنها معرضون غافلون.
نعوذ بالله.
قوله تعالى: ((وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ)) أي: القسوة والعياذ بالله، فشيء فظيع إذا أصاب القلب الإنساني ما يدمره تدميراً، يشد عليه فلا ينتفع بشيء.
قوله تعالى: ((رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ)) أي: فلا ينتفعوا بها، ((وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ))، فأجيبت دعوة موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، وهلك فرعون وآله عدلاً منه وحكمة سبحانه وتعالى.
نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين، وأن يدمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره واجعل تدميره في تدبيره واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين.
اللهم نجِّ المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك والدعاة إليك في كل مكان.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.(68/11)
من ترك شيئاً لله
لقد جعل الله تعالى أنبياءه ورسله أسوة حسنة في البذل والتضحية في سبيل الله، والصبر على ما يصيبهم في جنب الله تعالى؛ ولذلك فإن الله سبحانه جعل لهم من الكرامة والمكانة العظيمة في الدنيا والآخرة، ففي قصة إبراهيم مع أبيه وقومه أعظم وأبرز شاهد ودليل على البذل والتضحية في ذات الله تعالى، فعلى العلماء والدعاة أن يقتدوا بأنبياء الله ورسله، ويستشعروا الأجر العظيم الذي سيحصلون عليه مقابل ذلك، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.(69/1)
إكرام الله لإبراهيم لمفارقته لوطنه وقومه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
من ترك شيئاً لله سبحانه وتعالى أعطاه الله عز وجل خيراً منه، ومن ضحى بشيء في سبيل الله فلابد أن يجزيه الله سبحانه وتعالى حياة طيبة في الدنيا، وثواباً آجلاً يوم القيامة.
ولقد جعل الله أنبياءه ورسله الأسوة الحسنة في البذل والتضحية في سبيل الله سبحانه وتعالى، وفي اللجوء إلى الله عز وجل، والرضا به مدبراً ومعيناً، وجعلهم سبحانه وتعالى قدوة للعباد في الصبر على ما يصيبهم في سبيل الله، وبين الله ما فعل بهم سبحانه وتعالى من الكرامة في الدنيا والآخرة، قال الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام في محاورته لأبيه: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:48 - 50].
هاجر إبراهيم عليه السلام بعد أن استنفد أغراض الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في قومه، بأن أقام عليهم الحجة وهدى الله عز وجل به من شاء، هدى به لوطاً عليه السلام، قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، وهدى به سارة وصارت امرأته، وكانت فيما يذكرون ابنة أحد ملوكهم أو أمرائهم أو كانت ابنة عمه، فالله عز وجل أعلى وأعلم، لكنها كذلك آثرت أن تهجر قومها وأن تهاجر في سبيل الله.
هاجر إبراهيم عليه السلام، وترك الأهل والمال والوطن لله سبحانه وتعالى وذهب إلى ربه عز وجل، وذهب إلى الأرض المقدسة، وسكن في ديار لم يسكنها من قبل، {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99].
ولما فارق أهله لله عز وجل عوضه الله سبحانه وتعالى خيراً منهم، وأي صحبة أحسن من صحبة الأنبياء، وأي صحبة أحسن من صحبة الأهل والأبناء الذين يعبدون الله سبحانه وتعالى، فهذه هي الصحبة الحسنة التي عوضه الله عز وجل بها عن مفارقته لقومه، وكذلك كل من يترك شيئاً لله فإن الله سبحانه يأتيه بما هو خير منه.
والخير الكثير في صحبة أهل الخير والإيمان، وصحبة الأنبياء سعادة بالغة عظيمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمحل الأعلى وهو أفضل خلق الله عز وجل كان يقول في مرض موته: (في الرفيق الأعلى).
والله سبحانه وتعالى قد أمر بصحبة الصالحين، فقد أمر من هو أفضل منهم بصحبتهم، فقال لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
فلما اعتزل إبراهيم عليه السلام داره وأهله وقومه، وترك كل ذلك لله؛ آتاه الله عز وجل الذرية الصالحة إسحاق ويعقوب، ولم يذكر الله في هذا الموضع إسماعيل مع أنه الابن البكر لإبراهيم؛ وذلك لأنه إنما ذكر ذلك في مقام الامتنان عليه بالصحبة، ولقد كان إسماعيل عليه السلام بعيداً عن صحبته إذ جعله الله عز وجل مع أبيه إبراهيم سبباً لتعمير بيت الله الحرام، فكان في مكة المكرمة مع أمه هاجر، وإنما ذكر الله عز وجل إسحاق وابنه يعقوب عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ لأنهما اللذان صحبا إبراهيم عليه السلام، ولا شك أن هذا فيه من النعمة على إبراهيم عليه السلام ما يجعلنا ننتبه إلى هذه المسألة المهمة، وهي نعمة صحبة أهل الخير والإيمان، ونعمة صحبة الصالحين والبحث عنهم، ومفارقة أهل السوء واعتزالهم ومخالفتهم رضاً بما أمر الله سبحانه وتعالى.(69/2)
إكرام الله لإبراهيم بالذرية الصالحة
إبراهيم عليه السلام إنما وهب ذلك الولد وولد الولد بعد عمر طويل، كما قال عز وجل عنه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم:39]، ونتبين بذلك أن الله سبحانه وتعالى قد يؤخر إجابة دعوة عبده المؤمن وهو سبحانه وتعالى قد قضاها، ولكنه يؤخر ظهورها فترة من الزمن لحكم بالغة، وليوقن المؤمن رغم مرور الزمن بأن الله يجيب دعوته، فإبراهيم عليه السلام لم يقنط من رحمة ربه أبداً، رغم ما بلغه من الكِبَرِ، وتعجب حين بلغه نبأ وبشارة ولادة إسحاق عليه السلام، وقالت له الملائكة في بشارتهم: {بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:55 - 56]، فهو على الكبر لم ييئس من رحمة الله، وكان يعلم أن الله عز وجل يجيب دعوته، فقد قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100] فبشره الله سبحانه بإسماعيل أولاً ثم بإسحاق ثانياً وبعد إسحاق يعقوب بن إسحاق، وكل ذلك من فضل الله سبحانه وتعالى، فلا نستعجل في الدعاء، ولا نقول: دعونا فلم يستجب لنا؛ فإن الله عز وجل لم يجعل للمؤمن شقاء مع الدعاء، {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48] فإذا دعا العبد ربه سبحانه وتعالى فقد كسب في دنياه وآخرته، وقد حصل على ما يريد أو أفضل مما يريد، فإما أن يستجيب الله عز وجل دعوته، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخر له يوم القيامة من الثواب ما يتمنى معه أن لو لم يكن قد استجاب الله له شيئاً من دعائه في الدنيا، وإلا فكل دعواته مجابة، قال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقال عز وجل: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشورى:26]، فهو عز وجل يستجيب دعاء المؤمنين ولكن بما هو خير لهم، وبما لا يحسن المؤمن تصوره، وربما ظن خيراً في أمر ويجعل الله سبحانه وتعالى في غيره خيراً منه لعبده المؤمن، فالله يدبر أمر عباده المؤمنين بعلمه وحكمته وفضله ورحمته سبحانه وتعالى، فعلى العبد أن يرضى بما قضاه الله عز وجل، ويوقن بوعد الله، ويوقن بإجابة الدعوات، وعليه أن يظل متضرعاً منكسراً لله سبحانه وتعالى، ولا يشك في وعد الله، فإن الله لا يخلف الميعاد: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
فالله سبحانه وتعالى وعد عباده المؤمنين بالإجابة وهو أكبر وأكثر فضلاً، وإذا أكثروا من الدعاء أكثر الله عليهم من العطاء، وكلما تضرع الإنسان إلى الله وانكسر جبره الجبار سبحانه وتعالى بفضله ورحمته، فعلينا أن نكثر من الدعاء دائماً ولا نستعجل ولا نقول: دعونا فلم يستجب لنا، فإبراهيم عليه السلام هاجر بعد دعوته إلى الله عز وجل، وبقي بأرض فلسطين مدة طويلة من الزمن إلى أن وهبه الله إسحاق ويعقوب، قال تعالى: {وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} [مريم:49 - 50]، فالله عز وجل يهب من رحمته بالهداية وبالإيمان وبالتوفيق للعمل الصالح بأن جعلهم أئمة يهدون بأمره، فهذه الرحمة الخاصة -الرحمة بالدين وبالعمل الصالح- أكبر وأعظم أثراً من الرحمة العامة التي يرحم بها المؤمن والكافر بالطعام والشراب والنفس والنعم الدنيوية، إن الرحمة الباقية هي الرحمة التي سببها عطاء الله عز وجل وتوفيقه بالعمل بطاعته، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73] فهذا معنى: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} [مريم:50].
فهي الرحمة التي يخص الله عز وجل بها عباده المؤمنين، وهي التي تبقى وتستمر معهم، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156]، وذلك أنه إذا رحمه الله عز وجل بطاعته كان ذلك سبباً لرحمته المستمرة المستقرة التي لا عذاب معها ولا شقاء أبداً، وذلك أن تكتب له الرحمة في الآخرة.
قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} [مريم:50] فكل من وهب الله عز وجل له نعمة الإيمان ووهب له نعمة العمل الصالح ووفقه للعمل بطاعته فقد قسم الله له من رحمته ما لم يقسم لغيره؛ فليشكر نعمة الله بالثبات، وليشكر نعمة الله سبحانه وتعالى بمزيد الطاعة والخير، وهداية الناس إلى صراط الله المستقيم بأمر الله سبحانه وتعالى، ومزيد العبودية لله عز وجل: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73].(69/3)
إكرام الله لإبراهيم وأهله بالثناء الحسن عليهم
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:50] لقد جعل الله لإبراهيم ولإسحاق وليعقوب ولآل إبراهيم جميعاً لسان صدق في الآخرين، وذلك أن الناس تثني عليهم، واجتمعت الأمم على مباركتهم والدعاء والثناء لهم، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن دعوة إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:83 - 84]، واللسان الصدق هو الثناء الحسن من أهل الإيمان، وهذا هو المقصود، وهو لسان علي رفيع القدر؛ لأن أهل الإيمان إذا أثنوا على أحد فإن الله سبحانه وتعالى يوجب له الخير، وليس هناك اعتبار إلا بثناء أهل الخير والإيمان؛ فإنهم شهداء الله عز وجل في أرضه، كما في الحديث: (مر بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال عليه الصلاة والسلام: وجبت وجبت، ثم مر بجنازة فأثنوا عليها شراً فقال: وجبت وجبت، فسألوه عن ذلك، فقال: هذه أثنيتم عليها خيراً فوجبت لها الجنة، وهذه أثنيتم عليها شراً فوجبت لها النار، ثم قال: أنتم شهداء الله في أرضه).
فالمعتبرون في الثناء والمدح والذكر الحسن هم أهل الإيمان، وأما أهل الباطل فمدحهم وذمهم لا قيمة له: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، فهم يمدحون الباطل ويذمون الحق، فلا اعتبار بهم ولا تقبل شهادتهم عند الله.(69/4)
قصة إبراهيم مع أبيه وقومه ودعوته لهم
ذكر الله سبحانه وتعالى في مواضع أخرى دعوة إبراهيم عليه السلام لقومه بالتفصيل، قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:74 - 84].
قال الله عز وجل مبيناً في هذه الآيات دعوة إبراهيم لأبيه وقومه، وقص علينا في سورة مريم قصته مع أبيه، وفي هذه الآيات قصته مع قومه كذلك، فهو يدعو القريب والبعيد إلى الله عز وجل، وبدأ بالأقرباء ولم يترك الآخرين، بل دعا إلى الله كل من لقيه، فهكذا المؤمن الداعي إلى الله عز وجل يدعو كل من لقيه إلى الله سبحانه وتعالى، فليست الدعوة إلى الله محصورة في طائفة معينة من الناس لا تتعدى إلى غيرهم، أو في قومية معينة أو وطن معين، بل المؤمن يدعو إلى الله عز وجل القريب والبعيد، ويبدأ بأهل بيته وأهل بلده.(69/5)
دعوة إبراهيم لأبيه
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام:74] وهذا فيه بيان أن آزر هو أبو إبراهيم، وليس كما يقول من ينقل عن أهل الكتاب: إنه عمه؛ فراراً من أن يقال: إن أبا إبراهيم مات كافراً، وهذا كلام باطل مخالف لنصوص الكتاب والسنة؛ فإن النسب لا ينفع إذا لم يكن هناك إيمان ولم يكن هناك طاعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) وإنما يغالي في أمر الأنساب من لا يفقه حقيقة النسبة التي جعلها الله عز وجل بين عباده المؤمنين، وهي نسبة الدين، فهي أغلى وأعلى قدراً من أمر النسب، ولذلك يتكلمون كثيراً في أقارب النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا احتج عليهم بأن أبا إبراهيم بنص القرآن مات كافراً، قالوا: كان هذا عمه، وليس ذلك بصحيح إنما هو أبوه، كما قال الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام:74]، وهذا الاستفهام للإنكار عليه وعلى قومه، {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:74] أي: ضلال بين، إن الأدب مع الوالد وغيره لا يعني كتمان الحق، ولا يعني تلبيس الحق بالباطل، ولا وصف الباطل بأنه حق أو الضلال بأنه هدى، بل الأدب أمر يستعمل في الألفاظ وطريقة الحوار، لكن لا يعني ذلك أن تنقلب الحقائق، ولا أن يجامل على حساب الدين، ولا أن يداهن في قضية الاعتقادات والأعمال والمبادئ التي بعث بها الأنبياء.(69/6)
دعوة إبراهيم لقومه ومناظرته ومحاججته لهم بالآيات المشهودة
إن عبادة أحد من دون الله هو الضلال بعينه، قال تعالى: {وَمَنْ أَضلْ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]، والذي يظهر أن قوم إبراهيم إنما كانوا يعبدون هذه الأصنام على أنها ترمز للنجوم التي جعلوها آلهة، ولذا ناقشهم إبراهيم وجادلهم بهذه الحجج العقلية الواضحة، وقد أراه الله عز وجل الأدلة المرئية في ملكوت السماوات والأرض، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:75] وكان ذلك في أول نشأته، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51]، وكانت هذه الأقوال التي قالها إبراهيم على سبيل المناظرة لقومه، أي: فلنفترض أن هذا الكوكب رب، أو لننظر هل يصلح هذا القمر أن يكون رباً أو نحو ذلك، كما في صحيح مسلم أن إبراهيم عليه السلام في يوم القيامة يقول: (إني كذبت ثلاث كذبات: ثنتان منهما في ذات الله، وعد منهما: قوله عن الكوكب: هذا ربي).
فهذه من كذباته في ذات الله سبحانه، أي: لإقامة الحجة.
فقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:75] أي: ليرى منها كيف يحتج على الكفرة والمشركين، وكيف يحصل له اليقين بآيات الله سبحانه وتعالى التي يشاهدها، كما يؤمن بآيات الله التي يسمعها إذا أنزلها الله عز وجل عليه.
والآيات المرئية المشهودة والآيات المسموعة المنزلة كلاهما تدلان على شيء واحد: هو حقيقة ملك الله سبحانه وتعالى، وأنه المتفرد بالربوبية والألوهية وبكمال أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، وكل ذلك أمر يشهده كل ذي عقل لمن تدبر هذا الملك الواسع.(69/7)
الحكمة من إطلاع الله إبراهيم على ملكوت السماوات والأرض
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:75] كما أراه الله ضلال أبيه وقومه إذ عبدوا الأصنام آلهة من دون الله، كذلك أراه الله ملكوت السماوات والأرض، وذلك أن الحق في قلب ابن آدم إنما يتضح بالبراءة من الباطل، وبحصول اليقين بفضل الله سبحانه وتعالى، فلابد من أن يتنظف ذلك القلب وأن يتطهر من أرجاس الجاهلية، فإذا رأى ضلال من يعبد غير الله كانت تلك الخطوة الأولى إلى اليقين، ثم يتدبر في ملكوت السماوات والأرض، والملكوت هو الملك، فيرى ملكاً عظيماً باهراً، يرى تدبير هذا الكون الواسع في أرضه وسماواته وفي أرزاقه وحياته ومماته، يرى كيف يحيي الله من يشاء ويميت من يشاء، كيف يدبر الله عز وجل أمر الشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب، كما أرشد الله عز وجل إلى هذه الآيات بأية طريقة؛ حتى نتدبر ونعلم أن القوة لله جميعاً، قال عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة:164 - 165] أي: من رأى ملكوت السماوات والأرض أيقن أن القوة لله جميعاً، فكم أودع الله عز وجل في هذه المخلوقات من أنواع القوى مما ليس بأيدي البشر!(69/8)
دعوة إلى التأمل في ملكوت السماوات والأرض
تأمل القوة التي أودعها الله عز وجل فقط في هذا الهواء، إذا أراد الله عز وجل أن يسلط شيئاً من الأعاصير أو الرياح على أهل بلد أو على أهل قرية من القرى ماذا يصنع الله عز وجل بهم؟ هكذا ظن الإنسان نفسه قوياً قادراً حين ركب الهواء في الطائرات، وسار في الفلك على الماء، ومع ذلك لم ينتبه أن قوته لا تساوي شيئاً، لحظات يسيرة يفقد الإنسان فيها سيطرته عل كل شيء، وتنتهي حياته في لحظه، ويسقط من أعلى، ويغرق إلى أسفل، وتتزلزل الأرض من تحت قدميه.
إذا تأملنا القوة التي أودعها الله عز وجل في هذه البحار الزاخرة، لو أنها خرجت على الناس لأغرقتهم في لحظة.
لو أن الإنسان تأمل القوة التي جعلها الله عز وجل في هذه الأرض، كيف إذا تزلزلت خرجت طاقات مدمرة هائلة تدمر كل شيء على وجه الأرض، لا يملك قوي ولا ضعيف من البشر لها دفعاً ولا رفعاً إلا ما شاء الله.
وتأمل فيما حولك من السماوات والأرض، هذه النجوم وهذه الكواكب السائرة في أفلاكها، كم فيها من القوة والطاقة والقدرة التي لو أن الله سلطها علينا لأهلكتنا في لحظات؟ كم من المذنبات تسير في هذه الأكوان الواسعة في السماء الدنيا، لو أنها سقطت على أهل الأرض لدمرتهم في لحظات ودمرت حضارتهم تدميراً.
ثم ليتأمل الإنسان فيما في الأرض من ملك الله عز وجل في نفسه وفي رزقه، فإنه ما أحيا نفسه ولا أوجدها، ولا يملك لها سمعاً ولا بصراً ولا صحة ولا استمرار حياة، ولا نبض قلب، لمن هذا الملك؟ لله الواحد القهار، هذا يشهده كل عاقل كما يشهده كل مؤمن، ولا يعقل هذه الآيات إلا العالمون بالله سبحانه وتعالى وبشرعه، فالله عز وجل يري من شاء ملكوت السماوات والأرض؛ ليكون من الموقنين بوحدانية الله وعظمته وقوته وقهره، وإذا كانت هذه القوة التي جعلها الله في المخلوقات فكيف بالقوة التي هي صفته سبحانه وتعالى؟! وهو سبحانه وتعالى الرزاق ذو القوة المتين، إذا أيقن العبد بذلك ارتفع نظره عن هذه الأرض وعما يبدو له من سلطان وملك للناس يغفل به أكثر الخلق عن ملكوت السماوات والأرض، وأن الملك الحقيقي لله، فيعيشون في هذه الدنيا في غفلة، وهم معرضون عن آيات الله الدالة على ملكه وعظمته وقدرته وقوته ووحدانيته، فيعيشون في هذه الحياة يتبعون من يظنونه يملك، ويطيعون من يظنونه بيده الأمر ويدبر الأمور، والله وحده هو الذي بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وبيده الخير كله سبحانه وتعالى، إن العبد إذا أيقن بوحدانية الله وقدرته صغر الناس في عينه زماناً ومكاناً، وعرف مقدار قوتهم التي جعلها الله عارية في أيديهم؛ ليرى ما يصنعون، قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14]، فإذا كان الأمر كذلك لن يضره ملك الظالمين، ولم يسر في فلكهم كما يريدون، وإنما يفرد ربه سبحانه وتعالى بالعبادة والوحدانية.(69/9)
إقامة إبراهيم الحجة على قومه في بطلان عبادتهم لغير الله
قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام:76] يريد أن يقيم الحجة على قومه في بطلان عبادتهم لغير الله، وأنه لا يصح أن يعبد من يأتي أحياناً ويغيب أحياناً.
فقوله: ((فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ)) أي: ستره الليل، ((رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي)) إما على سبيل الاستفهام: أيصلح أن يكون هذا ربي؟ يريد أن يستثير فهمهم وعقولهم، أو على سبيل الإنكار، والأول أظهر، ثم يأتي الجواب بعد حين: ((فَلَمَّا أَفَلَ)) أي: غاب، ((قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ))، والعبودية أصلها المحبة.
والإنسان في قلبه فطرة أساسية دافعة قوية لمحبة إلهه الحق، فقد فطر على ذلك أشد من حاجته إلى النفس والطعام والشراب، فبدنه يحتاج إلى الهواء وإلى الماء وإلى الطعام، فجعل الله في نفسه شبقاً إلى هذه الأشياء، فهو يشتهي أن يأخذ النفس ولا يستغني عنه دقيقة واحدة، وربما يستغني عن الماء والغذاء أياماً، ولكنه لا يبقى بدونهما كذلك.
وأما القلب فشأنه شأن آخر، فإن الله فطره على أن يحب من لا يغيب عن محبته لحظة، وإذا غاب عن محبته فإنه يمرض ويموت، وربما تتعثر بعض القلوب حين يطول بقاؤها دون أن تحيا بماء الحياة المنزل من عند الله سبحانه وتعالى.
فالله يحيي الأرض بعد موتها، ويحيي القلوب بما ينزل من الوحي من عنده عز وجل، فقلب العبد يحتاج إلى أن يحب من لا يغيب عن حبه لحظة، وأما إذا غاب القلب عن حب الله، فإنه يأتيه من أنواع الأمراض وأنواع المتاعب وأنواع النكد والشقاء ما لا يستطيع معه أن يستمتع بحياة، ولولا سكر الشهوات وسكر المعاصي لما بقي الناس أصلاً بأبدانهم على ظهر الأرض، ولماتت قلوبهم، وقد شقوا شقاء عجيباً لا يدرون ما وجهه إذ أعرضوا عن الله عز وجل؛ لأنه لا يصلح أن تتوجه القلوب إلا إلى الله سبحانه وتعالى الذي لا يغيب، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7]، بل هو مطلع على خلقه، سميع بصير قدير قوي في ملكه سبحانه وتعالى، لا يزول ملكه ولا ينقص، وهو سبحانه وتعالى حي باق لا يموت، قال عز وجل: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، والآثار العقلية شاهدة بذلك فضلاً عن الآثار والأدلة السمعية المنزلة من عنده سبحانه وتعالى، فهي ترشد العقول إلى أقصد الطرق لمعرفة الله سبحانه وتعالى ومحبته.
فقوله: ((لا أُحِبُّ الآفِلِينَ)) أي: أن العبد يحتاج إلى الحب، ولن ينال هذا الحب إلا بالتوجه إلى الله عز وجل، فإذا وجهت وجهة القلب لغير الله وأحب غير الله مرض ومات، وكان والعياذ بالله كما قال الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:122] فالكافر مثله في الظلمات ليس بخارج منها، وهو ميت لا يحيا، وإنما تحيا القلوب بمعرفة الله ومحبته سبحانه وتعالى.(69/10)
حقيقة العبودية لله عز وجل ومعناها
إن العبودية لله عز وجل ليست مجرد تكاليف شاقة وأموراً صعبة، بل هي اللذة التي لا ينال العبد سعادة بدونها، وهي من دقائق نعيم أهل الجنة، فإنما صارت الجنة جنة للقرب من الله عز وجل، وإنما صارت محل السعادة لأنه سبحانه رضي عن أهلها وأرضاهم، وكلما عملت بمرضاة الله في الأرض نلت شيئاً من هذا النعيم، وكلما تقربت إلى الله بأنواع القربات قربك الله عز وجل إليه؛ فشعرت بالراحة، ورزقك محبته، ورزقك من نعيم مناجاته ولذة الشوق إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم جامعاً بين الأمرين: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك) فهذا في الآخرة (والشوق إلى لقائك) فهذا في الدنيا (في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة) أي: إنما تكون الفتن ملهية عن الشوق إلى الله عز وجل إذا أضلت العبد، فإذا كان الإنسان بعيداً عن الفتن وجد لذة الشوق إلى الله، كما أنها قرينة لذة النظر إلى وجه الله في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن كليهما من باب واحد، وهو باب القرب والحب لله سبحانه وتعالى، ولا يصلح غير الله من أهل أو مال أو ولد أو حجر أو شجر، أو كبير أو زعيم أو ملك أو درهم أو دينار مما يحبه الناس، بل لابد أن يغيب ولا بد أن يأفل ولابد أن يبتعد عن الإنسان، إما أن يموت هو وإما أن يموت الإنسان عنه، وإما أن يبتعد عنه في حياته فيشقى به بحبه وبالبعد عنه، ولا يسعد العبد ولا يصلح قلبه إلا بحب الذي لا يغيب سبحانه وتعالى.(69/11)
من أدلة استحقاق الله تعالى للعبادة دون غيره
قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77] أي: إن العبادة إنما تكون لمن يملك الهداية، فالله عز وجل هو الذي يستحق الحب؛ لأنه هو الذي يهدي، وهذه الكائنات الأخرى التي تعبد من دون الله لا تملك هداية، قال عز وجل: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف:148] فلابد من هداية البيان، وهذه الهداية التي أنزلها الله على رسله صلوات الله وسلامه عليهم من الوحي المنزل لابد أن يلتزم العبد بها.
إن الإقرار بوجود الله لا يصلح ولا يكفي إذا لم يكن معه التزام الهداية التي أرسل الله بها رسله.
فقوله: ((لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)) فلا تعبدوا من تشقوا بحبه، ولا تعبدوا من لا يهديكم سبيلاً، ولا يبين لكم أمراً ولا نهياً، وبهذا يتبين بطلان من يزعم إيمان من يقر بوجود الله دون أن يتبع الرسل الذين أتوا بالهداية من عند الله؛ فإن من ترك هداية الرسل فقد ضل ضلالاً مبيناً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله.(69/12)
تبرؤ إبراهيم عليه السلام من كل ما يعبد من دون الله تعالى
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: فقال عز وجل: ((فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ)) أي: هذه الشمس أكبر ضوءاً وأكبر قدراً وأكثر انتشاراً في نورها، ولكن لابد لها أن تغيب.
وقال تعالى: ((فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)) تدرج معهم حتى وصل بهم إلى الحقيقة التي قد هداه الله إليها من قبل، وهي وحدانية الله والبراءة من الشرك وأهله.
فقوله: ((فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)) هذا قضية إبراهيم عليه السلام وقضية كل الأنبياء، وهذه القضية هي الشق الأول من كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، قضية النفي، وهي البراءة من الشرك وأهله والبعد عن الباطل، فلابد من هدم الجاهلية حتى يبنى الإسلام الحق؛ لأنه لا يتحقق في قلب ابن آدم الحق إلا بهدم الجاهلية وبيان بطلانها والبراءة مما يعبد من دون الله، ولا يكون موحداً من أقر بعبادة غير الله ولو لغيره، فلو أن إنساناً قال: أنا أعبد ربي وأنتم تعبدون آلهتكم، وكل منا على حق، وكل منا يختار ما يريد؛ لكان مشركاً بالله عز وجل، حتى ولو قال: أنا لا أعبد غير الله؛ وذلك لأن إقراره بالملل الباطلة وبعبادة غير الله دليل على أنه لم يشهد أن الله لا إله إلا هو، وإنما أقر أن الله إله من الآلهة، وهل كان شرك المشركين بإنكار ألوهية الله أم بإنكار وحدانيته؟ كان بإنكارهم لوحدانيته عز وجل، قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] , ولذا لم تكن كلمة الإيمان هي كلمة الله إله، وإنما لا إله إلا الله، فنبدأ بالنفي قبل الإثبات، وهذا النفي لكل معبود من دون الله، فلا بد أن نقر بأن عبادة غيره باطلة، ونشهد بأنه الإله المعبود بحق، فلا يعبد بحق إلا الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ((إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)) أي: وجهت وجهتي وإرادتي وقصدي لله رب العالمين، فبعد شهود كمال الربوبية بتدبير ملك السماوات والأرض، لابد أن يكون الإنسان منفعلاً متأثراً بهذا الذي شهده من ملكوت السماوات والأرض، وأنه لله، بأن يجعل توجهه وإرادته وقصده وتوحيده الطلبي الإرادي لله عز وجل.
فقوله: ((إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)) أي: أن أعظم دليل على توحيد الربوبية هو خلق السماوات والأرض على غير مثال سابق.
قال تعالى: ((حَنِيفًا)) أي: مائلاً إلى الله، وهذا هو الدليل الثاني، وهو المذكور في قوله: ((لا أُحِبُّ الآفِلِينَ)) أي: أنا محتاج إلى محبة دائمة، محبة من لا يغيب، وقد فطرت القلوب على أن تميل إلى الله؛ لأن الحنيف هو المائل إلى الله المعرض عن غيره، هكذا فطرت القلوب، وهذا كله من أدلة التوحيد، فإن القلب لا يسعد إلا إذا توجه إلى الله، فإذا ذاق عبودية الله علم أن لذات الدنيا سراب بالنسبة إليها، وأنها لا قيمة لها إذا لم تكن مع عبودية الله والتحنف والميل إليه، والبعد عما يعبد من دونه.
قال عز وجل: ((وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) أي: أتبرأ من أهل الشرك كما أتبرأ من الشرك نفسه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين).
ما أحوجنا عباد الله إلى أن ترتفع أنظار قلوبنا عن هذه الأرض الضيقة، عما يظن فيها من ملك وسلطان، عما يظن فيها من قوة وقدرة للمخلوقين، ما أحوجنا إلى أن ننظر في السماوات والأرض وخلقهما؛ لنعلم حقيقة البشر وضعفهم وعجزهم، وبالتالي لا نتوجه إليهم من سعي في رضاهم أو فرار من سخطهم إلا فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، وإنما نحب الله عز وجل ونميل إليه، ونعرض عمن سواه وعما يعبد من دونه، فبهذا يحصل للعبد حقيقة التوحيد، وبهذا يرفعه الله عز وجل الدرجات العلى، فهو يرفع درجات من يشاء سبحانه وتعالى.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها، أولها وآخرها، قديمها وحديثها، صغيرها وكبيرها، خطأها وعمدها، سرها وعلانيتها، ما علمنا منها وما لم نعلم، ما تقدم منها وما تأخر.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأقم الصلاة.(69/13)